(13/292)
حوار عن العلمانية الديمقراطية بين مثقفين عربيين
أ.د. جعفر شيخ إدريس
مجلة البيان العدد 166، جمادى الآخرة 1422هـ الموافق سبتمبر 2001هـ
قال الأول لصاحبه: إنه من حسنات البلاد الديمقراطية العلمانية أنها تعاملنا من حيث الدين معاملة أحسن من معاملتنا لها. من أمثلة ذلك أنهم يسمحون لنا بأن نبني المساجد ونقيم فيها الصلوات، ويسمحون لنا بحرية الدعوة إلى الإسلام بينما لا نسمح نحن لهم بشيء من ذلك في بلادنا
.
قال الثاني: إنّ ما ذكرته عنّا ليس بصحيح على إطلاقه؛ ففي العالم العربي والإسلامي نصارى يمارسون دينهم في كنائسهم وبِيَعِهم في حرّية كاملة. ألم تزر بلاداً مثل مصر والسودان؟
قال الأول: ولكن ماذا عن السعودية؟
الثاني: للسعودية وضع خاص؛ فهي جزء من الجزيرة التي أمر الرسو صلى الله عليه وسلم أن لا يكون فيها دين غير الإسلام. وينبغي أن لا يكون هذا أمراً غريباً حتى على الدول الغربية التي أراك تدافع عنها
.
الأول: ماذا تعني؟
الثاني: ألم تسمع ببلد اسمه الفاتيكان؟ هل تجد فيه من مساجد أو دور للعبادة غير دور الكاثوليك؟
الأول: كلا.
الثاني: الأمر الثاني الذي كنت أود أن أُنبهك إليه هو أنهم لا يسمحون لنا بما يسمحون بدافع الإحسان إلينا، أو مجاملةً لنا كما يظن بعض الذين لا يعلمون، وإلاّ لقالوا لنا: إمّا أن تسمحوا لنا بما نسمح به لكم وإلاّ منعناكم كما تمنعوننا.
الأول: هذا ما كنت أظنهم فاعليه، وقد ازداد تقديري لهم إذ لم يفعلوه.
الثاني: إنّ ما يسمحون لنا به من قدر من الحرّية الدينية هو أمر يسمحون به لكل صاحب معتقد مُصدِّقاً بوجود الخالق أو مُنكراً لوجوده، مؤمناً كان أم مشركاً، عابد وثن أو عابد بشر. وكما يسمحون بِهذا القدر من الحرّية الفكرية فإنَّهم يسمحون بقدر مثله أو أكبر منه لدعاة الرذيلة من الشواذ والزناة وراسمي الصور الفاضحة. يفعلون كل هذا؛ لأنهم يرونه في مصلحة بلادهم بحسب تصورهم للحرية. وأمّا الأمر الثالث فهو أنهم يستعملون قوانينهم كثيراً ليحدوا من هذه الحرية سواء لزائريهم من البلاد الإسلامية أو القاطنين فيها.
الأول: أوافقك. ولكن ألا ترى مع ذلك أنّ نظامهم خير من نظامنا من حيث أنّ القدر الذي يسمح به من الحرية أكبر مما نسمح به نحن؟
الثاني: كلا لست أرى ما ترى؛ لأن الحريات لا تُقاس كميّاً، وإلاّ لكان أحسن النظم هو الذي يترك الناس سدى لا يأمر أحدهم بشيء ولا ينهاه عن شيء ألبتة.
الأول: بِمَ تُقاس إذن؟
الثاني: تقاس بمدى نفعها وضررها. فالنهي عن السرقة هو حد من الحرية، لكنه حد مفيد. أما النهي عن أكل السمك مثلاً فهو حد لا فائدة فيه، بل قد يكون ضرره بالغاً بالنسبة لبعض الناس. ولذلك وصف النواهي الإسلامية بأنها حدودٌ إذا تجاوزها الإنسان وقع فيما يضره. وبإمكانك أن تتصورها كالحدود التي توضع على جانبي الجسر؛ فهي أيضاً تحد من حرية السائر أو السائق، لكها مفيدة له؛ لأنها تمنعه من الوقوع في البحر أو الهوي في واد سحيق.
الأول: لا شك في ذلك. لكن من الذي يصدر هذه القوانين التي تُحِلّ وتُحَرِّم؟ إن النظام الديمقراطي يكل ذلك للناس؛ فهم الذين يحددون ما يُصلحهم وما يضرهم في حرية كاملة. أما النظم الدينية، ومنها النظام الإسلامي، فإنها لا تعطي الناس هذه الحرية، بل تكل الأمر إلى الدين.
الثاني: أتعني أنّ كل قانون يُحِلّ أو يُحَرِّم يصدر بإجماع الناس؟
الأول: كلا؛ فأنت تعلم أن الأمر ليس كذلك، وإنما الذي يُصدِره هم غالبية الناس.
الثاني: لكن غالبية الناس ليست هي التي تصدر القوانين في البلاد الديمقراطية العلمانية، وإنما الذي يصدرها هو المجالس التشريعية.
الأول: نعم! لكن هذه المجالس تتكون من أفراد اختارهم الناس بالأغلبية؛ فهم يعبرون عن أفكارهم.
الثاني: تعني أنهم يعبرون عن أفكار من صوَّتَ لهم.
الأول: لكن يستحيل واقعاً أن يكون الأمر على غير ذلك.
الثاني: نعم! ولكنك تعلم أيضاً أنه حتى قولنا بأنهم يعبرون عن رأي الأغلبية التي انتخبتهم ليس بصحيح؛ لأن هذه الأغلبية لا تُستَشار. ولو استُشيرت لما كان لأغلبيتها رأي في غالبية القوانين؛ لأنها تحتاج إلى معرفة لا تتوفر لهم.
الأول: لكن تبقى مع ذلك الحقيقة بأن هؤلاء قوم رضيهم الناس حكّاماً لهم، وأوكلوا إليهم إصدار ما يرونه مناسباً من القوانين.
الثاني: إذن؛ فالناس في البلاد الديمقراطية العلمانية رضوا بأن يكون المشرعون لهم بشراً مثلهم.
الأول: أجل! وهذا ما يمتازون به.
الثاني: واشترطوا عليهم أن تكون تشريعاتهم في إطار الدستور، ولم يتركوهم أحراراً يشرعون ما شاءوا.
الأول: نعم! لأن الاستقرار السياسي لا يتوفر إلا بشيء كهذا.
الثاني: ما الفرق بيننا وبينهم؟ نحن أيضاً يمكن أن تكون لنا مجالس تشريعية يختار الناس أعضاءها ويعطونهم حق التشريع على شرط أن لا يكون مخالفاً للقانون الأعلى للبلاد الذي يسمى دستوراً. والذي هو بالنسبة لنا كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم .
الأول: لكن دستورهم هو نفسه مِن وَضعِهم، وبإمكانهم أن يُغيِّروا فيه ما شاءوا.(13/293)
الثاني: لكن دستورهم أيضاً يتضمن مواد كتلك المتعلقة بما يسمونه حقوق الإنسان ليس لأحد أن يغيرها.
الأول: نعم! لأن هذه الحقوق لكل إنسان بما هو إنسان، فلا يجوز لأحد أن يجور عليها.
الثاني: من الذي أعطاه هذه المكانة؟ وعلى كلّ فأنا لا أريد أن نخرج عن موضوعنا لنتحدث عن حقوق الإنسان، فلعلنا نفعل ذلك في مناسبة أخرى. فلنعد إلى موضوعنا إذن!
الأول: حسن.
الثاني: أردت أن أقول لك إنه ليس لهم علينا فضل في كون دستورهم من اختراعهم؛ لأنهم إذا كانوا هم بمحض اختيارهم رأوا أنه من مصلحتهم أن يشرِّع لهم بشر مثلهم؛ فنحن أيضاً فكَّرنا لأنفسنا ورأينا أنه من مصلحتنا أن نرضى بما شرعه لنا ربنا الذي خلقنا، والذي هو أعلم منا بما هو مُفسِد أو مُصلِح لنا، والذي هو رحيم بنا لا يأمرنا إلا بما ينفعنا، ولا ينهانا إلا عما فيه ضرر علينا. لا فرق إذن بيننا وبينهم من حيث مبدأ الاختيار. فكما أنهم اختاروا بحريتهم، فنحن كذلك اخترنا بحريتنا، ولم يجبرنا ربّنا على الرضى بما شرع لنا، وإنما ترك الأمر لنا نحن البشر ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) [سورة الكهف: 29]، ونحن اخترنا بتوفيق من ربنا أن نؤمن. فلا فضل لهم علينا إذن من حيث مبدأ حرية الاختيار، وإنما الفضل لنا نحن الذين أرانا الله الحق حقاً ووفقنا لاتّباعه.
الأول: لكن الذي اخترتموه دين، والناس يختلفون في أديانهم، ومجتمعاتنا المعاصرة متعددة الأديان، ولا بدّ لكل مواطن فيها من أن تكون له حقوق مساوية لغيره بغض النظر عن دينه.
الثاني: فكيف حلّت العلمانية هذا الإشكال؟
الأول: حلته حلاً يسيراً، هو أن تُقصَى الأديان عن الحكم حتى يكون لكل مواطن الحق في أن يتقلد أي منصب سياسي من رئاسة الدولة إلى ما دونها مهما كان دينه أو اعتقاده
.
الثاني: ونحن أيضاً نفعل ما فعلوا: نقصي كل الأديان - عدا الإسلام - عن الحكم، وكما
...
الأول: - مقاطعاً -: لكنهم أقصوها كلها ولم يستثنوا منها أحداً كما تفعلون.
الثاني:تعني أنهم أقصوها كلها ما عدا الدين العلماني.
الأول: ولكن العلمانية ليست ديناً.
الثاني: أجل! إنها والله لدين بمفهومنا العربي الإسلامي، لكنها شرّ دين.
الأول: ماذا تعني؟
الثاني: أعني أنّ الدين عندنا هو كل أمر يدين به الناس ويعتادونه ويمارسونه في أي جانب من جوانب حياتهم المادية والروحية سواء كان من عند ربهم أو كان من اختراعهم. ألم تسمع قول الشاعر العربي عن ناقته التي اجهدها بكثرة الترحال:
إذا ما قمت أُرحِلها بليلٍ تَأَوَّه آهَةَ الرجلِ الحزينِ
تقول إذا شددت لها وضيني: أهذا دينه أبداً وديني؟
أكل الدهر حِلّ وارتحالٌ أما يُبقي عليّ وما يقيني؟
الأول: لكنك تعلم أنّ الشاعر استعمل الدين هنا بمعنى العادة؛ فما علاقة ذلك بأنظمة الحكم؟
الثاني: لا جدل في أنه استعمله بمعنى العادة؛ ولكن ألا ترى أنه إذا كان اعتياد الحِل والترحال وهو أمر واحد في حياة رجل وناقته يسمى ديناً، فمن باب أولى أن يسمى كذلك اعتياد ما كان أشمل نطاقاً وأكثر عدداً. ثم إن القرآن الكريم استعمل الدين بهذا المعنى العربي، ألم تسمع قول الله - تعالى - عن يوسف وأخيه: ((ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله)) [سورة يوسف: 76]، فالمقصود بالدين هنا ما نسميه الآن بالقانون. وفي القرآن الكريم أيضاً يطلق الدين على الهدي الذي أنزله الله - تعالى - وأرسل به رسوله، كما يطلق على ما يدين به الناس في الواقع سواء كان موافقاً لذلك الدين الحق أو مخالفاً له. يبين لك ذلك بوضوح حديث الرسو صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها؛ فالدين الذي يُجَدَد هو ما يدين به الناس. أما الدين النازل من السماء فلا يحتاج إلى تجديد؛ لأنه لا يَخْلَق. وتجديد ما يدين به الناس هو جعله موافقاً للدين الحق
.
الأول: هذا تفسير غريب للدين، وهو مخالف لما اصطلح عليه الناس، ولا سيما في البلاد الغربية العلمانية التي هي موضوع حديثنا.
الثاني: لكن هل من الإنصاف أن يكون النقاش دائماً وفق تصوراتهم ومصطلحاتهم؟ لماذا لا نُفهِمُهُم أنّ هنالك اختلافاً بيننا حتى في تصورنا للدين؟ على كلّ أنا لا أريد للحوار أن يتحول إلى جدل عن الألفاظ. المهم أن تتضح المعاني؛ وإذا اتضحت فلا مشاحّة في الألفاظ. ألا يمكن أن نترك كلمة الدين ونستعمل بدلاً عنها كلمة تنطبق على العلمانية وما يسمونه هم ديناً؟ ما رأيك في عبارة منهاج الحياة؟
الأول: لا بأس بها.
الثاني: أرجوا أن يتضح لنا من استعمالها أن القول بأن النظام العلماني نظام محايد بين الأديان إنما هو خرافة راجت على كثير من الناس.
الأول: أظنني من المصدقين بهذه الخرافة؛ فهلاّ أوضحت لنا يا سيدي المنكر للخرافة دليلك على كونها خرافة؟
الثاني: هب أننا قلنا لإنسان منصف: إن هنالك نظامين (أ) و(ع) وأعطيناه الجدول الآتي:
النظام أ
النظام ع
إن الحكم إلاّ لله
إن الحكم إلاّ للشعب
يباح للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع
لا يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة
يأخذ الورثة حقهم أوصى بذلك المُورِّث أم لم يوص(13/294)
إنما يرث من أوصى له المُورِّث ولو كان حيواناً، وإذا لم يوص فللدولة أن تتصرف في ماله
الخمر حرام
الخمر حلال
لا تكون علاقة جنسية إلا بين المتزوجَين
تباح العلاقة الجنسية بين كل بالغين متراضيين
الربا حرام
الربا حلال
الأول: ما أظنه سيستطيع إذا وضع الأمر بهذه الطريقة.
الثاني: ولا طريقة غيرها. إذن فيجب على من يريد أن يكون مسلماً أن لا يخدع نفسه. إنه لا يمكن للإنسان أن يكون مؤمناً ويكون مع ذلك راضياً بالعلمانية نظاماً للحكم. فإما هذا أو ذاك.
الأول: نعم! إن منهاج الحكم العلماني يُقصي غيره عن منهاج الحكم؛ لأنك لا يمكن أن تطبق منهجين مختلفين في وقت واحد كما يتضح ذلك من جدولك. لكن ميزته على المناهج الأخرى - ومنها المنهج الإسلامي - أنه يفرق بين إقصاء الأفراد وإقصاء المناهج.
الثاني: ماذا تعني؟
الأول: أعني أنه يعامل الأفراد جميعاً معاملة متساوية باعتبارهم مواطنين من حق كل واحد منهم أن يتقلد أي منصب سياسي في الدولة إذا ارتضاه الناس.
الثاني: بشرط أن يكون حكمه وفقاً للدستور العلماني الذي يُقصي منهجه عن الحكم إذا كان مسلماً.
الأول: أجل! وأظننا قد اتفقنا على الأمر البدهي الذي يقضي باستحالة الجمع بين منهجين في الحكم مختلفين.
الثاني: لكن معنى هذا أنك تعطي المسلم الأمريكي مثلاً الحرية في أن يكون رئيساً بشرط أن يتخلى عن دينه.
الأول: كلاّ! فبإمكانه أن يظل مسلماً يصلي ويصوم ويحج ويفعل كل ما يأمره به دينه.
الثاني: إلاّ فيما يتعلق بالحكم.
الأول: نعم.
الثاني: لكن المسلم المخلص لدينه العارف به لا يرضى بهذا؛ لأنه يعرف أن دينه كلّ لا يقبل التجزئة؛ فالذي ينكر بعضه فقد أنكره كله. قال - تعالى - ((أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب)) [سورة البقرة: 85]. وهذا هو الذي يشترطه النظام العلماني على المسلم.
الأول: لكن النظام الإسلامي لا يعطيه حتى هذا القدر.
الثاني: النظام الإسلامي لا يمنع غير المسلم أن يكون مسلماً، وأن يتأهل بذلك أن يكون حاكماً للمسلمين. لكن الإنسان كما ذكرنا لا يكون مسلماً إلاّ إذا آمن بالدين كله؛ لأن نظام الحكم في الإسلام غير منفصل عن شرائعه الأخرى؛ بل إن هذا هو الحال في الديانات الأخرى وما زال هو الذي يراه بعض اليهود وبعض النصارى الرافضين للنظام العلماني، والذين يصفون العلمانية - كما نصفها - بكونها ديناً محارباً لأديانهم.
الأول: نعم! إنهم ليفرضون عليهم هذا باعتباره الدستور الذي ارتضته الأغلبية، لكنهم بعد ذلك يسمحون لهم بما لا يتعلق من دينهم بأمر الحكم.
الثاني: ونحن أيضاً نسمح لهم بما ذكرت، بل إننا لنعطيهم أكثر مما تعطيهم العلمانية الديمقراطية.
الأول: لكنهم يرون نظام الحكم الذي تفرضونه عليهم هو دينكم، وهم لا يرضون أن يفرض عليهم دين ليس بدينهم.
الثاني: نحن لا نفرضه عليهم بكونه ديناً بمعنى كونه عبادة يتقربون بها إلى الله، وإنما نفرضه عليهم باعتباره نظاماً للحكم ارتضته أغلبية المواطنين؛ ولا فرق في هذا بيننا وبين النظام العلماني الديمقراطي. فإذا كانوا وهم الأغلبية في البلاد الغربية العلمانية قد رضوا بأن يقصوا دينهم عن الحكم، ويرضوا بالعلمانية بديلاً؛ فما الذي يمنعهم - حيث يكونون أقلية في البلاد الإسلامية - من أن يرضوا بإقصاء دينهم عن الحكم والرضى بالحكم الإسلامي باعتباره اختيار الأغلبية في البلد الذي يعيشون فيه.
الأول: يبدو من كلامك هذا أنك تكاد ألا ترى في الحياة العلمانية الغربية الديمقراطية أي حسنة.
الثاني: أنا لم أقل ذلك وإنما كنت أرد ظنك بأنّ نظامهم يفضُل النظام الإسلامي.
الأول: أفهم من ذلك أنك ترى في الحياة الغربية جوانب حسنة؟
الثاني: لا شك في ذلك. بل أرى أن في كل أمة من الأمم بعض الجوانب الخيّرة. أقول هذا ديناً؛ لأني أعتقد أنه لا يمكن لإنسان لا خير فيه ألبتّة أن يرى الخير الذي في الدين الحق فيؤمن به. وما دام هذا الدين قد جاء للناس جميعاً، فلا بد أنّ الله - سبحانه تعالى - جعل فيهم من الخير ما يُمَكِّنُهم من رؤيته حقاً.
الأول: هلاّ ذكرت لي بعض هذه الجوانب الخيرة!(13/295)
الثاني: الحديث في هذا قد يطول فالأكتفِ لك بذكر أحسن ما أراه عندهم. أحسن ما عندهم هو هذا التطور الكبير في العلوم الطبيعية وما بُني عليه من تقنية في شتى جوانب الحياة ومنها الجانب العسكري. وقد كنت أتمنى لو أننا ركّزنا على هذا الجانب العلمي التقني فيما نأخذه من الغرب، لكن العلمانيين في بلادنا شغلونا بمثل هذه القضايا التي كنا نتحدث عنها الآن؛ لأنهم لسذاجتهم ظنوا أن السبب الأساس لتطور الغرب هو فصله للدين عن الدولة، وقد كان هذا التركيز على الجانب الثقافي في التجربة الغربية هو السبب الأساس لضعفنا وعدم تطورنا؛ لأنه كان السبب الأساس في النزاع بيننا؛ وأنت تعلم أن الأمم لا تستطيع أن تحقق إنجازاً كبيراً دينياً أو دنيوياً وهي منقسمة على نفسها متنازعة فيما بينها. فأسأل الله تعالى أن يجمعنا على الخير، وأن يوفقنا للأخذ بأسباب النهضة والقوة والرفعة في كل جوانب حياتنا المادية والروحية.
الأول: آمين.
==============(13/296)
(13/297)
تركيا بعد 77 عاماً من العلمانية
على قيام الدولة العلمانية التركية نحو 77 عاماً، تلك الدولة التي أسسها مصطفى كمال عام 1923م، وبعد هذه الأعوام من الحكم العلماني تقف تركيا حائرة غير مستقرة لا تعرف لنفسها وجهة، ولا تثق بالأرض التي تقف عليها ولا المبادئ التي تنطلق منها؛ فالعلمانية التي تبنَّاها أتاتورك تحولت إلى أيديولوجية قمعية أقرب إلى الأيديولوجيات الفاشية والنازية والشيوعية، وكل من تسوِّل له نفسه الخروج على مبادئها فإن نصيبه السجن والتنكيل بل القتل، ولم تستطع العلمانية أن تحقق الاطمئنان للمواطن التركي؛ لأنها مزقته بين تاريخه وإسلامه وحضارته وبين قيم غريبة عنه مفروضة عليه، كما لم تحقق العلمانية لتركيا حلم الالتحاق بأوروبا (المسيحية)؛ إذ ظلت أوروبا تنظر لتركيا على أنها مسلمة، ولم تعبأ بتبني قيم التغريب والحداثة من قِبَل أتاتورك ومَنْ جاء بعده.
لقد فُرضت العلمانية بوصفها أيديولوجية صارمة وحادة وقمعية على المجتمع التركي، فهددت وحدته وتكامله برفض أي وجود للآخرين الذين يشاركون الأتراك العيش في وطنهم، ومن هنا كان الإنكار الصارم لوجود الأكراد، واعتبارهم أتراكاً يسكنون الجبال. ولا تزال المشاكل الكردية تمثل أكبر التحديات أمام العلمانية الكمالية.
وعلى مستوى الإنجاز الاقتصادي لم تستطع العلمانية أن تحقق للمواطن التركي مستوى للمعيشة ينشله من واقع البؤس والفقر، وعلى مستوى الطهارة الأخلاقية فإن التقارير تتحدث عن تحالف المافيا والفساد مع مؤسسات الدولة المختلفة بدءاً من المؤسسات الأمنية السيادية وحتى المؤسسات السياسية مثل مجالس الوزراء والنواب وغيرها. وفي العلاقات الخارجية لا تزال تركيا تمثل الأداة الأمريكية لملء الفراغ في المنطقة، وهي تتحالف في ذلك مع الكيان الصهيوني ضد الدول العربية والإسلامية، وكانت أزمة تركيا مع سوريا منذ عامين جزءاً من التوتر العلماني القلق في اكتشافه أن العلمانية التركية بعد هذا العمر لم تحقق لأصحابها طموحاتهم في سياستهم الخارجية. إن العلمانية الكمالية كأيديولوجية قد انهارت مع الأيديولوجيات الكبرى التي انهارت في هذا القرن، والبحث مطروح الآن بقوة عن مخرج للتخلص منها.
الكمالية تسقط في نظر العلمانية:
يقول الكاتب التركي المعروف أنيس باتور: « لقد انتهت الجمهورية الأولى بمدرستها ومستشفاها وسجنها ومحكمتها وبرلمانها»، أي أن الكاتب يرى أن التجربة الكمالية قد سقطت بمؤسساتها، ولا بد من البحث عن بديل لها. إن العلمانية الكمالية محمية بقوة الجيش، وإذا قُدِّر للجيش أن يُستبعد عن صناعة القرار في تركيا فإن ذلك سيكون بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على الكمالية، والذين يتحدثون عن ضرورة وجود ما يطلقون عليه: (الجمهورية الثانية) هم علمانيون وليسوا إسلاميين؛ لكنهم يرون العلمانية الكمالية استبدادية وقمعية ومتخلفة، ولا تصلح أن تكون صيغة تتجاذب مع تحولات السياسة والمجتمع في تركيا المعاصرة. إن العلمانية الكمالية جعلت من نفسها صنماً مقدساً لا يجوز الخروج على مقرراته العقيمة؛ فالدولة في الأيديولوجية الكمالية أصبحت عنصراً للتحكم والهيمنة، كما أن الديمقراطية أصبحت تعبيراً عن الاستبداد والتسلط.
حتى التحولات العالمية المتصلة بالتحول نحو اقتصاد السوق وانتشار الأفكار الليبرالية ثم اعتبار حقوق الإنسان معياراً للانتماء إلى الدول المتحضرة ـ حتى هذه التحولات لا تستجيب العلمانية الكمالية لشروطها، ومن هنا كان حديث فريق آخر من العلمانيين عن ضرورة تجاوزها إلى ما يطلق عليه: «الجمهورية الثانية».
ويتحدث البروفيسور «خليل جين» عن إخفاق العلمانية ـ الكمالية في تحقيق الوفاق الاجتماعي فيقول: «الجمهورية التركية دولة علمانية ـ ديموقراطية حقوقية، وهي أيضاً نتاج التوافق الشعبي في إطار الوحدة القومية. وعجز الكمالية عن حل مشكلة تعدد الأصول والأعراق في تركيا يؤكد عجزها عن التعبير عن التوافق الشعبي في إطار الوحدة القومية. فالمشكلة الكردية متفاقمة وإصرار العلمانية الكمالية على نفي الوجود الكردي سيؤدي إلى تمزيق وحدة الدولة.
العلمانية تسقط في نظر الإسلاميين:(13/298)
طرح فوز حزب الرفاه في الانتخابات البلدية والبرلمانية على بساط البحث الجدِّي مسألة العلمانية والديموقراطية التي دشنها الرجل الصنم «أتاتورك»؛ فالانتصار الإسلامي أكد إفلاس النظام السياسي في تركيا وعجزه عن مواجهة قضايا المواطنين، ويعبِّر رئيس فرع إسطنبول في حزب الرفاه عن إخفاق الأيديولوجية الكمالية قائلاً: «يمكن بمفهوم ما خارج الأيديولوجيا الرسمية إيجاد حل للأزمات الحالية في المجتمع التركي، إننا لا نجرؤ حتى على مجرد الحديث ومناقشة قضايانا الراهنة في ظل ضغط الأيديولوجيا الرسمية وتهديدها، إننا عندما نتحادث ونتناقش نكون وجهاً لوجه أمام خطر المعاقبة، وإن لم تحل هذه المسألة فمن المتعذر حل المشاكل الأخرى. انظروا اليوم فإننا لا نستطيع أن نناقش بصراحة كافية المسألة الكردية، لقد تشكل في تركيا مجتمع مغلق مستند على الخوف والقمع باسم الأيديولوجيا الرسمية التي تواصل الآن خصوصية كونها طوطماً أي شيئاً محرَّماً ومقدَّساً لا يجوز الاقتراب منه وإلا أصابتك لعنته».
ويؤكد بولانت أجاويد ـ رئيس الوزراء التركي الحالي ـ إخفاق العلمانية فيقول: «إن الأصوات التي حصدها الرفاه والإسلاميون هي أصوات «خيبة الأمل» في الأحزاب الأخرى سواء ما كان منها في السلطة أو المعارضة».
والمعضلة الأساسية التي توجدها العلمانية الكمالية هي أنها تحاول نبذ جزء أساسي من شخصية الشعب التركي وهو الدين؛ فمثلاً جنكيز شندار «أهم مفكر علماني تركي» يقول: «إن الإسلام في تركيا ليس ديناً فقط، بل هو شخصية وثقافة»، كما أن مسعود يلماظ الرئيس السابق للوزراء قال عام 1993م: «إن الدين محدد أساسي في الشخصية القومية لتركيا».
وبدا الفشل العلماني واضحاً في صعود نزعة إسلامية في تركيا منذ فترة «تورجوت أوزال» استمراراً لصعود هذه النزعة منذ (عدنان مندريس) في الخمسينيات؛ فقد تم رفع حظر الأذان باللغة العربية، وفتح معاهد تخريج الأئمة، وبعد انقلاب عام 1980م نصت المادة (24) من الدستور على اعتبار الدروس الدينية والأخلاقية مادة إجبارية في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة من التعليم، وكان أوزال يحرص على الصلاة في المساجد، وسقطت محرمات مثل التعرض لشخص أتاتورك بالنقد؛ فقد انتقده حسن مزارجي «نائب حزب الرفاه وسبَّه علناً، وطالب بوقف تقليد زيارة ضريحه في أنقرة، وطالب علمانيون ببناء جامع في حديقة القصر الجمهوري بأنقرة، وكانت تانسو تشيللر تحرص على استهلال خطبها بـ (الحمد لله)، وقبَّلت أمام آلاف من أنصارها نسخة من القرآن الكريم، وطالب «غفار ياكين» النائب المستقل عن محافظة أفيون التركية بتعطيل العمل في الدوائر الحكومية لتمكين الموظفين من صلاة الجمعة، وطالب بولانت أجاويد «رئيس حزب اليسار الديموقراطي» بالتعطيل ليس فقط وقت الجمعة وإنما أثناء صلاة الظهر في كل أنحاء تركيا، وطالب حزب الرفاه عام 1995م بفتح مسجد أيا صوفيا للصلاة بعد أن حُوِّل منذ أمدٍ بعيد إلى متحف، وأقر البرلمان توقيت ساعات العمل بحيث تنتهي مع مواقيت الإفطار في شهر رمضان، وتزايدت الدعوة للسماح للموظفين بأداء فريضة الحج بدون قطع رواتبهم.
وبالطبع فإن هذه المطالب أثارت نقاشاً كبيراً حول مفهوم العلمانية، كما انزعج الكماليون؛ بَيْدَ أن الحقيقة الأساسية هي أن الإسلام يضرب جذوره بعمق في النفسية التركية، ولا يمكن لأي أيديولوجية أن تطرح نفسها بديلاً عنه. إن هناك تحولات كبيرة في بنية المجتمع التركي، ولا تزال الدولة المقيدة بأغلال العلمانية عاجزة عن الاستجابة لهذه التحولات وهو ما يؤدي إلى خطر القلق في المجتمع التركي.
السقوط الأخلاقي والاقتصادي للعلمانية :(13/299)
بالمعايير الاقتصادية لا تزال تركيا دولة نامية بعد 77 عاماً من العلمانية؛ فمتوسط دخل الفرد السنوي لا يزال عند حد ثلاثة آلاف دولار، ولا تزال نسبة الصناعة تمثل 25% من الدخل القومي، والاقتصاد جنوب شرق البلاد في مناطق الأكراد لا يزال متخلفاً، ونسبة العجز في الميزان التجاري 20 مليار دولار، وارتبط نمو الاقتصاد التركي 5% سنوياً بتكلفة عالية؛ فمعدل التضخم وصل عام 1994م إلى 124%، وبلغ العام الماضي 99%، وقارب عجز ميزانية الدولة 8.5 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتفاقمت الديون الخارجية لتبلغ 95 مليار دولار أي بنسبة 48% من الناتج القومي العام الماضي، وتعبِّر خريطة الدخل عن اختلال واضح بنسبة الـ20% الأفقر من السكان التي لا يتجاوز نصيبها 3.5% من إجمالي الدخل في حين يبلغ نصيب فئة الـ20% الأغنى أكثر من 55% من إجمالي الدخل عام 1998م. فالعلمانية رغم محاولة إخفاء إخفاقها على مستوى الهوية والديمقراطية وحقوق الإنسان بالتركيز على الجانب الاقتصادي، إلا أنها لم تستطع أن تحقق إنجازاً ذا بال، ولا تزال البيروقراطية والمركزية تعوقان التحول ناحية اقتصاد السوق، كما ارتبط التخصيص في تركيا بالفساد الأخلاقي؛ فقد اتُّهم تورجوت أوزال «بإنشاء مجموعات اقتصادية احتكارية مثل «صاربنجي وكوج»، واتهمت «تانسو تشيللر» بالحصول على تسهيلات ائتمانية حولتها للخارج، واتهم مسعود يلماظ «بتسهيل بيع البنك التجاري التركي للمافيا»، وتحولت تركيا إلى مركز عالمي لغسيل الأموال القذرة، ووفقاً لتقديرات رسمية فإن الأموال غير المشروعة التي تتدفق على تركيا تبلغ 50 مليار دولار.
ويزيد التنافس على تملك البنوك في تركيا؛ لأن أهم وسيلة لغسيل الأموال هي الاقتراض من البنوك ثم تسديد القروض بأموال قذرة. وتشير التقديرات الرسمية إلى أن فرقة إعدامات تم تشكيلها ضمن الدولة قتلت ما بين 2500 ـ 5000 كردي في الفترة ما بين عام 1990م ـ 1996م، وفرقة الإعدامات هذه كانت ثمرة تحالف بين مؤسسات الدولة وبين محترفي الإجرام من تجار المخدرات والهيروين، واعتبار ذلك جزءاً من مواجهة المشكلة الكردية، وهناك تقرير رسمي اسمه تقرير (سافاس) يصل إلى 120 صفحة تم نشره في الصحف التركية يتحدث عن عمق العلاقة الفاسدة بين مؤسسات الدولة ورجال العصابات والمافيا التركية.
مستقبل تركيا:
الشيء المقطوع به أن العلمانية الكمالية قد سقطت في تركيا، وأن تركيا تقف الآن على مفرق طرق حائرة تبحث من جديد عن تحديد وجهتها؛ فإلى أين تتجه؟
هناك ثلاثة تيارات على الأقل تتقاذف تركيا لإعادة اكتشاف هويتها:
التيار الأول: يصر على الاستمرار في تبني العلمانية التي تجعل من تركيا دولة أوروبية؛ ويتبنى هذا التيار النخبة التركية، وقطاع واسع من التكنوقراط ورجال الأعمال وأصحاب المصالح مع الغرب.
والتيار الثاني: يتجه نحو العودة إلى الشرق الإسلامي وإعادة الأهلية للتراث الثقافي العثماني، والانفتاح أكثر على العالم الإسلامي؛ وهو تيار يتبناه قطاع واسع من سكان الريف والزراعيين والحرفيين وبعض الأكاديميين وطلبة الجامعات.
التيار الثالث: وهو تيار نشط بعد تحرر دول آسيا الوسطى التركية من القبضة الشيوعية، وانفتاح مجال حيوي جديد لتركيا باعتبار هذه المنطقة الحديثة فضاءاً سياسياً لتركيا للتوغل فيه.
وفي الواقع فإن رفض أوروبا القاطع بقبول تركيا دولة ضمن الوحدة الأوروبية النقدية والمالية صدم القطاع الذي كان يراهن على أن المبالغة في تبني قيم الحداثة والعلمانية الغربية ستؤدي إلى قبول أوروبا لتركيا عضواً على قدم المساواة في النادي الأوروبي، علماً بأن الذين يأملون في الرهان على أوروبا أقلية غير مذكورة؛ إذ لا تزال أوروبا تنظر إلى تركيا باعتبارها وريثة الدولة العثمانية التي أخذت بالسيف مناطق من أوروبا، واليونان لا تزال تنظر إلى الأراضي الأوروبية التي دخلت في الحوزة العثمانية باعتبارها أيضاً محتلة، ويقول الصحفي والكاتب التركي موسى عنتر: «عاداتنا وثقافتنا مختلفة وهم ـ الأوروبيون ـ لا يريدوننا».
أما التيار الثالث: وهو الذي دعا إليه «تورجوت أوزال» وأطلق عليه: «العثمانية الجديدة» ـ أي تنشيط الدور التركي في عالم تركيا الجديدة ـ فهذا الدور يثبت من الممارسة أن تركيا غير قادرة على تحمُّل أعبائه؛ إذ إن تركيا لا تزال عاجزة عن التأثير في المشكلة القبرصية، كما أنها عجزت عن التأثير في مشكلة البوسنة، أي أن مؤهلات تركيا لا تمنحها القدرة على أداء دور يجعل منها قوة إقليمية كبيرة في هذه المنطقة.(13/300)
يبقى التيار الثاني: الذي يدعو إلى العودة إلى الإسلام والقيم الإسلامية والتواصل مع العالم العربي والإسلامي، وهو ما يتبناه حزب «الرفاه» والذي تحول اسمه إلى حزب «الفضيلة»، وهذا التيار يتصاعد بقوة، وهو الذي سيحسم المستقبل السياسي لتركيا. ونمو هذا التيار يؤكد عودة تركيا إلى جذورها الأولى. إن الإسلام قوة لا يمكن حذفها في أي بلد أغلبيته مسلمة، وإذا حاولت العلمانية الكمالية مرة أخرى استئصاله فإنها ستخفق إخفاقاً ذريعاً؛ فإنها فقدت مسوِّغ بقائها ووجودها، وإن مزابل التاريخ تتوق شوقاً لضمها بين المخلفات التاريخية والأيديولوجية الأخرى التي سقطت في هذا القرن.
===========(13/301)
(13/302)
كيف تعرف العلماني ؟ و ما هي معتقداته ؟
خليفه بن إسماعيل الإسماعيل
العلماني :
تجده يؤمن بوجود إله لكنه يعتقد بعدم وجود علاقة بين الدين وبين حياة الإنسان ( فكر بوذي ) كما يعتقد بأن الحياة تقوم على أساس العلم التجريبي المطلق وهذا ( فكر ماركسي ).
والعلماني :
تجده يعتبر القيم الروحية التي تنادي بها الأديان والقيم الأخلاقية بأنواعها هي قيم سلبية يجب أن يتم تطويرها أو إلغائها وهذا ( فكر ماركسي ).
والعلماني :
تجده يطالب بالإباحية كالسفور ، والاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة والخاصة ( أي الخلوة ) ويحبذ عدم الترابط الأسري ( دعوة ماسونية ).
والعلماني :
تجده يطالب بعدم تدخل الدين في الأمور السياسية وأنه يجب تطبيق الشرائع والأنظمة الوضعية كالقانون الفرنسي في الحكم . وأن الدين للعبادة فقط دون تدخل في شئون الخلق وتنظيمها - كما أراد الله سبحانه وتعالى -.
والعلماني :
تجده يردد دائماً بأن الإنسان هو الذي ينبغي أن يستشار في الأمور الدنيوية كلها وليس رجال الدين - وكأن رجال الدين هم الذين اخترعوا التعاليم السماوية - ويطالب بأن يكون العقل البشري صاحب القرار وليس الدين . ( مع تحفظنا على رجال الدين لان ليس عندنا رجال دين ولكن عندنا علماء )
والعلماني :
تجده يصرح باطلاً بأن الإسلام لا يتلائم مع الحضارة وأنه يدعوا إلى التخلف لأنه لم يقدم للبشرية ما ينفع ويتناسى عن قصد الأمجاد الإسلامية من فتوحات ومخترعات في مجال الهندسة والجبر والكيمياء والفيزياء والطب وأن علم الجبر الذي غير المفاهيم العلمية وكان السبب الرئيسي لكثرة من مخترعات اليوم وربما المستقبل ينسب لمبتدعه العبقري جابر بن حيان وهو مسلم عربي .
والعلماني :
تجده يعتقد بأن الأخلاق نسبية وليس لها وجود في حياة البشر إنما هي انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية وهي من صنع العقل الجماعي وأنها أي الأخلاق تتغير على الدوام وحسب الظروف ( فكر ماركسي ) .
والعلماني :
تجده يعتقد بأن التشريع الإسلامي والفقه وكافة تعاليم الأديان السماوية الأخرى ما هي إلا امتداد لشرائع قديمة أمثال القانون الروماني وأنها تعاليم عفى عليها الزمن وأنها تناقض العلم . وأن تعاليم الدين وشعائره لا يستفيد منها المجتمع . ( وهذا فكر ماركسي ) .
تنبيه :
العلماني تجده يصرح بهذه المقولة ويجعلها شعاراً له دون أن يكون له دراية أو علم أو اطلاع على التعاليم الفقهية الإسلامية أو على الإنجازات الحضارية الإسلامية0
والعلماني :
تجده حين يتحدث عن المتدينين فإنه يمزج حديثه بالسخرية منهم ويطالب بأن يقتصر توظيف خريجي المعاهد والكليات الدينية على الوعظ أو المأذونية أو الإمامة أو الأذان وخلافه من أمور الدين فقط .
والعلماني :
يعتبر أن مجرد ذكر اسم الله في البحث العلمي يعتبر إفساداً للروح العلمية ومبرراً لطرح النتائج العلمية واعتبارها غير ذات قيمة حتى ولو كانت صحيحة علمياً .
والعلماني :تجده يعتبر أن قمة الواقعية هي التعامل بين البشر دون قيم أخلاقية أو دينية لأنها في اعتقاده غير ضرورية لبناء الإنسان بل أنها تساهم في تأخيره وأن القيم الإنسانية ما هي إلا مثالية لا حاجة للمجتمع بها .
والعلماني :
تجده يعترض اعتراضا شديداً على تطبيق حدود الله في الخارجين على شرعه كالرجم للزاني أو قطع اليد للسارق أو القتل للقاتل وغيرها من أحكام الله ويعتبرها قسوة لا مبرر لها .
والعلماني :
تجده يطالب ويحبذ مساواة المرأة بالرجل ويدعو إلى تحررها وسفورها واختلاطها بالرجال دون تحديد العمل الذي يلائمها ويحفظ كرمتها كأنثى .
والعلماني : تجده يحبذ أن لا يكون التعليم الديني في المدارس الحكومية إلزامياً بل إختيارياً .
والعلماني :
يتمنى تغيير القوانين الإسلامية بقوانين علمانية كالقانون المدني السويسري والقانون الجنائي المعمول به في إيطاليا والقانون التجاري الألماني والقانون الجنائي الفرنسي وهذا القانون يعمل به في بعض الدول العربية . ويعتبر أن تلك القوانين هي الأفيد في حياة الفرد والمجتمع من التنظيم الإسلامي .
المصدر كتاب : كيف تعرفهم ؟ لخليفه بن إسماعيل الإسماعيل
نقلا عن موقع صيد الفوائد
=============(13/303)
(13/304)
جذور العلمانية ( 1 )الفكر الرشدي والممانعة الكنسية
بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم د . أحمد إدريس الطعان
بريد إلكتروني : ahmad_altan@maktoob.com
الفكر الرشدي وبوادر العلمنة :
درج بعض الباحثين على البدء بالتاريخ للعلمانية منذ عصر النهضة ( ) الذي يؤرخ لبدايته عادة مع فتح القسطنطينية في عهد السلطان محمد الفاتح سنة 1453 ( ).
كما درجوا عادة على اعتبار مساوئ الكنيسة واضطهادها وتاريخها الأسود ( ) هو الذي أنتج العلمانية ( ) . بيد أننا إذا رجعنا إلى الوراء قليلاً إلى القرن الثالث عشر سنجد أن بدايات الصراع بين الفكر والكنيسة يمكن أن يعتبر من آثار ترجمة الفكر الرشدي إلى اللغة اللاتينية ، وبالتالي فيمكن القول : إن الفكر الرشدي العلماني - بالاعتبار الغربي - هو الذي أنتج الاضطهاد الكنسي ، ثم إن هذا الاضطهاد ساهم في شيوع الفكر الرشدي وانتشاره في الغرب ، ذلك أنه من المعروف في تاريخ المعتقدات والآراء أن أكثر ما يسهم في انتشارها هو الاضطهاد والقمع والمحاصرة ( ).
لقد حرر الفكر الرشدي الغرب من سيطرة الكنيسة فبدأ يراجع مسلماته التي ظلت طيلة ألف عام فوق العقل ، ولا يجرؤ أحد على المجاهرة بما يناقض المسلمات الكنسية . وقد تم ذلك على يد ميشيل سكوت فهو أول من أدخل ابن رشد إلى اللاتين في القرن الثالث عشر ، وجميع كتب ابن رشد المهمة تقريباً تُرجمت من العربية إلى اللاتينية في أواسط القرن الثالث عشر . ( ) ومن المعروف لدى باحثي الفلسفة أن ابن رشد تبنى مذهب أرسطو وانبهر به انبهاراً لا يقل عن انبهار بعض المعاصرين اليوم بالفكر الغربي وسمي " الشارح " وعرف في الغرب بهذا اللقب ( ) لقد كاد ابن رشد أن يفضل أرسطو على الأنبياء واعتبره أكمل البشر حين قال : "" نحمد حمداً لا حد له ذاك الذي اختار هذا الرجل - أرسطو- للكمال فوضعه في أعلى درجات الفضل البشري التي لم يستطع أن يبلغها أي رجل في أي عصر كان "" ( ) .
وإذا كان العلمانيون اليوم يشيدون بابن رشد ويعتبرونه رائد عصر التنوير ، وسيد العقلانيين العرب ومطلق ثورة العقل العربي . ( ) ويهاجمون الفكر الإسلامي السلفي باعتباره فكراً تقليدياً ،ويُسمُّون دعاة هذا الفكر " ملاك الحقيقة المطلقة " ( ) ويتهمونهم بممارسة الإرهاب الفكري بالإقصاء والنفي فإن رائدهم هذا هو الذي ينفي كل الآخرين ويعترف بأرسطو وحده وذلك "" لأن مذهب أرسطو [ بنظره ] هو الحقيقة المطلقة ، وذلك لبلوغ عقله أقصى حدود العقل البشري ، ولذا فإن من الحق أن يقال عنه : إن العناية الإلهية أنعمت به علينا لتعليمنا ما يمكن أن نتعلم "" ( ) 0
لقد تزامن انتقال الفكر الرشدي إلى الغرب مع عاملين :
العامل الأول : الفتح الثقافي الإسلامي والعربي للبلاد الأوروبية .
فقد كان هذا الفتح هائلاً ولم يكن ابن رشد وحده هو الذي يحتل الساحة الثقافية الأوربية بل أعلام كثر ، يقول أحد علماء اليهود مبيناً هذا الأثر : "" إنه لم يبق بين اليهود الخاضعين للعرب واحد لم يترك دين إبراهيم ، ولم تفسده ضلالات العرب أو ضلالات الفلاسفة "" ( ) .
وقد بلغت السلطة الثقافية العربية في الغرب آنذاك أن بعض الأعلام الغربيين مثل أولهرد فون باث يعترف بأنه كثيراً ما نحل أفكاره الخاصة مؤلفين عرباً حتى تظفر بالرواج ( ). والشاعر الفرنسي " فولشير الشارتي " سحره العرب أثناء الحروب الصليبية بأخلاقهم وحضارتهم فقال : "" أفبعد كل هذا ننقلب إلى الغرب الكئيب ، بعدما أفاء الله علينا وبدل الغرب إلى الشرق "" ( ) .
وبين أيدينا نص طويل ولكنه يجلي الصورة بوضوح للعلاقة الثقافية آنذاك بين المسلمين والغرب يقول أسقف قرطبة " ألقارو " إن كثيرين من أبناء ديني يقرؤون أساطير العرب ويتدارسون كتابات المسلمين من الفلاسفة وعلماء الدين ليس ليدحضوها ، وإنما ليتقنوا اللغة العربية ، ويحسن التوسل بها ،وأين نقع اليوم على النصراني من غير المتخصصين الذي يقرأ التفاسير اللاتينية للإنجيل ؟ واحسرتاه ! إن الشباب النصارى جميعهم اليوم الذين لمعوا وبذوا أقرانهم بمواهبهم لا يعرفون سوى لغة العرب والأدب العربي … منفقين المبالغ الطائلة في اقتناء الكتب العربية ، ويذيعون جهراً في كل مكان أن ذلك الأدب العربي جدير بالإكبار والإعجاب ، ولئن حاول أحد إقناعهم بالاحتجاج بكتب النصارى فإنهم يردون باستخفاف : وامصيبتاه ! إن النصارى قد نسوا حتى لغتهم الأم فلا تكاد تجد اليوم واحد في الألف يستطيع أن يدبج رسالة بسيطة باللاتينية السليمة ، بينما العكس من ذلك لا تستطيع إحصاء من يحسن منهم العربية تعبيراً وكتابة وتحبيراً . بل إن منهم من يقرضون الشعر بالعربية حتى لقد حذقوه وبذوا في ذلك العرب أنفسهم "" ( )(13/305)
هذا العامل جعل الغربيين كما هو ملاحظ من النصوص ينبهرون بالحضارة الإسلامية الغازية مما حدا بالتنويريين والمتحررين منهم أن يتعاطفوا مع هذه الحضارة ، ويتقبلوا الفكر الوافد ليس على أنه فكر معاد . وإنما على أنه فكر إنساني يسهم في رقي الإنسان وتحضره حتى لقد كاد روجر بيكون 1211 - 1294م أن يُعدم حرقاً بسبب شغفه بكل ما هو عربي وتحمسه لعلومهم ، وطُرد من أكسفورد لمدة عشر سنوات بسبب شجبه للمعاملة غير الإنسانية للعرب ، ولهجه دائماً بأسماء علمائهم ، ومخالطته للكفرة أعداء الرب - المقصود العرب والمسلمين - وإشادته بآلاتهم وأجهزتهم ، وتدوينه لتجاربهم ، ونقده الدائم للنظام الكنسي ، فاتهم لذلك بالاشتغال بالسحر وحكم عليه بالسجن مدى الحياة ولكن التعيس مات شقياً بائساً بعد أن قضى خمسة عشر عاماً في أعماق السجن المظلم الرطب عام 1294م ( ) .
العامل الثاني : لقد ترافق انتقال الفكر الرشدي إلى الغرب مع أجواء الحروب الصليبية ، وحالة العداء الشديدة التي تزعمتها الكنيسة لكل ما هو عربي وإسلامي . كان ذلك منذ أن دعا البابا أوربان الثاني في القرن الحادي عشر الميلادي 1095 م في كلير مونت بفرنسا إلى تحرير قبر المسيح المقدس وكان يوصيهم قائلاً : "" عليكم أن تُطهِّروا الأرض المقدسة التي يعيش فيها إخوانكم المسيحيون من أولئك الرعاع ""( ) ، فبدأ الوعاظ يطوفون أوربا يؤلبون الفرسان " العاطلين عن العمل " بحماس لكي ينقذوا قبر المسيح ، وكانت هي في الحقيقة دعوى تخفي أطماع الكنيسة السياسية ( ).
في تلك الأثناء التي كان الغرب يتربص بالمسلمين الدوائر، والكنيسة تُجيّش الفرسان ، وتُحمِّس الجنود لقتال الكفرة الفجرة كان الأسقف أجناتيوس في بيزنطة يتلقى رسالة من أخيه الروحي البطريرك تيودوسيوس من بيت المقدس يقول فيها : "" إن العرب هنا هم رؤساؤنا الحكام وهم لا يحاربون النصرانية بل على العكس من ذلك يحمونها ويذودون عنها ، ويوقرون قساوستنا ورهباننا ويجلون قديسينا "" ( )
ولكن الخطب الحماسية الرنانة كانت قد فعلت فعلها في قلوب المسيحيين وأججت نار الحقد المسعور حتى دفعتهم أن يدخلوا بيت المقدس فيحصدوا الأرواح حصداً ، ومصادرهم الغربية تشير إلى أنهم ذبحوا قرابة عشرة آلاف إنسان في الشوارع من النساء والأطفال والرجال ( ). ومما يزيد الجرح عمقاً أن أحد البطاركة نفسه كان يعدو في زقاق بيت المقدس وسيفه يقطر دما يحصد به كل من يواجهه ، ولم يتوقف حتى بلغ كنيسة القيامة فغسل يديه وهو يردد : "" يفرح الأبرار حين يرون عقاب الأشرار ، ويغسلون أقدامهم بدمهم ، فيقول الناس حقاً إن للصديق مكافأة وإن في الأرض إلهاً يقضي ""( )
لقد كان البابا يخاطب الفرسان الصليبين قائلاً : "" أي خزي يجللنا ، وأي عار لو أن هذا الجنس من الكفار الذي لا يليق به إلا كل احتقار ، والذي سقط في هاوية التعري عن كرامة الإنسان ، جاعلاً نفسه عبداً للشيطان قد قُدِّر له الانتصار على شعب الله المختار "" ( ).
وكانت الحملة الصليبية الثانية سنة 1144م شارك فيها لويس السابع 1121 - 1180م وكونراد الثالث 1093 - 1152 م ملكا فرنسا وألمانيا ولم تنجز شيئاً ( ) ثم استعاد صلاح الدين بيت المقدس سنة 1187 م ولم يفعل كما فعل النصارى قبل ثمان وثمانين عاماً بل احتل المدينة احتلالاً نظامياً وإنسانياً لم يؤذ فيه أحداً من النصارى ، ولم ينهب بيوتهم ، ثم أطلق الأزواج والأسرى ، وقدم الهبات والعطايا للأرامل واليتامى ( ).
وفي سنة 1189م قاموا بحملة صليبية ثالثة شارك فيها فريدريك بربروسا 1152 - 1190 م ملك ألمانيا . وفيليب أغسطس 1165 - 1223م ملك فرنسا ، وريكاردوس قلب الأسد 1157 - 1199 ملك انكلترا ، ولكن الحملة باءت بالفشل( )
وعموماً فقد نجحت الحروب الصليبية " المقدسة "في خلق شقة واسعة تفصل بين الشرق والغرب بدلاً من أن تعيد تدعيم الجسر الرابط بين ثقافتين تجمع بينهما في نهاية المطاف مفاهيم إيمانية مشتركة ( ).
في مثل هذه الظروف العدائية احتك الفكر الرشدي بالغرب فما كان من الكنيسة إلا أن جندت سدنتها لمحاربة الفكر الرشدي الغازي فقامت بترجمة كتاب " تهافت التهافت " ترجمة لاتينية بعيدة كل البعد عن حقيقة الكتاب ومحشوة بالتحريف والتناقض والافتراء( )،علماً بأن ابن رشد مشائي أرسطي في أغلب فلسفته ، والكنيسة كذلك كانت تتبنى نظرية أرسطو في الكون ، ولكن الذي منعها من مهادنته والتحالف معه هو أنه عربي مسلم . وبذلك كان جل خدام الكنيسة في القرن الثالث عشر متفقين على مناهضة الرشدية ومحاربتها ومن هؤلاء ريمون لول، وجيل دوروم ، وتوما الأكويني ، وألبرت الكبير ، وغليوم الأفرني ،وبترارك ( ) .(13/306)
لقد شن ريمون لول حرباً صليبية في القرن الثالث عشر ضد الرشدية ، والرشدية عنده تساوي الإسلام ، وهدم الإسلام كان حلم حياته السعيدة وبلغت أهمية ريمون لول منتهاها بين سنتي 1310 و1312م على الخصوص حيث تنقل في أوربا مفنداً ابن رشد ومحمد ( ، وقد اقترح على كليمان الخامس إيجاد منظمة حربية جديدة لهدم الإسلام ، وإنشاء كليات لدراسة العربية ، والحكم على ابن رشد وأتباعه ( ).
وأما بترارك فقد بلغ به الحقد على العرب والمسلمين أن شن مقاطعة اقتصادية وثقافية لكل ما هو عربي وإسلامي ، فيرفض أن يتعاطى أي دواء عربي ، أو يحمل اسماً عربياً ، ويقول لصديقه : "" أرجو منك فيما هو خاص بي ألا تعتمد على عربك( ) وأن تعدهم كأنهم لم يكونوا ، فأنا أمقت هؤلاء القوم وأعرف أن بلاد الروم( ) أنجبت علماء وبلغاء وفلاسفة وشعراء ورياضيين وخطباء ، وهناك ولد الطب أيضاً ، وأما أطباء العرب فعليَّ أن أعرف من هم ، وأما أنا فإنني أعرف شعراءهم فلا يمكنني أن أتصور من هو أكثر منهم تخنثاً وارتخاء وهجراً ... ولا أكاد أُحمل على الاعتقاد بإمكان صدور ما هو صالح عن العرب ، ومع ذلك فبأي حق لا أدريه أيها العلماء تغمرونهم بمدائح لا يستحقونها "" . ثم يصف من يمدح العرب بحضرته بأنه كمن يطعنه بخنجر أو يلسع قلبه بقراص( ) .
إن هذا النص بالإضافة إلى كشفه عن مدى الحقد الصليبي الذي امتلأت به قلوب بعض خدام الكنيسة ، فهو يلفت النظر أيضاً إلى المدى الذي بلغته الثقافة الإسلامية في امتلاكها لناصية الحضارة والعلم ، واجتذابها لتعاطف الأعداء قبل الأصدقاء .
إن العاملين الذين ذكرناهما وتحدثنا عنهما إلى الآن كلاهما أسهما في شهرة الفكر الرشدي وذيوعه وانتشاره ، فالتعاطف مع الحضارة الغازية من جانب الراغبين في التحرر من الاحتكار الكنسي للعلم والثقافة ، والاضطهاد الكنسي للفكر الرشدي ومحاربته والسعي إلى قمعه ونفيه جعل لهذا الفكر أنصاراً أو جماهير ، ولكن كان للعامل الثاني الدور الأساس في بلورة الصورة الرشدية في أعين الغرب ، وتحديد صفة هذا الفكر وذلك بوصمه بالإلحاد والكفر والزندقة ، لتجعل منه الكنيسة ممثلاً للعرباوية - أي العرب - الذين سعت دائماً إلى اعتبارهم ملحدين كفرة ( ). وذلك ليكون الإلحاد وافداً من الشرق الإسلامي ، بقصد تجييش الغرب الذي لا تزال السيادة فيه للمسيحية - ضد الإسلام - وإذكاءً لبواعث الحقد والكراهية الصليبية .
ولم يجد التيار العقلاني الناهض المتأثر بالعرب والمتعاطف معهم أي غضاضة في هذه الصورة التي رُسمت لابن رشد وفكره بل إنها تُقبِّلت بترحيب ، واستُخدمت كسلاح مضاد للكنيسة والسلطات الكهنوتية بعكس ما أرادت هذه السلطات ورغبت .
وهكذا يكون ابن رشد افُتريَ عليه مرتين الأولى: من قبل الكنيسة . والثانية: من قبل التيار المناهض لها، وأُريد له أن يكون ملحداً زنديقاً من قبل الطرفين، واتخذته الرشدية اللاتينية التي بدأت تتصادم مع الكنيسة غطاءً لأفكارها التحررية، وستاراً لدعوتها العلمانية ( ).
هذا التوظيف الغرضي ( ) للفكر الرشدي ساعد في الواقع على بروز ابن رشد كرائد للعقلانية في مواجهة القمع والاضطهاد الفكري الكنسي ، فبدأت تتزايد ترجمات كتبه إلى اللاتينية تزايداً هائلاً حتى لم تكد تمر سنة فيما بين 1480 م و 1580 م دون ظهور طبعة جديدة لإحدى تلك الترجمات ( ). وطوال عدة قرون تالية درست أوربة فلسفة أرسطو من خلال عيني ابن رشد ، واحتلت الرشدية مقام السيادة في الجامعات الغربية الكبرى( ) مثل جامعة " بادوفا " في إيطاليا التي أصبحت معقل الرشديين فيما بعد ( ).
ثم توسع انتشار الأضاليل الرشدية - على حد تعبير المسيحيين المحافظين - حتى وجدت لها صدى في الجامعة الباريسية حتى يمكن القول إن رسائل توما الأكويني ، وألبرت كانت موجهة شخصياً ضد أساتذة باريسيين تأثروا بالرشدية( ) وهو ما يبدو واضحاً في رسالة لتوما تحمل عنوان " ضد الرشدية الباريسية "( ) .(13/307)
والذي يبدو أن الرشدية أصبحت في ذلك الوقت كالعلمانية اليوم معياراً - لدى جماهيرها- للثقافة والتحضر والرقي ، فلا بد لكي يُعد الباحث من المثقفين واسعي الإطلاع أن يتشدق باسم ابن رشد ، ويتفوه ببعض أفكاره لقد أصبحت الرشدية في نظر المحافظين " ابتلاء بالتشرق " على غرار " الابتلاء بالتغرب "( ) الذي نحاربه اليوم ، وغدت ثقافة دارجة لدى الطبقة الراقية في البندقية ( )، حتى أن الذي لا يتبنى الرشدية ، ولم يطلع عليها يعتبر تقليدياً أو ظلامياً أو رجعياً على غرار ما هو سائد اليوم لدى العلمانيين المتغربين ، نستشف ذلك من حديث بترارك مع أحد الرشديين إذ يستشهد الأول أثناء حديثه بالقديس بولس ، فيعبس الرشدي ازدراء ويقول : "" احتفظ لنفسك بهذا النوع من المعلمين وأما أنا فلي معلمي ، وأعرف من أعتقد "" . ثم يتابع الرشدي قائلاً : "" أيه ! إبق نصرانياً صالحاً ، وأما أنا فلا أؤمن بواحدة من جميع هذه الأساطير ، ولم يكن بولسك ، وأوغستنك - أوغسطين - وجميع هؤلاء الناس الذين تقيم لهم وزناً غير ثرثارين ، آه ! ليتك كنت قادراً على مطالعة ابن رشد ... فتبصر مقدار ما هو أعلى من جميع هؤلاء المجّان "" ( )
إن هذا النص فيه دلالات متعددة فهو يكشف عن المدى الذي بلغه الفكر الرشدي في السيطرة على عقول الطبقة المثقفة ودفعها في طريق المواجهة للثقافة التقليدية التي يمثلها كل من بولس وأوغسطين وبترارك ، ولكن علينا أن لا ننسى أن مثل هذا الكلام لم يكن يمكن المجاهرة به لأن ذلك يؤدي إلى الموت ، كل ما في الأمر أنه حوار شخصي يدور بين بترارك وأحد زائريه في منزله .
إن النص يكشف أيضاً عن جهل بترارك باللغة العربية التي يكتب بها ابن رشد ولذلك فإن الرشدي يتحسر لأن بترارك لا يمكنه قراءة ابن رشد مباشرة ، وقد سبق لنا قريباً أن نقلنا نصاً يوضح احتقار بترارك للعرب ولغتهم وحضارتهم . والله أعلم .
فكرة الحقيقة المزدوجة :
لقد شجع الفكر الرشدي الغربيين على الجرأة الجدلية في مواجهة - لا أقول الكنيسة وإنما بعض القائمين عليها ممن يُطمأن إليهم ، ويؤمن جانبهم ، ولكن لم يصبح هذا شائعاً في كل الأوساط ، وإنما كان محاولات فردية تحاول أن تفلت من سلطان الكهنوت الكنسي ، ورقابة البابا .
ولكن الأمور كانت تسير لصالح الرشديين ، فلم يمض قرنان من الزمان حتى أصبحت الأضاليل الرشدية ( ) التي كانت تتحاشى العلانية ، ويتم تداولها سراً وبحذر ، أصبحت في أوائل القرن السادس عشر فلسفة جميع إيطاليا الرسمية تقريباً ( ) ، وأمسى كل التنويريين والوجهاء يتسابقون في تبني الفلسفة الرشدية الإلحادية التي أريد لابن رشد أن يمثلها إن بحق وإن بباطل -كما أسلفنا - فقد أصبح أغلب المثقفين يعتقدون أن الجحيم من اختراع الأمراء والرؤساء ، والصلوات والقرابين من اختراع الكهنة والأحبار ، وكل ما تمتلئ به الكتب المقدسة ما هو إلا أقاصيص وخرافات . ( )
وهكذا فقد كان من آثار الرشدية أن جرأت الناس في الغرب على إعادة النظر في معتقداتهم ومسلماتهم . وأدى ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر( ) إلى انتشار الأفكار المناهضة للكنيسة والعقائد الشائعة ، كما استطاع الأفراد أن يمتلكوا نسخاً من الكتاب المقدس ، ويقرؤوه بأنفسهم بعد أن كان اقتناؤه وتفسيره حكراً على الكنيسة ورجالها . وبهذا الشكل بدأت الكنيسة تفقد سلطانها على العقول والأفكار ، وبدأ زمام الأمور يفلت من يدها( ) .
غير أنه إذا كان الفصل بين العلم والدين ، والقول بالنسبية المطلقة هو من أهم خصائص العلمانية ، وأجلى مظاهرها في العصر الحديث ، فإن ذلك يعود تكريسه في جانبه الأكبر إلى الرشدية اللاتينية ، ونُسب ذلك طبعاً لابن رشد ، إن القضية الأصل المثارة هنا هي ما سمي " بالحقيقة المزدوجة " أو " الحقيقة ذات الوجهين " والتي أروم إلى اعتبارها الأساس الأول للعلمانية ، والمسمار الأول في نعش الكنيسة ( ) .
وتعني - الحقيقة المزدوجة - أنه يمكن أن يكون الشيء صادقاً فلسفياً خاطئاً لاهوتياً أو العكس ، وبذلك يصبح الفيلسوف حراً في المجاهرة بآرائه ونتائجه في مجال الفلسفة بحجة أنه فيلسوف وإن لم تكن مطابقة للاهوت ، وبذلك استطاع الفلاسفة أن يحصلوا على قدر من التسامح بوصفهم فلاسفة يعتبرون موضوعات الإيمان تتجاوز الفهم البشري وإن كانت نتائجهم الفلسفية تتعارض مع هذه الموضوعات . ( )
فهي فكرة -إذن - يراد منها استرضاء الكنيسة دون خسائر علمية أو فلسفية ، وعقد نوع من المهادنة بين الكنيسة والفلاسفة . ولقد عبر بترارك عن سخطه من هؤلاء الذين يفصلون بين الدين والفلسفة ولم يقبل هذه المهادنة ، لأنه يعلم أنها بداية النهاية بالنسبة لسلطان الكنيسة ، فالرشديون - كما يتحدث - إذا جاهروا بمجادلاتهم احتجوا بأنهم يتكلمون مع قطع النظر عن الدين ، إنهم يبحثون عن الحقيقة بنبذهم الحقيقة ، وإنهم يبحثون عن النور بإدارة ظهورهم نحو الشمس ، ولكنهم في السر لا يتركون مغالطة أو تجديفاً . ( )(13/308)
أليس هذا هو ما يردده أولئك الذين يتحدثون - في عصرنا - عن أنهم رجال علم لا علاقة لهم بالدين ، ولذلك فهم يبيحون لأنفسهم باسم العلم أن يقرروا ما يشاءون من القضايا التي يرفضها الدين، فالدين بنظرهم له مجاله والعقل له مجاله ولا يتدخل أحدهما في شؤون الآخر( ) لأن العناصر الغيبية في الوحي ليست معقولة . ( )
ويبدو أنه بقدر ما أصبح للرشديين من سلطان على العقول أخذت هذه الفكرة تتمدد في الأوساط الثقافية فظهر من هؤلاء يونبوناتزي 1462 - 1525م وهو من أشهر أساتذة بادوفا في ذلك العصر ، وكانت جامعتها رشدية خالصة وقد تبنى هذا فكرة الحقيقة المزدوجة فأصدر كتاباً أنكر فيه خلود النفس ، ثم أعلن خضوعه لتعاليم الدين في الخلود ، وكاد أن يُعدم حرقاً ولكنه نجا بحماية أحد الكرادلة له( ) .
ويؤكد يونبوناتزي أن الجمهور الذي يفعل الخير طلباً للثواب الأخروي والنعيم ، ويتجنب الشر هرباً من الجحيم لا يزال في طور الطفولة ، وبذلك فهو بحاجة إلى الوعد والوعيد ، وأما الفيلسوف فيصدر عن المبادئ والبراهين فقط ، إن المشرعين بنظره هم الذين ابتكروا الخلود لا عناية منهم بالحقيقة ، بل حرصاً على الخير العام ، ومن هنا لا يمكن بنظره التوفيق بين العناية الإلهية والحرية الإنسانية ، فالأولى ثابتة بالإيمان ، والثانية ثابتة بالتجربة ( ) .
ظهر بعد ذلك فرنسيس بيكون 1561 - 1626 كمحام عن نظرية الحقيقة المزدوجة وهي تعني عنده أن ما يثبت بالعقل لا علاقة للإيمان به ، الإيمان طريق الوحي ، والعلم طريق العقل . ( ) وعلى ذلك فالكتاب المقدس شيء ، وكتاب الطبيعة شيء آخر ( ) ، والدراسة الفلسفية عنده لا تساند أي استدلال على وجود الله [عز وجل] أو العناية الإلهية ، وكل ما يمكن أن نصل إليه من دراسة كتاب الطبيعة هو إثبات وجود إله قادر وحكيم ( ) .
ولذلك أوصى بيكون في تقرير رفعه إلى الملك جيمس الأول لإصلاح التعليم أن تتم المحافظة على هوة عميقة بين العلوم الطبيعية من ناحية ، وبين الدين واللاهوت المقدس من ناحية أخرى ، ذلك أن الانسجام الاجتماعي والتكامل العلمي يتطلبان بنظره فصلاً صارماً بين هذين الجانبين ، فالفيلسوف الذي ينغمس في اللاهوت يخلق مذهباً خرافياً جامحاً ، في حين أن اللاهوتي الذي يهتم اهتماماً بالغاً بالفروق الفلسفية والكشوف العلمية ينتهي إلى الزندقة ، والمسلك الوحيد المنقذ - بنظره - هو إقامة ثنائية حادة بين العلوم الطبيعية والوحي الإلهي( ) .
ولم يكن غاليلو 1564 - 1642م المعاصر لبيكون بعيداً عن هذه النظرية فقد كان يستشهد بالكاردينال بارونيوس عندما قال : "" غاية الروح القدس أن يعلمنا كيف نذهب إلى السماء ، لا كيف تسير السماوات "" .( ) وكتب لصديق له : "" أعتقد أنه يجب أن لا نبتدئ في مناقشة المسائل الطبية بالاستشهاد بأقوال من الكتب المقدسة ، ولكن بالتجارب الحسية والبراهين الضرورية ""( ).
أما سبينوزا 1632 - 1677 م فقد استمات في الدفاع عن الحقيقة المزدوجة ليجد لنفسه منفذاً يقول من خلاله ما يشاء دون أن يخشى بطش اليهود فهو يرفض أن يكون العقل خادماً للكتاب ، كما يرفض أن يكون بينهما أي تناقض لأن لكل ميدانه الخاص ويمكنهما أن يعيشا في وئام ( ) "" فاللاهوت ليس خادماً للعقل ، والعقل ليس خادماً للاهوت ، بل لكلٍ مملكته الخاصة ، للعقل مملكة الحقيقة والحكمة ، وللاهوت مملكة التقوى والخضوع "" ( ) فإذا وجد تناقض في الكتاب مع العقل فلا خوف لأنه ليس في مملكة العقل ، ويستطيع عندئذ كل فرد أن يفكر كما يشاء دون أي خوف ( ) ويمكننا أن نبرر قبولنا للعقائد الموحى بها عن طريق اليقين الأخلاقي فقط ولا نملك أكثر من ذلك ( ) .
وهكذا وظف العلمانيون فكرة الحقيقة المزدوجة لأمرين الأول : - محاولة إيجاد تبرير لفضائح الكتاب المقدس وتناقضاته لكي لا يخسروا الجمهور المسيحي المؤمن .
- والثاني مخادعة الكنيسة لكي تكف عن اضطهادهم وإرهابهم .
ولكن إلى حين .
لقد بدأت ثقة الناس تتزعزع في الكنيسة عندما وجه إليها مكيافللي 1469 - 1527م انتقادات فاضحة في رجالها الذين يحيون حياة الرذيلة والشهوات ، ويحتكرون المتع الدنيوية داخل أسوارها في حين يدعون الناس إلى حياة الزهد والتقشف ، واعتبر الكنيسة رأس الشر وأساس الفساد وأنها السبب في انهيار العقيدة الدينية وقال : "" كلما كان الناس أقرب إلى كنيسة روما وهي رأس ديننا كانوا أقل تديناً ""( ) .
وانتقاداته في الحقيقة لم تقتصر على الكنيسة بل انتقد المسيحية عموماً ورأى أنها أوهنت من عزيمة الإنسان وأسلمت الدنيا لأهل الجرأة والعنف ( ) ، ولذلك فهو يفضل الوثنية على المسيحية لأن الأديان الوثنية تُمجِّد الجاه والصحة والقوة وتضفي هيبة على القادة والأبطال ، بينما المسيحية تحض على التواضع والضعف( ) .(13/309)
وعلى كل حال فقد عُرف عن مكيافللي بأنه مكرس لأخلاق القوة هذه الأخلاق التي نادى بها قديماً السوفسطائيون عندما رأوا أن العدالة هي سيادة القوي على الضعيف ، وإذعان الضعيف لهذه السيادة ( ) ، وأن القانون من اختراع الضعفاء للحد من تسلط الأقوياء وأن القوة هي الحق ( ) .
ثم تفاقمت هذه النزعة بعد مكيافللي على يد نيتشه 1844 - 1900 م الفيلسوف الألماني الذي يرغب في القضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء لأنه يؤمن بالبطل وبالإنسان الأعلى أو الأرقى الذي يجب أن يستعيض بالقوة عن الأخلاق ، وهو مثل ميكيافللي يعتبر المسيحية هي السبب في ترسيخ أخلاق الرقيق .( ) ولم تكن نظرية داروين " البقاء للأقوى " إلا خطوة أخرى في هذا الاتجاه .
وأهم ما عُرف عن مكيافللي أيضاً أن الغاية تبرر الوسيلة لذلك يجب على الحاكم أن يكون ماكراً مكر الذئب ، ضارياً ضراوة الأسد ،غادراً غدر الثعلب ، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير ، وأن يرتكب الشر والفظائع أحياناً- ، ويقترف الإساءات ويسير على مبدأ " فرق تسد " ، من أجل المحافظة على سلطانه . ( )
ولكن عليه في نفس الوقت أن يُخفي هذه الصفات المرذولة ، ويكون دَعِيّاً ماهراً ومرائياً كبيراً وأن يحسن التظاهر بالأوصاف الحميدة والتدين الشديد . ( )
هذه المبادئ المكيافللية التي كانت تحدياً للكنيسة في إيطاليا كانت تتزامن مع ثورة مارتن لوثر 1483 - 1546م في ألمانيا عام 1518م داخل الكنيسة للإصلاح الديني الذي حدّ كثيراً من تسلط البابوات وأتباعهم ، لقد كانت البروتستانية في البداية احتجاجاً على الغفرانات ثم تطورت إلى الفحص الحر للكتاب المقدس ، والتجربة الشخصية . ( ) وشملت حركته هذه جنيف وفرنسا وهولندا واسكتلندا ( ) .
لقد جعل لوثر الفرد حراً في قراءة الكتاب المقدس وحراً في تفسيره ، وألغى وساطة الكهنة والأسرار المقدسة التي تحتفظ بها الكنيسة ، وجعل الصلة مباشرة بين الله والإنسان الفرد . ( ) وأظهر أنه يمكن الخلاص خارج الكنيسة ، وأنه يمكن تأويل الكتاب المقدس تأويلاً عقلياً ( ) وتحرير الإنسان من أي نظام لاهوتي فوق الطبيعة ( ) . وبذلك يكون لوثر قد قضى بضربة واحدة على ما شاع مئات السنين من أن حياة الرهبنة والأديرة ضرورية لتحقيق السعادة الأبدية ( ) .
ولذلك رحبت الطبقة المتوسطة بالبروتستانتية لأنها رأت فيها منفذاً يتيح لها ممارسة الحياة بصورة حرة ، وممارسة التجارة ، وتحقيق الأرباح ، ومحاصرة للتدين إلى زوايا ضيقة . ( ) وأصبح الكثيرون لا يذكرون الدين إلا يوم الأحد بعد أن يكونوا قضوا أيام الأسبوع منهمكين في الحياة الدنيوية ( ) .
ومما وطد الدعوة اللوثرية ظهور إيرازموس 1466 - 1536م الذي هاجم الكنيسة الكاثوليكية بضراوة ، وسخر من صكوك الغفران ، ودعا إلى عدم الاكتفاء بالحياة الآخرة ، وضرورة الارتقاء بالحياة الدنيا ، وتهكم بالمظاهر الفارغة التي يوليها الأساقفة عنايتهم مثل عدد العُقَد الواجب عملها في الصندل الذي يلبسه الراهب ، ولون ردائه ، ونوع القماش الذي يُصنع منه ، وتفاخرهم بشكليات مضحكة مثل قول أحدهم بأنه قضى على نهمه الجسدي بالاقتصار على أكل السمك فقط ، ودعوى آخر بأن يده لم تلمس النقود طوال ستين سنة إلا من فوق القفاز أو بالإشارة . ( ) ولم يخطر في بال أحدهم أن يحب الناس ، وهي الوصية الجوهرية للمسيح عليه السلام . ( )
لقد امتد أثر الرشديين إلى هيجل 1770 - 1831م - فيما بعد - فأكد أن المسيحية وغيرها من الأديان ليست إلا طرقاً مجازية للتعبير عن الحقيقة الفلسفية الفريدة ولا شيء غير ذلك ، والدين في كل المستويات ميتافيزيقا ظاهرية معلنة لجمهور الناس الذين لا يستطيعون فهم التصورات الفلسفية المجردة ، وإنما يحتاجون إلى مضمون الفلسفة في صور سائغة ( ) ، وعبر عن ذلك في كتابه فلسفة الدين ( ) .
ولكن علينا أن نتذكر هنا أننا أشرنا إلى مثل هذا الكلام لابن رشد سابقاً وقلنا أنه ليس تعبيراً عن الحقيقة المزدوجة ، ولا يراد به أن هناك حقيقتين وإنما حقيقة واحدة تختلف الطرق في الوصول إليها ، والقصد هنا إيضاح امتداد الأثر الرشدي إلى قرون لاحقة .
في هذه المرحلة كان كوبرنيقوس 1473 - 1543م متردداً في طرح نظريته الجديدة لأنها تهدم الفلك الأرسطي والنظرة المدرسية للكون ، والتي تتبناها الكنيسة لأنه كان يعلم كم سيتعرض للازدراء إذا أذاع نظريته ، وقد فكر أن يلغيها أو يبوح بها سراً لأقاربه وأصدقائه كما كان يفعل الفيثاغوريون ( ) . ولكنه سلك طريقاً آخر فقام بإهداء كتابه للبابا ، وبدأ يتكلم بنظريته ولكن ليس على مستوى عام ، ويعرضها على بعض الأفراد ، فلم يتعرض لأي مضايقة في حال حياته ، ربما لأن الكنيسة لم تدرك ما في النظرية من مخاطر تهدد تعاليمها ، وربما لأنها كانت أكثر ليبرالية في ذلك الوقت قبل مجلس الترنت الذي مارس بعده الجزويت الاضطهاد واستعادت محاكم التفتيش نشاطها ( ) .(13/310)
تقوم النظرية على قلب الفلك القديم فبدلاً من النظرة التي كانت سائدة والتي تعتبر الأرض - مهد المسيح - هي مركز الكون وهو ما تتبناه الكنيسة ، أصبحت النظرة الجديدة تعني أن الشمس هي المركز والأرض ليست إلا كوكباً من الكواكب التي تدور حول الشمس وهو ما ترفضه الكاثوليكية لأن فيه انتقاصاً من مهد المسيح وتهويناً لشأنه وهو ما يعتبر هرطقة تستحق الموت ( ) .
لقد أنزل إذن كوبرنيقوس الإنسان من مركزيته الكونية التي خصه بها اللاهوت المسيحي ( ) ، وكانت هذه النظرية أول اقتحام جدي للعلم عندما نشرت سنة 1543م ، ولكنها لم تصبح ذات نفوذ إلا في القرن السابع عشر عندما تولاها كبلر وغاليلو وأصلحاها ، ثم بدأ العراك بين العلم والعقائد الجامدة ، وهو العراك الذي أدار فيه المحافظون معركة خاسرة ضد المعرفة الجديدة ( ) . ورغم إيمان كوبرنيقوس المخلص فقد كان لنظريته أثر مدمر على اللاهوت المسيحي ( ) وشكلت صدمة قوية للكنيسة مهدت لانفصال العلم عن الدين في الغرب وذلك بسبب التصادم الشديد الحاصل بين النظريات العلمية المطروحة ونصوص الكتاب المقدس ( ) . ولذلك رفض كل من مارتن لوثر 1483 - 1546 م وكالفن 1509 - 1564 م هذه النظرية، واعتبر لوثر أن كوبرنيقوس منجم مدع ، لأن الشمس والقمر هي التي يجب أن تدور ، ويسوع أمر الشمس أن تظل كما هي لا الأرض ، وكذلك رفضها كالفن فقال : "" العالم ثابت لا يمكن تحريكه ، من يجرؤ على أن يضع سلطة كوبر نيقوس فوق سلطة الروح القدس ؟ ""( ) .
وهكذا بدأت الكنيسة تفقد هيبتها من النفوس ، وبدأ البساط يسحب من تحت أقدام القائمين عليها ..
المحرقة الكنسية :
أشرنا إلى أن نظرية كوبرنيقوس نشرت سنة 1543 م وهو العام الذي توفي فيه كوبرنيقوس ، وبعد خمس سنوات من هذا التاريخ ولد جيوردانو برونو 1548 - 1600 م الذي تبنى الفلك الكوبرنيقي وأثار ضجة قوية عندما بدأ يجاهر به في كل مكان( ) ، وذلك لتعزيز نظريته في الكون اللامتناهي ، هذه النظرية التي تحل برأيه محل المسيحية بوصفها السبيل الأوحد للخلاص والسعادة ، لأنها تحرر قلبه من الخوف السخيف من الموت والمحن الأرضية( ) ، ورفض التسليم بالوحي على أنه حقيقة سواء على صورته الكاثوليكية أو البروتستانتية ، كما رفض أن
ينظر إلى الأخلاق المسيحية على أنها سبيلاً للسعادة الإنسانية ( ) ، وقال بأن الله عز وجل هو روح الكون ( ) ، وأن الله والطبيعة الجوهرية شيء واحد ، والتجلي الوحيد المسموح به لهذا الإله هو التجلي الطبيعي وليس لله [ عز وجل ] علو واقعي جوهري على الطبيعة المحسوسة ( ). إنه بذلك يعبر عن وحدة الوجود ، ويمهد لسبينوزا ( ) .
لم يكتف برونو بذلك بل أنكر التثليث والأقانيم والتجسد والتحول ، واعتبر المسيح دجالاً مخادعاً ساحراً ، فقُبض عليه وسُلِّم للسلطة المدنية لتتولى إنزال العقاب به على أن تتجنب سفك الدماء ، وهو ما يعني قراراً بإعدامه حرقاً ، وعندما قُدِّم لتنفيذ الحكم قبل حرقه مباشرة عُرِضت عليه صورة المسيح على الصليب فرفضها بوجوم تام وأشاح عنها بوجهه( ).
لم يكن جيوردانو برونو أول من يعدم حرقاً ، فقد أعدم حرقاً قبله جيو فروي فاليه أحد نبلاء فرنسا بتهمة الإلحاد مع أنه في الواقع لم يكن ملحداً بل كان يقر بالألوهية ، ولكنه كان يناصب الأديان العداء لأنها بنظره تبث الهلع في النفس البشرية ، ويرفض اعتبار المسيح قدوة ونموذجاً يُحتذى به ، فأعدم حرقاً سنة 1574 م ( ) .
وفي سنة 1587م أعدم بومبو نيو راستيكو في روما لأنه ذهب إلى أن الحكايات الواردة في الكتاب المقدس لا تستحق غير الاستخفاف والاستهزاء ( ) .
كان هذان الشخصان قبل برونو ، وقد أُعدم بعده عدد من المفكرين ففي عهد الملك جيمس الأول 1566 - 1625 م أُحرق شخصان من المارقين على الكنيسة الكاثوليكية هما بارثو لوميو ليجات ، وإدوارد وايتمان ، أعدم الأول حرقاً سنة 1612م لأنه أنكر ألوهية المسيح
واعتبره مجرد إنسان ، ولم يمض شهر واحد في نفس العام حتى أحرق الثاني ، لأنه تشكك في التثليث ، ونفى أن يكون الله [ عز وجل ] ثلاثة أقانيم ، ورفض قدسية العشاء الأخير ، وأنكر تعميد الأطفال( ).
ثم خرج جوليو سيزار فانيني 1585 - 1619م على الناس بهرطقاته الإلحادية فهو ينفي وجود الله لكي لا ينسب إليه الشر : ويقول : "" كيف يمكن لإله غير مادي أن يخلق عالماً مادياً ؟ وينتهي إلى أن العبادة الحقة ليست عبادة الله بل عبادة الطبيعة ، ويؤمن بخلود المادة ، ويرى أن الحياة خرجت من الحرارة والعفونة ، وأن الأديان من اختراع الحكام والكهان لاستذلال العباد . قُبض عليه وأعدم حرقاً في مدينة تولوز وهو لا يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره( ) .
وفي فرنسا أُعدم قسيس اسمه فيرانت بالافيسينو سنة 1644 م لأنه يعتبر الكنيسة تحتكر المعرفة ، وتعمل على تجهيل الناس لكي لا يدركوا الحقيقة ، كما رأى أن الإباحية الجنسية شيء طبيعي ( ) .(13/311)
وفي اسكتلندا أنكر جون الاسكتلندي التثليث وألوهية المسيح وسخر بالأديان ، وتجرأ على الذات الإلهية فقيل له ذات يوم : ألا تذهب إلى الكنيسة ؟ فقال : ليذهب الله [ جل شأنه ] إلى حبل المشنقة . قُبض عليه وأُدين سنة 1651 م فذهب هو إلى حبل المشنقة ( ) .
هذه الإعدامات المتعددة في أنحاء أوربا للمفكرين هي نماذج ذكرناها فقط لبيان أن واقع الكنيسة كان يفرض على المجتمع والأمة أن تتكاتف وتتخلص من منابع الاستبداد والقهر والاضطهاد التي تعتمد عليها الكنيسة ولم يكن ذلك إلا في " الدين " وهو ما بدأ الغرب يسعى للتخلص منه وإلا فإن القتل كان بأعداد هائلة فقد قدر لورنتي سكرتير التفتيش في إسبانيا عدد الضحايا فيها الذين تم إحراقهم من سنة 1790 م إلى 1792 م بنحو ثلاثين ألف شخص ( ) ، هذه الوحشية الكنسية خلقت لدى الناس نوعاً من التشاؤم والكراهية للكنيسة ، بل للأديان جميعا ، كما أثار تعاطف الناس مع هؤلاء الذين يعدمون في سبيل أفكارهم ، وكان هذا يزيد من أعداد القراء لأفكار هؤلاء وإعجابهم بها ، ويجتذب ضمائر الجماهير ضد الكنيسة . وإذا علمنا أن حال الكنيسة أصلاً كان في غاية الانحلال والتردي فإننا نضيف عاملاً آخر من عوامل انتشار الفكر العلماني وترسيخه ، فقد أصبح فساد البابوات والرهبان شائعاً إلى درجة خطيرة ( ). فالفساد أصبح هو القاعدة ، والصلاح استثناء ، فالغدر والخيانة وارتكاب الآثام لم يكن ينفصل عنهم ( ) إلى درجة أن الكرادلة في إيطاليا كانوا حين يدعون إلى الغذاء بمناسبة تتويج أحد البابوات يحضرون معهم غداءهم الخاص وسقاتهم خوفاً من السم ( ) .
هذا الفساد الكنسي بالإضافة إلى ممارسة التسلط والقهر والقتل والإحراق كان كافيا لإلغاء مصدر سلطتهم وتسلطهم ، ولم يكن هذا المصدر الذي يفعلون باسمه كل الموبقات إلا " إلاههم " لقد كان أفضل عقاب لرجال الكنيسة أن يُلغى " إلاههم " الذي يرتكبون باسمه وتفويضه - حسب زعمهم - كل الموبقات والشرور والآثام ، وعندئذ لن يبقى لهم مبرر يتقبلون باسمه الصدقات والتبرعات وسيضطرون للعودة إلى مجاديفهم . ( )
لقد ألغى الغرب " الإله " ليس لأنه يكرهه ، ولكن لكي يلغي الكنيسة لأنها أصبحت مكروهة من كل الناس ، بل إن الغرب قتل " الإله " وأماته على يد نيتشة لكي تنتهي وتموت الكنيسة .
ومن هنا بدأ التيار المضاد للكنيسة يقوى ويتسع ولم يعد بإمكان الكنيسة أن تحرق كل المهرطقين والمجدفين على كثرة ما قتلت وأحرقت وعذبت ، لأن زمام الأمور بدأ يفلت من يدها ، والبساط أخذ يسحب من تحتها .
فقد عبر ميشيل دي مونتاني 1533 - 1592م وبيير شارون 1541 - 1603م عن شكوكهما وشكلا مذهباً شكياً على غرار المذهب الشكي اليوناني الذي تزعمه بيرون ( ) ، فتبنى الأول الفلسفة الإيطالية التي تتلمذت على شروحات ابن رشد ، فذهب إلى أن الفلسفة البحتة والعقل المجرد لا يمكنه أن يدافع عن خلق حر ، أو عناية إلهية ، أو خلود شخصي ، وعلى هذه النظريات أن تنسحب أمام البراهين الفلسفية الصلبة التي تؤيد أبدية المادة ، وحتمية القوانين الطبيعية للحركة ، وفناء الروح ، وكل ما تستطيع الفلسفة أن تؤكده هو أن الله عز وجل ليس خالقاً حراً ، بل صانعاً للعلم بالضرورة ، ومُلزَمٌ على أن تتماشى أفعاله مع قوانين الطبيعة ، وبذلك تصبح المعجزات مظهراً من مظاهر الجهل الإنساني بقوى الطبيعة( ).وأعلن عن عجز العلم والعقل عن توفير اليقين، وقال""بأن أكثر الناس علماً ليعلمون أننا لا نعلم شيئاً ""( ). وهنا نتذكر سقراط الذي قال :""أنا لا أعرف إلا شيئاً واحداً هو أنني لا أعرف شيئاً""( ).
وأما الثاني فقد كتب كتاباً " عن الحكمة " قيل عنه بأنه لا يمكن لأحد أن يقرأه دون أن تتعرض عقيدته الكاثوليكية للاهتزاز ( ) وقد أصدر البابا سنة 1605م قراراً بتحريم الكتاب ، مما زاد في شيوعه وانتشاره ، فطُبع مختصراً ما بين 1606 - 1645 م اثنتي عشرة مرة ( ) .
ويرى شارون أن الشك ليس تعاسة وشقاء كما يُظن بل هو سعادة الحكماء وملاذهم ، وأن الإنسان العاقل هو الذي ينتهي إلى نسبية الأخلاق والأديان . ويصف الدين بأنه مجرد خزعبلات تنتشر بين الناس بسبب التقليد الأعمى ، الذين يستولي على الحمقى ولأن عدد هؤلاء أكثر من عدد العقلاء فإن الأديان تظل شائعة بين الناس ( ) .
ونلفت النظر هنا إلى أنه رغم هرطقاته هذه فهو لا يريد القضاء على النصرانية ، بل يدعو إلى تنصير العالم - قد يكون ذلك بدوافع سياسية استعمارية - وأفضل وسيلة بنظره لتنصير العالم هي إشاعة مذهب الشك بين الناس ، فعلى المبشر أن يمسك الكتاب المقدس بيد ، وسكستوس امبيريقوس( ) باليد الأخرى( ) .
وهذا ما يمارسه المنصرون اليوم على أرض الواقع فهم لا يهمهم أن يدخل المسلم في النصرانية بقدر ما يهمهم أن يترك دينه ، ويتجرد من إيمانه .. ما أشد براءة المسيح عليه السلام من هذه الأخلاقيات الذئبية !!
=============(13/312)
(13/313)
نماذج من تحريفات العلمانيين لنصوص الكتاب والسنة ( 1 )
النص الأول :
قوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) :
ويستدلون بهذه الآية على أنه:
1- (لا يجوز إكراه أحد في دينه ، قال الله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256)، بل إن الإسلام نفسه لا يصح مع الإكراه).
2- (أن لكل شعب قيمه وتقاليده الخاصة التي اختارها ، فنحن لا نكرهه على تركها ، ذلك أن ديننا علمنا أن لا إكراه في الدين ).
3-(أن تبنّي الدولة ( أيُ دولة ) للدين الإسلامي ليس معناه التدخل في خصوصيات الأقليات وإجبارها على التخلي عن دينها وإكراهها على الدخول في الإسلام فقد استقر في وعي المسلم وعُلِمَ من صريح آيات القرآن أن لا إكراه في الدين ) .
* والكلام على هذا من وجوه :
الوجه الأول : أن الإكراه على الدين قد يراد به الإكراه على (الاعتقاد) ، وقد يراد به الإكراه على (الالتزام بالحكم) :
فقد دلت الآية نفسها على أن المراد بعدم الإكراه هنا هو (الإكراه على الاعتقاد) ، وذلك بقرينة قوله تعالى بعد هذا (قد تبين الرشد من الغي) ، وذلك إنما يدل على إرادة الاعتقاد ، ويبقى الإكراه على الالتزام بحكم الإسلام قائماً لم يخصه دليل ، لقوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) ونحوها من آيات القتال والجهاد .
قال ابن حزم رحمه الله تعالى على هذه الآية :
" والدين في القرآن واللغة : يكون الشريعة ، ويكون الحكم ، ويكون الجزاء :
1-فالجزاء في الآخرة : إلى الله تعالى لا إلينا .
2-والشريعة : قد صح أن نقرهم على ما يعتقدون إذا كانوا أهل كتاب.
3-فبقي الحكم : فوجب أن يكون كله حكم الله كما أمر".
وقال القرطبي رحمه الله :
"قوله تعالى (لا إكراه في الدين) : الدين في هذه الآية : المعتقد والملة ؛ بقرينة قوله (قد تبين الرشد من الغي) ".
فعلى هذا : فقولهم (إننا لا نكره شعباً على التخلي عن قيمه الخاصة) ، و (لا نتدخل في خصوصيات الأقليات) غير صحيح ، بل يلزمون بالامتثال لشريعة الإسلام فيما يتعلق بأحكام أهل الذمة كما مر .
على أن نفي الإكراه على الاعتقاد أيضاً لا يصح ، وهذا هو :
الوجه الثاني : وهو أن إطلاق القول بعدم الإكراه في الدين باطل ، وذلك أن مسألة الإكراه في الدين على قسمين :
القسم الأول : الإكراه على الدخول في الإسلام :
القسم الثاني : الإكراه على التزام حكم الإسلام :
أما القسم الأول : وهو الإكراه على الدخول في الإسلام :
فينقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسم يكره فيه بالاتفاق ، وقسم يكره فيه عند الجمهور ، وقسم لا يكره فيه بالاتفاق :
أما الأول : فهو نوعان :
1- المرتد عن الإسلام :
فإنه يقتل بالإجماع إذا ارتد ، ووقع الخلاف في الاستتابة قبل القتل ، وفيمن تقبل منه التوبة ، إلا أن الإجماع وقع على عدم تركه .
ومن أشهر أعمال الصحابة رضي الله عنهم بعد موت الرسو صلى الله عليه وسلم حروب المرتدين ، وهي الحروب التي عناها قوله تعالى - كما ذكر كثير من المفسرين - (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) فلم يذكر غير هذين الخيارين.
2- المشرك العربي :
قال أبو عبيد رحمه الله :
" تتابعت الآثار عن رسول ا صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده في العرب من أهل الشرك أن من كان منهم ليس من أهل الكتاب فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل".
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله :
" أجمعوا على أن رسول ا صلى الله عليه وسلم أبى أخذ الجزية من عبدة الأوثان من العرب ، ولم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف " .
وقال ابن حزم رحمه الله :
" لم يختلف مسلمان في أن رسول ا صلى الله عليه وسلم لم يقبل من الوثنيين من العرب إلا الإسلام أو السيف إلى أن مات عليه السلام فهو إكراه في الدين".
فهذا النوعان يكره فيهما بالاتفاق ، ويدل عليه أدلة كثيرة منها :
قوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم).
وقوله تعالى (ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يسلمون) كما سبق.
والحديث المتفق عليه مرفوعاً (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ...الحديث ).
وما في البخاري أيضاً مرفوعاً (من بدل دينه فاقتلوه) ، وغيرها من النصوص .
وأما الثاني : فهو الكافر من غير أهل الكتاب والمجوس :
فقد ذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض المالكية إلى أن كل كافر ليس كتابياً أو مجوسياً فإنه يقاتل حتى يسلم ، فلا يقر على دينه ولو بالجزية مطلقاً .
ودليلهم في ذلك قوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) ، وآيات الجهاد والقتال في سبيل الله المطلقة.
وحديث ابن عمر المشهور مرفوعاً (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ، ونحوها من النصوص .(13/314)
وقالوا : إن آية الجزية إنما خصت أهل الكتاب في قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ).
فيبقى غير أهل الكتاب على الأصل في عدم قبول غير الإسلام منهم .
وأما الثالث : فهو الكافر من أهل الكتاب والمجوسي :
فقد وقع الاتفاق في الجملة على أنه يقر على دينه بالجزية ، وهو الالتزام بأحكام الإسلام وهو المراد بـ :
القسم الثاني : وهو الإكراه على التزام حكم الإسلام :
فيكره جميع الكفار - ممن تقبل منهم الجزية - على التزام أحكام الإسلام المعروفة عند أهل العلم بـ(أحكام أهل الذمة) .
ويدل عليه قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) .
وما ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه قال : كان رسول ا صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : (اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم).
ويبقى هاهنا تنبيه :
وهو أن هذا الإقرار بالجزية تحت حكم الإسلام إنما هو حكم مؤقت إلى نزول المسيح عليه السلام ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا له من الدنيا وما فيها) وفي رواية (يقاتل الناس على الإسلام).
وعلى ذلك فيكون الإكراه على الدخول في الإسلام ذلك الوقت على جميع الكفار ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام ، أو السيف.
الوجه الثالث : أن هذه الآية ليست على ظاهرها بإجماع المسلمين _ وهذ يظهر مما سبق _ سواء قيل بنسخها أو لا ، ولم يستدل بها أحد من علماء الإسلام على ترك الإكراه على الدين بإطلاق ، ولم يستدل بها أحد على ترك الإلزام بأحكام أهل الذمة لمن أقر منهم في بلاد الإسلام بالجزية ، وقد ذكر في معنى الآية نحواً من ستة أقوال ، و ليس فيها قول واحد أخذ بظاهرها في جميع الكفار ، وقد قال ابن جرير رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الأقوال في الآية :
"وأولى هذه الأقوال بالصواب : قول من قال : نزلت هذه الآية في خاص من الناس ، وقال : عنى بقوله تعالى ذكره (لا إكراه في الدين ) أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق وأخذ الجزية منه ، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا ، وإنما قلنا : هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ؛ لما قد دللنا عليه في كتابنا (كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام) : من أن الناسخ غير كائن ناسخاً إلا ما نفى حكم المنسوخ فلم يجز اجتماعهما ، فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي وباطنه الخصوص فهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل ، وإذ كان ذلك كذلك ، وكان غير مستحيل أن يقال لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين ، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك ، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم r أنه أكره على الإسلام قوماً فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام ، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه ، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب ، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ، ومن أشبههم ، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل ، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم ، كان بينّاً بذلك أن معنى قوله (لا إكراه في الدين) إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ورضاه بحكم الإسلام".
وقال ابن حزم رحمه الله عن هذه الآية :
"لم يختلف أحد من الأمة كلها في أن هذه الآية ليست على ظاهرها ؛ لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد عن دينه ".
الوجه الرابع : قولهم (إن الإسلام نفسه لا يصح مع الإكراه) لا يصح على إطلاقه كما سبق :
فإسلام المرتد والوثني من العرب يصح منه بالإجماع ، والكافر غير الكتابي والمجوسي يصح منه عند الجمهور .
قال ابن رجب رحمه الله :(13/315)
" وأما الإكراه بحق : فهو غير مانع من لزوم ما أكره عليه ، فلو أكره الحربي على الإسلام فأسلم ، صح إسلامه ".
الوجه الخامس : قولهم (وقيم خاصة بشعب معين آثرها واختارها فنحن لا نكرهه على تركها ، ذلك أن ديننا علمنا أن لا إكراه في الدين ) ، وقولهم (وتبنّي الدولة للدين الإسلامي ليس معناه التدخل في خصوصيات الأقليات ) ، لا يصح أيضاً :
وذلك أن الكفار الذين يقرون على دينهم في بلاد الإسلام يلزمون بأحكام (أهل الذمة) وهي أحكام معروفة في كتب الفقه وأجمع عليها الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم في الجملة ومن أحكام أهل الذمة التدخل في خصوصيات الأقليات ، والإجبار على ترك بعض القيم ، فمن الشروط العمرية المشهورة عليهم : (ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقادم رءوسنا ، وأن نلزم زينا حيثما كان ، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا ، ولا نظهر صليبا ، ولا كتبا من كتب ديننا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين) وغيرها .
( أنظر كتاب التنكيل للفهد)
سئل فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز س: مذكور في القرآن الكريم : (لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرشد من الغي)، فما معنى هذا ؟
ج: قد ذكر أهل العلم رحمهم الله في تفسير هذه الآية ما معناه: أن هذه الآية خبر معناه: النهي، أي: لا تُكرهوا على الدين الإسلامي من لم يُرد الدخول فيه، فإنه قد تبين الرشد، وهو دين صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم بإحسان، وهو توحيد الله بعبادته وطاعة أوامره وترك نواهيه (من الغي)، وهو: دين أبي جهل وأشباهه من المشركين الذين يعبدون غير الله من الأصنام والأولياء والملائكة والأنبياء وغيرهم، وكان هذا قبل أن يشرع الله سبحانه الجهاد بالسيف لجميع المشركين إلا من بذل الجزية من أهل الكتاب والمجوس، وعلى هذا تكون هذه الآية خاصة لأهل الكتاب والمجوس إذا بذلوا الجزية والتزموا الصَغار فإنهم لا يُكرهون على الإسلام؛ لهذه الآية الكريمة، ولقوله سبحانه في سورة التوبة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، فرفع سبحانه عن أهل الكتاب القتال إذا أعطوا الجزية والتزموا الصَغار.
وثبت في الأحاديث الصحيحة عن صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من مجوس هجر، أما من سوى أهل الكتاب والمجوس من الكفرة والمشركين والملاحدة فإن الواجب مع القدرة دعوتهم إلى الإسلام فإن أجابوا فالحمد لله، وإن لم يجيبوا وجب جهادهم، حتى يدخلوا في الإسلام، ولا تُقبل منهم الجزية؛ لأن الرسو صلى الله عليه وسلم لم يطلبها من كفار العرب، ولم يقبلها منهم، ولأن أصحابه رضي الله عنهم لما جاهدوا الكفار بعد وفات صلى الله عليه وسلم لم يقبلوا الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس، ومن الأدلة على ذلك قوله سبحانه: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)، فلم يخيرهم سبحانه بين الإسلام وبين البقاء على دينهم، ولم يطالبهم بجزية، بل أمر بقتالهم، حتى يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فدل ذلك على أنه لا يُقبل من جميع المشركين ما عدا أهل الكتاب والمجوس إلا الإسلام، وهذا من القدرة، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد صح عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على هذا المعنى منها: قول صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل" متفق على صحته، فلم يخيرهم صلى الله عليه وسلم بين الإسلام وبين البقاء على دينهم الباطل، ولم يطلب منهم الجزية.(13/316)
فدل ذلك: أن الواجب إكراه الكفار على الإسلام، حتى يدخلوا فيه ؛ ما عدا أهل الكتاب والمجوس؛ لما في ذلك من سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وهذا من محاسن الإسلام، فإنه جاء بإنقاذ الكفرة من أسباب هلاكهم وذلهم وهوانهم وعذابهم في الدنيا والآخرة، إلى أسباب النجاة، والعزة والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة، وهذا قول أكثر أهل العلم في تفسير الآية المسئول عنها. أما أهل الكتاب والمجوس فخصوا بقبول الجزية والكف عن قتالهم إذا بذلوها لأسباب اقتضت ذلك، وفي إلزامهم بالجزية إذلال وصَغار لهم، وإعانة للمسلمين على جهادهم وغيرهم، وعلى تنفيذ أمور الشريعة ونشر الدعوة الإسلامية في سائر المعمورة، كما أن في إلزام أهل الكتاب والمجوس بالجزية؛ حملاً لهم على الدخول في الإسلام، وترك ما هم عليه من الباطل والذل والصَغار؛ ليفوزوا بالسعادة والنجاة والعزة في الدنيا والآخرة، وأرجو أن يكون فيما ذكرنا كفاية وإيضاح لما أشكل عليكم ) . ( مجموع الفتاوى 8/287-289) .
=============(13/317)
(13/318)
المتعلمنون والكلام على العلم حقيقة أم دسيسة
بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الكريم أما بعد .
أحبتي من الذين آمنوا بأن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله والمؤمنون بالغيب والمقيمون للصلاة والمؤتون للزكاة .كتيرا ما يصك أذاننا ذينك المتعلمن أو ذاك بأهمية العلم ..في حياة البشرية,ولابد من العلم لأنه الخلاص الوحيد من الرجعية الإسلامية,والمهم هو أننا نرى بعد إخواننا المؤمنين يتأترون بداعوي أولائك العلمانيين الغير العلميين حقيقة؟!وهذه هي الحقيقة فكتير من العلمانيين لايكاد واحد منهم إن لم نقل الكل متؤتر بالفلسفة بمعنى أنه إما أستاد فلسفة أو أستاذ لغة عربية أوشاعر .....الخ.أنا لا أحقرمن السادة اللإاضل في السلك التعليمي أو الأدبي لكن الله عز وجل علمنا أن قول الحق فضيلة وهذا ما أود وله في هذه الكتابة .المهم قلت أن الإخوة المتعلمنون يصكون أذاننا بالعلم والدعوة الى المنطق وفي الواقع....ليس لمعضمهم منطق مع الإحترام لكن لماذا نحاجج فيما نعلم وما لانعلم وأشد على ما لا نعلم لأنا صل الموضوع .
وليعلم الإخوة الأفاضل أنه لاخوف من العلمانيين بتاتا سواء استخدموا في مواضيعهم تلك الكليمات العلمية ,لماذا لأنها لاتنبع من شخص متخصص عادة ولذلك نجد في أكتر مواضيعهم ..توصل العلم ..صنعت أوربا..وصلت أمنريكا..الخ.بمعنى أكتر أنه متلفون للكلام ومقتبسون للمواضيع أنا لاأقول لاللتعلم لكن علينا التعلم أن لكل شخص وذاته وبالطبع قدراته ومحدوداته لكن لماذا بعض الإخوة العلمانيون يعيبون علينا نحن الإسلماويون كما يحبون أن ينادوننا بالتخلف وأخذ النصوص دون استعمال العقل؟وفي الوقت ذاته نجدكم اخواننا العلمانيون تقدسون كلام الأوربيين أصد المتقفون العلمالنيو الوربيون فنحن المتأسلمون كما تحبون مناذتنا لاتخلوا خطاباتنا أو مقالاتنا من قال الله ورسوله وأعلم أن هذا يزعجكم لكن في الوقت ذته نجد أنكم أكتر منا نحن الذين تطلقون علينا التقليديون الغير المبدعون..الخ بمعنى أننا كذلك نجد في خطاباتكم أنها لاتخلوا من قال فلان وتوصل علان أليست هذه هي الديكتاتورية بعينها ؟أليست هذه هي البيوسميائية؟أليست أليست أليست؟ستقولون نحن نجدد !!لابل نحن تجديديون وتنعتوننا بالتأخرية والرجعية ألستم أنتم من يعتمدون الى الأن على كلام فلاسفة ما قبل الاريخ؟ستصرخون تحتجون وتقولونا :لاإله إلا الله محمد رسول الله لكننا نأخد مايفيدنا من الفلاسفة لأن كلامهم كله معنى ومغزى؟!سنقول نحن الضالون الرجعيون الحفاة المتعريون تعالوا الى مناظرة بيننا وبينكم ونشهد الصغار علينا وعليكم بأننا نتحادكم بجوامع الكلم الذي أرقكم .
جوامع الحبيب محمد عليه السلام ولنأت بأقوال سقراط وبجميع الفلاسفة والنقاد ونضع كلمة من كلمات رسول الله ونرى من الأحسن ...لم يعد لذي وقت وسأعيد هذا الكلام في المرة المقبلة بإذن الله
=============(13/319)
(13/320)
الحرية والعلمانية موضوع للنقاش
العلمانى هو أكثر الناس حديثا عن الحرية وأكثرهم منعا لها
لفت نظرى عبارة قرأتها لأخ حازم فى رد له على موضوع قطع الله يدك للأخ الجندى
أهو علمانى ؟ .. هم والله أشد الناس منعاً للحرية ، رغم ما يتشدقون به ،
وهذه صحفهم وكتبهم فى بلادنا مليئة بآلاف الأمثلة على قتل الحريات التى يزعمون نصرتها ..
لك أن تأمرنى وآتيك بأمثلة لا حصر لها على الحجر على الرأى ..
سواء على الرأى الآخر .. أم على آراء بعضهم البعض !
فالحرية عند العلمانى حريته فى أن يقول ما يشاء ويكذب كما يشاء
ويجند وسائل إعلامه لهذا الغرض
ويكرر الكذب فى رسائل إعلامية حتى يصدقه الغافلون
وربما حتى يصدق نفسه
رؤساء الصحف بالتعيين والقابلية للعزل
وكذلك الإذاعة والتليفزيون
والصحفيون تحت السيطرة مختارون من الأتباع والموالين من أصحاب الطموح
سيطرة كاملة على الكلمة فلا تنشر كلمة ما لم تتوافق مع توجهاته
أما حرية الآخرين فى قول الرأى فلا مكان لها عنده
كلمات المعارضين وآراؤهم تحجب قبل قبل النشر
وإن نشرت خطأ أو ذرا للرماد تسفه أو تهمل فلا يلتفت إليها
فأين هذا من حرية الكلمة فى الإسلام
حيث يعتبر من أعظم الجهاد قولة الحق عند سلطان جائر
حين أبطل قول المرأة قول عمر وهو على منبره فاعترف وأصلح وقال أصابت امرأة وأخطأ عمر
حيث عدل صلى الله عليه وسلم قرار حرب وأخذ برأى رجل من المسلمين أشار بالحيلولة دون المشركين وماء بدر فى غزوة بدر
أين حرية الكلمة فى الإسلام من الحرية المقيدة بآلاف المعتقلات والسجون فى مختلف بلاد العالم لخنق الكلمة وخنق المتكلمين بها
=============(13/321)
(13/322)
العَلمانية والعِلمانية
د. أحمد إدريس الطعان- كلية الشريعة - جامعة دمشق
بريد إلكتروني : ahmad_altan@maktoob.com
العَلمانية والعِلمانية
أولاً - العلمانية من العلم أم من العالم ؟ :
من خلال قراءتنا السابقة للمصطلح في المصادر الأجنبية من معاجم ودوائر للمعارف ، وتعريفات للباحثين الغربيين يمكننا أن نؤكد أن العَلمانية - بفتح العين - هي الترجمة الصحيحة على غير قياس لكلمةsecula r ism الإنجليزية أو secula r it الفرنسية ، وهاتان الكلمتان لا صلة لهما بلفظ العلم ومشتقاته ، فالعلم في الإنجليزية والفرنسية يعبر عنه بكلمة science والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة scientism والنسبة إلى العلم هي scientific أو scientifique في الفرنسية والترجمة الدقيقة للكلمة هي " العالمانية " أو " الدنيوية " أو " اللادينية " ( ) ، ولكن تحولت كلمة عالمانية إلى عَلمانية لأن العربية تكره تتابع الحركات وتلجأ إلى التخفف منه ( ) .
وكذلك فإن زيادة الألف والنون هنا ليست قياسية في اللغة العربية أي في الاسم المنسوب " عالماني "، وإنما جاءت سماعاً مثل: رباني ، نفساني ، روحاني ، عقلاني ، ومثلها علماني ، واللغة العربية تقبل إضافة الألف والنون لاحقة لبعض الكلمات ( ) ، والترجمة الحرفية في قاموس اللغة للعلمانية هي " الدنيوية " لأنها مشتقة من العالَم أي " الدنيا " ( ) . ومن هنا فإن العلماني هو الدنيوي لأنه يهتم بالدنيا ، بخلاف الديني أو الكهنوتي فهذا الأخير يهتم بالآخرة . وأول معجم عربي يورد الكلمة هو المعجم الوسيط ، وقد جاءت فيه بهذا المعنى في طبعتيه الأوليين ( ) .
وأول معجم ثنائي اللغة قدم ترجمة صحيحة للكلمة هو قاموس " عربي فرنسي " أنجزه لويس بقطر المصري عام 1828 م وهو من الجيل الذي ينتمي للحملة الفرنسية ، وقد كان متعاوناً مع الفرنسيين ورحل معهم إلى باريس وعاش هناك وكانت ترجمته لكلمة : = cecula r iteعالماني و = ceculie r علماني ، عالماني ، وميزة هذه الترجمة أنها أول وأقدم ترجمة صحيحة للكلمة تدحض آراء الذين يعتبرون العَلمانية من العِلم ، لأنه نسبها إلى العالَم ( ) . وكما أن الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للدلالة على المبالغة الشديدة في التخلق بصفات الرب عز وجل والعبودية له ، وللدلالة على كمال الصفة أو بلوغها حداً قريباً من الكمال قالوا في كثير الشعر : شعراني . وغليظ الرقبة : رقباني . وطويل اللحية أو كثيفها : لحياني ( ) ، كذلك فإن العَلماني منسوبٌ إلى العالَم - بهذا الشكل - للدلالة على المبالغة في الانتماء إلى العالم والإيمان به ( ) .
ومما يؤكد انقطاع الصلة بين العَلمانية والعلم البحث القيم الذي تقدم به د . عدنان الخطيب حول تاريخ الكلمة الذي أرجعه إلى قرون عديدة ، وتاريخ دخولها إلى اللغة العربية ، وقد استند في بحثه على مراجعة مصادر الكلمة في اللغات القديمة كالآرامية والسريانية ، وصلة الكلمة بالعلاقة بين رجال الكنيسة وعامة الناس ، حيث إن رجال الكنيسة ليسو عَلمانيين ، لأنهم يهتمون بالآخرة فقط ، أما بقية الناس والشعب فهم : " دنيويون ، دهريون ، زمنيون ، قرنيون ، عالميون " ، وهذه التفرقة انتقلت إلى اللغة العربية - بنظره - عندما تغلبت هذه على الآرامية بعد الفتح الإسلامي عن طريق ترجمات علماء السريان .
وعندما استقل التعليم عن الكنيسة في فرنسا بعد الثورة وُصِف هذا التعليم بأنه ceculai r e ودلالتها هي نفس الدلالات القديمة التي يوصف بها من هو خارج الكنيسة من عامة الشعب ، فكل واحدة من الكلمات السابقة " دنيوي ، زمني ، دهري… " تصلح مقابلاً للكلمة الفرنسية seculai r e إلا العِلم فلا يدخل في مدلولاتها مطلقاً ( ) .
مع أن هذا التأصيل المعجمي لمصطلح العلمانية يكاد يكون حاسماً في أن العلمانية من العالَم وليس من العِلم ، ولذلك فهي بفتح العين وليس بكسرها ، فإن كثيراً من العلماء والباحثين العرب والمسلمين مختلفون حول النسبة الصحيحة للعلمانية ، فالبعض ينسبها إلى العلم وينطقها بكسر العين ، ومن هؤلاء أستاذنا الجليل الدكتور البوطي ( ) ، والدكتور يوسف القرضاوي ( ) ، والدكتور عبد العظيم المطعني( ) ، والشيخ محمد مهدي شمس الدين ( ) والدكتور عماد الدين خليل ( ) والدكتور زكي نجيب محمود ( )، والدكتور سفر الحوالي ( )، وممن أجاز الوجهين - الكسر والفتح - الدكتور:عزيز العظمة وإن كان يفضل الكسر ( ) ، والدكتور رفعت السعيد ( ).(13/323)
إلا أن الأغلبية الساحقة من الباحثين والمفكرين ينطقون الكلمة بالفتح وينسبونها إلى العالَم وليس إلى العِلم ، وهو ما يتفق مع المصادر الغربية التي توضح مصدر الكلمة ومعناها والغاية منها ، ومن هؤلاء الدكتور محمد البهي ( ) والدكتورسيد محمد نقيب العطاس ( ) والدكتور محمد عمارة ( ) والدكتور عبد الوهاب المسيري ( ) وأستاذنا الدكتورالسيد رزق الحجر ( ) والدكتور أحمد فرج والدكتور عبد الصبور شاهين والدكتور عدنان الخطيب ( ) والدكتور عبد الله كامل( ) والدكتور : محمد سالم محمد ( ) والدكتور زكريا فايد ( ) ومحمد إبراهيم مبروك ( ) والدكتور يحيى هاشم حسن فرغل ( ) والدكتور حسن حنفي( ) والدكتور محمد عابد الجابري ( ) والدكتور مراد وهبة ( ) والدكتور عادل ضاهر ( ) وحسين أحمد أمين ( ) والدكتور عبد المجيد الشرفي ( )والدكتور فادي إسماعيل ( ) وغير هؤلاء من الباحثين إسلاميين وعلمانيين كثير ، وليس مرادي هنا الاستقصاء ، وإنما المراد هو أن أمهد لملاحظتين تبدوان هما السبب - بنظري - للخلاف بين الباحثين في نسبة الكلمة :
الأولى : هي أن التقارب في الألفاظ بين العَلمانية - بالفتح -والعِلمانية - بالكسر - قائم في اللغة العربية مما أوقع بعض المعاجم والباحثين في اللبس وشاع ذلك قبل أن يتبين الباحثون الخطأ من الصواب .
الثانية : أن العَلمانية - بالفتح - والعِلمانية - بالكسر - ظاهرتان بارزتان في الفكر الغربي ، وإحداهما تكمل الأخرى ، ومع أننا نرى أن العَلمانية - بالفتح - ظاهرة قديمة وممتدة في عمق التاريخ ، وتغلغلت في كافة الحضارات ، إلا أنها في العصر الحديث وفي أوربا بالذات تفاقمت بشكل لم يسبق له مثيل ، وشد أزرها في ذلك العِلمانية - بالكسر - أي تطور العلم وارتفاع مستوى السيطرة الإنسانية على الطبيعة، نتيجة للكشوفات العلمية المتلاحقة التي غيرت نظرة الإنسان إلى الكون، فولّد هذا العلم أو العِلمانية - بالكسر - الغرور الشديد بالذات الإنسانية ، والاعتداد المفرط بقدرة الإنسان وعقله ، ونتج عن ذلك العَلمانية - بالفتح - أي الدنيوية والتطلع إلى هذا العالم القريب المحسوس المشاهد ، وانعدام أي أمل في عالم آخر غيبي مفارق .
وأهم عنصر ولدته العِلمانية - بالكسر - هو انعدام الانبهار بالطبيعة ، وتجريد الطبيعة من العناصر والإحالات الزائدة ، والمقصود بالعناصر والإحالات الزائدة العناية الإلهية ، أو الآثار الإلهية في الكون ، أو الماورائيات والغيبيات التي يمكن أن تدل عليها الطبيعة ، وبالتالي انفتح المجال أمام الإنسان للتصرف في الطبيعة بحرية ، واستخدامها وفق حاجاته وغاياته ( ) .
إن هذا التجريد العلماني للطبيعة من مغزاها الروحي ، والحط من قيمتها بحيث لا تتجاوز مجرد كونها شيئاً من الأشياء خالياً من أي معنى علوي قدسي قد كان هو العامل الأساسي الذي انطلقت منه عملية العلمنة في الغرب ( ) .
وهكذا ترسخت الدهرية والدنيوية - العلمانية - بالفتح - في ضمير الإنسان وتطلعاته نتيجة للعِلمانية - بالكسر - كما رأينا في التمهيد وأصبح همه أن يتصرف في العالم حسبما يريد ، ويتمتع بدنياه كما يحب ودون أية قيود . ولذلك فإن أقرب كلمة تصلح أن تكون مقابلاً لمصطلح العَلمانية - بالفتح - كما يقترح د . سيد محمد نقيب العطاس هي ما أشار إليه القرآن الكريم دائماً بعبارة " الحياة الدنيا " فلفظ دنيا المشتق من " دنا " يعني كون الشيء قد جُعل قريباً ، وعلى ذلك فالعلم الطبيعي قد جعل العالم قريباً من الإنسان ، وتحت سيطرته وخاضعاً لوعيه ، وخبرته العقلية والحسية ، وبما أن العالم قد أصبح كذلك فإنه من المؤكد سيصرفه عن مصيره الأبدي الذي يتجاوز هذه الحياة الدنيا إلى الآخرة . وبما أن الآخرة تأتي في النهاية فإنها تبدو للإنسان العجول بعيدة ، وهذا الشعور من شأنه أن يزيد في الإلهاء الذي يسببه ما هو قريب ومغري ، ولذلك نجد هذه الحياة الدنيا ، وهذا العالم هما محور المنظور العلماني ومَحَطُّ اهتمامه ( ) .
ثانياً - خلاصة القضية :
لم ننته بعد من الحديث عن الفرق بين العَلمانية - بالفتح - والعِلمانية - بالكسر - وقد ذكرت آنفاً - وفي التمهيد ، وأتفق في ذلك مع د . " عدنان الخطيب كما أشرنا ( ) و د . فتحي القاسمي كما سنشير ( ) أن العَلمانية - بالفتح - قديمة قدم التاريخ والحضارات ، ذلك أن العَلمانية " الدنيوية " " حلوة خضرة " وفيها إغراءٌ شديد للإنسان العجول المجبول على الرغبة في السعادة العاجلة ، والتغاضي عن السعادة الأبدية التي تبدو له بعيدة ، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكد أن أمماً كثيرة ، وأقواماً كثيرين قد اختاروا الحياة الدنيا على الآخرة ، وهذا هو جوهر العلمانية ( ) .(13/324)
ويؤكد ما نذهب إليه أن للعَلمانية - بالفتح - أصلاً لاتينياً سابقاً للعلم الأوربي الحديث "" إذ لا علاقة للأصل اللاتيني SECULUM بالعلم من قرب ولا من بعد ، وإنما صحتها بفتح العين نسبة إلى العَلْم بمعنى العالم الدنيوي "" ( ) . أما العِلمانية - بالكسر - فهي احتكام لمنطق العلم - دون سواه - في تأويل الأشياء المتصلة بمختلف أوجه النشاط البشري ( ) .
وقد ظهرت لفظة العِلمانية - بالكسر - في بدايات القرن العشرين تقريباً سنة 1911م تياراً ذهنياً يقوم على حل المشاكل الذهنية بواسطة العلوم ، فهي تنطلق من الإيمان بأن للعلم قدرة فائقة على إعطاء تفسير علمي للأشياء ، أو كما قال جون فيول : "" الاعتقاد في القدرة الفائقة للعلم الوضعي حتى في المجال الديني ""( ) ، وفي القاموس الإنجليزي الجديد : "" العِلمانية - بالكسر - تعني العادات وطريقة التعبير لدى رجل العلم "" ( ) ، ويرى فريدريك فون هايك صاحب كتاب " العلمانية وعلم الاجتماع أن هذا المفهوم "" تبلور معناه واكتمل مدلوله عندما تكونت الجمعية البريطانية للتطور العلمي "" ( ) .
ونختم هذه الفقرة بالقول :
إن العِلمانية - بالكسر - مشتقة من العِلم وتدعو إلى الاحتكام إلى العلم ، وهي ظاهرة حديثة وظفتها العَلمانية - بالفتح - توظيفاً خاطئاً وخطيراً على البشرية والإنسانية جمعاء .
وكما يبدو فنحن كمسلمين لسنا ضد العِلمانية - بالكسر - لأن ديننا وقرآننا يدعوانا إلى الاحتكام لمنطق العلم ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ( ( ) ويمجد العلماء ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألباب ( ( ) ولكن الخلاف بيننا وبين العِلمانيين في تحديد مفهوم العلم ، فالعلم عند الغربيين الطبيعيين لا يتناول إلا المحسوسات والمشاهدات ، فهو العلم الطبيعي والرياضي فقط ( ) ولا صلة له بالميتافيزيقا أو بالأسئلة الكبرى المتعلقة بمصير الإنسان ، وإن العالِم بنظرهم ما إن يسأل نفسه هذه الأسئلة ويحاول الإجابة عنها حتى يتحول عن سلوكه كعالم ويتخلى عن وظيفته العلمية ( ) ، أما عندنا فالعلم يشمل كل ما يتصل بالكون والإنسان والحياة .
فنحن إذن على المستوى العملي على طرف نقيض مع العِلمانية - بالكسر-لأن هذه الأخيرة تحصر العلم في المحسوس في الدنيوي وتقوم على عقلانية مادية وضعية اجتماعية وتطرح مفهوماً جديداً للعلم يحيد التفكير الميتافيزيقي عن ساحته ( ) . "" فالعِلماني - بالكسر- هو من يتخذ من المعرفة العملية كما هي ممثلة في العلوم الطبيعية بخاصة نموذجاً لكل أنواع المعرفة، إنه يتبنى وجهة النظر الوضعية، مما يعني عدم اعترافه بإمكان المعرفة الخلقية أو الدينية أو الميتافيزيقية ، لأن القضايا المزعومة لأي منها لا يمكن إخضاعها - حتى من حيث المبدأ - لمعايير العلم "" ( )،فالفهم العلمي العِلماني - إذن - يتنافى مع الإيمان بالوحي الإلهي ( ) وهكذا تعود العِلمانية فتنقلب إلى عَلمانية.
والخلاصة : أن لفظتي عَلمانية - بالفتح - وعِلمانية - بالكسر - تصلحان تعبيراً عن الظاهرة المادية التي تستولي اليوم على مجتمعاتنا الإسلامية ، وذلك لأن الكلمتين متكاملتان متفاعلتان من حيث المفهوم ، فالعَلمانية هي تكريس للدنيوية ، والعِلمانية أساس هذا التكريس لأن العلم بمفهومها هو العلم المادي والتجريبي والطبيعي - أي الدنيوي فقط - ولا تعترف بعلوم غيبية ميتافيزيقية أخرى . فالعَلمانية وإن لم ترتبط بالعلم من حيث الاشتقاق ولكنها لا تنفك عنه إذ هي ارتبطت تاريخياً بتعلم العلوم العقلية والطبيعية والتجريبية ( ) .
وأخيراً يمكن القول أيضاً : إن بعض الإسلاميين الذين يستخدمون العلمانية - بالفتح - لا يفعلون ذلك بسوء نية ، وبقصد فصل العَلمانية عن العلم وربطها بالدهرية كما يزعم بعض العلمانيين ( ) ، وإنما يفعلون ذلك لأن معاني الكلمة ومصادرها واشتقاقاتها في اللغات الأجنبية لا صلة لها بمفهوم العلم - كما رأينا - وصلتها - كما رأينا - في دوائر المعارف والمعاجم ودراسة تاريخ الكلمة أقوى ما تكون بالدنيوية والمادية ، كما أن السياق التاريخي والاجتماعي الذي نشأت فيه العلمانية وتبلورت يؤكد على ربط المصطلح بالعالم المحسوس والمادة فقط .
----------------------------------------------------
( ) انظر : يمكن مراجعة ما عرضناه من تعريفات للعلمانية في المصادر الغربية في المبحث الأول من الفصل الثاني .
( ) انظر :د . عبد الصبور شاهين " العلمانية - تاريخ الكلمة " ص 124 مقال ملحق ضمن كتاب أحمد فرج "جذور العلمانية ".
( ) انظر : السابق ص 126 ملحق ضمن كتاب جذور العلمانية " وانظر : د . القرضاوي - التطرف العلماني ص 13 .
( ) انظر : منير البعلبكي " قاموس المورد " ص 510 ، 517 ، 518 ، 527 - دار العلم للملايين - بيروت 1970 .(13/325)
( ) انظر : مجمع اللغة العربية - المعجم الوسيط 2 / 624 الطبعة الثانية 1972 م دار الدعوة - استنبول - ودار المعارف القاهرة 1973م وقد كان هذا رأي المعجم في طبعته الأولى 1960 م والثانية 1973 م ولكن المعجم في طبعته الثالثة 1985م جاء فيه العلماني - بكسر العين - خلاف الديني أو الكهنوتي وهذا خطأ فادح يخالف الترجمة الصحيحة والتاريخ الصحيح للكلمة .== انظر : د . عدنان الخطيب ص 166 " قصة دخول العلمانية في المعجم العربي " ملحق بكتاب جذور العلمانية . وانظر معجم العلوم الاجتماعية ص 211 ، 245 إعداد نخبة من الأساتذة - طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب .
( ) انظر : د . أحمد فرج ص 138 " علماني وعلمانية تأصيل معجمي " ملحق بكتابه جذور العلمانية " و د . عبد الصبور شاهين ص 119 " العلمانية . تاريخ الكلمة وصيغتها " ملحق بـ أحمد فرج " جذور العلمانية " .
( ) انظر : " الكتاب " لسبيبويه 3 / 280 الهيئة المصرية للكتاب 1977م و انظر : تفسير الطبري 3 / 327 والشوكاني " فتح القدير " 1 / 355 وابن الجوزي " زاد المسير " 1 / 413.
( ) انظر : د . عبد الصبور شاهين - السابق ص 127 وأحمد فرج السابق : ص 143 .
( ) انظر : د . عدنان الخطيب ص 146 - 166 ملحق بكتاب " جذور العلمانية " . لا بد من الإشارة هنا إلى أن الخطاب العلماني يهمه دائماً أن يربط العلمانية بالشعب والعامة في مقابل رجال الدين أو الكهنوت انظر : علي حرب " نقد الحقيقة " ص 57 والقصد من ذلك هو أن تبرز العلمانية على أنها تمثل سواد الأمة والشعب في مقابل طبقة احتكارية هي طبقة رجال الدين والكهنوت ، فتكون العلمانية لذلك ذات مدلول إيجابي يقابل القهر والاستبداد . انظر :د. رفعت السعيد " العلمانية بين العقل والإسلام والتأسلم " ص 7 .
( ) انظر : د . محمد سعيد رمضان البوطي " العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر " ص 247 كتاب جامعي - مقرر لطلاب السنة الثالثة في كلية الشريعة بجامعة دمشق .
( ) انظر : د . القرضاوي : " التطرف العلماني في مواجهة الإسلام " ص 13 - أندلسية للنشر والتوزيع - المنصورة - الطبعة الأولى 1421هـ ، 2000 م وانظر له أيضاً كتاباً أسبق بكثير " الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه " ص 48 - دار الصحوة - القاهرة - الطبعة الثانية 1414 هـ 1994 م والطبعة الأولى للكتاب 1407 هـ أي 1986 ، 1987 م .
( ) انظر : د . المطعني " العلمانية وموقفها من العقيدة والشريعة " ص 7 .
( ) الشيخ محمد مهدي شمس الدين " العلمانية " ص 125 . مع أن الشيخ شمس الدين يعيدها إلى العالم على غير قياس .
( ) انظر : عماد الدين خليل " تهافت العلمانية " ص 46 مؤسسة الرسلة - ط6 / 1407 هـ 1986 م . وهو يستخدم الكلمة مضبوطة بالكسر في أكثر صفحات كتابه .
( ) انظر : د . زكي نجيب محمود " تجديد الفكر العربي " ص 34 ، 35 .
( ) انظر : د . سفر الحوالي " العلمانية " ص 21 - دار مكة للطباعة والنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1402 هـ 1982 م مكة المكرمة - وهي في أصلها - رسالة ماجستير من مقدمة في كلية أصول الدين - جامعة الأزهر - إشراف د . محمد قطب .
( ) انظر : د . عزيز العظمة " العلمانية تحت المجهر " ص 157 . وله أيضاً " العلمانية من منظور مختلف " ص 17 ، 18 . مركز دراسات الوحدة العربية - ط1 / 1992 .
( ) انظر : د . رفعت السعيد " العلمانية بين الإسلام والعقل والتأسلم " ص 7 - دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق - الطبعة الأولى 2001 م .
( ) انظر : د . محمد البهي " العلمانية والإسلام بين الفكر والتطبيق " ص 7 ، 8 - طبعة القاهرة 1976 وله : " الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر - مشكلات الأسرة والتكافل " ص 11 طبعة بيروت 1967 د ، ط .
( ) انظر : د . سيد محمد نقيب العطاس " مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية " ص 24 - ترجمة محمد طاهر الميساوي - دار النفائس - الأردن - الطبعة الأولى 1420 هـ 2000 م .
( ) انظر : د . محمد عمارة " العلمانية بين الغرب والإسلام " ص 5 - دار الوفاء للنشر - الطبعة الأولى 1417 هـ 1996 م سلسلة نحو عقلية إسلامية واعية رقم 23 وله أيضاً : " الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين " ص 9 - نهضة مصر - القاهرة يونيه 2000 د . ط سلسلة في التنوير الإسلامي رقم 49 .
( ) انظر : د . عبد الوهاب المسيري " العلمانية تحت المجهر " ص 58 - 60 .
( ) انظر : د . السيد رزق الحجر " مدخل لدراسة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر " ص 316 - 317 .
( ) انظر : " جذور العلمانية " ص 129 ، 117 ، 146 للدكتور السيد أحمد فرج - دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع - المنصورة - سلسلة نحو عقلية إسلامية واعية رقم 2 - الطبعة الخامسة 1413 هـ 1993 م وقد أضاف الدكتور أحمد فرج إلى الكتاب ثلاثة ملاحق أحدها له والثاني للدكتور " عبد الصبور شاهين والثالث للدكتور " عدنان الخطيب " .
( ) انظر : د . عمر عبد الله كامل " العواصم من قواصم العلمانية " ص 11 - مكتبة التراث الإسلامي - القاهرة - الطبعة الأولى 1419 هـ 1998 م .(13/326)
( ) انظر : " أسباب النزول بين الفكر الإسلامي والفكر العلماني " ص 15 ، 16 أولاد : عثمان للكمبيوتر وطباعة الأوفست - الطبعة الأولى 1417 هـ 1996 م .
( ) انظر : د . زكريا فايد " العلمانية - النشأة والأثر في الشرق والغرب " ص 11 - الزهراء للإعلام العربي - الطبعة الأولى 1408 ، 1988 م .
( ) انظر له : " علمانيون أم ملحدون " ص 6 - دار ثابت - الطبعة الأولى 1410 هـ 1990 م .
( ) انظر له : " حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب " ص 7 ، 8 صدر عن الأمانة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف - الناشر دار الصابوني - القاهرة د . ط . د . ت .
( ) انظر : د . حسن حنفي و د . عابد الجابري " حوار المشرق والغرب " ص 42 - مكتبة مدبولي - الطبعة الأولى 1990م .
( ) انظر : د . محمد عابد الجابري " وجهة نظر " ص 102 .
( ) انظر له : " ملاك الحقيقة المطلقة " ص 23 - مكتبة الأسرة 1999 م .
( ) انظر له : " الأسس الفلسفية للعلمانية " ص 37 - دار الساقي - الطبعة الثانية 1998 - بيروت .
( ) انظر له : " حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية " ص 90 ، 95 .
( ) انظر له : " لبنات " ص 53 - 68 - دار الجنوب للنشر - تونس 1994 والشرفي هنا لم يتعرض لاشتقاق المصطلح إلا أن أسباب حديثه عن سير العلمنة يفهم منه أنه يعتبرها من الدنيوية والعالمانية والتوجه إلى هذا العالم ونبذ المغبيات والماورائيات .
( ) انظر : د . فادي إسماعيل " الخطاب العربي المعاصر " ص 155 ، 156 . المعهد العالمي للفكر الإسلامي ط2 / 1993 .
( ) انظر : د. سيد محمد نقيب العطاس " مد اخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية " ص 34 ، 44 .
( ) انظر : " السابق " ص 55 .
( ) انظر : " السابق " ص 67 ، 68 .
( ) انظر : د . عدنان الخطيب " قصة دخول العلمانية في المعجم العربي " ص 146 ، 166 .
( ) انظر : د . فتحي القاسمي " العلمانية وانتشارها شرقاً وغرباً " ص 56 ، 57 .
( ) قال عز وجل " ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ( سورة الجاثية آية (24) . ( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ( سورة البقرة : آية 200
( ) انظر : عبد الله العلايلي " حول كلمة علمنة " مجلة آفاق البيروتية عدد خاص بالعلمنة حزيران 1978 ص 1 ، 2 .
ولكن أنبه هنا إلى أن العلمانية لا تنسب إلى العَلم - بفتح العين - وإنما إلى العالم ، إذ لا صلة للعَلم بالعَلمانية لأن العَلم هو مثل العُلاّمة ما يستدل به ، يعني أنه علامة ، أو دلالة ، وسبب الخطأ كما يبدو قراءة غير صحيحة للقاموس المحيط فقد جاء فيه ، ومَعْلم الشيء كمقعد مظنته ، وما يستدل به ، كالعُلاّمة كرمانة ، والعَلْم . والعالم : الخلق كله . فكلمة العَلْم في السياق مجرورة معطوفة على كلمة العُلاّمة ، أي أن العَلم هو ما يُستدل به ، ولكن بعضهم قرأ كلمة العَلْم مبتدأ ، وعطف عليها كلمة العالم فكأنه قال : والعَلْم والعالَم : الخلق كله ، وهذا وهم وخطأ في الفهم . أنظر : د . القرضاوي " التطرف العلماني في مواجهة الإسلام " ص 13 .
( ) انظر : د . فتحي القاسمي ص 55 ، 65 .
( ) د . فتحي القاسمي ص 54 .
( ) السابق ص 54 .
( ) السابق ص 55 .
( ) سورة الإسراء آية 36 .
( ) سورة الزمر : آية 9
( ) انظر : د. ولتر ستيس " الدين والعقل الحديث " ص 251 . ترجمة وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام - مدبولي - القاهرة - ط1 / 1998 . وانظر : د. زكي نجيب محمود " خرافة الميتافيزيقا " ص 3 . مكتبة النهضة المصرية 1953 .
( ) انظر : كرين برينتون " تشكيل العقل الحديث " ص 71 ، 72 .
( ) انظر : د . برهان غليون " اغتيال العقل " ص 165 . ط3 / 1990 - مدبولي القاهرة .
( ) انظر : عادل ضاهر " الأسس الفلسفية للعلمانية " ص 38 . دار الساقي بيروت - ط2 / 1998 .
( ) انظر : علي حرب " نقد النص " ص 210 .
( ) انظر : علي حرب " نقد الحقيقة " ص 58 .
( ) انظر : د . عزيز عظمة مناظرة مع د . عبد الوهاب المسيري " العلمانية تحت المجهر " ص 157 ورفعت السعيد " العلمانية بين الإسلام والعقل والتأسلم " ص 7 .
==============(13/327)
(13/328)
العلمانية في المصادر الغربية
المقالة الأولى
د. أحمد إدريس الطعان- كلية ال شريعة - جامعة دمشق
بريد إلكتروني : ahmad_altan@maktoob.com
تعريف العلمانية في المصادر الغربية
أولاً : التعريف في المعاجم الأوربية :
أول ما نطالعه في معجم اللغة البريطانية عن مادة " علمانية " ما يلي :
1 ـ علمانية secula r ism ما يهتم بالدنيوي أو العالمي كمعارض للأمور الروحية ، وبالتحديد هي الاعتقاد بالدنيويات .
2 ـ العلماني secula r ist وهو ذلك الشخص الذي يؤسس سعادة الجنس البشري في هذا العالم دون اعتبار للنظم الدينية أو أشكال العبادة .
3 ـ علمانية secula r ity أو secula r ism أي محبة هذا العالم ، أو ممارسة أو مصلحة تختص على الإطلاق بالحياة الحاضرة .
4 ـ يعلمن secula r iye يجعله علمانياً ، يحّوله من مقدس إلى دنيوي ، أو من راهب إلى دنيوي .
5 ـ علماني secula r ما يختص بهذا العالم أو بالحياة الحاضرة ، زمني أو عالمي أو ما يناقض كل ما هو ديني أو روحاني ، أو ما لا يخضع لسلطة الكنيسة ، مدني أو غير روحاني ، أو ما لا يهتم بالدين ، أو ما ليس بمقدس ( ) .
وفي معجم أكسفورد بيان معنى كلمة secula r كما يلي :
1 ـ دنيوي أو مادي ، ليس دينياً ولا روحياً ، مثل التربية اللادينية ، والفن والتربية الموسيقى اللادينية والسلطة اللادينية ، والحكومة المناهضة للكنيسة .
2 ـ الرأي الذي يقول : إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية ( ) .
ويطرح معجم ويبستر :
علماني : دنيوي ، ومن معانيه الشيء الذي يحدث مرة واحدة في عصره أو جيل ، أو شيء وثيق الارتباط بالحياة المعاصرة ، وأشهر معانيه الآن : الأشياء الدنيوية المتمايزة عن الأشياء الروحية غير العقدية ، وغير التي لها صفة الخلود ( ) .
أما المعجم الدولي الثالث الجديد فيعرف بمادة secula r ism كما يلي : "" اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب أن لا تتدخل في الحكومة ، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعاداً مقصوداً . فهي تعني مثلاً : السياسة اللادينية البحتة في الحكومة. وهي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة، والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين "" ( ).
وفي قاموس المورد لمنير البعلبكي : العلمانية تعني حرفياً " الدنيوية " أو " المذهب الدنيوي " ( ) .
وخلاصة التأصيل المعجمي الأوربي يورده أحمد فرج عندما يشير إلى أن المعاجم الأوربية حتى نهاية القرن التاسع عشر تدور فيها كلمة secula r ism حول المعاني التالية :
- الذي يأتي في كل قرن مرة واحدة .
- المنتسبون إلى العالم الأرضي " دنيويون " وهم ضد طائفة الكهنة من الإكليروس ورجال الكهنوت . " يحتفل بمرور المائة عام " القرن الزمني " ." أجناس شتى من البشر " ( )
وفيما يخص اللغة الفرنسية يذكر د . عدنان الخطيب أن كلمة seculai r eتعني : " دنيوي . زمني ، عامي ، قرني ، دهري ، ترابي ، عالمي أو عالماني " ( ) .
ونكتفي بهذا العرض المعجمي لننتقل إلى توضيح أكثر في دوائر المعارف الغربية .
ثانياً : العلمانية في دوائر المعارف الغربية :
في دوائر المعارف تزداد الفكرة جلاء وبياناً وتأكيداً ففي دائرة المعارف البريطانية نجد بخصوص كلمة secula r ism أنها "" حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها ، ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا ، والتأمل في الله [عز وجل ] واليوم الآخر ، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية ، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية ، وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة ، وظل الاتجاه إلى secula r ism يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله ، باعتبارها حركة مضادة للدين ، ومضادة للمسيحية "" ( ) .
وفي دائرة المعارف الأمريكية :(13/329)
"" العلمانية نظام أخلاقي مستقل مؤسس على مبادئ من الخلق الطبيعي ، مستقل عن المظهر الديني أو الفوق طبيعي ، إنها عرضت لأول مرة في شكل نظام فلسفي بواسطة جورج جاكوب هوليوك حوالي سنة 1846م في إنكلترة ، إنها سلمت لأول مرة بحرية الفكر ، وبأن من الحق لكل إنسان أن يعتقد بنفسه ما يريد ، وطبقاً لهذا التسليم ، وكتتمة ضرورية له يكون من الحق أن يكون هناك اختلاف في الرأي حول كل الموضوعات العقائدية ، هذا الحق في اختلاف الرأي لا يتفق بدون حق تبرير ومناقشة ذلك الاختلاف ، أخيراً : العلمانية تؤكد الحق في مناقشة ومجادلة كل الأسئلة الحيوية مثل المعتقدات المعتبرة أسس الالتزام الأخلاقي مثل : وجود الله [عز وجل ] وخلود الروح ، وسلطة الضمير . العلمانية : لا تعني أنه لا يوجد خير آخر ، لكن الخير في الحياة الحاضرة ، إنها تعني أن الخير في الحياة الحاضرة هو الخير الحقيقي ، ويُبحث عنه لأنه الخير ، إنها تهدف إلى إيجاد وضع مادي يكون فيه من المستحيل أن يوجد معدم أو فقير ، إنها تؤكد القوى المادية في هذه الحياة ، التي لا يمكن إهمالها دون الوقوع في حماقة أو مضرة ، ومن الحكمة والرحمة والواجب الاعتناء بها ، إنها لا تمانع المعتقدات المسيحية ، إنها تقول : إنه لا يوجد هاد أو منقذ في هذه الطبيعة بالأحرى إنها تعني : أن الرشد أو المنقذ يوجد في الحقيقة العلمانية التي تملك من المصادفات والتجارب ما يجعلها مستقلة ، فالسلوك الإنساني مستقل إلى الأبد "" ( ) .
ونختم برؤية دائرة معارف الدين والأخلاق التي تقول :
"" العلمانية توصف بأنها حركة ذات قصد أخلاقي منكر للدين ، مع المقدمات السياسية والفلسفية ، فهي مؤسسة بقصد إعطاء نظرية معينة للسلوك والحياة ، وهي تتبع في ذلك المذهب الوضعي الأخلاقي ، منذ أن تكفلت أن تعمل هذه دون الرجوع إلى الألوهية أو الحياة الآخرة ، ولهذا فقد كان مطلبها هو تتميم " إكمال " وظيفة الدين " العقيدة " خالية من الاتحاد الديني ، ولذلك فإنه يجدر بها أن تكون ديناً إنكارياً سلبياً "" ( ) .
ثالثاً - تعقيب :
نسجل في هذا التعقيب الملاحظات التالية :
الأولى : أن هناك اتفاقاً بين المعاجم ودوائر المعارف المشار إليها على أن العلمانية هي توجه دنيوي محض ، وتسعى لصرف الناس عن الاهتمام بالآخرة أو أي غيبيات ، وتدعوهم إلى الاهتمام بالعالم الحاضر ، والحياة المشاهدة ، وتكرس محبة هذا العالم لأن الخير الوحيد ، الحقيقي الذي يجب أن يُعترَف به هو في هذا العالم . أرجو أن نحتفظ بهذه الملاحظة معنا لأننا سنحتاجها قريباً .
الثانية : هناك اتفاق صراحة أو ضمناً على أن العلمانية مناهضة للأديان ، ومتقاطعة معها فهي تُحوّل المقدس إلى مدنس ، وتقلل من قيمة الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر .
لقد صرحت دائرة معارف الدين والأخلاق ، ودائرة المعارف البريطانية بأن العداء قائم بين العلمانية والأديان ، أما دائرة المعارف الأمريكية فلجأت إلى المراوغة مما أوقعها في التناقض فهي تقول : بأن العلمانية لا تمانع العقائد المسيحية ، ولا تنكر وجود خير آخر ، ثم تقول في نفس الوقت ، ولكن الخير الحقيقي في هذه الحياة الحاضرة ، وهو الجدير بالاهتمام والبحث وإذا كانت المسيحية تعتبر المسيح هو المنقذ والمخلص ، فإن الخلاص والغاية في نظر العلمانية هو في العلمانية القائمة على التجارب والمحسوس .
الثالثة : مهما حاولت العلمانية والعلمانيون المصالحة مع الأديان ، فإن هذا يبدو بعيداً ، لأن العلمانية القائمة في أساسها على رفض المبادئ الدينية ، وعدم الاعتراف بها كأسس للالتزام الأخلاقي ، بل ورفض كل الماورائيات التي تقوم عليها الأديان ، وتدعو إلى إقامة الأخلاق والحياة الاجتماعية والسياسية على أسس وضعية نسبية وطبعية ، وهذا بحد ذاته بمثابة إعلان الحرب على الأديان ؛ لأن هذه تطرح نفسها على أنها الحقيقة المطلقة .
الرابعة : نلاحظ أن العلمانية التي تقوم على محاربة احتكار الحقيقة ، وتندد بـ " ملاك الحقيقة المطلقة " تقع هي نفسها في هذا الاحتكار والتملك فهي كما تشير دائرة معارف الدين والأخلاق تطرح نفسها على أنها : دين سلبي إنكاري ، وهي كما أشارت دائرة المعارف الأمريكية ترى الخلاص الوحيد والحقيقة المطلقة في العلمانية .
الخامسة : إن ما قرأناه من تعريفات وتفسيرات في المعاجم ودوائر المعارف يمكن اعتباره خلاصات مضغوطة للتمهيد الذي عرضناه لبيان الجذور التاريخية والفكرية للعلمانية ، ونتائج استقرت عليها الرؤية في الغرب بشأن العلمانية .
رابعاً - تاريخ المصطلح وارتباطه بالمادية والإلحاد :
العلمانية ـ كما أشرنا ـ هي ترجمة لكلمة سكيولاريزم secula r ism الإنجليزية ، وقد استخدم مصطلح " سكيولار " لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين عاماً سنة 1648 م عند توقيع صلح " وستفاليا " وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة ، وهو التاريخ الذي يعتمده كثير من المؤرخين بداية لمولد ظاهرة العلمانية في الغرب .(13/330)
وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة ، ولا يتسم بأي نوع من أنواع الشمول أو الإبهام إذ تمت الإشارة إلى علمنة ممتلكات الكنيسة وحسب ، بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية ،
أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة ( ) .
وفي فرنسا في القرن الثامن عشر أصبحت الكلمة تعني من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية : "" المصادرة غير الشرعية لممتلكات الكنيسة "" أما من وجهة نظر المستنيرين فإن الكلمة تعني : "" المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة "" .
ولكن المجال الدلالي للكلمة اتسع وبدأت الكلمة تتجه نحو مزيد من التركيب والإبهام على يد هوليوك 1817 - 1906م الذي يعتبر أول من صاغ المصطلح بمعناه المعاصر ، وجعله يتضمن أبعاداً سياسية واجتماعية وفلسفية ، وأراد هوليوك أن يُجنب المصطلح مصادمة الأديان فعرّف العلمانية بما يشير إلى الرغبة في الحياد فقال:""العلمانية : هي الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض" ( ).
ولكن مع ذلك إذا شئنا أن نربط العلمانية بفلسفة منظرها هوليوك فيمكن القول إن العلمانية قائمة على الشك أحياناً ، والإلحاد الصريح أحياناً أخرى ؛ لأن هوليوك كان ينفي عن نفسه تهمة الإلحاد ، ولكنه في نفس الوقت يعترف بعدم وجود أدلة كافية للإيمان بالله [عز وجل ] ( )، ويجهر أحياناً بأن الإله إنما هو " الحاضر المعيش " ( ) .
ويرجع أول استخدام لكلمة علمانية عند هوليوك إلى شهر ديسمبر سنة 1846 م عندما أوردها في مقال نشره في مجلة " ذي ريزونور " أي "المجادل العقلاني " ، والسبب أنه شعر مع بعض زملائه وأسلافه مثل " توماس بين " و "ريتشارد كارليل " و "روبرت تيلور " أن المسيحية لم تعد مقبولة لدى أكثر فئات المجتمع ، وقد مست الحاجة إلى استبدالها بمبدأ حديث فكان هو " العلمانية " وقد سماها أتباع روبرت أدين بـ " الدين العقلاني " ( ) . وهنا نتذكر ما تحدثنا عنه في التمهيد مما سمي " دين العقل " أو " الدين الطبيعي " .
أسس هوليوك في عام 1855 م " جمعية لندن العلمانية " وفي ديسمبر من نفس العام تحولت الحركة العلمانية إلى تيار واسع النطاق ، وتزايد انتشارها بين عامي 1853 - 1854 م ، مما دفع القس بردين جرانت إلى التصدي لها في كل أنحاء إنكلترة مفنداً ومجادلاً .
ولكن ازداد توزيع مجلة " الريزونور " العلمانية إلى خمسة آلاف نسخة ، وانتشرت الجمعيات العلمانية في جميع أنحاء بريطانيا ومن أبرزها " جمعية لستر العلمانية " و" جمعية بولتون العلمانية " وجمعيات أخرى في سائر أنحاء البلاد ( ) .
وكان لجهود تشارلس برادلاف 1833 - 1894 م دوراً كبيراً في ترسيخ المبادئ العلمانية الجديدة ، وإضفاء طابع الإلحاد عليها ، وذلك عندما استلم رئاسة جمعية لندن العلمانية سنة 1858 م بدلاً من هوليوك ، واشترك سنة 1860 م في تحرير مجلة " المصلح القومي " التي حلت محل سابقتها " الريزونور " وأسس الجمعية العلمانية القومية سنة 1866 م ( ) .
اندثرت مجلة " المصلح القومي " سنة 1881 م لتحل محلها مجلة " المفكر الحر " التي زادت من جرعتها الإلحادية ، فكانت لا تكف عن الاستهزاء بالأناجيل ، والسخرية من الذات الإلهية ، إلى درجة أنها طالبت بمحاكمة أصحاب الأناجيل الأربعة لأنهم يجدفون على الله [عز وجل ] فهم يقولون بأن الله [عز وجل ] ، ضاجع عذراء يهودية وأنجب منها طفلاً غير شرعي أسماه المسيح ( ) .
خامساً - خلاصة الرؤية الغربية العلمانية :
في الواقع إننا لا نعرض هنا خلاصة لأن الخلاصة كانت هي ما عبرت عنه دوائر المعارف والمعاجم ـ كما رأينا ـ ولكن يمكن اعتبار ما نذكره هنا على أنه تأكيد للخلاصة ، أو أنه خلاصة الخلاصة ، وهو ما سنحتاجه عندما نختار تعريفاً للعلمانية .
لقد رأى بعض القسيسين أن العلمنة في الأصل تحوُّل المعتقدات المسيحية إلى مفاهيم دنيوية عن البشر والعالم ولا سيما من منظور بروتستانتي ( ) . ولكن عالم اللاهوت الهولندي " كورنليس فان بيرسن " يوضح ذلك بشكل أكثر صراحة عندما يقرر بأن العلمانية تعني : "" تحرر الإنسان من السيطرة الدينية أولاً ، ثم الميتافيزيقية ثانياً على عقله ولغته " ويفصل أكثر بقوله : " إنها تعني تحرر العالم من الفهم الديني ، وشبه الديني ، إنها نبذ لجميع الرؤى الكونية المغلقة ، وتحطيم لكل الأساطير الخارقة، وللرموز المقدسة … إنها تخليص للتاريخ من الحتميات والقدريات، وهي اكتشاف الإنسان أنه قد تُرك والعالَم بين يديه، وأنه لا يمكن بعد الآن أن يلوم القدر أو الأرواح الشريرة على ما تفعله بهذا العالم، إنها تعني أن يدير الإنسان ظهره لعالم ما وراء الطبيعة، وأن يولي وجهه شطر هذا العالم أو" الهنا "وأن يحصر نفسه في الزمن الحاضر"" ( ) .(13/331)
إنها تعني : "" زوال وظيفة الدين في تحديد رموز التوحيد والاندماج الثقافي " ، وتعني أن هناك : " مساراً تاريخياً لا راد له تقريباً هو الذي يتحرر بمقتضاه المجتمع والثقافة من الخضوع لوصاية الدين والأنساق الميتافيزيقية المغلقة "" ، وتعني : "" القضاء على التبعية الطفولية في كل مستوى من مستويات المجتمع ، إنها عملية نضج ورشد وتحمل للمسؤولية ، أو قل إنها التخلي عن كل سند ديني أو غيبي أو ميتافيزيقي ، وجعل الإنسان يعتمد على نفسه "" ( ) .
أخيراً يمكن أن نختم بما يلي : العلمانية في المنظور الغربي هي: التحرر من الأديان عبر" السيرورة " التاريخية، واعتبار الأديان مرحلة بدائية لأنها تشتمل على عناصر خرافية كالماورائيات والغيبيات، ولا يتم الخلاص من هذه الأعباء إلا عن طريق تحقيق النضج العقلي الذي تحققه العلمنة عبر آلياتها الثقافية والفكرية والفلسفية. وهذا ما يعبر عنه د.ج.ويل بقوله:"" الفكرة العلمانية تنطوي على مفهوم فلسفي يتعلق باستقلال العقل في قدرته "" ( ).وذلك يعني بنظر كلود جفراي "" إلغاء كل مرجع ديني""( ). وهو نفس ما يريده جول فيري 1832 - 1893م ولكن بتعبير أكثر حدة حيث الغرض النهائي من العلمانية عنده هو:"" تنظيم المجتمع بدون الله ""[عز وجل]( ). إنها الدنيوية إذن .
_______________________________________________
الهوامش
( ) انظر : معجم اللغة البريطانية العالمية 3 / 1138 وانظر : " العلمانية وموقف الإسلام منها " رسالة ماجستير عزت عبد المجيد أبو بركة ص 2 - 3. و د . صلاح يعقوب يوسف عبد الله " العلمانيون والقرآن " ص 39 رسالة دكتوراة في جامعة الأزهر - كلية أصول الدين.
( ) معجم أكسفورد ص 849 - 850 وانظر : " العلمانية " د . سفر الحوالي ص 22 دار مكة للطباعة والنشر والتوزيع - مكة المكرمة - الطبعة الأولى 142 هـ 1982 م .
( ) معجم ويبستر ص 2053 وانظر : د . أحمد فرج " جذور العلمانية " ص 109 - 112. وانظر : د . سفر الحوالي " العلمانية " ص 23 ود. صلاح يعقوب يوسف عبد الله " العلمانيون والقرآن " ص 40 .
( ) نقلاً عن سفر الحوالي " العلمانية " ص 23 .
( ) المورد - منير البعلبكي قرص سي دي كمبيوتر .
( ) انظر : د . أحمد فرج " جذور العلمانية " ص 134 - دار الوفاء للطباعة والنشر - المنصورة - الطبعة الخامسة 1413 هـ 1993 م سلسلة نحو عقلية إسلامية واعية رقم 2 .
( ) انظر : عدنان الخطيب : " قصة دخول العلمانية في المعجم العربي " ملحق رقم 2 ضمن كتاب " جذور العلمانية " للدكتور أحمد فرج ص 146 .
( ) دائرة المعارف البريطانية 10 / 594 وانظر : لأستاذنا الدكتور السيد رزق الحجر " مدخل لدراسة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر " ص 317 . وله : " اضمحلال المشروع العلماني للنهضة " ص 157 بحث ضمن كتاب المؤتمر الدولي السادس للفلسفة الإسلامية في كلية دار العلوم جامعة القاهرة 1422 هـ 2001 م و د . سفر الحوالي " العلمانية " ص 22 .
( ) دائرة المعارف الأمريكية 24 / 510 - 511 .
( ) دائرة معارف الدين والأخلاق 9 / 347 . وانظر : عزت عبد المجيد أبو بركة " العلمانية وموقف الإسلام منها " ص 13 ، 14
( ) انظر : د . عبد الوهاب المسيري " العلمانية تحت المجهر " ص 11 وانظر أيضاً د . عبد المجيد الشرفي " العلمنة في المجتمعات العربية والإسلامية الحديثة ضمن كتاب " لبنات " ص 53 - دار الجنوب للنشر - تونس 1994 د ، ط .
( ) انظر : د . المسيري " العلمانية تحت المجهر " ص 11 ، 12 وانظر : رمسيس عوض " الإلحاد في الغرب ص 248 .
( ) انظر : د. رمسيس عوض - الإلحاد في الغرب ص 246 .
( ) انظر : د . فتحي القاسمي " العلمانية وانتشارها شرقاً وغرباً " ص 47 - الدار التونسية للنشر - تونس 1993 سلسلة موافقات - العدد 16 .
( ) انظر : د. رمسيس عوض " الإلحاد في الغرب " 251 .
( ) انظر : السابق ص 252 ، 253 .
( ) انظر : السابق ص 255 ، 257 .
( ) انظر : السابق ص 259 ، 262 .
( ) انظر : للقس الألماني " جوتفرايد كونزلن " مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا " تقديم وتعليق د . محمد عمارة ص 22 دار نهضة مصر - القاهرة - 1999م . د . ط سلسلة في التنوير الإسلامي رقم 44 .
( ) د . سيد محمد نقيب العطاس " مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية " ص 42 ، ترجمة : محمد طاهر الميساوي ط 1 / 1420 هـ 2000 م 43 .
( ) د . العطاس " السابق " ص 44 .
( ) د. فتحي القاسمي " العلمانية وانتشارها شرقاً وغرباً " ص 47 .
( ) السابق ص 46.
( ) السابق ص 47 .
=============(13/332)
(13/333)
خطأ في تعريف العلمانية
بقلم : إبراهيم بوصندل
لا أدري ما هو السر في كثرة الكتابات التي تمجد العلمانية والليبرالية مؤخراً. فقد لاحظنا أن (بعض) أنصار العلمانية والليبرالية وكأنهم اكتفوا من المشاركة في العملية الإصلاحية بمهاجمة المتدينين، واستعراض العضلات، واستخدام أقسى الألفاظ في إثارة الرأي العام ضدهم، والتشكيك في إسلامهم (متأسلمين) ومرجعياتهم (موروثات الماضي) وذممهم (الطعن في توجيه التبرعات) واتجاهاتهم ونواياهم، بل لم يترك العلمانيون جزئية صغيرة أم كبيرة للإسلاميين إلا وأظهروها على أنها من مثالبهم، وأما بالنسبة للناخبين فهم أيضا لم يسلموا من غبار العلمنة فاتهموا بقلة الوعي السياسي.
ونلاحظ أيضا أن العلمانيين باتوا أكثر جرأة وأوضح لهجة من ذي قبل، فهم يصرحون اليوم بما كانوا به يُسرون، ويطالبون بما كانو به يحلمون. وقد بلغت الجرأة بهم أنهم يطعنون في نظام الحكم الإسلامي الذي أثبت صلاحيته في كل مكان وزمان طبق فيه تطبيقاً إيجابياً، بكل صراحة وعلانية وهو أمر خطير، ومع ذلك فسوف أرجأ الحديث عنه، وأتناول بالنقد جزئية صغيرة مما نشر مؤخرا عن العلمانية. وسأبدأ بالتعريف، وسوف لن أستشهد لذلك بما ورد في تعريفات علماء الإسلام والذي أخطأ بعضهم في التعريف كما سيأتي، ولكن بتعريفات أهل العلمانية الذين ابتدعوها وصدروها لبقية العالم.
إن لفظة العلمانية ذاتها إنما هي ترجمة خاطئة لكلمة ( Secula r ism ) في الإنجليزية، أو(Secula r ite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ "العلم" ومشتقاته على الإطلاق. فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه (Science) والمذهب العلمي (Scientism) والنسبة إلى العلم هي ( Scientific ) أو (Scientifique ) في الفرنسية. والترجمة الصحيحة لمفهوم العلمانية هي (اللادينية) أو (الدنيوية). تقول دائرة المعارف البريطانية مادة ( Secula r ism): (هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيهم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها). وكما يقول المختصون فقد ظل الاتجاه إلى الـ ( Secula r ism ) اللادينية يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية.
وقد جاء في قاموس "العالم الجديد" لو بستر، شرحاً للمادة نفسها:- بأنها الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، ونحو ذلك. وعلى الخصوص: نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال العبادة. ومن معانيها في ذات القاموس: الاعتقاد بأن الدين والشؤون الكنسية لا دخل لها في شئون الدولة وخاصة التربية العامة".
أما معجم أكسفورد فيشرح الكلمة بمعاني عدة منها:
"1- دنيوي، أو مادي، ليس دينيا ولا روحيا: مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
2- الرأي الذي يقول أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية"
وفي "المعجم الدولي الثالث الجديد" جاء شرح مادة: ( Secula r ism) على أنها: "اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادا مقصوداً، فهي تعنى مثلاً "السياسة اللادينية البحتة في الحكومة "
إذا العلمانية أو بمعنى أصح على مقاييس علماء الغرب اللادينية هي: "نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين "
ويقول المستشرق " أر برى " في كتابة " الدين في الشرق الأوسط " عن الكلمة نفسها : " إن المادية العلمية والإنسانية والمذهب الطبيعي والوضعية كلها أشكال اللادينية، واللادينية صفة مميزة لأوربا وأمريكا ... "
ويقول الشيخ سفر الحوالي: "والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو "فصل الدين عن الدولة"، ويرى الشيخ سفر بأن هذا التعبير قاصر ولا يعطى المدلول الكامل للعلمانية. والمدلول الصحيح لها هو "إقامة الحياة على غير الدين" سواء بالنسبة للأمة أو للفرد، ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود فبعضها تسمح به، كالجماعات الديمقراطية الليبرالية، وبعضا يرفض الدين تماما كجماعات (العلمانية المتطرفة-Anti r eligious )، المضادة للدين، ويعنون بها المجتمعات الشيوعية وما شاكلها.
هذه هي حقيقة العلمانية، وهذا هو وجهها الحقيقي الذي لا يزينه الماكياج ولا يخفي عيوبه التلاعب بالألفاظ، العلمانية تعني اللادينية ليس إلا.
============(13/334)
(13/335)
الفقه العلماني للإسلام
بقلم : عبد الرحمن الجميعان
الإشكالية للمنظومة العلمانية تستند إلى نمطية التفكير العلماني في عالمنا الإسلامي على المرجعية الأوروبية في كثير من القضايا والرؤى، بل إن هذه المرجعية توأطر الفكر النظري للمنظومة العلمانية، ولا غرو فالعلمانية في أصل اشتقاقها غربية المنشأ واللسان، وهي نبت خارج أرضه.
ولهذا فالعلمانية مع محاولة استزراعها في بلاد المسلمين جرت خلفها الكثير من الإشكاليات النظرية والصعوبات العملية التي اصطدمت في ارض الواقع الإسلامي نظراً لتباين الإطار النظري في أوطاننا الإسلامية مع الإطار النظري للعلمانية المستوردة.
بل إن علمانية العرب زادت على ذلك لأنها تريد ليّ أعناق النصوص كي تتسق مع فهمها للإسلام وواقعها السياسي والاجتماعي، وتلك إشكالية رئيسة في الفكر العلماني الوافد، وتبدو واضحة تلك المحاولة التي تريد استنساخ المفهوم الغربي وتجاربه تجاه الأديان، ومحاولة إسقاط هذا المفهوم على الدين الإسلامي.
إن مفهوم الدين عندنا يغاير المفهوم الغربي للدين لتباين الدينين واختلاف الملتين، فذاك دين محرف لم يجعله الله - تبارك وتعالى- للناس كافة وإنما هو محصور في زمن معين محدد ولأناس محددين كما قال المسيح -عليه السلام-: إنما بعثت لخراف بني إسرائيل الضالة.
فلهذا من الخطورة بمكان أن تتوحد النظرة تجاه كل الأديان، وهنا يكمن الخطر حيث يعامل الإسلام كما يعامل أي دين آخر، ولذلك جرت هذه النظرة الضيقة والظالمة فكراً خطيراً جداً على العالم الإسلامي وهي فكرة لم تعرفها الأجيال المسلمة قبل عهد الاستعمار بشتى أنواعه، تلك هي الفصل بين الدين والدنيا، مفهوماً وعملاً فالدين عندهم مجموعة من الطقوس غير المفهومة إلا لأناس محددين، فكانت النهضة الأوروبية نتيجة طبيعية للتحرر من الدين والتفلت من التزاماته القاسية، أما عندنا فلا توجد هذه الإشكالية التي يريد هؤلاء إلباسها الإسلام الحنيف، والذي جعله الله تعالى للناس كافة ويسر فهمه لمن أراد الفهم (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر).
ومن الإشكاليات الخطيرة التي يتعمد العلمانيون إثارتها: الدمج بين العروبة والإسلام، فالعربي عندهم يعني المسلم وتاريخ العروبة والعرب هو تاريخ الإسلام والمسلمين، ولهذا فهم يعدون الإسلام امتداداً طبيعياً لتاريخ العرب الجاهلي ويعتبرون محمد صلى الله عليه وسلم مجرد مصلح عربي كان له تصور راق لإصلاح الأمة، فيفصلون بين النبوة والنبي، وهذا تهوين لشأن النبوة في حياة الناس، إنها إشكاليات واضحة تعيشها العلمانية المستوردة على صعيد الواقع والمنهج والرؤية وكنموذج صارخ لهذه العلمانية سنعرض لإحدى المقالات التي تطرح هذا الفكر الغربي المبطن.
============(13/336)
(13/337)
العلمانية وثقافة السلام
د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة - جامعة دمشق
في الوقت الذي كان فيه الإنكليز يحتلون البلاد العربية والإسلامية ، ويرتكبون الفظائع من قتل وتدمير وإبادة وتجويع وتجهيل في العراق ، والهند ، ومصر ، كان سلامة موسى يتغزل بالإنجليز فهم ""النظاف الأذكياء "" ( ). وهم "" أرقى أمة موجودة في العالم ، والخلق الإنجليز يمتاز عن سائر الأخلاق، والإنسان الإنجليزي هو أرقى إنسان من حيث الجسم والعقل والخلق"" ( )، ثم دعا إلى التعاون معهم وهم يحتلون البلاد ، ويقتلون العباد فقال : "" فنحن إذا أخلصنا النية مع الإنجليز فقد نتفق معهم إذا ضمنا لهم مصالحهم ، وهم في الوقت نفسه إذا أخلصوا النية لنا ، فإننا نقضي على مراكز الرجعية في مصر ، وننتهي منها ، فلنول وجوهنا شطر أوربا "" ( ) .
هذا هو ثمن السلام بنظر سلامة موسى أن نتعاون مع الإنجليز ، ونضمن لهم مصالحَهم ، ومصالحُهم أن يظلوا جاثمين على صدر مصر ، ينهبون خيراتها ويستذلون أهلها ، ويدوسون كرامتها ، ولكن هذا لا يشكل خطراً على سلامة موسى لأنه سيظل هو والنخبة الربيبة ينعمون بالرفاهية ، ويتمتعون بالخيرات ما دام أسيادهم راضين عنهم ، آمنين لجانبهم .
والربح الذي يحققه سلامة موسى من التعاون مع الإنجليز هو القضاء على الرجعية ، والرجعية المقصودة عنده والتي يحلم بالقضاء عليها هي الأزهر الذي يبث فينا ثقافة القرون المظلمة ، وشيوخ الأزهر المأفونين ، الذين لا يكفون عن التوضؤ على قوارع الطرق ( ) . أليس هذا هو الفاشيست الذي يتحدثون عنه ؟! .
واليوم يدعونا طارق حجي إلى الإيمان بحتمية الوصول إلى السلام مع إسرائيل ، وعلينا أن نكافح لترسيخ ثقافة السلام بدلاً من ثقافة العدوان ( ) وأن نسير على خطا السادات لكي تتجنب المنطقة السقوط في العنف والماضوية والتخلف والفقر ، وعلينا أن نقبل قيام دولة ديمقراطية لا دينية على كامل تراب فلسطين يتساوى فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون ( ). ويعني هذا أن يتنازل الفلسطينيون عن مقدساتهم ، وعن حق العودة للمشردين من أبنائهم ويرضخوا لما يفرضه منطق القوة الإسرائيلي والأمريكي . إنها دعوة للاستسلام تحت عنوان:" الإيمان بحتمية السلام " .
أما مراد وهبة فالعلمانية بنظره هي الحل لمشكلة الشرق الأوسط في فلسطين ( ) ذلك أنه يعرف العلمانية بأنها "" النظر إلى النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق ""( )، ويعني بذلك سيادة النسبية على كافة المستويات ، وإقصاء المطلقات من الوجود، لأنه لا وجود لحقيقة مطلقة ، والقول بها مجرد خرافة ، وسيادة المطلق يهدد السلام العالمي ، لأنها ستدخل في صراع كما هو الحال بين المطلقات الثلاثة الإسلامي اليهودي والمسيحي ، وليس من وسيلة لحل هذا الصراع إلا بالقضاء على المطلقات ، ويتم ذلك بنفي الدوجماطيقية " أي نفي علم العقيدة " لأن مفهوم الحرب كامن في هذا العلم ( ) . لأن هذا العلم قائم على اليقين "" واليقين لا يمكن أن يكون إلا مغلقاً ، ولهذا فهو يؤول في المنتهى إلى الدوغمائية التي تُترجَم تعصباً وتحزباً وربما عنفاً وإرهاباً "" ( ) ومع أن هذا الكلام لا يرضي الناطقين باسم الغائب والمدافعين عن العقائد وحراس النصوص كما يقول الخطاب العلماني ( ) إلا أنه يقرر ذلك ليؤكد على أن الصراع العربي الإسرائيلي في النهاية هو صراع مطلقات ، والحل الوحيد في العلمانية لأنها المضاد الحيوي للأصوليات الدينية التي تغذي المطلقات وتتغذى منها ( ) ، وعلى ذلك بدلاً من شعار " الإسلام هو الحل " تصبح " العلمانية هي الحل " .
ولكن تجاهل مراد وهبة هنا أن العلمانية تصالحت مع الصهيونية واليهودية وبررت لهم وجودهم في فلسطين ، وشرّعت لاستمرارهم فيها على حساب العرب والمسلمين الذين لم يربحوا شيئاً ، ولم يحصلوا على شيء من علمانية مراد وهبة ، إلا إذا كان مراد وهبة وأمثاله سيجيبون بأن الربح العربي يتمثل في النجاة من القنابل النووية الإسرائيلية ، وهذا ما لا يحسب الأصوليون المسلمون حسابه ، لأن الخوف من الموت لا يردعهم عن المطالبة بحقوقهم ولديهم من الآليات والوسائل " الإرهابية " ( ) ما يجعل إسرائيل تفقد صوابها .
بقي أن نتساءل :
ألم تتحول علمانية مراد وهبة إلى مطلق هي أيضاً ينفي المطلقات الأخرى ؟ فإذا قرر هو وشيعته أن " العلمانية هي الحل " وقرر المسلمون بشكل مطلق أن " الإسلام هو الحل " وقررت إسرائيل أن " التلمود هو الحل " أفلا تدخل العلمانية هنا طرفاً جديداً فيما يسميه " صراع المطلقات " ، وبالتالي فإن أية رؤية تُطرح على أنها الحل هي بنظر أصحابها مطلق على الآخرين أن يرضخوا لها ، وهكذا فإنه لا خلاص من المطلق ، ولا بد من مطلق واحد تذعن له كل الأطراف المعارضة ( ) .(13/338)
ونتساءل مرة أخرى : هل حربنا مع إسرائيل هي حرب مطلقات ؟ في الواقع لا ، لأننا نحن لا نحارب إسرائيل لندخلها في مطلقنا الإسلامي ، وإسرائيل لا تحاربنا لتدخلنا في مطلقها اليهودي ، نحن نريد أن نستعيد أراضينا المغتصبة - في إطار وعود ومؤامرات دبرت - على مرأى ومسمع من كل العالم ، ونريد أن يعود الشعب المشرد الطريد في كل بقاع العالم إلى أرضه ودياره ، ويريد الشعب المضطهد المقموع أن يتخلص من الاضطهاد والقمع ، ويتمتع بحريته وكرامته واستقلاله ، فأين المطلقات في هذا الصراع ؟ وإذا كانت حربنا مع إسرائيل حرب مطلقات فإن هذا يعني أنه لا يوجد خلاف بين شخصين في محكمة إلا ويمكن تسميته أيضاً " صراع مطلقات " ، وأن الإنسان الذي يأتي ليغتصب منزل مراد وهبة أو يعتدي على أسرته أو حتى على حياته ، على مراد وهبة ألا يدافع عن نفسه - طبقاً لعلمانيته أو لنسبيته - حتى لا يدخل في صراع المطلقات .
ولكن الأمر المستغرب في هذا العصر عصر الغرائب أن الضحية التي تُذبح وتُخنق هي التي توصم بالعنف والإرهاب والعدوان ، أما الجاني فهو داعية الحرية والديمقراطية ورافع لواء التحضر ، وراعي السلام !!
أرأيت لو أن شخصاً قام يخنق شخصاً آخر ، وبالطبع فإن المخنوق سوف يدافع عن نفسه بأظافره وأسنانه ، وربما يتسبب في بعض الخدوش التي تلحق خانقه ،أرأيت لو أن الجاني قام بعد أن يفرغ من ضحيته وعقد مؤتمراً رام فيه أن يقنع الناس بأن الضحية كان إرهابياً عنيفاً عدوانياً ، لماذا ؟ بسبب هذه الخدوش والجروح التي لحقت به !! . أليس هذه مهزلة !! ؟ إن هذا ما يحدث اليوم في غابة البشر ، ولكن لا عليك فنحن في عصر المهازل ! .
نحن أمة تُذبح وتُباد وتُخنق وبدلاً من أن يتصايح أبناؤها للجهاد ، وينفروا خفافاً وثقالاً بأموالهم وأنفسهم ، تجد دور النشر ومؤتمرات الحوار ورهط كبير من الباحثين يدعون إلى اللاعنف ، واللاإرهاب ، واللاعدوان !! رضي الله عن سعد بن معاذ !! .
-----------------------------------
( ) سلامة موسى " اليوم والغد " ص 239 .
( ) السابق : ص 58 - 63 .
( ) السابق : ص 257 .
( ) انظر : السابق ص 229 - 231.
( ) انظر : د . طارق حجي " الثقافة أولاً وأخيراً " ص 111 .
( ) انظر : د. طارق حجي " الثقافة أولاً وأخيراً " ص 25 . ملاحظة : قد تكون هذه الدولة هي التي دعا إليها القذافي تحت اسم "إسراطين ".
( ) انظر : د . مراد وهبة " ملاك الحقيقة المطلقة " ص 366 .
( ) السابق ص 29 .
( ) انظر : " السابق " ص 353 .
( ) علي حرب " نقد النص " ص 22 .
( ) انظر : السابق ص 23 .
( ) انظر : " السابق " ص 366 .
( ) إن كلمة إرهاب في القرآن ذات مدلول إيجابي وهو الردع ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ( (الأنفال:60) عندما يكون الإرهاب من أجل الدفاع عن الحق أو الحصول عليه فنعم الإرهاب هو . ولكن الكلمة شُحنت بمعاني سلبية دموية تتبادر إلى الأذهان بسبب الترويج الإعلامي الغربي والعربي المستمر والمتكرر .
( ) لقد تجلى ذلك فيما آلت إليه العلمانية في أبرز صورها وذلك في الغطرسة الأمريكية التي كشرت عن أنيابها بكل صراحة في غزو العراق ورفضت الإذعان لمقررات الأمم المتحدة التي هم واضعوها ولكنها لم تعد تخدم مصالحهم فأصبحت الرؤية الأمريكية اليوم هي المطلق الذي يجب على كل الآخرين الإذعان له وإلا واجهوا الموت تحت وابل القنابل الذكية . وهكذا لم تجد العلمانية مفراً من المطلق .
==============(13/339)
(13/340)
مآل الإسلام في القراءات العلمانية
بقلم : د. أحمد إدريس الطعان
الجزء 1/3
تكريس تاريخية الإسلام القرآني
تتناول المشاريع العلمانية المختلفة الإسلام بحسب خلفياتها الفكرية والأيديولوجية تناولاً مختلفاً ولكنها تتفق جميعاً على أمرين: الأول: أنهم جميعاً يتكلمون وكأنهم مختصون بتفسير الإسلام ومتبحرون في دراسة نصوصه دون اعتبار لكونه ديناً له رؤيته ومصادره التي تحتاج إلى تخصص ودراية وهي غير متوفرة لدى أصحاب هذه المشاريع.
والأمر الثاني: أن هذه القراءات جميعها تتفق على طمس الإسلام الحقيقي الذي يدين به المسلمون جميعا، واعتباره ديناً طواه التاريخ، وعفى عليه الزمن، وأصبح مجرد ذكرى، ومن ثم تسعى لابتكار إسلام جديد لا يمت إلى الأول بأي صلة حتى الاسم لا يراد له أن يستمر لكي لا يفهم الآخرون أننا دوغمائيون ومتخلفون.
وقد تتبعت المقولات المتصلة بالإسلام في هذه القراءات وحاولت أن أعرض نصوصها بشكل موجزٍ ثم أحلت القارئ الذي يرغب بالتوسع أو التوثق إلى مصادر هذه النصوص ليراجعها في سياقاتها وإطاراتها الكاملة. كما أنني لم أُعن في هذا البحث بمناقشة هذه الأطروحات لسببين: الأول: أنها دعاوى مجردة عن الاستدلال فهي مزاعم كبيرة جداً بدون أي محاولة للبرهنة.
والدعاوى إذا لم يقيموا *** عليها بينات أصحابها أدعياء
والثاني: أن أي مسلم بل أي عاقل لديه إلمام بالإسلام ومصادره وتاريخه يجد أن ما يطرحه هؤلاء العلمانيون لا يمت إلى الإسلام، وإنما هو تخرصات من وحي الفلسفة الغربية وحداثتها، تريد أن تتقمص شخصية الإسلام.
فالهدف من هذا البحث إذن هو وضع القارئ أمام التصور العلماني للإسلام، والمآل الحقيقي الذي ينتهي إليه، وفضح هذه المشاريع العلمانية وكشف الأقنعة التي تتستر بها، وتعريتها أمام الباحثين عن الحقيقة.
وسنعالج القول العلماني في الإسلام في نقطتين وخلاصة:
* تكريس تاريخية الإسلام القرآني.
* ترويج الإسلام العلماني الجديد.
أ. تكريس تاريخية الإسلام القرآني
أولاً: التورخة من منظور حداثي
إن الموقف العلماني من الإسلام عموماً ليس مستغرباً إلا لكونه يصدر من أناسٍ يقولون إنهم مسلمون، ولكن إسلامهم ليس استثناءً بين الأديان، فهو ليس إلا مجموعة أساطير مخلوطة من أساطير الشعوب القديمة البابلية، والسومرية، والآشورية، والفرعونية(1)، وما هو إلا امتداد للأساطير والوثنيات السابقة كعبادة الإله بعل إله القمر، لذلك جاءت العبادة العروبية عبادة قمرية، وتحتفظ إلى اليوم بقدسية القمر، فالشهور قمرية، والتاريخ قمري، والصيام قمري، والزمن العربي كله قمري(2).
واحتفظ الإسلام ببعض الشعائر والطقوس من الجاهلية وأديان الشرق الأوسط القديم جداً مثل الحج، والاعتقاد بالجن، وتقديس الحجر الأسود، والختان وعذاب القبر وبعض التصورات الأسطورية الأخرى، واستخدمها من أجل إعادة توظيف نتف متبعثرة من خطاب اجتماعي قديم، بغية بناء قصر إيديولوجي جديد(3).
وهكذا يقرر الخطاب العلماني بناءً على ذلك أن الرسالة المحمدية لم تكن أحسن حظاً من سابقاتها(4)، والإسلام "بالرغم من ادعاء الإسلاميين والمراقبين الذين ينسخون خطاباتهم دون أن يفككوا بناءها لا يفلت من قواعد التحليل التاريخي والسوسيولوجي، والأنتربولوجي والفلسفي بكل تأكيد"(5).
وهو أي الإسلام كظاهرة دينية لا يختلف عن بقية الأديان وهو ما يتعارض مع الموقف الإيماني العقائدي الموروث(6)، ويعني أركون بأن الإسلام كبقية الأديان في الخضوع للتاريخية بعكس ما يُنظِّر الفكر الدوغمائي الإيماني(7)، وهو سيخضع لمناهج التحليل التاريخي التي خضعت لها المسيحية إذ أن الإسلام لا يختلف عن المسيحية في كونه يقع ضمن الإطار المعرفي للقرون الوسطى(8)، وسيصبح الإسلام بفعل تيار العولمة الذي لا يقاوم وبفعل الحداثة المكتسحة "شيئاً بالياً لا معنى له" وسوف يتبخر ويذهب مع الريح(9)، وسينهار الإسلام المثالي، ويبقى الإسلام التاريخي للذكرى والدراسة فقط كما حصل للمسيحية(10)، ولكن يبقى منه أنه تجربة تاريخية علينا الاستفادة منها(11). لأنه ظاهرة تاريخية طرأت على المجتمعات البشرية، وهو مثل الظاهرة الاقتصادية، أو الظاهرة السياسية، أو كغيره من الظواهر الاجتماعية لا يجب أن ننظر إليه على أنه ظاهرة فريدة من الأديان(12). كما ينبغي أن نعلم - بنظر أركون - أن الإسلام كأي عقيدة دينية أو غير دينية ما هو إلا نتاج القوى المحسوسة التي تشكله عقائدياً وأيديولوجياً(13). "إنه نتاج الممارسة التاريخية للبشر، وبالتالي فهو يتطور ويتغير، إنه يخضع للتاريخية مثله مثل أي شيء على وجه الأرض، إنه ناتج عن الممارسة التاريخية لفاعلين اجتماعيين شديدي التنوع … كما أنه ناتج عن فعل الشروط التاريخية الشديدة التعقيد عبر الزمان والمكان"(14).(13/341)
وعلى ذلك فمن الخطأ أن نؤقنم قيم الإسلام فننظر إليها على أنها حقائق مطلقة، ومن الخطأ أن ننتزعها من مشروطيتها التاريخية(15)، لأن الإسلام رسالة موجهة إلى أناس بأعيانهم في القرن السابع الميلادي، ولذلك نجد فيها ظواهر ميثية تتناسب مع ثقافة ذلك العصر كالجنة وإبليس والشياطين والملائكة والطوفان وعمر نوح وغير ذلك، وهي اليوم بعيدة عن التصورات الحديثة، وليست لها الدلالات ذاتها التي كانت موجودة في ذلك العصر(16).
وهو ما يعني أن الارتباط بالدين مشروط بالحالة التاريخية التي يعيشها المجتمع أو الفرد، فالمثقف المسيحي كان يؤدي كل طقوس دينه حتى القرن التاسع عشر، ثم تحرر منها بعد الثورة التنويرية والثورة الصناعية، وهذا ما يتعرض له المسلم اليوم(17).
وهنا يرى أركون ومترجمه هاشم صالح أن تحقيق الإسلام لمهمته الروحية قد يحصل دون أن تؤدى الطقوس والشعائر بالضرورة(18)، ولذلك يجب تحرير الناس من العقلية الشعائرية(19)، "فليس من الضروري أن يحتشد الناس جماعات في مسجد لإقامة الصلاة، ذلك أن الصلاة مسألة شخصية في الإسلام كما في الديانات الأخرى"(20).
