أما الصورة الاستعمارية للعلمانية، فتبدو بشكل متوحش قاتم مع الشيوعية، فقد كانت ثورة 1917 علمانية خالصة، جعلت منها (العلمانية) منهجا يقينيا قطعيا، لا يتحصن إلا باستئصال الآخر، فتمركز في العالم بالقهر العسكري، والإبادة، والقتل بالتفصيل وبالجملة.
وكذلك فرنسا حين اختارت العلمانية بطريقة دستورية شرعية عام 1905، كانت أطاحت بشعارات الجمهورية الثلاثة، وهي: الحرية والأخوة والمساواة، بإزاء شعوب الهامش التي عسكرتها، وراحت تمارس عليها بشاعتها الاستعمارية بشتى وسائل القمع حتى نُعِتت الجزائر ببلد المليون شهيد، هم قتلى الجيش العلماني.
ونتيجة لهذا، فإن تونس لم تستقل إلا عام 1956، ولكن إجلاء القوات الغازية لم يقع إلا عام 1963 ببنزرت. وكذلك استقل المغرب عام 1956، ولم تحصل الجزائر على سيادتها إلا في 1962.
إن منظومة المركزية الغربية والنزعة الأوروبية هي الفلسفة الأولى، وعلة العلل على مستوى السياسة والفكر والاقتصاد، وتأتي من بعد ذلك شعارات التسويق، ودبلوماسية المراوغة، ومن ثَم الأدوار الذرائعية، والخطابات الديماغوجية التي يروج لها باعتبارها أفيون الشعوب العالمثالية المتخلفة، والمهووسة بالمواقف الاتباعية المطلقة.
العلمانية والازدواجية
يتمايز النظام العلماني الفرنسي المنبجس من النزعة الأوروبية بكونه خطابًا براغماتيا استفرغ في ذاته كل دلائل المواربة والمخاتلة في مختلف مفاصله المنهجية؛ أي إنه خطاب تحكمه الأولويات والمصالح السياسية؛ لذلك ما كان يقيم للقيم والمبادئ والقوانين وزنا.
وسنذكر في هذا المضمار بعض المعطيات العينية التي استحدثت بفعل التناقض والارتداد على المبادئ، تحولات فظة في الممارسة والسلوك.
في قانون 9 ديسمبر 1905 الذي يفصل بين السلطة والكنائس المسيحية، يذكر المشرع في البندين الأول والثاني، أن الجمهورية حيادية: تعترف بحرية الممارسات الدينية دون اعتراف رسمي منها بأي من الديانات والمعتقدات التي تمارس على أرضها، ودون دعم منها أيضا، غير أنها أحدثت الاستثناء بدافع مصلحي، فإذا بالبرلمان الفرنسي الذي تسيطر عليه غالبية يمينية يتبنى عام 1920 قرارا ببناء جامع باريس، ويصوت عليه إيجابا. وقد اعتبر هذا الأمر وقتذاك ملائما للمبادئ والقيم العلمانية، باعتبار هذا المشروع اعترافا بالجميل لأولئك الذين أراقوا دماءهم في سبيل الجمهورية، وماتوا من أجل علم فرنسا في الحرب العالمية الأولى حسب هذا الزعم. والمقصودون هم الشمال الأفريقيون الذين لا يزال كثير منهم- في حدود علمنا- مسجلا على القوائم السوداء التي تمنع المحاربين القدماء المعادين لأوطانهم من معاودة الدخول إليها، وخاصة بالجزائر.
وعلى العكس من هذا المثال، تحتم الحكومة الفرنسية (المعروفة بفيشي) عام 1941 التفرقة الدينية بين مواطنيها المسيحيين واليهود الذين صنفتهم بطريقة سلبية على أساس عقيدتهم، فميزتهم مدنيا على مستوى الوثائق، واجتماعيا بحمل نجمة داود بصفة مرئية، كشكل من أشكال القمع النازي باعتبار النجمة اليهودية شارة إذلال وامتهان.
وبعد أقل من قرن (17 ديسمبر 2003) تعاود الجمهورية ترتيب أوراقها، وتأتي الحكومة اليمينية (لتحرم الحلال وتحل الحرام)، فبعد أن تدخلت رسميا، وتبنت مسألة بناء مسجد باريس إكراما للمحاربين العرب، وسمحت (بالتضمين) لنساء المحاربين بارتداء الحجاب الذي كانت الشمال الأفريقيات يضعنه في صورة لباس تقليدي، إذا بها ترتد على أعقابها وتتحفز لاستصدار قانون من أجل منع ارتداء الحجاب بعد أن انتهت المهمة العسكرية للشمال الأفريقيين الذين صاروا يعيشون على هامش الحياة الباريسية.
وهكذا تم الأمر مقلوبا بالنسبة إلى اليهود، فبعد أن كانوا يؤمرون بعنف القانون بحمل نجمة داود بغرض تحقيري، يطلع علينا مشرع القانون اليميني الجديد بالحظر على كل يهودي يتحرك على أرض فرنسا، أن يحمل نجمة داود.
إن هذا التناقض في المبدأ والقول والسلوك يستهدف المجموعة العربية في وجودها الاجتماعي بصفة خاصة، شكلا ومضمونا، وجودا وحضورا وحضارة، ويستهدف غيرها بشكل تمويهي؛ لأن الدين كامن في أعماق البنية العلمانية؛ فالعطل الرسمية في فرنسا خاضعة لأجندة الاحتفالات المسيحية، وجنائز رؤساء الجمهورية تتم بصفة رسمية في كنيسة "نوتردام" بباريس، كما حصل مع الرئيس الاشتراكي "فرانسوا ميتران".
ليس إذن لهذا التحامل المتترس بالمبادرات القانونية سوى دلالة ظاهرة لا تخفى، وهي هشاشة العلمانية، وعجز المدنية الديمقراطية عن محاورة الآخر، أو اختراق خصائصه الفكرية؛ فحل العنف الشرعي للدولة العاجزة محل العنف العسكري، وصار القصف القانوني ضاربا بدل الدبابة والمدفع والطائرة.
والسؤال اليوم: هل انهزم الوعي المدني بإزاء الوعي الديني؟
إن المسلمين المحاصرين في فرنسا يمثلون من الناحية العددية أولى الأقليات (5 ملايين) وهم متقدمون عن البروتستانت (900 ألف) وهؤلاء لم يتحرروا في فرنسا من القمع الديني إلا في حدود القرن السادس عشر، ويأتي اليهود في الدرجة الأخيرة (600 ألف= 2%).(12/376)
إن اللباس الشخصي أو قضية الخمار حينما تطلق من فرنسا، تتحول إلى قضية عنصرية، ومشكل استعماري؛ لأنه فيما وراء القانون يستهدف ذاتية أمة وشخصيتها وهويتها الحضارية.
فالحجاب شأن قومي؛ لكونه زيًّا نسائيا مشتركا مغرقا في التاريخ، محايدا لا تتجاذبه الشعارات ولا تختلف فيه الآراء والمذاهب، ولا تعترض عليه السياسات، اللهم إلا بعض المواقف العرضية الموقوتة التي منع فيها ارتداء الحجاب بشكل شبه رسمي، وما ذاك إلا لكونه من حيث النمط والشكل لم يظهر بمواصفات متعينة إلا بظهور الحركات الموصوفة بالانقلابية، وهي حسب هذا التقييم تستعمل الرموز، وخاصة الحجاب، من أجل إدانة النظام السياسي والاجتماعي، ومحاربته أيديولوجيا، لكن التجاذبات تبقى رغم هذا، ومع كل هذا، ممانعات عرضية وعابرة لا تلبث أن تزول بزوال الاستفزازات والاستثارات، وسيعقبها بعد ذلك، التوافق الاجتماعي والمصالحة الوطنية، وهي مسألة آتية لا ريب فيها.
الحجاب: الأنماط الاجتماعية
تطرح مسألة الحجاب إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر. وهي موازنة قائمة على الجهل بالمختلف (الآخر) وبالآليات الفكرية والاعتقادية التي تمنحه خصائصه السلوكية.
فالسيد جاك شيراك أصدر بشكل تمويهي مراوغ جملة من الممنوعات تحف بالقضية الأساس وهي الحجاب، فأصدر أمرا بحظر الرموز الدينية، وقد انصب الأمر على منع حمل الصلبان (الكبيرة فقط) وكأن التلاميذ سيدخلون المدارس عارضين الصلبان الكبيرة على غرار ما يفعل رواد الملاعب حين يدخلون ملوحين بالأعلام والمحمولات الرمزية، ووافق كذلك على منع حمل نجمة داود (الكبيرة فقط).
ومنع كذلك تعليق ما أسماه يد فاطمة، (الكبيرة فقط)، وقد اعتبر سيادته هذه اليد الكبيرة رمزا إسلاميا تماما مثل نجمة داود، وصليب المسيح، وإذا كان داود نبيا، والمسيح رسولا، فإن صاحب السيادة لم يقل لنا شيئا عن السيدة فاطمة العجيبة، هل هي من الأنبياء والمرسلين؟ أم من الأولياء والصالحين؟.
لقد علم الجميع في فرنسا أن يد فاطمة تستعمل في شمال أفريقيا بغير هذا الاسم (وهو الخُمسة بضم الخاء) كتعويذة للحماية من العين والحسد والسحر ولا علاقة لها بالدين؛ فهي من مخلفات العصر الجاهلي، حيث كانوا يعمدون إثر كل ذبيحة إلى غمس اليد في الدماء، ورسمها على الحائط بشكل أصابع اليد الخمسة التي تعلق الآن، والآيات القرآنية حرمت هذه الممارسة الجاهلية.
وقد أراد شيراك إلصاق هذه السمة الجاهلية بالمعتقد الإسلامي ورفعها إلى مستوى تتضاهى فيه مع الحجاب، ولعل هذا الوعي المشوش تلقاء الديانات الغيرية هو وحده من يسوغ اضطهاد الآخر تحت أية صورة نمطية ترسمها الذاكرة، وتصنعها الأفكار الشوهاء.
ضمن هذا السياق يتنزل الغلط المفهومي في مسألة الحجاب؛ فهو في الفكر الغربي المعاصر مرادف للعنف وللإرهاب، كما تعودنا من دروس بوش الصغير.
غير أن سيمولوجيا الحجاب تنطوي على جملة من العلامات والدلائل والمضامين ذات الأبعاد التاريخية والحضارية التي عرفتها أوروبا ذاتها في المنطقة الأندلسية قديما والأسبانية حديثا دون أن تنكرها.
وقد رصدنا للحجاب خمسة استعمالات ذات منطلقات مختلفة تدل على أن الأمة إما بحكم العادة أو الدين تتضامن تلقائيا مع مسألة الحجاب.
1 - الحجاب الديني:
وهو مفروض في الديانات السماوية الثلاث: فالمسيحيات (الراهبات خاصة) ما زلن يرتدينه بشكل واضح ومعلوم، وكذلك اليهوديات فإنهن يرتدينه طبقا لبعض التعرجات التأويلية، واليهود هم أبطال التأويل والتحريف وصناع البدائل منذ التاريخ إرضاء للحاكم، أو لوزير الحاكم- ويحلو التأويل لدى المسلمين حين يكون وزير الحاكم فرنسيًّا يستشيرنا في أمر ديننا- غير أن المعنى الذي أعطاه اليهود للحجاب ليس غير مستساغ من حيث الظهور الاجتماعي؛ فالمرأة اليهودية تضع الشعر المستعار (الباروكة) على رأسها لتواري شعرها الحقيقي؛ أي إنها تتحجب بطريقة مواكبة للنظام الاجتماعي الغربي.
وفي الديانة الإسلامية فُرض الحجاب في السنة الرابعة للهجرة، وهو زمن متأخر جدا يدل على أن الحجاب ليس متداولا بالشكل الإسلامي المتعين داخل المجتمع الجاهلي، والآليات المحددة لوجوب الحجاب وشكله معلومة في سورتي "النور" و"الأحزاب"، وقد جاء في الحديث النبوي أن الفتاة إذا راهقت البلوغ فلا يظهر منها غير الوجه والكفين.
وهذا الحجاب الإسلامي بالمعنى القرآني المذكور، وجد في السعودية أثر التحالف بين محمد بن عبد الوهاب وآل سعود بناء على توافق مطلق بين الدين والدولة، وهو بهذا المعنى مقوم من مقومات الشخصية الإسلامية، ولازم من لوازم الاعتقاد، وليس رمزًا يشير إلى ذكرى تاريخية كالصليب.
2 - الحجاب التقليدي:
وهو شأن كوني تراهن مع الوجود التاريخي العربي والإنساني عامة، وليس يدل على أي التزام ديني، أو مسئولية اعتقادية، وظل كذلك مغايرا للوجود الإسلامي ومختلفا عنه في المواصفات، ويذكر هذا بالقول الشعري الذي تحول إلى غناء تراثي:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا صنعتِ بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى وقفت له بباب المسجد(12/377)
ردي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمد
وهنا -ودون النظر إلى الأصل القصصي لهذا القول- يبدو وجود الحجاب التقليدي متشكلا بهيئة غير دينية؛ لأنه ينطوي على استفزازات جنسية اخترقت بنية الإيمان والصبر التي كان الناسك المتعبد متزودا بها، فتحول إلى جسد بيولوجي خالص غابت عنه روحانيته، لما أن أقبل عليه الموت الأبيض من وراء الحجاب الذي تجملت به المرأة العربية، إضافة إلى جمالها الطبيعي الذي اهتز له كيان المتعبد.
والحجاب العربي، أو اللباس التقليدي مختلف الأنماط والأشكال، وليس متوافقا بالضرورة مع الالتزام الديني من حيث التفاصيل، لا من حيث المبدأ، وهما متحدان في عدم التكشف الجنسي، وقد يكون متوافقا مع المواصفات الشرعية.
ومثال الحجاب التقليدي ما هو معروف في تونس بالسَّفْساري (بفتح السين الأولى المشددة وبسكون الفاء) وهو حجاب إسلامي لا يزال موجودا في كافة أنحاء الجمهورية، والسفساري التونسي مختلف عن اللباس التقليدي الذي ترتديه المرأة في مصر صعيدية كانت أو قبطية، وما تلبسه المرأة اللبنانية أو السورية من حجاب تقليدي مسلمة كانت أو مسيحية يختلف بالضرورة الحضارية عن زي المرأة السودانية.
والجامع بين هذه الملبوسات بتقاصياتها الجغرافية، هو اشتراكها في دلالة الحجاب بمعنى الاحتجاب عن البدو الجنساني، وميزة هذه الألبسة كونها تستعمل من قبل المرأة العربية مسلمة ومسيحية.
إن مسألة الحجاب قضية عربية يشترك في الدفاع عنها العرب جميعا مسلمون ومسيحيون. فهو لباس وطني لا علاقة له بالتطرف والمتطرفين كما قرأت في بعض الصحف الصفراء (مثل روز اليوسف المصرية) التي أرادت أن تدافع عن شيخ الأزهر وعن سياسات مصر، فأساءت إليه وإليها وإلى الدول العربية، وذلك حين أوردت أمثلة عن مساحات للحرية الدينية كائنة في فرنسا وفي أمريكا، ومفقودة في العالم العربي، وأما تبني المتطرفين لقضية وطنية ما، فلا يعني أننا يجب أن ندين تلك القضية، فإذا ما دافعوا عن سيادة مصر، أو عن القضية الفلسطينية مثلا، فهل يجب أن نتموقع في جانب العدوان على مصر، أو في جانب الصهيونية من أجل الاختلاف مع المتطرفين؟ إن مثل هذه الاعتراضات (روز اليوسف/ المثال) تكشف عن ضمور العقل العربي، وضيق الآفاق الفكرية لدى جملة من المثقفين الانتفاعيين.
3 - الحجاب الاجتماعي:
هو ما يلبس لغرض إيتيكي (أخلاقي) خالص، حفاظا على الأخلاق، وحدود اللياقة والانضباط داخل المجال الأسري، ولا ينطلق من منظور التدين والالتزام الشرعي، وإنما يراد منه عدم اندماج البنت أو الزوجة في حركة الستريبتيز الاجتماعية، أعني عدم الانخراط في جوقة الانكشاف والتعري، وعرض الصدور والظهور، والسرر (أو الأسرة) التي صارت حالة من الانفصام العربي بعد أن أغرقت مجتمعات الحداثة في مستنقع المتاع البيولوجي، وإغراءات الجسد الداثر بطبيعته الوجودية ذاتها التي تتقدم به نحو العدم والتناهي.
وهذا النوع من التحجب الاجتماعي، ينطلق من تأمل فلسفي، لكونه يقيم وزنا لمعنى النزعة الإنسانية المتأصلة في كينونة الإنسان، والشخص البشري كائن أخلاقي كما هو مسجل في الذاكرة الوجودية، والحياة العائلية ذات المبادئ والقيم الأخلاقية العالية تتفلت من طبائع التسيب الجسدي في المحيط الاجتماعي، وتمتنع عن إسقاط الحواجز بين عناصر البنية الأسرية.
وقد سجلت الإحصاءات الفرنسية أن 40% من حالات الاغتصاب الطفولي تتم داخل الفضاءات العائلية التي صارت إلى الفوضى، بعد أن كانت توفر ملاذا نفسانيا يؤمن من الانحرافات التي تصنعها النزعات والنزوعات المجتمعية.
4 - الحجاب الموضة:
يتخذ الحجاب في أزمان التقليعات التي تفصَّل طبقا لمنظورات أيديولوجية، جنسية، حضارية أو عشوائية موقعا ثقافيا بين أنماط الطرز والموضات العالمية؛ فهو لباس يساير الأصالة، ويواكب مظاهر الحداثة في آن واحد؛ أي إنه من حيث البدو والرسم وعدم التشكل الجسدي، يتجاوب مع المقتضيات والأعراف الاجتماعية، وقد يتلاءم جزئيا أو كليا مع الملبوس الشرعي، ويتساوق هذا الحجاب (الموضة) من الناحية الحضارية مع حركة المرأة المعاصرة، ولا يتخلف عن الاستخدامات المعروفة في عالم الجمال والزينة وحلاقة السيدات.