ولكي يتحقق ذلك لابد أن نخرج من الدائرة العقائدية والمعيارية للإسلام الأرثوذكسي(21)، وإعادة تحديد الإسلام بصفته عملية اجتماعية وتاريخية من جملة عمليات وسيرورات أخرى، وبيان الأصل التاريخي للتصرفات والمعطيات والحوادث التي تُقدَّم وكأنها تتجاوز كل زمان ومكان وتستعصي على التاريخ(22). وهذه مهمة التاريخية وهي أن تقوم بالكشف عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي يتولد عنه التراث وأسباب ذلك وأبعاده(23)، وإعادة تفسيره طبقاً لحاجات العصر(24). وهذا الأمر يحتاج إلى جرأة في طرح الأسئلة على التراث، وجرأة في الإجابة عليها، مع الحذر من تأثير الإجابات الجاهزة(25)، لأن ما حفظ لنا من التراث هو التراث الرجعي(26).
وكل ما لدينا هو تقليدي الصورة مثل: تشكل المصحف، والشريعة، وشخصيات الصحابة والنبي r، ونريد الصورة التاريخية أي الحقيقية، العقلانية "كما فعل الغربيون بالنسبة للمسيحية الأولى"(27).
إن الإسلام الشائع اليوم بنظر أركون هو الإسلام السني الأرثوذكسي وهو ليس إلا تنظيراً دوغمائياً جاء نتيجة سلسلة من الأعمال المنجزة تاريخياً(28)، ونفس الشيء يقال عن الإسلام الشيعي(29)، فلا يوجد إذن إسلام حقيقي "لقد خُرِّب تاريخ الإسلام الأولي وأُفسد إلى الأبد"(30)، وما قُدّم إلينا ما هو إلا الإسلام الرسمي السلطوي(31).
و"تغيرت معالم الإسلام الأساسية، وملامحه المحددة، وسماته الذاتية، وصفاته الخاصة، وحلت بدلاً منها معالم أخرى مخالفة تماماً، ومناقضة كلية، ومضادة على الإطلاق، واستُبدلت بالمعالم الأساسية للإسلام معالم أخرى خاطئة وفاسدة ودخيلة"(32) "وانزلق الإسلام إلى مهوىً خطير، وانحدرت الشريعة إلى مسقط عسير"(33).
ثانياً: التورخة من منظور ماركسي
أما بنظر الاتجاه الماركسي العربي فقد كان الإسلام "ثورة تعمل على تغيير المجتمع وتطويره اقتصادياً وطبقياً وسياسياً ودينياً طبقاً لأنظمة وعلاقات ومبادئ وعقائد جاءت بها حلاً للتناقضات الحادة التي كانت تعتمل في كيان المجتمع العربي بخاصة والإنسانية بعامة"(34).
والقرآن كتاب الثورة الإسلامية الكبرى والمعبر عنها ومصدر المعرفة الأول لنظرية هذه الثورة(35)، والقراء المستنيرون أمثال مصعب بن عمير انضموا إلى الثورة، وتخلوا عن طبقاتهم المترفة، ولم يجد صلى الله عليه وسلم أكفأ من القراء يمثلونه وينوبون عنه في ممارسة ذلك العمل الخطير، الذي لم يكن شيئاً سوى إعادة بناء شخصية الفرد العربي وإعادة تخطيط المجتمع العربي في وقت واحد(36). ولتأمين الثورة ضد المؤامرات الرجعية والوثنية انتقل مركز الثورة ومقر قيادتها من مكة إلى المدينة(37)، ثم كان عمر القائد التالي للثورة(38). وبذلك يكون الإسلام ثورة عربية خاصة بالعرب ومن الخطأ أن نعممه(39)، وليس الإسلام إلا فرعاً للعروبة، وليس هو إلا طوراً من أطوار المسيرة العربية(40). والله عز وجل معبود عربي، وأول بيت بني له بأرض العرب من قبل أن يكون الإسلام، وهكذا نستطيع أن نذهب إلى عروبة المُرسِل للرسالة التي تعرف باسم الإسلام(41). فا"الإسلام ليس إلا النظام الديني للأمة العربية أولاً وقبل كل شيء، النظام الذي نزل من السماء ليكون البديل عن الأنظمة الأخرى التي كانت الأمة العربية تمارس حياتها على أساس منها". "والعرب في كل مكان يرون الإسلام ديناً قومياً لهم، قبل أن يكون ديناً عالمياً لكل الناس". "والله حاضر في ذهن الإنسان العربي قبل أن يكون الإسلام، فالعروبة هي الأصل والإسلام هو الفرع"(42).
وهكذا وطبقاً للتحليل الماركسي يوصف الإسلام بأنه حركة محمدية(43) أو ثورة(44) يقارن بينها وبين الثورة البلشفية والثورة الفرنسية(45) وأنمحمدا صلى الله عليه وسلم تجسدت في داخله أحلام الجماعة البشرية التي ينتمي إليها، فهو إنسان لا يمثل ذاتاً مستقلة منفصلة عن حركة الواقع، بل إنسان تجسدت في أعماقه أشواق الواقع، وأحلام المستقبل(46).(13/342)
وبما أن التوحيد نتيجة للتطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فإن التوحيد اليهودي الذي ظهر في جزيرة العرب غير ممكن لأنهم متخلفون، أما توحيد أخناتون فقد كان بسبب وجود بنية تحتية متقدمة(47).
ولكن أوضاع الجزيرة العربية الاقتصادية والاجتماعية وبخاصة مكة، دخلت مرحلة متسارعة من التغيرات الكيفية الناتجة عن تغيرات عديدة متراكمة، ومرتبطة بظروف أدت إليها، مما هيأ مكة للتحول من كونها مجرد استراحة ومنتدى وثني دنيوي على الطريق التجاري، للقيام بدور تاريخي حتَّمتْه مجموعة من الظروف التطورية في الواقع العربي والعالمي، وكان ذلك الدور هو توحيد عرب الجزيرة في وحدة سياسية مركزية كبرى(48).
فكان الأحناف تجسيداً لنزوع ما لاتجاه جديد في رؤية العالم في هذه الثقافة، وكان صلى الله عليه وسلم جزءاً من هذا الاتجاه(49). ولم يكن متشدداً مثل زيد بن عمرو بن نفيل فكان يتقبل الأكل مما ذبح على النصب لأنه كان ينتمي إلى ثقافة وواقع ومجتمع(50).
وتهيأت مكة لقبول فكرة الإله الواحد، ومن هنا يكون توحيد الأديان في إله واحد قد جاء عند الرواد الحنيفيين كناتج طبيعي لهدير الواقع، وقد حتمت الظروف، وتضافرت الأحداث بحيث صبت الأقدار في يد قريش، وفي البيت الهاشمي الذي أخذ على عاتقه تحقيق هذا الأمر العظيم(51).
"ولم يجد الآخرون [ يقصد أقارب صلى الله عليه وسلم ] سوى الاهتداء إلى أنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبياً مثل داوود"(52). "واتبع صلى الله عليه وسلم خطا جده كما اتبع خطواته من قبل إلى غار حراء، وأعلن أنه نبي الفطرة"(53) "وعندما بلغ الأربعين حسم الأمر بإعلانه أنه نبي الأمة"(54).
وهكذا يبدو الإسلام في - المنظور العلماني - ليس إلا حلماً سياسياً راود عبد المطلب ثم حققه الحفيد صلى الله عليه وسلم "أي جدي ها أنذا أحقق حلمك" وقد حققه(55).
وهكذا استبدل الإسلام بالآلهة إلهاً واحداً، وانتسب إلى دين إبراهيم لاستيعاب اليهودية والنصرانية(56)، وبحثاً عن الهوية القومية للعرب(57) لأنه "… أصبح تعدد الأرباب عائقاً دائماً ومستمراً في سبيل المحاولات التي قامت من أجل خلق كيانات سياسية في جزيرة العرب"(58).
وحتى القرآن ما هو إلا مجرد تراكيب لغوية اقتبسها صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت وخصوصاً ما يتعلق بوصف القيامة والبعث والجنة والنار(59)، وحتى تسمية ديننا بالإسلام ما هي إلا من بقايا زيد بن عمر بن نفيل حيث كان هذا يسمي حنيفيته بالإسلام(60). (يتبع)
-----------------------------------------------------------
( ) حاول تركي علي الربيعو في كتابه " الإسلام وملحمة الخلق الأسطورة " أن يعقد مقارنات بين العقائد الإسلامية والأساطير القديمة زاعماً أن إسلامنا ما هو إلا امتداد لهذه الأساطير. وانظر: رشيد الخيون " جدل التنزيل " ص 74، 75 يقول الخيون: إن طه اسم إله عند الهنود الحمر، وعند السومريين اسم مسيح منتظر. قلت: إن طاهايو الذي ينتظره السومريين ما هو إلا بشارة بطه أي بمحمد r.
(2) انظر: سيد القمني " رب الزمان " ص 168.
(3) انظر لأركون " القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني " ص 108 و " نافذة على الإسلام " ص 114 و " تاريخية الفكر العربي الإسلامي " ص 231 وانظر: طيب تيزيني " النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة " ص 113 وانظر " عبد المجيد الشرفي " الإسلام بين الرسالة والتاريخ " ص 26.
(4) انظر: محمد شحرور " نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي " ص 348.
(5) أركون " نافذة على الإسلام " ص 171.
(6) انظر: أركون " قضايا في نقد العقل الديني " ص 326.
(7) انظر: أركون " أين هو الفكر الإسلامي المعاصر " ص 169 - دار الساقي لندن ط 1 / 1997 وانظر: إلياس قويسم " إشكالية قراءة النص القرآني في الفكر العربي المعاصر، نصر حامد أبو زيد نموذجاً " بحث لنيل شهادة الدراسات المعمقة في الحضارة الإسلامية - جامعة الزيتونة - تونس 1420 هـ 1999 - 2000 م / ص 201.
(8) انظر: أركون " قضايا في تقد العقل الديني " ص 194.
(9) انظر: السابق ص 60.
(10) انظر: أركون " قضايا في نقد العقل الديني " ص 60 و ص 328، 318 .
(11) انظر: نصر حامد ابو زيد " الخطاب والتأويل " ص 227.
(12) انظر: أركون " مجلة رسالة الجهاد " عدد 40، ص 59، 60 نقلاً عن عبد الرازق هوماس " القراءة الجديدة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير " رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا - جامعة محمد الخامس - كلية الآداب والعلوم الإنسانية 1408 هـ 1987 - 1988 شعبة الدراسات الإسلامية.
(3 ) انظر : أركون " قضايا في نقد العقل الديني " ص 175 وانظر: أبو زيد " مفهوم النص " ص 16.
(4 ) أركون " قضايا في نقد العقل الديني " ص 174.
(5 ) انظر: أركون " نافذة على الإسلام " ص 170.
(6 ) انظر: عبد المجيد الشرفي " الإسلام بين الرسالة والتاريخ " ص 45.
(7 ) انظر: أركون " قضايا في نقد العقل الديني " ص 28.
(8 ) انظر: السابق ص 36.
(9 ) انظر: السابق ص 329.(13/343)
(20) نقلاً عن عبد الرزاق هوماس " القراءة الجديدة في ضوء ضوابط التفسير " " ص 169 ويحيل إلى مصدر لأركون باللغة الفرنسية.
(21) انظر : أركون " تاريخية الفكر " ص 217.
(22) انظر: رمضان بن رمضان " خصائص التعامل مع التراث الإسلامي عند محمد أركون من خلال كتابه قراءات في القرآن " ص 15، 16 والباحث تلميذ لأركون ويحيل إلى كتابات لأركون باللغة الفرنسية - جامعة تونس الأولى بمنوبة - 1991 م تونس - شهادة الكفاءة في البحث - قسم اللغة العربية - إشراف د. عبد المجيد الشرفي.
(23) انظر: رمضان بن رمضان " خصائص التعامل من التراث " ص 17.
(24) انظر: نصر حامد أبو زيد " مفهوم النص " ص 16.
(25) انظر: نصر حامد أبو زيد " مفهوم النص " ص 17.
(26) انظر: السابق ص 14.
(27) انظر: أركون " قضايا في نقد العقل الديني " ص 293.
(28) انظر: أركون " تاريخية الفكر العربي الإسلامي " ص 52.
(29) انظر: السابق ص 53.
(30) السابق ص 84.
(31) انظر : طيب تيزيني " النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة ص 167.
(32) انظر: محمد سعيد العشماوي " معالم الإسلام " ص 8 طبعة القاهرة 1989 وانظر للدكتور محمد عمارة " سقوط الغلو العلماني " ص 12.
(33) انظر: العشماوي " معالم الإسلام " 132 وانظر: د. عمارة " سقوط الغلو العلماني " ص 17.
(34) د. عبد الله خورشيد البري " القرآن وعلومه في مصر " ص 112 دار المعارف بمصر 1969 م .
(35) انظر: البري السابق ص 5، 108، 116، 117. وانظر د. عمارة " الإسلام بين التزوير والتنوير " ص 202.
(36) انظر: السابق ص 112، 113. وانظر: د. محمد عمارة " الإسلام بين التزوير والتنوير " ص 203.
(37) انظر: السابق 117 .
(38) انظر: السابق ص 121 .
(39) انظر: د. محمد أحمد خلف مقال في جريدة الأهرام 16 / 9 / 1987 صفحة الحوار القومي نقلاً عن فهمي هويدي في " المفترون " ص 170.
(40) نقلاً عن فهمي هويدي " السابق " ص 174، 180 .
(41) انظر: السابق ص 181 .
(42) السابق ص 182 والنصوص لخلف الله ينقلها عنه فهمي هويدي .
(43) انظر: د. طيب تيزيني " النص القرآني إما إشكالية البنية والقراءة " ص 113.
(44) انظر: د. محمد شحرور " الكتاب والقرآن - قراءة معاصرة " ص 555 فما بعد دار الأهالي - دمشق.
(45) انظر: جمال البنا " تثوير القرآن " ص 10، 11 - د، ط / د، ت دار الفكر الإسلامي - القاهرة.
(46) انظر: د. نصر حامد أبو زيد " مفهوم النص " ص 74.
(47) انظر: القمني " رب الزمان ": ص 187.
(48) انظر: السابق 206.
(49) انظر: نصر حامد " مفهوم النص " ص 72.
(50) انظر: " مفهوم النص " 71.
(51) انظر: القمني " رب الزمان " ص 206.
(52) القمني: " الحزب الهاشمي " ص 54 .
(53) السابق ص 151.
(54) السابق ص 132.
(55) السابق ص 151، 153.
(56) انظر: د. نصر حامد أبو زيد " الخطاب والتأويل " ص 135.
(57) انظر: د. نصر حامد أبو زيد " مفهوم النص " ص 72، 74 وأنور خلوف " القرآن بين التفسير والتأويل والمنطق العقلي " ص 122 دار حوران - الطبعة الأولى - سوريا 1997 وانظر: القمني " الحزب الهاشمي ص 116.
(58) انظر: سيد القمني " الحزب الهاشمي " ص 66.
(59) انظر: " السابق " ص 122، 124.
(60) انظر: السابق ص 117، 118.
------------------
التورخة التشطيرية والتورخة النسبية والتورخة الهدمية
يحرص الخطاب العلماني على الحديث عن إسلامات متعددة، وذلك ليمزق الإسلام تمزيقاً شديداً، لكي تسهل عملية تصفيته وتذريته في الرياح، ويُحمَّل الإسلام لتحقيق ذلك كل التجليات التاريخية للحياة الاجتماعية والسياسية التي مرت بها وتمر بها الأمة الإسلامية،
فتُحُدِّث عن الإسلام الرسمي المرتكز على سلطة الدولة المركزية والذي مارس بنظر العلمانيين دوره في التحريف والتزييف(1)، ويقصد أركون بالإسلام الرسمي أنه "نتاج الخيار السياسي الذي اتخذته الدولة أو النظام الحاكم الذي راح يصفي معارضيه جسدياً"(2)، وهو مصطلح استعاره الخطاب العلماني من نيكلسون كما هو واضح(3)
وهذا الإسلام السلطوي يسميه محمد أركون أحياناً الإسلام الأرثوذكسي(4)، وأحياناً الإسلام الكلاسيكي التقليدي(5)، وأحياناً الإسلام الأقنومي ويعني به أن المسلمين حولوا الإسلام إلى أقنوم ضخم ومضخم، قادر على كل شيء، ويؤثر في كل شيء، دون أن يتأثر بشيء، في حين أنه هو يريد الإسلام المعاصر الذي يخضع للتاريخية مثله مثل أي شيء على وجه الأرض(6). وأحياناً الإسلام الملاذ، أي إسلام الهروب من مواجهة المشاكل الملحة، إسلام التعذر والتعلل، إسلام الملاذ من الفشل، الإسلام الذي يبدو وحده كتعاليم إلهية قادراً على الحفاظ على التماسك الاجتماعي(7). وليس هو السلامة المعرفية والصحة الأبستمولوجية(8).
هذه الإسلامات المتعددة تقابل الإسلام المعاصر كما أشرنا أو الإسلام الدين ولكنه إسلام أركوني جديد(9).(13/344)
والخلاصة الأركونية أن "الإسلام فرض نفسه كدين مدعوماً بواسطة نجاح سياسي، إذن فهو حدث تاريخي بشكل كامل"(10)، وتشكل منه إسلام مثالي متعال وفوق تاريخي هو الدين الصحيح [بنظر أصحابه طبعاً] يُبطل ويلغي كل الإسلامات الأخرى، ولا يمكن هو نفسه أن يُلغى أو يُبطَل(11)، ولذا فإن "إدخال البعد التاريخي في التحليل سوف يضطرنا إلى التفريق بين الإسلام المثالي هذا، وبين الإسلام التاريخي"(12).
وهكذا فإن أركون يعتبر الإسلام الذي فهمته الأمة عبر تاريخها وتقبله الناس، وآمن به السواد الأعظم من البشر إسلاماً مثالياً خيالياً يختلف عن الإسلام الحقيقي [وليس هناك إسلام حقيقي في المنظور العلماني عموماً] ولذا فإن أركون يأخذ على عاتقه أن يكشف عن الإسلام بمفهوميه: الإسلام المعاش،وهو غير مطابق وغير صحيح، والإسلام غير المعاش وغير المفهوم وهو الخاضع للتحليل(13) [الأركوني طبعاً].
ومن الإسلامات العلمانية الأخرى: الإسلام الشعبي(14) الذي يقوم على الثقافة غير العالمة(15)، لأنه إسلام جمهور المسلمين وعامتهم(16)، وهذا النوع من الإسلام لا يتفق مع الإسلام المحمدي - بنظر الخطاب العلماني - إلا في الاسم، لأن لكل شعب مسلم عاداته وتقاليده وإسلامه الخاص(17)، وفيه مظاهر وثنية(18).
والإسلام النظري وهو النسق الفكري المتشعب والمتشظي الذي أنجزه جمع من المفكرين، ويستمد إمكاناته من الوضعية الاجتماعية المشخصة "الواقع"، وتشخص في بعض المنظومات المهمة مثل الاجتهاد والتأويل والقياس والتفسير والإجماع(19).
والإسلام الشخصي الفردي، ويسميه أركون الإسلام الثالث أو الفردي(20)، وهو قائم على الضمير الشخصي الحر، والممارسة الشخصية للإسلام(21). وتجلى في الممارسات الصوفية التي أفصحت عن نفسها في الطموح إلى العيش في علاقة مع الله [عز وجل] على نحو يلبي الحاجات الروحية المطلقة، وقد حاول الإجماع الذي هو في حقيقة الأمر إجماع فقهي نخبوي أن يحد من هذه الحرية الفردية(22).
والإسلام الإتني(23) وهو - كما يبدو لي - إسلام الشعوب المختلفة غير العربية الذي امتزج بعناصر من حضاراتها السابقة وعاداتها المختلفة(24)، وهو ما يعبر عنه آخرون بإضافة الإسلام إلى بلدانه، أو مذاهبه المختلفة لتكريس التجزئة، فيقال مثلاً: الإسلام الأندونيسي، والإسلام الباكستاني والإسلام العربي أو الإيراني والإسلام العراقي أو الشامي(25). والإسلام السني أو الشيعي(26). والإسلام الأشعري الرجعي المسيطر، بينما الإسلام الاعتزالي التقدمي مهمش(27). والإسلام التقدمي بنظر جاك بيرك هو الغاية والمطلب لأنه إسلام الديمومة(28)، ومعيار ذلك أن يتخلى الإسلام عن مفاهيمه وتصوراته ومبادئه، ويعتنق الرؤية الغربية لكي يصبح إسلاماً تقدمياً، فالشرط الجوهري للتقدم هو الإسلام أو الاستسلام، ولكن ليس لله عز وجل وإنما للغرب المهمين، أو النظام العالمي - أقصد الأمريكي - الجديد، للقطب الواحد(29).
رابعاً - التورخة النسبية
لقد قُطِّع الإسلام - كما رأينا - في دوامة المجزرة العلمانية إلى إسلامات كثيرة، ولا بد هنا من السؤال: هل يطرح العلمانيون مفهوماً جديداً للإسلام يضاف إلى الإسلامات التي رأيناها؟ أم يرتضون مفهوماً من بين تلك المفاهيم ؟ أم أن هناك خياراً آخر؟
إذا كان الإسلام بنظر أحد الباحثين فكرة مجردة(30)، وإذا كان الإسلام جاء وذهب بنظر باحث آخر(31)، ولا يمكن إعادته في بكارته النبوية الأولى عقيدة وتشريعاً وفقهاً(32). وكان في أساسه قاصراً على الأخلاق والقيم، ولم يكن فيه أي نظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي(33)، وكان رخواً مرناً جداً في التعامل مع الشعوب المفتوحة، فلم يطلب أكثر من إعلان الشهادة فقط، وليمارسوا عاداتهم ومعتقداتهم كما يريدون(34) فإن هذا يتيح لنا - أقصد للخطاب العلماني - أن نبحث عن إسلامٍ عصري مستنير مساير لروح العصر(35) فالإسلام لا يكون صحيحاً إلا إذا طرح بالمفهوم البرغسوني وذلك بجعله ديناً منفتحاً(36)، والتخلص من الفهم الحرفي للدين(37)، ولن يتم ذلك إلا إذا تمت إعادة النظر في الإسلام كلية من منظور تاريخي بحيث يصبح من الضروري أن نوفق بين الإسلام والفكر اللاديني(38)، وبحيث يمكن أن يصبح الإلحاد إيماناً، والإيمان إلحاداً، "فالإلحاد هو التجديد، وهو المعنى الأصلي للإيمان"(39).
وهذا يقتضي التخلص من المفاهيم السائدة عن الإسلام بأنه دين الحق، أو الحقيقة المطلقة، أو الدين القويم وأنه النسخة الأخيرة من الدين المقبول عند الله عز وجل(40).
كما أنه لم يعد يكفي لتعريف الإسلام أن نقول عنه: إنه "الدين الذي أتى به محمد"(41) r، لأن الإسلام ليس إلا "أحد التجليات التاريخية للظاهرة الدينية"(42) و"حقيقة الإسلام وهويته ليست شيئاً جاهزاً يُكتسب بصورة نهائية، وإنما هي مُركب يجري تشكيله وإعادة إنتاجه باستمرار، وهي تتنوع أو تتغير بتغير الظروف والشروط والمعطيات"(43).(13/345)
فـ"لا يوجد إذن إسلام (ما هوي) قائم في ذاته بصرف النظر عن أنماط تحققه في الـ(هنا) و(الآن)، لا يوجد إسلام جوهري حقيقي نموذجي، وإنما الإسلام هو ما طُبِّق في التاريخ"(44)، وهو ما يعني أنه "لا يوجد إسلام في ذاته، وإنما لكل واحد تصوره المختلف للإسلام، وطريقته الخاصة في أدائه وممارسته"(45) "لا يوجد إسلام أصولي صحيح يمكن استعادته وتطبيقه التطبيق الأفضل"(46). "ولأن التطبيق خيانة فإنه لا وجود لإسلام حقيقي أصولي يمكن العودة إليه، فالإسلام الحقيقي لم يوجد ولم يطبق لا في هذا الزمان ولا في صدر الإسلام، لأن حقيقة الإسلام هي محصلة تواريخه"(47).
ولأننا لا يمكننا اليوم أن نحدد ما هو الإسلام الصحيح ولا يوجد أي معيار لتحديد ذلك(48) فإن مفهوم الإسلام يجب أن يبقى منفتحاً مستعصياً على الإغلاق لكي يقبل الخضوع للتغير المستمر الذي يفرضه التاريخ، فالإسلام لا يكتمل أبداً، بل ينبغي إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ثقافي، وفي كل مرحلة تاريخية معينة(49).
وهذا هو معنى القراءة العلمانية للإسلام "أن لا نسلم بالمسلم به"(50)، وأن نطرح مفهوماً موضوعياً للإسلام يتجاوز الأطروحات الأيديولوجية(51)، ويخرج من الدائرة العقائدية المعيارية للإسلام الأرثوذكسي(52).
ولكن هذا لا يعني بنظر أركون - متفضلاً !!- أن نحذف كل إشارة إلى الإسلام(53)، وإن كان حسن حنفي يبخل علينا بهذا الفضل !! فيرفض حتى كلمة إسلام ويستبدلها بكلمة التحرر، لأن هذا اللفظ الأخير "يعبر عن مضمون الإسلام أكثر من اللفظ القديم"(54).
خامساً - التورخة الهدمية الاجتثاثية
كيف يتم الوصول إلى هذا التجديد العلماني بشكل جذري وثوري؟
النقد الإيديولوجي هو وسيلتنا للتخلص من فكر العصور الوسطى لكي "نودع نهائياً المطلقات جميعاً، ونكف عن الاعتقاد أن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا"(55). من أجل ذلك لا بد أولاً من انزياح هذه الأنظمة الكبرى المتمثلة في الأديان من دائرة التقديس والغيب، باتجاه الركائز والدعامات التي لا زال العلم الحديث يواصل اكتشافها(56).
وانزياح المقدس يعني أن نخترق المحرمات وننتهك الممنوعات السائدة أمس واليوم ونتمرد على الرقابة الاجتماعية(57) ونخترق أسوار اللامفكر فيه وندخل إلى المناطق المحرمة(58)، ونسعى إلى خلخلة الاعتقادات، وزحزحة القناعات، وزعزعة اليقينيات، والخروج من الأصول العقائدية(59)، وإعادة النظر في جميع العقائد الدينية عن طريق إعادة القراءة لما قدمه الخطاب الديني عامة(60)، ومراجعة كل المسلمات التراثية(61)، وطرد التاريخ التقليدي من منظومتنا الثقافية لأنه بناء عتيق تهاوت منه جوانب كثيرة، فوجب كنس الأنقاض قبل الشروع في البناء(62).
وتكريس القطيعة مع الماضي - كما فعل الغربيون - هو الحل وليس الإصلاح "لا أحد يتكلم أبداً عن التجديد بمعنى القطيعة والاستئناف، بل الجميع يدعو إلى الإصلاح والإحياء والعودة إلى حالة ماضية"(63) في حين المطلوب هو "اجتثاث الفكر السلفي من محيطنا الثقافي"(64) لأنه كان وسيبقى سبب التخلف(65) لأنه قائم على ثقافة ماضوية، لفظية، عقيمة اجترارية، انتهازية، نفعية، محافظة، رجعية، تقليدية... الخ(66). ولا يمكن أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي إذا لم تنهدم البنية التقليدية للذهن العربي، وتتغير كيفية النظر والفهم التي وجهت الذهن العربي وما تزال توجهه(67).
والوسيلة المجدية لذلك هي "هدم الأصل بالأصل نفسه" وإذا كان التغير يفترض هدماً للبنية التقليدية القديمة، فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي، وإنما يجب أن يكون بآلة من داخله، وإن هدم الأصل يجب أن يمارس بالأصل ذاته(68). هذه الآلة ما هي إلا التأويل الباطني الغنوصي الذي ينفي النبوة الإسلامية ويقيم على أنقاضها دين العقل(69).
-----------------------------------------------------
(1) انظر: د. طيب تيزيني " النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة " ص 163، 164 وانظر لأركون " تاريخية الفكر العربي الإسلامي " ص 146، 202، 206 و رمضان بن رمضان " خصائص التعامل مع التراث الإسلامي لدى محمد أركون من خلال كتابه " قراءات في القرآن " ص 17.
(2) انظر: د. أركون " الفكر الإسلامي نقد واجتهاد " ص 63 وانظر: " العواصم من قواصم العلمانية " ص 211.
(3) انظر: د. طيب تيزيني " النص القرآني " ص 344.(13/346)
(4) انظر: لأركون " القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني " ص 12 و " قضايا في نقد العقل الديني " ص 101 ولا حاجة للإحالة أكثر لأن هذه اللفظة تعتبر مصطلحاً يتميز به أركون عن غيره في كل كتاباته، وقد لاحظ ذلك عابد الجابري واعتبر مفردة الأرثوذكسية تميز أركون عنه أما هو الجابري فما يميزه مصطلحي " اللفظ والمعنى" أو " الأصل والفرع " انظر: الجابري " التراث والحداثة " ص 321. والأرثوذكسية في الأصل تعني الرأي المستقيم ولكن أركون لا يقصد بها أن هذا النوع من الإسلام هو الإسلام الصحيح، إذ لا يوجد عنده إسلام صحيح، وإنما يعني بالإسلام الأرثوذكسي وفي كل مكان ترد فيه مضافة إلى الإسلام أو الفكر الإسلامي يعني أنه إسلام مستقيم من وجهة نظر أصحابه، ولذلك يضعها بين قوسين، وهذا ما يوضحه مترجم أركون هاشم صالح انظر: " القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني " هامش المترجم ص 44 ويوضح هذا المعنى أيضاً تلميذ أركوني آخر بقوله: " مفهوم الأرثوذكسية الذي يعني في الاصطلاح، الرأي الدوغمائي أو العقائدي المتصلب والمتزمت الذي فرض نفسه بالقوة، بصفته الرأي الصيحيح أو المستقيم، أي لم يفرض نفسه عن طريق الإقناع والمحاجة والمناقشة المسبقة كما يحاول أن يوهمنا وينجح بسبب مرور الزمن المتطاول " انظر: خالد السعيداني " إشكالية القراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر " ص 231. ويوضح أركون نفسه مراده بإطلاق الأرثوذكسية على الإسلام أو الفكر الإسلامي فهو يعني بها المبادئ والمسلمات والبديهيات المشكلة للاعتقاد الديني التي لا يمكن التمرد عليها دون عقوبة، وبهذا المعنى فإن هناك أرثوذكسيات إسلامية تتفرع إلى أرثوذكسيات سنية أو شيعية فالسيادة الأرثوذكسية هي كل سلطة دينية تمنع كل محاولة نفاذ نقدية داخل الأطر المشكلة لمنظومتها الدينية، نظراً لأن إعادة القراءة يهدد ثبات مكانتها ومصالحها. انظر " لأركون " العلمنة والدين " دار الساقي ط 2 / 1993 ص 14 وانظر: إلياس قويسم " إشكالية قراءة النص القرآني في الفكر العربي المعاصر. نصر حامد أبو زيد نموذجاً " ص 104. وانظر: رمضان بن رمضان " خصائص التعامل مع التراث العربي الإسلامي لدى محمد أركون من خلال كتابه قراءات في القرآن " ص 35.
(5) انظر: لأركون " نافذة على الإسلام " ص 24، 172 و لعلي حرب " نقد النص " ص 127.
(6) انظر: لأركون " قضايا في نقد العقل الديني " ص 174، 175.
(7) انظر: لأركون " تاريخية الفكر العربي الإسلامي " ص 115، 116 وانظر: عبد الرزاق هوماس " القراءة الجديدة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير " ص 286.
(8) انظر: نصر حامد أبو زيد " الخطاب والتأويل " ص 108.
(9) انظر: أركون " تاريخية الفكر " ص 115، 116.
(10) د. أركون " الفكر الإسلامي قراءة علمية " ص 115.
(11) انظر: السابق ص 115.
(12) السابق: ص 115.
(13) انظر: السابق ص 116.
(14) انظر: د.طيب تيزيني " النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة " ص 147 وانظر: أركون " تاريخية الفكر " ص 180، 132، 202 وانظر: له " نافذة على الإسلام " ص 14، 106 وانظر: عبد المجيد الشرفي " لبنات " ص 77.
(15) انظر: د. طيب تيزيني " السابق " ص 162.
(16) انظر: السابق ص 141.
(17) انظر: د. تيزيني " السابق " ص 158، 159.
(18) انظر:د. عبد المجيد الشرفي " لبنات " 77.
(19) انظر: د.طيب تيزيني " النص القرآني " ص 166.
(20) انظر: السابق ص 169
(21) انظر: السابق ص 174.
(22) انظر: السابق ص 173، 174.
(23) انظر: د. تيزيني " السابق "ص 176 وانظر أركون " تاريخية الفكر " ص 180 حيث يستخدم مصطلح المجموعات الإتنية و الإثنية أو الإتنية: تأتي للدلالة على تصنيف عرقي ثقافي وهي مشتقة من الإثنولوجيا التي تعني علم الأجناس البشرية حيث يدرس هذا العلم القوانين العامة لتطور البشرية انظر: رابعة جلبي " ملحق من إعدادها تعرف فيه بعض المصطلحات " ملحق بكتاب " الإسلام والعصر " مشترك بين د. البوطي - تيزيني ص 239.
(24) انظر: د. تيزيني " السابق " 176.
(25) انظر: د. محمد أركون " قضايا في نقد العقل الديني " ص 230 وتلميذه خالد السعيداني " إشكالية القراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر نتاج محمد أركون نموذجاً " ص 79 بحث لنيل شهادة الدراسات المعمقة في الحضارة الإسلامية - جامعة الزيتونة - تونس - المعهد العالى لأصول الدين 1428 هـ 1997 م إشراف د. محمد محجوب وانظر: حسين أحمد أمين " حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية " ص 27، 197.
(26) انظر: د.جورج طرابيشي " إشكاليات العقل العربي " ص 13 وأصحاب هذه التفرقة في الأصل هم المستشرقون كما يشير طرابيشي.
(27) انظر: د. نصر حامد أبو زيد " النص السلطة الحقيقة " ص 14.
(28) انظر: جاك بيرك " القرآن وعلم القراءة " ص 131 ترجمة وتعليق منذر عياشي - دار التنوير - بيروت - مركز الإنماء الحضاري - حلب ط 1 / 1996 تقديم: د. محمود عكام.
(29) انظر: المصدر السابق هوامش المترجم منذر عياشي ص 131، 132.(13/347)
(30) انظر: د. زكي نجيب محمود " تجديد الفكر العربي " ص 68 يعني لا يمكن تحديد نموذج تطبيقي له في الواقع فيكون معياراً يرجع إليه.
(31) انظر: " الصادق النيهوم " صوت الناس، محنة ثقافة " ص 155.
(32) انظر: د. طيب تيزيني " الإسلام والعصر " ص 129، 130.
(33) انظر: د. طارق حجي " الثقافة أولاً وأخيراً " ص 20.
(34) انظر: عبد الهادي عبد الرحمن " سلطة النص " ص 41، 42.
(35) انظر: حسين أحمد أمين " حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة " ص 5 ونصر حامد أبو زيد " الخطاب والتأويل " ص 195، 197.
(36) انظر: د. عبد المجيد الشرفي " لبنات " ص 50 وانظر له أيضاً " الإسلام بين الرسالة والتاريخ " ص 47 يفرق برجسون بين الدين المغلق والدين المفتوح والأخلاق المغلقة والأخلاق المفتوحة انظر: مراد وهبة " المذهب في فلسفة برجسون " ص 92 ص 140، 142.
(37) والمقصود بالفهم الحرفي هو الفهم المستقر بين الأمة للإسلام والذي يدين به مليار مسلم ودانت به الأمة منذ أربعة عشر قرناً. والفهم الحرفي والحرفيين كلمة تتكرر كثيراً لدى العلمانيين.
(38) قال د. أركون ذلك في حوار مع إحدى المجلات الفرنسية انظر: عبد الرزاق هوماس " القراءة الجديدة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير " ص 171.
(39) انظر: د. حسن حنفي " التراث والتجديد " ص 67 طبعة القاهرة 1980 وطبعة بيروت - دار التنوير 1980- ص 53 وانظر: د. محمد عمارة " الإسلام بين التنوير والتزوير ص 196 وانظر: جورج طرابيشي " المثقفون العرب والتراث " ص 212 وانظر " التأويل في مصر في الفكر المعاصر " ص 326.
(40) انظر: د. أركون " القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني " ص 69 إن مثل هذه المفاهيم بنظر أركون جاءت في سياق تاريخي لتحقيق سيادة المؤمنين على غيرهم من الفئات الأخرى كاليهود والنصارى، لتأسيس مشروعية سلطوية للنبي والمؤمنين متميزة عن الفئات الأخرى، فهي إذن مفاهيم تاريخية مهمتها تحقيق مصالح مباشرة لفاعلين اجتماعيين " أي للمؤمنيين " انظر: " أركون " القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني " ص 70، 71.
(41) انظر: د. أركون " الفكر الإسلامي قراءة علمية " ص 114.
(42) انظر: د. أركون " قضايا في نقد العقل الديني " ص 39.
(43) انظر: علي حرب " نقد النص " ص 155.
(44) انظر: علي حرب " نقد النص " ص 153.
(45) انظر: السابق ص 158.
(46) انظر " علي حرب " الممنوع الممتنع في نقد الذات المفكرة " ص 28.
(47) انظر: السابق ص 28.
(48) انظر لأركون " تاريخية الفكر العربي الإسلامي " ص 146 وانظر عبد الرزاق هوماس " القراءة الجديدة " ص 84.
(49) انظر: خالد السعيداني " إشكالية القراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، نتاج محمد أركون نموذجاً " ص 56 ورمضان بن رمضان " خصائص التعامل مع التراث العربي الإسلامي لدى محمد أركون في كتابه قراءات في القرآن " ص 16.
(50) علي حرب " نقد الحقيقة " ص 58.
(51) انظر: د. نصر حامد أبو زيد " مفهوم النص " ص 20.
(52) انظر: لأركون " تاريخية الفكر " ص 217.
(53) انظر: السابق ص 217.
(54) انظر: د. حسن حنفي " التراث والتجديد " ص 99.
(55) د. عبد الله العروي " الإيديولوجيا العربية المعاصرة " ص 16 وانظر: مبروكة الشريف جبريل " الخطاب النقدي في المشروع النهضوي العربي العروي والجابري نموذجاً " ص 41.
(56) انظر: أركون " تاريخية الفكر " ص 26.
(57) انظر: خالد السعيداني " إشكالية القراءة " 125.
(58) انظر: د. نصر حامد أبو زيد " الخطاب والتأويل " ص 116 والحديث عند نصر حامد عن أركون وانظر ص 235.
(59) انظر: علي حرب " نقد النص " ص 72، 143، 144.
(60) انظر: د. أركون " القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني " ص 6.
(61) انظر: د. نصر حامد أبو زيد " الخطاب والتأويل " ص 228.
(62) انظر: د. عبد الله العروي " مجمل تاريخ المغرب " ص 25 نقلاً عن مبروكة الشريف " الخطاب النقدي " ص 133.
(63) د. العروي " الإيديولوجيا العربية المعاصرة " ص 104 وانظر: مبروكة الشريف " الخطاب النقدي " ص 115.
(64) د. العروي " العرب والفكر التاريخي " ص 225 وانظر" مبروكة الشريف ص 101.
(65) انظر: السابق ص 223.
(66) انظر: د. " مبروكة الشريف " الخطاب النقدي " ص 53 وهي كلمات متفرقة في خطاب عبد الله العروي تحصيها الباحثة.
(67) انظر: أدونيس " علي أحمد سعيد " الثابت والتحول " 1 / 32، 33 دار العودة - بيروت 1974.
(68) انظر: السابق 1 / 33 وانظر نصر حامد " إشكالية القراءة " آليات التأويل " ص 232.
(69) انظر: أدونيس " الثابت والتحول " 2 / 209 - ط 4 / 1986 - دار العودة - بيروت.
---------------
ترويج الإسلام العلماني الجديد
لا أعتقد أننا بحاجة إلى التذكير بأن ما يتحكم بالموقف العلماني الذي عرضناه آنفاً بشكل مكثف هو معيار مادي فلسفي غربي اعترف العلمانيون بذلك أم لم يعترفوا، وأن الخلفية الإلحادية أو الشكية أو اللاأدرية هي التي يستبطنها أغلب العلمانيين في تناولهم للإسلام.(13/348)
وأنه حتى الذين لم يصرحوا برفض الإسلام، ولم يجاهروا بإلحادهم وتحدثوا عن إمكانية وجود ما للإسلام، فإن الإسلام الذي يتحدثون عنه، ليس هو الإسلام الذي أنزله الله عز وجل على صلى الله عليه وسلم وقال عنه {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}(1). {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}(2).
وإنما إسلام جديد يخترعونه منفتح - كما رأينا - وغير مغلق، وغير مكتمل، بعكس ما أراده الباري عز وجل: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا}(3). إنه امتداد لما سمي بدين العقل أو الدين الطبيعي كما طرحه فلاسفة النهضة الأوربيين واستعاضوا به عن المسيحية، وهكذا يسلك العلمانيون العرب درب أساتذتهم فيما يخص علاقتهم بالإسلام، فالإسلام الجديد العصري المستنير ليس من الضروري أن يقوم على خمسة أركان هي «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً».
فالشهادتان في الدين العلماني الجديد ليس لهما مدلول إيماني لأنه "في حقيقة الأمر وطبقاً لمقتضيات العصر لا تعني الشهادة التلفظ بهما أو كتابتهما، إنما تعني الشهادة على العصر... ليست الشهادتان إذن إعلاناً لفظياً عن الألوهية والنبوة، بل الشهادة النظرية والشهادة العملية على قضايا العصر وحوادث التاريخ"(4).
أما الجزء الثاني من الشهادة فليس من الإسلام لأنه أضيف إلى الأذان فيما بعد إذ كان الإسلام في البداية دعوة إلى لقاء لكل الأديان(5).
- والصلاة مسألة شخصية(6)، وليست واجبة(7)، وفرضت أصلاً لتليين عريكة العربي، وتعويده على الطاعة للقائد(8)، وتغني عنها رياضة اليوغا وهو ما غفل عنه الفقهاء(9)
- والزكاة أيضاً ليست واجبة وإنما هي اختيارية(10)، كما أنها لا تؤدي الغرض لأنها تراعي معهود العرب في حياتهم التي كانوا عليها "فهي تمس الثروات الصغيرة والمتوسطة أكثر مما تمس الثروات الضخمة... ولم توضع للحد من الثروات الكبيرة القائمة على الربح المرتفع، فهذه لم تكن معهود العرب زمن النبوة... ولذلك فالزكاة وحدها لا يمكن أن تنال شيئاً من الفوارق الطبقية الكبيرة لأنها وضعت أصلاً لمجتمع ليس فيه مثل هذه الفوارق الطبقية الكبيرة"(11). إن الزكاة مقدمة يحثنا فيها الإسلام على الوصول إلى الشيوعية المطلقة(12).
- والصوم كذلك ليس فرضاً وإنما هو للتخيير(13)، وهو مفروض على العربي فقط، لأنه مشروط بالبيئة العربية ولذلك فالصوم بالنسبة للمسلم غير العربي مجرد دلالة وعبرة دينية(14). بل إن الصوم يحرم على المسلمين في العصر الحاضر لأنه يقلل الإنتاج(15).
- أما الحج كذلك فهو من الطقوس الوثنية الميثية العربية القديمة التي أقرها الإسلام مراعاة لحال العرب(16) وما هو إلا تعبير عن الحنين إلى أسطورة العود الأبدي(17)، وإعادة إحياء لتلك التجربة الجنسية الدينية المقدسة التي تمت بين آدم وحواء، والحج العربي العاري في الجاهلية يؤكد المشاركة في الجنس بين الألوهية والبشر(18). كما أن تحويل القبلة والحج تعبير عن الرغبة في تعريب الإسلام وتأكيد عروبيته(19). وليس من الضروري أن يقام بطقوسه المعروفة إذ يغني عنه الحج العقلي أو الحج الروحي(20).
وهكذا تُميَّع كل الشعائر الإسلامية وتعتبر طقوساً وثنية تحدرت إلى القرآن من البيئات والأمم السابقة والجاهلية(21)، وقد مارس الفقهاء دورهم في تقنينها(22) بعكس الرسالة التي تميزت في هذا الشأن بمرونة ولكن الفقهاء ألغو هذه المرونة(23). إن تحقيق الإسلام لمهمته الروحية قد يحصل دون أن تؤدى الطقوس والشعائر بالضرورة(24) فقد أصبحت المساجد أوكار الإرهاب(25)، وبرزت معالم التخلف ومظاهره في تنامي التدين الشخصي كما هو واضح في صفوف المصلين، والحجاب واللحى(26).
إن علامات الاستسلام تتجلى في ممارسة الشخص للصلاة والزكاة وهما عملان يقدمهما القرآن على أساس أنهما محض دينيين، ولكن لا يغيب عن أنظارنا أن لهما وظيفة حاسمة من حيث الدمج الاجتماعي والسياسي للفرد، ولهما وظيفة في كسر العصبيات والتضامنات التقليدية(27)، ونحن اليوم مدعوون لإعادة النظر في الفرائض والعبادات وسؤال أهل الخبرة والاختصاص عن فوائد الصيام وأضراره اقتصادياً وصحياً(28).
وهكذا يُطمس الإسلام الرباني الذي أُرسل بهمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويبرز الإسلام العلماني المخترع بأركانه الجديدة العصرية المفتوحة، والقابلة لكل الأفهام والتأويلات، والتي لم تتوقف عند هذا الحد، لأنه لا حدود يمكن الوقوف عندها في الخطاب العلماني.
ثانياً: الإيمان العلماني الجديد(13/349)
والإيمان أيضاً ليس هو الإيمان المحمدي الذي يقوم على ستة أركان «الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره» وإنما "هناك تغيُّر جذري في المفهوم الإيماني نفسه، وفي وسائل تحققه اليقينية، ليست القضية الآن في السجود لصنم أو اتخاذ أرباب أو ممارسة علاقات فلكية أو أبراجية معينة … المشكلة الإيمانية الآن في توجه الإنسان كلياُ نحو الاتحاد بالطبيعة عبر منهجية العلم بديلاً عن التوجه إلى الله كونياً عبر منهجية الخلق … فالإيمان في عصرنا يعني الانتقال إلى إدراك عميق لمنهجية الخلق والتكوين كما يوضحها الله في القرآن، وهي مرحلة إيمانية لم يصلها من قبل إلا من الذين اصطفاهم الله"(29).
وأصبحت الحداثة تفرق بين إيمان جديد وإيمان تقليدي فالإيمان الحديث "يقبل إعادة النظر حتى في الأصول الأولى من أجل انتهاكها وإعادتها إلى المشروطيات المشتركة للجدلية الاجتماعية، وهو ما ندعوه بأرخنة الأصول الأولى للأديان التوحيدية، أي الكشف عن تاريخيتها المحجوبة أو المغطاة بستار كثيف من التقديس والتعالي"(30).
إن الإيمان بالمعنى الحديث يقبل حتى فكرة موت الله وغياب الله عن العالم، وإن كانت هذه الفكرة تصدم الشرائح الكبيرة المؤمنة بالمعنى التقليدي(31). وبناءً على هذا المفهوم الجديد للإيمان الأركوني فإن كل الذين اعتُبروا ملحدين في التاريخ الإسلامي أو الغربي يمكن اعتبارهم مؤمنين لأنهم لهم إيمانهم الخاص، وهم لا يمكن أن يخرجوا عن الإسلام وإنما عن فهم ضيق قسري له، وقد كانت لهم طقوسهم وشعائرهم الخاصة(32).
ومن هنا يكفي أن يتحقق في الإيمان المعاصر عند طائفة من العلمانيين ركنان فقط هما الإيمان بالله واليوم الآخر(33)، وعند آخرين "الإيمان بالله والاستقامة"(34)، والقصد من ذلك هو إدخال النصارى واليهود في مفهوم الإيمان والإسلام، واعتبارهم ناجين يوم القيامة، ويُستدل لذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(35) (36).
وعند طائفة ثالثة يُفتح المجال للكونفوشيوسية، والبوذية وكل الأديان الوضعية للدخول في سفينة النجاة العلمانية(37)، لأنه يعسر على المؤمن في عالم اليوم أن يهمل التحديات التي تمثلها الأديان الأخرى المخالفة لدينه الموروث، فليس من الحكمة الإلهية أن أحكم أنا المسلم على ثلاثة أرباع البشرية من معاصري غير المسلمين بالذهاب إلى الجحيم، وبالتالي أليست الحقيقة التي أؤمن بها نسبية؟!(38).
وهكذا بالتوازي مع تغير مفهوم الإيمان يتغير معه مفهوم الإلحاد أو الشرك فكما أصبح الإلحاد عند نيتشة وماركس وفيورباخ نظرية للتحرير(39) يصبح كذلك عند المفكرين العرب "الإلحاد هو التجديد لأنه يطابق الواقع ووعي بالحاضر ودرء للأخطار ومرونة في الفكر … إن الإلحاد هو المعنى الأصلي للإيمان لا المعنى المضاد، والإيمان هو المعنى الذي توارده العرف حتى أصبح بعيداً للغاية عن المعنى الأصلي، إن لم يكن فقداً له … لأن الإيمان تغطية وتعمية عن شيءٍ آخر مخالف لمضمون الإيمان، والإلحاد هو كشف القناع وفضح النفاق"(40). والشرك بالله عز وجل لم يعد هو التوجه بالعبادة إلى غير الله عز وجل، وإنما أصبح يعني الثبات في هذا الكون المتحرك، وعدم التطور بما يتناسب مع الشروط الموضوعية المتطورة دائماً، فالتخلف شرك والتقدم توحيد(41).
إن التوحيد هو توحيد الأمة والفكر وليس توحيد الآلهة {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}(42) (43).
ولكن لا يجب أن نفهم أن الله عز وجل في الإيمان الجديد هو الله الذي يؤمن به المسلمون والموصوف في القرآن الكريم بكل صفات الكمال وإنما الله يعني الإنسان، وصفاته جميعها حتى صفة الوجود تعني الوجود الإنساني(44). الله الجديد [سبحانه وتعالى] هو: الدافع الحيوي، التقدم، الحرية، الطبيعة، الخبز، الحب(45) أو هو الأمل بالعدالة والحرية والمساواة(46).
كذلك لا يجب أن نفهم أن اليوم الآخر في الدين العلماني الجديد هو نفسه الذي تؤمن به الأمة فإن الغيبيات عموماً كالعرش والكرسي والملائكة والجن والشياطين والصراط والسجلات وغير ذلك ليست إلا تصورات أسطورية(47). وإن فكرة اليوم الآخر في أساسها نشأت في منظور بعض العلمانيين مع عبادة الشمس لدى المصريين، ونشأت فكرة الخلود مع الدين الرسمي أو دين الدولة(48) أي أن العالم الآخر أسطورة ولدها الكهنة ليسيطروا على الناس ويحكموهم(49).
والكتب المقدسة بما فيها القرآن تنكر العالم الغيبي لأن الغيب في القرآن هو المستقبل فهو الوحيد الغائب، وأصبح من الممكن أن يُوصَل إليه بقليل من المنطق والحساب(50). إن عالم الغيب الجديد لم يعد رهناً بما يقوله الكهنة، ولم يعد خارجاً عن سنن الطبيعة، وصار قابلاً للتفسير العلمي(51).(13/350)
إن البعث ليس في السماء، إنه في المستقبل على الأرض، ولا يحتاج إلى دليل مشاهد ملموس، إن الدين لا يتحدث عن الموتى ولا يُكلم الناس الحاضرين عن عالم غير حاضر(52).
البعث الذي يريده القرآن و صلى الله عليه وسلم ليس هو البعث بعد الموت، وإنما هو البعث من عالم الطفولة والتخلف إلى عالم التقدم والوعي، البعث من الحياة الغريزية الطفولية الغائبة في ظلام الوعي إلى عالم العقل الحاضر في ضوء الصحوة واليقين. إن العرب أساءوا الفهم فحولوا الجدال إلى عالم الأموات، وتحدوا الرسول لكي يحيي أمامهم رجلاً ميتاً، ولو كان الرسو صلى الله عليه وسلم يريد من العرب أن يؤمنوا بالبعث بعد الموت فقط لقبل هذا التحدي وسكت، لكن الرسول كان يدعو العرب إلى الإيمان بالبعث في هذه الحياة، بإعادة الوعي إلى جيل غائب عن عالم الوعي(53).
إن المرء لكي يكون مسلماً لا يحتاج إلى الإيمان بالجن والملائكة، فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل(54). ولا يحتاج للفرائض الشعائرية أو القبول الساذج للحياة الآخرة(55).
"قد لا يكون البعث واقعة مادية تتحرك فيها الجبال وتخرج لها الأجساد بل يكون البعث هو بعث الحزب وبعث الأمة وبعث الروح فهو واقعة شعورية تمثل لحظة اليقظة في الحياة في مقابل لحظة الموت والسكون"(56) "إن أمور المعاد في نهاية الأمر ما هي إلا عالم بالتمني عندما يعجز الإنسان عن عيشه بالفعل في عالم يحكمه القانون ويسوده العدل، لذلك تظهر باستمرار في فترات الاضطهاد وفي لحظات العجز وحين يسود الظلم ويعم القهر كتعويض عن عالم مثالي يأخذ فيه الإنسان حقه... أمور المعاد في أحسن الأحوال تصوير فني يقوم به الخيال تعويضاً عن حرمان في الخبز أو الحرية، في القوت أو الكرامة.." (57)
إن "الجنة والنار هما النعيم والعذاب في هذه الدنيا وليس في عالم آخر يحشر فيه الإنسان بعد الموت، الدنيا هي الأرض، والعالم الآخر هو الأرض، الجنة ما يصيب الإنسان من خير في الدنيا، والنار ما يصيب الإنسان من شر فيها"(58)، "أمور المعاد هي الدراسات المستقبلية بلغة العصر والكشف عن نتائج المستقبل ابتداء من حسابات الحاضر"(59). أما الحور العين والملذات فهي تعبير عن الفن والحياة بدون قلق(60) وأما الوطء فهو تعبير عن عقلية ذكورية جامحة إلى السيطرة(61).
إذا كان العلمانيون حريصون فعلاً على نهضة الأمة وتقدمها ورقيها كما يعلنون وليس على مصالحهم الشخصية من شهرة ومجد ونجومية، فهل يعتقدون حقاً أن أطروحاتهم العجيبة والغريبة بشأن الإسلام والقرآن - كما رأينا - ستحقق هذه النهضة وهذا التقدم والرقي؟
وهل وقف الإسلام "القرآني" وليس العلماني في تاريخه عائقاً أمام ازدهار الأمة، وازدهار حضارتها وثقافتها ومجتمعاتها؟ حتى يحتاج الإسلام إلى مسخ أو طمس أو تشويه؟ أم أن الإنسان هو الذي يحتاج إلى إصلاح وتمثل حقيقي لدين الله عز وجل، وتفاعل حقيقي مع كلمات الله جل وعلا؟ ألا يشعر العلمانيون أنهم يتلاعبون بالعقول ويعبثون بالفكر، وأن هذا التلاعب والعبث إذا انطلى على فئة من الناس أو جيل من الأجيال، فإن الزيف لا بد أن يظهر، والخداع لا بد أن ينكشف؟
أي مسلم يمكنه أن يقبل هذا المسخ والتشويه للإسلام باسم الإسلام، بل أي عاقل حتى ولو لم يكن مسلما يمكنه أن يقتنع بأن هذه الأفهام التي تُطرح، والأفكار التي تُعرض موصولة بالإسلام، ومستندةً على نصوصه؟ إن الإسلام بطبيعته وتكوينه لا يقبل العبث، وهذا ما لاحظه المستشرقون لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم كمثل المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، إنه واضح ليس فيه غموض ويسر ليس فيه عسر، ورحب ليس فيه حرج، وهذا مكمن قوته، وسر خلوده، ومظهر عالميته وشموليته، وسبب انتشاره وإقبال الناس عليه.
إن تضييع الوقت في تأويل الإسلام وتحريفه لن يجدي شيئاً، وسوف يزيد من مآسي الأمة وتأخر نهضتها، وخيرٌ منه أن نتوجه إلى العمل الصالح والبناء المثمر، لأن أمتنا ليست بحاجة إلى هدم، فليس لدينا ما يهدم، إن لدينا قواعد متينة، وأعمدة راسخة، وحصون منيعة، وتحتاج إلى بناء وبناءين، وأدوات وعاملين، أكثر من حاجتها إلى خطط ومشاريع ومهندسين.
إن مصيبة الأمة ومآسيها منذ قرون طويلة لا تتمثل في النصوص وإنما في اللصوص، إنهم الحكام الذين يحولون بينها وبين أي تقدم أو نهوض، لأن ذلك يُفوِّت عليهم كل ألوان الابتزاز والامتصاص والفرعنة التي يمارسونها، والاستبداد الذي يقارفونه.(13/351)
لا يوجد من هؤلاء من يفكر بمستقبل الأمة أو بحاضرها، بل يوجد من يفكر بنفسه، وعرشه وولي عهده، لا يوجد من يفكر بتهيئة وسائل القوة والتمكن، ولا يوجد من يفكر بتهيئة وسائل العيش الكريم للناس، ولا يوجد من يفكر بالعلم والصناعة والاختراع والابتكار، ولا يوجد من يفكر بحراسة العدل والأمن والحق وتوفير ذلك لكل الناس، وحماية المجتمع من الفساد الخلقي والانحلال الاجتماعي والرشوة والظلم والفقر والمرض، ومن هنا فنحن لسنا بحاجة إلى المشاريع العلمانية التي تطمس الإسلام، لأنه لم يكن عقبة في وجه التقدم، بل إننا بحاجة إلى ثورة إسلامية تعيد الإسلام إلى مقر القيادة والفاعلية، وتزيح عن طريقة اللصوص والفراعنة والمنافقين، ليمارس دوره في ازدهار الأمة وحضارتها كما فعل ذلك من قبل.
-------------------------------------------------------
(1) سورة آل عمران آية 19.
(2) سورة آل عمران آية 85.
(3) سورة المائدة آية 3.
(4) انظر: د.حسن حنفي "من العقيدة إلى الثورة" 1/17 وانظر: أبو طالب حسنين "التأويل في مصر" ص 339.
(5) انظر: الصادق النيهوم "صوت الناس، محنة ثقافة مزورة" ص 25.
(6) انظر: عبد الرزاق هوماس "القراءة الجديدة" ص 129، 169 ينقل عن أركون في مصدر أجنبي له.
(7) انظر:د. عبد المجيد الشرفي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" ص 63.
(8) انظر: د. عبد الهادي عبد الرحمن "سلطة النص" ص 110، 111.
(9) انظر: الصادق النيهوم "الإسلام في الأسر" ص 127، 134.
(10) انظر: د. عبد المجيد الشرفي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" ص 63 وانظر: العشماوي "جوهر الإسلام" ص 7، 8 79، 80.
(11) د. الجابري "وجهة نظر" ص 150 - 151.
(12) انظر: محمد محمود طه "الرسالة الثانية" ص 155، 164.
(13) انظر: د. الشرفي "لبنات" ص 173 فما بعد وانظر للشرفي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" ص63، 64.
(14) انظر: د. عبد الهادي عبد الرحمن "سلطة النص" ص 109.
(15) هذا ما أعلنه الرئيس التونسي الأسبق "بورقيبة" وألزم به الشعب التونسي انظر "تونس الإسلام الجريح" لمحمد الهادي مصطفى الزمزمي ص 48، 49 نقلاً عن الدكتور القرضاوي "التطرف العلماني في مواجهة الإسلام" ص 144.
(16) انظر: د. الشرفي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" ص 65 وانظر: طيب تيزيني "النص القرآني" ص 154، 155 وانظر: تركي علي الربيعو "العنف والمقدس والجنس" ص 89.
(17) انظر: الربيعو "العنف والمقدس والجنس" ص 89.
(18) انظر: الربيعو "السابق" ص 89 وانظر: القمني "الأسطورة والتراث" ص 165.
(19) انظر: عبد الهادي عبد الرحمن "سلطة النص" ص 106.
(20) انظر: أركون "مجلة الكرمل" العدد 34/1989 جزء 1 ص 23 فصيلة تصدر عن الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين مؤسسة بيسان للصحافة والنشر والتوزيع - قبرص - وانظر: خالد السعيداني "إشكالية القراءة" ص 37 وانظر: رمضان بن رمضان "خصائص التراث" ص 108، 109، 124 يعتبر أركون الحج العقلي ينتمي إلى القرآن الكريم أو على حد تعبيره إلى "الحدث القرآني" أما الحج الشرعي فينتمي إلى تأطيرات الفقهاء المغلقة الأرثوذكسية أو ما يسميه "الحدث الإسلامي" وهو يستعير المصطلح من التوحيدي الذي ألف كتاباً بعنوان "الحج العقلي إذ ضاق الفضاء عن الحج الشرعي" كما يذكر أركون نفسه. راجع "المصادر السابقة".
(21) انظر: طيب تيزيني "النص القرآني" ص 154، 155.
(22) انظر: أركون "تاريخية الفكر" ص 81.
(23) انظر: الشرفي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" ص 121.
(24) انظر: أركون "قضايا في نقد العقل الديني" 36.
(25) انظر: "الفاشيون والوطن" ص 200.
(26) انظر: العظمة "العلمانية تحت المجهر" ص 181.
(27) انظر: أركون "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني" ص 17.
(28) انظر: حسين أحمد أمين "الاجتهاد في الإسلام" ص 23 نقلاً عن د. عمارة "الإسلام بين التزوير والتنوير" ص 218.
(29) انظر: أبو القاسم حاج حمد "العالمية الإسلامية الثانية" 2/497، 498 وانظر: "البعد الزماني والمكاني وأثرهما في التعامل مع النص البشري" 116
(30) انظر: أركون "من القرآن إلى التفسير الموروث" ص 83، 84.
(31) أركون "قضايا في نقد العقل الديني" ص 207. يميز أركون أيضاً بين ثلاثة أنواع من الإيمان: الإيمان التقليدي البسيط والإيمان الواعي التاريخي، والإيمان الأسطوري العاطفي، أو الإيمان الحق والإيمان الباطل الزائف انظر: أركون "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي" 50 - 51.
(32) انظر: أركون "مجلة الكرمل" ص 39 عدد 34/1989 م.. وانظر: "من فيصل التفرقة إلى فصل المقال"، ص 9.
(33) انظر: محمد شحرور "نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي" ص 31 والدكتور حامد طاهر يكرر ذلك كثيراً في كلية دار العلوم.
(34) انظر: العشماوي "جوهر الإسلام" ص 109، 121.
(35) سورة البقرة آية 62.
(36) انظر: السابق ص 127 ووله: "أصول الشريعة" ص 100.
(37) انظر: د. أركون "نافذة على الإسلام" ص 60 وله أيضاً "الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد" ص 84.
(38) انظر: د. عبد المجيد الشرفي "لبنات" ص 101.(13/352)
(39) انظر: كوليز "الله في الفلسفة الحديثة" ص 333، 334.
(40) د. حسن حنفي "التراث التجديد" ص 54.
(41) انظر: د. شحرور "الكتاب والقرآن" ص 496 وانظر: الشيخ عبد الرحمن حنبكة الميداني و"التحريف المعاصر في الدين" ص 202.
(42) سورة ص آية 5.
(43) انظر: د. حسن حنفي "حوار المشرق والمغرب" ص 54 - 57 والاستشهاد بالآية منه طبعاً.
(44) انظر: د. حسن حنفي "من العقيدة إلى الثورة" 2/92 - 93، 112 -113. "الصفات في الإنسان على الحقيقة وفي الله على المجاز" 2/602 وانظر 2/604 2/112 - 113، 114، 630 أما أن تكون الصفات في الله على الحقيقة وفي الإنسان على الحقيقة فهو مستحيل بنظر د. حنفي. انظر: السابق 2/601 وانظر: التأويل في مصر ص 347 فما بعد.
(45) انظر: حسن حنفي "حوار المشرق والمغرب" ص 72،
(46) انظر: أركون "قضايا في نقد العقل الديني" ص 282 وانظر: نوال السعداوي "المرأة والدين والأخلاق" ص 50.
(47) انظر: نصر حامد أبو زيد "النص، السلطة، الحقيقة" ص 135.
(48) انظر: مراد وهبة "ملاك الحقيقة" ص 299.
(49) انظر: الصادق النيهوم "الإسلام في الأسر" ص 82.
(50) انظر: السابق ص 81.
(51) انظر: السابق ص 82.
(52) انظر: السابق نفسه.
(53) انظر: النيهوم "السابق" ص 106، 107.
(54) انظر: حنفي "في فكرنا المعاصر" ص 93.
(55) انظر: أركون ص 81.
(56) د. حنفي "من العقيدة إلى الثورة" 4/508.وانظر أبو طالب حسنين "التأويل في مصر" ص 374.
(57) د. حنفي "من العقيدة إلى الثورة" 4/600.
(58) د. حنفي "من العقيدة إلى الثورة" 4/601.
(59) د. حنفي "من العقيدة إلى الثورة" 4/605.
(60) انظر: تركي علي الربيعو "العنف والمقدس والجنس" ص 140 - 141.
(61) انظر: السابق ص 132، 138.
=============(13/353)
(13/354)
لماذا يتدخل العلمانيون في أحكام الإسلام وشئون المسلمين؟
جواب:
يتدخل العلمانيون في أحكام الإسلام وشئون المسلمين , لهذه الامور :
1- عدم الأخذ بالإسلام كدين يمارس على أرض الواقع وعدم الأخذ بالإسلام دين ودولة .
2- تمييع مجتمعاتنا الاسلامية وجعلها مجتمعات بدون اسس وقيم واصول ثابتة وبالتالي حرمانها من الفكر الاسلامي الذي هو اساس النهضة والتقدم والقوة .
3- العلمانية هي نظرة مادية للإنسان والمجتمع والكون تستبعد الدين من ذلك , وبالتالي حرمان المجتمع من القوة الايمانية والروحية التي هي اكبر حوافز البذل والعطاء والتعاون والمثابرة والتكافل .
4- حصر الدين في المسجد وتقزيم للإسلام إن لم يكن القضاء عليه حتى لا يبقى للإنسان من وجود وهو يشاهد الكثير من الأخطاء والفساد والمآسي تحيط حوله دون أن يؤثر في ذلك ، من حيث مقاومة الظلم والتأكيد على العدل والمساواة والوقوف في وجه الفساد في الدولة والمجتمع .
5- رغبتهم بعدم الالتزام لأن الالتزام سوف يقف ضد الكثير من رغباتهم وشهواتهم غير المشروعة .
6- العمالة والتبعية للغرب السياسي والفكري والتشريعي والاستعماري .
7- زيادة أزمات المجتمعات الإسلامية .
8- تمييع النظام والفكر والفقه الاسلامي السياسي والاقتصادي والاجتماعي حتى يعيش المسلمون كأنهم غرباء في مجتمعاتهم , وايجاد الازدواجية والتعارض والتناقض في المعايير والنظم.
9-إبعاد أثر الدين عن الحياة السياسية ، وإضعاف أثر الدين في مقاومة الاستعمار السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي ، قوى تستند للدين كمرجعية في مقاومة الاستعمار .
10- نشر المحرمات الفواحش في المجتمعات الاسلامية , كمنع الحجاب, او منع المتحجبات من التعليم الجامعي .
11- تعطيل عدد من الأحكام التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتي أمرنا باتباعها . مثل احكام الحدود وخاصة الردة , وربما حتى السماح بان يكون رئيس الدولة الاسلامية كافرا - غير مسلم - , ووضع احكام بديلة تسمح باعلان الكفر والارتداد وتسمح بالربا والزنا وشرب الخمر ...الخ .
12- فصل الترابط المهم بين الفكر والممارسة وبين العقيدة والسلوك .
13- إبعاد أثر الدين عن الحياة الفكرية ، ووضع الافكار والمذاهب والفلسفات الغربية من ليبرالية وديمقراطية والحريات المطلقة وغير المقيدة بقيود الشريعة , حتى يعم الفساد الفكري والاخلاقي وينتشر الاحتكار والاستغلال وتغليب المصلحة والمنفعة الشخصية الفردية على مصلحة الجماعة , مما يسبب التنافر والتشاحن بين افراد االمجتمع .
مما سبق يتبين ويتأكد لنا ما يلي من الحقائق :
1- ان الدعاة الى العلمانية هم دعاة الى الردة والكفر والفساد والتمييع والضعف .
2- ان الدعاة الى العلمانية هم عملاء للغرب بمعنى الكلمة .
3- لا يمكن ان تنجح او تسيطر العلمانية وافكارها في المجتمعات العربية والإسلامية .
4- لا يمكن للعلمانية ان تحل مشاكلنا بل ستزيدها تعقيداً .
5- الدعوة الى العلمانية دعوة الى تجارة وتعاطي المخدرات ، وانتشار الأمراض الجنسية أبرزها الأيدز ، والاكثار من الاغتصاب ومن عمليات الإجهاض المحرمة ، والاكثار من الأطفال غير الشرعيين وابناء الحرام واللقطاء ، والعمل على التفكك والعنف الاجتماعي ، وانتشار السرقات ، والنصب ، والاحتيال ، والقتل إلى غيره من المشاكل الاجتماعية .
التوصيات :
1- يجب محاربة العلمانية والعلمانيين وكل من يدعو اليها او الى اي فكرة فيها .
2- يجب ابعاد العلمانيين عن مراكز القرار والتاثير والاعلام .
3- يجب العمل على بيان حكم العلمانية وان الاخذ بها هو اخذ بالكفر وهو ردة عن الدين الاسلامي عقيدة وشريعة .
----
كتبه الأخ الفاضل / علوش
===============(13/355)
(13/356)
بين العلمانية والدين
قال لي أحد العلمانيين يوما:
العلمانية كالدين أيديولوجيةً ، لكنها تختلف عن الدين في انها لا تتعلق بخصوصيات تاريخية اكل الدهر عليها و شرب ، بل هي أيديولوجيا متحركة ،رجراجة ، متطورة ، لا تقبل التحجر و الجمود . هذا ما يميزها عن غيرها من الأيديولوجيات الدينية ( الاديان ) .
قلت له جوابا عن سؤاله:
أشكر لك أولاً صراحتك مع ذاتك أولا ثم في إعلانها دون مواربة
ثم إذا ما كنت يا عزيزي تتهم قيمنا المنبثقة عن أدياننا بأنها جامدة وقد أكل عليها الدهر وشرب فماذا تقول في علمانيتك التي هي إلى الآن مجرد شعارات مبهمة لا تعتمد على أسس ولا ترتكز على مبادئ فقط مجرد كلمات ورثتم أغلبها عن الفكر الماركسي الذي أكل عليه الدهر وشرب بل غسل يده أيضا
إن أي فكر يجب أن يرتكز على جانبين ليس أحدهما بأولى من الآخر هما نقد الآخر وطرح المشروع البديل وللأسف كل ما نلاقيه منكم هو مجرد النقد الذي لا يعتمد على مرجعية لا من جهة النظرية ولا من جهة الواقع
أخبرونا ماذا فعلتم معشر العلمانيين في بلادنا وماذا قدمتم؟
ما الأنموذج الذي قدمتموه لتطلبوا منا أن تعتمده أسلوبا في حياتنا ؟
لا شيء 0000000
حتى في هجومكم على الدين ماذا كان نهجكم ؟
مجرد كلمات اختزلتم فيها فكرة الدين في مسألة حقوق الإنسان ثم بان لكم أنه ثوب واسع وان أدلتكم ترُد عليكم وأن العلمانيين هم أول من يضيع حقوق الإنسان فاختزلتموه في حقوق المرأة - وقد أجبنا عن كل ما أثرتموه في هذا المجال لكنكم لا تقرؤون أو تتجاهلون- ثم ارتقى أمركم إلى مستوى الدعوة إلى قسر المرأة على خلع حجاب يستر ما تود ستره نعم هذه هي العلمانية التي تتشدقون بها
يا عزيزي العلمانية التي لجأ إليها الغرب كانت ضرورة قومية لم يكن منها بد لمواجهة التسلط الكنسي الذي وقف حجر عسرة أمام أي فكرة علمية وأقام محاكم التفتيش لمناهضة ذلك وغيره وهذا بالطبع لا يخفى على أحد أما العلمانية التي تروجون لها أنتم فهي ثورة على الأخلاق هذا هو الفارق الذي لا ينبغي تجاهله 0ولذلك لم ولن تنجح العلمانية في بلادنا
وإلا فسأعيد نفس السؤال ماذا قدمتم أيها العلمانيون ؟ ما هي مشروعاتكم وما هي مبادئكم وما هي بدائلكم العملية ؟
هل اخترع أحدكم شيئا منتجا وقيل له إن ذلك حرام ؟
هل صادر الدين أي فكرة علمية قد تقدمتم بها ؟
ورغم هذا فلست أنكر أن في العلمانية أنماطا إيجابية استفاد منها الغرب حيث قادته إلى العمل الجاد فنال بذلك التقدم العلمي الهائل الجدير بالاحترام والإعجاب أما علمانيو الشرق فقد وقفوا عند حد العبارات والكلام الذي لا يجيدون غيره سواء على المستوى الفردي أو الجماعي أما على المستوى الفردي فهو ما ناقشته من خلال ما سبق وأما على المستوى الجماعي فهاهي تركيا التي أعلنت منذ ما يقرب من قرن أن العلمانية هي نهجها ماذا قدمت أو ماذا جنت ؟
دمار اقتصادي وهوان سياسي وقس على ذلك بقية الدول الإسلامية التي هي في الحقيقة دول علمانية
============(13/357)
(13/358)
هرقل والعلمانيون !
بقلم : د. عبد الرحمن صالح العشماوي
ما أزال أعجب كلَّ العجب ، وآسى كلَّ الأسى على فئات من المسلمين يرفعون شعارات بعيدة عن الإسلام ، ويدعون إليها وينافحون عنها ، وينالون من الإسلام وأحكامه وشعائره من أجلها ، ويهاجمون دعاة الإسلام ورجاله المصلحين ليل نهار ، أعجب والله من ذلك كلَّ العجب ، وأسأل الله السلامة والعافية وأحمده على صحة المعتقد ، وسلامة العقل ، وأسأله الثبات على الحق .
إنَّ الذي يتأمل "الطرح العلماني" في صُحفنا ووسائل إعلامنا في هذه الأيام يشعر بالحزن لحال هذه الفئة "العلمانية" التي أغلقت عقولها وقلوبها أمام الحق ، ورضيت لنفسها أن تتخبط في دروب الضياع .
ومع أننا لا نستغرب "الهجمة العلمانية" الشرسة - هذه الأيام - التي يشنها أدعياء الثقافة والفكر على إسلامنا ورجاله فإنها "شنشنة نعرفها من أخزم" ، وقد تعودنا على مثل هذه الهجمات من "اليساريين" الذين أفرغوا - في زمن مضى - ما في قواميس اللغة من عبارات السِّباب والشتم للدين والدعاة الملتزمين به والداعين إليه ، مع أننا لا نستغرب هذه الهجمة ، إلا أننا نستغرب هذا القدر الهائل من الوهم الذي تشقى به عقول هؤلاء العلمانيين ، وهذا القدر الكبير من "الغباء" الذي يُعمي أبصارهم عن رؤية الحق .
فهذه الأنظمة البشرية ، والمذاهب والأفكار والمعتقدات الوضعية تتهاوى واحداً تلو الآخر، وتنهار بصورة مروِّعة أمام أعين الناس ، ومع ذلك ما تزال فئة "العلمانية" في بلادنا جادة في طرح أفكار الغرب ، وطروحات الغرب السياسية والثقافية ، وكأن ما يجري في العالم من سقوط لتلك الأفكار إنما هو شريط خيال يمر، أو مشهد من مسرحية "مأساوية" لا علاقة له بالواقع المعاش .
أحدهم يكتب المقالات الطوال مؤكداً أهمية "المشروع الغربي" سياسياً وثقافياً واجتماعياً لإنقاذ الأمة من ضعفها وتخاذلها ، ويرى أن النظام العالمي الجديد مظلة يمكن أن نستظل بها، وأن نعيش حياة العزة والكرامة تحت سقفها، ويرى أن هؤلاء المتخلفين أصحاب النظرة الأحادية من "دعاة الإسلام ورجاله" إنما يريدون أن يعودوا بالأمة إلى الوراء وأن يمارسوا نوعاً من "التسلط الديني" على رقاب الناس .
وآخر من فئة "العلمانيين" يرى أن علمنة الفكر والثقافة والنقد الأدبي أمرٌ لا بد منه إذا أردنا الخروج من سجن "الفكرة الواحدة" و "النظرة الواحدة" إلى فضاءات الحرية الثقافية التي لا حدود لها ، وهي حرية - في رأيه متحققة - في "المشروع الثقافي الغربي" .
وآخر يقول : إن فكرة النظام العالمي الجديد ستساعدنا على التخلص من سيطرة "الدوغما" أي من سيطرة العقيدة والمبدأ ، فهو يرى أن سبب تخلُّف الأمة العربية هو التزامها بالمبدأ مما يشكل "سلطوية دينية"(*) تحكم الثقافة العربية والعقل العربي ، ولذلك تخلف العقل العربي عن اللحاق بالعقل الغربي في ميادين العلم والثقافة والسياسة وغيرها .
إن هذا الاتجاه المخيف - عند فئة "العلمانيين" - إلى ثقافة الآخرين وفكرهم ومذاهبهم بحاجة إلى طرح واع ودراسة واعية ، إنها فجيعة كبيرة يجب أن لا تمر بنا هكذا ، ففي الوقت الذي طلعت فيه الشمس صافية لا يكدر وجهها غبار ولا غيوم ، وفي الوقت الذي تتهاوى فيه طروحات الديموقراطية الغربية إلى الحضيض؛ كما تهاوت قبلها الأيديولوجية الروسية - وما جرى في الجزائر دليل على ذلك - وفي الوقت الذي يعلن فيه الغرب عودة أساليب الاستعمار العسكري بشكل واضح فيه قدر كبير من التبجح - كما هو الحال في البوسنة والهرسك والصومال - أقول : في هذا الوقت ما نزال نرى هذا الاندفاع الأعمى من فئة "العلمانيين" في بلادنا في هذه الطرق المعوجّة المنحرفة ، وما نزال نرى هذا التحامل على الإسلام وأهله وعلى كتابه وسنته ، وأقول لفئة العلمانيين من أبناء المسلمين : ألا يسعكم ما وسع هرقل الروم في موقفه الإيجابي من دعوة الرسول -عليه الصلاة والسلام- حينما قال - كما ورد في صحيح البخاري -: "قد كنت أعلم أنه خارج - يعني النبي عليه الصلاة والسلام - لم أكن أعلم أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت قدمه". ألا يخجلكم أيها العلمانيون موقف هرقل هذا ؟
===============
الهوامش:
*- يعتبر الكاتب السوري علي أحمد سعيد المسمى : أدونيس من ألد أعداء الإسلام المروجين لهذه الآراء الفاسدة . وتحتل مقالاته مكاناً بارزاً في الصحف والمجلات العربية . بالإضافة إلى مقالات زوجته : خالدة سعيد ، ومقالات ابنته : أرواد أسبر .
============(13/359)
(13/360)
أم أنس حصّة الهاجري :الرسولُ الغبيُّ لإبليسَ
بقلم فتى الادغال
عجائبُ الدُّنيا ثلاثة ٌ : الغولُ ، والخِلُّ الوفيُّ ، والعنقاءُ ، ومضربُ المثل ِ في الحماقةِ من الحيواناتِ : الضبعُ والنعامة ُ ، أمّا الضبعُ فيبلغُ حمقُها أنّها إذا قيلَ لها : ليستْ هذه أم عامر ٍ - وهي كُنية ٌ لها - سكنتْ واطمأنتْ وظنّتْ أنّها غيرُ مرادةٍ ، فتُمسكُ وتُصطادُ وتُقادُ ، ويُقالُ لها : خامري أمَّ عامر ٍ ، أي اسكني وانخدعي ، وأمّا النعامة ُ فمن حماقتِها أنّها تتركُ بيضها وتخرجُ للبحثِ عن الطعام ِ ، فإذا رأتْ بيضاً آخراً جلستْ عليهِ وحضنتهُ ونسيتْ بيضها .
هكذا قالَ علمائُنا عن الغرائبِ والحمقى من الحيواناتِ والعجماواتِ ، ولو أنَّ مُذيّلاً أرادَ أن يُذيّلَ على كتابِ الحيوان ِ للجاحظِ أو الدّميريِّ ، فلنْ يتوانى أبداً في البدائةِ بالعلمانيينَ ، وجعلهم على رأس ِ القائمةِ ، فصلاً وافراً في الحماقةِ والجهل ِ ، فلديهم حماقة ٌ بالفعل ِ وبالقوّةِ القريبةِ ، حاضرة ً على الدوام ِ ، مبذولة ً لمن يرومُها .
حاولتُ أن أجدَ علمانيّاً عاقلاً فأعياني البحثُ ، ثمَّ كرّرتُ المحاولة َ وقلتُ علَّ وعسى أن أجدَ فيهم من يُحسنَ الفهمَ ويعرفُ كيفَ يقرأ ويستنبطُ ، فلم أجدْ فيهم إلا غباءً مُطبقاً ، وحماقة ً فاقتِ الحدودَ ، ودلاخة ً فكريّة ً ، إضافة ً إلى بلاهةٍ فطريّةٍ تصلحُ أن تكونَ فصلاً في دراسةِ الأجنّةِ الخديجةِ عقلياً ، فيُضافونَ إلى الأطفال ِ المنغوليّينَ .
أقولُ هذا الكلامَ وبينَ يديَّ رواية ٌ من أنتن ِ ما سطّرتهُ يدٌ ونضحتْ بهِ جارحة ٌ ، بطلتُها أمُّ أنس ٍ حصّة الهاجريُّ ، والهواجرُ منها ومن أفنِها وكذِبِها براءٌ ، أمُّ أنس ٍ وما أدراكم ما أمُّ أنس ٍ ، يبدو أنّكم تذكّرتموها فقد سبقَ لها نشرُعفِنها ونتنِها قديماً ، فهي مضربُ المثل ِ في الجهل ِ والكذبِ ، بعدَ أنْ كشفَ اللهُ عنها حجابَ الغيبِ ، فظهرَ لنا من وراءِ ذلكَ وجهاً قبيحاً وشارباً كثيفاً ، وجثّة ً كجُثّةِ البغل ِ ، وعقلاً كعقل ِ العصفور ِ حجماً ، وأمّا رجاحة ً فالعصفورُ أرجحُ وأركدُ .
الرّاوية ُ المريضة ُ كانتْ عن امرأةٍ تزوّجتْ شيخاً ، ثمَّ أخذتْ تسردُ فصولاً باهتة َ المضمون ِ ، سخيفة َ الأسلوبِ ، وضيعة َ المقصدِ ، حرباً على الدين ِ والمُتمسّكينَ بهِ .
تبّاً لهم وسُحقاً ، أما وجدَ شيطانُهم رسولاً أحذق َ وأفهم وأحكمَ منها ؟ ، فقد فضحتهم وشرّدتْ بهم في كُلِّ وادٍ ، وأصبحوا أضحوكة َ المجالس ِ والدواوين ِ .
لقد كشفوا عن سخفٍ في الطرح ِ وبلادةٍ في الطبع ِ ، ناهيكَ عن الأساليبِ الركيكةِ في الكتابةِ ، والإقصاءِ الفظيع ِ لجميع ِ من خالفهم أو حاورهم ، مع تشدّقهم الدائم ِ بحرّيةِ الرأي ، فصرنا حديثَ الدّنيا عن التخلّفِ الرهيبِ الذي يُعاني منهُ العلمانيّونَ .
لماذا هذه القصصُ المكذوبة ُ ؟ .
قرأتُ قصّة َ أمِّ أنس ٍ الأخيرة َ ، فضحكتُ بملءِ فمي وطلبتُ على وجهِ السرعةِ كأساً من الشاي المنعنش ِ ، لأتمتّعَ بقراءةِ التهافتِ والتناقض ِ ، وأنعم دهراً بالفراغ ِ من المضمون ِ والمحتوى ، فلا الأسلوبُ أسلوبُ الأدباءِ ، ولا القصّة ُ جارية ٌ على سنن ِ النقّادِ ، وإنّما كانتْ أبضاعاً مشوّهة ً وجثّة ً هامدة ً لكلماتٍ قُصدَ منها هدمُ الدين ِ والقيَم ِ ، كُتبتْ بيدٍ ترتعشُ وعقل ٍ غائبٍ بفعل ِ الكراهيّةِ ، وأسنان ٍ تصتكُّ بعضُها على بعض ٍ غيظاً ، وصدر ٍ يلتهبُ زفيراً ورجيعاً ، وظهر ٍ قد احدودبَ من طول ِ الجلوس ِ على الكرسيِّ ، بعدَ مُعاناةٍ طويلةٍ من إمساكٍ فكريٍّ ومعرفيٍّ ، ثلطَ معهُ صاحبهُ فيما بعدُ كلماتٍ موبوءةً وأفكاراً موتورة ً .
مساكينٌ هؤلاءِ الحمقى والمغفّلونَ من العلمانيين الأقزام ِ ، يُحاربونَ نوراً سطعَ من السماءِ منذُ 1400 سنةٍ خلتْ ، قاومهُ عبرَ التأريخ ِ جماعاتٌ ودولٌ ، وتآمرَ عليهِ اليهودُ والنصارى والمشركونَ ، وأقميتْ ألوفُ المراكز ِ البحثيّةِ في دول ِ العالم ِ ، وجُهّزتْ لهُ جيوشٌ من المستشرقينَ العباقرةِ الأفذاذِ وأذنابهم من المستغربينَ في العالم ِ الإسلاميِّ ، فما قدروا أن يهزّوا فيهِ شعرة ً ، ولا أن يُطفئوا منهُ جذوة ً مُشتعلة ً ، بل هاهو الآنَ يزدادُ توقّداً ويعلو سمواً ويترسّخُ نهجاً ، فهل سيقدرُ هؤلاءِ الحثالة ُ الساقطونَ من أن يهدموا ركنهُ المشيدَ ؟ .
الحمدُ للهِ أنَّ العلمانيينَ بهذا المُستوى من الترّدي الفكري ، فواللهِ لقد كنّا نحسبهم شيئاً ذا بال ٍ ، وإذا بهم يغدونَ أحقرَ من ضرطةِ عير ٍ في فلاةٍ ، فلا أسلوبَ ولا فكرَ ولا عقليّة َ ، بل هو الكذبُ والزيفُ والدّجلُ ، وفي كلِّ مرّةٍ يكتبونَ فيها شيئاً نكتشفُ من خبايا عوراتِهم ما استكنَّ عنا من قبلُ .(13/361)
هل تعرفونَ قضيّة ً شغلتِ العلمانيين أكثرَ من قضيّةِ الإسلام ِ ؟ ، ومهما غيّروا من عباراتٍ فمقصدهم الإسلامُ والدينُ ، فمرّة ً يُهاجمونَ الوهّابيّة َ ، وأخرى يُهاجمونَ السلفيّة َ ، وثالثة ً يُهاجمونَ الراديكاليّة َ والمُحافظة َ ، والكلُّ عندَ التحقيق ِ والتمحيص ِ هو الإسلامُ ، فمُثُلُ وقيمُ الوهّابيّةِ والسلفيّةِ والمُحافظةِ التي تُهاجَمُ هي عينُها مثُلُ وقيمُ الإسلام ِ ، ومن أرادَ صدقَ قولي هذا وبرهانهُ فليحاققْ علمانيّاً في قولهِ وليناقشهُ ، وسيجدُ أنّهُ يختطفُ نصوصاً شرعيّة ً وأحكاماً مُجمعاً عليها ثُمَّ يجيّرُها للوهّابيّةِ أو السلفيّةِ ، وما درى المسكينُ أنَّ هذا دينٌ أتى بهِ محمّدُ بنُ عبداللهِ - صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - وجدُّ بوش ٍ الأبُ راع ٍ مملوكٌ لرجل ٍ من عامّةِ الناس ِ وساقتِهم ، في سنواتِ عزِّ الإسلام ِ .
لماذا يكرهونَ الإسلاميينَ ! ، هل لأنَّ نجمهم في علو ٍ ومكانتُهم تسمو وترتفعُ ، والمجتمعُ عنهم راض ٍ بهم مُفتخرٌ إليهم مُحتكمٌ ؟ ، أفيحسدونَ الناسَ على ما آتاهم اللهُ من فضلهِ ؟ ، أعلمُ أنَّ أعظمَ ما يغيظُ العلمانيينَ هو رؤيتُهم للشبابِ المُسلم ِ المثقفِ ، والذي يعي ويفهمُ دروسَ الحضارةِ ومُشكلاتِ الواقع ِ ، ويُنظّرُ لذلكَ ويكتبُ عنهُ كتابة َ المُفكّر ِ الذي سبرَ الأمورَ ووقفَ على دقائقِها ، فإذا رأوا شيئاً من هذا لدى الشبابِ المُسلم ِ الواعي ، أدركتهم الحميّة ُ الحمقاءُ وتوجّهوا لشاشةِ الحاسبِ الخاصِّ بهم وأخذوا يبصقونَ على الشاشةِ غيظاً وحنقاً ، ثمَّ يتفجّرُ منهم سُعارُ الحقدِ والكراهيّةِ ولا يجدونَ شيئاً يُقدمونهُ قرباناً إلى شيطاينهم ، إلا رواية ً هزيلة ً مريضة ً يستحي منها إبليسُ ، فيُغضي عنها غضباً وأسفاً ، أن خابَ تعليمهُ فيهم وضاعَ رجاؤهُ .
هل لدى هؤلاءِ العلمانيينَ شيءٌ لم يأتِ بهِ الجعدُ بنُ درهمَ والجهمُ بنُ صفوانَ وابنُ الرّاونديِّ والحلاّجُ وجابرُ بنُ حيّان ٍ وابنُ عربيٍّ انتهاءً بطه حُسين وأحمد لُطفي السيّد وإسماعيل أدهم وجلال صادق العظم وعبدُاللهِ القصيمي وغيرُهم ؟ ، أفلا يعتبرونَ لمصرع ِ أولئكَ ، وكيفَ أضحتْ حُججهم وكُتبهم نهباً مُشاعاً لأهل ِ الحقِّ يفنّدونَ شُبههم ويكسرونَ كلامهم ، حتّى ذوتْ أشجارهم وماتتْ آثارُهم وصارتْ أثراً بعدَ عين ٍ ، نقرأها لنعرفَ شرّها ونتّقي ضرّها ؟ .
أتمنّى أنْ أجدَ لدى أحدِ هؤلاءِ العلمانيينَ مشروعاً تربويّاً ، أو فكراً حضاريّاً ، لقد بحثتُ وقرأتُ وفتشتُ فلم أجد أكثرَ من شتم ِ الإسلاميينَ والافتراءِ عليهم ، والفرار ِ منهم من ومناقشتِهم ، والإزراءِ بشرائع ِ الإسلام ِ والحطِّ على قيمهِ ، وحقوق ِ المرأةِ .
آه .. حقوقُ المرأةِ ، تلكَ الأسطوانة ُ المشروخة ُ والجوقة ُ المُردّدة ُ لدى كلِّ علمانيٍّ ، حتّى كأنَّ كُلَّ امرأةٍ خوّلتْهُ للحديثِ عنها ، ونصّبتهُ محامياً دونها ، ولكنْ ماذا يعرفُ العلمانيُّ عن المرأةِ ؟ ، لا يعرفُ عنها إلا أنّها مشروعٌ تِجاريٌّ لا بُدَّ أن يُستثمرَ ، تبعاً للخريطةِ الجسميّةِ الدقيقةِ والتفاصيل ِ المرضيّةِ ، وكلّما كانتْ جميلة ً وبضّة ً كانتْ مشروعاً يُدرُّ أرباحاً طائلة ً ، فهو حينَ ذلك يخُبُّ ويضعُ حتّى يحرّرها من قيودِ العفافِ والحشمةِ لتغدو لحماً يُساومُ عليهِ أهلُ الفسق ِ والفجور ِ ، ولكنْ ماذا عن المرأةِ في الرّيفِ والمرأةِ في القرى ، والمرأةِ في الكونغو الديمقراطيّةِ والمرأةِ في أدغال ِ الغابون ِ ، أليسو نساءً يستحقّونَ الحديثَ عنهم ؟ ، لماذا خلتْ روزناماتُ بني علمان ٍ من الحديثِ عن النساءِ اللائي سُحقنَ وسُحلنَ تحتَ أسوار ِ الفقر ِ والمجاعةِ والتشرّدِ ؟ ، أم أنَّ حقوقَ النساءِ تتوقّفُ عندَ المرأةِ الناعمةِ القدِّ ممشوقةِ القوام ِ ، والتي تصلحُ عارضة ً للأزياءِ ، أو راقصة ً في فيديو كليب صارخ ، أو نادلة ً في ملهىً ليلي تُقدّمُ فيهِ الكأسَ وتُصبحُ وتُمسي رهنَ طلبِ الزبون ِ وطوعَ مالهِ ودراهمهِ ؟ .
إنّهم لا يعرفونَ عن الحضارةِ أكثرَ من أفلام ِ ميل جبسون وبراد بيت وجون ترافولتا وجيمس كامرون ورتشارد مور ، أو أسطواناتِ ألفيس بريسلي ومايكل جاكسون وففتي سنت وسنوب دوق وبرتني سبيرز والشمطاءِ مادونا ، وكذلك المطاعم ِ من عيّناتِ هارديز وبيتزا هت وفرايديز وتشيلز ، والثالوثِ الأمريكيِّ الشهير ِ : الجنز ِ ومالبورو وكوكا كولا ، هذا مبلُغهم من العلم ِ عن الحضارةِ ، فتراهُ يصدحُ بها في كُلِّ مجلس ٍ ، ويتباهى بمعرفتهِ بالمطاعم ِ والمشاربِ والممثلينَ والممثلاتِ ، والمدن ِ التي زارها أو الحاناتِ التي قصدها ، وما عدى ذلك فهو فيهِ أجهلُ من حمار ِ أهلهِ ، لا يعرفُ شيئاً من التطوّر ِ أو التقنيّةِ ، وإنّما يشتمُ ويلعنُ قومهُ من المسلمينَ لتأخّرهم عن ركبِ الحضارةِ ، والتي لم يأخذ ْ هو منها غيرَ القذارةِ والعفن ِ فكراً وسلوكاً .
نسيتُ أمراً مُهمّاً : ماذا عن عمّتهم العجوز ِ أمريكا ! .(13/362)
أينَ هو صوتُ هؤلاءِ الصبيان ِ عن شنائع ِ عمّتهم العجوز ِ أمريكا في سجن ِ أبي غريب ، وما فعلتْهُ من عظائمَ يندى لها الجبينُ ، وتخفقُ الرؤوسُ عند ذكرها خجلاً وحياءً ، لمَ لا نرى لهم حديثاً عن ذلكَ ؟ ، وأين هم عن تصريحاتِ الوغدِ الكهل ِ جون كيري عن هذه البلادِ - حرسَها اللهُ - وهو يتهجّمُ عليها في كلِّ يوم ٍ وبمناسبةٍ أو بدونِها ، لمَ لا يذبّونَ عن معقل ِ الدين ِ ومأرز ِ الخير ِ ، ألا يرعوونَ ألا يخجلونَ على علمانيّتهم وهم يرونَ بوّابة َ العلمانيّةِ والتحرّر ِ تتهاوى صروحُ قيمها وتتضائلُ أسهمها ، بعدَ المخازي الفظيعةِ التي أرتكبوها ؟ ، بعدَ أن صمّوا آذانَنا حديثاً عن الحرّياتِ والديمقراطيّةِ والشرخ ِ الأوسطِ الكبير ِ ! .
هي كلمة ٌ أقولُها لكلِّ علمانيٍّ استغلَّ هذه الأحداثَ المؤلمة َ في بلادِنا ، وراحَ يبُثُّ فسادَهُ ومُنكرهُ عبرَ شبكاتِ الانترنت ومواقع ِ الرّذيلةِ : إنَّ قدرَ هذه البلادِ هو الإسلامُ ، هكذا وعدَ اللهُ سُبحانهُ وتعالى ، وهكذا أخبرَ نبيّهُ الكريمُ صلى الله عليه وسلم فالدّينُ والإيمانُ يأرزان ِ إلينا ، وهكذا اختارتِ القيادة ُ الحاكمة ُ - أدامَ اللهُ سعدها - ، والشعبُ بأسرهِ - ثبّتهُ اللهُ - ، فنحنُ حضنة ُ الملّةِ عِمادُ الدّين ِ ، ومهما حاولَ الجهلة ُ والمُراغمونَ النيلَ من قيَم ِ هذه البلادِ ، أو التطاولَ على ثوابِتِها الشرعيّةِ فسوفَ يجدونَ من العلماء ِ والمُفكّرينَ من يوقفهم عندَ حدّهم ، وقد صدقَ الأميرُ عبداللهِ بنُ عبدِالعزيزِ - وفّقهُ اللهُ - بقولهِ : إنَّ هذه البلادِ إمّا أن تكونَ مُسلمة ً أو لا تكونُ ، فالحمدُ للهِ الذي لجمَ بهذه الكلماتِ فمَ كلِّ ناعق ٍ ، وأخرسَ كلَّ ناهق ٍ : (( وردَّ اللهُ الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى اللهُ المؤمنينَ القِتالَ )) .
أتمنّى من كلِّ قلبي أن يلجىءَ العلمانيّونَ إلى حيلةٍ ناجعةٍ لبثِّ فكرهم الصديءِ ، فقد كُشفتْ جميعُ أوراقهم وفُضحتْ جميعُ ألاعيبِهم ، وعلمَ النّاسُ حقائقهم ومخازيهم ، وما عادتْ تنطلي على النّاس ِ ترّهاتُهم وكذباتُهم ، وصدق َ اللهُ سبحانهُ وتعالى إذ يقولُ : (( ولا يأتونكَ بمثل ٍ إلا جئناكَ بالحقِّ وأحسنَ تفسيراً )) ، وقد ذكرَ علماؤنا - عليهم رحمة ُ اللهِ - أنَّ هذه الآية َ عامّة ٌ شاملة ٌ على مرور ِِ الأزمان ِ ، ومع جميع ِ الطوائفِ المُخالفةِ للحقِّ .
وحتّى لا ننسى فهذه دعوة ٌ صادقة ٌ لجميع ِ العلمانيينَ ، أن ينعموا ولو لحظة ً واحدة ً بنعمةِ الهدايةِ ، ويلتذّوا بذكر ِ اللهِ وبمناجاتهِ ، فأنا أعرفُ من حالهم الضيقَ والضّنكَ والحيرة َ والحسرة َ ، وصدورهم فيها من الحرج ِ والعنتِ ما يُلهبُ أضلعهم ويُقظُّ مضاجعهم ، فلا ينعمونَ برُقادٍ أو طعام ٍ أو شرابٍ ، وحياتُهم شرذمة ٌ بينَ خيال ٍ وطيفٍ ، أو أسرى لشهوةٍ ونغم ٍ ، فهلاّ ذاقوا لذّة َ العِبادةِ وسكونَ الطّاعةِ ، فهي واللهِ ملاذُ آمنٌ من التشرّدِ الفكريِّ والضياع ِ الخُلقيِّ ، والتعبّدُ للهِ أهنأ وأبركُ من التعبّدِ للغواني والملاذِّ والشهواتِ ، وربّاً واحداً تصمدُ إليهِ ، ولا ألفُ ربٍّ تُسخطُ بعضهم لتُرضي بعضاً .
===========(13/363)
(13/364)
حقيقة العلمانية وخبث اركانها < تنزه الاسلام عنها >
بسم الله الرحمن الرحيم
لكثرة الحديث عن العلمانية وارتباطها المزعوم بالاسلام ومن احد المواضيع التي طرحت هنا رايت ان اضع لكم بعض من هذا المذهب المدعى والمختلق حتى لايتم مقارنته بالاسلام باي وجه اولا :ما هي العلمانية ؟!
أن كلمة ( علماني ) تعني :
1- دنيوي أو مادي .
2- ليس بديني أو ليس بروحاني .
3- ليس بمترهب ، ليس برهباني .
وجاء أيضًا عنها بيان معنى كلمة العلمانية ، حيث يقول : العلمانية : هي النظرية التي تقول : إن الأخلاق والتعليم يجب أن لا يكونا مبنيين على أسس دينية .
وفي دائر المعارف البريطانية ، نجدها تذكر عن العلمانية : أنها حركة اجتماعية ، تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب .
ودائرة المعارف البريطانية حينما تحدثت عن العلمانية ، تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد ، وقد قسمت دائرة المعارف الإلحاد إلى قسمين :
* إلحاد نظري .
* إلحاد عملي ، وجعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي .
وما تقدم ذكره يعني أمرين :
أولهما : أن العلمانية مذهب من المذاهب الكفرية ، التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في الدنيا ، فهو مذهب يعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها ، بعيدًا عن أوامر الدين ونواهيه .
ثانيهما : أنه لا علاقة للعلمانية بالعلم ، كما يحاول بعض المراوغين أن يلبس على الناس ، بأن المراد بالعلمانية : هو الحرص على العلم التجريبي والاهتمام به ، فقد تبين كذب هذا الزعم وتلبيسه بما ذكر من معاني هذه الكلمة في البيئة التي نشأت فيها .
ولهذا ، لو قيل عن هذه الكلمة ( العلمانية ) إنها : ( اللادينية ، لكان ذلك أدق تعبيرًا وأصدق ) ، وكان في الوقت نفسه أبعد عن التلبيس وأوضح في المدلول .
صور العلمانية
للعلمانية صورتان ، كل صورة منهما أقبح من الأخرى :
الصورة الأولى : العلمانية الملحدة : وهي التي تنكر الدين كلية : وتنكر وجود الله الخالق البارئ المصور ، ولا تعترف بشيء من ذلك ، بل وتحارب وتعادي من يدعو إلى مجرد الإيمان بوجود الله ، وهذه العلمانية على فجورها ووقاحتها في التبجح بكفرها ، إلا أن الحكم بكفرها أمر ظاهر ميسور لكافة المسلمين ، فلا ينطلي - بحمد الله - أمرها على المسلمين ، ولا يُقبل عليها من المسلمين إلا رجل يريد أن يفارق دينه ، ( وخطر هذه الصورة من العلمانية من حيث التلبيس على عوام المسلمين خطر ضعيف ) ، وإن كان لها خطر عظيم من حيث محاربة الدين ، ومعاداة المؤمنين وحربهم وإيذائهم بالتعذيب ، أو السجن أو القتل .
الصورة الثانية : العلمانية غير الملحدة (3) وهي علمانية لا تنكر وجود الله ، وتؤمن به إيمانًا نظريًا : لكنها تنكر تدخل الدين في شؤون الدنيا ، وتنادي بعزل الدين عن الدنيا ، ( وهذه الصورة أشد خطرًا من الصورة السابقة ) من حيث الإضلال والتلبيس على عوام المسلمين ، فعدم إنكارها لوجود الله ، وعدم ظهور محاربتها للتدين (4) يغطي على أكثر عوام المسلمين حقيقة هذه الدعوة الكفرية ، فلا يتبينون ما فيها من الكفر لقلة علمهم ومعرفتهم الصحيحة بالدين ، ولذلك تجد أكثر الأنظمة الحاكمة اليوم في بلاد المسلمين أنظمة علمانية ، والكثرة الكاثرة والجمهور الأعظم من المسلمين لا يعرفون حقيقة ذلك .
ومثل هذه الأنظمة العلمانية اليوم ، تحارب الدين حقيقة ، وتحارب الدعاة إلى الله ، وهي آمنة مطمئنة أن يصفها أحد بالكفر والمروق من الدين ؛ لأنها لم تظهر بالصورة الأولى ، وما ذلك إلا لجهل كثير من المسلمين ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا وسائر المسلمين ، وأن يفقه الأمة في دينها حتى تعرف حقيقة هذه الأنظمة المعادية للدين .
ولهذا فليس من المستبعد أو الغريب عند المسلم الفاهم لدينه أن يجد في كلمات أو كتابات كثير من العلمانيين المعروفين بعلمانيتهم ذكر الله سبحانه وتعالى ، أو ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم أو ذكر الإسلام ، وإنما تظهر الغرابة وتبدو الدهشة عند أولئك الذين لا يفهمون حقائق الأمور .
والخلاصة : أن العلمانية بصورتيها السابقتين كفر بواح لاشك فيها ولا ارتياب ، وأن من آمن بأي صورة منها وقبلها فقد خرج من دين الإسلام والعياذ بالله ، وذلك أن الإسلام دين شامل كامل ، له في كل جانب من جوانب الإنسان الروحية ، والسياسية ، والاقتصادية ، والأخلاقية ، والاجتماعية ، منهج واضح وكامل ، ولا يقبل ولا يُجيز أن يشاركه فيه منهج آخر ، قال الله تعالى مبينًا وجوب الدخول في كل مناهج الإسلام وتشريعاته : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } . وقال تعالى مبينًا كفر من أخذ بعضًا من مناهج الإسلام ، ورفض البعض الآخر ، { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون } .(13/365)
والأدلة الشرعية كثيرة جدًا في بيان كفر وضلال من رفض شيئًا محققًا معلومًا أنه من دين الإسلام ، ولو كان هذا الشيء يسيرًا جدًا ، فكيف بمن رفض الأخذ بكل الأحكام الشرعية المتعلقة بسياسة الدنيا - مثل العلمانيين - من فعل ذلك فلاشك في كفره .
والعلمانييون قد ارتكبوا ناقضًا من نواقض الإسلام ، يوم أن اعتقدوا أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه ، وأن حكم غيره أفضل من حكمه
نتائج العلمانية في العالم العربي والإسلامي
- رفض الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى ، وإقصاء الشريعة عن كافة مجالات الحياة ، والاستعاضة عن الوحي الإلهي المُنزَّل على سيد البشر محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ، بالقوانين الوضعية التي اقتبسوها عن الكفار المحاربين لله ورسوله ، واعتبار الدعوة إلى العودة إلى الحكم بما أنزل الله وهجر القوانين الوضعية ، اعتبار ذلك تخلفًا ورجعية وردة عن التقدم والحضارة ، وسببًا في السخرية من أصحاب هذه الدعوة واحتقارهم ، وإبعادهم عن تولي الوظائف التي تستلزم الاحتكاك بالشعب والشباب ، حتى لا يؤثروا فيهم .
2- تحريف التاريخ الإسلامي وتزييفه ، وتصوير العصور الذهبية لحركة الفتوح الإسلامية ، على أنها عصور همجية تسودها الفوضى ، والمطامع الشخصية .
3- إفساد التعليم وجعله خادمًا لنشر الفكر العلماني وذلك عن طريق :
أ- بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية بالنسبة للتلاميذ ، والطلاب في مختلف مراحل التعليم .
ب - تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن .
جـ - منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم .
د - تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها ، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني ، أو على الأقل أنها لا تعارضه .
هـ - إبعاد الأساتذة المتمسكين بدينهم عن التدريس ، ومنعهم من الاختلاط بالطلاب ، وذلك عن طريق تحويلهم إلى وظائف إدارية أو عن طريق إحالتهم إلى المعاش .
و - جعل مادة الدين مادة هامشية ، حيث يكون موضعها في آخر اليوم الدراسي ، وهي في الوقت نفسه لا تؤثر في تقديرات الطلاب .
4- إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة ، وهم المسلمون ، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد ، وصهر الجميع في إطار واحد ، وجعلهم جميعًا بمنزلة واحدة من حيث الظاهر ، وإن كان في الحقيقة يتم تفضيل أهل الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان على أهل التوحيد والطاعة والإيمان .
فالمسلم والنصراني واليهودي والشيوعي والمجوسي والبرهمي كل هؤلاء وغيرهم ، في ظل هذا الفكر بمنزلة واحدة يتساوون أمام القانون ، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني .
وفي ظل هذا الفكر يكون زاج النصراني أو اليهودي أو البوذي أو الشيوعي بالمسلمة أمرًا لا غبار عليه ، ولا حرج فيه ، كذلك لا حرج عندهم أن يكون اليهودي أو النصراني أو غير ذلك من النحل الكافرة حاكمًا على بلاد المسلمين .
وهم يحاولون ترويج ذلك في بلاد المسلمين تحت ما سموه بـ ( الوحدة الوطنية ) .
بل جعلوا ( الوحدة الوطنية ) هي الأصل والعصام ، وكل ما خالفوها من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم طرحوه ورفضوه ، وقالوا : ( هذا يعرض الوحدة الوطنية للخطر !! ) .
5- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية ، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية ، وتشجيع ذلك والحض عليه : وذلك عن طريق :
أ - القوانين التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها ، وتعتبر ممارسة الزنا والشذوذ من باب الحرية الشخصية التي يجب أن تكون مكفولة ومصونة .
ب - وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة ، ونشر الرذيلة بالتلميح مرة ، وبالتصريح مرة أخرى ليلاً ونهارًا .
جـ - محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات .
6- محاربة الدعوة الإسلامية عن طريق :
أ - تضييق الخناق على نشر الكتاب الإسلامي ، مع إفساح المجال للكتب الضالة المنحرفة التي تشكك في العقيدة الإسلامية ، والشريعة الإسلامية .
ب - إفساح المجال في وسائل الإعلام المختلفة للعلمانيين المنحرفين لمخاطبة أكبر عدد من الناس لنشر الفكر الضال المنحرف ، ولتحريف معاني النصوص الشرعية ، مع إغلاق وسائل الإعلام في وجه علماء المسلمين الذين يُبصِّرون الناس بحقيقة الدين .
7- مطاردة الدعاة إلى الله ، ومحاربتهم ، وإلصاق التهم الباطلة بهم ، ونعتهم بالأوصاف الذميمة ، وتصويرهم على أنهم جماعة متخلفة فكريًا ، ومتحجرة عقليًا ، وأنهم رجعيون ، يُحارون كل مخترعات العلم الحديث النافع ، وأنهم متطرفون متعصبون لا يفقهون حقيقة الأمور ، بل يتمسكون بالقشور ويَدعون الأصول .
8- التخلص من المسلمين الذين لا يهادنون العلمانية ، وذلك عن طريق النفي أو السجن أو القتل .
9- إنكار فريضة الجهاد في سبيل الله ، ومهاجمتها واعتبارها نوعًا من أنواع الهمجية وقطع الطريق .(13/366)
وذلك أن الجهاد في سبيل الله معناه القتال لتكون كلمة الله هي العليا ، وحتى لا يكون في الأرض سلطان له القوة والغلبة والحكم إلا سلطان الإسلام ، والقوم - أي العلمانيين - قد عزلوا الدين عن التدخل في شؤون الدنيا ، وجعلوا الدين - في أحسن أقوالهم - علاقة خاصة بين الإنسان وما يعبد ، بحيث لا يكون لهذه العبادة تأثير في أقواله وأفعاله وسلوكه خارج مكان العبادة .
فكيف يكون عندهم إذن جهاد في سبيل إعلاء كلمة الدين ؟!!
والقتال المشروع عند العلمانيين وأذنابهم إنما هو القتال للدفاع عن المال أو الأرض ، أما الدفاع عن الدين والعمل على نشره والقتال في سبيله ، فهذا عندهم عمل من أعمال العدوان والهمجية التي تأباها الإنسانية المتمدنة !!
10- الدعوة إلى القومية أو الوطنية ، وهي دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس أو اللغة أو المكان أو المصالح ، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل التجميع ، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعد عاملاً من أكبر عوامل التفرق والشقاق ، حتى قال قائل منهم : ( والتجربة الإنسانية عبر القرون الدامية ، دلَّت على أن الدين - وهو سبيل الناس لتأمين ما بعد الحياة - ذهب بأمن الحياة ذاتها ) .
هذه هي بعض الثمار الخبيثة التي أنتجتها العلمانية في بلاد المسلمين ، وإلا فثمارها الخبيثة أكثر من ذلك بكثير .
والمسلم يستطيع أن يلمس أو يدرك كل هذه الثمار أو جُلها في غالب بلاد المسلمين ، وهو في الوقت ذاته يستطيع أن يُدرك إلى أي مدى تغلغلت العلمانية في بلدٍ ما اعتمادًا على ما يجده من هذه الثمار الخبيثة فيها .
والمسلم أينما تلفت يمينًا أو يسارًا في أي بلد من بلاد المسلمين يستطيع أن يدرك بسهولة ويسر ثمرة أو عدة ثمار من هذه الثمار الخبيثة ، بينما لا يستطيع أن يجد بالسهولة نفسها بلدًا خاليًا من جميع هذه الثمار الخبيثة .
الجاهلية تتعدد صورها وأشكالها
يجب أن نعلم أن الجاهلية بعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه وإنكار لوجوده... فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين. وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الاتباع والطاعة كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم.. وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله سبحانه وأداء للشعائر التعبدية مع انحراف خطير في تصور مفهوم ودلالة " لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".. ومع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من سمون أنفسهم "مسلمين" من العلمانيين ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية مع انحرافهم وسوء فهمهم لمعنى الشهادتين ومع استسلامهم لغير الله من العبيد.. وكلها جاهلية.. وكلها كفر بالله كالأولين. أو شرك بالله كالآخرين.
مقارنة بين الجاهلية العربية القديمة والجاهلية العلمانية الحديثة
الجاهلية العربية القديمة لم تكن تنكر وجود الله أبداً، بل كانت توحده في معظم أفعاله تعالى كالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة.. {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25].
وكانوا يقرون بمشيئة الله النافذة في الكون وقدره الذي لا يرد.. {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء} [الأنعام: 148].
وكانوا يؤمنون بالملائكة {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أزل علينا الملائكة} [الفرقان: 21]، ويؤمنون بالرسل.. {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله} [الأنعام: 124].
ويقرون بأن الله يملك الرزق والسمع والبصر ويحيي ويميت وأنه يدبر الأمر.. {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله} [يونس: 31].
وكان منهم من يؤمن بالبعث والحساب كقول زهير:
(يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر *** ليوم الحساب أو يعجل فينتقم) [4]
وكذلك كان لدى الجاهلين العرب بعض الشعائر التعبدية منها تعظيم البيت الحرام وطوافهم حوله ووقوفهم بعرفات وتعظيم الأشهر الحرم. وكذلك ذبحهم ونذرهم لله كما في قصة نذر عبد المطلب وإهدائهم للبيت الحرام وتخصيص شيء من الحرث والأنعم لله.. {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً} [الأنعام: 136].
ومن الناحية التشريعية كانت الجاهلية العربية تقيم بعض الحدود كحد السرقة، فقد ذكر الكلبي والقرطبي في تفسيره: "أن قريشاً كانت تقطع يد السارق"[5]. وهو حد معروف في الشرائع السابقة كما في حديث المخزومية وشفاعة زيد لها.
وشيء آخر سبقت - بل فاقت- به الجاهلية العربية القديمة الجاهليات العلمانية المعاصرة وهو "حرية التدين". فكان منهم الحنفاء الذين يتعبدون ببقايا دين إبراهيم عليه السلام...
وكان منهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى...
وكان منهم عبدة الكواكب وعبادة الأوثان...
وبعضهم كان يعبد الجن أو الملائكة.
بيان حكم الله على المجتمع رغم كل ذلك(13/367)
بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟ إن الله تعالى حكم على هذه البيئة وعلى هذه المجتمعات والتصورات بأنها كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها - التي يحتج العلمانيون اليوم بها على إسلامهم - صفراً في ميزان الإسلام، وكفراً بالله ورسوله.
ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول ا صلى الله عليه وسلم ، واشتد النزاع، معركة شرسة ونزاع حاد، حتى أن السيف كان الحكم الأخير.
والشيء المثير أيضاً، أن موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى كلمة واحدة "لا إله إلا الله" كلمة يصر عليها رسول ا صلى الله عليه وسلم ، إلى أقصى حدود الإصرار، وترفضها الجاهلية إلى أبعد مدى للإنكار والرفض.
لماذا؟… لأنه منذ اللحظة الأولى حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى شهادة أن "لا إله إلا الله" كان الجواب الفوري… {أجعل الآلهة إلهاً واحدا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5].
فالقضية واضحة في أذهانه من أن الالتزام بهذه الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل ما عدا الله من معبوداتهم وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان وطاغوت الزعامة وطاغوت القبيلة وطاغوت الكهانة وطاغوت التقليد... الخ، والاستسلام الكامل لله ورد الأمر كله - جليله وحقيره وكبيره وصغيره- إلى الله تعالى وحده لا شريك له.
العلمانية نظام طاغوتي جاهلي كافر
وانطلاقاً من هذا المفهوم - الذي يعتبر في حقيقة الأمر من المعلوم من الدين بالضرورة عند أهل السنة والجماعة- نستطيع أن نرى حكم الإسلام في العلمانية بسهولة ووضوح. ونستطيع أن نصل بالقضية إلى المستوى المطلوب من الحسم والوضوح في نفوس أهل السنة اللازمين لفضح العلمانية ومواجهتها.
إن العلمانية باختصار " نظام طاغوتي جاهلي كافر" يتنافى ويتعارض تماماً مع شهادة "لا إله إلا الله" من ناحيتين أساسيتين متلازمتين:
الأولى: من ناحية كونها - أي العلمانية - حكما بغير ما أنزل الله.
الثانية: من ناحية كونها شركاً في عبادة الله.
إن العلمانية تعني - بداهة- الحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم غير شريعة الله وقبول الحكم والتشريع والطاعة والاتباع من طواغيت من دون الله. فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين أو بعبارة أخرى فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن السياسة، ومن ثم فهي- بالبديهة أيضا- نظام جاهلي لا مكان لمعتقده ولا لنظامه ولا لشرائعه في دائرة الإسلام. بل هو نظام كافر بنص القرآن الكريم {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44].
لماذا التردد في الحكم على الأنظمة العلمانية بالكفر؟
إذا كان الأمر كذلك، فهل يبقى بعد هذا أي مجال للشك أو التردد في حسم هذه القضية في نفوس أهل السنة تجاه العلمانية؟
الحق أنه لا مجال لشيء من ذلك، ولكن الغياب المذهل لحقائق الإسلام من العقول والغبش الكثيف الذي أنتجته الأفكار المنحرفة، هما اللذان يجعلان كثيراً من الناس يثيرون شبهات متهافتة لم تكن لتستحق أدنى نظر لولا هذا الواقع المؤلم الذي يعتبر من أشد عوائق الانطلاقة الكبرى المرتقبة لأهل السنة والجماعة بمشيئة الله.
فمن هذه الشبهات، استصعاب بعض الناس إطلاق لفظ الكفر أو الجاهلية على من أطلقها الله تعالى عليه من الأنظمة والأوضاع والأفراد، وبذريعة أن هذه الأنظمة - ولا سيما العلمانية الديمقراطية- لا تنكر وجود الله، وبذريعة أن هذه الأنظمة العلمانية الديمقراطية لا تمانع في إقامة بعض شعائر التعبد، وبحجة أن بعض قيادات الأنظمة العلمانية الديمقراطية يتلفظون بالشهادة ويقيمون الشعائر من صلاة وصيام أو حج وصدقة، ويظهرون احترامهم في المناسبات العامة لمن يسمون ب(رجال الدين)!! والمؤسسات الدينية.
وفي ظل هذه الشبهات المتهافتة المردودة، يستصعب بعض الناس، ومنهم - للأسف الشديد- بعض من يرفع راية الدعوة الإسلامية اليوم، القول بأن الأنظمة العلمانية الديمقراطية أنظمة جاهلية كافرة وأن المؤمنين بها المتبعين لها جاهليون كافرون.
ومن الواضح جدا أن الذين يلوكون هذه الشبهات، لا يعرفون معنى "لا إله إلا الله"، ولا مدلول "الإسلام". وإن جاز هذا في حق البعض على فرض حسن الظن بهم، فهو لا يجوز في حق كثير من المثقفين المطلعين على حقائق الأمور، وبالذات بعض من يرفعون راية الدعوة الإسلامية اليوم ويتعللون بهذه العلل الواهية.
ولا نملك إلا أن نذكر هؤلاء بأن تاريخ الدعوة الإسلامية وصراع أهل السنة والجماعة المرير عبر القرون، بل والقرآن الكريم كله من أوله إلى آخره ومثله السنة المطهرة لتقطع الطريق على هذه الشبهة وقائليها.
وهل تحمل الرسو صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه العنت والمشقة والحرب والجهاد ثلاثاً وعشرين متوالية، وهل نزل القرآن موجهاً وآمراً وناهياً طوال هذه السنين من أن أجل أن يقول الجاهلون باللسان فقط... " لا إله إلا الله"، ويقيموا الشعائر التي يمن دعاة العلمانية على الله أنهم يسمحون بها اليوم.(13/368)
وما الفرق بين قول قريش.. يا محمد اعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، وبين قول العلمانيين لفظاً وحالاً: نعبد الله في المسجد ونطيع غيره في المجالس التشريعية والبرلمان وفي القضاء والتجارة والسياسة!!
أهو شيء آخر غير أن قسمة أولئك زمنية، وقسمة هؤلاء مكانية أو موضوعية!!..
لماذا تتمسح الأنظمة العلمانية بالدين وتدعي الإسلام؟
والسؤال الآن هو لماذا تصر الأنظمة العلمانية على التمسح بالدين وادعاء الإسلام رغم أنها - على ما يبدو في الظاهر- تسيطر على مراكز القوة والحكم والتشريع؟
وللإجابة على ذلك، يجب أن نعلم أولاً أنه بعد أن نجحت الجاهلية- مؤقتا- في تنحية شرع الله من أن يحكم حياة المسلمين في ديارهم حاول أعداء الإسلام إخراج المسلمين عن أصل دينهم إلى المذاهب الإلحادية والمادية.
وبعد أن فشلوا في تنفيذ هذا المخطط وأصابهم اليأس من ذلك، لجأوا - بعد التفكير والتدبير - إلى ما هو أخبث وأخطر، لجأوا إلى اصطناع أنظمة تحكم بغير ما أنزل الله وفي الوقت نفسه هي تدعي الإسلام، وتظهر احترام العقيدة بوسائل مختلفة، فقتلوا إحساس الجماهير وضمنوا ولاءها وخدروا ضميرها، ثم انطلقوا يهدمون شريعة الله في مأمن من انتفاضتها.
ولذلك لا يجرؤ أرباب هذه الأنظمة العلمانية الديمقراطية على التصريح بأنهم ملحدون أو لادينيون أو أنهم ضد شريعة الله. بينما يصرحون - مفتخرين- بنهم ديمقراطيون مثلا!!.
شعارات العلمانيين وراياتهم
لذلك تبلورت شعارات العلمانيين وأفكارهم التي تعبر في جوهرها عن حقيقة الجاهلية ولكنها وبخبث شديد وتدبير محكم تحاول أن تنتسب إلى الدين بتبجح غريب ومكر وضيع، فأعلنوا شعار "تطوير الشريعة". ورفعوا راية "مرونة الشريعة لتلبية حاجات العصر". ثم نادوا بعد ذلك بشعار "تقنين الشريعة". وذلك حتى لا ينفر من هذه الأفكار جمهور المسلمين، فهم يريدون أن تسري العلمانية ببطء في عقول ونفوس جمهور المسلمين سريان السم البطيء الذي يودي بحياة صاحبه دون أن ينتبه له جسده.. وذلك بجرعات منتظمة تحت شعار " التدرج في تطبيق الشريعة"!!
والعلمانية الديمقراطية كما هو معروف تجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره، وتجعل الشريعة والتعامل لغير الله ووفق أمر غيره. وذلك معنى قولهم "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين" أي "فصل الدين عن الدولة". وكما هو معلوم من الدين بالضرورة، فإن هذا هو عين الشرك في حقيقته وأصله.
ولكنهم يستميتون حتى لا تصل هذه الحقيقة إلى جماهير المسلمين ويلهون الناس بشعارات "المدرسة العقلانية" و"الإسلام المستنير" وشعار "حكم الشعب بالشعب"، وتحت شعار "الحرية الشخصية" تمارس جميع أنواع الشذوذ الجنسي والإباحية تحت سمع وبصر وحماية الشرطة ومباركة أجهزة الإعلام. وتحت شعار "الأمة مصدر السلطات" تصادر جميع السلطات إلا سلطة البطش والتنكيل بالمسلمين دون غيرهم. وتحت شعار "الاستنارة" يخرجون الناس من نور الإسلام إلى ظلمات الجاهلية. وتحت شعار "حرية الثقافة والفكر" تمارس جميع أنواع الفنون الساقطة ويفتح الباب أمام الزنادقة للتهجم على الإسلام حتى يصل بهم الأمر بالسخرية من بيت الله الحرام وعُمَّاره حيث يظهر نموذج للكعبة المشرفة في إحدى المسرحيات وإذا بها تفتح فجأة وتخرج من داخلها راقصة تتلوى أمام الجماهير التي تنتسب إلى الإسلام!! ولم لا... وقد أصبح للعاهرات عيد يسمونه "عين الفن"، تمنح فيه العطايا والمكافآت، وجوائز الدولة التقديرية، ومفتي الديار العلمانية يبارك ذلك بمزيد من الفتاوى اليومية فحلل الرقص وحلل الغناء وحلل الموسيقى والفن وأخيراً وليس آخراً.. حلل مفتي الديار العلمانية.. الربا!!
العلمانية خبث لا يخرج إلا نكداً
قول الله تعالى: {والذي خبث لا يخرج إلا نكداً} [الأعراف: 58]. ولأن العلمانية شجرة خبيثة فقد أثمرت بيننا اليوم - ممن يقولون إنهم مسلمون- من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات.
وأثمرت بيننا اليوم حاصلين على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم يتساءلون في استنكار ما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ وما للإسلام والعري على الشواطئ؟ وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ وما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأس سبيل؟ ما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وتعامل الناس بالربا في البنوك؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله "المتحضرون!!"؟ الذين يلهثون خلف راياتهم الخبيثة ويرددون بأن "الدين لله والوطن للجميع".. ولا عجب في ذلكن فهم طلائع مدرسة "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"..!!
... فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} [ص: 5].(13/369)
وهم يتساءلون كذلك، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد.. فما للدين والمعاملات الربوبية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة؟ وما للدين وتجارة الخمور والمخدرات ما لم يقع تحت طائلة القانون الوضعي؟ وما للدين والسياسة والحكم؟ لا .. بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا دخلت في الاقتصاد تفسده!! ولا غرابة في ذلك، فهم قد رضعوا وشبوا على شعارات "فصل الدين عن الدولة"، و "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"!!
فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى، ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والاستنارة والمعرفة والحضارة وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله والسلوك الشخصي في الحياة والمعاملات المادية في السوق والسياسة والحكم... تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود!! وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ أضافت الجاهلية العلمانية اليوم وصفهم بالتطرف!! ثم ألصقت بهم أخيراً صفة الإرهاب!!
أليس هذا بعينه ما يردده أدعياء الإسلام من العلمانيين أو غيرهم؟
==============(13/370)
(13/371)
العلمانية في الإسلام
قد يستغرب الكثير من القراء هذا العنوان، وسيتساءلون حتما هل يفصل الإسلام الدين عن الدولة؟ كما هو تعريف العلمانية المختزل من قبل الإسلاميين، وسيرددون في أنفسهم إن الدين الإسلامي (وكأنه دين محمدي فقط لا دين الأنبياء جميعا) جمع بين الدنيا والآخرة، أي بين الدنيا والسياسة والآخرة وأحكام الدين.
نقول للقارئ الكريم قبل أن نخوض معه في تحليل العلمانية في الإسلام يجب عليه أن يعرف ماذا تعني العلمانية في مفهومها الشامل لا المختزل من قبل المعارضين لمنهجها الفكري من الإسلاميين وهم من يهمنا نقض تعريفهم المغلوط المغرض الذي يقول أن العلمانية هي ((فصل الدين عن الدولة)) بهذا التعريف الساذج؛ لأننا في صدد تعريف العلمانية الإسلامية التي ينفونها عنها بصفتهم حامين الحمى أي حمى الإسلام، وهذا ما يرفضه الإسلام ويرفضونه هم أيضا عند النظر في تأيديهم المنقطع النظير للثورة ضد أسر الإقطاع ورجال الكنيسة ورفضهم الكهنوت الذي للأسف الشديد تلبسه فقهاء الإسلام بعد النكسة التي مني بها الإسلام من أثر إلغاء حكم الجماعة على يد معاوية، إن نهوض مفهوم العلمانية إبان الصحوة التنويرية في أوربا هو الأمر الذي يمثل الإسلام في طرحه العام تجاه التحرر من القيود والتسلط في الفهم والقراءة وامتلاك الحقيقة المطلقة، وهو ذاته الأمر الذي يحاربه من ينتمون للإسلاميين خشية سلبهم السلطة والحاكمية التي أرجعت العالم الإسلامي إلى عصور الظلمات التي كانت تعيش فيها أوربا قبل اكتشافها لروح الإسلام العملي بين البشر المتمثل في ما اصطلح عليه اليوم بالعلمانية دون التطبيق لروح الإسلام الخلقي بين العبد وربه، وهو اصطلاح منقوص من الناحية التعريفية حيث أن العلمانية هي مزيج من تطبيق روح الإسلام العملي والخلقي لا الإنفراد بإحداهم كما هو الحال في الغرب اليوم.
تعرف العلمانية كما قلنا من قبل عند الإسلاميين بأنها فصل الدين عن الدولة، وهذا هو التعريف المغرض، أما تعريفها الذي يبين شمولها يقول: ((مفهوم سياسي اجتماعي نشأ إبان عصور التنوير والنهضة في أوروبا.عارض ظاهرة سيطرة الكنيسة على الدولة وهيمنتها على المجتمع وتنظيمها على أساس الانتماءات الدينية والطائفية ورأى أن من شأن الدين أن يعنى بتنظيم العلاقة بين البشر وربهم ونادى بفصل الدين عن الدولة وبتنظيم العلاقات الاجتماعية على أسس إنسانية تقوم على معاملة الفرد على أنه مواطن ذو حقوق وواجبات وبالتالي إخضاع المؤسسات والحياة السياسية لإرادة البشر وممارستهم لحقوقهم وفق ما يرون وما يحقق مصالحهم وسعادتهم الإنسانية)). هذا تعريف العلمانية كما جاء في موسوعة السياسة.
فأنا أسأل أين فصل الدين عن الدولة؟ فقد جاء في تعريفها أنها مفهوم سياسي اجتماعي لا ديني، أي (كيان دولة) عارض سيطرة الكنيسة الحاكمة باسم الرب، أي عارض الظلم والجور والتسلط والاستبداد والاستئثار والاضطهاد، وهذه الصفات يرفضها الإسلام بالنصوص لأهل النصوص وبالعقول لأهل العقول، وللأسف الشديد هذه الصفات التي تعارضها العلمانية هي السائدة في المجتمع الحاكم الإسلامي نتيجة مفهوم التراث الإسلامي لحاكمية السلطان (دولة الإسلام)، أما الهيمنة أي هيمنة رجال الدين فهي بلا شك واضحة وملموسة في الحياة العامة والخاصة في مجتمعنا العربي والإسلامي ومن يستطيع أن ينكر هذا؟! فما هو بين العبد وربه أصبح بين العبد وربه مرورا بموافقة زبانية الحكام وفقهائهم، وما هو بين العبد والعبد في النظر والاختيار يهيمن عليه من بيده مقاليد الحكم والحديد والنار، أما التنظيم على أساس الانتماءات الدينية والطائفية فهذا بين للجميع فهؤلاء الشيعة والسنة والصوفية والقومية العربية والكردية و...الخ وتاريخنا الإسلامي خير شاهد على مأساة الأقليات الدينية والطائفية.
أما رأي العلمانية وهو رأي الإسلام _ لا دولة الإسلام التي لا وجود له في عهد رسول الله صلى الله عليه _ بلا شك أن تكون العلاقة الدينية بين المرء وربه لا بين العبد والحاكم أو الفقيه وربه، والنصوص القرآنية شاهد على ذلك، ولكن الإسلاميين أبو إلا أن تكون لهم الكلمة الفصل دون غيرهم فيما قال الله حسب فهمهم وتأويلهم أو جمودهم على النصوص من غير نظر ولا تفكير، مستوحين الأحقية في هذا ممن سبقهم في القول تقليدا لا بحثا وتمحيصا، معتبرين من سواهم لا يفقه شيء إلا إذا وافقهم أما المخالف لهم فلا يعتد بقوله، بل الألقاب من الكافر إلى الفاسق مرورا بالمبتدع ستكون من نصيبه التي قد تجرؤ أحد الأتباع أو المقلدين الجهال بتنفيذ فتوى لمقلد جاهل بإهدار دمه، وما ذلك إلا لإرضاء رغبات آلهة الأرض المنصبة في دواوين السلاطين والمساجد والمنابر والإعلام مطبقين في ذلك مفهوم التوحيد الفهمي لكتاب الله تعالى، وبذلك شاركوه فيما انفرد به من الصفات سبحان وتعالى.(13/372)
أما زيادة العبارة القائلة ((فصل الدين عن الدولة)) في تعريف العلمانية فهي في حقيقة الأمر دفعت دفعا في هذا التعريف ليضمن فقهاء ومفكرو النظام الحاكم عدم سلبهم سلطاتهم التي تعطيهم حق الاستبداد والاستئثار والاضطهاد للشعوب المحكومة بالحديد والنار باسم الدين والدفاع عنه، وإن أحسنا الظن بمن عرف هذا التعريف نقول أنه قصد بفصل الدين عن الدولة أي فصل سلطة رجال الدين بدينهم المصطنع المحرف والمفصل طبقا لحاجاتهم المتنوعة كما في الكنيسة والمسجد ففي الإسلام يقف رجال الدين خلف وأمام الحاكم بأمر الله الحاكم المسلم ليشرعوا له بما توفر له من أدوات التحريف وهي الحديث النبوي أو السنة كما شاع بين المسلمين كل ما يخالف الكتاب المبين نصا ومفهوما وإشارة بدعوى النسخ والحق في التشريع، وفي حالة المسيحية يقف رجال الدين خلف وأمام النظام الإقطاعي _ السائد في العالم الإسلامي اليوم بعد أن جاء الإسلام ليحرر العرب من العبودية والاستبداد والذل والهوان والجاهلية الأولى _ الذي تربطه برجال الدين (الكنيسة) علاقة بقاء يكون مصيرها الزوال إن جرد منها، شأنه في ذلك شأن ما عليه الإسلام ورجال دينه اليوم.
أما كون العلمانية تدعو إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية على أسس إنسانية تقوم على معاملة الفرد على أنه مواطن ذو حقوق وواجبات وبالتالي إخضاع المؤسسات والحياة السياسية لإرادة البشر وممارستهم لحقوقهم وفق ما يرون وما يحقق مصالحهم وسعادتهم الإنسانية، فأين مخالفة الدين في هذا؟ وهل الدين إلا حرية الاختيار؟!! أليس للمسلم حقوق وواجبات؟ في الحقيقة الجواب على هذا من الواقع المعاش يكون كالتالي: الحقوق والواجبات عليه تجاه الله وخليفته في الأرض عبر وكالة شرعية انتزعها له فقهاؤه ليحكم بأمره فيما يخص العباد من أمور دينهم التي بينهم وبين ربهم وفي تفسير حكمه كما يرى فقهاؤه ورجال دينه، ولكن هل له من الحقوق والواجبات من قبل الحكومات؟!، الجواب ببساطة لا، على الأقل في العالم الثالث والعالم الإسلامي خاصة والعربي بأخص الخصوص، وهو العالم الذي حظي بما لم تحظ به الأمم السابقة من كمال قبل تحريفه في التطبيق لا المضمون وثبات التحرر من القيود كما في الإسلام.
أما الحياة السياسية فهي لا تخص العامة من الناس لأن الله قد اصطفى -حسب ظنهم وربما يقينهم الموروث- من عباده من يقوم بهذا، ضاربين عرض الحائط النصوص القرآنية وسيرة النبي وصحبه التي لا تخالف العقل والكتاب المبين إذا أن كثير من كتب السيرة بها من الحشو مالا يطيقه العقل والكتاب. بل إن الخوض في السياسة يعتبر من الكبائر عن بعض المسلمين، أضف إلى ذلك التعتيم المطبق على العلوم السياسية من قبل أعلام المسلمين الذين برعوا في كل العلوم وخاصة تلك التي اقتبسوا منها من كتب اليونان، فلا نراهم أولوا اهتمام لكتاب سقراط ((السياسة)) ولا كتاب أفلاطون ((المدينة الفاضلة))، وتركوا المكتبة الإسلامية خالية من هذه العلوم، ثم يأتي من لا يعقل ويقول أن العلمانية فصل الدين عن السياسية، وهنا يجب السؤال من الذي فصل الناس عن السياسة الحاملين لهذا الدين الاختياري؟ أما أن الدين لا يحشر في شيء إلا ليكون السبيل إلى كرسي السلطة والملك العضود؟!!!.
قالوا أن الإسلام بني على خمس الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة والحج. ونحن نقول أن الإسلام أكمل وأشمل مما يدور بين العبد وربه، فالإنسان مستخلف في الأرض لإعمارها فكيف يكون الإعمار بالإسلام وكل الإسلام يخضع لهذه الأركان الخمس التي مكانها المحراب للمتعبد الرسمي والأرض بأسرها للمسلم العادي؟!! هناك أمور ثلاثة غيبها ملوك وسلاطين المسلمين وأصبحت من الأمور المنسية، بل وأصبحت من الأمور المحظورة دينيا بفعل تأصيل المفكرين الذين غيبوا عن الساحة السياسية في العالم الإسلامي نتيجة الخوف والاضطهاد ألا وهي على الترتيب في أولويتها العدل والحرية والمساواة.
فما سبق الرد عليه كان على ما اصطلحوا على تعريفه، أما تفصيل القول في تعريفهم القائل بفصل الدين عن الدولة من وجهة نظر الإسلام فهي كما يلي:
تعريف الدولة:
إن من مكونات أي دولة خمسة عناصر بدونها لا تكون الدولة:
1. الأرض، وحدودها الجغرافية.
2. الشعب، بمختلف أعراقه ودياناته وثقافاته.
3. الدستور، الذي يختاره الشعب، ديني قابل للتقنين، أو وضعي على أسس عقلية عرفية اجتماعية.
4. الجيش، الذي يحمي البلاد من أعدائها الخارجيين، على غرار الجيش السويسري، وهو الجيش الشرعي للشعب لا الحكام.
5. الحكومة المنتخبة، ديمقراطيا، شوريا، أي جماعيا ذكورا وإناثا كبارا و صغارا.
تعريف الدين:
الدين هو رسالة السماء لأهل الأرض، ليعلموا حكم الله فيما ارتضاه لهم وهي أحكام غير دائمة، لأن الدوام من صفات الله، وهي تخضع للتطور التاريخي والاجتماعي والمعرفي والثقافي للإنسان، كما أن الدين أيضا ينظم العلاقات الاجتماعية بين الناس من طلاق وزواج ومواريث...الخ ويكفل حق المستضعفين في الأرض، ويعلمهم الصلة التي يجب أن تكون بين العباد لا العبيد وربهم من صلاة وزكاة وحج ...الخ.(13/373)
ما يربط به الإسلاميون بين الدين والدولة هو الدستور، فيقولون (دستورنا كتاب الله) دون الأخذ بالاعتبار الحاجة في تفصيل القول في هذه المقولة التي سلطت الحكام على شعوبها باسم الدين فجردتهم من حق المشاركة في السياسة من ترشيح وانتخاب والحرية الدينية من إنشاء مساجد أو كنائس...الخ وأعطت الحكام الحق الإلهي بتنصيب أنفسهم خلفاء لله والحكم فيهم كما أراهم الله مستغلين في ذلك ما فصله لهم فقهاؤهم من تقسم الإسلام إلى فقه عبادات وفقه معاملات.
وقد ركزت السلطة الحاكمة في الممالك الإسلامية - لا الدول التي لا صلة لها بالدين- لاحظ الفرق، على شق الفقه التعبدي للدين، وهو كما سبق وأن أشرنا أنه علاقة صلة بين العبد وربه، ليس لأحد المروج والدرج فيها، لتغيب عن الفرد المسلم حقه في الاستقلال والإرادة فيما بينه وبين ربه الأمر الذي كان له الأثر الكبير في بنية العقل المسلم تجاه الحاكم الذي سلم له حقه في إدارة الدولة فضلا عن حقه فيما بينه وبين ربه.
أما فقه المعاملات والذي يعد من أهم مقومات التعامل في الدولة والفرد وهو أمر قد همش تهميشا خطيرا من قبل الحكام، لكي لا يكون للناس علم بما لهم تجاه الدولة، ويشغلوهم بمسائل الحيض والغسل ولمس المرأة والصلاة والمكروه والمستحب من الدين، بل الأمر الأخطر من هذا، إذ أن هذا الفقه بشقيه أصبحا تابعين للسلطان بنصوص وضعوها وأخرى حرفوها عن معناه الأصلي فأصبح القضاء الذي يشمل ضمن مظلته هذه الأمور تابعا للسلطان الحكام بأمر الله تعالى، بعيدا عن الاستقلالية في الحكم والقرار والتشريع والاجتهاد، مجردا إياه من الحق في مقاضاته أو أحد أعيانه أو خدامه، خلافا لما كان عليه القضاء من استقلالية في صدر الإسلام.
ونستنتج من هذا أن القضاء في الإسلام كان مستقل استقلالا شاملا بدليل كونه الممثل الوحيد للدستور، الذي يحمي حقوق المواطن، الذي هو أحد مكونات الدولة وليس من مكونات الحكومة التي هي أحد مكونات الدولة كما سبق و أن بينا. فالقول بأن العلمانية تفصل الدين عن الدولة تعريف غير دقيق، ففي المثال الإسلامي القرآن هو الدستور والدستور له مشرعون يقننون له ويرسمون طريقه المستنبط على الوفاق بين القائمين على هذه المؤسسة الدستورية، وهي ليست منفصلة عن مكونات الدولة ولكنها مستقلة عن إدارة أحد المحركين للدولة ألا وهي الحكومة المنتخبة ديموقراطيا، فالذين يصرون على أن العلمانية تفصل بين الدين والدولة ليهيجوا مشاعر المسلمين الغافلين، يريدون أن تكون الحكومة (السلطة التنفيذية) مسيطرة على الدستور (السلطة التشريعية) وفي حالة الإسلام القرآن غير التعبدي الذي يضم تحت مظلته الأركان الثلاثة العدل و الحرية و المساواة المغيبة من قبل الحكام والسلاطين المنتمين للإسلام، في حين أن الإسلام ونصوصه لا يسيطر أحد على معطيات كتابه المقدس في ما يخص الدسترة إلا بالاتفاق بين المتخصصين المنتخبين من قبل الشعب الذي يتكون من شرائح متعددة الديانات واللغات والثقافات استطاع الإسلام بعالميته احتواهم بما يحمله من أركان هي محل قبول ورضاء الجميع لأن مصدره الخالق العليم بخلقه أجمعين. فهل نقبل العلمانية (لا الغربية القائمة على رأس المال) وإنما مفهم العلمانية الإسلامية التي اقتبس منها الغرب مفهومها ولكن حرفها ليخدم مصالح رأس المال على حساب القيم وحق الجماعة، التي جاء الإسلام و الكتاب يدافع عنهما ودفع سيطرة الأشخاص على معطيات الكتاب التي هي رحمة للناس أجمعين، أما نرد ما يمليه الشخص الواحد الواهم بكرسي العرش أنه إله الأرض والناس على عواطف المسلمين من التمسك بكتاب الله الذي يسيطر عليه ويؤله كيفما يشاء حسب حاجاته ورغباته بأذنابه من فقهاء السوء؟!!، والتاريخ خير شاهد و الحاضر ليس ببعيد.
إن مكونات الدولة التي سبق و أن ذكرناه يعمل كل منها في سمائه وفضائه المخصص له فالحدود الجغرافية محفوظة دوليا ويحافظ عليها الجيش (الذي هو من أبناء الشعب لا زبانيته) الذي يتبع سياسة الحكومة المنتخبة ديموقراطيا (أي الشعب) فيما لا يخالف الدستور الإلهي الذي فضل الإنسان على سائر خلقه والدستور الوضعي الذي قنن وحفظ الحقوق والواجبات للجميع، لا كما هو الحال في كثير من الممالك العربية والإسلامية وبعض من أصابهم داء الملك والسيطرة من تسليط الجيوش والعسكر لخدمة حفنة من الناس المستبدين بالسلطة عنوة وقهرا والمسخرين لثروات البلاد المستأثر بها لتموين هذا العصابات الدولية التي ولأوهها للدرهم والدينار من الذهب والفضة لا لله والشعب والدستور.(13/374)
أما الشعب فيعمل ويتعايش مع بعضه البعض على أساس المواطنة التي تكفل مساواة الحقوق واختلاف في الواجبات نسبياً بين أفراد الشعب رجالا ونساء كبارا وصغارا عاقلا أو مجنونا لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى عند الله أما عند البشر فحقهم مكفول في العمل والدين - الذي ليس من مكونات الدولة- والمذهب والفكر والثقافة واللغة...الخ بما نص عليه الدستور الإلهي والوضعي المفقود في عالمنا الإسلامي والمتواجد في بلاد من ينعتم بعض المسلمين بالكفار، أما الدستور فهو ما يختاره الناس طوعا مسلمهم و مسيحيهم ويهوديهم ...الخ إما من أصل ديني يتفقون عليه أو من أصل عقلي وكلا الأمرين أمرهما ومردهما إلى الله ولكن الخيار يكون للشعب الذي سيسأل يوما عما أختار وفعل، فمن غير المعقول أن يسمح الله تعالى للإنسان بالخيار في الدخول في الإيمان أو الكفر دون أن يعطيه الخيار في قبول النظام الذي يعيش فيه والدستور الذي يطبق عليه، فإذا رفض الإسلام بالخيار فكيف يطبق أحكامه عليه؟ إذا ما الدين إلا دين دون دولة، وبهذا المنهج الإسلامي البسيط يضمن الجميع حقهم في التشريع المدني بعيدا عن إملاءات القياصرة والأكاسرة والسلاطين والباباوات المعممة التي تستخدم الأحكام القرآنية أو الإنجيلية أو التوراتية في تيسير أمورها فرد سلطتها على الناس باسم الدين.
أما الحكومة المنتخبة فهي لا تتعدي كونها مجلس إدارة يدير مصالح الشعب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بما تمليه عليهم وعودهم ومشروعاتهم التي قدموها للناخب أثناء حملتهم الانتخابية، مع حراسة الدستور وعدم انتهاكه للبديهيات من الأمور مثل العدالة والحرية والمساواة من جانب الحكومة. أما أن تحاول الحكومة أن تسيطر على مكونات الدولة باسم الدين (الجهاد) بأن تسعى لتوسيع حدودها على حساب حدود الدول الأخرى أو أن تحجر على الشعب حرية الفكر والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية وحرية الكلمة والصحافة الحرة والعدالة الاجتماعية بجميع أنواعها والمساواة في توزيع الثروة بين المواطنين لا لحساب الطبقات والأسماء والقبائل والأقارب كما هو الحال في وطننا العربي والإسلامي، أو أن تفرض دستور بعينه يخالف رأي الأكثرية باسم الدين المسيس بالعقيدة أو المذهب أو الطائفة أو العائلة أو أن يعطل الدستور القائم باسم الشعب بدعوى الحفاظ على الدولة وهو ما يعرف بقانون الطوارئ أو الأحكام العرفية، فما هذا إلا الظلم بعينه للشعب بأسره، أو أن يسخر نواة المجتمع الدفاعي للهجوم على الشعب ومقدرات الأمة بأسباب لا يقبلها إلا من خاف على نفسه وولده من سطوت رجال القبضة الحديدية والدين الموالين للحكومة أو بالأحرى الحكومة نفسها، فكل هذا لا يصح أن نقبله باسم الدين، إذ الدين خلافه بالكلية وسنفصل المقال في هذا لاحقا.
إن فلسفة العلمانية تتجسد في حماية ما يختاره الناس في التحاكم إليه بغض النظر عن محتويات ومصدر هذا التحاكم أهو ديني أم وضعي، بعيدا عن الخداع بما روج له من أفيون الشعوب واللعب بمشاعرهم وعواطفهم الدينية خدمة لسياستهم السلطوية الاستبدادية.
الأستاذ المعارض ....
مشكلتكم أنكم أنتم معشر العلمانيين تنظرون إلى الآخرين بمرآة مصغِّرة فترون الآخرين دائماً صغاراً ولذلك لن تتعلموا لأن المتكبر لا يمكن أن يتعلم ... أنتم تعتبرون أنفسكم النخبة المثقفة والمدللة والآخرون هم المتخلفون والظلاميون وووو الإرهابيون وووو وإذا كنت تعتقد أن المسلمين يقفون عند حد هذا التعريف بالعلمانية الذي ذكرته // فصل الدين عن الدولة أو السياسة /// فأنت واهم ويجب إذن أن تتواضع وتقرأ للباحثين المسلمين المعاصرين وتنظيراتهم الجديدة للعلمانية ...
ومن هنا فإن ما ذكرته أو ما اقتبسته أو ما نقلته أنت من تعريف للعلمانية وبدأت تبني عليه سينهد مباشرة إذا ما علمت أن العلمانية في المنظور الإسلامي لا تقف عند هذا الحد ... بل هي أوسع وأشمل من ذلك بكثير وذلك باعترافات العلمانيين أنفسهم ....
عندما عزمت على دراسة ظاهرة العلمانية كان التعريف القابع في ذهني هو التعريف الشائع لها وهو " فصل الدين عن الدولة " ولما قرأت قليلاً ورأيت من يطرح تعريفاً جديداً هو " فصل الدين عن الحياة " ( ) ملت إليه وقلت هو هذا ..!!
ومع طول المعايشة والمعاشرة للخطاب العلماني رأيت أن القضية أكبر من كونها قضية فصل ، وإنما هي في كثير من الأحيان أقرب إلى الجحود والنكران للأديان وقيمها ، فضعفت قناعتي بهذا التعريف ، وهذا لا يعني أن التعريف قد فقد قيمته عندي ، وإنما يعني أنه قاصر عن الحد الكامل ، وإن كان يغطي مرحلة من مراحل العلمانية أو حيِّزاً من رقعتها الشاسعة .(13/375)
تبادر إلى ذهني في وقت من الأوقات أن العلمانية هي إلغاء المقدس ، ولكن بعض العلمانيين أنفسهم يعتبرون المقدس نمطاً لوجود الإنسان ، وأن الإنسان يعيد إنتاج المقدس بأشكال جديدة وهو يمارس دنيويته ( ) وأن المقدس عنصر من عناصر الوعي ، وأن أقصى مظاهر الحداثة المعاصرة غارقة في المقدس ( ) ، وهو ما يعني أن العلمانية غارقة في مقدسات ، بل ووثنيات جديدة تخترعها كبديل للمقدس الديني ، بل وتضع آلهة جديدة ، وتقدم لها مراسم وقرابين وألوان من العبودية والخضوع ، وهو ما أشار إليه - آنفاً - رفيق حبيب ."" إن الأسطرة ملَكة ثابتة وعبر هذا فالإنسان المعاصر يساهم أيضاً وعبر حرتقاته العلمية الجديدة في صنع أساطيره "" ( ) ولذلك "" يمكن أن يُؤلَّف عمل كامل عن أساطير الإنسان الحديث "" ( ) .
قلت : فهي إذن " إنكار الغيب ، وإثبات المادة " بيد أن العلمانية لم تتمكن من الاستمرار في إنكار الغيب ، لأن الإيمان بالغيب لا بد منه ، فإذا لم يأت اختياراً جاء اضطراراً ، وهذا هو الواقع فالعلمانية تؤمن بغيبيات وميتافيزيقيات كثيرة مثل النيترونات ، والأنتيرونات ، والأثير أو السديم ، وغير ذلك من أشياء يقوم عليها العلم ولكنها افتراضية ، والإيمان بها ليس إلا ضرباً من ضروب الإيمان بالغيب ، وإن كابرت العلمانية وعاندت ( ) ، وهو ما يلفت النظر إليه جلال أمين عندما يذهب إلى أنه "" لا مفر من اتخاذ موقف ميتافيزيقي ما ، والبدايات الميتافيزيقية هي التي تفضي إلى النتائج ، والمقولات المختلفة التي تكون أيديولوجية ما، والتي توجه السلوك الإنساني ، وهذا يعني أن العلمانية منظومة شاملة ورؤية للكون والطبيعة والإنسان تستند إلى ميتافيزيقا مُسبقة تطرح إجابات عن الأسئلة النهائية الكبرى ، فحالة الشك المطلقة ، الشك في كل المسلمات تجعل الحياة مستحيلة "" ( ) . "" فالغيبي مبدأ من مبادئ علم الاجتماع لا بد منه للمجتمع ولا يأتلف المجتمع ويكتمل إلا بمبدأ غائب عنه يرسم الحدود الفاصلة بين المقدس والدنيوي ( ) .
قلت : إذن فالعلمانية هي " النسبية المطلقة " أو "" أن الإنسان هو ما يفعله "" ( ) كما طرح غير واحد منهم - على سبيل المثال - مراد وهبة ، ولكن المتأمل يرى كثيراً من المنظرين والمؤسسين للفكر العلماني لا يقولون بالنسبية المطلقة ، لأنهم يعتبرون آراءهم وفلسفاتهم حقائق مطلقة يجب على الناس أن يلتزموا بها ، ويسيروا على مقتضاها ، فالماركسيون - مثلاً - يعتبرون الماركسية هي الحقيقة المطلقة ، حقيقة الحقائق ، وكل العلوم التي جاءت قبلها كانت تمهيداً لها ، وكل ما سيأتي بعدها يجب أن يكون شرحاً لها ( ) .
ولذلك مع أن النسبية المطلقة تستحوذ على حيز عريض جداً من النظرية العلمانية ، إلا أنها لا يمكن أن تكون حداً شاملاً لكل عناصرها وأسسها ، هذا بالإضافة إلى أن العلمانية نفسها تتحول إلى مطلق في نظر أصحابها وعلى الآخرين أن يتعلمنوا أو يُوصَمُوا بالجهل والظلامية والأصولوية .
سمعت أحد العلماء الأجلاء( ) يؤكد مراراً على أن العلمانية هي الغنوصية فتأملت في هذا الحد فوجدته يغطي مساحة من مساحات العلمانية ، وحقلاً من حقولها وهو : التأويل ، حيث بالرغم من أن الغنوصية قائمة على العرفان ( ) ، والعلمانية - بحسب أصحابها - قائمة على العقل ، إلا أنهما يلتقيان في النتائج المترتبة عن " التأويل المنفلت " ، حيث نصل عن طريق التأويل العلماني والغنوصي المنفلتين إلى خلاصات ما أنزل الله بها من سلطان ، وفهوم تتجافى إلى أبعد الحدود مع النص ، فإن النص إذا كان في السماء فإن التأويل العلماني أو الغنوصي في أسفل الأرضين ، وإذا كان النص يتجه غرباً فإن تأويلهما يتجه شرقاً . وهكذا رأيت أن الجامع بين العلمانية والغنوصية هو " التأويل المنفلت " .
وسمعته أيضاً يعرف العلمانية بأنها " تنحية الأسئلة الكبرى " ولكن الذي بدا لي أن العلمانية بعد أن فشلت في الإجابة عن هذه الأسئلة اقترحت تنحيتها لأنها بدأت تُعكِّر عليها سيرورة العلمنة . وهذه التنحية كارثة من كوارث العلمانية على الإنسانية لأنها الأسئلة الجوهرية للإنسان ، بل هي محور إنسانيته ، والمعنى الصميم لهذه الإنسانية ، وتنحيتها حَطّم إنسانية الإنسان ، وجعله مادة بلا هدف ولا غاية ، يتقلب في ظلام الشك والحيرة ، وبدد له كل أمل في السعادة .
ومن هنا رأيت أن تنحية الأسئلة الكبرى ليست تعريفاً للعلمانية وإنما نهاية من نهايات العلمانية ، بل يمكن اعتبار هذه التنحية : إشهاراً للإفلاس ، وإعلاناً للخيبة .
استبطنت في مرحلة من مراحل البحث التعريف القائل بأن العلمانية "" رؤية مادية بحتة للوجود بما فيه "" ولكن تذكرت أن باركلي لم يكن مادياً فقد أنكر المادة واعتبرها موجودة لأنها مُدرَكة فقط، وأن هيوم أنكر الروح والمادة ولم يعترف بأية حقائق ضرورية ، وكذلك فإن جان جاك روسو كان ممثلاً للفلسفة المثالية ، ومع ذلك كان لهؤلاء جميعاً إسهاماً بارزاً في علمنة الفكر الأوربي .(13/376)
هذا بالإضافة إلى - ما أشرنا إليه سابقاً - من أن العلمانية لم تتمكن من الاستمرار في المادية لأن العقل يؤكد وجود حقائق كونية ليست مادية يقوم عليها الوجود والعلم .
فالمادية سمة أساسية من سمات العلمانية ولكنها لا تُعبّر عنها تماماً وإن كان بروزها يكاد يجعل العلمانية تُختَزَل غالباً في هذه السمة .
2 - أبرز الخصائص :
لقد استقر رأيي - ردحاً من الزمن - على أن العلمانية هي : "" أنسنة الإلهي ، وتأليه الإنساني "" ويتميز هذا الحد بأنه يجمع خصائص كثيرة للعلمانية في شطريه :
فالشطر الأول " أنسنة الإلهي " يحتوي على مقولة العلمانية في رفض المصدر الإلهي للأديان أو الوحي ، واعتبارها ظواهر اجتماعية وإنسانية تاريخية برزت ضمن ظروف ومعطيات معينة كما أراد فرويد وغيره . ويحتوي هذا الشطر أيضاً : على إلغاء أو تمييع كل المقدَّسات والمعجزات ، وإعادة تفسيرها تفسيراً إنسانياً اجتماعياً أو اقتصاديا أو مادياً ، أو نفسانياً واعتبارها مجرد خرافات وأساطير عفا عليها الزمن .
ويحتوي هذا الشطر أيضاً : على أنسنة الطبيعة والكون بمعنى تجريده من أية دلالات روحية أو كونية أو رمزية ، واعتبارها مواد للإنسان عليه أن يستثمرها في منفعته وأنانيته بشكل مطلق وإمبريالي دون أي اعتبار آخر ، مع رفض الدلالات الغيبية ، والإشارات الربانية التي تؤكد عليها الأديان جميعاً كمعالم للهداية ، باعتبار الطبيعة - في رؤيتها - كتاباً كونياً منظوراً إلى جانب الوحي المكتوب .
ويحتوي هذا الشطر أيضاً : على الجهود التي تبذلها العلمانية لاستثمار الإلهي وتحويله إلى فكرانية ( ) بمعنى : "" تحويل الوحي إلى إيديولوجية "" ( ) . "" تحويل الوحي ذاته إلى علم إنساني "" ( ) وذلك لتحقيق أغراض الإنسان وأطماعه ، وقد تجلى ذلك واضحاً في الفلسفة الفيورباخية ، وتبنى ذلك حسن حنفي من العلمانيين العرب - كما سنرى - ومعنى ذلك "" إلغاء الغيب كمصدر للمعرفة ، وقصرها على عالم الشهادة "" ( ) ويتم ذلك بالعقل والتجريب بعيداً عن الوحي .
وعلى مستوى العلاقة بين العلمانية العربية والنص القرآني فإنه يتجلى أيضاً دور الشطر الأول من التعريف حيث نجد نزعة الأنسنة سائدة لدى هؤلاء فكتب أركون كتابه " نزعة الأنسنة " وحاول نصر حامد أبو زيد وغيره استعادة القضية الكلامية القديمة التي ثار حولها جدل طويل ، وهي مسألة خلق القرآن في شكلها الاعتزالي ، وذلك من أجل تكريس إنسانية الوحي ومنتوجيته البشرية ، وسنفصل ذلك فيما بعد .
وأما الشطر الثاني من التعريف " تأليه الإنساني " فيتولى تغطية جوانب كثيرة أيضاً من خصائص العلمانية أهمها : النزعة الغرورية التي كرستها فلسفة نيتشة وداروين عبر " الإنسان الأعلى " و" البقاء للأقوى " والتي مورست عملياً من خلال حكام النازية والفاشية كما أشرنا سابقاً.
ويتضمن هذا الشطر أيضاً : التركيز العلماني الدائم على مركزية الإنسان ، واستقلالية العقل ، وهذه الأخيرة تشكل بُعداً أساسياً في العلمنة حتى عُرِّفت بأنها لا سلطان على العقل إلا للعقل في تفسير الوجود . هذا الجزء يتكفل بالإشارة إلى هذا البعد ، حيث إن تأليه الإنسان يعني أن التفكير الإنساني مستقل عن الوحي ، بل يرقى إلى مرتبة الوحي ، ويحظى بنصيب من الألوهية . لقد بلغ الأمر بالفرنسيين بعد الثورة أن نصبوا تمثالاً وعبدوه سموه " إلاهة العقل " ( ).
ويتضمن هذا الشطر أيضا : الإشارة إلى تأليه القيم الجديدة للعلمانية المتمثلة في حقوق الإنسان ، وترسيخ الفردية المطلقة ، والديمقراطية ، وحرية المرأة المطلقة ، ونسبية الأخلاق ، والعِلمانية - بالكسر - ، وكل ذلك ما هو إلا إحلال لمنظومة جديدة مؤلَّهة من القيم الإنسانية ، وإضفاء حالة من القداسة عليها ، بدلاً من الدستور الإلهي القائم على الوحي .
ويتضمن هذا الشطر أيضا : الإشارة إلى الجانب العبثي في العلمانية وهو بعد جوهري فيها ، ذلك لأن تأليه الإنساني يعني أن الإنسان الجسد هو المُؤلَّه ، لأن العلمانية لا تعترف إلا بالجسد ، وحاجات هذا الجسد الجنسانية والغرائزية تنال حظاً وافراً من الإجلال والقداسة - كما رأينا في الفصل الأول -إن تأليه الإنساني يعني تقديس المُدَنَّس والارتفاع به إلى مستوى الألوهية.
أما البعد المادي في العلمانية فإن شطري التعريف يسهمان في تغطيته ، إذ إن أنسنة الإلهي تعني تحويل ما ليس بمادة إلى مادة ، أو بعبارة أخرى تدنيس المقدس والتعامل معه على هذا الأساس الدَّنِس . ثم يأتي الشطر الثاني ليضفي على المادة قداسة جديدة " تقديس المدنس " وتصبح المادة بهذا الشكل حالَّة محل الألوهية ، ويغدو كل ما سواها ضربٌ من الأساطير والأوهام . وهو ما سعت الفيورباخية والماركسية إلى تكريسه .
3 - العلمانية هي الدنيوية :
هذا التعريف الذي اقترحته وتحدثت عنه للتو ، وقلت إن رأيي استقر عليه ردحاً من الزمن لم يدم هذا له هذا الاستقرار ، مع أن خصائصه - كما أشرت - موزعة في التعريفات التي عرضناها سابقاً لكثير من الباحثين .(13/377)
والسؤال هنا : " هل يمكن اختزال هذا التعريف أو التعريفات المطروحة سابقاً بكلمة واحدة ؟
لقد سبق أن قلنا إن سيد محمد نقيب العطاس رأى أن اقرب كلمة تعبر عن العلمانية في المفهوم القرآني هي ما يعبر عنه القرآن بلفظ " الحياة الدنيا "، وإن لم يقترح ذلك كتعريف للعلمانية ، ورأينا كذلك أن العلمانية تُرجمت في مصادرها الأجنبية على أنها " العالمانية " أو " الدنيوية " أو " الدهرية " وكتب جمال الدين الأفغاني كتابه " الرد على الدهريين " يرد فيه على العلمانيين المعاصرين له .
وما أريد أن أقوله هنا : هو أن " الدنيوية " ليست مجرد ترجمة لغوية للعلمانية ، وأعني أن العلمانية يمكن أن تُعرَّف تعريفاً جامعاً مانعاً - فيما أرى - بكلمة واحدة هي : " الدنيوية " .
إن هذا التعريف - كما يبدو لي - لا يكاد يغادر صغيرة ولا كبيرة من مقولات العلمانية وخصائصها إلا ويطويها في داخله ، وإن نظرة سريعة في تاريخ العلمانية وأسسها وجذورها ، وأبعادها وتجلياتها سوف تبين أن الدنيوية هي الهم الأول ، والهاجس الأساسي ، بل الوحيد الذي تدور عليه العلمانية .
فالمادية ، واللامادية ، والمثالية ، والعقلانية ، والعِلمانية ، والتطورية ، والجنسانية ، والأنسنة ، والحرية ، والديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، والعنصرية ، والفردية ، كل هذه العناصر التي أفرزتها العلمانية عبر تاريخها الطويل أُريدَ منها أن تحقق للإنسان السعادة في هذه الحياة الدنيا دون أي اعتبار آخَر ليوم آخِر ، والسعادة المقصودة هنا هي أقصى قدر ممكن من اللذة والمتعة .
وهنا يمكن أن يتبادر إلى الذهن سؤال وهو : أن الشرائع السماوية أيضاً قصدت تحقيق السعادة للإنسان في الحياة الدنيا فهل الأديان منخرطة على هذا الأساس في تيار العلمانية ؟
والإجابة : أن الشرائع الإلهية تربط سعادة الدنيا بالسعادة في الآخرة ، لذلك فسعادة الإنسان في الحياة الدنيا بمنظور الشرائع الإلهية ألا ينخرط في الملذات والشهوات والمُتع دون ضوابط وحدود لأن هذا سينغص سعادته في الآخرة .
لقد تركت هذه الدنيوية العلمانية أثرها حتى على الإسلاميين ، فأصبحنا نُبرز كثيراً عناية الإسلام بالحياة الدنيا ، ودعوته إلى عمارتها ، والاستمتاع بالطيبات منها ، ونتغاضى - مجاراة للعلمانيين - عن أن الإسلام في الأصل يدعو الناس إلى الآخرة عبر ممر الدنيا ، وهذا لا يعني تخريب الدنيا ، وإنما يعني التطلع إلى المستقبل الأبدي ، وليس إلى الحياة العاجلة ، وهذا ليس من شأنه أن يجعلنا نهمل عمارة الحياة الدنيا ، وإنما من شأنه أن يُهذِّب نفوسنا ويسموَ بها عن الأنانية ، ويطهرها من السخائم والعداوات والتنافس على المتاع الزائل والحطام الفاني .
وهنا يجدر بنا أن نتذكر قول أحد أقطاب الصوفية كتلخيص لموقف الإسلام من الحياة الدنيا " أن تكون الدنيا في يدك وليس في قلبك " وهذا بعكس العلمانية التي تريد أن تمزج الدنيوية بكل ذرة من ذرات الجسد الإنساني ، وتغرسها في صميم قلبه ، وتجعلها الملاذ الوحيد ، والمعشوق الوحيد ، والغاية النهائية للإنسان ، ولا يخفى ما في ذلك من تكريسٍ للتنافس الأعمى بين البشر دولاً وأفراداً ، وهو ما نعايشه اليوم ، لأن البقاء للأقوى ، وساحة البقاء في المنظور العلماني قاصرة على هذا العالم المحسوس فقط .
وتتجلى الدنيوية واضحة في الممارسات التأويلية التي تشتغل على النص القرآني فتحاول دائماً أن تحد من سلطانه الإلهي ، وتبرز دائماً ما يؤكد على الاعتبارات الدنيوية في مسائل الميراث ، والمرأة ، والحجاب ، والدولة والأخلاق ، ويُبرَّر ذلك بمبررات دنيوية محضة مثل : مواكبة العصر ، ومسايرة التحضر ، وتطور الفكر . والنموذج الذي يُحتذى في كل ذلك هو الغرب ، فكل ما عنده أصبح معيار التطور والتحضر والتقدم ، وتغفل هذه الممارسات أو تتنكر للجانب الغيبي الأخروي الذي يشكل الحيِّز الأكبر من الرسالة القرآنية ، وفي حالات متطرفة فإنها تقوم بعملية مسخ وتشويه لهذا الجانب عن طريق " التأويل المنفلت " لتجعله يصب في خدمة الدنيوية أيضاً .
4 - خلاصة :
العلمانيون - كما مر بنا سابقاً - يستدلون على علمانية الإسلام بدنيويته ، وبما حصل في التاريخ الإسلامي من ترف وبذخ وإقبال على الدنيا ، فهم بذلك يقرون بأن الدنيوية هي جوهر العلمانية ، وقد مر معنا كذلك كيف تؤكد دوائر المعارف والمعاجم الغربية على دنيوية العلمانية بما يغني عن الإعادة هنا .
لقد أشرنا - سابقاً - إلى أن الدنيوية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ والحضارات ، وأن أكثر الأمم اختارت الحياة الدنيا على الآخرة ، ذلك لأن الحياة الدنيا حلوة خضرة وقريبة ، أما الآخرة فهي في منظور الإنسان العجول بعيدة غير مغرية كما تفعل الحياة الدنيا "متاع الغرور " .
والسؤال هنا : كيف نحدد عناصر الحضور والغياب في التعريف الذي نقترحه ؟ وهل الدنيوية مطلقاً تُوصَف بأنها علمانية ؟ أم أنها دنيوية ذات نسبة معينة ؟
والسؤال بعبارة أخرى : ما هو الحد الذي تتحول فيه الدنيوية إلى علمانية .(13/378)
لقد أشرنا سابقاً إلى أن الشرائع السماوية فيها جانب دنيوي فهل هي بذلك علمانية ، أم تحتوي على نسبة معينة من العلمنة ؟
إن الدنيوية تتحول إلى علمانية عندما تتحول الوسيلة إلى غاية ، والممر إلى مقر ، وقد يعترض علينا هنا بأننا نتحدث بلهجة صوفية وعظية ، ولكن هذه هي الحقيقة سواء كانت في قالب صوفي وعظي أم حداثي معاصر ؟
عمارة الدنيا مرادة إلى أقصى الحدود ، ولكن على أن لا يؤدي ذلك إلى الفساد في الأرض ، كما يجب مراعاة أن الإنسان مؤتمن وليس مالكاً حقيقياً ، وأنه رضي بحمل الأمانة ، وكل ما يؤدي إلى الإخلال بحفظ الأمانة " الكون والطبيعة والإنسان ورسالته فيهما " فإنه انقلاب إلى دنيوية عضوض أي علمانية .
الإنسان مُستَخلَف في الأرض ، وهذا يعني أنه لا يملك أن يضع لنفسه منهجاً في الحياة باستقلالية كاملة ، لأن المنهج وضعه المالك الحقيقي ، والسيد الحقيقي في هذا الوجود ، أما وظيفته هو فإنها تنحصر في أن يفهم المنهج بشكل صحيح وينزله على حياته كما أراد واضعه عز وجل . والفهم غير الوضع والإنشاء وإن كان الخطاب العلماني سينازع في هذا كما سنرى .
إن أي إنسان عاقل عندما يشتري جهازاً من شركة ما يقرأ النشرة المرفقة معه والتي تُبيِّن كيفية استعماله ، وقراءة هذه النشرة توفر عليه جهداً ووقتاً يبذله في محاولته تشغيل الجهاز دون استعانة بالصانع . إن جهده المستقل قد ينتهي بالوصول إلى معرفة تشغيل الجهاز ولكن بعد جهد ووقت من التجريب والمحاولة ، ولكنه قد ينتهي أيضاً بإتلاف الجهاز وإعطابه .
إن كل ممارسات الإنسان في هذا الكون لكي تبرأ من " الدنيوية العلمانية " يجب عليها أن تكون قائمة على مبدأ العبودية لله عز وجل ، والرغبة فيما عنده من الخير والسعادة ، ومنافية لمبدأي الكبرياء الزائف ، والعقلانية المتهورة القائمين على الاعتداد الأعمى بالذات والمنفعة العاجلة ، واللذة الزائلة ، والنظرة القاصرة على هذه الحياة الدنيا .
إن الاحتراز الوحيد الذي نضعه هنا لعله يجنبنا كثيراً من الانتقادات والإلزامات التي قد ترد علينا إزاء هذا التعريف هو أن العلمانية " الدنيوية " التي نقصدها تزيد وتنقص ، وتهبط وتصعد ، وأننا عندما نتحدث عن العلمانية التي تقارن الإلحاد والزندقة فإننا نقصد العلمانية في أعلى درجاتها . إن هذا يعني أن بعض الباحثين الحريصين على إسلامهم وإيمانهم ولكن تصدر منهم بعض الأفكار التي تخدم التوجه الدنيوي العلماني ، وتتحرك في داخل أسواره لا يمكن أن يوصفوا بأنهم علمانيين ، وإن كان يصح أن نصف أفكارهم المنحرفة بأنها أفكار علمانية . والله أعلم
العلمانية ما هي ؟
الأستاذ المعارض ....
مشكلتكم أنكم أنتم معشر العلمانيين تنظرون إلى الآخرين بمرآة مصغِّرة فترون الآخرين دائماً صغاراً ولذلك لن تتعلموا لأن المتكبر لا يمكن أن يتعلم ... أنتم تعتبرون أنفسكم النخبة المثقفة والمدللة والآخرون هم المتخلفون والظلاميون وووو الإرهابيون وووو وإذا كنت تعتقد أن المسلمين يقفون عند حد هذا التعريف بالعلمانية الذي ذكرته // فصل الدين عن الدولة أو السياسة /// فأنت واهم ويجب إذن أن تتواضع وتقرأ للباحثين المسلمين المعاصرين وتنظيراتهم الجديدة للعلمانية ...
الرد: سبحان الله تستفتح بتصغير خصمك وشخصنة الرد، فماذا تسمي هذا؟؟؟ رمتني بدائها وأنسلت!!!!!! أما تنظير المسلم المؤدلج لا قيمة له لأنه لم يتجرد، فلا يمكن أن يكون باحثا.
ومن هنا فإن ما ذكرته أو ما اقتبسته أو ما نقلته أنت من تعريف للعلمانية وبدأت تبني عليه سينهد مباشرة إذا ما علمت أن العلمانية في المنظور الإسلامي لا تقف عند هذا الحد ... بل هي أوسع وأشمل من ذلك بكثير وذلك باعترافات العلمانيين أنفسهم ....
الرد: سبحان الله، كم من مرة طلبنا منك العرض، فأعرضت؟؟؟؟؟
عندما عزمت على دراسة ظاهرة العلمانية كان التعريف القابع في ذهني هو التعريف الشائع لها وهو " فصل الدين عن الدولة " ولما قرأت قليلاً ورأيت من يطرح تعريفاً جديداً هو " فصل الدين عن الحياة " ( ) ملت إليه وقلت هو هذا ..!!
الرد: وهل أنت الفرد الصمد من عزم؟؟؟؟؟ سبحان الله، مادح نفسه كذاب!!!
ومع طول المعايشة والمعاشرة للخطاب العلماني رأيت أن القضية أكبر من كونها قضية فصل ، وإنما هي في كثير من الأحيان أقرب إلى الجحود والنكران للأديان وقيمها ، فضعفت قناعتي بهذا التعريف ، وهذا لا يعني أن التعريف قد فقد قيمته عندي ، وإنما يعني أنه قاصر عن الحد الكامل ، وإن كان يغطي مرحلة من مراحل العلمانية أو حيِّزاً من رقعتها الشاسعة .
الرد: أين الحجود والنكران في العلمانية للأديان؟؟؟؟ هات الدليل!!!!(13/379)
تبادر إلى ذهني في وقت من الأوقات أن العلمانية هي إلغاء المقدس ، ولكن بعض العلمانيين أنفسهم يعتبرون المقدس نمطاً لوجود الإنسان ، وأن الإنسان يعيد إنتاج المقدس بأشكال جديدة وهو يمارس دنيويته ( ) وأن المقدس عنصر من عناصر الوعي ، وأن أقصى مظاهر الحداثة المعاصرة غارقة في المقدس ( ) ، وهو ما يعني أن العلمانية غارقة في مقدسات ، بل ووثنيات جديدة تخترعها كبديل للمقدس الديني ، بل وتضع آلهة جديدة ، وتقدم لها مراسم وقرابين وألوان من العبودية والخضوع ، وهو ما أشار إليه - آنفاً - رفيق حبيب ."" إن الأسطرة ملَكة ثابتة وعبر هذا فالإنسان المعاصر يساهم أيضاً وعبر حرتقاته العلمية الجديدة في صنع أساطيره "" ( ) ولذلك "" يمكن أن يُؤلَّف عمل كامل عن أساطير الإنسان الحديث "" ( ) .
الرد: كل هذا الإنشاء لا قيمة له دون الدليل عليه.
قلت : فهي إذن " إنكار الغيب ، وإثبات المادة " بيد أن العلمانية لم تتمكن من الاستمرار في إنكار الغيب ، لأن الإيمان بالغيب لا بد منه ، فإذا لم يأت اختياراً جاء اضطراراً ، وهذا هو الواقع فالعلمانية تؤمن بغيبيات وميتافيزيقيات كثيرة مثل النيترونات ، والأنتيرونات ، والأثير أو السديم ، وغير ذلك من أشياء يقوم عليها العلم ولكنها افتراضية ، والإيمان بها ليس إلا ضرباً من ضروب الإيمان بالغيب ، وإن كابرت العلمانية وعاندت ( ) ، وهو ما يلفت النظر إليه جلال أمين عندما يذهب إلى أنه "" لا مفر من اتخاذ موقف ميتافيزيقي ما ، والبدايات الميتافيزيقية هي التي تفضي إلى النتائج ، والمقولات المختلفة التي تكون أيديولوجية ما، والتي توجه السلوك الإنساني ، وهذا يعني أن العلمانية منظومة شاملة ورؤية للكون والطبيعة والإنسان تستند إلى ميتافيزيقا مُسبقة تطرح إجابات عن الأسئلة النهائية الكبرى ، فحالة الشك المطلقة ، الشك في كل المسلمات تجعل الحياة مستحيلة "" ( ) . "" فالغيبي مبدأ من مبادئ علم الاجتماع لا بد منه للمجتمع ولا يأتلف المجتمع ويكتمل إلا بمبدأ غائب عنه يرسم الحدود الفاصلة بين المقدس والدنيوي ( ) .
الرد: أين فحو كلامك هذا على العلمانية التي يمارسها الغرب؟؟؟؟؟ الكلام ليس عليه جمرك.
قلت : إذن فالعلمانية هي " النسبية المطلقة " أو "" أن الإنسان هو ما يفعله "" ( ) كما طرح غير واحد منهم - على سبيل المثال - مراد وهبة ، ولكن المتأمل يرى كثيراً من المنظرين والمؤسسين للفكر العلماني لا يقولون بالنسبية المطلقة ، لأنهم يعتبرون آراءهم وفلسفاتهم حقائق مطلقة يجب على الناس أن يلتزموا بها ، ويسيروا على مقتضاها ، فالماركسيون - مثلاً - يعتبرون الماركسية هي الحقيقة المطلقة ، حقيقة الحقائق ، وكل العلوم التي جاءت قبلها كانت تمهيداً لها ، وكل ما سيأتي بعدها يجب أن يكون شرحاً لها ( ) .
الرد: ما يطالب به العلماني هو ما يطالب به القرآن، فهل القرآن حقيقة مطلقة؟؟؟؟
ولذلك مع أن النسبية المطلقة تستحوذ على حيز عريض جداً من النظرية العلمانية ، إلا أنها لا يمكن أن تكون حداً شاملاً لكل عناصرها وأسسها ، هذا بالإضافة إلى أن العلمانية نفسها تتحول إلى مطلق في نظر أصحابها وعلى الآخرين أن يتعلمنوا أو يُوصَمُوا بالجهل والظلامية والأصولوية .
الرد: وهل هذا يختلف عن موقع المتأسلمين السلفيين؟؟؟؟
سمعت أحد العلماء الأجلاء( ) يؤكد مراراً على أن العلمانية هي الغنوصية فتأملت في هذا الحد فوجدته يغطي مساحة من مساحات العلمانية ، وحقلاً من حقولها وهو : التأويل ، حيث بالرغم من أن الغنوصية قائمة على العرفان ( ) ، والعلمانية - بحسب أصحابها - قائمة على العقل ، إلا أنهما يلتقيان في النتائج المترتبة عن " التأويل المنفلت " ، حيث نصل عن طريق التأويل العلماني والغنوصي المنفلتين إلى خلاصات ما أنزل الله بها من سلطان ، وفهوم تتجافى إلى أبعد الحدود مع النص ، فإن النص إذا كان في السماء فإن التأويل العلماني أو الغنوصي في أسفل الأرضين ، وإذا كان النص يتجه غرباً فإن تأويلهما يتجه شرقاً . وهكذا رأيت أن الجامع بين العلمانية والغنوصية هو " التأويل المنفلت " .
الرد: وما هو في رأيك التأويل الغير منفلت، هل مرجعه بشري عقلي أم ربابي سماوي؟؟؟
وسمعته أيضاً يعرف العلمانية بأنها " تنحية الأسئلة الكبرى " ولكن الذي بدا لي أن العلمانية بعد أن فشلت في الإجابة عن هذه الأسئلة اقترحت تنحيتها لأنها بدأت تُعكِّر عليها سيرورة العلمنة . وهذه التنحية كارثة من كوارث العلمانية على الإنسانية لأنها الأسئلة الجوهرية للإنسان ، بل هي محور إنسانيته ، والمعنى الصميم لهذه الإنسانية ، وتنحيتها حَطّم إنسانية الإنسان ، وجعله مادة بلا هدف ولا غاية ، يتقلب في ظلام الشك والحيرة ، وبدد له كل أمل في السعادة . ومن هنا رأيت أن تنحية الأسئلة الكبرى ليست تعريفاً للعلمانية وإنما نهاية من نهايات العلمانية ، بل يمكن اعتبار هذه التنحية : إشهاراً للإفلاس ، وإعلاناً للخيبة .
الرد: إلينا بتلك الأسئلة الكبرى التي أبعدتها العلمانية لكي لا تعكر سيرورة العلمنة؟؟؟(13/380)
استبطنت في مرحلة من مراحل البحث التعريف القائل بأن العلمانية "" رؤية مادية بحتة للوجود بما فيه "" ولكن تذكرت أن باركلي لم يكن مادياً فقد أنكر المادة واعتبرها موجودة لأنها مُدرَكة فقط، وأن هيوم أنكر الروح والمادة ولم يعترف بأية حقائق ضرورية ، وكذلك فإن جان جاك روسو كان ممثلاً للفلسفة المثالية ، ومع ذلك كان لهؤلاء جميعاً إسهاماً بارزاً في علمنة الفكر الأوربي .
هذا بالإضافة إلى - ما أشرنا إليه سابقاً - من أن العلمانية لم تتمكن من الاستمرار في المادية لأن العقل يؤكد وجود حقائق كونية ليست مادية يقوم عليها الوجود والعلم .
فالمادية سمة أساسية من سمات العلمانية ولكنها لا تُعبّر عنها تماماً وإن كان بروزها يكاد يجعل العلمانية تُختَزَل غالباً في هذه السمة .
الرد: حقائق الكون لا يدركها أحد إلا بالبحث والنتيجة نسبية، حالها كحال منهج الإسلام و تطوره التاريخي، ولا ضير علي من ينظر و يفكر ليصل، وليس هذا بدليل على العلمانية بل دليل على قدرة هذا الإنسان في النظر والبحث الأمر الذي تركه من يعتنق الإسلام بإدعاء الحقيقة المطلقة للكون.
2 - أبرز الخصائص :
لقد استقر رأيي - ردحاً من الزمن - على أن العلمانية هي : "" أنسنة الإلهي ، وتأليه الإنساني "" ويتميز هذا الحد بأنه يجمع خصائص كثيرة للعلمانية في شطريه :
فالشطر الأول " أنسنة الإلهي " يحتوي على مقولة العلمانية في رفض المصدر الإلهي للأديان أو الوحي ، واعتبارها ظواهر اجتماعية وإنسانية تاريخية برزت ضمن ظروف ومعطيات معينة كما أراد فرويد وغيره . ويحتوي هذا الشطر أيضاً : على إلغاء أو تمييع كل المقدَّسات والمعجزات ، وإعادة تفسيرها تفسيراً إنسانياً اجتماعياً أو اقتصاديا أو مادياً ، أو نفسانياً واعتبارها مجرد خرافات وأساطير عفا عليها الزمن .
الرد: القرآن يقر هذه النظرية في قصة إبراهيم فترقبها قريبا. أي مقدسات، وأي معجزات؟
ويحتوي هذا الشطر أيضاً : على أنسنة الطبيعة والكون بمعنى تجريده من أية دلالات روحية أو كونية أو رمزية ، واعتبارها مواد للإنسان عليه أن يستثمرها في منفعته وأنانيته بشكل مطلق وإمبريالي دون أي اعتبار آخر ، مع رفض الدلالات الغيبية ، والإشارات الربانية التي تؤكد عليها الأديان جميعاً كمعالم للهداية ، باعتبار الطبيعة - في رؤيتها - كتاباً كونياً منظوراً إلى جانب الوحي المكتوب .