ولعل هذا الكساء الجديد، يعبر بشكل حداثي عن نظام اللباس التقليدي سابق الذكر، وهو لكونه يوجد بكثافة في دول الخليج بعد أن خالطتها المعاصرة، لم تشأ امرأة الخليج العربية أن تغادر أنماط عيشها القديم، وأبت تفويت أمتعة الحداثة، وقد تواردت عليها مباشرة من دنيا الإبداع ومن مختلف مصادر الابتكار في العالم، وهي التي تتوق إليها النفوس، وتهفو إليها الأفئدة الحالمة.
5 - الحجاب الرمز السياسي:(12/378)
الرمزية هنا، بما أنها من فعل بعض الحركات السياسية، لم تعد مصدر تأويل، وإنما صارت محط حسم. فالمنظمات الدينية تطلب التمايز على مستوى الظهور الاجتماعي والحضور الثقافي، حسب نظرية الحسم هذه. أي إنها تهدف إلى السيطرة على الواقع من خلال تغليب الالتزام الحزبي على طبيعة الحياة الاجتماعية. وذلك من خلال الارتداء الخاص للحجاب الذي ينتظم على الكتفين بشكل تصنيفي لافت. ونحن لا ندري إن كان هذا النموذج الحزبي هو ما أزعج السلطات الفرنسية، أم كل ما تختلف هيئته عن نمط اللباس الغربي؟ ولا شك أن إطلاق مسمى الحجاب على انتماءات متطرفة لا موضوعية، هو تغريب للمسمى عن مداره الدلالي، وترحيل له إلى محيط لا يعبر عن ذاتيته المحضة.
فالحجاب يحمل معقوليته ومنطقيته من الأسباب الثقافية والاجتماعية والتاريخية والدينية التي ذكرت. وإدانته على طريقة شيراك الذي جعل يد فاطمة (الجاهلية) رمزا إسلاميا، هي جهل بالطبائع الوطنية والقومية العربية، وجهل بالمفاهيم الدينية بمضمونها الحضاري. إن سلوك شيراك الغريب، يندرج ضمن الهجمات الأيديولوجية التي لا تتوقف عن تكثيف المنطق العنصري، وتعبئة الرأي العام ضد 5 ملايين من الجنس غير الأوروبي. وقد حظي شيراك نتيجة لهذا التحريض برضا المنظمات اليهودية في فرنسا التي أعلنت بعد يوم واحد من قراره (18 ديسمبر 2003) عن ضرورة قبول الأمر الواقع، وهي القوانين العنصرية التي لا تمس اليهود. واليهود محميون بقانون 1990 الذي كفله لهم الشيوعيون والاشتراكيون (قانون فابيوس غيسو) الذي يتعقب كل تعريض باليهود وجودا وتاريخا ودينا وسلوكا؛ لأن ممارسات اليهود لا تكون إلا دفاعا عن النفس أو محاربة للإرهاب. فالمسألة محسومة بسابق الإصرار والترصد.
العلمانية وحقوق الإنسان المتعالي
صار اللعب سمة الإنسان المعاصر. فالأدباء يمارسون قراءة النصوص من خلال اللعب باللغة، والسياسيون يوجهون القوانين حسب الخلفيات والمصالح بصور انقلابية فاضحة. وكأن اللعب أضحى شيئا من بدائع الحضارة وفظاظتها كما يتوضح لدينا من ممارسات النظام ـ الأنظمة الفرنسية. فحينما اندلع أول إشكال حول الحجاب في منطقة كراي عام 1998 (27 نوفمبر)، فإن مجلس الدولة أقر بأن الخمار في ذاته لا يتعارض مع مبادئ العلمانية. والتلاميذ يملكون حق التعبير عن انتماءاتهم. غير أن تصاعد وتيرة ارتداء الحجاب، بدا وكأنه إخفاق للعلمانية، وعجز عن الإقناع واحتواء الدين، ولأن سياسة الدولة خابت في تحقيق الاندماج بين مختلف الشرائح الاجتماعية والانتماءات الفكرية المشحونة بعبادة الذات، وعدم قبول المختلف، فإن حكومة جاك شيرك المقهورة سياسيا سعت، لا إلى الحوار والنقاش الحضاري الذي هو مبدأ ديمقراطي جمهوري، وإنما إلى اللجوء إلى العنف الشرعي. وهو استصدار قانون يحرم ارتداء الحجاب.
وطريقة المنع هي دائما دلالة على الإخفاق، ومعنى من معاني الهزيمة والخيبة وكسوف العقل العلماني. ذلك أن المنتصر هو من يخترق عقل الآخر وفكره، ويجتاز حواجزه الاعتقادية والمفهومية من خلال الإقناع بالمحاورة أو بالمناظرة. كما علمتنا ذلك الديمقراطية الفرنسية نفسها. لقد أصيبت العلمانية بالإرهاب، وبالرعب العدمي من المجهول الذي يمثله الحضور الذي صار قويا للآخر. وفي دلالة عملية على هذا القول، يذكر المراقبون أن فتاتين ارتدتا الحجاب (في أحد معاهد فيل نوف) عام 1995. وفي العام الموالي تضاعف العدد إلى عشرة. ثم تكثف الرقم بشكل تراتبي حتى صار عدد الفتيات 58 ضمن 1500 من التلاميذ رغم تدخل الأساتذة، والإدارة، والسلطات لمنع مسيرة الفتاتين المناضلتين بالصمت والصورة ضد الكل. فالعلمانية بكل أثقالها، وموازينها، ومكاييلها، لم تنجح في وقف مسار فتاتين اكتسحتا حضاريا مؤسسة محمية أيديولوجيا، ومحصنة فكريا بقوة الدولة. ورغم القلة العددية 58 بإزاء 1500 ورغم أن الفوارق في الديمقراطية تقاس بالآحاد (1%) فإن دولة حقوق الإنسان والحريات العامة تختار الطريقة البوليسية المقنعة بالرتوشات القانونية وهي المسلك السائد في الخارج لقمع الاختلاف الفكري أو السياسي، ومصادرة حرية التعبير، خاصة إذا علمنا أن عدد المتحجبات في فرنسا لا يتجاوز 1000 فتاة، وقد كان على جاك شيراك أن يحصن المدرسة اللائكية من السيدا ومن المخدرات، والمتاجرات الجنسية، وأوضاع البيدوفيليا التي تستهدف الذكور والإناث غير البالغين من قبل مدرسيهم أنفسهم، أو في محيطاتهم الأسرية.(12/379)
إذا كان جاك شيراك يريد منع الحجاب، وبرنار سطازي رئيس اللجنة المكلفة بتقرير أمر هذا اللباس يرى (بمساندة أعضاء لجنته منهم أركون صاحب مشروع علمنة الإسلام)، أن الوجود العربي صورة للإرهاب مبثوثة في أوروبا، وإذا كان رؤساء البلديات يعترضون دائما علي بناء المساجد، وإذا كان الفنانون مثل بريجيت باردو، مربية الكلاب الحالية، ترى أن عيد الأضحى إرهاب للطبيعة. فإنني أوجه أصابع الاتهام إلى العرب والمسلمين فهؤلاء جميعا همشوا دورهم الاجتماعي والسياسي وصاروا شيعا وأحزابا وفصائل تتجاذبهم الأيدولوجيا ولا تجمعهم المصالح العليا. إنهم هم من صنعوا الهزيمة، هزيمة أنفسهم. وظل الطلائعيون منهم يجتمعون على فتات الموائد السياسية بين اليمين واليسار.
لقد انطلق أقصى اليمين الذي يقوده لوبان عام 1975 بأقل من 0.5%، واستحصل بعد 20 عاما من النضال على 20% من أصوات الناخبين. وهي نسبة جاهزة ابتداء للمجموعة العربية. فالعرب دون ممثلين ومسئولين وكتلة برلمانية وميزان قوة سياسية واجتماعية سيظلون غرضا وهدفا لكل متدرب على الرماية. ولئن تخلت عنهم الحكومات العربية المستقيلة بطبائع وجودها اللاشرعي، وفقدوا كل سند روحاني كالذي يجده المسيحيون في شخصية البابا التجميعية، وظلوا دون بابا ولا ماما، فإن الديمقراطية الفرنسية بشكلها العلماني الذي قلت في المبدأ إنني أقدره حق قدره رغم قراءاتي النقدية له، يوفر للعاملين في الغرب وللكفاءات العربية مواقع ومواقف موضوعية تحفظ الدين والعقل والعرض وتجسد معالم القوة الوجودية في الذات العربية. لمثل هذا فليعمل العاملون بعيدا عن الانفعال والعاطفة والفوضى؛ لأن العنف مهما كانت مبرراته شر محض.
** أكاديمي وكاتب تونسي.
=============(12/380)
(12/381)
الإسلام والعلمانية في عالم متغير
إعداد معتز الخطيب**
…
04/12/2005
تواجه العلمانية في السنوات الأخيرة مأزقًا صعبًا، ففي شكلها الفرنسي وضعت نفسها في توافق مع الدكتاتورية وضحّت بالحرية الدينية في سبيل ما أسمته "حماية العلمانية"، والتجربة التركية كذلك تشبه هذا النموذج، والتطورات الأخيرة بما فيها السياسات الأمريكية داخليًّا وفي العراق مثلاً، ودخول الإسلاميين في عدد من الدول في العملية السياسية وتأثيراته، وما حققه من سُمّوا بـ"الدعاة الجدد" على الصعيد الاجتماعي، وكذلك الإخوان المسلمون في مصر تحت شعار (الإسلام هو الحل)، والحرية التي تمتع بها مسلمو أوربا وما تردد مؤخرًا من الحديث عن "أسلمة أوربا"، كل ذلك وغيره عنى زيادة رقعة الدين في الشأن العام، ووضع العلمانية أمام تناقض داخلي يكتنفها، وهو كيف تقصي الدين عن الشأن العام وتبقى محافظة على ليبراليتها؟ وكيف تتم الدعوة إلى الديمقراطية في بلدان "إسلامية" الثقافة والهوى والمعتقد دون أن يؤدي ذلك إلى زيادة رقعة الدين في الشأن العام؟.