الرد: سبق و أن قلت أن العلمانية تؤمن بالغيب وهي مضطرة لذلك و الآن تقول ترفض الدلالات الغيبية؟؟؟؟ كيف؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وهذا كلامك: قلت : فهي إذن " إنكار الغيب ، وإثبات المادة " بيد أن العلمانية لم تتمكن من الاستمرار في إنكار الغيب ، لأن الإيمان بالغيب لا بد منه ، فإذا لم يأت اختياراً جاء اضطراراً ، وهذا هو الواقع فالعلمانية تؤمن بغيبيات وميتافيزيقيات كثيرة مثل النيترونات ، والأنتيرونات ، والأثير أو السديم ، وغير ذلك من أشياء يقوم عليها العلم ولكنها افتراضية ، والإيمان بها ليس إلا ضرباً من ضروب الإيمان بالغيب....
ويحتوي هذا الشطر أيضاً : على الجهود التي تبذلها العلمانية لاستثمار الإلهي وتحويله إلى فكرانية ( ) بمعنى : "" تحويل الوحي إلى إيديولوجية "" ( ) . "" تحويل الوحي ذاته إلى علم إنساني "" ( ) وذلك لتحقيق أغراض الإنسان وأطماعه ، وقد تجلى ذلك واضحاً في الفلسفة الفيورباخية ، وتبنى ذلك حسن حنفي من العلمانيين العرب - كما سنرى - ومعنى ذلك "" إلغاء الغيب كمصدر للمعرفة ، وقصرها على عالم الشهادة "" ( ) ويتم ذلك بالعقل والتجريب بعيداً عن الوحي .
الرد: هذا ما يقرن الإسلام و القرآن، ولكن ليس للعقل التابع ولكن للعقل المسيطر.
وعلى مستوى العلاقة بين العلمانية العربية والنص القرآني فإنه يتجلى أيضاً دور الشطر الأول من التعريف حيث نجد نزعة الأنسنة سائدة لدى هؤلاء فكتب أركون كتابه " نزعة الأنسنة " وحاول نصر حامد أبو زيد وغيره استعادة القضية الكلامية القديمة التي ثار حولها جدل طويل ، وهي مسألة خلق القرآن في شكلها الاعتزالي ، وذلك من أجل تكريس إنسانية الوحي ومنتوجيته البشرية ، وسنفصل ذلك فيما بعد .
الرد: القرآن قد اختلف أهل الإسلام في نصية كلامه هل هو إلهي أم هو محمدي، بغض النظر عن مصدرية هذا الوحي أكان من الله الذي أوجده العقل المسيطر أم من الله الكائن في السماء وأي سماء ترى أو ربما الفضاء، فالمسلمون لم يحترموا هذا النص فأخذوا ينسخون هذه بهذا وأخذوا يعطلون هذه لهذه ...الخ حتى أصبح القرآن غنيمة كل ملك أراد أن يكون إلها، ولكن إلها لا كالأنبياء بل إلها نرجسيا.
وأما الشطر الثاني من التعريف " تأليه الإنساني " فيتولى تغطية جوانب كثيرة أيضاً من خصائص العلمانية أهمها : النزعة الغرورية التي كرستها فلسفة نيتشة وداروين عبر " الإنسان الأعلى " و" البقاء للأقوى " والتي مورست عملياً من خلال حكام النازية والفاشية كما أشرنا سابقاً.
الرد: قد سبقهم سلاطين العرب والمسلمين بقرون.(13/381)
ويتضمن هذا الشطر أيضاً : التركيز العلماني الدائم على مركزية الإنسان ، واستقلالية العقل ، وهذه الأخيرة تشكل بُعداً أساسياً في العلمنة حتى عُرِّفت بأنها لا سلطان على العقل إلا للعقل في تفسير الوجود . هذا الجزء يتكفل بالإشارة إلى هذا البعد ، حيث إن تأليه الإنسان يعني أن التفكير الإنساني مستقل عن الوحي ، بل يرقى إلى مرتبة الوحي ، ويحظى بنصيب من الألوهية . لقد بلغ الأمر بالفرنسيين بعد الثورة أن نصبوا تمثالاً وعبدوه سموه " إلاهة العقل " ( ).
الرد: الذي يوجد الشيء ويجعل الناس تنقاد إليه في مرحلة تاريخية معينة يحق له أن يكون هو الإله، وقد كفل الإسلام للعقل الحديث باسم الإله في التشريع و التقنين حسب ما تمليه الظروف العقلية للديمومة و الخلافة في الأرض.
ويتضمن هذا الشطر أيضا : الإشارة إلى تأليه القيم الجديدة للعلمانية المتمثلة في حقوق الإنسان ، وترسيخ الفردية المطلقة ، والديمقراطية ، وحرية المرأة المطلقة ، ونسبية الأخلاق ، والعِلمانية - بالكسر - ، وكل ذلك ما هو إلا إحلال لمنظومة جديدة مؤلَّهة من القيم الإنسانية ، وإضفاء حالة من القداسة عليها ، بدلاً من الدستور الإلهي القائم على الوحي .
الرد: وهل القرآن و الإسلام لا يدعو لحقوق الإنسان؟؟؟
أما الفردية المطلقة فهي خاصة بذات الإنسان، كما أمر الله.
أما الديمقراطية أو الشورى ..الخ فهي في كتاب الله فهل تنكرها.
أما حرية المرأة المطلقة فهي حق شأنها شأن الرجل إن لم تيقد نفسه بعقود و عهود ومواثيق.
أما نسبية الأخلاق، فهل أنت كامل؟؟؟؟
أحلال منظومة جديد؟؟؟؟ إذا الإسلام لا حظ هل فيها؟؟؟
الوحي لم يأت من الله مباشرة لكل إنسان بل جاء عبر بشر مثلنا.
ويتضمن هذا الشطر أيضا : الإشارة إلى الجانب العبثي في العلمانية وهو بعد جوهري فيها ، ذلك لأن تأليه الإنساني يعني أن الإنسان الجسد هو المُؤلَّه ، لأن العلمانية لا تعترف إلا بالجسد ، وحاجات هذا الجسد الجنسانية والغرائزية تنال حظاً وافراً من الإجلال والقداسة - كما رأينا في الفصل الأول -إن تأليه الإنساني يعني تقديس المُدَنَّس والارتفاع به إلى مستوى الألوهية.
الرد: تأليه الجسد و حاجات جنسية وغرائزية، عجبا؟؟؟؟
أما البعد المادي في العلمانية فإن شطري التعريف يسهمان في تغطيته ، إذ إن أنسنة الإلهي تعني تحويل ما ليس بمادة إلى مادة ، أو بعبارة أخرى تدنيس المقدس والتعامل معه على هذا الأساس الدَّنِس . ثم يأتي الشطر الثاني ليضفي على المادة قداسة جديدة " تقديس المدنس " وتصبح المادة بهذا الشكل حالَّة محل الألوهية ، ويغدو كل ما سواها ضربٌ من الأساطير والأوهام . وهو ما سعت الفيورباخية والماركسية إلى تكريسه .
الرد: العقل لا يعترف إلا بالمادة، فإذا كان الله ليس بمادة فالعقل لا يدركه و لا يراه و يعلمه، تماما كما قال القرآن واصفا الله.
3 - العلمانية هي الدنيوية :
هذا التعريف الذي اقترحته وتحدثت عنه للتو ، وقلت إن رأيي استقر عليه ردحاً من الزمن لم يدم هذا له هذا الاستقرار ، مع أن خصائصه - كما أشرت - موزعة في التعريفات التي عرضناها سابقاً لكثير من الباحثين .
والسؤال هنا : " هل يمكن اختزال هذا التعريف أو التعريفات المطروحة سابقاً بكلمة واحدة ؟
لقد سبق أن قلنا إن سيد محمد نقيب العطاس رأى أن اقرب كلمة تعبر عن العلمانية في المفهوم القرآني هي ما يعبر عنه القرآن بلفظ " الحياة الدنيا "، وإن لم يقترح ذلك كتعريف للعلمانية ، ورأينا كذلك أن العلمانية تُرجمت في مصادرها الأجنبية على أنها " العالمانية " أو " الدنيوية " أو " الدهرية " وكتب جمال الدين الأفغاني كتابه " الرد على الدهريين " يرد فيه على العلمانيين المعاصرين له .
وما أريد أن أقوله هنا : هو أن " الدنيوية " ليست مجرد ترجمة لغوية للعلمانية ، وأعني أن العلمانية يمكن أن تُعرَّف تعريفاً جامعاً مانعاً - فيما أرى - بكلمة واحدة هي : " الدنيوية " .
إن هذا التعريف - كما يبدو لي - لا يكاد يغادر صغيرة ولا كبيرة من مقولات العلمانية وخصائصها إلا ويطويها في داخله ، وإن نظرة سريعة في تاريخ العلمانية وأسسها وجذورها ، وأبعادها وتجلياتها سوف تبين أن الدنيوية هي الهم الأول ، والهاجس الأساسي ، بل الوحيد الذي تدور عليه العلمانية .
فالمادية ، واللامادية ، والمثالية ، والعقلانية ، والعِلمانية ، والتطورية ، والجنسانية ، والأنسنة ، والحرية ، والديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، والعنصرية ، والفردية ، كل هذه العناصر التي أفرزتها العلمانية عبر تاريخها الطويل أُريدَ منها أن تحقق للإنسان السعادة في هذه الحياة الدنيا دون أي اعتبار آخَر ليوم آخِر ، والسعادة المقصودة هنا هي أقصى قدر ممكن من اللذة والمتعة .
وهنا يمكن أن يتبادر إلى الذهن سؤال وهو : أن الشرائع السماوية أيضاً قصدت تحقيق السعادة للإنسان في الحياة الدنيا فهل الأديان منخرطة على هذا الأساس في تيار العلمانية ؟(13/382)
والإجابة : أن الشرائع الإلهية تربط سعادة الدنيا بالسعادة في الآخرة ، لذلك فسعادة الإنسان في الحياة الدنيا بمنظور الشرائع الإلهية ألا ينخرط في الملذات والشهوات والمُتع دون ضوابط وحدود لأن هذا سينغص سعادته في الآخرة .
الرد: هذا صحيح والقرآن يقول هذا أيضا و إلا لماذا الاستخلاف في الأرض؟؟؟؟ أما شرطك الأخير بعدم الاعتبار باليوم الآخر، فإن حدث هذا فلن يكون هناك حياة ولا نظام بل فوضى عارمة، فهل ترى هذا في الغرب العلماني أم تراه في علمنا الإسلامي؟؟؟؟
لقد تركت هذه الدنيوية العلمانية أثرها حتى على الإسلاميين ، فأصبحنا نُبرز كثيراً عناية الإسلام بالحياة الدنيا ، ودعوته إلى عمارتها ، والاستمتاع بالطيبات منها ، ونتغاضى - مجاراة للعلمانيين - عن أن الإسلام في الأصل يدعو الناس إلى الآخرة عبر ممر الدنيا ، وهذا لا يعني تخريب الدنيا ، وإنما يعني التطلع إلى المستقبل الأبدي ، وليس إلى الحياة العاجلة ، وهذا ليس من شأنه أن يجعلنا نهمل عمارة الحياة الدنيا ، وإنما من شأنه أن يُهذِّب نفوسنا ويسموَ بها عن الأنانية ، ويطهرها من السخائم والعداوات والتنافس على المتاع الزائل والحطام الفاني .
الرد: لو أنكشف لك ما تحت الجبة في عالمك الإسلامي و العربي لأدركت أنك في الجحيم.
وهنا يجدر بنا أن نتذكر قول أحد أقطاب الصوفية كتلخيص لموقف الإسلام من الحياة الدنيا " أن تكون الدنيا في يدك وليس في قلبك " وهذا بعكس العلمانية التي تريد أن تمزج الدنيوية بكل ذرة من ذرات الجسد الإنساني ، وتغرسها في صميم قلبه ، وتجعلها الملاذ الوحيد ، والمعشوق الوحيد ، والغاية النهائية للإنسان ، ولا يخفى ما في ذلك من تكريسٍ للتنافس الأعمى بين البشر دولاً وأفراداً ، وهو ما نعايشه اليوم ، لأن البقاء للأقوى ، وساحة البقاء في المنظور العلماني قاصرة على هذا العالم المحسوس فقط .
الرد: هذا محض إفتراء، ونصرة لمنهجك الذي بات مع الأموات. وهل نسيت ما فعله أهل الإسلام الأول من إمبريالية واحتلال و استغلال للأوطان و الإنسان باسم الله و رسوله؟؟؟؟
وتتجلى الدنيوية واضحة في الممارسات التأويلية التي تشتغل على النص القرآني فتحاول دائماً أن تحد من سلطانه الإلهي ، وتبرز دائماً ما يؤكد على الاعتبارات الدنيوية في مسائل الميراث ، والمرأة ، والحجاب ، والدولة والأخلاق ، ويُبرَّر ذلك بمبررات دنيوية محضة مثل : مواكبة العصر ، ومسايرة التحضر ، وتطور الفكر . والنموذج الذي يُحتذى في كل ذلك هو الغرب ، فكل ما عنده أصبح معيار التطور والتحضر والتقدم ، وتغفل هذه الممارسات أو تتنكر للجانب الغيبي الأخروي الذي يشكل الحيِّز الأكبر من الرسالة القرآنية ، وفي حالات متطرفة فإنها تقوم بعملية مسخ وتشويه لهذا الجانب عن طريق " التأويل المنفلت " لتجعله يصب في خدمة الدنيوية أيضاً .
الرد: العالم يبحث في الفضاء الخارجي عن مواطن آخر وأنتم مازلتم في الميراث و الحجاب و الدولة و الأخلاق ، وكأن لا أخلاق إلا أخلاق المسلم، يا رجل أي نصراني و يهودي أشرف و أأمن من أي مسلم اليوم، هذا واقع لا تنظير. وما الغيب إلا ورقة بيضاء تخول العقل المسيطر لكتابة ما يراه صالحا للناس وهذه هب ميزة العلمانية، ولمن بثوب آخر.
4 - خلاصة :
العلمانيون - كما مر بنا سابقاً - يستدلون على علمانية الإسلام بدنيويته ، وبما حصل في التاريخ الإسلامي من ترف وبذخ وإقبال على الدنيا ، فهم بذلك يقرون بأن الدنيوية هي جوهر العلمانية ، وقد مر معنا كذلك كيف تؤكد دوائر المعارف والمعاجم الغربية على دنيوية العلمانية بما يغني عن الإعادة هنا .
لقد أشرنا - سابقاً - إلى أن الدنيوية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ والحضارات ، وأن أكثر الأمم اختارت الحياة الدنيا على الآخرة ، ذلك لأن الحياة الدنيا حلوة خضرة وقريبة ، أما الآخرة فهي في منظور الإنسان العجول بعيدة غير مغرية كما تفعل الحياة الدنيا "متاع الغرور " .
والسؤال هنا : كيف نحدد عناصر الحضور والغياب في التعريف الذي نقترحه ؟ وهل الدنيوية مطلقاً تُوصَف بأنها علمانية ؟ أم أنها دنيوية ذات نسبة معينة ؟
والسؤال بعبارة أخرى : ما هو الحد الذي تتحول فيه الدنيوية إلى علمانية .
لقد أشرنا سابقاً إلى أن الشرائع السماوية فيها جانب دنيوي فهل هي بذلك علمانية ، أم تحتوي على نسبة معينة من العلمنة ؟
إن الدنيوية تتحول إلى علمانية عندما تتحول الوسيلة إلى غاية ، والممر إلى مقر ، وقد يعترض علينا هنا بأننا نتحدث بلهجة صوفية وعظية ، ولكن هذه هي الحقيقة سواء كانت في قالب صوفي وعظي أم حداثي معاصر ؟
عمارة الدنيا مرادة إلى أقصى الحدود ، ولكن على أن لا يؤدي ذلك إلى الفساد في الأرض ، كما يجب مراعاة أن الإنسان مؤتمن وليس مالكاً حقيقياً ، وأنه رضي بحمل الأمانة ، وكل ما يؤدي إلى الإخلال بحفظ الأمانة " الكون والطبيعة والإنسان ورسالته فيهما " فإنه انقلاب إلى دنيوية عضوض أي علمانية .
الرد: الله أكبر!!!!! معانا معانا ضدنا علماني، ههههه، حلوه.(13/383)
الإنسان مُستَخلَف في الأرض ، وهذا يعني أنه لا يملك أن يضع لنفسه منهجاً في الحياة باستقلالية كاملة ، لأن المنهج وضعه المالك الحقيقي ، والسيد الحقيقي في هذا الوجود ، أما وظيفته هو فإنها تنحصر في أن يفهم المنهج بشكل صحيح وينزله على حياته كما أراد واضعه عز وجل . والفهم غير الوضع والإنشاء وإن كان الخطاب العلماني سينازع في هذا كما سنرى.
الرد: إن كان المالك الحقيقي وضع المنهج، فلماذا اختلف الناس فيه؟؟؟؟ ومن هذا الذي يفهم المنهج الصحيح؟؟؟؟؟
إن أي إنسان عاقل عندما يشتري جهازاً من شركة ما يقرأ النشرة المرفقة معه والتي تُبيِّن كيفية استعماله ، وقراءة هذه النشرة توفر عليه جهداً ووقتاً يبذله في محاولته تشغيل الجهاز دون استعانة بالصانع . إن جهده المستقل قد ينتهي بالوصول إلى معرفة تشغيل الجهاز ولكن بعد جهد ووقت من التجريب والمحاولة ، ولكنه قد ينتهي أيضاً بإتلاف الجهاز وإعطابه .
الرد: فهل هذه النشرة يعمل عند أهل الإسلام أم أنه مطموس بعضه و منسوخ بعضه بكلام بشر و آراء بشر و أوامر ملوك و سلاطين ...الخ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
إن كل ممارسات الإنسان في هذا الكون لكي تبرأ من " الدنيوية العلمانية " يجب عليها أن تكون قائمة على مبدأ العبودية لله عز وجل ، والرغبة فيما عنده من الخير والسعادة ، ومنافية لمبدأي الكبرياء الزائف ، والعقلانية المتهورة القائمين على الاعتداد الأعمى بالذات والمنفعة العاجلة ، واللذة الزائلة ، والنظرة القاصرة على هذه الحياة الدنيا .
الرد: لكي يكون لك الحق في قول هذا يجب عليك أن تلتزمه أولا.
إن الاحتراز الوحيد الذي نضعه هنا لعله يجنبنا كثيراً من الانتقادات والإلزامات التي قد ترد علينا إزاء هذا التعريف هو أن العلمانية " الدنيوية " التي نقصدها تزيد وتنقص ، وتهبط وتصعد ، وأننا عندما نتحدث عن العلمانية التي تقارن الإلحاد والزندقة فإننا نقصد العلمانية في أعلى درجاتها . إن هذا يعني أن بعض الباحثين الحريصين على إسلامهم وإيمانهم ولكن تصدر منهم بعض الأفكار التي تخدم التوجه الدنيوي العلماني ، وتتحرك في داخل أسواره لا يمكن أن يوصفوا بأنهم علمانيين ، وإن كان يصح أن نصف أفكارهم المنحرفة بأنها أفكار علمانية . والله أعلم .
=============(13/384)
(13/385)
الدولة العلمانية مثال للتعصب الأعمى وكبت الحريات ..
أولا: هل تسمح الدولة العلمانية لأصحاب الأديان باتخاذ العقيدة أساسا للإنتماء والولاء والبراء ؟؟؟ أم أنها لا تقيم لعقيدة المتدينين وزنا بل تقدم عليها رابطة الدم والعنصرية ورابطة حبة الطين وحبة الرمل ....؟؟؟؟؟؟
ثانيا : هل تقبل الدولة العلمانية بتطبيق ما توجبه الشريعة الإسلاميه على أبنائها من النزول على حكم الله ورسوله والتسليم لهما أم أنها ستقوم بعملية مسخ لكل مظاهر الحياة وتكبت حريات المتدينين في ممارسة شعائرهم التي يقدسونها ..؟؟؟؟
ثالثا : هل سيكون في الدولة العلمانية مسألة كمسالة الجزية في الدولة الإسلامية أم أنها ستجبر جميع المواطنين على الدفاع عنها حتى من لا يؤمن بمبادئها؟؟؟؟ هل ستأخذ مالا مقابل الدفاع عن المسلمين وحمايتهم أم أنها ستشترط عليهم أن يدافعوا عن أفكار لا يؤمنون بها .. تشترط عليهم أن يقدموا أرواحهم فداء لعقيدة لا يعترفون بها …..؟؟؟؟
إلى متى ستظل أمريكا تجبر المسلمين على الانضمام إلى جيشها وأن يقدموا أرواحهم في حروبها ..إلى متى ستظل أمريكا تجبر إخواننا المسلمين على الدفاع عن أفكار لا يؤمنون بها بل وقتال إخوانهم في بلاد الأرض متى ستطبق الحل الإسلامي في أمور خطيرة مثل هذه وتحترم معتقدات مواطنيها؟؟؟؟؟
رابعا : هل ستقيم الدولة العلمانية حد الردة أم أنها ستترك البلاد لفتنة المجاهرة بالكفر وفتنة تغيير الأديان وما أدراكم ما فتنة تغيير الأديان أم أنها ستطبق تعاليم الدولة المسلمة وتقيم حد الردة فمن أراد أن يكفر فليكفر في بيته لكن لو أظهر كفره فهذا يجر من الفتن واستشراء القتل والحقد والتباغض بين البشر ما الله به عليم وما إلى ذلك من الفتن نتيجة ترك المرتد لدينه ...؟؟؟
خامسا : هل ستقيم الدولة العلمانية حد للاغتصاب أم أنها ستترك البلاد للعبث والمجون وتنتهك حرمات النساء الشريفات .. وما عدد الشهود هل شاهد واحد يكفي في الدولة العلمانية وكل من هب ودب يتهم النساء ويقع في أعراضهن أم أن الدولة العلمانية ستضطر إلى اللجوء إلى التشريع الإسلامي الذي يعاقب الزاني وفي نفس الوقت يجعل عدد الشهود اربعا حتى لا تكون حرمات النساء لعبة في يد كل ماجن ...؟؟؟؟؟
سادسا : هل للدولة العلمانية اتجاه واحد أم أنها تيارات ينهش كل تيار في التيار الذي يليه وتتلاعن التيارات فيما بينها وكما قال مكسيم رودسون الكاتب الماركسي الشهير عندما قال الحقيقة أن هناك ماركسيات كثيرة بالعشرات والمئات ولقد قال ماركس أشياء كثيرة حتى الشيطان يستطيع أن يجد فيه نصوصا تؤيد ضلالته .. أم أن الدولة العلمانية لها قسم يمثل الثبات والخلود كما الدولة الإسلامية وقسم يمثل المرونة والتطور ..؟؟
ففي الكون أشياء ثابتة من أرض وسماء وأشياء فرعية تتطور من جزر تنشأ وبحيرات تجف وكل نظم الكون والحياة بهذه الصيغة أمور ثابتة وأمور تتطور كما الإسلام لكن العلمانية كل يوم بدين وكل يوم بمنطق وهذا يبعث على الخوف والقلق ......!!!!!
والآن لنذهب إلى مزيد تفصيل بخصوص الأمور التي أنا ذكرتها آنفا ونحاول أن نلقي الضوء على الرؤية الإسلامية لهذه الأمور وكيف أن الدولة الإسلامية هي الوحيدة التي شهد لها العالم بالمثالية هي الوحيدة التي مثلت حرية الفكر حرية البحث العلمي حرية التصور حرية الفهم .. بشرط ان هذه الحريات لا تطغى على حريات الآخرين ..
أولا : في حرية تطبيق الأديان نجد الدولة المسلمة تسمح لكل صاحب ديانة أن يطبق ديانته في كنف الدولة المسلمة ويبلغ من احترام الحرية الدينية عند المسلمين أن يقبلوا زواج المجوسي من ابنته ما دامت شريعته تبيح له ذلك .. وفي المغني ( وهو من أكبر كتب الفقه ) في هذا الكتاب توجد هذه المسألة : مجوسي تزوج ابنته فأولدها بنتا ثم مات عنهما فلهما الثلثان ..
إن الإسلام لم يقم البتة على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو إرغامهم على تقييد طقوسهم بمعابدهم كما تفعل الدولة العلمانية الديكتاتورية ..
انظروا ماذا يفعلون في أخواتنا المسلمات في فرنسا إنهم يصرون على خلع حجابهن بأي دين في الدنيا كلها بل وبأي إلحاد تستطيع حكومة أن تتدخل في الطقوس الدينية لمجموعة من البشر ... مالكم أنت ومال أخواتنا المسلمات العفيفات ... ما دخلكم بزيهن ؟؟؟؟ فرنسا صاحبة أكبر معرض للتقليعات والأزياء في الدنيا كلها تعارض حجاب أخواتنا الطاهرات بأي دخل هذه الحكومة العلمانية القذرة تتدخل هذا التدخل السافر وتجبر أخواتنا الطاهرت على التعري ....(13/386)
ثانيا : مسالة الجزية من مسائل الرحمة في الدولة الإسلامية .. فقد أوجب الإسلام على أبنائه (الخدمة العسكرية) وناط بهم واجب الدفاع عن الدولة، وأعفى من ذلك غير المسلمين، وإن كانوا يعيشون في ظل دولته.ذلك أن الدولة الإسلامية دولة(أيديولوجية) أي أنها دولة تقوم على مبدأ وفكرة، ومثل هذه الدولة لا يقاتل دفاعًا عنها إلا الذين يؤمنون بصحة مبدئها وسلامة فكرتها . . وليس من المعقول أن يؤخذ شخص ليضع رأسه على كفه، ويسفك دمه من أجل فكرة يعتقد ببطلانها، وفي سبيل دين لا يؤمن به فكانت الجزية مقابل الدفاع عنه وحمايته .. وها هو أبو عبيدة حين أبلغه نوابه عن مدن الشام، بتجمع جحافل الروم، فكتب إليهم أن يردوا الجزية عمن أخذوها منه، وأمرهم أن يعلنوهم بهذا البلاغ: "إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم (أي نحميكم) وإنا لا نقدر على ذلك . وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشروط، وما كتبنا بيننا وبينكم، إن نصرنا الله عليهم"
ويقول الدكتور نبيل لوقا بباوي في كتابه انتشار الإسلام بالسيف بين الحقيقة والافتراء : إن الجزية كانت تأتي أيضاً نظير التمتع بالخدمات العامة التي تقدمها الدولة للمواطنين مسلمين وغير مسلمين ، والتي ينفق عليها من أموال الزكاة التي يدفعها المسلمون بصفتها ركناً من أركان الإسلام ، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرا ضئيلا متواضعاً لو قورنت بالضرائب الباهظة التي كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيين في مصر ، ولا يعفى منها أحد ، في حيث أن أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس كانوا يعفون من دفع هذه الجزية ، فقد كان يعفى من دفعها: القُصّر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب الأمراض والرهبان.
فمتى تتعلم الدولة العلمانية هذه المبادىء السامية متى ترقى إلى هذا الفكر الرائع ....
ثالثا : حد الردة ..والردة عن الإسلام ليست مجرد موقف عقلي ، بل هي أيضاً تغير للولاء وتبديل للهوية وتحويل للانتماء. فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التي كان عضواً في جسدها وينتقل بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها ويعبر عن ذلك الحديث النبوي بقول رسول ا صلى الله عليه وسلم فيه: [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] [ رواه مسلم ] ، وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ ، فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة والمفارقة للجماعه في أي أمة من الأمم تعد خيانة عظمى عقوبتها القتل لما في ذلك من الفتن العظيمة وتهييج الرأي العام ونشر التباغض والطائفيات بين أصحاب الأديان المختلفة . فمن أراد أن يكفر فليكفر في بيته لكن أن يظهر كفره أو تركه لدينه أمام الناس فإن هذا يفتح باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه ..
فالردة تعامل معاملة تهمة الخيانة العظمى التى تعاقب عليها الدول بالقتل. فقتل المرتد في الشريعة الإسلامية ليس لأنه ارتد فقط ولكن لإثارته الفتنة والبلبلة وتعكير النظام العام في الدولة الإسلامية. تحول الإنسان من دين إلى دين كفيل بفتنة عظيمة لا يعلم مداها إلا الله وليس أقرب من حالة الفتاه المصرية زوجة الكاهن التي أعلنت إسلامها منذ شهور فقامت الدنيا ولم تقعد وخرجت مظاهرات النصارى تملأ شوارع مصر وحدث شغب وفساد عظيم ؟؟؟فتنة كهذه لا يعلم مداها إلا الله وإلى اليوم الفتاه لا يعرف عنها أحد وقد اختفت تماما .. ولو ظهرت مرة أخرى ستعود الفتنه إلى أوجها وسيموت فيها خلق كثير .. لذلك من مقاصد الإسلام الأساسية منع الفتن والفتنة أشد من القتل ولو أراد أحدهم أن يترك دينه فليتركه في بيته لماذا يدعو وينادي أنه ترك دينه ويتباهى بذلك هل هذا يريد إلا الفتنه؟؟ يريد إلا الخيانة لمن معه ؟؟؟
هل ستسمح الدولة العلمانية بفتنة كتلك أم ستقبع الفتنة قبل ظهورها وتطبق الحل الإسلامي..؟؟؟
رابعا : الإسلام بطبيعته بما أنه الدين الذي ختم الله به الشرائع والرسالات فقد أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود وعنصر المرونة والتطور وهذا من روائع الدين عند تطبيقه فهي آيه من آيات عمومه وخلوده وصلاحيته لكل زمان ولكل مكان .. الثبات على الأصول والكليات والمرونة في الفروع والجزئيات .. الثبات على القيم الدينية والأخلاقية والمرونة في الشئون الدنيوية والعلمية فقد جاء الإسلام ليتسق مع طبيعة الحياة الإنسانية نفسها ففيها عناصر ثابتة باقية ما بقي الإنسان وعناصر مرنة قابلة للتطور والتغير وهي الأمور الخاصة بمراعاة اقتضاء المصلحة كالتعزيرات وغيرها ...(13/387)
هذا هو الإسلام وهذه هي دولته ولكن ما هي دولة العلمانية ؟؟؟ هل لها أصول ثابتة أم أن الأمر كما يقول الأستاذ ثاوني: إن الاشتراكية، كغيرها من التعبيرات المختلفة للقوى السياسية المركبة، كلمة لا تختلف في مدلولها من جيل إلى جيل فحسب، بل من حقبة إلى حقبة. أم كما يقول مكسيم لوروا" في كتابه "رادة الاشتراكية الفرنسية" يقول: "لاشك في أن هناك اشتراكيات متعددة، فاشتراكية بابون، تختلف أكبر الاختلاف عن اشتراكية برودون، واشتراكيتا سان سيمون وبرودون، تتميزان عن اشتراكية بلانكي، وهذه كلها لا تتمشى مع أفكار لويس بلان، وكابيه وفورييه، وبيكور ، وإنك لا تجد داخل كل فرقة أو شعبة إلا خصومات عنيفة، تحفل بالأسى والمرارة.....
هذه هي دولة الإسلام دولة حفظ الحريات دولة المبادىء المعروفة .. وهذه هي الدولة العلمانية دولة كبت الحريات دولة المبادىء المجهولة .....
أنا في هذا الموضوع بحثت في نقطة واحدة فقط وهي نقطة الحريات في الدولة العلمانية وهي أكبر حجة يتفاخر بها الملاحدة واستطعت أن أبين كذب هذه الدعوى وقمت بطرح الحل الإسلامي كحل وحيد وأقول وحيد لأنه لا يوجد حل حتى يشبهه أو يدانيه فالواقع المؤسف فيما حفظته الدنيا من حروب التعصب وغارات الإبادة والتجني وقتل 55 مليون إنسان في حروب عشوائية قذرة وراء دعاوى غبية في الحرب العالمية الثانية بإسم العنصرية والتعصب للجنس الآري الهتلري من مخلفات دارون وأتباعه وغيرها وغيرها الكثير كل هذا يجعلنا لا نشطح مع التمني ونسرح مع الخيال ونظن أن هناك حل يشبه الحل الإسلامي والحروب باسم العلمانية التي عرفها التاريخ الأوربي دلالات يخزى لها أولو الضمائر ..
كل هذا في موضوع واحد ناقشت فيه مسألة الحرية بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية …!!! فما بالنا لو فتحت موضوع وناقشت فيه الأخلاق بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية ..؟؟؟ اقسم بالله سيندى الجبين ويظهر خزي الملحدين .. يا سادة يا سادة يوجد على الأرض ألف مليون مسلم لا يتعاطون المسكرات .. ألف مليون مسلم لا يرتكبون فاحشة الزنا بفضل تعاليم هذا الدين في المقابل تحولت أوربا وأمريكا إلى بيت دعارة كبير لممارسة جميع أنواع الشذوذ الجنسي والشذوذ الفكري والنفسي .. أي علاقة هذه بين الثرى والثريا أي علاقة هذه بين العزة والشرف والحرية والطهر الإسلامي وبين الحقارة والتدني العلماني ..
ماذا لو فتحت شريط عن الجانب الأدبي والإنساني عند الدولة الإسلامية والدولة العلمانية .. يا سادة يا سادة ملايين الأطنان من القمح تلقيها أمريكا في المحيط حتى لا تنخفض أسعار القمح في حين أنه يوجد ملايين ملايين يموتون جوعا كل عام ماذا لو قارنا بين هذا الفعل الوقح اللاإنساني وبين عصر عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه عندما فاضت الأموال فوضع الجزية وزوج الشباب وسدد عن المعسرين وفتح الله به باب خير كثير ..
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (50) سورة المائدة
للإستزادة:- الإسلام والعمانية وجها وجه للشيخ القرضاوي حفظه الله ..
http://www.qa r adawi.net/site/topics/...0&pa r ent_id=12
غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ..
http://www.qa r adawi.net/site/topics/...3&pa r ent_id=12
رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وب صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا
__________________
كتب هارون يحيى قاهر الملاحدة :-
http://www.ha r unyahya.com/a r abic/index.php
توضيح لنقطة هامة ........
أي إسلام يريد المسلمون تطبيقه في الدولة الإسلامية هل هو إسلام الإخوان المسلمون أم إسلام الجماعات الإسلامية أم إسلام دعاة الإصلاح ؟؟؟؟
هذا السؤال كثيرا ما يطرحه الذين لا يعرفون منبع التلقي عند أمة الإسلام ... والرد على هذه الشبهة هو كالتالي
إن النص الإلهي لا يفسر نفسه بنفسه، ولا يطبق نفسه بنفسه، وإنما يفسره البشر ويطبقونه، وفي عملية التفسير والتطبيق البشري هذه، تتدخل كل أهواء البشر ومصالحهم وتحيزاتهم، ففي عصر الرسول وصحابته فقط، كان التشريع إلهيا، وكان التفسير والتطبيق بدوره إلهيا، لأن المكلف بالتفسير والتطبيق كان مبعوثا من عند الله. أما في جميع العصور اللاحقة، فقد دخل البشر، بكل ما يتصفون به من ضعف وهوى ولم يعد النص الشرعي الإلهي يتحول إلى واقع متحقق، إلا من خلالهم. وهذا هو التعليل الوحيد للتباين بين أنظمة متعددة، يقسم كل منها بأغلظ الإيمان أنه هو الذي يطبق الشريعة، كما ينبغي أن يكون التطبيق(13/388)
فكل ما في الأمر هو أنه على دعاة الحل الإسلامي الذين تتملكهم رغبة حقيقية في الإصلاح، يريدون أن يتخلصوا من ضعف البشر وتخبطهم بالالتجاء إلى حكم إلهي .... فقط هذا كل ما في الامر تخليص النفس من الأهواء .... وليس أدل على ذلك من عصر عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وكلما ذكرنا لملحد من دعاة العلمانية عصر عمر ابن الخطاب فإنه يقول لنا إن عمر بن الخطاب شخصية فذة فريدة، ظهرت مرة واحدة، ولن تتكرر؟! وإذا كانت تجارب القرون العديدة، وكذلك تجارب العصر الحاضر، قد أخفقت كلها في الإتيان بحاكم يداني عمر بن الخطاب، فلماذا يداعبون أتباعهم بالأمل المستحيل في عودة عصر عمر بن الخطاب؟!
إن هذا القول ينطوي على أغلاط أو مغالطات :-
أول هذه الأغلاط أو المغالطات، هو اختزال عهد الراشدين كله إلى عهد عمر وحده، متجاهلين عهد أبي بكر (رضي الله عنه)، وما فيه من إنجازات هائلة، رغم قصره، حتى قال د. محمد حسين هيكل، في كتابه "الصديق أبو بكر": أليست هذه بعض معجزات التاريخ؟! في سنتين وثلاثة أشهر، تطمئن أمم ثائرة، وتصبح أمة متحدة قوية، مرهوبة الكلمة، عزيزة الجانب، حتى لتغزو الامبراطوريتين العظيمتين، اللتين تحكمان العالم، وتوجهان حضارته، لتنهض بعبء الحضارة في العالم قرونا بعد ذلك.ومتجاهلين ـ كذلك ـ السنوات الأولى في عهد عثمان (رضي الله عنه) وما حققت من رخاء ورفاهية في الداخل، وفتوحات وانتصارات في الخارج، كما يشهد بذلك التاريخ.
والغلط الثاني أو المغالطة الثانية، هي الإدعاء بأن عمر كان فلتة لا تتكرر، فهو قول يكذبه الواقع التاريخي، فقد رأينا النموذج العمري بتكرر في صور مختلفة، وفي عصور مختلفة.
رأيناه في سميه عمر بن عبد العزيز، الذي أقام العدل، وأحيا ما مات من سننه، ورد المظالم، ومكن لدين الله في الأرض، وأعاد الحكم إلى نهج الخلافة الراشدة، حتى سماه المسلمون "خامس الراشدين". ورغم قصر مدته، استطاع أن يبث الأمن والرخاء والاستقرار في أنحاء دار الإسلام، حتى روى البيهقي في الدلائل عن عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، قال: "إنما ولى عمر بن عبد العزيز ثلاثين شهرا، لا والله، ما مات، حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا، حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذاكر من يضعه فيه، فلا يجده، فأغنى الناس عمر".
رأيناه ـ بعد ذلك ـ في مثل نور الدين محمود الشهيد، الذي كانوا يشبهونه بالراشدين في سيرته، وعدله، وجهاده للغزاة الصليبيين، وتصميمه على تطهير المجتمع من الظلم والفساد.
رأيناه في مثل صلاح الدين الأيوبي، الذي شهد له خصومه قبل أنصاره، شهد له الصليبيون الغربيون، الذين حاربهم وحاربوه، كما شهد له المسلمون.
وهارون الرشيد كان يحج عاما ويجاهد عاما ... هذا هو تاريخنا وهذا هو شرفنا وهذه هي دولتنا الإسلامية عندما قامت شاهدة عليكم
فأين هي الدولة العلمانية دولة كبت الحريات والإرغام على اعتناق فكرها والحرب من أجلها أين الحرية يا دعاة الحرية الزائفة ..
وفد نصراني بين يدي السلطان العثماني يطلب منه أن ياتي ليفتح بلاده .. سبحان الله العظيم .......
فتح السلطان العثماني مراد الثاني مدينة سلانيك عام 1431 م وهزم البندقيين شر هزيمة ودخل المدينة منتصراً- أعلم الحاجب السلطان أن وفداً من مدينة (يانيا) قد حضر، وهم يرجون المثول بين يديه لأمر هام... تعجب السلطان من هذا الخبر، إذ لم تكن له أي علاقة بهذه المدينة التي كانت آنذاك تحت حكم إيطاليا.
أمر السلطان مراد رئيس حجّابه بالسماح للوفد بالدخول عليه، ثم قال لرئيس الوفد بواسطة الترجمان: أهلاً بكم، ماذا أتى بكم إلى هنا؟ وماذا تبغون؟ قال رئيس الوفد: أيها السلطان العظيم، جئنا نلتمس منكم العون، فلا تخيب رجاءنا .
- وكيف أستطيع معاونتكم؟ - يا مولاي، إن أمراءنا يظلموننا، ويستخدموننا كالعبيد، ويغتصبون أموالنا ثم يسوقوننا للحرب.
- وماذا أستطيع أن أفعل لكم؟ إن هذه مشكلة بينكم وبين أمرائكم.
- نحن أيها السلطان لسنا بمسلمين، بل نحن نصارى، ولكننا سمعنا كثيراً عن عدالة المسلمين، وأنهم لا يظلمون الرعية، ولا يكرهون أحداً على اعتناق دينهم، وإن لكل ذي حق حقه لديهم... لقد سمعنا هذا من السيّاح، ومن التجّار الذين زاروا مملكتكم، لذا فإننا نرجو أن تشملنا برعايتكم وبعطفكم، وأن تحكموا بلدنا لتخلصونا من حكامنا الظالمين. ثم قدّموا له مفتاح المدينة الذهبي... واستجاب السلطان لرجاء أهل مدينة (يانيا)، وأرسل أحد قواده على رأس جيش إلى هذه المدينة، وتم فتحها فعلاً في السنة نفسها، أي في سنة 1431 م.
هذه القصة تصور الرؤية النقية للإسلام وللحكم الإسلامي .....(13/389)
بل ونظرة سريعة للتاريخ تضع لنا ألغازا عجيبة ... فماذا مثلا عسى أن يصنع أربعة آلاف رجل في قطر كمصر أمام عشرات الآف من جنود الرومان ومشايعيهم .. وهب أنهم جن في الوغى وخصومهم هباء ما الذي جعل جماهير الشعب تسالم الوافدين ثم تشرح صدرا بعقائدهم ...!!!! ثم تهب هي لنصرتها بعد ما اعتنقتها !!! إنها طبيعة الحق عندما يحسن عرضه وتنزاح العوائق أمام الرغبة فيه ....
بل لقد كانت أجهزة الدولة الإسلامية في القرن الأول ترقب التحول الرهيب للأمم والشعوب وسواد الناس إلى الإسلام وهي دهشة فها هي مباديء الإسلام تنساب إلى القلوب من تلقاء نفسها لأنها الفطرة .. ها هي تعاليم الإسلام تنساق إلى العقول كما تنساق البديهيات التي يلقاها الفكر بالتسليم ولا يستطيع أمامها مراء
إن الإنسانية الآن بحاجة إلى دين يشبع جوعها الروحي وتألقها الذهني .. بحاجة إلى الدين الذي تعاون النبيون جميعا على إبلاغ أصوله وتوطيد أركانه ثم جاء صاحب الرسالة الخاتمة فأعطاه صورته النهائية المقنعة المشبعة
النظام الدكتاتوري وليد المدرسة العلمانية
لا يخفى أن معظم الدكتاتوريات في العصر الحديث هي علمانية المنبع
ورغم أن العلمانيين القادمين من الغرب أو الذين عاشوا في الغرب يحاولون أن يصبغوا علمانيتهم بصبغة ديمقراطية ، فإن الملازمة بين العلمانية والديمقراطية هي ملازمة خاطئة .
فنجد أن من يحمل لافتة العلمانية يتخذ لنفسه واجهة ديمقراطية وهو في حقيقته يملك منهجاً أو روحاً دكتاتورية شرسة لا تقل خطورة عن العلمانية الدكتاتورية ، هذا التطبيق والروح الدكتاتورية الموجودة عند العلمانيين الديمقراطيين تظهر معالمها في تصريحاتهم ومقالاتهم وفي طريقة تعاملهم مع الجماهير ، وتظهر بوضوح في تحقيرهم لبعض أطياف الشعب العراقي المخالف لهم في الفكر والمنهج ، كما هو حال العلمانية الدكتاتورية بلا فرق معتد به !
ويمكن تمييز هذه الروح الدكتاتورية عند العلمانيين من خلال نموذج مقال لأحد العلمانيين وهو الدكتور تيسير الآلوسي ومقاله الموسوم [(من أجل تفعيل الحملة من أجل دستور علماني؟)] ، والمنشور في موقع أنكيدو ، ( ومثله مقالات العلماني الدكتور كامل النجار حين ينقل في كل ما يكتبه النصوص بشكل خاطيء أو يقوم بتحميلها غير معانيها ويقلب الأمور ويستدل بالتواريخ بشكل معكوس كما في مقاله في مقاله بعنوان [(الارتداد ... هل هو حق من حقوق الإنسان ؟)]
فهذه المقالات تمثل نموذجاً صريحاً للتفكير العلماني الديمقراطي ذي الروح الدكتاتورية.
ففي هذا المقال نجد أن الكاتب العلماني يحاول تجاهل وجود شرائح واسعة من أبناء الشعب العراقي لكونهم رافضين للأفكار العلمانية ، ثم يعمد إلى التقليل من إحترام الشرائح العراقية المتمسكة بالمنهج الديني ، فيصفها بأوصاف غير لائقة ، كقوله : [(قطعان من غوغاء أو من جهلة يخضعون لتعاليم التخويف والإرعاب اللاهوتي بمرجعيات مزيفة تدعي أو تزعم تمثيل الله على الأرض)] ، وفي مقال سابق يصف النساء بوصف غير لائق هو الآخر حيث قال : [(إنّ المشكلة الحقيقية لا تكمن في مظاهر حجاب الثياب وبراقع الملابس وأقنعة السواد [كبنكات قادمة من الغرب والجنوب أو كواني قادمة من الشرق])] !!
ثم يتطور خطوة أخرى لوصف القوى السياسية التي تمثل الطموحات الإسلامية للشعب العراقي بأنها قوى دخيلة على الشعب العراقي ! فيعتبر العلمانيون أنفسهم وحدهم هم العراقيون ومن يخالفهم في المنهج يجب أن تنزع عنه عراقيته قسراً !
ويحاول كاتب المقال إضفاء صفات فريدة على العلمانيين العراقيين ، وعلى العلمانية التي يحملونها ، ويحمِّل المخالفين للعلمانية مسؤولية أفكار يتخيلها منها: تمزيق نسيج الوحدة الوطنية وتهميش أحرار العراق وعلمانييه وتقزيم الحركة الشعبية والإمعان في إيذاء الشعب نفسه!! متناسياً إفلاس العلمانيين من القاعدة الشعبية ، وقد كشفت الإنتخابات عن الضعف الذي ينتاب التيار العلماني في العراق رغم أنه تيار يستهلك الملايين من الدولارات من أجل الدعاية والإنتشار ، ففي محافظات جنوب العراق ووسطه وفي العاصمة بغداد أتضح عدم وجود أي قاعدة معتد بها للعلمانيين وأنهم يفتقرون للكثير من المقومات التي تمكنهم من وثوق أبناء الشعب بهم ، أهمها إستقوائهم بالأجنبي وحملهم فكرا غريبا عن ثقافة المجتمع العراقي. والحزبان الرئيسان في محافظات كردستان هما حزبان علمانيان
وليست إنتخابات الجمعية الوطنية وحدها قد كشفت زيف إدعاء وجود قاعدة للعلمانيين في العراق بل إنتخابات مجالس المحافظات أيضاً والتي شاركت بها جميع الأحزاب الإسلامية والعلمانية وفازت الأحزاب الإسلامية فيها فوزاً ساحقاً ، ولم يكن للأحزاب العلمانية فيها نصيب يذكر ، مما يؤكد على الهوية الإسلامية للشعب العراقي ، وأنه شعب متدين ومحافظ في غالبيته وليس للأفكار العلمانية بين أبنائه نصيب كبير.(13/390)
فالعلمانية عند العلمانيين العراقيين ليست مجرد فصل للدين عن الدولة بل هي علمانية تحاول تغيير معتقدات المواطنين ، وإعتبار الفكر العلماني هو الفكر الذي يجب أن يسود ، وأنه ليس لبقية القوى غير العلمانية أي نصيب ما داموا يستندون في منهجهم ويرجعون في قراراتهم الحيوية الدنيوية والسياسية إلى [(مرجعيات مزيفة تدعي أو تزعم تمثيل الله على الأرض)] على حد تعبير تيسير الآلوسي ، وبالتالي فليس لغير العلمانيين نصيب في السياسة بل ليس لغيرهم نصيب في الوطن ما داموا غير علمانيين !!
هذه هي الدكتاتورية التي يحاول العلمانيون فرضها على أبناء الشعب العراقي ، ولذلك فنحن ننبه أبناء الشعب إلى خطورة الدعاوى التي يطلقها بعض العلمانيين من قبيل أنَّ فصل الدين عن الدولة فيه حماية للدين من تسلط الدولة ، كما سمعت هذه الدعوى من أياد جمال الدين أكثر من مرة وآخرها في لقائه مع فضائية العراقية ، فالعلمانيون لا يريدون حماية للدين من تسلط الدولة بل هم يريدون :
ـ منع الدين من أن يكون هويةً للشعب العراقي
ـ ومنع الدين من أن يكون مرتكزاً تشريعياً لأبناء الشعب العراقي
ـ ومنع الدين من أن يكون منهجاً فكرياً للشعب العراقي
ـ ومنع الدين من ان يكون له أي دور في حياة الشعب
إنهم يريدون مسخ الإسلام وتحويله إلى دين يُختَصَر على العلاقة بين الفرد وخالقه وليس لهذه العلاقة أي أبعاد أخرى لا على مستوى العائلة ولا على مستوى المجتمع.
إنها دعوى مخلصة لجميع العلمانيين وفي مقدمتهم أياد جمال الدين للتراجع عن موقفهم المعادي للإسلام في حقيقته ، وأذكر أياد جمال الدين بأن العلمانية هي منهج لا يصلح بديلاً عن الإسلام ، وليس في المبدأ العلماني أي خير .
لا يوجد لدى العلمانيين وهم ينتهجون المنهج الذي ذكرناه آنفاً ضد القوى الإسلامية وضد الهوية الإسلامية ومحاولتهم تهميش غالبية أبناء الشعب المخالفين لمنهجهم ، لا يوجد لديهم ما يمنعهم من ان يتخذوا جميع المواقف المعادية للإسلام عبر التأريخ لو حضروها ، مثلما يقفون اليوم في مواقف أخرى معادية للإسلام ومنهجه الأصيل .
وقد وجدنا في هذا المقال الذي كتبه الدكتور تيسير الآلوسي الملاحظات الآتية حول طبيعة الفكر والمنهج والوجود العلماني للعلمانيين العراقيين :
1. إنَّ مجال نشاط العلمانيين في غالبيته وفي ثقله الأكبر حول كتابة الدستور العراقي الدائم هو خارج العراق ، لكونهم يفتقرون القاعدة الشعبية والإسناد الشعبي الذي يمكن أن يسند نشاطهم داخل العراق من بين أبناء الشعب العراقي. حيث يبدو أن غالبية العراقيين لا يؤمنون بالعلمانية لكون العلمانية التي ينادي بها البعض هي علمانية غربية لم ولن تستطيع التكيف مع الواقع العراقي الثقافي والإجتماعي. ويمكن إستقراء هذا الأمر بوضوح في المقال المذكور.
2. محاولة المقال فرض هوية قسرية على الشعب العراقي من خلال قول الكاتب في بداية مقاله : [(نشطت القوى الديموقراطية والعلمانية في مسيرة الدفاع عن حقوق العراقيين في اختيار الدستور الذي يعبر عن هويتهم التعددية وأطيافهم المتنوعة )] ، فالشعب العراقي ليس لديه هوية تعددية بل لديه تركيبة سكانية تعددية من حيث الأديان والقوميات ، والتركيبة السكانية لا يمكن أن تحل بديلاً عن الهوية الثقافية ، فالكاتب العلماني يحاول مسخ الهوية الثقافية للشعب العراقي وهي هوية إسلامية واضحة المعالم وإبدالها بهوية تعددية ليس لها واقع في الشخصية العراقية ، فكل عراقي يعتز بإنتمائه الديني مع إحترامه للآخرين من أطياف الشعب المشتركين معه في المواطنة ، ولا نتصور أن هناك عراقياً يشعر بأن هويته عربية وكردية وسريانية في آن واحد حتى يقال بأن هويته تعددية.
3. يدعو الكاتب إلى الإستقواء بالأجنبي من أجل التأثير على كتابة الدستور بالطريقة التي يريدها العلمانيون ! فهل نسي كاتب المقال أن أي اجنبي لن يؤثر في الدستور إلا في إتجاه مصالحه الخاصة والمحافظة عليها بعيداً عن المصلحة الوطنية للشعب العراقي ؟!
4. يتعمد الكاتب إهانة الشعب العراقي من خلال إستعماله تعابير غير مهذبة كما ذكرنا آنفاً ونعيد ذكره هنا للتأكيد ، فيصف قطاع كبير من أبناء الشعب بأنهم : [(قطعان من غوغاء أو من جهلة يخضعون لتعاليم التخويف والإرعاب اللاهوتي بمرجعيات مزيفة تدعي أو تزعم تمثيل الله على الأرض)] ، وفي مقال سابق يصف النساء بوصف غير لائق هو الآخر حيث قال : [(إنّ المشكلة الحقيقية لا تكمن في مظاهر حجاب الثياب وبراقع الملابس وأقنعة السواد [كبنكات قادمة من الغرب والجنوب أو كواني قادمة من الشرق])] ، ولا نعلم سبب هذه المفردات غير اللائقة التي يستعملها الكاتب دون سبب معقول ! وكأن كرامة الشعب العراقي غير مهمة بالنسبة إليه !؟ وهل هذه هي الثقافة العلمانية التي تعلموها من الغرب !!؟(13/391)
5. رغم أن الكاتب وهو الدكتور تيسير الآلوسي يعرف نفسه في بداية المقال بأنه [(ناشط في حقوق الإنسان)] ، إلا أنه يغفل الكثير من حقوق الإنسان عندما تتعارض مع أفكاره العلمانية ، فالكاتب يستكثر على المواطنين ممارسة حريتهم الدينية والتي تنص عليها المادة ( 18 ) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على حرية الممارسة الدينية للأفراد والجماعات سراً وعلانية ! فنجد الكاتب وقد أخذ يعيد تناول الأفكار الشمولية الخاطئة التي نادى بها البعض أيام الإنتخابات [(من قبيل أن الجماهير مسلوبة الإرادة بسبب تدخل رجال الدين ، وأن الجماهير قد تعرضت للتضليل الواسع بغير وجه حق)] ، في حين أن الجماهير وفقاً لقانون حقوق الإنسان لها الحق أن تمارس عقيدتها بالشكل الذي تعتقده .
6. ذكرنا آنفاً إتهام الكاتب لقوى وطنية بأنها لاتنتمي للشعب العراقي ، وهكذا أصبح العلمانيون هم من يحدد إنتماء هذا أو ذاك من القوى السياسية ، وفقاً لدرجة قربه من تعاليمهم العلمانية أو بعده عنها ! وهو مثال أكيد للمنهج الدكتاتوري الذي ينتهجه العلمانيون في وقتنا الحاضر.
فالإتجاه الدكتاتوري هو السائد عند العلمانيين الديمقراطيين وهو الأكثر وضوحاً وشيوعاً بينهم ، هؤلاء العلمانيون غير قادرين على التعايش مع بقية القوى السياسية العراقية
ومن المربك أن تهتم بعض الجهات العلمانية بحق الفرد في إعتناق وممارسة عقيدته الدينية ولا تهتم مطلقاً بحق المجتمع في إعتناق وممارسة عقيدته ، مع أن المجتمع هو مجموع من الأفراد ، فيتحدثون دائماً حول حق الفرد ـ فقط ـ في إعتناق العقيدة التي يريد ، وفي هذا الصدد يقول توم فار مدير مكتب الحرية الدينية الدولي في وزارة الخارجية الأمريكية في مقابلة معه : (لكل إنسان ، إنطلاقاً من وجوده على الأرض ، الحق الذي لا يجوز إنتهاكه ليسعى إلى الحقيقة الدينية وليمارس الشعائر الدينية) ، نعم إنه كلام جميل ومطلوب ، ولكن حين نتطلع لمنح الأفراد حقوقهم الدينية وممارسة شعائرهم فكذلك علينا أن نتطلع لمنح المجتمع وهو المتكون من مجموعة كبيرة من الأفراد حقه في التعبد بعقيدته وممارسة تعاليمها. فالمادة ( 28 ) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على : ( لكل فرد حق التمتع بنظام إجتماعي ودولي يمكن أن تتحقق في ظله الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققاً تاماً ) ، فهذه المادة تمنح الحق لفرد ، وتتجاهل جميع أفراد المجتمع ! فما يريدونه من منح الحق المذكور لفرد واحد وسلبه عن مجموع الأفراد المكونين للمجتمع فهذا توجه غير منطقي وبعيد عن العدالة والإنصاف.
وتهتم بعض الجهات العلمانية بحق حرية الفرد وعدم الاعتداء على حدود الاخرين ... في حين انها لا تعتم بتعدي الفرد بحريته هذه على حدود الله الخالق !!
بارك الله فيكم أخي الحبيب د.السمالوطي.
وانظر هنا أيضًا:
http://70.84.212.52/vb/showth r ead.php?t=3566
وتفضلوا هذه الفقرات من كلام الدكتور محمد عباس بارك الله فيه:
هل تجد أي فرق أيها القارئ بين ما يحدث منذ شهور وما حدث منذ قرون..
اقرأ .. ستجد نفس الهمجية والتوحش ونفس الخسة.. وهي خسة لا تفلت من أمتهم أحدا.. لا تلت الناس ولا العلماء ولا القساوسة ولا الحكام..
اقرأ وستجد أن الأمر لم يختلف في أوروبا المجرمة عنها في أمريكا المجرمة..
اقرأ كلبا من كلابهم يتحدث عن الجحيم التي قدرت على المسلمين في القدس وقارنه بالخنزير الأمريكي الذي طلب أن يكون سجن أبي غريب " جهنم" لمن فيه:
ويشهد المبشر "استيفان نيل " في: "تاريخ الإرساليات المسيحية- لندن 1971) حيث إنه قد قدرت الجحيم بخصوص " الكفار" (نحن المسلمين) فإن الصليبيين يعتقدون أن سحقهم أمر ضرووي وخلقي أيضأ (!) وأما من يسمح له بالحياة منهم، فإلى عبودية دائمة، بمعنى ما يقومون به من خدمات للمؤمنين (المسيحيين)!! وحيث إن المسلمين- ببساطة- كفار، فليس لهم الحق في الوجود، فلا عهد معهم، وينبغي أن يذبحوا بلا رحمة أو شفقة تمجيدا لإله المسيحية" (ص 113).
فهل يختلف هذا عما يقوم به خنازير الصهاينة في فلسطين أو خنازير الأمريكان في العراق و أفغانستان أو خنازير الروس في الشيشان؟!..
وينقل عن "أولدينبرج " من كتابه "تاريخ الحروب الصليبية" قوله: "إن البابا كان على علم بالفظائع التي ارتكبها الصليبيون حيث نقل إليه ممثله هناك - غداة دخولهم القدس- بصراحة مبهرة، أن ما يقرب من عشرين ألفا من هؤلاء الناس (أي المسلمين) قد أعمل فيهم السيف دون النظر إلى العمر أو الجنس " (1)!! (ص ه 11).
ومع ذلك يوافق الكاتب "القسيس نيل) على ما حدث ويباركه بقوله: "وعلى أية حال فإن المسلمين. لا يظهر أنهم أتباع أمير السلام (المسيح) إ! ومن ثم استحقوا ذلك.. " (ص 114).
البابا المتوحش الهمجي كان على علم..
بوش المتوحش الهمجي أيضا كان على علم..
شبه الرجل بلير أيضا على علم..
والمسخ البشري شارون على علم..
والحرب التي بدأت منذ ألف عام هي نفس الحرب التي ما زالت مشتعلة.(13/392)
والأمر لا يقتصر إذن على ملك مجرم أو وزير متوحش.. و إنما إجرام توارثته الأجيال عبر القرون ليتركز أكثر ما تركز في أمريكا حيث الشعب مجرم والنخبة مجرمة والرئيس مجرم وتاريخهم كله مجرم.
هذه هي الصورة الصحيحة..
أما الصورة المقلوبة فقد كانت في الادعاءات الفاجرة الكاذبة عن إنسانية هؤلاء الناس وموضوعيتهم و إنسانيتهم..
http://www.mohamadabbas.net/Ma2al/70So r ah.htm
ويقول الدكتور محمد عباس في مقال آخر:
ماذا يريد هؤلاء الصليبيون والصهاينة منا..
ماذا يريدون منا..وقد اتضح الآن أن كل المعلن من أهدافهم كذب.. لكن موجزه أن هذا العصر ليس عصر محمد عليه الصلاة والسلام و إنما عصر الشيطان الرجيم بوش..
أما الوسيلة فقد كانت أكثر الوسائل خسة ووحشية و إجراما ودموية وقسوة.. وهي صفات لا تقتصر على حاكم أو نخبة و إنما هي المكون الرئيسي لحضارة كافرة
يقول منير العكش في كتابه - "أمريكا والإبادات الجماعية" عرض وكالة الأنباء الإسلامية :
لقد أبادت هذه الإمبراطورية الدموية 112 مليون إنسان بينهم 18.5 مليون هندي(بعض الأرقام تصل بعدد الضحايا من الهنود الحمر فقط إلى 110 مليون) أبيدوا ودمرت قراهم ومدنهم، ينتمون إلى أكثر من 400 أمة وشعب - ووصفت أمريكا هذه الإبادات بأنها أضرار هامشية لنشر الحضارة - وخاضت أمريكا في إبادة كل هؤلاء البشر وفق المعلوم والموثق 93 حرباً جرثومية شاملة وتفصيل هذه الحروب أورده الكاتب الأمريكي هنري دوبينز في كتابه "أرقامهم التي هزلت " THE NEMBE r BECAM THINNED : NATIVE AME r ICAN POPULATION في الجزء الخاص بأنواع الحروب الجرثومية التي أبيد بها الهنود الحمر بـ 41 حرباً بالجدري ، و4 بالطاعون ، 17 بالحصبة ، و10 بالأنفلونزا ، و25 بالسل والديفتريا والتيفوس والكوليرا . وقد كان لهذه الحروب الجرثومية آثاراً وبائية شاملة اجتاحت المنطقة من فلوريدا في الجنوب الشرقي إلى أرغون في الشمال الغربي ، بل إن جماعات وشعوب وصلتها الأوبئة أبيدت بها قبل أن ترى وجهة الإنسان الأمريكي الأبيض .
" فرانسيس ياركين " أشهر مؤرخ أمريكي في عصره لا يدين هذه القسوة والوحشية والإجرام و إنما يقول أن الهندي نفسه في الواقع هو المسئول عن الدمار الذي لحق به لأنه لم يتعلم الحضارة ولابد له من الزوال ..
ما ينطبق على الهندي الأحمر ينطبق على المسلمين إذن.
وهؤلاء المجرمون لا يقترفون كل هذه الجرائم ولا يقتلون كل هؤلاء الناس تبعا لمقتضيات الحرب حتى بمفهومهم هم..إنهم يقتلونهم حين يقاومون.. ويقتلونهم إذ يستسلمون.. وحتى إذا فروا من الميدان فإنهم يتعقبونهم ليقتلوهم.. وكأنما الجريمة التي ارتكبوها هي أنهم جرءوا على أن يوجدوا!!.. وكأنهم هم الذين أوجدوا أنفسهم.. لا يقتل البيض إذن ليسرقوا أو لينهبوا.. و إنما يقتلون ويعذبون ويمثلون بالبشر لأن لهم طباع الحيوانات الشرسة المفترسة.. بل أشد سوءا.. نعم.. إنهم يستمتعون بالقتل.. ليس استمتاع فرد شاذ.. بل استمتاع مجتمع شاذ وحضارة شاذة و أمة شاذة بأسلافها و أبنائها وعقيدتها المحرفة الشيطانية.. و لست أشك في أنهم جميعا ملحدون وليسوا مسيحيين بروتستانت كما يقولون.. تماما كما أن جل بناة دولة إسرائيل من اليهود ليسوا يهودا و إنما كافرون بالله العظيم وملحدون.
نعم.. الجريمة تجري منهم مجرى الدم وتقبع في النخاع.. جرت وتجري وستجري.. وربما يتخيل قارئ أن وحشية الأمريكي وخسته و إجرامه إنما تعود إلى أزمنة غابرة لم يعد لها الآن من أثر..
لكن..
فلنقرأ هذا الخبر في صحيفة القدس العربي:
واشنطن ـ اف ب: دافعت وزارة الدفاع الأمريكية الخميس عن جنرال في سلاح مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) اعتبر أن من الممتع إطلاق النار علي المسلحين في العراق أو أفغانستان. فخلال نقاش علني الثلاثاء في سان دييغو (كاليفورنيا غرب الولايات المتحدة) قال الجنرال جيمس ماتيس في الحقيقة من الممتع القتال. من الممتع إطلاق النار علي الناس.. ونشر سلاح المارينز بيانا قال فيه أن الجنرال ماتيس هو من القادة العسكريين الذين يتمتعون بقدر كبير من الشجاعة والخبرة في البلاد . وقال الجنرال مايكل هاغي أن ماتيس غالبا ما يتحدث بصراحة كبيرة .
القدس العربي 5-2-2005
***
نعم..
كانت المشكلة أن "ماتيس" لم يخف شيئا وتحدث بالحقيقة دون إخفاء أو تزوير..
و إنهم يستمتعون بقتلنا..
***(13/393)
يستمتعون كما استمتعوا بجريمة سلخ فروة الرأس لكل ضحاياهم من الهنود الحمر وذلك على النقيض مما تروج له هوليود والرسميون والإعلاميون وأكاديميو التاريخ المنتصر ، فقد رصدت السلطات الاستعمارية مكافأة لمن يقتل هنديا ويأتي برأسه ، ثم اكتفت بعد ذلك بسلخ بفروة الرأس ، إلا في بعض المناسبات التي تريد التأكد فيها من هوية الضحية ، ولعل أقدم مكافأة على فروة الرأس بدلاً من كل الجمجمة تعود إلى عام 1664 ، وفي 12 أيلول سبتمبر من ذلك العام ، حيث رصدت المحكمة العامة في مستعمرة ماسوسيتش مكافأة مختلفة لكل من يأتي بفروة رأس هندي مهما كان عمره أو جنسه وتختلف المكافآت بحسب مقام الصياد ، 50 جنيهاً إسترلينيا للمستوطن العادي ، و20 جنيهاً لرجل الميليشا العادي ، و10 جنيهات للجندي ، ثم تغيرت التعريفة في عام 1704 فأصبحت مائة جنيه لكل فروة رأس ومن المفارقات أن المكافآت المتواضعة التي رصدت كانت لفروة رأس الفرنسي عام 1696 وهى 6 جنهيات ، حتى أن المغامر "لويس وتزل " يروى أن غنيمته من فرو رؤوس الهنود لا تقل عن 40 فروة في الطلعة الواحدة .
في أمريكا لا يتكلمون عن وتزل كمجرم ولا كإرهابي ولا كقاتل ولا كسفاح ولا يخجلون منه.. بل ويعتبرونه من أبطال التاريخ الأمريكي وما يعرف بعمالقة الثغور.
يفخرون به رغم أنه يخجل..
أما نحن فنخجل من أبطالنا رغم أنه كان لنا وعلينا أن نفخر بهم..
نحن نسمي الأبطال إرهابيين!!..
***
وبدءا من وتزل صار قطع رأس الهندي وسلح فروة رأسه من الرياضات المحببة في أمريكا ، بل إن كثيراً منهم يتباهى بأن ملابسه وأحذيته مصنوعة من جلود الهنود ، وكانت تنظم حفلات خاصة يدعى إليها علية القوم لمشاهدة هذا العمل المثير (سلخ فروة رأس الهندي وهو على قيد الحياة) حتى أن الكولونيل جورج روجرز كلارك في حفلة أقامها لسلخ فروة رأس 16 هندي طلب من الجزارين أن يتمهلوا في الأداء وأن يعطوا كل تفصيل تشريحي حقه لتستمتع الحامية بالمشاهد (راجع اليوميات في Michigan pionee r and histo r ical colloction العدد 9 ، 1886م ، صـ501، 502) وما يزال كلارك إلى الآن رمزاً وطنياً أمريكياً وبطلاً تاريخاً وما يزال من ملهمي القوات الخاصة في الجيش الأمريكي .
ومع تأسيس الجيش الأمريكي أصبح السلخ والتمثيل بالجثث تقليداً مؤسساتيا رسمياً فعند استعراض الجنود أمام وليم هاريسون (الرئيس الأمريكي فيما بعد ) بعد انتصار 1811م على الهنود التمثيل بالضحايا ثم جاء الدور على الزعيم الهندي "تكوميسه" وهنا تزاحم صيادو الهنود والتذكارات على انتهاب ما يستطيعون سلخه من جلد هذه الزعيم الهندي أو فروة رأسه ، ويروى جون سغدن في كتابه عن "تيكوميسه" كيف شرط الجنود المنتشون سلخ جلد الزعيم الهندي من ظهره حتى فخذه .
وكان الرئيس أندره جاكسون الذي تزين صورته ورقة العشرين دولارا من عشاق التمثيل بالجثث وكان يأمر بحساب عدد قتلاه بإحصاء أنوفهم المجدوعة وآذانهم المصلومة ، وقد رعى بنفسه حفلة التمثيل بالجثث لـ 800 هندي يتقدمهم الزعيم "مسكوجى" ، وقام بهذه المذبحة القائد الأمريكي جون شفنغنتون وهو من أعظم أبطال التاريخ الأمريكي وهناك الآن أكثر من مدينة وموقع تاريخي تخليداً لذكره ولشعاره الشهير "اقتلوا الهنود واسلخوا جلودهم ، لا تتركوا صغيراً أو كبيراً ، فالقمل لا يفقس إلا من بيوض القمل " .
***
نعم ..
القمل لا يفقس إلا من بيض القمل..!!..
والإرهاب لا ينبع إلا من المسلمين..!!!!..
يكفي أن يكونوا مجرد مسلمين.. وليس يهم ماذا فعلوا وماذا لم يفعلوا..
بل لقد وصل الأمر لحد المهزلة .. ذلك أن فيرينك جيوركساني رئيس الوزراء المجري قد استخدم في 10-2-2005 تعبير "الإرهابيين العرب« أثناء إشادته بفريق بلاده الوطني لكرة القدم لتصديه للفريق السعودي. وكان جيوركساني قد أعلن »أن فريق بلاده قاتل بشجاعة تتحدي الموت ضد الإرهابيين العرب".
تحول الأمر إذن إلى عنصرية بغيضة حقيرة منتنة..
لا..
بل على الأحرى هو منذ البداية كذلك..
لكن لنواصل القراءة في سفر الحضارة الغربية الوحشية الشاذة المجرمة.. في كتاب:" أمريكا والإبادات الجماعية"..
***
يقول الجندي الأمريكي " أشبري" أن الأمر قد وصل إلى حد التمثيل بفروج النساء ويتباهى الرجل بكثرة فروج النساء التي تزين قبعته وكان البعض يعلقها على عيدان أمام منزله .
ثم اكتشف أحد صيادي الهنود إمكانية استخدام الجلد المسلوخ عن الأعضاء الذكرية للهنود كأكياس للتبغ ، أكياس فاخرة غير مخيطة من الجانب، ثم تطورت الفكرة المثيرة من هواية فردية للصيادين إلى صناعة رائجة وصار الناس يتهادونه في الأعياد والمناسبات ، ولم تدم هذه الصناعة طويلاً بسبب قلة عدد الهنود حيث وصلوا في عام 1900 إلى ربع مليون فقط (لمزيد من التفاصيل راجع stand hoig في كتاب the sand c r eek massaca r s ) .
***(13/394)
أعرف أن النخبة المثقفة المجرمة في بلادنا وعلى رأسهم الحداثيون والعلمانيون والشيوعيون سيحاولون الهرب من المواجهة.. وسوف يدعون أن ذلك حدث في الماضي البعيد.. و أن أول شرط للحداثة هو القطيعة المعرفية.. هو نسيان ما حدث في الماضي..
يطلبون منا -كلاب النار- نسيان ما حدث منذ خمسين عاما من حقائق .. ولا ينسون هم أساطير مزعومة ترجع إلى الوراء أربعين قرنا.
وهذه النخبة المجرمة ليست جاهلة و إنما هي خائنة..
وهي لا تتناول الماضي بهذا الاستخفاف إلا لسبب واحد: هو إتاحة الفرصة للصليبيين لكي يواصلوا مذابحهم ضدنا دون مقاومة.. وتلك ليست مهمة النخبة بل وظيفة الطابور الخامس..
وقد يقول أحدهم أن تاريخ الهنود هذا تاريخ قديم.. و أن تيك الجرائم الأمريكية سقطت بالتقادم ولا ينبغي أن نحمل الأجيال التالية وزرها..
ليس حسنا يا كلاب النار يا حطب جهنم..
ليس حسنا وليس صحيحا و أنتم أول من يعلم أنه غير صحيح..
لكن.. فلنتناول إذن تاريخا غير قديم..
وليلاحظ القارئ أن ما حدث هو بعينه الذي يحدث الآن في العراق..
***
ففي أربعينات القرن العشرين دخلت اليابان أطلس الشعوب المتوحشة الأمريكي (سوف تسمى بعد ذلك محور الشر) .
ويروى مراسل حربي في مقالة له في atlantic monthly " لقد قتلنا الأسرى بدم بارد، ومحونا المستشفيات من الوجود ، وأغرقنا مراكب الإنقاذ ، وقتلنا المدنيين وعذبناهم ، وأجهزنا على الجرحى وقدناهم إلى حفر جماعية ، وهناك في الهادي سلقنا لحم جماجم أعدائنا (بقصد اليابانيين) لنصنع منها عاديات تذكارية توضع على الطاولات وتهدى إلى الأحباب أو صنعنا من عظامهم سكاكين لفتح الرسائل " .
وقد لاقت هذه الرسائل ترحيباً كبيراً لدى الشعب الأمريكي حتى أن مجلة لايف نشرت في عام 1944 موضوعاً عن الحرب مزيناً بصفحة كاملة لصورة صبية شقراء مبتسمة وهو تقف إلى جانب جمجمة يابانية أرسها إليها خطيبها من الجبهة .
***
ألم أقل لكم أن المشكلة ليست في الإدارة الأمريكية بل المشكلة في شعب جله مجرم، مع استثناءات تثبت القاعدة ولا تلغيها..
شعب مجرم نشأ من حرام وارتوي بالدماء، ولن تردعه أبدا إلا الدماء.
***
وفي الحرب العالمية الثانية اقترفت الجيوش الأمريكية العديد من جرائم الحرب وضد المدنيين العزل بشكل خاص. فقد شارك الأسطول الجوي الأمريكي عبر ما يسمى بالقصف السجادي، في تدمير العديد من المدن المكتظة بالسكان والتي لا تمثل أي قيمة عسكرية تذكر، وما تدمير مدينتي روتردام في هولندا ودرسدن في ألمانيا سوى نموذج للهمجية الأمريكية، والتي لا تعرف مكانا للقيم في منظوماتها العسكرية. وبلغت هذه الهمجية ذروتها حين تم ضرب مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين - اللتين لا قيمة عسكرية لهما - بالقنبلة النووية، والتي خلفت دمارا شاملا لا يمكن وصفه في صفوف المدنيين العزل إضافة إلى المنشئات والبيئة الطبيعية. وهذا مما يخالف كل قوانين الحرب التي تدعي أمريكا بهتانا اتباعها.
ولقد تبنت القوة الجوية الملكية والقوة الجوية للجيش الأمريكي أسلوب القصف الاستراتيجي والتدمير الواسع للمدن باستعمال القنابل الحارقة، فأمر الجنرال جورج مارشال - رئيس الأركان الأمريكي آنذاك - مساعديه بتخطيط هجمات حارقة على المدن اليابانية الكثيفة السكان، ومن ثم انطلقت 334 طائرة أمريكية لتدمر ما مساحته 16 ميلا مربعا من طوكيو بواسطة إلقاء القنابل الحارقة، مما أدى إلى مقتل 100 ألف شخص وتشريد مليون نسمة، بينما وصلت درجة حرارة الماء في القنوات إلى درجة الغليان وذابت الهياكل المعدنية وتلاشت الأجساد في ألسنة من اللهب. ولم تكن طوكيو وحدها هي التي تعرضت لتلك الهجمات الأمريكية الوحشية، فقد تكرر هذا السيناريو في 64 مدينة يابانية أخرى.. فضلا عن دك هيروشيما وناجازاكي بقنبلتين ذريتين حصدتا عشرات الآلاف من الأرواح، وأهلكتا الزرع والضرع، رغم أن الحرب كانت قد وضعت أوزارها بالفعل !!
***
غيروا أسماء المدن والتواريخ لتقرءوا ما حدث في العراق بعد ذلك بستين عاما..
ضعوا اسم بغداد مكان طوكيو.. والفلوجة مكان هيروشيما.. وبعقوبة مكان نجازاكي.. وعام 2004 بدلا من عام 1944..افعلوا ذلك تقرءوا ما حدث في العراق..
نفس المجرم ونفس الادعاءات ونفس الجرائم و إن اختلفت الضحايا..
***
في عام 1946 أنشأت الولايات المتحدة في بنما المدرسة الأمريكية المشؤومة - للتعذيب!!- ثم نقلت في عام 1984 إلى فورت بنينغ في جورجيا حيث كان يتم التدريب على الحرب وعلى العمليات البوليسية وقد تعلم فيها أكثر من 60 ألف عسكري وشرطي من أمريكا اللاتينية خلال سنوات عديدة فنون القهر والتعذيب والاغتيال وعمليات الكومندوس ومنهم كومندوس الموت ضد أطفال الشوارع.
***
هل عرفتم الآن أين تدربت وكيف تدربت وحوش بشرية كزكريا محيي الدين وصلاح نصر وصلاح دسوقي وحمزة البسيوني وحسن طلعت وزكي بدر والنبوي إسماعيل وحسن الألفي و فؤاد علام ..و..و..
وهل عرفت الآن - أنا - إجابة السؤال الذي طالما دوخني وأنا أتابع تفاصيل التعذيب في سجوننا فأهمس لنفسي مروعا مذهولا:(13/395)
- من الذي علمهم ذلك.. ما يفعلونه مروع ورهيب وليس له أي جذور في الفكر الإسلامي ولا العربي ولا حتى الفرعوني.. ما يفعلونه مروع ورهيب لا يقوم به إلا كافر..
وكانت أمريكا و أوروبا فوق الشكوك كما علمنا أتباع دنلوب و أحفاد كرومر..
الآن أعرف من علمهم..
و أعرف الكفر و أهله و أصله..
أعرف علاقة النسب والدم بين جلادين وطغاة كحكامنا وبين المجرمين الصليبيين واليهود..
***
" هيوه مانكه " رئيس قسم المتطوعين الدولية، قال في شهادة له أمام الكونجرس 1971 قد أكد على عزم القوات الأمريكية على إبادة فيتنامي الجبل فقال " إننا سنحل مشكلتهم كما فعلنا مع الهنود " بينما قال " ماكسويل تايلور " وهو يصف الفييتكونغ في شهادة له أمام الكونجرس " إن الفيتناميين ليسوا بأفضل من قمل يغزو جلد الكلب " .
وكانت قناة histo r y التليفزيونية الأمريكية قد عرضت في 3 تموز 1996 شكلاً حديثا من مشاهد السلخ في فيلم وثائقي بعنوان " قيام العنقاء " نرى فيه الجنود الأمريكان في فيتنام وهم يقطعون رؤوس الفييتكونغ ويعرضونها في مهمة أشرفت عليها وكالة الاستخبارات المركزية في أواخر عام 1967 وأطلقت عليها اسم " العنقاء " "ope r ation phoenix" ، وقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أن عدد ضحايا عملية العنقاء وحدها وصل إلى 26369 قتيل ، و33358 معتقل ، بينما يؤكد روي بروسترمن " أستاذ القانون في جامعة واشنطن أن عملية العنقاء شملت " فيتنام - والفلبين - والسلفادور " وبلغ عدد ضحايا فيتنام وحدها في الفترة بين 1968 ، 1971 ، ما يزيد عن 40 ألف قتيل وأكثر الضحايا كانوا من المدنيين والمعتقلين جزاء التعذيب .
ويروى "بارتون " أحد ضباط عملية العنقاء في شهادته أمام الكونجرس عام 1973 " كنت أنظر في قضية مشتيه يقول أحد عملائي أنه متعاطف مع الفييتكونغ وكان التحقيق يجرى في مجمع بالتجسس المضاد لفرق المارينز وحين دخلت لمتابعة ما يجري كان الرجل قد فارق الحياة بعد أن دكوا في فتحة أذنه سيخاً حديدياً طوله 6 بوصات اخترق دماغه وقتله .. لقد كانت حرب إبادة منظمة " .
وتصف مجلة count r y spy في عددها ربيع/ صيف 1975 عملية العنقاء بأنها أكبر برنامج للقتل الجماعي المنظم يشهده العالم منذ معسكرات الموت النازية فتقول " في 16 آذار ، مارس 1968 دخلت مجموعة من الكتيبة 11 إلى قرية ( ماى لاى) فقتلت 347 عجوزاً وامرأة وطفلاً رضيعاً ، ثم أن المشاة أحرقوا البيوت والأكواخ بمن فيهم البشر وهنأ الجنرال "وستمولند" هذه المجموعة لعملها " الممتاز" ، وفي يوم المجزرة نفسه هاجمت مجموعة أخرى من الكتيبة قرية (ماى خه) وفتحت نيرانها على طريقة الكابوي وفي هذه المجزرة تولت مجموعة من صغيرة من الجنود تكويم الجثث "
وفي اليوم التالي زحفت هذه المجموعة عبر شيه جزيرة "باتنغن" جنوب بحر الصين وراحت تحرق كل قرية تعبرها وتقتل كل ما يدب فيه الروح من الجواميس والخنازير والبط والدجاج والبشر وتدمر المحاصيل ، وقال أحد جنود هذه المجزرة " ما فعلناه هنا ليس استثناء ، لقد فعلناه في كل مكان " وقال آخر " لقد كنا نتسلى "
كنا نتسلى..
كنا نتسلى..
كنا نتسلى..
كما يتسلون في العراق وكما تتسلى إسرائيل في فلسطين..
***
وعن مذبحة ( ماى لاى ) يروي سيمور هيرش الكاتب الأمريكي ( والكلام عن المذبحة مقتبس من كتابيه(my lai - cove r up ) يروى أن الطيار هيو تومسون كان يحلق بطائرته الهليوكويتر الصغيرة صباح 16 آذار ، مارس 1968 فوق منطقة ماى لاى ، وما إن اقترب من قرية سونغ ماى حتى رأي الأرض مزروعة بالقتلى والجرحى من دون إشارة تدل على وجود على وجود قوة معادية ، (في المنطقة التي تقع داخل فيتنام الجنوبية الحليفة التي تستضيف الجيش الأمريكي والضحايا كلهم من مواطنيها ) ، وظن الطيار أن أفضل ما يستطيع فعله هو تحديد المكان بالدخان حتى يسرع الجنود على الأرض للنجدة والمساعدة ، وكان أول ما فعل أن حدد مكان فتاه مصابة بطلقات في بطنها ومبطوحة على حافة السياج فيما كان نصفها السفلي فوق حقل الأرز . ولدهشته فإن الجنود أسرعوا إلى الفتاة ليجهزوا عليها لا ليسعفوها ، فقد أفرغوا في رأسها عدة طلقات " .
ويقول أحد مساعدي تومسون " إن الجثث كانت كالنمل ، كان هناك من سمم مياه الشرب وكان كل من في القرية شرب من هذه المياه المسمومة وسقط صريعاً ، لقد استغرق دفن القتلى أكثر من خمسة أيام "
وكان جوزيف ستريك قد أجرى لقاءات مطولة مع جنود هذه المذابح لتوثق لعام 1971 ، فقال " فردانو سمبسون : " كانوا يمثلون بالجثث وبكل شئ ، كانوا يشنقونها أو يسلخونها ، وكانوا يستمتعون بذلك ، يستمتعون بكل معنى الكلمة ـ وكانوا يتلذذون بقطع حناجرهم " .(13/396)
وكانت "النيويورك تايمز" في أواخر نيسان 2001 قد كشفت عن مجزرة لم يكن أحد يذكرها لولا أن بطلها أصبح عضواً في مجلس الشيوخ ، وقد أرتكبها السيناتور " بوب كيري " في شباط فبراير 1969 ، عندما كان ضابطاً بحرياً متطوعاً في حرب فيتنام ونال جزاء بطولتها وسام النجم البرونزي ، ويروى " غيرهارد كلان " أحد الذين شاركوا في هذه المجزرة كيف كان أن السناتور بوب كيري الذي خاض الانتخابات الرئاسية الماضية قادهم في تلك الليلة إلى قرية ثونه فونغ حيث جمعوا 13 امرأة وطفلاً وأطلقوا عليهم النار بدم بارد ، وكيف أنهم بعد سقوط القتلى سمعوا طفلاً يبكى بين الضحايا فعاجلوه بالرصاص الكثيف . وقال إنهم بينما كانوا في طريقهم إلى مكان المجزرة مروراً بكوخ فيه عجوزان وثلاثة أطفال فطعنوهم جميعاً بالسكاكين ثم قطعوا حناجرهم " .
***
في فيتنام كما يؤكد الراهب البوذي الفيتنامي ثيتش ثين هاو أن " حرب فيتنام تسببت بحلول منتصف عام 1963 في مقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص، واغتصاب 31 ألف امرأة، كما نزعت أحشاء 3000 شخص وهم أحياء، وأحرق 4000 حتى الموت، ودمر ألف معبد، وهوجمت 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة ".
كما أدى القصف الأمريكي لهانوي وهايفونغ عام 1972 إلى إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصمم الدائم.. وبينما عانى الأمريكيون بعد الحرب من فقد 2497 جنديا (بحسب أحد التقديرات )، كانت العائلات الفيتنامية تكافح للتكيف مع فقد 300 ألف فيتنامي، فضلا عن أن عدد القتلى في فيتنام بلغ 4 ملايين شخص، إلى جانب عدة ملايين آخرين من المعوقين والمصابين بالعمى والصدمات والتشوه، مما حول فيتنام إلى ساحة كبرى للقبور ومبتوري الأعضاء والأرض المسممة واليتامى والأطفال المشوهين.
***
لسنا أمام أزمة عابرة إذن، ولا أمام جنوح عابر أو جنون مؤقت، نحن أمام شعب متوائم مع نفسه متسق مع شخصيته و مبادئه بل ودينه، دينه الشيطاني الذي لا يتبع حتى المسيحية المحرفة.. بل يتبع الشيطان.. نحن أمام أمة مجرمة حتى النخاع. ولعلها تتفوق على أوروبا في الكم فقط، أما في الكيف فلا فرق. أمة مجرمة لن يردعها إلا المواجهة والجهاد.. ولن يمنعها عنا إلا إرهاب عدو الله وعدونا..
وحسبنا هنا أن ننقل ما أوردته جريدة التايمز البريطانية على لسان صحفي بريطاني في وصف ما حدث في العراق عام 1991: " كانت الحرب نووية بكل معنى الكلمة، وجرى تزويد جنود البحرية والأسطول الأمريكي بأسلحة نووية تكتيكية، والأسلحة المطورة أحدثت دمارا يشبه الدمار النووي، حيث استخدمت أمريكا متفجرات وقود الهواء المسماة Blu-82، وهو سلاح زنته 15000 رطل وقادر على إحداث انفجارات ذات دمار نووي حارق لكل شيء في مساحة تبلغ مئات الياردات ".
كما استخدمت قنابل اليورانيوم المستنفد لأول مرة للتخلص من نفايات المفاعلات والمحطات النووية، حيث أطلقت الدبابات الأمريكية ستة آلاف قذيفة يورانيوم، بينما أطلقت الطائرات عشرات الآلاف من هذه القنابل، لدرجة أن تقريرا سريا لهيئة الطاقة الذرية البريطانية قدر ما خلفته قوات التحالف على أرض العراق بما لا يقل عن أربعين طنا من اليورانيوم المنضب.
كما أكدت مصادر غربية أن هناك 800 طن من غبار وذرات اليورانيوم المنضب سوف تستمر في الهبوب على شبه الجزيرة العربية لمدى طويل جدا، حيث تم تلويث الهواء والتربة والأنهار بكميات مفزعة من الإشعاع المسبب للسرطان، مما دفع مكتب السكان الأمريكي نفسه لوصف العواقب الوخيمة لذلك على العراقيين بأنه تسبب في انخفاض عمر الرجال العراقيين بمعدل 20 سنة وانخفاض عمر العراقيات بمعدل 11 سنة، فضلا عن نصف مليون حالة وفاة بالقتل الإشعاعي في العاجل والآجل.
***
نذكر ما حدث عام 1991.. أما ما حدث عام 2004 فلا نذكره .. لأن راعية العالم الحر أخفت المعلومات وقتلت المراسلين الذين حاولوا نقل الحقيقة إلى العالم..
***
يورد محمد حسنين هيكل في مقال له بعنوان الإمبراطورية على الطريقة الأمريكية - مجلة وجهات نظر- قصة احتلال الفلبين " في سبتمبر 1898 :
استقبل الرئيس الأمريكي " ماكينلى" وفداً من قساوسة جمعية الكنائس التبشيرية الذين فوجئوا به بعد أن انتهت جلسته يقول لهم " عودوا إلى مقاعدكم أيها السادة لأني أريد أن أقص عليكم نبأ وحي سماوي ألهمني ، أريد أن أقول لكم أنني منذ أيام لم أنم الليل بسبب التفكير فيما عسى أن نصنعه يتلك الجزرة البعيدة (الفليبن) ولم تكن لدى أدنى فكرة عما يصح عمله ورحت أذرع غرفة نومي ذهابا وجيئة أدعو الله أن يلهمني الصواب ثم وجدت اليقين يحل في قلبي والضوء يسطع على طريقي ، إن الجزرة جاءتنا من السماء فنحن لم نطلبها ولكنها وصلت إلى أيدينا منة من خالقنا ، ولا يصح أن نردها وحتى إذا حاولنا ردها فلن نعرف لمن ؟ - ولا كيف؟(13/397)
وقد بدا لي أولاً أنه من زيادة الجبن وقلة الشرف والتخلي على الواجب أن نعيدها إلى أسبانيا ، ومن ناحية ثانية وجدت من سوء التصرف والتبديد أن نعهد بها إلى قوة أوروبية متنافسة على المستعمرات في آسيا مثل فرنسا وألمانيا ، ومن ناحية ثالثة أحسست أنه من غير الملائم أن نترك هذه الجرزة لحماقة وجهل سكان محليين لا يصلحون لتولى المسؤولية ، وكذلك فإن الخيارات المقترحة أمامنا تركزت في حل واحد هو في الواقع لمصلحة الفلبين قبل أي طرف آخر ، وهذا الحل هو ضم الجزر إلى أملاكنا ، بحث نستطيع تعليم سكانها ورفع مستواهم وترقية عقائدهم المسيحية ليكونوا حيث تريد لهم مشيئة الرب أخوة لنا فدتهم تضحية المسيح كم فدتنا! " .
***
تصوروا لو أن حاكما عربيا أو مسلما تحدث عن: نبأ وحي سماوي ألهمه ، بعد أن ظل طول الليل يذرع غرفة نومه ذهابا وجيئة يدعو الله أن يلهمه الصواب ثم وجد اليقين يحل في قلبه والضوء يسطع على طريقه ، إن فلسطين جاءتنا من السماء وهي منة من خالقنا، ووديعة سيدنا عمر، ولا يصح أن نتركها لليهود وحتى إذا حاولنا تركها فلن نعرف ..
تصوروا لو أن حاكما أو عربيا قال مثل ذلك.. ماذا كان يمكن للغرب أن يفعل به..
بل ماذا كان يمكن لكلاب العرب الشرسة التي بثها الغرب فينا من خونته وعملائه العلمانيين والحداثيين والشيوعيين سيفعلون بمثل هذا الحاكم..
هذه الطغمة الفاسدة المجرمة التي تعوي ككلب أجرب كلما ذكر مسلم الإسلام أو القرآن.. وانظروا ماذا فعلت تلك الكلاب البشرية بواحد من أفضل كتاب المغرب و أوسعهم علما و أكثرهم نشاطا هو الأستاذ حسن السرات لمجرد أنه استخدم كلمة غضب الله بدلا من غضب الطبيعة وهو يتحدث عن زلزال تسونامي.. لكننا سنعود بالتفصيل إلى هذه النقطة في جزء تال.
لكنني أذكركم فقط كيف حاصر الغرب السلطان عبد الحميد الثاني واتهمه بالرجعية والتخلف والجمود رغم أن الرجل لم يدع أن هناك وحيا هبط من السماء عليه كما قال " ماكينلى" أو أن الله أمره كما قال القرصان الدموي المجرم جورج بوش..
***
دعونا نعود إلى الجرائم الأمريكية:
واشتهرت الوحدات الخامسة للقوات الأمريكية الخاصة (البيريه الخضراء) بعملياتها السرية والمعلنة في فيتنام بين عامي 1968 و1969 ثم في أمريكا الوسطى لاحقا، وسميت عملياتها في فيتنام بـ"مشروع فوينكس"، وفيه كانت تقوم بالكثير من الأعمال العسكرية "القذرة" - على حد وصف بعض مؤرخي الحرب الأمريكية- ومن بينها اغتيال زعماء القرى وحتى بعض الجنود الأمريكيين لضمان تأييد الكونجرس لاستمرار الحرب، وهو المشروع الذي وصفه المحرر العسكري المعروف "باول شيهان" بأنه "كذبة ناصعة"!.
***
والتاريخ يعيد نفسه..
اقرأ عن المذابح الوحشية للأمريكيين تظن أنك تقرأ عن الحروب الصليبية واقرأ عن الحروب الصليبية تظن أنك تقرأ عن مذابح الأمريكيين في التاريخ المعاصر..
ينقل لنا المستشرق غوستاف لوبون هذه الصفحة من تاريخ الحروب الصليبية : "اقترف الصليبيون من الجرائم مالا يصدر عن غير المجانين ، وكان من ضروب اللهو عندهم تقطيع الأطفال إرْباً إرباً وشيّهم ! . لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في بيت المقدس ، وكانت جثث القتلى تحوم في الدم .. وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها !! وأباد الفرسان الصليبيون الأتقياء جميع سكان القدس من المسلمين واليهود والنصارى .. وكان سلوك الصليبيين غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب حين وصل القدس منذ بضعة قرون .. ولا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه جرائم قتل كتلك التي اقترفت ضد المسلمين".
أما المستشرق روم لاندو فيقول : "مثل هذا الإفناء البشري باسم المسيح كان لا بد له أن يُذهل الإنسانية ، ولقد عجزت القرون المتعاقبة عن محو هذه الوصمة … وإن كَرّ السنين لم يخفف من أعمال اللا تسامح التي قام بها الصليبيون باسم الله"
أمّا كنه هؤلاء" الأتقياء" فيحدّده أسقف عكا (جاك دوفيتري) : " كان لا يُرى منهم في أرض الميعاد غير الزنادقة والملحدين واللصوص والخائنين"..
نعم..
نعم..
كان وما يزال لا يُرى منهم في بلادنا غير الزنادقة والملحدين واللصوص والخائنين"...
***
نعم.. نحن نواجه أمة مجرمة حتى النخاع.. أمة مجرمة عبر تاريخها كله.. ولم تتوقف أبدا عن ممارسة الإرهاب.
ولتقرأ من وكالات الأنباء هذا الخبر.
واشنطن: «الشرق الأوسط»..
سناتور يطالب بالتحقيق في تصريحات مدير أخبار الـ«سي. إن. إن» في منتدى دافوس
قال إن الجيش الأميركي يتعمد استهداف الصحافيين في العراق..
ما يزال الجدل مستمراً حول ما قاله رئيس قسم الأخبار في شبكة الـ«سي إن إن»، ايسون جوردان، في منتدى دافوس الاقتصادي أخيرا. وبحسب التقارير فإن جوردان اعتبر في ندوة عن الديمقراطية والإعلام أن الجيش الأميركي استهدف الصحافيين خلال عملياته في العراق. وقال انه على علم بحوالي 12 صحافيا لم يقتلوا برصاص القوات الأميركية فحسب، بل تم استهدافهم، وذلك تنفيذا لسياسة معينة وقد أيده في ذلك العضو الديمقراطي في مجلس النواب بارني فرانك.(13/398)
***
يورد محمد حسنين هيكل في مقالة "مهمة تفتيش في الضمير الأمريكي في العدد التاسع والأربعون - مجلة وجهات نظر- فبراير 2003م " ، وهنا يم يكن مستغرباً أن تكون مقدمة الظهور الأمريكي مع مطلع القرن العشرين رجالاً من طراز "مورجان " وهو من أسرة اعتمدت ثروتها على في الأصل على جد من كبار القراصنة خبأ كنزه في إحدى جزر البحر الكاريبي ثم ترك لأسرته خريطة تدل على موقعه، وعندما تمكن الورثة من فك الرموز- أصبح الكنز في العصر الحديث أهم أصول واحد من أكبر البنوك الأمريكية)- ونفس الطراز من الرجال تكرر في "جون روكفللر" ( فقد تحصل على غنى أسطورى من إبادة قبائل بأكملها في "فنزويلا" كي يفسح المجال لحقول بترول تأكد له وجودها وصمم على امتلاكها، واستحق أن يوصف بأنه أسال دماء على سطح فنزويلا بأكثر مما استخرج من عمق آبارها نفطا)- ونفس الطراز كذلك تكرر في "فاندربيلت" ( الذي تسابق مع "مورجان" في مشاريع مد السكك الحديدية تربط أمريكا الشمالية بقضبان من الصلب ، تشق طريقها صاعقة نافذة في الجبال مكتسحة لمعظم ما بقى لمواطن الهنود الحمر ، والجيوب المنسية من جماعات المهاجرين .
***
ويقول (فرانك براوننغ) في كتابه (الجريمة على الطريقة الأمريكية): منذ سنة 1960م اخذوا في الولايات المتحدة الأمريكية يتحدثون كثيراً عن (سلطة خامسة) هي أحياناً قوية لدرجة الذي السلطات الأربع الأخرى تنحني أمامها.. كان البعض يقصد بها فيها الجيش، والبعض الآخر المخابرات. ولكننا نعتقد بأن ما وراء كافة هذه القوى الاجتماعية، توجد قوة أخرى (سلطة سادسة) قد ظهرت في الولايات المتحدة. قوة قادرة على التأثير في الحكومة، في القانون، في الاقتصاد، في الشرطة، في الأسعار، في الأذواق... إن هذه القوة تغرز جذورها حتى منبت التاريخ الأمريكي، الذي تأثيرها عميق وسيطرتها واسعة، وقدرتها متنامية باستمرار. فأمريكا لا تستطيع اليوم أن تعمل بدونها. إن هذه (السلطة السادسة) هي التي يمارسها عالم محترفي إجرام يعملون في خدمة الصناعيين والسياسيين من غير الشرفاء... أن الأفراد الذين ينتهكون القانون يعرفون من الآن فصاعداً أن باستطاعتهم الاعتماد على حماية (المنظمة) وعلى ضمان أموالها وعلى تعريف كافة مستويات المجتمع للشبهات، هذا التعريف الذي تثبت بواسطته سلطتها. إن (السلطة السادسة) تستعلي على تحالفات الطبقات وعلى الصداقات السياسية التقليدية... إن (السلطة السادسة) تلك الجريمة الممأسسة ليست إذن إفساد القوى الاجتماعية الأخرى وحسب. إنها تؤلف سلطة مستقلة تقاوم السلطات الأخرى في الوقت ذاته الذي تنفذ به إليها مندسة في مستويات الحياة العصرية كافة. ولكل هذه الأسباب لا يمكن لتاريخ الجريمة في الولايات المتحدة إلاّ أن يكون تاريخ الولايات المتحدة الذي تنتشر فيه مغامرات الخارج على القانون، وقاطع الطريق والمتمرد والمبتز.
***
نعم..
شعب مجرم و إدارة مجرمة..
يقول منير العكش:
لا عجب إذاً إذا رأينا أن ساسة هذه السلطة يكافئون الضابط البحري الذي أمر بإطلاق صاروخ على الطائرة الإيرانية المدنية ليقتل 298 مدنيا بريئاً، مثلما كوفئ (كولبي) بقتله المدنيين في فيتنام بأعصاب باردة. في إحدى جلسات الاستماع التي عقدتها إحدى لجان الكونجرس الأمريكي في عام 1971م حيث سأله المشرعون الأمريكيون المحبون للمعرفة عن درجة ارتباط الولايات المتحدة بمشروع (فينكس)، قال كولبي الذي استدعوه للإدلاء بأقواله: انه يشارك في المشروع 637 من العسكريين الأمريكيين بالإضافة إلى (المدنيين) أي موظفي وكالة المخابرات المركزية
***
أمة مجرمة يغطي إجرامها تاريخها كله.. ماضيها وحاضرها و أغلب الظن مستقبلها أيضا.
وحسب الإحصاءات كان في المعتقلات الأمريكية في منتصف العام 1998 نحو 1.800 مليون سجين و 200 مليون قطعة سلاح ناري، وتعد السجون هي الأمكنة التي يتم فيها أكبر تجاوز لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة ويعامل موظفو السجون المعتقلين معاملة مهينة ، خاصة السود والمهاجرين والنساء ، الذين يتعرضون لكثير من عمليات التعذيب. وتؤكد الدراسة أن السود الذين يمثلون ن 12% من السكان أمريكا يشكلون 42% من المسجونين.
وفي تقرير صدر في سبتمبر 2001 حثت منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" إدارة الرئيس بوش على التخلي عن سياسة اغتيال الأجانب ، وتجنيد مخبرين من مقترفي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان في وكالة المخابرات المركزية.
***
أمة مجرمة تريد أن تعلمنا وليس هناك أمة في التاريخ أكثر إجراما وجهلا..
أمة تباهينا - ضمن ما تباهينا - بحقوق المرأة عندها..
فلنقرأ تقريرا دوليا عما يحدث للمرأة داخل المجتمع الأمريكي ننقله بتصرف واختصار كثير عن الأخ أبو معاذ المكي في الساحات:
صدر عن معهد الدراسات الدولية حول المرأة ، ومقره مدريد ، وهو معهد عالمي معترف به ، التقرير السنوي المسمى بـ قاموس المرأة ، وقد جاء فيه:
- في عام 1980م: (1.553000) حالة إجهاض ، 30 % منها لدى نساء لم يتجاوزن العشرين عاماً من أعمارهن ، وقالت الشرطة: إن الرقم الحقيقي ثلاثة أضعاف ذلك.(13/399)
- وفي عام 1982 م: 80% من المتزوجات منذ 15 عاماً أصبحن مطلقات .
- في عام 1995م: 82 ألف جريمة اغتصاب ، 80% منها في محيط الأسرة والأصدقاء ، بينما تقول الشرطة إن الرقم الحقيقي 35 ضعفاً
- 70% من الزوجات يعانين الضرب المبرح ، و4 آلاف يقتلن كل عام ضرباً على أيدي أزواجهن أو من يعيشون معهن. 74% من العجائز الفقراء هم من النساء ، 85% من هؤلاء يعشن وحيدات دون أي معين أو مساعد.
- ومن 1979م إلى 1985م: أجريت عمليات تعقيم جنسي للنساء اللواتي قدمن إلى أمريكا من أمريكا اللاتينية ، والنساء اللاتي أصولهن من الهنود الحمر ، وذلك دون علمهن.
- ومن عام 1980 إلى عام 1990م: كان بالولايات المتحدة ما يقارب مليون امرأة يعملن في البغاء. وفي عام 1995م: بلغ دخل مؤسسات الدعارة وأجهزتها الإعلامية 2500 مليون دولار.
- وفي الولايات المتحدة فقط 1400 ملجأ للنساء المضروبات ، أو الهاربات من أزواجهن ، وهن اللاتي لا يجدن ملجأ عند أهل أو أقارب . من 90ـ95% من ضحايا العنف العائلي في أمريكا هم من النساء. •
- ضرب الزوجات في أمريكا : انتشرت عادة ضرب الرجل زوجته في الغرب على المستويات الاجتماعية والثقافية ودون ضوابط ، وتقول الإحصاءات إن في أمريكا كل 15ثانية يضرب أحد الأزواج زوجته ضرباً مبرحاً .. ونشرت مجلة التايمز تحقيقاً حول حوادث الضرب التي تتعرض لها الزوجات الأمريكيات ، فقالت إن من بين 2000 إلى 4000 زوجة تتعرض للضرب الذي يفضي إلى الموت .
- المقتولات في أمريكا من قبل أزواجهن أو أخلائهن : طبقاً لإحصائيات مكتب التحقيقات الفدرالي ، فإن30 % من ضحايا قتل الإناث بالولايات المتحدة الأمريكية في 1990م قد قتلن من قبل أزواجهن أو أخلائهن ، وقد بلغ ذلك تقريبا 3000 امرأة.
- 80% من الأمريكيات يعتقدن أن الحرية التي حصلت عليها المرأة خلال الثلاثين عاما هي سبب الانحلال والعنف في الوقت الراهن ، 75% يشعرن بالقلق لانهيار القيم والتفسخ العائلي.
- و80% يجدن صعوبة بالغة في التوفيق بين مسؤولياتهن تجاه العمل ومسؤولياتهن تجاه الزوج والأولاد. و 87% لو عادت عجلة التاريخ للوراء لاعتبرن المطالبة بالمساواة مؤامرة اجتماعية ضد الولايات المتحدة وقاومن اللواتي يرفعن شعاراتها.
- و42% من الأمريكيات يتعرضن لتحرشات جنسية في أماكن العمل والدراسة والمنتديات والشوارع.
- 6 ملايين امرأة تضرب في بيوتهن دون أن يبلغن الشرطة أو يذهبن إلى المستشفى، عشرات الآلاف دخلن المستشفيات للعلاج من إصابات تتراوح بين كدمات سوداء حول العين وكسور في العظام وحروق وجروح وطعن بالسكين وجروح الطلقات النارية وبين ضربات أخرى بالكراسي والقضبان المحماة .
- 20% من النساء اللاتي شملتهن الدراسة (دراسة عن النساء المغتصبات في أمريكا) اعترفن أنهن اغتصبن من قبل أصدقائهن. و24 امرأة جرى الاعتداء عليهن نهارا في إحدى حدائق نيويورك .
- دلت الإحصاءات الحديثة أن ربع طالبات المدارس الثانوية حبالى، وأن البكارة مفقودة البتة ، وفي مدينة (نفز) عاصمة (كولورادو) تبلغ نسبة الحبالى من تلميذات المدارس الثانوية 48%. يقول القاضي لندرس: "إنه يسقط في أمريكا مليون حمل ، على الأقل ، في كل سنة ، ويقتل آلاف الأطفال فور ولادتهم". وفي أمريكا مليون طفل يولدون سنويا من السفاح.
- 85% من الزيجات في الدول الغربية تنتهي بالطلاق.
- في دراسة باسم (جهنم شخصية) في مجلة تايم الأمريكية بالنسبة للطفل أو المرأة يعتبر البيت أشد خطرا من الشارع والعنف المنزلي يسبب في سقوط ضحايا أكثر مما تسببه الأمراض أو حوادث الطريق . وحسب الإحصائيات الأمريكية: 80% من جرائم القتل هي جرائم عائلية ، و (24،500) جريمة عائلية في عام 1993م ، و 48 % من الجرائم مسرحها البيت .
- في تقرير نشر في أمريكا جاء فيه: إن واحداً من بين كل ستة أطفال في أمريكا يعاني من الفقر. وفي التقرير السنوي لصندوق الدفاع عن الأطفال الأمريكيين والمسمى الكتاب الأخضر: أظهرت إحصاءات الحكومة عن الفقر لعام 1999م أن أكثر من 12 مليوناً من أطفال أمريكا يعيشون تحت خط الفقر على المستوى الاتحادي .
- يعتقد الخبراء مثل رايان ريني من المركز الوطني لادعاء الاعتداء على الأطفال أنّ عدد وفيات الأطفال سنويًا بسبب القسوة قد يصل إلى (5،000).
- في الولايات المتحدة في عام واحد (5600) طفل دخلوا المستشفى بسبب ضرب أمهاتهم العاملات لهم غالبهم تعرض لعاهات بسب الضرب .
- الأطفال الأمريكيون هم الأكثر عدوانية وانحرافا في سلوكهم يليهم أطفال إسرائيل . وهناك 6 ملايين حالة ضرب شديد من قبل الوالدين في أمريكا ، 3 آلاف منهم يؤدي بهم الضرب إلى الموت . وهناك 12 مليون طفل أمريكي مشرد في ظروف غير صحية . وفي إحصائية أخرى تبين أنه يباع في أمريكا أكثر من (5000) طفل كل سنة . في عام 1990م اتخذ البرلمان الأوربي قراراً يدين الولايات المتحدة على قيام الأمريكيين ، على نطاق واسع ، بشراء الأطفال في الأحياء الفقيرة في هندوراس وغواتيمالا ، لاستخدام أعضائهم لزراعتها في أجسام أخرى.(13/400)
- كشفت الأبحاث أن 80% من الأمريكيين يعتقدون أن القمار شكل من أشكال التسلية، بينما لا يخجل 60% منهم من المراهنة . وينفق الأمريكيون الآن على القمار 480بليون دولار بعد أن كانوا ينفقون عليه 22 بليون دولار عام 1976م .
- إدمان الكوكايين في أمريكا أو تجربته : أظهر استطلاع لوزارة الصحة الأمريكية أن مدمني الكوكايين في أمريكا بلغ عام 1985م 5.8 مليون شخص ، بعد أن كانوا 4.3 مليون عام 1983م، وفي الاستطلاع نفسه تبين أن 36.9 مليون أمريكي (أي 19% من حجم السكان) قد جربوا الماريجوانا أو الكوكايين أو مواد أخرى على الأقل مرة واحدة .
- الإنفاق على المخدرات في أمريكا وحدها يفوق إجمالي الإنتاج الوطني لأكثر من 80 بلداً من البلدان النامية كما تنتج شركات الخمور في أمريكا ما قيمته أكثر من 24 ملياراً من الدولارات .
- في تقرير قام بإعداده فريق بحث مقره جامعة جون هبكنز في ميريلاند : Johns Hopkins بـ Ma r yland بالولايات المتحدة نشرته محطة CNN الإخبارية الأمريكية عن انتشار ظاهرة تجارة الرقيق من النساء 120 ألف امرأة من أوروبا الشرقية (روسيا والدول الفقيرة التي حولها) يتم تهجيرهن إلى أوروبا الغربية و لهذا الغرض الدنيء ، 15 ألف امرأة أو أكثر يتم إرسالهن إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأغلبهن من المكسيك ، بـ 16 ألف دولار تباع المرأة القادمة من دول شرق آسيا بأمريكا ليتم استخدامها بعد ذلك في دور الفواحش والحانات.
- (5200) مدرس أمريكي يتعرض للضرب في الشهر الواحد . وهناك 21 مليون أمريكي لا يستطيع القراءة والكتابة . 270 ألف مسدس يحمله طلاب المدارس المتوسطة والثانوية في الولايات المتحدة .
- من بين كل عشرة أشخاص سبعة يعانون اضطرابات نفسية (من أمريكا). وتحولت 70% من مستشفيات أمريكا إلى مصحات عقلية ونفسية.
- تقع في الولايات المتحدة الأمريكية 50 ألف جريمة قتل في العام الواحد ، و30 ألف حالة انتحار ، وهذا الرقم الرسمي ، ولكن الرقم الحقيقي غير المسجل أكبر بكثير.
- بلغت حالات الوفاة بمرض الإيدز في أمريكا عام 1994م 25 ألف حالة وفاة . 1 إلى 3 من المصابين لا يمانعون ، بل يقولون أنهم راغبون في نقل جرثومة الإيدز إلى أصدقائهم .
- انتقدت منظمة العفو الدولية النظام القضائي الأمريكي وقالت: إنه يتسم بالعنصرية مشيرة إلى أن احتمالات الإعدام للسود أكبر منها للبيض . 60 مليون زنجي أزيلوا من أفريقيا عن طريق تجارة الرقيق الأمريكية ، 50 مليون توفوا قبل وصولهم إلى أمريكا . وهناك 627 ألف جريمة عنف عنصري في عام واحد 1993م بسبب التفرقة العنصرية مع السود .
- معدل الانتحار بين الشباب الأمريكي أكثر من معدلات الانتحار في أوربا بعشرين ضعفا ومن اليابان بأربعين ضعفا ، (30000) عدد حوادث الانتحار في العام الواحد . وقد تجاوزت حالات الانتحار عام 1994م 31 ألف حالة
- في دراسة عينة من الشعب الأمريكي91% من الذين شملتهم الدراسة قالوا أن الكذب أصبح عادة وسلوكاً مألوفاً في حياتهم اليومية ، و20% اعترفوا أنهم ليس في استطاعتهم الصبر عن الكذب ولو يوماً واحداً ، 75% من الأمريكيين يعتقدون أنه لا حرج في الكذب .
- الأمريكان يقولون: 74% منهم لن يتردد في السرقة متى ما رأى أن الفرصة سانحة ، و 56% منهم يقولون لن أتردد في قيادة السيارة وأنا في حالة سكر ، و 53% يقولون لن أتردد في غش زوجي أو زوجتي ، و 41% يقولون سأستخدم المخدرات للترفيه عن نفسي ، و 31% سأعرض حياة عشيقي أو عشيقتي لخطر الإصابة بالمرض الذي أعاني منه .
***
نحن لا نواجه فكر مجموعة شذت عن المجتمع.. و إنما مجتمعا شذ وسار في طريق الشيطان..
يقول محمد جابر الأنصاري:
تصر واشنطن على منح الجنود والمدنيين الأميركيين حصانة دائمة استثنائية من أي ملاحقة قضائية من جانب المحكمة الجنائية الدولية الجديدة, وعليه تتصرف الولايات المتحدة وكأنها فوق القانون والبشر. جنودها يرتكبون جرائم حرب ولا يحاسبون, وغيرهم يحاكمون, وهكذا تتمسك بسياسة ازدواجية تنطوي على إهانة لغيرها من الشعوب. وتمثل عبئاً على آلية العدالة. فمن المعروف انه في الحرب العالمية الثانية, وأمام البربرية النازية, حافظت باريس على تراثها الحضاري ولم تخسر أثرا ولم يهدم فيها متحف أو تمثال, وفي بغداد وقفت القوات الأميركية تشاهد تدمير تراث حضاري وإنساني لا مثيل له, بل الذي الجنود الأميركيين شاركوا في عمليات النهب.
نعم.. ليس فكر مجموعة شذت عن المجتمع.. و إنما مجتمع شذ وسار في طريق الشيطان..
ولقد رأينا ما يفعله هذا المجتمع بأعدائه..
ثم رأينا ما يفعله بنفسه..
ثم أن كل ذلك لم يأت اعتباطا و إنما انبنى على أساس فلسفات نظرية في كتب منشورة.(13/401)
والمجموعة المجرمة الحاكمة في أمريكا الآن تعود مرجعيتها الفكرية الأساسية إلى ليو شستراوس.. وكما يقول الكاتب المغربي يحيي اليحياوي أن المشروع الفكري الذي بناه ليو شتراوس وترجمه تلامذته علي أرض الواقع، إنما هو مشروع إيديولوجي بامتياز ليس فقط باعتبار نزوعه إلي المطلق في الحكم، ولكن أيضا بحكم طبيعة السياسات المترتبة عنه في الزمن والمكان.
ينبني مشروع ليو شتراوس (المؤسس لتيار المحافظين الجدد) علي فكرتين بديهيتين لكنهما ذوات آثار وتبعات كبري:
ـ فكرة النخبة العالمة والنزيهة، المالكة لسلطان المعرفة والتواقة لبلوغ السلطة بغرض ضمان النفاذ لمعرفتها و إشاعة حكمتها لخير البشرية .
ولما كانت كذلك فهي حتما صاحبة الرؤية وصاحبة التخطيط في الآن معا.
ـ وفكرة مكافحة النسبية الأخلاقية علي اعتبار أن الحقيقة الفلسفية لا تقبل التسويات. وهذه الحقيقة عندما تبلغ مجال السياسة فإنها تلهمها مضامينها وقوامها الأخلاقي الذي تعمل النخبة العالمة علي تصريفه بعدما يكون قد تسني لها صياغته والتنظير له.
وعلي هذا الأساس، يري شتراوس، أن أمريكا بنخبتها العالمة و سيادة الحقيقة من بين ظهرانيها، إنما تملك دعوة أخلاقية كبري باسم فكرة الحرية...لا يصح التنازل عنها في الداخل ولا مع العالم الخارجي ، بل هي مطالبة بضرورة التدخل لتحقيق الفكرة المطلقة والرسالة دون تردد حتى وإن استدعي الأمر تجاوز القانون ودهسه.
يقول شتراوس بهذا الخصوص: إنه لمن السخافة أن نعيق الانسياب الحر للحكمة بالقوانين... يجب أن يكون حكم الحكماء مطلقا، كما أنه من السخافة وبالقدر ذاته أن نعيق الانسياب الحر للحكمة عبر أخذنا بعين الاعتبار رغبات غير الحكماء. لهذا يجب ألا يكون للحكماء العاقلين مسؤوليات علي رعاياهم غير العاقلين .
بالتالي، فهو يري أن الديمقراطية الحقة هي فعل يتعارض مع أحكام الطبيعة، لذا يجب منعه كائنة ما تكن التكاليف علي اعتبار أن القانون الطبيعي (وضمنه الدين) هو شيء سماوي يبرهن علي نفسه بنفسه .
لا يقتصر الأمر، عند شتراوس، عند هذا الحد، بل يتعداه إلي تدوين وصايا كبري أضحت لدي المحافظين الجدد المشعل الذي ينير لهم الطريق:
ـ الأولي وتتعلق، في نظرهم، بتلازم القوة والديمقراطية. فإذا كان شتراوس وتلامذته يقدمون مبدأ العدالة علي الحرية ومبدأ الحرية علي الديمقراطية، فإنهم بالتالي لا يؤمنون بعدالة لا تكون القوة والسلطة قوامها، بل يذهبون لحد إدانة العدالة التي لا توظف القوة في تنفيذ محتوياتها.
ـ الوصية الثانية وتكمن في تلميح شتراوس إلي التراتبية الاجتماعية وفي التقاطها من لدن تلامذته ليحولوها إلي مبدأ في الحكم ومسلك في الحكامة: الرئيس أولا ثم حراسه، ثم أصحاب المهن والحرف ثم، في آخر الترتيب، العبيد والدهماء.
لا تنحصر تداعيات هذه الوصية في معاداتها للعامة من الشعب، بل تذهب لحد عدم اكتراثها بالأغلبية التي من المفروض أن توضع تحت طائلة القانون وتعمل بتوجيه من خاصة القوم أي من نخبته العالمة.
ـ أما الوصية الثالثة فتكمن فيما أسماه ليو شتراوس بـ الكذبة النبيلة . ومفادها أن الكذبة إياها إنما هي أداة من أدوات السياسة الحكيمة...المهمة والضرورية مادامت في خدمة المصلحة الوطنية ...وهو ما لا يسري كما يعتقد شتراوس، علي الزوجة مثلا التي تكذب علي زوجها صيانة لأسرتها، لأن المرأة غير نبيلة بالتالي لا يجب مسامحتها بقدر مسامحة الحكماء المسؤولين .
إن الإدارة الأمريكية تحتقر الديمقراطية عندما تمرر لفكرة شتراوس بأن الإنسان شرير جدا، لذا يجب أن يحكم . بالتالي، وجب استباق سلوكه قبل أن يلجأ إلي اعتماده فيصيب به الآخرين . لقد احتقرت الإدارة الأمريكية الديمقراطية عندما دفعت بـ الكذبة النبيلة عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، حتى عندما بينت لها التقارير أن لا أثر لذات الأسلحة دفعت بكذبة استجلاب الإرهاب إلي أرض العراق للقضاء عليه ، ولما تبين لها أن الذي يجري بأرض العراق هو عمل مقاومة طلعت بكذبة الزرقاوي وهكذا إلي ما لا نهاية.
بالتالي، فالإيديولوجيا الاستباقية (كما أسس لها شتراوس) إنما تتفيأ إيجاد عدو وهمي تعطي الانطباع بأنها تلاحقه في حين أنها تلاحق سرابا من المستحيل الإمساك به أو توصيفه حتى.(يحيى اليحياوي- القدس العربي-1-2-2005).
يقول جوزيف ليبيرمان (وهو عضو صهيوني بالكونغرس الأمريكي ومن غلاة المحافظين الجدد): يجب أن تكون حربنا علي الإمبراطورية الشيطانية الحديثة، الخلافة الإسلامية المتشددة التي تناهض حرية مواطنيها وتهدد أمن مواطني الدول الأخري .
***(13/402)
ويرى الأستاذ الدكتور محمد العبيدي أن الكذب وشريعة الغاب في سياسة وقوانين الفاشية الأمريكية ، وأن هناك مبدأ يلتزم به المرتبطون بها، ألا وهو رفض فهم الآخرين، حيث يعتبر هذا المبدأ من أهم وسائلهم السياسية، بل هم ينشرون أفكارهم السياسية الهجومية المتشددة وأفعالهم وأكاذيبهم ضد الحكومات التي لا يعتبروها صديقة للولايات المتحدة. وفي نفس الوقت فإنهم يرفضون السماح للآخرين بتقرير مصيرهم وخطهم السياسي لأن ذلك برأيهم ليس خياراً قابلاً للنقاش. فمهما يكن الآخرون، فإنهم مرفوضون من هؤلاء الفاشيين إلا إذا قالوا "نحن معكم"، وهذا بالضبط ما طرحه جورج بوش بكلمته الشهيرة بعد أحداث 11/9 حين خاطب العالم بقوله "أنتم إما معنا أو ضدنا". كذلك، من قمة الإدارة الأمريكية إلى قاعها، يمثل الكذب زبدة السياسة لديهم. ومن خلال سياستهم هذه تراهم يعبرون عن طبيعة الوقائع والحقائق بعبارات السخف والاستهزاء والتهكم والسخرية، وبهذا فإن الأكاذيب بنظرهم هي حقائق والحقائق أكاذيب. وذلك ليس غريباً على أعضاء الإدارة الأمريكية الذين جلهم من اليمين المتطرف الفاشي الذين ينتمون إلى الحركة الفاشية الشتراوسية. فهؤلاء يؤمنون، وفقاً لأيديولوجية تلك الحركة، بالسيطرة مهما كان الثمن، وبسيطرتهم على البيت الأبيض والكونغرس ومؤسسات صنع القرار الأخرى فإنهم ينشرون المبادئ العامة للحركة في كل الكيانات المؤسساتية وفي جميع أنحاء العالم من خلال شبكة معقدة من الملتزمين بالفكر الفاشي الشتراوسي غرضها السيطرة على الحقائق ونشر الأكاذيب. ولكي يبقوا مسيطرين دولياً ومحافظين على تلك السيطرة فإنهم يكذبون ويستمرون بالكذب، بل ويوفرون كل ما يمكنهم من أموال لشراء ذمم من يستطيع أن يدعم كذبهم وسيطرتهم سواء كانوا أشخاص أو حكومات. والكذب هو في صلب تفكيرهم لتحقيق الأهداف وإخفاء الحقيقة عن الشعب لكي يجمعوا القوة من أجل إساءة استخدامها. ولكي تتم السيطرة لهم من خلال الكذب، الذي لا يميز الإدارة الأمريكية الحالية فقط بل هو سمة الوجود الأمريكي منذ بداية تأسيس أمريكا، خاضت أمريكا 190 حرباً منذ عام 1890 بحجة ترسيخ الديمقراطية التي هي سمة ادعاءاتهم الكاذبة. وقد استخدموا كلمة الديمقراطية كمنفذ لتعميم أفكارهم، وكما أشار إليها مؤسس الحركة الصهيوني ليو شتراوس حين قال، " يجب أن نجعل العالم بأجمعه ديمقراطياً ". إلا أن عبارة شتراوس هذه تتناقض من ناحية أخرى مع تصريحه بأن " بعض المجتمعات تستحق القيادة والبعض الآخر يجب أن تقاد، والعدالة تقتضي أن نكون بجانب القوي وأن من يستحق القيادة هم أولئك الذين يؤمنون بعدم وجود الأخلاق والذين وحدهم لهم حق واحد هو حق القوي لحكم الضعيف "، وتلك هي شريعة الغاب بأبسط تعريف لها. وأضاف شتراوس (اليهودي الصهيوني)يقول، " ولأن الجنس البشري بحد ذاته دنئ وحقير، لذا يجب حكمه من سلطة قوية، ولكي تسيطر تلك السلطة، يجب عليها أن تحكم بالقوة من قبل أشخاص متحدين حيث يتحد هؤلاء الأشخاص فقط ضد أناس آخرين ".
ويستطرد الدكتور العبيدي قائلا:
إن الخداع والكذب في السياسة الأمريكية الحالية يأتي بكامله من نظرية ليو شتراوس الفاشية اليمينية المتطرفة التي وضعت أيضاً مقولة " الإيمان بكفاءة الكذب المتعمد في السياسة "، وبهذا فإن جميع من يرتبط باليمين المتطرف هم كذابون ملتزمون بهذه النظرية.
***
وثمة ملف هام في هذا الصدد عرف بملف (أطفال الشيطان) أعدته حملة لاروش لانتخابات الرئاسة الأميركية الماضية• تقول الدراسات إن هؤلاء الشستراوسيون لا يهتمون للمنطق الإنساني، ولا يعنيهم أن تكون أكاذيبهم مفضوحة فهم يعتبرون القوة وحدها منطقهم، ويرون في السلام طريقاً نحو الانحطاط، ومشروعهم هو الحرب الدائمة• وقد اختاروا للمواقع القيادية أناساً حسب توصيف ليو شتراوس (لايؤمنون بأية أخلاقيات، حيث يكفي أن يكونوا متفوقين ليمتلكوا حق التسلط على الآخرين) وهم كما تصف الدراسات، يعتقدون بأهمية وجود عدو خارجي فإن لم يكن موجوداً فإنهم يصنّعونه، وهم يبشرون بأنهم دعاة ليبرالية وديمقراطية في الوقت الذي يسعون فيه إلى تعميق الجوانب العدائية والعدوانية في السياسة الخارجية الأميركية.
***(13/403)
الشستراوسية إذن رغم أنها تدعي المطلق إلا أنها انقلاب عليه وليست إلا توزيعا آخر لنفس اللحن الشيطاني الذي بدأه نيتشة الشهير بقوله أن "الله قد مات" (تعالى الله علوا كبيرا.. أستغفرك اللهم).. والذي يعنى أن كل الجوانب الروحية والأخلاقية في حياة الإنسان أصبحت لا ضرورة لها أو أنها مجرد شأن خاص لا علاقة له بحياة الفرد في المجتمع.ومن ثم وصل شستراوس إلى أحد بنود فلسفته عن فكرة إنكار النسبية الأخلاقية، مستندا إلى أن الحقيقة الفلسفية لا تقبل التسويات، وهي عندما تصل إلي السياسة من خلال فلسفتها فإنها تهبها مضامينها وقوامها الأخلاقي الذي تحتضنه النخبة وتسعى لتطبيقه من دون تنازلات أو مفاوضات أو تسويات. ويعني ذلك أن الليبرالية التي تقول بالنسبية والتعددية، هي فلسفة غير أخلاقية لأنها تجزئ الحقيقة أو تعددها، وهي عندما تصل للسياسة تتحول إلى براغماتية منحطة. وقد كانت هذه الفلسفة المنحطة محطة في الطريق المزيف إلى مفاهيم مغلوطة مثل "نهاية الأيديولوجية" و "نهاية التاريخ" والتي تعنى، في واقع الأمر، نهاية الفكر والتنظير بل والمنهج.
***
هذا هو الغرب إذن..
هذا هو العدو الذي نواجهه..
هذا هو العدو الذي سيطر على حكامنا وجيوشنا وبوليسنا وصحافتنا وتلفازنا ومفكرينا.. بل وشيوخنا أيضا..
هذا هو العدو فهل نستسلم أم نجاهد؟!
أسأل نفسي و أسألكم يا ناس..
أسأل فيسقط الغطاء عن الجرح العاري..
ويتأخر الجواب وتتلعثم الألسنة فأدرك كم كان الحصار من الحكام والعسكر والأمن والمثقفين ضاريا ومؤثرا وكم نال من الأمة..
سقط الغطاء..
***
سقط نفس سقوطه يوم رحت قدرا - لا أقول صدفة- أستمع إلى خطاب أبي لهب، وكان يومها يلمز ياسر عرفات - ولا أملك إلا الدعاء له بالرحمة ( لياسر عرفات وليس لأبي لهب) ، فالرجل و إن بدا كثيرا على تخوم الخيانة وحتى الفسوق أفضل ممن بعده وكان أفضل ممن حوله - وكان أبو لهب يلوم ياسر عرفات، لماذا؟.. لأن ياسر عرفات لم يوافق على التنازل عن القدس لإسرائيل.. والأمر الذي جعل المشكلة غير قابلة للحل.. كما قال أبو لهب لأمريكا.. هو أنه لا يوجد زعيم عربي يجرؤ على المجاهرة أمام شعبه بموافقته على التنازل عن القدس.. وكان مفهوم هذا الكلام الخسيس الخائن.. أن أبا لهب كان يريد من ياسر عرفات أن يبادر هو بتحمل المسئولية وحده، فيتنازل عن القدس.. دون أن يورط الطواغيت العرب في المجاهرة بهذه الفاحشة .. وهي فاحشة لا أظن أحدا يرتكبها إلا من خرج من الملة.
لم يقل أبو لهب لأولياء نعمته في واشنطن وتل أبيب أنه لا يستطيع التنازل عن القدس من أجل عقيدته.. ودينه.. ولا حتى من أجل عروبته.. ولا حتى من أجل الأمن القومي لدولته ومجالها الحيوي ( تقول إسرائيل أن مجالها الحيوي يمتد من جاكرتا إلى طنجة.. لكن الأمن القومي لدولنا لا يتعدى قصر الحاكم..).. لم يقل ذلك.. وإنما قال أنه لا يستطيع مواجهة شعبه .. خوفا لا حياء..
كان التصريح فجا وخسيسا.. وذكرني بجمل هابطة في بعض أفلامنا ومسلسلاتنا التلفازية.. عندما يحاول الداعر غواية فتاة فتتمنع.. لا من أجل تقوى لله.. ولا خوفا من النار.. ولا رغبة في الجنة.. ولا حرصا على الخلق القويم.. ولا حتى لدواعي الكرامة وعزة النفس.. و إنما لأنها تخشى أن يراها الناس!!..
هذه الفتاة زانية و إن لم تزن..
أما أبو لهب فهو أشد سوءا و أكثر خسة..
***
لم يقل لنا أبو لهب.. ولم يقل لنا أقرانه الطواغيت إلى أي مدى ينبغي علينا الانسحاب والتراجع والتنازل.
وهل يرضي الصليبيون منا منزلة دون الكفر كله..
هل يرضى عنا اليهود والنصارى إلا أن نتبع ملتهم..
فإن كان القرآن يخبرنا ذلك .. فلماذا يدفعنا أبولهب و أبو جهل خطا وراء خط.. وخندقا خلف خندق.. وانسحابا بعد انسحاب..
أإلى الكفر يدفعوننا..
و أنت يا أمة تستجيبين ولا تقاومين..
ما أقوله ينطبق على الأمة انطباقه على الأفراد..
فلو أن نشالا أو قرصانا أو قاطع طريق خطف حقيبتك من يدك، فهل تسكت على ذلك وتستسلم لما حدث حتى لو كانت الحقيبة فارغة؟.. وماذا لو لم تكن فارغة، بل كانت تحتوى على كَدِّ عمرك وكَبَدِ أيامك..
فهل تسكت؟..
ولو أنه لم يكتف بذلك، فخطف - مع الحقيبة التي تحتوي على الكَدِّ والكَبَدِ -امرأتك أيضا..
ثم لم يكتف بذلك فخطف أبناءك .. ثم أباك و أمك..
فهل تسكت..
هل تستطيع أن تسكت؟..
ولو أنه بعد أن فعل ذلك استولى على بيتك وطردك منه بعد أن حول زوجتك إلى محظية و أبناءك إلى عبيد و قتل أبويك..
ولو أنه راح بعد ذلك يعتبر كل محاولة للمقاومة منك إرهابا، وكل محاولة للبحث عن أكثر الأسلحة بدائية كي تواجه بها أعتى الأسلحة تطورا، جرائم تهدد السلم العالمي..
ولو أنه راح بعد ذلك يبيع ممتلكاتك بأبخس الأسعار كي يسدد بها تكاليف عدوانه عليك وخطفه حقيبتك وانتهاك زوجتك واسترقاق أبنائك وقتل أبويك وغصب بيتك، على اعتبار أن ذلك كله كان خدمة كبرى أداها لك وله أن يتقاضى مقابلها بأعلى سعر، بل و أن يغالط في الحساب كما يشاء.
إلا أن الأمر لا يتوقف عند هذا..
فهل تسكت؟!..
هل تستطيع أن تسكت؟..(13/404)
ذلك أن أي اعتراض منك سوف يفهم منه على الفور أنك تحتاج إلى مزيد من الترويض، و إلى تعليم كي تفهم أن كل ما حدث إنما كان في صالحك، فإن لم تفهم ذلك، و إذا لم تبادر بطلب الصلح فإنك إرهابي. وسيكون العالم أفضل بدونك.
فهل تسكت؟..
وهل تسكت إذا علمت أن هذا الصلح لن يعيد إليك بيتك المغتصب ولن يعوضك عن ضحاياك ولا هو سيعيد إليك بنيك أو امرأتك، ولا حتى حقيبتك، لن يعيد إليك أيا من ذلك، بل إن أول شروط هذا الصلح أن تتعهد بأنك لن تطالب أبدا بأي شئ من ذلك، و أنك تدرك أن ما حدث كان في صالحك، و أنك ممتن..
ثم .. وهذا هو الأهم.. أن تدرك أن السبيل الوحيد لكي يبقيك القرصان على قيد الحياة، هو أن تترك ملتك وتتبع ملته.
***
نعم..
هذا هو المطلوب يا ناس..
هذا هو المطلوب..
فهل نسكت؟..
***
و إذا كنتم قد استطعتم أن تعيشوا دون أمن ودون كرامة ودون حرية، إن كنتم قد استطعتم أن تبيتوا على الطوى، و أن تمسوا على العطش، وأن تسكنوا المقابر، و أن يحاصركم الفساد والعفن لكي تعيشوا بلا أمل.. فهل تستطيعون الحياة بلا دين..
هل أنتم مستعدون لدفع الثمن..
أن تتبعوا ملة اليهود والنصارى..
هل أنتم مستعدون يا ناس للحياة دون ابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي؟..
هل تستطيعون الحياة دون البخاري ومسلم؟..
هل تستطيعون الحياة بغير أبي حنيفة والشافعي ومالك و أحمد..
هل تستطيعون المواصلة بدون أبى بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين؟؟..
هل تستطيعون الحياة دون صلاة الفجر ورواء الروح بها..
هل تستطيعون الحياة دون "آمين" تزلزل الأرض حين تجتمعون في المساجد..
هل تستطيعون؟؟..
هل تستطيعون الصبر على أكاذيبهم الخسيسة الفاجرة عن سيد البشر وخاتم الرسل.. و أنه لم تكن هناك رسالة ولا نبوة و إنما هو - غفرانك اللهم- كذاب كذب على ربه..
هل تستطيعون المضي في هذه الحياة دون الأحاديث النبوية..
هل تستطيعون الاستمرار في هذه الحياة دون القرآن؟..
إن الحيوان الأعجم قد يسلمه خوفه وجبنه إلى الفرار نشدانا للسلامة فيهلك. ولكنه عندما يدافع عمن يحب يبذل حياته راضيا وسعيدا.
***
هل تستطيعون يا ناس أن تعيشوا دون الإيمان بالله، إيمان الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، هل تستطيعون الاحتمال لحظة واحدة إذا تجردتم من الشعور بأنكم كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم، هل تستطيعون المواصلة دون الأمل في مغفرته ورحمته وجنته ولقائه..
عدوكم يريد أن يجردكم من هذا كله..
عدوكم يريدكم أن تنسوا هذا كله..
عدوكم يريد منكم أن تنكروا القرآن ( لأنه نص بشري كما يقول المرتد - بحكم محكمة - نصر حامد أبو زيد..
عدوكم يريدكم أن تتركوا السنة..
و أن تكذبوا محمدا.. صلى الله على محمد..
عدوكم يريدكم أن تخرجوا من الإسلام..
فهل تستطيعون الاحتمال ثانية واحدة.
***
هل تستطيعون؟
هل تستطيعون؟..
هل تستطيعون؟..
فإن لم تكونوا تستطيعون فلماذا استسلمتم ولماذا تستسلمون ولماذا لا تقاتلون؟..
***
هل تستطيعون؟..
جيفري لانج يفضل الموت..
وجيفري لانج (أستاذ الرياضيات في جامعة كنساس الأمريكية ) هذا لم تخطف حقيبته، ولا زوجته، ولا أبناؤه ولا أبويه ولا اغتصب منزله، ولا روع ولا اضطهد، ولا هدد بالقتل، لكنه عندما طرح الاختيار على نفسه، وهو المرفه الآمن القوي، عندما طرح على نفسه الاختيار بين الحياة دون إيمان أو الموت.. اختار الموت..
يصف جيفري لانج أول محاولة له للصلاة فيقول:
.."..وانحنيت راكعاً حتى صار ظهري متعامداً مع ساقي ، واضعاً كفي على ركبتي وشعرت بالإحراج ، إذ لم أنحن لأحد في حياتي . ولذلك فقد سررت لأنني وحدي في الغرف. وبينما كنت لا أزال راكعاً ، كررت عبارة سبحان ربي العظيم عدة مرات .ثم اعتدلت واقفاً وأنا أقرأ: سمع الله لمن حمده ، ثم ربنا ولك الحمد.. أحسست بقلبي يخفق بشدة ، وتزايد انفعالي عندما كبّرتُ مرةً أخرى بخضوع ، فقد حان وقت السجود . وتجمدت في مكاني ، بينما كنت أحدق في البقعة التي أمامي ، حيث كان علي أن أهوي إليها على أطرافي الأربعة وأضع وجهي على الأرض . لم أستطع أن أفعل ذلك ! لم أستطع أن أنزل بنفسي إلى الأرض ، لم أستطع أن أذل نفسي بوضع أنفي على الأرض ، شأنَ العبد الذي يتذلل أمام سيده . لقد خيل لي أن ساقي مقيدتان لا تقدران على الانثناء . لقد أحسست بكثير من العار والخزي وتخيلت ضحكات أصدقائي ومعارفي وقهقهاتهم ، وهم يراقبونني وأنا أجعل من نفسي مغفلاً أمامهم . وتخيلتُ كم سأكون مثيراً للشفقة والسخرية بينهم . وكدت أسمعهم يقولون : مسكين جف ، فقد أصابه العرب بمسّ في سان فرانسيسكو ، أليس كذلك ؟(13/405)
وأخذت أدعو: أرجوك ، أرجوك أعنّي على هذا . أخذت نفساً عميقاً ، وأرغمت نفسي على النزول . الآن صرت على أربعتي ، ثم ترددت لحظات قليلة ، وبعد ذلك ضغطت وجهي على السجادة . أفرغت ذهني من كل الأفكار وتلفظت ثلاث مرات بعبارة سبحان ربي الأعلى . الله أكبر . قلتها ، ورفعت من السجود جالساً على عقبي . وأبقيت ذهني فارغاً ، رافضاً السماح لأي شيء أن يصرف انتباهي . الله أكبر . ووضعت وجهي على الأرض مرة أخرى . وبينما كان أنفي يلامس الأرض ، رحت أكرر عبارة سبحان ربي الأعلى بصورة آلية . فقد كنت مصمماً على إنهاء هذا الأمر مهما كلفني ذلك . الله أكبر . و انتصبت واقفاً ، فيما قلت لنفسي : لا تزال هناك ثلاث جولات أمامي وصارعت عواطفي وكبريائي في ما تبقى لي من الصلاة . لكن الأمر صار أهون في كل شوط . حتى أنني كنت في سكينة شبه كاملة في آخر سجدة . ثم قرأت التشهد في الجلوس الأخير ، وأخيراً سلَّمتُ عن يميني وشمالي .
وبينما بلغ بي الإعياء مبلغه ، بقيت جالساً على الأرض ، وأخذت أراجع المعركة التي مررت بها . لقد أحسست بالإحراج لأنني عاركت نفسي كل ذلك العراك في سبيل أداء الصلاة إلى آخرها . ودعوت برأس منخفض خجلاً: اغفر لي تكبري وغبائي ، فقد أتيت من مكان بعيد ، ولا يزال أمامي سبيل طويل لأقطعه . وفي تلك اللحظة ، شعرت بشيء لم أجربه من قبل ، ولذلك يصعب علي وصفه بالكلمات . فقد اجتاحتني موجة لا أستطيع أن أصفها إلا بأنها كالبرودة ، وبدا لي أنها تشع من نقطة ما في صدري . وكانت موجة عارمة فوجئت بها في البداية ، حتى أنني أذكر أنني كنت أرتعش . غير أنها كانت أكثر من مجرد شعور جسدي ، فقد أثّرت في عواطفي بطريقة غريبة أيضاً . لقد بدا كأن الرحمة قد تجسدت في صورة محسوسة وأخذت تغلفني وتتغلغل فيّ . ثم بدأت بالبكاء من غير أن أعرف السبب . فقد أخَذَت الدموع تنهمر على وجهي ، ووجدت نفسي أنتحب بشدة . وكلما ازداد بكائي ، ازداد إحساسي بأن قوة خارقة من اللطف والرحمة تحتضنني . ولم أكن أبكي بدافع من الشعور بالذنب ، رغم أنه يجدر بي ذلك ، ولا بدافع من الخزي أو السرور . لقد بدا كأن سداً قد انفتح مطِلقاً عنانَ مخزونٍ عظيمٍ من الخوف والغضب بداخلي . وبينما أنا أكتب هذه السطور ، لا يسعني إلا أن أتساءل عما لو كانت مغفرة الله عز وجل لا تتضمن مجرد .العفو عن الذنوب ، بل وكذلك الشفاء والسكينة أيضاً ظللت لبعض الوقت جالساً على ركبتي ، منحنياً إلى الأرض ، منتحباً ورأسي بين كفي . وعندما توقفت عن البكاء أخيراً ، كنت قد بلغت الغاية في الإرهاق . فقد كانت تلك التجربة جارفة وغير مألوفة إلى حد لم يسمح لي حينئذ أن أبحث عن تفسيرات عقلانية لها . وقد رأيت حينها أن هذه التجربة أغرب من أن أستطيع إخبار أحد بها. أما أهم ما أدركته في ذلك الوقت : فهو أنني في حاجة ماسة إلى الله ، وإلى.الصلاة وقبل أن أقوم من مكاني ، دعوت بهذا الدعاء الأخير:
"اللهم ، إذا تجرأتُ على الكفر بك مرة أخرى ، فاقتلني قبل ذلك -- خلصني من هذه الحياة . من الصعب جداً أن أحيا بكل ما عندي من النواقص والعيوب ، لكنني لا أستطيع أن أعيش يوماً واحداً آخر وأنا أنكر وجودك "
***
أحسها الأجنبي الذي يصلي أول مرة فبماذا تحسون يا من تصلون منذ عشرات الأعوام..
والذي يجرب الإيمان لأول مرة دعى الله أن ينهي حياته إذا قضى عليه أن يفقد هذا الإيمان مرة أخرى..
بماذا تحسون أنتم يا ناس.. بماذا تحسون و أنتم تدركون يوما بعد يوم و ساعة بعد ساعة أن المطلوب منكم يتجاوز حريتكم و أرضكم وشرفكم و عرضكم إلى دينكم ونبيكم وقرآنكم؟..
وليس الأمر أمر هواجس أو ادعاءات فكتبهم المنشورة تعرض ذلك كله دون خفاء أو حياء.
نعم..
لم يكفوا عن الجهر بذلك..
ولم يكف علمانيونا وحداثيونا في نفس الوقت عن التمويه على مخططاتهم حتى لا تدركها الأمة..حتى لا تنهض وتقاوم..
***
لقد بدأ العداء الغربي للإسلام منذ ظهور الإسلام وتحريره الشرق والشرقيين من هيمنة الرومان.. وفي هذا المقام يقول الكاتب والقائد الإنجليزي (جلوب باشا) (1897 - 1986) كلمته التي توقظ النيام: "إن تاريخ مشكلة الشرق الأوسط إنما يعود إلى القرن السابع للميلاد!!".
***
يقول مراد هوفمان في كتابه ( رحله إلى مكة ) : ( إن الغرب يتسامح مع كل المعتقدات والملل ، حتى مع عبدة الشيطان ، ولكنه لا يظهر أي تسامح مع المسلمين . فكل شيء مسموح إلا أن تكون مسلمًا )
***
أما محمد أسد ( ليوبولد فايس) فيسلط الضوء على سبيل النجاة من واقعنا المتردي فيكتب :"ليس لنا للنجاة من عار هذا الانحطاط الذي نحن فيه سوى مخرج واحد ؛ علينا أن نُشعر أنفسنا بهذا العار ، بجعله نصب أعيننا ليل نهار ! وأن نَطعم مرارته … ويجب علينا أن ننفض عن أنفسنا روح الاعتذار الذي هو اسم آخر للانهزام العقلي فينا ، وبدلاً من أن نُخضع الإسلام باستخذاء للمقاييس العقلية الغربية ، يجب أن ننظر إلى الإسلام على أنه المقياس الذي نحكم به على العالم ..
أما الخطوة الثانية فهي أن نعمل بسنة نبينا على وعي وعزيمة..
***(13/406)
ثم يوصينا محمد أسد بهذه الوصية :"يجب على المسلم أن يعيش عالي الرأس ، ويجب عليه أن يتحقّق أنه متميز ، وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك ، وأن يعلن هذا التميز بشجاعة بدلاً من أن يعتذر عنه !".
الإسلام على مفترق الطرق محمد أسد
***
نعم..
ذلك هو الطريق الذي رسمه القرآن لنا..
الطريق الذي رسمه الخلفاء الراشدون المهديون..
الطريق الذي وضحه لنا علماؤنا عبر التاريخ..
طريق الجهاد..
طريق " أتيتكم بالذبح" لأعداء الله الذين جاسوا في ديارنا واغتصبوا نساءنا وهتكوا أعراضنا واغتصبوا أموالنا....
طريق الجهاد..
وطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
يقول شهيد الإسلام عبد القادر عودة «ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حقا للأفراد يأتونه إن شاءوا, ويتركونه إن شاءوا وليس مندوبا إليه يحسن بالأفراد إتيانه, وعدم تركه, وإنما هو واجب علي الأفراد, ليس لهم أن يتخلوا عن أدائه, وفرض لا محيص لهم من القيام بأعبائه».
***
لعل القارئ يلاحظ كثرة الاستشهادات - خاصة الأجنبية - في هذا المقال.. والحقيقة أنني بهذه الاستشهادات أهدف أمرين: أولهما أن موقفي من الغرب ليس موقفا عنصريا، ,إنما أقول لمن أحسن أنه أحسن ولمن أساء أنه أساء، كاشفا في نفس الوقت أن الحقيقة ليست عصية على من يبحث عنها.أما الهدف الثاني فهو أن أحاول كشف علمانيينا الأشرار الكذبة.. الذين لا يتوقفون عن الكذب أبدا ولا ينتقون من المستشرقين إلا من هاجم الإسلام.. أما من يناصر الإسلام فهم لا يذكرونه أبدا.. وهذا بالتمام ما يفعلونه في مصر. إن خالد محمد خالد لا يذكر إلا بكتاب كفر هو " من هنا نبدأ" أما كتب توبته وعودته إلى الإيمان والصواب فلا تذكر أبدا.. وهكذا دواليك.
إنهم يحتفلون- مثلا- بهجوم الفيلسوف (فولتير) على الإسلام لكنهم لا يذكرون عودته عن هذا الهجوم ، فالأضواء لا تسلط إلا على أقواله الأولى ، أما أقواله الأخيرة فقد طُمست! إذ يعترف فيها بأنه كان ضحية الأفكار السائدة الخاطئة : "لقد هدم محمد الضلال السائد في العالم لبلوغ الحقيقة ، ولكن يبدو أنه يوجد دائماً من يعملون على استبقاء الباطل وحماية الخطأ ! "
***
ولقد وجد من المستشرقين أنفسهم من ينحازون للحق والصدق ضد بني جلدتهم، يقول توماس كارليل : "إن أقوال أولئك السفهاء من المستشرقين في محمد ، إنما هي نتائج جيل كفر ، وعصر جحود وإلحاد ، وهي دليل على خبث القلوب وفساد الضمائر، وموت الأرواح"...
وتقوم بيانكا سكارسيا بتحليل عميق لهذه الفئة فتقول : "عمل الاستشراق لصالح الاستعمار بدلاً من إجراء التقارب بين الثقافتين . إن إنشاء هذا العلم لم يكن إلا من أجل تقديم أدوات للاختراق أكثر براعة ، فهناك فعلاً عملية ثقافية مستترة ماكرة ومرائية ، وهذا ما يفسر ريبة المسلمين حيال كل ما يقال عنهم في الغرب"، ويقول برناردشو متأسفاً : "مضت على الغرب القرون وهو يقرأ كتباً ملأى بالأكاذيب على الإسلام".
***
هذه الكتب الملأى بالأكاذيب هي ما يراد لها أن تدرس تحت راية التنوير والتطوير..!!..
وهو ما تبنته الحكومات العميلة..
ولقد أتيحت لي الفرصة للاطلاع على مناهج كلية الآداب في مصر..
وكأنهم - كلاب النار - قد اكتشفوا أن الإلحاد هو الحقيقة الوحيدة المطلقة..
ليست هناك من كلمة واحدة تدعو إلى الإيمان..
وليس هناك كلمة واحدة تشكك في إمكانية أن يكون الكفر خطأ.. ولو بالاحتمالات الفلسفية والرياضية..
***
لقد كانت مهمة المستشرقين باختصار كما أرادها لهم المبشّر الصهيوني صموئيل زويمر تحويل المسلم إلى لا ديني.. فيقول في محاضرة لتلاميذه المبشرين:
"مهمّتكم أن تُخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله ، وبالتالي فلا صلة تربطه بالأخلاق ، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الاستعمار ..
استمروا في أداء رسالتكم فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الرب!!".
***
تنطلق هذه الزمرة من المستشرقين وكلابهم المحليين من المبدأ الذي يقول : اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدّقك الناس ! وإذا كان الكذب شعاراً فكل شيء متوقع بعد ذلك ..
وهؤلاء المستشرقون وتلاميذهم يصطنعون في بحوثهم - كما يقول الدكتور إبراهيم عوض- سمت العلم والموضوعية والبراهين ، وهذا أخطر ما فيهم ومن خطورتهم التلطف في دس السموم مع التدرج ، وذلك بعد منافقة القارئ بكلمات معسولة كي يَركَن إليهم .
ومن وسائلهم اللعب بالتاريخ ، فيصححون الأخبار الكاذبة ، ويطمسون الأخبار الصحيحة ، ويضخمون الأخطاء الصغرى ، وما أسهل تغيير مجرى التاريخ على قلم المؤرخ الكذوب ! فقد جعل هؤلاء المتعصبون من التاريخ هواية يتم من خلالها التنفيس عن الأهواء والأحقاد الإيديولوجية .
ومن وسائلهم وضع الفكرة مقدَّماً ثم البحث عن أدلة تُعزّزها مهما كانت واهية على أسلوب (محاكم التفتيش) حيث كانت توضع التهمة أولاً ثم تثبت بالشهود الذين ينوب عنهم التعذيب ! وليس هذا الأسلوب غريباً عمن يكون شعاره : "اعتقد أولاً ثم افهم ما اعتقدت !".(13/407)
يقول محمد أسد " ليوبولد فايس" : "إن أبرز المستشرقين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام ! وإن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين تذكرنا بوقائع (دواوين التفتيش) " .
"لا تستطيع أمريكا إلا أن تقف في الصف المعادي للإسلام ، لأنها إن فعلت غير ذلك تنكّرت للغتها وثقافتها ومؤسساتها ! . إن هدف العالم الغربي في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية ، وإن قيام إسرائيل هو جزء من المخطط ، وليس إلا استمراراً للحروب الصليبية "
لم يصرح بالجملة الأخيرة حاخام أو قسيس و إنما يوجين روستو ، رئيس قسم التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية سابقاً . وتؤكد رئيسة وزراء بريطانية السابقة تاتشر هذه المخططات فتقول : "يقف الغرب اليوم مع الشرق الأرثوذكسي والكاثوليكي في خندق واحد لمجابهة العدو ، وهو الإسلام".
وينفخ المستشرق المعاصر فرانسيس فوكوياما نار الصراع ليزيد من الرُّهاب المرضى الغربي من الإسلام فيقول : " إن هناك عدواً قادماً للحضارة الغربية هو الإسلام … وهذه الإيديولوجية ستصبح النقيض للإيديولوجية الغربية ، وبالتالي لا بد أن ينتصر أحدهما وينهزم الآخر ، لأن العالم لن يستمر في حالة صراع بين العقيدة الغربية والإسلام"! .
وأكد هذه الحقيقة د.مراد هوفمان فكتب ساخراً : "لم يتدخل العالم المتحضر عسكرياً لإنقاذ مسلمي البوسنة ، ولكن انشغل بالمساعدات الإنسانية ! وعمل بجد واجتهاد حتى يضمن للمسلمين أن يُعذَّبوا أو يُغتصبوا أو يموتوا وهم شبعانون ! لقد سمّت وسائل الإعلام الغربية ضحايا البوسنة بالمسلمين ، ولكنها أغفلت تماماً الإشارة إلى ديانة القتلة المعتدين" !.
ويتساءل وزير الخارجية السوري الأستاذ فاروق الشرع : "لو كان مسلمو البوسنة الذين يتعرضون لعمليات التطهير العرقي والترحيل الجماعي والاغتصاب الوحشي ينتمون إلى عرقٍ ودينٍ آخر هل كانت هذه المذبحة ستستمر؟! إننا لا نستطيع أن نثق بأن الغرب يستهدف فعلاً رفع الظلم عن الإنسان ، وإحقاق حقوقه في كل مكان وزمان .. إن من يخرق الحقوق الأساسية للشعوب ، هم أولئك الذين يرفعون شعار حقوق الإنسان.
هذه الروح المتوحشة انتشرت في أوربا ، ففي فرنسا صدر أمر بابوي بطرد رئيس الكنيسة الكاثوليكية بمدينة(افروه) من أسقفيته لأنه أعلن تأييده للمسلمين في البوسنة والشيشان.
أما عالم الاجتماع الأمريكي نيكولاس هوفمان فيقول : "لا توجد ديانة أو قومية أو ثقافة كثقافة العرب والمسلمين تتعرض في الولايات المتحدة لمثل هذا التشويه الفظيع".
ويعترف المستشرق غوستاف لوبون بهذا العداء الكبير : "تراكمت أوهامنا الموروثة ضد الإسلام بتعاقب القرون ، وصارت جزءاً من مزاجنا ، وأضحت طبيعة متأصلة فينا تأصُّلَ حقدِ اليهود على النصارى الخفيّ أحياناً والعميق دائماً".
وهذا المعنى أكده ليوبولد فايس ( محمد أسد) بقوله : "إن روح الحروب الصليبية ما تزال تتسكع فوق أوربا ، ولا تزال تقف من العالم الإسلامي موقفاً يحمل آثاراً واضحة لذلك الشبح المستميت في القتال".
و يرسم د. مراد هوفمان صورة دقيقة فيقول: "إذا سبرت غور النفس الأوربية ولو بخدش سطحي صغير ، لوجدت تحت الطبقة اللامعة الرقيقة عداء للإسلام" .
وفي محاولة لرصد من يقف وراء تأجيج هذه الروح العدائية تقول المفكرة الشهيدة الإسبانية (صبورة أوريبة ) : " قد أعلن الدساسون من الغربيين المتلاعبون بالضمائر عداوتهم للإسلام ، لأنه ينزع أقنعتهم ، ويقاوم شعوذتهم الخادعة".
ويقول السيناتور الأمريكي (بول فندلي) : "هناك الكثير من رجال الدين المسيحي في أمريكا يقومون بتشويه صورة الإسلام … وإن الإسلام ليس خطراً على المسيحية أو الحضارة الغربية ، وإن كُتّاباً غير مسلمين هم الذين شوهوا صورته في الغرب".
( جملة اعتراضية: لكن الطابور الخامس من العلمانيين والحداثيين والتغريبيين هم الذين يقومون بالمهمة الآن وليس الكتاب غير المسلمين.. )
أما عالمة الاجتماع المسلمة( ديانا روتنشتو ك) فترى : " أن أهل أوربة في أمسِّ الحاجة إلى الإسلام ، ولكن الوضع السياسي حالياً يشوّه الإسلام".
ويقول كارل بروكلمان: لقد حورب الإسلام كثيراً وما زال يُحارب ، ولكن النصر دائماً للحق ، وما جاء محمد إلا بالحق والحقيقة. لقد شاع في الفكر الغربي ولدى المتأثرين بتعاليم الكنيسة النصرانية ورواسب الأفكار الشعبية المنحرفة التي روجتها أوروبا عن الإسلام ونبيه وعن المسلمين إبان وبعد الحروب الصليبية، أن الفتوحات الإسلامية قامت على السيف والقهر والتسلط والقسر، ولم تقم على الكلمة الطيبة والدعوة الرفيقة والعقيدة الواضحة، لكن فئة عادلة من مفكري الغرب لم يقتنعوا بهذه الشائعات ورحلوا يتأملون في تلك القدرة العجيبة للمسلمين على نشر دينهم بتلك السرعة المدهشة، وذلك الزحف للدخول الكبير للناس أفواجا في دين الله، فعادوا إلى رسالة النبي ليجدوا أنها تقوم على الدعوة اللينة لا على القسر الخشن.(13/408)
ويقف المفكر(لورد هدلي) مندهشا عند معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأسرى من المشركين في معركة بدر الكبرى، ملاحظا فيها ذروة الأخلاق السمحة والمعاملة الطيبة الكريمة، ثم يتساءل: "أفلا يدل هذا على أن محمدا لم يكن متصفا بالقسوة ولا متعطشا للدماء؟، كما يقول خصومه، بل كان دائما يعمل على حقن الدماء جهد المستطاع، وقد خضعت له جزيرة العرب من أقصاها، وجاءه وفد نجران اليمنيون بقيادة البطريق، ولم يحاول قط أن يكرههم على اعتناق الإسلام، فلا إكراه في الدين، بل أمنهم على أموالهم وأرواحهم، وأمر بألا يتعرض لهم أحد في معتقداتهم وطقوسهم الدينية".
ويقول الفيلسوف الفرنسي(وولتر): "إن السنن التي أتي بها النبي محمد كانت كلها قاهرة للنفس ومهذبة لها، وجمالها جلب للدين المحمدي غاية الإعجاب ومنتهى الإجلال، ولهذا أسلمت شعوب عديدة من أمم الأرض، حتى زنوج أواسط إفريقيا، وسكان جزر المحيط الهندي".
أما العالم الأمريكي مايكل هارت فهو يرد نجاح النبي صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته، وسرعة انتشار الإسلام في الأرض، إلى سماحة هذا الدين وعظمة أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام الذي اختاره على رأس مائة شخصية من الشخصيات التي تركت بصماتها بارزة في تاريخ البشرية، ويقول:" إن محمدا هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح مطلقا في المجالين الديني والدنيوي، وأصبح قائدا سياسيا وعسكريا".
ويقول الفيلسوف والكاتب الإنجليزي المعروف برنارد شو:" إن أوروبا الآن ابتدأت تحس بحكمة محمد، وبدأت تعيش دينه، كما أنها ستبرئ العقيدة الإسلامية مما أتهمتها بها من أراجيف رجال أوروبا في العصور الوسطى"، ويضيف قائلا: "ولذلك يمكنني أن أؤكد نبوءتي فأقول :إن بوادر العصر الإسلامي الأوروبي قريبة لا محالة، وإني أعتقد أن رجلا كمحمد لو تسلم زمام الحكم المطلق في العالم بأجمعه اليوم، لتم له النجاح في حكمه، ولقاد العالم إلى الخير، وحل مشاكله على وجه يحقق للعالم كله السلام والسعادة المنشودة".
ويقول المستشرق الفرنسي بارتيملي سانت هيلز في كتابه «خواطر شرقية»: «من العجيب حقاً أن نتطاول اليوم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دينه والأعجب من ذلك تلك النظرة الحمقاء التي نرى من خلالها المسلمين حيث تناسينا أن العلوم التي نباهي بها العالم اليوم هي نتاج تطور العلوم التي ألفها العرب والمسلمون الذين ساروا على نهج صلى الله عليه وسلم بحرفية دقيقة فأنبتوا لنا نبت الحضارة التي نقطف ثمارها الآن، ومن الشرف والوفاء الأخذ بأيديهم والشعور بالامتنان نحو نبيهم العظيم وأجدادهم المبدعين». ويؤكد هذه الحقيقة المستشرق الفرنسي ديمومبين فروا حيث يقول: «أقام العرب والمسلمون منائر العلوم في مختلف الفروع في أسبانيا وقد استقت أوروبا الأسس التي قامت عليها حضارتها من ذلك الجيل الذي تربى على يد علماء الإسلام ومن هنا انطلقت النهضة الأوروبية في مسارها حتى اليوم».
مصدر الأقوال من كتاب " ربحت محمداً ولم أخسر المسيح "
***
لماذا إذن ونحن نملك هذا المجد كله نشعر بالخزي..
لماذا ولدينا هذه القوة كلها نشعر بالضعف..
لطالما سألت نفسي:
- ثمة يقين لا شك فيه أن ديننا هو الحق، والعيب لا يمكن إلا أن يكون في واحد أو أكثر من ثلاثة: الحكام والنخبة والأمة..
نعم.. الحكام والنخبة والأمة..
فساد الحكام لا شك فيه.. بل إننا نظلم كلمة فساد عندما نستعملها في هذا المجال.. فليس لخستهم حد ولا لخيانتهم حد ولا لإجرامهم حد ولا لفسادهم حد ولا لجشعهم وطمعهم حد.. بل و أكاد أقول:
- ولا لكفرهم حد..
نعم .. يحذرني الخلان دائما من الإسراف في التكفير فأصرخ في وجوههم:
- هل الإسلام إلا كفر بالطاغوت وإيمان بالله؟ ألا تعلمون أن عدم تكفير الكافر كفر بالله تعالى.
ثم أروح أحدث نفسي.. حتى متى نصمت.. إن العلمنة والحداثة والتبشير والتنصيرهي كلها أوجه لعملة واحدة.. أوجه لما أراده المنصر صمويل زويمر.. إخراج المسلمين من الإسلام.. وهم للمرة الأولي بعد محاولات القرون يحققون نجاحات واضحة..
نعم..
فهل نستمر على صمتنا حتى ينجحوا في تنصير المسلمين..
في تكفيرهم..
لقد وصل الأمر بهم - لعنهم الله- أن تكفير المسلمين جائز أما تكفير الكفار فدونه خرط القتاد..
وصل الأمر بهم - لعنهم الله- أن وزيرا من عبدة الشيطان قد اتهم المجاهدين الذين تسنموا ذروة سنام الإسلام بالكفر.. ولم يكتف بذلك بل صرح أنه ليس لهم عنده إلا السيف.. ولم يكن على قوله من تثريب.. بينما لو وصفنا شارون أو بوش بالكفر لانقلبت الدنيا علينا..
وصل بهم الأمر لعنهم الله - وهم الذين لا يكفون عن تقديس القضاء ما دام يحكم لصالحهم - أن لعنوا أعلى محكمة مصرية - محكمة النقض- لأنها حكمت على الكافر نصر حامد أبو زيد بالردة..
ووصل بهم الأمر لعنهم الله إلى استدراج شيخ من شيوخ الأزهر- عليه من الله ما يستحق - للحكم على حسن الهضيبي وعبد القادر عودة وسيد قطب بالخروج من الإسلام.. ولم يعلق أحد.. و عندما أفتى بعض العلماء بكفر الحاكم الذي يرفض الحكم بما أنزل الله انقلبت الدنيا عليه.(13/409)
وصل بهم الأمر لعنهم الله إلى الحد الذي أصبح فيه وصف " مفكر إسلامي" لا يكاد يلحق إلا بكافر..
وصل بهم الأمر لعنهم الله إلى الدفاع عن حسن إيمان فرج فودة الذي كتب آخر مقالاته في رثاء كلب له دهمته سيارة.. و كانت آخر كلمة له في آخر ذلك المقال أن ذلك الكلب كان أقرب إليه من حبل الوريد ( اقرأ: من قتل الكلب: أبو إسلام أحمد عبد الله)..
حتى متى نصمت..
حتى ينجحوا في إخراج المسلمين جميعا من الإسلام؟!..
حتى متى نصمت..
إن عدم تكفير الكفار، أوالشك في كفرهم، أوتصحيح مذهبهم من نواقض الإسلام الجلية، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن لم يكفر اليهود والنصارى مثلاً مع الأدلة الكثيرة التي وردت في ذلك فقد كذّب القرآن والسنة وأنكر ما هو معلوم من الدين ضرورة.
يقول الدكتور عبد الله قادري الأهدل إن أمر التكفير خطير، كما أن التساهل الذي يؤدي إلى عدم تكفير الكافر خطير كذلك. والواجب الوقوف عند نصوص الشريعة وقواعدها، دون إفراط أو تفريط، والحكم في ذلك لله وليس لغيره، والمرجع في تكفير الشخص المعين هم لعلماء الذين تفقهوا في دين الله، وتمكنوا من معرفة نصوص القرآن والسنة وفقهوا معانيهما، وتبينوا من واقع الأشخاص الذين يراد الحكم عليهم وظروفهم، ثم التحقق من صحة تنزيل الحكم على كل شخص بعينه. ولا يجوز أن يترك الحكم بتكفير المسلم لمن يدعي العلم وهو منه خلي، ممن لم يتفقهوا على أيدي العلماء الذين أخذوا العلم عن أهله في الكتاب والسنة، وما يخدمهما من علوم الآلة، كأصول الحديث، وعلوم التفسير، وقواعد اللغة العربية، وقواعد الضرورات... وأقوال أهل العلم وأوجه استدلالاتهم من مصادرها الأصلية.
ثم أن الذي نهينا عن تكفيره هو المسلم - بشروطه - لا الكافر.
و إلا فإنه كان على المسلمين أن يصدقوا نابليون عندما قال أنه مسلم.. وأن هتلر قد غير اسمه إلى الحاج محمد هتلر!!
لقد وصل الأمر إلى أن نخبتنا العلمانية الحداثية الكافرة أصبحت تتناول هذا الأمر على سبيل السخرية المكشوفة والتندر فتنقض عرى الإسلام كلها .. فإذا ما واجههم أحد صرخوا:
- هلا شققت عن قلبه؟!..
***
ثم أن الفقهاء حين تحدثوا عن الضوابط التي يضعها علماء المسلمين في دولة الإسلام للتكفير قد افترضوا وجود الدولة الإسلامية وعلماء الدين الأحرار الذين لا يرهبهم سيف المعز ولا يغويهم ذهبه.. بل و أظنهم قد افترضوا الطبيعية الرسمية لهيئة العلماء تلك..
ثم أنني أظن أولئك الفقهاء لم يتخيلوا أبدا أن يكون حاكم الدولة المسلمة مرتدا وخائنا وعميلا وقد باع أمته ودولته ودينه للكفار لكنه حريص طول الوقت على تسمية الأشياء بغير أسمائها حتى لا يبدو منه ما هو خروج على المعلوم من الدين بالضرورة.. فتراه يسمي الالتزام بالدين تطرفا.. والجهاد إرهابا.. والتوحيد غلوا.. والتفريط تحضرا والكفر حداثة.. ويظل ينخر كالسرطان في جسد المسلمين..
فهل عجز فقهاء الإسلام عن مواجهة مثل ذلك الحاكم..؟!..
أسأل والسؤال ليس تزيدا ولا ترفا..
بل لعله المفتاح الوحيد الباقي لنا للإفلات من مقتلة هائلة للإسلام والمسلمين..
أقول هذا و أنا أعلم أن عظمة هذا الدين قد اقتضت أن من تسمى بالإسلام ولو منافقا كاذبا, حرم دمه وماله وعرضه, وحفظت حقوقه, فكيف بمن ينتسب للإسلام صادقا.
تقتضي عظمة الدين ذلك لكن ما العمل إذا اقتضى أمنه غير ذلك والضرورات تبيح المحظورات.
***
لطالما أنحيت باللائمة على الحكام.. وكنت على صواب..
ولطالما اعتذرت عن الأمة وكنت على خطأ..
ثم أدنت الأمة وكنت على صواب..
لكنني أعتقد أن من يستحق الإدانة أكثر من الحكام والأمة هم العلماء.
***
الرئيس صدام حسين- فك الله أسره- وبغض النظر عن اختلاف الآراء فيه، ليس أقوى من أمريكا.. ومع ذلك كان قادرا على ضبط الأمن في العراق.. بينما يمرغ المجاهدون أنف أمريكا في الطين والدم كل يوم..
الفارق في القوة بين القرصان المجرم بوش والرئيس الأسير لا يحتاج إلى بيان.. ولكن النتيجة العكسية تعود إلى أنه مع صدام فقد كان هناك عند الأمة شبهة أنه حاكم مسلم و إن عصى.. وكانت هناك دائما شبهة الخروج على حاكم مسلم.. وقد عصمته هذه الشبهة من الخروج عليه.
مع أمريكا حدث ما حدث..
هذا يعني إذن أن العلماء لو اتفقوا على رأي لحرموا الحاكم المرتد من عصمة لا يستحقها.. ولحموا الأمة من ردته وخيانته وجنونه..
***
أستعيد الماضي.. أتذكر على سبيل المثال الكافر كمال أتاتورك .. فلو أن العلماء تنبهوا لكفره في الوقت المناسب لحموا الإسلام من جنونه وخيانته وكفره..
لكن تردد العلماء وعدم حسمهم قد مكن للطاغية الكافر من النيل من الإسلام ومن المسلمين ومن عاصمة الخلافة ما نرى وما نعلم..
ولقد وضعت اسم كمال أتاتورك.. ليس على سبيل المثال فقط.. بل إيثارا للسلامة أيضا.. و إن كان يمكن رفع اسم أتاتورك ووضع جل حكام المسلمين مكانه..
تردد العلماء إذن وضعفهم هم ثالثة الأثافي التي يرتكز عليها انهيارنا..
تردد العلماء وعدم حسمهم هو الذي يؤدي إلى تمييع الموقف من الجهاد..(13/410)
وتردد العلماء وعدم حسمهم هو الذي محا الفرق بين الشيخ والحاخام.. وهو الذي يسقط الأمة بحكامها وعلمائها في الضلال المبين..
أما فقهاء السلطان الذين يدعون ألا جهاد إلا بوجود إمام وراية فليسوا إلا ضالين مضلين.. وقولهم ذلك لا أصل له بإجماع الأئمة وسلف الأمة بل هو قول ظاهر البطلان مصادم للنصوص القطعية والأصول الشرعية والقواعد الفقهية .
***
وا حسرتاه وحاخام شيوخنا يستفتى في الجهاد فيفتي بأن أهل العراق أدرى بشعابها طبقا لشعاب سايكس بيكو وحدودها!!- وحين يستفتي في انتخابات العراق يفتي بوجوبها طبقا لحدود بوش- شارون!..
واحسرتاه و أهل الفلوجة يذهبون إلى شيخ الحرم يستصرخونه الدعاء والقنوت من أجل أبطال الفلوجة فيأبي.. ثم يؤمر أن يدمغ المجاهدين بالإرهاب فيرضى..
وا حسرتاه..
***
لقد بلغ من تردد العلماء أن عجزوا عبر ما يقرب من قرن من وضع الفتاوى الرادعة التي تمنع التعذيب..
بعض علماء الشيعة أفتى بإهدار دم من يعذب..
أما علماء السنة فوا حسرتاه عليهم ..
***
إنني أعلم أن التعذيب مهما بلغت ضراوته، حتى و إن أدي إلى الموت ، إذا تم بجهل أو لمجرد السلوك الحيواني الوحشي الشرس الشاذ المجرم، فهو كبيرة من الكبائر لا تخرج من الملة.
أما أن يكون التعذيب مهما بلغت درجته- لصرف المسلمين عن الإسلام .. أو لمنعهم من الجهاد.. فإن لم يكن الكفر هذا فماذا يكون؟!..
لماذا لم يتصد العلماء للجلادين الكفرة الذين حاربوا الإسلام والمسلمين..
لماذا لم يتصدوا للكفرة الذين قتلوا وعذبوا المجاهدين في مصر وليبيا والسعودية والكويت والمغرب..و..و..و.. لصرفهم عن نصرة الإسلام..
لو أنهم تصدوا منذ البداية لما كانت تلك النهاية..
ولو أنهم تصدوا في مصر لما جرؤ ذلك الأمير المجرم على اتهام المجاهدين بالإرهاب ودمغهم بالكفر وقتلهم على الشبهة..
ولو أنهم تصدوا في بلد ذلك الأمير المجرم لما حدث ما حدث للشهيد الشيخ/ عامر خليف العنزي الذي استشهد تحت وطأة التعذيب أثناء احتجازه لدى الأجهزة الأمنية في الكويت.
في الكويت أيضا يسمم كلاب النار المجاهدين بعقاقير الهلوسة وعقاقير أخرى تسلب إرادتهم فيعترفون ويبوحون.. وعندما يشرفون على الموت بسبب زيادة الجرعة يذهبون بهم إلى المستشفيات ويتخرصون - لعنهم الله - بأن المجاهدين يتعاطون المخدرات.
لا تكف مباحث أمن الشيطان عن الكذب.. ولم يسأل أحدهم نفسه لماذا أخون الله ورسوله.. لماذا أرتد عن الإسلام بقتل رجل لمجرد أن يقول ربي الله.. والأفظع أن يكون من المجاهدين.
***
خلافنا مع كلاب النار من حكام ونخبة و أمن وفقهاء سلطان لم يكن أبدا خلافا في الرؤى، ولا بحثا عن الحقيقة، ولا تصادما بالفكر، و إنما هو التصدي لمجموعة من الخونة والعملاء والجواسيس الذين ينخرون كالسوس في دين الأمة.. أي في وجودها كله..
خلافنا مع أوغاد قذرين في الداخل والخارج.
***
والتعبير ليس من عندي و إنما من هانز بليكس كبير مفتشي الأمم المتحدة عن أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة الإدارة الأمريكية الذي في تصريحات لصحيفة الجارديان البريطانية ويوم 12 يناير 2003 " أن الأمريكيين أوغاد قذرون لم يكفوا عن وضع العقبات في طريقي"
ولم يكتف بليكس باستخدام كلمة " قذرون" بل مضي يقول " هناك طغاة في واشنطن ، إنهم أوغاد يروجون للأكاذيب وبالطبع يزرعون أشياء مروعة في وسائل الأعلام " .
***
نعم..
أوغاد قذرون..
هناك.. كما هنا..
ولقد كان منهم من فضحهم شارون في خطاب أخير بقوله لهم:
- لتضعوا أيديكم في يدي لمحاربة التطرف الإسلامي الذي يستهدفنا جميعا
وكان شارون صادقا.. فعداء أولئك الحكام للإسلام لا يقل عن عداء شارون نفسه له..
لكن إن كان شارون يعتبرهم حلفاء فكيف نرتضيهم ملوكا ورؤساء؟!
***
وفي ظل هؤلاء و أولئك فإن أخشى ما أخشاه أن ما أخشاه سيحدث!!..
أخشى ما أخشاه أن الدول الإسلامية كلها لم تدرك بعد - كيف؟ .. لا أدري- أن الحرب ليس مقصودا بها بترول العراق ولا أفيون طالبان ولا قنابل إيران ولا إرهاب السعودية ومصر.. ولا.. ولا.. ولا..
المطلوب هو القضاء على الإسلام وجميع ما يقع في أيديهم أثناء ذلك هي غنائم وجوائز الانتصار.. لكنها لو لم توجد لما نكصوا عن خطتهم للقضاء على الإسلام قيد أنملة..
إنني أسألكم يا ناس: ماذا يمكن أن تقولوا حين تشاهدون إنسانا يصلي إذا لم تكن عندكم فكرة عن الإسلام.. ستقولون أنه يؤدي بعض التمارين الرياضية وستعرضون عليه تمارين ترون أنها أفضل.
أسألكم يا ناس: ماذا يمكن أن تقولوا حين تشاهدون إنسانا يصوم إذا لم تكن عندكم فكرة عن رمضان.. ستظنونها حمية غذائية ستوصون بسواها مع التوصية بكثرة شرب السوائل أثناء الصوم؟!..
أسألكم يا ناس : ماذا يمكن أن تقولوا حين تشاهدون إنسانا يحج إلى بيت الله الحرام إذا لم تكن عندكم فكرة عن الحج.. ماذا ستقولون إلا أنها طقوس وثنية كما قالت الفاسقة المرشحة..(13/411)
أسألكم يا ناس : ماذا يمكن أن تقولوا حين تشاهدون إنسانا يستشهد في سبيل الله إذا لم تكن عندكم فكرة عن جنة عرضها السماوات والأرض وعن رب يعرف و إله مألوه يؤله و أسماء وصفات تصدق وغيب وكتب ورسل يؤمن بها.. ماذا يمكن أن تقولوا عمن يفعل ذلك إلا أنه إرهابي أو مجنون..
يا ناس.. الصليبيون والصهاينة يروننا كذلك..
رغم أنني لم أفهم أبدا كيف يمكن لمن آمن بالله أن يؤمن به على شريعة موسى وعيسى ثم يكفر به على شريعة سيد المرسلين محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
يقول الكاتب المسيحي الشهير نظمي لوقا في كتابه محمد الرسالة والرسولل: " أن التسليم بوجود رسل ونزول وحي يجعل من الصعب التسليم برسالة ورفض الأخرى، والإقرار بظهور رسول ونفي ذلك عن آخر" (ولأنه تحدث عن نبي الإسلام بموضوعية و إجلال في كتابه" محمد الرسالة والرسولل" فطرده البابا شنودة شر طردة، وحرم الصلاة عليه في كنائسه، ودارت أرملته الكاتبة صوفي عبد الله على الكنائس دون فائدة: راجع المقال بالغ الأهمية للأستاذ جمال سلطان- مجلة المنار الجديد - شتاء 2005).
و أعجب من ذلك تحالف الصليبيين واليهود رغم ما بينهم من عداوة ضد المسلمين. وهو التحالف الذي يحمل لنا الكاتب المغربي الرصين الموسوعي حسن السرات بعضا من تفاصيله في مقال له بصحيفة التجديد المغربية نقلته لنا مجلة الوحدة الإسلامية بتاريخ 25-1-2005 إذ يقول أن الأمر يعود إلى أكثر من خمسة قرون .. في الأندلس!.. حيث انطلقت أول بعثة مسيحية لاكتشاف قارة أمريكا على يد كريستوف كولومبوس بمشاركة ومساعدة من مسيحيين ذوي أصول يهودية. فقد تعرض المسلمون وأهل ذمتهم من اليهود إلى الإكراه على التنصير، ثم ما لبث اليهود المتنصرون أن نجحوا في تهويد الفضاء الديني المسيحي بأوروبا خاصة بعد أن أصبحوا مستشارين لرجال الكنسية ومعابر لنقل التراث التوراتي وتعاليم اليهودية. ومن أهم ما تم تسريبه ترقب اليهود وانتظارهم للمسيح المنقذ الذي سوف يعود في آخر الزمان وينتهي بعده التاريخ في الألفية السعيدة، وبذلك ''تحقق الإدماج بين المسيح اليهودي العائد لتجديد دولة اليهود بالحديد والنار والمسيح العائد في آخر الزمان للدينونة الكبرى كما عبرت عن ذلك رؤيا يوحنا التي قدمت تحت عنوان ''أبوكاليبس'' أي النهاية المرعبة للعالم''. وترتب على ذلك أسطورة كاذبة تتلخص في أن المسيح لا يمكن أن يعود إلا بعد إرجاع كافة يهود العالم إلى أرض فلسطين، وفي اعتقاد المسيحيين البروتستانتيين أن اليهود الموجودين هم شركاء لا غنى عنهم في الأحداث العظمى المقبلة قبل مجيء المسيح.
من هنا جاء اتحادهم واجتماعهم على الإسلام والمسلمين..
المهم أن هذه الخراف، بل الخنازير الضالة تري في سيد الرسل دعيا على الله وترى أن القرآن من تأليفه، وترى أنه قد آن الأوان ليخرج المسلمون من الإسلام أفواجا.. إن لم يكن بالاقتناع فبالصواريخ والقصف السجادي.
نعم.. ترى تلك الفئة أن القرآن تأليف سيدنا محمد وليس كلام الله رب العالمين..( و أنه إنما أملاه عليه أناس عديدون منهم ورقة بن نوفل ومنهم سلمان الفارسي رضى الله عنه.. وتنشر هذا الكلام الساقط السافل مجلات وجرائد حكومية.. أو ما هو أشد كفرا كالصحف اليسارية) أما الردود البسيطة الساحقة الماحقة كردود الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض : إذا كانا أملياه القرآن فقد كان عليهما أن يكونا أول من يكفر برسالته لا أول من يؤمن بها!!.. لكن هذا الكلام لا يجد من ينشره.. ولا نعثر عليه إلا بالجهد الجهيد.
أتباع اليسار والعلمانية والحداثة .. من هم أسوأ من مشركي الجاهلية من نخبتنا التي جعلتها أجهزة الأمن في الصدارة كخليل عبد الكريم- شيخ مشايخ صحيفة الأهالي- وسيد القمني حاخام روز اليوسف جاهزون لتلقي وساخات المستشرقين لكي يقدموها بأسمائهم..
كما يتصدى كاتب كجمال الغيطاني - دفاعا عن الفراعنة - في إنكار قصة خروج بني إسرائيل من مصر!! وهو بهذا لا يدافع عن الفراعنة .. و إنما يدافع عن بني إسرائيل لأنه يكذب القرآن .. والقرآن هو أشد ما أدان بني إسرائيل ويحافظ على مشاعر المسلمين ضدهم..
ولقد تعلموا من تجربة طه حسين في الشعر الجاهلي أن ينطقوا بمضمون الكفر دون لفظه لأنهم يعلمون القيد الصارم الذي يضعه القرآن على تكفير الكافر.. وأنه - على سبيل المثال - إذا ما وجد في كلام الغيطاني تسعة وتسعين بابا للكفر وبابا واحدا للإيمان فإن باب الإيمان هو الذي يعتبر.
والكلام صحيح بالقطع.. لكن في الظروف الطبيعية..
الرياضة البدنية مفيدة جدا.. لكنها لمريض القلب قد تكون قاتلة.. ونحن - أمة المسلمين - مرضى..
(ذكرني بالغيطاني أنه الآن - أثناء كتابة هذا المقال- أمامي الآن على شاشة التلفاز يتحدث عن الكتاب المؤسس الركن: أصل الأنواع لتشالز دارون ويتباكى على الفكر الظلامي الذي أخر طباعته ونشره.. ومطالبته بأن يمنع أساتذة الجامعة الذين لا يؤمنون بها وما على شاكلتها من التدريس.. ولا تعليق سوى الاشمئزاز والقرف.. وتذكيركم بمبرر منحهما الصحف والقنوات التي ينفثون فيها السموم )(13/412)
- لطالما حذرتكم يا قراء من جمال الغيطاني وصلاح عيسى و المزارع التي يربون فيها العلمانيين والحداثيين كما تربى الخنازير.. ولا تنسوا أنهما حكوميان- ..
نعود إلى الكلاب الجاهزة المتلمظة إلى تحريف القرآن.. فبعد أن فشلت كل خططهم لتحريف القرآن وتصحيفه والتشكيك فيه.. بعد هذا الفشل انتقلوا إلى فشل آخر هو محاولة عزل اللغة العربية كلها - انظر مثلا محاولة حكومي آخر هو شريف الشوباشي- ومحاولة إلغاء الفصحى واستعمال العامية.. لكنهم فشلوا في كل هذا ليقدم لهم الخنازير العرب حلا آخر.. وهو أن حكم النسخ ما يزال قائما وأنه إذا كان الرسو صلى الله عليه وسلم قد فعله لتغير الظروف الاجتماعية فإن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء-!!- من حقهم النسخ الآن.. وتتجاهل الخنازير أن الله هو الذي نسخ وهو الذي أثبت.. وهذا المعنى هو القابع خلف مصطلحات فاجرة كـ:تاريخية النص.. بمعنى أن النص القرآني مرتبط بتاريخ معين.. و أنه لا يلزم إلا من عاشوا في هذا التاريخ.. أما من يعيشون في العصور التالية فليس لهم أن يتبعوه.. وهو طريق يا قراء ملتف جدا.. لأم يدفعهم إليه إلا خوفهم من رد فعل الناس إذا ما قالوا أن سيد البشر وخاتم الرسول - غفرانك اللهم - كذاب و أن القرآن كله موضوع.
هذه الخنازير على دين المستشرقين - وجل المستشرقين جواسيس وموظفون في الهيكل الحكومي الصليبي الاستعماري- أو على الأحرى هم صبيانهم.. وهؤلاء الصبيان ينشرون بين الناس بصورة غير مباشرة أننا ما زلنا نصدق بالقرآن والحديث لمجرد تخلفنا.. و أن " التنوير " هو الذي سيخرجنا من ظلاميته..