إن دعوة العلمانية إلى حرية الاجتماع الديني، سيقود في نهاية المطاف، كما هو الحال الراهن، إلى زيادة رقعة الدين والدعوات الدينية للتدخل في الشأن العام والسياسة باعتبار أن للدين دورا مهما يمكن أو يجب - بحسب الناظرين - أن يؤديه في السياسة. وفي الواقع كان لا بد من طرح تساؤل حقيقي حول "حدود" العلمانية، فلم يعد التدين الأمريكي استثناء كما كان يُنظر إليه.
الملاحظة الثانية التي يجب الإشارة إليها هنا وهي أن هذه التطورات ساهمت في إيضاح "أيديولوجية" العلمانية، فلم تعد هي القدر الذي لا مفر منه، وليست مرحلة متقدمة في سياق تطور المجتمعات لا بد من دخولها لتحقيق الفردوس الأرضي، إنها ببساطة أيديولوجية منافسة.
غير أن ثمة باحثين فرنسيين لا يتفقون مع هذا التحليل، فباتريك ميشيل يرى أن هنالك استمرارًا للعلمانية وليس نهاية لها، وهناك من يرى أن عودة الدين هذه إنما هي وفق منطق العلمانية، أو ما يشبه علمنة الدين أو الإسلام.
وقد رأينا أنه من المهم أن نطرح هذه الرؤى ونناقش العلاقة بين الإسلام والعلمانية، وواقع المتغيرات وتأثيراتها على تلك العلاقة، وماذا تعني عودة الدين، لدى كل طرف؟
==============(12/382)
(12/383)
استمرارية العلمانية..
حوار مع الباحث الفرنسي باتريك ميشيل
القاهرة- حسام تمام
…
04/12/2005
باتريك ميشيل
من الجدل العنيف حول قانون حظر الحجاب في فرنسا، إلى التأثير الديني غير المسبوق في الانتخابات الأمريكية، كان الحضور الديني في الفضاء العام وتداعياته السياسية لافتا، بل أبرز التغيرات التي طرأت على عالمٍ كان قد قطع رحلته نحو الحداثة، معتقدا أنه نجح في حصر الدين في مجالاته الخاصة والشخصية. ثم جاء التصاعد المستمر للدين في الفضاء العام ليطرح إشكالات عدة:
فماذا تعني عودة الدين بقوة إلى الفضاء العام؟
وهل يدفعنا ذلك إلى إعادة النظر في مقولة سيادة العلمنة؟
وهل كان الحضور الديني على حساب العلمانية؟ أم وفق منطقها بحيث صار يؤدي إلى علمنة الدين؟
وهل لهذا الحضور الديني علاقة بانهيار الأيدلوجيات ونهاية الروايات الكبرى للعالم؟
وكيف يعيد ذلك تشكل الشأن الديني وقضية الإيمان؟
طرحنا هذه الإشكالات على الباحث الفرنسي باتريك ميشيل pat r rick michel الأستاذ بمعهد الدراسات السياسية ومعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، والذي عرف باشتغاله على قضايا الدين والحداثة والسياسة.
وإضافة لكتابه الأشهر: الدين والسياسة - التحول العظيم ( 1994) صدر لباتريك ميشيل أكثر من عشرة كتب تعالج هذه القضايا من أهمها: الكنيسة في بولندا ومستقبل الوطن (1981)، السياسة والدين في أوربا الشرقية (1985)، الأديان في أوربا الشرقية (1992)، كل الطرق لا تؤدي إلى روما: التحولات المعاصرة للكاثوليكية (1995)، الدين والديمقراطية: قضايا ورؤى وإشكالات جديدة (1997)، الدين في المتحف (1997)، إضافة إلى عدة كتب أخرى عن الدين والسياسة في أوربا الشرقية قبل وبعد انهيار الشيوعية. التقيناه في القاهرة، فكان هذا الحوار الذي إذا كان لنا أن نلخصه في جملة فهي: أنه استطاع أن يضع الظاهرة الدينية في قلب حركة الحداثة، وليس باعتبارها رد فعل عليها على عكس ما شاع من قبل.
*
استمرارية العلمانية
*
ماذا تعني استمرارية العلمنة؟
*
عودة الدين.. وبأي معنى؟
*
الدين ومسألة الهوية
*
الدين في ظل السيولة والتنقلات
استمرارية العلمانية
* مع التغيرات التي شهدها العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، وأبرزها تعاظم دور الدين في السياسة العالمية -كما في النموذج الأمريكي- عاد إلى المشهد من جديد الجدل حول الدين والعلمانية ومستقبل العلاقة بينهما، ولاحظنا ظهور مدرستين متناقضتين، الأولى تتحدث عما يسمى بنهاية العلمانية فتذهب إلى عكس ما كانت تبشر به الكتابات والنظريات التي كانت تؤكد على أن العلم وتقدمه سيكون على حساب الدين، ويذهب أصحاب هذه المدرسة -ومعظمهم أمريكيون وأبرزهم عالم الاجتماع جون فول- إلى أن الواقع يقول إن الدين يزداد حضوره باطراد في الفضاء العام؛ بما يحتم إعادة النظر في دعوى غلبة العلمانية. بينما يذهب أصحاب المدرسة المعاكسة -ومعظمهم فرنسيون- إلى تأكيد انتصار العلمانية، وأنه وإن كان حضور الدين في تعاظم فإن هذا الحضور لن يخل بالعلمانية، بل إنه يؤكدها يوما بعد يوم؛ لأنه يتم في إطار علماني وعلى أرضية علمانية ستنتهي إلى علمنة الدين نفسه على نحو ما يرى أوليفييه روا ومارسيل جوشيه.. فكيف ترى هذا الجدل وإلى أي اتجاه تميل؟
- نحن نعتمد بشكل كبير على التنظير الأمريكي، وبالذات ما كتبه "بيتر بيرجر" و"هارفي كوكس" الأبوان الروحيان لمقولة سيادة العلمانية، وكانا قد كتبا عن "المدينة العلمانية" ثم عادا واعترفا بعد ذلك بأنهما أخطئا فكتب "بيرجر" يقول: "إن العالم ما يزال متدينا"، بل صارت الصيحة الجديدة هي "الخروج من العلمانية"، ونما تيار مضاد لمقولة سيادة العلمنة، ونلاحظ أننا فيما مضى كنا نتحدث عن الاستثناء الأمريكي، بمعنى أن هناك بلدا- الولايات المتحدة- سيظل متدينا في عالم تغلب عليه العلمانية، بينما العكس يحدث الآن؛ فصار الاستثناء الأوربي العلماني هو الذي يعيش في وسط الأغلبية المتدينة. بعد أن اكتسح التيار المضاد للعلمنة العالم حتى صارت أوربا آخر بؤر العلمانية فيه.
وما أتصوره هو أن هناك استمرارا للعلمانية، وأنه لا يوجد ارتداد عن العلمانية للدين ولا يوجد "ثأر الله" (بتعبير جيل كيبيل)؛ وإنما هناك ظهور جديد للدين، وتصبح القضية هنا كيف نفسر هذا الوجود الديني المتعاظم والمؤثر بشكل كبير في فضاء السياسة والاجتماع الإنساني، وهنا لا يصلح الدين بمفرده للتفسير، وإنما لكي نفهم عودة الدين لا بد أن نعتبره مدخلا لفهم الظواهر الأخرى المحيطة به والمتراكبة معه.
وأنا أعتقد -كما سبق- في استمرارية العلمانية باعتبارها تقليص سلطةِ أو تأثير المؤسسات الدينية على الفرد وعلى رؤية المجتمع الكبرى وعالمه الرمزي، وأنا لا أتحدث هنا عن الدين كمفهوم، وإنما عن الدين كإمكانات للدرس والتوصيف.
ماذا تعني استمرارية العلمنة؟
وإذا ما طرحنا السؤال عن ماذا يعني استمرارية العلمنة سنلاحظ وجود ثلاث ديناميكيات رئيسية:(12/384)
الأولى هي: (الفردنة) بمعنى تأسيس علاقة فردية بين الإنسان والمعاني الدينية، والجديد في هذه العلاقة هو شرعية الفردنة وقبولها اجتماعيا، وهذه هي الصفة السائدة الآن للتدين في أوربا.
والديناميكية الثانية تنتج عن الأولى وهي: الابتعاد عن المؤسسات الدينية، حيث تفتقد هذه المؤسسات احتكارها لتعريف ما هو الدين الصحيح، وهو ما حدث في أوربا؛ إذ لم تعد المؤسسة الدينية هي الجهة التي تقول ما هي الكاثوليكية الصحيحة أو البروتستانتية الصحيحة.