وهذا هو التنوير وتلك هي الظلامية لكل من يردد مثل هذه الألفاظ دون أن يدري معناها..
على أن هذه الخنازير الضالة تغالط نفسها حين تصر على إخراج المسلمين من الإسلام بينما تترك الوثنيين يرتعون في وثنيتهم بل وتقدم لهم آيات التبجيل والاحترام.
إنهم يفعلون ذلك لأنهم يدركون أن الوثنية ليست خطيرة عليهم.. أما الإسلام فلو تركوه وشأنه فسوف يكتسحهم اكتساحا.. إذ لا توجد فكرة ولا نظرية ولا فلسفة تصمد له.. لسبب بسيط هو أنه حق بذاته.
إحدى خريجات مدرسة الخنازير كانت وزيرة في مصر وكانت قريبة جدا من رأس السلطة، وقفت في منتدى بدار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها - في جدة - تسب الرسو صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم وتكفر بالإسلام..
خريجة مدارس الخنازير اسمها ميرفت التلاوي.. كانت تتحدث في ندوة تتبع الأمم المتحدة صباح يوم الأحد 22 شوال / هـ1425الموافق 5 ديسمبر/2004م حيث سخرت هذه المجرمة الآثمة من رسولنا العظيم r ومن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه والتقليل من السنة الشريفة والسخرية من شيخ الإسلام ابن تيمية ..
شددت ميرفت التلاوي على أهمية اختراق المجتمع السعودي من الداخل ( راجع كل ما قلناه!!).... حيث ثبت نجاح الاختراق من الداخل مقارنة بالاختراق من الخارج الذي سيرفضه أكثر أي شخص (...).. فسألتها إحدى الحاضرات عن مدى تقبل المجتمع لذلك ، خاصة وأن الإسلاميين وجدوا أنهم متهمين بالعنف والإرهاب .. وكأن في ذلك مؤامرة لهذا الاتهام لأحداث التغيير ! وأجابت الدكتورة مرفت " وبصراحة لا تنقصها الوقاحة " بقولها : الله ابتلاكم في السعودية بجهلة ومتخلفين يتبعون أفكار المتخلف ابن تيمية .. حيث أن أفكاره المتخلفة والجاهلة هي التي نشرت الإرهاب في السعودية .. و مشكلتكم في السعودية تشبه مشكلة مصر عندما سادت أفكار " متخلف هندي " اسمه أبو الأعلى المودودي صاحب الفكر التكفيري ومورده .. حيث بدأ المجتمع يتأثر بهذا الفكر فحاول البعض توعية المجتمع من خلال المقالات والمسرحيات والأفلام ونجحوا بتوعيتهم . ولكن لم تستطع الدولة تجفيف منابع الفكر التي كانت تتم من خلال خطب المساجد والدروس والمحاضرات . والسعودية الآن مبتلاة بفكر المتخلف ابن تيمية ويجب أن تبادروا بتجفيف منابع هذا الفكر الذي سيرجع المجتمع للوراء .. حيث أوقف الاجتهاد والفقه الذي يجب أن يواكب التغيرات .. وعندما تتحدثين مع هؤلاء يقولوا لك : قال أبو هريرة .. وروى أبو هريرة ..
وقالت بلهجتها : (هو من أده أبو هريرة ؟ وآيه التخلف أده لما راجل ميت من 14 قرن يحكمني وهو في قبره ؟ أده تخلف لما أعطل عقلي وأسيب الراجل الميت يحكمني بعقلية عمرها14 قرن وما أعطي المجال لأي تقدم وتطور واستمر في التخلف )!
ونكتفي بهذا الموضوع مستندا إلى الكاتب اللامع بالساحات العربية " أبولجين"..
***
نعم.. يصرون (الأساتذة وصبيانهم) على إخراج المسلمين من الإسلام.. لكن مبشرهم الأكبر صمويل زويمر يعزيهم عن فشل خطتهم في تنصير المسلمين بقوله أن هدفهم كان إخراج المسلمين من الإسلام فقط.. و أنهم قد حققوا نجاحا باهرا في ذلك.. أما الدخول في المسيحية فشرف لا يستحقه من كانوا ذات يوم مسلمين..
نعم..
يصرون على ذلك..
فإن عجزوا عن بلوغه بالتطوير والتنوير والإصلاح والعلمنة والحداثة - لا التحديث- فسوف يفعلونه بالصواريخ والنابالم والغزو العسكري بتهمة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل..
***(13/413)
لم يسأل الحداثيون والعلمانيون أنفسهم عن المدى المسموح لنا به كي لا نتهم بالإرهاب..
هل مسموح لنا مثلا بتطوير قواتنا للدفاع هن أنفسنا.. لمجرد الدفاع.. ليس للدفاع المتكافئ.. بل لمجرد إشعار العدو أنه حين يقتلنا سنصيبه بجرح..
هل هذا هو المسموح لنا به في إطار الدفاع عن أنفسنا؟..
هل مسموح لنا مثلا أن نواجه 200 قنبلة نووية عند إسرائيل بقنبلة نووية واحدة؟..
فلنقلع عن ذكر السلاح النووي لأنه يثير غضب الشياطين في واشنطن وتل أبيب..
فهل مسموح لنا بقليل من السلاح الكيماوي والجرثومي.. ولو عشر معشار ما لدي إسرائيل؟..
بل هل المسموح للعرب والمسلمين أن يسلحوا جيوشهم دون عمولات هائلة لأسلحة يراعى فيها أنها لا تصلح أبدا لمواجهة إسرائيل ( دعنا من المواثيق الغليظة في عقود الشراء بألا تستعمل هذه الأسلحة ضد إسرائيل.. فهي منذ البداية لا تصلح).. و إنما تصلح لمواجهة الشعوب الغاضبة أو للحروب بين الدول الإسلامية وبعضها البعض..
أتصور.. أن الدول الإسلامية لو قررت إعلان الحياد السلبي.. وتسريح الجيوش.. لكان هذا سببا للغزو العسكري الأمريكي لإعادة تلك الجيوش..فهم من ناحية لا يستغنون عن المكاسب الاقتصادية الهائلة التي يجنونها من تسليح تلك الجيوش.. ومن الناحية الأخرى لا يستغنون عن خدماتها لمواجهة الشعوب وللحروب العنترية التي يشعلون أوارها بين الدول الإسلامية..
ولاحظوا أن جيش مصر و جيش الأردن وجيش سوريا - وليس جيش إسرائيل - هي التي تحمي حدود إسرائيل!!.. و أن الضغط الواقع على سوريا الآن بسبب اتهام جيشها أنه لا يقوم بواجبه كما يجب.. واجبه في حماية الأمريكيين!!..
دعنا من الجيوش..
هل مسموح لنا - حقا وفعلا- بإقامة حكم ديموقراطي صحيح..
هل المسموح لمن يحوزون ثقة الشارع أن يصلوا إلى الحكم..
ألم يكن أبو لهب هو الذي حذركم من أن الانتخابات غير المزورة ستحمل الإسلاميين إلى الحكم....
هل المسموح لنا به أن نحترم ونطبق مواثيق حقوق الإنسان فعلا..
هل مسموح لنا بالإفراج عن المعتقلين دون أحكام قضائية ( ودعنا الآن من تساؤل آخر عما إذا كان مسموحا لنا بقضاء حقيقي وليس بمجرد قلم يتبع البوليس اسمه النيابة وقلم يتبع النيابة اسمه القضاء)..
هل مسموح لنا بالتوقف عن تعذيبهم وقتلهم وتلفيق التهم لهم؟!..
ألا تعرف المخابرات الغربية تفاصيل التعذيب..
بل من علم كلاب صيدنا فنون التعذيب إلا خنازيرهم ومعاهدهم وعلى رأسه معهد فورت بنينغ..
من علم الكلاب فنون الكذب والتشويه إلا الخنازير..
في سبق صحافي غير منكور تمكن المرصد الإعلامي الإسلامي من لقاء " الدوسري" المطلوب الأول في الكويت ليكشف أكاذيب مباحث أمن الشيطان ونيابة أمن الشيطان وقاضي أمن الشيطان، وليعطى المثل والنموذج لما يحدث في البلاد العربية الأخرى( تذكروا أن أجهزة أمن الشيطان تلك قد اتهمت الإسلاميين في مصر أنهم يريدون قتل المطربات.. وفي السعودية قتل الحجاج.. وفي الكويت قتل المدنيين).. وكانت كلها أكاذيب.. وما يحدث في الكويت لم يكن إرهابا و إنما كان جهادا..
ولنفهم.. أن الإرهاب ليس ممنوعا.. الجهاد هو الممنوع..
والدليل أن أمريكا وصبيانها من رؤساء و ملوك و أمراء هم الذين يمارسون الإرهاب ولا تثريب عليهم!!
ولقد كشف الدوسري أن الشهيد عامر العنزي- الذي قتله كلاب أمن الدولة الكويتيون ..رحمه الله - ورفاقه كانوا ينوون الذهاب للعراق ولكن السلطات وبأمر من أمريكا قتلتهم.. ووصف الدوسري ما نشره ضباط أمن الدولة و إعلام أمن الدولة بأنها مزاعم وادعاءات باطلة ، و أنه لا يوجد شيء اسمه خلية أسود الجزيرة في الكويت
كان الدوسري كما يقول بيان المرصد الإسلامي قد اعتقل في المغرب من قبل الأجهزة الأمنية لمدة أكثر من شهرين لوجوده أثناء تفجيرات الرباط التي استهدفت كنيسا يهوديا ومرافق سياحية، وتعرض خلالها لتعذيب جسدي ونفسي وأفرج عنه لعدم ثبوت شيء ضده . وقد ذكر أنه تعرض للتعذيب في المغرب خلال فترة اعتقاله من تاريخ 11/6/2002 إلى 19/8/2002 تمثلت الوسائل في الضرب والجلد والحرق بأعقاب السجائر والحرمان من الطعام والنوم والإضاءة العالية وتكرار الضرب على الرأس ووضع صافرة في الزنزانة وشرب سائل يؤثر على الدماغ والسب والشتم والإهانة والإجبار على تقبيل أرجل المحققين والابتزاز والمساومة والإجبار على الإدلاء بمعلومات كاذبة مثل الانتماء لأمن القاعدة واللقاء بمسؤول مخابرات عراقية ومسؤول في حماس. وأكد أنهم طلبوا منه أن يصرح بوجود علاقة بين القاعدة والنظام العراقي مقابل الإفراج عنه. الدوسري يرفض الاحتلال الأمريكي ككل عربي ومسلم غيور ويدعو إلى خروج الاحتلال من العراق لذا اتهموه بأنه يمول ويجهز كل شاب يريد الذهاب إلى العراق للمشاركة في القتال ضد قوات الاحتلال(...) و خالد عبد الله الدوسري عمره 32 سنة وهو يكشف ما حدث لعامر العنزي - رحمه الله - فيقول:(13/414)
" الشيخ عامر العنزي رحمة الله عليه واسكنه فسيح جناته رجل ورع ودمث الأخلاق وطالب علم متمكن ومحبوب ، معرفتي به بدأت منذ أن تم اعتقاله في 2003 من قبل جهاز أمن الدولة حيث قاموا بتعذيبه من دون تهمة سوى انهم يبحثون عن شخص مطلوب !! إيصال وبعد خروجه من المعتقل زرته في بيته وأخبرني انه تعرض لانتهاكات صارخة في جهاز أمن الدولة ، واتفقت معه على ضرورة أن نعمل من أجل وقف هذه التجاوزات عبر توصيل الشكاوى وأصوات المظلومين إلى المسئولين ، وكان يعتقد انهم - أي السلطات - لا يعلمون شيئاً عما يحصل في دهاليز معتقل أمن الدولة . وبالفعل بدأنا الاتصال بالمسئولين في الدولة وتحدثنا عبر وسطاء عن هذه التجاوزات الخطيرة التي تحدث في داخل أقبية جهاز أمن الدولة . . وبعد فترة من الزمن ومن المحاولات . . وفي نهاية المطاف اقتنعنا بأن ما يحدث من انتهاكات بحقوق الإنسان في الكويت تحدث بعلم ومباركة الحكومة وأعني هنا صباح الأحمد حيث انه هو المسئول عن هذه التجاوزات خصوصاً انه يحتقر شريحة وقطاع كبير من الشعب وهم أبناء القبائل . . كما أنه معروف عنه كرهه لمظاهر الإسلام والتدين وكل ما هو إنسان محافظ ، وهذا الشيء يعرفه الشارع الكويتي (...)
ويواصل الشيخ خالد الدوسري حديثه عن عامر العنزي:
" لقد خدعه وخانه عذبي الصباح فقد كان يقول لعامر دع الشباب يسلمون أنفسهم وسوف يذهبون إلى النيابة مباشرة، وهذا ما حدث أيضاً عند مداهمة المكان الذي اعتقل فيه ، ولكن المفاجأة انه قام بتصفية البدون والسعوديين لاعتقاده أنهم لقطاء وليس لهم أحد يثأر لهم ! .أضيف هنا أنه قبل حوالي خمسة أيام من مداهمة مكان عامر اتصل بي عامر وقال لي أنه رأى رؤية وجد أن كلاباً تنبح وتذهب وتعود . . (...) وقاموا باقتحامه والشباب لم يقاوموا لأن عذبي الصباح عبر مكبرات الصوت أعطاهم آمان كاذب . . وعامر وثق به لذا لم يقاوم ومن معه لأنهم وثقوا وصدقوا عذبي الصباح وأعلن عامر استسلامه والشباب فما كان من عذبي والقوة المرافقة وبمجرد أن خرج الشباب وألقوا سلاحهم انهالت عليهم اللكمات والركلات من كل حدب وصوب . . (...) عامر - رحمه الله - ورفاقه كانوا ينوون الذهاب للعراق ولكن السلطات وبأمر من أمريكا قتلتهم .(...) هم لا يريدون أي شخص يغرد خارج سربهم ، فالنظام اتخذ قراراً مصيرياً يتعلق بحياة شعوب المنطقة ولم يعر هذه الشعوب أي احترام لإرادتها، فهو قد فتح الطريق لجيوش الاحتلال لتحتل المنطقة، ومن يعارض هذا النظام يكون مصيره السجن أو القتل . . وأقول لهم إن الأيام دول، وستكنسون مع فلول الجيوش المنهزمة إلى مزبلة التاريخ .(...).. وكذلك هناك محتل عابر للمحيطات يقبع في أرضنا مدجج بشتى وأحدث أنواع الأسلحة وله حصانة في الدستور الكويتي كحصانة الأمير حيث أن الجندي الأمريكي يفعل ما يشاء في البلد ولا يحق لك الاعتراض، فأصبحت البلد ولاية أمريكية ولم تعد ذات سيادة (...) وجلاوزة التعذيب في جهاز أمن الدولة يستخدمون جميع الوسائل والأساليب الدنيئة لكسر إرادة المعتقل فهم يجبرونهم على تعاطي مواد وشرب سائل يؤثر على الدماغ من أجل سلب إراداتهم كما يحدث للمعتقلين في جوانتناموا وكما حدث لي شخصياً عندما اعتقلت في المغرب حيث أجبرت شرب سائل يؤثر على الدماغ ، فهم يسممونهم ويقتلونهم ويدعون انهم كانوا يتعاطون مؤثرات عقلية قبل اعتقالهم!!..أسلوب جديد قديم وهذا الأسلوب مرتبط باللواء عبد الله الفارس - وكيل وزارة الداخلية لشئون أمن الدولة - فهو أول من استخدمه في منتصف التسعينيات مع المعتقلين الإسلاميين . . وقد ذكر لي الأخ / مطر المطيري - رحمة الله عليه وقد كنت زرته بالسجن قبل أن تعدمه السلطات الكويتية - أن عبد الله الفارس كان يرغمه على استنشاق مادة دخانية حتى يهذي ويتكلم من غير شعور حتى يهلوس بالكلام وليحصل على اعترافات نتيجة ذلك .. فها هم يعيدون الكرة . . وحسبنا الله ونعم الوكيل . (...) لا يوجد شيء اسمه خلية أسود الجزيرة . . وهذه التسمية من فبركة جهاز أمن الدولة ، وهؤلاء الشباب قرروا الخروج للجهاد في سبيل الله في العراق وعلمت السلطات بنواياهم فأرادوا اعتقالهم والآن تقوم السلطات بتصفيتهم جسدياً لأنه لو تم تقديمهم للقضاء لا توجد أدلة ضدهم .(...).. العراق بلد مسلم جريح محتل من قبل جيوش عابرة للمحيطات لتسرق خيراته وتقتل شعبه ، وموقفي من هذا واضح وهو وجوب إخراج الغزاة وطردهم من العراق وجزيرة العرب.
***
مرة أخرى.. ما هو المسموح به لنا كمسلمين ..(13/415)
لن أتكلم أنا.. ولن أستشهد بواحد من الإسلاميين ( أستعمل المصطلح مضطرا.. وصحته المسلمين وليس الإسلاميين.. لكنني أقصد بالإسلاميين من يطالبون بالحكم بما أنزل الله.. و أخشى أن أقول المسلمين فأضطر إلى ما يبدو أنه تكفير للآخرين).. أستشهد بكاتب قومي موضوعي متزن : تبدو الكلمات غريبة.. فكيف يكون القومي موضوعيا.. وكيف يكون موضوعيا دون أن يكتشف أن القومية كانت جزءا من المؤامرة الكبرى على المسلمين.. وقد شجعتها بريطانيا بالجامعة العربية.. و أمريكا أيضا.. وكيف يدعي البعض أنهم قوميون مسلمون.. والأمر لا يصح إلا إذا صح أن هناك مسلم كاثوليكي!!..
يقول الكاتب محمد عبد الحكيم دياب بصحيفة القدس العربي:19-2-2005 عن المطلوب أمريكيا من المنطقة:
" فبضاعتهم المراد تسويقها للمنطقة هي الديمقراطية، بمعناها الأمريكي، وتقوم علي عدة ركائز، الأولي: القبول بالدولة الصهيونية، كدولة طبيعية في المنطقة، والتخلي بالكامل عن كل طموح عربي أو إسلامي لتفكيك نظام التمييز العنصري (الأبارتايد) الصهيوني وتحرير فلسطين، وهذا المخطط يقوم علي ضرورة تحمل المنطقة مسؤولية حماية الدولة الصهيونية وضمان أمنها. والثاني: هو الحفاظ علي مصالح أمريكا، وتمكينها من مصادر الطاقة، كأحد أدواتها في معركتها المتوقعة مع القوي الدولية الكبرى الصاعدة، مثل الصين والاتحاد الأوربي، والثالث: تصفية الثقافة العربية والإسلامية، باعتبارها ثقافة مفرخة للإرهاب، وهي في حقيقتها معادية لمخطط المحافظين الجدد ، واستخدام كل الوسائل الممكنة في ذلك، مثل التطهير العرقي كما هو جار علي الساحة الفلسطينية، وضد جماعات المقاومة المسلحة، وطنية وقومية وإسلامية، والغزو والاحتلال المباشر، كما حدث في أفغانستان والعراق، وكما هو متوقع للسودان وإيران وسورية والسعودية ومصر، وبتزكية النعرات العرقية والمذهبية، وتفتيت المنطقة، وفق خريطة عرقية ومذهبية، وإفقار اقتصادي، وإضعاف عسكري، وتجهيل تاريخي وثقافي، وعودة فرق التبشير ومدارس الإرساليات، وهيمنة التعليم الأجنبي، وتغيير مناهج التعليم الديني والوطني والقومي، ونشر الانحلال والإباحية والعري في أجهزة الإعلام العامة والخاصة."..
ويواصل محمد عبد الحكيم دياب قوله:
"وجمال مبارك لا يرفض خدمة هذه التوجهات، ووالده لا يمانع من تبنيها، وإذا ما نظرنا إلي تفاقم مشكلة الحريات وزيادة مستوي الاستبداد الذي أصبح لا يحتمل.."
***
هذا هو المطلوب إذن على لسان كاتب قومي لا إسلامي..
ومن المؤكد أن المطلوب أكثر مما قال..
وبعد أن نحيي موضوعيته دعونا نواصل التساؤل ما هو المسموح به لنا كمسلمين..
هل مسموح لنا بالإعلام الحر..؟..
هل قلت لنا؟!..
بل هل مسموح لهم؟!.. للأمريكيين أنفسهم..؟!.. هل مسموح لهم بالإعلام الحر؟؟!!..
لقد أرغموا مدير الأخبار في شبكة CNN التلفزيونية للأنباء "إيسن جوردان" على الاستقالة بسبب اعترافه في منتدى دافوس السويسري بقيام الجيش الأميركي بقتل 12 صحفيا بالعراق كما كشف النقاب عن قيام القوات الأميركية بإيقاف مراسل لقناة الجزيرة بالعراق ثم احتجازه بسجن أبو غريب وإجباره على أكل حذائه، مشيرا إلى أن هذه القوات قامت بالتهكم على المراسل والسخرية منه أثناء اعتقاله بمناداته بـ"صبي الجزيرة ".
وذكرت المصادر الصحيفة الأمريكية أن جوردان قال أثناء مناقشة بعنوان "هل تنجو الديمقراطية من الإعلام؟" إنه ليس على علم بمقتل 12 صحفيا على يد القوات الأميركية في العراق فحسب، بل أكد أن استهدافهم كان سياسة متعمدة.
إن تدمير مكاتب الجزيرة في أفغانستان والعراق غنية عن إعادة السرد..
فهل مسموح لنا بالإعلام الحر حقا؟!..
يقول الإذاعي العربي الأشهر والأذكى الدكتور فيصل القاسم أن الغرب يفرض على إعلامنا أن يقوم بمهمة تفكيك المجتمعات العربية .. ويصرخ فيصل القاسم في صحيفة الشرق القطرية:
" إنه الإعلام وليس أي إعلام بل الإعلام الترفيهي التجهيلي الهابط المعتمد على إثارة الغرائز ومسح العقول وتغييب الوعي خاصة وأن المهمة أمامه شاقة للغاية وتحديداً في البلدان التي حملت مشعل الإسلام الأصولي. فليس من السهل تحويل اتجاه المتزمتين دينياً باتجاه العولمة إلا بفضائيات رخيصة تنتشر كالفطر البري في السموات العربية وتغزو عقولهم وقلوبهم بما لذ وطاب من أغان ومسلسلات محلية ومدبلجة وغانيات كاسيات عاريات وراقصات ومطربات ماجنات واحتكارات فنية شيطانية"..
ثم يواصل فيصل القاسم نزيفه:
"إن ما يحصل في هذه الكباريهات التي يقولون إنها محطّات فضائية يسيء إلينا للغاية حين يتمّ تفسير هذه الممارسات الساقطة على أنها أحد أشكال التحرّر؛ وهكذا، يسقط المواطن العادي في شرك الخلط بين التحرّر والتحلّل؛ بين الفجور والسفور؛ بين هيفاء وهبي وهدى شعراوي؛ وبين هذا المتمول التليفزيوني والمصلحين والمفكرين. إن أبسط قواعد التحرّر، وفق أبسط المعايير، تعني احترام الإنسان، جسداً وروحاً، رجلاً وامرأة، طفلاً وكبيراً."..(13/416)
دعنا الآن من أنني لا أعرف هيفاء وهبي.. لكن أغلب الظن أنها كاعتماد خورشيد ونانسي عجرم( أعرف اسميهما لا رسميهما!!).. دعنا أيضا من أن فيصل القاسم لم يدرك رغم ذكائه أن هدى شعراوي هي الوجه الآخر لهيفاء وهبي.. بل كانت هي التي مهدت الطريق إليها.. ( إحدى داعيات تحرير المرأة اكتشفت الحقيقة فجأة.. حقيقة أن الأمر لم يكن تحرير المرأة بل تعهير المرأة.. أدركت المرأة ذلك فصرخت: يا إلهي.. هل ظللنا مائة عام - منذ قاسم أمين - نناضل لكي نخلع ثيابنا ونتعرى.. بضع دقائق فقط كانت تكفينا!!).. أقول دعنا من كل ذلك ولنتساءل مع الإذاعي والإعلامي الأشهر فيصل القاسم: هل مسموح لنا بإعلام لا يفكك الأمة وينشر بينها الفحشاء والتحلل والشذوذ والعهر؟!..
هل مسموح لنا بذلك؟
***
دعنا من الإعلام الحر..
هل مسموح لنا بتعليم حر..
تعليم نعرف فيه عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قدر ما نعرف عن نابليون أو واشنطن؟.
هل مسموح لنا أن نعلم ونتعلم التاريخ الحقيقي غير المزيف..
هل.. وهل.. وهل.. وهل..
***
باختصار المطلوب والمستهدف هو القضاء على الإسلام كله..
ولكن هذا لا يكفي.. فلابد إذن من تمزيق الدول وشرذمة الأمة حتى لا تعود أبدا كما كانت..
ولقد أغرى الخنازير سقوط القاهرة والرياض وبغداد ودمشق، وليس لدي أي قدرة على الخداع، لذلك أقر و أعترف أن ما سقط حديثا كان ساقطا منذ البداية، وأن هذه العواصم الأربعة بالذات قد سقطت منذ بدايات القرن العشرين، ويمكن للمراقب الحصيف أن يلاحظ أن حركتها طول القرن الماضي كانت تجاه العلمانية والكفر .. وكان ذلك في اتجاه إسرائيل حتى قبل أن تولد إسرائيل.
ثورة الشريف حسين كانت ولاء للطاغوت وبراء من الله وكانت اقترابا من إسرائيل..
تكوين المملكة السعودية كانت كذلك وكانت اقترابا..
حزب الوفد المصري كان كذلك وكان اقترابا..
القومية كانت اقترابا والناصرية والبعث كانت سقوطا داويا مهد لكل ما جاء بعده ( خلاصة الناصرية وبقاياها السامة تتركز الآن في القذافي ووليد جنبلاط، وخلاصة البعث وبقاياه في بشار الأسد).
[ القارئ أحمد عبد الله.. قارئ مثقف دمث يواظب على مهاتفتي طيلة سنوات لخص الأمر بعد قراءات طويلة ومعاناة هائلة بقوله: خلاصة الأمر أن عبد الناصر باع الدين، والسادات باع الدولة، ومبارك باع الشعب، وقد باع كل واحد منهم ما باع، لمجرد استمرار حكمه]..
نعم.. سقطت الرؤوس..
بعد سقوط الرؤوس أصبح الأمر أمام أمريكا سهلا..
تماما كما حدث عند تدمير الطيران المصري عام 67..
أصبح الأمر بعدها تحصيل حاصل..
و أصبحت القوات فريسة لكل ما يريدون أن يفعلوه بها..
و هكذا تظن أمريكا الآن أن الأمور قد دانت لها وأنه لم يبق إلا التمشيط!!..
ما تعمي عنه أبصار وبصائر الأمريكيين أن الإسلام أصلب من أن يكسر.. و أن المسلمين أكثر من أن يبادوا .. و أنه لو بقي على ظهر الأرض مسلم واحد فسيظل واثقا أن الله سيجدد شباب الإسلام على يديه و أنه في النهاية سيقضي على أمريكا.
ما تعمى عنه أبصار وبصائر الأمريكيين أن الحضارة الأمريكية بثقافة: منجم الذهب وقطع رأس الهندي و "السوبرمان". بينما تشبعت حضارة الإسلام بقول النبي الكريم ((الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)) وقوله ((اِذهبوا فأنتم الطلقاء)) و ((من تواضع لله رفعه الله)).
ما تعمى عنه أبصار وبصائر الأمريكيين أن أخطر ما يواجه الولايات المتحدة هو إفلاسها الأخلاقي على المستوى الدولي في ظل وبسبب سياستها الخارجية غير الحكيمة. وهو البعد الأساسي الذي قد يساعد على سقوط الإمبراطورية الأمريكية.
***
في وضع كهذا لن يردع أمريكا عن محاولة القضاء على الإسلام رادع.. إلا الجهاد..
الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام.. الجهاد الذي يقتل كل معتد أينما ثقفناه..
قال لي صديق:
- ليتك تركز على الجهاد السلمي الآن وتنبذ العنف..
ورددت عليه في مرارة:
- أأنبذ ذروة سنام الإسلام..
ثم رددت ساخرا:
- ومع ذلك لا أخفيك أنني كنت أفضل عدم الجهاد كله.. لا سلما ولا حربا.. كنت أتمني أن يضل اليهود في بلادهم فلا يتجمعوا من أصقاع الأرض ليسرقوا بلادي.. وكنت أتمنى أن تظل أمريكا في بلادها فلا تحتل بلادي.. ساعتها لم أكن لأجاهدهم جهادا سلميا أو عسكريا.. لكنهم جاءوا.. فما حيلتي..
ثم واصلت:
- ثم ماذا لو لم ينجح الجهاد السلمي.. وهو بالقطع لن ينجح..هل نستسلم؟؟..
ثم قلت إزاء ذهول الصديق:
- طريق بن لادن هو الطريق.. وحله هو الحل.. ليس اختيارا بل إجبارا..
ورحت أتلو على الصديق قوله تعالى:
) كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( (216) البقرة.
***
نعم..
طريق بن لادن هو الطريق.. وحله هو الحل.. ليس اختيارا بل إجبارا..
.. ولقد قالها واحد لا أكاد أعرف عنه شيئا هو عبد الستار قاسم .. مرشّح انتخابات الرئاسة الفلسطينية .. الذي اعترف أخيراً - كما اعترف محمد عبد الحكيم دياب!!- وانسحب من الترشيح قائلاً:(13/417)
ابن لادن هو الحل !!!
وواصل قوله:
لسان أعمال أمريكا يقول للعرب: ابن لادن أو منهجه هو الحل. من تجربتي في الانتخابات الرئاسية الفلسطينية، ترسخت لدي قناعة سابقة بأن الولايات المتحدة لن تترك أحدا في العالم وشأنه، وهي تصر على التدخل في مختلف الأمور بهدف خدمة مصالحها ورؤيتها لما يجب أن تكون عليه أوضاع العالم. إنها تتدخل في الانتخابات الفلسطينية مباشرة وبصورة غير مباشرة بهدف الوصول بالسيد محمود عباس إلى رئاسة السلطة الفلسطينية. لقد تدخلت بداية بتقديم معونة سريعة بمقدار 20 مليون دولار للسلطة الفلسطينية عقب تسلم عباس رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، ووعدت بتقديم المزيد من المساعدات المالية إذا قرر الشعب الفلسطيني أن ينتخب شريكا لإسرائيل في المفاوضات(...).. أمريكا تريد ديمقراطية مفصلة حسب مقاييسها هي بغض النظر عن مصالح الشعوب. إنها تعتبر نفسها صاحبة الحقيقة المطلقة، ولا حقيقة سوى الحقيقة التي ترى هي أنها الحقيقة(...) بمنهجها الاستبدادي العدواني هذا، أمريكا تزرع بذور كراهيتها وتنمي الأحقاد ضدها(...) لقد داست على كبرياء الأمة ونهبت ثرواتها وأمعنت في إذلالها حتى ظهر ابن لادن لينتقم، وليكسب قلوب مئات الملايين من العرب والمسلمين الذين يريدون رؤية البيت الأبيض ملفلفا بالسواد، وبأمريكا أياما عصيبة يرتعش الحزن من آلامها. لقد أيقنت أن ابن لادن لم يتصرف إلا بعد أن أدمت أمريكا قلبه وقلوب مؤيديه بأعمالها الإجرامية الدموية البغيضة. وأمريكا ما زالت تصر على نهجها الذي لا يدع مجالا أمام العرب إلا الالتفاف حول ابن لادن أو السير على نهجه. إنها تدفع الناس دفعا نحو السير خلف ابن لادن وانتهاج نهجه في الدفاع عن الأمة والانتقام. إنها لا تترك حلا أمام الناس إلا ابن لادن.
***
نهج ابن لادن لا يستقطب فقط المسلمين الذين يدافعون عن الدين وإنما يستقطب كل الذين يشعرون بالظلم والسطوة الأمريكية الصهيونية على العرب والمسلمين.
***
نعم .. لم تترك أمريكا لنا خيارا..
إنها تتصرف كقرصان دموي مجرم.. وكانت آخر آيات إجرامها - كما تقول قناة الجزيرة ومفكرة الإسلام) أن بدأت حملة من خلال تلفزيون وإذاعة باكستان، للإعلان عن مكافآت بملايين الدولارات لمن يدلي بمعلومات تقود إلى القبض على أسامة بن لادن وزعماء آخرين في تنظيم القاعدة. وتظهر في الإعلان التلفزيوني ـ ومدته 30 ثانية ويذاع باللغات الأوردية والباشتو والبلوش والسندية ـ صور لابن لادن وساعده الأيمن أيمن الظواهري اللذين رصد مبلغ 25 مليون دولار مكافأة للقبض على أي منهما أو قتله، و12 آخرين منهم الملا محمد عمر زعيم حركة طالبان الأفغانية.
قلت لنفسي.. أنني أعرض أنا الآخر مكافأة مني.. دراهم معدودة لمن يقتل قرصانا دمويا مجرما آكلا للحوم البشر..
أما اسمه فهو جورج بوش..
جورج بوش.. الذي يدفع الأمة كلها إلى إدراك أن بن لادن هو الحل.. ولا طريق غير طريقه..
الوجه الحقيقي للغرب وأمريكا ... وشجرة الكراهية
--------------------
شجرة الكراهية. . من الذي زرعها , ومن الذي يسقيها؟!
-------------------
حسب جريدة (الحياة) عدد 15529 الجمعة 7/9/1426هـ , قال جورج بوش - تعالى الله عما يقول علواً كبيراً- : " إن الله أمره أن يخوض الحرب في أفغانستان والعراق"، وقال : "إنه يشعر بكلمات الله تصل إليه وهي تقول: اذهب، وأعط الفلسطينيين دولتهم واحصل للإسرائيليين على أمنهم، وأقم السلام في الشرق الأوسط، وأقسم أنه سيفعل ذلك. إلا أنه تراجع عن قسمه، وحنث بيمينه عندما تخلى عن تعهده بإقامة دولة فلسطينية قبل نهاية ولايته، كما ورد في جريدة (الجزيرة) عدد السبت 19/9/1426هـ.
والأمر الذي يستوقف المتابع لمتعلقات الحراك الأمريكي ليست هذه الوعود أو النكوص والتراجع عنها؛ فتلك أمور مألوفة ومعتادة عند هؤلاء القوم، وإنما ما يهمنا هنا هذا الادعاء والتقوّل على الله بأن ما فعلته وما تفعله أمريكا استجابة وتنفيذ لأمر إلهي تلقاه جورج بوش من الله سبحانه وتعالى عما يقول.
وإنك لتأخذك الحيرة بتفسير مثل هذه الأقوال، وتتساءل وأنت غارق في حيرتك: أحقاً أن هذه الدولة العظيمة القوية والمهيمنة تُقاد وتُسيّر بمثل هذه التصورات، وتتعامل مع الآخرين من هذا المنطلق الخطر؟! وهي التي تدعي أنها الأكثر علمية وعقلانية وتثبتاً بهذا العالم!!
ولمحاولة فهم هذه الأقوال واستيعابها أرى أننا أمام أحد تفسيرين أو كليهما معاً:
التفسير الأول- فإما أن تكون أمريكا تسعى من وراء هذا الادعاء لإقناع ذاتها ومواطنيها بنزاهة وعدالة خطها، وبشرعية أفعالها لكي تتجاوز بهذه القناعة وخز الضمير من بشاعة الأفعال التي ترتكبها إن كان هناك وخز أو كان هناك ضمير. وهذا التفسير أشار إليه (ماكس ليرنر) في كتابه (أمريكا كحضارة) ترجمة الدكتور راشد البراوي، وهو يرد ذلك الوخز إلى عبادة المال والنجاح.(13/418)
التفسير الآخر- أو أن أمريكا تسعى من خلال ما تدعيه إلى إقناع الآخرين بأن نهجها وخط سيرها توجيه إلهي ورسالة مقدسة لا يصح الاعتراض عليها. وأن الهيمنة الأمريكية قدر أمام شعوب العالم لا مفر منه.
ومن هنا -ولكون القوم صدقوا أنفسهم بما يدّعونه- فهم يتساءلون مستنكرين ومستغربين كراهية الآخرين لهم "لماذا يكرهوننا.؟!"، وكأنهم لم يقرؤوا تاريخ بلادهم، ولا واقعها الحاضر والمشاهد، وعلى كل الأصعدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية!!
والإقرار والتصديق لهذا التصور، وهذا المفهوم الغيبي الذي يدّعونه يصلح أن يكون تفسيراً لكثير من الممارسات والسياسات غير المسوّغة وغير المنطقية التي تجترحها الإدارة الأمريكية بكل هذا القدر من العنف والصلف والهياج الثوري نسبة إلى الثور، وليس إلى الثورة، والذي يبدو وكأنه تطبيق واقعي وعملي لما يدور في أفلام رعاة البقر السينمائية، وهنا تكمن الخطورة.
غير أنك وعندما تقرأ في تاريخ هذه الدولة ستجد أن ما ادّعاه جورج بوش لم يكن حصراً على هذا الرجل، ولم يكن أمراً محدثاً تفرّد به هذا الرئيس، واخترعه من بنات أفكاره بل إنك ستجد كثيراً من النخب والزعامات والمنظرين الذين يزخر بهم التاريخ الأمريكي سبقوه إلى ذلك، ابتداء من جورج واشنطن المؤسس ومتابعة على أثره من عدد غير محدود من رجالات الفكر والسياسة الأمريكية.
يقول الدكتور فهد العرابي الحارثي في كتابه (أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية والعدل) صفحة (311): " إن الرئيس الأمريكي (ويليام ماكينلي) عندما أمر بغزو الفلبين عام 1898م وقف يخطب في شعبه علناً، ويقول: نحن لم نذهب إلى الفلبين بهدف احتلالها, لكن المسألة أن السيد المسيح زارني في المنام، وطلب مني أن نتصرف كأمريكيين ونذهب إلى الفلبين لكي نجعل شعبها يتمتع بالحضارة. ويذكر -والكلام مازال للدكتور الحارثي- أن رونالد ريغان أعلن ذات يوم أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع لكونها (أمة مباركة من الله)، وهذه مغالطة غير مقبولة، كما يقول روجيه غارودي؛ لأن هذا الثراء يرجع إلى استغلال العالم، وخاصة العالم الثالث عبر فرض المنتجات الأمريكية بالقوة، وعبر غزو رؤوس الأموال الأمريكية للدول التي تنخفض فيها المرتبات، وعبر الفوائد الاستغلالية للقروض. ويقود كل ذلك ويباركه علامة الصليب على أسنة السيوف كصنم يمثل الذهب والموت كما يقول غارودي.
ومع كل هذه الهرطقات المكشوفة وغير المنطقية، والادعاءات الباطلة بإلوهية التوجّه الأمريكي -والتي إن قبلها وأقر بها الآخرون- فإن العقلية القرآنية، والمنطق الإيماني الذي يتحلى به المسلم حتى في أدنى مراتبه الثقافية والعلمية يرفض قبول هذا المنطق والتصديق به.
مع هذا كله نرى واحداً من مثقفينا يستحي من هؤلاء الذين هذا منطقهم، ويدعونا إلى الخجل والاستحياء من القول بأن ما أصاب أمريكا من أعاصير مدمرة قد يكون غضباً إلهياً أرسله الله على هؤلاء القوم.
وإنه لمن حقنا -كمتلقين وكقراء (لمثل هكذا كتابات)- أن نتساءل: عمن هو الأجدر بأن يكون مثيراً للخجل والضحك؟ أهو هذا المنتصر - كما يسميه بعض إخواننا الكتاب - والذي يدّعي أحدهم بأن الله يقول له: اذهب، وحارب الآخرين، ودمر ديارهم، وسق الذرائع كل الذرائع حتى وإن كانت كاذبة، حتى وإن قتلت المدنيين، حتى وإن عارضك العالم كله. أمضي إلى كل ذلك بأمر إلهي مباشر من الله. أهذا الذي يقول مثل هذا القول، ويبني عليه كل هذا الفعل المتوحش المشين أجدر بأن يكون مثيراً للاستهجان والاستنكار؟ ولا أقول للضحك إلا إذا كان ضحكاً كالبكاء كما يقول المتنبي، وشر البلية ما يضحك!!
أم أن هؤلاء القائلين بأن أعاصير كاترينا وريتا قد تكون عقاباً إلهياً حل على أمريكا لقاء استكبارها وجرمها هم من يثير الخجل والضحك؟ ولا أعتقد بأن هناك مقارنة بين ما ادّعاه بوش مما لا يقبله عقل ولا منطق وهو الرجل الأخطر الذي يملك زمام أقوى قوى الحرب والتدمير في العالم؟
وبين ما قال به هؤلاء الذين لا يملكون سوى كلام لا يقتل أحداً، ولا يدمر بيوتاً، والذين يُكال لهم بتعالم واستعلاء ظاهر كل صفات التحقير والتسفيه والسذاجة، وهو الذي يدعو إلى احترام الآخرين. علماً أن ما قالوه لا يستدعي كل هذا التشنج والاستخفاف والخجل، لا لكون هذا التهجم أسلوباً متدنياً للنقاش والمحاورة فحسب، بل لكون ما يقولون به رأي له مايسنده من الدين، كما وأن له ما يبرره من الواقع والتاريخ الأمريكيين.(13/419)
وإن كنا نرى كمسلمين أن ليس لأحد الحق بأن يجزم بتفسير ظواهر الكون وكوارث الطبيعة تفسيراً يتقول به على الله فيما لا يعلم، ولكننا -وفي الوقت ذاته- نعلم أيضاً أن الله سبحانه وتعالى قد أهلك أقواماً بكوارث مناخيه كان من بينها الريح الصرصر العاتية كما وطوفان المياه وخسف الأرض، وقد كان كل ذلك عقاباً إلهياً لأفعال مشينة ومعاصٍ ترتكب أمريكا المعاصرة أمثالها، بل وعلى مستوى الدولة وكنظم وقوانين تبيح المحرمات كالشذوذ والزنا والاستكبار في الأرض، وأكل أموال الناس بالباطل، بل وتدافع عن كل ذلك وتسعى لفرضه على الآخرين كقيم أمريكية راقية وحضارية. حتى وإن عارضه هؤلاء الآخرون، وعارضته عقائدهم ودياناتهم وقيمهم الحضارية، كما حدث ذلك عندما تدخلت لما تسميه حماية حقوق المثليين (الشواذ) في مصر المسلمة على سبيل المثال.
إن ممارسات أمريكا عبر تاريخها منذ التأسيس وحتى اليوم هي وحدها ما يدعو لكراهيتها والتوجس منها بدليل أن هذه الكراهية، وهذا التوجس لم ينسحبا على بلاد كالصين واليابان وكوريا مثلاً، فليست العبرة بالاختلاف والتغاير في المعتقد والمفاهيم بل العبرة بالممارسات والأفعال والوقائع.
وتعالوا معنا نقلب صفحات الواقع والتاريخ الأمريكيين: حديثه وقديمه علنا لنرى الصورة بوضوح.
أما واقع اليوم فأمريكا تقول وعلى لسان جورج دبليو بوش: " إن من ليس معنا فهو ضدنا" وهذا عين الكراهية، وعين الإطاحة وإقصاء الآخر. وهي تسوق العالم بكل وسائل القوة والتهديد والابتزاز لغرض الهيمنة والتعالي والاستكبار على هذا الآخر. لا تلتفت في هذه السبيل لاعتبارات الحق والعدل، ولا للشرائع والمواثيق الدولية، ولا تقيم وزناً واحتراماً لخصوصيات الآخرين. وأقرب الأمثلة على ذلك وأوضحها هو ما فعلته وما تفعله في العراق وفي أفغانستان، وتباركه وتدعمه وتدافع عنه من أعمال إسرائيل بفلسطين من القتل والتدمير واحتلال الأراضي ومصادرتها والتشريد والقهر للإنسان الفلسطيني على مدى أكثر من خمسين عاماً خلت وحتى اليوم.
أما التاريخ كشاهد على تنامي كراهية أمريكا لدى الآخرين، وليس لدينا وحدنا فحدث ولا حرج، ابتداءً من حرب الاستقلال "كما يسمونها" والتي هي في حقيقتها حرب استئصال، ومحو لأهل البلاد الأصليين؛ حيث تعرض الهنود الحمر لعملية إبادة متوحشة يندى لها جبين الإنسانية جمعاء، ولا يمكن للتاريخ الأمريكي أن يتخلص من عارها.
يقول نعوم تشو مسكي في تواريخ الانشقاق، وهي حوارات أُجريت معه وطُبعت في كتاب ترجمه محمد نجار يقول: " الولايات المتحدة وُجدت وأُسست على دمار السكان الأصليين للبلاد. فقبل أن يكتشف كولومبس أمريكا، فقد قدر السكان الذين كانوا يعيشون شمال (ريوجراند) من (12-15) مليون نسمة إلا أنهم تقلصوا مع بداية هذا القرن -يعني القرن العشرين- إلى مائتي ألف نسمه فقط" وكتب جورج واشنطن في إحدى رسائله إلى المفوض للشؤون الهندية يقول: " إن طرد الهنود من أوطانهم بقوة السلاح لا يختلف عن طرد الوحوش المفترسة من غاباتها"، وسن الكونغرس عام 1830م قانون ترحيل الهنود بالقوة من شرق المسيسبي إلى غربه، فصار من حق كل مستوطن أن يطرد الهندي من بيته وأرضه، وأن يقتله إذا لم يستجب لصوت العقل"، وقد استخدم الأمريكيون لإبادة سكان البلاد الأصليين بالإضافة إلى القتل وهدم المدن والقرى استخدموا وسائل أكثر وحشية وحقداً؛ فقد قاموا بنشر وباء الجدري بين قبائل الهنود بوساطة التلويث المتعمد بجراثيم هذا الوباء للأغطية التي أُرسلت لهم، كما اعترف بذلك (وليم براد فور) حاكم ولاية بليموت الذي يرى أن نشر الجدري بين الهنود يدخل السرور والبهجة على قلب الله!! راجع كتاب الدكتور الحارثي. ولم يحصل بقايا هؤلاء الهنود الحمر على الجنسية الأمريكية إلا عام 1924م وفي عام 1976م فقط أقر الكونغرس للهنود الحمر بحق ممارسة دياناتهم الخاصة بهم.
وفي أواخر القرن التاسع عشر اجتاحت القوات الأمريكية الفلبين وارتكبت أبشع الفظائع هناك. يقول أحد أعضاء الكونغرس ضمن تقرير له على إثر زيارة قام بها للفلبين: " إن الجنود الأمريكيين قتلوا كل رجل وامرأة، وكل سجين وأسير، وكل مشتبه به ابتداءً من سن العاشرة، وهم أي الجنود الأمريكيون يعتقدون أن الفلبيني ليس أفضل كثيراً من كلبه وخصوصاً أن الأوامر الصادرة لهم من قائدهم فرانكين قالت لهم: " لا أريد أسرى، ولا أريد سجلات مكتوبة". والجنرال (جاكوب سميث) أمر بذبح (8249) طفلاً وَ (2714) امرأة، وَ (420) رجلاً في جزيرة ساما أيام الاحتلال الأمريكي للفلبين. راجع كتاب أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية والعدل.
وفي ألمانيا وبعد انهيار قوات الرايخ أسفر القصف الجوي العشوائي الأمريكي على المدنيين عن خمسمائة وسبعين ألف قتيل، وثمانمائة ألف جريح.(13/420)
وفي هيروشيما باليابان قُتل مئات الآلاف من المدنيين بالقنبلة النووية، وبعد ثلاثة أيام من ذلك الحدث أُلقيت على ناجازاكي قنبلة أخرى مماثلة، ولم يكن لفظاعة قنبلة هيروشيما وما نجم عنها من أهوال وفواجع، لم يكن لذلك رادع من ضمير عن تكرار ذلك العمل الرهيب؛ مما يعني الإصرار على القتل والتدمير، وبدم بارد كما يُقال، علماً بأن إمبراطور اليابان قد اقترح قبل ذلك أي قبل إلقاء القنابل الدخول في مفاوضات الاستسلام.
أما حرب فيتنام فقد بلغت ضحاياها أكثر من مليون نسمة، استخدمت لقتلهم كل الوسائل -بما في ذلك الأسلحة المحرمة- وقد كان الجنود الأمريكيون يقتلون كل ذي روح. يقول (روبرت كرش) وهو أحد المشاركين بمذبحة (ماي لاي) يقول: إنه تنفيذاً لأمر رئيسهم الذي قال لا أريد أسرى، أريد إحصاء للجثث، إننا كنا نعد كل من هو فوق الثانية عشرة مشروع جثة، وكانوا يحرقون القرى والبيوت والأكواخ بمن فيها من البشر، ويحرقون الشجر والجواميس وكل ماله روح. وقال (هيومانكه) رئيس قسم المتطوعين الدوليين أمام الكونغرس: " إننا سنحل مشكلتهم كما فعلنا مع الهنود"، ويعني بذلك الفيتناميين. كتاب الدكتور الحارثي.
هذه صور وملامح مختصرة مأخوذة من حاضر أمريكا، ومن تاريخها القريب والبعيد. من أراد الاستزادة فإن المكتبة العربية غنية بذلك. فأمريكا اليوم هي شاغلة الدنيا وشاغلة الصحافة والإذاعة المرئية والمسموعة، وشاغلة الكتَّاب والدارسين والمفكرين، غير أنها لا تملك أن تحمل الآخرين على حبّها وعلى القبول بها واتخاذها أنموذجاً يُحتذى متى كان هؤلاء الآخرون يرفلون بعافيتهم الروحية والأخلاقية والحضارية، ومتى كانوا كذلك يعرفون حاضر أمريكا وتاريخها.
إن من يسقي شجرة الكراهية هو من يسفك الدماء، وينتهك الأعراض، ويحتل البلاد، وينهب ثروات الشعوب، ثم هو بعد ذلك تعالياً واستكباراً يطالب ضحاياه بأن يحبوه ولا يكرهوه...!!
سليمان بن عبد العزيز العتيق
-----
الحرب الأمريكية الإرهابية و"العظمة العسكرية الاجرامية والوحشية "
حرّم الله قتل النفس بغير حق مشروع، وذهب إلى أبعد من ذلك فجعل قتل هذه النفس بغير حق مثل قتل الناس جميعًا، ولو كانت "نفسًا واحدةً"؟!
استحضرت هذا المعنى العظيم ونحن نسمع مرارًا وتكرارًا نبرة الرعب والتهديد التي تثيرها الولايات المتحدة في المنطقة، ورموز البنتاجون وهم يحركون القوّات، ويكثّفون الانتشار، ويستعرضون القوّة، ويوظّفون كل معطيات "العظمة العسكرية الأمريكية" التي يقول عنها بوش: إنها تعني استخدام الولايات المتحدة لجميع قواتها العسكرية في الحرب على "الإرهاب"!!
هذه "العظمة العسكرية" كم أزهقت من "الأنفس".. وكم دمرت .. وكم اهلكت ... ؟!
"العظمة العسكرية" لا تعني سحق الأنفس، ولا المبادأة بالظلم، ولا "تعميم" العقوبة.. وإذا تجاوزت هذه "العظمة" المدى، وبلغت المنتهى في المحاسبة والمعاقبة متى تشاء ومع من تريد.. عندئذ تُردّ على أعقابها خاسرة، وتقع عليها سنة الله في البغي والطغيان والبطش والاستكبار، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
د. محمد بن سعود البشر
نُخبٌ أشدُّ نكوصاً من إبليس!!
ما يشهده مسرح الأحداث في العالم الإسلامي اليوم هو مواجهة شاملة بين الأمة بعقيدتها وإيمانها، وبين الأجنبي المحتل بجنوده وفكره وثقافته.. هي امتداد للمسير المواجهي الطويل الذي بدأ في المدينة المنورة، وفصّلت مشاهده وحقائقه سورة (آل عمران)..
نراه اليوم يتكرر، باختلاف في الوسائل والأدوات، وثبات في الأهداف والغايات.
هذه المواجهة (العامة) يبذل فيها الأجنبي كل جهد، ومكر، ومكيدة، ليُلبس الحق بالباطل، ويبث الشكوك في المعتقد والثوابت.
إذا اضطُر إلى السلم والمهادنة وجه النهار، فإنه يكفر بذلك آخره، وإذا اضطُر أن يلوي لسانه بما ظاهره الخير (للإنسان) فإنه يضمر الشر والضرر، والقوس الواحدة التي يرمي بها الأجنبي وأعوانه هدفها الإصابة المتفق عليها.
هذه سنة الله في الصراع بين الحق والباطل ليستفيد منها المسلمون دروساً تتجدّد صورها وتبقى أصولها.
ومن الدروس المؤلمة صور للنخب التي كانت أشدّ علينا في هذه المواجهة العامة من إبليس يوم بدر، أعلن إبليس يوم بدر إجارته للعدو ونصرته إياه، فما لبث أن نكص على عقبيه، فخذله، وتركه يلاقي مصيره وحده (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ...)[لأنفال: من الآية48].
أما النخب المهزومة في مواجهة اليوم فلم تكتف بالذل والحياد المستلب للقيمة والهُوِيّة، وإنما استوت في صف العدو، واتخذته مؤيداً وظهيراً، وهُرِعت إليه زرافات ووحداناً، فهو نكوص وانحياز.. نكوص عن الأمة، وانحياز للعدو!!
كم هي المسافة شاسعة والمفارقة كبيرة بين هؤلاء وبين من قال الله تعالى عنهم:(13/421)
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173].
صور تتجدّد، وأصول تبقى، ليعلم الله والمؤمنون: مَن يتبع الرسول مِمّن ينقلب على عقبيه!!
د. محمد بن سعود البشر
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسمينة
هل لك ان تدلنا على مثال حكم الشورى الاسلامي من التاريخ المعاصر؟؟ ثم هلا تخبرنا ما هي شروط الحكم والحاكم في الاسلام ؟ وما هي صلاحيات الحاكم ؟ وهل هو فوق القانون ام تحت القانون ؟ وكيف ينتخب الحاكم وكيف يعيين الحاكم مجلس الشورى ؟ وكيف العمل وما الميكانيكية الاسلامية لعزل الحاكم اذا اخطأ او سرق او تجاوز صلاحياته ؟ ومن يحاسب الحاكم او مجلس الشورى وكم مدة الحكم للحاكم ؟؟ وفي حال مقتل الحاكم او اصابته بعاهه ما او حادث ما من الذي يقرر انه غير صالح للحكم؟ وهل يستطيع هذا الحاكم ان يقيل مجلس الشورى او احد اعضاءه؟ وهل هناك نائب للحاكم وماهي صلاحياته وكيف يعين ؟ وهل للحاكم ان يعين ذوي القربى والاصدقاء ام هو ملزم بتعين ذوي الخبرة والاختصاص؟ وارجوا تدلل على كل اجابة من اجاباتك بنص صريح ماخوذ من القرآن او السنة النبوية لنكون على بينه. وبعدها سنبدا بمسالة الشورى ومجلسها وتعياناتها و
قاتل الله الجهل والجاهلين .....
الاف الموسوعات الاسلامية كتبت في النظام السياسي الاسلامي منذ الماوردي والاحكام السلطانية , وابن القيم والسياسة الشرعية , وابن قتيبة الدينوري والامامة والسياسة , والخراج في الاسلام - نظام اقتصادي - لابي يوسف ............وووووووووو ......
وليس مثل الغرب الكافر وميكافيللي وكتابه الامير الذي هو مرجع كل ساسة الغرب منذ كتبه الى اليوم ..
تغزو فكرة الديمقراطية في وقتنا الحاضر العالم عبر النشاطات الإعلامية والثقافية سواء على مستوى الندوات أو المحاضرات أو اللقاءات المرئية أو صفحات الجرائد وغيرها، أو عبر الحملات العسكرية لغزو البلدان العربية والإسلامية لنشر (الديمقراطية!؟) في هذه البلاد وقمع الأنظمة (الديكتاتورية). وصار مفهوم الفكرة (الديمقراطية) مرادفاً (للحرية).
ولا ينتبه الكثيرون من الناس أن الحرية قد تكون أكثر شمولاً أو أقل اتساعاً من الديمقراطية، وأن لكل مفهوماً خاصاً ربما يتقاطع مع الآخر ولا يلتقي معه بالضرورة. وربما أن هذا الأمر هو الذي قاد بعض المفكرين والباحثين المسلمين إلى القول بأن الإسلام (ديمقراطي) وأن القيم الديمقراطية قيم إسلامية يجب الدفاع عنها، وبدلاً من أن يركزوا على البحث في مجال الحريات في الإسلام، انطلقوا يتحدثون عن الحداثة الإسلامية في ثوب ديمقراطي.
* إذن ما المقصود بالديمقراطية:
لقد عرفت الديمقراطية لغوياً أنها حكم الشعب.
وقد نشأ هذا المفهوم في أثينا في الثقافة اليونانية القديمة ثم تجسدت هذه الفكرة في العصور اللاحقة في الفكر السياسي الغربي واتخذت نشاطاً من أجل الديمقراطية بين الحكام والمحكومين بلغ أوجه خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر عندما استطاع البريطانيون من الحد من صلاحيات الملك بعد ثورتي 1649 و 1688.
وكان ل (جون لوك) دور بارز في الدعوة للديمقراطية بالمفهوم الغربي والذي عرفها بأنها (حق الأكثرية التي اكتسبت سلطة الجماعة بالاتحاد في استخدام تلك السلطة لتشريع القوانين وتنفيذها بواسطة موظفين عينوا لذلك).
أما الولايات المتحدة فلم تعرف النظام الديمقراطي إلا بعد الاستقلال (1776) رغم أن الديمقراطية الأمريكية بقيت مشوهة إلى اليوم حيث لا يحق مثلاً الترشيح للرئاسة إلا لفئة معينة من الشعب كالبروتستانت أو البيض أو الانكلوسكسون، كما أن الثروة المالية للمرشح مقدمة على أن نوع من الكفاءات الأخرى.
أما في فرنسا فقد انفجرت الثورة سنة 1789 معلنة حقوق الإنسان والمواطن، حيث عرف جان جاك روسو الديمقراطية بما يلي:"يستطيع صاحب السيادة في المقام الأول أن يعهد بأمانة الحكم إلى الشعب كله أو إلى الجزء الأكثر منه بحيث يكون هناك من المواطنين الحكام أكثر من المواطنين الأفراد ويطلق على هذا الشكل من الحكومة اسم ديمقراطية". أما (مونتسكيو) ففي معرض تقسيمه للحكومات اعتبر الحكم الديمقراطي شكلاً من أشكال الحكم الجمهوري. فالديمقراطية في راية تحكم على أساس الفضيلة السياسية وتعني حب الدولة وحب المساواة، وفي ظل النظام الديمقراطي فإن المواطنين يختارون وفقاً لبمدأ المساواة وإمكانياتهم وقدراتهم، والسلطة التشريعية يجب أن تكون بين الأفراد كما أن التصويت يجب أن يكون عاماً.(13/422)
إذن، فالديمقراطية بالمعنى اللغوي (حكم الشعب): هي قاعدة لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع في حال من الأحوال، وهو الأمر الذي يؤكده (روسو) حيث يقول (وإذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبداً ولن توجد أبداً فيما يخالف النظام الطبيعية أن يحكم العدد الأكبر وأن يكون العدد الأصغر هو المحكوم ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعاً على الدوام للنظر في الشؤون العامة ونستطيع أن نرى بسهولة أنه لا يمكن إقامة لجان من أجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة.
أما المفهوم الاصطلاحي للديمقراطية فقد أصبح يشمل معان أخرى أضيفت إليه كإعطاء الحرية للناس في تشريع القانون واختيار من ينفذه من خلال الانتخابات العامة التي تكفل المساواة للأفراد في المشاركة في الحياة السياسية حيث يكون الرأي للأغلبية.
إذن فالديمقراطية تعتبر منهجاً في الحكم يرمي إلى وضع حد لثنائية الحاكم والمحكوم التي سادت تاريخ أوروبا القديم والوسيط، واقترنت بانتشار الحكم الفردي وسيطرة الكنيسة وغياب القانون.ويهدف هذا المنهج إلى استبدال هذا الوضع القديم بآخر جديد هو وضع الدولة الحديثة التي يحكمها القانون باعتبارها معبرّاً عن إرادة الشعب وملزماً للرئيس والمرؤوس معا.
ولبلوغ هذا الهدف يعتمد المنهج الديمقراطي على جملة من المبادئ الأساسية التي تتولد عنها آليات وأجهزة دستورية تختلف صيغتها التفصيلية من نظام إلى آخر، ويمكن إجمالها فيما يلي:
1. الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطات والشرعية.
2. انبثاق السلطات بواسطة الانتخابات
3. الإقرار للأغلبية بأن تحكم وللأقلية بأن تعارض
4. التعددية الحزبية
5. التداول السلمي على السلطة
6. مراقبة الحكام وممارسة التأثير عليهم
7. فصل السلطات
8. ضمان حريات المعتقد والتعبير والعمل النقابي
9. حفظ مصالح الضعفاء والأقليات
10.احترام حقوق الإنسان
مقارنة عامة لبعض المفاهيم بين الديمقراطية والإسلام
مصدر التشريع
يمتاز نظام الحكم في الإسلام بخصائص أهمها:
1- الحاكمية لله
2- السيادة للأمة
3- الدولة الإسلامية واحدة في المبادئ، متعددة في الأشكال حسب الزمان والمكان.
الحاكمية لله؛ تعني أن مصدر التشريع هو الله سبحانه وتعالى وحده وأن الرسو صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تعالى بالوحي.
الحاكم منفذ لأحكام الله تعالى في الأمة مجتهد في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأساسية.
طاعة الحاكم واجبة ما لم يخالف نصاً صريحاً.
قال تعالى: ( أيا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)
وقال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).
وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك).
قال تعالى( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)
أما النظام الديمقراطي، فإن حق التشريع للشعب، فالدستور وسائر القوانين هي من صنع البشر ويمثل على أفضل تقدير وفي لحظات مثالية تحكم الأكثرية بالأقلية.وشتان بين نظام وضعه خالق الإنسان والعالم بخفايا نفسه والقادر على وضع ما يصلها من القوانين التي توصل الإنسان إلى سعادته الحقيقية وبين نظام يستمد من الإنسان الذي هو في أفضل حالات نزاهته وتجرده عن اللذات عرضة للخطأ الذي يذهب ضحيته البشر.
اختيار الحاكم:
- حق اختيار الحاكم هو للأمة بواسطة أهل الحل والعقد، فالحكم بالإسلام هو عقد عن تراض بين الأمة والحاكم.
- البيعة تعني الطاعة والقبول
- الحاكم مقيد بتبني الأحكام الشرعية المستنبطة استنباطاً صحيحاً من الأدلة الشرعية ومقيد بالحلال والحرام.
- لا يخرج على الحاكم أو يعزل إلا إذا أظهر كفراً بواحاً.
عن عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول ا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المكره والمنشط، فبايعناه، فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان).
الشورى
الشورى ضرورة إنسانية في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلاقات الفردية.
قال عليه الصلاة والسلام (إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه)
وهي في النظام السياسي في الإسلام من لوازم الإيمان بالله تعالى.
قال تعالى ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون).
النظام السياسي في الإسلام نظام شوري يرفض جميع أشكال الحكم الاستبدادي وكل الأنظمة السياسية الغوغائية والفوضوية.
قال تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين).(13/423)
الحاكم يمارس تنفيذ هذا النظام من خلال الوقوف على رأي فئة من الأمة تتصف بالذكاء والحنكة والتجربة والإخلاص للنظام والأمة، وهذه الفئة تمثل الأمة تمثيلاً حقيقياً بجميع قطاعاتها وتحاسب الحاكم محاسبة من شأنها تسديد مسيرته ودعمه في اتجاهاته الخيرة وتعينه على اتخاذ القرارات المهمة والحسم في المواقف التي تواجهه.
لما سار رسول الله إلى بدر خرج فاستشار الناس فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه ثم استشارهم فأشار عليه عمر عنه فسكت فقال رجل من الأنصار إنما يريدكم، فقالوا يا رسول الله، "والله لا نكون كما قالت بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)، ولكن والله لو ضربت أكباد الإبل، حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك".
المرأة
لقد وزع الإسلام الاختصاصات العملية توزيعاً يوافق طبائع الذكورة والأنوثة.
كفل الإسلام للمرأة حقوقاً عديدة في المجالات السياسية، فقد أقر لها حق المشاركة السياسية من حيث إبداء الرأي، وأن الآية الكريمة (وأمرهم شورى بينهم) لم تخص الرجال دون النساء.
وقد شاركت أم سلمة في صلح الحديبة وهي التي أشارت على صلى الله عليه وسلم بأن يحلق رأسه.
كما عارضت أسماء بنت أبي بكر بيعة بأنها عبد الله بن الزبير للأمويين.
منح الإسلام للمرأة حق التعبير عن الرأي أسوة بالرجال.
فقد خطب عمر رضي الله فقال: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول ا صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقالت إليه امرأة فقالت: يا عمر يعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه وتعالى يقول (وآتيتم إحداهم قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً)، فقال عمر، أصابت امرأة وأخطأ عمر، وفي رواية فاطرق عمر ثم قال كل الناس افقه منك يا عمر، وفي رواية أخرى امرأة أصابت ورجل أخطأ وترك الإنكار.
ساوى الإسلام بين الذكور والإناث في حق التعليم والثقافة
فسح الإسلام أمام المرأة مجال العمل وراعى تركيبة المرأة البيولوجية وأنوثتها.
( قل ابالله واياته ورسوله كنتم تستهزئون )
===============
مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي
محمد بن شاكر الشريف
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده الرسول الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . أما بعد:
«فليس دين زال سلطانه إلا بُدِّلت أحكامه، وطُمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر في وهيه ـ ضعفه ـ أثر»[1]. كلمة حكيمة من عالم خبير، لها ما يصدِّقها من شواهد التاريخ البعيد والقريب على السواء، وهي من جهة أخرى تبين الترابط الوثيق بين حفظ الدين وبين السلطان ـ النظام السياسي ـ؛ إذ السلطان حارس، وما لا حارس له فهو ضائع، أو يوشك أن يضيع.
في أواخر النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وأواخر الربع الأول من القرن العشرين الميلادي، نشبت معركة فكرية كبرى، تزعمها أحد الشيوخ[2]، أنكر فيها أن تكون هناك علاقة بين الإسلام والسياسة أو الحكم، أو أن الدين يتدخل في إدارة الحياة، ورأى أن الدين مسألة روحية فقط، وهو علاقة بين الإنسان وربِّه ولا يتعدى هذا الإطار، وعلى إثر ذلك انتفض العالم الإسلامي، وقام علماؤه يردُّون على الشيخ ويبينون زيف رأيه وضلاله [3]، وقد بيَّن أهل العلم فيما كتبوه علاقة الإسلام بالحكم، وأنه يشمل بنظره أمري الدنيا والآخرة.
وقد قيَّض الله لجهود هؤلاء العلماء النجاح، فإنها تمثل الحق الذي جاءت به نصوص الشريعة، وقد تمثلت مظاهر النجاح في عدة أمور:
1 ـ عُقدت محاكمة في الأزهر من قِبَل هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل شيخ الجامع الأزهر، وعضوية أربعة وعشرين عالماً من كبار العلماء، وبحضور علي عبد الرازق نفسه، وقد تمت مواجهته بما هو منسوب إليه في كتابه، واستمعت المحكمة لدفاعه عن نفسه، ثم خلصت الهيئة إلى الحكم التالي: «حكمنا ـ نحن شيخ الأزهر ـ بإجماع أربعة وعشرين عالماً معنا من هيئة كبار العلماء: بإخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من زمرة العلماء»[4]، كما حكم مجلس تأديب القضاة الشرعيين بوزارة الحقانية (العدل) بالإجماع بفصله من القضاء الشرعي[5].
2 ـ ضَعُفَ هذا الصوت النشاز بدرجة كبيرة، وانكسر الشيخ حتى إنه رفض إعادة طبع الكتاب مرة أخرى حينما عرض عليه ذلك، وهو الذي كان وعد في كتابه بمواصلة البحث في الموضوع.
وهناك من يزعم ـ من محبي الشيخ ـ أنه قد تراجع قبل وفاته عما تضمنه كتابه السابق، فإن كان هذا التراجع صحيحاً؛ فلله الحمد على ذلك، وإن كان غير صحيح فهو على الأقل يدل على عدم اقتناع محبيه بما ذهب إليه.
3 ـ اضطرار بعض مَنْ ناصر الشيخ في رأيه السابق؛ لأن يعلن تراجعه عن رأيه في أن الإسلام رسالة روحية فقط، والإ قرار بأن الإسلام يرعى الدين والدولة مع[6].(13/424)
4 ـ اضطرار كثير من أصحاب ذلك التصور إلى عدم الإفصاح الصريح عن تصوراتهم، والتخفي وراء بعض العبارات الإسلامية، بل إظهار أنفسهم بأنهم في الصف المعادي للعلمانية، وأنهم من المؤيدين للمقولة المشهورة: «إن الإسلام دين ودولة»، والاكتفاء في ترويج مذاهبهم بالدس في العبارات، وإن كانت حقيقة مواقفهم لا تخفى على الناقد البصير.
وإذا كان الاتجاه العلماني ـ الذي يقوم على فصل الدنيا عن الدين، ومنع قيومية الدين على الحياة ـ قد هُزم في مجال الأفكار والتصورات وبناء النظريات؛ فإن هذا لم يمنع أن يكون هو المتغلب حقيقة على الواقع السياسي في الأغلب الأعم من ديار المسلمين، فقد ألغيت الخلافة منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن، وتفككت أوصال دولها، وصارت تركيا ـ مركز دولة الخلافة ـ دولة قومية علمانية، تنص على ذلك في دستورها، وتحمي علمانيتها بالحديد والنار.
وكذلك فإن الكيانات السياسية التي نشأت على أنقاض الخلافة المهدَّمة؛ هي أيضاً من حيث الواقع والممارسة دول علمانية، وإنْ نصَّ بعضها في دستور البلاد على بعض الألفاظ التي قد توهم خلاف ذلك؛ مثل «مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع» أو «المصدر الرئيس» أو نحو من ذلك، فإنك لا تكاد تجد غير تلك العبارة في أي من مواد الدستور مما يثبت صلته ونسبه للإسلام، بل تجد فيه ما ينص على أن الدولة ديمقراطية، أو قومية، أو اشتراكية، ونحو ذلك من تلك الأمور.
وإذ توقفت المعركة الفكرية عند حد هزيمة الفكر العلماني في نفيه لعلاقة الإسلام بالحكم والسياسة، وقبول غالبية هذا الاتجاه بتلك النتيجة ولو ظاهرياً على الأقل (وإن كان يحاول تطويقها والالتفاف عليها من خلال دروب ومسالك متعرجة)؛ فإننا لسنا بحاجة في هذه الدراسة الموجزة للتدليل على فساد النظرية العلمانية في علاقة الدين بالسياسة[7]، ويكفينا الحديث عن النظام السياسي الإسلامي نفسه، فنعرّفه، ونبيّن شكله وحدوده، وإدارته للدولة، وأهم خصائصه، ولا شك أن الحديث عن تفاصيل النظام السياسي الإسلامي؛ يحمل في طياته رداً بليغاً على أصحاب النظرية العلمانية في علاقة الإسلام بالحكم والسياسة.
منهج البحث:
النظام السياسي في الإسلام هو نظام أقامته الشريعة، وطبَّقه المسلمون في واقعهم، وقد جرى البحث على أن تتناول موضوعاته طبقاً للمصطلحات الإسلامية نفسها ولطريقة أهل العلم في عرضها في مصنفاتهم، وإذا لاحظنا غياب النظام الإسلامي الحقيقي لأعصر خلت من كثير من دول المسلمين، مما ترتب عليه غربة المصطلحات المستعملة في هذا الشأن؛ فقد يكون من الأوفق ـ مع التزامنا بالمنهج المتقدم ـ أن نقرِّب هذه المصطلحات بلغة العصر، كما نعقد بعض الموازنات بين ما عندنا من الحق وما عند غيرنا من الباطل لتقريب الصورة وتوضيحها؛ مما قد يترتب عليه استعمال بعض المصطلحات من تلك المنظومة السياسية المغايرة.
خطة البحث:
وقد جاء البحث في مقدمة وتمهيد وقسمين.
أما المقدمة: فهي التي بين أيدينا.
وأما التمهيد: فيشمل مبحثين: الأول في تعريف النظام السياسي الإسلامي، والثاني عن التنظيمات الإدارية في النظام السياسي الإسلامي.
وأما القسم الأول: فهو عن أحكام الخلافة وما يتعلق بها.
وأما القسم الثاني: فنتناول فيه بعض المسائل المتعلقة بإدارة الدولة.
وأما الخاتمة: فنتناول فيها مستقبل النظام السياسي الإسلامي في عالمنا المعاصر.
وهذا أوان الشروع في المقصود، نسأل الله من فضله التوفيق والسداد والعون على تحصيله.
--------------------- [1] - أدب الدنيا والدين، للماوردي، (ص 115).
[2] - هو الشيخ علي عبد الرازق، أحد علماء الأزهر الشريف، والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة، حيث كتب في ذلك الوقت كتاباً باسم (الإسلام وأصول الحكم)، وقد طبع عام (1344هـ/1925م).
[3] - وممن رد عليه الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، والشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر، والأستاذ أمين الرافعي. وقد أفتى بردته كلٌّ من الشيخ محمد شاكر، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية، والشيخ محمد رشيد رضا، وقد ألَّف العلماء كتباً في الرد عليه، منهم الشيخ محمد الخضر حسين ـ الذي صار فيما بعد شيخاً للأزهر ـ، والشيخ محمد بخيت، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ولم تنقطع الكتب في الرد عليه، انظر: الإسلام والخلافة في العصر الحديث، د/ محمد ضياء الدين الريس، (ص 135)، تحطيم الصنم العلماني، محمد بن شاكر الشريف، (ص 14 ـ 15).
[4] - حكم هيئة كبار العلماء، (ص 32).
[5] - انظر: المرجع السابق، ( ص 40).
[6] - كان الشيخ خالد محمد خالد ـ أحد خريجي الأزهر، والذي خلع الزي الأزهري ولبس «البدلة» ـ ناصر الشيخ علي عبد الرازق بكتابه (من هنا نبدأ)، وقد طبع الكتاب عام 1950م، ثم تراجع بعد ربع قرن من الزمن مع اشتداد عود الصحوة الإسلامية، وأصدر كتاباً يُقرر فيه أن الإسلام دين ودولة.(13/425)
[7] - يمكن مراجعة عدة كتب في ذلك؛ منها: (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) للشيخ محمد الخضر حسين، و(حقيقة الإسلام وأصول الحكم ) للشيخ محمد بخيت المطيعي، وكتاب (نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم) للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وكتاب (حكم هيئة كبار العلماء في كتاب الإسلام وأصول الحكم)، و(الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) د/محمد البهي، و(اتجاهات وطنية في الأدب) د/ محمد محمد حسين، و(الإسلام والخلافة في العصر الحديث) د/ محمد ضياء الدين الريس.
==============(13/426)
(13/427)
لقاء علمى فى ملتقى اهل التفسير
مع الدكتور احمد الطعان حول العلمانية
انقل لكم المشاركات المطروحة فى ملتقى اهل التفسير للقاء الدائر مع الدكتور احمد ادريس الطعان ويديرها الاخ رحيم
الكاتب : عبد الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
قريباً بإذن الله تعالى.. سيتم اللقاء العلمي مع الدكتور أحمد إدريس الطعان الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة دمشق ، وهذا هو اللقاء العلمي الخامس الذي يجري في شبكة التفسير والدراسات القرآنية ، بعد اللقاءات الأربعة السابقة .
وسيكون الحوار كما يأتي :
بعد التعريف بالدكتور وأطروحته للدكتوراه سيتم الدخول مباشرة في محاور اللقاء وهي :
* مدخل: العَلمانية :المفهوم والخصائص.
أ- تدرج معنى المفهوم بحسب العصور والمجتمعات:
1. فصل الدين عن الدولة.
2. فصل الدين عن الحياة.
3. إنكار الغيبيات.
4. تنحية الأسئلة الكبرى.
5. أنسنة الإله وتأليه الإنسان.
6. الدنيوية.
ب- علاقة العَلمانية بـ:
1. العِلمانية.
2. اللائكية.
3. العَلمانوية.
4. السلام.
5. الديمقراطية.
6. العولمة.
7. العقل.
* المحور الأول: أسلمة العلمانية (هل يمكن التوفيق بين الإسلام والعَلمانية ؟ ولماذا ؟)
- إجاية العَلمانيين.
- تعقيب.
* المحور الثاني: مصدر القرآن الكريم .
- نظرة العَلمانيين إلى مفهوم الوحي.
- تعقيب.
* المحور الثالث: التأويل .
- العَلمانيين والتأويل.
- تعقيب.
* المحور الرابع: حتمية العَلمانية (طوفان العَلمانية - هل سيكتسح المجتمع الإسلامي ؟ متى ؟ وكيف ؟)
- إجابة العَلمانيين.
- تعقيب.
* المحور الخامس: مصطلحات الفكر العَلماني: (تعريفها وبيان خطر تطبيقها).
مدخل أول: حرص العلمانيين على زخرفة اللفظ (التفيهُق).
مدخل ثاني: علم اللسانيات.
1. البنيوية.
2. التفكيكية.
3. الهرمينوطيقا.
4. الأنسنة.
5. المركَسة.
6. الأرخنة.
( مصطلحات أخرى يطلب الإخوة التعريف بها).
أرجو من الإخوة التكرم بالمشاركة بمقترحاتهم وأسئلتهم أو إضافة محاور جديدة..
__________________
لا يوجد أحد غير الملاحدة قد سخر هذا الكم الهائل من الفكر لتحويل البشر إلى حيوانات... فبعد التمعن فى ما كتبوه ومعرفة ما يريدونه للبشرية لم يبق لنا سوى انتظار المشى على اربعة !
روابط هامة :
فهرس مواضيع الرد على الملحدين والعلمانين ... فهرس قسم الحوار حول الإسلام
مجموعة من الكتب لاغنى عنها للرد على الملحدين والعلمانيين ... الدليل الجامع للرد علي الشبهات والاباطيل
أيها الموحدون .... انتبهوا إلى ألاعيب الملحدين !
الكاتب : عبدالرحمن الشهري
نرحب بالدكتور الكريم أحمد إدريس الطعان في ملتقى أهل التفسير ضيفاً كريماً ، ومشاركاً فيما يدور في هذا الملتقى العلمي من حوارات ونقاشات علمية . ونسأل الله أن يبارك في جهوده العلمية في الدفاع عن القرآن الكريم ، وكشف الشبهات التي تثار بين الحين والآخر ضده. ونرجو أن يوفق الدكتور أحمد الطعان في أجوبته في هذا اللقاء العلمي المتجدد. كما أشكر أخي الكريم الأستاذ عبدالرحيم الشريف على تبنيه إدارة هذا الحوار لصلته بالضيف الكريم ، وبموضوع اللقاء العلمي ، وآمل أن ينير هذا اللقاء العلمي جوانب كثيرة تخفى على كثير من المتخصصين في الدراسات القرآنية من الشبهات المتجددة التي تثار حول كتاب الله الكريم ، والتي تمس الحاجة إلى معرفتها ، وكيفية التعامل معها ، والرد عليها رداً علمياً.
------------------------------------------------------------
الكاتب : ابو بيان
مرحبا بالدكتور الطعان في الملتقى, وشكر الله له تعاونه ومشاركته, ونسأل الله أن يوفقه ويفتح عليه. والشكر موصول لأخينا الأستاذ عبد الرحيم على ما يقدمه من فوائد للملتقى, والتي ليس من آخرها هذا اللقاء إن شاء الله.
------------------------------------------------------------
الكاتب : احمد الطعان
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكركم إخوتي الأكارم جميعاً على حسن استقبالكم وبارك الله فيكم ...
وأسأل الله عز وجل أن يوفقني لبيان الحق وكشف الزيف ...
ولي طلب واحد هو أن يتاح لي من الوقت ما يكفي لتنسيق مشاركاتي وعرضها عليكم وجزاكم الله خيراً .. وأنا الآن إن شاء الله عز وجل جاهز للبدء إذا رغبتم ...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
------------------------------------------------------------
الكاتب : أحمد البريدى
نرحب بالدكتور أحمد ونسأل الله له السداد , ونؤمل فيكم كثيراً في ملتقى التفسير عموماً , وفي ملتقى الانتصار للقرآن خصوصاً إن كتب الله له الافتتاح .
------------------------------------------------------------
الكاتب : الجندى
مقالات الدكتور أحمد الطعان
http://www.eltwhed.com/vb/fo r umdisplay.php?f=36
------------------------------------------------------------
الكاتب : الخطيب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرحباً بالأخ الحبيب د.أحمد الطعان ، وبمدير الحوار الأخ الحبيب الأستاذ عبد الرحيم الشريف.(13/428)
أثق بأن حواراً يديره الأخ عبد الرحيم ، ويكون فارسه الأخ د.أحمد الطعان سوف يكون مفيداً بعون الله. فالأخ د.أحمد الطعان باحثٌ جيد جداً ، له خبرته وباعه في مناقشة الخطاب العلماني . أرحب بالأخوين الكريمين ، ولي بعون الله عودة.
------------------------------------------------------------
الكاتب : احمد الطعان
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الفاضل وأستاذي الخطيب بارك الله فيك وأكرمك الله لقد طال البعد بيننا أرجو أن نلتقي قريباً على الأقل في المراسلة والخاص ..
والسلام عليكم ورحمة الله
------------------------------------------------------------
الكاتب : د. عيسى الدريبي
نكررالترحيب بضيف الملتقى د/أحمدالطعان في هذا الموضوع الهام ومن كاتب متخصص فيه ، اذأن سببا رئيسا من اهم اسباب هجمة العلمانيين على هذا الدين هي موقفهم من القران وطريقة تعاملهم معه كنص إلهي، أوكنص من النصوص، كما يرى بعض كتابهم
واقترح على اخي الدكتور عبدالرحمن الشهري - اثراء للموضوع -التنسيق مع الدكتور سعيدبن ناصر الغامدي الاستاذ بجامعة الملك خالدللمداخلة في هذا الموضوع فهو راصد لكتابات العلمانيين ومهتم بهذا الموضوع من الناحية العقدية
------------------------------------------------------------
الكاتب : احمد البريدى
معنا في الملتقى أحد الأخوات لها عناية بهذا الموضوع وهي الأخت منى محمد بهي الدين , وعنوان رسالتها : التيار العلماني الحديث وموقفه من التفسير, نوقشت في جامعة الأزهر , فليتها تطرح ما تراه .
------------------------------------------------------------
الكاتب : مرهف
هلا شرحت لنا فضيلة الدكتور أحمد الطعان مدى العلاقة بين العلمانية والاستشراق منذ النشأة الاستشراقية والعلمانية إلى وقتنا الحالي وذلك من جهات التوافق والافتراق والمؤسسات الراعية والممولة إن أمكن ،فإن الدارس يلحظ توافقاً إن لم نقل تطابقاً بين ما تطرحه العلمانية ضد الإسلام وما يزعمه الاستشراق على الإسلام ،أم أن هذا الربط بين العلمانية والاستشراق غير سليم ، لأن البون شاسع بين المبدأين ، فالاستشراق ذو مبدأ ديني صليبي ، والعلمانية تفصل بين الدين والدنيا ولا تقبل الدين أصلاً وإن اتفقا في الغاية وبعض الأفكار,أرجوا التوضيح مع فائق احترامي مع بعض الأمثلة على التوافق .
إن كلاً من العلمانية والاستشراق يحثان على التعامل مع النص القرآني على أساس أدبي لا على أنه نص إلهي .
إن كلاً من العلمانية والاستشراق يطرحان فكرة أن الإسلام هو خليط النصرانية واليهودية
__________________
لا يوجد أحد غير الملاحدة قد سخر هذا الكم الهائل من الفكر لتحويل البشر إلى حيوانات... فبعد التمعن فى ما كتبوه ومعرفة ما يريدونه للبشرية لم يبق لنا سوى انتظار المشى على اربعة !
روابط هامة :
فهرس مواضيع الرد على الملحدين والعلمانين ... فهرس قسم الحوار حول الإسلام
مجموعة من الكتب لاغنى عنها للرد على الملحدين والعلمانيين ... الدليل الجامع للرد علي الشبهات والاباطيل
أيها الموحدون .... انتبهوا إلى ألاعيب الملحدين !
الكاتب : احمد الطعان
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ الفاضل مرهف بارك الله فيك :
العلمانية هي البيضة التي باضها الاستشراق في عالمنا العربي والإسلامي وأفقست بعده بعقود من الزمن، والواقع أن الاستعمار والتبشير والاستشراق // أجنحة المكر الثلاثة // هي التي مهدت الأرضية الثقافية والبيئة المناسبة لتقبل بعض العقول للعلمانية .
ولا يمكن الفصل بين هذه الأجنحة الثلاثة إلا على مستوى التنظير ، وقد تحالفت العلمانية بعد أن استوت على سوقها مع آبائها وكانت وفيَّة لهم فترجمت ثقافتهم وبررت استعمارهم وتقبلت حضارتهم دون تمييز ويكفي أن نتذكر هنا جهود سلامة موسى في توطئة الأرض للإنكليز وطه حسين وعلاقاته مع عدد من المستشرقين ثم علي عبد الرازق الذي أصدر كتابه الإسلام وأصول الحكم في الوقت الذي تكاتفت فيه أوربا لإسقاط الخلافة في تركيا .
كما أن أكثر الأفكار التي طرحها الاستشراق رددها العلمانيون فيما بعد ولا يزالون فقد تبنى طه حسين فكرة مرجليوث حول الانتحال في قضية الشعر ، وإنكار وجود سيدنا إبراهيم عليه السلام .
وهنا يمكن مراجعة هذا الموضوع :
http://www.eltwhed.com/vb/showth r ead.php?t=2649
وإذا تأملنا سوف نجد أن العلمانية تسربت إلى بلادنا العربية عبر نافذتين أساسيتين هما : لبنان ومصر ، وتأتي تونس في المرحلة الثانية لهاتين ، فقد كان اهتمام الدول الغربية بالأقليات المسيحية في لبنان وسوريا تحركه طائفة من الأطماع والغايات ، وقد احتضنت العديد من الجامعات والمدارس في إيطاليا وفرنسا طلبة مشرقيين مسيحيين ووجدت صلات وروابط قوية بين الكنيسة الكاثوليكية الغربية ، والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية رغم الاختلاف بينهما ، ويعود تاريخ الإرساليات التبشيرية الأجنبية إلى الشام إلى مطلع القرن السابع عشر ، وكان اليسوعيون أنشط هذه الجمعيات وتعود صلتهم بالشام إلى سنة 1625 م .(13/429)
وقبل ذلك كانت العلاقة بين الأمير فخر الدين الثاني 1572 - 1632 حاكم لبنان والبابا غريغواريوس الثالث عشر 1585 - 1605م متينة ، وقد فتح هذا الأمير أمام الطلبة اللبنانبيين باب الذهاب إلى روما للدراسة فيها ، ومنحهم أرضاً ومساكن ثم أنشأ لهم مدرسة خاصة عام 1584م أسماها المدرسة المارونية ، وتعاطف كثيراً مع الإرساليات الأوربية ، وبسط يد الحماية في بلاد الشام حتى صار الأوربيون يدعونه " حامي النصارى في الشرق " .
ومن هؤلاء الطلبة " إبراهيم الحاقلاني 1605 - 1664م والمطران جرمانوس فرحات 1670 - 1732م ويوسف السمعاني 1687 - 1778 م وقد آلت السلطة بعد ذلك في لبنان إلى البطارقة والأساقفة المنتمين إلى الطوائف الدينية المتنوعة ، وكان هؤلاء الطلبة على حظ كبير من المعرفة والاطلاع على علوم الغرب ، وكانوا ثمرة الإرساليات الآتية من أوربا وفرنسا خصوصاً ثم من أمريكا ، ثم أصبحوا بعد ذلك في نظر القوميين والعلمانيين العرب أركان النهضة وطلائع التنوير .
ولم يمض وقت طويل حتى انتشرت المطابع ، ونقلت البعثة التبشيرية الأمريكية مطبعتها من مالطا إلى بيروت . وهنا يجب أن لا يغيب عن بالنا الصلة الوثيقة الملاحظة بين العلمانية والتبشير من جهة ، وبين العلمانية والمسيحيين الذين حملوا لواء الدعوة إلى القومية فيما بعد من جهة ثانية .
لقد أنشأ بطرس البستاني 1819 - 1883 م المدرسة الوطنية في بيروت سنة 1863 م ثم أصبح النصف الثاني من القرن التاسع عشر مسرحاً للتنافس الشديد في إنشاء المدارس فكانت مدرسة عينطورة ومدرسة القديس يوسف ، والمدرسة الوطنية والمدرسة السورية الإنجيلية ومدارس الجمعية الأهلية كالمدرسة البطريركية ، ومدرسة الأقمار ، ومدرسة الحكمة ، ومدرسة كفتين التي تخرج منها فرح أنطون .
وكانت الجامعة الأمريكية البروتستانتية التي أُسست في بيروت سنة 1866م وتأيدت بمطبعة أحد المراكز الرئيسة في الشرق والتي كان هدفها الأساسي هو بعث الأفكار التنصيرية ، وإشاعة الثقافة الغربية في الوسط المسيحي أولاً ، والإسلامي ثانياً .
وكان الرهط الأول من العلمانيين قد تخرجوا منها ومن هؤلاء شبلي شميل ثم يعقوب صروف ، وفارس نمر ، ثم جرجي زيدان صاحب مجلة الهلال .
بيد أن المنافسة كانت شديدة بين الجامعة الأمريكية البروتستانتية والإرساليات الفرنسية الكاثوليكية التي تسعى لصيانة أبناء ملتهم الكاثوليك من الأضاليل البروتستانتية ، وقد انتشرت مدارس هؤلاء في بيروت وصيدا، وأسسوا الكلية الكاثوليكية على غرار الجامعة الأمريكية سنة 1875م وتبنت فرنسا هذا المشروع في إطار الصراع على النفوذ بينها وبين أمريكا في لبنان .
ولكن يبدو أن الطائفية الشديدة المنتشرة في بيروت ولبنان بشكل عام ، والتي تتميز بنوع من العنصرية المتحكمة ، والعدوانية المتجذرة لم تساعد الغرب الأمريكي أو الأوربي على إمداد رجالاته ورموزه الذين زرعهم في لبنان بالوسائل المرادة لتحصيل أغراضه في العلمنة ، والتبشير والسيطرة ، وكانت فتنة الستين الرهيبة في لبنان والتي وقعت سنة 1860 م تمخضت عن مجزرة رهيبة في صفوف اللبنانيين ، واستهدفت البعثات التبشيرية الكاثوليكية وخصوصاً اليسوعية التي كانت أكثر الطوائف نشاطاً في ممارسة التنصير .
كانت هذه المجزرة دافعاً قوياً للتلاميذ " المدللين " إلى الهجرة من لبنان إلى مصر ، وخلافاً لما يؤكده بعض الباحثين من أن هجرة هؤلاء المفكرين كانت لأسباب وعوامل سياسية واجتماعية وثقافية وبحثاً عن الحرية ، فإني لا أستبعد أن تكون هذه الهجرة نتيجة لمؤامرة دبرت، وخطة رسمت في الأروقة الغربية ، وأوعز بتنفيذها إلى هؤلاء المتغربين ، ومن ثم نقلوا نشاطهم من لبنان إلى مصر .
وكان من هؤلاء المهاجرين فرنسيس مراش بين عامي 1867 - 1873 م وخليل سعادة، ونجيب حداد بين عامي 1867 - 1899 م وشبلي شميل هاجر إلى الإسكندرية سنة 1886م وفرح أنطون هاجر سنة 1897 م واستقر في مصر أيضاً كل من يعقوب صروف ، ونقولا حداد، وفارس نمر .
وأما في مصر :
فقد كانت حملة نابليون التي بدأت سنة 1798 م 1213 هـ بداية الغزو الصليبي الحديث ، ولكنه هذه المرة يختلف عن الحملات الصليبية السابقة ، فقد جند معه العقول ، وكل ما وصلت إليه الحضارة الغربية من منجزات مادية وفكرية وثقافية لتسهم معه في تكريس هذا الغزو وتوطيد أركانه وكان لهذه الحملة أثران :
إيجابي : حيث قامت بدور الصاعق الكهربائي الذي يجعل النائم يصحو ، والمريض ينتفض وينشط وكان ذلك قد لفت أنظار المسلمين إلى واقعهم المتردي ، وانحطاطهم المتفاقم عن ركب الحضارة .
سلبي : حيث رافق هذه الحملة ملابسات ، وأعراض مرضية أخذت تتفشى وتنتشر في المجتمع المصري من أزياء وعادات وأخلاق ، بالإضافة إلى الفكر الوافد الذي زرعه نابليون في عقول بعض الفئات وبدأ ينمو حتى أينعت ثماره فيما بعد على يد سلامة موسى وأمثاله .(13/430)
لقد جاء الفرنسيون معهم بكل ما نشاهده اليوم من مظاهر للعلمانية في الأخلاق والسلوك والفكر ، فقد قتل نابليون عدداً كبيراً من العلماء ، ودنس جنوده المقدسات ، وزينوا للمصريين مخالفة دينهم بالممارسات الشنيعة ، فتأثراً بهم خرجت المرأة المصرية عن حشمتها ، وحجابها ، واختلطت بهم ، وكان الهدف الأكبر للفرنسيين هو قلب التقاليد الإسلامية المصرية . ورافق هذا الاحتلال محاولات متواصلة وجهود مكثفة لقطع الشعوب الإسلامية " الغافية " عن ماضيها وتراثها ودينها ولغتها ، وصبغها بصبغات غربية ، وإشاعة الفواحش والمنكرات والعادات الغربية بين أبناء المسلمين ، وساعد على ذلك الفقر الشديد الذي تعانيه المجتمعات الإسلامية نتيجة للاستعمار ، والحكام والملوك المستبدين الذين صنعهم الاستعمار ووطد سلطانهم لخدمة مصالحه واستفحل نتيجة لذلك الجهل والأمية ، وظل التعليم محصوراً في بعض الطبقات الثرية ، والأسر الأرستقراطية .
وقد أدرك المستعمر أن تغيير الفكر، وغسل الأدمغة يجب أن يتم قبل أي مشروع آخر وذلك لتسهيل مهمته في استعباد الشعوب واستغلالها، وجعلها دائماً في دوامة التبعية الحضارية والحاجة إلى الوصاية والانتداب، فكانت دراسات المستشرقين الهائلة التي وُظِّفت لها أموالٌ طائلة وبُذلت من أجلها جهودٌ جبارة، وكانت في معظمها قائمة على التزوير والتحريف والافتراء .
ومن هنا ظلت أعين المسلمين دائماً تنظر إلى الإنتاج الاستشراقي بالريبة والحذر بل غالباً ما يتعامل معها المسلمون على أنها جهود استعمارية معادية ، والحسن فيها استثناءً نادرٌ ، ولذلك رأى المستعمر أن يصنع لهذه الأمة قادة من أبنائها يربيهم على موائده ، ويعلمهم في معاقله ، ثم يفيض عليهم من إحسانه ، ويمرغهم في إنعامه ، ويغمسهم في ملذاته ، ويسديهم من خيراته ، ثم يضفي عليهم من الشهرة والمجد ما يجعلهم محط الأنظار وقادة الأفكار ، ورواد الإصلاح ، وزعماء التجديد إنها نصيحة زويمر للمبشرين : "" تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها "" .
وهذا ما فعله الغرب المستعمر فأبرز من أبرز وطمس من طمس ، وكان الذين برزوا هم الذين أخلصوا لسادتهم المستعمرين ، وتحقق هؤلاء السادة من عمالتهم ودناءتهم فجعلوهم نجوماً للأمة يَهدُونها إلى التغرُّب ، ويزينون لها التأوْرُب .
أخي الكريم :
العلمانية هي المُسخة الجديدة للاستشراق ...
وأنا أسميها مُسخة لأنها نسخة مشوهة تريد ان تلصق نفسها بحضارتنا وتراثنا على أنها من داخل هذا التراث وليست غريبة عنه وكما جاء في الحديث // هم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا // .
والعلمانيون في تعاملهم مع القرآن الكريم على أنه نص بشري أو أدبي هم يجترون في ذلك جهود المدارس الغربية التاريخية وخصوصاً المدرسة الألمانية في دراساتهم وانتقاداتهم للكتاب المقدس وخصوصاً ما سمي بالنقد العالي للكتاب المقدس .
إنهم يسعون لإسقاط ما تم إنجازه بخصوص الكتاب المقدس على القرآن الكريم .
الكاتب : عبد الرحيم
إخوتي الأحبة: سنبدأ اللقاء مع الأخ أحمد الطعان، وبالنسبة للتعريف به وبأطروحته: " موقف الفكر العربي العلماني من النص القرآني / دعوى تاريخية النص نموذجاً " فسيتم ذلك في موضوع مستقل حين يزف لكم البشرى بطباعتها قريباً تحت عنوان مبدئي: " العلمانيون والقرآن ".
ولنبدأ اللقاء:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
سؤال:
أخي الفاضل... تعددت التعريفات، واشتهرت الدراسات، لكن: لا بد مما ليس منه بد فما العلمانية ؟
لن أتعب رؤوسكم بقراءة ما كُتب في دوائر المعارف والمعاجم الأوربية عن العلمانية وسوف أدخل معكم مباشرة إلى بعض النتائج :
- أولاً : هناك اتفاق بين المعاجم ودوائر المعارف المشار إليها على أن العلمانية هي توجه دنيوي محض ، وتسعى لصرف الناس عن الاهتمام بالآخرة أو أي غيبيات ، وتدعوهم إلى الاهتمام بالعالم الحاضر ، والحياة المشاهدة ، وتكرس محبة هذا العالم لأن الخير الوحيد ، الحقيقي الذي يجب أن يُعترَف به هو في هذا العالم . أرجو أن نحتفظ بهذه الملاحظة معنا لأننا سنحتاجها قريباً .
- ثانياً : هناك اتفاق صراحة أو ضمناً على أن العلمانية مناهضة للأديان ، ومتقاطعة معها فهي تُحوّل المقدس إلى مدنس ، وتقلل من قيمة الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر .
لقد صرحت دائرة معارف الدين والأخلاق ، ودائرة المعارف البريطانية بأن العداء قائم بين العلمانية والأديان ، أما دائرة المعارف الأمريكية فلجأت إلى المراوغة مما أوقعها في التناقض فهي تقول : بأن العلمانية لا تمانع العقائد المسيحية ، ولا تنكر وجود خير آخر ، ثم تقول في نفس الوقت ، ولكن الخير الحقيقي في هذه الحياة الحاضرة ، وهو الجدير بالاهتمام والبحث وإذا كانت المسيحية تعتبر المسيح هو المنقذ والمخلص ، فإن الخلاص والغاية في نظر العلمانية هو في العلمانية القائمة على التجارب والمحسوس .(13/431)
- ثالثاً : مهما حاولت العلمانية والعلمانيون المصالحة مع الأديان ، فإن هذا يبدو بعيداً ، لأن العلمانية القائمة في أساسها على رفض المبادئ الدينية ، وعدم الاعتراف بها كأسس للالتزام الأخلاقي ، بل ورفض كل الماورائيات التي تقوم عليها الأديان ، وتدعو إلى إقامة الأخلاق والحياة الاجتماعية والسياسية على أسس وضعية نسبية وطبعية ، وهذا بحد ذاته بمثابة إعلان الحرب على الأديان ؛ لأن هذه تطرح نفسها على أنها الحقيقة المطلقة .
- رابعاً : نلاحظ أن العلمانية التي تقوم على محاربة احتكار الحقيقة ، وتندد بـ " ملاك الحقيقة المطلقة " تقع هي نفسها في هذا الاحتكار والتملك فهي كما تشير دائرة معارف الدين والأخلاق تطرح نفسها على أنها : دين سلبي إنكاري ، وهي كما أشارت دائرة المعارف الأمريكية ترى الخلاص الوحيد والحقيقة المطلقة في العلمانية .
--------------------------------------
سؤال:
يرفض العلمانيون العرب نعتهم بالملحدين، فهل للعلمانية جذور إلحادية ؟
العلمانية هي ترجمة لكلمة سكيولاريزم secula r ism الإنجليزية ، وقد استخدم مصطلح " سكيولار " لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين عاماً سنة 1648 م عند توقيع صلح " وستفاليا " وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة ، وهو التاريخ الذي يعتمده كثير من المؤرخين بداية لمولد ظاهرة العلمانية في الغرب .
وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة ، ولا يتسم بأي نوع من أنواع الشمول أو الإبهام إذ تمت الإشارة إلى علمنة ممتلكات الكنيسة وحسب ، بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية ، أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة .
وفي فرنسا في القرن الثامن عشر أصبحت الكلمة تعني من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية : "" المصادرة غير الشرعية لممتلكات الكنيسة "" أما من وجهة نظر المستنيرين فإن الكلمة تعني : "" المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة "" .
ولكن المجال الدلالي للكلمة اتسع وبدأت الكلمة تتجه نحو مزيد من التركيب والإبهام على يد هوليوك 1817 - 1906م الذي يعتبر أول من صاغ المصطلح بمعناه المعاصر ، وجعله يتضمن أبعاداً سياسية واجتماعية وفلسفية ، وأراد هوليوك أن يُجنب المصطلح مصادمة الأديان فعرّف العلمانية بما يشير إلى الرغبة في الحياد فقال:""العلمانية : هي الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض".
ولكن مع ذلك إذا شئنا أن نربط العلمانية بفلسفة منظرها هوليوك فيمكن القول إن العلمانية قائمة على الشك أحياناً ، والإلحاد الصريح أحياناً أخرى ؛ لأن هوليوك كان ينفي عن نفسه تهمة الإلحاد ، ولكنه في نفس الوقت يعترف بعدم وجود أدلة كافية للإيمان بالله [عز وجل ] ، ويجهر أحياناً بأن الإله إنما هو " الحاضر المعيش ".
ويرجع أول استخدام لكلمة علمانية عند هوليوك إلى شهر ديسمبر سنة 1846 م عندما أوردها في مقال نشره في مجلة " ذي ريزونور " أي "المجادل العقلاني " ، والسبب أنه شعر مع بعض زملائه وأسلافه مثل " توماس بين " و "ريتشارد كارليل " و "روبرت تيلور " أن المسيحية لم تعد مقبولة لدى أكثر فئات المجتمع ، وقد مست الحاجة إلى استبدالها بمبدأ حديث فكان هو " العلمانية " وقد سماها أتباع روبرت أدين بـ " الدين العقلاني ". وهنا نتذكر ما تحدثنا عنه في التمهيد مما سمي " دين العقل " أو " الدين الطبيعي " .
أسس هوليوك في عام 1855 م " جمعية لندن العلمانية " وفي ديسمبر من نفس العام تحولت الحركة العلمانية إلى تيار واسع النطاق ، وتزايد انتشارها بين عامي 1853 - 1854 م ، مما دفع القس بردين جرانت إلى التصدي لها في كل أنحاء إنكلترة مفنداً ومجادلاً .
ولكن ازداد توزيع مجلة " الريزونور " العلمانية إلى خمسة آلاف نسخة ، وانتشرت الجمعيات العلمانية في جميع أنحاء بريطانيا ومن أبرزها " جمعية لستر العلمانية " و" جمعية بولتون العلمانية " وجمعيات أخرى في سائر أنحاء البلاد.
وكان لجهود تشارلس برادلاف 1833 - 1894 م دوراً كبيراً في ترسيخ المبادئ العلمانية الجديدة ، وإضفاء طابع الإلحاد عليها ، وذلك عندما استلم رئاسة جمعية لندن العلمانية سنة 1858 م بدلاً من هوليوك ، واشترك سنة 1860 م في تحرير مجلة " المصلح القومي " التي حلت محل سابقتها " الريزونور " وأسس الجمعية العلمانية القومية سنة 1866 م .
اندثرت مجلة " المصلح القومي " سنة 1881 م لتحل محلها مجلة " المفكر الحر " التي زادت من جرعتها الإلحادية ، فكانت لا تكف عن الاستهزاء بالأناجيل ، والسخرية من الذات الإلهية ، إلى درجة أنها طالبت بمحاكمة أصحاب الأناجيل الأربعة لأنهم يجدفون على الله [عز وجل ] فهم يقولون بأن الله [عز وجل ] ، ضاجع عذراء يهودية وأنجب منها طفلاً غير شرعي أسماه المسيح.
-----------------------
والخلاصة ؟
في الواقع إننا لا نعرض هنا خلاصة لأن الخلاصة كانت هي ما عبرت عنه دوائر المعارف والمعاجم ـ كما رأينا ـ ولكن يمكن اعتبار ما نذكره هنا على أنه تأكيد للخلاصة ، أو أنه خلاصة الخلاصة .(13/432)
لقد رأى بعض القسيسين أن العلمنة في الأصل تحوُّل المعتقدات المسيحية إلى مفاهيم دنيوية عن البشر والعالم ولا سيما من منظور بروتستانتي . ولكن عالم اللاهوت الهولندي " كورنليس فان بيرسن " يوضح ذلك بشكل أكثر صراحة عندما يقرر بأن العلمانية تعني : "" تحرر الإنسان من السيطرة الدينية أولاً ، ثم الميتافيزيقية ثانياً على عقله ولغته " ويفصل أكثر بقوله : " إنها تعني تحرر العالم من الفهم الديني ، وشبه الديني ، إنها نبذ لجميع الرؤى الكونية المغلقة ، وتحطيم لكل الأساطير الخارقة، وللرموز المقدسة … إنها تخليص للتاريخ من الحتميات والقدريات، وهي اكتشاف الإنسان أنه قد تُرك والعالَم بين يديه، وأنه لا يمكن بعد الآن أن يلوم القدر أو الأرواح الشريرة على ما تفعله بهذا العالم، إنها تعني أن يدير الإنسان ظهره لعالم ما وراء الطبيعة، وأن يولي وجهه شطر هذا العالم أو" الهنا "وأن يحصر نفسه في الزمن الحاضر"" .
إنها تعني : "" زوال وظيفة الدين في تحديد رموز التوحيد والاندماج الثقافي " ، وتعني أن هناك : " مساراً تاريخياً لا راد له تقريباً هو الذي يتحرر بمقتضاه المجتمع والثقافة من الخضوع لوصاية الدين والأنساق الميتافيزيقية المغلقة "" ، وتعني : "" القضاء على التبعية الطفولية في كل مستوى من مستويات المجتمع ، إنها عملية نضج ورشد وتحمل للمسؤولية ، أو قل إنها التخلي عن كل سند ديني أو غيبي أو ميتافيزيقي ، وجعل الإنسان يعتمد على نفسه "" .
أخيراً يمكن أن نختم بما يلي : العلمانية في المنظور الغربي هي: التحرر من الأديان عبر" السيرورة " التاريخية، واعتبار الأديان مرحلة بدائية لأنها تشتمل على عناصر خرافية كالماورائيات والغيبيات، ولا يتم الخلاص من هذه الأعباء إلا عن طريق تحقيق النضج العقلي الذي تحققه العلمنة عبر آلياتها الثقافية والفكرية والفلسفية. وهذا ما يعبر عنه د.ج.ويل بقوله:"" الفكرة العلمانية تنطوي على مفهوم فلسفي يتعلق باستقلال العقل في قدرته " . وذلك يعني بنظر كلود جفراي "" إلغاء كل مرجع ديني" . وهو نفس ما يريده جول فيري 1832 - 1893م ولكن بتعبير أكثر حدة حيث الغرض النهائي من العلمانية عنده هو:"" تنظيم المجتمع بدون الله ""[عز وجل]. إنها الدنيوية إذن .
--------------------------
سؤال:
من حيث تعريف العلمانية: لا علاقة لها بالدين، لكنها في الجوهر: دراسات متعمقة في الدين هل هذا ما تقصده ؟
من خلال تتبعي لكتابات العلمانيين ودراستها دراسة علمية:
كان قد استقر رأيي - ردحاً من الزمن - على أن العلمانية هي : "" أنسنة الإلهي ، وتأليه الإنساني "" ويتميز هذا الحد بأنه يجمع خصائص كثيرة للعلمانية في شطريه :
فالشطر الأول " أنسنة الإلهي " يحتوي على مقولة العلمانية في رفض المصدر الإلهي للأديان أو الوحي ، واعتبارها ظواهر اجتماعية وإنسانية تاريخية برزت ضمن ظروف ومعطيات معينة كما أراد فرويد وغيره . ويحتوي هذا الشطر أيضاً : على إلغاء أو تمييع كل المقدَّسات والمعجزات ، وإعادة تفسيرها تفسيراً إنسانياً اجتماعياً أو اقتصاديا أو مادياً ، أو نفسانياً واعتبارها مجرد خرافات وأساطير عفا عليها الزمن .
ويحتوي هذا الشطر أيضاً : على أنسنة الطبيعة والكون بمعنى تجريده من أية دلالات روحية أو كونية أو رمزية ، واعتبارها مواد للإنسان عليه أن يستثمرها في منفعته وأنانيته بشكل مطلق وإمبريالي دون أي اعتبار آخر ، مع رفض الدلالات الغيبية ، والإشارات الربانية التي تؤكد عليها الأديان جميعاً كمعالم للهداية ، باعتبار الطبيعة - في رؤيتها - كتاباً كونياً منظوراً إلى جانب الوحي المكتوب .
ويحتوي هذا الشطر أيضاً : على الجهود التي تبذلها العلمانية لاستثمار الإلهي وتحويله إلى فكرانية بمعنى : "" تحويل الوحي إلى إيديولوجية "". "" تحويل الوحي ذاته إلى علم إنساني "" وذلك لتحقيق أغراض الإنسان وأطماعه ، وقد تجلى ذلك واضحاً في الفلسفة الفيورباخية ، وتبنى ذلك حسن حنفي من العلمانيين العرب - كما سنرى - ومعنى ذلك "" إلغاء الغيب كمصدر للمعرفة ، وقصرها على عالم الشهادة "" ويتم ذلك بالعقل والتجريب بعيداً عن الوحي .
وعلى مستوى العلاقة بين العلمانية العربية والنص القرآني فإنه يتجلى أيضاً دور الشطر الأول من التعريف حيث نجد نزعة الأنسنة سائدة لدى هؤلاء فكتب أركون كتابه " نزعة الأنسنة " وحاول نصر حامد أبو زيد وغيره استعادة القضية الكلامية القديمة التي ثار حولها جدل طويل ، وهي مسألة خلق القرآن في شكلها الاعتزالي ، وذلك من أجل تكريس إنسانية الوحي ومنتوجيته البشرية ، وسنفصل ذلك فيما بعد .
وأما الشطر الثاني من التعريف " تأليه الإنساني " فيتولى تغطية جوانب كثيرة أيضاً من خصائص العلمانية أهمها : النزعة الغرورية التي كرستها فلسفة نيتشة وداروين عبر " الإنسان الأعلى " و" البقاء للأقوى " والتي مورست عملياً من خلال حكام النازية والفاشية كما أشرنا سابقاً.(13/433)
ويتضمن هذا الشطر أيضاً : التركيز العلماني الدائم على مركزية الإنسان ، واستقلالية العقل ، وهذه الأخيرة تشكل بُعداً أساسياً في العلمنة حتى عُرِّفت بأنها لا سلطان على العقل إلا للعقل في تفسير الوجود . هذا الجزء يتكفل بالإشارة إلى هذا البعد ، حيث إن تأليه الإنسان يعني أن التفكير الإنساني مستقل عن الوحي ، بل يرقى إلى مرتبة الوحي ، ويحظى بنصيب من الألوهية . لقد بلغ الأمر بالفرنسيين بعد الثورة أن نصبوا تمثالاً وعبدوه سموه " إلاهة العقل " .
ويتضمن هذا الشطر أيضا : الإشارة إلى تأليه القيم الجديدة للعلمانية المتمثلة في حقوق الإنسان ، وترسيخ الفردية المطلقة ، والديمقراطية ، وحرية المرأة المطلقة ، ونسبية الأخلاق ، والعِلمانية - بالكسر - ، وكل ذلك ما هو إلا إحلال لمنظومة جديدة مؤلَّهة من القيم الإنسانية ، وإضفاء حالة من القداسة عليها ، بدلاً من الدستور الإلهي القائم على الوحي .
ويتضمن هذا الشطر أيضا : الإشارة إلى الجانب العبثي في العلمانية وهو بعد جوهري فيها ، ذلك لأن تأليه الإنساني يعني أن الإنسان الجسد هو المُؤلَّه ، لأن العلمانية لا تعترف إلا بالجسد ، وحاجات هذا الجسد الجنسانية والغرائزية تنال حظاً وافراً من الإجلال والقداسة - كما رأينا في الفصل الأول -إن تأليه الإنساني يعني تقديس المُدَنَّس والارتفاع به إلى مستوى الألوهية.
أما البعد المادي في العلمانية فإن شطري التعريف يسهمان في تغطيته ، إذ إن أنسنة الإلهي تعني تحويل ما ليس بمادة إلى مادة ، أو بعبارة أخرى تدنيس المقدس والتعامل معه على هذا الأساس الدَّنِس . ثم يأتي الشطر الثاني ليضفي على المادة قداسة جديدة " تقديس المدنس " وتصبح المادة بهذا الشكل حالَّة محل الألوهية ، ويغدو كل ما سواها ضربٌ من الأساطير والأوهام . وهو ما سعت الفيورباخية والماركسية إلى تكريسه .
---------------------------------------
سؤال:
ما هو التعريف النهائي الجامع المانع الذي ارتضيته للعلمانية
الدنيوية، وما أريد أن أقوله هنا : هو أن " الدنيوية " ليست مجرد ترجمة لغوية للعلمانية ، وأعني أن العلمانية يمكن أن تُعرَّف تعريفاً جامعاً مانعاً - فيما أرى - بكلمة واحدة هي : " الدنيوية " .
إن هذا التعريف - كما يبدو لي - لا يكاد يغادر صغيرة ولا كبيرة من مقولات العلمانية وخصائصها إلا ويطويها في داخله ، وإن نظرة سريعة في تاريخ العلمانية وأسسها وجذورها ، وأبعادها وتجلياتها سوف تبين أن الدنيوية هي الهم الأول ، والهاجس الأساسي ، بل الوحيد الذي تدور عليه العلمانية .
فالمادية ، واللامادية ، والمثالية ، والعقلانية ، والعِلمانية ، والتطورية ، والجنسانية ، والأنسنة ، والحرية ، والديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، والعنصرية ، والفردية ، كل هذه العناصر التي أفرزتها العلمانية عبر تاريخها الطويل أُريدَ منها أن تحقق للإنسان السعادة في هذه الحياة الدنيا دون أي اعتبار آخَر ليوم آخِر ، والسعادة المقصودة هنا هي أقصى قدر ممكن من اللذة والمتعة .
------------------------------
سؤال:
إن كان للعلمانية بعدها الدنيوي الإلحادي، فما علاقتها بالتنصير وما يتفرع عنه من تبشير واستعمار واستشراق... الخ
العلمانية هي البيضة التي باضها الاستشراق في عالمنا العربي والإسلامي وأفقست بعده بعقود من الزمن، والواقع أن الاستعمار والتبشير والاستشراق // أجنحة المكر الثلاثة // هي التي مهدت الأرضية الثقافية والبيئة المناسبة لتقبل بعض العقول للعلمانية .
ولا يمكن الفصل بين هذه الأجنحة الثلاثة إلا على مستوى التنظير ، وقد تحالفت العلمانية بعد أن استوت على سوقها مع آبائها وكانت وفيَّة لهم فترجمت ثقافتهم وبررت استعمارهم وتقبلت حضارتهم دون تمييز ويكفي أن نتذكر هنا جهود سلامة موسى في توطئة الأرض للإنكليز وطه حسين وعلاقاته مع عدد من المستشرقين ثم علي عبد الرازق الذي أصدر كتابه الإسلام وأصول الحكم في الوقت الذي تكاتفت فيه أوربا لإسقاط الخلافة في تركيا .
كما أن أكثر الأفكار التي طرحها الاستشراق رددها العلمانيون فيما بعد ولا يزالون فقد تبنى طه حسين فكرة مرجليوث حول الانتحال في قضية الشعر ، وإنكار وجود سيدنا إبراهيم عليه السلام .
وإذا تأملنا سوف نجد أن العلمانية تسربت إلى بلادنا العربية عبر نافذتين أساسيتين هما : لبنان ومصر ، وتأتي تونس في المرحلة الثانية لهاتين ، فقد كان اهتمام الدول الغربية بالأقليات المسيحية في لبنان وسوريا تحركه طائفة من الأطماع والغايات ، وقد احتضنت العديد من الجامعات والمدارس في إيطاليا وفرنسا طلبة مشرقيين مسيحيين ووجدت صلات وروابط قوية بين الكنيسة الكاثوليكية الغربية ، والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية رغم الاختلاف بينهما ، ويعود تاريخ الإرساليات التبشيرية الأجنبية إلى الشام إلى مطلع القرن السابع عشر ، وكان اليسوعيون أنشط هذه الجمعيات وتعود صلتهم بالشام إلى سنة 1625 م . تسربت العلمانية إلى بلادنا العربية عبر نافذتين أساسيتين هما : لبنان ومصر ، وتأتي تونس في المرحلة الثانية لهاتين.(13/434)
فقد كان اهتمام الدول الغربية بالأقليات المسيحية في لبنان وسوريا تحركه طائفة من الأطماع والغايات ، وقد احتضنت العديد من الجامعات والمدارس في إيطاليا وفرنسا طلبة مشرقيين مسيحيين ووجدت صلات وروابط قوية بين الكنيسة الكاثوليكية الغربية ، والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية رغم الاختلاف بينهما ، ويعود تاريخ الإرساليات التبشيرية الأجنبية إلى الشام إلى مطلع القرن السابع عشر ، وكان اليسوعيون أنشط هذه الجمعيات وتعود صلتهم بالشام إلى سنة 1625 م .
وقبل ذلك كانت العلاقة بين الأمير فخر الدين الثاني 1572 - 1632 حاكم لبنان والبابا غريغواريوس الثالث عشر 1585 - 1605م متينة ، وقد فتح هذا الأمير أمام الطلبة اللبنانبيين باب الذهاب إلى روما للدراسة فيها ، ومنحهم أرضاً ومساكن ثم أنشأ لهم مدرسة خاصة عام 1584م أسماها المدرسة المارونية ، وتعاطف كثيراً مع الإرساليات الأوربية ، وبسط يد الحماية في بلاد الشام حتى صار الأوربيون يدعونه " حامي النصارى في الشرق " .
ومن هؤلاء الطلبة " إبراهيم الحاقلاني 1605 - 1664م والمطران جرمانوس فرحات 1670 - 1732م ويوسف السمعاني 1687 - 1778 م وقد آلت السلطة بعد ذلك في لبنان إلى البطارقة والأساقفة المنتمين إلى الطوائف الدينية المتنوعة ، وكان هؤلاء الطلبة على حظ كبير من المعرفة والاطلاع على علوم الغرب ، وكانوا ثمرة الإرساليات الآتية من أوربا وفرنسا خصوصاً ثم من أمريكا ، ثم أصبحوا بعد ذلك في نظر القوميين والعلمانيين العرب أركان النهضة وطلائع التنوير .
ولم يمض وقت طويل حتى انتشرت المطابع ، ونقلت البعثة التبشيرية الأمريكية مطبعتها من مالطا إلى بيروت. وهنا يجب أن لا يغيب عن بالنا الصلة الوثيقة الملاحظة بين العلمانية والتبشير من جهة ، وبين العلمانية والمسيحيين الذين حملوا لواء الدعوة إلى القومية فيما بعد من جهة ثانية .
لقد أنشأ بطرس البستاني 1819 - 1883 م المدرسة الوطنية في بيروت سنة 1863 م ثم أصبح النصف الثاني من القرن التاسع عشر مسرحاً للتنافس الشديد في إنشاء المدارس فكانت مدرسة عينطورة ومدرسة القديس يوسف ، والمدرسة الوطنية والمدرسة السورية الإنجيلية ومدارس الجمعية الأهلية كالمدرسة البطريركية ، ومدرسة الأقمار ، ومدرسة الحكمة ، ومدرسة كفتين التي تخرج منها فرح أنطون.
وكانت الجامعة الأمريكية البروتستانتية التي أُسست في بيروت سنة 1866م وتأيدت بمطبعة أحد المراكز الرئيسة في الشرق والتي كان هدفها الأساسي هو بعث الأفكار التنصيرية ، وإشاعة الثقافة الغربية في الوسط المسيحي أولاً ، والإسلامي ثانياً .
وكان الرهط الأول من العلمانيين قد تخرجوا منها ومن هؤلاء شبلي شميل ثم يعقوب صروف ، وفارس نمر ، ثم جرجي زيدان صاحب مجلة الهلال .
بيد أن المنافسة كانت شديدة بين الجامعة الأمريكية البروتستانتية والإرساليات الفرنسية الكاثوليكية التي تسعى لصيانة أبناء ملتهم الكاثوليك من الأضاليل البروتستانتية ، وقد انتشرت مدارس هؤلاء في بيروت وصيدا، وأسسوا الكلية الكاثوليكية على غرار الجامعة الأمريكية سنة 1875م وتبنت فرنسا هذا المشروع في إطار الصراع على النفوذ بينها وبين أمريكا في لبنان .
ولكن يبدو أن الطائفية الشديدة المنتشرة في بيروت ولبنان بشكل عام ، والتي تتميز بنوع من العنصرية المتحكمة ، والعدوانية المتجذرة لم تساعد الغرب الأمريكي أو الأوربي على إمداد رجالاته ورموزه الذين زرعهم في لبنان بالوسائل المرادة لتحصيل أغراضه في العلمنة ، والتبشير والسيطرة ، وكانت فتنة الستين الرهيبة في لبنان والتي وقعت سنة 1860 م تمخضت عن مجزرة رهيبة في صفوف اللبنانيين ، واستهدفت البعثات التبشيرية الكاثوليكية وخصوصاً اليسوعية التي كانت أكثر الطوائف نشاطاً في ممارسة التنصير.
كانت هذه المجزرة دافعاً قوياً للتلاميذ " المدللين " إلى الهجرة من لبنان إلى مصر ، وخلافاً لما يؤكده بعض الباحثين من أن هجرة هؤلاء المفكرين كانت لأسباب وعوامل سياسية واجتماعية وثقافية وبحثاً عن الحرية ، فإني لا أستبعد أن تكون هذه الهجرة نتيجة لمؤامرة دبرت، وخطة رسمت في الأروقة الغربية ، وأوعز بتنفيذها إلى هؤلاء المتغربين ، ومن ثم نقلوا نشاطهم من لبنان إلى مصر .
وكان من هؤلاء المهاجرين فرنسيس مراش بين عامي 1867 - 1873 م وخليل سعادة، ونجيب حداد بين عامي 1867 - 1899 م وشبلي شميل هاجر إلى الإسكندرية سنة 1886م وفرح أنطون هاجر سنة 1897 م واستقر في مصر أيضاً كل من يعقوب صروف ، ونقولا حداد، وفارس نمر .
وأما في مصر :
فقد كانت حملة نابليون التي بدأت سنة 1798 م 1213 هـ بداية الغزو الصليبي الحديث ، ولكنه هذه المرة يختلف عن الحملات الصليبية السابقة ، فقد جند معه العقول ، وكل ما وصلت إليه الحضارة الغربية من منجزات مادية وفكرية وثقافية لتسهم معه في تكريس هذا الغزو وتوطيد أركانه وكان لهذه الحملة أثران :(13/435)
إيجابي : حيث قامت بدور الصاعق الكهربائي الذي يجعل النائم يصحو ، والمريض ينتفض وينشط وكان ذلك قد لفت أنظار المسلمين إلى واقعهم المتردي ، وانحطاطهم المتفاقم عن ركب الحضارة.
سلبي : حيث رافق هذه الحملة ملابسات ، وأعراض مرضية أخذت تتفشى وتنتشر في المجتمع المصري من أزياء وعادات وأخلاق ، بالإضافة إلى الفكر الوافد الذي زرعه نابليون في عقول بعض الفئات وبدأ ينمو حتى أينعت ثماره فيما بعد على يد سلامة موسى وأمثاله .
لقد جاء الفرنسيون معهم بكل ما نشاهده اليوم من مظاهر للعلمانية في الأخلاق والسلوك والفكر ، فقد قتل نابليون عدداً كبيراً من العلماء ، ودنس جنوده المقدسات ، وزينوا للمصريين مخالفة دينهم بالممارسات الشنيعة ، فتأثراً بهم خرجت المرأة المصرية عن حشمتها ، وحجابها ، واختلطت بهم ، وكان الهدف الأكبر للفرنسيين هو قلب التقاليد الإسلامية المصرية. ورافق هذا الاحتلال محاولات متواصلة وجهود مكثفة لقطع الشعوب الإسلامية " الغافية " عن ماضيها وتراثها ودينها ولغتها ، وصبغها بصبغات غربية ، وإشاعة الفواحش والمنكرات والعادات الغربية بين أبناء المسلمين ، وساعد على ذلك الفقر الشديد الذي تعانيه المجتمعات الإسلامية نتيجة للاستعمار ، والحكام والملوك المستبدين الذين صنعهم الاستعمار ووطد سلطانهم لخدمة مصالحه واستفحل نتيجة لذلك الجهل والأمية ، وظل التعليم محصوراً في بعض الطبقات الثرية ، والأسر الأرستقراطية .
وقد أدرك المستعمر أن تغيير الفكر، وغسل الأدمغة يجب أن يتم قبل أي مشروع آخر وذلك لتسهيل مهمته في استعباد الشعوب واستغلالها، وجعلها دائماً في دوامة التبعية الحضارية والحاجة إلى الوصاية والانتداب، فكانت دراسات المستشرقين الهائلة التي وُظِّفت لها أموالٌ طائلة وبُذلت من أجلها جهودٌ جبارة، وكانت في معظمها قائمة على التزوير والتحريف والافتراء .
ومن هنا ظلت أعين المسلمين دائماً تنظر إلى الإنتاج الاستشراقي بالريبة والحذر بل غالباً ما يتعامل معها المسلمون على أنها جهود استعمارية معادية ، والحسن فيها استثناءً نادرٌ ، ولذلك رأى المستعمر أن يصنع لهذه الأمة قادة من أبنائها يربيهم على موائده ، ويعلمهم في معاقله ، ثم يفيض عليهم من إحسانه ، ويمرغهم في إنعامه ، ويغمسهم في ملذاته ، ويسديهم من خيراته ، ثم يضفي عليهم من الشهرة والمجد ما يجعلهم محط الأنظار وقادة الأفكار ، ورواد الإصلاح ، وزعماء التجديد إنها نصيحة زويمر للمبشرين : "" تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها "" .
وهذا ما فعله الغرب المستعمر فأبرز من أبرز وطمس من طمس ، وكان الذين برزوا هم الذين أخلصوا لسادتهم المستعمرين ، وتحقق هؤلاء السادة من عمالتهم ودناءتهم فجعلوهم نجوماً للأمة يَهدُونها إلى التغرُّب ، ويزينون لها التأوْرُب .
------------------------
سؤال:
لنعد إلى (تفكير) الفكر العلماني، يقول العلمانيون: " نحن لا نريد للدين أن يتدخل في السياسة، الاجتماع، الاقتصاد.. ". لكنهم هم يتدخلون في الدين، ألا تجد في ذلك مفارقة ؟
عندما عزمت على دراسة ظاهرة العلمانية كان التعريف القابع في ذهني هو التعريف الشائع لها وهو " فصل الدين عن الدولة " ولما قرأت قليلاً ورأيت من يطرح تعريفاً جديداً هو " فصل الدين عن الحياة " ملت إليه وقلت هو هذا ..!!
ومع طول المعايشة والمعاشرة للخطاب العلماني رأيت أن القضية أكبر من كونها قضية فصل ، وإنما هي في كثير من الأحيان أقرب إلى الجحود والنكران للأديان وقيمها ، فضعفت قناعتي بهذا التعريف ، وهذا لا يعني أن التعريف قد فقد قيمته عندي ، وإنما يعني أنه قاصر عن الحد الكامل ، وإن كان يغطي مرحلة من مراحل العلمانية أو حيِّزاً من رقعتها الشاسعة .
تبادر إلى ذهني في وقت من الأوقات أن العلمانية هي إلغاء المقدس ، ولكن بعض العلمانيين أنفسهم يعتبرون المقدس نمطاً لوجود الإنسان ، وأن الإنسان يعيد إنتاج المقدس بأشكال جديدة وهو يمارس دنيويته وأن المقدس عنصر من عناصر الوعي ، وأن أقصى مظاهر الحداثة المعاصرة غارقة في المقدس ، وهو ما يعني أن العلمانية غارقة في مقدسات ، بل ووثنيات جديدة تخترعها كبديل للمقدس الديني ، بل وتضع آلهة جديدة ، وتقدم لها مراسم وقرابين وألوان من العبودية والخضوع ، وهو ما أشار إليه - آنفاً - رفيق حبيب ."" إن الأسطرة ملَكة ثابتة وعبر هذا فالإنسان المعاصر يساهم أيضاً وعبر حرتقاته العلمية الجديدة في صنع أساطيره "" ولذلك "" يمكن أن يُؤلَّف عمل كامل عن أساطير الإنسان الحديث "" .(13/436)
قلت : فهي إذن " إنكار الغيب ، وإثبات المادة " بيد أن العلمانية لم تتمكن من الاستمرار في إنكار الغيب ، لأن الإيمان بالغيب لا بد منه ، فإذا لم يأت اختياراً جاء اضطراراً ، وهذا هو الواقع فالعلمانية تؤمن بغيبيات وميتافيزيقيات كثيرة مثل النيترونات ، والأنتيرونات ، والأثير أو السديم ، وغير ذلك من أشياء يقوم عليها العلم ولكنها افتراضية ، والإيمان بها ليس إلا ضرباً من ضروب الإيمان بالغيب ، وإن كابرت العلمانية وعاندت ، وهو ما يلفت النظر إليه جلال أمين عندما يذهب إلى أنه "" لا مفر من اتخاذ موقف ميتافيزيقي ما ، والبدايات الميتافيزيقية هي التي تفضي إلى النتائج ، والمقولات المختلفة التي تكون أيديولوجية ما، والتي توجه السلوك الإنساني ، وهذا يعني أن العلمانية منظومة شاملة ورؤية للكون والطبيعة والإنسان تستند إلى ميتافيزيقا مُسبقة تطرح إجابات عن الأسئلة النهائية الكبرى ، فحالة الشك المطلقة ، الشك في كل المسلمات تجعل الحياة مستحيلة "" . "" فالغيبي مبدأ من مبادئ علم الاجتماع لا بد منه للمجتمع ولا يأتلف المجتمع ويكتمل إلا بمبدأ غائب عنه يرسم الحدود الفاصلة بين المقدس والدنيوي.
قلت : إذن فالعلمانية هي " النسبية المطلقة " أو "" أن الإنسان هو ما يفعله "" كما طرح غير واحد منهم - على سبيل المثال - مراد وهبة ، ولكن المتأمل يرى كثيراً من المنظرين والمؤسسين للفكر العلماني لا يقولون بالنسبية المطلقة ، لأنهم يعتبرون آراءهم وفلسفاتهم حقائق مطلقة يجب على الناس أن يلتزموا بها ، ويسيروا على مقتضاها ، فالماركسيون - مثلاً - يعتبرون الماركسية هي الحقيقة المطلقة ، حقيقة الحقائق ، وكل العلوم التي جاءت قبلها كانت تمهيداً لها ، وكل ما سيأتي بعدها يجب أن يكون شرحاً لها.
ولذلك مع أن النسبية المطلقة تستحوذ على حيز عريض جداً من النظرية العلمانية ، إلا أنها لا يمكن أن تكون حداً شاملاً لكل عناصرها وأسسها ، هذا بالإضافة إلى أن العلمانية نفسها تتحول إلى مطلق في نظر أصحابها وعلى الآخرين أن يتعلمنوا أو يُوصَمُوا بالجهل والظلامية والأصولوية .
سمعت أحد العلماء الأجلاء يؤكد مراراً على أن العلمانية هي الغنوصية فتأملت في هذا الحد فوجدته يغطي مساحة من مساحات العلمانية ، وحقلاً من حقولها وهو : التأويل ، حيث بالرغم من أن الغنوصية قائمة على العرفان ، والعلمانية - بحسب أصحابها - قائمة على العقل ، إلا أنهما يلتقيان في النتائج المترتبة عن " التأويل المنفلت " ، حيث نصل عن طريق التأويل العلماني والغنوصي المنفلتين إلى خلاصات ما أنزل الله بها من سلطان ، وفهوم تتجافى إلى أبعد الحدود مع النص ، فإن النص إذا كان في السماء فإن التأويل العلماني أو الغنوصي في أسفل الأرضين ، وإذا كان النص يتجه غرباً فإن تأويلهما يتجه شرقاً . وهكذا رأيت أن الجامع بين العلمانية والغنوصية هو " التأويل المنفلت " .
وسمعته أيضاً يعرف العلمانية بأنها " تنحية الأسئلة الكبرى " ولكن الذي بدا لي أن العلمانية بعد أن فشلت في الإجابة عن هذه الأسئلة اقترحت تنحيتها لأنها بدأت تُعكِّر عليها سيرورة العلمنة . وهذه التنحية كارثة من كوارث العلمانية على الإنسانية لأنها الأسئلة الجوهرية للإنسان ، بل هي محور إنسانيته ، والمعنى الصميم لهذه الإنسانية ، وتنحيتها حَطّم إنسانية الإنسان ، وجعله مادة بلا هدف ولا غاية ، يتقلب في ظلام الشك والحيرة ، وبدد له كل أمل في السعادة .
ومن هنا رأيت أن تنحية الأسئلة الكبرى ليست تعريفاً للعلمانية وإنما نهاية من نهايات العلمانية ، بل يمكن اعتبار هذه التنحية : إشهاراً للإفلاس ، وإعلاناً للخيبة .
استبطنت في مرحلة من مراحل البحث التعريف القائل بأن العلمانية "" رؤية مادية بحتة للوجود بما فيه "" ولكن تذكرت أن باركلي لم يكن مادياً فقد أنكر المادة واعتبرها موجودة لأنها مُدرَكة فقط، وأن هيوم أنكر الروح والمادة ولم يعترف بأية حقائق ضرورية ، وكذلك فإن جان جاك روسو كان ممثلاً للفلسفة المثالية ، ومع ذلك كان لهؤلاء جميعاً إسهاماً بارزاً في علمنة الفكر الأوربي .
هذا بالإضافة إلى - ما أشرنا إليه سابقاً - من أن العلمانية لم تتمكن من الاستمرار في المادية لأن العقل يؤكد وجود حقائق كونية ليست مادية يقوم عليها الوجود والعلم .
فالمادية سمة أساسية من سمات العلمانية ولكنها لا تُعبّر عنها تماماً وإن كان بروزها يكاد يجعل العلمانية تُختَزَل غالباً في هذه السمة .
-----------------------
سؤال:
هل يمكن (علمَنَة الإسلام) بنظرهم ؟
في البداية يمكن أن يتبادر إلى الذهن سؤال وهو : أن الشرائع السماوية أيضاً قصدت تحقيق السعادة للإنسان في الحياة الدنيا فهل الأديان منخرطة على هذا الأساس في تيار العلمانية ؟
والإجابة : أن الشرائع الإلهية تربط سعادة الدنيا بالسعادة في الآخرة ، لذلك فسعادة الإنسان في الحياة الدنيا بمنظور الشرائع الإلهية ألا ينخرط في الملذات والشهوات والمُتع دون ضوابط وحدود لأن هذا سينغص سعادته في الآخرة .(13/437)
لقد تركت هذه الدنيوية العلمانية أثرها حتى على الإسلاميين ، فأصبحنا نُبرز كثيراً عناية الإسلام بالحياة الدنيا ، ودعوته إلى عمارتها ، والاستمتاع بالطيبات منها ، ونتغاضى - مجاراة للعلمانيين - عن أن الإسلام في الأصل يدعو الناس إلى الآخرة عبر ممر الدنيا ، وهذا لا يعني تخريب الدنيا ، وإنما يعني التطلع إلى المستقبل الأبدي ، وليس إلى الحياة العاجلة ، وهذا ليس من شأنه أن يجعلنا نهمل عمارة الحياة الدنيا ، وإنما من شأنه أن يُهذِّب نفوسنا ويسموَ بها عن الأنانية ، ويطهرها من السخائم والعداوات والتنافس على المتاع الزائل والحطام الفاني .
وهنا يجدر بنا أن نتذكر قول أحد أقطاب الصوفية كتلخيص لموقف الإسلام من الحياة الدنيا " أن تكون الدنيا في يدك وليس في قلبك " وهذا بعكس العلمانية التي تريد أن تمزج الدنيوية بكل ذرة من ذرات الجسد الإنساني ، وتغرسها في صميم قلبه ، وتجعلها الملاذ الوحيد ، والمعشوق الوحيد ، والغاية النهائية للإنسان ، ولا يخفى ما في ذلك من تكريسٍ للتنافس الأعمى بين البشر دولاً وأفراداً ، وهو ما نعايشه اليوم ، لأن البقاء للأقوى ، وساحة البقاء في المنظور العلماني قاصرة على هذا العالم المحسوس فقط .
وتتجلى الدنيوية واضحة في الممارسات التأويلية التي تشتغل على النص القرآني فتحاول دائماً أن تحد من سلطانه الإلهي ، وتبرز دائماً ما يؤكد على الاعتبارات الدنيوية في مسائل الميراث ، والمرأة ، والحجاب ، والدولة والأخلاق ، ويُبرَّر ذلك بمبررات دنيوية محضة مثل : مواكبة العصر ، ومسايرة التحضر ، وتطور الفكر . والنموذج الذي يُحتذى في كل ذلك هو الغرب ، فكل ما عنده أصبح معيار التطور والتحضر والتقدم ، وتغفل هذه الممارسات أو تتنكر للجانب الغيبي الأخروي الذي يشكل الحيِّز الأكبر من الرسالة القرآنية ، وفي حالات متطرفة فإنها تقوم بعملية مسخ وتشويه لهذا الجانب عن طريق " التأويل المنفلت " لتجعله يصب في خدمة الدنيوية أيضاً .
والخلاصة :
العلمانيون - كما مر بنا سابقاً - يستدلون على علمانية الإسلام بدنيويته ، وبما حصل في التاريخ الإسلامي من ترف وبذخ وإقبال على الدنيا ، فهم بذلك يقرون بأن الدنيوية هي جوهر العلمانية ، وقد مر معنا كذلك كيف تؤكد دوائر المعارف والمعاجم الغربية على دنيوية العلمانية بما يغني عن الإعادة هنا .
لقد أشرنا - سابقاً - إلى أن الدنيوية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ والحضارات ، وأن أكثر الأمم اختارت الحياة الدنيا على الآخرة ، ذلك لأن الحياة الدنيا حلوة خضرة وقريبة ، أما الآخرة فهي في منظور الإنسان العجول بعيدة غير مغرية كما تفعل الحياة الدنيا "متاع الغرور " .
---------------------------
سؤال:
وما تعقيبك على ذلك ؟
إن الدنيوية تتحول إلى علمانية عندما تتحول الوسيلة إلى غاية ، والممر إلى مقر ، وقد يعترض علينا هنا بأننا نتحدث بلهجة صوفية وعظية ، ولكن هذه هي الحقيقة سواء كانت في قالب صوفي وعظي أم حداثي معاصر ؟
عمارة الدنيا مرادة إلى أقصى الحدود ، ولكن على أن لا يؤدي ذلك إلى الفساد في الأرض ، كما يجب مراعاة أن الإنسان مؤتمن وليس مالكاً حقيقياً ، وأنه رضي بحمل الأمانة ، وكل ما يؤدي إلى الإخلال بحفظ الأمانة " الكون والطبيعة والإنسان ورسالته فيهما " فإنه انقلاب إلى دنيوية عضوض أي علمانية .
الإنسان مُستَخلَف في الأرض ، وهذا يعني أنه لا يملك أن يضع لنفسه منهجاً في الحياة باستقلالية كاملة ، لأن المنهج وضعه المالك الحقيقي ، والسيد الحقيقي في هذا الوجود ، أما وظيفته هو فإنها تنحصر في أن يفهم المنهج بشكل صحيح وينزله على حياته كما أراد واضعه عز وجل . والفهم غير الوضع والإنشاء وإن كان الخطاب العلماني سينازع في هذا كما سنرى .
إن أي إنسان عاقل عندما يشتري جهازاً من شركة ما يقرأ النشرة المرفقة معه والتي تُبيِّن كيفية استعماله ، وقراءة هذه النشرة توفر عليه جهداً ووقتاً يبذله في محاولته تشغيل الجهاز دون استعانة بالصانع . إن جهده المستقل قد ينتهي بالوصول إلى معرفة تشغيل الجهاز ولكن بعد جهد ووقت من التجريب والمحاولة ، ولكنه قد ينتهي أيضاً بإتلاف الجهاز وإعطابه .
إن كل ممارسات الإنسان في هذا الكون لكي تبرأ من " الدنيوية العلمانية " يجب عليها أن تكون قائمة على مبدأ العبودية لله عز وجل ، والرغبة فيما عنده من الخير والسعادة ، ومنافية لمبدأي الكبرياء الزائف ، والعقلانية المتهورة القائمين على الاعتداد الأعمى بالذات والمنفعة العاجلة ، واللذة الزائلة ، والنظرة القاصرة على هذه الحياة الدنيا .(13/438)
إن الاحتراز الوحيد الذي نضعه هنا لعله يجنبنا كثيراً من الانتقادات والإلزامات التي قد ترد علينا إزاء هذا التعريف هو أن العلمانية " الدنيوية " التي نقصدها تزيد وتنقص ، وتهبط وتصعد ، وأننا عندما نتحدث عن العلمانية التي تقارن الإلحاد والزندقة فإننا نقصد العلمانية في أعلى درجاتها . إن هذا يعني أن بعض الباحثين الحريصين على إسلامهم وإيمانهم ولكن تصدر منهم بعض الأفكار التي تخدم التوجه الدنيوي العلماني ، وتتحرك في داخل أسواره لا يمكن أن يوصفوا بأنهم علمانيين ، وإن كان يصح أن نصف أفكارهم المنحرفة بأنها أفكار علمانية . والله أعلم .
سؤال:
هل العلمانية من العِلم (العِلمانية)، أم من العالَم (العَلمانية) ؟
من خلال القراءة للمصطلح في المصادر الأجنبية من معاجم ودوائر للمعارف ، وتعريفات للباحثين الغربيين يمكننا أن نؤكد أن العَلمانية - بفتح العين - هي الترجمة الصحيحة على غير قياس لكلمةsecula r ism الإنجليزية أو secula r it الفرنسية ، وهاتان الكلمتان لا صلة لهما بلفظ العلم ومشتقاته ، فالعلم في الإنجليزية والفرنسية يعبر عنه بكلمة science والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة scientism والنسبة إلى العلم هي scientific أو scientifique في الفرنسية والترجمة الدقيقة للكلمة هي " العالمانية " أو " الدنيوية " أو " اللادينية " ، ولكن تحولت كلمة عالمانية إلى عَلمانية لأن العربية تكره تتابع الحركات وتلجأ إلى التخفف منه.
وكذلك فإن زيادة الألف والنون هنا ليست قياسية في اللغة العربية أي في الاسم المنسوب " عالماني "، وإنما جاءت سماعاً مثل: رباني ، نفساني ، روحاني ، عقلاني ، ومثلها علماني ، واللغة العربية تقبل إضافة الألف والنون لاحقة لبعض الكلمات ، والترجمة الحرفية في قاموس اللغة للعلمانية هي " الدنيوية " لأنها مشتقة من العالَم أي " الدنيا ".
ومن هنا فإن العلماني هو الدنيوي لأنه يهتم بالدنيا ، بخلاف الديني أو الكهنوتي فهذا الأخير يهتم بالآخرة . وأول معجم عربي يورد الكلمة هو المعجم الوسيط ، وقد جاءت فيه بهذا المعنى في طبعتيه الأوليين.
وأول معجم ثنائي اللغة قدم ترجمة صحيحة للكلمة هو قاموس " عربي فرنسي " أنجزه لويس بقطر المصري عام 1828 م وهو من الجيل الذي ينتمي للحملة الفرنسية ، وقد كان متعاوناً مع الفرنسيين ورحل معهم إلى باريس وعاش هناك وكانت ترجمته لكلمة : = cecula r iteعالماني و = ceculie r علماني ، عالماني ، وميزة هذه الترجمة أنها أول وأقدم ترجمة صحيحة للكلمة تدحض آراء الذين يعتبرون العَلمانية في أصلها من العِلم ، لأنه نسبها إلى العالَم. وكما أن الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للدلالة على المبالغة الشديدة في التخلق بصفات الرب عز وجل والعبودية له ، وللدلالة على كمال الصفة أو بلوغها حداً قريباً من الكمال قالوا في كثير الشعر : شعراني . وغليظ الرقبة : رقباني . وطويل اللحية أو كثيفها : لحياني ، كذلك فإن العَلماني منسوبٌ إلى العالَم - بهذا الشكل - للدلالة على المبالغة في الانتماء إلى العالم والإيمان به.
ومما يؤكد انقطاع الصلة بين العَلمانية والعلم البحث القيم الذي تقدم به د . عدنان الخطيب حول تاريخ الكلمة الذي أرجعه إلى قرون عديدة ، وتاريخ دخولها إلى اللغة العربية ، وقد استند في بحثه على مراجعة مصادر الكلمة في اللغات القديمة كالآرامية والسريانية ، وصلة الكلمة بالعلاقة بين رجال الكنيسة وعامة الناس ، حيث إن رجال الكنيسة ليسو عَلمانيين ، لأنهم يهتمون بالآخرة فقط ، أما بقية الناس والشعب فهم : " دنيويون ، دهريون ، زمنيون ، قرنيون ، عالميون " ، وهذه التفرقة انتقلت إلى اللغة العربية - بنظره - عندما تغلبت هذه على الآرامية بعد الفتح الإسلامي عن طريق ترجمات علماء السريان .
وعندما استقل التعليم عن الكنيسة في فرنسا بعد الثورة وُصِف هذا التعليم بأنه ceculai r e ودلالتها هي نفس الدلالات القديمة التي يوصف بها من هو خارج الكنيسة من عامة الشعب ، فكل واحدة من الكلمات السابقة " دنيوي ، زمني ، دهري… " تصلح مقابلاً للكلمة الفرنسية seculai r e إلا العِلم فلا يدخل في مدلولاتها مطلقاً.
-------------------------
سؤال:
هل ترى مبرراً للتحذير من الخلط بين العَلمانية والعِلمانية ؟
السبب - بنظري - للخلط، هو الخلاف بين الباحثين في نسبة الكلمة، ومنشأ ذلك عامِلَين:
الأول : التقارب في الألفاظ بين العَلمانية - بالفتح -والعِلمانية - بالكسر - قائم في اللغة العربية مما أوقع بعض المعاجم والباحثين في اللبس وشاع ذلك قبل أن يتبين الباحثون الخطأ من الصواب .(13/439)
الثاني : أن العَلمانية - بالفتح - والعِلمانية - بالكسر - ظاهرتان بارزتان في الفكر الغربي ، وإحداهما تكمل الأخرى ، ومع أننا نرى أن العَلمانية - بالفتح - ظاهرة قديمة وممتدة في عمق التاريخ ، وتغلغلت في كافة الحضارات ، إلا أنها في العصر الحديث وفي أوربا بالذات تفاقمت بشكل لم يسبق له مثيل ، وشد أزرها في ذلك العِلمانية - بالكسر - أي تطور العلم وارتفاع مستوى السيطرة الإنسانية على الطبيعة، نتيجة للكشوفات العلمية المتلاحقة التي غيرت نظرة الإنسان إلى الكون، فولّد هذا العلم أو العِلمانية - بالكسر - الغرور الشديد بالذات الإنسانية ، والاعتداد المفرط بقدرة الإنسان وعقله ، ونتج عن ذلك العَلمانية - بالفتح - أي الدنيوية والتطلع إلى هذا العالم القريب المحسوس المشاهد ، وانعدام أي أمل في عالم آخر غيبي مفارق .
وأهم عنصر ولدته العِلمانية - بالكسر - هو انعدام الانبهار بالطبيعة ، وتجريد الطبيعة من العناصر والإحالات الزائدة ، والمقصود بالعناصر والإحالات الزائدة العناية الإلهية ، أو الآثار الإلهية في الكون ، أو الماورائيات والغيبيات التي يمكن أن تدل عليها الطبيعة ، وبالتالي انفتح المجال أمام الإنسان للتصرف في الطبيعة بحرية ، واستخدامها وفق حاجاته وغاياته.
إن هذا التجريد العلماني للطبيعة من مغزاها الروحي ، والحط من قيمتها بحيث لا تتجاوز مجرد كونها شيئاً من الأشياء خالياً من أي معنى علوي قدسي قد كان هو العامل الأساسي الذي انطلقت منه عملية العلمنة في الغرب.
وهكذا ترسخت الدهرية والدنيوية - العَلمانية - بالفتح - في ضمير الإنسان وتطلعاته نتيجة للعِلمانية - بالكسر - وأصبح همه أن يتصرف في العالم حسبما يريد ، ويتمتع بدنياه كما يحب ودون أية قيود .
ولذلك فإن أقرب كلمة تصلح أن تكون مقابلاً لمصطلح العَلمانية - بالفتح - كما يقترح د . سيد محمد نقيب العطاس هي ما أشار إليه القرآن الكريم دائماً بعبارة " الحياة الدنيا " فلفظ دنيا المشتق من " دنا " يعني كون الشيء قد جُعل قريباً ، وعلى ذلك فالعلم الطبيعي قد جعل العالم قريباً من الإنسان ، وتحت سيطرته وخاضعاً لوعيه ، وخبرته العقلية والحسية ، وبما أن العالم قد أصبح كذلك فإنه من المؤكد سيصرفه عن مصيره الأبدي الذي يتجاوز هذه الحياة الدنيا إلى الآخرة .
وبما أن الآخرة تأتي في النهاية فإنها تبدو للإنسان العجول بعيدة ، وهذا الشعور من شأنه أن يزيد في الإلهاء الذي يسببه ما هو قريب ومغري ، ولذلك نجد هذه الحياة الدنيا ، وهذا العالم هما محور المنظور العلماني ومَحَطُّ اهتمامه.
ونختم هذه الفقرة بالقول :
إن العِلمانية - بالكسر - مشتقة من العِلم وتدعو إلى الاحتكام إلى العلم ، وهي ظاهرة حديثة وظفتها العَلمانية - بالفتح - توظيفاً خاطئاً وخطيراً على البشرية والإنسانية جمعاء .
وكما يبدو فنحن كمسلمين لسنا ضد العِلمانية - بالكسر - لأن ديننا وقرآننا يدعوانا إلى الاحتكام لمنطق العلم " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا " ويمجد العلماء " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألباب " ولكن الخلاف بيننا وبين العِلمانيين في تحديد مفهوم العلم ، فالعلم عند الغربيين الطبيعيين لا يتناول إلا المحسوسات والمشاهدات ، فهو العلم الطبيعي والرياضي فقط ولا صلة له بالميتافيزيقا أو بالأسئلة الكبرى المتعلقة بمصير الإنسان ، وإن العالِم بنظرهم ما إن يسأل نفسه هذه الأسئلة ويحاول الإجابة عنها حتى يتحول عن سلوكه كعالم ويتخلى عن وظيفته العلمية ، أما عندنا فالعلم يشمل كل ما يتصل بالكون والإنسان والحياة .
فنحن إذن على المستوى العملي على طرف نقيض مع العِلمانية - بالكسر-لأن هذه الأخيرة تحصر العلم في المحسوس في الدنيوي وتقوم على عقلانية مادية وضعية اجتماعية وتطرح مفهوماً جديداً للعلم يحيد التفكير الميتافيزيقي عن ساحته. "" فالعِلماني - بالكسر- هو من يتخذ من المعرفة العملية كما هي ممثلة في العلوم الطبيعية بخاصة نموذجاً لكل أنواع المعرفة، إنه يتبنى وجهة النظر الوضعية، مما يعني عدم اعترافه بإمكان المعرفة الخلقية أو الدينية أو الميتافيزيقية ، لأن القضايا المزعومة لأي منها لا يمكن إخضاعها - حتى من حيث المبدأ - لمعايير العلم "" ،فالفهم العلمي العِلماني - إذن - يتنافى مع الإيمان بالوحي الإلهي ، وهكذا تعود العِلمانية فتنقلب إلى عَلمانية.
والخلاصة :(13/440)
أن لفظتي عَلمانية - بالفتح - وعِلمانية - بالكسر - تصلحان تعبيراً عن الظاهرة المادية التي تستولي اليوم على مجتمعاتنا الإسلامية ، وذلك لأن الكلمتين متكاملتان متفاعلتان من حيث المفهوم ، فالعَلمانية هي تكريس للدنيوية ، والعِلمانية أساس هذا التكريس لأن العلم بمفهومها هو العلم المادي والتجريبي والطبيعي - أي الدنيوي فقط - ولا تعترف بعلوم غيبية ميتافيزيقية أخرى. فالعَلمانية وإن لم ترتبط بالعلم من حيث الاشتقاق ولكنها لا تنفك عنه إذ هي ارتبطت تاريخياً بتعلم العلوم العقلية والطبيعية والتجريبية .
وأخيراً يمكن القول أيضاً : إن بعض الإسلاميين الذين يستخدمون العلمانية - بالفتح - لا يفعلون ذلك بسوء نية ، وبقصد فصل العَلمانية عن العلم وربطها بالدهرية كما يزعم بعض العلمانيين ، وإنما يفعلون ذلك لأن معاني الكلمة ومصادرها واشتقاقاتها في اللغات الأجنبية لا صلة لها بمفهوم العلم - كما رأينا - وصلتها - كما رأينا - في دوائر المعارف والمعاجم ودراسة تاريخ الكلمة أقوى ما تكون بالدنيوية والمادية ، كما أن السياق التاريخي والاجتماعي الذي نشأت فيه العلمانية وتبلورت يؤكد على ربط المصطلح بالعالم المحسوس والمادة فقط .
------------------
سؤال:
ما هي اللائكية وما الفرق بينها وبين العلمانية ؟
رأينا أن العِلمانية - بالكسر - وظفها الفكر الغربي كأساس تبريري للعَلمانية - بالفتح - هذه الأخيرة التي اعتبرناها ظاهرة تستولي على كل البشر إلا من رحم ربك ، وتمتد في عمق التاريخ والحضارات والأمم .
وإذا كان هناك من يعتبر اللائكية مصطلحاً رديفاً أو ترجمة للعلمانية ، ولا يرى مانعاً من استخدامه بديلاً لها ، فإن هناك من يراها تمثل الجانب السياسي للعَلمانية المتطرفة ، التي استفحل أمرها في فرنسا على وجه الخصوص في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، حيث طغت عليها النزعة الانتقامية من الدين ، فكان الاعتماد على اللائكية لاجتثاث التدين بطريقة متعسفة ومغالية ، وقد ارتبطت اللائكية في فرنسا على الخصوص بالتعليم وأُغلقت "" اثنتين وعشرين ألفاً من المدارس المسيحية "" في القرن التاسع عشر فاللائكية إذن الصورة العملية المتطرفة للعلمانية مارستها النظم السياسية التي انتهجت أسلوب الرفض الديني .
وبناء على هذه التفرقة يمكن اعتبار الممارسات الجنونية التي قام بها أتاتورك وأتباعه في تركيا للقضاء على كل مظاهر التدين نوعاً من اللائكية التي مورست في البلاد الإسلامية ، في حين تظل الحكومات الجاثمة في الدول الإسلامية والعربية الأخرى التي تحاول فرض العلمانية على شعوبها بطرق دبلوماسية مراوغة ومتخفية ، تتحرك في الإطار العَلماني وليس اللائكي ، وحتى على تعريف بعض الحداثيين للائكية بأنها ""أن يكون كل إنسان سيد نفسه "" فلا يمكن اعتبار اللائكية ذات صلة بالبلاد العربية أو الإسلامية ، لأن الإنسان هنا لا يملك من أمر نفسه شيئاً ، فإذا كان حراً مخيراً في الغرب ، فإنه في الشرق مسيّر كما قال الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله ساخراً من النظم السياسية في البلاد العربية والإسلامية .
والواقع أن التعريف الحداثي السابق أقرب إلى كونه تعريفاً للعَلمانية عند الذين يعتبرون العَلمانية محايدة تترك المتدين وشأنه ، فهي ليست لائكية ، لأن اللائكية ترفض أي مظهر للتدين ، حتى حرية الإنسان في اختيار لباسه ، وإطلاق لحيته وارتياد دور العبادة .
والخلاصة : أن اللائكية تمثل الجانب العملي التطبيقي للعلمانية ، فإذا اعتبرنا العِلمانية - بالكسر - مرحلة بحث وتأسيس وتأصيل ، والعَلمانية - بالفتح - مرحلة قرار وحسم ، فإن اللائكية هي مرحلة التنفيذ والتطبيق لهذا القرار، وإنزاله من مستوى النظر إلى مستوى العمل ، وأبرز مظهر لذلك " أليكة " التعليم بمراحله المختلفة والقوانين بكل فروعها ومجالاتها ، والحياة السياسية والاجتماعية بكل نشاطاتها ، ويتم ذلك عبر مؤسسات الدولة التي حَجَّمت من سلطات الكنيسة إلى أقصى ما يمكن .
ولكن الصراع لم يُحسم لصالح الدولة ، فلم يكن من السهل القضاء على الكنيسة ، فحافظت على الأقل على وجودها الشكلي والرمزي واعتُبرت العلاقة بين الدولة والكنيسة كالروح والجسد والفصل بينهما انتحاراً وطنياً ، ولذلك اُختير في النهاية التعايش السلمي بين الدولة المعلمنة والكنيسة، فالملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانية كانت هي رئيسة الكنيسة الإنجليزية، وفي ألمانيا يؤدي المواطن ضريبة إلى الدولة خاصة بالكنيسة، ويتعايش في بلجيكا التعليم الديني مع التعليم الرسمي في المدارس الحكومي .
أخيراً : يمكن القول إن العَلمانية - بالفتح - هي بمثابة السلطة التشريعية ، واللائكية بمثابة السلطة التنفيذية ، أما العِلمانية - بالكسر - فهي المرجعية الفكرية والتاريخية الحديثة لهاتين، كما يمكن تمثيل الفكرة السابقة بالبناء حيث المواد الأولية اللازمة له هي العِلمانية - بالكسر -، والبناء قائماً مهيئاً هو العَلمانية - بالفتح - والمرحلة الأخيرة وهي استقرار سكانه فيه واستخدامه والاستمتاع به هو اللائكية . والله أعلم .(13/441)
----------------
سؤال:
في هذا البحر المتلاطم من المصطلحات، أخرج محمد أركون مصطلح (العلمانوية) فما المقصود به ؟
يهوى العلمانيون التشدق بالألفاظ والتمعك بالمصطلحات بقصد الإغراب أو الاستفزاز أو استعراض الذات ، والطرق التي يصك بها العلمانيون مصطلحاتهم كثيرة ومتنوعة تحتاج إلى رسالة لغوية مستقلة تتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل .
ونريد نحن هنا أن نتطرق لطرف من هذا الموضوع بعجالة نتناول فيه طريقة واحدة شائعة في كتبهم ومصنفاتهم هي هذه أاـ " وية " التي تضاف إلى كثير من المصطلحات الدارجة والشائعة لإعطائها مدلولات جديدة وغريبة لا يعرفها أحد لولا أنهم ينصون عليها ، أو تُفهم من خلال السياق الذي يتحدثون فيه .
ويبدو لي أن طيب تيزيني ومحمد أركون هما أكثر من يمارس هذه ألـ " وية " فالسلفية عند طيب تيزيني تتحول إلى سلفوية ، والسلفي إلى سلفوي . وأحياناً يخيل إليه أن هذه ألـ " وية " ليست كافية في الاستفزاز ، ولا تحقق غرضه في تعميق الهوة بينه وبين الإسلاميين فتتوالى الكلمات المعبرة عن الانتقاص والاستخفاف بالفكر الإسلامي، ويتفنن في الأوصاف فتصبح السلفوية : السلفوية الماضوية ، أو السلفوية الدوغمائية، أو السلفوية الطوباوية .
وكان عليه أن يترفع عن أخلاق السوقيين الذين يشعرون في شجاراتهم أن شتيمة واحدة لا تكفي ولذلك تتلاحق الشتائم عندهم حتى يشعرون بالرضى والراحة ، لأنهم يفرغون ما في داخلهم من شعور متعالٍ ومتغطرس ، ويشعرون بنشوة الظفر ولذة النصر ، وهذا ما يفعله طيب تيزيني وغيره ، مثال ذلك : الرؤية السلفوية الماضوية : ذات نسيج وهمي زيفي ، إيهامي والأصولية الإسلامية : إيديولوجيا وهمية ، توهيمية ، تتحدث حيص بيص ، وتهرف بما لا تعرف ، لأنها وهمية ملتبسة ، توهيمية كاذبة .
ولفظة الأصولية مع أنها أُعدَّت لغرضها المراد لدى الغرب وعممتها وسائل إعلامه ، وشاعت في وسائل الإعلام العربية والإسلامية على أنها تعبير عن التطرف والعنف ، ووُصِم بذلك المسلمون دائماً ، إلا أن طيب تيزيني لم يجد ذلك كافياً ، لأن الكلمة كما يبدو ابتُذلت واهترأت فلم تعد معبرة عن مدلولها السلبي الذي اقترن بها بشكل كاف ، فأضاف إليها واواً من عنده لكي تزداد الكلمة إمعاناً في التعبير عن التطرف والإرهاب والقمع " من باب زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى " فأصبحت الأصولية لديه : أصولوية ، والأصوليين : أصولويين ، وعلى هذا النحو يتحول النص إلى : نصوية ، والنصيين إلى : نصويين والماضي إلى : ماضوية . والسلطة إلى : سلطوية ليُوصَف الإسلام بأنه الإسلام الرسمي السلطوي .
وبنفس اللغة يتحدث محمد أركون فالتاريخ والتاريخي يتحول إلى تاريخوي ، أو النزعة التاريخوية ، أو التاريخوية الوضعية ، والعقلاني يصبح عقلانوي ، والشعبي شعبوي أو شعبوية ،والأخلاقية تصبح الأخلاقوية ، والمنطقي يصبح المنطقوي والإسلامي إلى إسلاموي أو إسلاموية ، لكي يُصنَّف عدد من المفكرين الإسلاميين والعلماء مثل محمد مهدي شمس الدين ، ود. محمد عمارة ، ود. محمد يحيى ، ومحمد نور فرحات "" هذا النوع من المفكرين "" على أنهم مفكرون إسلامويون.
وإذا كان طيب تيزيني اعتبر الخلافة الإسلامية سلطوية ، فإن أركون صعد من عدوانه واستفزازه فاعتبر القرآن الكريم خطاباً سلطوياً.
وعلى هذه الوتيرة يفرق أركون بين العلمانية والعلمانوية والفكر العلماني والتطرف العلمانوي. وأركون يقصد بالعلمانية الفكر المعتدل المستنير الذي لا يتناقض ولا يتصادم مع الأديان ، أما العلمانوية فهي الجانب المتطرف منها الذي يرفض التعايش مع الأديان ، ويسعى للصدام معها ، ويرفض تدريس اللاهوت الديني من أجل المحافظة على قداسة العلمنة .
ولذلك يزعم أركون أن الغربيين يرفضون تفرقته هذه ويحاربونه في كتاباتهم من أجلها ويتهمونه بالتفاهة ، والظلامية ، والتشقيق الفارغ ، وأنه لا يقصد سوى معاداة عصر التنوير ، والقضاء على العلمانية القيمة الأساسية المؤسسة للحضارة الغربية . ولم يتكرم علينا أركون بذكر من هم هؤلاء الغربيين الذين يحاربونه من أجل ذلك ؟ لعله يريد أن يستثير عواطفنا معه بجعله من نفسه خصماً للغرب والاستشراق الذي يقف منا موقف المستَغِل والمضطهِد والخصم ، ويصبح أركون بذلك قائد المضطهَدين والمستغَلين والمظلومين ، والمنافح عنهم . ولكن المراد في الواقع هو تمرير العلمانية الغربية لأن أركون في الحقيقة ليس خصماً فعلياً للغرب ، وإنما خصماً مصطنعاً غايته ترويج نفسه أولاً ، وترويج علمانيته ثانياً .(13/442)
والعلمانوية المتطرفة التي ينتقدها أركون هي الرؤية المادية البحتة للكون والإنسان والحياة ، ويتفق معه في هذا الاتجاه ثلة من الحداثيين إذ يريد هؤلاء جميعاً أن تشمل العلمنة أبعاداً جديدة في حياة الإنسان بما في ذلك البعد الروحي وهو لا يعني بذلك الإقرار بحقيقة الجانب الروحي ، ولكن بما أنه واقع مشاهد في حياة الناس فيجب على العلمنة أن تشمله ببركاتها وخيراتها ، حيث علينا "" أن نعترف للبعد الروحي بوجوده بصفته أحد المكونات التي تشكل نظام التصور والاعتقاد الخاص بكل فئة اجتماعية مدروسة "" ومن هنا وبما أننا في نظره في غفلة عن النقاش الدائر في الغرب حول العلمانوية laicisime والعلمانية laicite انتشر الخطاب الإسلاموي أو الأصولوي انتشاراً سريعاً في الآونة الأخيرة .
وهكذا يسير أركون دائماً في تفرقاته فيفصل بين القول بـ " التاريخية الراديكالية " ، وهي تعني عنده أن "" العقل البشري لا يمكن فصله عن تأسيسه الاجتماعي التاريخي ، أو عن جذوره الاجتماعية التاريخية "" ، وهذه هي التي يسعى أركون لإشاعتها ، والقول بـ " التاريخوية الوضعية " وهي تعني عند أصحابها أن "" الأحداث والوقائع و الأشخاص الذين وُجِدوا حقيقة ، ودلت على وجودهم وثائق صحيحة هم فقط الذين يمكن أن يُقبلوا كمادة للتاريخ الحقيقي الفعلي ، وهذا يعني استبعاد كل العقائد والتصورات الجماعية التي تحرك المخيال الاجتماعي أو تنشطه من ساحة علم التاريخ "" . ويعني أركون بهذا النص أن النزعة التاريخوية الوضعية مخطئة في تحييدها لأثر الأساطير والميثيات عن ساحة التاريخ فهي ذات دور كبير في صنع التاريخ ، وإن لم تكن ذات حقيقة واقعية ، وهو يعني بذلك البنية الميثية في القرآن الكريم كما يصفها ، وسنفصل قوله في ذلك لاحقاً .
وكذلك يفرق أركون بين النظام المعرفي الشعبي والشعبوي فما هي الشعبوية عنده ؟ إن الشعبوية عند أركون - في تاريخنا القديم والحديث - هي التيار السلفي السني المسيطر السائد الذي يقود الجماهير الشعبية المؤمنة ، ويُشكّل منها نواة الدولة والأمة ، ويُكرّس لها معتقداتها وتصوراتها الدوغمائية - أي الجامدة - والتي تنفي بنظره الآخرين وتقصيهم عن أي دور في تشكيل النظام المعرفي الذي سيُفرَض على الشعب. إنها تُحوِّل الدين إلى هذيان جماعي يحمل في طياته الموت والخراب . ويتفق معه في ذلك مترجمه هاشم صالح حيث يؤكد أن الشعبوية تعني : الدوغمائية المتطرفة الغرائزية بينما الشعبية فهي : مستنيرة ، متسامحة ، ميالة إلى التقدم .
---------------
سؤال:
المصطلح العجيب: (العلمانوية) حتَّم تقديم السؤال التالي: ما السر في هذا الاصطكاك العلماني للمصطلحات ؟
الفرق بين العلمانية والعلمانوية عند أركون أصبح واضحاً
فهي الجانب المتطرف من الفكر العلماني الذي يرفض كل ما سوى المادة ، ويفسر كل الأشياء تفسيراً مادياً في حين يرى أركون أن العلمانية المستنيرة يجب أن تضع في اعتبارها الجوانب الروحية الديناميكية أو " الدينامو " كمؤثرات في النشاط البشري ، وليس كحقائق ثابتة . هذه التفرقة تنسحب على كل الكلمات الأخرى التي يضيف إليها هذه ألـ " ويّة " متأثراً بالفكر الغربي والاستشراقي .
ويبدو لي أن هناك عاملين آخرين يدفعان الباحثين من أمثال تيزيني وأركون إلى اختيار هذه الصياغة كمعبر عن الغلو والتطرف في الفكر الإسلامي ثم تعميم ذلك ليشمل ظواهر عالمية أخرى .
الأول : هو المحاكاة المبدئية للمصطلح الذي أشاعته وسائل الإعلام الغربية ، ، ولحقتها وسائلنا العربية دون انتباه للأخطار واللبْس الذي يتولد عن استيراد المصطلحات وإسقاطها من ثقافة إلى أخرى ، وخصوصاً إذا كان بين الحضارتين عداء تاريخي يتكرر باستمرار .
وهذا المصطلح هو الأصولية ، فلقد ظلت إذاعتا " لندن ومونتكارلو " على مدى العقود الثلاثة الماضية تربط هذا المصطلح بالإسلاميين في الجزائر ، ومصر ، وسوريا ، وإيران ، وغيرها من الدول ، وظلت تكرره كثيراً حتى ارتبط المصطلح بالعنف والقمع والإرهاب والقتل، ورسَخ ذلك في اللاشعور الثقافي واللغوي الفردي والجماعي ، وأصبح يتردد على الألسنة والأقلام حتى بين الإسلاميين أنفسهم ، وكل ذلك نتيجة للتكرار الذي يُكسب الأفكار صفة الرسوخ والفاعلية، حتى وإن كانت كاذبة أو مزوّرة أو أسطورية ، يقول غوستاف لوبون : "" إن التوكيد والتكرار عاملان قويان في تكوين الآراء وانتشارها ، وإليهما تستند التربية في كثير من المسائل ، وبهما يستعين رجال السياسة والزعماء في خطبهم كل يوم ، ولا يحتاج التوكيد إلى دليل عقلي يدعمه ، وإنما يجب أن يكون التوكيد حماسياً وجيزاً ذا وقع في النفس … والتوكيد لا يلبث بعد أن يُكرَّر تكراراً كافياً أن يُحدِث رأياً ثم معتقداً ، والتكرار تتمة التوكيد الضرورية ، ومن يُكرر لفظاً أو فكرة أو صيغة تكراراً متتابعاً يحوّله إلى معتقد "" .(13/443)
وبذلك تحول مصطلح الأصولية - والذي هو في أصله يعني العودة إلى الأصول الصحيحة والصافية التي تُشكِّل المعين الذي لا ينضب للفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية - تحوّل نتيجة للتكرار المُغرض المدروس إلى مصطلح مُشوّه لا يمت إلى معناه الحقيقي بصلة .
الثاني : إن كلمة أصولية عُرِّيت كثيراً من قبل علماء الإسلام وأدرك المسلمون ما تعنيه هذه الكلمة في وسائل الإعلام الغربية ، وما يراد لها أن تتضمنه من إيماءات ، فتعاملوا معها بحذر وتَوجُّس ، هذا بالإضافة إلى الابتذال الشديد الذي لحق الكلمة لكثرة ما تتردد مقترنة بتوظيفات فكرانية أجهضت فاعليتها السلبية التي أُريدت لها وكادت أن تُعدِمَها ، مما دفع تلاميذ الغرب والاستشراق إلى محاولة تجديد الكلمة بإضافة هذه الـ " ويّة " إليها لتعطيها دفعاً جديداً ، ومغزىً تنفيرياً أكبر ، وأكثر فاعلية في حجب الناس عن الرؤية الإيجابية للأصولية ، ولا سيما أن الإضافة الجديدة للكلمة تجعلها على وزن ونمط كلمة أخرى ينفر منها كل الناس ، وتتبادر إلى أذهانهم بمجرد ذكر الأصولوية أو حتى الأصولية ، وهذه الكلمة هي " دموي " و " دموية " وإسهام وسائل الإعلام الغربية في عقد صلة سفاحية بين إراقة الدماء البريئة ، وبين الأصولية أو الأصولوية الإسلامية ، وهذه " الدموية " هي التي دفعت المستشرقين إلى التفرقة بين مسلم وإسلاموي فالأولى Islamique ذات إيحاء إيجابي حيادي ، والثانية Islamiciste ذات إيحاء سلبي دموي متطرف ، ولحق بهم كلٌّ من أركون وتيزيني وأمثالهم في اشتقاق مصطلحاتهم على هذا النمط لكي تمثل الغلو ، والإفراط ، والعنف والقمع.
----------
سؤال:
ما الفرق بين اللائكية والعلمانوية إذا كانتا معاً - كما رأينا - تمثلان الجانب المتطرف في العلمانية ؟
العلمانوية تمثل التطرف على مستوى الفكر والتنظير ، أما اللائكية فتمثل التطرف حين الممارسة والتطبيق ، فالأولى متطرفة فكرياً ، وأما الثانية فمتطرفة سلوكياً وعملياً . والله أعلم .
-------------------
سؤال:
من خلال تمحُك مصطلحات العلمانيين، هل هناك علمانية معتدلة وأخرى متطرفة ؟
قد تكون فالأولى مثلاً: التي تتبناها دول أوربا الغربية وأمريكا ومن يطلق عليهم " العالم الحر " ويُفترَض فيها أن تتبنى الحريات وحقوق الإنسان بصفة عامة ، ومنها الحرية الدينية ، وحق الإنسان في الالتزام بدينه .
والثانية : هي العلمانية الماركسية التي تتبناها روسيا الشيوعية ، فهذه لا تقف موقفاً محايداً من الدين ، بل هي تطارده داخل جدران المساجد والكنائس ، وتعتبره عدواً لها ، وتسعى للقضاء عليه نهائياً .
الواقع - كما يقرر الدكتور القرضاوي - أن العلمانية لا يمكن أن تكون محايدة من الدين، لأن عزل الدين عن حياة المجتمع أو تفريغ حياته من الدين ليس موقفاً حيادياً ، إنه موقف ضد الدين ، إنه يقوم على اتهام الدين بأنه ضرر بالحياة وخطر عليها ، فيجب إبعاده عن توجيه الحياة والتأثير فيها ، ويجب أن تُبنى الحياة في تشريعها وثقافتها على غير الدين ، وهذا الموقف لا يمكن أن يُعتَبر حيادياً ، لأنه تجريم للدين وإدانة له.
كما أن الدين يطرح نفسه على أنه منهج حياتي شامل كامل ، والحد من سلطانه يعني إعلان الحرب عليه ، وبالذات الإسلام فهو رؤية شاملة وكاملة للكون والحياة والإنسان ، تغطي عبر آلياتها الاجتهادية كل مراحل التطور البشري والاجتماعي والتاريخي " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " ، والدين المسيحي مع أنه لا يحتوي على تشريع أو تنظيم اجتماعي وإنما يحيل إلى التوراة أو العهد القديم ، ومع أن العلمانية حاربته طوال القرون الخمسة الماضية حتى انزوى إلى الحياة الشخصية على مستوى أفراد قليلين لا يشكلون نسبة كبيرة في الغرب ، بدأ يستعيد وجوده في الحياة الغربية ، وإن كانت هذه الاستعادة ذات أهداف فكرانية وسياسية ، ليكون سلاحاً روحياً في مواجهة الإسلام الذي يلقى رواجاً واسعاً في الغرب هذه الأيام ، ولذلك نجد النشاط المسيحي أغلبه نشاط سياسي تبشيري تدعمه النظم السياسية الغربية التي تعتبر نفسها في حالة مواجهة مع الإسلام " الخطر الأخضر " .(13/444)
ومع أن الدين المسيحي فقد ركائزه المقدسة ، وانهارت مرجعيته تحت سياط البحث العلمي ، والتاريخي - كما أشرنا في التمهيد - ولم يعد يملك القدرة على الإقناع أو اكتساب ثقة المؤمنين به ، مع ذلك فإن الغرب اضطر أن يعدِّل كثيراً في المسيحية حتى كادت أن تتماهى مع الإلحاد ، وذلك من أجل أن يرضي حاجته إلى التدين ، أو يرضي ضميره المعذب لاغتياله المسيحية ، ولذلك فقد "" تضاءلت الفروق الثقافية بين المؤمن والكافر ، وانطمست الحدود بين الإيمان والكفر وأصبحت المسيحية أكثر مرونة والإلحاد أكثر سلبية ، والإنجليزي الكافر ذو المنزلة الاجتماعية مهما تكن هذه المنزلة متواضعة يجري على سَنن المسيحية غالباً في مناسبات الولادة والموت والزواج "" ، ومن هنا فإن إليوت يعتبر دين مجتمع ما هو ثقافته أيضاً ، والاحتفاظ به احتفاظ بثقافة الأمة "" إن الثقافة والدين مظهران لشيءٍ واحد "".
ومن الخطأ الشائع القول : بأن "" الثقافة يمكن حفظها وبسطها وتنميتها بغير دين "" و "" حين ندافع عن ديننا فلا بد لنا في معظم الأمر من أن نكون مدافعين عن ثقافتنا في الوقت نفسه والعكس بالعكس "" وإن "" القوة الرئيسة في خلق ثقافة مشتركة بين شعوبٍ لكلٍّ منها ثقافته المتميزة هي الدين "" ولذلك "" إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا "". ومن هنا فإن الدين في الغرب يتجلى في مظاهر حياتية كثيرة كالقَسَم وتدريس المناهج الدينية ، وأعياد الميلاد ، وقوانين العقوبات . وهكذا يتبين لنا أن الغرب يريد العودة إلى الدين لأهداف دنيوية محضة ، أهمها استخدامه كسلاح وثقافة " فكرانية " في مواجهة الشمولية الإسلامية . ولكن الدين الذي يريده الغرب ليس هو الدين العلماني علمانية ثابتة ، وإنما هو الدين الذي يقبل الخضوع للعلمنة المستمرة دون توقف ، وعلى هذا النحو يفرقون بين العلَمانية والعلمنة ، فكيف ذلك ؟ .
---------------------
سؤال:
في هذه الدوامة من المصطلحات، هل هناك فرق بين العَلمانية والعلمنة ؟
العلمنة لم تكن في الأصل تتضمن حكماً تقييمياً ، فقد كانت تعني في شرع الكنيسة الرومانية " رجوع " رجل دين أو قس إلى العالم ، كما كانت تعني إبعاد مقاطعة أو ملكية ما عن رقابة السلطات الكنسية ، ولم تصبح العلمانية مفهوماً فكرانياً مثقلاً بالمعاني مثيراً للجدل إلا حديثاً، وبالتحديد منذ الحرب العالمية الأخيرة حيث أصبحت تعني حسب موقع كل طرف إما التحرر من قيود الدين وسلطة رجاله ، وإما انحسار النصرانية والرجوع إلى الوثنية.
ويبدو أن التعريف الذي يقترحه " بيترجي " أكثر تعريفات العلمنة المتعددة دقة ، فالعلمنة كما ضبطها هي "" السيرورة التي بها تخرج قطاعات تابعة للمجتمع والثقافة عن سلطة المؤسسات والرموز الدينية "". وسنلاحظ - فيما بعد - أن كلمة السيرورة هي الحد الفاصل بين العَلمانية والعلمنة ، إذ إن اتجاه العلمنة الجارف جعل المسيحية تحاول أن تتنازل كثيراً عن معتقداتها التي تبنتها لبضعة قرون لتتماشى مع التيار الجديد ، فكانت البروتستانية أول بوادر العلمنة في المسيحية ، ثم انخرط اللاهوتيون المسيحيون بدون وعي في علمنة المسيحية ، وبدؤوا يطرحون صِيَغاً جديدة للمسيحية لم تكن من قبل حتى قال قائلهم : "" إننا نصير مسيحيين باستمرار"" أي أن كل ما يُطرح من نظريات علمانية جديدة نتبناه ونعتبره من المسيحية، ومن هنا قال باسكال:"" إننا بدلاً من أن ندخل العالم في المسيحية، نريد أن ندخل المسيحية في العالم"" .
والواقع أن استجابة المسيحية للعلمنة كانت سريعة ، وانخراطها في سيرورتها لم يكن شاقاً، والسبب هو أن المسيحية فقدت ركائزها التي ترتكز عليها منذ القرون الأولى بجهود بولس ، ثم قسطنطين والمجامع المسيحية ، وبالتالي بدأت تبحث عن أسس تستند إليها في الأفكار الإغريقية والهلينية ، وكان بولس قد أنجز هذه المهمة بنجاح .
وهكذا فإن أول غاية للعلمنة هي التحرر من المسيحية ، لأن العلمنة في أساسها تعني أن هناك "" مساراً تاريخياً لا راد له تقريباً هو الذي يتحرر بمقتضاه المجتمع والثقافة من الخضوع لوصاية الدين والأنساق الميتافيزيقية المغلقة "" . فالعلمنة إذن : "" تطور تحرري وثمرتها النهائية هي : النسبية التاريخية "" أو هي : "" عملية تطورية لوعي الإنسان من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج "" والتاريخ بالنسبة للعلمانيين عبارة عن سيرورة لتحقق العلمنة .
--------------------------
الخلاصة :(13/445)
العلمنة تعني مساراً لا نهاية له ولا حدود ، تخضع فيه القيم والرؤى الكلية للوجود للمراجعة الدائمة حسبما يقتضيه التغير في المسيرة التطورية للتاريخ ، بينما تعكس العلمانية - شأنها شأن الدين مثلاً - رؤية مغلقة ، ومجموعة من القيم المطلقة المتوافقة مع غاية نهائية للتاريخ تنطوي على أهمية كبرى للإنسان ، وهذا يعني أن العلمانية بالنسبة للغربيين تمثل منظومة فكرانية أي ثابتة وجامدة . "" العلمنة لا ينبغي لها هي الأخرى أن تصبح عقيدة إيديولوجية تضبط الأمور ، وتحد من حرية التفكير كما فعلت الأديان سابقاً ، والعلمانية النضالية laicisme ربما كانت قد مشت في هذا الاتجاه "" إن العلمانية مشروع لا يكتمل ، وأفق ينبغي افتتاحه باستمرار ، لكي لا تتحول إلى معتقد مغلق ، وسلطة كهنوتية. ولذلك فالعلمانية تجربة لا تكتمل وسيرورة تحتاج على الدوام إلى إعادة تأسيس وبناء، وعلى داعية العلمانية أن يصنع علمانيته باستمرار ويعيد خلقها من جديد ، ويعيد انتزاعها من تاريخها الخاص وإعادة إنتاجها بشكلٍ دائم .
إن هذا يعني أن العلمانية إذا تجسدت وتبلورت في قالب معين تتحول إلى منظومة فكرانية، وهو ما لا يريده الغرب ، لأنهم يريدون بشكلٍ دائمٍ أن تظل العلمانية في حركة تعلمن دون توقف ، ويجب على كل جيل أن يسهم في تحريك عملية العلمنة وإخراجها من جمودها وثباتها عن طريق إبداع برامج فلسفية مفتوحة تكرس النسبية المطلقة .
وهكذا ففي الوقت الذي تقوم فيه الفكرانية العلمانية بتحرير عقل الإنسان من النظر إلى الطبيعة نظرة رهبة وتقديس ، وبنزع القداسة عن السياسة شأنها في ذلك شأن العلمنة بوصفها مساراً متصلاً ، إلا أنها لا تمتهن القيم بالشكل المطلوب والمستمر ، لأنها تقدم نسقاً قِيَمياً خاصاً بها ، ولذلك تُعتَبر العَلمانية خطراً على العلمنة إذا لم تُراقَب بشكل دقيق وصارم حتى لا تتحول إلى إطار فكراني للدولة ، أو إطار دوجماطيقي ، لأن العلمنة تطور دائم وحركة دائمة فهي لا تعرف الثبات .
يمكننا أن نشبه هذه الحركة بالحركة التي تحصل داخل المادة حسب المفهوم الماركسي ، وتُنتِج صراع الأضداد ، وهذا الصراع يؤدي دائماً إلى أوضاع جديدة لا تستقر على حال . وبذلك نلاحظ كيف تظل العلمانية تستعيد جذورها التي أنتجتها .
----------------
سؤال:
هل للعلمانية نظرة شمولية للعالم ؟
تقدم الدكتور عبد الوهاب المسيري ببيان نوعين (قِسمَين) من العلمانية ليسا منفصلين ، بل متكاملين في داخل دائرة واحدة ، وهو يعرض قسمته هذه من أجل تجاوز إشكالية التأرجح في تعريفات الباحثين بين علمانية جزئية قاصرة على فصل الدين عن الدولة وعلمانية شاملة تعم كل شؤون الحياة .