أما الديناميكية الثالثة فهي استهلاكية العلاقة بالدين؛ أي إدخال بعد استهلاكي للدين، بمعنى أن الفرد يتعامل مع الدين بشكل استهلاكي فيختار من العرض الديني ما هو مناسب له من خلال مقاييسه الخاصة؛ وإذا كان العرض الديني غير مقبول بالنسبة له فسيقوم بتغييره؛ فهو لن يخجل من رفض هذا العرض والبحث عن تدين مناسب له ولمتطلباته.
ومن البعد الاستهلاكي للإيمان المعاصر نستطيع أن نفسر التحولات التي تتم من ديانة إلى أخرى، وظهور تجميعات أو خلطات من بين الديانات، ويحدث هذا للناس بوعي تام ودون الشعور بأي ذنب، وهو ما يؤدي إلى شرعية الدمج والنقلات والتحولات بين الانتماءات الدينية المختلفة، وأبرز مثال على ذلك تجارب التصوف في الغرب التي يخوضها مسلمون ومسيحيون ويهود وأبناء ديانات مختلفة بل وملاحدة!.
* لكن دائما ما تجاورت العلاقة الفردية بالدين مع المؤسسات الدينية وظلت العلاقة بينهما مستقرة.. فما الجديد الذي يمكن أن تتشكل وفقه هذه العلاقة؟
- تقليديا كانت هناك علاقة مباشرة بين الطلب على المعنى (بمعنى طلب الإجابة على الأسئلة المهمة مثل: ماذا سيحدث بعد الموت...) وبين عرض مؤسسي (إجابات تقدمها المؤسسات الدينية: المسجد، الكنيسة، المعبد..)، ودائما ما كانت إجابات هذه المؤسسات إجبارية (يجب علينا أن نؤمن بكذا...)، وهذا ما يخالف نظرية الفردنة؛ فالمؤسسات دائما تفرض والفرد دائما يرفض الفرض والإجبار.. وأنا أرى أن هذا النموذج التقليدي لم يمت بعد وما يزال موجودا، لكن الجديد هو أن هناك تغيرا فعليا يحدث بالانفصال عن إجابات هذه المؤسسات، فإجاباتها لم تعد محل قبول من الفرد، ولم يعد الدين في عالمنا الجديد يستطيع أن يؤسس بالإجبار، أي لم تعد لديه القدرة الإجبارية على الناس، لذلك فإن الآفاق الدينية الجديدة آفاق مريحة بعيدة عن الإجبار والعنف الرمزي والقلق، فكل فرد صار يبحث عما يريحه.
وما أقصده هو أن مساحة الدين أو فضاءه وحيزه سنسكنها فقط حين تكون مريحة، أي سيكون اللجوء للدين حين يكون مريحا للفرد، أي سيكون اللجوء للتدين المريح بعيدا عن الإجبار، وفي أوربا فإن اللجوء للدين الآن يتم بعيدا عن أي فرض أو عنف رمزي حتى لو كان هذا الفرض في صورة نظام قيمي إجباري.
* ألا يبدو هذا التحليل وهذه الصيغ أقرب إلى المسيحية، وتبتعد كثيرا عن الإسلام في مسألة المؤسسة وشرعية الفردنة؛ خاصة أن المؤسسة ليست بنفس الحضور في الإسلام وكذلك ما يخص الفردنة؟
- ربما ينصب كلامي بشكل خاص على الكاثوليكية، ولكنه ينطبق كذلك بشكل عام عن الشأن الديني في أوربا.
عودة الدين.. وبأي معنى؟
* نعود لسؤالنا السابق ثانية؛ فأنت لم تجب بعد عن السؤال: لماذا تذهب إلى رفض القول بعودة الدين على حساب العلمانية في الفضاء العام، رغم أن الشواهد كلها تدعم هذا الرأي؟
-في السبعينيات وقعت الكثير من الأحداث أدت إلى الاعتراف بأن التنظير للعلمانية لم يكن منضبطا، من ضمنها الثورة الإسلامية الإيرانية، وحركة (تضامن) في بولندا التي كان للكنيسة فيها دور مركزي، والحركات الكاريزمية في أمريكا الجنوبية وإفريقيا، وحركات الإنجيليين الجدد (البانتكوتيزم Pentecotisme) في أمريكا الشمالية واللاتينية والجنوبية، وتكون وانتشار المجموعات الأصولية المختلفة سواء المسيحية أو اليهودية أو الإسلامية.. وقد دفعت كل هذه الأحداث والتغيرات إلى الحديث عن عودة الدين فكتب هارفي كوكس كتابه "عودة الله"، وكتب جيل كيبيل "يوم الله"، وكتب بيتر بيرجر كتابه "العودة إلى سحر العالم"، ويقصد بالسحر: الدين، فيما يشبه معارضة لكتاب ميشيل جوشيه "بعيدا عن سحر العالم"..، وكلهم يذهبون إلى فكرة العودة.. وهناك مدرسة أخرى قريبة من هذه المدرسة تمثلها "دانيال لوجيه" وهي باحثة في علم الاجتماع مختصة في تحليل الظاهرة الكاثوليكية، وهي تذهب هي الأخرى إلى ضرورة إعادة النظر إلى العلمانية، ولكن طرحها لا يتطابق مع دعاة نظرية عودة الله؛ فهي تتحدث عن أن المجتمعات التي تمت علمنتها تستطيع أن تنتج منتجات دينية، ولكن هذه المنتجات الدينية الجديدة تتوافق مباشرة مع الحداثة العلمانية نفسها، ومن ثم فالعودة هنا ليست لأشكال دينية تقليدية، ولكن لفكرة التدين.(12/385)
وأنا لا أتفق مع كلا الاتجاهين، وأرى أن الحديث عن عودة الدين يجب أن يتصل بنهاية الاستقطاب بين الشيوعية والرأسمالية كنظم قيم وليس كدول فقط؛ فهو ما أدى إلى إعادة طرح فكرة الدين من جديد. فلم تعد مسألة الانتماء يسيرة بعد انهيار الأيدلوجيات ونهاية الروايات الكبرى للعالم، وهو ما أعاد الاعتبار لفكرة المعنى: من نحن؟ ومن أين؟ وما العالم؟..
ومن ثم فإنه مع أي إعادة تشكيل للعالم فإن هناك مشكلة وأزمة في الهوية التي لم تعد بنفس الوضوح الذي كانت عليه.. وقد أدخلنا سقوط الاتحاد السوفيتي إلى ما أسميه باستنزاف للسياسة، وأعني عدم وجود عقائد سياسية كبرى تستوعب الناس، وهو ما أدى إلى التوظيف السياسي للدين، فاستنزاف السياسة جعلنا نلجأ للموارد المتاحة حاليا، وهي الأديان.. إذ أدت خلخلة الهوية لنوع من الحماس الديني؛ لأن الأحاسيس والمشاعر اتجهت لأهم الموارد الرمزية التي ما تزال باقية والتي تعطي معنى للعالم: وهي الأديان.
* وكيف ترى هذا الظهور الجديد للدين؟ وما معناه؟
-فرضيتي الأساسية لهذا الظهور الجديد للدين أنه مؤشر ووسيلة لإدارة ديناميكيات اجتماعية وسياسية شمولية أوسع، وهناك ثلاثة مستويات تفسر الظهور الجديد للدين في الفضاء العام باعتباره:
- مؤشرا ووسيلة لإعادة تشكيل العلاقة بين الزمان والمكان.
- مؤشرا ووسيلة لإدارة أزمة الهوية.
- مؤشرا ووسيلة لإدارة استنزاف السياسة، بعد أن صارت لدينا أزمة سياسية تتمثل في أننا الآن لدينا سياسة وليس لدينا دافع لها، فهي سياسة بلا يوتوبيا سياسة بلا حلم.
فنحن الآن في العصر أو الزمن العالمي، وهو عصر سمته الأولى تقليص الزمن، فأنت في أي مكان وبلمسة واحدة تستطيع الحصول مباشرة على ما تشاء من معلومات عبر الإنترنت من دون فاصل زمني، لقد صرنا في فضاء زمني مفتوح، وأصبح من المستحيل على أي مجتمع أن يرى نفسه منفصلا أو كجزيرة منعزلة، ونفس الشيء مع المكان، فقبل انهيار الاتحاد السوفيتي كنا ندير علاقتنا بالمكان بالانغلاق، وكان رمز هذا الانغلاق هو سور برلين الذي يفصل بين الشرق والغرب، تغير ذلك كله الآن.. فلم يكن انهيار سور برلين مجرد انهيار سور أو حتى نظام، ولكنه كان انهيارا لفكرة الانغلاق وفكرة أن المكان مغلق وأن هناك شرقا وغربا؛ المكان الآن مفتوح ولم يعد هناك شرق وغرب... وقضية الأديان هي إدارة هذا التفكك أو هذا الانفتاح..
والسؤال الآن هو كيف تتحرك في مكان وفضاء مفتوح؟.
ولكي نوضح ذلك أضرب مثالين:
الأول خاص بإستراتيجية الكنيسة الكاثوليكية تحت قيادة جون بول الثاني (البابا يوحنا بولس الثاني) والتي تعرف بروعة الحق، فطوال الوقت يعمل جون بول الثاني على تأكيد مركزية روما والفاتيكان في الكنيسة الكاثوليكية، ولكن سعيه لذلك يتم من خلال السفر والانفتاح والحضور الكثيف في الخارج كوسيلة أساسية لاستعادة هذه المركزية وتأكيدها، أي أن الفاتيكان يعمل طوال الوقت على دعم مركزيته بينما -وفي نفس الوقت- يؤكد البابا دائما على هذه المركزية من خلال حضوره بالخارج.