- فالعلمانية الجزئية : عنده هي رؤية معرفية جزئية للواقع لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية ، ومن ثم لا تتسم بالشمول ، فهي تذهب إلى فصل الدين عن الدولة ، وربما بعض النشاطات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى ، ولكنها تسكت فيما يتعلق بجوانب الحياة المختلفة الأخلاقية والميتافيزيقية ، ولا تتعرض للمطلقات والكليات الأخلاقية والإنسانية والدينية بالنفي أو الإثبات .
- أما العلمانية الشاملة : فهي رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي كلي ونهائي وتحاول بكل صراحة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات بكل مجالات الحياة ، وهي رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية .
والعلمانية الشاملة بهذا المعنى ليست مجرد فصل الدين عن الدولة أو عن الحياة ، وإنما فصل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن العالم ، وليس عن الحياة فقط أو الإنسان فقط ، بمعنى أن العالَم يصبح شيئاً تافهاً لا قداسة له ، والإنسان مادة خالية من أية قيمة روحية متجاوزة للمادة ، أو متعالية عليها .
وعندما تُنزع القداسة عن العالم " الإنسان والكون " يسقط في قبضة الصيرورة المادية ، ويظهر الإنسان الطبيعي في حدود احتياجاته المادية الاقتصادية أو الجسمانية ، وحدوده هي حدود المادة ، وأهدافه وغاياته وأخلاقه مادية ، وسلوكه وتطلعاته وأشواقه مادية ، إنها باختصار المادية المطلقة .
ويذهب الدكتور المسيري إلى أن العلمانية الشاملة تتفق مع الإمبريالية ، وذلك لأنها حين تُكرّس المادية المطلقة ، تترسخ في الواقع الإنساني النفعية المطلقة على كل المستويات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية ، وعندما تصبح النفعية هي المعيار فإن سلطان القوة هو المرجعية والحكم ، وسلطان التفوق الحضاري والمادي هو الأساس والمنطلق .
وبذلك بدلاً من النزعة الإنسانية تسود مركزية الإنسان الأبيض ، والشعر الأشقر ، والعيون الزرقاء في الكون ، وبدلاً من الدفاع عن مصالح الجنس البشري تسيطر مصالح الجنس الأبيض ، أو الجنس الأمريكي _ كما هو ملاحظ اليوم في مؤتمرات العولمة - وبدلاً من الاحتكام للمعايير والقيم الإنسانية ، يصبح الاحتكام للمعايير الأمريكية أو الغربية تحت حراسة القوة النووية ، والترسانات العسكرية .(13/446)
والواقع أن هذه النفعية المطلقة ، وأخلاق القوة ممتدة في التاريخ الغربي منذ أفلاطون وأرسطو اللذين رأيا ضرورة إبادة المعوَّقين والضعفاء ، إلى مكيافللي الذي نهى الحاكم عن الرأفة والرحمة ، ودعاه إلى القتل والإبادة لتوطيد سلطانه ، إلى نيتشه الذي حَلُم بإبادة كل الضعفاء من البشر في إطار دعوته إلى " الإنسان الأعلى " إلى داروين " والبقاء للأقوى " إلى وليم جيمس ، وجون ديوي ، والفلاسفة الأمريكيين الذين رسخوا النفعية بشكل فلسفي يتواءم مع التطور التقني والتكنولوجي ، ويستجيب لتطلعات العقل الغربي الذي اكتنز المادية منذ بضعة قرون .
ونزلت هذه الفلسفات إلى ساحة الواقع ، وعانت منها البشرية الويلات المتلاحقة على يد نابليون بونابرت ، وهتلر ، وموسوليني ، وستالين ، وكان حصاد هذه العلمانية ملايين الضحايا من البشر في حربين عالميتين ، ولا تزال المأساة متواصلة على يد الجزار الأمريكي ، والتحالف الأوربي ، والشيوعي في البوسنة والهرسك ، والبانيا ، والشيشان والعراق وأفغانستان والفلبين ، والعلامات تشير إلى أن الدور قادم إلى سوريا ، وإيران ، رد الله كيدهم في نحورهم .
كل هذه الفظائع لم تقع بأيدي المسلمين ومع ذلك "" يُوجه دائماً النقد للمسلمين ، لأنهم لم يقوموا بأفضل الإنجازات ، ولكن نادراً ما يُسجل لهم أنهم منعوا حدوث الأفظع في بلادهم ، فلن تجد عندهم أبداً القتل المنظم للشعوب كما حدث في أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا ، ولن تجد ما يشبه الرعب والإرهاب الستاليني ، واقتلاع الملايين من البشر من جذورهم تحت مسمى الخطة الخمسية ، كما أن المسلمين لا يتحملون وجود نماذج للتفرقة العنصرية كالتي شهدتها جنوب إفريقيا من قبل الهولنديين ، بمباركة وبموافقة كنيستهم الإصلاحية ، ولا تجد شبيهاً أبداً للعنصرية اليابانية العنيفة التي شهدتها آسيا قبل عام 1945م ولا الثقافة العنصرية التي مارسها البيض ضد الزنوج في الجنوب الأمريكي بما تتضمنه من قتل وإبادة وعنف ، وشنق دون محاكمة " .
لم يحصل مثل هذا في ديار المسلمين وبلادهم وإنما في العالم المتحضر الذي يتباهى اليوم بالحضارة ويَصِم الآخرين بالتخلف ، وليس لذلك من مبرر إلا أن العلمانية الشاملة المادية هي التي تسلمت القيادة ، وتحكمت في مصائر الشعوب الغربية ، وتريد أن تفرض نفسها على بقية الأمم في إطار العولمة ، وعن طريق الممارسة الإمبريالية ، والتلويح بالقوة النووية وهذا يؤكد ما ذكره الدكتور المسيري من أن "" العلمانية هي النظرية والإمبريالية هي الممارسة "" ويقودنا ذلك إلى الحديث عن العلمانية والسلام .
---------------
سؤال:
بما أننا دخلنا في السياسة، ما هو موقف العلمانية من قضية السلام ؟
في الوقت الذي كان الإنكليز يحتلون البلاد العربية والإسلامية ، ويرتكبون الفظائع من قتل وتدمير وإبادة وتجويع وتجهيل في العراق ، والهند ، ومصر ، كان سلامة موسى يتغزل بالإنجليز فهم ""النظاف الأذكياء "". وهم "" أرقى أمة موجودة في العالم ، والخلق الإنجليز يمتاز عن سائر الأخلاق، والإنسان الإنجليزي هو أرقى إنسان من حيث الجسم والعقل والخلق""، ثم دعا إلى التعاون معهم وهم يحتلون البلاد ، ويقتلون العباد فقال : "" فنحن إذا أخلصنا النية مع الإنجليز فقد نتفق معهم إذا ضمنا لهم مصالحهم ، وهم في الوقت نفسه إذا أخلصوا النية لنا ، فإننا نقضي على مراكز الرجعية في مصر ، وننتهي منها ، فلنول وجوهنا شطر أوربا "".
هذا هو ثمن السلام بنظر سلامة موسى أن نتعاون مع الإنجليز ، ونضمن لهم مصالحَهم ، ومصالحُهم أن يظلوا جاثمين على صدر مصر ، ينهبون خيراتها ويستذلون أهلها ، ويدوسون كرامتها ، ولكن هذا لا يشكل خطراً على سلامة موسى لأنه سيظل هو والنخبة الربيبة ينعمون بالرفاهية ، ويتمتعون بالخيرات ما دام أسيادهم راضين عنهم ، آمنين لجانبهم .
والربح الذي يحققه سلامة موسى من التعاون مع الإنجليز هو القضاء على الرجعية ، والرجعية المقصودة عنده والتي يحلم بالقضاء عليها هي الأزهر الذي يبث فينا ثقافة القرون المظلمة ، وشيوخ الأزهر المأفونين ، الذين لا يكفون عن التوضؤ على قوارع الطرق . أليس هذا هو الفاشيست الذي يتحدثون عنه ؟! .
واليوم يدعونا طارق حجي إلى الإيمان بحتمية الوصول إلى السلام مع إسرائيل ، وعلينا أن نكافح لترسيخ ثقافة السلام بدلاً من ثقافة العدوان وأن نسير على خطا السادات لكي تتجنب المنطقة السقوط في العنف والماضوية والتخلف والفقر ، وعلينا أن نقبل قيام دولة ديمقراطية لا دينية على كامل تراب فلسطين يتساوى فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون. ويعني هذا أن يتنازل الفلسطينيون عن مقدساتهم ، وعن حق العودة للمشردين من أبنائهم ويرضخوا لما يفرضه منطق القوة الإسرائيلي والأمريكي . إنها دعوة للاستسلام تحت عنوان:" الإيمان بحتمية السلام " .(13/447)
أما مراد وهبة فالعلمانية بنظره هي الحل لمشكلة الشرق الأوسط في فلسطين ذلك أنه يعرف العلمانية بأنها "" النظر إلى النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق ""، ويعني بذلك سيادة النسبية على كافة المستويات ، وإقصاء المطلقات من الوجود، لأنه لا وجود لحقيقة مطلقة ، والقول بها مجرد خرافة ، وسيادة المطلق يهدد السلام العالمي ، لأنها ستدخل في صراع كما هو الحال بين المطلقات الثلاثة الإسلامي اليهودي والمسيحي ، وليس من وسيلة لحل هذا الصراع إلا بالقضاء على المطلقات ، ويتم ذلك بنفي الدوجماطيقية " أي نفي علم العقيدة " لأن مفهوم الحرب كامن في هذا العلم . لأن هذا العلم قائم على اليقين "" واليقين لا يمكن أن يكون إلا مغلقاً ، ولهذا فهو يؤول في المنتهى إلى الدوغمائية التي تُترجَم تعصباً وتحزباً وربما عنفاً وإرهاباً "" ومع أن هذا الكلام لا يرضي الناطقين باسم الغائب والمدافعين عن العقائد وحراس النصوص كما يقول الخطاب العلماني إلا أنه يقرر ذلك ليؤكد على أن الصراع العربي الإسرائيلي في النهاية هو صراع مطلقات ، والحل الوحيد في العلمانية لأنها المضاد الحيوي للأصوليات الدينية التي تغذي المطلقات وتتغذى منها ، وعلى ذلك بدلاً من شعار " الإسلام هو الحل " تصبح " العلمانية هي الحل " .
ولكن تجاهل مراد وهبة هنا أن العلمانية تصالحت مع الصهيونية واليهودية وبررت لهم وجودهم في فلسطين ، وشرّعت لاستمرارهم فيها على حساب العرب والمسلمين الذين لم يربحوا شيئاً ، ولم يحصلوا على شيء من علمانية مراد وهبة ، إلا إذا كان مراد وهبة وأمثاله سيجيبون بأن الربح العربي يتمثل في النجاة من القنابل النووية الإسرائيلية ، وهذا ما لا يحسب الأصوليون المسلمون حسابه ، لأن الخوف من الموت لا يردعهم عن المطالبة بحقوقهم ولديهم من الآليات والوسائل " الإرهابية " ما يجعل إسرائيل تفقد صوابها .
بقي أن نتساءل :
ألم تتحول علمانية مراد وهبة إلى مطلق هي أيضاً ينفي المطلقات الأخرى ؟ فإذا قرر هو وشيعته أن " العلمانية هي الحل " وقرر المسلمون بشكل مطلق أن " الإسلام هو الحل " وقررت إسرائيل أن " التلمود هو الحل " أفلا تدخل العلمانية هنا طرفاً جديداً فيما يسميه " صراع المطلقات " ، وبالتالي فإن أية رؤية تُطرح على أنها الحل هي بنظر أصحابها مطلق على الآخرين أن يرضخوا لها ، وهكذا فإنه لا خلاص من المطلق ، ولا بد من مطلق واحد تذعن له كل الأطراف المعارضة .
ونتساءل مرة أخرى : هل حربنا مع إسرائيل هي حرب مطلقات ؟ في الواقع لا ، لأننا نحن لا نحارب إسرائيل لندخلها في مطلقنا الإسلامي ، وإسرائيل لا تحاربنا لتدخلنا في مطلقها اليهودي ، نحن نريد أن نستعيد أراضينا المغتصبة - في إطار وعود ومؤامرات دبرت - على مرأى ومسمع من كل العالم ، ونريد أن يعود الشعب المشرد الطريد في كل بقاع العالم إلى أرضه ودياره ، ويريد الشعب المضطهد المقموع أن يتخلص من الاضطهاد والقمع ، ويتمتع بحريته وكرامته واستقلاله ، فأين المطلقات في هذا الصراع ؟ وإذا كانت حربنا مع إسرائيل حرب مطلقات فإن هذا يعني أنه لا يوجد خلاف بين شخصين في محكمة إلا ويمكن تسميته أيضاً " صراع مطلقات " ، وأن الإنسان الذي يأتي ليغتصب منزل مراد وهبة أو يعتدي على أسرته أو حتى على حياته ، على مراد وهبة ألا يدافع عن نفسه - طبقاً لعلمانيته أو لنسبيته - حتى لا يدخل في صراع المطلقات . والله أعلم .
--------------
سؤال:
هل هناك صقور وحمائم في العلمانية ؟
يقسم العلمانيون العلمانية إلى (صلبة وليِّنة)
تقدم بهذه القسمة عادل ضاهر في كتابه " الأسس الفلسفية للعلمانية " ، ويعني بالعلمانية الصلبة هي تلك التي تتخذ من الاعتبارات الفلسفية أساساً لها ، وبذلك تكون علمانية راسخة لا تتزعزع لأن الاعتبارات الفلسفية لا تخضع للظروف والوقائع ولا ترتبط بها .
ولا يبني العلماني الصلب موقفه بناء على أية أدلة تاريخية أو اجتماعية أو سوسيولوجية أو دينية لأن كل هذه اعتبارات خاضعة للظروف والتغيرات وغير حاسمة ، واللجوء بالذات إلى نصوص دينية لتسويغ الموقف العلماني - كما فعل عبد الرازق وخلف الله وغيرهما - هو في نهاية التحليل لجوء إلى سلطة دينية ما ، إما سلطة الله [عز وجل] نفسه ، أو سلطة نبي من الأنبياء أو سلطة علماء الدين والفقهاء ، وبما أن الرجوع إلى سلطة الله [عز وجل] مباشرة بالنسبة لنا غير ممكن إلا بواسطة الأنبياء ولا أنبياء اليوم ، فإن السلطة - على هذا الشكل - بقيت للعلماء والفقهاء ، وبما أن العلماء مختلفون ومتعارضون ، فإننا بحاجة إلى اعتبارات مستقلة عن سلطة العلماء المتناقضة لتحكم في الموقف، وتحسم الخلاف، وليس من سلطة هنا إلا العقل، والعقل العلمي بالذات، والعقل الفلسفي بالدرجة الأولى، وحتى لو وجد أنبياء فإن التمييز بين النبي الكاذب والنبي الصادق لا يمكن إلا بطريق العقل، والفلسفة هي وسيلتنا الوحيدة للوصول إلى ذلك.(13/448)
والخلاصة التي يريد أن يقررها عادل ضاهر هي : أن العلمانية الصلبة لا تقوم على اعتبارات جائزة أو ممكنة ، بل على اعتبارات ضرورية ، فلا الوحدة الاجتماعية ، ولا الشروط التاريخية أو الاجتماعية أو الثقافية ، ولا النصوص الدينية هي التي تملي على العلماني الصلب موقفه، وهذا لا يعني أنه يرفض هذه الاعتبارات ، بل إنها ربما تكون حافزاً وعونًا له في موقفه ، ولكن موقفه الأخير تمليه عليه اعتبارات فلسفية محضة ، فهو يبني علمانيته على هذه الاعتبارات بالدرجة الأولى ، وما يأتي بعد ذلك مصدقاً فليكن في المرتبة الثانية .
وهذا يعني أن العلمانية الصلبة تعني أمرين أساسيين :
أولاً : أن العلاقة بين الروحي والزمني ، بين الدولة والسياسة لا يمكن أن تكون أكثر من علاقة موضوعية ، أي علاقة تفرضها ظروف تاريخية معينة ، وعلاقة كهذه لا يمكن أن تنبع من الماهية العقدية للدين. ويعني بذلك أنه حتى لو ثبت أن صلى الله عليه وسلم أقام دولة - بعكس ما أراد عبد الرازق وخلف الله أن يُثبتا - فإن هذه الدولة محكومة بظروف وشروط تاريخية معينة ، وليس لها أساس ديني خارج التاريخ ، ومفارق للزمن والواقع .
ثانياً : أن المعرفة العملية "" أي المعرفة المطلوبة لتنظيم شؤون المجتمع والسياسة والإدارة والاقتصاد والقانون لا تجد ولا يمكن أن تجد أساسها الأخير في المعرفة الدينية "" ، وهذا هو تعريف عادل ضاهر للعلمانية .
--------------------
سؤال:
هذا عن العلمانية الصلبة فماذا عن العلمانية اللينة ؟
العلمانية اللينة عند عادل ضاهر هي التي لا تقوم على أسس فلسفية ، وإنما تبحث عن مبرراتها في التاريخ والثقافة وعلم الاجتماع والنصوص الدينية ، وهذه المبررات بنظره جائزة وممكنة وليست ضرورية كالأسس الفلسفية الحاسمة ، ولذلك فإن علمانية هؤلاء تظل علمانية لينة، أي هشة لأن النصوص الدينية ليست حاسمة ، والخلاف في تأويلها يغذي كل وجهات النظر، ولأن الشروط التاريخية والثقافية ، والاجتماعية خاضعة للتغير والتطور عبر مرور الزمن .
كتاب عادل ضاهر " الأسس الفلسفية للعلمانية " يبلغ 429 صفحة يقوم على جدلية العقل والنقل ، وهي كما نعلم جدلية قديمة خاض فيها أعلام الفكر الكلامي الإسلامي ، ومنهم من اختار أسبقية العقل على النقل تخلصاً من الوقوع في الدور ، والعلمانية عند عادل ضاهر حتمية أو ضرورية - كما يُعبّر - للخلاص من هذه المشكلة " فالعلمانية هي الحل " عنده أيضاً - كما رأينا عند مراد وهبة - وهي المطلق أيضاً لأنها عنده " ضرورية " ، ولكن في حين كانت عند مراد وهبة هي الحل لمشكلة الشرق الأوسط وقضية فلسطين ، فهي عند عادل ضاهر الحل لأزمة العقل العربي الإسلامي المتمثلة في التردد والحيرة بين العقل والنقل .
علينا أن نحذو حذو إمامينا الجليلين الغزالي والرازي في تقرير آراء الآخرين الذين نختلف معهم قبل أن نناقشها لنتبين الخطأ فيها من الصواب .
لقد اختار عادل ضاهر أن العقل أسبق من الوحي بل هو أساس الوحي ، وعلى هذه القضية يقوم كتابه ، فالأساس في الاعتبار العلماني هو المرجعية "" إن العلمانية هي بالضرورة موقف رافض للطابع الكلياني للدولة الدينية الذي يرتبط مفهومياً بجعل الاعتبارات الدينية نهائية فيما يخص الأمور الروحية والزمنية على حد سواء … ومن المهم ملاحظة أن المعيار في كون الشخص علماني أو لا علماني ليس هو قبول المقررات الشرعية أو عدم قبوله ، وإنما المعيار هو الأساس الذي يبني عليه هذا القبول ، فاللاعلماني يبني قبوله على أساس ديني ، والعلماني قد يقبل الشريعة ، ويبني قبولَه على أساس عقلي أو خلقي ، وهو بذلك يظل علمانياً "" .
المعيار إذن بين العلماني وغيره هو في أصل المشروعية التي يرتكز عليها مجتمع ما في تصوره لهويته وفي إرسائه لنظمه وشؤونه ، ففي المجتمع الديني تُستمَد المشروعية من مصدر مفارق علوي غائب قدسي والإنسان لا مشروعية له هنا ولا شرعية فهو مجرد نائب عن ، أما في المجتمع العلماني فالمشروعية مستمدة من داخله من الإنسان المستقل بعقله والذي يُنتِج معارفه وتجاربه وخبرته ففيه المشروعية والمرجعية .
ومن هنا فإن ما يرفضه العلماني هو المبادئ التي تقوم باسمها السيطرة ، وليس المقصود سيطرة الدين أو رجال الدين ، إن المرفوض هو أن تكون التعاليم الدينية هي التي ينبغي أن تشكل المعيار الأخير أو المرجع الأخير لكل القضايا الروحية والزمنية على حد سواء .(13/449)
ولذلك فالعلمانية "" قد تعترف بأنه لا وجود لمؤسسة كهنوتية في الإسلام ، ولكن ليس هذا ما يرفضه العلماني ، لأن معيار رفضه هو كون الدين المصدر الأخير للتشريع ، والمعيار الأخير للدولة الفاضلة ليس بالضرورة وجود كنيسة ، لأنها تتصل بشيء أعمق من هذا بكثير : بالطابع الكلياني للدولة الدينية ، فالمرجعية المطلقة لله [عز وجل] سواء أكان الوسيط بيننا وبين هذه المرجعية رجال إكليروس أو أنبياء ، فالقضية هي : جعل الدين في نصوصه المقدسة المرجعية النهائية للحاكم في كل مجالات الحياة "". وما دامت وجدت مرجعية دينية فسيوجد رجال دين لهم نفوذ وممارسة للسيادة ، وسلطة استبدادية ، وإن لم يكن للدين على مستوى التنظير تأكيد لهذه السيادة ، إلا أنه من الناحية العملية والممارسة لا بد من وجود مثل هذه السيادة النفوذية وأمثلة ذلك : دور الإفتاء وعلماء الدين الإسلامي والإكراهات التي يمارسونها ضد الحكومات . فالكهنوت سمة لازمة لكل الأديان ولا يستثنى من ذلك الإسلام .
وهكذا يبدو أن تطبيق القرآن فيه تكريس لسلطة طبقة من رجال الدين وبالتالي القضاء على أحد المبادئ الضامنة لاستقلالية الإنسان ، واحتكار المعرفة في الشؤون الدينية التي تهم المجتمع ، ولا فرق أن نسمي هذه الطبقة التي ستحتكر فهم الدين طبقة كهنوت أو علماء أو غير ذلك ، لأن النص الديني لا يفسر ذاته ، فالنتيجة هي ضياع حرية الإنسان وانهيار الاستقلالية المعرفية للعقل .
ولنا هنا أن نتساءل : إذا قوضنا المرجعية الإلهية والنبوية ، وكرّسنا المرجعية العقلية البشرية ، فسيكون للمُشرّعين البشر نفس الأهمية الكبرى ، والنفوذ والسيادة والتسلط والدكتاتورية - إذا افترضنا أن هذه موجودة في المرجعية الدينية - وسيحل القانوني والمحامي بديلاً عن الشيخ والمفتي ، والمغني والمطرب بديلاً للقارئ والمرتل ، ولاعب الكرة بديلاً عن المفكر والعالم ، والراقصة والممثل والمسرحي بديلاً عن المبدع والعبقري والمجاهد والجندي ، وبالتالي فإن العلماني سوف يعود فيصبح لاهوتياً علمانياً من جديد يمارس لاهوت العلمانية وعلمانية اللاهوت بما في ذلك من تسلط وإرهاب ودكتاتورية وينشأ دين علماني جديد عقيدته الرسمية هي العلمانية ويرفع شعار التقدم والتنوير كإيديولوجيا تمارس سلطتها في سبيل فرض مصالحها تحت راية الرأسمالية أو الاشتراكية وهكذا فإننا عندما نلغي الله [عز وجل] لنُحل محله الإنسان في التشريع تكون خسارتنا فادحة دون أن نربح شيئاً .
ومع ذلك يظل العلماني يصر على أن "" الإنسان يمكنه بدون وحي إلهي أن يتدبر شؤون دنياه " والمقولة التي يسعى لتفنيدها هي أن "" الإسلام دين ودولة "" . "" لأن المعرفة غير ممكنة إلا إذا قامت على أسس عقلية … فلا الوحي ولا الحدس ولا أية وسيلة أخرى قد يحلو لواحدنا أن يفترضها كمصدر للمعرفة يمكن أن تُتّخذ على أنها ذات أولوية على العقل ، أو على أنها مستقلة عن العقل "". فإن "" للعقل استقلالية تامة عن كل ما يقع خارجه ، فلا يمكن إخضاعه لرقابة دينية أو غير دينية ، ولا يمكن لأية معايير من خارجه مهما كان نوعها ومضمونها أن تكون ذات أسبقية على معاييره ، والعلماني الذي يستشهد بالقرآن أو السنة لدعم موقفه يتنازل تنازلاً كبيراً ، لأن العلمانية في أساسها قائمة على أسبقية العقل على النص ، ولأن المعيار الأخير للإلزام القانوني أو السياسي لدى العلماني ينبغي أن يكون مستمَداً من الأخلاق لا من الدين، والسبب هو أن المعرفة الدينية جائزة وممكنة ، أما المعرفة الفلسفية فهي ضرورية ، ولا يجوز اشتقاق الجائز من الضروري .
وإذا كان الأمر كذلك "" فإنه لا يمكننا من منظور عقلي أن نُلزم أنفسنا بالامتثال لأمر أو نهي ما ينطوي عليه نص ديني معين ، إلا إذا وجدنا أن هذا تماماً هو ما تُلزمنا به الاعتبارات الأخلاقية الصحيحة ، مما يجعل العودة إلى الاعتبارات الدينية والنصوص الدينية أمراً عديم الجدوى "".
ومعنى ذلك أن التوفيق بين العقل والنقل مرفوض لأنه تحصيل حاصل ،فالتوفيق سيكون بين مبادئ عقلية تُوُصِّل إليها عن طريق العقل ، ومبادئ عقلية متَضمَّنة في نصوص نقلية ولكن ثبت صدقها أيضاً عن طريق العقل .
ملاحظة : لقد ناقشت أطروحة عادل ضاهر السابقة في قرابة عشرين صفحة وهي تحتاج إلى تهيئة ومراجعة وقد يستغرق ذلك وقتاً .
العلمانية هي الدنيوية
إن الاحتراز الوحيد الذي نضعه هنا لعله يجنبنا كثيراً من الانتقادات والإلزامات التي قد ترد علينا إزاء هذا التعريف هو أن العلمانية " الدنيوية " التي نقصدها تزيد وتنقص ، وتهبط وتصعد ، وأننا عندما نتحدث عن العلمانية التي تقارن الإلحاد والزندقة فإننا نقصد العلمانية في أعلى درجاتها . إن هذا يعني أن بعض الباحثين الحريصين على إسلامهم وإيمانهم ولكن تصدر منهم بعض الأفكار التي تخدم التوجه الدنيوي العلماني ، وتتحرك في داخل أسواره لا يمكن أن يوصفوا بأنهم علمانيين ، وإن كان يصح أن نصف أفكارهم المنحرفة بأنها أفكار علمانية . والله أعلم .(13/450)
الواقع - كما يقرر الدكتور القرضاوي - أن العلمانية لا يمكن أن تكون محايدة من الدين، لأن عزل الدين عن حياة المجتمع أو تفريغ حياته من الدين ليس موقفاً حيادياً ، إنه موقف ضد الدين ، إنه يقوم على اتهام الدين بأنه ضرر بالحياة وخطر عليها ، فيجب إبعاده عن توجيه الحياة والتأثير فيها ، ويجب أن تُبنى الحياة في تشريعها وثقافتها على غير الدين ، وهذا الموقف لا يمكن أن يُعتَبر حيادياً ، لأنه تجريم للدين وإدانة له.
كما أن الدين يطرح نفسه على أنه منهج حياتي شامل كامل ، والحد من سلطانه يعني إعلان الحرب عليه ، وبالذات الإسلام فهو رؤية شاملة وكاملة للكون والحياة والإنسان ، تغطي عبر آلياتها الاجتهادية كل مراحل التطور البشري والاجتماعي والتاريخي " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " ، والدين المسيحي مع أنه لا يحتوي على تشريع أو تنظيم اجتماعي وإنما يحيل إلى التوراة أو العهد القديم ، ومع أن العلمانية حاربته طوال القرون الخمسة الماضية حتى انزوى إلى الحياة الشخصية على مستوى أفراد قليلين لا يشكلون نسبة كبيرة في الغرب ، بدأ يستعيد وجوده في الحياة الغربية ، وإن كانت هذه الاستعادة ذات أهداف فكرانية وسياسية ، ليكون سلاحاً روحياً في مواجهة الإسلام الذي يلقى رواجاً واسعاً في الغرب هذه الأيام ، ولذلك نجد النشاط المسيحي أغلبه نشاط سياسي تبشيري تدعمه النظم السياسية الغربية التي تعتبر نفسها في حالة مواجهة مع الإسلام " الخطر الأخضر " .
ومع أن الدين المسيحي فقد ركائزه المقدسة ، وانهارت مرجعيته تحت سياط البحث العلمي ، والتاريخي - كما أشرنا في التمهيد - ولم يعد يملك القدرة على الإقناع أو اكتساب ثقة المؤمنين به ، مع ذلك فإن الغرب اضطر أن يعدِّل كثيراً في المسيحية حتى كادت أن تتماهى مع الإلحاد ، وذلك من أجل أن يرضي حاجته إلى التدين ، أو يرضي ضميره المعذب لاغتياله المسيحية ، ولذلك فقد "" تضاءلت الفروق الثقافية بين المؤمن والكافر ، وانطمست الحدود بين الإيمان والكفر وأصبحت المسيحية أكثر مرونة والإلحاد أكثر سلبية ، والإنجليزي الكافر ذو المنزلة الاجتماعية مهما تكن هذه المنزلة متواضعة يجري على سَنن المسيحية غالباً في مناسبات الولادة والموت والزواج "" ، ومن هنا فإن إليوت يعتبر دين مجتمع ما هو ثقافته أيضاً ، والاحتفاظ به احتفاظ بثقافة الأمة "" إن الثقافة والدين مظهران لشيءٍ واحد "".
ومن الخطأ الشائع القول : بأن "" الثقافة يمكن حفظها وبسطها وتنميتها بغير دين "" و "" حين ندافع عن ديننا فلا بد لنا في معظم الأمر من أن نكون مدافعين عن ثقافتنا في الوقت نفسه والعكس بالعكس "" وإن "" القوة الرئيسة في خلق ثقافة مشتركة بين شعوبٍ لكلٍّ منها ثقافته المتميزة هي الدين "" ولذلك "" إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا "". ومن هنا فإن الدين في الغرب يتجلى في مظاهر حياتية كثيرة كالقَسَم وتدريس المناهج الدينية ، وأعياد الميلاد ، وقوانين العقوبات . وهكذا يتبين لنا أن الغرب يريد العودة إلى الدين لأهداف دنيوية محضة ، أهمها استخدامه كسلاح وثقافة " فكرانية " في مواجهة الشمولية الإسلامية . ولكن الدين الذي يريده الغرب ليس هو الدين العلماني علمانية ثابتة ، وإنما هو الدين الذي يقبل الخضوع للعلمنة المستمرة دون توقف ، وعلى هذا النحو يفرقون بين العلَمانية والعلمنة .
سلمة العلمانية
سؤال:
يحاول المنادون بالخطاب العلماني الحصول على تأشيرة مرور للعلمانية إلى العقل المسلم ـ لعامَّتهم وخاصتهم ـ فما هي أساليبهم ؟
هناك ثلة من المفكرين يسعون إلى أسلمة العلمانية، وذلك من أجل الحصول على مشروعية لاستيرادها أو جواز عبور لمرورها، وبطاقة إقامة لها في العقل المسلم، ولذلك تحاول تعريفاتهم وتنظيراتهم أن تردم الهوة، أو على الأقل تقوم بتمويهها بين الإسلام والعلمانية.
فالعلمانية عند نصر حامد أبو زيد ليست مروقاً أو كفراً أو إلحاداً وإنما هي "" التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين، وليست ما يروج له المبطلون من أنها الإلحاد الذي يفصل الدين عن المجتمع والحياة ""، باختصار إن العلمانية عند نصر حامد هي التأويل. وسوف نجد أن التأويل يحتل المساحة الرئيسة في الفكر العلماني.
وإذا كان نصر حامد يبرئ العلمانية من الإلحاد ويعتبرها الفهم الحقيقي للدين فإن محمود أمين العالم يذهب إلى أكثر من ذلك عندما يأمل أن تكون العلمانية منطلقاً صالحاً للتجديد الديني نفسه بما يتلاءم ومستجدات الواقع. ذلك لأن العلمانية عنده هي: رؤية وسلوك منهج. وهذه الرؤية تحمل الملامح الجوهرية لإنسانية الإنسان، وتعبر عن طموحه " الثنائي " الروحي والمادي للسيطرة على جميع المعوقات التي تقف في طريق تقدمه وسعادته وازدهاره.(13/451)
ولكن إذا كان كل المنظرين للعلمانية إسلاميين وعلمانيين يتفقون مع أمين العالم على أن العلمانية تعبر عن الطموح المادي للإنسان وتتطرف في هذا إلى حد التأليه للمادة، فإنه لا أحد يتفق معه على أن العلمانية تعبر عن الطموح الروحي للإنسان، فالعلمانية لا تعترف بالروح أصلاً، وإذا اعترفت بها فإنها تحولها إلى مادة وتتعامل معها على هذا الأساس، إن العلمانية تُهْدِر الجانب الروحي في الإنسان، وتُهدر المقاصد الروحية له، وتُلغي كل ما تطمح الروح إليه من خلود وعبودية وسعادة دائمة.
أما د. حسن حنفي فالعلمانية عنده مصطلح وافد، وبما أنه كذلك فإن الرفض هو ما سيواجَه به، فلماذا لا ندع إلى الإسلام الحقيقي، والإسلام الحقيقي هو إسلام علماني في جوهره لا حاجة له إلى علمانية زائدة عليه مستمدة من الخارج.
نلاحظ أن حسن حنفي لا يرفض مضمون العلمانية، وإنما يرفض المصطلح لأنه بضاعة المستعمر، ولكن المضمون أيضاً بضاعة المستعمر، ولا يكفي أن نلبسه لباساً إسلامياً، أو نعطيه صبغة ذاتية. إن الثقافة الغازية يراد لها أن تتمكن في ذواتنا ولكن من أجل التخلص من عقدة النقص نضفي عليها غطاءً إسلامياً، وتبريراً فكرانياً، ونطلق على الإسلام بأنه دين علماني في جوهره.
إنها نفس النتيجة التي يصل إليها د. عابد الجابري فالمصطلح مثقل بالأفكار والمعاني الغربية الوافدة، والتي تدفع إلى ردة فعل لدى الإسلاميين تجعلهم يسارعون إلى رفضه، والمصطلح البديل لديه هو: الديمقراطية والعقلانية "" فالديمقراطية تعني حفظ الحقوق، حقوق الأفراد والجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة والسياسة عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج "" ثم يضيف الجابري: "" بأنه لا الديمقراطية ولا العقلانية تعنيان بصورة من الصور استبعاد الإسلام "". فهو أيضاً لا يرفض مضمون العلمانية وإنما يرفض الشعار لأنه شعار مزيف ملتبس يجب استبعاده من قاموس الفكر العربي. والعقلانية الجابرية باعترافه هي على النقيض من سيرة السلف الصالح لأن عقلانيتهم تقوم على مبدأ أن الدنيا قنطرة الآخرة وهو منطق قد أدى وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط، وليس عصر علم وتقنية وأيديولوجيا وهو ما يعني إذن أن الإيمان يتناقض مع العلم والتقنية.
ولكن يقال هنا بأن الديمقراطية والعقلانية " المطلقة " كلاهما مصطلحان وافدان والخلاف بشأنهما بين الإسلاميين والعلمانيين لا يقل عن الخلاف بشأن العلمانية. ولذلك لم يحاول حسين أمين أن يرفض المصطلح بل إن المصطلح ومضمونه لا يناقضان الإسلام، لأن العلمانية تولي الحياة الدنيا اهتماماً أكثر مما تفعل المسيحية ولذلك وقعت في صدام معها، أما الإسلام فإنه يهتم بالحياة الدنيا ويعطي لكل من الدارين نصيبها " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ " [البقرة: 172]. و " وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيا " [القصص: 77]. " قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " [الأعراف: 32].
ولكن نسي أنه ينقض رؤيته هذه عندما يعرف العلمانية بأنها: "" محاولة للاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية ""، ذلك لأن الإسلام يرفض أن يستقل العقل عن الوحي في أهم الأسئلة التي تواجه الإنسان، إنها الأسئلة المصيرية الكبرى التي تتعلق بالغيب.
وعلى كل حال يسعى أغلب العلمانيين العرب لكي يؤسلموا العلمانية، ويجعلوها متحالفة مع الدين، أو أن الدين علماني في جوهره ""الكلام على العلمانية لا يعني ألبتة نفي الدين بما هو إرث وتاريخ وتجربة أي بما هو حقيقة واقعة لا مجال لإنكارها وتجاوزها ""
"" ولكن لا يخلو هذا التنظير في كثير من الأحيان عن التناقض فعلى سبيل المثال: يقول د. فتحي القاسمي "" إن العلمانية تصور وضعي لمختلف أنشطة الإنسان بعيداً عن التأويلات المفارقة"" ثم يقول مباشرة ""وليس في ذلك بالضرورة تحامل على الدين ""، ثم يقول في نفس الصفحة "" لقد جعلت العلمانية الدين في وضع جديد، يسوده الحرج، ولم تلغه، وإنما قيدت مجال نشاطه "".
إن كلام القاسمي هذا يعبر عن سذاجة أو استيذاج للآخرين، لأن آخر الكلام ينقض أوله فعندما تكون العلمانية تصور وضعي، والدين قرار إلهي، والعلمانية تصور مادي، والدين فيه مساحة واسعة للغيب، أو ما يسميه " التأويلات المفارقة " فكيف لا تكون العلمانية في هذه الحالة متحاملة على الدين ؟(13/452)
وكذلك عندما يطرح الدين رؤيته الشاملة للوجود، ومنهجه الكامل للحياة، فتحد العلمانية من هذه الرؤية وترفض هذا المنهج، وتضع الدين في وضع حرج، وتقيد فاعليته، كيف لا تكون متحاملة على الدين في هذه الحالة ؟ وكيف لا تكون - العلمانية - كذلك وهي بنظر القاسمي نفسه تَعتَبر المقولات الثابتة للدين متطرفة مهترئة لا يصدقها العقل.
وبالرغم من هذا التناقض الواضح يظل هؤلاء يصرون على أن الإسلام دين علماني كما طرح حسن حنفي والجابري ونصر حامد أبو زيد وحسين أحمد أمين وعبد المجيد الشرفي وفتحي القاسمي ومحمد أركون وطيب تيزيني وطارق حجي ولكن كيف يكون الإسلام ديناً علمانياً عند هؤلاء ؟
---------------------------------
سؤال:
ما أدلتهم على إمكانية أسلمة العلمانية وعلمنة الإسلام ؟
أ - لأنه اهتم بالحياة الدنيا كما سبق ورأينا عند حسين أحمد أمين، ولأنه لم يعرف في تاريخه كنيسة أو نظاماً كهنوتياً، ولم يحكر المعرفة والنظر على أحد. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملِكاً وعاش ملكاً، ومات ملكاً، وحبب إليه من الدنيا ثلاث النساء والطيب والصلاة وانخرط في الواقع الدنيوي المعيش. وقال للناس: " أنتم أعلم بشؤون دنياكم ".
ب - ولأنه قاصر على الأخلاق والقيم، وليس فيه نظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي عند طارق حجي، أو بتعبير طيب تيزيني ومحمد سعيد العشماوي لأنه دين الهداية والرحمة، وليس دين العلم والتشريع، أو بتعبير آخر للتيزيني لأن القرآن "" يقول كل شيء ولا يقول شيئاً "" لأنه كتاب مودة وأخلاق. أو لأن القرآن على حد تعبير محمد أركون "" مجازات عالية "" ومن الوهم اعتقاد الناس بتحويل هذه التعابير المجازية إلى قانون فعال، أو شريعة واقعية.
ج - ولأنه تخلص من أقوى أعراض المقدس: الأسرار والمعجزات، وأعلى من قيمة العقل حتى تُكُلِّم عن معقولية الشريعة وهذا يعني أن بوادر العلمنة تكمن في داخله.
د - ولأن الإنسان هو محور الكون في القرآن، فقد ذُكر في خمس وستين آية، والدنيا ذُكرت في مائة وخمسٍ وعشرين مرة، وهي ليست إفلاساً كما يصورها المغالون وإنما هي مليئة بالطيبات والخيرات، والقطوف الدانية.
هـ - " ولأن أسس التشريع في الإسلام انطلاقاً من مصادره الكبرى تتوفر على قسط كبير من الأريحية والقابلية للتشكل والتلون بما يسعد الإنسان في الأرض حتى وإن بلغ ذلك حد تعطيل المفروض من الأحكام، وتجميد نصوص شرعية. إن هذا النص لا يختلف عما قرره أركون وطيب تيزيني آنفاً وهو ما يعني أيضا أن "" القرآن كل شئ فيه متحرك ومتموج ومفتوح ومليء بالاحتمالات "".
و - ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم " لو قُدّر له أن يعيش بين ظهرانينا حيناً من الدهر، وفي وسطنا المُعلمَن لعدل كثيراً من المواقف ولنسخ العديد من أقواله، لأنه كان مؤمناً بجدلية العلاقة بين المفاهيم الدينية التشريعية، والواقع البشري النسبي والمتطور على الدوام، ولكننا ما نزال نرتطم بالرافضين لذلك. "" ولا يزال النص يسيطر على حساب الفكر "".
ز - " وما قام به علماء المسلمين عبر العصور من اجتهادات جريئة وطريفة يدل على أنه يمكن في الإسلام علمنة المقدس بما يلائم وضع المسلمين، ولا يتناقض ذلك مع مقاصد الشرع، وما دام في إطار المصلحة ". فالاجتهاد في الإسلام ممارسة عقلانية ذات طابع علماني تنويري يجعل الشريعة والأحكام ناسوتية لأن العقل هو الذي يؤسسها ويصبح أولى من النص، مما يجعل الحقائق متعددة كما نرى في كثرة الاختلافات والمذاهب.
-------------------
سؤال:
ولكن، نتساءل هنا: كيف لا تتناقض علمنة المقدس مع مقاصد الشرع ؟
إن الإجابة عند فتحي القاسمي نفسه "" لقد سبقنا الفقهاء والأصوليون إلى تطويع جريء للشريعة، ولكننا منذ عصر النهضة إلى الآن لم نجترئ على إحداث سنة ثقافية إسلامية جديدة داخل المنظومة الإسلامية قادرة على فرقعة كثير من الثوابت التي أضفيت عليها قداسة لم تزدها عصور الانحطاط والتخلف إلا ترسخاً، فهل ذلك يكون بواسطة العلمانية ؟ "". وخصوصاً إذا كانت العلمانية "" هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة من صنع التاريخ، وتظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور "".
ونعيد السؤال الذي أجاب عنه فتحي القاسمي ولكن بطريقة تكشف موطن التناقض والمغالطة فنقول: هل يمكن في الإسلام فرقعة كثيرٍ من الثوابت دون أن يتناقض ذلك مع مقاصد الشريعة ؟ ذلك ممكن في العلمانية فعلاً كما يأمل فتحي القاسمي، لأنه في العلمانية "" كل شيء يجوز"" !! "" كل شئ يجوز "" أقترحه تعريفاً للعلمانية، وليس فيه من جديد إلا طريقة التعبير، لأنه مضمن لدى من يزاوج بين العلمانية والنسبية كمراد وهبة على سبيل المثال.(13/453)
ولأن التاريخ الإسلامي يفيض بالعلمنة ففيه الشعر الماجن والدنيوي، والتراث يفيض بالدنيوية وتصوير الحياة الاجتماعية، وخصوصاً حياة القصور على أنها مملوءة بالملذات والشهوات، والإقبال على الدنيا، والخمر كان شائعاً ومنتشراً في مجمل العالم الإسلامي، وانتشار ظاهرة الزندقة في أوساط المسلمين واستفحالها حتى وُصِم بذلك بعض الخلفاء مثل الوليد بن يزيد [ 88 هـ 126 هـ ] والمهدي [ 158هـ، 169 هـ] وإعلان الزنادقة لآرائهم بكل شجاعة وصراحة دون خوف.
إن كل هذا يؤكد - بنظر الخطاب العلماني - على أن الإسلام أجاز لأبنائه في التنظير والممارسة بعض أشكال العلمانية، ويؤكد "" أن العلمنة في المجتمع الإسلامي القديم ليست بدعاً، أو رجماً بالغيب، وإنما واقع عايشه المسلمون واستأنسوا به أكثر من استئناسهم بالشريعة ""!!!.
----------------------
سؤال:
كيف نرد على القائلين بعلمانية الإسلام وإسلامية العلمنة ؟
المقولات العلمانية السابقة والتي من خلالها يتوصل العلمانيون إلى القول بأن الإسلام دين علماني، ويقبل العلمنة تتركز حول المحاور التالية:
أولاً: أن الإسلام اهتم بالحياة الدنيا.
ثانياً: جعل الإنسان مركزياً في هذا الكون.
ثالثاً: تخلص من المقدس.
رابعاً: تخلص من المعجزات.
----------------------
سؤال:
أرجو التكرم بالتفصيل في مناقشة هذه المحاور الأربعة.
أولاً:
لقد أوْلى الإسلام بالفعل عناية بالحياة الدنيا ولكن بقدر، ويبدو أن الإسلام يبالغ في الاهتمام بالحياة الدنيا إذا ما قُورن بالمسيحية المزوّرة التي دعت إلى الرهبنة، وتطرفت في قمع الفطرة الإنسانية المحتاجة إلى البلاغ في طريق الآخرة.
ولكن المغالطة العلمانية تقوم على الإغفال والإبراز:
فيستدل العلماني بأن الدنيا ذُكرت في القرآن 115 مرة وهذا يعني أن الدنيوية " العلمانية " لها أصولها القرآنية وهذا هو الإبراز، أما الإغفال فيقوم على طمس وتجاهل أن الدنيا عندما ذُكرت في القرآن غالباً تذكر بالذم والامتهان والتحذير من بهرجها وزخرفها، وأن المستدل بالآيات يغالط دون أن يخجل بل إنه عندما يقول: إن الدنيا ليست في القرآن مصدر إفلاس كما يصورها المغالون، يعلم أنه يتجافى عن الحقيقة وهي إلى جواره، لأنه لو تأمل في الآيات التي قام بإحصائها لوجد أن القرآن هو الذي يحكم على الحياة الدنيا بأنها " مَتَاعُ الْغُرُورِ " و " هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ " [الكهف: 45]. وليس المغالون.
إن الأصل في دعوة القرآن هي الآخرة " وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " [العنكبوت: 64]. والدنيا بُلْغة إلى الآخرة، ووسيلة لا بد من الأخذ بها، ولا بد من الإعمار والقيام بالأمانة، ولكن الآخرة في النهاية هي الغاية وهي الجوهر. " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " [القصص: 77]. ولكن الآخرة هي المراد والمقصد " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ " إن الأصل في دعوة القرآن الابتعاد عن الانخراط الأعمى في الدنيوية من شهوات وملذات، والاكتفاء بـ َالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ، والحلال الذي فصله الله عز وجل في كتابه.
------
ثانياً:
وأما أن الإسلام دين علماني لأنه جعل الإنسان محور الكون، فالمقدمة صحيحة، والنتيجة كاذبة، فالإنسان فعلاً هو محور الكون في القرآن الكريم فهو " الخليفة " إني جاعل في الأرض خليفة " [البقرة: 30] وهو حامل الأمانة " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " [الأحزاب: 72].
ولكن ههنا مغالطة أخرى أيضاً تقوم على الإغفال والإبراز:
الإبراز هو الإشادة بالموقف الإيجابي للقرآن من الإنسان، والإغفال هو تجاهل موقف القرآن من الإنسان المنحط والمغرور. الإنسان المحور في القرآن الكريم هو الإنسان الذي حُبِي بالعقل والعلم " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " [البقرة: 31] وشُرّف بالتكليف " وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " [الذاريات: 56] وكرم بالرسالة " قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ " [آل عمران: 183] وأُجيب على كل أسئلته حتى لا يتخبط في الظلام، واُمر بالعبادة لتشبع روحه، ودُعي إلى التفكر والنظر ليشبع عقله، ورُخّص له التمتع بالطيبات ليشبع جسده، وحُذّر من الإسراف والانحراف حتى لا تنزو نفسه، وتجمح غريزته، ويعسر عليه حينئذ حفظ الأمانة التي رضي بحملها.(13/454)
الإنسان في القرآن يمكن أن يسمو حتى يقترب من الملأ الأعلى، ويصبح أسمى من الكون، وأشرف من كل ما فيه، ويصدق عليه عندئذ قول الحق عز وجل: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ " [الإسراء: 70] و " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " [التين: 4] ولكنه يمكن أيضاً أن ينحط ويهوي في مدارك الشقاء حتى يصبح في " أسفل سافلين " [التين: 5] ويقول: " يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا " [النبأ: 40] ويصبح أسوأ من البهائم " أُوْلئكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ " [الأعراف: 179]. هذا ما يغفله الخطاب العلماني ليكرس مركزية الإنسان في الكون، وسيادته المطلقة فيه كما أرادت العلمانية الغربية في مرحلة من مراحلها.
"" إن الإنسان في القرآن الكريم ليس مخلوقاً ساقطاً خاطئاً منذ البداية كما هو في الرؤية المسيحية ""، وليس هو ذلك الإنسان المتمرد الجبار العنصري النازي الذي أرادته فلسفة التنوير كما طرحها ماكيافللي ونيتشه وداروين ومارسها هتلر وستالين وموسوليني. إنه في القرآن الإنسان المتوازن الذي استُخلف في الكون، ووُكِلت إليه عمارته، وأُمر بالعبادة والتقوى والعمل الصالح.
--------
ثالثاً:
وأما القول بأن الإسلام تخلص من المقدس فهو أمر في غاية العجب ! كيف ذلك ؟ وأين الأدلة ؟ والمقدسات في الإسلام كثيرة فالكتاب الكريم مقدس، والبيت الحرام مقدس، والنبي صلى الله عليه وسلم مقدس، والمسجد مقدس، والعبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج مقدسة، والجهاد مقدس، وهكذا فالمقدس يحتل مساحة واسعة في الرؤية الإسلامية لا يمكن اختراقها، والمسلم مأمور بالدفاع عن مقدساته حتى أن روحه لا تساوي شيئاً في سبيلها " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " [التوبة: 111].
إلا إذا كان المقصود هو التخلص من المقدسات الخرافية التي كانت سائدة عند الفراعنة، واليونان، كتقديس الكواكب والنجوم، وظواهر الطبيعة، واتخاذ آلهة للقمر، وآلهة للشمس، وآلهة للمطر وغير ذلك فإن الإسلام بالفعل جرّد الطبيعة من هذه القداسة الخرافية والوهمية.
ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الإسلام في الوقت الذي سلَب فيه من الطبيعة قداستها الزائفة، إلا أنه لم يجرد الطبيعة من مغزاها الروحي والرمزي، لأنه رأى في الخليقة كلها المتمثلة في السماوات والأرض وما بينهما والشمس والقمر والكواكب واختلاف الليل والنهار، والرياح اللواقح، والغيث النازل، والسحاب المسخر، والبحار المالحة، والأنهار العذبة، والجبال الأوتاد، رأى في كل ذلك آيات بينات لله عز وجل في الكون، وبصائر للإنسان.
إن الطبيعة في القرآن ذات مغزى كوني تستوجب احترام الإنسان لها وتقديرها، لأجل صلتها الرمزية بالله جل شأنه، وتعامُله معها يجب أن يقوم على أساس العدل والتناغم والانسجام لأنه خليفة مؤتَمَن عليها، وضعها الله عز وجل تحت مسئوليته ليستفيد منها، وهي إلى جانب ذلك كتاب مفتوح منظور، إلى جانب القرآن الكريم الكتاب المقروء وفي كل منهما آيات بينات، ودلالات مشاهدات، ودروس واضحات يأخذ منها الإنسان الموعظة والعبرة.
إن هذا التجريد الإسلامي تجريد إيجابي ينفي الخرافة، ويستبقي الدلالة، بعكس التجريد العلماني فإنه يقوم على سلب المغزى الكوني والدلالي من الطبيعة، وقطع العلاقة الرمزية بينها وبين الخالق عز وجل، وبالتالي تصبح الطبيعة - في الرؤية العلمانية - بلا غاية، وبلا هدف، وكذلك بلا حماية أو رعاية، فينتج عن ذلك عدم احترام الإنسان لها، وخيانته للأمانة التي أوتمن عليها، وتصبح علاقة الإنسان مع الطبيعة قائمة على الانتقام أو اللامبالاة، وهو ما يؤدي أو سيؤدي إلى كوارث كونية تنتظرها البشرية برعب لم يسبق له مثيل، كالتلوث البيئي والنفايات النووية والأوزون وأخطار أسلحة الدمار الشامل.
وحتى فيما سمي بلاهوت الأرض أو لاهوت الطبيعة فإن علاقة الإنسان مع الطبيعة علاقة صراع وقهر وسيطرة، وليست كما هي في الإسلام علاقة تسخير وحب وتقدير. إن الإسلام يحول بين الإنسان والطغيان الذي يساوره بسبب غرور العلم أو غرور القوة ويذكره دائماً " إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعى " [العلق: 8].
-----
رابعاً:(13/455)
والقول بأن الإسلام تخلص من المعجزات لا يقل عجباً عن سابقه، فإنا إذا غضضنا الطرف عن المعجزات الحسية التي رويت بالتواتر المعنوي لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ، وحنين الجذع، فإن القرآن الكريم نفسه يفيض بالحديث عن المعجزات كانفلاق البحر، وانقلاب العصا، وانبجاس الماء من الحجر لسيدنا موسى عليه السلام، وشفاء المرضى، وإحياء الموتى، والكلام في المهد لسيدنا عيسى عليه السلام.
إن إنكار كل هذه المعجزات أو التعسف في تأويلها ليس إلا لوناً من أو ألوان الصلف والمكابرة والجحود.
والآن بعد أن كشفنا المغالطات التي يبني عليها الخطاب العلماني رؤاه وتصوراته ونتائجه يمكننا أن نقول: "" إن العلمنة ليست فقط رؤية غير إسلامية للوجود، بل إنها تقف موقفاً مناهضاً للإسلام نفسه، ولذلك فالإسلام يرفض العلمنة ومآلاتها النهائية ما ظهر منها وما بطن ""، يرفضها نظراً وعملاً لأنها الدنيوية المحضة، والدهرية الخالصة، والمادية المطلقة، وهي مقولات جاء الإسلام لمحاربتها، وإنقاذ الإنسان من ظلماتها وأزماتها.
--------------------------
سؤال:
لكن العلمانيين يقولون إن العلمنة تنقذ الإنسان من الخرافات لا الإسلام.
إن الأسلمة وليست العلمنة هي التي تحرر الإنسان من الأساطير والخرافات، والأرواح الشريرة، والشعوذة التي يُظَن أنها تتحكم في مصير الكون، وتحرره كذلك من الأنانية والنفعية والمادية، وتقيم توازناً بين الجوانب المختلفة في كيانه "" وعندما يتحرر الإنسان على هذا النحو فإن وجهة حياته وسيرها يكونان نحو تحقيق طبيعته الأصلية، تلك الطبيعة المتوائمة مع طبيعة الكائنات، ومع الوجود كله ألا وهي الفطرة، وهو كذلك يتحرر من العبودية لدوافعه الحيوانية النزاعة إلى ما هو دنيوي، وإلى ما من شأنه أن يكون ظلماً وتعدياً على جوهر كيانه وعلى روحه، ذلك أن الإنسان بما هو كائن مادي يغلب عليه نسيان طبيعته الحقة، فيجهل هدفه الحقيقي الذي من أجله خُلق، وبالتالي يزيغ عنه "".
هذا التحرير للإنسانية قد تحقق بالوحي، وهو يتجلى في أكمل صوره في الرسالة الخاتمة التي ضَمِنت للإنسانية التحرر والتقدم والرقي. كل ما علينا أن نتمثل هذه الرسالة ونتفاعل معها بكل ثقة وطمأنينة ونقبل عليها طائعين مختارين.
سؤال:
ما المقصود بمركسة الإسلام ؟
إن بعض الماركسيين رأى أنه لا جدوى من إظهار مجابهة صريحة مع الإسلام تؤدي إلى استفزاز ردود فعل مقاومِة، فهناك طريقة أكثر إجداءً يمكن استثمارها دون استثارة مباشرة وهي تفريغ الإسلام من مضمونه وإعادة حشوه بمضامين ماركسية.
وعلى هذا الأساس اعتُبر كارل ماركس لدى بعض العلمانيين ممثلاً للإسلام أصدق تمثيل في دعوته إلى إلغاء المؤسسة الدينية. واعتبارُه الدين أفيون الشعوب لم يكن إلا بسبب ظلم المؤسسات الدينية التي تمثل الأديان تمثيلاً خاطئاً. وكانت دعوته إلى الثورة العالمية المسلحة هي الجهاد الذي حض عليه الإسلام، وإلغاؤه لنظام الدولة هو قيام الشرع الجماعي، وتأميمه لوسائل الإنتاج هو تحريم الربا، وتحريره للمجتمع من الطبقية هو الحج. ومبادئ الإسلام جميعها كالتوحيد والعدل والمساواة والأذان والحج كلها كان ماركس يمثلها تمثيلاً واقعياً صحيحاً. وكان يعي تماماً معنى قوله عز وجل " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ " [المدثر: 38]. في مبادئ فلسفته وثورته.
وكيف لا يكون كذلك وهو - أي ماركس - وكل أئمة العلم المادي والطبيعي يعتبرون من أئمة المتقين الموصوفين في القرآن بأنهم عباد الرحمن، هؤلاء هم ماركس وإنجلر وداروين لأن"" أئمة المتقين في فرقان محمد صلى الله عليه وسلم هم أئمة العلم المادي وأئمة الناس الذين يؤمنون بالبينات المادية، وذوي التفكير العلمي البعيد من الخرافة "".
ومن هنا فالرسالة الإسلامية تسير على جناحين هما الاشتراكية والديمقراطية. والزكاة ذات المقادير هي خطوة أولى باتجاه الاشتراكية المطلقة، والغرض منها إعداد الناس نفسياً ومادياً ليطيقوا الاشتراكية، فإذا تم عهد الاشتراكية ثم الشيوعية، وتم محو الطبقات والفوارق فإننا نصل عندئذ إلى شريعة الأمة المسلمة التي لم تأت بعد، وسيكون ذلك أرقى ما يمكن أن تصل إليه المدنية في جميع العصور، وهو ما لن يحصل في المستقبل إلا بالجهد الشاق والتربية المضنية.
لقد كان الإسلام في أساسه - بمنظور الخطاب العلماني الماركسي - ثورة لإعادة بناء شخصية الفرد العربي وإعادة تخطيط المجتمع العربي.
ولتأمين الثورة ضد المؤامرات الرجعية الوثنية انتقل مركز الثورة ومقر قيادتها من مكة إلى المدينة. وكان عمر القائد التالي للثورة مناضلاً قديماً انضم إلى الثورة أيام الهجرة الأولى إلى الحبشة. أما إسلام أبي بكر وغيره من التجار الوسطيين فلأنهم قرأوا الواقع قراءة صحيحة ورأوا أن سير خط التطور يسير إلى وحدة العرب.(13/456)
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم في منظور هذا الخطاب كان أحد الحنفاء الثوار الذين ثاروا على الطبقات الثرية بسبب حالة الإعدام والفقر التي كان يعيشها صلى الله عليه وسلم قبل نبوته.
وكان الواقع الاجتماعي والثقافي للعرب يفترض ويتحرك باتجاه الوحدة، فكانت النبوة وسيلة لتحقيق ذلك، لأن العرب لا تقودهم إلا النبوة بسبب أنفتهم وغلظتهم. فالنبوة على ذلك كانت إفرازاً ثقافياً واجتماعياً اقتضاه التطور العربي آنذاك وخطط له أقارب النبي صلى الله عليه وسلم حيث "" لم يجد الآخرون [ يقصد أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ] سوى الاهتداء إلىأنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبياً مثل داوود "". فكان ذلك عندما أعلن محمد صلى الله عليه وسلم أنه النبي المنتظر،وأخذ ينادي طيف جده: أي جدي ها آنذا أحقق حلمك.
لقد كان الواقع إذن مهيأ لخروج نبي، وكانت الظروف تحتم وتفرض ظهور مصلح في الجزيرة العربية فكان محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي هيأته الأسباب لذلك، هذه هي القراءة الماركسية للواقع الاجتماعي الذي كان يسير حتماً باتجاه إفراز تغيير جديد في حياة العرب. وهكذا تقرر الماركسية "" إن مسألة ظهور فرد معين لا أي فرد آخر في عصر محدد، بل في بلد محدد هي بالطبع مسألة متعلقة بالصدفة الخالصة، ولكننا إذا ما حذفناه سوف يكون دوماً بحاجة إلى بديل، وهذا البديل سيوجد بهذه الصورة أو تلك، سيوجد حتماً مع مر الزمن فلو لم يوجد نابليون هذا لقام غيره بمهمته "".
وهكذا - وطبقاً للتحليل الماركسي - تُفسَّر أيضاً قداسة الكعبة المشرفة فهي واحدة من جملة كعبات كانت منتشرة في الجزيرة العربية، وتَميُّزها عن غيرها كان بسبب تحول الطرق التجارية إليها، وقبول مكة لوضع أرباب الآلهة الأخرى في الكعبة مما أدى إلى سيادتها واستئثارها فيما بعد بالقداسة. فالقضية إذن ليست أكثر من انعكاس اقتصادي، أليس ماركس هو الذي يقرر أنه "" مع تغير الأساس الاقتصادي يحدث انقلاب في كل البناء الفوقي "". وأنه "" لا يجب البحث عن مفتاح التاريخ في أدمغة الناس وآرائهم وأفكارهم، بل في علاقات الإنتاج والقوانين الاقتصادية والموضوعية التي تعمل مستقلة عن إرادة الناس "".
وهكذا يتوالى الإسقاط الماركسي على الإسلام فلأن "" الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية هي آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة ""، فإن تحريم القتال في الأشهر الحرم كان من أجل الحفاظ على وسائل الإنتاج الاقتصادي من الدمار الكامل. والبحث عن دين إبراهيم عليه السلام كان بحثاً عن الهوية الخاصة للعرب الذين يتهددهم الخطر الاقتصادي النابع من ضيق الموارد الاقتصادية.
أما الأحناف فقد كانوا تجسيداً لنزوع ما لاتجاه جديد في رؤية العالم في هذه الثقافة يبحث عن الوحدة والهوية وتحقيق الذات، وكان محمد صلى الله عليه وسلم جزءاً من هذا الاتجاه، ومعبراً عن هذا النزوع، ومجسداً لكل هذه الأحلام والطموحات "" كان محمد صلى الله عليه وسلم قد تجسدت في داخله أحلام الجماعة البشرية التي ينتمي إليها، إنسان لا يمثل ذاتاً مستقلة منفصلة عن حركة الواقع، بل إنسان تجسدت في داخله أشواق الواقع وأحلام المستقبل "". وهكذا قررت الماركسية أنه "" ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ""، و "" ليست حركة الفكر سوى انعكاس لحركة الواقع بعد أن انتقلت إلى دماغ الإنسان "".
وهكذا نجد المقولات الماركسية تشكل الخلفية الحقيقية للخطاب العلماني في قراءته للإسلام والقرآن فنلاحظ:
- جدلية البنى التحتية والفوقية في النصوص التالية: "" ولم يكن لهذا البحث أن يتجاوز الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية، وهي آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة "". وذلك من منظور "" أن البنى التحتية، والفوقية تتفاعل في جدلية معقدة "".
- التفسير الاقتصادي للعلاقات الاجتماعية وذلك يتجلى في: اعتبار البحث عن دين
إبراهيم بحثاً عن الهوية الخاصة بالعرب، وحماية للذات من الحاجة الاقتصادية.
- نفي النفي وذلك حين يقرر الخطاب العلماني أنه "" ليس معنى القول إن محمداً صلى الله عليه وسلم ابن الواقع ونتاجه أنه نسخة كربونية من صورة العربي الجاهلي... إن الواقع الذي ينتمي إليه محمد ليس بالضرورة هو الواقع المسيطر فالواقع... يحتوي في داخله وفي بنائه الثقافي نمطين من القيم: النمط السائد المسيطر، ونمط القيم النقيض الذي يكون ضعيفاً خافت الصوت، لكنه يسعى لمناهضة نمط القيم السائد، وليس هذان النمطان من القيم إلا تعبيراً عن قوى اجتماعية وعن صراعات اقتصادية واجتماعية "".(13/457)
هذا ما قرره الخطاب العلماني وهو ذاته الذي تقرره الماركسية حين تؤكد أن "" الظاهرة الجديدة التي تبرز في الطبيعة والمجتمع تمر هي أيضاً في طريقها الطبيعي، أي أنها مع مرور الزمن تهرم وتخلي المكان لظاهرات وقوى أكثر جدة منها، وإذا كانت في السابق قد نفت القديم لكونها جديدة، فإنها أصبحت الآن هي نفسها قديمة يجري نفيها من قبل ظاهرات أفتى منها وأجدى وأقوى، وهذا هو نفي النفي "".
وأيضاً: "" يوجد في كل مرحلة من مراحل التاريخ في جميع المجتمعات جنباً إلى جنب أفكاراً مختلفة متناقضة، لأنها انعكاس لتناقضات المجتمع الموضوعية، ومع ذلك فلا تتساوى هذه الأفكار في القيمة، منها ما يصبو إلى الإبقاء على المجتمع في أوضاعه القديمة، ومنها ما يسعى إلى تجديد هذا المجتمع "". وهو ذاته الذي يؤكده ماركس حين يقرر أننا "" لا نستطيع الحكم على عصر من العصور بناء على وعيه لنفسه، وحدها التناقضات بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج تؤلف الأسباب الموجبة أي القوى المقررة الحاسمة "".
وهكذا فالأفكار الجديدة - في الماركسية - تتولد كحل لتناقض موضوعي نشأ في المجتمع، لأن الدافع على كل تغيير هو التناقض، ونمو هذه التناقضات داخل مجتمع معين يثير مهمة حلها عند اشتدادها، فتظهر حينئذ الأفكار الجديدة كمحاولة لحل هذه التناقضات. ذلك لأن قانون نضال الأضداد هو الدافع لكل تغيير، وهو وراء كل حركة، وطبقاً لهذا القانون يتم تفسير كل التطورات التي تنشأ في الوجود والتي تطال الإنسان والعقل والمجتمع.
وبذلك يتم فهم التطور الذي حصل في المجتمع العربي طبقاً لقوانين المادية الجدلية، والمادية التاريخية بعيداً عن أي ميتافيزيقا تنظر إلى تاريخ المجتمعات على أنه عبارة عن خليط من العوارض التي لا سبب لها، فالمادية الجدلية هي وحدها التي تحمل جواباً علمياً على مشكلة الوعي كما أنها تتيح لنا فهم أصل الأفكار وعملها، وفهم النظريات الاجتماعية والآراء السياسية.
هذه هي الرؤية الماركسية الجدلية التي يراد لها أن تحكم الوجود بكل ذراته، وتفسر كل أسراره فـ "" الطبيعة بحذافيرها من الجزئيات الدقيقة إلى الأجسام الضخمة، ومن حبة الرمل إلى الشمس أو من الخلية الأولى إلى الإنسان، كلها رهينة بدوام الظهور والاختفاء، هي في جريان لا ينقطع، وفي حركة وتبدل دائمين "". وهكذا يتم تفسير الوحي.
------------------
سؤال:
لنعد إلى الجذور التاريخية لنظرية الأنسنة ؟
كان بروتاغوراس قد اعتبر الإنسان مقياساً لجميع الأشياء، فتصدى له سقراط ثم تلاميذه من بعده حتى أُجهضت السفسطة البروتاغوراسية، وفي عهد شيشرون عرف اليونان فكرة التعليم المتوازن الذي يتناول مختلف المعارف الإنسانية وكانت الكلمة التي اختارها شيشرون للتعبير عن هذه الفكرة هي Humanitas وفي عصر النهضة أصبح المصطلح الخاص بالمواد المدروسة في مجال اللغات والآداب الكلاسيكية هو Stu Dia Humanitisالتي تترجم " الإنسانيات Humanitiest.
وكانت الدراسات الإنسانية في القرن الخامس عشر تشير إلى دراسة القواعد اللغوية والبلاغة والتاريخ والآداب، والفلسفة الأخلاقية، وكانت تتكون من قراءة النصوص اللاتينية الخاصة بالعصر الكلاسيكي ما قبل المسيحي، أما كلمة هيومانزم فلم تكن معروفة لا للقدماء، ولا لعصر النهضة، وإنما صاغها في سنة 1808 م المفكر التربوي الألماني " نيثامر " أثناء مجادلة حول مكانة الدراسات الكلاسيكية في التعليم الثانوي، أما من طبقها في عصر النهضة فقد كانا المؤرخين " بروكهارت " و" نويجت " في كتاب " إحياء الكلاسيكيات القديمة أو القرن الأول للهيومانزم " سنة 1859 م.
إلا أن اسم الإنسانيين أو أصحاب النزعة الإنسانية قد كان يطلق قبل ذلك على المفكرين الذين اهتموا بالإنسان في عصر النهضة وهم الذين " آمنوا بأن الإنسان معيار كل شيء، وأن كل إنسان معيار ذاته ". فأعادوا الحياة لفلسفة بروتاغوراس التي كانت راقدة ومحاصرة بالأرسطية والمسيحية، فهي لذلك نزعة تطوي تحتها كل من كانت له نظرة إلى العالم لا هي لاهوتية أساساً ولا هي عقلانية في المقام الأول وتتمرد على تصورات العصور الوسطى.
وأصبح التنوير يعني التحول من نعيم المسيحية الغيبي في السماء بعد الموت إلى النعيم العقلاني على هذه الأرض. ولذلك يمكن اعتبار البروتستانتية هي بداية الأنسنة في العصور الحديثة باعتبارها ركزت على الإنسان وآمنت بقدرته على الفهم، وشكلت ردة فعل قوية ضد الدين المسيحي الذي يميل بأهله إلى الزهد، وإنكار الذات دون مراعاة لحاجات الإنسان ورغباته الأساسية، واتجهت الأنظار لمركزة الإنسان بدلاً من الله عز وجل وتمثل ذلك في:
- الاهتمام بالحياة الدنيوية والعمل والنشاط بدلاً من حياة التأمل والتفكير المجرد.
- دفع المجتمع باتجاه التنافس والإبداع والمجد في هذا العالم.
- تبني معيار جديد للقيم علماني الطابع بحيث ينظر إلى العالم عن أنه نتاج لفعاليات الإنسان ومحاولاته وتجاربه.(13/458)
- التأكيد على ضرورة التعليم ومركزيته، والتعليم المقصود هو التعليم الدنيوي الذي يخدم الإنسان في هذه الحياة بعكس ما يسعى لتكريسه اللاهوت المسيحي.
- التأكيد على قدرة الإنسان في مواجهة القدر، وحريته في تشكيل حياته الشخصية، وقدرته على تحقيق طموحاته وفق مواهبه دون اعتداد بالفاعلية الإلهية. ويعبر " رابليه " أحد هؤلاء الإنسانيين عن وجهة نظر هؤلاء في معنى الحرية عندما يصور ديراً علمانياً يضم الجنسين وقد كتبت على بوابته عبارة تقول: " إفعل ما بدا لك ".
ثم تفاقمت الأنسنة في عصر التنوير بسبب الاكتشافات العلمية وبروز جيل واسع من المثقفين تجمعهم الرغبة في التخلص من التدخل الكنسي في شؤون الحياة الفردية والاجتماعية واتفق أغلب الإنسانيين على استبعاد التفسيرات التي تقدمها أديان الوحي واعتبارها ضرباً من الأوهام. وإذا كانت هناك ضرورة لقراءة الكتاب المقدس فيمكن قراءته قراءة رمزية بحيث يصبح من الممكن أن يكون الإله إنساناً.
-------------------
سؤال:
ما هي أشهر مدارس الفلسفات الإنسية ؟
يمكن إذا أردنا أن نشير إلى أبرز الفلسفات الإنسية أن نعتبر فلسفة سبينوزا 1634 - 1677 م تكريساً لهذا الاتجاه، وذلك عندما أنزل الإله من عليائه وأدمجه في الطبيعة وجعله مساوياً لها، بل أصبح العالم - عنده - هو الله سبحانه وتعالى، واقترب الإله السبينوزي جداً من الإنسان، لأنه أصبح إلهاً ذا قدرات محدودة ولا يملك المشيئة الكاملة.
وتُصنَّف فلسفة فختة أو فشتة 1762، 1814 م الألماني في هذا الاتجاه الإنسي الذي لا يقبل من الوحي إلا ما يتطابق مع العقل، وماهية الدين عنده أن يؤمن الإنسان بالنظام الخلقي، ويعتبره مصدر واجباته ويساعد على نموه، ولا بأس أن يُشخِّص شعوره بهذا النظام في موجود معين إذا كان الغرض تقوية هذا الشعور في ضميره، أما إذا تصور الله سلطاناً حاكماً آمراً وانتظر من وجوده لذَّات مقبلة كان عابد صنم، وكان جديراً بأن يُدعى ملحداً. وإن الإله الحقيقي عنده هو الإنسان والنظام والحرية التي تتحقق في العالم بالتدريج.
أما أوجست كونت 1768، 1857 م فقد عُرف بدين الإنسانية الذي يقوم على عبادة الإنسانية بدلاً من عبادة الله عز وجل. ويقسم التاريخ الإنساني إلى ثلاث مراحل: المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية. والمرحلتان الأوليتان تجاوزهما العلم، ويجب أن تزولا من الحياة، ويجب أن تسود الفلسفة الوضعية بنظره لأنها إيجابية وبناءة، وتجعل الموجود الأعظم هو البشرية، وإذا كان لا بد للناس من موجود عظيم يعطونه ولاءهم فيجب أن يكون هو البشرية، وعلينا أن نصلي ونترنم للبشرية بدلاً من الله عز وجل. وإذا كان لا بد للناس من ثالوث يعظمونه فليكن هذا الثالوث هو: الإنسانية " الموجود الأعظم " والسماء أو الهواء " الوسط الأعظم " والأرض " الفيتش الأعظم " وشعار هذا الثالوث هو: المحبة كمبدأ، والنظام كأساس، والتقدم كغاية.
والعبادة عنده مشتركة وفردية أما المشتركة فتقوم على أعياد تذكارية يُكرَّم فيها عظماء البشرية عرفاناً بجميلهم، وقد وضع كونت تقويماً واقعياً دل فيه على كل يوم وكل شهر بأسماء الرجال الذين امتازوا بالعمل على تقدم الإنسانية، وأما العبادة الفردية فعلى كل شخص أن يتخذ لنفسه أشخاصاً أعزاء عليه يجعلهم مثلاً أعلى يحتذى بهم في حياته.
إلا أن أبرز ممثلي النزعة الإنسية هما لودفيج فيورباخ 1804، 1872 م وفريدرش فلهلم نيتشة 1844، 1900م وكلاهما ألماني.
كان فيورباخ يرمي في فلسفته إلى إزالة إله المسيحية ومطلق هيجل، ويرى أن مهمته الأساسية هي تأنيس الإله واعتبار الوجود الحقيقي الفعلي صفة للإنسان وحده، فالإنسان عنده هو الإله الحقيقي الوحيد لنفسه، والله ليس إلا تجسيداً للطبيعة الإنسانية في طموحها إلى الكمال "" فالإنسان يبدأ بأن يرى طبيعته وكأنها خارج نفسه قبل أن يجدها في نفسه، وفي الحالة الأولى يتأمل نفسه وكأنها نفس كائن آخر، وليس الله سوى هذه الطريقة العازلة في النظر إلى الماهية الإنسانية، وكأنها كائن آخر، فهو المثل الأعلى للماهية الإنسانية التي نجردها من أفراد التجربة ثم نعزلها كرصيد حقيقي لكل صفات الطبيعة الإنسانية وكمالاتها، والدين هو عملية إسقاط وجودنا الجوهري على مجال الألوهية المثالي، ثم العودة إلى إذلال أنفسنا أمام ماهيتنا الخاصة التي أحلناها إلى موضوع، والواقع أن الناس في عبادتهم لله يمجدون ماهيتهم المعزولة منظوراً إليها من مسافة مثالية "".
وأما نيتشة فقد أعلن عن موت " الله [سبحانه وتعالى] من أجل أن يفسح المجال للإنسان، لأن الاعتقاد بالله " عز وجل " - في نظره - يحول دون تأكيد الإنسان لذاته. ولذلك يقول: "" لو كان هناك إله فكيف كنت أطيق أن لا أكون إلهاً "". ودعا إلى الإنسان الأرقى أو الإنسان الأقوى، وأخلاق القوة، وسخر من الضعفاء والفقراء الذين يحسبون أنفسهم صالحين لأنهم لا يملكون مخالب لينشبوها في الآخرين.(13/459)
وحارب المسيحية لأنها تحض على أخلاق الرقيق كالحب والتسامح والغفران والتواضع وقال عن العهد الجديد بأنه إنجيل إنسان من نوع وضيع، لأن مثله الأعلى إنسان متجرد تماماً من التعاطف والرحمة، متحجر القلب، لا يعرف الشفقة، خبيث لا يعبأ إلا بقوته. وهو يعلل نفسه بأن تغدو الحياة أكثر شراً ومعاناة دائماً، ويرغب بالقضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء، لأنه لا يؤمن إلا بالبطل وأخلاق القوة.
على هذا الشكل تتوزع فلسفات أخرى متعددة في أوربا تكرس المركزية الإنسية كالفلسفات النفعية التي نادى بها بنتام 1748، 1832 م وجون استيوارت مل 1806، 1873 م ووليم جيمس 1842، 1910 م وجون ديوي 1859، 1952 م وبرجسون الذي يعتبر الله عز وجل " كامن فينا، وفي أعماقنا الذاتية فهو محايث وليس مفارقاً، وكلما تغلغلنا في أعماقنا عثرنا على الله سبحانه وتعالى.
ولا ننس أيضاً الفرويدية التي تعتبر الحاجة إلى التدين حاجة نفسية تنبع من الخوف ومحاولة الانتصار على هذا الخوف بأنسنة الطبيعة، وخلق إله يتمتع بنفس الصفات التي يرغب الإنسان نفسه بها، ولذلك فالتدين عند فرويد مرض عصابي قهري يصيب الأفراد كما يصيب المجموع. هكذا يجب أن نفسر - بنظره - ديانات الإنسانية فما هي إلا استرجاع لحوادث عفى عليها الزمن وطواها النسيان من التاريخ البدائي للبشرية.
أما في القرن العشرين فإن أبرز الفلسفات التي تمجد الإنسان هي الوجودية وقد عرضها سارتر في محاضراته على أنها مذهب إنساني مغلق أي أن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم في العالم، والإنسان متروك لذاته لكي يحقق ما يستطيع من القيم والإنسان وحده هو الذي يوجد خارج ذاته ولذلك فإن الفكرة الأساسية في الوجودية هي فكرة " الإنسان الأوحد " "" إنني لست إلا ذاتي "" ولذلك يرفض الوجودي أن يُحشر ضمن مجموعة من الناس أو يُصنَّف فيها. وموقفها من الخالق عز وجل هو ترديد لموقف الفلسفات الإلحادية الإنسية التي سبقته فعنده فكرة الله عز وجل كغيرها من الأفكار من نتاج الوعي الإنساني الخلاق، ومع ذلك فثمة شيء في هذه الفكرة الخاصة يجعلها اختيارية صرفة، بل هي من الأفكار الحتمية التي لا مندوحة للعقل عنها، لأنها تعبر عن ميل ضروري في طبيعتنا "" فالإنسان في جوهره رغبة في أن يكون إلهاً "" ولذا عليه أن يبدع قيمه الخاصة دون اعتماد على أي معيار إلهي.
"" وألح سارتر في تحليل النواحي القذرة في الإنسان في قصص تلقى رواجاً كبيراً"". واعتبر الوجود الإنساني سابقاً على الماهية، ولذلك ليس في الإنسان شيءٌ يحد من حريته أو يقيد سلوكه، وعلى الإنسان أن يفسر الأشياء بنفسه كما يشاء، لأنه محكوم عليه في كل لحظة أن يخترع الإنسان، وما الإنسان إلا ما يصنع نفسه، وما يريد نفسه، وما يتصور نفسه بعد الوجود. والوجود لديه نوعان: وجود ذاتي، ووجود موضوعي، فالوجود الذاتي هو وجود الإنسان، أما الوجود الموضوعي فهو وجود كل ما عداه، وهو بنظرهم وجود تافه لا قيمة له إلا من حيث أنه يدور على محور الوجود الإنساني ويسعى إلى تحقيقه. فالوجود الرئيس في الفلسفة الوجودية هو الوجود الإنساني والموضوعات السائدة فيها هي: الحرية واتخاذ القرار الحر والمسؤولية وتحقيق الإنسان لذاته الحقة وتتكرر لدى الوجوديين مفردات مثل التناهي والإثم والاغتراب واليأس والموت لتعبر عن العصر الغارق في الشك والإحباط والعدمية وهكذا لم تكن الوجودية إلا جزءاً في كل الحداثة التي تعني: "" أن الإنسان هو ما يفعله "".
----------------------------------------
سؤال:
ماذا عن الأنسنة في العالم العربي ؟
أولاً - النُسخ العربية:
يمكننا أن نفرز ثلاث نسخ أساسية مترجمة إلى العربية عن الإنسية الغربية وكل نسخة من هذه النسخ تمثل شكلاً من أشكال الأنسنة أو بعداً من أبعادها:
النسخة الأولى:
القصيمية " النيتشوية " يمكننا أن نعتبر عبد الله القصيمي نيتشة العربي وإذا كانت الإنسية تعني تمجيد الإنسان على حساب الخالق عز وجل فإن القصيمي قد بلغ الذروة في ذلك، وتفنن في التعبير عن جبروته وطغيانه وسخريته من الباري عز وجل بشكل قد لا يوجد له مثيل في تاريخ الزندقة والإلحاد إلا عند نيتشة. يَعتبر القصيمي فكرة ألوهية المسيح دعوة لكل الناس إلى التأله، والارتفاع إلى مستوى الألوهية، وما انتصار الإنسان في الحضارة الحديثة على الأمراض المستعصية إلا خطوة في طريق ألوهية الإنسان وتجسيد عظمته وجبروته وكبريائه. حتى لقد كاد الإنسان بنظره أن يصبح إلهاً يمشي على الأرض يقول للشيء كن فيكون. وإذا كان هناك إله فإن الإنسان قد خُلق لينازع هذا الإله في علمه وقدرته وقوته. وإذا كان الإنسان لا يمكنه أن يسمو إلى صفات الكمال فإن القصيمي يسعى لإنزال الخالق " سبحانه وتعالى " من عرش الكمال والجلال لكي يتساوى بالإنسان، وبذلك يصبح الإله أقرب إلى الإنسان فيوصف الباري عز وجل في العبثية القصيمية بكل صفات الضعف البشري، والمجون، وكل حاجاته من طعام وشراب ونوم وجنس، وهو في كل ذلك يتفنن في التعبير عن إلحاده البغيض بكل فنون السخف والعدمية النيتشوية.
النسخة الثانية:(13/460)
د. عبد الرحمن بدوي " الوجودية " وهو أول وأبرز - فيما أعلم - من أدخل الوجودية كمذهب إنسي إلى الفكر العربي، وتابع أستاذه سارتر في التأكيد على محورية الإنسان، فالأنسنة عنده هي العود المحوري إلى الوجود الروحي الأصيل. والوجود الحق أو الوحيد بنظر الوجودية هو الوجود الإنساني، فكل شيء من الإنسان وإلى الإنسان بالإنسان، ومعيار التقويم هو الإنسان، وتلح الوجودية البدوية على فكرة " الإنسان الأوحد " وتقارن بين هذه الفكرة الوجودية وبين ما يتردد لدى أصحاب التصوف الفلسفي عن "الإنسان الكامل".
النسخة الثالثة:
الحسنفية " الفيورباخية و " السبينوزية ": يُعتبر المشروع الحسنفي [ نسبة إلى حسن حنفي ] نسخة ملفقة من مجموعة فلسفات غربية أبرزها الفيورباخية، والسبينوزية، والهوسرلية - نسبة إلى هوسرل - والشبنغلرية - نسبة إلى شبنغلر - واللسنجية - نسبة إلى لسنج. والجانب البارز فيه من هذه الفلسفات هو النزعة الإنسية، والتركيز على الإنسان. ولكنه يحاول أن يُلوِّن نسخته العربية ويزركشها ببعض المنمنمات الإسلامية عن طريق استخدام الدين " كأيديولوجيا" لتحقيق مشروعه في الأنسنة "" تحويل الوحي إلى إيديولوجية "". "" تحويل الوحي ذاته إلى علم إنساني "" ولذلك فالأثر الفيورباخي أكثر ظهوراً من غيره بشكل واضح حتى لقد وصف المشروع الحسنفي بأنه " مشروع فيورباخي تماماً منقول التطبيق من المسيحية إلى علم الكلام في الإسلام، وغايته الانتقال من علم الله إلى علم الإنسان.
-------------------
سؤال:
ما خطورة الأنسنة على الثوابت العقدية ؟
ليس من المهم أن نكتشف مدى الاجترار العلماني وخطورته، وإنما المهم أن نلاحظ أن مصادمة الثوابت هي السمة البارزة لهذا الاجترار، فكأن الغربيين اختُزلت جهودهم النهضوية في هذه السمة ولا يوجد غيرها، لتنقل إلينا كمشاريع للإصلاح والنهضة بكل ما تتضمنه من استفزاز، وتثيره من رفض، ولا يقف الأمر عند حد الاستيراد للمشاريع الآنفة الوصف، وإنما لا بد من تطعيمها بجذور تراثية يتم التنقيب عنها في طبقات رسوبية بعيدة القعر، وهي جذور ميتة في الأساس، ولكن يراد لها أن تُسقى وتُهيأ لها التربة وتُستنبت من جديد لكي ترفد الفلسفات الإلحادية المستوردة.
ولذلك نجد أن أبرز من يمثل النزعة الإنسية في تاريخنا عند دعاتها المعاصرين هم ثلة من الزنادقة والمُجَّان الذين ظهروا ثم اندثروا في الحضارة الإسلامية من أمثال بشار بن برد، وابن الراوندي، والرازي، وأبي نواس، ويُقدَّم هؤلاء على أنهم قادة الفكر والحرية والممثلين الحقيقيين للنزعة الإنسية في الفكر العربي، لأنهم جعلوا الإنسان مركز الوجود، وأعلوا من شأن العقل وفاعليته.
وكانوا - بنظر الخطاب العلماني - ثواراً إنسانيين في مواجهة الإسلام الذي يعتبرونه ضد الثورة، ولا يسمح بها، تلك الثورة التي تعني تغييراً في نظرة الإنسان إلى الكون والحياة.
وفي هذا الإطار يدعونا هؤلاء إلى أن نفهم أهمية ثورة الزنج والقرامطة فقد كانت ثورة ضد الظلم والقمع والاضطهاد، كانت ثورة لتوليد الشروط الملائمة لحياة الإنسان. وهو ما يعني - بنظرهم - نفي النبوة الإسلامية، وإقامة نبوة على أنقاضها، وإقامة دين العقل، ودين الإنسان. ولم يعد الدين هبوطاً ليس للإنسان فيه إلا دور التلقي، بل أصبح صعوداً للإنسان فيه دور الإبداع "" الدين للإنسان، وليس الإنسان للدين "".
وهكذا كان الرازي وابن الراوندي مؤسِّسيَن للعقل مكانه بديلاً للوحي، ومؤسِّسَين لحرية الإنسان وممهدين للتحرر من الانغلاقية الدينية. ومثلهما مسكويه والتوحيدي عند أركون في ترسيخ الأنسنة، باعتبارها موقفاً نضالياً ضد نوعين من العنف يمارَسان ضد الإنسان على مدى تاريخه: عنفٌ مقدس يخلع المشروعية على ذاته من خلال التعاليم الإلهية للأديان والتي لم تتعرض بعد للنقد العلمي. وعنف مادي أو دنيوي: محض يشكك في قدرة الإنسان على تحسين طبيعته البشرية. وعلى ذلك فالموقف الإنسي يمثل مقاومة الإنسان لكل ما يريد أن يسحق إنسانيته وحريته. فالعقل لوحده قادر بنفسه وبإمكانياته الخاصة على تحقيق التقدم للبشرية. وفهم كل الأشياء والسيطرة عليها، وهو جدير أيضاً بمخاطبة الإله وطرح الأسئلة عليه.
ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بإلغاء النبوة، ومن هنا يحرص الخطاب العلماني على الإشادة بكلمة محمد إقبال في هذا الخصوص والتي يقول فيها: "" إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مِقْود يُقاد منه، وأن الإنسان لكي يُحصِّل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو "". فيُعتبر هذا النص بنظر الخطاب العلماني دعوة من الفيلسوف والشاعر الإسلامي إلى التحرر من النصوص واستقلال الإنسان بشكل مطلق، وإنهاء أي مصدر آخر للمعرفة خارج الإنسان ومؤهلاته الذاتية، وإيذان بانفتاح عهد جديد في وجه البشرية قاطبة وقد بلغت سن الرشد لكي تتحمل مسؤولياتها، وتبعات اختياراتها.(13/461)
وبذلك يكون محمد صلى الله عليه وسلم قد ختم النبوة ليقضي على التكرار، والاجترار ليفتح المجال للمستقبل الذي يبنيه الإنسان مع أبناء جنسه في كنف الحرية الذاتية والمسؤولية الفردية والتضامن الخلاق.
من الواضح أن أهم ملمح تؤكد عليه النزعة الإنسية هو إنكار أي معرفة خارج الإنسان " كالوحي أو الدين " وتحقيق الإنسان لقواه وقدراته الخلاقة واعتبار السعادة الإنسانية غاية في ذاتها لا تتطلب أي تبريرات خارج الإنسان ".
ولكن تحقيق الإنسان لقواه وقدراته الخلاقة لا يمكن أن يتم إلا بظهور " الإنسان الكوني " كما يأمل مراد وهبة، حيث يتمكن الإنسان من ناصية الكون والغيب، ويحصل ذلك عندما يكتمل الوعي الإنساني، ويتحد الإنسان بالكون وهو ما سيتحقق بنظر - وهبة - استناداً إلى قانونين:
- قانون النشوء والارتقاء.
- وقانون الانتقال من الكم إلى الكيف.
والفيزياء النووية هي بداية الخيط في تحكم الإنسان بالكون، وستسهم في بزوغ الإنسان الكوني. وغزو الفضاء يستلزم تعَوُّد الإنسان على الحياة في الفضاء، وهو من شانه أن يُحدث تغييراً جذرياً في الإنسان ينبئ ببزوغ نوع جديد يكون في مقدوره تمثل الأبعاد الأربعة للزمكان الذي تنبأ به أينشتاين، ومن شأن هذا التمثل أن يسمح للإنسان برؤية الأحداث قبل أن تقع فتزول غربة الإنسان في الكون.
وغربة الإنسان في الكون يعمقها الدين، وبالتحديد مقولة الفارق [أي الله عز وجل] التي تعني أن الله هو السيد، والإنسان هو العبد، وهو نقيض للأنسنة التي يرغب بها الخطاب العلماني.
لقد تفرغ فيورباخ لنقد هذا الاغتراب، ولكنه - بنظر مراد وهبة - غير مجدٍ لأنه على المستوى النظري لا يفضي إلى الحل، رؤية ماركس هي التي تؤدي إلى تحرير الإنسان من الاغتراب، لأنه يرى أن الإنسان هو الذي يصنع الدين وليس العكس، فالدين في حقيقته هو الوعي الذاتي للإنسان. والدولة والمجتمع هما اللذان يصنعان الدين: الوعي المقلوب للعالم، ولهذا فإن النضال ضد الدين هو نضال بطريق غير مباشر ضد اغتراب الإنسان.
-------------------------------------
سؤال:
أرجو التكرم بتلخيص ما سبق.
بناءً على ما أوجزناه سابقاً من تاريخ الأنسنة في الفكر الغربي، ثم انتقال ذلك إلى الفكر العربي الإسلامي لعلنا نستطيع أن ندرك بسهولة أن المداخل التي يستند عليها الخطاب العلماني لقراءة النص القرآني قراءة " تاريخية " هي بالفعل مداخل أو أسس وهمية، وأن الأساس الحقيقي هو النزعة الإنسية التي بالغت في تمجيد العقل الإنساني، وإحلاله محل الوحي والإله سبحانه وتعالى، ومما ساعد على سرعة انتشار هذه النزعة الإنسية وتفاقمها اكتشافات الإنسان المتلاحقة للكون، وبروز قدرات خارقة أنجزها العقل الإنساني كانت أقرب إلى الخيال في العصور السالفة، وهو ما أصاب الإنسان بغرور شديد وصلافة وغطرسة، وأبرز ما تجلى ذلك في تعامله مع المقدسات والمطلقات، وخصوصاً النصوص الدينية.
إن قراءة النص المقدس والقرآن الكريم كمثال - في داخل هذا المنظور - يجب أن تتخلص من كل المعايير والضوابط التي تحول دون مراد الإنسان أياً كان هذا المراد، وكما صرح بذلك الخطاب العلماني فإن الهدف الأساسي هو التحرر من سلطة النصوص، ومن المعلوم أن النصوص ليست شيئاً يقيد الإنسان إلا من خلال مضامينها وما تطرحه من رؤى متضمنة في داخل لغة بشرية يفهمها الإنسان، ومن هنا يجب قبل كل شيء، إزاحة اللغة كمعيار وضابط يحول دون تحقيق الإنسان لمراده، وطرح بدائل جديدة تكون أكثر مرونة ومتحررة من المعايير كالمقاصد، والمقاصد المرادة هنا هي ليست مقاصد الخالق عز وجل وقائل النص، وإنما مقاصد الإنسان ومراداته، وأهدافه وغاياته، ومما يرفد ذلك أيضاً المنهج الأدبي حيث يقلل من معيارية اللغة وضبطها للمعاني، لأنه في المنهج الأدبي يحتل المجاز دوراً قبل الحقيقة، ولا يشترط لاختياره تعذر الحقيقة أصلاً، وتصبح الكلمات رموزاً وإشارات يقوِّلها الإنسان ما يشاء.
وهكذا كما ألح الخطاب العلماني يصبح القرآن بالفعل لا يقول شيئاً، ويقول كل شيء، والعبارة في الحقيقة إذا أردنا أن تكون دقيقة فالمقصود أن القرآن لا يقول شيئاً لا يرغب به الإنسان، ويقول كل شيء لكل إنسان، فهو فضاء لكل إسقاطات الإنسان ورغباته وفكرانياته. ويصبح القرآن بذلك عجينة يُصنع منها ما يشاء من الأشكال والألوان، وتصبح مهمة القرآن في كل هذه الحالات ليست مهمة معيارية قيادية تربوية، وإنما مهمة ترويجية تبريرية، وعلى كل إنسان أن يختار معتقده وسلوكه أولاً ثم يبحث في القرآن عما يبارك له في ذلك، وهو ما لن يُعدمَه إذا ما أحسن استخدام المداخل الآنفة التي يسلكها الخطاب العلماني.
وهكذا يبدو لنا بوضوح أن الأنسنة تعتبر ركيزة أساسية أولى في تحقيق القراءة التاريخية التي يتوخاها الخطاب العلماني للنص القرآني ولكي نزيد الأمر وضوحاً سننظر في انعكاسات هذا المنزع الإنسي على النظرة العلمانية إلى الوحي.
سؤال:
ما يهمنا هنا في ملتقى أهل التفسير، هو الوحي. ولنبدأ من الجذور الفلسفية لموقف العلمانيين من الوحي.(13/462)
إن الهاجس الأساسي الذي يسيطر على الخطاب العلماني الوضعي هو استبعاد أي تفسير مفارق للوحي، وإقصاء أي مفهوم غيبي أو سماوي، وهو ما يعني قبول كل مفهوم يكرس بشرية الوحي، ويؤكد على " وضعانيته " وإنسيته حتى لو اقتضى ذلك مناطحة الحقائق ومشاكسة البدائه.
الوحي عند علماء المسلمين هو إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي أو هو كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه. أو هو أن يُعلم الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، ولكن بطريقة سرية خفية غير معتادة للبشر.
والمقصود بالوحي الذي نتحدث عنه هنا هو وحي الله عز وجل إلى أنبيائه فليس حديثنا عن أنواع الوحي الأخرى، والتي تُفسَّر بحسب سياق الآيات أو قرائن الأحوال كالوحي إلى النحل أو الوحي إلى مريم عليها السلام، أو إلى أم موسى عليهم السلام جميعاً.
وأما عند الفلاسفة فالوحي: "" إلقاء خفي من الأمر العقلي بإذن الله تعالى في النفوس البشرية المستعدة لقبول مثل هذا الإلقاء "". أو هو "" إفاضة العقل الفعال على العقل المنفعل بتوسط العقل المستفاد ". وعند الشيخ محمد عبده الوحي هو "" عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة "".
- مكمن الخطأ:
في التعريفات السابقة ثلاثة مصطلحات يمكن أن يستند إليها الخطاب العلماني في تأكيد ه على كسبية النبوة ومن ثم أنسنة الوحي.
الأول: الاستعداد النفسي لقبول وتلقي الوحي في تعريف ابن سينا يغيب الإرادة والاصطفاء الإلهيين " اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ " [الأنعام: 124]، " اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " [الحج: 75]. لأن التعريف لم يشِر إلى الإعداد والاصطفاء الإلهي لأنبيائه.
الثاني: الإفاضة في تعريف الفارابي، بالإضافة إلى تغييب مُنزِّل الوحي سبحانه وتعالى لأن العقل الفعال في المنظور الفلسفي يقوم مقام جبريل عليه السلام وليس مقام الباري عز وجل، إذا افترضنا أن ذلك صحيحاً.
الثالث: العرفان في تعريف الشيخ محمد عبده يُقرِّب الوحي من الإيحاء النفسي والوحي الشعوري.
إن الخطاب العلماني استند على هذه العناصر وعلى كل ما يبرر له القول بكسبية النبوة من أجل أن يطرح نظرياته الإنسية في الوحي، فوجد في الموقف الفلسفي من النبوة ما يخدم أطروحاته، لأن النبوة في الرؤية الفلسفية تستند على المخيلة، بينما الفلسفة تستند على العقل وهو ما يلزم منه أن النبوة أدنى من الفلسفة، وهو ما رأيناه سابقاً عند كلٍ من سبينوزا وحسن حنفي.
وإذا كان عدد من المستشرقين قديماً وحديثاً قد اعتبر الوحي الذي يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم حالة مرضية بعضهم وصفها بالهستريا، وبعضهم وصفها بالصرع ثم بدأوا يتخلون عن ذلك منذ بداية القرن العشرين أمام الانتقادات التي وُجِّهت إليهم من داخل مدرستهم فإن بعض الباحثين العرب لا بد وأن يُعبروا عن استلابهم للآخر حتى وإن كانت أفكاره تعتبر من نفايات الفكر وحثالاته.
ومن هؤلاء هشام جعيط الذي يحلو له أن يردد مقولات فرويد وماكس فيبر حول النبوة فيعتبر الأنبياء مطبوعين بشيء من العصاب، ويعتبر حالة النبي صلى الله عليه وسلم التي يعيشها أثناء الوحي من النمط الاستلابي أو الاستحواذي أو الامتلاكي. وهي حالة مرضية تُصنَّف في الأمراض النفسية، ولكنه يرى أن حالة الرسول صلى الله عليه وسلم المرضية هذه حالة متحضرة إذا ما قورنت بأنبياء بني إسرائيل في نوباتهم العصبية، لأن ما كان يمس محمداً صلى الله عليه وسلم كان يجري - بنظر جعيط - في داخل الضمير فلا يُبرهَن عليه بأي اضطراب خارجي.
ثم يجعل - جعيط - الجنون أصلاً للوحي، والجنون في القرآن - بنظره - لا يعني الاختلاط العقلي وذهاب العقل والتمييز، وإنما يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم مسكون من الجن !!.
والأنبياء اقتربوا من الجنون دون الوقوع فيه.
والوحي هجوم مباغت داخل الضمير.
والاستلاب والامتلاك والاستحواذ مفردات غريبة يصف بها حالة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء تَنزُّل الوحي عليه. والهلس والهلوسة - بنظره - تفسير صحيح للوحي في الغرب نادى به ماكس فيبر وهذا التفسير سينتشر يوماً بين المسلمين فيسبب لهم تشنجاً.
---------------------
سؤال:
يبدو التقارب بين نظرة كثير من المستشرقين إلى الوحي، ونظرة العلمانيين، ما رأيكم ؟
نعم، وقد عبَّرتُ عن ذلك التقراب بالأنسنة والوحي الشعوري عند النسخة الاستشراقية والمُسخة العلمانية:
وسبب التعبير هنا بكلمة (مُسخة)؛ لكي تفيد أنها نسخة مشوهة للخطاب الاستشراقي(13/463)
قال بعض المستشرقين إن الوحي المحمدي يمكن أن يكون شعوراً داخلياً، أو حالة نفسية وصلت إلى شعور محمد صلى الله عليه وسلم من لا شعوره وإلى وعيه من لا وعيه. وهي فكرة تقوم على أن اللبيدو - الطاقة النفسية أو الحيوية - تولِّد الوحي من اللاشعور، وأن هذا اللا شعور قد يكون اللاشعور الجمعي الذي تتراكم فيه الرغبات أو الطاقات ثم تتجمع في لا شعور فرد من أفراد المجتمع يقوم بالتعبير عن مجتمعه ككل.
في الرؤية السابقة صحيح أن الوحي يبدأ من اللاشعور، ويفيض منه إلا أنه ينتقل إلى الشعور ويصبح واقعة شعورية، وهو ما يعبر عنه حسن حنفي بقوله: "" والوحي ينبت في الشعور "" "" ويحدث كله في الشعور "".
فهو كما هو مصرح ينبت نباتاً في الشعور، وينشأ نشوءاً في النفس الإنسانية وليس للإنزال أي حضور، وليس للوحي أي مصدر خارج الزمان والمكان "" ويكون العيب كل العيب في جعل الوحي مطلقاً خارج الزمان والمكان أو حرفاً في نص مدون ""، فالوحي ليس معطى من الله في لا زمان ولا مكان، بل هو تنزيل إلى البشر، وحلول في التاريخ.
وهو على أربعة أنواع عند د. حسن حنفي:
وحي مباشر من الله وهو الكتاب، ووحي تفصيلي من الرسول صلى الله عليه وسلم بتوجيه من الله، ووحي جماعي من الأمة، فالأمة خليفة الله، ووحي فردي من العقل مستند إلى وحي الكتاب والسنة والجماعة. والأصلان الأولان - أي الكتاب والسنة - يدلان على الوحي المكتوب، والأخيران - أي الوحي الجماعي والعقلي - يدلان على الوحي الحي المستمر. ولأن الوحي لم ينزل دفعة واحدة بل حسب حاجات الناس فهو إذن ليس وحياً معطى، بل وحي مُنادَى به اقتضته أحوال الناس واحتياجاتهم.
"" ونصوص الوحي ذاتها نشأت في الشعور، إما الشعور العام الشامل، وهو ذات الله [عز وجل] أو في الشعور المرسَل إليه وهو شعور الرسول صلى الله عليه وسلم أو شعور المتلقي للرسالة وهو شعور الإنسان العادي الذي يشعر بأزمة فينادي على حل ثم يأتي الوحي مصدقاً لما طلب "".
هذا هو مفهوم الوحي عند د.حسن حنفي لا يتجاوز كونه رد فعل انفعالي يشعر به أي إنسان حينما تواجهه مشكلة في حياته فيبحث لها عن حل، إنه إذن في متناول النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يستدعيه في الوقت الذي يريد، ويصرفه عندما لا يريد، إنه شعور كسبي يصل إليه الإنسان عن طريق بعض الممارسات والمحاولات بل هو مجرد تبرير يُكسب تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم الشرعية السياسية ليضمن استجابة الناس له.
الوحي في كل ما سبق ليس نازلاً من الباري عز وجل وبمشيئةٍ منه سبحانه وتعالى، وإنما صادر من داخل الحياة الأرضية البشرية، وهو بهذا الشكل مفردة لا تتجاوز المنظور والخبرة الإنسانية لأنه:
- مجموعة حلول قابلة للتعديل والتطوير، فالوحي ليس خارج الزمان بل في داخله ويتطور بتطوره.
- معطى بشرياً إنسانياً وليس ربانياً.
ولذلك يجب أن تُؤوّل نصوص الوحي التي تخالف اختياراتنا أو مصالحنا [ أو نزواتنا وأهوائنا ] فإذا لم تخضع للتأويل يجب تعطيلها إما عملاً بقاعدة النسخ التي شهدها العصر الإسلامي الأول وأقرها الأصوليون، وإما بتحويل النصوص إلى عالم المعاني أي إلى أنساق من التصورات والتجريدات.
الغاية الأساسية لحسن حنفي كما يصرح إذن هي ليست فهم الوحي والتفاعل معه، وإنما "" تحويل الوحي من علوم حضارية إلى إيديولوجيا "". لأنه لا يهمنا في الوحي مراد المُرسِل ومقاصده، فلا يهمنا البعد الرأسي في الوحي وإنما البعد الأفقي، لأن الوحي هدفه الإنسان، ومصلحه الإنسان وسعادة الإنسان،"" فالإنسان هو اتجاه الوحي وموضوعه وهدفه وغايته ""،""وهذا هو معنى أن الوحي أنتروبولوجيا وليس ثيولوجيا أي علم إنسان وليس علم إله"".
وعلى ذلك فلا يمكن أن ينقطع الوحي لأنه تعبير عن الطبيعة الإنسانية وهو مفهوم لا ينكر النبوة بل يعني استمرارها ودوامها عن "" طريق نزوع الطبيعة، فالطبيعة هي الوحي، والوحي هو الطبيعة وكل ما يميل إليه الإنسان بطبعه هو الوحي، وكل ما يتوجه به الوحي هو اتجاه في الطبيعة، الوحي والطبيعة شيء واحد، ولما كانت الطبيعة مستمرة فالوحي بهذا المعنى مستمر، والنبوة دائمة، ولكننا أنبياء يوحى إلينا من الطبيعة، وصوت الطبيعة هو صوت الله، والوحي الطبيعي هو أكبر رد فعل على الوحي الرأسي فهو وحي بلا معجزات ولا ملائكة ولا أنبياء "". وبذلك "" لا يكون الوحي مجرد واقعة حدثت في الماضي عدة مرات ثم توقفت تاركاً شأن البشرية سدى بل الوحي اسم يُطلق على النشاط الذهني للإنسان في كل زمان ومكان "".
"" وهكذا يكاد الخطاب اليساري أن يُحوِّل الوحي إلى الطبيعة، ويرد الميتافيزيقي إلى الفيزيقي ويبلور فهماً تنويرياً للعقيدة والوحي، فهماً يجعل من كل إنجاز بشري عقلاني في مجال معرفة الطبيعة والواقع إضافة للوحي، واستمراراً له "".(13/464)
وهنا تبدو الدهرية المطلقة بصبغتها المادية، فالتنوير هو هذا الذي يطرحه د.حنفي حيث تصبح الطبيعة هي الإله، والوحي منها وإليها، والغيب يرتد إلى المادة والمحسوس والمشاهد، وبذلك لا ينقطع الوحي ولا ينتهي فهو مستمر ولا أدل على استمراره من الإنجازات البشرية المذهلة والمتواصلة، لأن الوحي اسم يطلق على النشاط الذهني للإنسان في زمان ومكان.
هذا هو إذن الفهم التنويري العقلاني للوحي في الخطاب العلماني يبقي عليه مستمراً دائماً في كل عمليات التفكير أو الإبداع أو الابتداع البشرية، إنه ينبع من البشر من أجل البشر، ولا حاجة لمرسِل ولا لمرسَل إليه ولا لرسول، فهو واقعة إنسانية لا صلة لها بالدين، ويحدث بناء على اقتراحات الأفراد وأزماتهم ومطالبهم.
هذه الرؤية الحسنفية للوحي القائمة على المنهج الشعوري "" الوحي تجربة في شعور الرسول الذي يشعر بأزمة "" والذي يحكم نظرتها إلى التراث ككل وليس إلى الوحي فقط هو بغض النظر عن كونه منهجاً مستعاراً من هوسرل كما يشير بعض الباحثين فإنه يؤدي إلى تفريغ الوحي من مضمونه، وإعادة شحنه بمضامين يختارها كل قارئ وكل مغرض فهو منهج "" في التعامل مع النصوص ينتهي في التحليل الأخير إلى التعامل معها بوصفها صوراً عامة فارغة قابلة للامتلاء بالمضمون الذي يفرضه المنهج، منهج الشعور الذاتي، وفي مثل هذا التصور لطبيعية النص تتساوى النصوص الدينية والنصوص الفكرية الكلامية "".
--------------------------------------------
سؤال:
لماذا يُحاط الوحي القرآني بكل هذه (الإشكالات) المتوهمة في رأيكم ؟
ممكن تلخيص سبب أشكلة مفهوم الوحي الحقيقي من أجل زحزحته:
فتلك الرؤية الحسنفية - السابقة - لا تختلف عن الرؤية الأركونية للوحي وخصوصاً إذا علمنا أن الوحي المستقر في المفهوم الإسلامي بنظر أركون مفهوم أسطوري ثُبِّت نتيجة البلورة التاريخية الطويلة والتعليم والتلقين المتواصلين، مع أن ذلك رُفِض من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم المشركين.
وهو ما يجعل هاشم صالح - مترجم أركون - يعبر عن أسفه لأن العقل العلمي والفلسفي الحديث لم يحُلّ محل الوحي أو العقل اللاهوتي في بلادنا الإسلامية في حين حصل هذا في الغرب، وهُجر مفهوم الوحي التقليدي من قِبل العقل العلمي.
ومما يجعل تجاوز مفهوم الوحي التقليدي بنظر أركون صعباً هو أنه شديد الوضوح والبساطة مما يجعل " أشكلته " صعبة، وهو ما يعني أن أركون يريد أن يحوِّل الوضوح والبسااطة اللتين يتميز بهما الوحي في المفهوم التقليدي إلى غموض وتعقيد، وذلك لكي تتحول اللامشكلة إلى مشكلة في تصور الناس، والقصد من ذلك هو زحزحة المفهوم التقليدي الساذج للوحي وتجاوزه.
هذا هو مفهوم " الأشكلة " الذي يطرحه أركون ويفسره هاشم صالح بأن الأشكلة وسيلة لتحقيق " الأرخنة " يعني أن نجعل البدهيات والثوابت مشكلة، لكي نتمكن من تجاوزها عن طريق طرح أفهام جديدة تزحزح الفهم السائد والمستقر.
----------------------------
سؤال:
ما هي الزحزحة التي ينجزها أركون وهل تختلف عما رآه حسن حنفي ؟
ليس فيما يطرحه أركون إضافة على ما رأيناه عند حسن حنفي إلا في طريقة العرض والأداء والتي تسهم الترجمة أيضاً بدور في إبراز الإطار الذي تدور في فلكه، إنها الزحزحة من المفهوم الإسلامي للوحي، إلى المفهوم الوضعي الغربي المادي أو " الإنسي ".
فـ "" الوحي ليس كلاماً معيارياً نازلاً من السماء من أجل إكراه البشر على تكرار نفس طقوس الطاعة والممارسة إلى ما لا نهاية، وإنما يقترح معنى للوجود، وهو معنى قابل للمراجعة والنقض بناء على وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن، كما أنه قابل للتأويل داخل إطار الميثاق أو العهد المعقود بكل حرية بين الإنسان والله "" عز وجل.
وإذا تأملنا في النص السابق نلاحظ أن:
- الوحي هنا بكل صراحة ليس معيارياً، أي ليس له حق الحاكمية والإلزام، أقصى ما هنالك أنه مجرد نصائح يحق للإنسان قبولها أو رفضها أو تعديلها عن طريق النسخ، إنها مجرد اقتراحات، وبذلك تكون وظيفة الوحي أنه "" دينامو روحي يغذي الطموح المطلق والبحث عن الكمال، وليست وظيفته الضبط والتنظيم والتسويغ "".
- ولكن يقال هنا: إن العهد المعقود بكل حرية بين الله والإنسان يُحمِّل الإنسان التزامات وواجبات قبِل أن يلتزم بها الإنسان نفسه فلماذا يراوغ لينقض العهد ويتحلل من مسؤلياته، ويتبرم بطقوس الطاعة والعبادة. إن الإنسان قبل التكليف مقابل الخلافة في الأرض فعليه أن يفي بالتزاماته.
ولكن الخطاب العلماني يريد أن يعيد المفاوضات من جديد بينه وبين الخالق عز وجل ليقرر الإنسان بناء على نموه المعرفي ماذا يقبل وماذا يرفض من الوحي إذ "" الوحي يكون موجوداً كلما جاءت لغة جديدة لتعدل جذرياً نظرة الإنسان إلى وضعه إلى كينونته في العالم إلى علاقته بالتاريخ إلى نشاطه في إنتاج المعنى "". الإنسان هذه المرة هو الذي يريد أن يملي على الباري عز وجل ماذا يريد، هو الذي يسهم ويشترك في إنتاج المعنى، الوحي يصبح من الإنسان من الأسفل، والباري عز وجل عليه أن يبارك ويقبل.(13/465)
ومع أن نسخ الوحي المتلاحقة والرسالات المتتابعة لا تحمل تغييراً جذرياً - كما يزعم الخطاب المذكور - إلى الكون لأنها في الأصل نسخة واحدة من حيث القضايا الكونية والمصيرية المشتركة للإنسان، والتغيير لا يمس إلا التفاصيل التشريعية، وبعض الأحكام، إلا أن الخطاب العلماني يريد أن يبقى الباب مفتوحاً لتعديل العهد والميثاق، يريد أن تظل اتفاقيات السلام بينه وبين خالقه دائماً مفتوحة وفي نقطة الصفر، ودائماً قابلة للمراجعة والتغيير، وغير خاضعة للحسم والإلزام ليظل التنزيل متواصلاً من داخل الإنسان فـ "" التنزيل هو ورود هكذا يُكوِّن معنى غير معهود، يفتح إمكانات غير محدودة أو متواترة بدلالاتها على الوجود الإنساني، وردوده إلى الحيِّز الداخلي للإنسان إلى قلبه "".
هذا الورود لا يمكن أن يُفهم منه أن الوحي هابط من الأعلى إلى الإنسان لأن هذا سيُخرج أشكالاً كثيرة من الوحي يقول أركون: "" إن تعريفنا للتنزيل له هذه المزية، ويجعله يفسح المجال لتعاليم بوذا وكونفوشيوس وحكماء إفريقيا وجميع الأصوات العظمى التي تحمل تجربة المجموعة البشرية الجماعية لتُسقطَها على مصائر جديدة، ولتغني التجربة الإنسانية للألوهية "".
في هذا النص السابق يلتقي كل من حنفي وأركون في اعتبار الوحي والألوهية كلتاهما تجربة بشرية إنسانية تخضعان لإرادة البشر ومطالبهم فالوحي "" تركيبة اجتماعية لغوية مُدعّمة من قبل العصبيات التاريخية المشتركة ""، "" وهذا هو معنى الوحي الذي يهبط كلما وجه النبي صلى الله عليه وسلم بقرار منه المستقبل الروحي للجماعة "".
ويلتقيان كذلك في اعتبار الوحي تجربة شعورية "" إن الوحي حدوث معنى جديد في الفضاء الداخلي للإنسان، القرآن يقول: في القلب، وهذا المعنى يفتح إمكانيات لا نهائية أو متواترة من المعاني بالنسبة إلى الوجود البشري "".
وهكذا يصبح الوحي في النصوص السابقة شاملاً لكل خواطر الإنسان وهواجسه ومشاعره ما دامت تحدث في القلب الفضاء الداخلي للإنسان، وشاملاً لكل جهود المصلحين عبر التاريخ من بوذا إلى كونفوشيوس وربما أركون وحنفي، فالنبوة ليست بالضرورة أن تكون علاقة مخصوصة بالله عز وجل وليست بالضرورة ذات طابع ديني ففي الشعر نبوءة، وهذا شاعر كأدونيس يذهب إلى أنه نبي وثني، والقرآن شكل من أشكال النبوءة.
وبذلك يصبح الوحي في الخطاب العلماني "" أوسع من أن يحصره معتقد أو تستنفده قراءة "" أي يتحول إلى مفهوم غائم مُشْكِل كما أراد الخطاب العلماني لكل إنسان الحق في أن يعبر عنه كما يشاء ويفهمه كما يريد، ويقرأه كما يحب، ويعتقده كما يحلو له.
هذه الرؤية الأركونية تحظى بالقبول المطلق لدى تلاميذه المُستَلبين لظاهرة الحداثة، والمنبهرين بالجديد أياً كان مضمونه ومحتواه، وهو ما يعبر عنه أحد هؤلاء التلاميذ بقوله: "" هكذا وبهذا الفهم التاريخي والنقدي للوحي يكون أركون قد تجاوز الفهم السائد للوحي بما هو نص مكتوب مغلق ونهائي الدلالة، وهو بذلك يؤكد على فاعلية العقل في فهم ظاهرة الوحي، ويجعل من النص الديني مفتوحاً ولا نهائي الدلالة، ويُخرج النص من الفهم الضيق المنغلق اللاتاريخي الذي تكرسه الثقافة الرسمية عادة والمحافظة، نظراً لفراغها الداخلي معرفياً وعدم قدرتها على الإضافة النوعية التي تتطلبها شروط اللحظة التاريخية لتفاعل النص الديني مع الواقع تفاعلاً حوارياً إيجابياً، ومنتجاً حضارياً وثقافياً "".
ويضيف التلميذ المخدَّر: "" هكذا نتبين مدى تاريخية القراءة الأركونية للنص القرآني باعتباره وحياً منزَّلاً من قبل الله، وبالتالي مدى علمية هذه القراءة باعتبارها قراءة مفتوحة، ونقدية، وليست قراءة منغلقة ودوغمائية نهائية وأبدية الدلالة "".
في النصين السابقين تتسارع الأحكام الجزافية المطلقة التي لا تستند إلى دليل أو برهان كقوله: بأن الفهم السلفي السائد والمستقر للوحي هو فهم منغلق ونهائي الدلالة، وهو غير صحيح فالفهم السلفي ليس منغلق الدلالة، كما أنه ليس لا نهائي الدلالة، وإنما منضبط الدلالة، فلا بد لكل دلالة من دليل وضابط حتى لا يصبح العبث واللعب هو الغاية من القراءة.
ولكن تتواتر الأوصاف الشاتمة والأحكام التسفيهية للفكر السلفي السائد والمستقر فهو فكر جامد، محافظ، ضيق، منغلق، لا تاريخي، فارغ معرفياً، غير قادر على الإضافة. أما الفكر الأركوني فيُحاط بهالة من التقديس والتمجيد فهو فكر تاريخي، نقدي، متفاعل مع الواقع، مفتوح على كل المعاني، قادر على الإضافة، علمي القراءة، كل ذلك لأنه تجاوز الفهم السائد والمستقر للوحي، فقد أصبح كل ما هو سائد ومستقر سُبَّة في منظور الحداثة والحداثيين. إنها الفاشية المعاصرة.
--------------------------------
سؤال:
حدثنا باختصار عن خلاصة الموقف العلماني من الوحي.
يمكننا الآن أن نوجز الموقف العلماني من الوحي بالعناصر التالية:
- الوحي هجوم مباغت داخل الضمير، والجنون يمكن أن يعتبر أصلاً للوحي، والنبوة مطبوعة بشيء من العصاب.
- الهلس والهلوسة تفسيرات صحيحة للوحي ستسود ذات يوم في الفكر الإسلامي.(13/466)
- الوحي يبدأ من اللاشعور، ثم يتحول إلى واقعة شعورية.
- الوحي حدوث معنى في الفضاء الداخلي للإنسان.
ومن الواضح أن هذه العناصر جميعاً ترد الوحي إلى الحيِّز الإنساني الوضعي، وتسعى جاهدة لجعل الوحي نابعاً من ذات الإنسان، وليس نازلاً عليها من المطلق المفارق "" إنه حالة استثنائية يغيب فيها الوعي، وتتعطل الملكات ليبرز المخزون المدفون في أعماق اللاوعي بقوة خارقة لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم على دفعها ولا تتحكم فيها إرادته "".
إنه ليس واقعة خارجية منفصلة عن ذات النبي صلى الله عليه وسلم لأن "" العلم الوضعي العقلاني لا يمكن له أن يقول بحقيقة تجلي كائن ميتافيزيقي كحقيقة موضوعية "". لماذا !؟ لأنه عندئذ "" عليه أن يعتبر أنه موجود فعلاً "" بينما الوحي "" ظاهرة دينية فحسب معطاة من التاريخ والعقلانيون لا يؤمنون بواقعيته الفعلية هذا شأن المؤمن وليس شأن العالم أو الفيلسوف "".
ولأننا إذا اعترفنا بالوحي كما هو في المفهوم السلفي السائد المستقر فإن ذلك سيدفعنا إلى الاعتراف باستمرارية الإسلام وفاعليته من خلال القدوة النبوية "" ولكننا لا نستطيع العودة إلى النموذج النبوي لأننا أصبحنا نرى بوضوح تاريخيته واندماجه في الأنماط العابرة لإنتاج المعنى داخل التاريخ "".
--------------------------
سؤال:
بعد كل الإشكالات المطروحة من الفكر العلماني حول الوحي، كيف ننقضها ؟
في البداية: من حقنا أن نسأل هنا:
هل حقق العلمانيون الزحزحة المرادة أم أنهم يجترُّون كل ما ردده فلاسفة الغرب ومستشرقوهم حول الوحي، وأن التجديد الذي يزعمون أنهم يمارسونه ليس أكثر من عملية نقل أو سطو على ما هو شائع في الثقافة الغربية الوضعية وعرضه في الساحة الثقافية العربية والإسلامية على أنه إبداع أصيل ؟
في الواقع لم يختلف الموقف العلماني عن الموقف الاستشراقي في هذا الصدد فلقد اتفق جل المستشرقين قديماً وحديثاً على أن الوحي لا يمكن أن يكون واقعة مستقلة عن كيان الرسول صلى الله عليه وسلم ونفسيته أو شعوره، وإن كانت اختلفت تعبيراتهم وصياغاتهم في ذلك فهو لدى بعضهم نوع من أنواع الصرع، ولدى آخرين نوع من أنواع الهوس، أو الهلوسة، أو الهذيان أو الاستبطان، أو الهستريا العصبية، أو الشعور الداخلي، أو التصوف العميق.
والمتأمل في الرؤيتين الاستشراقية والعلمانية يجد أنهما انعكاس للفلسفة المادية الوضعية التي كرّسها فلاسفة النهضة الأوربيين منذ ديكارت وسبينوزا إلى فيورباخ وماركس، ثم فلسفة الحداثة المعاصرة. لقد قال سبينوزا: يختلف الوحي عند الأنبياء تبعاً لمزاجهم وبيآتهم واحوالهم، فالنبي الفرح توحي إليه الحوادثُ السلامَ، والانتصارتِ، والنبي الحزين توحي إليه الشرورَ، والهزائم، والأحزان. فكان الصدى من د.حسن حنفي: الوحي عبارة عن مواقف إنسانية زاخرة بالأمل والمعاناة والجهد والفرح والألم وتجارب النفاق، والخداع، إنه قلقٌ وضيقٌ، وأملٌ وألمٌ وتوجعٌ يحس به الفرد. وكان الصدى من أركون "" الأنبياء كالشعراء والكبار، و "" كالفنانين الكبار "". وكان الصدى من نصر حامد أبو زيد "" فإن الأنبياء والشعراء والعارفين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية المخيلة في اليقظة والنوم على سواء، وليس معنى ذلك، التسوية بين هذه المستويات من حيث قدرة المخيلة وفاعليتها، فالنبي يأتي من دون شك في قمة الترتيب، يليه الصوفي العارف ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب "".
والآن يمكننا القول بأن الرؤى العلمانية والاستشراقية التي عرضناها حول الوحي لم تأت بجديد حول مفهوم الوحي أو الاعتراض عليه، وإنما هو تكرار لمواقف المشركين المُحتارة والمضطربة في معارضة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان ثمة جديد فهو الصياغات التي تُعرَض بها التفسيرات الحديثة:
- فلقد قال المشركون شاعر، وقال المُحدَثون - مستشرقون وعلمانيون - شعور داخلي.
- وقال المشركون: مجنون، وقال المُحدَثون: صرع أو هلوسة، أو هوس.
- وقال المشركون: ساحر، وقال المُحدَثون: عبقري.
- وقال المشركون: كاهن، وقال المحدَثون: مصلح اجتماعي أو قائد فريد.
- وقال المشركون: أضغاث أحلام، وقال المحدثون: هذيان أو استبطان.
- وقال المشركون: بل افتراه، وإنما يعلمه بشر، وقال المحدثون، تعلم من بحيرا، أو من أهل الكتاب.
ثم تخلى كثير من المستشرقين عن افتراءاتهم. وسلموا بأن محمداً صلى الله عليه وسلم أسمى من كل ذلك وأن واقعة الوحي أجل من كل ما عرضوه من تخمينات أو تخرصات، ولكن العلمانيين لأنهم جاؤوا متأخرين فإنهم يحتاجون إلى بعض الوقت ريثما تزول الغشاوة عن العيون، وتنكشف الحقائق من بين الظنون " كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ " [الرعد: 17].(13/467)
وهكذا بقي أن الوحي كلام الله عز وجل نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه إلى الناس، والله عز وجل هو الخالق لهذا الكون بما فيه، وجبريل عليه السلام ملَك وخلْق من خلْق الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر اختاره الله جل شأنه واصطفاه ليكون للناس بشيراً ونذيراً. فأين العجب في كل هذا ؟ وأين المحال ؟ ولماذا يكابر الناس ويجحدون ويتبرمون ؟
حقيقة الوحي كما هيأه الله عز وجل وأراده، تنقض المقولات العلمانية:
لقد فوجئ صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينيه - بعيني رأسه - وهو يقول له: إقرأ حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مردُّه إلى حديث النفس المجرد، وإنما هي استقبال وتلق لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس، وداخل الذات، وضمَّه الملَك ثلاث مرات حتى بلغ منه الجهد، أي حتى ضاق به نفسه صلى الله عليه وسلم قائلاً في كل مرة: إقرأ، ليؤكد أن هذا الذي يراه ليس خيالاً أو شعوراً، وإنما هو حقيقة يُحس بها في ثنايا جسده، ويرى أثرها في أعضاء جسمه، ولقد داخله الخوف والرعب مما سمع ورأى حتى أنه قطع خلوته في الغار وأسرع عائداً إلى بيته يرجف فؤاده، لكي يتضح لكل مفكر عاقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن منتظراً رسالة أو متشوفاً أو متشوّقاً إليها، ولم تكن خاطرة له على بال، وإنما طرأت طروءاً مفاجئاً ومثيراً على حياته دون أي توقع، ولا شك أن هذا ليس شأن من يتدرج في التأمل والتفكير إلى أن تتكون في نفسه بطريقة الكشف التدريجي المستمر عقيدة يؤمن بالدعوة إليها.
ثم إن شيئاً من حالات الإلهام أو حديث النفس، أو الإشراق الروحي أو التأملات العلوية لا يستدعي الخوف والرعب واصفرار اللون، كما أن الخوف والرعب ورجفان الجسم وتغير اللون كل ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها، حتى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه صلى الله عليه وسلم ، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة من الصدق والأمانة إلى عكس ذلك تماماً.
ويتجلى مزيد من صورة المفاجأة المخيفة لديه صلى الله عليه وسلم في توهمه بان هذا الذي رآه ووعظه وكلمه في الغار قد يكون طائفاً من الجن إذ قال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر، " لقد خشيت على نفسي " ولكنها طمأنته بأنه ليس ممن يطولهم أذى الشياطين والجان لما فيه من الأخلاق الفاضلة، والخصال الحميدة، وقد كان الله عز وجل قادراً على أن يربط على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلمه ليس إلا جبريلاً عليه السلام، ملك من الملائكة جاء ليخبره الخبر بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس، ولكن الحكمة الإلهية الباهرة اقتضت إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وشخصيته بعدها، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستبطن شيئاً من الرغبات والآمال، ولم يكتنز صنوفاً من المشاعر أو الأحزان، ثم بدأ يعبر عنها بشكل مفاجئ الآن.
أما انقطاع الوحي بعد ذلك وتلبثه أشهراً أو أكثر على الخلاف المعروف فيه فينطوي على مثل المعجزة الإلهية الرائعة إذ في ذلك أبلغ الرد على الذين يفسرون الوحي بأنه إشراق نفسي، أو استبطان داخلي انبعث من أعماق ذاته نتيجة طول التأمل والتفكير.
لقد شاء الله عز وجل أن يحجب عنه الملَك الذي رآه لأول مرة في غار حراء مدة طويلة وأن يستبد به القلق من أجل ذلك، ثم يتحول القلق لديه إلى خوف في نفسه من أن يكون الله عز وجل قد قلاه بعد أن أراد تشريفه بالوحي والرسالة لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه، وراحت تحدثه نفسه كلما وصل إلى ذروة جبل أن يلقي بنفسه منها، إلى أن رأى الملَك جبريل عليه السلام مرة أخرى.
إن هذا الانتظار الحزين ثم ما تلاه من ابتهاج مفاجئ كانا في الواقع الظرفين النفسيين لتلك الحالة من الفيض العقلي لم تعد تخطر معه ظلال الريبة أو الشك. إن هذه الحالة التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاماً نفسياً أو شعوراً داخلياً ضرباً من الجنون، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال.(13/468)
فلا يمكن للاختلاط أو الهلوسة أن تؤدي أصواتاً وأمراً: إقرأ، ثم ينتج عن ذلك قرآن مفهوم بكلام فصيح يُتلى على الناس فيبهر أسماعهم، وعقولهم، وممن ؟ من أمي لم يتعلم القراءة والكتابة ولم يحاولهما وتتواتر الآيات: " إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً " [المزمل: 5]. " وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى.. " [النجم:1] لكي تفرض الحقيقة العلوية للوحي نفسها فرضاً على العقل الوضعي، فكل ما يراه وما يسمعه وما يشعر به وما يفهمه يتفق الآن مع حقيقة واضحة تماماً في ذهنه جلية في عينيه هي: الحقيقة القرآنية. وسيتابع الوحي نزوله بسور القرآن سورة سورة، فتتزاحم في وعيه الحقائق التاريخية والكونية والاجتماعية التي لم يسبق أن سُجِّلت في صفحة معارفه بل حتى في معارف عصره واهتمامه.
وكل ذلك يؤكد أن الوحي حقيقة خارجية منفصلة عن ذاته صلى الله عليه وسلم ولا خيار فيها، وإنما تفاجئه في أي وقت وبغير ميعاد، ويتفاعل معها جسمه وعقله وضميره ووجدانه ليؤدي الرسالة كما تصله، ويبلغها كما سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والآن قس هذه الأحوال التي ترافق نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الاحتمالات التي قلّبها المُغرضون واقترحها المُرجفون فهل تستقيم مع واحد منها، وتأمل في تلك الحيرة التي لا تصدر إلا عن عازم على المكابرة والجحود، قاصد إغماض العين عن الحقيقة حتى لا تبهر عينه "" فانظر كم قلبوا من وجوه الرأي في هذه المسألة ؟ حتى أنهم لم يقفوا عند الحدود التي يمكن افتراضها في كلامٍ رصينٍ كالقرآن، وفي عقلٍ رصينٍ كعقل صاحبه، بل ذهبوا إلى أبعد الأحوال النفسية التي يمكن أن يصدر عنها كلام العقلاء والمجانين، إن ذلك لمن أوضح الأدلة على أنهم لم يكونوا يشيرون بهذا الوجه أو ذاك إلى تهمة محققة لها مثار في الخارج أو في اعتقادهم، وإنما أرادوا أن يُدلوا بكل الفروض والتقادير مُغضِين على ما فيها من محالٍ ونابٍ ونافرٍ ليثيروا بها غباراً من الأوهام في عيون المتطلعين إلى ضوء الحقيقة، وليلقوا بها أشواكاً من الشك في طريق السائرين إلى روض اليقين "".
"" ولقد نعلم أنهم في قرارة أنفسهم غير مطمئنين إلى رأي صالح يرضونه من بين تلك الآراء، وأنهم كلما وضعوا يدهم على رأي منها وأرادوا أن ينسجوا منه للقرآن ثوباً وجدوه نابياً عنه في ذوقهم، غير صالح لأن يكون لبوساً له، فيفزعون من فورهم إلى تجربة رأيٍ ثان، فإذا هو ليس بأمثل قياساً مما رفضوه فيعمدون إلى تجربة ثالثة... وهكذا دواليك ما يستقرون على حالٍ من القلق، فإن شئت أن تطلع على هذه الصورة المضحكة من البلبلة الجدلية فاقرأ وصفها في القرآن " بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُون " [الأنبياء: 5]. فهذه الجملة القصيرة تمثل لك بما فيها من توالي حروف الإضراب مقدار ما أصابهم من الحيرة والاضطراب في رأيهم، وتريك من خلالها صورة شاهد الزور إذا شعر بحرج موقفه كيف يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، وكيف تتفرق به السبل في تصحيح ما يحاوله من محال "" " انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا " [الإسراء: 48].
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
عودة إلى مصطلحاتهم
سؤال:
لننتقل إلى موضوع آخر: أرجو التكرم بإعادة توضيح أبرز مصطلحاتهم التأويلية التدويلية ( أقصد بكلمة تدويلية " ترويجية " ).
يتداول الخطاب العلماني مصطلح الهرمينوطيقا، وأحياناً القراءة وأحياناً المقاربة وأحياناً التأويلية الحديثة وأحياناً التأويل وهي مصطلحات يُراد بها أحياناً معنى واحداً وأحياناً تختلف المعاني بحسب السياق الذي يُتحدَّث فيه.
ويُستغَل مفهوم التأويل لكونه مفهوماً إسلامياً قرآنياً وتراثياً كمدخل إلى الهرمينوطيقا، وذلك من أجل قراءة النص قراءة جديدة أو معاصرة أو تنويرية أو غنوصية أو غير ذلك، ومن ثَم تصبح المعاني القرآنية المستقرة، والأصول الثابتة، والأفهام السلفية الراسخة والمعلومة من الدين بالضرورة والمجمَع عليها أفهاماً تاريخية خاضعة للتجديد والتغيير والمعاصَرة، لتحِل محلَّها معاني أكثر تطوراً وأكثر ملاءمة للعصر.
- تعريف الهرمينوطيقا:
"" الهرمينوطيقا هي فن كشف الخطاب في الأثر الأدبي "". كما "" تعني تقليدياً فن تأويل النصوص المقدسة الإلهية أو النصوص الدنيوية البشرية، وهي كذلك مساوية للتفسير أو للفلولوجيا بما هي تفسير حر في أو نحوي وصرفي لغوي لبيان معاني الألفاظ والجمل والنصوص، وهذا ما يعرف بالتفسير اللفظي "".
وهو مصطلح مستخدم في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني.(13/469)
صحيح أن الهرمينوطيقا اتخذت بُعداً شاملاً يتعلق بكافة العلوم الإنسانية إلا أنها ارتبطت أخيراً بعلم النصوص، وأصبحت تعني الكشف عن الطرق والوسائل التي تمكِّن من فهم النص، ولذلك فهي أخص من السيميوطيقا التي تُعنى بالعلامات التي يبدعها البشر عموماً، وتسعى إلى تصنيفها وتحليلها، ولكنهما منهجان يراد منهما تطوير عملية القراءة. وهي كذلك تختلف عن التأويل في أن الأخير يبحث في الدلالة أما في الهرمينوطيقا فمحور البحث هو في آليات الفهم ولذلك يكون التركيز على القارئ فيها أما في التأويل فالتركيز يكون على القائل. كما سنرى.
هذا هو المعنى التقليدي للهرمينوطيقا، ولكن مع تطور نظرية النسبية أصبحت الهرمينوطيقا تُعنى بفن الفهم، وهذا المعنى " فن الفهم " هو الذي سيؤسس له شلاير ماخر 1768 - 1834 م الذي يُعتبر أبا التأويلية الحديثة، وأصبح فن الفهم أو فن التأويل يتناول ليس النصوص المقدسة فقط بل تعدى ذلك إلى النصوص البشرية ذات المضمون الطبيعي اليومي.
ومعنى كونها تجاوزت الكتب المقدسة إلى الكلام البشري اليومي أنها أصبحت تُخضع كل شيء للتأويل، وتعتبر التأويل هو الأصل في الكلام، وبذلك تكون الهرمينوطيقا نمطاً من أنماط القراءة والتأويل للنصوص والتراثات الفكرية.
وتنتهي القراءة في الهرمينوطيقا إلى أن تصبح مفهوماً يمثل تصوراً أو فهماً معيناً للعالم والإنسان والتراث، ويعكس فكر القارئ ومنهج تعامله مع النص كوجود تاريخي، وممارسة للوجود والكون في شروط إمكان زمكانية، وتغدو القراءة بذلك عملية تأويلية وتفسيرية للوجود والكون. "" إن البحث التاريخي في دلالة الهرمينوطيقا يجعلنا نعود إلى دلالة هذا المصطلح في أصله اللغوي إذ يعود في اللغة الإغريقية إلى فعل he r menuo الذي قد يعني t r adui r eأي ترجم وexplique r بمعنى فسِّر، و exp r ime r أي عبَّر وأفصَح وأبان، وبذلك تفيد الهرمينوطيقا معنى القراءة بما هي تفسير وتأويل أو شرح وكشف وبيان، أما داخل فضاء اللغة اللاتينية فإن المصادر والمراجع المعتمدة تفيد أن مصطلح الهرمينوطيقا لم يتشكل إلا في بداية العصر الحديث رغم أن فكرة فن أو نوع من التأويل موجودة منذ القدم "". وقد استخدم المصطلح على الأرجح لأول مرة في عنوان كتاب لدانهاور سنة 1654 م.
----------------
- الهرمينوطيقا الخاصة:
في مقابل الهرمينوطيقا العامة التي اهتمت بتفسير الوجود تقوم هرمينوطيقا خاصة تركز بالذات على تفسير النصوص، ومن أبرز ممثليها بول ريكور [ ولد سنة " 1913م ] الذي يُعوِّل كثيراً على التفسير الرمزي، وهو ما سيُعتَبر أساساً تقوم عليه الهرمينوطيقا، إذ يَعتبر ريكور الرمز وسيطاً شفافاً ينم عما وراءه من معنى، ومعنى ذلك أن يقول القائل شيئاً وهو يعني شيئاً آخر في آن واحد، وبغير أن تتعطل الدلالة الأولى وهو ما يسمى " بالوظيفة الأليغورية " للغة بالمعنى الحرفي للكلمة. وهذه الطريقة لجأ إليها بولتمان في تحطيمه للأسطورة الدينية في العهد القديم، والكشف عن المعاني العقلية التي تكشف عنها هذه الأساطير.
وهناك طريقة أخرى يمثلها كل من فرويد وماركس ونيتشة كما يبين ريكورنفسه، وهي التعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به، بل يجب إزالتها وصولاً إلى المعنى المختبئ وراءها، فالرمز في هذه الحالة لا يشف عن المعنى بل يخفيه ويطرح بدلاً منه معنى زائفاً، ومهمة التفسير هي إزالة المعنى الزائف السطحي وصولاً إلى المعنى الباطني الصحيح. لقد شكك فرويد في الوعي باعتباره مستوى سطحياً يخفي وراءه اللاوعي، وفسر كلٌّ من ماركس ونيتشة الحقيقة الظاهرة باعتبارها زائفة، ووضعا نسقاً من الفكر يقضي عليها ويكشف عن زيفها.
والرمزية الريكورية تقوم على الكشف والإبلاغ عندما تساعد في تفجير دلالات اللغة عوضاً عن انكفائها على ذاتها. وتعتمد على مفهوم العلامة عند سوسير باعتبارها ذات صلة وعلاقة مع غيرها من العلامات، وباعتبارها ذات إمكانات استدعائية عجيبة، وذات قدرة فريدة على تأويل بعضها البعض، وبكون العلامة قادرة على التعبير عن شيء دون أن تتعطل عن التعبير عن شيء آخر. وبذلك يعتبر ريكور رمزيته ظاهرة ملموسة للمعنى على مستوى الخطاب، موثقة على أرضية العمليات الأولية للعلامات، وبذلك تكتسب رمزيته - بنظره - قيَماً وظيفية، فلم يعد الاشتراك اللفظي ظاهرة انحراف في ذاته، ولا الرمزية زينة في اللغة.
ويصل ريكور إلى أن القيمة الفلسفية للرمزية تكمن في كونها تعبر عن غموض الكينونة من خلال تعدد إشارية علاماتنا.(13/470)
هذه الرمزية تنتهي بريكور إلى تقرير النتائج التي يتفق عليها أغلب الهرمينوطيقيين فالنص بمجرد أن يُدوَّن كتابة يصبح مستقلاً عن قصد الكاتب، وتنفتح عندئذ إمكانيات التأويل المتعددة المفتوحة التي لا تختزلها أية رؤية، وتكون مهمة الهرمينوطيقا هي الكشف عن "" شئ النص غير المحدود "" لا عن نفسية المؤلف، لأن دلالة النص العميقة ليست هي ما أراد الكاتب قوله، بل ما يقوم عليه النص بما فيه إحالاته غير المعلنة. ولذلك يعلن ريكور: "" أحياناً يطيب لي أن أقول: إن قراءة كتاب ما هي النظر إلى مؤلفه كأنه قد مات … وبالفعل تصبح العلاقة مع الكتاب تامة وثابتة بشكل ما عندما يموت الكاتب "".
ونصل الآن إلى هيرش الفيلسوف الأمريكي الذي حاول أن يُعيد الاعتبار للنص والمؤلف بعكس ما سبق أن قرر أسلافه الهرمينوطيقييين، ولكنه اتجه إلى التفرقة في النص بين المعنى والمغزى، فالنص الأدبي قد يختلف ولكن معناه ثابت، المغزى فقط هو المتغير من عصر إلى عصر، ولا يهمنا في النص الأدبي ما يعنيه المؤلف أو ما كان يقصده، أو ما أراد أن يعبر عنه، إنما الذي يعنينا بحق هو المعنى كما يعبر عنه النص.
ونحن إذا تأملنا في الفكرة الأساسية لدى أغلب الفلاسفة الذين عرضنا لهم آنفاً نتبين بوضوح أن الفكرة الأساسية الشائعة لديهم والمتفق عليها أن النص خاضع لأفق القارئ، ومدى قدرته على استنطاقه، ومدى قدرته على الاستدعاء من خلاله. إن مهمة القارئ مع النص هي أن يتمكن من إبداع نصوص إلى جانب النص الأصلي، ولا يهم أن تكون ذات صلة بمقاصد المؤلف الأول أو مراميه، المهم أن يتمكن القارئ من ربط استيحاءاته واستدعاءاته وإبداعاته بالنص بأي شكل من الأشكال، أو بأي رمز من الرموز أو بأي علامة من العلامات "" هذه الدائرة الهرمينوطيقية ستحول الثبات إلى حركة، نظراً لأن المعنى وقع استبداله بالفهم، هذا الفهم مرتبط بذات بشرية متحولة ومتغيرة، لذلك أصبح الفهم بحسب ما يريده القارئ، لا كما يريده المؤلف، لأن زمن التأليف غدا زمناً غائباً ينتمي إلى الماضي، بهذا لا يمكن الاستقرار على معنى، فهناك موت وانهدام للمعاني، وتخلُّق جديد لدلالات أخرى، ومن ثَّم فهذه الدائرة الهرمينوطيقية تجعلنا ندور في مجال لا نهائي ""، ونمتعض من افتراض معنى موجود سلفاً، لأن هذا المعنى سيكون ضد حركة الفكر.
---------------------
- اللسانيات:
اللسانيات فرع من علوم اللغة الحديثة أرسى قواعدها العالم السويسري فرديناند دي سوسير 1857 - 1913م وذلك في محاضراته التي أملاها على طلابه بين عامي 1907 - 1913م.
غير أن ولادة هذا العلم لدى كثير من الباحثين الغربيين ترجع إلى مائة سنة قبل سوسير وذلك لدى الألماني فرانز بوب سنة 1791، 1867 م.
وتطورت على أيدي عدد من الباحثين فيما بعد أمثال: بريس باران الذي كتب كتابه " أبحاث في طبيعة اللغة ووظائفها " سنة 1942م، وبول شوشار الذي كتب كتابه " اللغة والفكر " سنة 1956م وتشومسكي في كتابه " اللسانيات الديكارتية " و " الطبيعة الشكلية للغة " نشره سنة 1966 وغيرهم من أمثال رومان جاكبسون وآيميل بنفنيست.
تقوم اللسانيات على اعتبار اللغة مجموعة مصطلحات أو علامات ارتضاها المجتمع حتى يتيح للأفراد أن يمارسوا قدرتهم على التخاطب يقول دي سوسير "" اللغة نتاج اجتماعي لملكة الكلام ومجموعة المواضعات التي يتبناها الكيان الاجتماعي ليمكن الأفراد من ممارسة هذه الملكة "". وتنشأ بين الكلمة والفكرة رابطة، أو تلازم نفسي يحدد اللسان باعتباره ظاهرة نفسية جماعية، ولذلك يُفترض بالتخاطب حتى يؤدي عمله أن يصل بين شخصين يملكان قدراً مشتركاً من الأفكار والألفاظ.
ويميز سوسور بين اللسان والكلام، فاللسان هو مجموع الكلمات التي يملكها المجتمع والتي تُدوَّن في المعجم بينما الكلام هو ما يملكه الفرد من مصطلحات في ذاكرته أو قاموسه اللغوي.
وأطلق سوسور على التصور الفكري للعلامة أو الإشارة اسم المدلول، وأطلق على الصورة السمعية لها اسم الدال، وهذان المفهومان متلازمان في كياننا النفسي، وهذا التلازم هو الذي يكوِّن الإشارة، وبذلك يكون الدال والمدلول مترابطان بالضرورة، فهما أشبه بصفحة من الورق يشكل المدلول وجهها الأمامي والدال وجهها الخلفي. ويتألف من الدال والمدلول ما يسمى بالدلالة التي يمكن تعريفها بأنها كيان يمكن أن يصير محسوساً ويشير بذاته بالنسبة لمجموع مستعمليه إلى أمر غائب.
إن جوهر اللسانيات هو مفهوم العلامة التي تُعتَبر تشكُّلاً لا يستمد قيمته ودلالته من ذاته، وإنما يستمدها من طبيعة العلاقات القائمة بينه وبين سائر العلامات الأخرى، فهو دليل لا يدل في بدئه بمقومات رمزية، وإنما يكتسب دلالته باتفاق عارض يضفي عليه قيمة الرمز دون أن يحوله إلى رمز. ولذلك وصفت العلاقة بين الدال والمدلول بأنها علاقة اعتباطية ولكن العلامة لا بد أن تنطوي على القصد، إذ يقتضي دستورها الدلالي توفر النية في إبلاغ ما تفيده، لأن العلامة إنما تدل بوضع هو اصطلاح متفق عليه تصريحاً أو مُسلَّم به ضمناً.(13/471)
فالعرف أو الاصطلاح هو الذي يُقر للعلامة بدلالتها لأنه ما من دال إلا وكان يمكن استبداله بدال آخر. فالقواعد أو المواضعات المنظمة والضابطة لمعنى القضايا اللسانية ترجع في أصلها إلى طبيعة اجتماعية أو إلى عرف الجمهور، ولذلك فقيام كل فرد بإنشاء لسان خاص لنفسه يقضي على ضرورة التواصل بين الناس، لأن اللسان ليس ملكاً مخصوصاً، والقواعد اللسانية هي قواعد مشتركة بين الجمهور.
ولذلك حتى عندما تكون اللغة أو أي من الدلائل رمزاً، يجب أن تكون خاضعة لنظام بحيث يكون كل رمز يقابله معنى معين. ومن هنا فإن قواعد التواصل هي الاتفاقات التي يجب مراعاتها عند إرادة الوصول إلى الغرض والقصد والتواصل، وكل ذلك يكوِّن الخاصية اللسانية لتلك القواعد، وهي قضية بدهية لأننا نستخدم اللغة في إيصال أشياء مفرطة في التعقيد للآخرين. وهكذا فإن الاتفاق والتواطؤ والمواضعة الكائنة نتيجة الاستعمال هو طريق التواصل والقصدية، وهو الدال على نوايا المتكلمين.
إن ما نريد أن نصل إليه هنا هو أن اللسانيات علم من علوم اللغة يقوم على النحو ويستند إليه. ويمكن لهذا العلم أن يكون حيادياً ويقوم بدوره في خدمة البحث اللغوي، وإثراء عمليات الاستدلال، إلا أن الأمر لم يسر على هذا النحو من حيث الواقع، ولم يوفَّق هذا العلم لذلك والسبب - بنظري - في غاية الخطورة وهو أنه نشأ وارتبط بتاريخ فلسفي يموج بالشك والعدمية واللاأدرية، وانعكس عليه ذلك في الدراسات التطبيقية إن على مستوى الدراسات الغربية أو على مستوى الدراسات العربية، فالخلفيات الفكرانية هي التي توظف هذا العلم بطريقة تخدم توجهاتها وأغراضها.
لقد أشرنا آنفاً إلى مكانة العلامة في اللسانيات السوسيرية، ونضيف هنا أن هذه العلامات تتكون بشكل اعتباطي كدوال على الأفكار. وهذه الفكرة - اعتباطية الإشارة - تقوم على التقاليد التجريبية التي كان ينادي بها جون لوك كما يرى آرت بيرمان، فلقد كان لوك يرى كما يرى سوسير أن أي صوت محدد يمكن استخدامه حتى تصبح الكلمة بشكل اعتباطي علامة على فكرة معينة، وهذه الرابطة التجريبية هي التي تُكسب اللسانيات السوسيرية سنداً علمياً.
ولكن الارتباط الأكثر يبدو بين اللسانيات واشهر المذاهب الفلسفية التي مهدت لها مثل ظواهرية هيجل، ومادية وماركس، ووضعية أوجست كونت 1798 - 1857م، واجتماعية دوركايم 1858 - 1917م فلقد كرست هذه المذاهب مَنزَعَين هما الوعي بنواميس الصيرورة التاريخية، والثاني البحث عن القوانين المتحكمة في نظام الظواهر عبر حركة التاريخ، وهما منزعان استوعبتهما العلوم اللغوية على أكمل وجه "" فما أفاض فيه اللغويون من دراسات النحو المقارن كشفاً للقرابات اللغوية، وتصنيفاً للألسنة البشرية بين أسر وفصائل، وإحكاماً لشجرة الأنساب عن طريق التدرج السُلالي بحثاً عن الأصل الأوحد المصفى، إنما كان امتثالاً أميناً لتصور مبدئي يخص علاقة الإنسان بالوجود والكون والطبيعة والتاريخ، مما طفت فقاقيعه على سطح الوعي الفلسفي والاجتماعي"" مرتبطاً "" بظواهرية هيجل، ومادية ماركس، ووضعية كونت واجتماعية دوركايم، وتطورية داروين "".
وأبرز مظاهر الارتباط بين لسانيات سوسير والبيئة الفلسفية التي نشات فيها يمكن أن يظهر في العلامة، والعلامة اللغوية والرمزية بالذات، فلقد كانت الكلمة المفردة ممثلة لشيء محدد في الواقع الخارجي داخل رؤية جزئية، فأصبحت اللغة عبارة عن تراكيب وأنساق من مفردات لغوية ترمز لعمليات ذهنية في إطار رؤية سياقية. إنه تطور يعبر عن ابتعاد تدريجي عن الوضوح والشفافية الأولى التي كانت تتميز بها اللغة كما منحها الله عز وجل للبشر.
لكن الأمر لم يقف عند حد الابتعاد عن الوضوح، وإنما تحول فيما بعد على يد شتراوس وياكبسون ورولان بارت وميشال فوكو إلى ألغاز وشفرات، وتطور مفهوم العلامة إلى رمزية معقدة لا يمكن أن تعني شيئاً، ولكنها يمكن أن تعني كل شيء. وهو ما نريد أن نخلص إليه في هذه الفقرة، وهو أن مفهوم العلامة في اللسانيات أتاح أو استُغل لكي يصبح أساساً تُبنى عليه النظريات اللغوية اللاحقة كالبنيوية والتفكيكية التي تقرأ في النص كل شيء وهو ما سيقرأ العلمانيون من خلاله النص القرآني.
---------------
- البنيوية:
"" جاء لفظ البنيوية من البنية، وهي كلمة تعني الكيفية التي شُيِّد عليها بناء ما، وبناء على ذلك أصبحت الكلمة تعني الكيفية التي تنتظم بها عناصر مجموعة ما، أي أنها تعني مجموعة العناصر المتماسكة فيما بينها بحيث يتوقف كل عنصر على باقي العناصر الأخرى، وبحيث يتحدد هذا العنصر بعلاقته بتلك العناصر، فالبنية هي مجموع العلاقات الداخلية الثابتة التي تميز مجموعة ما، بحيث تكون هناك أسبقية منطقية للكل على الأجزاء. وعلى هذا فالبنيوية تهتم بكشف الارتباطات القائمة بين البنيات المختلفة بعضها ببعض "".(13/472)
و"" تُعنى البنيوية في معناها الواسع بدراسة ظواهر مختلفة كالمجتمعات والعقول واللغات والاداب والأساطير، فتنظر إلى كل ظاهرة من هذه الظواهر بوصفها نظاماً تاماً، أو كلا مترابطاً، أي بوصفها بنية، فتدرسها من حيث نسق ترابطها الداخلي لا من حيث تعاقبها وتطورها التاريخيين، كما تُعنى أيضاً بدراسة الكيفية التي تؤثر بها بُنى هذه الكيانات على طريقة قيامها بوظائفها. أما في معناها الضيق والمألوف فالبنيوية محاولة لإيجاد نموذج لكلٍّ من بنية هذه الظواهر ووظيفتها، على غرار النموذج البنيوي للغة، وهو النموذج الذي وضعته الألسنية في أوائل القرن العشرين... ويمثل كتاب فرديناند دو سوسور " محاضرات في الألسنية العامة " نسخة باكرة من النموذج البنيوي للغة، أما محاولات تطبيق هذا النموذج على الأدب فتعود إلى عام 1928م حين وضع كل من جاكوبسون وتينيانوف برنامجاً بهذا الخصوص وكانت تلك بداية البنيوية الأدبية "".
نتبين مما سبق أن البنيوية اللغوية مرتبطة جنينياً باللسانيات لأنها أتاحت للوعي أن يكتشف خبايا اللغة الطبيعية، فاللغة هي الرحم الأولى لنشأة المعيار البنيوي، فهي على ذلك فرع من الألسنية. وعلى ذلك تعرف البنيوية الأدبية بأنها "" الكشف عن النسق أو النظام الكلي الذي يُفترض وجوده وانتماء النص اللغوي إليه، وذلك عن طريق دراسة الأنساق الصغرى "". ويعتبر رومان ياكبسون أول من نحت مصطلح بنيوية في مؤتمر عقد سنة 1929م. ولكن الأب الروحي للبنيوية والذي يعتبر من أشهر مؤسسيها هو الفرنسي كلود ليفي ستروس إلى جانب مفكريها المشهورين أيضاً أمثال لوي ألتوسير، وميشال فوكو، ورولان بارت.
انعكست الفلسفة الماركسية على المفهوم البنيوي وذلك عبر مقولتها في البنية الفوقية والبنية التحتية، فالبنية الفوقية هي " الأيديولوجيا " والدين والسياسة والثقافة والقانون، أما البنية التحتية أو القاعدة فهي القوى الاقتصادية والاجتماعية والعلاقات المتغيرة بينهما من صراع طبقي مستمر بين قوى مسيطرة وقوى مقهورة، وفي ظل هذا المفهوم فإن مكونات البنية الفوقية لا يمكن دراستها بمعزل عن البنية التحتية التي تحددها وتحكم حركتها، ومن هنا فلا نستطيع أن نناقش الثقافة أو الأدب بمعزل عن القوى التي تحكم النظام الاجتماعي والاقتصادي، والظروف التي تقرر حياة البشر المادية وكما قال ماركس "" ليس وعي البشر هو الذي يحدد وجودهم، وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم "".
------------------
- التفكيكية:
لم تعمِّر البنيوية كثيراً فقد دُفنت في سنة 1966م بعد محاضرة جاك دريدا المشهورة في مؤتمر جونزهوبكنز والتي تعتبر أساس ما يعرف الآن بالتفكيك. هذا مع أن التفكيك يرتبط بهايدغر في الأصل ولكن جاك دريدا هو الذي عممه بشكل سريع في الفكر الفرنسي المعاصر.
التفكيك والبعض يطلق عليه التقويض هو المصطلح الذي أطلقه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا على القراءة النقدية التي اتبعها في مهاجمته للفكر الغربي " الماورائي " منذ بداية هذا الفكر حتى يومنا هذا. والقراءة التفكيكية هي قراءة مزدوجة تسعى إلى دراسة النص أياً كان دراسة تقليدية أولاً لإثبات معانيه الصريحة، ثم تسعى إلى تقويض ما تصل إليه من نتائج في قراءة معاكسة تعتمد على ما ينطوي عليه النص من معان تتناقض مع ما يصرح به. ويمكن القول إن دريدا يسير على أثر كلٍّ من نيتشة وهايدغر في فلسفتهما العدمية والهدمية.
لقد استطاع التفكيك أن يسهم في زعزعة المسلمات التقليدية الميتافيزيقية الغربية إلا أنه وصل إلى دوامة محيِّرة، إذ إن دريدا لم يطرح بديلاً عن هذه المسلمات بعد أن قوّضها، بل إن البديل نفسه كما يرى دريدا لا بد يتسم بسمات الميتافيزيقا لا محالة.
لقد انبثق التفكيك على يد دريدا بعد قراءة لفلسفات أفلاطون وكانط وهيجل وروسو ونيتشة وهوسرل وهايدغر. ولكن يبدو أن أكثر الفلسفات تأثيراً في التفكيك هي الفلسفة النيتشوية حتى إن دريدا يجعل النص يتماهى مع نيتشة فيقول: "" إن مستقبل النص / نيتشة لم يقفل "" ذلك لأن النص قابل لأن تعاد كتابته وقراءته ضمن سياقات جديدة، وإن حقيقة النص لا تقتصر على إرادة مؤلفه، وإنما على إرادة قارئه. ولذلك فإذا كان هناك من يختزل فلسفة نيتشة كلها بكونها تقوم مبدأ " إرادة القوة "، فإن تفكيكية دريدا وهايدغر يمكن أن تُختزَل بكونها إرادة الإرادة. وإذا كان نيتشة قام بتفكيك فكرة الحقيقة عن طريق جمهرة عاجَّة من الاستعارات، فإن دريدا يمارس ذلك أيضاً على مستوى النص والفلسفة عموماً بتحويلها أيضاً إلى استعارات وإيحاءات ورموز لا يمكن أن تعني شيئاً، وبذلك تكون التفكيكية قائمة على تلاعبات بلاغية نيتشوية بالألفاظ.(13/473)
من هنا يمكننا أن نؤكد أيضاً أن التفكيك في الواقع لا ينفصل عن محيطه الفلسفي الذي نشأ فيه، ولا يمكن فصله عن الشك السائد في الفلسفة الغربية، إذ تنطلق استراتيجية التفكيك من موقف فلسفي مبدئي قائم على الشك، يمتزج هذا الشك بإحساس شديد باليأس والإحباط، وخصوصاً بعد فشل العلم في تحقيق السعادة والأمان والمعرفة اليقينية للإنسان، وذلك بعد إلقاء قنبلتين ذريتيين في الحرب العالمية الثانية، وارتبط ذلك أيضاً بإحساس جديد بالخديعة، تمخض ذلك عن تجربة الإنسان مع العلم والتكنولوجيا حيث لم يجن الإنسان بعد طول اعتداد بالعلم إلا الدمار والجهل المتفاقم.
سؤال:
لماذا يعمد الخطاب العلماني إلى الإكثار من التأويل شديد التعسف ؟
يُعوِّل الخطاب العلماني كثيراً على التأويل في قراءته للقرآن الكريم، لأن التأويل مفهوم قرآني يمكن الولوج منه بسهولة إلى الغايات التي يبحث عنها هذا الخطاب وتحت هذه المظلة يمارس هذا الخطاب آلياته في القراءة والتي لا صلة لها بالمفهوم القرآني مطلقاً.
لقد قال هاملتون جب بصراحة: "".. لكن الأجيال الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى أكثر من هذا القول، فيجب أن يُثبَت لها أن لا شيء في القرآن من التناقض ولا من الباطل... وأن الفكر العلمي أو الروائي التاريخي المعاصر لم يكتشف شيئاً يعارض سلطة القرآن وأوامره، لنصل بها إلى نتيجة لا نبلغها إلا إذا اعتمدنا على القول بأنه من كلام الله، وأنه لا يجوز الخوض فيه قليلاً أو كثيراً... فالمطلوب أساساً هو التأويل "". وعلى هذا الدرب يخطو الخطاب العلماني حين يقرر "".. ولهذا كان التأويل الطريق الملَكيُّ الذي انتهجه العقل العربي في طلب الحق، بل إنه في النهاية طريق كل عقل في تعامله مع النص وفي قراءته لتاريخه "".
هكذا فالتأويل طريق ملكي، ثم إنه الطريق الوحيد لأنه طريق كل عقل، وفي طلب الحق أيضاً، ولكن التأويل عند الخطاب الآنف الذكر هو التحريف، والنسخ، والتزوير، والتقويل !! ربما يظن القارئ أنني أتجنى وأبالغ، ولكن لنقرأ النص التالي: "" مع أن مبرر كل مفكر جدير بلقبه أن يمارس التفكير بطريقة مغايرة للذين سبقوه إذا لم يشأ أن يكون مجرد شارح مبسط أو تابع مقلد، أو حارس مدافع عن العقيدة والحقيقة، والتفكير بصورة مغايرة يعني أن نُبدِّل وننسخ أو نُحرِّف ونُحوِّر أو نُزحزح ونُقلِّب أو نُنقِّب ونكشف أو نحفر ونُفكِّك، أو نُرمِّم ونُطعِّم، أو نُفسِّر ونُؤوِّل، فهذه وجوه للتفكير وللقراءة في النصوص لا أزعم أني أقوم بحصرها واستقصائها "". إنها جميعاً معاني وآليات ممكنة لقراءة النصوص والتفكير فيها ومن هنا نجد أركون "" منشغل منذ زمن بتأويل النص المقدس أو الذي قدسه تراكم الزمن ومرور القرون "".
ربما يكون ذلك لأن التأويل بنظر الخطاب العلماني "" هو الصخرة العاتية التي تكسرت عليها وحدة الفكر الإسلامي"". وبالتالي يمكن لهذا الخطاب أن يُسهم بدوره في تكسير هذه الوحدة "" إن التأويل إحياء لثقافتنا، بل لا إحياء دون تأويل، التأويل هو طريقنا إلى الحياة "". وذلك لأنه عن طريقه يتم اختراق النص بأفق اجتهادي تجديدي، وإقامة توازن بينه وبين الواقع المتغير.
هذا هو - إذن - الباعث الذي يدفع الخطاب العلماني للدفاع عن مفهوم التأويل ووضْعه في موضع المظلوم والمُدان في تراثنا وثقافتنا، فالفكرة الشائعة - بنظره - في تراثنا تُعلي من قيمة التفسير، وتغض من قيمة التأويل، وتتقبل الأول وترفض الثاني وتصمه بأنه ضلال وزيغ.
حصل هذا - بنظره - في مرحلة متأخرة وخصوصاً على أيدي الأشاعرة، ولذلك فالعودة إلى التأويل عودة إلى الأصل، لأن السلف - وفيهم الطبري ومن قبْله - كانوا يستخدمون التفسير والتأويل بمعنى واحد، ولأن كلمة تفسير وردت مرة واحدة في القرآن، وكلمة تأويل وردت سبع عشرة مرة، مما يدل على أن التأويل أكثر لزوماً وضرورة من التفسير.
كما أن كلمة تفسير في أصل استخدامها تعني الواضح البين، وهي بهذا المعنى لا تعكس المعنى المقصود من حركة الذهن المعرفية إزاء موضوع المعرفة وهو المعنى الذي تدل عليه كلمة تأويل. التفسير يرمي فقط إلى الكشف عن مراد قائل النص ومعنى الخطاب وهو ما لا يكتفي به الخطاب العلماني، لأنه يطمح إلى أكثر من ذلك، إلى انتهاك النص عن طريق التأويل، لأن التأويل صرفٌ للفظ إلى معنى يحتمله. بل يطمح إلى أكثر من ذلك، إلى التفكيك الذي يقْطع الصلة بين النص وقائله وبين المعنى واحتمالاته.
هذا هو التأويل في المفهوم العلماني من حيث المبدأ وهو يبدو لنا جلياً من خلال الأسس التي يقوم عليها.
-----------------------------------
سؤال:
ما هي الأسس والمنطلقات للتأويل في الخطاب العلماني العربي " التأويل المنفلت المتعسف " ؟
أبرز أسسهم:
1 - الأصل في الكلام التأويل:(13/474)
كل كلام يُتأول لأننا نتعامل مع لغة بشرية نسبية، فالتأويل لازم من لوازم اللغة، وهو صفة ملازمة لكل خطاب دون تفريق بين النص الواضح، النص " النص " في المصطلح الأصولي، وبين المجمل أو المبهم أو المتشابه. ودون تفريق أيضاً بين العقائد والأمور المعلومة من الدين بالضرورة والمجمع عليها، وبين غيرها مما هو خاضع للاجتهاد والرأي. "" ومن ثم فالتأويل ضرورة للنص، ولا يوجد نص إلا ويمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به... حتى النصوص الجلية الواضحة التي لا تحتاج في فهمها إلى تأويل... حتى هذه النصوص لفهمها حدساً تحتاج إلى مضمون معاصر يكون أساس الحدس ""
وعلى ذلك يُعتبر أي شرح وأي تفسير نوعاً من التأويل لأن فيه اختياراً بين الألفاظ والكلمات، وترجيحاً بين الآراء وهذا كله يعكس موقف الباحث، فلا بد - بنظر الخطاب العلماني - من ملازمة التأويل لذاتية المفسر. لأن فهم النص لا يبدأ من قراءة النص وإنما يبدأ من خلفية القارئ وثقافته والدوال المكونة لهذه الثقافة وآفاقه المعرفية وبين النص.
والقرآن على ذلك كله متشابه وفيه دلالات محتملة لا تحصى، وتتيح للكل أن ينطقوا باسمه. وعلى ذلك لا يوجد نص مُحكم أو بالتعبير الأصولي " نصٌّ نص " يدل بمنطوقه على مفهومه دلالة مباشرة ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وإن وُجد فهو نادر جداً، لأن طبيعة اللغة تعتمد على التجريد والتعميم في دلالتها، ""وهذا من شأنه أن يجعل إنتاج الدلالة في اللغة بشكل عام وفي النصوص الممتازة بشكل خاص لا يفارق جدلية النص / القارئ. إن تحديد المعنى المرجوح من المعنى الراجح في الظاهر أو المؤول تحديد مرهون بأفق القارئ وعقله "".
إن النص المحكم - بنظر الخطاب العلماني - الذي لا يحتمل إلا دلالة واحدة لا وجود له في الأرض، قد يكون موجوداً السماء، وليكن أما أهل الأرض فيريدون النص المتشابه المتعدد الاحتمالات الذي يلبي حاجات الواقع في كل تغيراته وتطوراته، لأن النص المحكم ذو البعد الواحد الذي يكون أُحادي التصور نص إمبريالي دكتاتوري، أما النص المتشابه المراوغ فهو النص الثري الذي يستجيب لإمكانيات القراءة المتعددة.
إن قوة النص في حجبه ومخاتلته لا في إفصاحه وبيانه، في اشتباهه والتباسه، لا في إحكامه وأحكامه، فالنص ليس نصاً على المراد بقدر ما هو حيِّز لممارسة آلياته المختلفة في الحجب والخداع والتحوير، والكبت والاستبعاد، وهذا شأن كلمة الحقيقة ذاتها فهي تُخفي بالضبط ما تشير إليه.
ولشدة وقع الكلام الآنف الذكر قد يظن القارئ المسلم أن هذا الكلام بما أنه صادر عن مسلمين لا يمكن أن يكون القرآن داخلاً فيه، أي لعل المقصود هو النصوص الأدبية وغيرها من
نصوص البشر ؟ ولكن الحقيقة أن الخطاب المذكور يصرح بأنه لا يفرق بين النص القرآني وغيره من نصوص البشر "" فالنصوص جميعها سواء "" والقرآن ليس بمنأى عن ذلك ولا عبرة بكلام مفسري القرآن التقليديين.
2 - لا توجد قراءة بريئة:
هذا منطلق الخطاب العلماني لأن أي تأويل بنظره لابد من أن يستر وراءه بواعث أو غايات " أيديولوجية " فالقراءة لا يمكن أن تكون حيادية على ذلك لأنها تستند إلى ثقافة القارئ ومكوناته الفكرية والعلمية. وإن القول بقراءة بريئة أو خطاب برئ على صعيد الفكر الإسلامي يمثل خطلاً معرفياً لا بد أن يتحدر من موقع " إيديولوجي " وهمي إيهامي.
ومن هنا ذهب الخطاب العلماني يردد في مواطن كثيرة هذه الكلمة التي قالها آلتوسير وهي أنه لا توجد قراءة بريئة.
3 - ليس للنصوص معاني ثابتة أو دلالات ذاتية:
فلا توجد عناصر جوهرية ثابتة للنصوص، بل لكل قراءة بالمعنى التاريخي، الاجتماعي جوهرها الذي تكشفه في النص، وليس للألفاظ أي دلالة ذاتية، فالنص لا يحمل في ذاته دلالة جاهزة ونهائية، بل هو فضاء دلالي، وإمكان تأويلي.
والقراءة لا تخرج من مأزقها إلا إذا توقفنا عن النظر إلى النص بوصفه أُحادي المعنى، وإلى القراءة بوصفها تتطابق مع النص، لأن أحادية المعنى خداع على المستوى المعرفي، وأحادية المعنى تعني حقاً إمبريالية النص، ولذلك فالنص الذي ينص على الحقيقة ينتهي بانتهائها، ولكن النص لا يقول الحقيقة. إن النص صورة، بلا مضمون وروح بلا جسد، والقراءة هي التي تعطيه المعنى، لأنه عمل إنساني خالص منذ تدوينه الأول حتى قراءته الأخيرة، ولا يحتوي على معنى موضوعي، والقراءة هي التي تحيله إلى معنى، النص عمل إيديولوجي صرف. ولا يمكن الوصول إلى المعنى الحقيقي الموضوعي للنص، والقصد الإلهي منه، لأنه لا وجود لهذا المعنى فالمعنى متغير من عصر إلى عصر.
4 - تأنسن النص القرآني:
إن القرآن الكريم في منظور الخطاب العلماني كما أسلفنا لا يفلت من هذه القراءة النسبية المفتوحة فهو "" ما إن انتقل من فضائه الإلهي إلى الفضاء الإنساني حتى أخذ يعيش حالة من التشظي الدلالي المعنمي [!!] عبر البشر الفرادى والمجتمعين المتشظين وفق مواقعهم المجتمعية [!!] والمعرفية الأيديولوجية "".(13/475)
فمنذ أن نزل القرآن إلى البشر أصبح نصاً تاريخياً لأنه تحول من كتاب تنزيل إلى كتاب تأويل فأصبح كتاباً بشرياً "" تاريخياً واجتماعياً وتراثياً "". إن كتاب التنزيل أطلق كتاب التأويل وأحدث معه نمطاً من القطيعة الإبستمولوجية النسبية وتحول "" النص منذ لحظة نزوله الأولى - أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي - تحول من كونه نصاً إلهياً، وصار فهماً " نصاً إنسانياً " لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل. إن فهم النبي للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري "" لقد " تأنسن " النص..
فالنص تدوين لروح العصر من خلال تجارب فردية وجماعية في مواقف معينة متعددة متباينة فهو عمل إنساني خالص لأنه يتحدث بلغة إنسانية نسبية، فالوحي على ذلك تأنسن عندما تحول عبر الرسول إلى كلمة إنسانية "" إن النصوص الدينية... تأنست منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد، إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير، فالنصوص ثابتة في المنطوق متغيرة في المفهوم "".
5 - النسبية:
ما دام القرآن تأنس فليس من حق أحد من البشر في منظور الخطاب العلماني أن يُقرر معنىً نهائياً للقرآن، لأنه عندئذ سيضع نفسه وصياً على الناس بوصاية إلهية.
حتى على مستوى العقائد لا يمكن لأحد من الناس أن يتكلم باسم الله لأنه سيجعل من نفسه نائباً عن الإله، ومن هنا فليس من حق أحد أن يفرض تصوراً معيناً لله، لأن الله بعيد عن المنال، بعيد عن التصور، ولا يمكن للبشر أن يصلوا إليه بشكل مباشر، وإنما يقدمون عنه تصورات مختلفة بحسب المجتمعات والعصور، ثم يتخيلون أن هذه الصورة هي الله ذاته، إن البشر لا يمكنهم أن يتوصلوا إلى الله إلا عن طريق وساطة بشرية هي اللغة، وهي لغة نسبية خاضعة للتأويل، ولذلك على المسلمين أن يُعيدوا النظر في العلاقة القديمة بين الإنسان والله، كما فعل نيتشة، عليهم أن يقوموا بتأويل التصور الموروث عن العصور الوسطى، لأن هذا التصور مرعب مخيف يشل حركة الإنسان.
وعندما أعلن نيتشة عن موت الله فهو يعني موت تصور معين لله، ذلك التصور كان ينبغي أن يموت لأنه تصور مظلم قمعي، ليحل محله تصور أكثر محبة ورحمة وغفراناً. ويمكن القول إن التصور الحديث يتجلى بالأمل، والخلود، والحرية والعدالة، هذا هو الله بالنسبة للتصور الحديث والعالم الحديث.
هذا هو التأويل العلماني لقضية الألوهية - أهم قضية يتحدث عنها القرآن الكريم - فليس من الضروري أن تظل كما فهمها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون، لأن تصورهم لله تصور قروسطي، قمعي، مظلم، عنيف، مرعب "" إذ لا شك أن أي مؤمن وأي شاك ستطيب نفسه إن تمَكَّن من تفسير الحكمة الإلهية في إهلاك شعب مقابل ناقة تلدها صخرة، كما لا جدال أن إيجاد تفسير معقول لإفناء قوم نوح في ضوء المعقول الآني الذي يفرض حرية الاعتقاد سيكون مريحاً لكثير من النفوس الحيرى والقلقة "".
ومن هنا فإن القرآن بنظر الخطاب العلماني ليس له ثوابت، بل هو مجموعة من المتغيرات يَقرأ كل عصر فيه نفسه، وهو قابل لكل ما يُراد منه، وهكذا وُظِّف في التاريخ، ولا توجد قراءات صحيحة وأخرى خاطئة، فالقراءات كلها صحيحة، والخطأ هو قراءة المعاصرين للقرآن بمنظور غير عصري. ولذلك فمن "" السخف الحقيقي الذي نأباه على أنفسنا أن نحدد أخيراً المعنى الحقيقي للقرآن ""، فليس للقرآن معنى محدد نهائي إنه "" يقول كل شيءٍ دون أن يقول شيئاً "". إنه مفتوح على جميع المعاني، إنه كون من العلامات والرموز، ويمكن أن يتسع حتى لتأويلات المخالفين للإسلام، ويتكيف مع كل الاتجاهات والأغراض، لأنه من حق غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي أن يفسروا القرآن بما يوافق ثقافاتهم ومعتقداتهم، ولذلك جاء النص مجملاً عاماً كلياً لأنه رحمة للعالمين وهداية للناس،
ومن يتمسك بفهم خاص يعتبره هو الفهم الصحيح بإطلاق يخرج من مظلة الرحمة الإلهية، ذلك أن القرآن الكريم - بنظر الخطاب العلماني - "" لا ينُص على الحقيقة، لأن الخطاب الذي يكون مجرد نص على الحقيقة ينتهي بانتهاء الوقائع التي هي إجراءات للحقيقة... النص لا يقول الحقيقة بل يفتح علاقة مع الحقيقة "".
ولذلك فالتأويل يعني أن الحقيقة لم تُقَل مرة واحدة، وأن كل تأويل هو إعادة تَأَوُّل، ولا مانع أن يأتي التأويل بالمتناقضات، وكلما كان النص عصيِّاً عل الفهم كلما أمكن توظيفه بشكل أكثر والنص القرآني قادر على توليد مختلف القراءات والتأويلات حتى التعارض والشقاق
6 - لا نهائية المعنى:
مضمون هذه الفقرة في الواقع لا يختلف عن مضمون الفقرة السابقة، ولكننا أفردناها مستقلة فقط للتأكيد على أن النسبية التي يتحدث عنها الخطاب العلماني تؤدي إلى هذه النتيجة " الهرمينوطيقية ".(13/476)
فما دام القرآن كما رأينا لا ينص على الحقيقة، ولا يقول شيئاً ويقول كل شيءٍ فإن المعاني فيه لا نهائية ولا تقف عند حد "" والذين يسعون لإرجاع نص حر غير منتظم تتفجر منه آلاف المعاني... إلى عرض منهجي خطي إنما يقعون في تناقض لغوي سمج، فلا يمكن نقل الكلام ذي البنية الأسطورية إلى مجرد كلام دال بدون إفقار قصي لجملة معقدة من المفاهيم "" ولذلك فلا يحق لأي تفسير أن يُغلق القرآن، لأن النصوص تُنتِج دائماً دلالات جديدة مفتوحة مطردة،والركون إلى التفسير الحرفي موت للنص. ولذلك يجب أن يكون التأويل بلا حدود حيث تصل الكلمة إلى مرحلة التحرير، تحرير الكلمة وإطلاق قيدها لتصل إلى درجة الصفر درجة اللامعنى، أي درجة كل الاحتمالات الممكنة، فالكلمة حرة مطلقة من كل ما يُقيِّدها، وبذلك فهي لا تعني شيئاً، وهي قادرة في نفس الوقت على أن تعني كل شيء.
7 - الفراغات أو ما بين السطور:
لا يثق الخطاب العلماني بالنص القرآني، لماذا ؟ بسبب قوته وممارسته للحجب والاستبعاد لهذا قالوا: "" نحن لا نثق بالنصوص كل الثقة، ليس لأنها تتصف بالضعف والركاكة، بل بالعكس بسبب من قوتها بالذات... ذلك أن الكلام القوي يمارس سلطته في الحجب والمنع والاستبعاد … يصدق هذا على كل النصوص التي تحتمل التأويل وبنوع خاص على النصوص الشعرية والنبوية والفلسفية "".
ولأنه خطاب مثله مثل غيره في كونه إنتاجاً معرفياً ضمن منتوجات أخرى خاضع لإكراهات اللغة، بالإضافة إلى كون النص القرآني - بنظر الخطاب العلماني - ذا بنية أسطورية فإنه يمارس آليات الحجب والطمس والتحوير والتحويل.
ولذلك على القارئ - بنظر الخطاب العلماني - أن لا يُعنى ""بما ينطق به الخطاب بقدر ما يُعنى بما يسكت عنه ويحجبه من بداهات ومصادرات "". لأن "" مهمة الفهم هي السعي لكشف الغامض والمستتر من خلال الواضح المكشوف، اكتشاف ما لم يقله النص من خلال ما يقوله بالفعل "" لأن ""الكلام مخادع مخاتل، والنص عمل متشابه مراوغ...فهو يلعب من وراء الذات "" "" وإذا كان النص لا يقول الحقيقة بل يخلق حقيقته فلا ينبغي التعامل مع النصوص بما تقول وتنص عليه، أو بما تعلنه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله، بما تخفيه وتستبعده""."" يجب أن نبحث في النص عما لم يقله المؤلف، فنجد فيه عكس ما يصرح به"" "" فالنص يحتاج إلى عين ترى فيه ما لم يره المؤلف، وما لم يخطر له "". ""مهمة القارئ الناقد أن لا يؤخذ بما يقوله النص، مهمته أن يتحرر من سلطة النص لكي يقرأ ما لا يقوله "" "" إن نقد النص هو قراءة ما لم يقرأ "" وذلك حتى نعثر على معنى المعنى، فنتحرر من سلطة النصوص، ونكف عن التعامل معها وكأنها أو ثان تعبد.
هذه هي إذن المعاصرة التي يتوخاها الخطاب العلماني في قراءة النص، فلكي يكون النص معاصراً لنا علينا أن نضفي عليه ما نريده نحن، ونُقوِّله ما لم يقل.
8 - التأويل إنتاج للنص:
التفسير والشرح للنص في منظور الخطاب العلماني خُدعة، لأن الشرح يحل محل النص، ويعيد إنتاج النص، فهو نص جديد، لأنه لا ترادف في اللغة ولا اشتراك. إن القارئ يخلق النص، فهو خلاق آخر يواكب خلاق النص حيث "" يصبح القارئ مؤلفاً كما كان المؤلف قارئاً، ويتحول العمل الفردي إلى عمل جماعي، النص إذن إبداع مستمر، وخلق جماعي، لا فرق بين تأليفه وقراءاته، بين وضعه وانتحاله، بين فهمه وشرحه"".
فالقراءة للنص هي عملية إكمال من خلال التراكم المعرفي، تتم في الزمانين الوجودي والتاريخي من خلال شعور الفرد والجماعة وتراكم الخبرات فيهما معاً، وبعد كل تراكم معرفي يأخذ النص أبعاداً جديدة لم تكن مقروءة فيه من قبل، ولا تكون موجودة في النواة الأولى للنص، وهذا هو معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف أي على مستويات تفسير النص طبقاً لأعماق الشعور، وطبقاً لتراكم المعرفة من عصر إلى عصر، فالآيات ليس لها حقيقة معينة إلا ما في شعور الإنسان، وقراءتها لا تحتاج إلا إلى خبرة القارئ الشخصية واليومية التي يكتسبها من خلال تجربته ومعايشته للحياة والواقع.
وهكذا في منظور الخطاب العلماني فإن الشرح " الفرع " ينسخ الأصل، أي أن النص الشارح ينسخ النص المشروح، فالمؤلف الذي يؤلف كتاباً لكي ينقذك من ضلالك يصبح كلامه أولى من الكلام الإلهي، وهذا شأن كل خطاب يدور حول النبوة والله والأصول، إنه يعمل للحلول محل النصوص التي سبقته بدءاً من النص القرآني حتى آخر كلام قيل حوله، لأنه من المستحيل حصول تطابق دلالي بين خطاب التفسير، والنص المراد تفسيره.
وبذلك تتحول علاقة القارئ بالنص إلى علاقة ناسخ بمنسوخ، لأن القراءة للنص ليست استهلاكاً، وإنما إعادة إنتاج وإعادة كتابة له، وعليه فلا سبيل إلى إيجاد قراءة موضوعية لأي نص، وستظل القراءة تجربة شخصيته، ويظل إنتاج الدلالة فعلاً مشتركاً بين القارئ والنص، ويظل النص متجدداً بتعدد القراء من جهة، وباختلاف الظروف من جهة أخرى.
9 - الرمزية:(13/477)
الإنسان في الخطاب العلماني "" يحيا بالرمز وفي الرمز وللرمز "". ومن هنا يلح هذا الخطاب على جعل القرآن الكريم مجموعة رموز أو مجازات لكي يستطيع أن يرمز بها لما يريد، ويضمنها بما يرغب، فالرمزية تُتيح للقارئ حرية أوسع في تقويل النص، وعليه فالقرآن - بنظر الخطاب العلماني - كالأناجيل ليس إلا "" مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً "". ولغة القرآن بنظر هذا الخطاب نادراً ما تكون تصريحية، وإنما هي تلميحية في معظم الأحيان ولذلك فإنها قابلة للتعميم على الأحوال المختلفة.
ومن هنا يستدل الخطاب العلماني بأحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مثل "" لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة "". وأيضاً "" القرآن نزل على وجوه كثيرة فخذوا بوجهه الحسن أو الأحسن "". يقولون ذلك من أجل أن يقبل القرآن التعددية القرائية ويقبل عملية التشظي إلى ما لا نهاية أي"" قابليته لأن يعني باستمرار "". "" لو لم نتخذ هذا الموقف التعددي منهجياً لكنا طمسنا إحدى خصائص القرآن الأساسية ألا وهي قابليته لأن يعني، أي لأن يعطي معنى باستمرار ويولد هذا المعنى "" أي "" قابليته لتوليد المعنى وللإيحاء...هذه الفكرة الغالية جداً على رولان بارت "".
10- التناص:
ويعنون بذلك أن القرآن الكريم أسهمت في تشكيله نصوص سابقة عليه كالتوراة والإنجيل والشعر الجاهلي والسجع وغير ذلك. وهو ما حاول أن يؤسس له من خلفية ماركسية نصر حامد أبو زيد.