المثال الثاني هو أنه في خلال ألفي عام تقريبا من تاريخ الكاثوليكية لم يكن من الممكن توحيد منهجية التعليم الديني الكاثوليكي على مستوى العالم إلا مرتين فقط؛ الأولى عند الخروج من القرون الوسطى وبدء عصر النهضة وعصر اكتشاف أمريكا في عصر يتسم بالتوسع المكاني بعيدا عن الإقطاعيات المنغلقة، في حين جاءت المرة الثانية في عصر جون بول الثاني أيضا: حين انفتح العالم مرة ثانية.
الدين ومسألة الهوية
* وكيف انعكس ذلك على الهوية، وما شكل علاقتها بالدين في هذا السياق؟
-نحن في عصر أعيد فيه تشكيل العلاقة بين الزمان والمكان تماما.. وهو ما أحدث خلخلة وذبذبة أعادت حضور الدين مجددا كفاعل رئيسي.. فتمت تعبئة الدين بهدف إعادة بناء الهوية. وفي مسألة الهوية، فإن كل المقاييس التي كانت تنظم مسألة الهوية فيما مضى تغيرت، ومن ثم فقد صارت معايير تحديد الهويات غير واضحة، فنتيجة هذه الخلخلة أو الذبذبة لم تعد الهويات ثابتة كما كانت سابقا، لقد صارت الهويات متحركة ومتغيرة وهو ما يعني أنها أضحت ضعيفة، وللتوضيح نضرب أمثلة مختلفة:
فالنوع الجنسي الذي كان يحدد الهوية (ذكر أو أنثى) تغير فأعيد تعريف الذكورة والأنوثة حتى بيولوجيا، وظهر الجندر أو النوع الاجتماعي بديلا عن النوع البيولوجي، ولم يعد مقبولا فكرة التفرقة الجنسية في تنظيم الحياة (مثل العمل).
كما شهدنا حالة انفجار في النماذج الأسرية بعد أن تكسرت الأسرة النووية التقليدية، وقد رصدت دراسة في فرنسا 27 نموذجا أسريا مختلفا بينت عدم الوضوح، أو التغيير السريع في الهوية الأسرية؛ فمثلا نجد أن الفرد يمكن أن يكون لديه ابن ويتزوج من امرأة لديها ابن والأربعة يعيشون مع بعضهم في نفس المنزل، ونجد الابنين يتعاملان مع بعضهما معاملة الإخوان، ولهما نفس الأقارب من طرف الأب والأم بينما في الأوراق الرسمية ليس لها أي صلة.(12/386)
كما حدث التغير نفسه في الهوية المهنية: ففيما مضى كان العمل أكثر ثباتا، وكان الواحد يمتهن مهنة معينة طول حياته الوظيفية، بينما الآن يمكن أن يتنقل من شركة إلى أخرى أو من مجال عمل إلى آخر، ويتم ذلك بسهولة ومرونة.
وكذلك الحال في الهويات الاجتماعية إذ لم تعد فكرة التفرقة البرجوازية أو ظهور الطبقة العمالية والأرستقراطية ثابتة، وصار ممكنا الانتقال بين الطبقات.
وفي الهويات السياسية: تغير محور اليمين واليسار الذي كان سائدا قبل سنوات، وكان يعطي إمكانيات لتفسير السياسة ورسم خريطتها، ولم يعد له الآن نفس المركزية التي كان عليها.
والشيء نفسه فيما يخص الهويات الوطنية، حدثت تغيرات عميقة أهمها التغير في مفهوم ونظام الدولة القطرية، فلم يعد من الممكن في فرنسا -مثلا- أن نتحدث عن وحدة التاريخ المشترك بيننا كفرنسيين فقط، وصار من المفترض إعادة النظر في فكرة المواطنة نفسها بعد أن انفتحت الدولة الفرنسية لموجات الهجرة، كما تكسر وهم "المثل" الذي كانت تعتمد عليه الدولة الوطنية، كما تكسر نظام الدولة القطرية بسبب مطالب الاستقلال المحلية (دعاوى الاستقلال في أسكتلندا عن بريطانيا وكورسيكا عن فرنسا والشمال في إيطاليا والأندلس في أسبانيا..) وضعفت الدولة القطرية من مستوى أعلى تمثل في ظهور كيانات أكبر منها مثل الاتحاد الأوربي، كما جاء الضعف نتيجة الاعتراف باستحالة علاج بعض المشكلات على مستوى الدولة القطرية مثل قضية التقنية العلمية (فليس هناك دولة الآن تستطيع أن تصنع طيارات بمفردها؛ لأن هذا مشروع أوربي ليس فرنسيا أو إيطاليا أو ألمانيا..) وحقوق الإنسان وحماية البيئة.. فكلها قضايا صارت فوق قطرية وعابرة لحدود كل دولة. وهذا ينطبق أكثر ما يكون على حركات المقاومة والحركات المناهضة للعولمة فهي لا تتم في إطار الدولة وإنما تتسع على مستوى العالم.
ومن أكثر الهويات التي صارت تفتقد للوضوح الهويات الدينية؛ وإعادة تشكيل الهويات الدينية يتم في نفس السياق لكل الهويات الأخرى، بمعنى أن الشأن الديني ليس منفصلا عن المجتمع، وبالتالي فإن الهوية الدينية تفقد الاستقلال والاستقرار نتيجة الفردنة، بمعنى أنها يمكن أن تتغير ولا توجد أي مؤسسة دينية يمكن أن تمنع ذلك، فقد صار من الصعب أن تقنع المؤسسة الفرد بوجود شيء مستقر ومطلق ومركزي ينظم كل شيء (القدر والنصيب..) يمكنه أن يؤمن به، والهويات الدينية مثل الهويات الأخرى تتقدم وتتغير وتنمو نموا سريعا، ولا يمكن النظر إلى أن التحركات بين الهويات لا يمثل ضعفا في الهوية، فالهويات متنقلة وتعكس مناخا عاما يؤثر في الهوية ويشكلها بمختلف أشكالها، سواء اجتماعية أو أسرية أو جنسية أو دينية، فأبناء الجيل الثاني من العرب في فرنسا يحملون الهويتين العربية والفرنسية في نفس الوقت، ورغم أنه بإمكان الواحد منهم أن يختار أن يكون فرنسيا فقط، لكنه دائما ما يرجع إلى أصوله العربية ردا على التهميش وعدم الاعتراف بخصوصيته؛ ولأن الهوية العربية تصطدم مع بعض مبادئ الهوية الفرنسية التقليدية، فالحل في هذه الحالة المصير لمستوى آخر في الهوية وهو الإسلام؛ بمعنى التخلص من الهوية العربية إلى هوية أكبر وأوسع يمكن أن تضم الهوية الفرنسية أيضا، لكن تتجاوزها وتحقق الخصوصية والتميز (شعار مسلمي فرنسا: فرنسي نعم ولكن مسلم أيضا)، وهو ما يمكن أن يفسر صعود الدين بين أبناء الجاليات المسلمة.
وأود التأكيد على أنه وإن كانت هناك حركات تفكيك دينية، ولكن هناك رد فعل عليها بمحاولات إعادة البناء، والتحدي أمام حركات إعادة البناء هو تكوين هويات قابلة للحركة، والهوية المتحركة لا تعني أن الهوية نفسها تتحرك، ولكن تعني أن الناس أنفسهم يعترفون بأنهم يتحركون من هوية لأخرى.
الدين في ظل السيولة والتنقلات
* لكن في ظل هذه السيولة الدينية على ما يتضح من سردك ماذا سيتبقى من الدين في إطار التنقل والتغيير والنسبية، ما هو تأثير ذلك على الدين والتواصل بين دين ودين؟(12/387)
-نحن في سياق إعادة تشكيل عام للعلاقة بين الإيمان ومضمون الإيمان، فالمناخ العام يشير إلى قبول حركة التنقلات بين المرجعيات الدينية، ومن نتيجة البحوث الاجتماعية في أوربا نلاحظ أن الناس لا يتأثرون بالمضمون، فمن الممكن أن يكون الفرد مسيحيا لفترة ثم يخرج منها إلى الإسلام ويعرج منه للبوذية، وربما انتهى إلى مزيج إيماني من عدة ديانات مختلفة، وهو ما نراه بوضوح لدى المتصوفة في أوربا فالتصوف حالة إيمانية لا تتعلق بدين محدد، بل ربما يدخلها ملحدون كما أسلفنا، وهو ما نسميه بعصر new age (أو الإيمان دون انتماء ديني محدد)، لكن هذه ليست قاعدة ثابتة؛ إذ يمكن لهذا المشوار أو الطريق الإيمانية أن تتوقف ويستقر الفرد في مرجعية دينية معينة، وهو ما نراه في المنتمين للحركات الإسلامية الأصولية في أوربا، فهم بمجرد دخولهم في هذه المرجعية الدينية استقروا غالبا فيها ولم يدخلوا - كأبناء جيلهم- في new age، ولكن في أغلبية الوقت يمكن أن نفسر الإيمان في أوربا على أنه كمشوار أو كطريق، فالإيمان حاليا ليس معناه أن ينتمي الفرد لديانة معينة، وإنما يعني التنقل بين مرجع إلى آخر والحركة بدلا من الاستقرار.
* ولكن أليس من المفروض أن يخلق هذا نوعا من التسامح -بصرف النظر عن موقفنا بالرفض أو القبول- فلا حروب أو صراعات دينية، ولكن ما يحدث أن العالم لا يسير بالضرورة إلى ذلك؟
- تتوقف زيادة التسامح على عدة عوامل، فإذا كان الفرد في موضع قبول للحركة والتنقلات والتغيير، فهو مبدئيا بضع نفسه في مبدأ النسبية بقبوله فكرة التغير، وفي هذه الحال ينفصل التدين عن العنف. ولكن إذا رفض مبدأ الحركة فإن التدين يميل إلى العنف؛ لأنه يركز فقط على فكرة الانتماء والرغبة الدائمة في التمييز بين الأنا والآخر. وغالبا فليس هناك قبول تام للحركة، وليس هناك أيضا رفض تام لها، ولكن الذي يحدث هو استعمال الدين لجعل فكرة الحركة والتنقل والتغيير أكثر ألفة، خذ مثلا ظهور العذراء في مدينة "لورد lou r des" الفرنسية، وهو ما ترتب عليه بدء فكرة الحج لهذه المدينة، فقد حدث هذا في عصر دخول الحداثة للمدينة عن طريق انفتاحها لفرنسا وللعالم، والقضية هنا ليست مدى صحة هذا الظهور من عدمه، بل تتعلق بأن هذا الظهور جاء في وقت انفتاح هذه المدينة، وأنه جاء ليسهل هذا الانفتاح، ولنا أن نلاحظ أن العذراء تكلمت مع سكان المدينة بالفرنسية كما يروون!
وهناك نماذج أخرى، مثل الحجاب في فرنسا فهو لم يكن مرتبطا برفض الحداثة أو فكرة الحركة، لكن كان تعبئة معينة لتكوين هوية كانت فيما مضى مفككة إلى حد ما، ولا يمكن اعتبار أن المحجبات لا يؤمن -بالضرورة- بمبادئ الجمهورية العلمانية الفرنسية، فالحرية الفردية -التي أتاحت لهن ارتداء الحجاب على خلاف أهلهن ومجتمعهن- هي من مبادئ الجمهورية، وليست من مبادئ الإسلام كما تقدمه بلاد العالم الإسلامي نفسه (!!)، وعلى هذا فلنا أن نتساءل: هل العودة إلى الهويات والأممية تخالف حركة الفردنة؟.. لا أظن ذلك بل أنا أميل إلى أنها أولى مراحل الفردنة كما هو الحال بالنسبة للحجاب في فرنسا الذي كان إحدى وسائل الفردنة إذ عن طريق الحجاب والعودة إليه غالبا ما تكون البنت أكثر استقلالية عن أسرتها (!!).
* بالصورة التي رسمتها لتأثيرات نهاية الروايات الكبرى على الدين وإعادة تشكيله والتمييز بينه وبين الإيمان، كيف ترسم شكل وخريطة الحركات والأفكار الدينية وما ستكون عليه الأديان مستقبلا، هل سيحدث انسحاب لحركات وأفكار أديان وتقدم لأخرى؟ ومن منها المستفيد من هذا التعديل؛ فالبعض يتحدث مثلا عن أن الإنجيلية ستكون ديانة المستقبل، وأنها ستقضي على الكاثوليكية معتمدا على إحصاءات تؤكد الانتشار السريع لها حتى في مناطق النفوذ الكاثوليكي التقليدية مثل أمريكا الجنوبية؟
- لدي تحفظات على فرضية أن الإنجيلية ستكون ديانة القرن الحادي والعشرين، صحيح أنها تنتشر بكثافة كما أشرت، ولكن نلاحظ في الوقت نفسه أنها تتراجع في أماكن أخرى مثل كوريا، صحيح أن الكنيسة الكاثوليكية هي الخاسر الأكبر في المستقبل، لكن هناك طوائف دينية أخرى ستستفيد أكثر من الإنجيلية، وعلى رأسها البوذية ليس بشكلها التقليدي، ولكن طبقا للشكل الأوربي، والمعيار في ذلك هو قدرة كل ديانة على مساعدة الإنسان في التكيف مع الحداثة والعولمة كمناخ جديد، فالبوذية تتناسب تماما مع الطلب الشخصي المتزايد لديانة تضمن الراحة النفسية؛ فهي ديانة من غير ضغوط أو قيود أو تنازلات كثيرة، وقد أجريت دراسات مؤخرا اكتشفنا معها عدد معتنقي البوذية يزيد عن أربعة ملايين نسمة في فرنسا وحدها وهو رقم كبير على ديانة وافدة حديثا على بلد كفرنسا.(12/388)
وبالنسبة للإنجيلية فمن أسباب انتشارها أنها ديانة تساهم في العبور إلى الحداثة، والاندماج في الاقتصاد المتعولم، ولنضرب مثالا بالفلاحين في "جواتيمالا" وكيف ساعدتهم الكنائس الإنجيلية ماديا ومعنويا، فمن ميزات الإنجيلية أنها تعتمد على "فقه" الرفاهية؛ بمعنى أن الثروة هي من دلائل تفضيلك عند الله، وهذه نظرية بروتستانتية قديمة، وهي تقدم لمن ينتمي إليها كل المساعدات المادية من حيث إمكانية الحصول على تعليم وفرص عمل وحياة أفضل، وهي تساهم في إدخال المؤمنين بها في الاقتصاد المتعولم.
===============(12/389)
(12/390)
الخروج من العلمنة والعلاقة بالحداثة
معتز الخطيب **
04/12/2005
معتز الخطيب
بات أي حديث في الشأن العام يتصل بالحديث عن الإسلام من أي النواحي أتيتَه، من الإرهاب أو الإصلاح، أو الديمقراطية أو الحديث عن الدولة وسلطتها ومسار العلمانية ومستقبلها وصولا إلى الوفاق الوطني وغيره. ومع تزاحم الأحداث وتعاقبها، سنشير إلى مختارات منها، لنتوسل بها في مناقشة جملة من الأفكار.
*مشهد الأحداث
*الخروج من العلمنة
*علاقة الدين بالحداثة والديمقراطية
*عودة الدين ومعناها
مشهد الأحداث
في سنة 2000 تحدث جون إسبوزيتو وجون كين وآخرون ضمن كتاب "الإسلام والعلمانية في الشرق الأوسط" عن فشل تيار العلمانية في بلدان الشرق الأوسط، وأنه في انحسار مستمر لصالح تيار الفكر الإسلامي. غير أن هذه الأطروحة ربما كان عليها أن تنتظر حدثا جللا كأحداث سبتمبر وما أحدثته من تحولات لتصبح أكثر بروزا، فقد كان العنوان العريض لحروب الولايات المتحدة الأمريكية هو نشر الديمقراطية، وكتب فوكوياما في ديسمبر/ كانون الأول 2001 أن "مسيرة التاريخ العريضة" ستتقدم بناء على نتيجة الحرب العسكرية (في أفغانستان والعراق)، و"التطور الثاني والأهم ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه، فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر ما إذا كان يريد أن يصل إلى وضع سلمي مع الحداثة، خاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية والتسامح الديني". ومع سقوط نظام صدام حسين تساءل بعض الكتاب عن "مستقبل العلمانية في المنطقة" (الحياة 28 سبتمبر/ أيلول 2003)، في حين أوصت مؤسسة "راند" البحثية (2004) -ضمن ما أوصت - بدعم العلمانيين في العالم الإسلامي وتعزيز فكرة فصل الدين عن الدولة في الإسلام.
إن العلمانية باتت موضع نظر، وبات حضور الدين في الشأن العام أمرا ظاهرا ومنتشرا.
غير أن ما أسفرت عنه الطبخة الأمريكية للعملية السياسية في العراق هو حكومة دينية طائفية، وكان رئيس الحكومة العراقية افتتح كلمته في مؤتمر القاهرة (19 نوفمبر 2005) حول الوفاق الوطني العراقي بالحديث عن مفهوم الوحدة في القرآن وهو بهذا يحاول أن يستقوي على مخالفيه بالعودة للمرجعية القرآنية.
وحينما حضرنا الجلسات الخاصة لمؤتمر "الديمقراطية والإصلاح في الوطن العربي" (الدوحة 3 يونيو/ حزيران 2004) قال صلاح عيسى في موقف يعكس رأي أصوليي العلمانية: "إن الدولة الديمقراطية لا بد أن تكون علمانية، ووجود حزب ديني يعني وجود دولة دينية، والدولة الدينية استبدادية".