هذه هي الأسس التأويلية التي تتم قراءة القرآن الكريم من خلالها وهي أسس هرمينوطيقية كما سيتضح لنا فيما بعد لا صلة لها بمفهوم التأويل في الإسلام ولكن لابد من الإشارة إلى أن هذه التأويلية العلمانية المفتوحة تستند في قراءتها للنص القرآني على بعض المفاهيم الأصولية والصوفية وذلك لتقويل القرآن بكل ما يرغب به قراؤه ومن ثم تكريس تاريخيته ونسبيته ومن هذه المفاهيم: - الكلية والإجمالية التي تبدو في القرآن " المجمل في أصول الفقه ".
- المحكم والمتشابه.
- الظاهر والباطن.
- القراءات والأحرف السبعة. وهو ما يسميه طيب تيزيني "" اختراق النص متنياً "".
-العموم والخصوص.
هذه بنظر الخطاب العلماني مداخل كبرى لجعل النص مرناً مطواعاً لكل التأويلات والتفسيرات والاجتهادات.
سؤال:
هل ستعم العلمانية العالم بشكل لا مفر منه، أي هل العلمانية حتمية ؟
0000000000
أولاً: ماذا يقول العلمانيون ؟
العلمانية عند هذه الثلة من المفكرين ليست خياراً إيديولوجياً بقدر ما هي واقع تاريخي موضوعي في آن، وهذا يعني أنها ظاهرة حتمية لا مرد لها، أو ظاهرة طبيعية كالزلزال والبراكين، وهي واقعة لا محالة، لأن الغرب هو السائق والقطار تحرك، ولذلك ينصحنا دعاتها أن نكف عن المقاومة والمواجهة لأن هذا لن ينفعنا ولن يجدينا شيئاً فالتيار جارف.
ولكن السؤال: لماذا هذه الوثوقية المطلقة في تأكيد حتمية العلمانية، ولماذا هذه المصادرة على التاريخ والمستقبل ؟
الإجابة: من منظور علماني تتمثل في كون الدراسات الأوربية والأمريكية المتطورة اعتبرت العلمانية واقعاً مُسلَّماً به ولا يختلف في ذلك اثنان، واعتبرت العلمانية أمراً محسوماً أو يكاد.!! وما دامت - أمريكا - قالت فقد صدقت !!!.
أما نحن فلا نزال نسمع نداءات تعتبر العلمانية أمراً مدسوساً، ولا يزال الحديث عن العلمانية في واقعنا العربي يجلب التهم بالوقوع تحت هيمنة الغزو الغربي، ويغلب على الكتابات الإسلامية المنطق العدائي، والأفكار المتشنجة، ومعالجات يغلب عليها الخطاب الاحتفالي ويلاحظ ذلك فيما يكتبه أنور الجندي، وعماد الدين خليل، ومحمد مهدي شمس الدين ومحسن الميلي، هذا " النوع من المفكرين الإسلامويين " !! الذين يستبطنون مواقف " أيديولوجية " عن العلمانية.
ولكي يدعم الفكر العلماني رؤيته في حتمية الظاهرة العلمانية يبحث في الواقع الاجتماعي عما يؤكد ذلك:
لقد قال قاسم أمين قبل مائة سنة: "" وكل ناظر في أحوال هيئتنا الاجتماعية الحاضرة يجد فيها ما يدل على أن النساء عندنا قطعن دور الاستعباد، ولم يبق بينهن وبين الحرية إلا حجاب رقيق إذ يرى:
- شعوراً جديداً عند المصريين بالحاجة إلى تربية بناتهم بعد أن كن جاهلات.
- انزواء ظاهرة الحجاب وتلاشيها شيئاً فشيئاً.
- تراجع الشبان عن الزواج على الطريقة التقليدية وتأففهم من الفصل بينهم وبين مخطوباتهم.
- اهتمام الحكومة وبعض أبناء البلاد وفي مقدمتهم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده بإصلاح المحاكم الشرعية "".
وعبر طه حسين عن أثر العلمانية في الحياة المصرية عندما قال: "" حياتنا المادية أوربية خالصة في الطبقات الراقية وهي في الطبقات الأخرى تختلف قرباً وبعداً من الحياة الأوربية باختلاف قدرة الأفراد والجماعات..."".
هكذا وصف دعاة العلمانية الحال في الربع الأول من القرن العشرين فما حالها عند دعاتها اليوم ؟(13/478)
"" العلمنة تكتسح اليوم تحت غطاء ديني وشعارات دينية كل أرض الإسلام ولا أحد يعلم ذلك "" والأمارات الدالة على العلمانية في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بينة أكثر من أي وقت مضى مثل تولي المحاكم المدنية لزمام القضاء، وإزاحة المحاكم الشرعية عن مركز الصدارة وتهميشها.
وتعلْمَن الزمان باستخدام التقويم الشمسي بدلاً من التقويم القمري المرتبط بالشعائر والطقوس، وتَعلْمَن المكان بحيث أصبح الاعتبار للوطن والقومية بدلاً من الدين، وتَعلْمَنت المعرفة عندما استندت إلى الطبيعة والتاريخ بدلاً من الكتب المقدسة كمرجعيات، وتعلمنت السلطة السياسية عندما اعتَبر الدستور المشاركة الشعبية بدلاً من الاستخلاف في الأرض.
حصل هذا لدينا عندما استبدلنا المحاميين والقضاة والأساتذة المدنيين بالشيوخ والفقهاء وقضاة الشرع، والمكاتب الرشدية بالمدارس الشرعية والكتاتيب، ثم بالمدارس والجامعات، وعندما اعتمدنا أسساً لمعارفنا العقلية العلوم الطبيعية والتاريخية والجغرافية بدلاً من الركون إلى المعرفة بالجن والعفاريت والزقوم ويأجوج ومأجوج، وموقع جبل قاف !!، والتداوي بالرقي والطلاسم والأسماء الحسنى.
حصل هذا عندما أقمنا نُظُماً قضائية تتناسب وحياة العصر وسنن الرقي، بإلغاء أحكام الردة في الدولة العثمانية في عام 1858م وقبول شهادة الذميين في السنة نفسها، واعتبار المسلم غير العثماني بحكم الأجنبي، وإلغاء الجزية، وتجنيد الأقباط في الجيش المصري ابتداء من عام 1855 م.
كما يتضح الاكتساح العلماني لمجتمعاتنا فيما نلاحظه من شيوع النماذج الغربية في وسائل الإعلام، والمبادلات التجارية، والمواصلات، والسياحة، وكل المظاهر المادية، ويتبع ذلك كثيراً من القيم الجديدة، وبروز الخلل واضحاً بين الاستمساك بالأنماط التقليدية في شؤون الحياة والعيش، وبين ما نلاحظه من إقبال على التغرب بكل أشكاله الملازمة لحياتنا.
ولعل أهم المرتكزات التي تؤكد اجتياح العلمنة لحياتنا هو انقراض المدرسة القرآنية التقليدية التي كانت قائمةً في المساجد، وظهور نظام التعليم الغربي، بدلاً من نظام التعليم العتيق في الكتاتيب والمدارس القرآنية والجوامع.
كل هذا يؤكد - في المنظور العلماني - أن مسار العلمنة يفعل فعله في المجتمعات الإسلامية كأعمق ما يكون الفعل، وأن العلمنة ما فتئت تغزو المجتمعات العربية في العمق، وبصفة ثابتة لا رجعة فيها على المدى الطويل، المدى الوحيد الذي تعترف به الحضارة. كما يؤكد "" أن الإسلام قد فقد بعدُ قسماً كبيراً من قيمة تفسيره للكون، وهو من جهة أخرى في هذا المستوى يعيش نفس المشاكل التي تعيشها سائر الديانات التي أصبح اعتناقها ينزع شيئاً فشيئاً إلى أن يكون اختياراً قلقاً "".
000000000000000000
ثانياً: كيف ننقض مقولاتهم ؟
بغض النظر عن اللهجة العدوانية والاستفزازية التي يتحدث بها عزيز العظمة والتي تفتقر إلى أدنى مقومات المنطق العلمي والمحاكمة العقلية، فإن ما يشير إليه هو وعبد المجيد الشرفي من مظاهر يؤكدون بها حتمية العلمنة وسيرورتها التي لا مفر منها - كما يزعمون - ليست اختياراً ديمقراطياً للأمة، ولم تقبله الأمة في أي يوم من الأيام، وكانت كل هذه المظاهر التي يتحدثون عنها مرفوضة، ولا تزال مرفوضة لدى الغالبية الساحقة من أبناء هذه الأمة.
إن إلغاء المحاكم الشرعية والكتاتيب وإلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية، وإلغاء التقويم الهجري، وفرْض النظم والقوانين الغربية الوضعية وغير ذلك من المظاهر فُرض على هذه الأمة بالحديد والنار، وبالقتل والإبادة، والتعذيب والإرهاب من شرذمة من الحكام المستبدين الذين يمارسون كل ذلك تحت مباركة الاستعمار الغربي وتحالف " العلمانية الفاشية ".
إن الأمة لو أتيح لها الآن الاختيار - بعد كل سنوات العلمنة - لاختارت إسلامها وشريعتها دون تردد وإن أبرز مثال على ذلك حالة تركيا التي مُورست فيها العلمانية الفاشية بأبشع صورها على يد أتاتورك وأتباعه ولكن ماذا حصدت العلمانية ؟
يجيب على ذلك باحث تركي فيقول: "" ومع كل هذا - جهود العلمانية - فإن أهم سمة تلفت الانتباه في سلوك الأتراك هي أن رسوخ العقيدة الدينية وعمقها لم تتغيرا، وما زالا يفعلان فعلهما في مجموعات واسعة من الشعب التركي [ بعد عقود طويلة من سياسة العلمنة ]، ومع ذلك أيضاً لا يزال العلمانيون الأتراك يعتبرون ذلك انتصاراً للظلامية على العلم "".
وما يزعمه الشرفي من انقراض الكتاتيب والمدارس القرآنية كعلامة على الاكتساح العلماني قد ينطبق على البيئة التي يعيش فيها هو، والمحيط الذي ينتمي إليه، ولكن هذا لا يعني أكثر من أنه هو وأمثاله يعيشون في أبراجٍ عاجية بعيدين عن سواد الأمة، فالمساجد لا تزال عامرة بالقرآن في كل بقاع العالم الإسلامي، والمدارس القرآنية في العطلة الصيفية تنشط في كافة الأوساط الإسلامية.(13/479)
إن ما أريد أن أقوله هنا: إن العلمانية في البلاد الإسلامية ظاهرة موجودة لا يمكن إنكارها، ولكنها لم تشكل في الإسلام إلا قشرة رقيقة جداً لا تلبث طويلاً حتى تيبس ثم تتساقط متناثرة، إنها لم تنفذ ولن تنفذ أبداً إلى جوهر الإسلام وحقيقته، لأن الإسلام بطبيعته يستعصي على العلمنة، وقد أثبت خلال القرنين الماضيين أنه ليس كالمسيحية في الرضوخ للعلمنة، ذلك لأن ثوابته ومرتكزاته لا تقبل العبث مهما جهد العابثون، والسبب هو أنها قائمة على معجزة خالدة رَسَمت حدود هذه الثوابت والمرتكزات رسماً واضحاً لا لبس فيه فجاءت " كمثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها " وستظل دائماً شاهدة على زيف المزيفين، وإرجاف المرجفين.
ولكن مع هذا فإن المشكلات التي نجمت عن مسار العلمنة وإن لم تمس جوهر الإسلام ولكنها أحدثت اضطراباً في أوساط المسلمين وفرقة في صفوفهم، وأبرز هذه المخاطر هو استيلاء التقليد والتغرب على عقول ثلة من النخبة المفكرة، حتى أصبحت هذه العقول في تبعية فكرية وحضارية تهدد مستقبل الأمة الحضاري.
إن شهادة التاريخ تثبت أن المسيحية الأولى كانت ضد العلمنة بصورة أكيدة وصريحة، وقد استمر ذلك عبر التاريخ حتى دخلت المسيحية في صراع مع العلمنة، كانت المسيحية هي الخاسرة، لقد حاولت المسيحية عبر القرون أن تقاوم ولكنها أخفقت، ومكمن الخطورة أنها عندما أخفقت أخذ منظروها المحدَثون يدعون المسيحيين إلى الانخراط في التيار، وتطوير المسيحية.
""إن جذور العلمنة لا تكمن في عقائد الكتاب المقدس بل في تأويلات الإنسان الغربي لها، إنها ليست ثمرة الإنجيل، بل هي ثمرة للتاريخ الطويل للصراع الفلسفي والميتافيزيقي بين رؤيتين كليتين للوجود يصدر عنهما الإنسان الغربي واحدة دينية والأخرى عقلانية خالصة "" "" وقد انفردت المسيحية وحدها من دون أديان العالم الكبرى جميعاً بأنها قد حولت مركز ظهورها من القدس إلى روما علامة على بداية تغريبها ""، وكان ذلك مؤشراً على بداية تعلمُنها، وقد ظلت المسيحية تُعدّل في معتقداتها وتتنازل عن ثوابتها، وتنقح الكتاب المقدس عبر المجامع المختلفة حتى انهارت قداستها وفقدت قيمتها كمرجعية أخلاقية دينية للإنسان الغربي.
أما الإسلام فتاريخ صراعه مع العلمنة عبر قرنين من الزمان يثبت أنها لم تؤثر فيه إلا على الشكل وقد بقي الجوهر والمضمون في غاية النقاء، وهذا الجوهر يشد الأمة دائماً إليه فتعيد صياغة نفسها شكلاً ومضموناً. ويمكن القول إن الجوهر والمضمون في الإسلام مثله مثل الراية التي تُرفع في المعركة فيظل الجنود ينجذبون إليها ويتراصُّون حولها، ويعيدون تنظيم أنفسهم لجولة جديدة من النزال.
إن استعصاء الإسلام على العلمنة أمرٌ أدهش باحثي علم الاجتماع فالعالم الإنجليزي " إرنست جيلنر " يقول: "" إن النظرية الاجتماعية التي تقول: إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يُقوِّض الإيمان الديني - مقولة العلمنة - صالحة على العموم، لكن عالم الإسلام استثناء مدهش وتام جداً من هذا !! إنه لم تتم أي علمنة في عالم الإسلام، إن سيطرة الإسلام على المؤمنين به قوية، وهي أقوى مما كانت من مائة سنة مضت، إن الإسلام مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم الراديكالية والتقليدية والتي تقف بين النوعين... والإصلاح الذاتي استجابة لدواعي الحداثة في عالم الإسلام يمكن أن يتم باسم الإيمان المحلي، وليس على حساب الإيمان "".
---------------
سؤال:
صحيح أن المسيحية مانعت العلمانية في البداية، لكنها سرعان ما استسلمت لها، يعني بعبارة أخرى: لمَ كانت ممانعة المسيحية للعلمانية أدنى من مستوى ممانعة الإسلام ؟
لبيان العوامل التي أسهمت في انخراط المسيحية في تيار العلمنة، واستعصاء الإسلام على ذلك يمكن ملاحظة ما يلي:
أولاً: صورة الله عز وجل وعنايته بالكون: إنها في الفكر الأرسطي الذي تبنته المسيحية صورة تساعد على العلمنة فالله مجرد خالق للعالم، لا علاقة له بتدبيره ورعايته. إن العالم كالساعة، ووظيفة الله أن يُشغّل هذه الساعة ثم يجلس بلا عمل [ سبحانه وتعالى ] وقد أكد الفلك الكوبرنيقي هذه الصورة، وأضاف إلى ذلك أن أزاح الإنسان عن المركز. وقد أفضنا في ذلك في الفصل الأول.
ثانياً: المقاصد الدنيوية اللاأخلاقية للقانون الروماني القائم على المنفعة المحضة دون نظر لأي اعتبارات دينية أو ماورائية. إن هذا القانون السائد في دولة ديانتها المسيحية أسهم في إخضاعها للتيار عندما أصبح جارفاً.
ثالثاً: الفصل في المسيحية بين ما لقيصر وما لله أعطى المبرر للعلمنة السياسية أولاً، ثم القانونية، ثم الأخلاقية.
رابعاً: عقيدة الصلب التي جعلت موت الإله ممكناً في الفكر المسيحي، فما دام الابن قد مات وهو إله، فلماذا لا يموت الأب أيضاً. ولمْ ينتظر الغرب طويلاً فقد أعلن نيتشه عن موته. سبحانه وتعالى.(13/480)
خامساً: الثنائية الحادة والمتناقضة في تاريخ العلاقة بين لاهوتيين لا عقول لهم يمثلون الكنيسة، وعلماء طبيعيين لا أرواح ولا قلوب لهم يمثلون الدنيوية والمادية. ولا ننسى هنا الانفصام الشديد بين أخلاق الزهد والضعف والاستكانة التي تكرسها المسيحية، وبين الواقع الذي كان يعيشه الرهبان والبابوات من بذخ وفساد وترف، مما أفقد المسيحية الواقعية القابلة لإمكانية التطبيق.
------------------------------
سؤال:
لماذا يستعصي الإسلام على العلمنة ؟
إذا ما قورنت عوامل استسلام المسيحية للعلمانية بما يقابلها في الإسلام وجدنا:
أولاً: الله عز وجل - في الإسلام - ليس خالقاً عاطلاً عن العمل إنه - سبحانه وتعالى - خالق ومدبر " أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " [الأعراف: 54] بل إنه قيوم السماوات والأرض، أي إن استمرار قيام الكون بإرادته عز وجل " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " [فاطر: 41] وهو ما كرسه الأشاعرة في نظرية الخلق المستمر. إن الله عز وجل إذا قطع إمداده للكون بالوجود تلاشى بما فيه.
ثانياً: علاقة الدين بالدنيا قائمة على الوصل وليس الفصل، فالدنيا خادمة للدين، وهي مزرعة الآخرة، وهي دار العبور، ولا بد من التزود منها " وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " ولكن الآخرة هي المراد والمقصد " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ... " [القصص: 77].
ثالثاً: الأخلاق في الإسلام واقعية لا تُحلِّق في المثالية، ومن شاء أن يسمو إلى المثالية فهو وذاك. إن المراد في الإسلام هو العدل، أما الإحسان فهو لمن أراد أن يتجاوز الحدود البشرية ويقترب من الملائكية، فالإسلام لا يمنعه بل يبارك له جهاده " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " [العنكبوت: 69]، ولن يضيع الله عز وجل عمله " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ " [البقرة: 143] وسيكافئه على ذلك " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه " [الزلزلة: 7]. ولكن النزول عن مرتبة العدل إلى الظلم هو المرفوض.
رابعاً: ليس هناك مقابلة بين العقل والنقل في الإسلام، إن ما يقابل العقل هو الجنون، إننا نقرأ النقل بالعقل ونفهمه به، والنقل هو القائد والهادي والمرشد.
خامساً: الوضوح: فالعقائد في الإسلام واضحة لا لبس فيها ولا غموض ولا رموز ولا أسرار ولا تعقيدات، أما في المسيحية فالعقائد غير مفهومة مبنية على الغموض والرموز ولذلك يقولون لك " آمن ثم أفهم " أما في الإسلام " إفهم ثم آمن " " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسؤولاً " [الإسراء: 36].
==============(13/481)
(13/482)
"المسلم العلماني" وليد غير شرعي!
"أنا مسلم علماني"، مقولة أصبحت تتردد في الآونة الأخيرة على ألسنة بعض المسلمين، سواء في البلاد الإسلامية، أو في غيرها من البلاد التي يمثل المسلمون فيها أقلية، برزت أول ما برزت خلال اللقاءات التي تعقدها القنوات الفضائية مع بعض المسلمين الذين يعرِّفون أنفسهم بهذه الصفة.
وقد أثار هذا الأمر اهتمام لجنة العقيدة والفلسفة -إحدى لجان مجمع البحوث الإسلامية المصري- ودفعها لمناقشته باعتباره قضية جديدة من نوعها تتعلق بعقيدة المسلمين.
أول من تحدث في هذا الموضوع هو الدكتور مصطفى الشكعة مقرر اللجنة، حيث صدَّر طلبه الذي رفعه إلى أعضاء اللجنة بما لوحظ في بعض القنوات الفضائية من تردد مصطلح "المسلم العلماني"، ووصف البعض نفسه به.
مرفوض عقديًّا
ولقد كان رأي لجنة العقيدة أن الإسلام دين متكامل مكتف بذاته، ولا يحتاج إلى وصف آخر يلحق به، يتردد بين حين وآخر، وعليه فإن مصطلح "المسلم العلماني" مرفوض عقديًّا.
ولكن ما هو رأي بقية العلماء في هذا الأمر؟ وهل المسلم بحاجة إلى وصف العلمانية كما يقول بعض المسلمين في الغرب؟ أم أن الأمر هو مجرد إقحام لمصطلحات من أجل زعزعة الإيمان في نفوس المسلمين، وطمس معالم الهوية الإسلامية؟!.
بداية يرى الدكتور طه جابر العلواني - رئيس مجمع فقهاء الشريعة الإسلامية بأمريكا - أنه لا بد من البحث عن جذور مقولة "المسلم العلماني" من أجل معالجة أسباب ظهورها. ويوضح أن الذين يجاهرون بمثل هذا المصطلح ويطلقونه على أنفسهم إنما يقصدون أنهم لا يؤمنون بأن الدين قد ترك للناس نظاما سياسيا، وإنما ترك عقيدة ونظام عبادة وتنظيما للعلاقات، وذلك بقصد ترسيخ نوع من التجاهل للتنظيم الإسلامي في جانب المعاملة، مؤكدا أن مواجهة ذلك لا يكون بتكفير هؤلاء، وإنما لا بد من الحوار معهم؛ لأن معظمهم يصر على الإيمان، وهناك حديث معاذ المشهور الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة"، وبالتالي لا يمكن تكفير من يصف نفسه بالعلمانية.
ويستطرد الدكتور علواني كلامه قائلاً: "إن من يطلقون على أنفسهم المسلمين العلمانيين ينفون وجود الدولة الإسلامية على مستويات، حيث هناك من ينفي وجودها ككيان سياسي، فإذا قال أحدهم بأنه ليس في الإسلام دولة، فإنه يقصد النظام السياسي، ومثل هؤلاء بحاجة إلى حوارات داخلية معهم لكي تتبلور الأمور، لكن المؤسف أن المسلمين في حوارهم ليس لديهم القدرات المناسبة للحوار الداخلي الذي بدأه بعض الإخوة بين التيار القومي بما فيه من علمانيين، وبين التيار الإسلامي من أجل الإصلاح، مؤكدا أنه لا بد من الحوارات كي تتضح الأمور بشكل أفضل لمن يطلقون العلمانية على أنفسهم ويعتبرونها جزءًا من عقيدتهم كمسلمين، وذلك بدلاً من التكفير وإبعاد الآخر؛ لأن التكفير لا يفيد في شيء".
ويركز الدكتور طه جابر العلواني على نقطة هامة في المسألة عند مواجهة من يقولون بالعلمانية مع الإسلام، وهي أنه لا يمكن القول مباشرة إن الإسلام لا يعرف العلمانية؛ لأن الغرب يدعي الآن أنه تعلم العلمانية من فلسفة ابن رشد، ويقول: إنه أخذ يعلم الناس في جامعة قرطبة كيف يفرقون بين الدين والدولة، مشيرا إلى أن هذه الدعوة تعد قضية في غاية الأهمية لا تنتهي برفع شعارات لمواجهة أمر المسلمين العلمانيين، وإنما لا بد من اجتهادات تتابع مسيرة البشرية، وكيف سارت العلاقة بين الشرائع والنظم، مع تحديد عناصر أي مشروع فكري أو نهضوي يكون قادرا على تجنيد كل طاقات الأمة في مواجهة الأفكار والمصطلحات الحديثة التي تستهدف اقتحام العقيدة لدى المسلمين.
ويختتم الدكتور علواني كلامه قائلا: "إنه لا بد أن ننمي الحوار بين المسلمين، بحيث يشترك فيه أهل العلم، وليس أصحاب المشاريع السياسية، مع قوى التيارات الحديثة المتأثرة بالتيارات الحضارية التي اجتاحت منطقتنا، بشرط معرفة الخطوط الحمراء، وغيرها القابل للاجتهاد، مع التركيز على وحدة الأمة لتكون قادرة على مواجهة كافة التيارات التي تجتاح أمتنا".
اعتراف غير مقبول
الدكتور مصطفى الشكعة عضو مجمع البحوث الإسلامية، وأحد المتخصصين في المذاهب والتيارات الإسلامية، يشير إلى أنه لا يمكن قبول العلمانية كجزء من عقيدة المسلم، حيث إن العلمانية ليست منسوبة للعِلم الذي يعد أساسا زيادة لإيمان المسلم كما يعتقد البعض، وإنما هي شيء آخر لا علاقة له بالإسلام، بل إنه يحارب الإسلام، مؤكدا أن البعض يقوم بمحاولات مستميتة من أجل فرض تلك العلمانية على العالم الإسلامي، وأن بعض هذه المحاولات نجحت حيث تحولت بعض الدول الإسلامية إلى العلمانية.(13/483)
ويضيف: "إن العلمانية يراد من تطبيقها في الأصل محاربة الإسلام بصفة خاصة دون غيره من العقائد، وإن كانت في مجملها ضد الأديان السماوية جميعها؛ لأنها تهمش الدين وتقطع أي علاقة بينه وبين الحياة"، موضحا أنه بناءً على ذلك فإنه لا يمكن الاعتراف بوجود مسلم علماني، وخاصة أن الإسلام نظام متكامل ليس بحاجة إلى إضافات، إلا أنه في الوقت نفسه لا يمكن الحكم على من يقول من المسلمين بعلمانيته بأنه غير مسلم؛ لأنه لا يعلم بقوله بأنه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة.
وصف مشتبه
أما الشيخ راشد الغنوشي، المفكر الإسلامي، ورئيس حركة النهضة التونسية المقيم ببريطانيا، فإنه يرفض أيضا أن يكون المسلم علمانيا أو أن يجعل العلمانية جزءا من عقيدته، ويؤكد قائلاً: "لا ينبغي للمسلم أن يطلق على نفسه أنه مسلم علماني حتى لا يلحق لأوصافه وصفًا مشتبها حمال أوجه، وخاصة أن من مقاصد العلمانية ما هو مناقض للإسلام".
ويوضح أن العلمانية مفهوم متعدد، ولكن ما يتم التركيز عليه فيها حاليا هو أن العلمانية تعني أن الدولة لا تنصر دينًا على دين، بل تجعل كل الأديان متساوية، وهو معنى تستفيد منه الأقليات الدينية في العالم، مشيرا إلى أن السبب في ظهور مصطلح العلمانية بين بعض المسلمين راجع إلى مشكلتنا في العالم الإسلامي، حيث إن الدولة تتدخل وتستغل الدين وتوظفه لصالحها، وتمنع غيرها من أن يقوم على خدمته.
العلمانية هي الحل
من جانبه يركز الشيخ حسان موسى رئيس المجلس السويدي للأئمة، إمام وخطيب مسجد الشيخ سلطان آل نهيان بأستكهولم، على أهمية العلمانية لوجود المسلمين في الغرب، حيث يوضح أن العلمانية نتاج فكر وممارسة وصلت إليها أوربا بعد صراع مرير مع الكنيسة، وهي في أيسر تعريفاتها تعني فصل الدين عن الدولة، وأن الكنيسة لا سلطة لها على الدولة، وأن الدولة لا تحكم لا بالإنجيل ولا بالتوراة، وإنما تحكم بمنظومة قانونية في إطار عملية ديمقراطية، وقناعات شعبية وصل إليها المجتمع من خلال الممارسة والحراك الفكري والسياسي.
ويضيف قائلا: "لما سبق فإننا كأقليات مسلمة ونظرًا لوجود آليات ديمقراطية، مع هذه العلمانية؛ لأن العلمانية في السويد ترى أنه على الأغلبية أن تراعي الخصوصية الثقافية للأقليات، كما تتضمن بعض القيم الإيجابية مثل: الحرية الشخصية وحرية التدين، والحرية السياسية، لذا أعتقد أننا كأقلية لسنا بحاجة إلى دولة دينية، بل إلى دولة ديمقراطية يحكمها حزب مسيحي. وإن كنا في دولنا العربية نقول: "الإسلام هو الحل"، بحكم أن الأغلبية للمسلمين، فإننا كأقلية نقول: "العلمانية هي الحل"؛ لأنها لو كانت بهذه المفاهيم التي أشرنا إليها، فإننا من خلالها نستطيع أن نؤكد على مبدأ أننا في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات والأديان، يحترم فيه الجميع بعضهم: "لكم دينكم ولي دين".
ومن خلال ما سبق يتضح أن هناك شبه إجماع على رفض إلحاق المسلم نفسه بالعلمانية عقديا باعتبار العلمانية في كثير من جوانبها تخالف العقيدة الإسلامية التي لا تفصل بين حياة الإنسان وإسلامه، إلا أنه من الممكن الاستفادة من بعض جوانب العلمانية في الغرب من أجل دعم حقوق الأقليات المسلمة هناك.
صبحي مجاهد ـ إسلام أون لاين
============(13/484)
(13/485)
العلمانيون العرب و حملات التزييف
مفكرة الإسلام : على الرغم من دعاية العلمانية في العالم العربي بأنها ترفع لواء الحرية والمساواة والتقدم إلا أن ذلك يغطي على حقائق كئيبة عديدة هي واقع تلك الدعوة. ومن هذه الحقائق التي لم تحظ بكبير اهتمام هي توجه العلمانية على وجه خاص ضد الإسلام ولصالح أقليات دينية في العالم العربي بدأت تتحرك وتنشط لتصل إلى السيطرة في وقت تتعرض فيه الأغلبيات المسلمة التي عاشت تلك الأقليات في كنفها إلى التهديد والضعف. فعندما تنادي العلمانية وبالذات في البلدان العربية الكبرى التي توجد بها أقليات غير مسلمة [ومصر هي هنا الحالة الأبرز] بفصل الدين عن الدولة وسائر نشاطات الحياة الاجتماعية والسياسية والقانونية فإنها تتجاهل حقيقة مهمة وهي أن الإسلام ليس له كنيسة أو مؤسسة دينية راسخة يستند إليها وترعاه وتحتضنه بعد إبعاده عن الحياة العامة أو على الأقل الرسمية. وعلى العكس من المسيحية مثلاً في مذهبها الكاثوليكي والأرثوذكسي بالذات [وكذلك المذهب البروتستانتي] لا توجد في الإسلام مؤسسة دينية. وما يسمى بمؤسسات دينية إسلامية يسمى على سبيل المجاز فقط لأنها في الواقع إما هيئات تعليمية دراسية [معاهد، جامعات] أو هيئات محدودة للإفتاء لكنها كلها لا سلطة فعلية لها ولا ولاية خاصة على جموع المسلمين ولا تأصيل قانوني أو دستوري لها، فضلاً عن كونها في الحالة المصرية مؤسسات ضعيفة وهي واقعة بالكامل تحت سيطرة السلطة السياسية التي تسيّرها وتسيطر عليها من خلال بعض المستويات الدنيا أو المتوسطة من الجهاز الأمني السياسي. ولا تقتصر السيطرة السياسية على تلك المؤسسات على فرض الصمت والإقصاء عليها وحصارها، بل يمتد إلى فرض مفاهيم معينة عليها في مجالات الفكر الديني والشريعة بل وحتى في بعض الثوابت الشرعية من الأحوال الشخصية إلى التعاون مع أعداء الإسلام التقليديين أصحاب التوجهات الصهيونية والصليبية العالمية.
المشكلة إذن في فصل الدين عن الدولة أو الحكم أو أي من مجالات الحياة هو أن هذه الفكرة وهي جوهر العلمانية تتجاهل أن الإسلام يختلف عن المسيحية وتتعامل مع أي دين باعتبار أن الأديان متشابهة وأنها كلها واحدة. ومن هنا فلا يشعر دعاة العلمانية بأي غرابة أو حرج في التشديد على فصل الإسلام عن الحياة لأنهم يعاملون الإسلام كالمسيحية ويثيرون أو يعتبرون أن الإسلام لن يحدث له أي ضرر من هذا الفصل بافتراض أن هناك من يحميه ويرعاه. كما رعت الكنيسة في الغرب المسيحية وحمتها داخلها في فترات المد العلماني الذي استمر حوالي القرنين إلى العقود الأخيرة حينما أدى انتشار وترسخ الاتجاه الديمقراطي إلى عودة الكنائس ومعها الدين بقوة إلى الساحة العامة على امتداد أوروبا وبالذات في الولايات المتحدة وأجزاء كبيرة من العالم.
والذي حدث في أوروبا من ارتداد المسيحية إلى الكنيسة خلال فترات الضعف والمد العلماني لتعود مرة أخرى إلى الازدهار الاجتماعي في فترات الجذر العلماني لا يمكن أن يحدث مع الإسلام لعدم وجود مؤسسة دينية يرتد إليها في حالة الاضطهاد أو في الحالة التي نحن بصددها وهي الدعوة العلمانية إلى فصل الدين عن الدولة. والدولة التي كان الإسلام هو الذي أسسها وأقامها هي في الواقع كل ما يمتلكه الإسلام من مؤسسات فإذا انقلبت هذه الدولة على الإسلام أو تخلّت عنه فما الذي يمكن أن يحدث؟ والمطلوب من الجانب العلماني ليس فقط تخلي الدولة عن الإسلام بشكل سلبي غير مؤذ بل المطلوب الفعلي هو تحرك إيجابي ضد الإسلام بالإقصاء والحصار والتطهير على كل المستويات وليس فقط على المستوى السياسي العام كما يخادع بعض العلمانيين. إذن نحن لا نواجه في الحقيقة عملية فعل سلبي سلمي كما يتصور البعض أو كما تروّج العلمانية أحياناً، وإنما نواجه عملية مطاردة وإصرار على التعقّب لتطهير وتنقية المجال العام باتساعه من الإسلام ووصولاً إلى مستويات التعليم والحياة والأسرة والسلوكيات العامة للأفراد والمجتمع. وفي هذا الوضع سواء في جانبه السلبي [الفصل] أو الإيجابي [التعقب والاستئصال] لا توجد مؤسسة تحمي الإسلام وتقف بجواره وتحتضنه وتحميه.(13/486)
وحتى لو أريد إيجاد مثل هذه المؤسسة فلن يجد أحد تأصيلاً شرعياً أو قانونياً أو تاريخياً أو اجتماعياً لها. كما لا يمكن العمل على تحويل المؤسسات المسماة حالياً بالدينية إلى مؤسسة شبه كنسية تقوم بواجب احتضان وحماية الدين بعد إبعاده عن الساحة العامة بشكل أو بآخر، فهذه المؤسسات كما قلنا ضعيفة هشة وغير قادرة بحكم وضعها وتكوينها الحالي على القيام بأي مهمة من ذلك النوع بل هي غير قادرة أصلاً إلا على القيام بالمهمة التعليمية المدرسية العلمية التي تقوم فكرتها عليها مع إدراك أنها لم تعد الآن حتى قادرة على أداء هذه المهمة نفسها بسبب عوامل الهدم التي تعرضت لها على يد العلمانية من حصار وتحجيم وقطع للموارد البشرية والمادية، وأخيراً بسبب سياسات تجفيف ينابيع الدين والتدين المتبعة في العالم العربي على مدى ما يزيد عن الربع قرن. غير أن أخطر ما تعرضت له هذه المؤسسات والذي وجه لها ما يمكن أن نسميه بالضربة القاضية هو وضعها تحت سيطرة توجهات علمانية في نفس دوائر الدولة التي تسيطر عليها وهي دوائر لم تكتف بفرض السيطرة الأمنية التقليدية عليها بل فرضت عليها إلى حد كبير علمنة وتغريب المفاهيم الإسلامية التقليدية والأصلية والثابتة. ولهذا كله يصعب إن لم يكن يستحيل أن تقوم هذه المؤسسات بدورها التعليمي المدرسي في الحاضر، فضلاً عن أن تناط بها مهمة المؤسسة الدينية الشاملة والراسخة في الأسس الدينية مثل الكنيسة المسيحية.
الخلاصة إن فرض العلمانية بالمفهوم المطلوب الآن يصيب الإسلام في مقتل ويفرض عليه أزمة وجود وحياة أو موت بسبب مسألة المؤسسة الدينية أو عدم وجود [وعدم القدرة على إيجاد] مؤسسة تقوم بالدور الذي تقوم به الكنيسة في المسيحية. فالإسلام ببساطة دين مختلف عن المسيحية بوضعها الحالي. ففيه شريعة شاملة وهو كما يقال دائما [وهي المقولة التي تغيظ العلمانيين حقا] دين ودولة.
===========(13/487)
(13/488)
العلمانية ودورها في تشويه العلاقة بين الدين والعلم
بقلم : د.يحيى هاشم حسن فرغل
يفترض طه حسين في كتابه " من بعيد " الذي نشر عام 1935 ونشر فيه بحثا تحت عنوان " بين العلم والدين " حتمية الخصومة بين العلم والدين ثم يقرر أن حل هذه الخصومة إنما يكون بإقامة حكومة لادينية
ذلك أنه بعد أن يستعرض أسباب هذه الخصومة في رأيه يتحدث عن السبيل لإزالة هذه الخصومة فيقول ( السبيل هو إقامة حكومة لادينية تعتمد فكرة الوطنية ذلك أن فكرة الوطنية وما يتصل بها من المنافع الاقتصادية والسياسية الخالصة قامت الآن في تكوين الدول وتدبير سياستها مقام فكرة الدين ، أو مقام هذه النظريات الفلسفية الميتافيزيقية التي كانت تقوم عليها ) ثم يقول : ( وإنما تقوم الحكومة الحديثة في أقطار الأرض المتحضرة الآن على أساس سياسي خالص من المنفعة الاقتصادية والمدنية لا أكثر ولا اقل ، وقد فرغ الناس من هذا وأصبحوا لا يفكرون في أن الحكومة تقوم على الدين أو لا تقوم عليه )
وإذن فإن طه حسين ورواده وأتباعه يعرضون علينا العلمانية وما يزالون منذ أكثر من سبعين عاما باعتبارها حلا لقضية العلاقة بين العلم والدين ، ضمن ما تتعرض لحله من أمور أخرى !!
ولن نتعرض في هذا المقال لما فرغنا من بيانه في مقالات أخرى من كذب هذه الدعوى في جوانب مختلفة من حيث توصيفها لعلمانية الغرب ، نشأة ومآلا او صحة قياس الحالة الإسلامية عليها ، أو صلاحيتها للتجذر في بيئة إسلامية ، أو قياس مدى النجاح الذي حققته هذه الدعوة في الغرب أو في الشرق على السواء
ولكنا نعنى هنا بالذات ببطلان دعواها في توصيف العلاقة بين العلم والدين
نذهب إلى أن نقد التيارات الفكرية المعاصرة - ومنها العلمانية - في خصومتها مع الدين تتم ضمن نظرية شاملة : ترى أن هذه التيارات تنطلق جميعا من وجهة نظر معينة في العلاقة بين الدين والعلم ، وتقدم رؤيتها من خلال معتقدات ، … فهي دين بوجه ما .
وترتكز مقاومة هذه التيارات - في ضوء هذه النظرية على تصحيح العلاقة بين الدين والعلم ، وإبراز معتقدية الأسس التي تقوم عليها تلك التيارات ، وضرب القواعد التي تنطلق منها .
ومن هنا تبرز أهمية دراسة العلاقة بين العلم والدين .
ونحن لا نعني هنا بدراسة هذه العلاقة بسرد أدوارها التاريخية التي مرت بها في الحضارات المختلفة ، بقدر ما نعني بدراسة وضعية هذه العلاقات في نظر المفكرين المعاصرين.
وهنا يمكننا أن نصنف هذه الأنظار إلى ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الأول : يري ضرورة "الفصل" بينهما فصلا تاما . بحيث يكون لكل منهما مجاله الخاص ، يقرر بحرية ما يشاء دون تدخل من الطرف الآخر على وجه الإطلاق . فهو فصل في الوسائل والنتائج على السواء .
يقول أميل بوترو في كتابه " العلم والدين " :" لقد ظن البعض في نهاية القرن التاسع عشر أن المشكلة بين الدين والعلم حلت بوضعهما في ثنائية حاسمة يصبح فيها كل منهما مطلقا على طريقته ، ومتميزا عن صاحبه تميز الذكاء والعاطفة ، أو تميز العقل والقلب .
واستنادا إلى هذه الثنائية لاح إمكان وجودهما معا في صدر إنسان واحد ، بحيث يقومان جنبا إلى جنب ، على أن يتفادى كل منهما بحث مبادئ الآخر ووسائله ونتائجه " .
( أ ) ويبدو أن هذا الاتجاه هو ما تحاوله المسيحية المعاصرة ، إذ لا يرى المسيحي المعاصر بأسا في التناقض بين ما يقرره العلم في الجامعة ، وبين ما تقرره المسيحية في الكتاب المقدس .
فالأناجيل - على سبيل المثال - تقرر نسب المسيح على نحوين متناقضين تماما بين ما جاء في إنجيل متى وإنجيل لوقا .
والعهد القديم من الكتاب المقدس - على سبيل المثال أيضا - يقرر ظهور الليل والنهار والصباح في اليوم الأول قبل خلق الشمس والنجوم في اليوم الرابع ، وهذا ما يتعارض مع العلم .
وفيه أن الله خلق النبات في اليوم الثالث قبل أن يخلق الشمس في اليوم الرابع ، وهذا ما يتعارض مع العلم أيضا .
وفيه أن خلق العالم يرجع إلى حوالي ستة آلاف عام لا أكثر وهذا يتعارض مع العلم كذلك .
وفيه أن الطوفان عندما حدث اكتسح المعمورة كلها وأنه حدث في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد وهو عصر ظلت معه وبعده حضارات سابقة في مصر وبابل دون مساس ، وهذا يتعارض مع العلم أيضاً. أنظر "دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة " لموريس بوكاى نشر دار المعارف ص 41 إلى ص 47 ص 53
وهذه معارضات لا تحتمل التملص ، ولا تحتمل التوفيق .
وهنا كان لابد للاتجاه الديني المسيحي من أن يلجأ إلى وضع العلاقة بين العلم والدين في وضعية الفصل بينهما .
يذهب المسيحي إلى الكنيسة ليستمع في هدوء تام إلى تلك الروايات المتعارضة مع العلم ، كما يمارس عملية الاتحاد بجسد المسيح المرفوضة علميا .
ثم يخرج من الكنيسة ليقرر في الجامعة أو في المعمل أو في مركز البحوث العلمية : أمورا تتعارض تماما مع ما استمع إليه هناك .(13/489)
وقد لجأ إلى هذا الحل أيضا - الفصل التام بين العلم والدين - بعض المستغربين من المسلمين الذين اعتنقوا مذاهب الحادية - وضعية ، أو وضعية منطقية أو مادية ، أو ماركسية الخ - وعندما طعنوا في السن ، أو رجعوا إلى أوطانهم وجدوا صراعا داخليا لم يصل بهم إلى حد الاعتراف بالإلحاد أمام أنفسهم ، أو أمام الناس فباركوا هذا الحل ونادوا بالفصل ، وتوزيع الاختصاص ، وقالوا : نمارس الدين في ساعة هي للوجدان ، ونمارس العلم في ساعة هي للعقل ، أو كما يقول - بعضهم - جعلوا في صدورهم بيتين ، أو غرفتين ، ( أو قلبين ؟؟ ) غير مبالين بقوله تعالى : " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه "
إن هؤلاء المستغربين عندما فعلوا ذلك لم يفعلوه لمعارضة بين العلم والإسلام ولكن لمعارضة بين الإسلام وما اعتنقوه من مذاهب
ومن الأغاليط الشائعة أن هؤلاء يروجون للعلم على أساس أنه هو الذي يتجاوب مع " العقل " ويغذيه بينما الدين يخص العاطفة 0 وهم في ذلك واهمون أو جاهلون بالتطور الذي صار إليه العلم : فالعلم يتصل بالمشاهدات والخبرات اليومية المباشرة ليستخرج منها مبادئ 0 أما العقل فهو يتصل بالبديهيات الجلية ليستخرج منها فلسفة 0
يقول فيليب فرانك في كتابه " فلسفة العلم " ص 33 0 ( وضع مبادئ نستطيع أن نستنبط منها تطبيقات وحقائق مشهودة هو ما نسميه اليوم " علما " والعلم لا يهتم كثيرا بما إذا كانت هذه المبادئ معقولة أم لا 0 فهذا أمر لا يعنى العالِم كعالِم 0 وفى كثير من الكتب الدراسية نجد ما ينص على أنه ليس من المهم إطلاقا أن تكون هذه المبادئ معقولة ، وتذكر هذه الكتب أن مبادئ علوم القرن العشرين كالنسبية ونظرية الكم ليست معقولة على الإطلاق ، ولكنها متناقضة فى ظاهرها ومشوشة 00 وعندما ظهرت مبادئ النسبية وميكانيكا الكم قال بعض الناس : ربما أمكن استنباط نتائج مفيدة من هذه المبادئ ، ولكن المبادئ نفسها غامضة ، بل هي في ظاهرها متناقضة 0 إنها تخدم غرضا معينا إلا أنها ليست جلية )
وما يزيد الأمر وضوحا في الانفصال الذي يزداد يوما بعد يوم بين مجال التفكير العلمي والتفكير الفلسفي أو العقلي : ما يقوله فيليب فرانك : ( كثير من المصطلحات التي كانت تستخدم من قبل في لغة العلم لم يعد ممكنا أن تستخدم الآن ، لأن المبادئ العامة المعاصرة تستخدم الآن مصطلحات أكثر نأيا عن لغة الفطرة السليمة 0 فالتعبيرات من طراز " العقل " و " المادة " و " السبب " و " النتيجة " هي اليوم مجرد تعبيرات فطرة سليمة 0 وليس لها مكان في الحديث العلمي الدقيق 0
وعلينا لكي ندرك هذا التطور أن نقارن بين فيزياء القرن العشرين ، وسالفتها فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر 0
لقد استخدمت الميكانيكا النيوتونية مصطلحات مثل " الكتلة " و " القوة " و " الموضع " و " السرعة " بمعنى يبدو قريبا - إلى حد ما - من استخداماتها في الفطرة السليمة 0
وفى نظرية أينشتاين للجاذبية نجد مصطلحات مثل ( إحداثيات الحدث) أو ( الجهود الممتدة الكمية ) وهى مصطلحات تحتاج إلى سلسلة طويلة من التفسيرات لكي ترتبط بلغة الفطرة السليمة 0
ونجد هذا الأمر أكثر صحة في مصطلحات نظرية الكم مثل ( الدالة الموجبة) و( مصفوفات الموضع ) 00 الخ 00
وقد تحدث أينشتاين فى محاضرة له في أكسفورد عام 1933 عن ( الفجوة التي يتزايد اتساعها بين المفاهيم والقوانين الأساسية من ناحية والنتائج التي يجب أن نربطها بخبرتنا من ناحية أخرى وهى الفجوة التي تتسع باضطراد ) 0
يقول هربرت دنجل : إنني عندما أؤكد على ضرورة تحرير الفلسفة العلمية من تطفل المفاهيم ( المستساغة ) و ( مفاهيم الفطرة السليمة ) فإني لا أفعل ذلك للحط من قيمة الفطرة السليمة ، وإنما لأن الخطر الأكبر إنما يكمن اليوم في هذا التشويش ). أنظر فلسفة العلم ص 70 - 71
ولكن المستغربين عندنا عندما يستلهمون الغرب فإنهم يرجعون عادة لما هم عليه من كسل عقلي وانتهازية ثقافية يرجعون إلى معلومات قديمة مستهلكة ، فينطلقون إلى إعلان الخصومة بين الدين والعلم توهما منهم أنه - أي العلم - هو الذي يمثل العقل فوجب في تقديرهم أن تكون الخصومة بين الدين والعقل أصلا ، ومن ثم بينه وبين العلم تبعا ، وكان الحل الذي " اهتدوا " إليه في استبقاء ما يسمى " الفصل " بدلا مما يسمى " الخصومة " ، ظنا منهم أن الفصل بين أمرين يقبل المعايشة بينهما ، كما هو الحال في الفصل القائم بين العقل والقلب مع استمرار المعايشة القائمة بينهما ، وابتدع بعضهم لهذا الفصل صيغة تشبيهية مخففة أطلق عليها " الغرفتين " وقالوا : نمارس الدين في ساعة هي للوجدان ، ونمارس العلم في ساعة هي للعقل ، أو كما فعل - بعضهم - : جعلوا في صدورهم بيتين ، أو غرفتين ، إحداهما للعلم والثانية للدين دون مراجعة من إحداهما للأخرى(13/490)
وإذا كان هذا الحل قد نادى به بعض المستغربين من بعض المسلمين فإن الإسلام لم يكن ليقبل هذا الحل : من ناحية لأنه هو الإسلام الشامل للعقل والقلب والجسد جميعا ، ولأنه غير مضطر لشيء من ذلك من ناحية أخرى ، لأنه كما يقول موريس بوكاي عن القرآن ( إن القرآن لا يخلو فقط من متناقضات الرواية - وهى السمة البارزة في مختلف صياغات الإنجيل ، بل هو يظهر أيضا - لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم - التوافق التام مع المعطيات العلمية ). " دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة " لموريس بوكاى ص 285
ونحن لا نشير إلى هذا التوافق الذي أشار إليه بوكاي باعتباره صياغة نموذجية للعلاقة بين العلم والدين ، فلهذا كلام مقبل ، ولكن باعتباره دليلا على عدم اضطرار المسلم إلى وضعية ( الفصل) .
(ب) وبعد : فهل وضعية ( الفصل ) هذه مقبولة علميا أو مقبولة دينيا ؟ .
وللرد على هذا السؤال نقول بالنفي ، على المستويين ، العلمي والديني .
أما العلمي فلأن البحث العلمي في شخصية الإنسان ينتهي إلى كونها وحدة متداخلة متكاملة لا تستقر بغير التمازج والتوافق بين عناصرها المختلفة .
فليس في مقدور إنسان أن ينشئ في داخله قلبين ، أو أن يعزل في صدره بين حجرتين لتكون إحداهما مخزنا لقرارات تنكرها مخزونات الحجرة الأخرى ، وكما يقول أميل بوترو عن هذه الوضعية ( إن المشكلة حلت بذلك في عالم التصورات أما في عالم الواقع فليس الأمر كذلك ، إذ أين نجد في الإنسان الحد الفاصل بين العقل والقلب ؟ وأين نجد في الطبيعة الحد الفاصل بين الأجسام والأرواح ... ) ؟
إنه لا مفر تحت وضعية الفصل هذه من أن تصير شخصية الإنسان إلى أحد أمرين :
إما المرض والانحلال ، وإما التوثب لغلبة أحد الجانبين للآخر ، وهذا هو سر الانفصال الذي يتغلغل في شخصية الأوربي المعاصر ، المتعرض لتيار العلم وتيار الدين ، أو هو سر الانغلاق الذي يحتمي فيه بتيار ضد تيار آخر .
وأما على المستوى الديني : فهذه الوضعية مرفوضة إسلاميا ، لأن الإسلام هو الإسلام الشامل ، هو الذي يحتوى الشخصية من جميع أقطارها ، ولا يرضى لها بغير ذلك وانظر ما كتبناه في ذلك في مقالنا السابق بعنوان " لا علمانية مع الإسلام " وهكذا ينبغي أن يكون الدين .
يتبع
__________________
لا يوجد أحد غير الملاحدة قد سخر هذا الكم الهائل من الفكر لتحويل البشر إلى حيوانات... فبعد التمعن فى ما كتبوه ومعرفة ما يريدونه للبشرية لم يبق لنا سوى انتظار المشى على اربعة !
روابط هامة :
فهرس مواضيع الرد على الملحدين والعلمانين ... فهرس قسم الحوار حول الإسلام
مجموعة من الكتب لاغنى عنها للرد على الملحدين والعلمانيين ... الدليل الجامع للرد علي الشبهات والاباطيل
أيها الموحدون .... انتبهوا إلى ألاعيب الملحدين !
الاتجاه الثاني :
الوضعية الثانية المقترحة لإرساء العلاقة بين العلم والدين : هي وضعية ( التوفيق) بينهما في النتائج : وإن اختلفت الوسائل .
ومن الواضح أن هذا الشعار : شعار التوفيق إنما يرفع في ظل سيادة العلم ، فهو يعنى أن يكون المرجع في عملية التوفيق هذه إلى العلم لا إلى الدين ، ومعنى هذا أن يعاد تفسير الدين أو نصوصه أو معطياته - عندما يبدو أنها تتعارض مع العلم - لكي تتفق مع مقررات العلم التي يستقل بتقريرها بحرية كاملة ، دون وصاية من أحد .. وشرط هذا التوفيق أن يبدو النص الديني متقبلا للتفسير الجديد ، دون محاولة التخلص منه .
ويبدو أن هذا الاتجاه تمارسه المسيحية جزئيا عندما يكون هذا التوفيق ممكنا ، كما يمارسه بعض الدعاة في الإسلام وهو سهل عليهم ، لما سبق أن قررناه عن خلو القرآن من التناقض مع العلم .
ونحن نقر هذا الاتجاه في مجال الدعوة التي تستهدف الهداية ، ولا نقره في مجال تأصيل القضية : قضية صياغة العلاقة بين العلم والدين . ذلك لأنه في مجال الدعوة يباح للداعية أن يؤثر في المدعو بما يتيسر له من وسائل مقبولة ومستحبة ، إذ العبرة في الوصول إلى هداية المدعو ، وعندئذ للداعية أن يتوسل لذلك بالقدوة الشخصية ، وله أن يتوسل لذلك بنوع من السلوك المحبب ، وله أن يتوسل لذلك باعتماد المدعو لوسيلة الفلسفة أو العقل ، وله أن يتوسل لذلك باعتماد المدعو لوسيلة الوجدان ، وله أن يتوسل لذلك باعتماد المدعو لوسيلة ( العلم ) . الخ
إذ العبرة في النهاية بجذب المدعو إلى ساحة النجاة ، وأمن الإيمان ، بالمقياس الذي يرتاح إليه.
أما في مقياس النظر الأصولي في وضعية العلاقة بين العلم والدين ، فذلك الوضع - وضعية التوفيق - غير مقبول في مقياس الفلسفة العلمية أو في مقياس العقيدة الدينية على السواء ..
(أ) أما انه غير مقبول في باب الفلسفة العلمية فذلك :
لأن العلم لا يقر بمشروعية استفادة الدين به ، وهو يرى أن تصديقه لبعض حقائق الدين إنما يقع اتفاقا - أي مصادفة - ، أو هو على أحسن الفروض ظاهرة تفتقر إلى تفسير تجريبي مفتوح على المستقبل ، وهو على كل حال اتفاق لا قيمة له في نظر المنهج العلمي .(13/491)
ومن وجهة نظر المنهج العلمي ، وكما يقول أحد فلاسفة الإلحاد المعاصرين ( أرنست هيكل 1840 - 1919 ) : ( الأديان تقوم على الوحي ، والعلم لا يعرف إلا التجربة ، ولا قيمة في نظره لأي فكرة إذا لم تكن تعبيرا مباشرا عن وقائع ، أو نتيجة لاستنباط محدود قائم على القوانين الطبيعية ) .
وكما يقول أحد الفلاسفة المعاصرين ( أميل بوترو ) : إن العلم أصبح يكفى نفسه في نموه وتطوره ، وإن أول سمة للروح العلمية من الآن فصاعدا هي عدم التسليم بأي مبدأ للبحث ، وأي مصدر للمعرفة سوى التجربة ، فالعلم يوضع في نظر العالِم كأنه أمر أولي مطلق ، ومن العبث أن يطلب منه اتفاقه مع أي شيء ... ) .
( وبالرغم من أن العلم الحديث يتسم بالتواضع ، ويعترف بنسبية المعلومات التي يتوصل إليها ولا يدعى لها الصحة المطلقة إلا أن ذلك لا يعني - في مفهوم العلم التجريبي - أنه يعترف بأن خارج الميدان الذي يتحرك فيه العلم يوجد ميدان آخر يباح لأنظمة أخرى أن تعيش فيه ، ولكنه على العكس من ذلك يعمل على أن يمنع العقل البشرى من ارتياد أي ميدان ليس في متناول العلم ، لأنه إذا كان ثمة شئ لا يمكن أن يعرفه العلم فهذا الشيء من باب أولى لا يمكن أن يعرفه أي نظام آخر ) .
والعلم وفقا لإحساسه - المزيف - بالكفاية التي يختص بها نفسه فانه حين يقول : إني أعلم ، فمعنى ذلك أن الشيء الذي يعلمه موجود بالنسبة للمعرفة البشرية ، وحين يقول العلم : لا أعلم فهذا يعنى إن أحدا لن يدعي المعرفة .
وبناء على ذلك فإن العلم الحديث المتواضع العارف لحدوده ليس أكثر ملاءمة للدين من العلم الدجماطيقي - أي القطعي - ، فالدين من وجهة نظر العلم - في الحالتين - ليس إلا مجموعة تصورات تعسفية . ولا يكفى - من وجهة نظر العلم - أن نتعلل بأن ما نتمسك به مما يتجاوز حدود العلم يمكن أن يأخذ مكانته باعتباره ( اعتقادا ) لأن ( الاعتقاد ) من وجهة النظر العلمية ليس له قيمة إلا إذا كان ثمرة ملاحظة وتجريب .
(ب) أما أن هذا الاتجاه - أعنى وضعية التوفيق على أساس العلم - غير مقبول دينيا :
فذلك لأن هذا التوفيق - وقد أشرنا إلى أنه يتم على أساس العلم - يلغى جوهرية الدين ويسقطه من منزلته .
ذلك لأن جوهر الدين يقوم في كونه متبوعا لا تابعا ، إنه كلمة الوحي ولا يمكن أن تنتظر كلمة الوحي أو تتعطل أو تتحور تبعا لكلمة العلم مهما تكن درجته من الظن أو درجته من اليقين .
والدين بغير وحي ليس دينا .
والدين بغير اتَباع ليس دينا .
وعلى هذا فإن الدين ينكر هذه الوضعية المقترحة وضعية ( التوفيق ) بينه وبين العلم ، وهى كما قلنا تقوم - عصريا - على سيادة كلمة العلم .
وقد يقول قائل : إن هذه التبعية ليست للعلم إلا لأنه حق ، والدين لا يتعارض مع الحق ، وهذا شبيه بما قاله ابن رشد في كتابه " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال " في التوفيق بين الدين والفلسفة .
وهنا نحيل مرة أخرى إلى المنهج إجمالا فنقول :
منهجيا من الذي يحق له أن يعلن أنه توصل إلى ( الحق ) ؟
الوحي ؟ أم جهد بشرى في الفلسفة ؟ أم جهد بشرى في العلم ؟
من الواضح أن ( الدين ) لا يمكن أن يتنازل عن سيادته المنهجية إلا بالتنازل عن كيانه وجوهره .
كما نود فيما يأتي أن نفصل الكلام في هذه المسألة بعض التفصيل من ناحية المسائل التي يتقدم بها العلم لتوضيح بطلان المطابقة بين العلم والحق
مسائل العلم يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات : (1) النظريات كنظرية النشوء والارتقاء ، (2) والقوانين كقانون الجاذبية (3) والوصف المباشر للوقائع مثل إحصائية لحركة المرور في شارع أو ميدان ، أو الكشف عن أطوار التكوين للجنين .
ومن الواضح أنه لا مجال لافتراض التعارض بين الدين الصحيح وبين الوصف المباشر للوقائع وذلك لسبب بسيط هو أن هذا الوصف لم يكن يوما - ولن يكون - ملكا للعلم على أي نحو من الأنحاء .
إنه مقدمة للدخول في العلم ؛ والعلم إنما يبدأ بوضع هذا الوصف في نظرية أو قانون .
يقول فيليب فرانك في كتابه فلسفة العلم :
( إن مجرد تسجيل المشاهدات لا يزودنا إلا بنقاط ( راقصة ) وأن العلم لا يبدأ إلا إذا استطردنا من هذه الخبرات المستساغة ( خبرات الفطرة السليمة ) إلى الأنماط البسيطة للوصوف التي نسميها ( نظريات ) انظر فلسفة العلم لفيليب فرانك ص 24 ومابعدها 0
. لنتخيل أننا أسقطنا جسما في الهواء . وليكن مثلا قصاصه ورق خفيفة ( مثل ورقة السيجارة ) فماذا يحدث ؟ إذا فعلنا ذلك مرات عديدة - مئات أو آلاف المرات - فسوف نلحظ أن تحرك الورقة يختلف في كل مرة عن تحركها في المرات الأخرى .
وتراكم هذه المشاهدات ليس علما .
وليست هذه هي الطريقة التي يعمل بها الفيزيائي ما لم تكن في مجال غير متقدم كثيرا حيث لا يكاد يعرف عنه أي شيء .) فلسفة العلم ص 24 - 25
ومن جهة أخرى يقول فيليب فرانك أيضا :(13/492)
( من المهم أن نتذكر دائما أن العلم ليس جمعا للحقائق . فليس هناك علم يبنى بهذه الطريقة . فإذا جمعنا نصوصا تبين الأيام التي يسقط فيها الجليد على لوس أنجلوس فهذا ليس علما ، ولا يكون لدينا علم إلا إذا وضعنا مبادئ نستطيع أن نستنبط منها الأيام التي سوف يسقط فيها الجليد على لوس أنجلوس . وفوق ذلك إذا كانت المبادئ التي نضعها تبلغ من التعقيد حدا مثلما تبلغه الخبرة ذاتها فلن يكون ذلك اقتصادا ولن يكون علما بمعناه المحدد . إن عددا كبيرا من المبادئ يستوي مع مبدأ واحد شديد التعقيد ...
إذا لم يكن هناك عدد صغير من المبادئ ، وإذا لم يكن هناك تبسيط فلن يكون هناك علم
وإذا قال امرؤ إنه لا يريد معادلات ، وأن ما يريده هو مجرد الحقائق كلها ، فإنه يكون ساعيا فقط إلى الخطوة التمهيدية للعلم ، وليس إلى العلم نفسه . ) فلسفة العلم لفيليب فرانك ص 66 - 67
فإذا نحن استبعدنا الحقائق المفردة من مجال بحث العلاقة بين العلم والدين ينتقل بنا الكلام عن هذه العلاقة في مجال النظريات والقوانين العلمية .
وهنا نعود لمناقشة القول بأن العلم يمثل ( الحق ) .. لنحيل إلى ما تقرر في الأوساط العلمية من أنه لا يقين في العلم ، وإنما ظنون وظنون ، تقدم للتجربة ، لتمتحن فيها ، لتتعدل إلى ظنون أخرى لتقدم للتجربة ، لتمتحن مرة أخرى ، وهكذا بغير نهاية ، وهذه هي نقطة الضعف في العلم ، وهى سر الاستمرار والتقدم فيه أيضا .
إن الاتجاه الوضعي المعاصر يذهب إلى اعتبار القانون العلمي اختراعا وليس كشفا .
يقول فيليب فرانك :
( يبحث العالم عن صيغة يستطيع المرء أن يستنبط منها الوقائع المشاهدة ويتطلب العثور عليها تصورا خلاقا من جانب العالم . وإذا أردنا أن نصف هذا العثور على الصيغة فإن هناك طريقتين لهذا الوصف :
فيمكننا أن نقول : إن هذه الصيغة من اختراع العالِم ، وأنه لم يكن لها وجود قبل أن يعثر عليها العالِم . إننا نقارنها باختراع مثل اختراع التليفون الذي لم يكن موجودا قبل أن يخترعه ( الكسندر جراهام بل ) فالفرض أو الصيغة هي نتاج للتصور البشري ، هي نتاج لقدرة العالِم على الاختراع . ويجب اختبارها بالتجربة الحسية .
والطريقة الثانية يمكن أن نقول : إن الصيغة كانت موجودة دائما ضمن الحقائق المتطورة ، وقد اكتشفها العالِم كما اكتشف كولومبس أمريكا والعالم ليس مخترعا ، إنه( يبصر) الصيغة ( بفطرة الباطن ) ...
فالعالم يستخدم البصيرة في اكتشاف الصيغة ) .
وهنا يأتى السؤال : أى الطريقتين نختار ؟
يقول فيليب فرانك : ( تتفق الطريقة الأخيرة في وصف نشاط العالِم مع تقاليد الفلسفة المدرسية ( الكلاسيكية ) . ) .
وهذه الفلسفة كانت - كما يقول هانزريشنباخ - ( تعتقد بوجود بصيرة رؤية بواسطة العقل تناظر الرؤية بواسطة العين ) وهذا التماثل بين الرؤية بالعقل والرؤية بالعين هو الذي دعا الفلسفةالتقليدية إلى القول بأن البدهيات غنية عن البرهان ، أنظر فلسفة العلم ص37 0
أما الطريقة الأولى التي تصف العالِم بأنه مُخترع فهي كما يقول فيليب فرانك : ( أقرب إلى خط الفلسفة الوضعية ، والفلسفة الذرائعية ) .
ويقول : ( يقول المحدثون من العلماء إن الفروض والصيغ من نتائج التخيل ، وإنما تختبر بالتجربة والخطأ .. ) 0فلسفة العلم ص 34 ، 35
.
وسواء كان هذا أو ذاك فهي تتزحزح عن مرتبة اليقين .
إن العلماء يصرحون اليوم بأن التجربة تعزز الفرض ولا تثبته ، وانه لا يوجد ما يسمى ( التجربة الحاسمة ) .
يقول فيليب فرانك : ( إن الفرض لا يمكن " إثباته " فالتجربة " تعزز" أحد الفروض فإذا لم يجد شخص ما حافظته في جيبه فإن ذلك يعزز الفرض بوجود لص بالمقربة ، ولكنه لا يثبت هذا الفرض ، فقد يكون هذا الشخص قد ترك حافظته في بيته ، ومن ثم فإن الحقيقة المشاهدة قد تعزز فرضا آخر بأنه نسيها . وأية مشاهدة تعزز كثيرا من الفروض . والمشكلة هي أن تحدد درجة التعزيز المطلوبة ، فالعلم يشبه قصة بوليسية . إن كل الحقائق قد تعزز فرضا معينا ، ولكن الفرض الصحيح قد يكون مختلفا اختلافا كليا . ومع ذلك يجب أن نقر بأنه ليس لدينا معيار للحقيقة في العلم غير هذا المعيار ) .
ويقول بيير دوهيم : ( إن التجربة الحاسمة في الفيزياء أمر مستحيل ) فلسفة العلم ص 36 ، ص 55
ومن ذلك يتبين لنا أن ما يقدمه العلم من النظريات والقوانين لا يصل إلى مرتبة اليقين.
وهي - أي هذه النظريات والقوانين ـ ليست ( الحق ) الذي ترتعد أمامه الفرائص ، ويتحدى الإيمان ، أو يستولي عليه .
وعند هذه النقطة من البحث فإن العلم الخالص يلتزم الصمت ، لتتقدم " الفلسفة العلمية " لتحتل منصته في المناقشة .
ومن هنا ندخل إلى الاتجاه الثالث في تحرير العلاقة بين العلم والدين .
الاتجاه الثالث : يرى بين يديه الحالة الواقعة في المواجهة بين الدين والفلسفة العلمية - المتخفية وراء العلم - ليكون لأحدهما الكلمة العليا .
وهنا يظهر تياران :(13/493)
(أ) تيار إسلامي : يجعل الكلمة العليا للدين ، وعندئذ فهو يعترف للعلم بوسائله ، ولكنه ( يستخدمها ) لأهدافه العليا ، ليصل منها إلى ( نتائج ) تتفق مع هذه الأهداف ولا تختلف معها .
وإذن فهي معركة بين ( الفلسفة العلمية ) والدين ، ينبغي في نظر هذا التيار أن تنتهي ، لا بالقضاء على العلم ، ولكن بإخضاعه للدين باعتباره خادما له ، أو وسيلة من وسائله .
وإنك لتجد الأمر على هذا النحو - أي صيرورة العلم خادما للعقيدة - في أشد البيئات تمسحا بشعار العلم ، ففي مقال نشرته البرافدا في عام 1949 يقول رئيس أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفيتي س . أ . فاينلوف تحت عنوان ( لينين والمسائل الفلسفية للفيزياء الحديثة ) :
( إن الفيزياء السوفيتية ( !! ) تبنى عملها على ما اعتنق العالِم من المادية الديالكتيكية ) وليس العكس ، وفى مقال آخر نشرته مجلة أسبوعية إنجليزية ( ناتشر) في مايو 1950 يقول أحد أعضاء هذه الأكاديمية ( إننا أعلنا مرارا ولا نزال نعلن أن العلم إنما هو علم حزبي طبقي ).
ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد أن هذه الوضعية هي السائدة في الجانب المنتصر من الحضارة المعاصرة إذ يقوم العلم بدوره كخادم للعقيدة السائدة : تلك التي تقوم على مفاهيم المتعة الحسية ، والقوة المادية ، والسيطرة على الآخر ، وهى مفاهيم ورثتها الحضارة الأوربية المعاصرة عن الحضارة الرومانية القديمة وأكدتها أنظار الفلاسفة الذين قيض لهم السيطرة على العقل الحديث
وهذا الاتجاه لا يفترق في جوهره عن الدور الذي كان يمارسه رجال اللاهوت في العصور الوسطى في أوربا ، وكما يقول الأستاذ إسماعيل مظهر في مقدمته لترجمة كتاب "بين الدين والعلم" ( قامت لدى اللاهوتيين فكرة ثابتة في أن العلم لا يصح أن يبشر فيه بأقل مخالفة لما جاءت به الأسفار المقدسة والمتون ) .
هكذا الأمر في جميع الحضارات والعصور : يحتل العلم مكانته تحت توجيه الدين، والفرق بين حضارة وأخرى ، وبين عصر وآخر إنما يأتي من طبيعة الإيمان الذي تعتنقه الحضارة أو يعتنقه العصر ، وإنه في ظل العقيدة الإسلامية لم يجد العلم نفسه في حالة حصار أو إحباط ، وإنما كان الأمر على العكس من ذلك ، وجد العلم نفسه - والعقل أيضا - محررا من أغلال النظم المزيفة الصادرة عن غير الله تعالى ، مالكا الأمان في رحاب النظام الإلهي ، ومن ثم كان من الطبيعي أن تأخذ النزعة العلمية في الحضارة الإسلامية أعلى مقام أخذته في التاريخ .
ولسنا نريد أن نكتب في هذا المقام كلاما مكررا عن أستاذية الحضارة الإسلامية للمنهج التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة ، فهذا ما شهد به المؤرخون جميعا ، ولكني أكتب لأنبه إلى تحديد وضعية العلاقة بين كل منهما ، لأنه بدون هذا التحديد سندخل في متاهات محيرة ومهاو مدمرة ، لا تقل خطورة عن الظن بحتمية التعارض بينهما .
وكما أوضحنا فان هذه الوضعية لا يمكن أن تقوم على الفصل بينهما - كما هو الأمر في التاريخ القديم والحديث على السواء - كما لا يمكن أن تقوم على فكرة التكامل لأن هذا التكامل مرفوض إسلاميا ، بقدر ما هو مرفوض واقعيا .
إنه لابد من أن يقوم العلم بدوره المقدور له دائما : تابعا للدين .
وإذا كنا قد أثبتنا ذلك من الناحية التاريخية فإن إثباته من الناحية النظرية لا يقل أهمية ؛ ذلك أن العلم لا يمكنه أن يمارس دوره إلا في ظل مجموعة من القيم تقوده في الطريق ، وكما يقول الأستاذ فانيفاربوش الرئيس الفخري لمعهد ماساشوستش للتكنولوجيا ( الذي يتبع العلم اتباعا أعمى ولا يتبع إلا العلم يصل إلى سد لا يستطيع أن يتجاوزه ببصره )
ويكفى أن نضرب هنا مثلا قدمه بعض المهتمين بالقضية لحالة قد يظن أنها خالصه للعلم ، تلك هي إذا ما أردت من أحد العلماء أن يصمم لك طائرة ، إن الأمر في هذه الحالة لا يمكن الخطو إليه خطوة واحدة إلا في ظل مجموعة من القيم ، وذلك أنه لو استعمل العالم - مثلا - مادة ثقيلة أكثر مما يجب لكان مخطئا ، لما يؤدى إليه ذلك من عجز الطائرة عن التحليق ، لكننا في هذه الحالة نكون قد استنجدنا بحكم قيمي ، يوضح لنا أهمية ( التحليق ) ، وكذلك الأمر في تعلقه بجوانب أخرى من هذه العملية حيث نستند إلى مجموعة من القيم الأخرى التي توضح الغاية المرجوة من صنع الطائرة ، وقد تتضارب الغايات التي يهدف المرء إليها فيحاول صنع طائرة صالحة للعمل بأدنى تكلفة ممكنة ، أو طائرة تستطيع التحليق إلى أعلى ارتفاع ممكن ، أو قد تكون الغاية هي السرعة القصوى ، أو المتانة القصوى ، أو السلامة القصوى ، ومن المحتمل أن تكون الأهداف المتباينة مما لا يمكن تحقيقه إلا بوسائل متباينة ، لذلك فسلوك العالِم يتوقف في النهاية على تقرير الهدف الذي نقدمه له وتقرير هذا الهدف يتوقف على تقرير القيمة التي نعتنقها .
وكما يقول أحد فلاسفة العلم : إنك إذا سألت عالِما عن الطريق الواجب عليك أن تسلكه لكان جوابه الوحيد الذي يمكنه الإدلاء به هو ( هذا يتوقف إلى حد بعيد على المكان الذي تقصده ) .(13/494)
وإذا كان ذلك يبين لنا أنه لابد من أن يعمل العلم في ظل مجموعة من القيم السائدة ، فإنه ينبغي أن يكون من الواضح أننا إن لم نبادر إلى تنمية هذه القيم وتصحيحها بوصاية العقيدة والإيمان ، فإن العلم يصبح أداة طيعة للقيم المنهارة المدمرة .
وتتضح خطورة هذه القضية أكثر ما تتضح في ظل التقدم الهائل الذي أحرزه العلم الحديث . ولقد كان الفيلسوف الفرنسي المعاصر هنري برجسون على حق حينما قال ( يتطلب جسدنا المتوسع - بفعل التقدم العلمي الحديث - زيادة في الروح .. )
وكما يقول العالم الفيزيائي المعاصر الشهير لويس دي برولي ( على قدر ما تتزايد الوسائل التي أودعها العلم والتقدم الصناعي تحت أيدينا للعمل وبالتالي للتدمير فإن الخراب الذي نستطيعه يصبح مداه أعظم اتساعا ، والجراح التي تتولد عن ذلك لا تشفى سريعا ) .
ويكفى أن نشير هنا إلى إمكانية واحدة رهيبة يشير إليها العالم الشهير ؛ تلك هي أنه منذ أكثر من نصف قرن يستخدم الفوضويون القنابل على نطاق واسع ويلقونها على الناس في الأماكن العامة ، أما الآن فان العصابات الدولية أصبحت قريبة من تصنيع القنبلة الذرية :
( فكيف يكون الأمر لو نجح الفوضويون الجدد في استخدامها في تهديد مدن بأسرها .. ).
هنا نمسك بتلابيب المأساة وجوهرها الحقيقي . ( إن كل زيادة في قوة التأثير - يقدمها العلم - تزيد حتما القدرة على الإضرار وكما زادت قدرتنا على الغوث والإعانة زادت قدرتنا على الإساءة ونشر الدمار ) .
هنا يصبح لمشكلة القيم مغزى أعظم مما كان لها في أي عصر من العصور .
بل إن خطر هذه المشكلة - مشكلة - القيم - يعود ليؤثر في الوضع الذي يحتله العلم نفسه ، وليتقاضاه ثمن ما قدمه من مساعدة للقيم المنهارة .
ويكفى أن نشير هنا إلى نقطة تغيب عن كثير من الناس ، تلك هي أنه إذا كان العلم الحديث قد ازدهر في ظل قيمة ( الحرية) فإنه في الآونة الأخيرة - وبفضل ما أحرزه من تقدم رهيب - أصبح من الضروري أن يدخل شيئا فشيئا إلى قبضة السلطة الحاكمة ، إذ أين هي السلطة التي تجد أن بإمكانها أن تبتعد عما يحدث في معسكر العلم مع ما يمثله ذلك من تهديد خطير لأهداف المجتمع ، إن الدولة هنا لا تجد مناصا من أن تعنى بالبحث العلمي أكثر من ذي قبل ، بل تجد نفسها مضطرة إلى السيطرة على أسرار معينة ، ومضطرة أيضا إلى أن تخضع النشاط العلمي للتنظيم والتفتيش اللذين لم يتعود عليهما .
وكما يقول لويس دي برولي عالم الفيزياء الذي سبق أن ذكرناه : ( إنه حتى في الولايات المتحدة لم يعد العلماء الذين يعرفون أسرار الذرة يملكون حرية الحركة .. )
وهنا يتعرض العلم الحديث لدور تاريخي مناقض للدور الذي انتعش في ظله ، وتعود مشكلة القيم لتؤكد دورها الرئيسي في قيادة العلم .
وإذا كنا قد توصلنا إلى هذه النتيجة وهى قيادة القيم للعلم ، فإنه من الواضح أن نسلم بقيادة العقيدة له ، لأن القيم لا تستقى إلا من العقيدة ، ولا تقوم إلا عليها . وهنا نود أن نعلن أن الإسلام وحده هو الذي يقدم مجموعة القيم التي تضع العلم في مناخ يسمح له بالنمو إلى حيث يشاء ، وتقوده في نفس الوقت في طريق التقدم ( بالإنسان ) .
ويكفى أن نشير هنا إلى حقيقة ، تلك هي : أن من يوكل إليه صياغة هذه القيم ينبغي أن يحيط علما بكل شئ ، إنه إذا كان الإنسان جزءا من هذا الكون ، يؤثر فيه ويتأثر به فإنه من المقرر أنه لا يمكن أن تعرف الجزء معرفة دقيقة حتى تعرف الكل الذي ينتمي إليه .
وكما يقول الأستاذ مونتاجيو أحد علماء الأنثروبولوجيا المرموقين وهو بصدد الدعوة لاستخدام العلم في تحسين حاضر البشر ومستقبلهم ( إن التعليم الضئيل شئ خطر، وإنه لمن الضروري والحالة هذه التزام أعظم جانب من الحذر عند بحث جميع المشكلات أو التوصيات التي تهدف إلى التحكم لا في حياة الأحياء فحسب ، بل أيضا في حياة الذين لم يولدوا بعد ) .
ومن هنا فإننا نقول : إن الكلمة في هذا المقام لمن يحيط علما بالكون ، إنها ليست للعلم أو الفلسفة أو الإنسان ، وإنما هي للوحي الذي يعبر عمن يحيط علما بكل شئ .
( وكان الله بكل شئ محيطا ) 126 النساء .
( إن الله قد أحاط بكل شئ علما ) 12 الطلاق .
( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) 255 البقرة .
( وخلق كل شئ فقدره تقديرا ) 2 الفرقان .
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) 4 الملك .
إن الله سبحانه وتعلى هو وحده صاحب الكلمة لأنه وهو صانع الإنسان يصبح من ثم - ونزولا على منطق التكنولوجيا أيضا - ليس لأحد غيره باعتباره الصانع أن يرسم لك طريقة بناء المصنوع أو تشغيله .
وأنت إذا تجاوزت الصانع في تشغيل المصنوع ، انتهيت إلى تدمير المصنوع ، هذه بديهية مستقاة من منطق العلم ومن عالم الصناعة معا ، ومن هنا فإننا إذا كنا بصدد صياغة القيم التي تقود العلم في طريق الإنسان كان لا مفر لنا من الالتجاء إلى صانع الإنسان ، ويصبح الأمر من ثم لا مجال فيه للدعوة إلى علمنة القيم ، وإنما ينقلب الوضع لتعود الرأس إلى مكانها الطبيعي ، وليصبح العلم هو الرجلين اللتين تخطوان بالإنسان وفقا للتوجيه الصادر من الدين.(13/495)
والنتيجة النهائية لما كتبناه هي أنه يلزم في الوقت الراهن أن نهتم بوضعية العلاقة بين العلم والدين ، وأنه لا مفر واقعيا ونظريا من أن يحتل العلم مكانته في هذه الوضعية : تابعا مطيعا للدين .
وهذا هو التعبير الصحيح عن التيار الإسلامي في وضعية المواجهة بين العلم والدين ، تنتهي فيه هذه المواجهة إلى تسليم العلم قياده للدين .
(ب) وهناك تيار علماني إلحادي يجعل الكلمة العليا للعلم ؛ وعندئذ فهو ينكر على الدين نتائجه ووسائله على السواء ، ويحاول أن يقتلعه من جذوره . كما كان يتصور طه حسين يف كتابه الذي اقتطفنا منه في أول المقال
وإذن فهي معركة بين العلم والدين ، ينبغي في نظر هؤلاء أن تنتهي بالقضاء على الدين .
وينطلق ( الإلحاد العلمي ) هنا من قواعد تنتمي إلى ( الفلسفة العلمية ولا تنتمي إلى العلم ذاته ) لأن العلم في أبوابه الأصلية : " النظريات والقوانين " يعلن أنه يقوم على الظن لا على اليقين0.
والفكر الإسلامي لا ينبغي له أن يهاب هذا الموقف ، فهو مفروض عليه سواء أراد أو لم يرد . إنه لم يعد كافيا في الدفاع عن الدين ضد الإلحاد المستند إلى العلم ( كذبا ) أن نقتصر على بيان اختلاف المجال في كل من الدين والعلم من ناحية ، أو بيان التوافق بينهما من ناحية أخرى ، فهذا الموقف يدخل السرور على عتاة الإلحاد العلمي لأنهم يدركون قصوره ، إنما الموقف الذي ينبغي أن نقتحمه :
هو موقف الحسم ، على المستوى النظري على الأقل ، والحسم هنا أمر مطلوب لمنع التداعيات الفاسدة التي يمكن أن تترتب عادة على الميوعة السائدة في هذا المجال ، وهو حسم واجب وجوب الحسم الذي نراه في قضية موازية : العلاقة بين الدين والسياسة ، إن اللبس والدعايات المأجورة تنفث سمومها من حيث ترك الإجابة على السؤال الآتي : أيهما يخدم الآخر
الدين يخدم العلم ؟
الدين يخدم السياسة ؟
هنا نقطة الانحراف ، هنا يسمع فحيح الأفعى ، وكلاهما من جحر العلمانية
يجب أن نحسم الأمر :
السياسة هي التي تخدم الدين
العلم هو الذي يخدم الدين
والدين - وبالتحديد الدين الإسلامي - لا مكان فيه ألبتة لما يسمى " رجل الدين " أو " المؤسسة الدينية ."
وقد استدللنا على ذلك
هنا يجب أن ننتقل من الدفاع إلى الهجوم ، والهجوم هنا ينبغي أن يتجه إلى ضرب القواعد التي يستند إليها الإلحاد المعاصر ( العلمي ) في محاربته للدين :
وهذه القواعد في تقديري ثلاثة :
القاعدة الأولى :
الزعم بإنكار كل الغيبيات التي لا يمكن إخضاعها للملاحظة والتجربة .
القاعدة الثانية :
الزعم بأن حتمية القوانين الطبيعية من ناحية وقوانين التطور التقدمي من ناحية أخرى يمكن الاستغناء بهما عن افتراض وجود الله وعلمه وإرادته كتفسير لوجود العالم وحركته وتغيره .
القاعدة الثالثة :
ادعاء كفاية المنهج العلمي في المعرفة من ناحية ، والقيم من ناحية أخرى ، والاستغناء به عن المناهج المعرفية الأخرى التي تقوم بها الفلسفة الميتافيزيقية أو الدين . وهنا نجد المجال مفتوحا أمام الباحثين لضرب هذه القواعد .
وبهذا يتم في تقديرنا قتل حشرات العلمانية التي خربت طويلا في ثقافة العصر ، ودمرت إمكانية التقدم في بلادنا الإسلامية والعربية منذ أكثر من قرن .
ولهذا بحث منجز ، نرجو أن نقدمه مستقبلا
والله أعلم
أد : يحيى هاشم حسن فرغل
===========(13/496)
(13/497)
العلمانية بين تسييس الكفر وتكفير السياسة
بقلم : د.يحيى هاشم حسن فرغل
لماذا يتخندق المسلمون في مركز الدفاع ضد اتهام العلمانيين لهم بتكفير الآخر عن طريق تديين السياسة وتسييس الدين ؟ بينما هم - أي العلمانيين - يرتكبون خطيئة تكفير السياسة وتسييس الكفر ؟
أليس اعتراضهم على تسييس الدين يعني تسييس الكفر
وأليس اعتراضهم على تديين السياسة يعني تكفيرالسياسة ؟
وأليس هذا معنى قولهم : لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ولكن بصورة أدق ؟
و " من فمك أدينك " كما جاء في الكتاب المقدس ؟
وإذا كان من حقهم أن يقولوا :" لا دين في السياسة " " تطهيرا للدين " باعتبار فهمهم الماكيافيليي لأبعاد السياسة المشبوهة ودخائلها الدنيئة .. أفلا يسلبون عن أنفسهم الحق في أن يقولوا " لا سياسة في الدين " " ارتفاعا به فوق شئون الدنيا " باعتبار جهلهم العميق بأركان الدين وشموله لأبعاد الحياة الدنيا ودخائل الإنسان ؟
وإذا كانوا في مقياس الحقيقة مخطئين في معنى السياسة فليس بالضرورة إن تكون السياسة مكيافيلية أفلا يكونون من باب أولى مخطئين في فهمهم لمعنى "الدين " فليس بالضرورة أن يكون الدين انسحابيا ؟
وإذا كان شيخ الأزهر قد روج للعلمانية ضمنا في موقفه من فرنسا وهي تمنع الحجاب ، ثم في ترويجه لمصطلح ( فحيثما تكون المصلحة يكون حكمها - أي الشريعة - وحيثما تنتفي المصلحة ينتفي حكمها…) كما شرحنا في المقال السابق .. فإن بعض شيوخ الأوقاف قد أجازها صراحة بمنطق أنها بكسر العين تعني العلم ، وبفتحها تعني العالم وكلاهما مقبول إسلاميا !! ( في حديث بتليفزيون القاهرة بتاريخ 3\3 \ 2004)
وشيخ الأوقاف أشبه في هذا بزعيم فيلسوف (!) يُسأل عن الديموقراطية فيقول هي الحكم من فوق " الكراسي " ! أو هو أشبه ببابا الفاتيكان لو أنه افتراضا سئل عن الإسلام فقال إنه مقبول في نظر الكنيسة لأنه يعني السلام !!
وبابا الكنيسة لا يمكن أن يفعل ذلك لأنه يدرك ما لم يدركه شيخ الأوقاف أو الزعيم الفيلسوف من أن الكلام عن المصطلحات إنما يرجع فيه إلى واضعيها ، ولو أردنا عربيا أن ننسب إلى العلم لقلنا علمية ، ولو أردنا أن ننسب إلى العالم لقلنا عالمية ، أما أن تنطق علمانية فخطؤها عربيا يعني أن نرجع إلى الذين نحتوها لنعرف منهم ماذا يريدون ؟
إن لفظة العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة ( Secula r ism ) في الإنجليزية، أو(Secula r ite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ "العلم" ومشتقاته على الإطلاق. فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه (Science) والمذهب العلمي (Scientism) والنسبة إلى العلم هي ( Scientific ) أو (Scientifique ) في الفرنسية.
والترجمة الصحيحة لمفهوم العلمانية هي (اللادينية) أو (الدنيوية).
تقول دائرة المعارف البريطانية مادة ( Secula r ism ) : (هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيهم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها).
أما معجم أكسفورد فيشرح الكلمة بمعني : " دنيوي ، أو مادي، ليس دينيا ولا روحيا: مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة. وبمعنى ألا يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية"
وفي "المعجم الدولي الثالث الجديد" جاء شرح مادة: ( Secula r ism) على أنها: "اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادا مقصوداً، فهي تعنى "السياسة اللادينية البحتة في الحكومة "
وبالرجوع إلى معجم ويبستر فإن ( العلماني : يعني " الدنيوي أو اللاديني والأشياء الدنيوية المتمايزة عن الأشياء الروحية . والعلمانية : رؤية للحياة أو أي أمر محدد يعتمد أساسا على استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها ، ومن ثم فهي نظام أخلاقي اجتماعي يعتمد على أن المستويات والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعاشة والرفاهية الاجتماعية دون الرجوع إلى الدين )(13/498)
هذا وإن كان بعض الكتاب يحاولون فض الاشتباك بين الإسلام والعلمانية حيث يرجعون إلى تعريف معجم لاروس الفرنسي للعلمانية بأنها " فصل الكنيسة عن الدولة"sépa r ation de l'Eglise et de l'Etat قائلين : إنه أدق تعريف لها وإذن فشأنها متصل بالكنيسة ولا شأن لها بالإسلام : ( لأنه - أي هذا التعريف - يضعها في سياقها الثقافي والاجتماعي، ويكشف عن حدودها الزمانية والمكانية، على خلاف التعريف المبهم الذي يستخدمه أنصاف المثقفين !! في الوطن العربي، حين يجردون العلمانية من سياقها التاريخي ويسبغونها بصبغة عالمية، فيعرفونها بأنها "فصل الدين عن الدولة".) إذا كان ذلك كذلك فإن التطبيق الواقعي لها في منبتها وتسويقها في بلادنا الإسلامية آل إلى وضع كلمة " الدين " موضع كلمة " الكنيسة" وحيث لا كنيسة للإسلام اخذوا يطالبون بإبعاد " الدين " عن الدولة في مختلف ممارساتها الخاصة بتنظيم شئون الحياة في السياسة والتربية والإعلام والثقافة والفن والعلم على السواء ، واسألوا أوربا وفي المقدمة منها فرنسا لماذا تمنع الحجاب ؟
وهذا ما بدأ تطبيقه بتوسع مندفع منذ ما يقرب من قرن ، في بعض البلاد الإسلامية مثل تركيا ، وببطء محسوب في بلاد أخرى مثل مصر
في تركيا التي نعرف ما حدث فيها للخلافة العثمانية التي تآمر الغرب على إسقاطها في بداية القرن العشرين بعد أن ظلت أكثر من أربعة قرون القلعة الشامخة التي تحمي المسلمين وتذود عنهم كلاب أوربا المسعورة وتبث الرعب في رجالها البغاة وتصل إلى مخادعهم لتملأها بكوابيس الذل والهوان
صحيح أن هذه الامبراطورية الإسلامية كانت قد شاخت وسرت في جسمها أمراض الحضارات الكبيرة وأنها كانت في حاجة إلى دم جديد أو إلى مركز إشعاع إسلامي جديد لكن غير الصحيح هو ما تولى كبره الغرب في تآمره على توزيع ميراث هذا الرجل المريض ودفن دولة الإسلام الكبرى إلى الأبد باسم العلمانية وبأيدي العلمانيين الخونة من زعماء تركيا
ومن المضحك المبكي أن الزعيم التركي الذي تولى إنفاذ المؤامرة الذي أعطي لاحقا لقب " أتاتورك " أو " أبوالأتراك " قدم نفسه في البداية باعتباره منقذا للخلافة وللأمة الإسلامية ، وفي بيان أصدره بمناسبة افتتاح مجلس الأمة التركي عام 1920 قال : ( إن افتتاح المجلس في يوم الجمعة هو من أجل الاستفادة من بركة هذا اليوم !! وباشتراك جميع النواب في صلاة الجمعة بجامع " حاجي بيرام " سيؤخذ الفيض من نور القرآن والصلوات على الرسول ..سنبدأ من الآن في جميع أرجاء الوطن المقدس والجريح بقراءة القرآن والبخاري الشريف ، وستتلى الأسماء السلطانية من فوق المنابر في يوم الجمعة بعد الأذان ، وعندما تتلى الأسماء السلطانية لمولانا وسلطاننا وخليفتنا فستتلى الأدعية من أجل خلاص حضرته السامية ومن أجل خلاص بلده وخلاص رعيته وتحقيق السعادة لهم في أقرب وقت ) !!
ولكنه بعد عامين فقط من هذا الكلام في عام 1922 أعلن أن تجربته أثبتت إمكانية الفصل بين السلطنة والخلافة ، وأن مجلس الأمة التركي يستطيع أن يمثل الحاكمية والسلطنة وبذلك تعود السلطنة إلى الأمة !!
وكانت هذه هي الخطوة التمهيدية لإلغاء الخلافة بعد ذلك في شهر مارس من عام 1924 بالقوانين الثلاثة الشهيرة التي حملت أرقام 429 - 430 - 431 وينص أولها على إلغاء الخلافة وطرد الخليفة هو وأسرته من البلاد ، وينص الثاني على إلغاء وزارة الأوقاف وينص الثالث على أن تلحق المؤسسات العلمية والدينية بوزارة المعارف
وتتابعت الخطوات بعد ذلك إلى حد الاعتداء على الإسلام نفسه
ففي مذكرات علي كيليج أحد رجال أتاتورك أن قضية العلمانية أثيرت في اجتماعات مجلس الأمة في حضور مصطفى كمال فقام أحد العلماء من أعضاء المجلس وقال : " الكل يتحدث عن العلمانية ولكني لا أستطيع فهم معناها على وجه التحديد " عندئذ قاطعه مصطفى كمال بحدة وقال " إنها تعني أن نكون آدميين يا شيخنا آدميين " تماما كما يسخر أي علماني اليوم بمخاطبة رجل الدين قائلا بنبرة استخفاف " … يامولانا "
وبينما كانت الدعوة إلى العلمانية تشتد فإن الحملة على الشريعة كانت تمضي معها في خط مواز - على حد تعبير الأستاذ فهمي هويدي - وكان مصطفى كمال هو الذي قاد تلك الحملة حيث بدأها بأن قال غامزا : ( إن الدين المتعلق بالضمير شيء والشريعة التي تريد أن يتجمد المجتمع وأمور الدنيا عند القرن السابع الميلادي (!!) شيء آخر ) . لاحظ أن العبارة تتردد بنصها الآن في أوساط العلمانيين . وأفضل منها ما تقوله أي راقصة محترفة ( أنا قلبي عمران بربنا ) !!
ومما قال أيضا : ( إن التشريع والقضاء في أمة عصرية يجب أن يكونا مطابقين لأحوال الزمان والمكان ) لاحظ أن العبارة تتردد بنصها الآن في أوساط بعض المفتين
أما وزير العدل في حكومته محمود أسعد فقد هاجم الشريعة ووصفها بأنها قانون الصحراء - قارن هذا بمقالات أحمد عبد المعطي حجازي عن الموازنة بين الحضارة الزراعية بمصر وثقافة الصحراء التي يحملها ( المتشددون ) في الإسلام : الأهرام 18\5\1988(13/499)
وقال أتاتورك أيضا وهو في سياق الزحف نحو إلغاء الشريعة في بلد الخلافة الإسلامية : ( إن الشعب التركي جدير بأن يفكر بنفسه دون أن يتقيد بما فكر فيه غيره من قبله ، لقد كانت كل مادة من مواد كتبنا القضائية تبدأ بكلمة قال " المقدسة " أما الآن فلا يهمنا أصلا ماذا قالوا في الماضي ، بل يهمنا أن نفكر نحن ، وأن نقول نحن ، وقد شاعت في أنقرة عبارة تقول " لا نريد شرعا فيه قال وقالوا ، لكنا نريد شرعا فيه قلنا ونقول . ! )
ومن المقصود بـ " قال المقدسة تلك " ؟
فإذا كانت الشريعة تحتوي " قال الله ، وقال الرسول ، وقال الشيخ فلان ؟ فأيها المقصود ؟
وهكذا تم إفراز القانون المدني الجديد الذي جاء ترجمة للقانون المدني السويسري ، البديل الذي حل محل الشريعة الإسلامية ، وقد اعتبره أتاتورك تحقيقا للنصر النهائي في سبيل المدنية في عصر تأسيس الجمهورية
وقد واجهت الكماليين في القانون السويسري مشكلات : منها أنه يحرم زواج الإخوة من الرضاعة استنادا إلى اجتهادات الكنيسة الفرنسية ، فعرضوا الأمر على أتاتورك الذي أغضبه هذا التماثل مع الشريعة الإسلامية ، مما دفع ناقلي القانون إلى إلغاء هذا الحظر والسماح للتركي بأن يتزوج أخته من الرضاع إمعانا في رفض الشريعة الإسلامية !!
في هذا الصدد يعلق الكاتب الفرنسي موريس برنو قائلا ( إن الكماليين عندما استبعدوا الشريعة وظنوا أنهم تخلصوا من عبء كلمات مثل قال وقالوا فإنهم لم يفعلوا أكثر من استعارة القانون المدني السويسري لتطبيقه ، غير مدركين أنه ينبع من مصدرين : أحدهما روماني والآخر مسيحيي ، أي انهم استعانوا بقانون له مصادره الأقدم عهدا من الفقه الإسلامي ) !!
فانظر كيد القدر بمن يكيدون لشريعة الله .
لم يقف جهد أتاتورك وجماعته عند هذا الحد - على حد تعبير الأستاذ فهمي هويدي - ولكن الأمر تجاوز تعطيل الشريعة إلى دوائر أخرى : حولت الخلافة إلى دائرة صغيرة تابعة إلى وزارة الداخلية ، وأغلقت كل مدارس التعليم الديني ، وكل التكايا والزوايا والأضرحة ، ومقار الطرق الصوفية ، وألغيت أعياد الفطر والأضحى لعدة سنوات ، ومنع أداء فريضة الحج ، ومنع الأذان باللغة العربية ، واستمر هذا االمنع حتى عام 1950 أي بعد وفاة أتاتورك
وطرحت فكرة ترجمة القرآن بالتركية لتكون الصلاة بها ولكن لم يكتب لهذا الاقتراح أن ينفذ وألغيت عطلة الجمعة أيضا ، واستبدل بها الأحد
ومنع الحجاب ومنع تعدد الزوجات وأبيح زواج المسلمة بغير المسلم
وصدر قانون يمنع ارتداء الطربوش و استبدال القبعة به التي كان الناس يعتبرونها لباس أهل الكفر لأن حافة القبعة تحول دون السجود في الصلاة
وتقرر إلغاء الحرف العربي واستبدل به الحروف اللاتينية
وصار ذكر الشريعة من المحظورات التي يعاقب عليها القانون بالسجن 12 عاما وكان المتحدثون يتحايلون على ذلك بالإشارة إليها باسم "الحق " أو وجدان الأمة !! " مللي شعور "
وكانت الذروة للالتحاق بالغرب أن طلب أتاتورك وهو على فراش المرض قبل وفاته من السفير البريطاني في أنقرة أن يخلفه في حكم تركيا ؟ ! طبقا لما أعلنته صحيفة الصنداي تايمز بعددها بتاريخ 14\2\1968 نقلا عن ابن السفير البريطاني الأسبق السير بيرسون ديكسون . المصدر مقال الأستاذ فهمي هويدي بجريدة الأهرام ، وكتاب " الصنم " لضابط تركي ترجم إلى العربية في السبعينات وطبع في بيروت والكويت ، وكتاب " النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة " لشيخ الإسلام في عهد السلطان عبد الحميد الشيخ مصطفى صبري طبع القاهرة عام 1950 و 1985
هذا هو أتاتورك الذي جرى ترويج زعامته بمصر دعما للاتجاهات العلمانية بها ، والذي مدحه الغرب على نحو ما تقول فيه الكاتبة الإنجليزية جراس إليسون في كتابها " تركيا اليوم " ( إن القدر قد ارتفع به إلى أعلى ذروة في بلاده ، ولكنك لا تلمح عليه أنه صاحب مطامع شخصية أو خاضع لأية رغبة في المال أو الأسرة أو الأسرة ، ولو تسنى بقاء السلطان لبقي على عرشه فقد رجاه مرة أن يتقدم بنفسه ليتسلم أزمة الأمور ، ولما ألقى إليه الشعب الشاكر مقاليد السلطنة والخلافة رفضها بتاتا على إخلاص الشعب وجده في اقتراحه ) أليس تعليقا مضحكا هو من شر البلية ؟ وهل غاب عن الكاتبة الموقرة أن الرجل إنما جاء لهدم السلطنة والخلافة أصلا ؟
ويقول فيه عباس محمود العقاد وهو بصدد الطعن في النظم الدكتاتورية والترويج للديموقراطية ( ومصطفى كمال بعد : عالم في فنه ، مطلع واسع الاطلاع على سير القادة والعظماء خطيب فصيح ، وكاتب أديب ، وسائس موفق السياسة ، ومصلح بصير بدخائل النفوس ومواقع الإصلاح ، ورجل اجتماع مستظرف الكياسة ، وإنسان تشرف به الإنسانية ، ويعد في الذروة العليا بين الرجال العاملين . إلى مثل هذه الزعامة تحتاج الأمم . لأن الأمم لا تطلب الزعماء إلا لينهضوا بها فوق ضعف الحرص والضرورة ، وفوق كل الشهوات الباطلة والعروض الزائلة ) ياسلام !! أنظر كتاب " الحكم المطلق " لعباس محمود العقاد مطبعة البلاغ ص 43 - 44
هكذا تضلل الشعوب
وهكذا تتسلل العلمانية في سياق هذا التضليل(13/500)
وهكذا سقطت تركيا معقل الخلافة العثمانية والدولة الإسلامية في حظيرة العلمانية ، وانفرط عقد الشعوب الإسلامية المعقودة حباتها بها وتداعت الأكلة الناقمة المنهومة إلى قصعتها الثرية .
وهكذا تتم المؤامرات التاريخية فاضحة لذيولها من المتسترين عليها تحت غطاء الاستخفاف بما يسمونه ساخرين " نظرية المؤامرة "
وإلى هذا التضليل الذي لم يقابل من الشعوب بوعي مناسب ولم يقاوم بجدية كافية .. ينتسب تاريخ اضمحلال المسلمين - جزاء وفاقا - في القرن العشرين والذي بعده : بدءا من دم الخليفة مرورا بدم التركي والمصري والمغربي والبلقاني والشامي والفلسطيني والعراقي وصولا إلى دماء الشهداء المخلصين القادمين من بعد
هذا ما بدأ تطبيقه بتوسع مندفع منذ ما يقرب من قرن ، في تركيا ، وكان قد بدأ من قبل ولكن ببطء محسوب في مصرما يزال يجر ذيوله حتى اليوم
دخلت بوادر العلمانية مصر - كما يقول الدكتور السيد أحمد فرج- ( مع الحملة الفرنسية ومن يومها عششت في أرضها ولم تخرج أبدا ، تثيرها أحداث فتظهر في ميادان الفكر الديني والسياسي ، وتحجبها أحداث فتختفي إلى حين تظهرها أحداث أخرى وهكذا ، وقد يختلف الشكل الذي تظهر به في كل مرة ولكن الغاية واحدة دائما ") جذور العلمانية ط 3 ص3
ووصف أرنولد توينبي محمد علي بأنه كنابليون " علماني أراد أن يقيم دولة علمانية " جذور ص 11
وينسب الشيخ محمد عبده إلى محمد علي مواقف اشتباه بالعلمنة لا تحسب للدين على الأقل فيقول إنه ( أطلع نجم العلم في البلاد ، ولكنه لم يفكر في بناء التربية على قاعدة من الدين والأدب .. أو وضع حكومة منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل )
ثم يقول : ( وقد لا يستحيي بعض الأحداث من أن يقول : إن محمد علي جعل من جدران سلطانه بنية من الدين .. فليقل لنا أحد من الناس : أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامي .. إلا مسألة الوهابية ، وأهل الدين يعلمون أن الإغارة فيها كانت على الدين لا للدين
نعم أخذ ما كان للمساجد من الرزق ، وأبدله بشيء من النقد يسمى فائض روزنامة لا يساوي جزءا من الألف من إيرادها ، وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن مليون جنيه في السنة ، { } وقرر له ما يساوي أربعة آلاف جنيه في السنة ، وقصارى أمره في الدين أنه كان يستميل بعض العلماء بالخلع ، أو إجلاسهم على الموائد .. أما أفاضل العلماء فقد كانوا عليه في سخط ماتوا عليه ) جذور ص 33 نقلا عن مجلة المنار 5\5\175 - 183
وابحث عن ميزانية الأزهر اليوم وضاعفها ألف مرة لتعلم مدى الضربة التي وجهت إليه والتي ما يزال يعاني أثرها القاتل حتى اليوم إذ حولته موضوعيا إلى جهاز خاضع للسلطة ولو كانت علمانية . فهل أدرك أواعترض أحد من أجداد من يعيرونه اليوم بتبعيته للسلطان ؟
لكن ما الفرق بين موائد محمد علي ، وموائد المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر ، وموائد الأحزاب العلمانية من بعد ؟ ولحساب من يكون هذا الفرق ؟
استمر هذا التيار الذي أراده محمد علي قرابة أربعين عاما ، ثم توقف قليلا حتى جاء عهد سعيد 1854 م ، وهي السنة التي دخل فيها المبشران الأمريكيان مكاج وبارنت مصر ليبدآ نشاط الإرساليات الأمريكية
وأهدى سعيد 1862 للإرسالية الأمريكية مبنى كبيرا ليباشروا فيه نشاطهم ، فمنحوه لقب " الأمير الطيب المستنير " واستمرت هذه الإرساليات في ظل الحكومات العلمانية التي تدعمها القوى العلمانية الأوربية ،
وجاء إسماعيل بعد سعيد فألغى المحاكم الشرعية واستبدل بها القانون الفرنسي الجنائي والمدني الذي ترجمه قلم الترجمة برئاسة رفاعة الطهطاوي عام 1863
وفي هذا العهد طور المبشرون جهودهم في خدمة الفكرة الاستعمارية في العصر الحديث مما دعا الاستعماري الإنجليزي بيتر سميث أن يقول في بداية القرن العشرين ( " باءت الحروب الصليبية بالفشل ولكن حادثا خطيرا حدث بعد ذلك فقد بعثت انجلترا بحملتها الصليبية الثامنة ، وفازت في هذه المرة " ولهذا سميت حملة اللنبي على القدس أثناء الحرب العالمية الأولى في الكتابات الغربية بالحملة الصليبية الثامنة أو الأخيرة ) أنظر " الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية " للدكتور وليم سليمان ، نشر وزارة الثقافة دار الكاتب العربي - ص 18
ومنذ ذلك الوقت سار التبشير والاستعمار والعلمانية جنبا إلى جنب .(14/1)
وفي دراسة له نسب الأستاذ الدكتور عزت قرني - - إلى رفاعة الطهطاوي " علمانية المقصد" ، ورفاعة هو رجل الأزهر الذي بعثه محمد على إلى فرنسا ثم عاد ليقوم بدور مرموق في مجال التشريع والتوجيه ، وبالرغم من هذا الوصف " علمانية المقصد " فإن الدكتور عزت قرني يحتفظ له بالتمسك بعرى الدين قائلا : ( فهذا الرجل العلماني المقصد !! " محترم " للدين !! و " موقر" لشرائعه !! ومندد بالمظالم ، ولكنه موظف كبير عايش محمد علي وإبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل ورضي عنه معظمهم ، وأنعموا عليه الرتب والتشريفات وألحقوها بإقطاعات هامة حتى ترك لورثته عند وفاته ما يزيد على الألف وستمائة فدان ) !!! جذور ص12- و 37 نقلا عن عزت قرني ، العدالة والحرية في فجر النهضة الحديثة سلسلة عالم المعرفة بالكويت ط 1980 ص103
وهكذا فإن الدكتور عزت ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد : شكك في تعارض العلمانية مع الإسلام ، كما شكك في " ذمة " الطهطاوي
أما الدكتور محمد عمارة فينفي القول باتجاه مصر إلى العلمانية في عهد محمد علي إلى إسماعيل .. باستثناء شواهد عن تزايد النفوذ الأجنبي تحت ضغط الدول الاستعمارية ، وبوادر في القضاء الأجنبي ، مستشهدا بتعليق للقاضي الهولندي " فان بملين " بالمحاكم المختلطة إذ يقول عن القضاء القنصلي : ( إنه وليد الاغتصاب الواقع من الأقوياء على الضعفاء ) كما يقول عن قضاء المحاكم المختلطة وكان قاضيا بها ( إنه ركن قوي من أركان السيطرة الأوربية على مصر )
ثم يتساءل الدكتور محمد عمارة : ( فأين هي علمانية مصر في عهد إسماعيل ؟ إن إسماعيل لم يرد لمصر أن تكون قطعة من أوربا وإنما الذي فرض ذلك عليه هو الاستعمار .. وإن قانون مصر وقضاءها لم يتحول إلى العلمانية على عهد الخديوي إسماعيل .. وما الاختراق الجزئي الذي تمثل في المحاكم القنصلية والمختلطة إلا اغتصاب استعماري لجزء من السيادة الوطنية في مؤسسة التشريع والقضاء )
ثم يقول : ( ولم يكن الطهطاوي وأعلام مصر في عهد إسماعيل بالعلمانيين الذين يخونون شريعة الأمة ومنظومتها القانونية ، وهم رغم ترجمتهم لقانون نابوليون كانوا المدافعين عن جدارة فقه المعاملات الإسلامي بتنظيم المعاملات الحديثة .. والساعين لتقنين هذا الفقه تقنينا حديثا محاولين بذلك مقاومة العلمانية التي كانت سلاحا من أسلحة الغزو الاستعماري الزاحف على بلادنا في عصر إسماعيل )
وإذا كان الدكتورمحمد عمارة ينفي علمانية هذه الشخصيات فإنه لا ينفي البوادر العلمانية التي بدأت تتسلل في عهدهم شيئا فشيئا على يد الاستعمار
وهو يقرر في الوقت نفسه أن الأحداث تلاحقت بعد ذلك ، وشهدت الساحة المصرية سباقا محموما بين القوى الوطنية وبين الاستعمار الغربي الذي سعى لاغتصاب مصر اغتصابا كاملا
فلما هزمت الثورة العرابية واحتلت إنجلترا مصر في سبتمبر 1882 نهض الاستعمار الإنجليزي ممثلا في اللورد كرومر ( 1841 - 1917 ) بتوسيع ثغرة العلمانية التي حدثت في عصر إسماعيل ، وكان الانقلاب العلماني الحقيقي الشامل الذي عمت به البلوى في قانون مصر وقضائها
وكان لا بد لهذا الواقع العلماني الذي زرع في مصر من فكر" يبيض " وجهه ويحسن صورته ويدعو إلى تعميمه في ميادين الثقافة والتعليم ، وهو الدور الذي لعبته مدرسة المقطم من أمثال : يعقوب صروف وشاهين مكاريوس وفارس نمر وشبلي شميل ونقولا حداد وجورجي زيدان وفرح انطوان
وشيئا فشيئا اتسع نطاق هذه المدرسة ليضم عددا من الكتاب والمفكرين المصريين وكان من أبرز هؤلاء الكتاب سلامة موسى ( 1888- 1958 ) وتلاميذه في جانب وأحمد لطفي السيد باشا وتلاميذه في جانب آخر ) أنظر محمد عمارة " العلمانية ونهضتنا الحديثة " ص 114- 145- 152
وينسب بعض الباحثين إلى الشيخ محمد عبده رفضه للعلمانية طبقا لكتابه " الإسلام دين العلم والمدنية " وهذا بديهي لمثله ، ومن ذلك قوله في رده على هانوتو ( إني أعرف ما سردته لي عن تاريخ السلطتين الدينية والسياسية في أوربا .. ولكن ذلك مستحيل في الشرق ولا سيما في الحكومات الإسلامية ، والذين يقولون به من الأجانب ليسوا إلا خصوما للمسلمين لاعتقاد هؤلاء أن في فصل السلطتين ضعفا ترومه أوربا لتنال بغيتها منهم ) أنظر " الإسلام دين العلم والمدنية " للإمام محمد عبده ، عرض وتحقيق وتعليق طاهر الطناحي نشر دار الهلال غير مؤرخ ص 46(14/2)
ومع هذا فإن آخرين ينسبون إلى اللورد كرومر كيف اتخذ الشيخ تكأة لسياسته في توطين العلمانية بمصر ، وقد جاء ما يفيد ذلك في تقرير اللورد كرومر لسنة 1905 الذي كتبه بمناسبة وفاة محمد عبده وجاء فيه ما ترجمته ( والأيام وحدها هي التي ستكشف عما إذا كانت الآراء التي تعتنقها المدرسة التي تزعمها الشيخ محمد عبده سوف تستطيع التسرب إلى المجتمع الإسلامي ، وأنا شديد الرجاء في أن تنجح في اكتساب الأنصار تدريجيا ، فلا ريب أن مستقبل الإصلاح الإسلامي في صورته الصحيحة المبشرة بالآمال يكمن في هذا الطريق الذي رسمه الشيخ محمد عبده ، وإن أتباعه ليستحقون أن يعاونوا بكل ما هو مستطاع من عطف الأوربي وتشجيعه ) ومما جاء بتقريره المشار إليه أن اتباع الشيخ محمد عبده يقفون في منتصف الطريق بين الطرفين المتناقضين وهما " المحافظون من المسلمين الذين يتمسكون بالأساليب القديمة في كل شأن من الشئون ويصرون على ذلك ، كما أنهم من ناحية أخرى تفصلهم هوة واسعة عن ذلك النفر من المتفرنجين الذين لم يبق لهم من إسلامهم إلا الأسماء )
ولعل هذه النقطة " المنتصف " بالإضافة إلى ما كان من نشاط الشيخ الاجتماعي والسياسي المشهود في أروقة المتفرنجين وقوة صلته باللورد كرومر ورجال السفارة هي التي جعلت الشيخ موضع الشبهة ، وهدفا للسهام تنهال عليه ولا تزال من الطرف الأول . ساعد عليها أن كان الشيخ شديد الطعن في رجال الأزهر الذي كان يطلق عليه وصف " الاصطبل " و " المخروب " و" المارستان " وهم عادة من الطرف الأول . (!!) أنظر الدكتور محمد محمد حسين في كتابه " الإسلام والحضارة الغربية نشر مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة السابعة لعام 1985 ص80 - 81
ومهما يكن فمع جهود المعارضين للعلمانية تفوق دعاة العلمانية ، لأن خطتهم كانت واضحة ومدروسة ومستمرة استمرار الزحف الصليبي " فوق الألفي " بينما كانت خطط الإسلاميين وليدة الأحداث ، تظهر كردود فعل وقتية ثم تخبو وتختفي كأن لم تكن ، ونجحت من ثم خطة الاستعمار والمبشرين في فصل الدين ( الإسلامي ) عن السلطة السياسية بدون جلبة ولا ضوضاء
وقد بلغت هذه الخطة ذروتها على يد اللورد كرومر في مصر الذي ( بدأ حملته في أواخر 1906 منددا بالمصلحين الإسلاميين الذين أظهروا ميلا إلى إيقاظ العالم الإسلامي - ومعترفا في تقرير له نشرته مجلة المنار - بأن الحركة الوطنية المصرية في وقته مصبوغة صبغا شديدا بصبغة الجامعة الإسلامية ، ذاهبا إلى أن المقصود بالجامعة الإسلامية بوجه الإجمال : اجتماع المسلمين في العالم كله على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها ، مقررا أن الحركة الإسلامية تستلزم السعي في إصلاح أمر الإسلام على النهج الإسلامي ، وبعبارة أخرى السعي في القرن العشرين في إعادة مبادئ وضعت منذ أكثر من ألف سنة (!!) لهيئة اجتماعية في حالة من الفطرة والسذاجة .. مناقضة لأهل هذا العصر ) جذور ص 44 - 46 - 49 نقلا عن تقرير له نشرته جريدة المنار 10\214 - 218
وتصدى الشيخ محمد رشيد رضا للرد على مزاعم كرومر الواردة في هذا التقرير وإن كان الشيخ رشيد رضا قد بدا منهزما في رده نافيا تفكير المصلحين في الجامعة الإسلامية ، راجعا بهم إلى محض الدعوة الوطنية السياسية " ولم تفتأ هذه الدعوة أن علا صوتها شيئا فشيئا من تركيا ذاتها حيث أدت إلى تمزيق دولة الخلافة ، ولقد أدى ذلك التطور إلى الأدنى - وفقا لرأي الدكتور السيد فرج - من فكرة الجامعة الإسلامية إلى فكرة الوطنية إلى حدوث أمرين خطيرين وكان كلاهما ذا قوة سلبية مدمرة للأمة الإسلامية
أولهما : أن وقف المسلم العربي في وجه المسلم التركي فيما بعد في الحرب العالمية التي أدارها الاستعمار الغربي خصمهما معا
ثانيهما : أن تلقف المثقفون العرب المسيحيون وتبعهم المسلمون وكلهم علمانيون الفكرة الوطنية فرفعوا أصواتهم يرددون أن الوقت لم يعد مناسبا لرابطة إسلامية . جذور ص 48- 49
وقامت تيارات الماسونية والتبشير والتعليم والبعثات التعليمية والصحافة بتعبيد الأرض لبذر بذور العلمانية وتعهدها بالرعاية والتطبيق
تيار الماسونية التي يقول عنها الشيخ رشيد رضا ( لم يكن لها من ثمرة إلا إعداد النفوس لفصل السياسة والحكومة من الدين ، والاستغناء عن الشرع بالقوانين ، والمؤاخاة بين المسلمين وغيرهم وموالاتهم لهم ) مجلة المنار 15\33
وتيار التبشير الذي بلغ عدد الأمريكيين المنخرطين في مؤسساته في أنحاء العالم 27733 طبقا لإحصاء عام 1958 - د وليم سليمان مرجع سابق ص 54 -
وجاءت مهمة مجلس الكنائس العالمي الذي يحركه رئيسه الفخري العلماني الأمريكي جون رالي موط من أجل العمل وفقا للخطة الاستعمارية في " إبعاد الدين عن الحياة في البلاد الإسلامية من كل مشاركة أو اقتراب في الحياة السياسية أو الاجتماعية او الاقتصادية إبعادا تاما قبل اهتمامهم بالتبشير بالدين المسيحي " . جذور العلمانية ص 53-54(14/3)
وتيار المدارس التي أنشأها الأوربيون في أنحاء بلاد الخلافة العثمانية والتي اعترف المبشرون بأهميتها في تربية الأجيال الجديدة من المسلمين على تقبل الأفكار العلمانية ، وظهر ذلك الاعتراف في مؤتمرهم الذي عقد في عاصمة الدولة العثمانية في العقد الثاني من القرن العشرين ، وقد نشر هذا الاعتراف في مجلة " العالم الإسلامي " التي يحررها هؤلاء المبشرون باللغة الإنجليزية والفرنسية وقد جاء فيه ما نصه : ( اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوربيون كان لها تأثير كبير في حل المسألة الشرقية ، يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوربا كلها ) جذور العلمانية للدكتور السيد فرج ص 31 نقلا عن المنار للشيخ رشيد رضا 12\824
وكما كان للمدارس المحلية المتفرنجة فقد كان للبعثات التعليمية للخارج دور شديد الأهمية
وكما يقول الدكتور السيد أحمد فرج : شهدت العشرينات من القرن العشرين في مصر أعنف موجة ثقافية تعمل للانسلاخ الكامل من الإسلام ، وقد تزعمها المثقفون الذين تربوا تربية أوربية وتثقفوا بثقافة غربية في معاهد العلم الإنجليزية والفرنسية ، وكان من الطبيعي أن يعود هؤلاء الشباب بعد تعليمهم في انجلترا وفرنسا بآراء حديثة ، تتمثل في التحرر الفكري ، وتتجه بأنظارها إلى هذه الدول الأوربية كمثل أعلى تحاول تقليده ، وأكملت هذه المجموعة من الجيل الناشئ مجهودات بعثات التبشير والبعثات العلمانية التي كانت تعمل داخل الإقليم منذ سنوات ، وأصبح اتجاه الجامعة الإسلامية بالنسبة إليها يعد تقليديا أو قديما ، ويمثل حركة رجعية ترجع بالأمة إلى بضعة قرون ، وتزايد من ثم الشعور بفكرة الوطنية أو القومية
وهكذا قامت هذه التيارات من الماسونية والتبشير والمدارس المتفرنجة والبعثات التعليمية للخارج بدور هام في تنفيذ الخطة التي كان من المفترض أن تقوم على التسلل شيئا فشيئا بهدوء ودون جلبة أو ضوضاء في تونس ومصر خلافا للطريقة الجافة المتسرعة التي تم بها العمل في تركيا
ففي تونس ، يقول هانوتو وزير خارجية فرنسا في مقاله الشهير الذي رد عليه الشيخ محمد عبده : ( تمكنا بواسطة ما أدخلناه من التعديلات الطفيفة شيئا فشيئا من التداخل في شئون البلاد والقبض على أزمتها بدون شعور من أهلها وقام بإعمال هذا التغيير والتبديل وهذا النسخ والتحويل عدد قليل من الموظفين التونسيين ) ويستطرد هانوتو قائلا ( إذن يوجد الآن بلد من بلاد الإسلام قد انفصم الحبل بينه وبين البلاد الإسلامية الأخرى شديدة الاتصال ببعضها ، إذن توجد أرض تنفلت شيئا فشيئا من مكة ومن الماضي الإسلامي .. أرض يصح أن تتخذ مثالا يقاس عليه ) جذور ص 51 نقلا عن د سامي عزيز في كتابه الصحافة المصرية ص 101
وما فعله الفرنسيون في تونس فعله الإنجليز في مصر يقول اللورد كرومر ( على الإنجليز مهمة كبرى هي محاولة ربط مصر بهم ، وصبغها بصبغتهم أو الصبغة التي ترضى فيما بعد أن تكون البلاد جزءا لا يتجزأ من الدولة البريطانية ، كل هذا دون إثارة إحدى الدول ، ودون عنف ، ودون اتخاذ إجراءات قاسية ، ولكن بهدوء وصبر وطول أناة … وبالمصريين المتربين تربية أوربية ) جذور ص 52 نقلا عن د سامي عزيز - الصحافة المصرية ص 224 ، واللورد كرومر : عباس حلمي مطبعة محمد محمد مطر ص 46
وقامت الصحف والمجلات الخادمة لأغراض الاستعمار بدورها الظاهر في بذر بذور العلمانية
فبالإضافة لمؤسسة المقطم المسيحية كانت الصهيونية قد أنشأت لها جرائد ومجلات في مصر تمهد لاحتلال فلسطين قبل انعقاد مؤتمر بال عام 1897 مثل : جريدة الحقيقة 1889 ومجلة الزراعة 1890 ومجلة نهضة إسرائيل عام 1890
وظهرت المجلات التي أصدرها أصحاب دار المقطم - مجلة المقتطف العلمية 1885 ومجلة اللطائف الأدبية 1886 وصحيفة المقطم السياسية 1889 - والتي تربى أصحابها الثلاثة في أكبر مدرسة تبشيرية في الشرق في ذلك الحين وهي الكلية الأمريكية في بيروت ، واقترن أحدهم وهو فارس نمر بابنة قنصل انجلترا بالإسكندرية ، وسافر إلى انجلترا واجتمع بكبار السياسيين فيها ، وشرب أفكارهم قبل إصدار جريدة المقطم بعام ليبثوا فيها الأفكار العلمانية التي يجب أن ينفثها للمصريين - انظر سامي عزيز في كتابه : " الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي نشر دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ص 97 -
وقد بذر هؤلاء بذورهم العلمانية على أساس الضرورة والمصلحة وأنها تحتم على المصريين أن يرتبطوا بالغرب ، وأن يأخذوا بكل ما يقدمه الأوربيون من خير للمسلمين ، ثم انتقل هذا الرأي إلى المسلمين ، وانتشر بينهم في صورة مبدأ التوفيق بين " الإسلامية والأوربية " الذي استخدمه الصحفيون المسلمون بعد الصحفيين المسيحيين ليكون ذريعة لهم في تملق الاستعمار والتعاون معه والدعوة لمبادئه ، حتى تكون رأي عام يرى أنه لا خطر على البلاد من هذا التقليد ، بل على العكس يكمن فيه سر تقدم البلاد ومدنيتها(14/4)
واستعانت إحدى هذه الصحف بعناوين لمقالاتهم من آيات قرآنية لتخدم أغراض المحتلين كقوله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " !! " ومما جاء بأحد مقالاتهم : ( أن عقلاء الأمة والخبيرين منهم بأغوار السياسة لا يكرهون احتلال الإنجليز ، لا حبا في ذاتهم ولكن لما يرونه من المنافع لبني جنسهم مما يحصل بأيدي الإنجليز ، ودفع المضرات التي لا يمكن دفعها بدونهم ) أنظر سامي عزيز المصدر السابق ص 139
ولقد أثرت هذه النزعة كما يقول الدكتور السيد فرج في الصحافة المصرية التي يحررها مسلمون ، فبعد ربع قرن من هذه الدعوة للمصريين بضرورة موالاة المحتلين الغربيين للمصلحة نادى من أطلقوا عليه أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد باشا بضرورة نبذ فكرة الإسلامية ، نبذا تاما بدافع المصلحة أيضا وذلك في جريدته " السياسة " في يناير 1912 ، داعيا إلى عدم معاونة بعض المسلمين الذين بدأوا في جمع المساعدات لأشقائهم في ليبيا الذين وقعوا تحت الاستعمار الإيطالي ) جذور العلمانية ص 56 - 61 ، نقلا عن مجلة المنار 15\34
وأخذ يندد بمن سماهم البلهاء من المجاهدين ومن قدموا المعونة لليبيين ، وفي مقدمتهم عزيز المصري وعبد الرحمن عزام ، وفاجأ الناس بسلسلة مقالات في الجريدة التي كان يصدرها ويملكها بعنوان " سياسة المصالح لا سياسة العواطف " ورأى فيها أن من مصلحة مصر نبذ الليبيين ، وعدم معادة الإيطاليين ، وأن مصلحة مصر تناقض مصالح شقيقاتها العربيات ، وكان من أسوأ ما جاء في هذه الجريدة استنكاره ( للحركة الحاضرة بمصر - آنذاك - لأن إعانة ليبيا على حرب إيطاليا قد ظهرت بشكل الجهاد الديني وهذا خطأ ضار بمصر ) جذور العلمانية ص 74-75 ، نقلا عن مجلة المنار 15\34 متجاهلا شعار الجندي الإيطالي في هذه الحرب : ( سأبذل دمي في سبيل محو هذه الأمة ، ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان ، سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن ) أنظر الأمير شكيب أرسلان " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم " ، نشر دار مكتبة الحياة في بيروت ط 1965 ص 52
وغالى لطفي السيد وجيله في نبذ الإسلامية والدعوة إلى الوطنية ، فقال في عام 1913 ما يقوله بعض القوميين والوطنيين اليوم ( كان من السلف من يقول بأن أرض الإسلام وطن لكل المسلمين ، تلك قاعدة استعمارية !! تتمشى مع العنصر القوي الذي يفتح البلاد باسم الدين …. أما الآن فلم يبق إلا أن يحل محل هذه القاعدة المذهب الوحيد .. مذهب الوطنية ) جذور ص 75 نقلا عن محمد جابر الأنصاري - تحولات الفكر في الشرق العربي من 1930 - 1970 ص 120 سلسلة عالم المعرفة الكويت 1980
وعمل لطفي السيد بكل طاقته لحذف فكرة الإسلامية من أذهان المسلمين بمصر ، وكان يقدمها كمثال في هذا المجال فيقول : ( إن أول معنى للقومية المصرية وتحديد الوطنية المصرية يكون في الاحتفاظ بها والغيرة عليها غيرة التركي على وطنه والإنجليزي على قوميته ، لا أن نجعل أنفسنا وبلادا أخرى على المشاع وسط ما يسمى خطأ بالجامعة الإسلامية ، ) جذور 75 نقلا عن احمد لطفي السيد - " مبادئ في السياسة والأدب والاجتماع " كتاب الهلال أغسطس 1963 ص 126
ومن اللافت للنظر أن كان لطفي السيد من طليعة الباشوات الذين أيدوا ثورة 1952 بالرغم مما بدر منها من طابع استبدادي
وفي هذا السياق نشأت طبقة الباشوات المثقفين المتفرنجين من أمثال : سعد زغلول وعلى عبد الرازق ، ومحمد حسين هيكل ، وقاسم أمين ، وطه حسين الذي يقول في مقال نشرته جريدة كوكب الشرق عام 1933 ( إن المصريين قد خضعوا لضروب من البغض ، وألوان من العداوات ، جاءتهم من الفرس واليونان ، وجاءتهم من العرب ) محمد جابر الأنصاري مرجع سابق ص 1329
هكذا قُدر - كما يقول الدكتور السيد فرج - : ( أن يتسرب الضعف والانهيار الكامل لفكرة " الإسلامية " حتى لم يعد جماهير المسلمين أنفسهم يأبهون بها ، وقامت الثورات العربية ضد الاستعمار الغربي ولم يكن طابعها إسلاميا ) ص 76
ويجتهد الدكتور محمد عمارة في نفي ما يزعم من أن سعد زغلول كان علمانيا وينقل عن سكرتيره استنكاره لكتاب " الإسلام وأصول الحكم " لعلي عبد الرازق ، واتهامه لصاحبه بالجهل ، وموافقته على قرار هيئة كبار العلماء بإخراجه من زمرة علماء الأزهر ، يقول سعد زغلول ( فذلك أمر لا علاقة له مطلقا بحرية الرأي التي تنعيها " السياسة " ) والمقصود جريدة " السياسة " التي يرأسها أحمد لطفي السيد الخصم السياسي لسعد زغلول ويستمر سعد زغلول بما يعتبر اعتراضا قويا على القول بعلمانية الإسلام قائلا : ( إن الإسلام دين مدني ودين حكم .. ولا يزال حتى اليوم مصدر الأمن والطمأنينة للذين يحكمون بالإسلام .. وأن القول بالعلمانية لهو هدم لقواعد الإسلام الراسخة .. ) ؟! نقلا عن كتاب " سعد زغلول ذكريات تاريخية " لمحمد إبراهيم الجزيري ص 92-93(14/5)
كذلك يؤكد الدكتور محمد عمارة تراجع علي عبد الرازق صاحب كتاب " الإسلام وأصول الحكم إذ يقول : إن ( علي عبد الرازق تراجع عن موقفه في صمت إذ رفض إعادة طبع كتابه وشرع في كتابة هذا التراجع لكن الأجل لم يمهله وفقا لرواية ابنه ) لكن كيف " يعلن " المفكر رأيه فإذا تراجع تراجع في " صمت " ؟ ولماذا ينتظر أن يكتب ؟ وما معنى هذا التراجع بالنسبة لمن ابلغهم رأيه من قبل " علنا " ؟ وياله من " علن " على مستوى " العالم " ؟
أما الدكتور محمد حسين هيكل فقد تراجع عن علمانيته كما يظهر بخاصة من بعض كتبه " في حياة محمد " و " منزل الوحي " " وأبو بكر الصديق " " والفاروق عمر " " والحضارة الإسلامية "
وإنه ليسرنا تبرئة زعمائنا ومفكرينا من هذه الوصمة ، وتراجعهم عما بدءوا فيه ، لكن هذا لا ينفي أن موجة العلمانية في مصر صارت عارمة وأفرزت ما أفرزته على المستوى الشعبي وبخاصة في المجال الفكري والثقافي والتشريعي
يقول السلطان عبد الحميد : ( هاهم - أي الإنكليز - قد أخضعوا المصريين بأفكارهم لدرجة أن البعض منهم يؤمن الآن بأن طريق الإنكليز هو السبيل إلى الأمن والنجاة ، ويفضل القومية على الدين (!!) إنهم يظنون أن حضارتهم ستمتزج بحضارة الغرب دون أن يشعروا بأن هناك تضادا بين الحضارة الإسلامية والحضارة النصرانية بحيث لا يمكن أبدا التوفيق بينهما ) أنظر مذكرات السلطان عبد الحميد ص 133
وعلى كل حال ومع التجاوز عن تحليل مواقف شخصيات بعينها فإن التيار العلماني بلغ ذروته في ثورة 1919 ولولاها ( ما كان يمكن للفكر السياسي أن ينتقل من فكر العصور الوسطى إلى علمانية وليبرالية القرن العشرين ) على حد تعبير الدكتور مصطفى الفقي في بحثه بعنوان " الأقباط في السياسة المصرية " ضمن كتاب " الشعب الواحد والوطن الواحد " مركز الدراسات السياسية بالأهرام لعام 1982 ص 87
وبعد ثورة 1919 أبيح لكل الأفكار العلمانية والليبرالية أن ترعى في مصر وتسرح وتمرح ، وأصبح لكل فكر وافد ملتقطوه كالوجودية والاشتراكية والشيوعية واالبراجماتية
وقام حزب الوفد بدوره على المستوى الجماهيري بتجميعهم حول شعاره العتيد : الدين لله والوطن للجميع " ولكنه تنازل عنه بعد ظهور الصحوة الإسلامية في عنفوانها كما جاء في بيان الوفد الجديد 11\3\1984 فقد أعلن رئيسه آنذاك أنه يرفض العلمانية التي تؤدي إلى الفصل بين الدين والدولة كما يرفض الدولة الدينية ! " الوفد 22\3\1984 ، وعارضه كثيرون من الوفديين المنسلخين عنه ، ونشر أحدهم مقالا في جريدة الأحرار 2\4\1984 ينكر على الوفد ردته عن العلمانية ، واشترط بعض الوفديين لرفض العلمانية رفض بعض شرائع الإسلام كقطع يد السارق !!! .
ولم يكن هذا الزحف العلماني بغير رد فعل على الجانب الآخر وكان من مظهره المصاحب لتطورات القرن العشرين نشوء الصحوة الإسلامية على يد جماعة الإخوان المسلمين ، والتي أسسها الشهيد حسن البنا عام 1929 والتي سيطرت على الشارع لفترة طويلة ، تيقظت فيها العلمانية للخطر القادم من جهتها ، وحيث كانت وما زالت وحيدة في مواجهتها للتيار العلماني شديد التغلغل فقد نالها في هذه الدورة ما لم ينل مثيلاتها من هذا التيار أو ذاك ، إذ تعرضت لعملية استئصال بشري ومؤسسي وثقافي لا يزال يمارس ضدها حتى اليوم
وبالرغم من ذر الرماد في العيون ضحكا على ذقون من لا يزال يتمسك بأهداب الصحوة .. عندما جاء النص في دستور بعض البلاد الإسلامية على أن " الإسلام هو دين الدولة " ، وأن الشريعة " مصدر " أو " المصدر" للتشريع ، تهدئة للصحوة الإسلامية فإن مظاهر تطبيق العلمانية في بلاد الإسلام استمرت متوسعة إلى حد يفوق الحصر: وجرى التطبيق باستبعاد الدين ، اللهم إلا في منبر الدعاية والتأييد :
فبالإضافة إلى شعار حزب " الغالبية" : " الدين لله والوطن للجميع " ومحاولة تعديله ثم محاولة الرد على هذا التعديل
أطلق زعيم حزب " الغالبين " شعاره الأشد صرامة ووضوحا " لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة "
وقالوا للأزهر الذي كان ينادي بتطبيق الشريعة : عليك أولا بتقديم مشروعات قوانين من الشريعة الإسلامية ، فلما فرغ من ذلك في عهد الدكتور عبد الحليم محمود حيث أتم مشروعه الكبير في تقنين المذاهب ، ثم في تقنين الشريعة بعامة ، وقدمه لمجلس الشعب فيما سمي " تقنين الشريعة الإسلامية" واحتفى به زمنا رئيس المجلس آنذاك الدكتور صوفي أبو طالب .. قالوا بتواضع شديد : مالنا ولذاك : يكفينا مراجعة ما صدر إن كان مخالفا للشريعة أم لا ، ثم انتقلوا إلى مستوى أكثر تواضعا : يكفينا مراجعة ما سوف يصدر ، ولترقد ترسانة القوانين المخالفة في أمان ، ثم .. ثم ضرب عن ذلك كله صفحا ، وزغردت العلمانية على الأشهاد .
وقررت كل سلطة ما قررت في موضعها :
قال القابضون على قانون الطوارئ : " لا حزب سياسيا بشعار ديني "
ولا دخل للدين في معاهدات الصلح والتطبيع مع العدو
وتقرر أنه لا حجاب للمشتغلات بالتدريس
وأنه : لا دخل للدين في الاقتصاد والتجارة والبنوك مهما كانت ربوية إلا إذا تقدم الشيخ لتشريعها
وأنه : لا دخل للدين بالسياحة(14/6)
وأنه : لا دخل للدين بملابس الرياضيين المكشوفة للجماهير
وأنه : لا دخل للدين فيما يصدره المشرعون من قوانين مخالفة له في جرائم وآداب
وأنه : لا دخل للدين بأحكام القضاء عند تطبيق قوانين مخالفة له في جرائم وآداب ومخالفات ومنازعات
وأنه : لا دخل للدين بما يدور أو يتقرر في مؤسسات الشرطة وشوارعها وسجونها
وأنه : لا دخل للدين في عقيدة الجندي الذي يعدونه للسلم اكثر مما يعدونه للقتال
وأنه : لا دخل لمنابر المساجد بما يدور سياسيا وما يدور عسكريا وما يدور ثقافيا
وأنه لا دخل للدين بالفن وهو شعار وزارات الثقافة والإعلام وهي تصدر الكتب والقصص واللوحات وتقيم المؤتمرات وتدير المعاهد الفنية والصالات الاستعراضية والقنوات التليفزيونية وتنتج أو تراقبا المسرحيات والأفلام والمسلسلات والغنائيات والموسيقيات و" الفيديوهات كليبات " !!
وتقرر منع المحجبات من الخروج على شاشة التليفزيون
وأنه لا دخل للدين بحرية المرأة في الملبس والاختلاط في الشارع أو النوادي أو دور التعليم
وأنه لا دخل للدين بتحريم شيء من " التبرج " للمرأة الراغبة في الاستعراض ولو أدى الأمر إلى الإثارة ثم التحرش الجنسي الذي على الرجال أن يدفعوا ثمنه
ولا بأس من ارتكاب شيء من التناقض في شئون المرأة - مثلا - حيث يتم الاستجابة لتعليمات الحداثة والتمكين فيما يتعلق بشئون الأسرة ، والاستجابة لتعليمات الدولة في الدعوة لصلاتها في بيتها ومنعها من الصلاة بالمسجد خوفا من شيوع مظهر الحجاب في الطرقات الذي يصاحب خروجها إلى هذه الصلاة عادة !! طالما كان هذا التناقض من أجل عيون العلمانية .
ولنقرأ هذا المنشور الطريف الصادر من وزارة الشئون الدينية بتونس
( الموضوع: خطبة الجمعة ليوم 21 مايو 2004
المرجع: منشور وزارة الشؤون الدينية عدد 003786 بتاريخ 27 إبريل 2004
المصاحيب: وثائق
وبعد، فتبعا لمنشور وزارة الشؤون الدينية المذكور بالمرجع أعلاه والمتعلق بخطبة الجمعة ليوم 21 مايو 2004 وإسهاما من الخطاب الديني في احتفال بلادنا باليوم العالمي للأسرة الموافق ليوم 15 مايو 2004:
المرغوب منكم تخصيص الخطبة الأولى ليوم الجمعة 21 مايو 2004 لموضوع عناية الدين الإسلامي الحنيف بالأسرة باعتبارها الخلية الأولى في المجتمع مع بيان دورها في توجيه السلوك الاجتماعي والتربية على مكارم الأخلاق واستعراض المكاسب والإجراءات التي تحققت لفائدتها بحرص موصول من لدن سيادة الرئيس "زين العابدين بن علي"، هذا ويتم تخصيص الخطبة الثانية لبيان صلاة المرأة في بيتها وعدم مطالبتها دينيا بالخروج إلى المساجد.
وتجدون صحبة هذا وثائق تتضمن نصوصا دينية وأخرى تتضمن بيانات حول مكاسب الأسرة في تونس قصد الاستئناس بها عند إعداد خطبكم !!.
والسلام . ( نقلا من إسلام أون لاين 31\5\2004 )
إنه مثال وياله من مثال ناطق بجوهر العلمانية حيث يعني : حصار الدين في داخل جدران المسجد ، محكوما عليه بأن لا تبدو لحركته في داخل المسجد انعكاسات بحركة - أي حركة - في خارجه
إنها العلمانية التي تعني بكل وضوح استبعاد الدين عن كل ما يتصل بما هو خارج حدود المسجد
فإذا زعموا أنها لا تصطدم بتعاليم المسيحية فهل يجرؤن على الزعم بأنها لا تصطدم مع تعاليم الإسلام ؟ ذلك ما نتولى الرد عليه في مقال قادم
والله علم
===========(14/7)
(14/8)
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى ...
د.سعد بن عبدالله البريك
حتى تطالب بعزل الدين عن كثير من شؤون الحياة ، وحتى تتبرَّم من '' سيادة الشريعة '' مندداً بصوت جهوري '' إلى متى يبقى المجتمع خاضعاً للونٍ واحد ولفكرٍ واحد'' ، ''أين التعددية ''؟.
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تعمل على '' كسر الثوابت '' و'' خلخلة المسلَّمات '' ، بـ '' حرية الرأي '' واحترام '' الرأي والرأي الآخر '' لتوجِد لنفسك أرضية تستطيع الانطلاق منها ما دام رأيك نقيض الشريعة .
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تقبل التعامل بمصطلحاتهم ولا تطالب بتحديد مقاصدها ، ولك بهذا أن تمرَر تحت '' حرية الرأي '' و'' قبول الرأي الآخر ''كل ما يخالف الشريعة .
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تهاجِم الدعوة إلى الله باستمرار وتحاول أن توهم الناس أن '' الدين هو سبب تخلفهم وانحطاطهم ''، ولا بد من نبذه ظهرياً للسير في ركب الحضارة والتقدم .
ولأجل ذلك لا بد أن تحسن '' استغلال الأحداث'' وأن تعرف '' من أين تؤكل الكتف '' وأن تكون صياداً ماهراً لتتمكن من '' الاصطياد في الماء العكر '' فإذا قام أهل الضلال والانحراف بأعمال تفجير أو قتل ، عليك استغلال هذه الحادثة لمهاجمة حلقات ومدارس تحفيظ القرآن ومكاتب الدعوة وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنها سبب ذلك وأنها '' تزرع وتُفرَخ الإرهاب '' في رؤوس رُوَادِها .
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تهاجِم العلماء بأنهم '' علماء السلطان'' و''لا مصداقية لهم'' ، وأنهم في ''أبراجهم العاجية'' لا يعيشون نبض المجتمع ولا يتفاعلون مع مشكلاته ، وحتى تزرع إسفين الفُرقة بينهم وبين الدعاة بتصوير هؤلاء الدعاة أنهم دعاة تطرف وفتنة وخروج على ولاة الأمر ، فإذا زرعتَ هذا الإسفين بينهم ؛ اختلفوا وتنافروا وسقطوا من أعين الناس ، وحينئذ تستطيع اصطياد العامة والبسطاء من الناس .
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى يكون ولاؤك وحبك للغرب وحضارته بعُجَرها وبُجَرها ، وحتى تنافِح ما استطعت عنها ، وتعمل على تسويق قيمها ومُثُلِها ، وإن لم يبادلك الغربيون الشعور بالحب لك أو السعي لتسويق قيم ومفاهيم حضارتك وثقافتك ، وعليك المحافظةُ على هذا الولاء حتى ولو ''شتموا دينك'' و''أهانوا قرآنك'' و''قتلوا بني جلدتك'' و''اغتصبوا النساء'' و''احتلوا الديار'' و''نهبوا الثروات'' ، وليكن ''تحريك الشهوات وإثارة الغرائز '' سلاحك الماضي لتسويق التغريب ، وإذا ترافق مع هذا السلاح تهميش الدين من الأنفس وانتقاص العلماء والدعاة ، سهُل عليك إيقاع الناس في فخ ''التغريب'' .
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تكون دائم التأهب والترقب فإذا بان من عوار الغرب شيء ، فعليك أن تبادر إلى ستره وتغطيته ، حتى ولو '' سَبَّ نبيك r واستهزأ به '' وَوصفَه بأشنع الأوصاف ، لأن '' العالمية '' تقتضي منك أن تتجاوز الإقليمية والصراعات الدينية.
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تُغْفِلَ قضايا المسلمين الأساسية والملِحَّة ، وتعمل على تهميشها إلى أقصى حد ممكن ، لأن في تفعيلها إيقاظا للناس.
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تهاجِم المناهج مدعياً أنها '' تربي الطلاب على الإرهاب '' ، وأنها '' تحشو ذهنه بما لا فائدة منه ''. وإذا كان لديك إلمام جيد بإحدى اللغات الغربية ، قُمْ بترجمة مقاطع من هذه المناهج وأرسلها إلى الدوائر المعنية هناك ، لإقناعهم بأن مناهجنا ''تؤسس الكراهية ضد الآخر ''. وليكن تركيزك على مناهج بلادك ولا تتطرق لغيرها، حتى مناهج اليهود التي تنضح بالعنصرية والكراهية والدموية ، لا تقرَبْها لأن ذلك لا يخدم مخطط ''التغريب ''.
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تعلم أن كلمة السر للفوز بمحبة القوم هي ''المرأة '' فاعمل على تسخير قلمك للنيل من حجابها موهماً أنه '' تقييد لحريتها'' ، وأنه '' كفن أسود أجبرت عليه وهي لا تزال على قيد الحياة '' ، وعليك أن تدندن حول '' حقوقها المهضومة '' ، سيما حقها في العمل السياسي وغيره وحقها في عدم الانفصال عن ''النصف الآخر '' ـ الرجال ـ وحقها في أن تكون حرة في كشف ما تشاء من جسدها . وعليك أن تتجاهل عمداً حقوقها المشروعة كحقها في الحياة الكريمة وحقها في الحصول على ما أوجب الله لها من الإرث ، وحقها في الزواج ممن تختار دون إكراه ، وحقها في مالها دون أن يسطو عليه أحد ، واحذر من إثارة هذه المشاكل لأن ذلك يهمش القضايا التي يدندنون حولها ويفسد دعوى '' تحرير المرأة ''.
وختاماً حتى يرضى عنك العلمانيون ، لا تحرج ''أمريكا في الكيل بمكيالين ''ولا تتحدث عن '' مفاعل ديمونة '' ولا تسكت عن نزع السلاح النووي في المنطقة ولا تذكر أسرى ''غوانتانامو'' ولا تتحدث عن الاضطهاد والاغتصاب والتعذيب في ''أبو غريب '' ولا تفتح صفحة العذاب المنسية في أفغانستان ، وكن حذراً قوي الشك من كل من رفع رأسه بالسنة وحفِظَ سمتَهُ في الالتزام بها .
هذه هي '' الخلطة السحرية '' الكفيلة بجعلك محبوباً عند دعاة التغريب، وعلى قَدْرِ مهارتك في تحضير هذه الخلطة يكون نصيبك من الود والقُرْب.(14/9)
وإذا فعلت هذا كله أحبك كل منافق شرح بالكفر صدراً ، وجهر بالدعوة إلى هدم المكتسبات جهراً ، وأبرم مع الأعداء في السر أمراً ، ولاكَ لسانه في المصلحين كذباً ومكراً ، وتقرب بدعوى النصح سوءاً وغدراً .
والمسكين من صدَّق وعودهم أو وثق بهم أو ركن إليهم فَمَثُلاتِهِم في رفاقهم معلومة ، ومن حمل الأفاعي في مَزَّادته فلا يعجبنَّ مِن غرائب سُمَها
==============(14/10)
(14/11)
العلمانية وسيلة الغرب لتمكين الطائفية في العالم العربي
تتزعم جهات مرتبطة بأوروبا وأمريكا حركة العلمانية والعلمنة في العالمين العربي والإسلامي. وتعمل هذه الجهات على نشر العلمانية والترويج لها بأساليب يكاد يعجز المتابع عن ملاحقتها مع تعددها وتشعبها.
فمراكز الأبحاث والدراسات تخرّج يوميًا الكثير من الأوراق والأبحاث تحبّذ العلمانية كبديل عن الإسلام, والتي تحبذ علمنة الإسلام بإفراغ محتواه الديني أو المقدس، كما يسمى، وتحويله إلى مجرد كم ثقافي وضعي هو بحاجة ماسة إلى نقل الفكر الليبرالي الغربي البراجماتي المسيطر في أشكاله الراهنة كي يستطيع مواكبة العصر ومجرد البقاء. وتضخ أموال ما يسمى بالمعونات والمساعدات الغربية لتشجيع أصوات ونخب محلية على الترويج للعلمانية، كما يستخدم النفوذ الغربي، وبالذات الأمريكي، لتشجيع أو إجبار الحكومات والأنظمة القائمة على إرساء العلمانية في كل نواحي الحياة في بلادهم والتحول إليها مع التغريب في المجالات القانونية والدستورية كمدخل إلى سائر النشاطات الحياتية والاجتماعية على مستوياتها المختلفة. وتكثر الكتابات والمواد الإعلامية الموجهة لدعم العلمانية وطرح الالتزام بها باعتبارها العلاج والحل السحري لشتى قضايا ومشكلات المجتمعات... إلخ.
ولكن في خضم هذا الطوفان القادم من الغرب - وعلى الأخص الأوروبي الذي يدعو إلى العلمانية - نجد مصاحباً له زخماً آخر لا يقل قوة يصب في اتجاه الطائفية, بمعنى تشجيع ودعم الهوية الدينية للأقليات غير المسلمة على امتداد العالم العربي والإسلامي, حيث أصبحت الجهات الغربية، وبالذات الأمريكية، تلح على قضية ما يسمى بالأقليات الدينية في العالم العربي تصر على طرح هذه القضية دينية الطابع والقائمة على توكيد الهوية والانتماء الديني على كل أجندات العمل في المنطقة, بل وفرضت هذه القضية على أجندات العمل الداخلية للأنظمة والنخب المؤثرة والثقافية في العالم العربي.
ولما كان طرح هذه القضية يقوم بشكل بحت على التأسيس الديني المحض للهوية ومفهوم الطائفة، فإننا نجد أنفسنا مواجَهين بتناقض جوهري لا يبدو أن الغرب أو أحدًا في المنطقة العربية الإسلامية يهتم بمناقشته, ناهيك عن أن ينتقده ويكشفه.
الرسالة الموجهة، من الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي إلى العالم الإسلامي الآن تقوم على أساس وجوهر هو تنحية الدين 'أي الإسلام' وإقصاؤه عن كافة نواحي الحياة تحت مسمى شامل هو العلمانية, ومن خلال عملية شاملة هي العلمنة بمراحلها ودرجاتها. ولكن في نفس الوقت يوجه رسالة أخرى إلى العالم الإسلامي, وعلى وجه الخصوص إلى الأقليات الدينية, بل وبعض المذاهب داخل الدين الإسلامي الواحد, مفادها توكيد الهوية الدينية وإبرازها وإعلاؤها واتخاذها عامل تأسيس للكيان الموحد وللقومية وللوجود المدني والاجتماعي والسياسي في مقابلة الكيانات الأخرى.
وفي الحالتين يتم تبرير الرسالة الموجهة على أساس أن الطريق المنصوص عليه فيها هو السبيل الأوحد والأنجح والأضمن لتحقيق قيم جوهرية مثل العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية والاستنارة والعقلانية والتقدم والحداثة وما شابه. وهكذا فإن السبيل الأوحد للوصول إلى هذه الأهداف العليا وغيرها يمر في الواقع وحسب الرسالة أو الخطاب الغربي المزدوج عبر سبيلين في آن واحد؛ أولهما هو إقصاء الدين عند الأغلبية, والآخر هو إعلاء الدين عند الأقلية. فعند الأولين يطلب تأسيس الكيان على غير الدين إن لم يكن على ضده، وعند الآخرين يطلب تأسيس الكيان على الدين.
والمشكلة هي أن النخب الخارجية والمحلية التي تقوم الآن على الترويج لهذا الخطاب الغربي المزدوج لا تشعر بوجود أية مشكلة فيه, بل ولا تقبل أي صوت يرتفع لكي ينتقد هذا الخطاب أو الإشارة إلى ذلك التناقض. ولعل أفدح نموذج لهذا الوضع برمته هو ما يحدث الآن في مصر 'وليست العراق ببعيد, ولكن ربما يتسع المجال لها في وقت آخر', حيث نجد أن قطاعاً مؤثراً أو بالأصح ذا نفوذ نتيجة للالتصاق بالسلطة يبشر بعلمنة المجتمع وفرض العلمانية في كل شيء بينما يزيد على الجانب الآخر التعامل مع ما أصبح يسمى بالمشكلة القبطية المسيحية على أساس طائفي ديني بحت.
فمن ناحية تطلب هذه النخبة من المسلمين وهم غالبية المصريين أن يتخذوا العلمانية بمعنى إقصاء الدين عن الدولة وعن القانون وعن المجال العام الاجتماعي والثقافي والسياسي.. إلخ نبراساً لهم كهدف أسمى للإصلاح المزعوم. ومن الناحية الأخرى تتفاعل هذه النخبة مع الأقلية المسيحية في مصر على أنها كيان قوي منفصل أساس تكوينه هو العقيدة والدين, كما أن مفتاح التعامل معه يكون في الاعتراف بقيادة ممثّلة له ومجسّدة له ومعبرة عنه هي الكنيسة الأرثوذكسية القبطية, وإضافة إلى ذلك فإن النخبة ترى أن أساس تدشين ذلك الكيان ونهضته هو التمسك بكل أمور الدين وإحيائها وبناء ثقافته وهويته ومحددات نشاطه عليها. ولا يشعر أحد من هذه النخبة 'وهذا طبيعي، فهم ينقلون عن الغرب وهم يؤدون دوراً محدداً' بأي تناقض هنا.(14/12)
والواقع أنه من وجهة نظر معينة فلا يوجد تناقض على الإطلاق, بل يوجد تناغم وانسجام. ووجهة النظر الوحيدة هذه هي المصلحة الغربية العليا التي تريد أن تقضي على الإسلام في بلاده وتتخذ من العلمانية الأداة الكبرى في سبيل تحقيق ذلك. ونفس وجهة النظر أو المصلحة القريبة 'وهي كذلك مصلحة وكلاء الغرب وعملائه' تقضي بأن يجري تحفيز ودفع قوى داخل البلاد الإسلامية تعمل كقوى مواجهة مع الهوية الإسلامية.
وقد وقع الاختيار في بعض البلاد الإسلامية على الأقليات غير الإسلامية لأسباب تتراوح من الحجم إلى التاريخ والإمكانية. ولكن لكي تقوم هذه الأقليات بدور المواجهة مع الوطن الإسلامي كان لابد من حدوث أمرين أساسيين؛ أولهما هو نزع هذه الأقليات من الاندماج والولاء الذي دخلت فيه في الوطن الإسلامي وتحويل هذا الولاء إلى الغرب, والأمر الثاني المتصل به هو تحديد هوية وكيان قوي لهذه الأقليات يمكن الإشارة إليه لرفض الوطن الإسلامي ومواجهة هويته, وكان الشيء الذي طرح نفسه بسهوله لهذا الكيان هو تحديد الهوية على أسس دينية لاستغلال وجود كيانات مؤسسية قائمة بالفعل مثل الكنائس وهيئاتها ومنظماتها. وفي هذه الحالة يستخدم الكيان القوي الجديد المؤسس على الهوية الدينية العقيدية كأداة مواجهة ضد الأغلبيات الإسلامية, حيث يشار إليه كحجة لعدم رفع أية أسس أو هويات أو مكونات إسلامية داخل الوطن ذي الغالبية الإسلامية؛ لأن ذلك من شأنه أن يثير الكيانات الأخرى الموجودة داخل ذلك الوطن, والتي لا تجعله بالفعل إسلاميًا. وفي هذه الحالة لا يتحدث أحد عن أن هذه إمكانيات خلقت خلقاً بمعنى إعلاء هويتها المدنية إلى مرتبة الهوية القومية واتخاذها العامل الوحيد لتمديد الكينونة والوجود.
بهذا وحده يمكن القول: إن الغرب والنخب العميلة له لا يميزون تناقضًا في خطاب العلمانية والطائفية المزدوج الموجه للعالم العربي. فالسبب في رفع التناقض عندهم هو مصلحة ضرب الإسلام المهيمنة على فكر صانع القرار.
============(14/13)
(14/14)
العلمانية
التعريف :
العلمانية وترجمتها الصحيحة : اللادينية أو الدنيوية ، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين وتعني في جانبها السياسي بالذات اللا دينية في الحكم ، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمه العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيدا عن الدين وتعني في جانبها بالذات اللادينية في الحكم ، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمه العلم وقد ظهرت في أوربا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر . أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين ،وقد اختيرت كلمه علمانية لأنها اقل إثارة من كلمه لادينية .
ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فان سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما.
تتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة حيث لقيصر سلطة الدولة ولله سلطة الكنيسة وهذا واضح فيما ينسب للسيد المسيح من قوله :( إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) . أما الاسلام فلا يعرف هذه الثنائية والمسلم كله لله وحياته كلها لله ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) سورة الأنعام : آية 162
التأسيس وابرز الشخصيات :
• انتشرت هذه الدعوة في أوربا وعمت أقطار العالم بحكم النفوذ الغربي والتغلغل الشيوعي . وقد أدت ظروف كثيرة قبل الثورة الفرنسية سنة 1789م وبعدها إلى انتشارها الواسع وتبلور منهجها وأفكارها وقد تطورت الأحداث وفق الترتيب التالي :
- تحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الاكليريوس والرهبانية والعشاء الرباني وبيع صكوك الغفران .
- وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيله ا لمحاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة ، مثل:
1- كوبرنيكوس : نشر عام 1543م كتاب حركات الأجرام السماوية وقد حرمت الكنيسة هذا الكتاب .
2- جرادانو: صنع التلسكوب فعذب عذاباً شديداً وعمره سبعون سنة وتوفي سنة 1642م.
3- سبينوزا : صاحب مدرسة النقد التاريخي وقد كان مصيره الموت مسلولاً .
4- جون لوك : طالب بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض .
ظهور مبدا العقل والطبيعة : فقد اخذ العلمانيون يدعون الى تحرر العقل وإضفاء صفات الإله على الطبيعة .
- الثورة الفرنسية : نتيجة لهذا الصراع بين الكنيسة وبين الحركة الجديدة من جهة اخرى ، كانت ولادة الحكومة الفرنسية سنة 1789م وهي أول حكومة لا دينية تحكم باسم الشعب . وهناك من يرى أن الماسون استغلوا أخطاء الكنيسة والحكومة الفرنسية وركبوا موجة الثورة لتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهدافهم .
- جان جاك روسو سنة 1778له كتاب العقد الاجتماعي الذي يعد إنجيل أ الثورة ، مونتسكيو له روح القوانين , سبينوزا ( يهودي) يعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجا للحياة والسلوك وله رسالة في اللاهوت والسياسة ، فولتير صاحب القانون الطبيعي كانت له الدين في حدود العقل وحده سنة 1804م ،وليم جودين 1793م له العدالة السياسية ودعوته فيه دعوة علمانية صريحة .
- ميرابو : الذي يعد خطيب وزعيم وفيلسوف الثورة الفرنسية .
- سارت الجموع الغوغائية لهدم الباستيل وشعارها الخبز ثم تحول شعارها الى ( الحرية والمساواة والإخاء ) وهو شعار ماسوني و( لتسقط الرجعية ) وهي كلمة ملتوية تعني الدين وقد تغلغل اليهود بهذا الشعار لكسر الحواجز بينهم وبين أجهزة الدولة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين الى ثورة على الدين نفسه .
- نظربة التطور : ظهر كتاب أصل الأنواع سنة 1859م لتشارز دارون الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب وقد جعلت الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين ، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها . وهذا النظرية التي أدت الى انهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد وقد استغل اليهود هذه النظرية بدهاء وخبث .
- ظهور نيتشه :وفلسفته التي تزعم بأن الإله قد مات وأن الإنسان الأعلى (السوبر مان ) ينبغي أن يحل محله .
- دور كايم ( اليهودي ) : جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظرية العقل الجمعي .
- فرويد ( اليهودي ) :اعتمد الدافع الجنسي مفسرا لكل الظواهر .والإنسان في نظره حيوان جنسي
- كارل ماركس ( اليهودي ) : صاحب التفسير المادي للتاريخ الذي يؤمن بالتطور الحتمي وهو داعية الشيوعية ومؤسسها والذي اعتبر الدين أفيون الشعوب .
- جان بول سارتر : في الوجودية وكولن ولسون في اللامنتمي : يدعوان إلى الوجودية والإلحاد .
- الاتجهات العلمانية في العالم الإسلامي نذكر نماذج منها :(14/15)
1- في مصر : دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون بونابرت . وقد اشار اليها الجبرتي الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر واحداثها - بعبارات تدور حول معنى العلمانية وان لم تذكر الفظة صراحة .أما أول من استخدم هذا المصطلح العلمانية فهو نصراني يدعى اليأس بقطر في معجم عربي فرنسي من تأليفه سنة 1827 م .وادخل الخديوي اسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م،وكان هذا الخديوي مفتونا بالغرب ،وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا .
2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الاحكام وفق الشريعة الاسلامية ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة الإسلامية بتدبير الإنجليز وانتهت تماما في أواسط القرن التاسع عشر .
3- الجزائر : إلغاء الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830 م .
4- تونس : أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906 م.
5- المغرب: ادخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.
6- تركيا لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك ، وان كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة .
7- العراق والشام : الغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيها .
8- معظم أفريقيا : فيها حكومات نصرانية امتلكت السلطة بعد رحيل الإستعمار
9- أندونيسيا ومعظم بلاد جنوب شرق اسيا دول علمانية .
10-إنتشار الأحزاب العلمانية والنزاعات القومية : حزب البعث ،الحزب القومي السوري ،النزعة الفرعونية ،النزعة الطورانية ،القومية العربية .
11- من اشهر دعاة العلمانية في العالم العربي الإسلامي : احمد لطفي السيد ، إسماعيل مظهر ، قاسم امين ، طه حسين ، عبد العزيز فهمي ، ميشيل عفلق ،أنطوان سعادة ، سوكارنو ، سوهارتو ، نهرو، مصطفى كمال اتاتورك ،جمال عبد الناصر ، أنور السادات ( صاحب شعار لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ) ، د. فؤاد زكريا ، د. فرج فودة وقد اغتيل بالقاهرة مؤخرا ، وغيرهم .
الأفكار والمعتقدات :
* بعض العلمانين ينكر وجود الله أصلاً .
* وبعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون بعدم وجود آية علاقة بين الله وبين حياة الانسان .
* الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل والتجريب .
* إقامة حاجز بين عالمي الروح والمادة والقيم الوحية لديهم قيم سلبية .
* فصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي .
* تطبيق مبدأ النفعية على كل شئ في الحياة .
* اعتماد مبدأ الميكافيلية في فلسفة الحكم والسياسية والاخلاق .
* نشر الإباحة والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية .
أما معتقدات العلمانية في العالم الاسلامي والعربي التي انتشرت بفضل الاستعمار والتبشير فهي :
* الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة
* الزعم بان الإسلام استنفذ أغراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية
* الزعم بان الفقه الاسلامي مأخوذ عن القانون الروماني .
* الوهم بأن الإسلام لا يتلائم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف .
* الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي .
* تشويه الحضارة الإسلامية وتضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الاسلامي والزعم بأنها حركات إصلاح .
* إحياء الحضارات القديمة .
* اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن المغرب ومحاكاته فيها .
* تربية الأجيال تربية لادينية .
• إذا كان هناك عذر لوجود العلمانية في الغرب فليس هناك أي عذر لوجودها في بلاد المسلمين لأن النصراني إذا حكمه قانون مدني وضعي لا ينزعج كثيراً ولا قليلا لأنه لا يعطل قانون فرضه علية دينه وليس في دينه ما يعتبر منهجا للحياة ، أما مع المسلم فالأمر مختلف حيث يوجب عليه إيمانه الاحتكام لشرع الله . ومن ناحية أخرى كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي - فإنه إذا انفصلت الدولة عن الدين بقي الدين النصراني قائما في ظل سلطته القوية الفتية المتمكنة وبقيت جيوش من الراهبين والراهبات والمبشرين والمبشرات تعمل في مجالاتها المختلفة دون أن يكون للدولة عليهم سلطان بخلاف ما لو فعلت ذلك دولة إسلامية فأن النتيجة أن يبقى الدين بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده حيث لا بابوية ولا كهنوت ولا اكلريوس وصدق الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال ( إن الله يزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن ) .
الجذور الفكرية والعقائدية :
* العداء المطلق للكنيسة أولا وللدين ثانيا أياً كان ، سواء وقف إلى جانب العلم أم عاداه .
* لليهود دور بارز في ترسيخ العلمانية من أجل إزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلا بينهم وبين أمم الأرض .(14/16)
* يقول الفرد هوايت هيو : ( ما من مسالة ناقض العلم فيها الدين إلا وكان الصواب بجانب العلم والخطأ حليف الدين ) وهذا القول إن صح بين العلم واللاهوت في اوروبا فهو قول مردود ولا يصح بحال فيما يخص الاسلام حيث لا تعارض إطلاقاً بين الاسلام وبين حقائق العلم ، ولم يقم بينها أي صراع كما حدث في النصرانية . وقد نقل عن أحد الصحابة قوله عن الاسلام : ( ما أمر بشئ ، فقال العقل : ليته نهى عنه ، ولا نهى عن شئ فقال العقل ليته أمر به ) وهذا القول تصدقه الحقائق العلمية والموضوعية وقد أذعن لذلك صفوة من علماء الغرب وفصحوا عن إعجابهم وتصديقهم لتلك الحقيقة في مئات النصوص الصادرة عنهم .
* تعميم نظرية (العداء بين العلم من جهة والدين من جهة ) لتشمل الدين الاسلامي على الرغم أن الدين الاسلامي لم يقف موقف الكنيسة ضد الحياة والعلم حتى كان الاسلام سباقاً إلى تطبيق المنهج التجريبي ونشر العلوم .
* إنكار الآخرة وعدم العمل لها واليقين بان الحياة الدنيا هي المجال الوحيد لماذا يرفض الاسلام العلمانية
* لانها تغفل طبيعة الانسان البشرية باعتبارها مكونة من نفس وروح فتهتم بمطالب جسمة ولاتلقي اعتبارا لاشواق روحة .
* لانها نبتت في البيئة الغربية وفقا لظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية وتعتبر فكرا غريبا في بيئتنا الشرقية
* لانها تفصل الدين عن الدولة فتفتح المجال للفردية والطبقية والعنصرية والمذهبية والقومية والحزبية والطائفية .
* لانها تفسح المجال لانتشار الالحاد وعدم الانتماء والاغتراب والتفسخ والفساد والانحلال.
لانها تجعلنا نفكر بعقلية الغرب ، فلا ندين العلاقات الحرة بين الجنسين وندوس على اخلاقيات المجتمع ونفتح الابواب على مصراعيها للممارسات الدنيئة ,وتبيح الربا وتعلي من قدر الفن للفن ,ويسعى كل انسان لاسعاد نفسة ولو على حساب غيرة .
* لانها تنقل الينا امراض المجتمع الغربي من انكار الحساب في اليوم الاخر ومن
ثم تسعى لان يعيش الانسان حياة متقلبة منطلقة من قيد الوازع الديني ، مهيجة الغرائز الدنيوية كالطمع والمنفع وتنازع البقاء ويصبح صوت الضمير عدما .
* مع ظهور العلمنية يتم تكريس التعليم لدراسة ظواهر الحياة الخاضعة للتجريب والمشاهدة وتهمل امور الغيب من ايمان با لله والبعث والثواب والعقاب , وينشا بذلك مجتمع ٍغايته متاع الحياة وكل لهو رخيص .
الانتشار ومواقع النفوذ :
بدات العلمانية في اوروبا وصار لها وجود سياسي مع ميلاد الثورة الفرنسية سنة 1789م . وقد عمت اوروبا في القرن التاسع عشر وانتقلت لتشمل معظم دول العالم في السياسة والحكم في القرن العشرين بتأثير الاستعمار والتبشير .
يتضح مما سبق :
ان العلمانية دعوة إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل بعيدا عن الدين الذي يتم فصلة عن الدولة وحياة المجتمع وحبسة في ضمير الفرد ولا يصرح بالتعبير عنة الا في أضيق الحدود . وعلى ذلك فأن الذي يؤمن بالعلمانية بديلا عن الدين ولا يقبل تحكيم
* الشرعية الإسلامية .في كل جوانب الحياة ولا يحرم ما حرم الله يعتبر مرتدا ولا ينتمي الى الإسلام . والواجب اقامة الحجة علية حتى واستتابتة حتى يدخل في حضيرة الإسلام والا جرت علية أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة .
المصدر موقع وحي السماء
===========(14/17)
(14/18)
الفكر العلماني
سعيد بن ناصر الغامدي
السؤال
من هم العلمانيون؟ وماذا يريدون؟ وما هي صفاتهم؟ وما هو السبيل إلى معرفتهم والرد على أفكارهم؟ أرجو من فضيلتكم التوضيح والتفصيل.
الجواب
العلمانيون هم: كل من ينسب أو ينتسب للمذهب العلماني، وينتمي إلى العلمانية فكراً أو ممارسة.
وأصل العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية (secula r ism) وهي من العلم فتكون بكسر العين، أو من العالَم فتكون بفتح العين وهي ترجمة غير أمينة ولا دقيقة ولا صحيحة، لأن الترجمة الحقيقية للكلمة الإنجليزية هي (لا دينية أولا غيبية أو الدنيوية أولا مقدس).
نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية -دينية واجتماعية وسياسية وعلمانية واقتصادية- خلال قرون من التدريج والنمو، والتجريب، حتى وصلت لصورتها التي هي عليها اليوم..
ثم وفدت العلمانية إلى الشرق في ظلال الحرب العسكرية، وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية، ولئن كانت العلمانية في الغرب نتائج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر أزمنة متطاولة، فقد ظهرت في الشرق وافداً أجنبياً في الرؤى والإيديولوجيات والبرامج، يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه؛ لأن الظروف التي نشأت فيها العلمانية وتكامل مفهومها عبر السنين تختلف اختلافاً جذرياً عن ظروف البلدان التي جلبت إليها جاهزة متكاملة في الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والحضارية، فالشرط الحضاري الاجتماعي التاريخي الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب مفقود في البلاد الإسلامية، بل فيها النقيض الكامل للعلمانية، ولذلك كانت النتائج مختلفة تماماً، وحين نشأت الدولة العربية الحديثة كانت عالة على الغربيين الذين كانوا حاضرين خلال الهيمنة الغربية في المنطقة، ومن خلال المستشارين الغربيين أو من درسوا في الغرب واعتنقوا العلمانية، فكانت العلمانية في أحسن الأحوال أحد المكونات الرئيسية للإدارة في مرحلة تأسيسها، وهكذا بذرت بذور العلمانية على المستوى الرسمي قبل جلاء جيوش الاستعمار عن البلاد الإسلامية التي ابتليت بها.
ومن خلال البعثات التي ذهب من الشرق إلى الغرب عاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية، بل وبدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في الجامعات الغربية، ولك أن تتصور حال شاب مراهق ذهب يحمل الشهادة الثانوية ويلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه، بعد أن يكون قد سقط أو أسقط في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي وما أوجد كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري، ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية، وفي أهم المراكز العلمانية بل والقيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء، وإلى تاريخها بريبة واحتقار، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها -في أحسن الأحوال- بشفقة ورثاء، إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلاً تجارياً لمن علموه وثقفوه ومدّنوه، وهو لا يملك غير ذلك.
ثم أصبحت الحواضر العربية الكبرى مثل: (القاهرة-بغداد-دمشق) بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني للبلاد العربية الأخرى، من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها، وبالذات دول الجزيرة العربية، وقل من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية، حتى أصبح في داخل الأمة طابور خامس، وجهته غير وجهتها، وقبلته غير قبلتها، إنهم لأكبر مشكلة تواجة الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة.
ثم كان للبعثات التبشيرية دورها، فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من شتى الفرق والمذاهب النصرانية، جعلت هدفها الأول زعزعة ثقة المسلمين في دينهم، وإخراجهم منه، وتشكيكهم فيه.
ثم كان للمدارس والجامعات الأجنبية المقامة في البلاد الإسلامية دورها في نشر وترسيخ العلمانية.
ثم كان الدور الأكبر للجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية التي انتشرت في الأقطار العربية والإسلامية، ما بين يسارية وليبرالية، وقومية وأممية، سياسية واجتماعية وثقافية وأدبية بجميع الألوان والأطياف، وفي جميع البلدان حيث إن النخب الثقافية في غالب الأحيان كانوا إما من خريجي الجامعات الغربية أو الجامعات السائرة على النهج ذاته في الشرق، وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية، وجميعها تتفق في الطرح العلماني، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية، وقد تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية، والسعي لعلمنة الأمة كل من زاوية اهتمامه، والجانب الذي يعمل من خلاله.(14/19)
ولا يمكن إغفال دور البعثات الدبلوماسية: سواء كانت بعثات للدول الغربية في الشرق، أو للدول الشرقية في الغرب، فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسوراً تمر خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف، ومن خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي والتواصل الاجتماعي والمناسبات والحفلات ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي، وليس بسر أن بعض الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي أو مجلس الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة.
ولا يخفى على كل لبيب دور وسائل الإعلام المختلفة، مسموعة أو مرئية أو مقروءة، لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية -صحافة أو إذاعة أو تلفزة- فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها، وكان الرواد في تسويق هذه الرسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو من العلمانيين من أبناء المسلمين، فكان لها الدول الأكبر في الوصول لجميع طبقات الأمة، ونشر مبادئ وأفكار وقيم العلمانية، وبالذات من خلال الفن، وفي الجانب الاجتماعي بصورة أكبر.
ثم كان هناك التأليف والنشر في فنون شتى من العلوم وبالأخص في الفكر والأدب والذي استعمل أداة لنشر الفكر والممارسة العلمانية.
فقد جاءت العلمانية وافدة في كثير من الأحيان تحت شعارات المدارس الأدبية المختلفة، متدثرة بدعوى رداء التجديد والحداثة، معلنة الإقصاء والإلغاء والنبذ والإبعاد لكل قديم في الشكل والمضمون، وفي الأسلوب والمحتوى، ومثل ذلك في الدراسات الفكرية في علوم الاجتماع والنفس والعلوم الإنسانية المختلفة، حيث قدمت لنا نتائج كبار ملاحدة الغرب وعلمانييه على أنه الحق المطلق، بل العلم الأوحد ولا علم سواه في هذه الفنون، وتجاوز الأمر التأليف والنشر إلى الكثير من الكليات والجامعات والأقسام العلمية التي تنتسب لأمتنا اسماً، ولغيرها حقيقة.
ولا يستطيع أحد جحد دور الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة في الجانب الاقتصادي.
هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان، ولو كانت الأمة حين تلقت هذا المنهج العصري تعيش في مرحلة قوة وشموخ وأصالة لوظفت هذه الوسائل توظيفاً آخر يتفق مع رسالتها وقيمها وحضارتها وتاريخها وأصالتها.
بعض ملامح العلمانية:
لقد أصبح حَملة العلمانية الوافدة في بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودهم تياراً واسعاً نافذاً متغلباً في الميادين المختلفة، فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان:
أ: الاتجاه اليساري الراديكالي الثوري، ويمثله -في الجملة- أحزاب وحركات وثورات ابتليت بها المنطقة ردحاً من الزمن، فشتت شمل الأمة ومزقت صفوفها, وجرت عليها الهزائم والدمار والفقر وكل بلاء، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه، سواء كانوا شيوعين أمميين، أو قوميين عنصريين.
ب: الاتحاد الليبرالي ذي الوجهة الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب، وهؤلاء يمثلهم أحزاب وشخصيات قد جنوا على الأمة بالإباحية والتحليل والتفسخ والسقوط الأخلاقي والعداء لدين الأمة وتاريخها.
وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها:
1- مواجهة التراث الإسلامي، إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط والتخلف -كما عند غلاة العلمانية-، أو بإعادة قراءته قراءة عصرية -كما يزعمون- لتوظيفه توظيفاً علمانياً من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، وأعراف اجتماعية، ولم ينج من غاراتهم تلك حتى القرآن والسنة، إما بدعوى بشرية الوحي، أو بدعوى أنه نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة، أو بدعوى أنه مبادئ أخلاقية عامة، أو مواعظ روحية لا شأن لها بتنظيم الحياة، ولا ببيان العلم وحقائقه، ولعل من الأمثلة الصارخة للرافضين للتراث، والمتجاوزين له (أدونيس)و (محمود درويش)و (البياتي)و (جابر عصفور).
أما الذي يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم: (حسن حنفي)و (محمد أركون) و (محمد عابد الجابري)و (حسين أمين)، ومن على شاكلتهم، ولم ينج من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع جوانبه.(14/20)
2- اتهام التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير حضاري، وتفسيره تفسيراً مادياً، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغربية العلمانية على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ، وتجاهل ما فيه من صفحات مضيئة مشرقة، والخلط المتعمد بين الممارسة البشرية والنهج الإسلامي الرباني، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها، والإشادة بها، والثناء عليها، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة والثورة على الظلم، مثل: (ثورة الزنج) و (ثورة القرامطة) ومثل ذلك الحركات الفكرية الشاذة عن الإسلام الحق، وتكريس أنها من الإسلام بل هي الإسلام، مثل القول بوحدة الوجود، والاعتزال وما شابه ذلك من أمور تؤدي في نهاية الأمر إلى تشويه الصور المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة، وأجياله المتعاقبة.
3- السعي الدؤوب لإزالة أو زعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم، والمسيرة المؤطرة للفكر والفهم الإسلامي في تاريخه كله، من خلال استبعاد الوحي كمصدر للمعرفة والعلم، أو تهميشه -على الأقل- وجعله تابعاً لغيره من المصادر، كالعقل والحس، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب، والسخرية من الإيمان بالغيب، واعتبارها -في أحسن الأحوال- جزءاً من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية، والترويج لما يسمى بالعقلانية والواقعية والإنسانية، وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل، وكسر الحواجز النفسية بين الإيمان الكفر، ليعيش الجميع تحت مظلة العلمانية في عصر العولمة، وفي كتابات (محمد عابد الجابري)و (حسن حنفي)و (حسين مروة) و (العروي) وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر.
4- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي، والمسيرة للعلاقات الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار والطهر والعفاف وحفظ العهود وطلب الأجر وأحاسيس الجسد الواحد، واستبدال ذلك بقيم الصراع والاستغلال والنفع وأحاسيس قانون الغاب والافتراس، والتحلل، والإباحية من خلال الدراسات الاجتماعية والنفسية، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية، مما هز المجتمع الشرقي من أساسه، ونشر فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه في تاريخه، ولعل رواية (وليمة عشاء لأعشاب البحر) -السيئة الذكر- من أحدث الأمثلة على ذلك، والقائمة طويلة من إنتاج (محمد شكري) و (الطاهر بن جلون) و (الطاهر وطّار) و (تركي الحمد) وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي دورها في هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع، واستبداله بأسس أخرى.
5- رفع مصطلح الحداثة كلافتة فلسفية اصطلاحية بديلة لشعار التوحيد، والحداثة كمصطلح فكري ذي دلالات محددة تقوم على مادية الحياة، وهدم القيم والثوابت، ونشر الانحلال والإباحية، وأنسنة الإله وتلويث المقدسات، وجعل ذلك إطاراً فكرياً للأعمال الأدبية، والدراسات الاجتماعية، مما أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري الثقافي.
6- استبعاد مقولة الغزو الفكري من ميادين الفكر والثقافة، واستبدالها بمقولة حوار الثقافات، مع أن الواقع يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية قائمة لا يمكن إنكارها كإحدى مظاهر سنة التدافع التي فطر الله عليها الحياة، وأن ذلك لا يمنع الحوار، لكنها سياسة التخدير والخداع والتضليل التي يتبعها التيار العلماني، ليسهل تحت ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني، بعد أن تفقد الأمة مناعتها وينام حراس ثغوره، وتتسلل في أجزائها جراثيم وفيروسات الغزو العلماني القاتل.
7- وصم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري، عبر غوغائية ديماجوجية إعلامية غير شريفة، ولا أخلاقية، لتخويف الناس من الالتزام بالإسلام، والاستماع لدعاته، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء -وأحياناً الفظيعة- من بعض المنتمين أو المدعين إلى الإسلام، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب العلماني الذي يمارس على شعوب بأكملها، وعبر عقود من السنين، لكنه عدم المصداقية والكيل بمكيالين، والتعامي عن الأصولية والنصرانية، واليهودية، والموغلة في الظلامية والعنصرية والتخلف.
8- تمييع قضية الحل والحرمة في المعاملات والأخلاق، والفكر والسياسة، وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها، واستخدام هذه المفاهيم في تحليل المواقف والأحداث، ودراسة المشاريع والبرامج، أي فك الارتباط بين الدنيا والآخرة في وجدان وفكر وعقل الإنسان، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير من جوانب الحياة الذي يعجب له من نور الله قلبه بالإيمان، ولكن أكثرهم لا يعلمون.(14/21)
9- دق طبول العولمة واعتبارها القدر المحتوم الذي لا مفر منه ولا خلاص إلا به، دون التمييز بين المقبول والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية، بل إنهم ليصرخون بأن أي شيء في حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل، دون التفريق بين الثوابت والمتغيرات، مما يؤدي إلى تحويل بلاد الشرق إلى سوق استهلاكية لمنتجات الحضارة الغربية، والتوسل لذلك بذرائعية نفعية محضة لا يسيّرها غير أهواء الدنيا وشهواتها.
10- الاستهزاء والسخرية والتشكيك في وجه أي محاولة لأسلمة بعض جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد والإعلام والقوانين، وإن مرروا هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق الإنسان وحرياته، ونسوا أو تناسوا الشعوب التي تسحق وتدمر وتقتل وتغصب بعشرات الآلاف، دون أن نسمع صوتاً واحداً من هذه الأصوات النشاز يبكي لها ويدافع عنها، لا لشيء إلا أن الجهات التي تقوم بانتهاك تلك الحقوق، وتدمير تلك الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك المصالح الغربية.
11- الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية، وبخاصة في الفن والرياضة وشركات الطيران والأزياء والعطور والحفلات الرسمية، والاتكاء القوي على قضية المرأة، ولإن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية، ومنطلقات عقائدية، وفلسفة خاصة للحياة، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضة المرأة، والسعي لنزع حجابها، وإخراجها للحياة العامة، وتعطيل دورها الذي لا يمكن أن يقوم به غيرها، في تربية الأسرة ورعاية الأطفال، وهكذا العلمانيون يفلسفون الحياة. يعطل مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة، ويستقدم مئات الآلاف من العاملات في المنازل لتسد مكان المرأة في رعاية الأطفال، والقيام بشؤون المنزل، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة، فما المبرر لمزاحمتها للرجل في كل موقع؟
12- الاهتمام الشديد والترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية في الاجتماع والأدب، وتقديم أصحابها في وسائل الإعلام، بل وفي الكليات والجامعات على أنهم رواد العلم، وأساطين الفكر وعظماء الأدب، وما أسماء: (دارون)و (فرويد), (دوركايم)و (أليوت وشتراوس وكانط) وغيرهم بخافية على المهتم بهذا الشأن، وحتى أن بعض هؤلاء قد تجاوزه علمانيو الغرب، ولكن صداه ما زال يتردد في عالم الأتباع في البلاد الإسلامية.
===========(14/22)
(14/23)
نبذة عن العلمانية
أولاً: مفهوم العلمانية(1):
العلمانية في الحقيقة تعني إبعاد الدين عن الحياة أو فصل الدِّين عن الحياة أو إقامة الحياة على غير الدِّين؛ سواء بالنسبة للأئمة أو للفرد.
أما أصل كلمة علمانية فهي ترجمة غير صحيحة للكلمة اللاتينية (SECULA r ISM) وترجمتها الصحيحة هي: اللادينية أو الدنيوية, بمعنى ما لا علاقة له بالدين ويؤكد هذه الترجمة ما ورد في دائرة المعارف البريطانية في مادة (SECULA r ISM) "هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها؛ وظل الاتجاه إلى الـ(SECULA r ISM) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية كما يؤكد أن ترجمة الكلمة اللاتينية هي اللادينية؛ ما أورده معجم أوكسفورد شرحاً لكلمة (SECULA r ):
(1) دنيوي أو مادي، ليس دينياً ولا روحياً مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
(2) الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية.
هل الاسم العربي له صلة بالاسم؟
ليس له صلة بالعلم لأنه كما ذكرنا أن أصل الكلمة باللاتينية ليس له علاقة بالعلم، والذين ابتدعوها لم يريدوا بها العلم من قريب ولا من بعيد. ولو أرادوه لاستخدموا ما يشير إلى النسبة إلى العلم هي (SCIENTIFIC) لأن العلم بالإنجليزية (SCIENCE) وأرى أن استخدام هذه الكلمة العربية كمصطلح لهذه الفكرة فيه تضليل وتعمية،ولو سموها باسمها لانصرف أهل الفطر السوية عنها ولحاربها أهل الغيرة على الدين.
ثانياً: نشأة العلمانية:
بداية النشأة في أوروبا، وكان ذلك بسبب عبث الكنيسة بدين الله المنزَّل، وتحريفه وتشويهه، وتقديمه للناس بصورة منفرة دون أن يكون عند الناس مرجع يرجعون إليه لتصحيح هذا العبث وإرجاعه إلى أصوله الصحيحة المنزلة كما هو الحال مع القرآن المحفوظ بقدر الله ومشيئته من كل عبث أو تحريفٍ خلال القرون(2).
إنّ ما نبذته أوروبا حين أقامت علمانيتها لم يكن هو حقيقة الدين ـ فهذه كانت منبوذة من أول لحظة ـ إنما كان بقايا الدين المتناثرة في بعض مجالات الحياة الأوروبية أو في أفكار الناس ووجداناتهم، فجاءت العلمانية فأقصت هذه البقايا إقصاءً كاملاً من الحياة، ولم تترك منها إلا حرية من أراد أن يعتقد بوجود إله يؤدي له شعائر التعبّد في أن يصنع ذلك على مسئوليته الخاصة، وفي مقابلها حرية من أراد الإلحاد والدعوة إليه أن يصنع ذلك بسند الدولة وضماناتها(3).
ويمكننا تلخيص تسبب الكنيسة في نشأة العلمانية في الآتي:
ـ عقيدة منحرفة: أن الله ثالث ثلاثة، وأنه هو المسيح ابن مريم.
ـ حصر الدين في العبادة بمعناها الضيق فقط، وفي العلاقة الروحية بالخالق.
ـ نفوذ رجال الدين على الملوك وعلى عامة الناس، بحيث لا يقع تصرف منهم فيكون صحيحاً إلا عن طريق رجال الدين؛ ولو كان ذلك وفق توجيه رباني صحيح ولمصلحة البشر لم يكن فيه إشكال؛ لكن لمصلحة رجال الدين.
ـ قيام رجال الدين بالتشريع من عند أنفسهم تحليلاً وتحريماً, حسب أهوائهم ومصالحهم مثل: تحليل الخمر والخنزير، وإبطال الختان.
ـ محاربة الكنيسة للعلم وقتلها للعلماء.
ـ استغلال رجال الدين لمكانتهم في فرض عشور في أموال الناس، وتسخيرهم للخدمة في أرض الكنيسة، وفرض ما يعرف بصكوك الغفران.
ـ الفساد الخُلُقي بكل أنواعه كان يمارسه رجال الدين.
ـ مناصرة الكنيسة للمظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواقعة على الناس.
كل تلك الأسباب وغيرها أدت إلى نبذ أوروبا للدين وإقبالها على العلمانية باعتبارها مخلصاً لها مما عانته من سطوة رجال الدين، وسبيلاً للانطلاق والتقدم الذي كان الدين ـ بذلك التصور وتلك الممارسات ـ حجر عترةٍ أمامه.
ولكن البديل الذي اتخذته أوروبا بدلاً من الدين لم يكن أقل سواءً إن لم يكن أشد؛ وإن كان قد أتاح لها كل العلم والتمكن المادي يطمح إليه كل البشر على الأرض تحقيقاً لسُنَّةٍ من سُنن الله التي تجهلها أوروبا وتجهل حكمتها، لأنها لا تؤمن بالله وما نزَّل من الوحي: (فلما نسوا ما ذكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون) [سورة الأنعام: 44]، وإذا كان الغالب على ردود الأفعال هو الاندفاع لا التعقّل ولا التبصّر ولا الرويّة ولا الاتزان فقد اندفعت أوروبا في نهضتها تنزع من طريقها كل معلم من المعالم الإلهية -سواءً كانت إلهيةً حقاً أو مدعاة من قبل الكنيسة- وتصنع مكانها معالم بشرية من صنع الإنسان، كما تنزع من طريقها كل ما يتصل بالآخرة لتصنع بدلاً منه ما يتصل بالحياة الدنيا([4])، والحاصل أنهم وقعوا في أسوأ مما فروا منه حين نبذوا الدين كله ونقول إنّ ذلك ليس غريباً؛ فالعقائد الباطلة والتصورات المنحرفة، والممارسات الضالة لا تأتي بخير فالذي خَبُث لا يخرج إلا نكِداً.(14/24)
وإن كان ذلك قد جرى في أوروبا بسبب الكنيسة ورجال الدين، فليس ذلك موجوداً في دين الإسلام، ولا يمكن أن يقع مثل الانحراف الشامل ويغيب الحق والصواب عن الناس؛ لأن أصول هذا الدين معلومة ومحفوظة، ولا يزال أهل العلم وحملة الحق في كل زمان يُبيّنون ويُوضّحون للناس، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولو حصل شئ من الانحراف فإنه يكون معلوماً، ولن يتفق عليه أهل الإسلام وهو يعالج بما يؤدي إلى مصالح أكيدة، فالخطأ عندنا أمة الإسلام لا يُعالج بالخطأ، والخطأ الذي يقع إنما هو منسوب للبشر فهي ممارستهم واجتهاداتهم, ولا يصح أن يُحمل على الدين وأن يكون ذريعةً لرفض منهج الله.
ثالثاً: من آثار العلمانية:
في مجال السياسة:
ـ استخدام المبدأ الميكافيلي "الغاية تبرر الوسيلة" من قبل الحكام، مما جرد السياسة من الأخلاق وأبعد عنها الدين، فأصبح استخدام كل وسيلة حلالاً كانت أو حراماً؛ أمراً عاديّاً، بل لم يكن سياسياً بارعاً من لم يفعل ذلك!!
ـ استغلال الناس للوصول إلى الحكم، عن طريق الديمقراطية المزعومة، ثم تسليط السلطة على نفي الناس وظلمهم.
ـ إبعاد الناس عن الحياة واستثناء النهج الإسلامي ذي التوجه الرباني من الوصول للحكم، بل ومحاربته والتنكيل بأنصاره، واتهامهم بالتطرف والإرهاب.
ـ نشأة التيارات المغالية التي كانت ردة فعل للأنظمة العلمانية بظلمها وفسادها.
ـ ولاء الأنظمة السياسية في بلاد المسلمين لدول الكفر، ولاءً كاملاً على حساب الإسلام والمسلمين.
في الاقتصاد:
ـ ترويج سلع العدو في بلاد المسلمين بما يقوي اقتصاده ويضعف المسلمين.
ـ أصبحت الثروة دُولةً بين عدد محدود من الأغنياء الذين لا تستفيد منه بلاد المسلمين كثيراً.
ـ أصبح المسلمون عالةً على غيرهم, معتمدين على عدوهم في كل شيء.
في الاجتماع والأخلاق:
ـ تحرير المرأة وتحللها من كل القيود التي تعصمها وتحفظ كرامتها.
ـ تفكك الأسر وضياع أفرادها.
ـ انتشار جرائم الأطفال وفسادهم.
ـ انتشار الخيانات الزوجية, وكثرة أبناء الزنا.
ـ الترويج للشذوذ الجنسي.
ـ ضعف الروابط بين الأقارب والأرحام؛ بسبب التركيز على الجانب المصلحي في الحياة والعلاقات بين الناس.
ـ انتشار ثقافة التحلل والتفسُّخ والشهوة, مما أدى إلى كثرة الفساد الأخلاقي, وانتشار الأمراض الفتاكة.
في التربية والثقافة:
ـ تفسير الدين تفسيراً ضيقاً, وتحديد علومه تحديداً قاصراً.
ـ التفريق بين نظام تعليم رسمي حكومي, ونظام تعليم أهلي ديني؛ مع إهمال الأول والاهتمام بالأخير.
ـ إهمال اللغة العربية والتربية الإسلامية, مع إظهار الاهتمام بغيرهما من المواد العلمية والعصرية.
ـ بث السموم والطعن في المقررات والمناهج الدراسية ضد الإسلام, مع الاهتمام بالثقافة الأوروبية.
ـ انتشار ترجمات الكتب الغربية في بلاد المسلمين, بل وكذلك الكتب الغربية بلغاتها الأصلية؛ تحت اسم الثقافة ودراسة الأدب...الخ.
ـ عودة كثير من أبناء المسلمين الذين درسوا وتربوا على مائدة الغرب ليساهموا في نشر ثقافته وفكره وينافحوا عنها.
ـ الفصل بين ما هو ديني وما هو غير ديني في الصحف والمجلات: مجلة دينية, صحيفة دينية, صفحة دينية, برنامج ديني...إلخ.
ـ انتشار الاختلاط في المؤسسات التعليمية؛ حتى أصبح أصلاً, ومن ينادي بفصل الجنسين يصبح شاذاً!
ـ حصر مفهوم الثقافة في أدب اللهو والمجون, والطرب والغناء.
رابعاً: كيف نواجه العلمانية:
لا حاجة ـ بعد كل ما ذكرناه ـ إلى الكلام عن حكم العلمانية, فقد اتضح لنا أنها دين مستقل؛ ابتدعه البشر ليكون مقابل دين الله وبديلاً لشرعه, وبذا فهي كفرٌ صراح, ومواجهتها واجب, لكن كيف؟
ـ بنشر العلم الشرعي وتوعية الناس بدينهم.
ـ بتربية أبناء الأمة على الإسلام, في الأسرة والمؤسسات المختلفة.
ـ بنشر الثقافة الإسلامية من خلال: الكتب, المجلات, المقررات الدراسية, أجهزة الإعلام...
ـ بتعرية فكر العلمانيين والرد عليهم.
ـ بالتمسك بشريعة الإسلام والعضِّ عليها بالنواجذ.
ـ بتوعية الأمة بخطورة العلمانية على الدين والمجتمع.
ـ بتقوية عقيدة الولاء والبراء.
----------------------
(1) د. سفر الحوالي، العلمانية، ص 21ـ24، Ency.B r itanniea.Vol.lxp.19. Oxfo r d Advanced Lea r ne r 's Dic. Of Cu r rent English:785
(2) محمد قطب، العلمانية، ص7
(3) المرجع السابق، ص11.
(4) محمد قطب، مرجع سابق، ص17ـ29.
المصدر : شبكة المشكاة الإسلامية
د. إسماعيل محمد حنفي
=============(14/25)
(14/26)
العلمانية .. « إمبراطورية النفاق »
« إمبراطورية النفاق »
من مهد لها الطريق ؟!
الشيخ الدكتور / عبد العزيز مصطفى كامل
دكتوراه في الشريعة جامعة الأزهر
عضو هيئة تحرير مجلة البيان ـ المنتدى الإسلامي
أعده للنشر في الفوائد / محمد جلال القصاص
المحرر :
في هذه الرسالة يتتبع الشيخ الدكتور / عبد العزيز كامل ـ حفظه الله ـ نشأت القومية ( العلمانية ) في البلاد الإسلامية وكيف أنها بدأت يهودية ثم حمل رايتها النصارى .. دعوة وتنظيرا ... ثم انضم إليهم ما أسماهم بالمنافقين ـ وصدق ـ ممن ينتسبون إلى الإسلام .
ويعرض الدكتور عبد العزيز مواقف علماء الأمة من نازلة إحلال العلمانية اللادينية محل الخلافة الإسلامية مناديا بقراءة جديدة للتاريخ الإسلامي المعاصر تبرز دور المنافقين في تغريب الدين .
يقول حفظه الله :
عندما يتناول المهتمون بالشأن الإسلامي الكلام عن حدث إسقاط الخلافة الإسلامية في تركيا ، ويتناوبون تقليب جوانب تلك النازلة الكبرى التي لا تزال الأمة تعيش آثارها منذ ثمانين عاماً ، فلا ينبغي أن يفهم ذلك على أنه إشادة مطلقة ، أو تزكية عامة لمسلك العثمانيين في إدارة شؤون عموم المسلمين ، فلا شك أن تلك الإدارة اعتراها الكثير من المآخذ المنهجية والسلوكية ، وبخاصة في المرحلة الأخيرة من عمر تلك الخلافة الممتدة عبر خمسة قرون ، ولكن تلك المآخذ لا ينبغي أيضاً أن تأخذنا بعيداً إلى حد التهوين من شأن ما أصاب الأمة بعد حل رابطتها العالمية وكتلتها الإسلامية الدولية ممثلة في تلك الخلافة .
لقد كانت نكبة الأمة بسقوط السلطة في أيدي العلمانيين المنافقين اللادينيين بعدها في أكثر بقاع العالم الإسلامي ؛ أشد ضرراً وأنكى أثراً من سقوط الخلافة العثمانية نفسها ، حيث جسَّد أولئك المنافقون العلمانيون بعد سيطرتهم المبدأ الفاسد الكاسد بفصل الدين عن الدولة ، وأصَّلوا فرقان الشيطان بين السلطان والقرآن ، ذلك الفرقان الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في قوله : « ألا إن السلطان والقرآن سيفترقان ، فلا تفارقوا الكتاب »(1) .
وكان هذا « الفصل » بين الدين والدولة ، أو بين الشرع والحُكم ، تضييعاً للشرع وإضعافاً للحُكم ، بل كان إضعاف الحكم بالإسلام مقدمة لإضاعة الدين والدنيا معاً ، في تتابع مستمر قابل لأن يطال كل أسس الدين وثوابت الشريعة ، كما أخبر الصادق المصدوق في قول صلى الله عليه وسلم : « لتُنقضَنَّ عُرى الإسلام عُروة عُروة ؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ؛ فأولهن نقضاً الحُكم ، وآخرهن الصلاة » (2) .
وقد صدَّقت حقائق التاريخ المعاصر هذه النبوءة المعجزة لرسول ا صلى الله عليه وسلم ؛ فما أن يُنقَض الحكم بالإسلام في أرض ، إلا ويتسلط عليها شياطين الإنس ، فيقوضون بنيانها وينقضون عُراها بدءًا بمنصة القضاء الشرعي ، وانتهاء بإقامة الصلاة التي جعل الرسو صلى الله عليه وسلم إقامة الولاة لها في الناس فيصلاً بين شرعية ولايتهم أو عدم شرعيتها ؛ وذلك عندما سأله بعض الصحابة عن حكم أئمة الجور قائلين : « أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة » (3).
الأمر إذن ، ليس ولاية عبد الحميد أو وحيد أو عبد المجيد من خلفاء آل عثمان ، وإنما هو في تعبيد طريق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، وفي إقامة سلطان الشريعة التي لا تصلح ولا تقبل خلافة الإنسان في الأرض إلا بها : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) ( ص : 26 ) .
ولا يصلح تحاكم الناس في الدماء والأموال والأعراض والسياسات والعبادات والمعاملات إلا لها .
( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) ( المائدة : 49 ) .
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (1/264) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5/228 ، 238) .
(2) أخرجه أحمد في مسنده ، (5/251) ، و ابن حبان في صحيحه حديث (257) ، و الحاكم في المستدرك (4/92) ، وصححه الألباني ، انظر : صحيح الجامع الصغير (2/905) ، حديث (5075) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه ، حديث (3447) ، (3448) .(14/27)
وعندما تواطأ خبثاء العالم من الكفار والمنافقين على إسقاط سلطان الإسلام ودولته العالمية فقد كانوا على كامل اليقين أن ذلك مقدمة لانفراط منظومته كلها في البلاد التي يسقط فيها سلطانه وحكمه ، وذلك في شرائعه وشعائره ، وروابطه وضوابطه المنهجية والسلوكية التي لا يغني التغني بها عن التبني لها من نظام ( حاكم ) يُحْكم قياد العباد ، بشريعة رب العباد التي تعصمهم من الأهواء المضلة الموصلة إلى فساد الدنيا وعذاب الآخرة : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ ) ( الجاثية : 18-19 ) .
( عُرى الشيطان تُنازع أوثق عُرى الإيمان :
كانت الزلة الأولى للعثمانيين في أواخر عهد دولتهم ، أن أوحى بعض المنافقين إلى بعض زخرفاً من القول ، يعدُّون به رابطة الأخوة الإسلامية غير كافية لأن تكون أساساً جامعاً لرعايا الدولة من المسلمين ، فابتدعوا تقسيم الرعايا إلى ( عثمانيين وأجانب ) ؛ فقبل إلغاء الخلافة بنحو ثمانين عاماً اتجه بعض السلاطين إلى تحويل الرابطة أو الجامعة الإسلامية إلى ( رابطة عثمانية ) وذلك عن طريق ما يسمى بـ ( إعلان التنظيمات العثمانية ) الصادر في عام ( 1255هـ ) ( 1839م ) وهو نظام وضعي مضمونه أن يُقَسَّم المسلمون إلى : مسلمين عثمانيين ، وهم رعايا ومواطنو الدولة العثمانية ، ومسلمين غير عثمانيين ، عدَّهم الإعلان ( أجانب ) ! وضَمِنَ النظام الجديد للرعايا العثمانيين كل الحقوق بغضِّ النظر عن الدين أو اللغة أو الجنس ، بينما وُضع الآخرون ( الأجانب ) من المسلمين في خانة أدنى ، وكان هذا الإعلان بداية حقيقية للتخلي عن الرابطة الإسلامية المنبثقة عن المبدأ الإسلامي العظيم [ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ]( الحجرات : 10 ) .
كانت هذه في ذاتها نازلة تستدعي أن يقوم لها عقلاء الأمة وعلماؤها ، ليميتوها في مهدها إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل ، فيعلنوا في الناس أن خلافة المسلمين لكل المسلمين ، وأن رابطة الإسلام أسمى وأعلى من كل الروابط الاسمية الأرضية العنصرية ، ولكن ذلك الإجراء مضى ، وتطاولت به السنون ، حتى تحولت النزعة « العثمانية » إلى نزعة « طورانية »(1)، يدَّعي أصحابها أن الطورانيين المنحدرين من آسيا الوسطى ( قوم ) متميزون ، ونشأ بذلك ما سمي بـ ( القومية الطورانية ) كرابطة بديلة للرابطة الإسلامية ، وهي التي نشأت رداً لها أو تأثراً بها ( القومية العربية ) التي رد بها جهلة العرب على جهلة الترك ، فأنشؤوا بذلك نواة للروابط الباطلة التي عدَّها الإسلام نوعاً من الجاهلية ، كما في قول صلى الله عليه وسلم للمتنازعين من المهاجرين والأنصار : « أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها منتنة » (2)، وكان ذلك عندما ضرب رجل من المهاجرين آخر من الأنصار ، فكاد الشيطان أن يوقع الفتنة بين الفريقين ، فتداعى قوم بالنصرة من الأنصار فقالوا : ( يا للأنصار ! ) وقال آخرون : ( يا للمهاجرين ! ) ، فقال لهم الرسو صلى الله عليه وسلم قوله الآنف .
المقصود هنا أن تلك الرابطة البديلة عن عُروة الإسلام ، ظل معمولاً بها ، حتى جاء السلطان عبد الحميد الثاني ( 1876 - 1909م ) فغير تلك السياسة ، وقدَّم نفسه للعالم على أنه خليفة لكل المسلمين ، وبدلاً من أن يُساند هذا التوجه المحمود من علماء الأمة وعقلائها ، إذا بهؤلاء يختلفون حول هذا الأمر ؛ فبينما أيده على ذلك وسانده كل من الشيخ جمال الدين الأفغاني ( ت 1897م ) ، والشيخ محمد عبده ( ت 1905م ) من خلال جمعية ( العروة الوثقى ) التي شكلاها لتكون أداة إعلامية لهذا التوجه ، إذا بآخرين من أمثال ( عبد الرحمن الكواكبي ) ( ت 1902م ) يأخذون توجهاً آخر ، فينادون بـ ( جامعة عربية ) وخلافة عربية !! وصحيح أن الأصل في منصب الخلافة أن يكون عربياً ، بل قرشياً كما اتفق عليه العلماء (3)
__________
(1) الطورانية هي : دعوة تنادي بتوحيد الشعوب الناطقة بإحدى اللغات التي تنتمي للغة التركية ، وهذه الشعوب تمتد كما يقولون من بحر الأدرياتيك وحتى سور الصين العظيم ، وأول من نفخ في كير الدعوى الطورانية العنصرية ، الكاتب الفرنسي اليهودي (ليون كوهون) ؛ حيث كتب يقول : (إن الطورانيين كانوا فيما مضى شعباً ذكياً ممتازاً ، لكن أخذ بالتقهقر والانحلال عندما تخلى عن الخصائص التي تميز بها في صحاري آسيا الوسطى واعتنق الإسلام ديناً وحضارة) ، ومن الطرائف أن مؤلف كتاب (التركية والاتحاد التركي) (تكين ألب) الذي أسس للنعرة الطورانية ، هو يهودي اسمه الحقيقي (ألبرت كوهين) .
(2) أخرجه البخاري ، رقم (3257) ، (4525) ، و مسلم ، رقم (4682) ، (4683) .
(3) انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى ، ص 5 - 6 ، والأحكام السلطانية للماوردي ، ص 5 وشرح صحيح مسلم ، للنووي ، (12/200) .(14/28)
[6] ، لكن الظرف الذي كانت تعيشه الأمة وقتها لم يكن مؤهلاً للعرب أن يحكموا بقية المسلمين ؛ لأن سلطانهم الفعلي لم يكن بأيديهم ، بل كانت أكثر بلدان العرب واقعة تحت احتلال الصليبيين من بريطانيين و فرنسيين و إيطاليين .
وفي مقابل المناداة بجامعة إسلامية عربية في ذلك الوقت الحرج ، استفحل الشعور القومي الجاهلي لدى فريق من الأتراك ، فنادوا بجامعة طورانية ، تجمع الأمة الطورانية الممتدة من فنلندا إلى منشوريا في دولة واحدة .
وهنا استُبعد الميزان الإسلامي تماماً ، وبدلاً من تفضيل بعض المسلمين على بعض بغير ميزان التقوى وهو أمر منكر جاء هؤلاء الذين ساووا بين المسلمين والكفار ، لمجرد مساواتهم في الانتماء القومي .
ومنذ ذلك الحين والصراعات القومية تمزق أوصال المسلمين بعد أن نشأت بعد ذلك النعرات القومية الأخرى كالقومية الفارسية والكردية والبربرية والهندية والبشتونية والطاجيكية وغيرها ، وهي النعرات التي لعب عليها العلمانيون اللادينيون ، عرباً كانوا أو عجماً ، فأقاموا حول كل قومية طاقماً من الأصنام النظرية والعملية التي تقدم لها القرابين المادية والمعنوية ؛ فتخاض لأجلها الحروب ، وتُشكَّل لها الأحزاب ، بل وتقوم عليها الدول .
أما في تركيا نفسها ، فقد تشكل فريق ( القومية الطورانية ) لمهمة الإجهاز النهائي على الرابطة الإسلامية ، ومن ثم الخلافة الإسلامية ، وكانت جمعية ( الاتحاد والترقي ) أداتهم في ذلك ، وكانت أولى إنجازاتهم السوداء أن انقلبوا على السلطان عبد الحميد الذي أراد إعادة الاعتبار للجامعة الإسلامية ؛ وذلك في عام 1908م ، عندما قاموا بانقلاب دستوري ضده يقيد سلطاته ، فلما قام أعوانه بمحاولة لتصحيح الأوضاع ، أطاح به الكماليون .
ومن تلك اللحظة تحولت دولة الخلافة من دولة إسلامية عثمانية إلى دولة طورانية تركية ؛ حيث سيطر الطورانيون على كل أجهزة الدولة عسكرياً وإدارياً ، وسياسياً من خلال جمعية الاتحاد والترقي ، وانطلق هؤلاء إلى تطبيق سياسة ( التتريك ) لكل مظاهر الدولة ، تمهيداً للانتقال من منزلة ( القومية ) الطورانية التركية الإقليمية ، إلى ما هو أنزل منها وأدنى وهو ( الوطنية ) التركية المحلية ، وكانت تلك هي الخطوة التالية من خطوات الشيطان التي خطاها نيابة عن إبليس ، صاحب الأصل اليهودي البئيس ( مصطفى كمال أتاتورك ) .
في رأيي الشخصي أن الأمة لم تنتبه جيداً في شخص علمائها ومفكريها إلى الخطر الماحق لنازلة الدعوات القومية والوطنية الجاهلية التي طرحت بديلاً لرابطة الإسلام الجامعة عبر التاريخ بين المسلم العربي والمسلم التركي والكردي والهندي والصيني ، والتي لم تعر اهتماماً للون البشرة ، أو منطق اللسان ، أو انحدار العرق ، تلك الرابطة التي لا تزال قادرة اليوم على أن تجمع في سياق واحد ووثاق متحد ، بين المسلم الأمريكي ، والمسلم الإفريقي ، وبين المؤمن الضعيف والمؤمن القوي وبين المسلم الفقير والمسلم الغني دون أن يشعر هذا بعلو أو ذاك بدنو ، إنها الرابطة التي تقصد أكثر شعائر الإسلام وشرائعه إلى استبطان معناها واستظهار مبناها في الصلاة والزكاة والحج والجهاد وعمارة الأرض .
( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) ( الحجرات : 10 ) .
( أما العلمانية المنافقة الماجنة ، فقد أرادتها فتنة منتنة منذ أن انبعث أشقاها الضال في الأناضول ، ليقول لمن ادعى أنهم أصحاب قومه ووطنه : « لقد آن لتركيا أن تنظر إلى مصالحها وحدها ، ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو غيرهم ، لتنقذ تركيا نفسها من زعامة المسلمين » .
لقد أسعد بسياساته تلك أولياءه من أعداء الله ، حتى كتب السفير البريطاني في تركيا مذكرة إلى وزير خارجية بريطانيا في ( 28/6/1910م ) : « الآن ، قد أخذ الكثيرون يعلنون أن رابطة الإسلام انفصمت ، وأن القضية أمست قضية ترك وعرب » !(14/29)
أما أصحاب قومية أتاتورك الأصلية وهم اليهود الصهيونيون ، فإن مشروع فصم عُرى الإسلام ، بدءاً من حل رابطته ، وحتى إسقاط خلافته وإقصاء شريعته ، قد جرى تنفيذه بإشراف واستشراف منهم ؛ فبعد أن أخفق ( تيودور هرتزل ) مؤسس الصهيونية الحديثة في إقناع السلطان عبد الحميد بالسماح بالهجرة لليهود إلى فلسطين ، اقتنع هو أن قيام الكيان اليهودي العالمي لن يكون إلا على أنقاض الكيان الإسلامي العالمي ، وتوثق بعد ذلك الاتصال بين رواد الصهيونية اليهودية ، وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي الماسونية الطورانية ، حتى إن اللورد ستون ، صاحب كتاب ( نشوء القومية ) في تركيا كتب يقول : « العلامة البارزة في جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية » ، وقال : « إن أصحاب العقول المحركة ورواد تلك الحركة كانوا يهوداً ، أو مسلمين من أصل يهودي ، ومواردهم المالية كانت تأتيهم عن طريق « الدونمة » ويهود سالونيكا الأثرياء ، كما كانت تأتيهم المعونات من بعض الجمعيات الدولية أو الشبيهة بالدولية من فيينا و بودابست و برلين ، وربما من باريس و لندن أيضاً ...
» (1).
وبالرغم من كل ذلك ، فقد وُجد من الإسلاميين عرباً وعجماً من أشادوا بالقوميات حتى يومنا هذا ، وهي التي ولدت يهودية في شرقنا الإسلامي ، ثم تبناها صليبيون وتغريبيون في البلدان العربية على شكل أحزاب أسسها نصارى من أمثال : ( أنطون سعادة ) مؤسس الحزب القومي السوري ، و ( جورج حبش ) مؤسس حزب القوميين العرب و ( ميشيل عفلق ) ، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ، وكان أبرز القادة المنظرين للفكر العلماني في العالم العربي نصارى أيضاً ، من أمثال ( قسطنطين زريق ) و ( أميل البستاني ) و ( سلامة موسى ) ، ولا نستطيع أن نسمى من يسيرون على خطا هؤلاء ، ومن يسارعون فيهم إلا منافقين .
لقد أصبحت الرابطة التي تجمع - أو بالأحرى - تفرق ما بين العرب هي ( الجامعة العربية ) !! التي أصبحت ( الراعي الرسمي ) لكل الهزائم العربية أمام اليهود و النصارى الذين وطنوا القوميات والوطنيات في بلدان المسلمين ، ثم بدؤوا هم يعودون للمنطلقات الدينية إنجيلية وتوراتية .
ومن الجدير ذكره هنا أن دعوى الوطنية حلت محل القومية في تركيا بعد أن انهزم القوميون الطورانيون في تركيا في الحرب العالمية الأولى ؛ فقد انسحب أولئك الطورانيون من قيادة تركيا بعد توقيع اتفافية الهدنة بعد الهزيمة في 30/7/ 1918م ، وهو العام الذي احتل فيه الإنجليز عاصمة دولة الخلافة ، واحتلوا أيضاً فلسطين ، ليهيئوها بعد ذلك لإقامة دولة اليهود التي ظلت مستحيلة القيام في ظل جامعة إسلامية موحدة ، ومع تخلي الطورانيين عن الحكم ، حلوا جمعيتهم المشبوهة ( الاتحاد والترقي ) ليفسح الباب بعد ذلك للوطنيين بعد القوميين ، وتزعَّم مصطفى كمال أتاتورك ذلك الاتجاه ( الوثني الجديد ) ، وقدم نفسه على أنه منقذ الوطن ( تركيا ) من الاستعمار ، وبدأ يُرسَم له دور قائد ( المقاومة الوطنية ) ضد الاحتلال الإنجليزي ، وشكل جمعية أسماها ( الجمعية الوطنية ) عام 1920م ، لتكون ممثلة لسلطان الأمة كما يزعم ، وهنا انقسمت السلطة في الدولة العثمانية إلى سلطة شرعية بقيادة السلطان في القسطنطينية ، وسلطة معارضة في أنقرة ، وكان الإنجليز يتعاملون مع السلطتين معاً ، ريثما تحل سلطة المعارضة ( الوطنية ) محل السلطة الشرعية الممثلة آنذاك في منصب السلطان وحيد الدين ، ولكن الصراع احتد بين السلطتين ، وضُيق على السلطان واتهم بالعمالة للإنجليز ، وقلَّ أعوانه بعد أن تغلغل الكماليون في كل أنحاء وأجزاء الدولة ، فاضطر وحيد الدين إلى مغادرة القسطنطينية ، فخلا الجو للكماليين ، وتهيأ الفضاء الإسلامي في تركيا وما يتبعها من أوطان إسلامية ، لهبوط نازلة أعتى من القوميات وأنكى من الوطنيات .. إنها العلمانية الإلحادية الصريحة التي غرَّبت الإسلام في دياره ، وجادلته في المحكمات من نصوصه وآثاره ، وأرادت بل صممت على أن تنصب خيمتها وتقيم إمبراطوريتها على ركام بلدان الإسلام في أنحاء الأرض .
(خلافة البابوية :
__________
(1) نشوء القومية في تركيا ، تأليف ورد ستون ، ص 135 - 136 .(14/30)
بعد أن ابتلعت جمهرة الأمة ألعوبة العبث بعروة الأخوة الإسلامية الوثقى ، عن طريق القوميات والوطنيات ، وبعد أن تسبب ذلك في انعزال ثم زوال سلطان الخليفة الشرعي الأخير ( وحيد الدين ) سارع أتاتورك إلى تحويل الخلافة إلى ( سلطة روحية ) بعد تحويل السلطة الفعلية إلى الأمة في شكل ( البرلمان ) الذي توكل إليه على طريقة غير المسلمين كل قضايا التشريع والحكم التي لا يجوز إسنادها للبشر ، وقد تمثل ذلك فيما سماه الكماليون بـ ( الجمعية الوطنية ) التي شكلوا في مقابلها حزباً سياسياً يضمن السيطرة على قراراتها وتوجهاتها المحكومة برأي الأغلبية ، ولو كانت أغلبية المنافقين والفساق والكافرين ، وأطلق على ذلك الحزب السياسي ( الحاكم ) « جمعية الدفاع عن الأناضول » في قصة أصبحت كل أنظمة الحكم العلماني تكررها ، فتشكل أحزاباً ( حكومية ) لضمان السيطرة على البرلمانات التي تحكم باسم الأمة ، وهي في الحقيقة تحكم باسم الحزب الحاكم ، الخاضع دوماً للفرد الحاكم ، أما الخلافة التي أخَّرت بإذن الله هيمنة النصارى واليهود على العالم الإسلامي لخمسة قرون ؛ فقد حولها أتاتورك بإيعاز وتشجيع من الإنجليز ( الذين كان يناضلهم في الظاهر ) إلى سلطة روحية على غرار سلطة ( بابا ) النصارى الكاثوليك ، مع أن هؤلاء الإنجليز البروتستانت لا يعترفون لأنفسهم بسلطة كسلطة بابا الكاثوليك ، ولو كانت روحية ، ولكنهم ارتضوا للمسلمين بأن يكون لهم ( بابا ) مؤقت ، باسم الخليفة ، حتى يحين وقت محو هذا اللقب وذلك المنصب من الوجود إلى غير رجعة .
ولما احتلت بريطانيا الأراضي التركية في نهاية الحرب العالمية الأولى ، قال السفير البريطاني ( كرزون ) لعصمت إينونو رئيس وزراء تركيا عند عقد مؤتمر الصلح في نوفمبر 1922م لما طالبه بمنح الاستقلال لتركيا : « إننا لا نستطيع أن ندعكم مستقلين ؛ لأنكم ستكونون حينئذ نواة يتجمع حولها المسلمون مرة أخرى ، فتعود المسألة الشرقية التي عانينا منها طويلاً » .
ولكن أتاتورك تعهد للإنجليز أن يزيل مخاوفهم ، وأبلغهم بالموافقة على أي شروط تزيل تلك المخاوف ، فاشترطوا عليه في اجتماع عقد في إبريل 1923م أربعة شروط على لسان السفير البريطاني ، عرفت بعد ذلك بشروط كرزون ، وهي :
1 - أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام .
2 - أن تقوم بإلغاء الخلافة .
3 - أن تتعهد بالقضاء على كل حركة يمكن أن تقوم لإحياء الخلافة .
4 - أن تحل القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية ، وتضع لنفسها دستوراً علمانياً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمد من قواعد الإسلام .
وبموافقة أتاتورك على تلك الشروط عقدت اتفاقية ( لوزان ) وتركت لحكومته كل الأراضي التي كانت قد سلبت من الأتراك العثمانيين ليظهروه بمظهر البطل صاحب الإنجازات ! لاحظ معي أن روح ( لوزان ) لا تزال قانوناً غير مكتوب ، يحكم العلاقة بين الكيانات العلمانية التي سارت على درب أتاتورك ، وبين دول الكفر المختلفة .
وقد حاولت بريطانيا في الوقت نفسه أن تشجع العرب على الانشقاق عن الأتراك ، لإنشاء خلافة عربية ، بشرط أن تكون ( روحية ) أيضاً ! فمرة تُمَنِّي ( الشريف حسين بن علي ) في ملك العرب جميعاً ، ومرة تتغاضى عن طموحات الملك فؤاد ملك مصر السابق في أن تكون القاهرة ( المحتلة ) عاصمة الخلافة !
فماذا كانت مواقف المسلمين ، بعلمائهم وفقهائهم ومفكريهم وأرباب الدعوة فيهم تجاه هجوم العلمانية ، ومفهوم الخلافة « الروحية » الذي انتهى إلى الفناء والإلغاء ؟!
كيف كانت منازلتهم لهذه النوازل الجديدة المناقضة لأمور معلومة من الدين بالضرورة ، وتتلخص في أن الحكم بشريعة الإسلام واجب يكفر منكره ، ويرتد جاحده ؟! ...
ماذا كان موقف علماء ذلك العصر ومفكريه من طاغية ذلك العصر المبدل للدين والمذل للمسلمين ؟! هذه بعض إلماحات مختصرة عن تلك المواقف قبيل وبعيد قرار إلغاء الخلافة البعض منها يدل على الكل ، في ملامح مرحلة حرجة من تاريخ الأمة المعاصرة ، أسست أزماتها لكل الأزمات والنوازل بعدها ، وتشابهت المواقف من المجرمين وقتها ، من المجرمين بعدها .
(ليتهم سكتوا :
- سبقت جرأة كمال أتاتورك على إعلان تحويل الخلافة إلى منصب روحي ، دراسة كان قد طلب إعدادها من فريق من ( الفقهاء ) الأتراك ، وتم صدورها في بيان فقهي تحت عنوان ( الخلافة وسلطة الأمة ) يتضمن القول بأن الخلافة مجرد مسألة سياسية صرفة ، ولا علاقة لها بالدين والاعتقاد ، ودعا إلى إرجاء الكلام فيها مطلقاً ، أو قلبها إلى مجرد سلطة روحية » .
وكان هذا الفقه الفاسد متكأ أتاتورك بعد ذلك في إلغاء الخلافة بشكل كلي .(14/31)
- طرح أحد أبرز مفكري ذلك العصر ، وهو عبد الرحمن الكواكبي ( ت 1902م ) المنحدر من أصول إيرانية شيعية ، مبدأ الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية للخليفة ، بوضوح تام في كتابيه ( طبائع الاستبداد ) و ( أم القرى ) واقترح أن يكون للخليفة سلطة محددة بمنطقة الحجاز فقط ، تشبه سلطة البابا على مدينة الفاتيكان ، وقد اقتبس الكواكبي ذلك الطرح عن تيار ( العثمانيين الجدد ) الذين نقلوه بدورهم عن مؤلفات الأرمني النصراني ( مورداجا وهسون ) وقرينه ( غريك سوفاس ) .
- أطلق رجل بحجم ( أحمد شوقي ) قصيدة في تبجيل أتاتورك وسماها ( تكليل أنقرة وعزل الأستانة ) أي تكليل الكمالية وعزل السلطان والخلافة ، وعندما ادعى أتاتورك الانتصار على اليونان في حربه التمثيلية ضدهم أطلق أحمد شوقي أبياته المشهورة :
الله أكبر كم في الفتح من عجبِ * * * يا خالد الترك جدد خالد العربِ
ولكن أحمد شوقي أسقط في يده بعد ذلك عندما فوجئ بأن ( خالد الترك ) بدلاً من أين يجدد خالد العرب ، فإنه بَدَدَ مجد الترك ومجد العرب .
- كان زعيم الحركة السنوسية ، من أبرز من أيدوا الفصل بين الخلافة والسلطنة ، معتبراً أن ذلك في مصلحة الإسلام ، بل إنه نشر في جريدة الأهرام المصرية ، في 28/9/1923م ، بياناً ذهب فيه إلى أن نزع السلطة المدنية من يد الخليفة سيعزز نفوذه الإسلامي ؛ لأنه سيصبح زعيماً عاماً وروحياً للأمة كلها ! - كان موقف جمال الدين الأفغاني ( ت 1897م ) من السلطان عبد الحميد غامضاً ؛ فبعد تأييده في إعادة الاعتبار لمفهوم ( الجامعة الإسلامية ) بدأ يطالبه بأشياء مثيرة للشكوك ، كأن يطالبه بتعريب الأتراك ، ونقل عاصمة الخلافة إلى عاصمة أخرى .
وجمال الدين الأفغاني ليس أفغانياً بل إيراني شيعي ( على الراجح ) ، كما أكد الشيخ مصطفى عبد الرازق في تقديمه لمقالات مجلة ( العروة الوثقى ) والكاتب ( قدري قلعجي ) في كتاب نشر له عام 1951م يتناول سيرة الأفغاني و محمد عبده و سعد زغلول .
وسيرة الأفغاني المملوءة بالتقية الشيعية انعكست على طريقة تعامله مع مسألة الخلافة الإسلامية ، وهو ما جعل السلطان عبد الحميد يرتاب منه وينأى عنه .
- وقف التيار الجهادي المغربي موقفاً غريباً من أزمة الخلافة ؛ فقد عارض عبد الكريم الخطابي ( 1881 - 1962م ) الدعوة لإعادة الخلافة بعد إلغائها وكانت تعليمات الخطابي لمندوبه في مؤتمر إعادة الخلافة ألا يؤيد أي مرشح لها (1).
وبالرغم مما قامت به حركة الخطابي من بطولات فذة ، أفقدت الأسبان و الفرنسيين صوابهم وأجبرتهم على الانسحاب من أكثر الأراضي المغربية التي احتلوها ، فإن ذلك الموقف من الخلافة التي قامت بعد خلافة الأندلس التي كانت المغرب إحدى حواضرها الزاهرة ، كان غريباً في وقته ، وحتى لو كانت لحركة عبد الكريم الخطابي قضاياها الخاصة الكبيرة وهذا ما كان بالفعل فإن من غير المفهوم أن يكون الجهاد في إحدى البقع الإسلامية صارفاً ولو وجدانياً عن المشاركة في النوازل الجماعية التي تنعكس على مجمل أوضاع الأمة .
- وفي الجزائر كان للشيخ عبد الحميد بن باديس زعيم الإسلاميين في الجزائر في ذلك الوقت ومؤسس ( جمعية علماء الإسلام ) التي أضاءت سماء الجزائر بالعلم النافع والتجديد المتسارع موقف مغاير من أتاتورك خالف به جمهور الإسلاميين ؛ إذ نظر إليه على أنه « أعظم رجل عرفته البشرية في تاريخها الحديث » !! وقال عنه : « إنه عبقري من أعظم عباقرة الشرق الإسلامي كله » ووصفه بأنه « محيي الشرق الذي غيّر مجرى التاريخ » ولم يعد ابن باديس أتاتورك متهماً بالقضاء على مكانة الإسلام ، بل جعل له ( شرف ) القضاء على ( أصحاب العمائم ) الذين أضروا بالإسلام !! ورأى ابن باديس أن الخلافة خيال غير قابل للتطبيق ؛ وأنه لا يمثله في الحقيقة إلا مؤسسة من ( أهل الحل والعقد ) التي يتصورها مرجعية دينية أدبية ، بعيدة كل البعد عن السياسة والتدخل في شؤون الحكومات ، وكان لا يتصور الخلافة نظاماً إسلامياً شرعياً ، ولكن يتصور بدلاً منها عالمية إسلامية ثقافية ! (2) .
قد تكون لحركة ابن باديس ظروفها الموضوعية وتقديراتها الخاصة لما جرى في تركيا ، وقد تكون للشيخ مآخذه على منهج خلفاء آل عثمان ، ولكن ذلك لا يعني بحال أن يكون الطاغية ( أتاتورك ) محلاً لهذا الاحتفاء والمدح رداً على ما يُرى في العثمانيين من مثالب وقدح .
__________
(1) انظر : الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبان الثورة الكمالية ، الدكتور وجيه كوثراني، ص 26 .
(2) انظر : الإسلام والعروبة والعلمانية ، الدكتور محمد عمارة ، ص 163 - 165 .(14/32)
- وفي مصر التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي في ذلك الوقت ، نشأ اختلاف حاد تجاه ما أحدثه أتاتورك ، بلغت حدته أن عده بعضهم مرتداً ، واعتبره آخرون مجدداً ، وبلغ اللغط قمته عندما أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه الصاعق ( الإسلام وأصول الحكم ) فصاغ فيه أفكار الليبرالية العلمانية بلغة أزهرية ، تلبيساً منه وتدليساً ، وكان عبد الرازق قد تلقى قسطاً من تعليمه في جامعة أكسفورد ، وأسبغ عليه منصبه في القضاء وزناً أدبياً جعل مؤلفه فتنة في وقته ؛ حيث زعم فيه أن الإسلام دين وعبادة فقط ، ولا دخل له بالحكم ولا السياسة ، وبناء عليه فلا أساس لمشروعية منصب الخلافة ، ولا صحة لوجود شيء اسمه الحكم الإسلامي حتى في عهد الرسالة ؛ حيث كان الرسو صلى الله عليه وسلم كما زعم عبد الرازق مجرد مبلِّغ للدين والرسالة ، وقد عرض كتابه على ( طه حسين ) داعية التغريب الملقب بـ ( عميد الأدب العربي ) فأضاف طه إضافات على كتاب عبد الرازق زادته ظلمات فوق ظلمات .
- في خضم هذا اللغط المخلط للمفاهيم ، كان الشيخ مصطفى صبري ( 1869 - 1954م ) آخر شيوخ الإسلام المفتين في الدولة العثمانية قد أصدر كتاباً بعنوان : ( الرد على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة ) فكان صوتاً صادقاً صادعاً بالحق في وجه تغول الفكر العلماني وهجمته الانتهازية على أصول الإسلام من خلال تآمرهم على صرحه الباقي وحصنه الأخير .
وكان الشيخ أيضاً ممن اغتر بدعاوى الإصلاح التي رفعها الاتحاديون ، فشارك في تأييد خلع السلطان عبد الحميد في مجلس ( المبعوثان ) على غير إدراك لأبعاد تآمر هؤلاء الاتحاديين على تركيا والعالم الإسلامي كله ، ولما تبينت له تلك الأبعاد قال نادماً : « أيدت خلع السلطان عبد الحميد ، وبعد ستة أشهر تبين لي أن ثقله السياسي كان يساوي ثقل أعضاء مجلس المبعوثان جميعاً ويزيد » .. وبدأ بعد ذلك في الكشف عن حقيقة الكماليين التي اتضحت له ، وهاجم أتاتورك في أوج تألقه والتفاف الناس حوله ، وألف في الرد على من أيدوا اتجاهه المنحرف ، وبخاصة علي عبد الرازق ، حيث فند شبهاته وأبطل دعاويه .
- أما بالنسبة للأزهر كأعلى مؤسسة علمية إسلامية في ذلك الوقت فقد فوجئ علماؤه بكارثة إلغاء الخلافة ، وفوجئوا كذلك بمسارعة الحسين بن علي إلى الدعوة لنفسه بالخلافة دون مشورة من بقية المسلمين ، كما كانت مفاجأة لشيخ الأزهر في ذلك الوقت ( محمد أبو الفضل الجيزاوي ) أن يرشح الملك فؤاد ، ملك مصر الأسبق نفسه لهذا المنصب بعد أن دعاه إلى ذلك حفيد الأمير عبد القادر الجزائري ، فطلب منه أن يعلن نفسه خليفة ، ويجعل من القاهرة عاصمة جديدة للخلافة ، وكان لهذه الدعوة أنصار في مصر ، كما كان لها معارضون مغالون في المعارضة ، وعلى رأسهم الأحزاب العلمانية الناشئة ، كحزب الأحرار الدستوريين و حزب الوفد .
- ثارت دعوة من خلال الأزهر لعقد مؤتمر إسلامي عام لمناقشة مسألة الخلافة الإسلامية ، كان من ورائها دفع من قصر الحكم في مصر .
وكان واضحاً أن للملك فؤاد رغبة في أن يصبح خليفة للمسلمين ، فقوبلت هذه الرغبة من معارضيه السياسيين أشد المعارضة ، وكانت معارضة شخصية سياسية أكثر منها دينية ، ونجح هؤلاء المعارضون السياسيون في أن يقحموا السياسة في الدين على عكس مبدئهم المشهور ( لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ) فهنا فقط أدخلوا السياسة في الدين ، وأغروا بعض المشايخ كما حدث من علي عبد الرازق ، بأن يصيغوا هذا الرأي السياسي المعارض صياغة دينية ، فجاء هذا الكتاب الكارثة ، على تلك الخلفية السياسية الشخصية الانتهازية .
- تزعم حزب الأحرار الدستوريين ( العلماني ) المعركة ضد الخلافة ، لا اعتراضاً على شخص الملك فؤاد فقط ، بل رفضاً لمسألة الخلافة من أساسها لا بل رفضاً لحكم الشريعة بالمرة ، فقد كان ذلك الحزب رافضاً لأن ينص الدستور المصري لعام 1923م على أن الإسلام هو دين الدولة ، وكانت اللجنة المشكلة لوضع هذا الدستور كلها من أعضاء ذلك الحزب ، وكان حزب ( الأحرار ) هذا مدعوماً من الإنجليز ، وكان ينافسه في العمل الحزبي ، حزب الوفد الليبرالي العلماني أيضاً ، ولكنهما مع اختلافهما الشديد الذي وصل إلى حد العداوة ، اتفقا على معارضة عودة الخلافة .
- أما المؤتمر المدْعُو له لبحث النازلة العامة بحثاً عاماً فقد تنادى للاستجابة له علماء شرعيون كثيرون ، وقد كان هذا الأمر جيداً في وقته ؛ فأن يبت علماء الأمة في شأن عظيم من شؤونها في مؤتمر عام أمر يحمد لهذا الجيل ، ويحسب في رصيده ، أما ما لم يحمد فهو أن ذلك المؤتمر قد انتهى إلى طريق مسدود ؛ فقد عقد ذلك المؤتمر في التاسع عشر من شعبان سنة 1343هـ الموافق 25/3/1924م ، أي في السنة نفسها التي أعلن مصطفى كمال أتاتورك فيها إلغاء الخلافة ، وبالرغم من أنه عقد لبحث قضية إسلامية عالمية ، فقد غلبت عليه الصفة الإقليمية ، فجُل العلماء المجتمعين على فضلهم لا يمثلون إلا العلماء الرسميين الذين ينتمون إلى البلد التي يقودها ذلك الملك المرشح للخلافة وهي مصر .(14/33)
- انتهى مؤتمر النازلة الكبرى بعد بحث طويل إلى مقررات تتلخص في تقرير شرعية منصب الخلافة وطرق انعقادها ودعائم بقائها وأسباب زوالها عن الشخص المعقودة به ، ليخلص التقرير الصادر عن المؤتمر من ذلك إلى أن عزل كمال أتاتورك للسلطان وحيد الدين عن الخلافة جاء لأسباب ارتضاها المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافته ، ثم أشار التقرير إلى الخطوة الثانية من خطوات أتاتورك ، وهي تحويل الخلافة إلى خلافة روحية في شخص السلطان عبد المجيد ، وبيَّن أن ذلك الفعل من المجلس الوطني التركي ( بدعة ) ما كان المسلمون يعرفونها من قبل ، لكن التقرير نبه على أن خلافة عبد المجيد على هذا الشكل ليست شرعية ، وأن البيعة له بشرط أن يكون معزولاً عن السياسة لم تكن صحيحة أصلاً ، وحتى لو كانت صحيحة فإن عبد المجيد لم يكن يملك النفوذ والقوة المشترطة فيمن يتولى الخلافة ، لهذا فإنه ليست له بيعة في أعناق المسلمين لزوال المقصود من تنصيبه شرعاً ، واعتبر التقرير أنه « ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده ، ولا يملكون هم تمكينه منها » .
( إذن فما هو الحل ؟!
حاول المؤتمرون أن يسوِّغوا العجز عن تقديم مبادرة لحل الأزمة ، بأن « العالم الإسلامي أصبح في أزمة بسبب الضجة التي أحدثها الكماليون في تركيا بإلغائهم منصب الخلافة ، وجعلوا هذا الاضطراب سبباً في أن « لا يتمكن المسلمون معه من البت في تكوين رأي ناضج في مسألة الخلافة ، ولا في من يصح أن يكون خليفة لهم » ومن أجل هذا دعا مؤتمر الأزهر إلى عقد مؤتمر أوسع : « لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي يُدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للبت فيما يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية ، وتكون بمدينة القاهرة ، تحت رئاسة شيخ الإسلام بالديار المصرية ، على أن يعقد في شهر شعبان من 1343هـ مارس 1925م » أي بعد مرور عام كامل من المؤتمر الأول !!
ولم ينس المؤتمرون قبل أن يطووا أوراقهم أن يوجهوا الشكر للأمم غير الإسلامية ( الكافرة ) التي « راعت » ظروف المسلمين في هذا الظرف العصيب ، فلم تتدخل في شؤونهم .. « نعلن شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي ، ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون الخلافة الإسلامية ، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية محضة لا يجوز أن تتعدى دائرتها ، ولا يهتم بها أحد من غير أهلها » !
ولنا ملاحظات وتساؤلات على ذلك المؤتمر ، وهي : هل كان المؤتمرون لا يعلمون شيئاً عن الدور الذي لعبته دول الأمم ( التي لا تدين بالإسلام ) في ترتيب خطوات إسقاط الخلافة بأشكال مباشرة وغير مباشرة ؟ .. وهل كانت وظيفة المؤتمر فقط أن يضفي شرعية على عزل السلطان عبد المجيد ؟
وكيف لم يكن الحكم الشرعي في العلمانية المطروحة بديلاً للخلافة موضوعاً ضمن مقررات المؤتمر ؟ وكيف نجح العلمانيون في أن يؤثروا على توصيات المؤتمر بحيث لا يشير أي إشارة إلى حل بديل في قضية الخلافة ؟
المؤتمر إذن لم ينجح ، وأرجأ إعلان عدم نجاحه إلى عام قادم يعقد فيه المؤتمر الثاني لبحث ( النازلة الكبرى )
! ( المؤتمر الثاني الموعود :
عندما جاء وقت انعقاد المؤتمر الموعود ، تأجل مرة أخرى لعام آخر ؛ لأن ( الظروف غير مناسبة ) وكانت تلك المدة كافية لأن تثير حول مفهوم الخلافة الكثير من التوترات والمهاترات التي من شأنها ( حتى من ناحية نفسية ) أن تقلل الحماس وتضعف العزيمة ، ولا شك أن العلمانيين الأوائل في مصر ومن خُدعوا بهم ، كان عليهم الجرم الأكبر في ذلك سواء كانوا من أصحاب ( الطرابيش ) أو ( أصحاب العمائم ) ، حيث عمل هؤلاء وهؤلاء ، من حيث يعلمون أو لا يعلمون على تحقيق غرض الإنجليز الواضح في تضييع الوقت ، وتمييع القضايا ، وتوسيع الصراع بين الأطراف في قضايا جانبية بعيداً عن القضية الأصلية ، ولما جاء أوان انعقاد ( مؤتمر الخلافة ) بعد عامين من سقوطها ، تحول ذلك المؤتمر إلى مواجهات بين أنصار الإبقاء على الخلافة بشكلها المعروف في الشرع ، وبين من رأوا إدخال ( تعديلات ) عليها ، وثارت مواجهات أخرى أشد بين أنصار تنصيب ( الملك فؤاد ) خليفة ، وبين أنصار تنصيب ( الحسين بن علي ) خليفة .
ولأن المؤتمر عقد في مصر ، وبدعوة من حزب الاتحاد التابع للملك ، فقد كان من الطبيعي أن يفقد المؤتمر صفته العالمية ، بل حتى على المستوى المحلي ذاته فقد انقسم علماء الأزهر أنفسهم حول استحقاق الملك لمنصب الخلافة ، وكان على رأس المعارضين في ذلك شيخ الأزهر نفسه ( محمد أبو الفضل الجيزاوي ) الذي رأى أن القاهرة لا تصلح لأن تكون عاصمة لدولة خلافة جديدة ، وهي لا تزال تحت احتلال الإنجليز .(14/34)
لقد أسس هذا المؤتمر ( الإسلامي الرسمي العالمي ) لعادة أصبحت عُرفاً بعد ذلك في كل ما يماثله من مؤتمرات ، وهي اختصار المسافات بالقفز فوق الخلافات بدلاً من علاجها ، فقرر المؤتمر المنتظر ( والمؤجل لعامين ) تأجيل البت في مسألة الخلافة ( لظروف أنسب ) في مؤتمرات لاحقة ، دون أن يعينوا لها زماناً أو مكاناً !! ، وكان من مسوغات تأجيل البت في ( مسألة ) الخلافة في ذلك المؤتمر ، أن الحضور رأوا أن « العالم الإسلامي أصبح ممزقاً ، وأن النزعة القومية بدأت تسيطر عليه » !!
لا ينبغي أن ننسى في هذا السياق أن المؤتمر كان للعلماء ، وليس للساسة والزعماء ، ولهذا كانت تسويغاته للفشل عذراً أقبح من ذنب ؛ إذ إنها جعلت الآفة التي جاءت لمعالجتها سبباً في ترك النظر في العلاج ، كما يُترك المريض حتى يموت بدعوى أن حالته الصحية ليست جيدة !! وقد رسَّخ المؤتمر إخفاق قادة الأمة ( المفترضين ) في تجاوز المحنة ، ولو بشكل نظري يضع الأمور في نصابها ويوقف العابثين بتراث الأمة ومصيرها عند حدهم ، وكما أسبغ المؤتمر الأول مشروعية ضمنية على جريمة أتاتورك في عزل عبد المجيد بعد تجريده من مقاليد الحُكم ، فقد أضفى المؤتمر الثاني نوعاً من التطبيع على هيمنة العلمانية ، بفتح الطريق أمامها بغير قصد لأن تمسك هي بزمام الأمة ، فيتحول غربانها من المنافقين وثعالبها من الأفاكين إلى ( أهل حل وعقد ) في مجالس الزور المسماة بـ ( البرلمانات ) .
ومنذ ذلك العهد بدأت المعركة الحقيقية بين الإسلام وغريمه الأكبر في ذلك العصر ( العلمانية ) ...
تلك الأداة الطيعة في أيدي كل أعداء الأمة ، من يهود و نصارى و ملحدين ، فما نفذ هؤلاء وهؤلاء إلى صميم حصون الأمة إلا على ظهور منافقيها ، وما نالوا من دمائها وأموالها وأعراضها بمثل ما فُعل على أيدي سفاحيهم وسفاكيهم .
ولهذا فإن التاريخ المعاصر يحتاج لإعادة كتابة يرصد فيها دور حزب المنافقين المعاصرين ، في التغرير بالأمة لنحو مئة عام متواصلة ، قامت خلالها لهم إمبراطورية كبرى ، هي ( إمبراطورية النفاق ) التي تضم كياناتهم المتعددة القائمة على إزاحة سلطان الإسلام لصالح سلطان الشيطان .
( لكن نقطة بيضاء ناصعة :
، نورت آفاق المواقف من نازلة إلغاء الخلافة ، كان يمثلها موقف عدد من العلماء الأحرار ، أمثال : الشيخ مصطفى صبري ، والشيخ أحمد شاكر ، والشيخ محمد بخيت المطيعي ، والشيخ محمد الخضر حسين ، فقد كان لكل منهم صولات وجولات في المنافحة عن حقائق الدين وحرماته أمام تلك الهجمة ، ويذكر هنا بوجه خاص الدور العظيم الذي قام به الشيخ محمد رشيد رضا ، حيث أثار مناقشات فقهية حول مفهوم الخلافة الروحية في مجلته ( المنار ) في أعداد متتابعة ، ثم جمعها في كتاب بعنوان ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) وكان رأي رشيد من أرشد الآراء المعلنة في تلك الحقبة المظلمة ؛ حيث كانت خلاصة رأيه في مقالاته وكتابه أن الخلافة مسألة شرعية ، وأن نصب الأمة للإمام واجب شرعاً ، وأنها تأثم كلها بترك هذا الواجب ، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع ترك هذا الواجب (1) .
وكان كتاب رشيد رضا رداً على كتاب ( الخلافة وسلطة الأمة ) الذي أعده بعض شيوخ تركيا بأمر أو تآمر من مصطفى كمال أتاتورك ، وجاء هذا الموقف المعارض لأتاتورك وشيوخه ، بعد مرحلة من التأييد والتشجيع ، خُدع فيها رشيد رضا - رحمه الله - بشعارات أتاتورك فيمن خُدع ، حتى إنه راهن عليه في إصلاح أحوال الأمة انطلاقاً من تركيا ، وطالبه بتشكيل ما أسماه ( حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل ) ليكون ممثلاً لفكر أستاذه محمد عبده ، ولكنه اكتشف زيف دعاوى أتاتورك بعد ذلك فاتخذ منه الموقف الشرعي الصحيح ، ودعا الشيخ رشيد جاهداً إلى إعادة تأسيس الخلافة على أصول صحيحة ، بل إنه وكما يظهر من بعض كلماته في تفسير المنار ، حاول أن يسلك مسلكاً عملياً لأجل الوصول إلى ذلك الغرض الشرعي بتشكيل فريق عمل يسعى لإعادة الخلافة .
وكانت محاولات الشيخ محمد رشيد رضا لمنازلة تلك النازلة ، هي أول تحرك مبكر للتصدي لتلك المحن ، تطور بعد ذلك على شكل جماعات وحركات وهيئات وجمعيات ، قامت من أجل العمل لاستئناف الحياة الإسلامية ...
فهل أدت هذه وتلك الأدوار المناطة بها ؟ .. إن لذلك قصة أخرى ، أرجو أن تتوفر لمناقشتها فرصة أخرى .
================(14/35)
(14/36)
كيف تعرف العلماني ؟ و ما هي معتقداته ؟
خليفه بن إسماعيل الإسماعيل
العلماني :
تجده يؤمن بوجود إله لكنه يعتقد بعدم وجود علاقة بين الدين وبين حياة الإنسان ( فكر بوذي ) كما يعتقد بأن الحياة تقوم على أساس العلم التجريبي المطلق وهذا ( فكر ماركسي ).
والعلماني :
تجده يعتبر القيم الروحية التي تنادي بها الأديان والقيم الأخلاقية بأنواعها هي قيم سلبية يجب أن يتم تطويرها أو إلغائها وهذا ( فكر ماركسي ).
والعلماني :
تجده يطالب بالإباحية كالسفور ، والاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة والخاصة ( أي الخلوة ) ويحبذ عدم الترابط الأسري ( دعوة ماسونية ).
والعلماني :
__________
(1) راجع ذلك في كتابه (الإمامة العظمى) .
تجده يطالب بعدم تدخل الدين في الأمور السياسية وأنه يجب تطبيق الشرائع والأنظمة الوضعية كالقانون الفرنسي في الحكم . وأن الدين للعبادة فقط دون تدخل في شئون الخلق وتنظيمها - كما أراد الله سبحانه وتعالى -.
والعلماني :
تجده يردد دائماً بأن الإنسان هو الذي ينبغي أن يستشار في الأمور الدنيوية كلها وليس رجال الدين - وكأن رجال الدين هم الذين اخترعوا التعاليم السماوية - ويطالب بأن يكون العقل البشري صاحب القرار وليس الدين . ( مع تحفظنا على رجال الدين لان ليس عندنا رجال دين ولكن عندنا علماء )
والعلماني :
تجده يصرح باطلاً بأن الإسلام لا يتلائم مع الحضارة وأنه يدعوا إلى التخلف لأنه لم يقدم للبشرية ما ينفع ويتناسى عن قصد الأمجاد الإسلامية من فتوحات ومخترعات في مجال الهندسة والجبر والكيمياء والفيزياء والطب وأن علم الجبر الذي غير المفاهيم العلمية وكان السبب الرئيسي لكثرة من مخترعات اليوم وربما المستقبل ينسب لمبتدعه العبقري جابر بن حيان وهو مسلم عربي .
والعلماني :
تجده يعتقد بأن الأخلاق نسبية وليس لها وجود في حياة البشر إنما هي انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية وهي من صنع العقل الجماعي وأنها أي الأخلاق تتغير على الدوام وحسب الظروف ( فكر ماركسي ) .
والعلماني :
تجده يعتقد بأن التشريع الإسلامي والفقه وكافة تعاليم الأديان السماوية الأخرى ما هي إلا امتداد لشرائع قديمة أمثال القانون الروماني وأنها تعاليم عفى عليها الزمن وأنها تناقض العلم . وأن تعاليم الدين وشعائره لا يستفيد منها المجتمع . ( وهذا فكر ماركسي ) .
تنبيه :
العلماني تجده يصرح بهذه المقولة ويجعلها شعاراً له دون أن يكون له دراية أو علم أو اطلاع على التعاليم الفقهية الإسلامية أو على الإنجازات الحضارية الإسلامية0
والعلماني :
تجده حين يتحدث عن المتدينين فإنه يمزج حديثه بالسخرية منهم ويطالب بأن يقتصر توظيف خريجي المعاهد والكليات الدينية على الوعظ أو المأذونية أو الإمامة أو الأذان وخلافه من أمور الدين فقط .
والعلماني :
يعتبر أن مجرد ذكر اسم الله في البحث العلمي يعتبر إفساداً للروح العلمية ومبرراً لطرح النتائج العلمية واعتبارها غير ذات قيمة حتى ولو كانت صحيحة علمياً .
والعلماني :تجده يعتبر أن قمة الواقعية هي التعامل بين البشر دون قيم أخلاقية أو دينية لأنها في اعتقاده غير ضرورية لبناء الإنسان بل أنها تساهم في تأخيره وأن القيم الإنسانية ما هي إلا مثالية لا حاجة للمجتمع بها .
والعلماني :
تجده يعترض اعتراضا شديداً على تطبيق حدود الله في الخارجين على شرعه كالرجم للزاني أو قطع اليد للسارق أو القتل للقاتل وغيرها من أحكام الله ويعتبرها قسوة لا مبرر لها .
والعلماني :
تجده يطالب ويحبذ مساواة المرأة بالرجل ويدعو إلى تحررها وسفورها واختلاطها بالرجال دون تحديد العمل الذي يلائمها ويحفظ كرمتها كأنثى .
والعلماني : تجده يحبذ أن لا يكون التعليم الديني في المدارس الحكومية إلزامياً بل إختيارياً .
والعلماني :
يتمنى تغيير القوانين الإسلامية بقوانين علمانية كالقانون المدني السويسري والقانون الجنائي المعمول به في إيطاليا والقانون التجاري الألماني والقانون الجنائي الفرنسي وهذا القانون يعمل به في بعض الدول العربية . ويعتبر أن تلك القوانين هي الأفيد في حياة الفرد والمجتمع من التنظيم الإسلامي .
المصدر كتاب : كيف تعرفهم ؟ لخليفه بن إسماعيل الإسماعيل
===========(14/37)
(14/38)
تحولات إستراتيجية في المنطقة العربية
د. عوض بن محمد القرني
د.عوض القرني
تناولنا في العددين الماضيين دوافع أمريكا للحرب على العراق، أما ما يتعلق بالتحرك الفكري والاجتماعي فسوف تواصل أمريكا سعيها في الضغط لتغيير المناهج، وتقليص النفوذ الديني والعلوم الشرعية، والمؤسسات الخيرية، والتغيير الاجتماعي من خلال المرأة أولاً، والسعي لتغيير الاتجاه العام للمجتمعات، من خلال تغيير سياسات التعليم والإعلام وبعض نظم الحكم، ومن خلال التمكين للمنافقين من العلمانيين وأمثالهم والشهوانيين وأشياعهم، والذين بدأوا بالتحرك والظهور.
ومن ثم كان البغي والاستكبار والغرور والاستعلاء الذي اتصفت به أمريكا: مستكبرة بقوتها وكثرتها وعددها وعتادها، متناسيةً قدرة الله عليها وأن ذلك مقدمات الخذلان لها، بل الدمار، مثلما أخبر الله تعالى عمن قبلهم فقال سبحانه: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15) فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى" وهم لا ينصرون (16) (فصلت).
إن مما ستكشفه هذه الحرب، انكشاف حقيقة أمريكا وظهور زيف شعاراتها عن العدالة الحرية والإنسانية والحضارة وحق الشعوب في تقرير المصير... الخ، حتى في تعاملها مع مواطنيها من المسلمين. قال الله تعالى: قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون 118(آل عمران).
وقد تنجلى الأحداث وتكون الاحتمالات التي بعدها كثيرة ومختلفة: فقد يحاول الغزاة فرض أساليب جديدة للحياة في المنطقة تحت مسمى: الديمقراطية والمشاركة السياسية، أو السعي لتمزيق المنطقة وتفتيتها، أو إبقاء شكل الدول وتبديل مضمونها إلى الأسوأ، أو الإلزام بقيام مؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات والإعلام الحر، وهذا يقتضي الإعداد لهذه المرحلة بكافة احتمالاتها، وتكاتف الجهود والحفاظ على وحدة الأمة.
وجاءت الهجمة الصليبية الاستعمارية في بداية هذا القرن التي مزقت جسم الأمة وأقامت بينها الحدود المصطنعة باتفاقية سايكس بيكو الشهيرة، وتحولت الأمة الواحدة إلى دويلات هزيلة متناحرة يدبر بعضها المؤامرات ضد البعض الآخر، وتنفق من الأموال وتكدس من السلاح في الصراع بينها أضعاف ما تنفقه أو تستعد به لعدوها الخارجي، وإن شئت أن تأخذ النظام البعثي نموذجاً فأمامك قائمة طويلة من الحروب مع شعبه وجيرانه، وهكذا أصبح في أغلب الأقطار أنظمة وأحزاب علمانية ما بين ليبرالية أو يسارية، فاضطهدت الأمة وقتلت كرامتها وارتهنتها لعدوها وحاربت دينها وتاريخها وقيمها، حتى أصبحت الأمة أمماً يأكل بعضها بعضاً، وذلت أمام عدوها وتوالت هزائمها في جميع الميادين، فجاءت هزيمة نظام البعث في العراق في السياق ذاته، ومحصلة نهائية للعوامل ذاتها التي تتكرر عبر هذا القرن في بلدان شتى وبصور مختلفة".
وكذلك قامت الأنظمة العلمانية المفروضة على الأمة والجاثمة على صدرها من منتصف القرن الماضي، والتي استنزفت خيرات الأمة وطاقاتها ببناء السجون والمعتقلات وشن الحروب على الجيران وبناء القصور وتكديس الأموال في المصارف العالمية، وإنفاقها على الشهوات والموبقات، وبناء الأجهزة الأمنية الكثيرة .
هذه الأنظمة التي مزقت الجبهة الداخلية للشعوب بشنها حرباً لا هوادة فيها على دين الأمة وتاريخها وهويتها ومحاولة زرع هوية مستوردة وغرسها في المجتمع بالحديد والنار، مما أفقد الأمة أي شعور بالانتماء لأوطانها والحكومات التي تحكمها، وجعلها تقول لا فرق بين بوش أو شارون أو صدام حسين أو ... الخ.
وإذا أردنا أن نفهم أسباب عجز النظام العربي القائم وعدم فاعليته، فعلينا أن نتذكر أنه تصميم وتنفيذ فرنسي بريطاني ثم رعاية وتعهد أمريكي سوفيتي وأن له وظيفة وقدرة وحدوداً لا يستطيع تجاوزها بناءً على أصل تكوينه وحدود إمكاناته.
=============(14/39)
(14/40)
الوسائل العلمية والعملية لمواجهة العلمانيين
ابو عمر
توطئة :
العلمانية لا تحتاج لتعريف لكثرة ما كتب عنها ، ولذا لا يهمنا الآن التعريف ولكن يهمنا كيفية المواجهة مع هذا الفكر ..
الأصل أن تكون المواجهة من خلال خطط مدروسة لا مجرد ردود أفعال ، وأن تكون الخطة طويلة المدى ولها أهداف مرحلية واضحة لا مجرد مواقف آنية تنتهي بنهاية الحدث.
أولاً الموقف من العلمانية والعلمانيين:
1. إبراز حقيقة العلمانيين والبعد الديني لها ، وحكم العلمانية والعلمانيين في الإسلام ، ونشر المقالات عن طرق العلمانية وبرامج حوارية عنها لتبيين خطرها ، وبيان أنهم غير منتجين.
2. إبراز أهداف العلمانيين وفضح رموزهم.
3. إبراز وسائلهم في محاربة الإسلام والمسلمين وكذلك خطرهم على الأمة وبيان أوجه الشبه بينهم وبين المنافقين.
4. رصد وجمع مقالاتهم وأطروحاتهم ثم تصنيفها وإيصالها لمن يستطيع الرد والإنكار عليهم ، ومناظرة رموزهم وقياداتهم الضالة.
5. الرد على العلمانيين من خلال المنابر المتوفرة :
( خطب الجمعة ، الشريط الإسلامي ، الانترنت ، القنوت الفضائية ، الصحافة ، الكتب والمؤلفات ، المحاضرات والندوات ...الخ.
6. ربط أحداث العنف في البلاد بتطرف العمانيين وأطروحاتهم -وهذه هي الحقيقة-.
7. التوضيح لأهل الحل والعقد أهدافهم وأعمالهم وتبيين عيوبهم ومرادهم في المجتمع.
8. النصح لهم وذلك عن طريقين مباشر وغير مباشر إما عن طريق الذهاب لهم والجلوس معهم والتحاور معهم مباشرة أو مهاتفتهم عما يحصل وما حصل ، أو عن طريق المراسلات عن طريق الرسالة والبريد الأرضي والالكتروني وغيره.
9. اختراق أماكنهم وفضح مخططاتهم.
10. الذهاب إلى أماكنهم وفضح مراميهم وأهدافهم والرد عليهم مباشرة.
11. وضع عمل مؤسسي للرد على العلمانيين.
12. وضع كتب صغيرة وأشرطة في الفقه الميسر وغيره
13. ............
ثانياً : التفاعل والتعايش مع المجتمع:
14. المعايشة العملية لمشاكل المجتمع بإظهار الاهتمام بها ، وطرح الحلول العلمية والعملية لها ، على سبيل المثال : البطالة ، العنوسة ، الطلاق ، الجريمة .. الخ.
15. إنشاء المؤسسات والنوادي الاجتماعية وتطوير أنشطة الجمعيات الخيرية.
16. إعداد الكوادر المناسبة لإدارة المؤسسات أعلاه لا سيما " التعامل مع الجماهير".
17. تفريغ بعض الطاقات الجيدة للعمل في المجال الإعلامي " القنوت الفضائية ، الصحافة ، الانترنت ... الخ.
18. الاستفادة من تجارب الإسلاميين في الدول الأخرى في مواجهة المد العلماني والعمل الإصلاحي ، " المجالس البلدية ، النوادي الاجتماعية ، ...الخ.
19. الاهتمام بتربية الأمة بعامة والأجيال الناشئة بخاصة على أساسيات الدين والمنهج الإسلامي لأنهم هم شباب المستقبل وعماد الأمة.
20. تحصين المجتمع والصف الإسلامي تجاه القضايا التي يطرحها العلمانيون ( العوم ، المرأة ، سد الذرائع ، الخ .. ) من خلال التأصيل الشرعي العلمي المقنع الذي يراعي مستوى المخاطبين ( عوام ، مثقفون ، شباب ) .
21. تعبئة الناس بالدين الإسلامي والعقيدة الصحيحة من التدخلات المسيئة.
22. توثيق الصلة بالجمعيات الخيرية وبين الناس.
23. ضبط الأمور والقوائم المالية في هذه الجمعيات التي قد يدخل منها العلمانيين.
ثالثاً : تفعيل دور العلماء والدعاة :
24. إبراز النماذج الإسلامية والقيادات المتميزة للمجتمع لمحاربة التيار العلماني.
25. إيصال صوت العلماء والدعاة للمسؤولين والحكام في البلاد.
26. توحيد صف العلماء والدعاة لتكون المواجهة قوية مع العلمانيين.
27. تحصين المجتمع والصف الإسلامي تجاه القضايا التي يطرحها العلمانيون ، من خلال التأصيل الشرعي لها ، قضايا المرأة ، سد الذرائع..الخ.
28. عدم الانسياق وراء الأطروحات المائعة والغامضة وعدم الانشغال بها.
29. إظهار النماذج الاسمية كقدوات واقعية في القضايا التي يطرحها العلمانيون ويحاربون الإسلام من خلالها.
30. نشر الوعي الشرعي بالوسائل المختلفة وخصوصاً الفقه الميسر.
31. دعم المفكرين الإسلاميين وإبرازهم على المستوى الإعلامي ..
32. وضع برامج نقاش مع العلمانيين تبث مباشرة.
33. تبيين وجه الشبه بينهم وبين المنافقين.
34. استخدام المنابر الإسلامية للدفاع ومن ذلك خطب الجمعة والمحاضرات وغيره.
35. توضيح معتقدهم بأسلوب متزن.
رابعاً : حماية المرأة :
36. الاهتمام بالمرأة وقضاياها وعدم ترك أي مجال أو مدخل ينفذ من خلاله العلمانيون ، بل والعمل على تأهيل الداعيات وإعدادهن لمواجهة هجمات المعادية لهن.
37. المطالبة بإيجاد جمعية لحقوق المرأة في الإسلام " أفضل وسيلة للدفاع الهجوم ".
38. المشاركة الفعالة للمرأة المسلمة في الرد على أطروحات العلمانيين فيما يتعلق بحقوق المرأة .
39. الدعاء بأن يحفظ الله على هذه الأمة دينها وهويتها الإسلامية ، وأن يخزي هؤلاء العلمانيين ويرد كيدهم في نحورهم.
خامساً : أفكار أدبية للرد على العلمانية:(14/41)
الكثير من العلمانيين يدخلون أفكارهم وماتخفي صدورهم في رواياتهم الأدبية وقصصهم وتعابيرهم الأدبية عموماً ولذا وجب علينا أن نرد وندافع من نفس صنيعهم ومن ذلك:
40. نشر الأدب الإسلامي بشكل واسع وخصوصاً الروايات الإسلامية الراقية لتكون بدلاً عن روايتهم المخزية.
41. توزيع كتب الأدب الإسلامي بسعر رخيص.
42. إيجاد قصص الأدب الإسلامي أو القريبة منه والتي لا تحتوي على توجيه مباشر.
43. دعم المحاضرات والملتقيات الأدبية والشعرية.
44. إيجاد وسائل إعلام هادفة محايدة ( قنوات ، صحف ، ...الخ) لظهور الأدباء الإسلاميين فيها.
سادساً : وسائل التقنية (المنتديات والمواقع والقنوات الفضائية والإذاعة) :
حيث أن المنتديات والمواقع من أهم الوسائل الالكترونية التي تعمل في الوقت المعاصر فلذا لا بد من الاستفادة منها وكذلك بعض وسائل التقنية من قنوات فضائية وإذاعة وغيره وذلك بعدة طرق:
45. تنفيذ جميع ما ذكر أعلاه وذلك عن طريق المواقع والمنتديات والقنوات وغيره.
46. إقامة مواقع متخصصة في هذا الشأن لتبيين شبههم وكذلك طرح الأجوبة السليمة بعيداً عن التكلف.
47. الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي وصلها هذا الفكر في هذا الموضوع.
سابعاً : محاذير :
في كل عمل لا بد من محاذير مهمة ومن ذلك:
48. لا يلزم أن أي شخص يكتب مقالاً أو موضوعاً من مواضيعهم أن يوافقهم في الفكر ، فلا بد من التأني والنصح له فقد يكون جاهلاً
49. الانتباه لردود الفعل التي قد تحصل من بعض الشباب وربما تفسد بعض النتائج المثمرة من استعجال وغيره.
50. .........
============(14/42)
(14/43)
دستور الأسرة المسلمة لماذا ؟
بقلم: أ .د.محمد عمارة
قبل الغزو الفكري، الذي جاء إلى الشرق الإسلامي في ركاب الغزوة الغربية الحديثة التي قادها "بونابرت" (1769 1821م) على مصر والشرق (1213ه 1798م) لم تكن هناك حاجة إلى وضع المواثيق التي تحدد المفاهيم والفلسفات لسلوك المسلمين في مختلف ميادين الحياة الفردية.. والأسرية.. والاجتماعية.. والسياسية ذلك أن المرجعية الإسلامية كانت هي الوحيدة الحاكمة، التي تحدد كل المفاهيم والفلسفات في سائر هذه الميادين..
ولقد كانت المشكلات التي تعاني منها الحياة الإسلامية مقصورة على "التطبيق" لهذه المفاهيم الإسلامية الواحدة، والتي تحكم حتى الاختلافات الفقهية الفرعية التي يثمرها الاجتهاد في إطار وحدة هذه المرجعية ومفاهيمها وفلسفاتها، ومدى اقتراب "الواقع والتطبيق" من "المثل" التي حددها الإسلام..
لكن الغزو الفكري الغربي قد أحدث متغيراً أساسياً، وذلك عندما زرع في المجتمعات الشرقية الإسلامية مرجعية حضارية أخرى وضعية "علمانية" لا دينية غدت منافساً شرساً لمرجعية الإسلام.. الأمر الذي استدعى واستوجب تمييز المفاهيم الإسلامية عن نظيرتها الوضعية العلمانية اللادينية في مختلف ميادين الحياة..
فبدأ الحديث عن ضرورة وأهمية تقنين الفقه الإسلامي كبديل متميز عن القانون الوضعي العلماني..
وبدأت البلورة للرؤية الإيمانية الإسلامية للكون والحياة لبداية الخلق.. والمسيرة.. والمصير.. ومكانة الإنسان في الكون كبديل متميز عن الرؤية الوضعية والمادية للكون والحياة..
وبدأت البلورة كذلك لمذهب الإسلام في الثروات والأموال والعدل الاجتماعي ومذهب الاستخلاف كبديل "لليبرالية الرأسمالية" و"الشمولية الشيوعية" في الاقتصاد والاجتماع.
ولأن الغزو الفكري قد تسلل إلى ميادين الحياة الإسلامية تدريجياً، وفي نعومة، وأحياناً على استحياء، بل وبواسطة الغش والتدليس في خلط المفاهيم ومضامين المصطلحات.. وذلك كي لا يستفز الحس الإسلامي، فتنتفض الأمة لمقاومته.. ولأن الدوائر التي تخطط لهذا الغزو كانت على علم بمكانة الأسرة في منظومة القيم الإسلامية مكانة "الحرم".. و"العرض".. و"الشرف" فلقد جاء الغزو لميدان الأسرة متأخراً، وفي مرحلة عموم البلوى لكل ميادين الحياة.. جاء في الوقت الذي أصبحت فيه الأسرة المسلمة "محاصرة" بهذا الغزو الفكري الغربي من جميع الجهات والاتجاهات!..
لقد بدأ تسلل القانون الوضعي أولاً إلى ميادين المنازعات التجارية في الموانئ عندما يكون أحد طرفي هذه المنازعات أجنبياً في سنة 1855م، في عهد الخديوي سعيد (1237 1279ه 1822 1863م). ثم زاد هذا التسلل بإنشاء محكمة "قومسيون مصر" سنة 1861م، التي تقضي بالقانون الوضعي بين الأجانب والمصريين حتى خارج الموانئ التجارية.
ثم حدث تعميم هذا التسلل إلى مطلق ميادين المنازعات تجارية وغير تجارية التي يكون أحد طرفيها أجنبياً، وذلك عندما أنشئت "المحاكم المختلطة" في عهد الخديوي إسماعيل (1245 1312ه 1830 1895م).. ورئيس وزرائه الأرمني نوبار باشا (1825 1899م) وذلك في سنة 1875م وهي المحاكم التي يقضي فيها القضاة الأجانب.. بالقانون الفرنسي.. واللغة الفرنسية ..
فلما وقع الاحتلال الإنجليزي لمصر سنة 1882م، عممت سلطات الاحتلال هذا القانون الأجنبي في المحاكم الأهلية المصرية مع بعض التعديلات .. فلم يبق خارج ولاية القانون الوضعي وحاكميته سوى الأسرة وأحوالها الشخصية.
ومع تصاعد موجات التغريب، وزيادة هيمنة الغرب على المؤسسات الدولية، واجتياح العولمة الغربية للخصوصيات الثقافية والقيمية غير الغربية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بدأ الاهتمام الغربي بحرمات الأسرة المسلمة، والانتهاك لمقدسات منظومة قيمها التي حددها الإسلام وصاغتها المرجعية الإسلامية.. الأمر الذي فرض ويفرض على مؤسسات العلم والفكر والعمل الإسلامي صياغة البديل الإسلامي في هذا الميدان.
لقد شرع الغزو الفكري والغربي، منذ العقدين الأخيرين للقرن العشرين، في صياغة منظومة قيمه في "الحداثة وما بعد الحداثة".. في مواثيق ومعاهدات، أخذ في عولمتها تحت ستار الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، وذلك لإحلال هذه المنظومة القيمة، المصادمة لكل القيم الدينية، محل منظومة القيم الإسلامية، وفي ميدان الأسرة على وجه التحديد.
وإذا كانت قوى الهيمنة الغربية المعاصرة، ترفع في ميدان السياسة شعار "الفوضى الخلاقة"، التي تتغيَّا من ورائها تفكيك المجتمعات الإسلامية وبعثرة مكونات وحدتها، وفق معايير عرقية ولغوية ومذهبية وطائفية، ليتأبد نهب ثروات هذه المجتمعات، بمنع التماسك والتضامن والوحدة الإسلامية من الجهاد لتحرير الأوطان والثروات.. فلقد غدت الهجمة الغربية على حصون الأسرة المسلمة بمثابة "المعركة الفاصلة" في هذه الغزوة وهذا الاحتواء.. الذي يتغيَّا إحداث الفوضى في عالم الأسرة لتفكيكها والقضاء على مقوماتها.. ومن ثم تفكيك الأمة، المكونة من الأسرة والعائلات.(14/44)
وإذا أخذنا نموذجاً واحداً من "الوثائق" التي يصوغها الغرب، ويضمنها منظومة قيمه في الحداثة وما بعد الحداثة، ثم يسعى لعولمتها، وفرضها على الحضارات غير الغربية تحت ستار الأمم المتحدة وأعلامها.. لنرصد من بين فصولها وموادها عدداً من معالم الهدم والتدمير لمنظومة الأسرة المسلمة في القيم والأخلاق، فإننا واجدون في وثيقة "مشروع برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية" الذي عقد بالقاهرة من 5 حتى 15 سبتمبر سنة 1994م نموذجاً "لإعلان الحرب" على الأسرة المسلمةومنظومة القيم والأخلاق التي حددها لها الإسلام.
فإذا كان الإسلام انطلاقاً من الفطرة الإنسانية السوية قد بنى الأسرة على العلاقات الشرعية والمشروعة بين ذكر وأنثى، لتتحقق بهذا التمايز والتكامل سعادة الإنسان، وليتحقق بالتوالد والتناسل بقاء النوع الإنساني، ولتكون هذه الأسرة هي اللبنة الأولى في تأسيس بناء الأمة فإن وثيقة مؤتمر السكان.. وبصريح العبارة تعلن الحرب على المعنى الإنساني للأسرة، وتدعو إلى "تغيير الهياكل الأسرية"، معتبرة ذلك التغيير هو "المجال الحيوي لعمل الحكومات والمنظمات الحكومية الدولية، والمنظمات غير الحكومية المعنية، ووكالات التمويل، والمؤسسات البحثية".. فكل هذه المؤسسات مدعوة "بإلحاح لإعطاء الأولوية للبحوث الحيوية المتعلقة بتغيير هياكل الأسرة"(1).
.. وذلك حتى لا تكون فقط أسرة شرعية مؤسسة على علاقة مشروعة ألوان العلاقات بين رجل ورجل.. أو بين امرأة وامرأة مدخلة، بذلك الانقلاب، كل ألوان العلاقات الشاذة والمحرمة شرعاً في إطار "الأسرة" التي يعترف بها القانون ويحميها ويرتب لها الحقوق!..
وإذا كان الإسلام قد ضبط المتعة الجنسية، لتكون سبيلاً شرعياً للعفة والإحصان والإنجاب، فجعل "الجنس مشروعاً"، فإن وثيقة مؤتمر السكان تطلب فقط أن يكون "الجنس مأموناً"، أي لا يؤدي إلى الأمراض، وتطلقه وتحرره من ضوابط الشرع، ليكون حقاً من حقوق الجسد كالطعام والشراب مباحاً "لجميع الأفراد" وليس فقط "الأزواج".. ومن كل الأعمار، بما في ذلك المراهقين والمراهقات!!
"فالصحة التناسلية والصحة الجنسية" التي جاءت مصطلحاتها الأكثر شيوعاً وتكراراً في هذه الوثيقة هي "حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة التي تجعل الأفراد (وليس فقط الأزواج)، قادرين على التمتع بحياة جنسية مُرضية ومأمونة(2).. والمتعة الجنسية والصحة التناسلية والجنسية هي، كالاحتياجات التغذوية، حق من حقوق البنات والفتيات.. المراهقات(3)..."
الهوامش
(1) (مشروع برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية) الفصل الثاني عشر الفقرة 24 الترجمة العربية الرسمية طبعة سنة 1994م.
(2) المصدر السابق، الفصل السابع الفقرات: (1 5).
(3) المصدر السابق، الفصل الرابع الفقرة (2).
============(14/45)
(14/46)
الإقلاعُ عن العادةِ العلمانية .. برنامج من ست خطوات
بقلم: ديفيد بروكس
ترجمة: تركي الزميلي
مجلة أتلانتك منثلي، عدد مارس 2003
هذا مقالٌ رئيسٌ في العدد الحالي، من مجلة أتلانتك منثلثي، المقروءة على نطاق واسع في أمريكا وبريطانيا وغيرهما، وهو واحدٌ من مقالات عديدة مشابهة، تَظهر في منافذ النشر المختلفة في العالم الغربي، وهو بالتأكيد لا يخلو من التحيزات المعتادة، وقد لا يتفق بالضرورة مع تفسيرات القارئ العربي ومواقفه من الأشخاص والوقائع، ولكنه عينةٌ من كتابات كثيرة، ومؤشراتٍ أكثر، تَتلمَّسُ طريقاً آخر، وتُحس بأن مرحلةً مختلفةً من التحول التاريخي تتكرّسُ يوماً بعد يوم، وتتحدّى ما استقرَّ من مسلماتٍ في المسار الرئيس لفكر النخب في العالم الغربي. وكاتبُ المقال يُراجع تجربتَه هو شخصياً، مثلما يراجِع الثقافةَ التي مَنحتْه ما عاش به من مسلماتٍ في النظرِ إلى الأحداث، وتفسيرِ التحولات في تاريخ البشر، وحاضرهم، ومستقبلهم. ويبحث عن يقين جديد، بعد أن تهدمتْ معابد اليقين القديم ومسلماته أو كادت، وهي جرأة محمودة، وإن لم تُوصل بالضرورة إلى فكرةٍ أكثر صواباً، وأجدر بالبقاء.
أنا مِثلُ الكثير من الناس اليوم: علمانيٌّ يَستعيدُ عافيتَه.
لقد كنتُ حتى 11 أيلول أَقبَلُ الفكرةَ التي تقول: إن العالم كلما أصبح أكثر غنى وتعليماً أصبح أقل تديناً. إن هذه النظرية تتمسك -من خلال الاستنتاج من عيِّنةٍ إنسانية محدودة وغيرِ مُمَثِّلَة (بعض أجزاء من أوروبا الغربية، وأجزاء من أمريكا الشمالية)- بأن التاريخ كلما تقدم إلى الأمام؛ فإن العلم يَحُلّ مكانَ التسليم الاعتقادي، والتعليلُ السببي يَحُلّ بديلاً عن التسليم غير الخاضع للتعليل العقلي، وإن أي منطقة لم تنل حصتها بعد من الإصلاح والتنوير-كالعالم العربي مثلا-؛ لابد أنها سوف تنالها، عاجلاً أم آجلاً.
إن من الواضح الآن بأن نظرية العلمنة هذه غير صحيحة؛ فالجنس البشري لا يصبح بالضرورة أقل تديناً كلما أصبج أكثر غنى، أو أفضل تعليماً. إننا نعيش اليوم في ظل واحدة من أعظم فترات التقدم العلمي، وتخليق الوفرة، وفي الوقت نفسه فإننا في قلب الازدهار الديني.
إن الإسلام يموج بالحركة. واليهودية الأرثوذكسية تنمو في الأوساط الفتية من المجتمع، وإسرائيل تزداد تديناً كلما أصبحت أكثر غنى. والتنامي في المسيحية يفوق كل الأديان الأخرى. لقد نشرتْ هذه المجلة (مجلة أتلانتك منثلي) مقالاً في عام 1942م كان عنوانه: "هل سوف تنجو الكنيسة المسيحية من الاندثار؟" والحال أن ثمة الآن بعد ستين سنة من نشر المقال بليونين من المسيحيين في العالم، وبحلول 2050 فإن العدد وفقاً للتقديرات سيصبح ثلاثة بلايين. وكما يلاحظ فيليب جينكينز أستاذ التاريخ والدراسات الدينية في جامعة بنسلفانيا، فإن أكثر الحركات الاجتماعية التي شهدها عصرنا نجاحاً ربما تكون حركة الـPentecostalism (راجع مقال"المسيحية التالية" في عدد أكتوبر من مجلة أتلانتك). فقد تحققتْ لها البداية في لوس أنجلوس منذ حوالي القرن، والآن يعتنقها 400 مليون من الناس -وهذا الرقم وفقا لما يقوله جينكينز ربما يبلغ المليار عند حلول منتصف القرن-.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الطوائف الدينية، التي ترفض تبني العلمنة، هي الطوائف الأسرع نمواً، بينما تستمر في الذبول والاضمحلال تلك التي تحاول أن تكون عصرية(mode r n). وإن الصيغ المثيرة من المسيحية، والصيغة المقاومة للحداثة من الإسلام هي التي تنمو وتزدهر. إن تعداد المسيحيين في أفريقيا، الذي كان يبلغ 10 ملايين تقريباً في عام 1900م، والذي يبلغ الآن حوالي 360 مليوناً؛ من المتوقع له أن يبلغ في عام 2025م: 633 مليوناً، مع سيطرة للمجموعات الإنجيلية المحافظة. إن الكنائس في أفريقيا تغدو أكثر نفوذاً من العديد من الكيانات القومية، مع ما ينشأ عن ذلك من آثار، الجيد منها والرديء.
إن العلمانية ليست هي المستقبل؛ إنها رؤية الأمس الخاطئة للمستقبل. هذا الإدراك يدفع بنا نحن العلمانيين في طور التعافي إلى محلات بيع الكتب، أو المكتبات العامة، في محاولة يائسة لاكتشاف ما الذي يحدث في العالم. إنني أشك أني الوحيد، الذي وجد نفسه بعد الحادي عشر من سبتمبر يقرأ طبعة ورقية (غيرمجلدة) من القرآن، والتي كانت قد أُحضرتْ من بضع سنين خلت، في تلائم مع سمو المبدأ، ولكنها في الحقيقة لم تُفتح قط، وربما لستُ الوحيد الذي يتعمق الآن في دراسة تعاليم أحمد ابن تيمية، وسيد قطب، ومحمد بن عبد الوهاب.
إن عملية التشافي من العلمنة تحتاج إلى ست خطوات:
أولاً عليك أن تقبل حقيقة أنك لست المعيار أو النموذج.(14/47)
إن المؤسسات الغربية والجامعات ترسل مجموعات الباحثين من أجل أن تدرس وتشرح ظاهرة الحركات الدينية، ولكن -وكما أشار إلى ذلك عالم الاجتماع بيتر بيرجر- فإن الظاهرة التي تحتاج حقاً إلى تفسير؛ إنما هي عادات أو سلوكيات أساتذة الجامعة الأمريكان، ويجب على المجموعات الدينية أن تكون هي من يرسل الباحثين؛ لمحاولة فهم: لماذا تُوجد مجموعات ضئيلة من البشر في العالم، لا يشعرون بالحضور المستمر للإله في شئون حياتهم، ولا يملئون أيامهم بالشعائر والصلوات التي تهيؤهم للاتصال بالنبوءة والحدس، ولا يؤمنون بأن رغبة الإله يجب أن تشكل حياتهم العامة.
حالما تقبل هذا -وهو يشبه تفهم أن الأرض تدور حول الشمس والعكس بالعكس- فإنك تستطيع أن تبدأ رؤية الأشياء بطريقة جديدة.
الخطوة الثانية في اتجاه الشفاء تتضمن التصدي للخوف.
لبضع سنوات بدا أننا كنا جميعاً نتجه نحو نهاية حميدة للتاريخ، ربما كان السأمُ فيها أحدَ أعظم مخاوفنا. لقد فازت الديمقراطية الليبرالية بيومها الموعود. ونعم، تَوجَّب علينا أن نتناقش حول العولمة وعدم المساواة، ولكنها كانت مفاهيم مادية وتعيسة.
أما الآن فنحن ننظر إلى المصادمات الأساسية للعقيدة، وإلى الحالة المروِّعة حقاً -على الأقل في نصف الكرة الجنوبي-، التي تُذَكِّر بالعصور الوسطى، مع حكوماتٍ واهنة، وجيوشٍ من المبشرين، وصراعٍ ديني عنيف.
الخطوة الثالثة: أن تصبح غاضباً.
أنا الآن أعاني انزعاجاً مفرطاً بسبب الأصوليين العلمانيين، الذين هم راضون ببقائهم متجاهلين للتحولات الهائلة، التي تحدث من حولهم في كل مكان. إنهم لا يتعلمون أي شيء عن الدين، داخلَ بلادهم وخارجَها. إنهم لا يعرفون من يكون تيم لاهاي وجيري بي جينكينز، حتى وهذان هما المؤلفان، اللذان باعا 42 مليون نسخة من كتبهما! إنهم ما زالوا لا يعرفون ما الذي جعل من عيد الخمسين عند المسيحيين عيد الخمسين (بإمكانك أن تعبر داخل غرفة من غرف الأخبار الأمريكية، وتسأل هذا السؤال، وستجد أن الناس الذين قد يكونون قادرين على الإجابة؛ هم ربما السكرتارية، أو موظفو الأمن). إنهم ما زالوا لا يعرفون عن ميشيل عفلق، القومي العربي الروحاني، الذي كان المرشد الروحي لصدام حسين. إن زخات نياجرا الاتقاد الديني هذا الشلال العظيم، تنهمر من حولهم، بينما يقفون بُلداءَ، ومُتَيَبِّسين، في كهفٍ حقير من ضيق أفق التفكير، والكثير منهم صحفيون، ومحللون سياسيون، إنما يُدفَع لهم من أجل مواكبة هذه التغيرات.
الخطوة الرابعة في اتجاه الشفاء، تكون بمقاومة دافع البحث عن تفسيرات مادية لكل شيء.
خلال القرون، عندما تبدّت العلمنة، بصفتها موجةَ المستقبل؛ طوّر المفكرون الغربيون نماذج لعلم اجتماعٍ، مُقْنِعٍ بصورةٍ استثنائية. فقد شرح ماركس التاريخ عبر صراع الطبقات، وشرحه اقتصاديون آخرون من خلال تعظيم الأرباح والفوائد، واستخدم أساتذة الشئون الدولية، مبادئَ صراع المصالح، ونظريةَ اللعب؛ للتنبؤ بالتفاعلات بين الأمم.
كل هذه النماذج مغرية، وصحيحة جزئياً. وهذا البلد (أمريكا) يستمر في بناء مؤسسات قوية من أمثال قسم الشئون الخارجية، والسي آي إي، التي يستخدمها لتطوير سياسات ذات مغزى. ولكن ليس ثمة أي نموذج من هذه النماذج يستطيع أن يأخذ في الحسبان، وبصورة ملائمة، الأفكارَ والدوافعَ والتصرفاتِ الدينية، لأن التوقد الديني لا يمكن قياسُه ولا تنميطه. إن الدوافع الدينية لا يمكن أن تفسر بتحليل حدود الكسب والخسارة.
لقد كان محللو السياسة المدنية، عبر السنوات العشرين الماضية، يفكرون بجد في الوظائف والأدوار، التي يلعبها الدين والخصائص الشخصية في الحياة العامة. إن نخب سياستنا الخارجية هم متأخرون عنها بعقدين من السنين على الأقل. لقد استمروا لشهور يتجاهلون قوة الدين، وحينها عندما اصطدموا مع أمرٍ لا مفر من كونه دينياً، كالثورة الإيرانية، أو طالبان، بدؤوا يتحدثون عن الحماس والتعصب الديني، اللذين أصبحا، وبصورة مفاجئة، يفسران كلَّ شيء. وبعد بضعة أيام من هز الرؤوس الرافضة للمتعصبين؛ عادوا إلى تحليلاتهم العلمانية المعتادة. إننا حتى الآن لم نملك -مع حاجتنا المؤكدة- نموذجاً للتحليل، يُحاوِل أن يدمج العاملَ الروحيّ، والعاملَ المادي معاً.
يجب على العلماني المتعافي، أن يقاوم إغراء معاملة الدين بصفته مَعْبراً أو قناةً مجرَّدة لدوافع اقتصادية مقاوِمة. على سبيل المثال: نحن غالباً ما نقول: إن الشبان العرب الذين لا يملكون إمكانياتٍ لائقة؛ يتحولون إلى الإسلام الثوري. إن هناك بشكل واضح بعض الحقيقة في هذه الرؤية، ولكنها ليست كل القصة: فلا أسامة بن لادن، ولا محمد عطا -على سبيل المثال- كانا فقيرين أو مقموعين. ومع ذلك فإن من المحتمل تشييد نظريات، تشرح اتجاههما الراديكالي بصفته نتيجةً لتوحدهما، أو لأشياء أخرى من عوامل التحليل العلماني، مع أن الذي يقدِّم إدراكاً أفضل، هو الاعترافُ بأن الإيمان مصدر القوة، بصورة مستقلة، وربما أقوى من أي استياء اقتصادي.(14/48)
إن الكائنات الإنسانية تتوق إلى حكم الصلاح والاستقامة، وإلى عالم الإنصاف، أو عالمٍ يعكس مراد الإله، وفي كثير من الحالات، وعلى الأقل بمقدار مشابه في القوة، لاشتياقها إلى النجاح أو المال. وإن التفكير في هذا التوق؛ يعني التحرك بعيداً عن التحليل العلمي، والدخول إلى ممالك الحكم الأخلاقي. إن السؤال الحاسم لا يكون عن: ما هو نوع الدوافع الذي يستجيب لها هذا التوق؟ ولكن: هل الأفراد يتبعون رؤيةً أخلاقيةً للحكم الصالح؟ وهل هم يمارسون ذلك من خلال طرقٍ مستقيمةٍ وفاضلة؟ أم أنهم مثل صدام حسين وأسامة بن لادن أشرار في رؤيتهم وطرائقهم؟
الخطوة الخامسة: يجب أن يعترف العلماني في طور التشافي، بأنه كان متراخياً جداً مع الدين؛ لأنه افترض أن الدين يلعب دوراً متقلصاً في الشئون العامة. لقد عامل الدين بغطرسة، ثم قرّر متنازلاً عَدمَ محاكمة العقائد الأخرى، فهي كلها طرق مشروعة لمقاربة الإله، كما أخبر نفسَه، وقرر أن يذوبَ أخيراً في واحدة منها.
ثم بعد كل شيء، ما الداعي لإثارة المشكلة بمحاكمة عقائد الآخرين؟ إنه ليس تصرفاً مؤدباً. إن الخيار الأفضل عندما تواجَه ببعض التصرفات القبيحة، التي يتم ممارستُها باسم الدين، هو أن تتفادى عيون هؤلاء.
هل الوهابية هي شِقٌّ قاسٍ يَضُرّ بالإسلام؟ لا تتحدث عن هذا.
ولكن لا يمكن لهذه المقاربة أن تكون مقبولة، في عالم يلعب الدينُ فيه، الدورَ الأعظم بصورة مطلقة. على الشخص أن يحاول الفصل بين الصواب والخطأ. ولكن المشكلة أننا في المرة التي نبدأ فيها بفعل ذلك؛ فإنه من الصعب أن نقول: أين سينتهي بنا المطاف؟ أَمْعِن النظرَ في (بيم فورتشوين) السياسي الألماني ذي النزعة اليسارية، والمدافع عن حقوق الشاذين، الذي ينتقد المهاجرين المسلمين لمواقفهم تجاه النساء والشاذين؛ عندما تم اغتياله في السنة الماضية، وصفته الصحافة بناءً على هذه النزعات النقدية، بأنه يميني من نوعيةِ جين ماري لوبان، وهو وصفٌ بعيد عن الحقيقة. إن تصنيفات اليسار واليمين في عالم اليوم ما بعد العلماني ستصبح غير ملائمة، ومنتهية الاستعمال.
الخطوة السادسة والأخيرة للعلمانيين في طور التعافي: هي أن يفهموا بأن هذا البلد لم يكن علمانياً بالفعل في أي يوم من الأيام.
إننا نحن الأمريكان نتوق إلى معيار الصلاح والاستقامة بتوقُّدٍ كأي شخص آخر. إننا مغروسون مع الفكرة التي عَبّرتْ عنها كلمات أبراهام لينكولن: نحن نمثل "الأمل الأفضل والأخير للمعمورة". إن العديد من الأمريكيين أحسوا وباستمرار، بأن لدينا مهمة غير عادية، ومتجاوزة للحدود، مع أنها، ولحسن الحظ، ليست من النوع اللاهوتي. إننا نُحس غريزياً، وبطرق لا يحس بها الناس في أماكن أخرى، بأن التاريخ لم يتحقق بعد، طالما بقي هناك أمم أو شعوب، لا يكون الناس فيها أحراراً. وهذا هو الإحساس الغريزي الذي قاد بوش للاستجابة بصورة طموحة جداً، لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهذا ما قاد الأغلبية من الأمريكان لتأييده.
إن الأمريكيين نشطون كغيرهم في صراع عقائد النهايات. يرى صدام حسين التاريخ ينتهي مع أمة عربية موحدة، مسيطرة عالمياً، مع تحقيقه لمكانة مبجلة، كصانع لنظام عالمي كهذا. ويرى أسامة بن لادن التاريخ ينتهي بفرضٍ عالمي لقانون الشريعة. والكثير من الأوروبيين يرون التاريخ ينتهي بإقامة مؤسسات عالمية علمانية، حيث ستهدأ الانفعالات القومية والدينية، وتُعطِي دولُ القوميات معبراً للقانون الأممي، وللتعاون المتعدد. والكثير من الأمريكان يرونَ التاريخَ ينتهي بانتصار الحرية، واحترام الدستور، مع تدين غير متخلى عنه، أو مقموع، وإنما مثرٍ للحياة الديموقراطية.
إنه لا مفر من كوننا عالقين في عالم من الرؤى المتصارعة، في رؤيتها للقَدَر التاريخي. ولكن فهمَ هذا العالم يَعني: جلدَ التحيزات العلمانية، الصادرة عن عقولنا كل يوم.
المصدر موقع الإسلام اليوم
==============(14/49)
(14/50)
كيف نحارب العلمانية
بسم الله والحمد لله ونصلي على رسول الله . أما بعد - ظهرت حركة التغريب مع قدوم المصري رفاعة الطهطاوي من باريس عام 1831 م وتأليفه كتاب ' تلخيص الإبريز في تلخيص باريز ' ، ثم تبعه في الشام عبد الرحمن الكواكبي وما وضعه في كتابه ' طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد 'مع العلم أن كثيراً من المفكرين لا يجعلون الأخير في صف الأول .
ثم توالت بعدهم كتابات المستغربين وما عرف بالعلمانيين ، وكان المستعمر الغربي قد أخذ دروساً من حملاته الصليبية السابقة ، وكيف أنها لم تولد إلا ناراً جهادية تستعر في قلوب المسلمين جعلت خيول الرحمن تدك بلاد أوروبا طولاً وعرضاً ؛ حتى ولدت فكرة القائد الأوروبي المشهور نابليون باستبدال الاحتلال العسكري بالاستعمار الفكري ، وكم كانت الفكرة في بدايتها مضحكة لكثير من قادة أوروبا ولكن سرعان ما تبين لهم كم كانت هذه الفكرة هي هدفهم المنشود من قرون لهذا أراد ذلك المستعمر أن يكون استعماره لبلاد المسلمين استعماراً عسكرياً يهيئ للاستعمار الأكبر وهو الاستعمار الفكري ؛ حتى إذا خرجت جيوشهم من بلادنا بقيت أفكارهم في عقولنا .
وعندما خرجت الوفود الطلابية إلى بلاد الغرب حيث كانت هناك تُقْتَل الفِطَر وتُغْسَل الأدمغة استقبلتها بلدان المستعمر استقبالاً حافلاً ، والغريب وليس بغريب على المستعمر أن أول تلك المجموعات التعليمية التي انطلقت لبلاد الغرب ذهبت في تخصصات تربوية وليست علمية مما يعني اعتناء المستعمر بهذا الباب الخطير ، وفي بداية الأمر ظهرت بعض الاحتجاجات هناك بسبب فتح أبواب المعرفة للمسلمين وهم الذين كسروا شوكة أهل هذه البلاد ؛ ولكن خبثاءهم عرفوا أن إحضار شباب المسلمين ونزعهم من بيئتهم الإسلامية ووضعهم في بيئة نصرانية علمانية ، ثم تغذية عقولهم بالشبهات ، وإشباع قلوبهم بالشهوات هو الطريق الصحيح لبقائهم في بلدان المسلمين ، وكان لابد من تعبئة تلك المجموعات بأن لها هدفاً سامياً يجب أن يبذلوا فيه جهدهم وحياتهم في بلاد المسلمين ، وفعلاً رجعت تلك الوفود بعد سنوات التّغَرب الاجتماعي ، والأهم من هذا التغرب الفكري .
وكان المستعمر حريصاً على استخدام سياسة التلميع لهؤلاء ، ولا مانع في بعض الأحيان أن يصورهم أنهم هم أهل الانتفاضة ضد الاستعمار ، وكم رأى الناس جيوش الاستعمار وفرائصها ترتعد كذباً من ذلك المستغرب الصنم ويظهرون للناس زوراً خوفهم من أهل هذا الفكر لأنه هو الذي سيطرد المستعمر بزعمهم ، وإذا خرج ربيب من ربائبهم في مظاهرة لا يتجاوز عددها العشرات بثوا بين الناس ضخامة تلك المظاهرة ، وجعلوا عددها يتجاوز الآلاف ، ثم يحكون للناس ما قام به ذلك العميل المستغرب من بطولات في تلك المظاهرة ، وكيف أنه تصدى لجيوش المستعمر بصدره العاري ، والعجيب أنه إذا قام أحد المصلحين بانتفاضة أو مظاهرة سلمية فإن الرصاص والقتل سيكون مصيره ، ثم سمحوا لهؤلاء العملاء العلمانيين بفتح الصحف والمجلات سراً ، ويغضون الطرف عنهم محاولين إيهام الناس بجنونهم في البحث عن صاحب الجريدة ، ويصدرون الأوامر باعتقاله أو قتله ، ويدعون اختفاءه ، والحقيقة أن بطلهم يأكل في بيته من النعم الوافرة التي أرسلها له سيده المستعمر ، وبالتالي يزداد تعلق قلوب الناس بهم ، ويزداد كل يوم شغف الأمة بهؤلاء المضحين زوراً حتى إذا علم العدو بتملك حب هؤلاء العلمانيين قلوب الناس جعلوا لهم انتفاضات كاذبة على المستعمر ، حتى يسير الشعب خلف هؤلاء العلمانيين ، وينادي بحياتهم ، وعندما تأتي ساعة الصفر يخرج المستعمر ، ويصعد البطل على المنصة لتتم مراسم التتويج ، ولتبدأ أسوأ حلقات المسلسل على شريعة الإسلام وأهلها .
ومازال هؤلاء العلمانيون بالناس حتى أكلوهم بمعسول الكلام ، وطلبوا منهم أن لا يتعجلوا الثمرة ، وأن البناء بعد التحرير يحتاج إلى وقت طويل ، وفي هذه الأثناء بدءوا مشروعهم الحضاري كما زعموا فنشروا أفكارهم بين الناس ؛ وأسرعوا الوتيرة في الفساد والإفساد وإبعاد الناس عن منبع الهداية ، ثم سيطروا على موجهات العقل البشري وعلى رأسها الإعلام والتعليم ، حتى غُرِّبَت أمتنا وبَعُدَت عن منبعها الصافي ، ومازالت حشودهم تتعاقب على كل باب فيه هدم للشريعة المحمدية .
وكم كان أسفنا عظيماً ونحن نرى هذه الفئة القليلة وهي تعبث بمقدرات وكرامات الأمة حتى جعلونا أذلة في مؤخرة الركب باسم التحضر والتمدن والحقيقة أنا لم نجد منذ أكثر من قرن ونصف أي كتاب أو بحث مستقل يناقش قضية طرق محاربة هذه الفئة ، وإنا لا ندعي أننا في هذه الأجزاء سوف نأتي بما لم يأتِ به من كان قبلنا ، وإنما عملنا يقوم على جمع بعض الأفكار المتناثرة التي ألقيت في بطون الكتب أو المحاضرات أو المقالات ، ثم ترتيبها على هيئة نقاط . كما أنا ألحقنا بها نقاطاً جديدة لم يذكرها أحد ، وللإحاطة فما ذكرناه إنما هو عبارة عن بحث مطول اختصرت منه هذه النقاط ، وقد أحببنا أن لا نطيل في العرض حتى لا يتوهم البعض صعوبة مجابهة العدو :(14/51)
1- استكشاف الكتاب المتميزين وأصحاب المواهب الجيدة : سواء من خلال الكتب أو الصحف أو المجلات أو مواقع الانترنت ، وهذه النقطة هي من أهم النقاط ، والسبب أنها أساس العمل الذي ستقوم عليه أكثر النقاط أثراً في عمل العدو ، وهذه العملية يجب أن لانُعَقِّدها فيحصل الصدود عن تحصيلها ، وكذلك ينبغي ألا نُهَوّنها حتى لانفرط في أساس عملنا في معركتنا الكبرى ، وينبغي أن نراعي الآتي في تعاملنا مع هذا العنصر :
أ- إن أي تجاوز في معنى التميز والموهبة سوف يترتب عليه ضياع للهدف ، بل يخشى من عواقب وخيمة تنعكس سلباً على الهدف المنشود ؛ فمثلاً قد يُزَكّى أحدنا كاتباً معيناً بناء على رأي متسرع ، ثم بعد ذلك تطفو على السطح شطحات أو انحرافات عليه ، فماذا سيكون موقفنا من الناس ونحن من قمنا بتزكيته والثناء عليه ، فنكون بين مصيبتين كلتاهما أمَرّ من الأخرى ؛ فإما السكوت ، وبالتالي تبقى صورة الرجل النظيف هي الظاهرة أمام الناس مما يجعل الناس ينهلون من شطحاته ويستزيدون منها، وإما أن نعري صورته ونعتذر عن مدحه سابقاً ؛ وهاهنا نفقد ثقة الناس في شهاداتنا في وقت نحن من أحوج الناس لها في ظل الهجمة الشرسة من بني علمان . وعلى العكس من ذلك قد تتولد لدينا مواهب كثيرة ؛ ولكن لكون الاختيار يقوم على أساس التشدد والتدقيق المفرط فإنا نقوم بقتلها من خلال تركها وإغفالها ، وستجد هذه المواهب عدونا يتلقفها ويثني عليها ، ثم ينقلب حال ذلك الكاتب من حصن يستأسد للدفاع عن قضايا أمته إلى عدو يتصيد ويتحسس أي مدخل للقضاء على هذا الدين كشريعة للحياة ، وأغلب كتاب بني علمان كانت كذا بداياتهم ، ولهذا فهم يجيدون فن الاحتواء للعامة من خلال الإثناء أو شحذ الهمم أو فتح الأبواب لهم باسم المشاركة في نهضة المجتمع ثقافياً .
أ متى ما تحصل لنا مؤلف عرف بكتاباته الجيدة وهو لا يعد من الصف الإسلامي فإنا لابد أن نثني على العمل مع الثناء غير المفرط على الكاتب ، وبهذا استطعنا أن نشجعه فيما يقوم به ، وكذلك مازال بيدنا خط الرجعة من جهة أي تراجع للكاتب عن أي موقف من المواقف التي كان يخدم بها ديننا .
ب يجب الحذر من توجهات الكتاب الذين عرفوا بتوجهاتهم المنحرفة ، فمثلاً أحد كبار الفكر الليبرالي في الكويت سب صلى الله عليه وسلم ، وجرت له محاكمة مشهورة انتهت بسجنه ، ثم عفا عنه أمير الكويت [ كعادته في تكريم أمثال هؤلاء ] ، وهذا الليبرالي مازال يصرح بأن الإسلاميين يريدون أن يرجعوا بالأمة ألف عام إلى الخلف ، ويصرح بأن الفكر الإسلامي هو أساس التخلف ، وله ومواقف مشهورة من عقود ، وقبل أقل من شهر تأتي مجلة من دولة الكويت ، وتضع لقاء معه ومع نصراني من أجل بيان كيفية أن نوجه صغيرنا لو ظهر بعد ذلك أنه إرهابي [ تعني مجاهد ] ، فتكلم بكلام سوء ، وذكر أنه لابد أن يسلم الطفل للأمن في دولته ، وتمضي المجلة في تحليلها من غير أن تبين خطورة كلامه ، ووثق فيه بعض الناس لتوثيق المجلة له ؛ ولكن بعد أسبوع خرج ذلك المجرم يطالب في برنامج تلفزيوني بمنع تدريس سورة الفاتحة للصغار لأن فيها كلاماً على النصارى واليهود ، وبالتالي تدعو إلى التطرف والانحراف ، فماذا سيكون موقف المجلة ؟! هل تعريه أمام الناس ثم يكون السؤال : كيف تفضحينه وأنت تستأمنينه على صغارنا ؟! أو تسكت عن بيان الحق فيه وتلحق بصف الشياطين الخُرْس .
ت لابد أن يكون عندنا متخصصون في متابعة منابع الإعلام ، فهذا يتابع جريدة كذا والآخر يتابع مجلة كذا وذاك يتابع منتدى ما ، وهكذا حتى يتكون لدينا مكتشفون جيدون ؛ فإذا جاءت ساعة البدء بالاختيار كانت الصورة واضحة للمستكشفين ، وبالتالي الاختيار في الغالب يكون مصيباً .
ث المستكشف ينبغي أن لا يكون واحداً ، بل يجب أن يكون عدة أشخاص حتى تحصل الشورى الشرعية مما ينتج غالباً عن ذلك دقة وصحة الاختيار ، وهذا رسول ا صلى الله عليه وسلم أخذ بالشورى في غزواته ؛ فشاور في بدر وأحد والخندق وغيرها ، والذي جعلنا نحرص على تعدد المستكشفين هو تجاوز بعض السلبيات التي قد تحصل لو كان المستكشف منفرداً وله اهتمام بمجال معين؛ فإنك ستجد أنه ضعيف التصور للمجالات الأخرى ، وبالتالي سيكون اختياره منحازاً لفئة معينة دون الأخرى مع أنه قد تكون الفئات الأخرى أكثر نشاطاً وأحسن إبداعاً من الكتّاب الذين اختارهم .
ج يجب أن يكون لدى المستكشفين ملفات لكل كاتب تم اختياره أو سوف يتم اختياره ؛ حتى نستطيع أن نجعل تقويمه تقويماً دقيقاً ، وهذا يعطينا تصوراً صحيحاً قبل اختياره ومعرفة خطه ، بل وأهم من هذا معرفة طرقه في وصول أفكاره لعقول القراء والتي قد تعطينا كماً هائلاً في معرفة كيفية التأثير على الناس ، وهذه الملفات ستعطينا أيضاً تصوراً صحيحاً عن مدى بقاء الكاتب على خطه بعد ضمه لمشروعنا الحضاري لأن النفوس قد تتغير والتوجهات قد تتبدل .(14/52)
ح يجب أن تكون لدينا أيضاُ مراجعة على المستكشفين أنفسهم ، فهذه المهمة من أخطر المهمات ، وأي ضعف أو خَوَر فيها سيتبعه انهيار كامل أو جزئي لما ترتب عليه من أعمال ، وهذه المتابعة ستجعل المستكشف إما أن يضاعف من طاقته أو يسلم الراية لغيره متى ما وجد أنه قد شغل بغيرها أو أصبح عاجزاً عن تقديم الجديد والمزيد ، وبهذا يبقى عملنا قائماً وصامداً .
خ لابد من تنوع تخصصات المستكشفين ونقصد بالتخصصات أي التخصصات التي تحتاج لها الأمة في معركتها ، فلا نكتفي بالتربية أو بالفكر أو بالأدب وغيرها وإنما نتناولها كلها ومعها غيرها ، وقد لا نستطيع في أول عملنا أن نحصل على هذا التنوع بين المستكشفين ولكن سيأتي اليوم الذي تحار عقولنا عند الاختيار من كثرة المعروض منهم بإذن الله تعالى خاصة وأن الأمة مليئة بالطاقات التي تحتاج إلى إعطاء الثقة والتفعيل بعد ذلك .
د مراعاة الأولويات : عند البدء في المشروع لابد من مراعاة الأولويات ، بحيث لا ننطلق لنقطة ما وهناك ما هو أهم منها ، فلا أستكشف الشعراء قبل المربين والمفكرين ، وهكذا كانت وصية الرسو صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن حيث قال له : ' إنك تأتي قوماً من أهل كتاب فليكن أول ماتدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ' متفق عليه .
ذ وسطية منهج المستكشفين : إن أول مايئد العمل الإسلامي غالباً هو نزعة التحزُّب التي تظهر مع كل عمل إسلامي ، وتحزن أشد الحزن وأنت ترى وسطية بعض الصالحين مع من هو غير إسلامي وفي نفس الوقت يشتعل اشتعال النار في الهشيم على إخوته المصلحين ، وأخشى ما نخشاه أن يقضى على هذا العمل قبل أن يولد ، ولهذا لابد أن نحاول قد المستطاع أن تكون أعيننا الاستكشافية تتميز بالوسطية والعدل في اختيار الأخوة الكتاب ، ولا نريد منهم أن يكونوا هم الميزان بل نريدهم أن يكونوا هم لسان الميزان الذي الذي نعرف به معايير الأشخاص .
ر حساب لا حسبة : زرت أحد الدعاة المعروفين ، فعرضت عليه مشروعاً علمياً فقال لي يا أبا فلان : إن هذا المكان الذي جلست عليه قد جلس قبلك عليه أكثر من أربعين رجلاً كلهم يزعم أن لديه مشروعاً ، وأن فيه من الحرقة والحماس ما يجعله يستطيع أن يقيم هذا العمل ، وكلهم لم يوف بعهده ووعده ، وأقصد من هذا أنا لانمنع عمل الاحتساب ولكن التجربة أظهرت لنا مئات المرات أن هذا العمل في الغالب لن يستطِع الاستمرار ، والسبب معروف ، وهي الكلمة التي يجابهك بها كل محتسب إذا حاولت مساءلته على تفريطه ؛ حيث يقول لك : ما على المحسنين من سبيل ، ولهذا نحتاج إلى ترتيب بعض المصاريف المالية التي تصرف على هيئة مكافآت وهي في الغالب ليست كبيرة ، ومن هنا نستطيع أن نحقق عملية المحاسبة والمراجعة مع الأخوة المستكشفين .
المصدر مفكرة الإسلام
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة Secula r ism في الإنجليزية أو Secula r ite بالفرنسية وهي كلمة لا صلة لها بلفظ 'العلم' ومشتقاته على الإطلاق .
فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه Science والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة Scientism والنسبة إلى العلم هي Scientific أو Scientifique في الفرنسية .
والترجمة الصحيحة للكلمة هو : اللادينية أو الدنيوية لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب , بل بمعنى أخص هو ما لا صلة له بالدين , أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد .
والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو 'فصل الدين عن الدولة' وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة , ولو قيل إنها 'فصل الدين عن الحياة' لكان أصوب , ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو 'إقامة الحياة على غير الدين' سواء بالنسبة للأمة أو للفرد .
=============(14/53)
(14/54)
بروتوكولات حكماء ( علمون ) .. !!
دعاة على أبواب جهنم ( العلمانيون )
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين الذي ما ترك من خير وإلا ودل الأمة عليه وما ترك من شر إلا نهاها عنه وحذرها منه،
أما بعد:
فقد روى البخاري في صحيحة عن أبي إدريس الخولاني " أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسالون الرسو صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يد ركني، فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ فقال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير ؟؟ قال: نعم وفيه دخن 0 قلت: وما دخنه ؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا 0000 الحديث "
فهذا الحديث الشريف نور من نور النبوة يزيد في المؤمن إيمانه ويقوي يقينه عندما يرى مصداق هذا الحديث في حياته، فالحبيب عليه الصلاة والسلام عندما وصف لأمته الدعاة على أبواب جهنم وصفهم غاية الوصف وأوضحه، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، فمعنى قوله هم من جلدتنا أي من قومنا، ويتكلمون بألسنتنا، أي من أهل لساننا وهؤلاء الدعاة لا يخلو منهم زمان، ففي زماننا يتحقق هذا الوصف في زنادقة ملحدين هم ( العلمانيون ) 0
دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها 0 فهم من بني جلدتنا ( من بني قومنا ) ويتكلمون بألسنتنا ( بلغتنا ) 0
ولعل سئل يسأل منهم العلمانيون ؟
قبل أن نجيب عن العلمانيين علينا أن نعرف معنى العلمانية وكيف نشأت ؟ فالعلمانية هي معنى كلمة (secula r ism) ومعناها: ابتعد عن الدين، فلا تبالي بالدين ولا الاعتبارات الدينية، وقد ظهرت كمذهب أو مصطلح يناهض انحرافات الكنيسة في أوربا التي حرمت العلم والعلوم التجريبية كالطب والهندسة والصناعة وغيرها من العلوم 0
فكانت العلمانية ردة فعل على الكنيسة، وذلك في ظل الثورة الفرنسية سنة 1789م، فكانت هذه بداية العلمانية في العالم، إذا العلمانيون هم فئة من الناس همهم وغايتهم ومنهجهم إبعاد الدين عن الحياة وعن المجتمع، ( ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) 0 فكانت العلمانية خيرا للشعوب الأوربية من انحرافات الكنيسة وجهلها وحربها على العلوم التجريبية 0
علمانيو العرب !!
فجاء ينو قومنا من العلمانيين وقاسوا ظلم الكنيسة بعدل الإسلام وجهل الكنيسة بنور الإسلام، وصدق الله ـ سبحانه وتعالى ـ في وصف من هذه حاله عندما انتكست فطرته وتبدلت مفاهيمه وصار أضل من الحيوان، قال تعالى: " ولقد ذرانا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " 0 سورة الأعراف الآية 179 0
فالعلمانيون العرب لينهم أخذوا من الغرب ما يفيد أمتهم ولكنهم اخذوا كل رذيلة ساقطة وصاروا معول هدم للدين والقيم والأخلاق، فجروا شعوبهم للهلاك والدمار قال الله تعالى " الم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبس القرار " سورة إبراهيم الآية 28/29
كيف نعرف العلمانيين ؟
العلماني والعمانيون كالزنادقة يظهرون الإسلام عندما يضطرون ويحرجون، ويبطنون الكفر والإلحاد وقد يظهرون إذا حانت لهم الفرصة فحالهم كقول الله تعالى " وإذا لقوا الذين امنوا قالوا ءامنا وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون " سورة البقرة الآية: 14 0
أما في هذا الزمان فأصبح العلمانيون لا يتورعون عن إظهار زندقتهم وفسادهم لأهل الإسلام، وسبب ذلك ضعف أهل الإسلام وتخاذلهم عن نصرته والذب عنه، " فإلى الله المشتكى "، ورضي الله عن عمر عندما قال " أشكو إلى الله جلد الكافر وعجز الثقة " 0
العلمانيون:
لا يجعلون للدين قيمة في حياتهم فلا يحلون حلالا ولا يحرمون حراما، بل شرعوا القوانين الشيطانية وسموها تعاليم وأنظمة ولوائح، كل ذلك ليبعدوا الناس عن دين الله ـ سبحانه ـ فلا يحكمون به ولا يتحاكمون إليه 0
العلمانيون:
همهم وغايتهم خلخلة القيم الراسخة في المجتمع الإسلامي من الإخوة والطهر والعفاف وحفظ العهود والتكافل وأحاسيس الجسد الواحد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستبدلوا ذلك بالقطيعة والتفرق والإباحية ونشر الرذيلة في المجتمع الإسلامي، وتسخير ما في أيديهم من إذاعة وتلفزيون ومجلات وجرائد وغيرها من الوسائل لتحقيق غاياتهم في أبناء المجتمع المسلم 0
العلمانيون:
ولاؤهم وانتمائهم في الأقاليم أو الوطن أو غيرها من الروابط الطاغوتية الشيطانية فلا حرج عليك أن توالي في ذلك كله، أما أن توالي وتعادي في الله ـ سبحانه وتعالى ـ فتلك جريمة لا تغتفر في نظر هؤلاء العلمانيين، ومن شعاراتهم في ذلك: " الدين لله والوطن للجميع " 0
العلمانيون:(14/55)
يجعلون الدين وتعاليمه سخرية يتلاعب بها كتابهم، بل ولربما أظهروا سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام ـ كاللحية مثلا ـ بصورة طرائف ( كركتير ) ليضحكوا الناس ولينفروهم عن الإسلام وهديه صلى الله عليه وسلم 0
قال الله تعالى " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * واذا مروا بهم يتغامزون "
المطففين الآية 29/30 0
ثمار العلمانية الخبيثة في الشعوب الإسلامية
العلمانية شجرة خبيثة نمت فأثمرت خبثا وفسادا في المجتمعات الإسلامية قال الله تعالى:" والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " 0 الأعراف: 58
ومن ثمارها الخبيثة:
1/ تبديل حكم الله سبحانه وتعالى بحكم الطاغوت:
فأصبحت المحاكم القانونية الطاغوتية بدل المحاكم الشرعية وبذلك صارت الدول العربية أكثر الدول العربية ضعفا ودمارا وتفككا، فساسها الأعداء حتى أصحبت غريبة في ديارها 0 حقيرة لا عزة لها، مأسورة بأيدي أعداءها 0
وصدق الشاعر:
وأي اغتراب بعد غربتنا التي * بها أضحت الأعداء فينا تحكم
واصدق منه قول الحبيب عليه الصلاة والسلام واصفا حال الأمة في آخر الزمان فقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: ومن قلة نحن يؤمئذ قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ فقال: حب الدنيا وكراهية الموت " صحيح أبي داودللألباني 0
2/ فساد التعليم عند أكثر المجتمعات الإسلامية 0 ومن مظاهر فساد التعليم:
أ ـ تقليص المواد الشرعية، وتقليل نصابها في الحياة الدراسية التعليمية 0
ب ـ منع تدريس النصوص التي تذكر أبناء المسلمين بعداوة اليهود والنصارى للإسلام وأهله . وطمس عقيدة الولاء البراء في المناهج 0
ج ـ الاختلاط في التعليم بين الرجال والنساء 0
د ـ انتشار المدارس الأجنبية " التنصيرية " في بلاد المسلمين 0
3/ ظهور الإباحية والفوضى الأخلاقية:
ومن مظاهرها:
(أ ) انتشار الجريمة بجميع صورها من زنا واغتصاب، وشذوذ جنسي، وسرقة، وقتل وانتحار، والمتأمل لواقع المسلمين يجد ارتفاع نسبة الجرائم بشكل يدعو إلى الاستغراب، ولا غرابة أن تجد السجون مليئة بل ضاقت بشباب المسلمين " وإنا لله وإنا إليه راجعون " 0
(ب ) ما صاحب هذه الجرائم من تفشي الأمراض الفتاكة بين الشباب من الإيدز والزهري وغيرها من الأمراض التي لم تكن قبل 0
(ج) التفكك الأسري: فارتفعت نسبة الطلاق والخيانات الزوجية، فضاهت ما يحدث في أوروبا وبلاد الغرب، وهذا لا يستنكر مادام دعاة الاختلاط والإباحية من الزنادقة العلمانيين يعيثون في الأرض فسادا في بلاد المسلمين 0
(د ) المخدرات التي انتشرت انتشارا عجيبا بين الفتيان والفتيات حتى كثرت المستشفيات والمصحات، ودور النقاهة الخاصة لعلاج متعاطي المخدرات 0
وباليتهم تذكروا قول الله تعالى " ومن أعرض عن ذكري فأن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " سورة طه، الآية 124 0
* حكم العلمانيين في شريعة الإسلام:
العلمانيون كفرة مشركون مرتدون، وذلك لأسباب كثيرة منها:
(1) حكمهم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى وذلك بالقوانين الطاغوتية قال تعالى:" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " سورة المائدة: 44 0 ولم يكتفوا بهذا بل سنوا القوانين الشيطانية وسموها بغير اسمها كالأنظمة واللوائح 0 والتعاليم ليخادعوا بها الناس ويصرفوهم عن دين الله 00 قال الله تعالى " أن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " سورة النساء 142 0
(2) شركهم بالله ـ سبحانه وتعالى ـ إذ جعلوا حياتهم لغيره، وشعاراتهم في ذلك كثير منها ما ذكرنا أنفا ـ " الدين لله والوطن للجميع " وشعار " لادين في سياسة ولا سياسة في دين " والله سبحانه وتعالى يقول:" قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين " الأنعام 162 0 فمن صرف حياته لغير الله سبحانه وتعالى فقد كفر وأشرك وخرج من ملة الإسلام 0
(3) استباحتهم ما حرم الله سبحانه وتعالى فاستباحوا الربا، والتبرج، والسفور، ودعوا الناس إليها ودافعوا عنها وتصدوا لمن ينكرها أو يحذر منها 0
(4) سخريتهم بتعاليم الإسلام وأهله، ورميهم بالتخلف والجمود والرجعية والإرهاب 0
فهل بعد هذا يشك عاقل بكفر هؤلاء العلمانيين وشركهم ؟ 0
الواجب على كل مسلم نحو العلمانيين:
(أ ) الواجب على المسلمين إن كانوا رعاة أن يحصروهم ويقعدوا لهم كل مرصد، ويقيموا عليهم حكم الله في المرتدين لقوله صلى الله عليه وسلم " من بدل دينه فقتلوه " رواه البخاري 0 وأي تبديل أعظم من تبديل العلمانيين لدين الله سبحانه وتعالى 0
(ب ) والواجب على المسلمين إن كانوا رعية أن يهتكوا ستر العلمانيين، ويفضحوهم، ويبينوا شركهم وكفرهم، ويحذروا منهم، ولا يخافوا في الله لومة لائم 0 قال الله تعالى:" يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأوئهم جهنم ويئس المصير " التوبة 73 0(14/56)
اللهم يارب جبريل وميكائيل فاطر السموات والأرض أرنا في العلمانيين ومن أعانهم وأيدهم عجائب قدرتك، اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا 0
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين 0
" وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون " 0
كتبها احد طلاب العم ونشرت في مطوية تحمل عنوان
( دعاة على أبواب جهنم ( العلمانيون ) المفسدون في الأرض .. )
نقلها المشمر شبكة أنا المسلم
=============(14/57)
(14/58)
احْذَرُوا هؤلاءِ الدُّعاةَ
الحمد لله {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة : 33] ، والصلاة والسلام على من بعثه الله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، وبعد :
( احْذَرُوا هؤلاءِ الدُّعاةَ ) ، نعم والله احذروهم أشدَّ الحذر . هم دعاة !!
ولكن .. ما هيَ صفاتهم ؟ وما الذي يدعونَ إليه ؟ وكيفَ يعرضون ما عِندَهُم ؟
الجوابُ على هذهِ الأسئلة يظهَر في قول رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( دُعاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَطَاعَهُمْ قَذَفُوهُ فِيها )) قالوا : صِفهم لنا يا رسولَ الله ، قال : (( قومٌ مِنْ جِلْدَتِنَا ، ويَتَكَلَّمونَ بِألسِنَتِنَا )) .
فاحذروا هؤلاء الدُّعاة ، دعاةَ الفتنة ، الذينَ يَدعُونَ الناسَ إلى النارِ { وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [البقرة : 221] ، هم يَدعونَ الناسَ إلى الشر ، لا على أنَّهُ شر ، بل يُسَمُّونَهُ بغيرِ اسمه ، كي يَزينَ في أعينِ الناس ، كما قال الشاعر :
في زخرفِ القولِ تزيينٌ لباطلهِ *** والحَقُ قَدْ يعتريهِ سُوءُ تَعبيرِ
فهم يُزيِّنونَ القبيحَ بأساليبهم وزخرفَتهِم ، ويَعرضُونَه للنَّاس عرضاً مغرياً ، بشتَّى الوسائِل ، يعرضونه في محاضراتهم ، وفي نَدواتِهم وحِواراتِهم التي تأتي عَبرَ ( القنواتِ الفضائيةِ ) وفي غيرِها ، يعرضونه في كُتُبهِم ، ويعرضونَه في صَحَافتِهم ومجلاَّتهم ، يعرِضونَه في مجالسِهم ، يعرضونه بتضليلٍ في الإعلانات ، على أغلِفةِ المجلاَّت ، يُغْرُونَ الناسَ بِه .
فلنَحْذرَ منْ هؤلاءِ ؛ لأنَّ الله تعالى حذرنا مِنهُم ، فهم أعداؤنا ، شياطينُ الإنسِ والجنِّ ، كما قال عز وجل : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْ! هِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } [الإنعام : 114،112] .
وقَدْ ذكرَ الله تعالى في سورة التوبة بعض صفاتهم فقال : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ .. } إلى آخر الآية [التوبة : 67] . { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ } فيه دليلٌ على أنَّه يكون في الرجالِ ، ويكونُ في النساءِ } بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ { يُشبه بَعضُهم بعضاً في القُبْحِ والخُبثِ والشَّرِ ، يتشابهونَ في ذلكَ رِجالاً ونساءً ، لا يختلفُ بعضُهم عنْ بعضٍ ، سِيرَتُهُم واحِدةٌ ، وسَرِيرَتهم واحدةٌ ، فهم مُتشابِهونَ { يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ } وهو : كلُّ معصيةٍ للهِ ومخالفةٍ لشرعِ الله عز وجل ، فهم يأمرونَ بكلِ منكرٍ من قولٍ أو فعلٍ أو عملٍ ، يأمرونَ بالشركِ بالله عزَّ وجلَّ ، ويسمونَهُ بغيرِ اسمه ، يسمونه من بابِ محبةِ الصالحينَ ، فهم يَدعونَ إلى الشركِ ويُزينونه للناس .
كذلك يدعونَ إلى نَبذِ الكتابِ والسنة ، وإلى تحكيمِ القوانينِ والأنظمةِ الطاغوتية ، { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ! يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [النساء : 61,60] .
يدعونَ إلى العُريِ وكشفِ العوراتِ ، وظهورِ الفواحشِ . يدعونَ إلى التبرجِ ، واختلاطِ النساءِ بالرجالِ ، ومشاركةُ المرأة للرجلِ في المحافلِ ، وفي النوادي ، والمؤتمراتِ ، وغير ذلك ؛ حتى تَشيعَ الفاحشةُ في الذينَ آمنوا ، فهُم يَدعونَ إلى النارِ ، والله يدعو إلى الجنَّةِ .
{ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } ينهونَ عن التوحيدِ ، وينتَقِصونَه ، ويقولونَ : إن التوحيدَ يكفي عنهُ أنَّ الإنسانَ يكونُ مُسلِماً ظاهراً أو يدَّعي الإسلام ، فهم يُزهِّدونَ في التوحيدِ ؛ لأنهم يَنهونَ عن المعروفِ ، وأعظمُ المعروفِ هو : التوحيد ، فلا يطيقونَهُ ، ولايُطيقونَ تعليمَه ، ولا يطيقونَ جَعلهُ في مُقررات الدراسةِ والعياذُ باللهِ { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر : 45] .(14/59)
كذلكَ ينهونَ عن السِّترِ ، وينهونَ عن الحجابِ ، وينهونَ عن احتشامِ المرأة ، وينهونَ عن بقائِها في بيتِها ، لإصلاحِ بيتِها وأولادِها ، ويأمرونَ بخروجِها وسَفَرِها ، ويعتبرونَ أنَّ هذا هو الرُقيُّ ، وهذهِ هي الحضارة ، و واللهِ ما هي إلا حقارة ! وهؤلاء الدعاة ، ينهونَ كذلك عن حضورِ الصلاةِ في المساجدِ ، ويُريدونَ أنْ يَبقى الناسُ في الأسواقِ والدكاكينِ ، وينهونَ عن إقامةِ الصلاةِ وعن إغلاقِ المحلاّتِ لأداءِ الصلاة .
هذهِ من أقبحِ صفاتهم ، فهم - والعياذ بالله - ضِدٌ لكُلِّ خيرٍ ، وهمْ - والعياذ بالله - دُعاةٌ إلى كلِ شرٍّ .
وأهمُّ وسيلةٍ عرضوا من خلالها دعواتهم : وسائلُ الإعلامِ بإختلافِ أنواعِها ، من فضائياتٍ وإذاعاتٍ ، وصحفٍ ومجلاتٍ وكُتُبٍ خليعةٍ ، تنتشرُ بينَ الناسِ فيطَّلِعونَ عليها ، ويسمَعونها ، ويَنظرونَ إليها ، فتؤثرُ في قلوبِهم ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( تُعرضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عوداً عودا ، فأي قلبٍ أُشرِبها - يعني أحَبها - نُكِتَتْ فيهِ نُكْتَةٌ سَوداءُ ، وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَتْ فيهِ نُكتَةٌ بيضاءُ )) .
فهذهِ الوسائلُ التي جدَّت في هذا الزمانِ ، وقرَّبتِ البعيدَ ، وعرضتْ كلَّ شرٍّ ممكنٍ في العالمِ يُعرضُ أمامَ الناسِ في المشارقِ والمغاربِ ، وهذا من أعظمِ الفتن ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ .
وقد أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَه في آخِرِ الزمانِ يكذِبُ الرَجُلُ الكذبَة فتبلغُ مشارقَ الأرضِ ومغاربها ، وما ذاكَ - والله أعلم - إلا بواسطةِ وسائلِ الإعلامِ الحديثَة .
فالفِتن عظيمةٌ ، ولا يَشعرُ بها إلا مَنْ في قلبِهِ إيمانٌ ، والكلُّ على خطرٍ ، حتى المؤمن ، فكيفَ بضعيفِ الإيمان ؟ وكيفَ بالجاهل ؟ كيف بالمرأةِ ؟ كيفَ بالأطفالِ ؟
واعلم - أخي الحبيب ويا أختي الحبيبة - أنهُ لا يُنجي مِن الفتنِ إلا التمسكَ بكتابِ اللهِ عز وجل . قا صلى الله عليه وسلم : (( إنَّها ستَكونُ فِتنٌ )) قالوا : وما المَخْرَجُ منها يا رسولَ الله ؟ قال : (( كتابُ اللهِ ، فيه نبأُ ما قبلَكم ، وخَبرُ ما بعدكُم ، وفَصْلُ ما بَينَكُم ، هو الجِدُّ ليسَ بالهَذْلِ ، مَنْ تَركَهُ مِنْ جبارٍ قَصَمَهُ الله ، ومَن ابتغى الهدى من غيرهِ أضَلَّهُ الله ، هوَ حَبْلُ اللهِ المَتينُ ، والذِّكرُ الحَكيمُ ، والصِراطُ المُستَقيمُ )) .
وكذلكَ التمسُّك بما كانَ عليه سلفُ هذه الأمةِ ، كما قال الإمام مالك رحمَه الله : ( لا يُصلحُ آخرُ هذه الأمةِ إلا ما أصْلَحَ أوَّلها ) . وكذلك مما ينجي من الفتن : كثرةُ الدعاءِ والالتجاءِ إلى الله سبحانه وتعالى : } رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا { [آل عمران : 8] ، } رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا { [ الممتحنة : 5] .
اللهمَّ إنا نعوذُ بِك من عذابِ جهنَّم ومِنْ عذابِ القبرِ ، ومِن فِتنةِ المحيَا والمماتِ ومن فتنةِ المسيحِ الدجال ، اللهمَّ قِنَا شرَّ الفتنِ ومضلاَّتِ الفتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ . والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبه أجمعينَ .
أبو عمار
لا تبخلوا بدعواتكم وملاحظاتكم
================(14/60)
(14/61)
رجب طيب اردوغان.. من الميناء إلى البرلمان (2من2)
موازناته السياسية ومأزق العلمانية
رجب طيب أردوغان
تناولنا في الحلقة السابقة بدايات أردوغان الاجتماعية والسياسية، ورأينا كيف ارتبطت أفكاره وحياته السياسية بالبروفيسور نجم الدين أربكان، وتفاعله مع مدرسته الفكرية من خلال "حزب السلامة" مروراً ب"الرفاه" ثم "الفضيلة"، وبداية تمايزه السياسي بتأسيس "العدالة والتنمية".. مروراً بمواقفه الحياتية المعبرة عن شخصيته القيادية...
وقد حفلت مسيرته السياسية وتطبيقه لأفكاره الإصلاحية على أرض الواقع التركي بمنحنيات سياسية وفكرية
عبر علاقاته مع العسكر والعلمانيين، بجانب الحلم الأوروبي الذي يراود الأجيال التركية.
فعندما تولى أردوغان دفة الحكم في تركيا قام بسلسلة من الإصلاحات السياسية، على رأسها إصدار الليرة التركية الجديدة التي عوضت الواحدة منها مليون ورقة من الليرات القديمة. وعمل البنك المركزي على المحافظة على قيمة الليرة الجديدة، مما ساهم في استقرار السوق، وثقة المواطن التركي في عملته المحلية.
إلا أن أهم خطوة خطتها حكومة أردوغان في طريق الإصلاح الاقتصادي، هي كشف ملفات رجال الأعمال المتورطين
في جرائم مالية، ومحاكمتهم ومصادرة أموالهم.
وكان أول من استهدفته حملة مواجهة الفساد، رئيس الحكومة الأسبق مسعود يلماظ، الذي اعتزل السياسة إثر هزيمته
أمام أردوغان في انتخابات 2002م.
فبسبب تورطه هو ومساعده حسام الدين أوزقان في عمليات اختلاس أموال الدولة وتلاعب في بعض المناقصات من أهمها مناقصة خصخصة "مصرف توركبنك" خضع الاثنان لتحقيقات مطولة بدأت عام 2003م، وانتهت في 2005م، حيث تم القبض على العديد من المتورطين في هذه العمليات(1).
ثم تابعت حكومة أردوغان سجلات رجل الأعمال وزعيم "حزب الشباب" وصاحب أكبر قناة تلفزيونية خاصة وأكبر شركة هواتف في تركيا "جم أوزان" المتورط في قضايا اختلاسات وتلاعب عديدة؛ من بينها تهربه من دفع مستحقات شركة موتورولا الشهيرة، التي رفعت ضده دعوى تلتها سلسلة من الدعاوى من الادعاء العام التركي أدت إلى مصادرة أملاكه بما فيها قناته التلفزيونية وصحيفة ستار(2).
برنامج الخصخصة
وبعد أن قام أردوغان بتطهير البلاد من أكبر عصابات الفساد المالي، اهتم بسد العجز المالي للبلاد بتفعيل برنامج الخصخصة وجلب رؤوس الأموال الأجنبية والعربية على وجه الخصوص. وقام بسلسلة من الزيارات إلى مختلف الدول الخليجية ممّا درّ على تركيا أموالاً كثيرة دخلت البلاد؛ في شكل استثمارات مباشرة مثل مشروع "أبراج سما دبي" الذي تقرر بناؤه في إسطنبول، وكذا شراء شركة "سعودي أوجيه" أكبر مجموعة أسهم من شركة الاتصالات التركية، بجانب عدد من المشاريع الاستثمارية حصلت عليها شركات تركية في عدد من الدول العربية، في مجال البناء والإعمار(3).
ونتيجة لهذه السياسة المنفتحة على العالم العربي دخل السوق التركية في عام 2004م فقط ما قيمته 42 مليون دولار من الأموال العربية(4).
حركة "فكر الأمة"
وبعد وصول أردوغان إلى رئاسة الحكومة مازال يكنّ الاحترام والتقدير لقدوته البروفيسور نجم الدين أربكان زعيم "حركة فكر الأمّة" الممثلة في "حزب السلامة" و"الرفاه" و"السعادة".
فقد استصدر قانوناً خاصاً، لإنقاذ شيخه من السجن، عرف هذا القانون ب(قانون أربكان)(5) يقضي بتنفيذ عقوبة السجن التي لا تتجاوز ثلاث سنوات على المسنين في بيوتهم؛ أي تحويل حكم السجن إلى الإقامة الجبرية.
ورغم اعتراض رئيس الجمهورية أحمد نجدت سيزر على ذلك القانون، إلا أن نواب (حزب العدالة والتنمية) أصروا على إقراره دون تعديل.
موقفه من القضية الكردية
وفي مؤتمر حزبه السنوي الذي نظمه عام 2006م في مدينة "ديار بكر" أكبر المدن الكردية جنوب شرقي الأناضول صرّح أردوغان بأن في تركيا مشكلة كردية(6)، واعتبر هذا التصريح سابقة في تاريخ الجمهورية التركية التي لا يعترف دستورها بوجود أقليات عرقية فيها، وحسب ما تنص عليه "اتفاقية لوزان" التي قامت على أساسها الجمهورية عام 1923م، وأدّى ذلك التصريح إلى ردود أفعال شديدة من الأحزاب القومية التركية مثل "حزب الحركة القومية" و"حزب الوحدة الكبرى".
غير أن ذلك لم يزد أردوغان وحزبه إلا شعبية بين الأوساط الكردية والإسلامية وحتى العلمانية، إضافة إلى تعزيز ثقة الاتحاد الأوروبي بحزب العدالة والتنمية وزعيمه الذي لم يكتف بالاعتراف بالمشكلة الكردية، بل دعا قبل ذلك من داخل البرلمان إلى حل تلك المشكلة بشكل سلمي، مقترحاً فكرة الهوية المزدوجة أي أن تتقبل كل الأطراف هوية المواطن الظاهرة وهي المواطنة داخل الجمهورية التركية مع هويته الخفية، وهي الأصل العرقي للمواطن سواء كان كردياً أو عربياً أو شركسياً أو غير ذلك من النسيج العرقي للمجتمع التركي(7).
معادلة الاتحاد الأوروبي والعسكر(14/62)
وقد عرف أردوغان كيف يدخل إلى قلوب عامّة الشعب من مختلف فئاته وأعراقه، غير أنه بقي متخوفاً من تدخل السلطات العسكرية مجدّداً في الحياة السياسية للبلاد، كما حدث في انقلابات 1960م و1980م و1997م، لذلك عمل على الدخول بالبلاد في سلسلة من الإصلاحات السياسية تحت اسم "مواءمة معايير الاتحاد الأوروبي".
ومن أهم الإصلاحات التي نجح أردوغان في تحقيقها، الحد من صلاحيات رئاسة الأركان العامّة أكبر قيادة عسكرية في تركيا، وإقحام أعضاء الحكومة المدنيين في اجتماعات مجلس الأمن التركي، كي تبقى المؤسسة العسكرية تابعة للحكومة وتحت رقابتها.
وكلما حاول الجيش التدخل في الحياة السياسية للبلاد، وجد نفسه في مواجهة الحكومة والإرادة الشعبية التركية والاتحاد الأوروبي الذي لا يعتبره أردوغان إلا ذريعة لإدخال إصلاحات على البلاد.
سياسته الخارجية
بنى أردوغان سياسته الخارجية على محاور أساسية، تهدف جميعها إلى خلق موازنات صعبة بين المصلحة والمبدأ، مستفيداً من مستشاره في العلاقات الخارجية البروفيسور "أحمد داود أوغلي" وصديقه وعضده الأيمن وزير خارجيته "عبدالله جول".
هذه الموازنات تدور حول:
الانفتاح على الاتحاد الأوروبي، دون تقديم تنازلات في المسألة القبرصية.
الانفتاح على العالم العربي والإسلامي في المجال الاقتصادي، دون إثارة غضب الجيش والعلمانيين.
المحافظة على العلاقات مع الدولة العبرية، مع الضغط عليها لصالح الجانب الفلسطيني.
المحافظة على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، مع عدم التورط معها في عملياتها العسكرية بالمنطقة.
تحسين العلاقات مع دول الجوار، وخصوصاً سورية، دون إثارة حفيظة واشنطن وتل أبيب.
اتخاذ تدابير أمنية وعسكرية شديدة مع إدارة شمال العراق التي يتهمها بدعم الانفصاليين الأكراد في تركيا مع تجنب الدخول في حرب مع الجانب العراقي.
غير أن المشكلة الوحيدة في هذه السياسة أنها لا تنعكس بشكل مباشر على صناديق الاقتراع؛ لأن الناخب التركي البسيط ليس مطلعاً عليها ولا حتى مهتماً بها.
وبسبب تلك السياسة المتوازنة بدأت تركيا يوم 3 نوفمبر 2005م فعلياً مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي على العضوية. وأثمرت هذه السياسة على الجانب الاقتصادي، حيث تدفقت رؤوس الأموال العربية والغربية على تركيا، التي أصبحت للمرة الأولى في تاريخها عضواً مراقباً في جامعة الدول العربية، إضافة إلى تمكن التركي (إحسان أوغلو) من الفوز برئاسة منظمة المؤتمر الإسلامي، لأول مرة في تاريخ تلك المنظمة.
وظهرت حكومة أردوغان أكثر راديكالية من الحكومات التي سبقتها خصوصاً في مسألة احتلال العراق، حيث رفض مجلس الأمّة التركي في 1-3-2003م استخدام الأراضي التركية لضرب العراق، ممّا زاد من وزن تركيا في منطقة الشرق الأوسط وأكسبها قدرة على توجيه انتقادات شديدة إلى التجاوزات التي يقوم بها الصهاينة على الشعبين الفلسطيني واللبناني والمقدسات الإسلامية في الأراضي المحتلة(8).
أردوغان وإعادة صياغة العلمانية
اعتاد أردوغان منذ تأسيسه حزب العدالة والتنمية أن ينفي عن حزبه صفة الحزب الإسلامي، ويؤكّد أنه حزب علماني ملتزم بمبادئ الحداثة والعلمانية، التي أقام على أساسها مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية، إلا أن الأطراف العلمانية في تركيا استمرت في اتهام حزبه بأنه حزب ديني رجعي، يسعى إلى العودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد.
وردّاً على هذه الادعاءات أكد أردوغان مؤخراً (9) أن "حزب العدالة والتنمية" ليس حزباً دينياً، بل هو حزب يقوم على أسس إنسانية، قائلاً: "العلمانية الصحيحة تتعامل مع كل العقائد بنفس الشكل، وعلى النظام العلماني حماية كافة العقائد.. وعليه فلا يمكن أن يكون الشخص علمانياً، لكن الدولة يمكن أن تكون علمانية".
ويمكن أن نطلق صفة العلماني على كل شخص يدافع عن النظام العلماني، لكن إذا تحول هذا الدفاع إلى محاربة للإسلام، فتلك هي الكارثة.. وعلينا ألاّ نخلط بين هذا وذاك.
وعلينا كذلك أن نعلم أن كل الأنظمة وسائل؛ فالديمقراطية وسيلة والعلمانية وسيلة والأديان كذلك وسيلة...
أما الهدف فهو تحقيق السعادة للإنسانية، وأنا في فهمي الخاص هذا لا أخلط بين الوسائل والأهداف. ولكن إذا تم تحويل الوسائل إلى غايات فإنها تتحول إلى محرمات وتلك هي المشكلة..".
الأزمة الأخيرة
رغم كل ما حققه أردوغان من مكاسب سياسية واقتصادية لبلده تركيا التي كانت تعاني من أزمات في شتى المجالات قبل توليه الحكومة بدأت مجموعات من المعارضين لمشروعه الإصلاحي والمتخفين وراء شعار العلمانية والجمهورية لخدمة مصالحهم الذاتية تشن حملة على حزب العدالة والتنمية وحكومته. لم ينجحوا في إسقاطها خشية فقدان المكاسب التي حققها البلد في المجال الديمقراطي، ولكنهم عن طريق أداة الديمقراطية ذاتها يسعون إلى تقزيم العدالة والتنمية.(14/63)
فهل سينجح هؤلاء في مسعاهم خصوصاً بعد التحالفات السياسية بين الأحزاب اليمينية من جهة واليسارية من جهة أخرى؟ أم يستطيع أردوغان وحزبه الصمود أمام هذه التحالفات وكسب أغلبية برلمانية تخوله تمرير الكثير من المشاريع الإصلاحية التي لم يصادق عليها رئيس الجمهورية الأخير أحمد نجدت سيزر؟ هذا ما ستكشف عنه انتخابات 22يوليو الجاري.
وفي كلتا الحالتين يبقى رجب طيب أردوغان حالة إسلامية نادرة من نوعها، فهو الحاكم المتدين، الذي عرف كيف يوازن بين المصلحة والمبدأ ليكون مدرسة لكثير من الحكام في العالم الإسلامي ممن يريد الإصلاح في بلده.
الهوامش
(1) صحيفة راديكال 16-2-2005م.
(2) صحيفة الصباح 14-11-2004م
(3) www.cnntu r k.com
في 29 مارس 2007م.
(4) صحيفة الترجمان 8-8-2005م.
(5) صحيفة الصباح 6-4-2006م.
(6) صحيفة أقشام 28-4-2006م.
(7) صحيفة ملليات 30-11-2005م.
(8) يمكن العودة إلى تصريحات أردوغان وأعضاء حكومته حول مذبحة جنين والاعتداء على لبنان وعلى باب المغاربة في القدس.
(9) قناةNTV الإخبارية نشرة الأخبار الرئيسة ليوم 15 مايو2007م.
===============(14/64)
(14/65)
تمزيق (( الأقنعة )) العلمانية .. !
فلسفة العلمانية ومنهجها القائم على عزل الدين عن شؤون الحياة ، ومن ثم فاختزاله في أوضاع محددة ، لا شك أنها فلسفة مناقضة تماما لدين الإسلام ، ومصادمة كليا لأصول الشريعة وكلياتها ، وهي فلسفة نشأت وترعرعت في ظل ظروف بيئية وفكرية معينة ، وفي أوضاع اجتماعية ودينية معروفة ، ساعدت على نجاح هذه الفلسفة ، وتبوأها للصدارة في تلك البلاد ، إذ كانت قارب نجاة من جحيم التخلف والظلم والطغيان الكنسي الآثم ، فأتى بعض الأغبياء من قومنا فجاءوا بها ( كما هي ) ونقلوها لبلاد الإسلام ،معتقدين أن لا صلاح لنا إلا باعتناقها ، والسير في ظلامتها ..
مع أن السبب الذي قامت عليه هذه الفلسفة ليس موجودا بالأصل في بلاد المسلمين ، والدين الذي انقلب عليه أولئك العلمانيون ، ليس هو الدين الذي يريدوننا أن ننقلب عليه ، فجاء اولئكم المغفلين ( أو المستخدمين ! ) بها كما هي وأبوا إلا أن يلبسونا قميصا خيط لغيرنا ... !!
ولشناعة هذه النظرية ومناقضتها التامة الصريحة للإسلام ، فقد نفرت منها المجتمعات الإسلامية قاطبة ، ولفظتها ولم تستسغ هضمها ، فرفضتها بالكلية ، ولم تجد هذه العلمانية البئيسة أي اثر أو انتشار لها لدى الشارع الإسلامي البسيط !
وبقيت العلمانية تسمع صدى نفسها من خلال اطروحات ( نخبها المثقفة ) وتعدد ( ندواتها المتكلفة ) بلا تأثير يذكر ، في فكر المجتمع أو سلوكه أو أدبياته
وفي مجتمعنا خاصة .. تجد هذا النفور اشد وضوحا ، وأكثر جلاء ،من هذا المصطلح ، ومن جميع المنطوين تحت عباءته ، وتلبس أي فرد من المجتمع بمثل هذه الأفكار ، كاف جدا لمحاصرته ومقاطعته من أفراد مجتمعه بل وحتى من أقاربه وأهل بيته !
بل وحتى من كان له ميل أو تعاطف مع العلمانية أو بعض رموزها ، أصابهم شي كبير من هذا النفور والتقاطع مع المجتمع وأهله .
ولقد الفت مسامعنا واعتادت إبصارنا خروج بعض ( الملوثين بهذه الأفكار ) ليبرئ ساحته من العلمانية ، ويدفع عنه مغبة هذه التهمة ، بل حتى قال بعضهم : انه لا وجود لأي علماني في هذه البلاد !
وهذه بعض الشواهد على الرفض الشعبي الكبير لهذه الفلسفة الآثمة ، ولأفكارها ، ومنظريها ..
ففي هذا المجتمع .. حيث التدين ظاهر .. والشعائر قائمة .. والعلم منتشر .. والنصوص مقدسة .. والشريعة محكمة ..
لأجل هذا وغيره لم يتمكن العلمانيون من مصادمة المجتمع كله بهذه الأفكار الصريحة ، فلجأوا إلى أسلوب جديد من أساليبهم الرخيصة ، التي يصوغونها ويقلبونها بحسب المجتمع كصنيع تلك الحرباء .. فلم يسع العلمانيون إلا التمسح و ( التقنع ) بالنصوص ، مع أنهم لا يرون للنص قدسية في الأصل ، ولكن جعلوا النصوص سلالم للوصول لغاياتهم ، واتخذوا من بعض النصوص أقنعة يتسترون بها ، ويخادعون بها الناس ، وما عليك سوى أن تخلع هذا القناع الجميل ، ليبدو لك الوجه البشع القبيح .. !
فالهدف واحد هو ( عزل الدين عن الحياة ) ، والأقنعة متعددة ، فإلى عرض وتمزيق بعض هذه الأقنعة .. !
القناع الأول : انتم اعلم بأمور دنياكم .
وهذا القناع في ظاهره نص نبوي شريف ، والتسليم به واجب على كل مسلم ، فالشؤون الحياتية والمعاملاتية قائمة على ساق الإباحة والسعة ما لم تخالف نصا شرعيا ..
لكن الإشكالية أن يأتي ( المتقنع ) بهذا الحديث ليمرر فكرته الداعية إلى أن أمور الدنيا كلها مباحة وتبع للمصلحة ولا رأي للشرع في شي منها ، ولأجل ذا فتوجيه سؤال واحد كاف في تجلية هذا القناع ، وبيان زيفه وغشه : السؤال هو : ماذا عن النصوص الشرعية المحرمة لبعض المعاملات والنشاطات المتعلقة بالشؤون الحياتية .. !
فليجب حينها ..ثم ا سمعوا .. !
القناع الثاني : التفريق بين الشريعة والفقه .
فتكون القداسة والاحترام هي للشرع الذي هو النص ، وأما الفقه الذي هو فهم النص فهذا مما تختلف فيه الافهام والاتجاهات ، والقارئ لهذا الكلام في بادئ الرأي يرى فيه تعظيما للنص وتقديسا للشرع لكنه في حقيقته سلخ للدين من مضمونه وإبقاءه طقوسا جوفاء لا تحمل دلالة ولا معنى ملزم .. !
نعم ... فليس الفقه المستفاد من الشرع هو المقدس المحترم في المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف المقبول المنطوي تحت ما يسوغ فيه الاجتهاد ، فليس قول صحابي أو عالم بأولى من قول غيرهم ، لكن أن يعمم هذا في كل فهم للنص ، ويسوغ أي تفسير للشرع ، يصل بنا في نهايته إلى تعطيل تام للنصوص ، وعزل كامل للشرع عن أية حجة أو بينة ، ويبقى دين رب العالمين لفظا جامدا أجوفا يصلح للشي وضده ! وللشرك وللتوحيد ! وللإثبات والنفي !
وذلك أن كل النصوص الشرعية بلا استثناء ، وكل أصول الإسلام ومبانيه الكبار ، وكلياته العظام ، كلها بدءا من الشهادتين وبقية أركان إلى البعث والحساب والجنة والنار ، وتوحيد البارى في ربوبيته والوهيته وأسماءه وصفاته ، وغيرها كثير ، كلها قد وقعت فيها تفسيرات متعددة من المنتسبين للإسلام !(14/66)
وإذا لم نقطع بقدسية فهم معين لها ، ولم نحترم فقها واحدا لها ، فهذا يعني أن نصحح مذاهب الفلاسفة والقرامطة والباطنية والنصيرية والحلولية مع مذهب أهل السنة والجماعة ، ونراها كلها مجالات صحيحة لتفسير الإسلام !
ويكفي هذا اللازم توضيحا لفساد هذا القول ، وفظاعته وشناعته ، وربما لا يقصد قائله هذه الغاية القبيحة ، وإنما أراد بها التلصص والتدرع لا غير .. !
وهذا القول في غايته عزل للدين عن أي تأثير في شؤون الحياة إذ أي نص يصدمون به سيتعللون بأنه ما فهمه العلماء منه ليس هو المقدس ، بل له فهم أخر .. !
القناع الثالث : تقديم المصلحة على النص .
وربما يتمسح ( المتقنع ) ببعض النصوص الدالة على اعتبار المصلحة وبيان أثرها في الأحكام الشرعية ، وكأن الخلاف مع أهل الأقنعة هو في كون المصلحة معتبرة شرعا أو غير معتبرة !
وهذا مما لاشك فيه ..
بل وحتى تقديم مصلحة ما على فهم نراه لبعض النصوص ، في بعض النوازل والمواقف ، فهذا قد يكون مما يسوغ فيه الخلاف نظرا لتفاوت الناس في فهم النص ، وتفاوتهم أيضا في تقدير حجم هذه المصلحة .
لكن الذي لا يمكن أن يقع فيه الخلاف أبدا هو ما يتستر به المتقنع من جعل المصلحة مقدمة على النص مطلقا ، بلا قيود شرعية ، ولا ضوابط فقهية ، وتعطيل الحكم الشرعي عند ا ي مصلحة يراها ، وجعل هذا منهجا عاما مطردا ، فان هذا في حقيقته عزل للدين عن أي تأثير مع وجود أية مصلحة ولو متوهمة .. !
القناع الرابع : قولهم : الشريعة مقدسة معظمة ، لا يجوز المساس بقدسيتها ، ولا التعدي على مكانتها ، أو تدنيس طهارتها ، وشؤون الحياة لا تخلو من الهوى والشهوة والحيل ، التي لا يرضاها العاقل ، وإدخال الدين في هذا تعريض له للتدنيس والتلويث !
والمتقنع هذا لم يزد شيئا سوى أن أعطانا المنهج العلماني بأسلوب أكثر تهذيبا فقط !
بل الواقع أن فعلهم هذا هو الذي فيه التدنيس والتلويت والاهانة .
والا .. فلم لا نحكم بالنص الشرعي في شؤون الحياة ، ونطهر به الحياة ، ولا نعطله ، فنهينه وندنسه .. !
القناع الخامس : أن الشريعة الإسلامية لم توجد نظاما سياسيا ، أو اقتصاديا محددا ، وإنما المجال مفتوح للمسلمين لأخذ أفضل الأنظمة ، وأصح الطرق والمناهج ، لصياغة شؤون حياتهم ومجتمعاتهم ، ولهذا المتقنع نقول : أن لم تضع الشريعة نظاما فقد وضعت أحكاما ، فأين ذهبت عنها أيها المتقنع !
فليس عدم وضع نظام محدد يعني عدم وجود أية ضوابط أو أحكام يجب تطبيقها مع أية نظام يتم تشكيله !!
==
هذه هي العلمانية ، وهذه هي بعض أقنعتها ، ولا يمكن إحصاء جميع هذه الأقنعة ، إذ للقوم في كل واد قناع وقناع ، غايتها عزل الدين عن الحياة وإخراجه عن أي تأثير في شؤون الحياة ، ووسيلتها : تمر عبر التستر تحت هذه الأقنعة والاتقاء بها .
فأينما رأيتم ـــ يا عباد الله ـــ هذه الأقنعة فمزقوها ، وشاهدوا وجهه الحقيقي مباشرة ، وأينما رأيتم من يمرر فكرته متقنعا بكون الشريعة قد وسعت وأباحت فشدوهم من آذانهم واسألوهم عن الأحكام الشرعية المتعلقة بشؤون الحياة والمجتمع والاقتصاد والسياسة ، ما قولهم فيها :-
وانزعوا أقنعتهم ، وادعوهم ليجيبوا
وكتب المارقال
في 7 / 10 / 1424 هـ
=============(14/67)
(14/68)
الأمين العام للمجلس الأوروبي للإفتاء "للمجتمع":
الغرب بات يستخدم الاندماج سلاحاً ضد المسلمين
حاوره في سراييفو: عبدالباقي خليفة
الشيخ حسين حلاوة
على هامش الدورة السابعة عشرة للمجلس الإسلامي الأوروبي للإفتاء والبحوث التقت "المجتمع" الشيخ حسين محمد حلاوة الأمين العالم للمجلس، وإمام مسجد المركز الإسلامي بأيرلندا.. وطرحت عليه عدداً من القضايا المتعلقة بواقع الإسلام في الغرب وسبل دعم اندماج المسلمين في مجتمعاتهم الأوروبية مع الحفاظ على خصوصياتهم الثقافية والدينية.. إلى التفاصيل:
كيف ترى إشكالية المواطنة واندماج المسلمين في الغرب؟
موضوع الموطنة والاندماج لم تتضح معالمه بعد، سواء من المسؤولين في الغرب أو المسلمين، لأن التعريف الكلي غير واضح للاندماج، ولاسيما تلك التعريفات الموجودة في القواميس، ومما تعنيه من الذوبان التام في المجتمعات الغربية، وأخشى أن يستعمل مصطلح الاندماج، كما استعمل لفظ الإرهاب، فهي كلمة مطاطة.. فماذا يراد من المسلمين في قضية الاندماج؟ هل المطلوب أن ينسى المسلم هويته وأن ينسى حضارته وثقافته ودينه ولغته، وأن ينسى كل شيء!
هذا في بعض البلاد للأسف هو المفهوم السائد للاندماج، ليذوب المسلم في المجتمع بحيث لا يبقى له من ثقافته ودينه، بل من اسمه شيء!
وهناك مجتمعات تتعاطى مع مفهوم الاندماج والمواطنة بحدة أقل أو بشكل إيجابي إلى حد ما.
الحريات الأربع
وماذا بقي من الحريات الأربع التي نصت عليها المواثيق الدولية؛ وفي مقدمتها الحرية الدينية، إذا كانت المواطنة والاندماج تعني الذوبان التام في المجتمعات الجديدة؟
من حق المسلم الحفاظ على دينه، ولكن إلى أي مدى الحفاظ على الدين، فبعض المجتمعات جعلت مفهوم المواطنة والاندماج أكثر من هذا، فرفعت سقف مطالبها لقبول المسلمين داخلها. لذلك نقول إن هذا الأمر غير واضح المعالم ويختلف مدلوله من دولة إلى أخرى في أوروبا..
لذلك حرص المجلس الإسلامي الأوروبي للإفتاء والبحوث أن يناقش المفهوم ويؤصل لهذا الأمر في دورته السابعة عشرة.. وماذا نعني بالاندماج الإيجابي في المجتمع الغربي؟ وما هو المطلوب من المسلمين في تلك المرحلة؟ في ظل ما نعايشه، من محاولات استغلال كلمات المواطنة والاندماج كمسامير تدق فوق رؤوس المسلمين فقط..
وما دور الفعاليات الإسلامية في الغرب وفي مقدمتها المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في مواجهة هذه التحديات؟
نسعى إلى تأصيل المفهوم تأصيلاً شرعياً، مستقى من قرآننا المجيد وسنة رسولنا الكريم وسيرة سلفنا الصالح وتراثنا العظيم؛ فلدينا في تراثنا الشيء الكثير، وفي تراثنا ذخائر نفيسة لكيفية تعايش المسلم في البلاد غير الإسلامية.
ونجد في القرآن الكريم أمثلة كثيرة، كنبي الله يوسف عليه السلام، حينما قدم إلى مصر ولم تكن حينئذ تدين بدينه، فرغم ما أصيب به يوسف عليه السلام من أزمات، ودخل السجن متهماً بتهمة برئ منها، إلا أنه عندما حار القوم في تفسير رؤيا ملكهم، فسرها لهم يوسف دون أن يطلب منهم ثمناً، أو يطالب بالقصاص ممن اتهموه ظلماً، بل شارك مشاركة فعالة في تنمية مصر، وكذلك الصحابة الكرام رضي الله عنهم حينما انطلقوا في أرض الله عز وجل وكانوا يعيشون مع أقوام يدينون بغير دين الإسلام كانوا يتفاعلون معهم، ولكنهم كانوا يحافظون على هويتهم ويحافظون على دينهم ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم الإسلامية دون أن يجرحوا أحداً، ودون أن يكون ذلك استعلاءً على أحد.
هل هناك إجابات تفصيلية تقدم للآخرين في نقاط حول هذه القضية؟
الأبحاث التي تقدم تعتبر رداً تفصيلياً على متطلبات الساحة الأوروبية، وفي الدورة السابعة عشرة الأخيرة تم تقديم 20بحثاً علمياً، كل بحث يأخذ نقطة محددة من هذه النقاط..
فمثلاً؛ قدم د. يوسف القرضاوي "الإطار العقدي والمقاصدي للمواطنة"، ويعالج البحث إشكالية "الولاء والبراء بين الدين والمواطنة" التي تؤرق الكثير من الشباب.. وهل الولاء والبراء حاجز بين الدين والمواطنة..
بجانب العديد من الدراسات والرؤى الفقهية التي تتناول الواقع الحقيقي للمسلمين، وقواعد الاندماج الإيجابي في المجتمع..
10 سنوات من الإنجازات
مر على تأسيس "المجلس الإسلامي الأوروبي للإفتاء والبحوث" 10 سنوات، هل حقق المجلس من وجهة نظركم أهدافه؟
قطعنا شوطاً كبيراً فيما وضعنا لأنفسنا من أهداف، وبدأنا في السنوات الماضية تخصيص محاور الدورات استجابة لحاجيات الجالية.
وفي بداية إنشاء المجلس كنا نجيب على التساؤلات المهمة للجاليات، والتي تمثل عائقاً بينهم وبين أن يكونوا فاعلين في المجتمع، ثم تطور الأمر إلى أن أصبحنا نناقش قضايا فعالة وتصدر فيها أبحاث، وقد أصدرنا حتى الآن 11 مجلة علمية قيمة، فيها ما يزيد على 70 بحثاً.
وأصدرنا أيضاً مجموعتين من الفتاوى بلغات عدة؛ العربية والإنجليزية والأردية والفرنسية والألمانية...
كما عقدنا دورتين حول "الأسرة ومشكلاتها في المجتمع الغربي"، وقدمنا حلولا ًللكثير من المشكلات التي تؤرق حياة المسلمين..
وماذا عن تمثيل المسلمين الأوروبيين في المجلس الإسلامي للإفتاء؟(14/69)
عندنا بعض المسلمين من أصل أوروبي وهم أعضاء في المجلس، الذي يمتاز بأنه لا يحوي فكراً معيناً ولا يمثل تياراً معيناً، ولا ينتمي إلى أي مدرسة معينة، فهو مجلس كل الأوروبيين، وكل المدارس الفقهية والمذاهب.. فيه من العرب وغير العرب، ومن الأوربيين الأصليين ومن المتجنسين والمقيمين. كما يضم كوكبة من علماء الشرق الذين لهم صلة بالغرب.
وفي كل دورة نحرص على الحضور الغربي داخل المجلس، لاسيما المفكرين والباحثين. وقد عرض في الدورة الأخيرة بسراييفو بحث لرئيس قسم الدراسات الشرقية والأديان في جامعة "ليفيد" في هولندا، فنحن منفتحون، ونرى ضرورة مشاركة الأوروبيين والاستفادة من آرائهم وخبراتهم.
المهتدون الجدد
ماذا عن المسلمين الجدد.. وأين هم في اهتمامات المجلس؟
الفتاوى والبحوث التي يصدرها المجلس لعلها أخذت جانباً من حديثي، ولكن كثيراً ما ترد إلينا أسئلة واستفسارات حول القضايا التي تمس واقع المسلمين الجدد.. وفي الدورات التي يقيمها المجلس يحضر بعض المراقبين من المسلمين الجدد.
هل هناك نية لتوسيع اهتمامات المجلس، الذي يقتصر عمله حالياً على البحوث والفتاوى، لتشمل اهتماماته القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك؟
طبيعة المجلس بحثية، حيث يقدم الرأي الشرعي إزاء القضايا والمشكلات التي تواجه المسلمين بأوروبا..
ويهتم المجلس بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية وغيرها في أبعادها العقدية، فنحن في الدورات الماضية ناقشنا موضوعات الأسرة والقضايا المالية والاقتصادية، ونتواصل مع كافة المؤسسات الإسلامية العاملة في المجتمعات الأوروبية وفي العالم الإسلامي، ونعتبر أنفسنا مكملين لهم ولسنا في تضاد معهم.
ولنا صلات قوية مع كل المجامع الفقهية.. وفي هذه الدورة دعونا الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف الشيخ علي عبدالباقي، والأمين العام لمجمع الفقه في مكة التابع لرابطة العالم الإسلامي، والأمين العام لمجمع الفقه في جدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي في الهند.. وغيرهم.
المسلمون في أيرلندا
هل هناك تأثير للنزاع البريطاني الأيرلندي على الوجود الإسلامي في أيرلندا؟
لا يوجد تأثير، وقضية النزاع دخلت طور الحل، وقد تشكلت حكومة في الفترة الماضية، ولكن بالطبع أيرلندا تتأثر بما يجري على الساحة البريطانية، باعتبار أن بريطانيا كانت تحتل أيرلندا لفترة طويلة (800 سنة).
ولكن هذا لا يؤثر كثيراً على العلاقة بين المقيمين والمجتمع الأيرلندي.
وماذا عن أوضاع المسلمين داخل المجتمع الأيرلندي؟
عددهم يقارب 40 ألفاً، يعيشون بين نحو 5 ملايين أيرلندي. وضعهم جيد ومعترف بهم.. ولدينا الآن إطار قانوني قائم، وهو "مجلس الأئمة" في أيرلندا، وقريبا سيعلن "مجلس التنسيق بين المراكز الإسلامية"..
ونحظى بقبول مجتمعي على كافة الأصعدة الاجتماعية والسياسية، فحينما توسع الاتحاد الأوروبي، ليصبح في عضويته 25 دولة، وكانت أيرلندا رئيسة للاتحاد آنذاك، تمت دعوتنا للمشاركة في احتفالات التوسع مع الرؤساء والملوك الأوروبيين، وتم افتتاح الاحتفال بقراءة آيات من الذكر الحكيم.
وعندما انتُخبت رئيسة الجمهورية مجدداً، دعينا للمشاركة في الاحتفالات، وتمت تلاوة القرآن الكريم بتلك المناسبة داخل البرلمان، كما يشارك المسلمون في كل الفعاليات القومية والفعاليات السياسية.
وما أسباب نجاح جهودكم في الاندماج مع المجتمع الأيرلندي؟
أولاً: طبيعة الشعب الأيرلندي ومثقفيه ورجال الدين فيه. والأمر الثاني: يعود للتعاطي الرشيد للمسلمين في أيرلندا فهم متعقلون ويعرف قادة المسلمين رسالتهم، ويدركون أن بيننا وبين الغرب ما يجمعنا وهو كثير.
فعندما أرادوا تشريع الإجهاض تم استدعاؤنا والاستماع إلى آرائنا، وكتب هذا في الصحف.. وقد تم رفض الإجهاض بناءً على رفض المسلمين ورفض الكنيسة..
وقد زارتنا رئيسة الجمهورية وعدد كبير من الوزراء في المركز الثقافي الأيرلندي مرات عدة بين الفينة والأخرى، وعندما نقوم بأي مشروع يعود بالنفع على المجتمع يأتي إلينا المسؤولون ويشاركوننا وكذلك الشعب الأيرلندي.
وأنا شخصياً أذهب إلى الكنائس وألقي محاضرات عن الإسلام، بل أذهب إلى المدارس التي تعد القساوسة، وأتكلم عن الإسلام وكذلك المدارس المتخصصة لإعداد المدرسين الذين يدرسون الدين المسيحي، فأيرلندا دولة دينية، في كل مدرسة كنيسة وفي كل مستشفى كنيسة.. رغم أن دستورها يقول إنها دولة علمانية.. لكنها في الحقيقة دولة دينية متمسكة بدينها.
ونحن على تواصل مستمر مع كافة الفعاليات الأيرلندية، وأصدرنا مع الكنيسة يوم 15-5-2007م بياناً مشتركاً حول الصحفي المختطف في غزة.
وماذا عن صورة المسلمين في الإعلام الأيرلندي؟(14/70)
الإعلام لا يترك أحداً دون انتقاد.. ونحن في شد وجذب مع وسائل الإعلام مثل غيرنا؛ وكنا مع رئيس الوزراء وتحدثنا عن هذا الموضوع، وقلت له: "عندما أتكلم عن سماحة الإسلام وعدله، لا يتحدث الإعلام عن ذلك، ولكن لو علقت على شيء آخر، لهرعت وسائل الإعلام ونقلت كلامي، بل حملته ما لا أقصد.."، فرد رئيس الوزراء بأنه نفسه لا يسلم من وسائل الإعلام وانتقاداتها.
لكن غالبية الصحف المقروءة المتزنة تتكلم كلاماً عاقلاً عن الإسلام وعن المسلمين ولها حوارات معنا، كما ينقل التلفزيون جزءاً من الصلاة في رمضان أو العيد.
السياسة الخارجية
ما تقييمكم للسياسة الخارجية الأيرلندية تجاه قضايا المسلمين؟
رغم بعض الضغوط الدولية التي تمارس على الحكومة الأيرلندية، إلا أن موقفها من قضايا العالم الإسلامي جيد، وهي سياسة محايدة، ولا أدل على ذلك من موقفها من قضية الشعب الفلسطيني؛ فعندما توفي السفير الفلسطيني في أيرلندا وكان عندنا في المركز الإسلامي، جاءت رئيسة البلاد خصيصاً إلى المركز الإسلامي وجاء رئيس الوزراء وقدما العزاء.
حقوق المهاجرين
كيف ينظر الشعب الايرلندي للمهاجرين والأجانب في ضوء تصاعد التيارات اليمينية المتشددة بأوروبا؟
الأيرلنديون شعب مهاجر، ويقدر عددهم بالخارج نحو 60 مليون مهاجر، معظمهم بالولايات المتحدة الأمريكية..
ويحتضن المجتمع الأيرلندي المهاجرين، ما دام المهاجر قد وصل إلى البلاد بطريقة شرعية وحصل على الإقامة بصفة شرعية.
==============(14/71)
(14/72)
البيانات العلمانية : خطر ماحق أبواق فتنة ؟؟
قرأت بيان ( دفاعا عن الوطن ) الذي تقدم به عدد من مواطني البلاد السعودية ، وقد أيقنت أن الموقعين عليه لايأبهون بمصلحة هذه البلاد ولا بحقوق العباد ، بل هم يسعون إلى الفتنة ، وأكبر الفتنة أن يتضمن هذا البيان دعوة صريحة إلى تعدد العقائد والأفكار و إلى أن يتخلى المسلم عن اعتقاده بأن الإسلام هو الحق وأن ما عداه من المذاهب والعقائد والأديان باطلة ، ولو أن الموقعين على البيان كانوا حريصين فعلا على أمن البلاد واستقرارها لما هاجموا أساس هذه البلاد والمنهاج الذي قامت على أساسه ، وقد رأيت من واجبي أن أبين ما فيه من الأفكار والآراء والمطالب المناقضة لشريعتنا الإسلامية ولثوابتنا في هذه البلاد :
أولا - لم يشر البيان لا تصريحا ولا تلميحا إلى الأساس الذي قامت عليه هذه البلاد والعقد الذي تأسس به هذه الكيان وهو تطبيق الشريعة الإسلامية وتحكيمها في جميع مجالات الحياة الدينية والدنيوية ، وهو المبدأ الذي نص عليه النظام الأساسي للحكم ، وهذا تطور في البيانات العلمانية حيث كان هذا الأمر يرد في البيانات السابقة ، ولكن العلمانية في هذا البيان قد حذفت هذا الأساس من بيانها .
ثانيا - اتهم البيان الدعاة والعلماء في هذه البلاد بأنهم عاجزون عن الحوار حين ورد في البيان ( إلى سيطرة اتجاه محدد عاجز بحكم تكوينه عن الحوار مع الغير ) والمقصود هنا الإسلام ومن يمثل الفتوى وبيان أحكامه من العلماء والدعاة ، وهنا تتضح رؤية الموقعين في هذا لأمر حين لم يقفوا عند حد الاستهزاء والحط من شأن العلماء بل ذهبوا بعيدا للتشكيك في تكوين الإسلام ذاته ممثلا في علمائه ودعاته وطلبة العلم فيه الذين هم المرجع للناس في فهم أمور دينهم ودنياهم وفق شريعة الله تعالى ، حيث ينسبون إلى طبيعة تكوينهم كل نقيصة ، وما طبيعة التكوين الثقافي والفكري للعلماء والدعاة إلى الله ؟.
ثالثا - يدعو البيان إلى رفض الأحادية ، ويعنون بها ألا يكون الإسلام هو المنهاج الوحيد لتسيير شؤون البلاد والعباد ، وهذه الدعوة من أخطر الدعوات لأن الإسلام وحده الحق وما وسواه فباطل وهذا مقتضى الإيمان قال تعالى (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) آل عمران .
ففي الآية دليل واضح على أنه لا هداية ولا فلاح في غير الإسلام ، ومن هنا كان الإسلام هو الدين الوحيد الحق وكل ماعداه فباطل ، وهذا هو الإيمان فمن شكك في هذا فقد انعدم إيمانه ، أي شكك في كونه الدين الحق ، أو دعا إلى التعددية العقدية والفكرية التي تنطلق من غير دين الله تعالى الذي هو الإسلام ، وهذا التشكيك في العلماء والدعاة الذين وصفهم البيان بـ (الاتجاه الذي لا يعبر عن سماحة الإسلام ووسطيته ) إنما هو تشكيك للمسلمين في دينهم ، فإذا لم يكن العلماء لايعلمون الإسلام ولا يمثلون وسطيته ، فمن ؟ أيكون ذلك لأهل البدعة والكتاب الذي حاربوا الله في رواياتهم ممن جاءت أسماؤهم في البيان ؟ وهو بيان لم يتضمن عالما واحدا من علماء هذه البلاد ، وقد جاء في الحديث : ( إذا لم تستحي فاصنع ماشئت ).
إن التشكيك في علماء الإسلام هو تشكيك في الإسلام ذاته و بذر بذور الشك في دين الله ، وتكذيب الوحي والله تعالى يقول ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) وقال (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) وقال تعالى (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ )المؤمون .
( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) الأنعام.
رابعا - الدعوة إلى القبول بالآخر المختلف على الصعيد الإنساني ، أي أن نقبل كل فكر واعتقاد من أي مورد جاء وعلى أي صورة وفد وبأية عقيدة صيغ وإلى أي منهاج دعا ، وهذا معنى القبول بالآخر المختلف على الصعيد الإنساني ، وما معنى الإنسانية هنا ؟ أليست تعني كل ما أنتجه الإنسان واخترعه وتبناه من عقائد وأفكار وأخلاق ومذاهب لا حصر لها و كلها باطلة إلا ما كانت مبينة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وقد سبق هذه العبارة الدعوة بالقبول بالآخر الإسلامي ، ووجود العبارة اللاحقة تعني القبول بالآخر غير الإسلامي ، والدعوة هنا دعوة إلى قبول الفكر ، لأنه لا يعقل أن يكون معناها قبول الآخر بشحمه ولحمه فهذه معلومة ، فالإسلام يجيز التعامل مع غير المسلم بل يجيز الزواج بالكتابية ، ولكنه لا يجيز عقيدتها ولا فكرتها ولا يقبل بها ، بل يرى عقيدتها كفرا رغم كونها زوجة للمسلم .(14/73)
وهذه الدعوة في الحقيقة دعوة إلى حرية الفكر والتعبير عن الأفكار والعقائد التي تتناقض مع قيم وعقيدة الإسلام .
إن الموقعين على هذا البيان المهلك المدمر في الواقع لا يريدون بالبلاد ولا بالعباد خيرا ، وما هم إلا طلاب مصالح شخصية ، وبعضهم عرف في كتاباته بمهاجمة الإسلام والسخرية منه ، والدعوة إلى الأدب الإباحي الذي لايقيم للدين مقاما ولا للخلق اهتماما .
إن دوافع الموقعين على هذا البيان معروفة ليس من باب الظن والتخمين بل إن البيان يصرح بدوافعهم التي لم يستطيعوا هذه المرة مواراتها وإخفاءها ، وهي دوافع تدعو صراحة إلى العلمانية وتعدد المذاهب والعقائد وحرية الدعوة إلى كل ملة وعقيدة وإلى حرية مهاجمة الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة ، لأن الدعوة إلى مايضاد الإسلام دعوة إلى نبذ الإسلام ومهاجمة له .
هذا والله نسأل للجميع الهداية وأن يخذل من أراد الإسلام و العباد والبلاد بسوء.
علي التمني
أبها 10/8/1424
=============(14/74)
(14/75)
العلمانية كارثة الأمة
الفلاح المعتصم
تنبيه
اعلم أخي الكريم إنك إن قرأت هذا الموضوع بإذن الله تعالى ستخرج بفائدة أكيدة فلا تعجز بارك الله فيك أرجوك اقرأ لفائدتك أخوك الفلاح المعتصم .
مقدمة
الحمد لله الحي القيوم ، عالم السرائر ، ودقائق الضمائر ، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، والصلاة والسلام على الصادع بالحق المعلوم ، وناصر المظلوم . أما بعد
فهذا نذيرٌ من كسير ، وبيانٌ بلاءٍ مستطير , منه براءة ذمتي , وتحذير أمتي .
إنها مصيبة تأكل كل المصائب , وحديث يُطوى عنده كل حديث .
وتاريخ يُنسي الأمة كل تاريخ .
عدوٌ لدودٌ , أعلن الإلحاد جماعات وآحاد , اغتصب الأرض , وانتهك العرض وأفسد البلاد طولاً وعرض .
داهم البلاد المغربية , وأحكم وثاق الشامية , واحتضن البلاد المصرية , وأخذ بزمام كل دولة إسلامية , شرقية كانت أوغربية وأقبل بعدده وعدته نحو الجزيرة العربية , أرض الكعبة والآثار المحمدية .
يقول هذا العدو مكة أساطير أولية , وعرفات خرافات إختراعية , وتحكيم الشريعة عثرة الأمة الإسلامية , وحرمات الله مُتعٌ طبيعية .
وما جعلني أنسج أحرف هذه البيانات والتحذيرات , إلا بعد ما وصلت جافل هذا العدو إلى أراضي المقدسات , وحول مأوى أفئدة المؤمنين والمؤمنات .
أيها القارىء الكريم لا أخفيك أن بيان هذه الرزية كلفني ساعات طويلة , ومراجع ثقيلة , وأخشى ما أخشاه أن تضعف العزيمة , فتحرم الغنيمة بسبب عدم إكمال القراءة , فتحصل الهزيمة .
أخي الحبيب .. ما كتبت هذا إلا لتعلمه , وما أتعبت نفسي إلا لتفهمه , فكن معي لتنال الخير وتفهمه .
بليتنا , ورزيتنا , وداهيتنا , وعظيم مصيبتنا هي (( العلمـ العلمانية ـــــانية ))
قد تقول أنا أعرف العلمـ كارثة الأمة ـــــانية , أقول لك لا تتعجل لربما تجد مالا يخطر ببالك , ومالم يتصوره خيالك , إنها دراسة مفصلة مؤصلة , بها تدرك حجم المصيبة , وتتجسد لك صورة جلية تبين لك أبعاد هذه الرزية .
أبدأ بسم الله مستعينا ** راض به مقدراً معينا
.*.*. العلمـ تعريف ـــــــــــــــــانية .*.*.
تقول دائرة المعارف البريطانية مادة ( Secula r im ) : ( هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيهم إلى الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها .)
ويقول " المعجم الدولي الثالث الجديد " مادة : ( Secula r ism)
" اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة ، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادا مقصوداً ، فهي تعنى مثلاً " السياسة اللادينية البحتة في الحكومة "
" وهي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين " (6)
والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو " فصل الدين عن الدولة " ، وهو في الحقيقة لا يعطى المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة ، ولو قيل أنها " فصل الدين عن الحياة " لكان أصوب ، ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية " إقامة الحياة على غير الدين " سواء بالنسبة للأمة أو للفرد
تنقسم العلمانيه إلى قسمين
1- الديمقراطية الليبرالية ، وتسمى منهجها ( العلمانية المعتدلة) أي أنها مجتمعات لا دينية ولكنها غير معادية للدين .
2-( العلمانية المتطرفة - Anti r eligious ) ، أي المضادة للدين ، ويعنون بها المجتمعات الشيوعية وما شاكلها .
.*.*.*. أسباب نشأت العلمانية .*.*.*.
== << .. السبب الأول .. ]] ==
.*.*. الطغيان الكنسي .*.*.
1- يحل ويحرم رجل الكنيسة ، ينسخ ويضيف ، وليس لأحد حق الاعتراض ، أو على الأقل حق إبداء الرأي ، كائناً من كان وإلا فالحرمان مصيره واللعنة عقوبته لأنه كافر "مهرطق" .
2- حق الغفران (( صكوك الغفران )) وهي صكوك توزعها اللجنة بالمزاد العلني وكتابة وثائق للمشترين تتعهد الكنيسة فيها بأن تضمن للمشتري غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكل محظور يصبح حلالا .
3- وحق الحرمان هي عقوبة معنوية بالغة يعاقب بها من خالف الكنيسة من ملوك وعلماء وأفراد .
4- وحق التّحلة فهو حق خاص يبيح للكنيسة أن تخرج عن تعاليم الدين وتتخلى عن الالتزام بها متى اقتضت المصلحة .
محاكم التفتيش هي عبارة عن سجون مظلمة تحت الأرض بها غرف خاصة للتعذيب وآلات لتكسير العظام وسحق الجسم البشري وكان الزبانية يبدءون بسحق عظام الأرجل ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا" حتى يهشم الجسم كله ويخرج من الجانب الآخر كتلة كتلة من العظام المسحوقة والدماء الممزوجة باللحم المفروم . ذلك لمن خرج عن تعاليم الكنيسة ومن هؤلاء بل على رأسهم علماء الإختراع .
== << .. السبب الثاني .. ]] ==
.*.*. الصراع بين الكنيسة والعلم .*.*.(14/76)
وهذا يتمثل في أن مامن عالم يخترع شيء إلا ويكفر ويخرج من ملتهم وتطارده محاكم التفتيش للقضاء عليه فقد كفرت رئيس بلدية في ألمانيا لأنه اخترع غاز الاستصباح بحجة أن الله خلق الليل ليلاً والنهار نهاراً وهو بمخترعه يريد تغيير مشيئة الخالق فيجعل الليل نهاراً .
== << .. السبب الثالث .. ]] ==
.*.*. الثورة الفرنسية .*.*.
وبسبب الظلم من الكنيسة المتمثلة في رجال الدين دعت العلمانية بالثورة على رجال الدين هناك والظلم الكنيسي فما كان من الشعب إلا أن خرج ينادي (( أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس )) وهكذا نجحوا في تحويل الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه وجعلوا لفظة الدين عند الشعوب الأوربية مرادفة للظلم والرجعية والتخلف والاستبداد .
وتجدهم ينادون (( لتسقط الرجعية )) والمقصود الواضح هناك (( ليسقط الدين )) حتى أصبح النظام المثالي هناك هو النظام العلماني والنظام البائد هو نظام الكنيسة الديني .
== << .. السبب الرابع .. ]] ==
.*.*. نظرية التطور .*.*.
هذه النظرية هي النظرية التي تسمى (( الدارونية )) ومقتضاها اللإلحاد والزندقة وأن الكون مجرد نوع يتكون من ملاين الخلايا والطبيعة هي التي تهب أسباب البقاء لهذه الأنواع فيكون لها الخلود أو منع أسباب البقاء عنها فتنتهي .
يعني هذا اللإلحاد حيث أن الله لا شأن له في الوجود .
ومن أسباب انتشار هذه النظرية الإلحادية بين سذجها الآتي
الصراع بين العلم والدين إنذاك كان في حالة من الهيجان لا تسمح بانتشار نظرية تشم منها رائحة إله الكنيسة السفاح الحقود !!
وكان العلم النيوتنى قد ألقي في روع أعداء الكنيسة إمكان تفسير الظواهر الطبيعية (( ميكانيكياً )) أي دون الحاجة إلى مدبر من السماء 0
لفت نظر الناس وإعجابهم بالتطور التكلونجي بإسم العلمانية البعيد جذرياً عن الكنيسة 0
وبهذه الأسباب نشأت العلمانية واستشرى أمرها في بلاد الكفر البعيدة كل البعد عن الشريعة الربانية الإسلامية وبهذه المبررات قامت هذه الفئة بحرب كل محسوس أو ملموس ينطبق عليه مسمى الدين وإن اختلف التشريع وكان في قمة العدالة والإنصاف سواءاً كان هذا الدين مسيحي أو يهودي أو إسلامي يدعو للعلم أو يحاربه فالأمر عندهم سواء .
** نهج العلمانية وطرق دعوتها **
العلماني :
تجد البعض يؤمن بوجود إله لكنه يعتقد بعدم وجود علاقة بين الدين وبين حياة الإنسان ( فكر بوذي ) كما يعتقد بأن الحياة تقوم على أساس العلم التجريبي المطلق وهذا ( فكر ماركسي ).
والعلماني :
تجده يعتبر القيم الروحية التي تنادي بها الأديان والقيم الأخلاقية بأنواعها هي قيم سلبية يجب أن يتم تطويرها أو إلغائها وهذا ( فكر ماركسي ).
والعلماني :
تجده يطالب بالإباحية كالسفور ، والاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة والخاصة ( أي الخلوة ) ويحبذ عدم الترابط الأسري ( دعوة ماسونية ).
والعلماني :
تجده يطالب بعدم تدخل الدين في الأمور السياسية وأنه يجب تطبيق الشرائع والأنظمة الوضعية كالقانون الفرنسي في الحكم . وأن الدين للعبادة فقط دون تدخل في شئون الخلق وتنظيمها - كما أراد الله سبحانه وتعالى -.
والعلماني :
تجده يردد دائماً بأن الإنسان هو الذي ينبغي أن يستشار في الأمور الدنيوية كلها وليس رجال الدين - ويطالب بأن يكون العقل البشري صاحب القرار وليس الدين
والعلماني :
تجده يصرح باطلاً بأن الإسلام لا يتلائم مع الحضارة وأنه يدعوا إلى التخلف لأنه لم يقدم للبشرية ما ينفع ويتناسى عن قصد الأمجاد الإسلامية من فتوحات ومخترعات في مجال الهندسة والجبر والكيمياء والفيزياء والطب وأن علم الجبر الذي غير المفاهيم العلمية وكان السبب الرئيسي لكثرة من مخترعات اليوم وربما المستقبل ينسب لمبتدعه العبقري جابر بن حيان وهو مسلم عربي .
والعلماني :
تجده يعتقد بأن الأخلاق نسبية وليس لها وجود في حياة البشر إنما هي انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية وهي من صنع العقل الجماعي وأنها أي الأخلاق تتغير على الدوام وحسب الظروف ( فكر ماركسي ) .
والعلماني :
تجده يعتقد بأن التشريع الإسلامي والفقه وكافة تعاليم الأديان السماوية الأخرى ما هي إلا امتداد لشرائع قديمة أمثال القانون الروماني وأنها تعاليم عفى عليها الزمن وأنها تناقض العلم . وأن تعاليم الدين وشعائره لا يستفيد منها المجتمع . ( وهذا فكر ماركسي ) .
والعلماني :
تجده حين يتحدث عن المتدينين فإنه يمزج حديثه بالسخرية منهم ويطالب بأن يقتصر توظيف خريجي المعاهد والكليات الدينية على الوعظ أو المأذونية أو الإمامة أو الأذان وخلافه من أمور الدين فقط .
والعلماني :
تجده يعترض اعتراضا شديداً على تطبيق حدود الله في الخارجين على شرعه كالرجم للزاني أو قطع اليد للسارق أو القتل للقاتل وغيرها من أحكام الله ويعتبرها قسوة لا مبرر لها .
والعلماني :
تجده يطالب ويحبذ مساواة المرأة بالرجل ويدعو إلى تحررها وسفورها واختلاطها بالرجال دون تحديد العمل الذي يلائمها ويحفظ كرمتها كأنثى .(14/77)
والعلماني : تجده يحبذ أن لا يكون التعليم الديني في المدارس الحكومية إلزامياً بل إختيارياً .
والعلماني :
يتمنى تغيير القوانين الإسلامية ، بقوانين علمانية ، كالقانون المدني السويسري ، والقانون الجنائي ، المعمول به في إيطاليا ، والقانون التجاري الألماني ، والقانون الجنائي الفرنسي ، وهذا القانون يعمل به في بعض الدول العربية ، ويعتبر أن تلك القوانين هي الأفيد في حياة الفرد والمجتمع من التنظيم الإسلامي .
&& أثر العلمانية على العالم الأوربي والأمريكي &&
وبسب التخلي عن القيود الأخلاقية ، والأدبية ، والإنحلال من القيم المتبقية من عقائد أهل الكتاب ، وإطلاق زمام النفس الغاوية على الغارب ، من مزاولة الزنا والربا والإختلاط بين الرجال والنساء ، ومحاربة كل خلق حسن ، كان لهذا الأمر من المثالب التي لا تخفى على عاقل ، حيث وأن الفساد إنتشر بشكل مخيف لا يطيقه الحمقى ، فضلاً عن أصحاب العقول السوية ، وقد تأذى من هذا الحال نساء أوربا ، وأمريكا ومثقفيهما
تقول الكاتبة الإنجليزية " أنى رود " عن ذلك :
" إذا اشتغلت بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد .
أياليت بلادنا كبلاد المسلمين حيث فيها الحشمة والعفاف والطهارة رداء الخادمة والرقيق اللذين يتنعمان بأرغد عيش ويعاملان معاملة أولاد رب البيت ولا يمس عرضهما بسوء . نعم إنه عار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثل للرذائل بكثرة مخالطتهن للرجال ، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل ما يوافق فطرتها الطبيعية كما قضت بذلك الديانة السماوية وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها
وتقول الكاتبة اللادى كوك أيضا :
" إن الاختلاط يألفه الرجال ، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها ، وعلى قدر الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا ، ولا يخفى ما فى هذا من البلاء العظيم عن المرأة ، فيه أيها الآباء لا يغرونكم بعض دريهمات تكسبها بناتكم باشتغالهن فى المعامل ونحوها ومصيرهن إلى ما ذكرنا فعلموهن الابتعاد عن الرجال ، إذا دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج عن الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر الاختلاط بين الرجال والنساء . ألم تروا أن أكثر أولاد الزنا أمهاتهن من المشتغلات فى المعامل ومن الخادمات فى البيوت ومن أكثر السيدات المعرضات للأنظار .. ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا أضعاف مما نرى الآن ، ولقد أدت بنا الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصوره فى الإمكان حتى أصبح رجال مقاطعات فى بلادنا لا يقبلون البنت ما لم تكن مجربة ، أعنى عندها أولاد من الزنا ، فينتفع بشغلهم وهذا غاية الهبوط فى المدينة ، فكم قاست هذه المرأة من مرارة الحياة
وأما الجرائم الأخلاقية من فواحش الزنا والسرقة والقتل فأمر يفوق الخيال تأمل
&&& " بلغت عدد سرقات المتاجر الكبيرة في إنجلترا خلال عام 1960 نحو 32194 سرقة هذا عدا الحالات التي لم تبلغ لإدارة البوليس والغريب أن 60% من هذه السرقات ارتكبتها نساء جاوزن سن البلوغ و30% ارتكبها ذكورا أقل من السابعة عشرة وتقول الإحصائيات أن كل السارقات من النساء لم يكن في حاجة للمال "(88). نعم إنها ليست الحاجة للمال ولكنها الرغبة في الانتقام وتفريغ السخط .
&&& وإما الانتقام من نفسها بالانتحار كما فعلت الممثلة الشهيرة "مارلين مونرو" التي كتبت قبيل انتحارها نصيحة لبنات جنسها تقول فيها :
" إحذري المجد …إحذري من كل من يخدعك بالأضواء …إنى أتعس امرأة على هذه الأرض… لم أستطع أن أكون أما … إني امرأة أفضل البيت … الحياة العائلية الشريفة على كل شيء … إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة بل إن هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة المرأة بل الإنسانية " وتقول في النهاية " لقد ظلمني كل الناس … وأن العمل في السينما يجعل من المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة " .
&&& نشرت صحيفة الأخبار المصرية ( في عددها الصادر في 20/10/1972م ، ص 4) :
أنه قد أقيمت في هذا الأسبوع الحفلة السنوية لسيدة العام وحضرها عدد كبير من السيدات على اختلاف مهنهن .. وكان موضوع الحديث والخطب التي ألقيت في حضور الأميرة ( آن ) البريطانية هو حرية المرأة وماذا تطلب المرأة .. وحصلت على تأييد الاجتماع الشامل فتاة عمرها 17 عاماً رفضت رفضاً باتاً حركة التحرير النسائية وقالت أنها تريد أن تظل لها أنوثتها ولا تريد أن ترتدي البنطلون بمعنى تحدي الرجل . وأنها تريد أن تكون امرأة وتريد زوجها أن يكون رجلاً . وصفق لها الجميع وعلى رأسهن الأميرة ( آن ) ( كتاب المرأة العربية المعاصرة إلى أين ؟! ص 50 ) .
&&& يقول تقرير كتبه أحد الأطباء الاجتماعيين في فينا :" وقد لوحظ أن النساء أكثر محاولةـ أي في الإنتحار ــ من الرجال وفي عام 1959 حاولت 150 فتاة الانتحار وهذا يعني أن كل تسعة أيام توجد ست محاولات انتحار أربع منها من جانب الفتيات واثنتان من جانب الفتيان (89). وتأمل منذ ذلك الوقت إلى يومنا 0(14/78)
&&& من ذلك ما نشرته الصحف الأمريكية في 1977م من أن فتاة أمريكية في إحدى الولايات الوسطى بالقرب من مدينة غير مشهورة وجدت مقتولة وقد طرحت جثتها في الغابة وحمل البوليس الجثة إلى المستشفى ونشر إعلانا يتضمن سن الفتاة و صفاتها الجسدية لكي يحضر قريبها لتسليم الجثة . فماذا كانت النتيجة ؟ … تقول الصحف : أن المستشفى تلقى 1200مكالمة من أناس كل منهم يشك في أنها قريبة ويستوضح بعض صفات لفتة أخرى بينها حضر إلى المستشفى شخصيا قرابة 500 شخص لمعاينة الجثة(90).
وهذا يعنى أن هؤلاء فقدوا فتيات يحملن نفس تلك الصفات وفي السن نفسه فكيف بمن يحملن صفات أخرى وفي مراحل من العمر أخرى ؟ وإذا كان هذا على مستوى المدينة أو الولاية فكيف بالولايات كلها؟
&&& ومن هذا صرح الدكتور جون كيشلر أحد علماء النفس الأمريكيين في شيكاغو ( أن 90% من الأمريكيات مصابات بالبرود الجنسي وأن 40% من الرجال مصابون بالعقم ، وقال الدكتور أن الإعلانات التي تعتمد على صور الفتيات العارية هي السبب في هبوط المستوى الجنسي للشعب الأمريكي . ومن شاء المزيد فليرجع الى تقرير لجنة الكونجرس الأمريكية لتحقيق جرائم الأحداث في أمريكا تحت عنوان ( أخلاق المجتمع الأمريكي المنهارة ) . ( المجتمع العاري بالوثائق والأرقام ، ص 11) .
&&& نسبة الحبالى من تلميذات المدارس الثانوية الأمريكية قد بلغت في إحدى المدن 48% وليسمعوا ( دعاة الاختلاط الذين يريدون أن يزحفوا مجتمعاتنا الى الرذيلة والشذوذ ) الى ما نقلته جريدة الأحد اللبنانية في العدد ( 650 ) عن الفضائح الجنسية في الجامعات والكليات الأمريكية ، ماذا قالت الجريدة بالحرف الواحد ؟
&&& ومما ذكرته الجريدة كذلك : ( دلت الإحصائيات فتيات بصورة غير شرعية لا تزيد أعمارهن عن العشرين وأن كثيرات منهن من طالبات الجامعات والكليات ) ونقلت الجريدة عن المربية الاجتماعية ( مرغريت سميث ) حديثاً قالت فيه ( إن الطالبة لا تفكر إلا بعواطفها والوسائل التي تتجاوب مع هذه العاطفة أن أكثر من ستين بالمائة من الطالبات سقطن في الامتحانات وتعود أسباب الفشل الى أنهن يفكرن في الجنس أكثر من دروسهن وحتى مستقبلهن وأن) ( أنظر الى كتاب الى كل أب غيور ، ص 29-31 لعبد الله علوان ) .
&&& ومن هذا نشرت صحيفة الشرق الأوسط التي تصدر في لندن في عددها الصادر 15/7/1400هـ الموافق 29/5/1980م ..أن 75% من الأزواج يخونون زوجاتهم في أوروبا وأن نسبة أقل من المتزوجات يفعلن الشيء ذاته .. و80% الى 85% من الرجال البالغين قبل الزواج لهم خليلات .
&&& ومن هذا " بلغ عدد الأحداث المحكومين في فرنسا سنة 1939م : 12165 وبلغ سنة 1968: 44016حسب جدول إحصائي"… " وقد صار هذا التزايد في عدد الأحداث المنحرفين منذرا بأوخم العواقب إذ بلغت أرقامه ضعفيها تقريبا في مدى ثماني سنوات . سنة 1960 - 26894".
&&& فرنسا: الأطفال ضحايا الاعتداءات الشاذة...
كشف تحقيق نشرته مجلة " الأوبر فاتوار " الفرنسية النقاب عن تهاون القضاء الفرنسي في معالجة قضايا الاعتداءات الشاذة التي ارتكبها بالغون بحق أطفال صغار وذلك بالنظر إلى الأحكام المخففة التي تصدر في مثل هذه القضايا ، وجاء في إحصاءات عام 1992م أن 2000إلى 2500طفل ضحية سنوية ، ويعانون من حالات خطيرة ، وأعلنت وزارة الصحة الفرنسية أنه على مستوى المدارس فإن طفل على الأقل في كل فصل يكون ضحية للاعتداءات الشاذة ، أما ما يصل إلى المحاكم فلا يتجاوز 30% من هذه الحوادث .
(الأسرة- العدد 9- 1414 هـ - 1994م)
أما الأمراض العقلية بسبب ألإباحية في الكحول وتعاطي ألوان المسكرات خيالية جداَ تأمل
الأمراض العقلية والعصبية: جاء في تقرير لمنظمة الصحة العالمية أعدته لاجتماعها السنوي في جنيف لسنة 1978:
" يعاني حوالي 40 مليون شخص من أمراض عقلية أكيدة في العالم وهناك أكثر من 80 مليونا ممن يعانون تخلفا خطيرا من جراء الإفراط في تعاطي الأدوية والمخدرات والمشروبات بالإضافة إلى مائتي مليون شخص يعانون من اضطرابات عقلية أقل خطرا ولكنها تعرضهم للتخلف العقلي أيضا"(99).
أما الولايات المتحدة بصفة خاصة فتقول الإحصائيات:
"إن المرض العقلي يشكل أخطر تهديد لصحة أبناء شعبها إذ يشير تقدير المعهد القومي للصحة العقلية الصادر في يوليو 1954 إن عدد المرضي الذين ترعاهم مستشفيات الأمراض العقلية يناظر مرضي المستشفيات الأخرى مجتمعة على اختلاف أنواعها ولا يتدرج بطبيعة الحال في هذا الإحصاء عشرات الآلاف من الحالات المرضية التي لم تقصد المستشفيات وإنما تولى علاجها إذا قدر لها أن تحظى بالعلاج أطباء الأمراض العقلية
تاريخ دخول العلمانية العالم الإسلامي
لم يكن العالم الإسلامي يعرف العلمانية لأن ظروف المجتمعات الإسلامية لم تكن في ظروف المجتمعات المسيحية التي فرض واقعها ظهور هذه البلية على البلاد والعباد فكان دخلها على
النحو التالي(14/79)
1- في مصر : دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون بونابرت . وقد اشار اليها الجبرتي الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر واحداثها -.وادخل الخديوي اسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م،وكان هذا الخديوي مفتونا بالغرب ،وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا .
2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الاحكام وفق الشريعة الاسلامية ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة الإسلامية بتدبير الإنجليز وانتهت تماما في أواسط القرن التاسع عشر .
3- الجزائر : إلغاء الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830 م .
4- تونس : أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906 م.
5- المغرب: ادخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.
6- تركيا : لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك ، وان كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة .
7- العراق والشام : الغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيها .
8- معظم أفريقيا : فيها حكومات نصرانية امتلكت السلطة بعد رحيل الإستعمار
9- أندونيسيا : ومعظم بلاد جنوب شرق اسيا دول علمانية .
10-إنتشار الأحزاب العلمانية والنزاعات القومية : حزب البعث ،الحزب القومي السوري ،النزعة الفرعونية ،النزعة الطورانية ،القومية العربية
&&& كيفية دخول عفن العلمانية إلى العالم الإسلامي &&&
1- من خلال الاحتلال العسكري الاستعماري
2- من خلال البعثات التي ذهبت من الشرق إلى الغرب لطلب العلم والتقدم
3- من خلال البعثات التبشيرية
4- من خلال المدارس والجامعات الأجنبية
5- من خلال الجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية .
6- من خلال البعثات الدبلوماسية .
7- من خلال وسائل الإعلام المختلفة .
8- من خلال التأليف والنشر في فنون شتى من العلوم وبالأخص في الفكر والأدب .
9- من خلال الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة في الجانب الاقتصادي .
10- من خلال المتعلمنة الذين تولوا زمام الحكم في البلدان الإسلامية مما أدى ذلك لتمكين كل عائد متعلمن من منصب .
11- من خلال الجهل المتناهي في صفوف دعاة العلمانية بالدين الإسلامي مع وجود الكيد والخبث من تنفيذ الخطط الماسونية العالمية لدمار الأمة .
الفرق بين العلمانية العالمية والعلمانية في العالم الإسلامي
العلمانية هي العلمانية في كل بقاع العالم ، ودعوتها هي دعوتها ، لا فرق سوى أن العلمانية في العالم الإسلامي تراها تدعو للتقدم في العري الفاضح ، والفساد الصارخ ، ولم تصنع كبقية العالم ما يحمي الأمة من أعدائها من آلات حربية قتالية ، وهذا يدل على عمالتها المفضوحة .
&&& أثر العلمانية على العالم العربي &&&
لاشك أن أثرها كان كبيراً على الأمة ، بسبب جهل الأمة لأمور دينها ، فاستغفلتها العلمانية إلى حد بعيد والله المستعان .
* فترى أكثر العالم الإسلامي لا يحكم بما أنزل الله واستبدلوا بالقرآن الدساتير الغربية والقوانين الشرقية فأفسدوا البلاد والعباد .
* نزعوا الحجاب عن المرأة المسلمة في أكثر البلدان الإسلامية
* إستطاعوا أن يوصلوا الأمة إلى حال من الإختلاط في دور العمل والتعليم مما أدى إلى فساد وانحلال الأخلاق الإسلامية
* بل عندنا في عالمنا من يحارب الفضيلة علانية ويدعوا لكل رذيلة
* بل وصل الحد أن الأجيال تطبعت على طباع علمانية يظنها الجهلة من الدين ويفتي بها بعض من ينتسب للعلم كالإختلاط .
*تخلي الأمة عن الحجاب بسبب دعوة العلمانية وجرها للفساد
* بدأت الدعوة لخلع الحجاب في أكثر الدول الإسلامية بسبب دعاة الضلالة في كل من
&&& تركية سنة 1929 صدر قانون مدني على غرار قانون "نوشاتيل" المدني السويسري فحرم تعدد الزوجات وقضى على الحجاب والحريم ونظرة الطلاق ، وفي برهة وجيزة جعل من المرأة التركية شقيقة المرأة السويسرية وصنوها "
&&& وفي الجزائر أوحت الثورة للنساء بالكفاح فخرجت العذارى المحاربات من بيوتهن ونزعن الحجاب لأول مرة منذ أن اعتنقت بلادهن الإسلام ، وهنا تكون المعركة النضالية قد فعلت ما عجز السلام عن فعله "أى كما فعلت الثورة الشعبية المصرية " .
&&& وفي تونس "أعلن السيد بورقيبة عدة قرارات هي بمثابة ثورة تعدد الزوجات وجعل السن الدنيا لزواج الفتاة الخامسة عشرة ثم تحرير المواطنين والمواطنات الذين تخطوا العشرينات من عمرهم من موافقة الوالدين إذا ما أرادوا عقد الزواج ، وفي نفس الوقت أعلن السيد بورقيبة ...بأن الطلاق لا بد من أن يخضع للمحاكم
&&& وفي بلاد المغرب فقد كانت أسبقها إلى السفور والدعوة إليه إذ كتب الطاهر الحداد سنة 1930 كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع
&&& وفي الشام خلعت المسلمة حجابها لتظهر عاريتاً والواقع يشهد على ذلك بكل وضوح 0
&&& وفي جنوب اليمن ــ سابقاً ــ خلغ الحزب الإشتراكي حجاب المسلمات قهراً 0
&&& وفي مصر خلعت المسلمة الحجاب بسبب دعوة قاسم أمين وهدى الشعراوي وسعد زغلول وغيرهم من دعاة الضلالة كطاه حسين 0(14/80)
&&& حق المرأة في وقف تعدد الزوجات ، وعلى ذمته ينسب إلى محمد عبده أنه قال "يجب تحريم التعدد الآن عملاً بحيث لا ضرر ولا ضرار
&&& وفي الجزيرة العربية بدأت هذه الدعوة تحقق أهدافها فترى كثيرا من النساء سافرات متبرجات وللأسف يزداد هذا الأمر ويستفحل أمره ساعة بعد ساعة .
ومن صور الجريمة المتفشية في العالم العربي
إحصائية للجريمة في الأردن
وقالت مصادر إدارة الشرطة: إنه تم ارتكاب 349 جريمة جنائية أبرزها: القتل العمد؛ حيث وقعت أربع جرائم قتل عمد في أماكن مختلفة واكتشفت جميعها، و كانت الأسباب والدوافع وراء ارتكاب هذه الجرائم الخلافات الشخصية والمالية والانحلال الأخلاقي
وأضافت المصادر أنه أُبلغ عن وقوع 491 جريمة سرقة خلال نفس الشهر، منها 123 سرقة جنائية،
وأضافت المصادر أنه تم إلقاء القبض على 598 شخصا أقدموا على ارتكاب جريمة السرقة، من بينهم 52 امرأة، وعدد من رعايا الدول العربية والأجنبية في الأردن
عمان-إسلام أون لاين الثلاثاء 12 رجب 1421هـ - 10 أكتوبر 2000م
الجريمة في الكويت وهو أقل من (( 2 )) مليون
الكويت- عبد الرحمن سعد- إسلام أون لاين.نت / 3-5-2001
وأوضحت الإحصائيات أن عام 1997 بلغت الجرائم فيه 27 ألفاً و98 جريمة بواقع 1369 جريمة لكل 100 ألف نسمة، موضحة أن جرائم المال جاءت في المرتبة الأولى بـ10 آلاف و72 جريمة بنسبة 37.2% وبلغت السرقات 6351 سرقة بنسبة 23.4% تلتها جرائم النفس، وبلغت 5855 جريمة بنس 21.6%، أما جرائم العرض والسمعة فقد بلغت 4059 جريمة بنسبة 15%، وأخيرا جرائم المصلحة العامة التي بلغت 754 جريمة بنسبة %2.8 وأغلبها
هي: تعاطي المخدرات، والاغتصاب، والسرقة"، وهذا في دولتين صغيرتين فما بالك بكبار الدول واللبيب بالإشلرة يفهم أرقام خيالية تشمت بناء الأعداء ولا أستحسن ذكرها 0
من أشهر دعاة العلماني في العالم العربي والإسلامي
من اشهر دعاة العلمانية في العالم العربي الإسلامي : احمد لطفي السيد ، إسماعيل مظهر ، قاسم امين ، طه حسين ، عبد العزيز فهمي ، ميشيل عفلق ،أنطوان سعادة ، سوكارنو ، سوهارتو ، نهرو، مصطفى كمال اتاتورك ،جمال عبد الناصر ، أنور السادات ( صاحب شعار لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ) ، د. فؤاد زكريا ، د. فرج فودة وقد اغتيل بالقاهرة مؤخرا ، وغيرهم
هل للعلمانية مبرر في العالم الإسلامي
نشأت العلمانية في البلاد الغربية بسبب ظروف ، وطقوس ، ذكرناها أنفاً منها
الطغيان الديني ذلك الذي يحتكر تعاليم الوحي ويحرف ألفاظها ومعانيها ويسير الجيوش لسحق المخالفين من الفرق في الرأي ويقيم محاكم التفتيش لفرم كل مخالف .
الطغيان الاقتصادي ذلك الذي يتحكم في موارد وأرزاق البشر ويستذلهم بالعمل المجاني في إقطاعيات القساوسة ويفرض الضرائب الباهظة على أناس لحساب خزانة الفاتيكان .
الطغيان السياسي ذلك الذي يستذل الحكام لأشخاص رجال الدين ويعرض الشعوب لطائلة عقوبة الحرمان العام بسبب نزوة غضب تعتري أحد البابوات ويسخر الناس ويكبل ما منح الله للإنسان من حق الحياة الحرة .
الطغيان الفكري والعلمي ذلك الذي وقف عثرة في سبيل رقي البرية وأقام محاكم التفتيش لإحراق العلماء أحياء .
فإذا تأملت هذه الصفات تجد الإسلام ضدها تماماً فهو يكفر من يحرف الكتاب المنزل من عند الله ويدعوا لتعلم الكتاب بخلاف أولئك الناس بل ويشجع الاجتهاد المؤصل والمقعد .
وليس في الإسلام طغيان إقتصادي بل يدعوا للتكافل الإجتماعي ويأمر بالتعفف وينهى عن المسألة ويحث على الحلال وينهى عن شبه الرزق فضلاً عن حرامه .
وليس في الإسلام طغيان سياسي تعذيب الشوب بأوزار الحكام أبداً .
وليس في الإسلام تزهيداً في العلم والفكر بل العكس تماماً فالإسلام جعل العلم فريضة ويجل العلماء ورفع الله من شأنهم والعلم النافع في كل مجال يشيد به الإسلام
والسؤال ما الداعي للعلمانية في بلاد الإسلام ؟!!!
الجواب لا داع للعلمانية أبداً ، وإنما دعوتهم هنا لعلمنة الأخلاق فقط ، بمعنى أوضح (( الداعي هنا وجود الفضيلة المشرعة من الدين ، يريدون القضاء عليها )) بإسم المساواة ، الحريبة ، العدالة 0
والإسلام رائد هذه الصفات ، وأبعد ما يكون عن هذه الصفات هم العلمانية وخصوصاً علمانية البلاد الإسلامية .
حكم العلمانية في الإسلام
لا شك أن من دعا للحكم بغير ما أنزل الله وقدم الدساتير البشرية على كلام الله ودعا لفصل الدين عن حياة الناس في كل المجالات أو بعضها ودعا إلى التحرر من قيود الدين وقال عنها أنها طقوس لا تتكيف مع المجتمع كما يقول خنازير العلمانية عليهم لعنات الله تترا
أن هذا من محض الكفر ومن شك في كفر الكافر كفر . وهذا معلوم من الدين بالضرورة
الواجب على كل مسلم نحو العلمانيين
(أ) الواجب على المسلمين إن كانوا رعاة أن يحصروهم ويقعدوا لهم كل مرصد، ويقيموا عليهم حكم الله في المرتدين لقوله صلى الله عليه وسلم " من بدل دينه فقتلوه " رواه البخاري 0 وأي تبديل أعظم من تبديل العلمانيين لدين الله سبحانه وتعالى .(14/81)
(ب) والواجب على المسلمين إن كانوا رعية أن يهتكوا ستر العلمانيين، ويفضحوهم، ويبينوا شركهم وكفرهم، ويحذروا منهم، ولا يخافوا في الله لومة لائم 0 قال الله تعالى:" يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأوئهم جهنم ويئس المصير " التوبة 73 .
اللهم يارب جبريل وميكائيل فاطر السموات والأرض أرنا في العلمانيين ومن أعانهم وأيدهم عجائب قدرتك، اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا .
أخوكم ابن القرية الفلاح المعتصم
مراجع هذا البحث وبعض مراجعها العامة
1- العلمانية نشأتها وتطورها وأثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة .. الشيخ سفر الحوالي
2- العلمانية .. التاريخ والفكرة .. د . عوض بن محمد القرني
3- العلمانيون.. وعلمنة الإسلام .. د. محمد يحيى
4- هرقل والعلمانيون .. د. عبد الرحمن صالح العشماوي
5- موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية .. "عوائق الانطلاقة الكبرى" .. جمع وإعداد محمد عبد الهادي المصري
6- لماذا نرفض العلمانية ؟ .. محمد محمد بدري
7- كيف تعرفهم ؟ .. لخليفه بن إسماعيل الإسماعيل
8- طرق الطرح العلماني .. د.عمر المديفر
9- العلمانية وثمارها الخبيثة .. محمد شاكر الشريف
10- العلمانية وخطرها على المسلمين .. سليمان إبراهيم
11- أقنعة العلمانية .. قراءة في الطروحات العلمانية الجديدة . د. محمد يحيى
===============(14/82)
(14/83)
طرق الطرح العلماني
د.عمر المديفر
ليست أساليب وطرائق العلمانيين في طرحهم للمبدأ العلماني واحدة، بل هي متغيرة بحسب الزمان والمكان ، وهذه التغيرات قد تشمل أساليب الخطاب ، وقد تمتد إلى أساليب عرض المبدأ العلماني ، وهكذا ..، فبينما تطرح العلمانية في قطر معين على أنها مضادة للدين ، تطرح في قطر آخر على أنها موافقة للدين. وفي بلد ثالث تُفرض فيه العلمانية ببطء وحذر شديدين حتى لا تلفت الأنظار إلا بعد كونها واقعاً لا مناص منه.
لقد كان كثير من العلمانيين في بدايات هذا القرن الميلادي لا يتقربون إلى الدين وأهله، وكانت شعاراتهم تتراوح بين القومية والشيوعية والاشتراكية، ولكن حينما اشتد ساعد الصحوة، وبدأ المسلمون يشعرون بقيمة دينهم ، بدأ العلمانيون بكافة أصنافهم بالتقرب إلى الدين ، وبمحاولة إيجاد صيغة تجمع بين علمانيتهم ومقاصدهم الشخصية وبين استغفال الشعوب المسلمة والاستخفاف بها من خلال التظاهر بالمظاهر الإسلامية!
فعلى سبيل المثال ، كان شبلي العيسمي (السوري الدرزي الذي فرّ من سورية إلى العراق سنة 1967م) أحد منظِّري البعثية في العالم العربي لا يأتي للإسلام بذكر فيما يقرب من عشرة مؤلفات صدرت حتى عام 1984م ، أما ما بعد ذلك فقد ألف عن كون العرب مادة للإسلام ، وعن "عروبة الإسلام"!! وكذلك كانت حال بقية المنظرين للعلمانية(1).
وكل هذا التغيير يدلنا على أن العلمانية ليست مقنعة كمنهج في العالم الإسلامي ، لأن المسلم - مهما بلغ انحرافه - يشعر بارتباط الإسلام بالحياة العامة، ويشعر بكون الإسلام له سلطان على كافة أنحاء الحياة ومجالاتها، ولهذا نجد المسلم الذي لم تفسد فطرته لا يفكر في إمكانية الخروج عن شريعة الله ، ومن هذا المنطلق يرفض العلمانيون أن يُستفتى الشعب في إقرار أو منع الدستور العلماني ، لأنهم يعرفون حتمية خسرانهم.
وهذه التغيرات تدلنا أيضا على أن العلماني ليس له هدف سامٍ وهو رفعة الوطن - كما يقول - بل هدفه هو الوصول لمصلحة شخصية، والأمثلة على هذا كثيرة ممن كانوا معارضين لأنظمتهم الحاكمة، ثم حينما اشتُريت مبادئهم بمنصب ودخل مادي انقلبوا مدافعين عن تلك الأنظمة !!
ويمكننا تقسيم أساليب الطرح العلماني إلى طرح مكشوف وآخر ملتوٍ مموّه!
1 - الطرح الصريح :
وهذا الأسلوب هو أسلوب العلمانيين الأقحاح ، الذين يستطيع المرء أن يصفهم بالغلو العلماني بلا تردد، لصراحتهم حول هذا المبدأ، وهؤلاء أمِنوا العقوبة لأنهم في بلد تحكمه العلمانية، والشرائع الجاهلية، التي تسمح لهؤلاء بالانتقاص من قدر الدين ، والتعدي عليه ، في حين تكمم أفواه الدعاة، والذين يريدون الدفاع عن دينهم!!
ويرتكز هذا الطرح على ما يلي :
أ- مدح الغرب وإطراؤه ، ودعوة الأمة إلى اللحاق بركبه والتأسي بتجربته في رمي الدين جانباً وعزله عن الحياة، وعن هذا يقول أحدهم تحت عنوان "درس النهضة الأوربية" وهكذا نستخلص من استيعاب درس النهضة وموقفها من التراث حقيقتين على أعظم جانب من الأهمية:
الأولى : هي أن من الممكن أن تقوم نهضة علمية فكرية رفيعة المستوى في مراحلها الأولى على أساس الرفض الحاسم للتراث ، وذلك حين يكون هناك انقطاع في التراث يمنع من استمراره في خط متصل حتى الحاضر، وعندئذ لابد أن ترفع النهضة شعار "البدء من جديد" كعلامة على تحدي التراث.
والثانية: هي أن التطور والتقدم المستمرين في المعرفة يساعدان على الوصول إلى نظرة تاريخية إلى التراث يختفي فيها التناقض بين تمجيده والاعتراف بتخلفه (2).
ب - ادعاء علمانية الإسلام ، وأنه لا تناقض بين الإسلام والعلمانية! ؛ لأن الإسلام دين فرد لا دولة! ويستدل هؤلاء بكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق ، وكتاب "الديمقراطية أبداً" لخالد محمد خالد وخير مثال لهذا الادعاء كتاب "العلمانية والدولة الدينية" لشبلي العيسمي .
ج - ادعاء عدم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ، وأنها نزلت في وقت معين ، وأنها لابد أن تتطور لتوافق النمط الاجتماعي الجديد، ولو كان في هذا تجاوز لأحكام ثابتة غير اجتهادية ؛ لأن المصلحة مقدمة على النص عندهم !! وهؤلاء يدعون أنهم يؤمنون فردياً بالدين وشعائره! وإن كان معظمهم لا يؤديها !! ويستدلون بأقوال هي إما لمنحرفين كمحمد أحمد خلف الله ، وعلي عبد الرازق أو أقوال شاذة لبعض القدماء كقول نجم الدين الطوفي : "إن المصلحة مقدمة على النص" ! فتجد هذا النص متكرراً في كتبهم ومقالاتهم (3)، ولم ينقل أحدهم القاعدة المشهورة "لا اجتهاد مع النص " ولم ينقل أحدهم قول أئمة الإسلام فيمن يحدد المصلحة !!
د- التركيز على قضية المرأة وأنها مهانة في الإسلام ، وضرب الأمثلة والإطناب في ذلك إلى حد زعم وادعاء اللعب على المرأة في الشريعة الإسلامية!! حتى أن فؤاد زكريا ليقول - وبأسلوب مموه - "لو لم تكن المسألة في حقيقتها لعبة بارعة أتقنها الرجل لكي يخدر المرأة ويحقق بها مصالحه لاتجهت دعواته إلى أن يتحمل هو جزءاً من العبء على الأقل.. الخ" وكأن الشريعة وضعها رجل وليست شرعاً
سماوياً ! .(14/84)
هـ - جعْل الثورة الإيرانية الشيعية هي المثال لكل حكم إسلامي ، وصحوة إسلامية، بل إنهم يرددون في كتاباتهم مزاعم تصف العمل للإسلام ، والدعوة للعودة إليه ، والتمسك به بالسعي إلى إقامة طهران أخرى !! ؛وهم بهذا يريدون أن يخوفوا الشعوب من الصحوة الإسلامية، ويحاولوا الصد عن دين الله ، بل إن أحدهم قاس كل دولة إسلامية على الثورة الإيرانية بالنسبة للنص في الدستور على مذهب معين فقال : "وقياساً على هذا المنطق فإن الدولة الإسلامية في الوطن العربي يجب أن تعتمد على الأساس المذهبي ، ولا يخفى ما في ذلك من خطر وخطورة على إمكانية قيامها من جهة وعلى مضمون الوحدة والتماسك بين أبناء الدولة الإسلامية المنشودة من جهة ثانية"(4) وكأنه حريص على وحدة أي دولة إسلامية!
و- نقد الصحوة الإسلامية ومظاهرها، والسخرية منها والتعرض بالنقد اللاذع لرموزها من العلماء والدعاة وكل ذلك - كما أسلفنا - محاولة لإجهاض هذه الصحوة أو بث الوهن فيها، وتفريق الناس من حولها ولكنهم خابوا وخسروا.
2- الطرح المموه :
وأهل هذا الأسلوب غاية في الحذر والمكر، فهم يدَّعون الإسلام ، ويتباكون على حال المسلمين ، حتى يلتبس أمرهم على طالب الحق ، فلا يستطيع تمييزهم ، ولكنهم يعرفون بصدورهم عن آراء الشواذ فيما يتعلق بالشريعة وعدم رجوعهم إلى الحق ولو أقيمت عليهم الحجة، وهم في الغالب لا ينكشفون إلا في حال فرح غامر بانتشار المنكر أو استياء شديد عند حصول نصر للإسلام ، ففي هذه الحال يصدر منهم ما ينبىء بما يخفون وبهذا يُتبيَّن انتماؤهم ومنهجهم.
وغالب من يسلك هذا الطريق الملتوي يعيش في بلد ترتفع فيه راية الدين ؛ فلا يمكن له التصريح بمنهجه ، خشية من العقوبة الرسمية، أو خشية العقوبة الشعبية، كرفض الشعوب له وسقوط مصداقيته. ومن مرتكزات هذا الطرح ما يلي :
أ- الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد، والإلحاح على ذلك، وحشد النصوص والنقول الشاهدة على ذلك ، ثم تمتد هذه الدعوة إلى الاجتهاد في ثوابت الدين ، وتمتد إلى تجديد أحكام مجمع عليها وإلى الحث على تجاوز الإنتاج الفكري والفقهي الإسلامي على مدى أربعة عشر قرناً، والرجوع إلى الكتاب والسنة بشكل مجرد، ورفض أية وصاية - على حد زعمهم - يفرضها ذلك الإنتاج ، وعدم الاعتراف بكثير من شروط الاجتهاد التي وضعها السلف!
وقد تورط في مثل هذه القضايا بعض الكُتاب مثل فهمي هويدي في كثير من كتاباته وخاصة ما كتبه في فصل "وثنيون أيضاً عبَدة النصوص والطقوس" في كتاب "القرآن والسلطان" . والدكتور محمد عمارة في كتاب "الإسلام والعروبة والعلمانية"، وفي كثير من كتاباته المعاصرة، وآخرين من أمثالهم.
إن الدعوة إلى الاجتهاد في أصلها صحيحة، ولكن الاجتهاد له ضوابطه وشروطه التي فصّل فيها علماء الأمة القول ، وبينوا أن المجتهد لابد له من الآلة، وهي علوم الشريعة، وأنه لابد - لكي يكون مجتهداً معذوراً - أن يبذل الوسع ، ويخلص النية، وإلا كان كمن اجتهد في القرآن برأيه ، فأصاب ولكنه مخطئ؛ لأنه اجتهد بغير علم، ويتناسى أصحاب هذه الدعاوى أقوال الفقهاء والعلماء في التحذير من القول على الله بغير علم (5).
ب - ادعاء: أن المهم هو أساس الإسلام ، ورسالته المهمة في إصلاح النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق ،وأن هذا أهم من تطبيق الشريعة، وإقامة الحدود، والجهاد وغيرها مما يؤذي الحس العلماني المرهف!! الذي يرضى بالشرائع الغربية، والقوانين الوضعية التطبيقية، ولا يهتم إلا قليلاً بنقل جدية الحضارة الغربية في العلم المادي ، وهذا واضح في الجهود التي تبذلها الحكومات العلمانية في محاربة الدين ، وتغريب القوانين ، بينما لم يستطع أي من تلك الأنظمة التقدم تقنياً ومادياً كما تقدم في مجال التغريب !
ويحرص العلمانيون على احتقار المظاهر الإسلامية، لأنها هي سمة المسلمين ، وبها يعرف المسلم من غيره في عصور ظهور الإسلام، ولكن إذا فقدت هذه المظاهر أهميتها أصبح التمييز بين المسلم وغيره أصعب، وهذه الإشكالية صحيحة أيضاً بالنسبة للعبادات والشعائر العامة، وفي مثل هذه الأحوال يمكن للعلمانيين التحرك بحرية داخل المجتمع الإسلامي.
ج - دعوى الحرص على الوحدة وعدم التفرق: هذه الدعوى قديمة ومتجددة لدى العلمانيين ، فهم يرفعون هذا الشعار في كل مكان ، ويرفضون التمسك بالدين - وبالذات في حكم المجتمع - لأنه - على حد ما يزعمون ويفترون - يفرق المجتمع ، ويؤجج النزعة الطائفية، وقد قال هذه الدعوى كثير من العلمانيين ، بل يذهب العلمانيون في تنظيرهم إلى وجوب تطبيق العلمانية لتحقيق ما يسمى بالوحدة الوطنية! وهذا أحدهم يقول عن العلمانية : "وتلغي تنظيم المجتمع على أساس الطوائف وهي إذ تلغي الطائفة - كوسيط بين الفرد والدولة - فإنها توفر أساساً ضرورياً للديمقراطية، وتوحيد المجتمع في إطار عقلاني لا يمكن أن يتحقق في ظل الانقسام الطائفي"(6).
ويقول : "العلمانية هي الطريق الوحيد لتحقيق وحدة المجتمع ، وإلغاء الانقسامات العامودية، مثل العشائرية، والعرفية، والقطرية، إلى جانب الطائفية" (7).(14/85)
ولست أدري هل غفل هؤلاء عن الدولة الإسلامية المترامية الأطراف - والتي استمرت لمدة تقرب من الأربعة عشر قرناً - وعاش في ظلها غير المسلمين أحسن من عيشتهم في ظل دياناتهم ، مع أن الصليبيين حينما احتلوا الأندلس لم يبقوا فيها مسلماً واحداً ظاهراً إسلامه على عكس وضع كل الطوائف في الدولة المسلمة، بل إن اليهود استمروا تحت حكم هذه الدولة الإسلامية على دينهم طوال هذه الفترة.
د- القول بتغير الفتوى بتغير الزمان: فالعلمانيون يذكرون هذه القاعدة في أكثر كتاباتهم، ويلفون حولها ويدورون ، ويقيمون الحجج لها، وينقلون النصوص ، ويحشدون أقوال السلف على صحتها وأهميتها، وهذه قاعدة صحيحة لا غبار عليها، وقد بحثها علماء الإسلام بحثاً دقيقاً وأصّلوها تأصيلاً شرعياً، ولم تحتجْ الأمة إلى العلمانيين كي يذكروها بها، ويفردوا الصفحات في كتبهم لمناقشتها، ولكن من يناقش وهو معظِّم لنصوص الشريعة ومحترم لها، غير من يناقش لكي يسقط بعض أحكام الشريعة، ولهذا لم يورد العلمانيون أن هذه الفتاوى التي تتغير بتغير الزمان والمكان إنما هي الفتاوى الاجتهادية في أحكام المعاملات ، أما العبادات وأحكام الأسرة والمواريث فهي ثابتة لا تتغير "ونص هذه القاعدة عام في ظاهره ، فالتغير في الظاهر شامل للأحكام النصية وغيرها، ولكن هذا العموم ليس مقصوداً ؛ لأنه اتفقت كلمة الفقهاء على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس إنما هي الأحكام الاجتهادية فقط ، المبنية على المصلحة، أو على القياس أو على العرف ، أو على العادة، وعلى ذلك فالأحكام النصية ثابتة لا تقبل التغيير، ولا تدخل تحت هذه القاعدة وقد رأى بعضهم أن يكون نص القاعدة "لا يُنكر تغير الأحكام الاجتهادية بتغير الزمان" دفعاً لهذا اللبس وهذا قيد حسن"(8)، وعموماً ففتاوى علمائنا شاهدة على تطبيق هذه القاعدة بدون أن يلفت العلمانيون انتباههم إليها.
الهوامش :
1 - بل إن بعض الاحزاب أصدرت أوامر إلى بعض مفكريها بأن يطرحوا أنفسهم من جديد بشكل إسلامي .
2- فؤاد زكريا، الصحوة الإسلامية في ميزان العقل ، ص39-40.
3- انظر : العلمانية والدولة الدينية لشبلي العيسمي ، ص10 ، وص180 ومراجع أخرى، وكثيراً ما تُذكر هذه القاعدة في كتب العلمانيين وأشباه العلمانيين ، ورداً على هذه الشبهة يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "أحمد بن حنبل" ، ص359 أن هذا الرأي "رأي شاذ بين علماء الجماعة الإسلامية" ، ويقول في صفحة 363 عن الطوفي واتهامه بالتشيع "إن مهاجمته للنصوص ونشر فكرة نسخها أو تخصيصها بالمصالح هو أسلوب شيعي..." نقلاً عن مفهوم تجديد الدين لبسطامي سعيد.
4- العلمانية والدولة الدينية ، شبلي العيسمي ، ص140.
5- راجع فصول الاجتهاد وأحكامه في كتب أصول الفقه ، وكتاب إعلام الموقعين ، لابن القيم ، حول ضوابط الاجتهاد ومجالاته وشروطه.
6- مجلة "فكر" ، فبراير عام 85م ، مقال مفهوم العلمانية، ص71 ، بقلم فضل شلق .
7- مجلة "فكر" ، فبراير عام 85م ، مقال مفهوم العلمانية، ص74، بقلم فضل شلق.
8- الوجيز في إيضاح قواعد اللغة الكلية ، د.محمد صدقي البورنو ، ص254، وانظر في تبيين مسألة تغير الفتوى بتغير الزمان رسالة "الاجتهاد" للشيخ صالح الفوزان ، وانظرها في مواضعها في كتب أصول الفقه والقواعد الفقهية.
مجلة البيان
==============(14/86)
(14/87)
مع بني علمان ... الطرح المموه
إن الطرح المموه من أبرز وسائل ومناهج العلمانيين في تحقيق مآربهم ، وأهل هذا الأسلوب غاية في المكر والحذر ، فهم يدعون الإسلام ويتباكون على حال المسلمين ، حتى يلتبس أمرهم على طالب الحق ، فلا يستطيع تمييزهم ، ولكنهم يعرفون بصدورهم عن آراء الشواذ فيما يتعلق بالشريعة وعدم رجوعهم إلى الحق ولو أقيمت عليهم الحجة .. وهم في الغالب لا ينكشفون إلا في حال فرح غامر بانتشار المنكر أو استياء شديد عند حصول نصر للصحوة الإسلامية ، ففي هذه الحال يصدر منهم ما ينبئ بما يخفون .
وغالب من يسلك هذا الطريق الملتوي يعيش في بلد ترتفع فيه راية الدين فلا يمكن له التصريح بمنهجه ، خشية من العقوبة الرسمية او الشعبية كرفض الشعوب له وسقوط مصداقيته .. ومن مرتكزات هذا الطرح ما يلي :
أ / الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد :
فيلح في ذلك ويحشد النصوص والنقول لشاهدة على ذلك .. ثم لاتلبث دعوى الاجتهاد إلا أن تمتد إلى الاجتهاد في ثوابت الدين وتجديد الأحكام المجمع عليها ، والحث على تجاوز الإنتاج الفكري والفقهي الإسلامي على مدى أربعة عشر قرنا ، والرجوع إلى الكتاب والسنة بشكل مجرد ، ورفض أية وصاية -على حد زعمهم - يفرضها ذلك الإنتاج ، وعدم الاعتراف بكثير من شروط الاجتهاد التي وضعها السلف !
والدعوة إلى الاجتهاد في أصلها صحيحة ، ولكن الاجتهاد له ضوابطه وشروطه التي فصل فيها علماء الأمة القول .. وليس المجال لطرحها الآن .
ب / إدعاء : أن المهم هو أساس الإسلام ، وأن رسالته المهمة هي إصلاح النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق .. وأن هذا أهم من تطبيق الشريعة وإقامة الحدود والجهاد ... وغيرها مما يؤذي الحس العلماني المرهف !!
ج / دعوى الحرص على الوحدة وعدم التفرق : وهذه الدعوى قديمة ومتجددة لدى العلمانيين ، فهم يرفعون هذا الشعر في كل مكان ، ويرفضون التمسك بالدين لأنه - على حد ما يزعمون - يفرق المجتمع ويؤجج النزعة الطائفية ، وقد قال هذا الدعوى كثير من العلمانيين . ولا أدل على ذلك من حريق القديح في القطيف ، وحادثة قرية الكشح في صعيد مصر ... وما كتب عنهما من قبلهم .
د / القول بتغير الفتوى بتغير الزمان : فهم يذكرون هذه القاعدة في اكثر كتاباتهم ، وحولها يدندنون، ويقيمون الحجج وينقلون النصوص ويحشدون أقوال السلف على صحتها وأهميتها ,,, وهذه القاعدة صحيحة لا غبار عليها ، وقد بحثها علماء الإسلام بحثا دقيقا مؤصلا ، ولم تحتج الأمة إلى العلمانيين كي يذكروها بها ، ويفردوا الصفحات في كتبهم لمناقشتها ...
لكن .. من يناقش وهو معظم للنصوص ومحترم لها ، غير من يناقش لكي يسقط بعضا من أحكام الشريعة .. لذلك لم يورد العلمانيون أن هذه الفتاوى التي تتغير بتغير الزمان والمكان إنما هي الفتاوى الاجتهادية في أحكام المعاملات ، أما العبادات وأحكام الأسرة والمواريث في ثابتة لا تتغير, ومن أراد الاستزادة في ذلك فليراجع كتاب ( الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلي لمحمد البورنو : ص 254 ) ,
ووسائلهم المموهة أكثر وأكثر .
أبو عبدالعزيز الظفيري
==============(14/88)
(14/89)
مع بني علمان وما هي من بين علمان ببعيد
إن الملاحظة الشائعة اليوم ، والتي لا تخطئها عين الباحث أو القارئ المدقق ، أن المحاور التي يرتكز عليها العلمانيون العرب في أيامنا هذه ، والأسئلة التي يثيرونها ، والاتهامات التي يوجهونها إلى دعاة الإسلام ومفكريه ، هي كلها نسخة مكررة من الأسئلة نفسها والمحاور والاتهامات التي ولدت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، وهي المرحلة التي تعرف في أوساطنا الفكرية باسم ( النهضة الحديثة ) .
بل يمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك ، بأن نقول إن هذه المقولات الجديدة أو الموصوفة زورا بالجدة ، هي طبعة جديدة سيئة لكتاب سبق صدوره منذ مايقرب من قرن من الزمان العربي والإسلامي .
وطبعا هذا دليل على فشل تلك المحاولات التي سبق وأن قدمت في تلك الحقبة .. وأن المجتمع الإسلامي يلفظ تلك الأسئلة ولا يستريح لها أو يتوجس منها أو يؤمن بعدم مصداقيتها .. وأنها دليل كبير على التبعية الفكرية والانهيار الثقافي ، أو غير ذلك من فروض ، هي - على سبيل الحصر - تصب في نقطة واحدة : ثبوت فشل مشروع النهضة العلماني في واقعنا الإسلامي .
ولو تأملت فيما نستقبله الآن لوجدت مصداق ذلك الكلام : الدين والدولة ، الموقف من الحضارة الغربية ، مفهوم حرية المرأة ، مناهج فكرنا التشريعي ... إلخ
بدأها المنظر الأكبر لهم رافع الطهاطاوي ، ومحمد عبده .. واستمر الورث يتوارث عبر تلامذتهم وأجيالهم الفكرية المتتالية .. جميعا وكلها تأخذ صبغة واحدة : ( أنموذج معلب لنمط الحضارة الغربية المرتجاه ) .. وكادت أن تحدث التدمير في مجتمعنا الإسلامي لولا لطف الله ، ثم انبعاث صحوة الإسلام الجديدة ، وجهود أهل العلم والدعوة.
ورغم كل محاولاتهم ، وإمكانياتهم الهائلة من مال وإعلام .. ستبقى جميعها هباءا منثورا ، وإن تلوث بها من تلوث فلا يعدو ذلك إلا شذوذ لا أصل له .
فإلى بني علمن ومن شاكلهم : الأيام قادمة ، والصراع مستمر .. وتذكروا هلاك ندمائكم في المحفل الشرقي وما هي من بني علمان ببعيد .
أبو عبدالعزيز الظفيري
============(14/90)
(14/91)
ما يوجد في صحافة بني علمان
المتأمل في صحافة بني علمان الصفراء والخضراء والسابر لأغوارها سيجد بينها قاسما مشتركا يولد لديه انطباعات ، أهمها ما يلي :
أولا / أن الكتابة عن الدعاة إلى الله وحملة الإسلام والناصحين الله بقصد الانتقاص من قدرهم والتطاول عليهم وتشكيك الناس فيهم ، لا يخرج عن أحد أمرين :
( أ) : إما غرض شخصي للكاتب لا نعرف نحن القرآء كنهه ولا دلالته ، وفي هذا تجن علينا باقتطاع مساحة كبيرة من الصحيفة - وذلك من حق القارئ - لتحقيق مآرب ذاتية وتلبية رغبات شخصية .
( ب) : وإما محادة صريحة للمؤمنين وإيذاؤهم ، ومعلوم الوعيد المذكور لمن انتهج هذا النهج ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير مااكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا ) .
ثانيا / إن هذا التوجه في الصحافة العربية يتزامن مع أحداث لازالت تقع في بعض الأقطار العربية كان طرفاها الحكومات من جانب والجماعات الإسلامية ( وبعض المحسوبين على الحركات الإسلامية ) من جانب آخر .. وهذا أمر قضي بليل ,,
فترى - الصحافيون - يساهمون بشكل مباشر مع حكوماتهم بضرب المسلمين وشباب الصحوة الإسلامية ، ومن جانب ىخر تجدهم يلتمسون عذراً لمن يتصيد في الظلام من دعاة الفساد ورموز الضلالة في المجتمعات الإسلامية .
ثالثاً / أن أولئك الكتبة الذين ابتليت بهم صحافة الأمة يحاولون لفت الانتباه لما يكتبون بطريقة تتنافى مع أعراف الكتابة والصحافة .. وفهموا أن مصطلح ( جذب انتباه القارئ ) لا يكون إلا بتلك الطرق المجانبة للصواب ..
إن مصطلح ( الحرية ) لمن يكن في يوم من الأيام مصطلحاً مطلقاً ,, بل هو مصطلح مقيد تقييداً يتناسب مع المصلحة العامة للمجتمع .. وإلا أصبحت الحرية فوضى ، والتعبير الحر هجوماً معلنا ً .. فكيف ونحن نتعامل مع هذين المصطلحين في مجتمعات إسلامية تحكمها ضوابط الدين والشرع .
إن تلك المنابر الصحفية التي تسلقها أولئك الكتاب ، ويفرضون على الناس آراءهم من خلالها هي منابر لا يملكونها .. بل هم كغيرهم من أفراد المجتمع أنيطت بهم مسؤولية إداراتها او الإشراف عليها , وليس من حقهم ولا من حق المجتمع عليهم أن يستغلوا تلك القنوات الإعلامية بدعوى ( حرية الرأي ) فينشروا أفكارهم وترهاتهم من هذا المنطلق .
والله المستعان
أبو عبدالعزيز الظفيري
==============(14/92)
(14/93)
هل الإسلام دين علماني؟!!
أثارت الفكرَ في نفسي عبارةٌ وردت عرضاً ـ ولعلها بحسن نية ـ في مقال لكاتب يتحدث عن تشكيل الحكومة التركية برئاسة »نجم الدين أربكان« زعيم حزب الرفاه.
قال الكاتب: إن هناك حقيقة غائبة في الإعلام الإسلامي ، ألا وهي: وجود تقارب بين العلمانية في رفضها للكهنوت والإسلام في رفضه المماثل لادعاء الحق الإلهي ـ كما جاء في المقال ـ.
والحق:إن القول ـ أو الزعم ـ بوجود تقارب أو تشابه بين العلمانية والإسلام ليس بجديد، لقد ذهب كثيرون غير الكاتب ـ مثلاً ـ منذ فترة إلى القول نفسه ، حيث قالوا: إن الإسلام بطبعه دين علماني؛ لأنه يهتم بأمور الدنيا والحياة الحاضرة بدلاً من أمور الآخرة، وقالوا: إن الإسلام والعلمانية يلتقيان في الإيمان بالعقل وتحبيذه ، وفي اعتناق الديمقراطية والليبرالية ، وفي الاهتمام بالنزعات المادية ، وقبل كل شيء: في الإيمان بالتوجه الإنساني (هيومانزم) وقبول مبادئ النسبية والتاريخية وما أشبهها.
وقبل الخوض في هذه الدعوى العريضة ينبغي أن نوضح سياقها: فهي تجيء في معرض محاولة اكتساب القبول للعلمانية بين الجماهير المسلمة ، بتصويرها وكأنها تكاد تتفق ـ بل تتطابق ـ مع الإسلام ، وهي محاولة تعمل كذلك ـ وفي الاتجاه المقابل ـ إلى تطويع الإسلام للعلمانية ، بإلغاء تميزه وتفرده وهويته التشريعية والعقائدية ، ولكن في كلتا الحالتين فإن الهدف واحد، سواء في أسلمة العلمانية أو علمنة الإسلام ، وهو: نزع الخشية الجماهيرية من العلمانية باعتبارها نبتاً غربيّاً غريباً ، يراد فرضه على الواقع الإسلامي.
ونلاحظ في هذا الصدد أن تلك العملية مرحلية فقط، وأنها تتم في سياقٍ تكون فيه العلمانية جديدة أو غير متمكنة إلى الحد الكامل؛ مما يستدعي القيام بالتمويه والخداع وتصوير الإسلام بأنه علمانية أو العلمانية على أنها الإسلام، ولكن ما أن تتمكن العلمانية فإن الخطاب يتغير إلى لغة الإقصاء والإبعاد والرفض، وهذا هو ما تشير إليه، ليس فقط التجارب التاريخية القديمة في تركيا أو إيران أو أفغانستان ، بل التجارب الراهنة ، وبالذات في الوسط الثقافي والفكري في بلدان كمصر والجزائر مثلاً.
والسؤال الذي ينبغي مواجهته رأساً هو: هل يوجد تقارب بأي درجة بين الإسلام والعلمانية؟ ، وهل يكفي مجرد ذكر رؤوس مواضيع ، يوحى بأن فيها تشابهاً في المواقف للقول بوجود مثل هذا التقارب؟ ، والأهم من هذا كله: هل يوجد تشابه أو تقارب حقيقي في المواقف ، أم إن المسألة لا تعدو عملية تفسير وتأويل وتأول بارعة ماكرة توحي بوجود مثل هذا التقارب؟ ، ولنأخذ هذا التساؤل الأخير مدخلاً لنا ، ونسأل: هل فعلاً يوجد تقارب بين العلمانية والإسلام لمجرد ـ مثلاً ـ أن هذه ترفض الكهنوت وهذا يرفضه؟ ، لقد ساق الكاتب المشار إليه هذا المثال باعتباره حقيقة لا يتطرق إليها الشك ، وقد تكون كذلك ، لكن ذكر الأمور على هذا المستوى من العمومية والتجريد يدخلنا إلى حد الإبهام والغموض ، فهل حقّاً ترفض العلمانية الكهنوت؟! ، إننا نجد تكريساً له في مفهوم »أوجست كومت« أحد أبرز دعاة الوضعية إلى دين صناعي فلسفي تكون له كنيسة وكهنوت خاص به؟ ، وهل ترفض العلمانية الكهنوت أم إنها ترفض الكنيسة كلها والدين (المسيحي والإسلامي) والعقائد والأفكار الدينية ، حتى ولو كانت بدون كهنوت؟.
إن القول برفض العلمانية للكهنوت يخفي حقيقة أن العلمانية ترفض الدين نفسه ، وإلا فإن البروتستانتية ـ وهي مذهب مسيحي كبير ـ ترفض الكهنوت الكنسي ، حتى وهي تدعو في تجلياتها الحديثة إلى أصولية مسيحية طاغية ومتطرفة.
وبالمثل: فهل عندما يرفض الإسلام الكهنوت يرفض معه الدين والعقيدة؟ ، لا أحد يستطيع القول بذلك؛ لأن الإسلام نفسه دين.
وإذا قلنا: إن الإسلام يرفض الكهنوت ، فإن هذا يعني أنه يرفض الأسلوب الكنسي المعروف ، في ضرورة وجود عناصر خاصة لا تكتمل العبادة ولا ترفع إلا بها ، بل لا يكتمل الدين والإيمان نفسه إلا بمباركتها وتطويبها ، لكن هذا لا يستتبع أبداً رفض وجود فئة من الفقهاء والعلماء تدرس الدين ، عقيدته وشريعته ، وتتخصص فيهما ، وتنصح وتوجه غيرها من فئات الأمة التي لا تسمح لها ظروف الحياة وكفاحها بمثل هذا التخصص ، لكن هذا لا يمنع أي فرد أو أي جماعة من الدراسة والتخصص والاطلاع على هذا النحو ، فالدين مفتوح ، وهذا هو معنى رفض الإسلام للكهنوت.
ونلاحظ أن العلمانيين عندما يرفعون الصوت عالياً بأن الإسلام يرفض الكهنوت ، فإنهم يقصدون ـ كما تدل الأحداث ـ رفض آراء وفتاوى وشروحات الفقهاء والعلماء المسلمين التي تزعجهم؛ لقيامها على العلم الصحيح بالإسلام.(14/94)
وينطبق التحليل نفسه على سائر النقاط التي يقال عادة: إن هناك تقارباً بين الإسلام والعلمانية فيها، والتي كان حظ بعضها في المعالجة وفيراً ، كمفهوم الديمقراطية والليبرالية بين الإسلام والعلمانية مثلاً، أو مفهوم العقل فيهما ، ولكننا هنا نضرب مثلاً لرأس موضوع آخر يقال إن فيه مِثْلَ هذا التقارب، ألا وهو: التركيز على النزعة الإنسانية ، أو ما يعرف بـ (الهيومانزم) ، لقد قيل كلام كثير عن التقاء الإسلام بالعلمانية في هذه النقطة؛ لأن الإسلام قد كرم الإنسان وأعلى من شأنه؛ بينما تدعي العلمانية في جوهرها أنها هي الفكر الذي جعل من الإنسان »معيار كل شيء« ، كما يقول المثل العلماني الأشهر ، ولكن: هل إعلاء الإسلام لشأن الإنسان مثل إعلاء العلمانية لشأنه؟ ، من الواضح أن الاتجاهين على طرفي نقيض في هذه الناحية؛ فالعلمانية تجعل الإنسان (ككائن مجرد مطلق) بديلاً عن الإله الذي رفضته أو أبعدته عن العالم ، وتجعله الواضع لكل القيم والمعايير ، كما تجعله الهدف الأسمى الذي يصب كل شيء في خدمته مهما كان ، أما الإسلام: فلا يجعل الإنسان على هذه الدرجة أو الكيفية من التأله والإطلاق والغائية ، كما أنه ليس هو واضع القيم العليا والمبادئ الكلية ، وهو يستمد تكريمه من خالقه، وليس من مجرد كينونته هو، كما أن هذا التكريم مقصور على النواحي المادية الدنيوية بالنسبة للجميع ، لكنه في الآخرة يقتصر على المؤمنين المقبولين وحدهم.
إذن: نلاحظ مرة أخرى أن هناك خلطاً متعمداً ، فيكفي عند هؤلاء أن يجيء في القرآن أن الله كرم بني آدم حتى تعقد المقارنات مع العلمانية التي كرمت الإنسان كما زعمت حتى وإن كان العالم قد عرف في عهود العلمانية من الجرائم في حق الإنسانية والإنسان ما لم يعرفه في عهود الوثنية والأديان السالفة.
إن الطرح القائل بوجود تقارب بين مواقف الإسلام والعلمانية حول عدد معين من القضايا الفكرية والاجتماعية يعبر في ضحالته عن اتجاه في المحاججة ، نلمسه عند بعضهم في تناولهم لشتى المسائل والأفكار ، ونعني بهذا الاتجاه المعيب: الوقوف عند ظواهر المصطلحات أو على معانيها الأولية المبهمة غير الدقيقة؛ مما يسهل تمرير أي موقف ، ويسهل كذلك من القول بالتقارب أو حتى التماثل بين ذلك المذهب وتلك الفلسفة ، ولكن ما إن نبدأ في بحث دقيق حول نطاق المعاني والمضامين المبثوثة في مصطلحات أو مقولات معينة.. إلا ونلاحظ الفروق الجلية بين المذاهب ، ومن الأمثلة على ذلك: مفهوم »الإله« في الإسلام والمسيحية ، فقد درج بعض الناس على القول بتوحد الأديان السماوية ـ كما يطلق عليها ـ؛ لأنها كلها تعبد الإله نفسه! ، ولكن مفهوم »الألوهية« في الإسلام يختلف اختلافاً نوعيّاً وجذريّاً عن مفهوم »الرب« في النصرانية المتداولة ، أو في اليهودية.
وقد يكون لدعوى التقارب بين الإسلام والعلمانية مبرراتها السياسية الآنية عند بعض أولئك ممن ينشغلون بالمناورات والتحركات السياسية ، لكنها غير مبررة ولا منطقية في عرف الفكر الصحيح.
مجلة البيان
============(14/95)
(14/96)
العلمانية ...هل تصبح خيارا شعبيا في السنوات القادمة ؟
أحمد فهمي
قد يعجب البعض من هذا التساؤل ...و يقول: كيف يختار المسلمون العلمانية، وهم يعلمون أنها رفض للإسلام وكفر به ؟ بل كيف يحدث ذلك في الوقت الذي نرى فيه مظاهر متعددة للتفاعل الجماهيري مع القضايا الإسلامية ؟ وهل يمكن أن يتحول هذا التأييد الشعبي للإسلاميين في الانتخابات البرلمانية وغير البرلمانيةإلى رفض وإعراض ؟
و نحن إذ نحاول إزالة هذا العجب؛ لا ندعي أن الإجابة حتماً على هذا التساؤل هي بالإيجاب، بل نرجو من الله عز وجل أن يجعل النفي القاطع هو الإجابة الواقعية عليه، ولكن هناك شواهد وعلامات كثيرة تجعلنا على الأقل نشعر بالخطر من تحقق هذا التحول في مشاعر الجماهير المسلمة، وسوف نتناول هذه القضية بمشيئة الله تعالى في مقالين متتالين:
الأول: مقدمة لابد منهاعن العلمانية .
الثاني: مسوغات القول بالتحول العلماني للجماهير .
أولا : مقدمة لابد منها عن العلمانية:
من الأمور الهامة التي ينبغي لنا استيعابها واستحضارها بصورة دائمة أساليب العلمانيين في ترويج وترسيخ العلمانية في المجتمعات المسلمة، و بالاطلاع على التجارب العلمانية في عدد من البلاد العربية يمكننا استخلاص الأساليب الرئيسة التالية :
الأول: إيجاد النخبة والرموز " طلائع العلمانية: من أمثال الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وقاسم أمين، ومحمد عبده، والطاهر الحداد، وقد يتم إعدادهم محلياً أو عن طريق الابتعاث الخارجي، وقد بلغ عدد المبتعثين إلى أوروبا من مصر وحدها في الفترة من 1813-1919: 900 مبتعثاً، عدا من تعلم على نفقته الخاصة .
الثاني: ترويج الشعارات، والمفاهيم العلمانية، والاجتراء على اقتحام المناطق الشرعية المحرمة: وأبرز تلك المفاهيم ما يتعلق بارتباط التخلف بالتدين، والحضارة بالغرب، وكذا تحرير المرأة، وقد راج المفهوم الأول بداية من القرن التاسع عشر الميلادي حتى اعتقد كثيرون أنه:" لم يبق أمام الإسلامي إلا هذا الخيار :إما الانخراط في الحداثة الأوروبية، وإما التهميش والاستتباع".
ويذكر جورجي زيدان عن تحرير المرأة أنه ظل منطقة محرمة "حتى صرح الشيخ محمد عبده بآرائه فكثر مريدوه،وأول أولئك قاسم أمين.." ثم تتابع انتشارها في معظم البلاد العربية، يقول علي عبد الرازق عن السوريين:"أنهم لم يتجاوزوا بعد طور البحث النظري الذي بدأه عندنا قاسم أمين منذ عشرين سنة …"واقتحم الطاهر الحداد ذلك المجال في تونس بكتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع ".
الثالث: السيطرة على المؤسسات التربوية والثقافية والدينية ذات البعد الجماهيري:
مثل المؤسسات التعليمية والدينية،وقد بدأ ذلك منذ عهد محمد علي،عندما انقسم التعليم في مصر إلى نظام ديني ونظام مدني لأول مرة،وذلك لتحجيم دور الأزهر كمؤسسة تعليمية دينية،ثم استتبع ذلك بصدور أول قانون لإصلاح الأزهر من الخديوي إسماعيل سنة 1872 .
كما أن معظم وسائل الإعلام من صحافة وسينما وإذاعة، ثم التلفاز وغيره، كانت من بداية نشأتها علمانية .
الرابع: علمنة القانون والنظام : وقد يكون منطقياً أن تتم علمنة القانون، وإلغاء الشريعة في وقت متأخر نسبياً، لكن وجود الاستعمار الغربي في معظم بلاد الإسلام مكنه من التبكير بهذه الخطوة، فتم في بلاد الهند إلغاء الشريعة تدريجيا حتى ألغيت تماماً في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وفي الجزائر ألغيت سنة 1830،وفي تونس أدخل القانون الفرنسي سنة 1906،وفي المغرب سنة 1913، وفي مصرسنة1883 وقد برر الخديوي إسماعيل فعله ذلك لعلماء الأزهر بقوله:"إن أوروبا تضطرب إذا هم لم يحكموا بشريعة نابليون ".
والمقصود بعلمنة النظام، قيام الغرب بتدعيم رموز علمانية تستولي على السلطة بعد انسحابه من البلاد الإسلامية؛ لتحفظ مصالحه، وتكمل مسيرة العلمانية، فكانت باكورة أعمال تلك الرموز القضاء على الإسلاميين الذين ساعدوهم على امتلاك السلطة - وكانوا أحق بها وأهلها - حتى وصف بعض الكتاب ذلك الجيل من الإسلاميين بقوله:"وهكذا جاء الجيل الثاني من المناضلين الإسلاميين مكوناً من شهداء ممن قام زملاؤهم - القوميون - بقتلهم وسجنهم أو نفيهم" حدث ذلك في الجزائر سنة 1962 مع جمعية العلماء، وفي مصر سنة 1954مع الإخوان المسلمين .
الخامس: تجريم الدعوة إلى أسلمة المجتمع: يتجلى ذلك بوضوح في النموذج التركي حيث صدر في سنة 1946،ما يسمى بقانون (إقرار السكون) والذي يحاكم كل من ينادي بعودة الدين أو بإقامة حكومة تعتمد على الشريعة الإسلامية، رغم مخالفة ذلك للعلمانية الغربية التي تمثلها تركيا، وكما يقول أربكان "كل واحد في الغرب يملك الحرية الدينية ولا أحد يجبر الآخرين على قبول اعتقاده "، إذ إن علمانية الغرب توصف بأنها ( غير معادية للدين )،في مقابل العلمانية المتطرفة المعادية للدين مثل الدول الشيوعية .(14/97)
وبالطبع لا يتم استخدام هذه الأساليب كلها دفعة واحدة، بل هناك نوع من الترتيب والتتابع الزمني، رغم ما يظهر بينها من تداخل... وهذه التتابعية تمكننا من بلورة هذه الأساليب في مراحل تبين تطور تغلغل العلمانية في مجتمعاتنا، وارتباط ذلك بوجود وانتشار كل من هذه الأساليب:
أولا: المرحلة التحضيرية : " إيجاد النخبة - ترويج الشعارات والمفاهيم ".
ثانيًا: المرحلة التوسعية : " الأساليب السابقة+ السيطرة على المؤسسات " .
ثالثًا: العلمانية المتأسلمة : " الأساليب السابقة+ علمنة القانون والنظام " .
رابعًا: العلمانية الكاملة : "الأساليب السابقة+ تجريم الدعوة " .
وهذه المرحلية يدعمها تأمل مزدوج، وذلك باستخدام الزمان والمكان ...فلو أخذنا بلدًا مثل مصر (تثبيت المكان ) وتجولنا عبر الزمان لوجدنا تتابعًا واضحًا لهذه المراحل، وكذا لو رجعنا إلى الواقع (تثبيت الزمان ) وتجولنا عبر المكان فسنجد نفس المراحل متمثلة في المجتمعات الإسلامية .
وبعد ما يزيد على المائة والخمسين سنة من العلمانية في بلاد الإسلام، وبكل ما تضمنتها من تجارب وخبرات وسياسات فشل بعضها ونجح البعض الآخر، تمخض ماضي وحاضر العلمانية عن نموذجين يقدمان لباقي الدول والمجتمعات الإسلامية لمحاكاتهما والسير على نهجهما:
الأول: النموذج التركي.
الثاني: النموذج المصري.
ونقصد بكون ذلك البلد نموذجًا:صلاحيته (الوقتية) لأن تقتبس عنه الدول الأخرى الكثير من سياساته المتعلقة بتطبيق العلمانية، والتعامل مع معارضيها، سواء كان ذلك اقتباسًا كليا أو جزئيا، وسواء كان بالاستيراد النظري أو باستجلاب الخبراء .
والنموذج التركي نموذج قديم: يمثل صانعه أتاتورك زعيمًا ملهمًا لكثير من علمانيي السياسة والمجتمع، فقد كان بورقيبة شديد الاهتمام بتجربة أتاتورك في تركيا، وكتب لابنه في استنبول:"فكرت طويلا بتجربة أتاتورك، وهناك أشياء تؤخذ وأشياء تترك " ولما استولى على السلطة في تونس طلب من أستاذه الفرنسي "روبير مانتران " أن يزوده بكل المستندات التي بحوزته عن فكر أتاتورك ...كما صرح كل من عبد الناصر والسادات في أكثر من مناسبة بافتخارهما بأن أتاتورك مثلهما الأعلى .
وأعظم إنجازات النظام العلماني التركي نجاحه في جعل العلمانية خيار ما لا يقل عن ثلثي الشعب التركي المسلم .
إلا أن النموذج التركي فقد بريقه- في البلاد العربية على الأقل - وأصبح نموذجًا محروقًا بالنسبة لهم وذلك لعلمانيته المتطرفة، التي لا تتناسب مع تنامي المشاعر الإسلامية لدى الشعوب حاليًا، وللحرية السياسية النسبية التي لا تتوافق مع الواقع العربي، بالإضافة إلى عقبة اللغة والفجوة النفسية التي نجح الغرب في إحداثها بين الترك والعرب ..وتقتصر صلاحيته-حاليًا - على تسويقه كنموذج للدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق، وان كان ذلك لا يمنع من كونه مصدر إفادة لكل من العلمانيين والإسلاميين على السواء، فيما يتعلق بخبرات المواجهة المستمرة بين السلطة والاتجاه الإسلامي .
أما النموذج المصري : فعلى الرغم من كونه لا يزال مائعًا وغير مكتمل الجوانب، نتيجة التدافع المستمر بين قوى العلمنة من جانب، والإسلاميين ومشاعر الجماهير من جانب آخر، إلا أنه يأتي على رأس قائمة الدول الرائدة في هذا المجال، فبالإضافة إلى عراقة التجربة العلمانية فيه، وتأثير مصر الفكري والثقافي والاجتماعي على الدول العربية، فإنه يستمد رواجه من عدة عوامل:
منها : أنه يرفع شعار الديمقراطية والحريةالسياسية .
ومنها : اتباع سياسة هادئة دؤوبة - بعيدة المدى - في تجفيف منابع التدين، وعلمنة المجتمع والأخلاق .
ومنها : مهادنة المشاعر الإسلامية لتحييد قطاع كبير من الجماهير:" ازدواجية الخطاب " .
ومنها : النجاح النسبي لسياستي الاحتواء والإجهاض للعمل الإسلامي .
وتكمن خطورة هذا النموذج في كونه يفتح باب الأمل نحو مزيد من العلمانية، كما أنه يسعى لتكون العلمانية هي خيار الأجيال القادمة، فإن كانت العقبة هي أن الإسلام الآن خيار جماهيري، فإزالتها بأن تكون العلمانية أيضا خيار جماهيري ولكن ...في المستقبل ....!!!!!
نحتاج في بدء الكلام إلى توضيح المعنى المراد من هذا التساؤل , هل معناه أن الجماهير ستختار العلمانية عن قناعة واضحة بأفضليتها في مقابل الإسلام أم ماذا ؟ الواقع أننا لا نتحدث عن وصول الجماهير إلى هذا المستوى المتدني - و إن كان ليس مستحيلا - بل ما نعنيه أن الجماهير تقترب بصورة تدريجية غير مباشرة من ترجيح الخيار العلماني , دون إدراك حقيقي لمعنى العلمانية, فهم أشبه بقطيع يساق وفق رغبة حاكميه إلى وجهة لا يعلمها و لا يدري شيئا عن الطريق إليها , فقط يعلن ساسة القطيع أنهم يبتغون الخير للجميع .
و هذا الاختيار غير المباشر للعلمانية يتم بمسلكين متكاملين:
أولهما : استبعاد مستمر لأحكام الإسلام وآدابه في معظم مجالات الحياة العامة و الخاصة .
ثانيهما : إحلال الأنماط العلمانية في شتى مجالات الحياة ترغيبا و ترهيبا .(14/98)
و في رحلة الدول الإسلامية من الإسلام إلى العلمانية تبدو ظاهرة للعيان ثلاث دول أو محطات تمثل خلاصة التجربة العلمانية سعيا نحو الجماهيرية, و هي على التوالي : تركيا - تونس - مصر , و الدولتان الأوليان تمثلان مراحل متقدمة حادة التوجه نحو العلمانية, لذا سيكون التركيز على التجربة المصرية باعتبارها تقود الركب العربي نحو العلمانية الكاملة . ولكن نعرض قبلا للموقف الجماهيري من العلمانية في تركيا، وتونس؛ لتكتمل الرؤية، و يتضح التصور.
التجربة التركية: توفرت للعلمانية في تركيا ظروف داخلية و خارجية - يصعب تكرارها حالياً - مكنتها من الوصول للعلمانية الكاملة في وقت قياسي, و نجحت سياسة أتاتورك في إخراج أجيال من الأتراك اتخذوا من العلمانية ديناً شاملًا , فالدستور التركي ينص على علمانية الدولة، وهذا النص يوافق عليه أغلب الأتراك, و في أحد استطلاعات الرأي عن أكثر الجهات الرسمية حيازة لثقة الشعب حصل الجيش التركي على نسبة لا تقل عن 70%, و معروف أن الجيش هو الحارس المتعصب للعلمانية في تركيا, كما أن تيارات الإسلام السياسي ممثلة في حزب الفضيلة كانت أكبر نسبة تحصل عليها في الانتخابات لا تتعدى 26% , جزء كبير من الناخبين يختار الحزب لنزاهة أعضائه، وأمانتهم و ليس لانتمائهم الإسلامي .
الخلاصة: أن التجربة التركية تمثل إثباتاً لإمكانية تحول الأغلبية إلى الدينونة بالعلمانية في مقابل الإسلام .
التجربة التونسية: رغم علمانية الدستور التونسي, إلا أن تونس تختلف عن تركيا في كونها لا تعلن رفضها لإضفاء أي مسحة دينية على الدولة, بل على العكس يحرص النظام على الاهتمام النسبي ببعض المناسبات الدينية, و تذاع صلاة الجمعة في القنوات الرسمية, و يوضع القرآن الكريم ضمن قائمة الهدايا الرسمية التي يقدمها رئيس الدولة للآخرين, و بخلاف التيارات الإسلامية المقهورة داخل السجون و خارجها, فلا يبدو على الشعب التونسي أنه مستاء من هذا الوضع لدرجة السعي لتغييره, خاصة مع الحديث عن ازدهار سياح و انتعاش اقتصادي في ظل النظام الحالي .
التجربة المصرية: هل الإسلام كمنهج شامل للحياة يمثل خياراً شعبياً في الوقت الراهن ؟
لن نستطيع تحديد موقف الجماهير من العلمانية قبل أن نقدم إجابة شافية على هذا السؤال, لذا فالإجابة عليه تحتاج إلى تأنٍ و تفصيل دقيق, فلا يصلح معها الإثبات أو النفي بإطلاق, فهناك اعتبارات متعددة تعطي نتائج متفاوتة حول مستوى التفاعل الشعبي مع الإسلام، ومن هذه الاعتبارات:
اعتبار التمسك بأحكام الإسلام و شرائعه و آدابه و أخلاقه: ولا جدال في أن الإسلام بهذا الاعتبار لا يعد خيارا شعبيا , إذ الغالب على الناس التهاون في أحكام الدين في معظم مجالات الحياة و هذا أمر لا يحتاج إلى إثبات ....
اعتبار طرح تطبيق الشريعة الإسلامية كمطلب أساسي للجماهير من حكامها: و الواقع يخبرنا أن شعار تطبيق الشريعة يطرح كشعار انتخابي دعائي ليس إلا, دون أن يكون هناك إلحاح واضح عليه، فضلاً عن الاستعداد للمناضلة من أجله, كما أن الجهل بأحكام الإسلام يجعل من الصعب على الجماهير التفرقة بين طبيعة القوانين العلمانية و الأحكام الإسلامية .
اعتبار التفاعل مع القضايا الإسلامية و مشاكل المسلمين في أنحاء العالم: ولا شك أن الفتور الشعبي العام الذي تواجه به قضايا المسلمين الساخنة مثل: أزمة الشيشان، وانتفاضة الأقصى يمثل دلالة واضحة على الابتعاد التدريجي للإسلام كمحرك رئيس لعواطف الجماهير ومشاعرها, و رغم ما يقال عن الضغوط الأمنية و الكبت العام, إلا أن المساحة المتبقية للحركة و التعبير تشكو من الفراغ و السكون, و هذا لا يعني صفرية التأييد الجماهيري للقضايا الإسلامية, و لكن هناك فرق بين إثبات الحالة و الحالة الثابتة.
اعتبار الانتماء العام الرسمي لدين الإسلام : و لا إنكار لجماهيرية هذا الاعتبار؛ إذ ليس وراءه إلا الكفر و العياذ بالله, و لكن عندما يدعي الإسلام كل إنسان دون اعتبار لفعله أو قوله, و عندما يدعي أشد العلمانيين حقداً على الإسلام أنه مسلم, و عندما يلبس أهل الضلالة على الناس أن ما هم عليه من الانحراف لا يتعارض مع دينهم, و عندما تصل الزندقة بهم أن يقولوا للناس: أن ترك منهج الإسلام هو من الإسلام, عندها هل يصبح إثباتاً كافياً على اختيار المنهج الإسلامي الشامل للحياة أن يقول إنسان أنه مسلم ؟
اعتبار حجم التأييد التصويتي في الانتخابات النيابية و النقابية: والقول بأن ذهاب أناس لا تزيد نسبتهم عن خمس من لهم حق التصويت - جزء كبير منهم من أتباع الحركة الإسلامية - لوضع ورقة مكتوب فيها أسماء مرشحين من التيار الإسلامي في صندوق مقفل كل ثلاث أو أربع أو خمس سنوات , القول بأن ذلك يعني تأييداً جارفاَ من الشعب للمنهج الإسلامي قول لا نشك في مبالغته, نعم قد يمثل ذلك دلالة على التعاطف العام مع الإسلام من قبل فئات من الشعب, إلا أن هذا التعاطف يتسم بالضعف في جانبين :
الأول : اقتصاره على نسبة محدودة من عموم الشعب, بينما يشوب الغموض موقف الأغلبية السلبية.(14/99)
الثاني : المؤيدون أنفسهم يقف تأييدهم عند مستوى الصندوق لا يتعداه, فليس لديهم استعداد للمطالبة بحق مغتصب, أو النضال من أجل الحفاظ على حق مكتسب .
وبالتأمل في هذه الاعتبارات يتبين لنا أن أكثرها تأثيراً في تصوير شعبية المنهج الإسلامي هو اعتبار حجم التأييد للتيارات الإسلامية في الانتخابات التشريعية و النقابية, و على الرغم من ذلك، فالقراءة المتأنية لمستجدات الأحداث لا تبشر بمستقبل مشرق لهذا التأييد, و هو ما سنبينه تاليا .
إذن ...هل تصبح العلمانية خيار الجماهير في المستقبل ؟!!
لا نقول بذلك و لا نتمناه, و لكن الواقع المر لا يطيب بحلو الكلام, و يكفي للتنبيه على عظم الأمر أن نذكر عوامل أربعة تدق نواقيس الخطر لمن يريد أن يساهم في إيقاف سعي العلمانيين الحثيث للصعود بهذه الأمة إلى الهاوية:
العامل الأول: التنامي المتدرج و المستمر لجهود طمس الهوية الإسلامية، و تذويب الثقافة الإسلامية, و تحقيقها نجاحات متعددة في الفترة الأخيرة, و يشكل الإعلام و التعليم ركنين أساسيين في هذه الجهود التي من شأنها أن تؤدي إلى إيجاد أجيال تجهل كل شئ عن الإسلام, و بالتالي تنكمش لغة التخاطب و التفاهم بينها و بين الدعوة الإسلامية لحساب دعاة النهج العلماني, و من ثم يتضاءل حجم الإحساس و التفاعل بكل ما ينتمي للإسلام, و هذا ولا شك من شأنه أن ينقل العمل الإسلامي إلى مرحلة مختلفة تماماً, و يكفي أن نتأمل نماذج هذه الأجيال في المدارس و الجامعات لنعلم حجم الكارثة المنتظرة .
العامل الثاني: خلو الساحة الفكرية، والثقافية، والسياسية من أي رمز أو فكر أو حركة - حزب ذي جماهيرية ملحوظة- و بخلاف التيارات الإسلامية فلا يوجد أي منافس بمعنى الكلمة, و لكن المؤسف أن الحركة الإسلامية لا تستغل هذا الفراغ، و لا تسعى لملئه بما لديها من الحق ،, بل تعجز أطروحات معظم الحركات الإسلامية عن تحقيق طفرة جماهيرية بعيدا عن موسم الانتخابات, و لن نشعر بخطورة الأمر إلا إذا أفرزت قوافل العلمانيين رموزاً أو أفكاراً أو أحزاباً تتمتع بقدرة على خداع الجماهير و التلبيس عليها, عندها ستزداد الوطأة و نعض أصابع الندم على تفويت الفرصة السانحة, و ما تجربة عبد الناصر عنا ببعيد , فقد استطاع خداع الناس و سرقة عواطف الجماهير و قلب الطاولة على الحركة الإسلامية .
العامل الثالث: اعتماد مبدأ جزئية المشاركة في الانتخابات من قبل تيارات العمل السياسي؛ استجابة للضغوط، و التهديدات الأمنية، و السياسية، وهو سلاح ذو حدين, فهو و إن كان يؤمن للحركة الإسلامية مشاركة مأمونة نوعاً ما , ففي المقابل ينتج عن هذا الأسلوب سلبيات متعددة خاصة على المدى الطويل , منها :
تعظيم حالة الإحباط و اليأس لدى الجماهير المؤيدة؛ لانحسار آمالهم في التغيير عن طريق العمل السياسي في مجرد مشاغبات برلمانية لا تحقق الطموحات المتوقعة, و هذا بدوره يؤثر على قدرتهم النفسية على متابعة التأييد للإسلاميين بنفس المستوى .
إعطاء الفرصة لمن يتهم الإسلاميين بضآلة الحجم وارتفاع الصوت وجودة التنظيم ليثبت صحة كلامه, خاصة مع ضعف الوعي الجماهيري بحقائق الوضع السياسي .
تفريغ الغضب الجماهيري و الإسلامي في مسارات متعرجة تستنزف الطاقة، ولا توصل إلى الأهداف .
العامل الرابع : تتولد مع الأيام و التجارب لدى الجماهير قناعة ذاتية بأمرين متعارضين:
الأول: مصداقية الإسلاميين، و أحقيتهم باستلام الولاية عليهم .
الثاني: يقينهم بصعوبة أو بمجازفة اختيارهم للتيار الإسلامي لما يعلمون من نتائج تترتب على هذا الاختيار مثل:
عدم تمكنهم من قضاء مصالحهم الذاتية عن طريق النواب الإسلاميين لما يتعرضون له من تضييق، وتعسير لأعمالهم من قبل الحكومة العلمانية .
تخويفهم بإدخال البلاد في حالة من الفوضى مشابهة للوضع الجزائري في حالة أقدموا على اختيار الإسلاميين إذا شاركوا بصورة كاملة في الانتخابات النيابية .
شعورهم بعدم قدرة الإسلاميين على تحقيق إنجازات مستمرة، أو ذات بال حتى في حال استلامهم للحكم بصورة مؤقتة, و التجربة التركية ماثلة للأذهان, فحزب الرفاه رغم نجاحه في الوصول للسلطة واعتلائه منصب رئيس الوزراء لم يستطع تحقيق ما كان متوقعاً من إنجازات؛ نظراً للتضييق الشديد الذي تعرض له من قبل الجيش و الرئاسة و الأحزاب العلمانية, فماذا كانت النتيجة؟ انخفضت بشكل ملحوظ نسبة التأييد الجماهيري له في الانتخابات التالية .
و في ظل هذه الصورة القاتمة لابد من الحديث عن دور للحركة الإسلامية يتناسب مع طبيعة الصراع مع العلمانيين وتطوراته, هذا الدور المنتظر يحتاج إلى رؤية تجديدية يعاد فيها النظر في كثير من مفردات العمل الإسلامي، وهذا ما سيتم تناوله لاحقاً -إن شاء الله- .
المصدر مفكرة الإسلام
=============(14/100)
(14/101)
إلى دعاة الفصل بين الدين والسياسة
{ سبحان الله عما يشركون}
ليس من طبيعة الدين الحنيف أن ينفصل عن الدنيا...
وأن يكون في ركن ضئيل يسمى بالأحوال الشخصية..
وسائر الأركان الأخرى تسلم لآلهة أخرى يضعون لها المناهج دون الرجوع إلى شرع الله تعالى.
ليس من طبيعة الدين أن يشرع طريقا للآخرة لايمر بالحياة الدنيا..
نعم ليس من طبيعة الدين أن نمنعه من التدخل في شؤون حياتنا ونفتري عليه ونقول:
" لاتدخلوا الدين في كل شيء"..
ونقول:
" خل دينك لنفسك"..
أو نقول على سبيل المثال:
" إن قضية حجاب المرأة واختلاطها بالرجال ليست قضية دينية"...
لا، ليس دين الله هكذا أنزل...
بل أنزل ليحكمنا في كل صغيرة وكبيرة، رجالا ونساءا، وكل قضايانا دينية...
لكن من أين جاء هذا المسخ إذن؟..
من أين جاء الزعم بأن من الخطأ إدخال الدين في كل شيء؟..
وكيف وقع هذا التصادم والفصام بين الدين وقضايانا الحيوية كالاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلم والأخلاق؟..
كيف وقع هذا الفصام بين الدين والحياة، ومن أين بدأ؟..
هل بدأ عندنا؟، أم أنه بدأ عند غيرنا ثم انتقل إلينا؟...
لقد وقع هذا الفصل في أوربا في ظروف نكدة، وكانت له آثاره المدمرة على أوربا، ثم في الأرض كلها حين طغت التصورات والأنظمة الغربية على البشرية كلها..
لنفهم كيف وقع الفصل لنعد بالحديث إلى عهد موسى عليه السلام..
لقد جاء موسى بالتوراة لتكون منهجا لحياة بني إسرائيل..ثم جاء عيسى عليه السلام بالإنجيل ليكون المنهج المعدل لبني إسرائيل..
ولكن اليهود لم يقبلوا رسالة المسيح، ومن ثم قاوموه، وانتهى بهم الأمر إلى إغراء بيلاطس الحاكم الروماني على الشام يومئذ بقتله وصلبه، لولا أن الله رفعه إليه..
ثم سارت الأمور بعد ذلك بين اليهود وأتباع عيسى عليه السلام سيرة بائسة، انتهت بانفصال أتباع المسيح عن اليهود، وانفصال النصرانية عن اليهودية، مع أن عيسى جاء تكملة لما جاء به موسى عليهما السلام..
وقد اضطهد أتباع المسيح من اليهود ومن الرومان، مما اضطر الحواريين وأتباعهم إلى التخفي والعمل سرا فترة طويلة، تناقلوا خلالها نصوص الإنجيل وتاريخ عيسى عليه السلام وأعماله تناقلا خاطفا في ظروف لاتسمح بالدقة ولا بالتواتر، وأقدم هذه الأناجيل كتب بعد المسيح بنحو 40سنة، وبهذا لم يحفظ الأنجيل، ولم يسطر كما أنزله الله، فكانت هذه الخطوة الأولى في طريق تحريف الدين، ومن ثم نبذه فيما بعد..
ثم تلتها الخطوة الثانية:
فقد دخل بولس في النصرانية، وبولس كان يهوديا من ألد أعداء المسيح، وفجأة انقلب فصار من أتباعه، وذلك بعد موت المسيح، وتبوأ مركزا هاما في النصرانية، حتى صار في مقام الرئيس وسمي بـ "الرسول"، فتسنت له الفرصة ليدخل فيها ماشاء من الوثنية الرومانية والفلسفة الإغريقية، ومن ذلك عقيدة الحلول، فكانت هذه الخطوة كارثة كبرى على النصرانية..
ثم تلتها الخطوة الثالثة في طريق نبذ الدين في أوربا..
وهي اعتناق قسطنطين الحاكم الروماني للنصرانية وسيطرة الحزب النصراني على الحكم..
كان قسطنطين لايبال بالدين، فسهل على المنافقين أن يمزجوا بين الوثنية والنصرانية مستغلين مناصبهم العالية، وكانت من نتيجة ذلك أن ظهر دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء..
ساعد على هذه تعميق الانحراف في هذه الخطوة الخلافات السياسية والعنصرية، فقد أصبحت العقيدة النصرانية عرضة للتغيير والتنقيح لتحقيق أهداف سياسية..
فهذه ثلاث كوارث حلت بالنصرانية..
اضطهاد أتباعها منذ الأيام الأولى مما منعهم من تسطير الإنجيل تماما كما أنزل بالدقة..
واختلاط الوثنية بها على يد بولس أولاً..
ثم على يد قسطنطين الحاكم الروماني ثانيا..
ومن ثم صارت النصرانية غريبة كل الغرابة على طبيعتها كدين إلهي منزل، فلم تعد قادرة على أن تعطي التفسير الصحيح لحقيقة الوجود وصلته بالخالق، وحقيقة الخالق وصفاته، وحقيقة الإنسان والغاية من وجوده، والنتيجة أن الدين النصراني لم يعد صالحا لأن يكون منهجا للحياة..
ومع ذلك فقد كان الرجل الأوربي يعيش تحت مظلته، يشعر بحرمته ووجوب الخضوع لتفسيراته وأحكامه مهما كانت غير منطقية..
ثم..
حلت الكارثة الرابعة..
والتي تمثلت في الخطوة الرابعة في طريق نبذ الدين..
وذلك أن الكنيسة أرادت أن تقف في وجه الترف الروماني وسعار الشهوات التي كانت الامبراطورية قد غرقت فيها، لكنها لم تسلك طريق الفطرة السوية لغياب المنهج الصحيح، فاندفعت في رهبانية عاتية، لعلها كانت أشأم على البشرية من بهيمية الرومان الوثنية، فأصبح الحرمان من الطيبات وسحق الغريزة عنوان الكمال والفضيلة، وغرق الرهبان في نوع من البدعة من الزهد مقابل الفجور الذي غرق فيه المترفون، فامتنعوا من الطيبات وحرموا الزواج على أنفسهم، ولم يكن علاجا لذلك الانحلال، بل كان عاملا من عوامل الفصل بين الدين والحياة في نهاية المطاف..
الخطوة الخامسة:
وكانت الطامة الكبرى يوم اكتشف الناس أن حياة رجال الكنيسة تعج بالفواحش في أشد صورها، مما أفقد الثقة برجال الدين، والدين من ثم..(14/102)
وإذا أضفنا إلى ذلك تعدي الكنيسة على حقوق الناس باسم الدين، بفرض الضرائب والخدمة بلا مقابل والإذلال الكبير إلى مهزلة صكوك الغفران، أدركنا طرفا من الملابسات التي أدت في نهاية الأمر إلى فصل الدين كليا عن الحياة في أوربا..
رافقت هذه الخطوة خطوة أخرى كانت تسير معها جنبا إلى جنب..
فقد كانت الكنيسة تنازع الأباطرة السلطة والنفوذ، ولأجل ذلك كانت الأباطرة في سخط كبير، ومن ثم استغلوا أخطاء الكنيسة ليثيروا الرأي العام ضدها، واستخدموا لهذه الغاية كل وسيلة، منها فضح رجال الكنيسة وكشف أقذارهم، مما ولد في نفس الإنسان الغربي النفور من الدين ورموزه..
ثم تلتها الخطوة السادسة..
والتي تعتبر القاصمة التي بها تم الفصل بين الدين والحياة..
فقد احتكرت الكنيسة لنفسها حق فهم الكتاب المقدس وتفسيره، وحظرت على كل عقل من خارج الكهنوت أن يتجرأ على ذلك، ثم قامت بإدخال معميات في العقيدة لاسبيل إلى إدراكها أو تصديقها، مثل الثالوث والعشاء الرباني، وفرضت على الناس قبول كل ذلك ومنعتهم من المناقشة وإلا تعرضوا للطرد والحرمان..
هذا المنهج المتعسف المنحرف اتبعته الكنيسة كذلك في المسائل العلمية وأحوال الكون، فادعت آراء ونظريات جغرافية وتاريخية وطبيعية مليئة بالخرافة والخطأ وجعلتها مقدسة لاتجوز مناقشتها...
وقد كانت هذه القضية بالذات سببا للكفاح المشؤوم بين الدين والعلم والعقل، الذي انهزم فيه الدين لأنه كان محرفا، فقد انفجر بركان العقل في أوربا وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني..
فزيفوا النظريات التي اشتملت عليها الكتب المقدسة، وانتقدوها صراحة، فقامت قيامة الكنيسة وكفروهم وقتلوهم وأحرقوهم، فعوقب ثلاثمئة ألف إنسان، أحرق منهم إثنان وثلاثون أحياءً، منهم "برونو" و "وغاليليو"..
هنالك ثار المجددون وأصبحوا حربا على الكنيسة، ومقتوا كل ما يعزى إليها من عقيدة وثقافة وأخلاق، وعادوا الدين المسيحي أولا، وكل دين ثانيا، وقرر الثائرون أن الدين والعلم ضرتان لاتتصالحان، وأن العقل والدين لايجتمعان..
وبهذه الخطوة تكاملت الخطوات في طريق نبذ الدين وفصله عن الحياة بالكلية، فلم تبق إلا القشة التي تقصم ظهر البعير ليتم الحدث وتدخل أوربا في مرحلة جديدة تتنكر فيها لجميع الأديان..
وقد تحقق ذلك بالثورة الصناعية الفرنسية، التي بها أعلن زوال ملك الأباطرة والإقطاعيين وحكم الكنيسة ومعه الدين أيضا..
وبذلك أصحبت أوربا لادينية .*.
هذه هي أهم الملابسات التي أدت إلى فصل الدين عن الحياة في أوربا، وهذا هو الدين الذي ثارت عليه أوربا، وقد كان لهم الحق في ذلك، فكما رأينا..
كان دينا محرفا أقرب إلى الوثنية، عاجزا عن تلبية حاجات البشر..
ثم إن هذه الفكرة سرت إلى بلاد الإسلام، ونصرها الببغاوات والقرود دون يفرقوا بين دين الإسلام الصحيح ودين النصرانية المحرف، فتلك الملابسات أوربية بحتة، وليست إنسانية عالمية، ومتعلقة بنوع من الدين لا بحقيقة الدين، وخاصة بحقبة من التاريخ..
ومن هنا كان من الخطأ تعميمها على الأرض، خاصة البلاد المسلمة التي قبلت هذه المبدأ الكافر، فأعرضت عن الدين، وحصرته في ركن ضيق..
وإذا كان لأولئك الحق في نبذ دينهم، فقد كان المسلمون على خطأ كبير في نبذ دينهم تقليدا لهم، إذ لم يتحقق على مدى نصف قرن من الإعراض عن الدين أي تقدم في أي مجالات الحياة..
بل لازالت البلدان الإسلامية التي قامت على مبدأ فصل الدين عن الحياة إلى اليوم متخلفة في كافة المجالات عن نظيراتها من البلدان الأوربية، والسبب:
أن الدين المحرف كان يعوق تقدم الغرب، فلما تخلص منه انطلق..
أما الذي يعوق تقدم المسلمين اليوم هو تركهم العمل بدينهم الصحيح المحفوظ من رب العالمين، ولن يصلح حالهم إلا بالدين الكامل الشامل.. والدليل:
أن المسلمين حكموا العالم اثني عشر قرنا لما كانوا يحكمون الدين في كل صغيرة وكبيرة، ثم لما أهملوا العمل به تراجعوا وتقدم غيرهم، فإن أردوا استرداد مكانتهم فيجب عليهم أن يعودوا ويكونوا كما كان الأولون، ورحم الله الإمام مالك حين قال:
" لن يصح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"..
والذي أصلح أولها هو تحاكمهم إلى الدين في كل شيء، وترك أهوائهم جانبا، ومن هذا نفهم خطأ ما يتردد على ألسنة بعضنا من كلمات مثل:
" خل دينك لنفسك"،..
" لا تدخلوا الدين في كل شيء"،..
" لا تجعلوا كل القضايا دينية"..
وندرك كذلك خطورة ما يفعله من بهر بالغرب من محاولة واجتهاد في تفسير الدين في نطاق ضيق لا يتجاوز زوايا المسجد وشعب القلب.
أبو سارة
=============(14/103)
(14/104)
أقنعة العلمانية
يلاحظ المتتبع للطروحات العلمانية الفكرية في البلدان العربية خلال الفترة القريبة، توجهين أساسيين يحكمان هذه الأفكار، أولهما حديث نسبياً من حيث التعبير العلني عنه مؤخراً، وهو يبشر صراحة بالفكر العلماني »الكلاسيكي« في صورته الشرسة من ضرورة الفصل بين الدين (وهو هنا الإسلام) والدولة، أو بين الدين والسياسة، أو بين الدين والحكم، أو بين الدين والاقتصاد والتعليم وسائر شؤون المجتمع، أما الاتجاه الثاني فهو يواصل ما عهد عن أصحاب هذا الفكر في العقود الماضية من طرح العلمانية وراء أقنعة ومسميات شتى لا تلجأ إلى المصادمة المباشرة أو الوضوح الصريح أو الإفصاح عن النوايا والأهداف النهائية، وظهور الاتجاه الأول الذي يمكن أن نسميه بالأتاتوركي نسبة إلى رائد العلمانية في العالم الإسلامي في شكلها السياسي الشامل يرتبط بتصاعد الحرب من جانب القوى المحلية والأجنبية ضد الحركات الإسلامية، حيث فقدت هذه القوى توازنها أو صبرها في الفترات الأخيرة، وقررت أن تكون الحرب علنية ليس فقط ضد التيارات الإسلامية ولكن ضد الإسلام ذاته، من خلال وجوده الدستوري والقانوني في أنظمة الدول العربية، وأيضاً من خلال وجوده المؤسسي في هيئات تعليمية أو ثقافية أو اجتماعية، ولذا جاءت الدعوة إلى العلمانية الأتاتوركية صريحة إلى حد أننا سمعنا مثلاً موظفاً رسمياً في وزارة الثقافة بإحدى الدول العربية يتحدث باسم وزارته وهو ما يعني الحديث باسم الحكومة داعياً إلى فصل الدين عن الدولة في دستور البلاد، وتتردد آراء مشابهة من جانب كتاب من المشرق والمغرب العربي في صحف ومجلات تصدر هنا وهناك، وتديرها وتدعمها الأنظمة والحكومات، وتتراوح أهداف هذا التوجه الجديد المعلن ما بين بالونات اختبار (وفق المصطلح الصحفي الدارج) لآراء الصفوة والجماهير نحو الدعوة العلمانية الصريحة، وما بين التهديد للإسلاميين والمؤسسات الإسلامية بأنهم إذا لم يتوقفوا عن النشاطات الإيجابية في مجال الدعوة والحركة فإن الأنظمة الحاكمة قد تضطر في نهاية المطاف إلى اللجوء إلى »الحل الأتاتوركي« أي إلى تبني العلمانية التقليدية بالنص في الدساتير والقوانين على تنحية الإسلام وعزله عن شؤون الدولة والحكم والمجتمع بكل مؤسساته، والوصول إلى الإقصاء الشامل لهذا الدين عن كل شؤون الحياة.
خطورة التوجه العلماني الجديد:
لكن هذا التوجه الأخير للطرح العلماني على خطورته المتمثلة في المصادمة الصريحة للإسلام، يبقى محدوداً من الناحية الكمية بالمقارنة مع التوجه العلماني الأخير الذي يحتل المساحة الكبرى في الكتابات الفكرية والإعلامية العلمانية، وأعني به تسريب هذا الفكر بشتى جوانبه وراء مجموعة من الأقنعة وأدوات التنكر والستائر التي تخفي حقيقة جوهره أو مقاصده وأغراضه البعيدة أو الجهات التي تحركه وتستفيد منه، وفيها جهات دينية غير إسلامية تتمسك بأديانها أشد التمسك، وتتعصب لها إلى الحد الممقوت، لكنها تريد للمسلمين أن يتحللوا من دينهم، وأن تنفصم عرى هذا الدين، ويبعد عن حياة الشعوب وتوجيه مصائرها، وإذا كان الفكر العلماني الكلاسيكي محدود الطرح في الناحية الكمية حتى الآن، فإن الفكر المقنع منذ فترة طويلة ومازال أكثر انتشاراً لأنه لا يسعى إلى الصدام المباشر الواضح مع العقيدة، بل يواصل عدوانه عليها، ويهاجمها بطريق غير مباشرة، فيقوض الطرح الإسلامي بطريق الإجهاض والإضعاف المستمر، دون أن يجازف بإثارة مشاعر الجماهير المسلمة أو تحفيز طاقات رد الفعل الفكري الإسلامي، أو تنبيه المسلمين لما يراد بهم، بل ويكسب فوق ذلك التظاهر بأنه تيار فكري محايد أو حتى »إسلامي مستنير«!!
صور جديدة للخداع:
وأقنعة العلمانية كما عهدناها متعددة وكثيرة ومتغيرة وفق الظروف والمناسبات، وتتيح هذه الأقنعة مزايا أخرى لأصحاب الفكر العلماني غير ما لاحظناه فيما سبق، فهي قبل كل شيء تمكنهم من الرد على دحض الإسلاميين لأفكارهم بمقولة أن الإسلاميين لا يفهمون العلمانية، أو يتعمدون الحط من شأنها بربطها بالفكر في الإسلام، بينما هي »في الحقيقة« (أي في القناع والفكر) لا تعني سوى التفكير الحر، أو الاجتهاد الذهني، أو الاستنارة العقلية، أو الموضوعية العلمية، أو الإصلاح الاجتماعي والديني!!... الخ.
ولقد شاهدنا في الفترة الأخيرة إحدى المجلات الشيوعية ترد على سلسلة مقالات لكاتب ومفكر إسلامي موضوعي فند فيها أفكار العلمانيين، باتهام الكاتب أنه »يزيف العلمانية« أي يتهم العلمانية، وينسب إليها ما ليس فيها على حد زعم المجلة وهذه هي فائدة أسلوب الأقنعة والتنكر، لأنه يمكن العلمانيين عند الرد الموضوعي والداحض والمفند لأفكارهم أن يتنصلوا منها بزعم أنهم إنما ليسوا سوى دعاة العقل والفكر والحرية والاستنارة والتقدم وما أشبه ذلك من المصطلحات والألفاظ العامة التي يطلقونها دونما تحديد اجتلاباً للأذهان، لكنهم يحددونها في الوقت الملائم وبالمعنى والمضمون الذي يختارونه ويكون أكثر المضامين فعالية وأثراً في وضع ومقام معين.
مزاعم علماني متفلسف:(14/105)
وفي هذا الصدد مثلاً ونحن نشير إلى أقنعة العلمانية واستخدامها التقنع والتنكر لأغراض مرحلية تتعلق بالرغبة في الانتشار والترويج واستمالة الأذهان وتجنب المواجهة المباشرة، أشير إلى واحد من أحدث هذه الأقنعة وربما كان من أطرفها، فقد عرف أستاذ جامعي مصري للفلسفة وهو غير مسلم اشتهر بهجومه على الإسلاميين منذ عقد الستينات العلمانية بقوله: إنها تعني التفكير في الأمور البشرية النسبية والمتغيرة بطبيعتها من خلال فكر نسبي ومتغير، والابتعاد عن »المطلق« عند التفكير في هذه الأمور البشرية وتدبيرها وإدارتها، وهذا التعريف المبتكر للعلمانية يبدو مختلفاً تماماً وبعيداً كل البعد عن تعريفها التقليدي بأنها فصل الدين عن الحكم والدولة والمجتمع، لكنه بعد تحليله يصل إلى نفس الهدف وراء سحابة المصطلحات الفلسفية عن المطلق والمتغير والنسبي.
فصاحب هذا التعريف يصف العلمانية بأنها التفكير في الشؤون البشرية ذات الطابع النسبي والمتغير بأساليب وأفكار مماثلة لها من حيث النسبية والتغير لكنه من المعروف أن المذاهب العلمانية المتنوعة وبالذات في المجالات »المتغيرة والنسبية« كالسياسة والاقتصاد وقضايا المجتمع، اتسمت بأشد درجات الإطلاق والجمود والصلابة وعدم التغير بحيث كانت تضع نفسها في شكل دساتير وقوانين صارمة ثابتة تهيمن على حركة المجتمعات التي طبقت فيها وتعيد صياغتها بشكل كلي وشامل بحيث تتسق هذه المجتمعات مع تلك الأفكار النظرية المجردة، ولو كلف الأمر ملايين الضحايا البشرية ومحن واضطرابات تستمر عشرات السنين.
وليست التجربة الشيوعية فيما كان يعرف بالكتلة الشرقية الأوروبية عنا ببعيد، فالمذاهب العلمانية نفسها، وهي من وضع البشر لم تكن ترى في نفسها أنها أفكار متغيرة ونسبية جاءت لتحكم شؤون بشرية متغيرة ونسبية، بل على العكس فقد انتحلت لنفسها بالضبط ما تدعي العلمانية أن الأديان قد اتصفت به ألا وهو الطابع المطلق الشمولي الجامد المستعصي على التغير، وينطبق هذا حتى على تلك المذاهب العلمانية التي ادعت »الليبرالية« أو التحرر، إذ لم تخلوا هذه المذاهب من مطلقات مقدسة طرحت على أنها ثابتة ثبوت الدهور، وغير متغيرة مع تغير الظروف، بل وعلى أنها هي التي تحكم وتضبط وتوجه التغيرات وتهيمن عليها لا تواكبها ولا تسايرها ولا تتغير معها، وهذه المقدسات معروفة حتى الآن في الحرية الاقتصادية ونظام التمثيل البرلماني، وأفكار المساواة المطلقة والفردية، وأشهر مطلق من مطلقات الليبرالية بل ومن مطلقات الفكر العلماني نفسه هو مطلق فصل الدين عن الدولة.
وللماركسية والاشتراكية مطلقاتها الخاصة كما لسائر المذاهب والفلسفات العلمانية، بل إنهم يتبادلون الهجوم فيما بينهم بالإشارة إلى الطابع المطلق لكل منهم الذي يستعصي على التغيير والنسبية، ويقاومهما ويصر لنفسه على احتكار الحق المطلق حتى في أدق الأمور الاجتماعية والاقتصادية وأكثرها عرضة لمجريات التغير والتبدل.
العلمانية والمطلق والنسبي:
العلمانية إذن لم تكن أبداً إدارة أو تفكيرفي شؤون البشر المتغيرة والنسبية بأفكار وأساليب تشاكلها، بل على العكس كانت تتمثل في استبدال مطلق جديد (هو العلمانية) لمطلق قديم هو (المسيحية الغربية)، وما رافقها من أفكار ومذاهب سياسية واقتصادية وثقافية، ثم إن المذاهب العلمانية لم تنظر لنفسها على أنها مجرد تعبيرات ملائمة عن أوضاع نسبية ومتغيرة، تتغير وتتبدل وتمضي مع ذهاب هذه الأوضاع، بل على العكس اعتبرت نفسها مبادئ وخطوط عمل وإرشاد وتوجيه حاكمة وعامة، توجه وتقود وتشكل هذه الأوضاع، بل وتحكم كيفية ومسار تغييرها إلى أبد الآبدين، أو إلى الوصول إلى الفردوس الأرضي ونهاية التاريخ كما في الماركسية والليبرالية.
العلمانية إذن تحل لنفسها ما تحرمه على غيرها، وإذا نظرنا إلى الجانب الآخر من المسألة فلن نجد داعياً لوصف شؤون البشر بأنها نسبية ومتغيرة مهما كانت درجة التغير والتبدل التي تطرأ على أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم فوراء هذه التغيرات تقف (كما تقول لنا حتى فلسفات العلمانية ذاتها) قوانين كبرى ومبادئ عامة، وملامح مشتركة، تجعل من وجود أفكار وتعاليم مطلقة للتفكير في هذه الشؤون، أمراً مقبولاً، بل وضرورياً، ولا ننسى أن »ماركس« وهو أحد كبار كهنة الفكر العلماني الغربي قد ابتكر نظاماً مطلقاً محكماً ادعى أنه يقف بثبات وصرامة لا تتخلف وراء كل التغيرات التي تطرأ على المجتمعات فالمطلق أياً كان له مجال في التفكير في الشؤون البشرية والمطلق كذلك له مجال أكبر في مجال توجيه هذه الشؤون كما تدل على ذلك التجربة العلمانية ذاتها في النظرية والممارسة، ذلك لأنه إذا قبلنا بفكرة أن كل الشؤون البشرية متغيرة ونسبية، فإن ذلك لا يعني منطقياً أن تكون المبادئ التي توجه وتحكم هذه الشؤون متغيرة ونسبية مثلها، لأن الحكم والتوجيه والتدبير في حد ذاته يعني وجود درجة كبيرة من الثبات والهيمنة، تتجاوز النسبية والتغير وتتعالى عليهما أو تقود التغيرات في مسار معين، وتبعدها عن مسار آخر.(14/106)
والأكثر أهمية في ذلك هو بحث معنى »المطلق« وفق هذا التعريف المبتكر للعلمانية، فهل المقصود هنا هو »الإله« الذي تتحدث عنه الأديان التي يواجهها العلمانيون رغم ضرورة الإشارة إلى اختلاف مفاهيم الألوهية بين الأديان وبالأخص بين الإسلام وبين سائر الأديان بما فيها تلك التي تسمى حالياً بالسماوية أم أن »المطلق« هذا هو الأفكار والمذاهب الدينية لاسيما ما يتصل منها بالتشريع والشؤون الاجتماعية المتنوعة، وفي هذه الحالة ينبغي الإشارة إلى وجود شريعة في الإسلام تختلف جوهرياً وبالنوع عن أي أفكار أخرى بدائية ومحدودة قد تحتويها الأديان الأخرى في مجال التشريع الاجتماعي، فالشريعة الإسلامية هي نظام كامل له منهاجه الخاص، ولا يمكن أن تختزل هذه الشريعة بوصفها بتلك الكلمة العامة الغامضة ذات الإيحاءات السلبية في دنيا الفلسفة وهي عبارة »المطلق«، فالشريعة الإسلامية بالذات تحتوي على مستويات من المبادئ والقوانين والأحكام، وفيها من المرونة ومن القابلية للاستيعاب وتغطية المتغيرات، والتعامل معها من خلال أنظمتها هي كالاجتهاد وغيره ما يحول دون نشوء مشكلة التقابل الثنائي بين المطلق والنسبي التي يثيرها ذلك التعريف العلماني، وهو يحمل في ذهنه الأوضاع المسيحية الغربية.
وإياً كان ذلك »المطلق« فلا يعطينا تعريف العلمانية هذا مسوغاً لإبعاده عن شؤون البشر، سواء أكان تفكيراً فيها أو توجيهاً لها، مادام أن العلمانية نفسها تقيم بعده مطلقاً أو مطلقات أخرى من صناعتها هي، أي أصنام وثنية مادية لتحل محل الآلهة الغيبية (حسب تصورهم)، فلا جديد في المسألة.
تهافت العلمانية الجديدة:
تعريف العلمانية الجديد هنا ينشيء عند تحليله تناقضات ومشكلات عديدة، كما أنه ينبثق عن نفس التعريف القديم، لكنه ليس سوى قناع أو تنكر له، فهو يطلق اسم المطلق على: الدين أو الشريعة أو العقيدة أو »الله«، وهو ذو إيحاءات سلبية كما قلنا ولاسيما في مذاهب الفلسفة الغربية الحديثة وفي مقابلة هذا المطلق توضح شؤون البشر المتغيرة النسبية (هكذا كل شؤون البشر متغيرة ونسبية عندهم بإطلاق!)، ثم تأتي العلمانية لتسمى في هذا التعريف بالأفكار النسبية المتغيرة والتي تصلح بذلك دون »المطلق« لتسيير وتفسير حياة البشر وشؤونهم.
إنها مجرد تسميات مختلفة، فبدل القول بأن الدين يجب أن يرفض وينحى من حياة البشر لتحل محله العلمانية، أو بالأصح مذاهبها المختلفة يأتي القول بأن حياة البشر متغيرة نسبية بإطلاق (!) في التغير والنسبية، وأن هناك اتجاهين يتنازعان تفسير وتسيير هذه الحياة، أحدهما »مطلق« لا يصلح لها والآخر مثلها متغير نسبي، فهو الأصلح والأجدر بها، هكذا تترجم العلمانية الكلاسيكية إلى صياغة تحاول أن تتجمل بمصطلحات الفلسفة ذات الإيحاءات والظلال المعينة دون أن يتغير شيء في المضمون.
لكن هذا التعريف الجديد أو القناع الجديد يحتوي من التناقضات أشد ما يحتويه التعريف الأقدم، لاسيما فيما يتصل بالإسلام، فشريعة الإسلام ليست ذلك »المطلق« البعيد عن دنيا البشر وهمومهم وأوضاعهم بل هي وثيقة الصلة بها لا من حيث إنها تعكسها وتبررها وتواكبها بشكل ذيلي في تغيراتها كما يصور التفسير المادي المألوف، بل من حيث إنها تقودها وتوجهها وترقى بها وفق مشيئة وحكمة العزيز العليم الذي أوحى بها، وشؤون البشر في هذا التصور الإسلامي ليست متغيرة نسبية بإطلاق، بل تطرأ عليها التغيرات وفق سنن ثابتة، كما تتفاوت التغيرات بين مادي واجتماعي ونفسي وعقدي وأخلاقي... كل له مساره الخاص ودرجته الخاصة في مدى التغير، والتغير فيها يمكن توجيهه والتحكم فيه على الأقل من الناحية المهمة كناحية الإيمان وإرضاء الله بالعمل وفق منهجه، والثبات في محن البلاء والاختبار المتنوعة.
وأخيراً فإن الأفكار العلمانية ليست نسبية التطور كما يزعم التعريف، بل هي تزعم لنفسها كما أسلفنا الإطلاق والثبات، أضف إلى ذلك السذاجة الفكرية المتضمنة في مقولة أن النسبي والمتغير لا يصلح للتفكير فيه سوى النسبي والمتغير فصاحب هذا التعريف وهو ماركسي النزعة يعرف أكثر من غيره أو هذا هو المفترض أن الماركسية وقبلها بدرجة أكثر الهيجلية قد حكّمت فكراً (أو ما أسموه بمنهج علمي) مطلقاً هو الجدل أو الديالكتيك بشقيه المنطقي والمادي في تفسير ما رأوا أنه شؤون الحياة والتاريخ المتغيرة والنسبية، فالمتغير في هذه الفلسفات محكوم بقانون مطلق لا يجعل منه تغيراً بقدر ما يجعل منه ثباتاً يتجلى شيئاً فشيئاً إلى أن يظهر بكامله، كما أن النسبي عندهم لا يصبح نسبياً إلا عندما ينسب إلى إطار مطلق يحتويه ويتعالى عليه.
خدعة المجتمع المدني:(14/107)
في نهاية الأمر لسنا نواجه سوى قناع آخر من أقنعة العلمانية هذه المرة في ثوب فلسفي النقش، لكن الأقنعة لها ثياب متعددة، فهناك مثلاً الثوب السياسي الذي يفصح عن نفسه هذه الأيام في مصطلح كثر ترديده بصورة ببغاوية حتى عد عند بعضهم وكأنه الحل السحري لكل الأزمات والمشاكل وفي مقدمتها أزمة الإسلام، وأعني به مصطلح »المجتمع المدني«، فالدعوة إلى العلمانية هذه الأيام تتخذ شكل الإلحاح على إقامة أو تقوية ما يسمى »بالمجتمع المدني«، وليس المقصود بهذا المجتمع كما قد يتبادر إلى الذهن أنه المجتمع الذي لا يسيطر عليه العسكريون بشكل مباشر أو غير مباشر كما هي الحال في معظم المجتمعات العربية، بل على العكس نجد أن أصحاب هذا المصطلح أو التعريف العلماني من أشد أنصار الحكم العسكري، لأنهم يرون في شراسة هذا الحكم وبعده عن الالتزام بالقوانين وحقوق الإنسان، أكبر ضمانة للتصفية الجسدية للحركات الإسلامية التي يناصبونها العداء والخصومة.
المجتمع المدني المقصود في هذا المصطلح الذي نجد له أوسع رواج الآن في بعض الصحف والمجلات والمنابر الناطقة باسم النخبة العلمانية، هو المجتمع اللاديني، ذلك لأن »المدني« عندهم لا يواجه »العسكري« بل يواجه »الديني« وقد اعتمد مطلقو هذا التعبير على ترجمة محرفة للاصطلاح الدنيوي أو غير الكنسي في بعض اللغات الأوروبية، الذي يقابل ويواجه »الكنسي« أو الديني فالدين عندهم يرتبط بما هو متصل بالكنيسة ورجالها (الكهنوت) الذين يشكلون بزيهم وتنظيمهم المستقل المميز سلكاً هو سلك الدين أو الكنيسة المتميز عن سائر المؤسسات الاجتماعية، كسلك الجيش أو ملاك الأراضي... الخ، وعند غيرهم يطلق عليه اسم »الدنيوي« (أي غير الديني) الذي تحور في الترجمة أو في التلاعب عند أصحاب التعريف أو الدعوة الجديدة إلى »المدني«.
والخلط هنا ينشأ من أن كلمة »المدني« في استخدامات العربية الحديثة تطلق أساساً للتفرقة بين ما ينتمي إلى السلطة العسكرية وما ينتمي إلى غيره كما قد يطلق على ما ينتمي إلى المدنية أو الحضر، أو ما يتسم بالصفات السائدة في تلك الأماكن، لكن »المدني« لا يعني في العربية »العلماني«، ومن هنا يأتي القناع أو التنكر، فهم يستخدمون تعبير المجتمع المدني لأنه سيجد القبول بإيحاءاته التي تعني مجتمعاً لا يسيطر عليه العسكريون بالدكتاتورية والتسلط وكبت الحريات وفرض الرأي الواحد الخاطئ في معظم الأحيان، كما أن أصحاب المصطلح يساعدون على هذا الترويج بإكسابه إيحاءات أخرى ينظمونها حول لفظة »المدني« كالديموقراطية والحرية وتعدد الآراء والمناقشات والانفتاح السياسي والفكري، لكنهم عندما يتحدثون عن هذا المصطلح فإنما يقصدون كما يتضح من كتاباتهم العلمانية أو اللادينية المجتمع الذي يفصل الدين عن حياته وينحيه بعيداً، وهكذا يظهر المصطلح جذاباً لبعضهم لكنه في نفس الوقت يؤدي نفس ما يؤديه التعريف الكلاسيكي للعلمانية.
وكما هو الحال في التحليل السابق للتعريف الجديد للعلمانية، فإننا إذا حللنا تعبير »المجتمع المدني« كما يستخدمه العلمانيون، فسنجده ينطوي على تناقضات تهوي به كمصطلح جاء حسب استخدامهم أبسطها أن مفهوم »المجتمع المدني« كما يستخدم في الكتابات الاجتماعية الغربية يعني مجموع المؤسسات والهيئات والمنظمات والجمعيات والروابط المعروفة (الجيش، الشرطة الجهاز الإداري... الخ)، ومن هذه الناحية فإن المصطلح بمعناه الدقيق أو العلمي في الكتابات الأكاديمية يضم ولا يستبعد المؤسسات الدينية، كما يضم ولا يستبعد الأفكار والرؤى الدينية طالما أنها تشكل قسماً من نسيج هذا الشعب الذي يتشكل المجتمع المدني من تنظيماته.
وللعلمانية أقنعة أخرى تخفي وراءها طرحها الأساس والصريح الذي ما خرج هذه الأيام إلى طور العلن إلا كحلقة من حلقات المواجهة مع الإسلام كما يسمونها، والأقنعة ذات فوائد متعددة للطروحات العلمانية لكنها في المقابل ينبغي أن تكون بمثابة ساحة تدريب ودافع تنشيط للفكر الإسلامي في تتبعها ودراستها ودحضها وكشف ما وراءها، مع إظهار البديل أو بالأصح »الأصيل« الإسلامي الذي تحاول هذه الطروحات أن تشوه صورته أو تخفيه.
مجلة البيان
=============(14/108)
(14/109)
الحروف المقطّعة
عين ولام ثم ميم
ألف ونون
ياء مشدّدة وهاء
من هاهنا ابتدأ العناء
من هاهنا جرّ السماسرة الرداء
وطغى على النهر الغثاء
عين. وتنتفض العمالة والعناد
لام . ويظهر في ملامح وجه عالمنا الكساد
ميم . ويرفع ملحد علم الفساد
ألف . ويبتدأ الحصاد
نون . وتبدأ نكسة كبرى ويجتاح الجراد
ياء . وتغرق أمتي في اليانصيب
هاء .وتقطع هامة الأمل الحبيب
عين ولام ثم ميم
ألف ونون
ياء مشددة وهاء
هذي حروف الوهم في زمن الضياع
هذي حروف اليأس في بحر… يبدد موجه حلم الشراع
هذي حروف الموت في وجدان أمتنا….. وقنطرة الصراع
عين ولام ثم ميم
ألف ونون
ياء .مشددة وهاء
عين .عذاب
لام .لهيب واضطراب
ميم. مجافاة الكتاب
ألف .أسىً
نون .نقيق ضفادع وصدى نعاب
ياء .يد سوداء موحشة الخضاب
هاء .هوى يغتال قلب الحر يلتهم الصواب
عين ولام ثم ميم
ألف ونون
ياء مشددة وهاء
من أين نخرج أيها الليل البهيم
من أين نبدأ رحلة الأمل العظيم
من أين …وانكسر السؤال
وسمعت صوتا من وراء الأفق موفور الجلال
يا سائلا في ثغره اشتعل السؤال
هذا الطريق أمام عينك يا غريق
وأمامك الروض المندى والرحيق
وأمامك القرآن زادك في الطريق
وحديث خير الناس والبيت العتيق
سل أيها الشاكي حراء
سل غار ثور حينما التفت الزمان إلى الوراء
ورأى النبي يقول للصديق لا تحزن ….فربك في السماء
ورأى أبو جهل… وفي عينيه نبرة كبرياء
مائة من الإبل العتاق فأين عشاق الثراء
أين الرجال الأقوياء
سل يا أبا جهل سراقة عن إمام الأنبياء
وأصغ بسمعك عن للنداء
اسمع صهيل الخيل في بدر
وقعقعة السيوف الراشفات من الدماء
لكأنني بالرمل يصرخ في وجوه الأشقياء
شاهت وجوه القوم خاب الأدعياء
وكأنني بالصوت جلجل في الفضاء
بشراك خير الأنبياء
صهوات خيل المشركين طريقهم نحو الفناء
فاصبر فإن الله يفعل ما يشاء
يا سائلا في ثغره اشتعل السؤال
أوما ترى عيناك وجه الشمس…..ناصية الهلال
قاف وراء
ألف لها مد ونون
هذي الحروف هي اليقين
هذي الحروف هي اليقين الحق يعصف بالظنون
نبع فأين الواردون
نهر صفا من كل ما لا يستسيغ الشاربون
قرآنكم يا مسلمون
قاف. قيم
راء . رقي في سماء المجد سعي للقيم
ألف . أباء في زمان الذل …أيمان برب الكون ..إخلاص شمم
نون . نقاء الروح من دنس التذلل للصنم
قاف وراء
ألف لها مد ونون
هذا هو الفجر الذي اكتسح الظلام
وأضاء درب السالكين إلى رحاب الخير في البلد الحرام
قد فاز من سلك الطريق إلى الأمام
عين ولام ثم ميم
ألف ونون
ياء مشددة وهاء
سيزول هذا الوهم في ظل العقيدة
ولسوف يعرف كل مغرور حدوده
ولسوف تبدأ أمتي بالحق رحلتها السعيد
د. عبد الرحمن العشماوي
================(14/110)
(14/111)
رجب طيب أردوغان.. من الميناء إلى البرلمان..
إسطنبول: إبراهيم بوعزّي
غلاف مجلة المجتمع العدد 1759
أردوغان شخصية جمعت الكثير من الصفات، لتكون نموذجاً فريداً يقود تركيا بلد المتناقضات إلى بر الاستقرار الاقتصادي وأحضان الاتحاد الأوروبي. يصفه العلمانيون بأنه "إسلامي رجعي"! ويبالغون إذ يرونه خطراً على النظام الجمهوري العلماني، وقد يتهمه بعض الإسلاميين بخدمة المصالح الأمريكية والتخلي عن بعض المبادئ الإسلامية.
لكنه يصف هو نفسه بأنه "رئيس متدين لحكومة علمانية"، ويعطي تعريفاً جديداً لمفهوم العلمانية الحقيقية التي من وظائفها حماية الدين والمتدينين لا محاربتهم.
طفولته وشبابه: ولد أردوغان عام 1954م، في حي شعبي فقير بالجزء الأوروبي من إسطنبول. كان أبوه عاملاً على ظهر سفينة تعمل في سواحل مدينة "ريزه" على البحر الأسود فعلّم ابنه الصبر ومكابدة الأمواج العاتية.
تلقّى رجب طيب تعليمه الابتدائي في مدرسة حكومية مع أبناء حارته في إسطنبول، فتعلم هناك اللهجة القاسية التي تظهر في تصريحاته وخطاباته الرسمية، ثم التحق بعد ذلك ب"معهد الأئمة والخطباء" لينهي المرحلة الثانوية بتفوق، وتعلم هناك الفقه والعقيدة والتجويد فتهذّب أسلوبه في الكلام والتفكير أكثر فأكثر.
الشيخ رجب
وخلال دراسته الابتدائية أطلق عليه أستاذه اسم "الشيخ رجب"؛ ففي درس التربية الدينية سأل المدرّس التلاميذ عمّن يستطيع أداء الصلاة داخل الفصل ليتعلم منه بقية الطلبة، فرفع رجب يده ليكون قدوة لزملائه في أداء الصلاة، شكره المدرّس وفرش له صحيفة على الأرض ليصلي عليها، فما كان من "رجب" الصغير إلاّ أن رفض الصلاة على الصحيفة لما عليها من صور لنساء سافرات، دهش المدرس لموقف الصبي وأثنى عليه وأعجب بذكائه وورعه، وأطلق عليه لقب "الشيخ"، قبل أن يدخل ثانوية الأئمة والخطباء.
بيع "السميد"
وعندما كان في الثانوية كان رجب "الطيب" يساعد أباه في إعالة إخوته؛ حيث كان يبيع نوعاً من الكعك معروفاً لدى الأتراك باسم "السميد"، كان يشتريه يابساً بارداً بسعر زهيد ليسخّنه في البيت على البخار حتّى يصير طرياًً مستساغاً، ثم يبيعه بسعر مناسب ينفقه على إخوته.
ولأنه من أصيلي البحر الأسود المعروفين بالمهارة في التجارة ولأنه تمرّس على العمل في سوق الحي، التحق وهو لم يتجاوز عقده الثاني بكلية الاقتصاد بجامعة مرمرة الحكومية، مع أبناء الطبقة الشعبية ليصقل موهبته التجارية دون إهمال هوايته المفضلة كرة القدم، حيث مارسها منذ طفولته في ثلاث فرق رياضية بإسطنبول، ولمدة ناهزت العشر سنوات، إلى أن تخرّج من الجامعة والتحق بالخدمة العسكرية كضابط احتياط.
وقبل أن يلتحق بالمعترك السياسي في السبعينيات من القرن الماضي عمل أردوغان مستشاراً مالياً لبعض الشركات الخاصة ومديراً لعدد من المؤسسات المالية.
صور من مراحل حياة أردوغان
قصة زواجه: يقول الكاتب الصحفي التركي "فهمي جالموق" في كتابه الذي ألفه عن مسيرة حياته(1): بدأت قصة زواجه من المناضلة الإسلامية في "حزب السلامة" "أمينة" عام 1977م إثر رؤيا رأتها فتاة من أصل عربي من مدينة سعرد جنوب شرق الأناضول، رأت البنت الناشطة آنذاك في "حزب السلامة الوطني" في المنام فارس أحلامها يقف أمام الناس خطيباً فتعجب به في منامها قبل أن تعرفه على أرض الواقع(2)، وبعد يوم واحد ذهبت أمينة مع الكاتبة الإسلامية "شعلة يوكسلشنلر" إلى اجتماع حزب السلامة فرأت نفس ذلك الشاب الذي رأته في المنام ثم تعرفت عليه، فإذا رجب ذو الأصول القوقازية من شمال شرق مدينة ريزه القريبة من جورجيا.
فتزوج الاثنان، واستمرت الحياة بينهما يسودها الحب والمودة، ووصلا إلى دفة الحكم في تركيا رغم الحجاب الذي ترتديه السيدة أمينة والذي يثير حفيظة الجيش والمعارضة العلمانية.
من "السلامة" إلى "الرفاه": تدرب رجب طيب على السياسة مع "حزب السلامة" الذي أنشأه البروفيسور نجم الدين أربكان، ورغم اهتمامه بالعمل السياسي منذ 1969م، إلا أن بدايته الفعلية للعمل التنظيمي كانت 1975م، حين اضطلع بقيادة الجناح الشبابي المحلي لحزب "السلامة الوطني"، الذي تأسس في 1972م بعد إغلاق حزب "النظام الوطني" وانتقال مؤسسه أربكان إلى سويسرا.
وقبل إغلاق الحزب كان قد تم اختيار أردوغان عضواً بالمجلس الإداري للإدارة العامّة للأجنحة الشبابية بحزب السلامة، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1980م.
وبعد إغلاق حزب السلامة وتأسيس "حزب الرفاه" ترأس رجب طيب أردوغان فرع الحزب الجديد ببلدة "بايوغلو" مسقط رأسه، وأحد أكبر بلدات الجزء الأوروبي من إسطنبول في عام 1984م، وسرعان ما سطع نجم أردوغان في "حزب الرفاه"، فأصبح رئيساً لفرع الحزب في ولاية إسطنبول في 1985م، ثم أصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب بعدها بعام فقط.
وفي الانتخابات البلدية التي جرت عام 1994م فاز أردوغان برئاسة البلدية المركزية لمدينة إسطنبول الكبرى.
أربكان.. القائد القدوة(14/112)
ومنذ كان رجب رئيساً لفرع "حزب السلامة" بولاية إسطنبول تعلق بشدة بقائده وقدوته نجم الدين أربكان، إلى حد أنه أطلق اسم نجم الدين على أحد أبنائه.
وكان أربكان يثق في أردوغان كثيراً ويرحب بكل من ينضم إلى الحزب عن طريقه، وكان الشيخ يؤيد أردوغان في أي تغيير يدخله على الحزب.. إلى أن حُلّ "حزب الرفاه" عام 1997م.
ومازال أردوغان يكن الاحترام والتقدير لشيخه أربكان حتّى بعد خروجه من السجن في 24 يوليو 1999م، إلى أن انفصل عنه عام 2001م ليؤسس "حزب العدالة والتنمية"(3).
محن سياسية
وككل قائد سياسي جريء، فإن السجن طريق لا بد منه ليعدل القائد من مواقفه ويعتدل ليتسلم مقاليد الحكم بشكل مشرف ونبيل.
لقد انزعجت بعض القوى العلمانية في البلاد ممّا ناله أردوغان من إعجاب سكان إسطنبول أكبر مدينة في تركيا عندما كان رئيساً لبلديتها، بسبب نجاحه الباهر في تقديم الخدمات البلدية وتنظيم حياة المدينة ومحاربة الفساد في الأسواق وتقديم المساعدات للمحتاجين والطلبة.
وأدّى ذلك إلى محاكمته وسجنه بموجب مادّة في القانون الجزائي تجرّم كل من يقوم بتأجيج مشاعر التفرقة العرقية أو الدينية في تركيا.
وقامت تلك التهمة على أساس أبيات من الشعر ألقاها أردوغان الذي يتمتع بموهبة فائقة في إلقاء الشعر بصوته الشجي، خلال أحد الاجتماعات العامّة لحزب الرفاه بمدينة "سعرد" جنوب شرقي الأناضول.
يقول الشاعر التركي ضياء كوكالب في تلك الأبيات: "المآذن رماحنا، والقباب خوذاتنا، والجوامع ثكناتنا، والمؤمنون جنودنا".
ورغم أن هذه الأبيات مدرَجة في الكتب المدرسية وتدرّس للطلبة في المدارس الحكومية، إلاّ أنها إذا خرجت من فم سياسي معارض تصير تهديداً لأمن البلد وزرعاً للفرقة الطائفية والدينية، كما ورد في نص التهمة التي واجهها أردوغان عام 1988م.
واعتبرت المحكمة أن تلك الأبيات تؤدي إلى إثارة المشاعر الدينية لدى المواطنين، تلك المشاعر التي طالما عملت الحكومات التركية المتعاقبة على كبتها ولكنها لم تنفجر يوماً بشكل همجي لتدخل البلاد في حرب أهلية أو طائفية. وحكمت المحكمة عليه بالسجن لمدة أربعة أشهر في ربيع 1998م، ممّا جعل منه بطلاً وطنياً في عيون الشعب التركي المتحمس آنذاك للمشروع الإصلاحي الإسلامي الذي قاده الشيخ أربكان(4).
حزب تجديدي
وكما يقال: "رب ضارة نافعة" فإن تلك الأشهر الأربعة عادت على رجب بالخير، فقد خرج من السجن بأفكار إصلاحية وأسلوب معتدل، فقد تخلّى عن اللهجة الحادّة، وأعلن عند خروجه من السجن مباشرة أنه "غير قميصه السياسي"، إلا أن المعارضة العلمانية اعتبرت تغيير القميص تقية، يهدف أردوغان من خلالها إلى السيطرة على أجهزة الدولة لقلب النظام والانقلاب على النهج العلماني(5).
ومازال هذا الفصيل لم يدرك المفهوم الحقيقي للعلمانية الذي يؤمن به أردوغان والذي شرحه في أكثر من مناسبة.
وبعد خروجه من السجن بأشهر قليلة قامت المحكمة الدستورية في 8 مايو 1999م بحل "حزب الفضيلة" الذي قام بديلاً عن "حزب الرفاه"، فانقسم نواب "حزب الفضيلة" إلى جناحين، جمع الجناح الأول من تبقى من النواب المحافظين في "السعادة" الذي لم يتمكن من دخول البرلمان عقب انتخابات 2002م، لعدم حصوله على 10% من أصوات الناخبين.
أما التجديديون من الشباب، مثل رجب طيب أردوغان وعبدالله جول. فقد أسسوا حزب "العدالة والتنمية" بقيادة رجب طيب أردوغان، في 14 أغسطس 2001م، أي بعد حوالي شهر من تأسيس الجناح الآخر لحزب السعادة.
انتصارات مجتمعية للعدالة
وخاض "حزب العدالة" الانتخابات التشريعية في 2002م، وفاز ب363 نائباً، محققاً بذلك أغلبية ساحقة مكنته من تشكيل حكومته الحالية التي لم يترأسها بنفسه بسبب تبعات الحكم السابق الذي قضى من أجله أشهراً في السجن، ولذلك فقد أوكل مهمة رئاسة الحكومة إلى وزير الخارجية الحالي عبدالله جول في 16نوفمبر 2002م، حتى 14 مارس من نفس السنة، وحين سقط عنه الحكم بعدم ممارسة السياسة، تسلم أردوغان رئاسة الحكومة التركية.
وكان فوز "العدالة والتنمية" حدثاً تاريخياً بالنسبة إلى البرلمان التركي الذي لم يشهد حكومة حزب واحد منذ سنة 1987م. وكان "العدالة والتنمية" قد حصل في تلك الانتخابات على 363 مقعداً في البرلمان في حين لم يحصل "حزب الشعب الجمهوري" ممثل القوى العلمانية إلا على 179 مقعداً.
أردوغان لاعب كرة قدم
وظهر أردوغان بحزبه الجديد في فترة عرف فيها الشعب التركي حالة من اليأس والإحباط من الحياة السياسية، خصوصاً بعد الفضيحة التي شهدها مجلس الأمن التركي في 2001م، حيث ألقى رئيس الحكومة آنذاك بكتيّب الدستور في الهواء ممّا أفقد ثقة الشعب فيه وفي كافة الأحزاب السياسية.
إعادة الثقة في الدولة والدستور(14/113)
ظهر أردوغان في تلك الفترة ليعيد الثقة إلى الشعب التركي في الدولة ومؤسساتها. جاء هذا الأمل الجديد بعد يأس المواطنين من العملية الديمقراطية التي تتوقف كلما ظهر الإسلاميون على الساحة السياسية حيث تم إسقاط حكومة أربكان وإغلاق حزب الرفاه والفضيلة.. وكادت البلاد تتحول إلى جزائر ثانية؛ بفعل الاحتقان والغضب الشعبي من تدخل العسكر في السياسة.
الهوامش
www.habe r tu r k.com (1)
13يونيو-حزيران 2001
(2) صحيفة الحرية 16-11-2005م.
(3) صحيفة كوندم 14 أغسطس 2001م.
(4) صحيفة حريات 22-4-1998م.
(5) نشرت صحيفة "الزمان" التركية في عددها الصادر 27 نوفمبر 2006 اتهامات من رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري كمال أناضول لأردوغان بأنه "حتى وإن غير قميصه فإن القماش واحد" أي أنه مازال يحمل أفكاراً إسلامية ووصف فيها حزب العدالة والتنمية بالعصابة السياسية.
==============(14/114)
(14/115)
مسيحيو تركيا يفضلون حزب العدالة والتنمية
أكد الزعيم الروحي للأرمن الأتراك البطريرك "مسروب الثاني" الذي يقيم في إسطنبول أن معظم المسيحيين الأتراك سيصوتون لصالح حزب أردوغان خلال الانتخابات المقررة 22 يوليو المقبل، واعتبر مسروب خلال حواره مع مجلة "دير شبيجل" الألمانية الأسبوع الماضي حزب العدالة والتنمية أكثر اعتدالاً في تعامله مع الأقليات وأكثر إنصافاً للمسيحيين..
يذكر أن حزب العدالة والتنمية يحظى بشعبية كبيرة لدى الأقلية المسيحية في البلاد والتي تفضله على الأحزاب الأخرى الأكثر علمانية وقومية..
وفي سياق متصل يقول حنا بيبيك (76 عاماً) أحد الذين استطلعت "دير شبيجل" آراءهم: إن الحكومة قدمت الكثير لهم وتحظى بشعبية في أوساطهم لأنها تظهر لهم ولدينهم كل الاحترام. أما عميد القرية بيرك كارتون (45 عاماً) فرأى أن حزب العدالة والتنمية حاول أن يساعد الأقليات بينما اكتفت أحزاب أخرى بالكلام.
============(14/116)
(14/117)
الجواب عن شبهات الداعون إلى علمانية العاصمة القومية
د. عبد الحي يوسف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فإن طرح الشبهات وإيراد المشكلات دأب أهل الضلالة من قديم، يفعلون ذلك صداً عن سبيل الله واستجابة لداعي الهوى في نفوسهم التي جبلت على الإعجاب بالرأي وإيثار العاجلة على الباقية، وفي القرآن الكريم نماذج لبعض تلك الشبهات التي طرحها المشركون الأولون على الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كقولهم: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)، وقولهم: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)، وقولهم: (أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر)، وقولهم: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وجماع ذلك قول الله في القرآن: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، قال أهل التفسير: نزلت الآية فيمن اعترضوا على تحريم الميتة بقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم ما قتله الله حرام وما قتلته بيدك حلال؟ وقوله سبحانه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، وهم في هذا كله يدّعون أنهم أهل استقامة وسداد وأنهم يرومون الخير للناس: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
وهاهنا نعرض لبعض هاتيك الشبهات التي يروِّج لها الداعون إلى علمانية العاصمة القومية:
[1] قولهم: إن في العاصمة ناساً يدينون بغير الإسلام وفي الحكم بالشريعة تضييق عليهم:
والجواب : أن وجود غير المسلمين في مجتمع يحكم بالإسلام ليس وليد اليوم، ولا هي مشكلة طارئة تحتاج إلى بحث، بل منذ أن بعث الله نبيهمحمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وقامت للإسلام دولة في المدينة، وغير المسلمين ـ من اليهود وغيرهم ـ موجودون يعيشون بين ظهراني المسلمين ويمارسون شعائر دينهم؟ فما الجديد إذن؟ ومتى كان وجود الأقلية في أي مكان أو زمان يمنع الأغلبية من أن تطبق دينها؟ وهل عهد في تاريخ الإسلام كله إجبار غير المسلم على الدخول في الإسلام؟
يقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: "وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون ـ الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة ـ أن النظم والديانات ليست مما يفرض قسراً فعاملوا ـ كما رأينا ـ أهل سورية ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم نظمهم وقوانينهم ومعتقداتهم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم".
وغير المسلمين ـ تحت حكم الإسلام ـ في حمايةٍ من كل ظلم داخلي أو اعتداء خارجي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه كنت أنا خصمه يوم القيامة))، بل إن الثابت ـ واقعاُ وتاريخاُ ـ أن المسلمين كانوا هم المتضررين من تطبيق غيرهم ما يحسبونه ديناً، حيث عانوا في القديم من محاكم التفتيش في الأندلس ـ وقد اعترف بذلك مفكرو الغرب ومؤرخوه ـ وفي التاريخ الحديث ما أمر البوسنة وكوسوفا عنا ببعيد؟ ونقول أيضاً: إن الالتزام بالتشريع الإسلامي لا يمس حقوق غير المسلمين؛ لأن الإسلام كفل لهم حرية الاعتقاد وتطبيق تشريعهم في الأحوال الشخصية، ومن المعلوم للكافة أن الإنجيل ليس فيه أحكام تشريعية في المسائل المدنية والتجارية، ولهذا يأخذ النصارى في كل دولة بتشريعها في هذا المجال، فضلاً عن ذلك فالقوانين الدولية قد تواترت على إقليمية التشريع في جميع التشريعات إلا في مسائل الأحوال الشخصية، وبمقتضى ذلك يخضع الشخص لقانون الإقليم الذي يعيش فيه.
ثم ماذا يضير النصارى أن تمنع الخمور ويحظر الفجور ويلغى الربا ويحارب البغاء؟ هل يزعم أحدهم أن ديناً نزل من السماء يبيح شيئاً من ذلك؟ اللهم لا. لكن منطق الإستبداد الأرعن الذي تمارسه أمريكا على سائر الأمم هو الذي يحملها ـ ومن وراءها من الأذناب كحركة التمرد ـ على أن يحاولوا منع المسلمين من تطبيق شرائع دينهم تحت ذرائع شتى، والحال كما قال ربنا: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، لكن العجب العاجب هو أن يرضى بعض من ينتسب إلى الإسلام لنفسه أن يكون مروّجاً لمثل تلك الأباطيل، واضعاً في طريق سيادة الشريعة شتى العراقيل.
[2] قولهم: إن تطبيق الأحكام الشرعية يحرم العاصمة من مجيء السائحين، وترك الأحكام الشرعية يجعلها عاصمة جاذبة:(14/118)
والجواب: أن العقلاء وأهل المروءة متفقون على أن الغاية لا تبرر الوسيلة وأن ما عند الله لا يطلب بمعصيته، وقد قال العرب الأوّلون: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها". ثم من الذي يقول: إن العاصمة لا تكون جاذبة إلا إذا أبيح فيها الحرام؟ لو أنصفوا لقالوا: إن الواجب علينا أن نرعى الأخلاق، ونحفظ حدود الله من أن تضيّع فنحلّ الحلال ونحرّم الحرام؛ حتى يأتي إلينا السائحون الملتزمون وهم آمنون على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولو أنصفوا لقالوا: إن الواجب أن تتضافر الجهود لترقية الخدمات وتأمين الماء والكهرباء، وتعبيد الطرق وتوسعة المطارات وتجميل المسارات وإنارة الشوارع حتى تكون الخرطوم عاصمة جاذبة، بدلاً من الدعوة إلى العلمانية المنكرة التي تبيح ما حرم الله فنكون ممن لم يحفظ ديناً ولم يصلح دنيا، (وشر الناس من خسر الدنيا والآخرة)، ونذكّر أنفسنا وهؤلاء بقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم ((ولا يحملنكم طلب الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله))، ومن التاريخ القريب يعلم المنصفون أن الخرطوم كانت يوماً ما ـ بوجهها الشائه وخدماتها المتردية ـ عاصمة الموبقات المهلكات فهل جذب ذلك السائحين إليها؟ أو فتح أبواب الرزق عليها؟ اللهم لا هذا ولا ذاك. لكن..
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
ثم ألا يعتبر هؤلاء بحال أمم سارت في ذات الدرب فلم تحصد إلا المرّ والعلقم، فلا أزماتها الاقتصادية حلّت، ولا وحدتها الوطنية حققت، ولا مشاكلها الأمنية زالت، بل زادت، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى).
[3] قولهم: إن الاستمساك بهذا الأمر ـــ أي تطبيق الشريعة في العاصمة ـــ يفوّت فرصة تحقيق السلام الذي بات وشيكاً بزعمهم:
والجواب : أن أهل الإسلام مجمعون على أن حفظ الدين مقدّم على حفظ النفوس والأعراض والأموال والعقول؛ وعليه فلو كان السلام في مقابل التنازل عن أحكام الله عز وجل فنقول: لا حيّاه الله ولا سقاه ولا مرحباً به ولا أهلاً، وحسبنا أن نذكّر أنفسنا؛ لتكف عن طاعة المبطلين، بتلك الدماء الزكية التي نزفت على أرض الجنوب والشرق لتكون كلمة الله هي العليا، فهل كان ذلك ليأتي آتٍ بعد زمان قريب ليقول: لابأس بالتنازل عن الشريعة في العاصمة من أجل تحقيق السلام، ولو أن امرءاً رضي لنفسه أن يتنازل عن دينه لينال سلاماً متوهماً؛ فلن يبالي بعد ذلك بالتنازل عن عرضه، ومن تتبع تاريخ المتمردين وزعيمهم في نقض العهود ازداد يقيناً بقول الله في القرآن: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)، وبقوله سبحانه: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)، ومن أعطى الدنية في دينه فرضي بتغييب الشريعة في العاصمة اليوم فسيرضى بتغييبها في غيرها غداً.
[4] قولهم: إن علمانية العاصمة علاج للأوضاع وحماية لها من التعصب الديني:
والجواب : هو أن العلمانية ما كانت في يومٍ من الأيام علاجاً للتعصب الديني أو الطائفي أو العرقي، ومن كان في شك من ذلك فليرجع إلى تاريخ بلاد ارتضت العلمانية مبدأً ومنهجاً من قديم ـ كالهند ولبنان وتركيا ـ هل حالت العلمانية دون قيام مذابح الهندوس ضد المسلمين في الهند؟ أم حالت دون قيام الحرب الأهلية التي استمرت سنين عدداً في لبنان؟ أم حالت دون اضطهاد الأكراد في تركيا؟ والتاريخ شاهد بأن حرب الجنوب قامت قبل أن تطبق الشريعة سواء في ذلك التمرد الأول أو الثاني، بل إننا نقول إن المسلمين هم الخاسرون من تطبيق هذا المبدأ الفاسد حيث عهدنا في أكثر البلاد علمانية ـ كفرنسا مثلاً ـ أن تمنع الفتاة المسلمة من ارتداء حجابها في المدرسة، وفي تركيا تمنع نائبة في البرلمان من الدخول إليه إلا بعد خلع حجابها فأين العلمانية هنا؟ إن علاج التعصب لا يكون إلا بنشر الوعي وبث العلم وتربية الناس على فن الحوار مع الغير واحترام النظام وأدب الكلام، ولا أنفع ولا أطيب ولا أحسن من هدي القرآن في ذلك، (وجادلهم بالتي هي أحسن)، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (لا إكراه في الدين)، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولو أنصفوا لقالوا: إن العلاج يكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، ورفع الظلم وبسط العدل بتطبيق الشريعة.
[5] قولهم: إن العلمانية هي المبدأ السائد الذي يحكم العالم الإسلامي كله، وما ينبغي أن نكون نشازاً بين الناس:(14/119)
والجواب : أنه قد أجمع علماء المسلمين من قديم على أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، وأنها حجة عليهم لا العكس، وقد قال الله عز وجل في القرآن: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، وقال: (وإن كثيراً من الناس لفاسقون)، (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم)، وأخبرنا رسول ا صلى الله عليه وسلم أن الإسلام ستنقض عراه عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة، وأخبرنا أن الكتاب والسلطان سيفترقان وأمرنا ألاّ نفارق الكتاب، ثم أي عقل هذا الذي يحكم على المكلّف بأن يدع تعاليم دينه ويهمل شريعة ربه ويكون إمعة لأن الناس أو أكثرهم فعلوا ذلك؟ وقد علم الناس أجمعون أن العلمانية ما حكمت العالم الإسلامي برضى المسلمين ولا مشورتهم، بل فرضت بقوة الحديد والنار عن طريق الانقلابات العسكرية التي قام بها أذناب المستعمر ومن ثم مارسوا التضييق على الدعوة وأهلها، وعمدوا إلى تغييب الدين عن حياة المسلمين، ومنذ أن طبقت ما عرف المسلمون تقدماً ولا رقياً بل إن أعرق البلاد المسلمة علمانية ـ وهي تركيا ـ صار همُّ ساستها اللهاث خلف أوروبا، والتوسل من أجل أن يمنحوا عضوية في الاتحاد الأوروبي، وفشلوا في ذلك رغم قول قائلهم من قديم: "لا بد أن نأخذ بحضارة الأوروبيين حتى النجاسات التي في أمعائهم والأوبئة التي في أكبادهم".
[6] قولهم: إن الدين لله والوطن للجميع، فلا بد أن يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات:
نقول: بل الدين لله، والوطن لله، والحكم لله، والخلق عباد الله، (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)، وماذا يضير غير المسلمين في أن تحكم الأغلبية بشريعتها وترجع إلى أحكام دينها في الأمر كله؟ ثم ماذا لو حدث العكس وكان المسلمون هم الأقلية هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟ وهاهم المسلمون يعيشون في البلاد الكافرة ـ في أوروبا وأمريكا ـ ويخضعون لأنظمة وتشريعات تتعارض مع بدهيات دينهم، ولا يجرؤون على المطالبة بتغييرها أو تعديلها، ولو فعلوا لقيل لهم: هذا هو حكم الأغلبية، إنه لا يقبل شرعاً ولا عرفاً بل ولا ديمقراطياً ـ وهم أكثر الناس تشدقاً بالدعوة إليها ـ أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لا سيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات. ثم لماذا يتخلى القوم عن علمانيتهم القاضية بأن القانون الحاكم يجب أن يكون نابعاً مما ترتضيه الأغلبية؟
[7] قولهم: إننا متدينون نصلي ونصوم ومع ذلك نعتقد أن العلمانية هي العلاج الناجع والدواء الشافي:
نقول: إن العبادات والتشريعات وأحكام المعاملات من عند الله ولا يد فيها للبشر، والإسلام كل لا يتجزأ، فليس مسلماً من قال: أصلي على نظام الإسلام وأتخذ منهجاً سياسياً على نظام ميكافيللي، ونظاماً اقتصادياً ماركسياً، كيف يكون الشخص متديناً وهو يرفض حكم الله وحكم رسوله، وصريح القرآن يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)، ويقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)، وهذا الفهم المغلوط للتدين هو الذي حمل بعضهم على أن يحج ويعتمر وينتسب إلى بيوتات دينية، ثم لا يبالي بالجلوس على مائدة يدار فيها الخمر أو يراقص الفتيات؛ لأن التدين في فهمه الكاذب الخاطئ قاصر على جانب الشعائر وحدها ولا علاقة له بمعتقد أو سلوك.
[8] قولهم: إن في تطبيق العلمانية ضماناً لعدم استغلال الدين في أغراض سياسية:
ولغرابة هذه الشبهة فإننا نستعمل معهم الدَّوْر فنقول: علينا ألا نطبق العلمانية لنضمن ألا تستغل في أغراض سياسية، وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. هل يعقل أن يمنع المسلمون من تطبيق أحكام دينهم بدعوى عدم استغلاله، ثم يجبرون على نظام مستورد يخالف دينهم وعقيدتهم بل يخالف رغبتهم واختيارهم؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون.
إن العلمانية ضد الدين لأنها لا تقبل التعايش معه كما أنزله الله بل تريد إقصاءه عن الحياة وحصره في زاوية ضيقة منها، إنها ضد الدين لأنها تريد أن تأخذ منه ما يوافق هواها وتعرض عما يخالفه، ولأنها تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)، إنها ضد الدين لأنها تتعالم على الله عز وجل وتقول له: نحن أعلم منك بما يصلح للناس والقوانين الوضعية أهدى سبيلاً من حكمك.(14/120)
إن العلمانية ضد إرادة الشعب في السودان كما أنها ضد إرادة المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والقاعدة العريضة من مثقفي الأمة ـ الذين هم أنضج وعياً وأزكى خلقاً وأقوى إرادة ـ لا يبغون غير الله حكماً ودينه شرعاً.
[9] قولهم: إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تستوعب ملايين القضايا والمشاكل الإنسانية المعقدة، أو أن تقدم حلولاً جاهزة لكل ما يستجد على مسرح الحياة:
والجواب: أن هذا التصور قائم على أساس أن الدين ثابت لا يتغير, وأن الحياة في تغير دائم، وأن الحكم بالأسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة، وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده، فقد شرع الله تعالى للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت الله عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حراماً. قال الله تعالى: (وقد فصّل لكم ما حرم عليكم)، وقد أوضح صلى الله عليه وسلم أن الله سكت عن أمور رحمة بنا غير نسيان، وقال صلى الله عليه وسلم ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)).
فأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية منها ما هو ثابت محكم، ومنها ما هو متجدد مرن، فالأسس والقواعد الكلية التي تشكل الإطار العام تتسم بالثبات والإحكام، وهي تلك التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتاً ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات، والفروع الجزئية والتفاصيل المتعلقة بالكيفيات والإجراءات ونحوها تتسم في أغلبها بالمرونة والتجدد، ويكفينا قول الله عز وجل: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
إن المشكلة لا تكمن في وفاء الشريعة بحاجات الإنسان ومصالحه الحقيقة، ولكنها تكمن في كبحها لجماح الأهواء، ووقوف أحكامها عقبة في وجه دعاة العربدة والتحلل، إن أهل الفجور يتهمون الشريعة بالجمود لامحالة؛ لأنها لا تساير ما في نفوسهم من الشهوات والأهواء. فلا تبيح لهم الخمر ولا الرقص المختلط، ولا الردة ولا التبعية لكفار الأرض، ولا ترويج بضاعة المستشرقين باسم الفكر الإسلامي ولا تزييف التاريخ باسم حرية البحث، هذه هي المشكلة حقاً.
المصدر : شبكة المشكاة الإسلام
==============(14/121)
(14/122)
العلمانية إلى أين ؟
محمد جلال القصاص
في استطلاع للرأي أجري في أمريكا قبل الإنتخابات الأخيرة بثلاثة أشهر تقريبا وجد أن 70 % من الأمريكيين المسجلين على قائمة اللوائح الانتخابية الأمريكية قالوا : إن الرئيس الأمريكي المقبل يجب أن يحدد سياسته بناءا على قناعات دينية ( المجتمع العدد 1627 ص 28 ) .
وفي الانتخابات الأخيرة رأينا عقد ما يشبه المؤتمرات الانتخابية في الكنائس ، وتصويت جماعي من المنظمات الدينية لجورج بوش .
ولم يستطع كيري الثبات على خطابه العلماني الذي ابتدأ به حملته الانتخابية فأخذ هو الآخر يتلو ما يحفظه من وصايا ( الرب ) ويزور الكنائس .ورأينا المناظرات الأمريكية بين المرشحين تنتهي بدعوات مثل " فليحمِ الرب أمريكا " .
نعم اختيار الشعب الأمريكي بوش تعبير واضح عن صحوة دينية لدى الشعب الأمريكي .
والأمر ليس خاص بأمريكا وحدها وإنما بكل عباد الصليب وفقط أشير اشارات إلى مظاهر هذه الصحوة.
على المستوى الرسمي ( الحكومات) .
في فرنسا التي تتشدق بالعدل مُنع الحجاب في المدارس والجامعات ، وبريطانيا جنبا إلى جنب مع أمريكا ـ والأمر لا يتعلق بشخص "بلير " كما يحلو للبعض أن يصوره . بل بمن اختار بلير فترتين متتاليتين ومن سكت عليه أعني الشعب بعد كل ما اقترف فهذا كله تعبير واضح عن وجه الشعب البريطاني المعادي للإسلام ـ. وأوروبات جميعها لا تريد تركيا ـ وهي بعلمانيتها كما هي ـ فقط لكونها تحمل الهوية الإسلامية تاريخيا. أقول :وجه أوروبا الصليبي لا يخفى على أحد ولكنه متوارى خلف السيطرة الأمريكية , وإلا فأين أوروبا مما يحدث للعالم الاسلامي ومصالحها مرتبطة به ؟! .
وانحسار العلمانية على مستوى الأفراد والمؤسسات الأهلية أوضح :
فقد رأينا الدبابات الأمريكية على أبواب الفلوجة ترفع الصليب ، ومعها الرهبان والحاخامات .
ومن قبل رأينا قطعان المنصرين وهي تقف خلف الجيش الأمريكي تنتظر إرهاب هذا الشعب وتجويعه لتقوم بتنصيره .
ومن يقرأ عن التنصير المنتشر كالجراد في بقاع العالم الإسلامي التى تعاني من الفقر وما يصرف عليه وما تقدمه دول الغرب من تسهيلات لهؤلاء الضالين المضلين يعلم أن الأمر ليس عملا فرديا أو محدودا بل توجه عام لدى هذه الأمم ورغبة جاده في هدم كيان الإسلام " والله متم نوره ولو كره الكافرون "
بل ومِن قراءة أولية لنجاح بوش في الانتخابات الأخيرة يتبين أن الشعب الأمريكي اختار بوش الصغير وهو يعرف تماما توجهه الديني المتشدد ، وأنه يتجه إلى تقليص حريتهم المزعومة بموقفه السلبي من الشواذ وموقفه الداعم للتعليم الدين ( المسيحي ) في المدارس وموقفه الإيجابي من الإعدام ، اختار الشعب الأمريكي بوش الصغير ولم يلتفت إلى ما حلَّ به من مصيبة إقتصادية حيث تحول فائض الموازنة في عهد كلينتون من 463 مليار دولار تقريبا إلى عجز بلغ 1200 مليار دولار في آخر فترة بوش الأولى . ولم يتأثر الشعب الأمريكي بارتفاع أسعار النفط وزيادة معدل البطالة ، نعم اختاره وهو يعلم تماما أنه يرفع حربا صليبية على الإرهاب ـ الذي لا يعني في حس الشعب الامريكي إلا الإسلام ـ .
ولا يقول أحد أن بوش لم يأخذ إلا ما يزيد عن النصف قليلا من أصوات الشعب الأمريكي . فلم يكن الشعب يختار بين ضدين ( بوش وكيري ) بل متماثلين يختلفان في الوسائل لا الأهداف . وهم اختاروا الأشد .
وليس يجدي ما يذهب إليه البعض من تبرئة الشعب الأمريكي والشعوب الغربية عموما بدعوى أن هذا كله بسبب التضليل الذي تمارسه القيادة عليهم من نقل صورة مشوهة لهم عن الإسلام وأهله .
أقول : هذا تفسير وليس تبرير , فالحال هكذا منذ كانت الدنيا . والقرآن يخبرنا بأن الملأ الذين استكبروا يمكرون على شعوبهم "...قال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا ..." " قالوا إنكم كنتم تنأتوننا عن اليمين ", وجهنم تجمع الصنفين . ولا ييظلم ربك أحدا.
وما يعنيني في هذا التقرير هو أن المد الديني عند النصارى في كل بقاع العالم يتزايد مما يشي بأن طور العلمانية قد آذن بالانتهاء وأن الصراع قد بدأ يعود عَقَدِيَّا كما كان .
هذا على صعيد النصارى .
وغني عن القول أن اليهود تُحركهم معتقدات توراتية وأنهم ما جاؤا لفلسطين إلا لتحقيق نبوءات توراتية يشهد لذلك عَلَمُهم ذو .الخطين الأخضرين.( النيل والفرات ) , وخارطة إسرائيل الكبرى على الكنيست ( الإسرائيلي ) والعملة اليهودية تشهد بذلك .
ومشكلة المشاكل التي استعصت على الحل طوال قرن أو يزيد من الزمان أعني الشرق الأوسط لاتعني عند اليهود والأمريكان إلا (إسرائيل الكبرى ) ... ( مملكة الرب ) التي عاصمتها القس وحدودها النيل والفرات وأجزائها التي لا تتجزأ منها القدس والطور(طور سيناء )، وكل اليهود على قولة واحدة وهي : أنه لابد من (مملكة الرب .. إسرائيل الكبرى) . ويشاركهم في هذا الإنجليين من النصارى بوش ومن معه ، وعند الشيخ الدكتور عبد العزيزمصطفى كامل في كتاب ( حمى سنة 2000 ) ما ينِّور العقول ويشرح الصدور لمن أراد أن يستيقن أو يستزيد .(14/123)
أما المسلمون فـ (الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة ).والملاحظ أن المد الدعوي يتزايد يوما بعد يوم ، فالقومية العربية رحلت ودارت عليها عجلة الأيام ، وها هي ذا الأجيال الناشئة تلعنها بعد أن أضاعت المقدسات وأهدرت الثروات ولم تنتصر على عدو قط ؛ بل لم يكن لها عدو إلا أبناء أمتها ممن قالوا ربنا الله .فاليوم بعد أن خزلت العراق ( الشقيق ) ووضعت يدها في يد اليهود ولم تعد تشجب مايحدث بمجرد الكلمات وبعد وقوفها في صف من كانوا أعدائها حربا على أبناء دينها وبعد أن أفلس منظريهم ولم يعد عندهم مشاريع فكرية جديده يضحكون بها على العوام لم تعد تثق فيهم الجماهير ولا فيمن ينتسب إليهم من علماء الدين ( الرسميين ) ،. وبدأت الجماهير تنفض أيديها منهم وتصغي إلى الخطاب الإسلامي .
فالعلمانية في الأمة الإسلامية شدت رحالها ، ولم يعد إلا إرهاب السلطان وعربدة الأقلام التي تحتمي بحمى القانون . كل هذا جعلني أقول : أن طور العلمانية في طريقه للأفول ، وأنها ستعود كما بدأت .. إيمان وكفر .
===============(14/124)
(14/125)
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى ...
د.سعد بن عبدالله البريك
حتى تطالب بعزل الدين عن كثير من شؤون الحياة ، وحتى تتبرَّم من '' سيادة الشريعة '' مندداً بصوت جهوري '' إلى متى يبقى المجتمع خاضعاً للونٍ واحد ولفكرٍ واحد'' ، ''أين التعددية ''؟.
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تعمل على '' كسر الثوابت '' و'' خلخلة المسلَّمات '' ، بـ '' حرية الرأي '' واحترام '' الرأي والرأي الآخر '' لتوجِد لنفسك أرضية تستطيع الانطلاق منها ما دام رأيك نقيض الشريعة .
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تقبل التعامل بمصطلحاتهم ولا تطالب بتحديد مقاصدها ، ولك بهذا أن تمرَر تحت '' حرية الرأي '' و'' قبول الرأي الآخر ''كل ما يخالف الشريعة .
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تهاجِم الدعوة إلى الله باستمرار وتحاول أن توهم الناس أن '' الدين هو سبب تخلفهم وانحطاطهم ''، ولا بد من نبذه ظهرياً للسير في ركب الحضارة والتقدم .
ولأجل ذلك لا بد أن تحسن '' استغلال الأحداث'' وأن تعرف '' من أين تؤكل الكتف '' وأن تكون صياداً ماهراً لتتمكن من '' الاصطياد في الماء العكر '' فإذا قام أهل الضلال والانحراف بأعمال تفجير أو قتل ، عليك استغلال هذه الحادثة لمهاجمة حلقات ومدارس تحفيظ القرآن ومكاتب الدعوة وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنها سبب ذلك وأنها '' تزرع وتُفرَخ الإرهاب '' في رؤوس رُوَادِها .
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تهاجِم العلماء بأنهم '' علماء السلطان'' و''لا مصداقية لهم'' ، وأنهم في ''أبراجهم العاجية'' لا يعيشون نبض المجتمع ولا يتفاعلون مع مشكلاته ، وحتى تزرع إسفين الفُرقة بينهم وبين الدعاة بتصوير هؤلاء الدعاة أنهم دعاة تطرف وفتنة وخروج على ولاة الأمر ، فإذا زرعتَ هذا الإسفين بينهم ؛ اختلفوا وتنافروا وسقطوا من أعين الناس ، وحينئذ تستطيع اصطياد العامة والبسطاء من الناس .
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى يكون ولاؤك وحبك للغرب وحضارته بعُجَرها وبُجَرها ، وحتى تنافِح ما استطعت عنها ، وتعمل على تسويق قيمها ومُثُلِها ، وإن لم يبادلك الغربيون الشعور بالحب لك أو السعي لتسويق قيم ومفاهيم حضارتك وثقافتك ، وعليك المحافظةُ على هذا الولاء حتى ولو ''شتموا دينك'' و''أهانوا قرآنك'' و''قتلوا بني جلدتك'' و''اغتصبوا النساء'' و''احتلوا الديار'' و''نهبوا الثروات'' ، وليكن ''تحريك الشهوات وإثارة الغرائز '' سلاحك الماضي لتسويق التغريب ، وإذا ترافق مع هذا السلاح تهميش الدين من الأنفس وانتقاص العلماء والدعاة ، سهُل عليك إيقاع الناس في فخ ''التغريب'' .
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تكون دائم التأهب والترقب فإذا بان من عوار الغرب شيء ، فعليك أن تبادر إلى ستره وتغطيته ، حتى ولو '' سَبَّ نبيك r واستهزأ به '' وَوصفَه بأشنع الأوصاف ، لأن '' العالمية '' تقتضي منك أن تتجاوز الإقليمية والصراعات الدينية.
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تُغْفِلَ قضايا المسلمين الأساسية والملِحَّة ، وتعمل على تهميشها إلى أقصى حد ممكن ، لأن في تفعيلها إيقاظا للناس.
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تهاجِم المناهج مدعياً أنها '' تربي الطلاب على الإرهاب '' ، وأنها '' تحشو ذهنه بما لا فائدة منه ''. وإذا كان لديك إلمام جيد بإحدى اللغات الغربية ، قُمْ بترجمة مقاطع من هذه المناهج وأرسلها إلى الدوائر المعنية هناك ، لإقناعهم بأن مناهجنا ''تؤسس الكراهية ضد الآخر ''. وليكن تركيزك على مناهج بلادك ولا تتطرق لغيرها، حتى مناهج اليهود التي تنضح بالعنصرية والكراهية والدموية ، لا تقرَبْها لأن ذلك لا يخدم مخطط ''التغريب ''.
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى تعلم أن كلمة السر للفوز بمحبة القوم هي ''المرأة '' فاعمل على تسخير قلمك للنيل من حجابها موهماً أنه '' تقييد لحريتها'' ، وأنه '' كفن أسود أجبرت عليه وهي لا تزال على قيد الحياة '' ، وعليك أن تدندن حول '' حقوقها المهضومة '' ، سيما حقها في العمل السياسي وغيره وحقها في عدم الانفصال عن ''النصف الآخر '' ـ الرجال ـ وحقها في أن تكون حرة في كشف ما تشاء من جسدها . وعليك أن تتجاهل عمداً حقوقها المشروعة كحقها في الحياة الكريمة وحقها في الحصول على ما أوجب الله لها من الإرث ، وحقها في الزواج ممن تختار دون إكراه ، وحقها في مالها دون أن يسطو عليه أحد ، واحذر من إثارة هذه المشاكل لأن ذلك يهمش القضايا التي يدندنون حولها ويفسد دعوى '' تحرير المرأة ''.
وختاماً حتى يرضى عنك العلمانيون ، لا تحرج ''أمريكا في الكيل بمكيالين ''ولا تتحدث عن '' مفاعل ديمونة '' ولا تسكت عن نزع السلاح النووي في المنطقة ولا تذكر أسرى ''غوانتانامو'' ولا تتحدث عن الاضطهاد والاغتصاب والتعذيب في ''أبو غريب '' ولا تفتح صفحة العذاب المنسية في أفغانستان ، وكن حذراً قوي الشك من كل من رفع رأسه بالسنة وحفِظَ سمتَهُ في الالتزام بها .
هذه هي '' الخلطة السحرية '' الكفيلة بجعلك محبوباً عند دعاة التغريب، وعلى قَدْرِ مهارتك في تحضير هذه الخلطة يكون نصيبك من الود والقُرْب.(14/126)
وإذا فعلت هذا كله أحبك كل منافق شرح بالكفر صدراً ، وجهر بالدعوة إلى هدم المكتسبات جهراً ، وأبرم مع الأعداء في السر أمراً ، ولاكَ لسانه في المصلحين كذباً ومكراً ، وتقرب بدعوى النصح سوءاً وغدراً .
والمسكين من صدَّق وعودهم أو وثق بهم أو ركن إليهم فَمَثُلاتِهِم في رفاقهم معلومة ، ومن حمل الأفاعي في مَزَّادته فلا يعجبنَّ مِن غرائب سُمَها
===========(14/127)
(14/128)