الخروج من العلمنة
من خلال هذا المشهد الموجز أقل ما يمكن أن يقال: إن العلمانية باتت موضع نظر، وبات حضور الدين في الشأن العام أمرا ظاهرا ومنتشرا. حتى إن الملتقى الثاني للمثقفين الأمريكيين والعرب الذي انعقد مؤخرا (7 -11 تشرين الثاني/نوفمبر) كان حول "الدين في المجال العام في التجربتين الأمريكية والعربية"، وهو عنوان دال، خاصة في كلمة "التجربتين" تلك، فقد كتب "بيتر بيرجر" و"هارفي كوكس" الأبوان الروحيان لمقولة سيادة العلمانية، كتبا عن "المدينة العلمانية" ثم عادا واعترفا بعد ذلك بأنهما أخطآ فكتب "بيرجر" يقول: "إن العالم ما يزال متدينا"، وكتب جون فول (أستاذ التاريخ الإسلامي بجورج تاون) مقالا (بتاريخ 9-7-2004) يتحدث فيه عن "الإسلام ونهاية العلمنة"، ولأن حديث النهايات ذو نَفَس أصولي/أرثوذكسي لا بد من توضيح أن "فول" يعني أننا نشهد نهاية حقبة كانت تعتبر فيها العلمنة معطى لازما في تطور المجتمعات الحديثة. فهو يركز على أن علمنة المجتمع واستحسان العلمنة هي مجرد جزء من عالم الرؤى والأفكار المتنافسة، وليست ببساطة توصيفا سوسيولوجيا علميا لما يسمى بالحقيقة الواقعة. ومن هنا يمكن أن نلمح التعامل مع العلمانية بوصفها أيديولوجيا منافسة في الفكر الإسلامي المعاصر، إذا ما استثنينا الخطاب السلفي الذي تحدث عن تكفيرها عقديا.
ما أود قوله هو ما أقر به باتريك ميشيل من أن هناك في الوسط الأمريكي تيارا مضادا لمقولة سيادة العلمنة، ويقول بالخروج منها. وفيما مضى كان الحديث يتم عن الاستثناء الأمريكي، بمعنى أن هناك بلدا -الولايات المتحدة الأمريكية- سيظل متدينا في عالم تغلب عليه العلمانية، بينما يمكن الحديث الآن عن الاستثناء الأوربي العلماني الذي يعيش في وسط الأغلبية المتدينة.(12/391)
في الواقع أن الحديث عن "عودة الدين"، ليس جديدا، فقد دفعت جملة من الأحداث العالمية في منتصف السبعينيات إلى الحديث عنه، وعلى وجه التحديد ألف جيل كيبل كتابه "يوم الله" (الطبعة العربية الأولى 1992) ورصد فيه ما سماه "التجدد الديني" في الأديان الثلاثة الإبراهيمية، وأدرج ذلك كله في سياق واحد هو سياق "فقدان الحداثة الخاصة بالسبعينيات لمصداقيتها"، من خلال سياقات أربعة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات وهي: الإسلام المتوسطي (الثورة الإسلامية، حماس، جبهة الإنقاذ) والبروتستانتية الأمريكية (دور الجماعات المعمدانية والإنجيلية في انتخاب كارتر، وريجان، وبوش الأب) والكاثوليكية الأوربية (دور الكنيسة في بولندا) واليهودية (نفوذ الأحزاب التوراتية في السلطة وصعود الليكود).
ولم يكن كيبل وحده، فقد كتب هارفي كوكس كتابه "عودة الله"، وكتب بيتر بيرجر كتابه "العودة إلى سحر العالم" أي الدين، وكذلك تحدث أوليفيه روا عن "إعادة الأسلمة". وهذه العودة للدين كانت دعوة سابقة وتم التنظير لها في الفكر الإسلامي، وعلى سبيل المثال نذكر كتابات سيد قطب عن الجاهلية وضرورة إقامة المجتمع المسلم، وصولا لكتاب البوطي "على طريق العودة إلى الإسلام" في الثمانينيات. مع ضرورة الإشارة إلى أن (جزءا) من "عودة الدين" كان ما بين 1980-1995 بدعم حكومات استبدادية (علمانية) لموازنة خصومها مما يسمى "الإسلاموية" أو "الإسلام السياسي".
غير أن الجدل هنا يحدث في الأساس حول مسألتين: علاقة الدين بالحداثة ومدى اعتبار أن التحديث سيؤدي إلى إقصاء الدين عن الحياة، والثانية: هو تلك العلاقة التي يراها أصوليو العلمانية حتمية بين العلمانية والديمقراطية. وفي ضوء هاتين المسألتين: يمكن الجدل حول عودة الدين، وبأي معنى يعود؟.
علاقة الدين بالحداثة والديمقراطية
فيما يخص المسألة الأولى، فقد ساد اعتقاد في أوساط المثقفين وعلماء الاجتماع الغربيين بأن التحديث هو المحرك الذي سيتسبب بصورة حتمية في إقصاء الدين عن الحياة، ومن ثم دأب هؤلاء على مدى ما يقرب من ثلاثة قرون على التأكيد على "أفول الدين". غير أن تلك العودة للدين التي تحدثنا عنها، زعزعت تلك التصورات الصلبة وأدت إلى وجود مقولات تبدو مسرفة في المقابل، مثل مقولة رودني ستارك (أحد أبرز علماء اجتماع الدين): "حري بمبدأ العلمنة أن يُلقى في مقبرة النظريات الفاشلة"، أو مقولة "نهاية العلمنة" بالمطلق.
تجربتنا مع التحديث خلال نصف قرن كافية للاعتقاد بخطأ فكرة إقصاء الدين
غير أن تجربتنا مع التحديث خلال نصف قرن كافية للاعتقاد بخطأ فكرة إقصاء الدين، أو أن التحديث سيؤدي إلى إقصائه، أو أن العلمنة وإقصاء الدين توصيف سوسيولوجي لسياق تطور المجتمع واندحار المجتمع التقليدي، وبالنظر إلى الأحداث القريبة ودور الولايات المتحدة في شؤون العالم، جدير بنا أن نتقبل فكرة نهاية العلمنة كأحد أبعاد عملية التحديث.
وفيما يخص الإسلام تحديدا، فقد قدم الأنثربولوجي أرنست غلنر أطروحته بعد أن شغله سؤال "لمَ يكون دين واحد بعينه [الإسلام] على هذه الدرجة الملحوظة من مقاومة العلمنة؟"، وخلص إلى أن في الإسلام إيمانا دينيا عميقا، بمعنى الدين المؤسس العقيدي القادر على تحدي أطروحة العلمنة بشكل كلي ومؤثر. وقال: إن "عالم الإسلام يُظهر بوضوح أن من الممكن إقامة اقتصاد عصري -أو على طريق العصرنة- تخترقه بشكل معقول المبادئ التكنولوجية والتعليمية والتنظيمية المناسبة، ويعمل على ضمها وتوحيدها مع الإيمان الراسخ والتماهي في الإسلام، بكل ما يملكانه من قوة وانتشار وقدرة قادرة على الاندماج في الذات".
وإذا كان إقصاء الدين ليس شرطا للحداثة فإن العلمانية ليست شرطا للديمقراطية أيضا لأنها لا تعدو سوى أيديولوجيا منافسة ولم تعد الحقيقة الواحدة و"الخيار" الوحيد الذي لا بد منه للمجتمعات، والتجارب الحالية تؤكد ذلك، وكان جون كين (بروفيسور السياسة في جامعة وستمنستر)، بحث "حدود العلمانية" طارحا التساؤل الذي يراه مثيرا لاستفزاز العلمانيين وهو في ما إذا كانت العلمانية تحول دون حرية التفكير في الديمقراطية نفسها، وبأنها تحولت إلى دوغما سياسية.
إلى ذلك إن العلمانية تحمل جملة من التناقضات، أبرزها دعوتها إلى حرية الاجتماع الديني، الذي يقود في نهاية المطاف، كما هو الحال الراهن، إلى زيادة رقعة الدين والدعوات الدينية للتدخل في الشأن العام والسياسة باعتبار أن للدين دورا مهما يمكن أن يؤديه في السياسة. وهذا التناقض أدى إلى تقارب العلمانية مع الدكتاتورية تحت مسميات عديدة، يمكن لمسها بوضوح في تركيا وفي فرنسا فيما يخص الحجاب والتعددية الثقافية والاندماج، هذا إذا لم نعتد بالتجارب العربية العتيدة.
عودة الدين ومعناها
وبناء على المسألتين السابقتين، نعود لمناقشة "عودة الدين" وبأي معنى يعود؟(12/392)
يلح عدد من الفرنسيين على النظر إلى هذه العودة إلى الدين من منظار العلمانية نفسها، فمن السهل استخلاص الأفكار وصياغة المفاهيم التي بها يتم التفكير فيما يحدث خارج عالمنا أو عالم تصوراتنا، وبناء عليه يمكن عزو هذه العودة ببساطة إلى "تنامي الأصولية"، غير أن هذه الترجمة الآتية من سياق فكري وديني مختلف لا تصلح للتفسير هنا، فحتى جيل كيبل رأى أن هذا المصطلح "تبسيطي يختزل الظاهرة ويحرفها، ويعيق معرفتنا بتلك الظاهرة في مجملها"، وكثيرا ما يكون العجز عن الفهم بسبب تلك النظارات القديمة والتقليدية التي ننظر بها إلى الأمور.
فمثلا يرى باتريك ميشيل أن هناك استمرارا للعلمانية باعتبارها تقليص سلطةِ أو تأثيرِ المؤسسات الدينية على الفرد وعلى رؤية المجتمع الكبرى وعالمه الرمزي، وأنه لا يوجد ارتداد عنها، فهناك (ظهور جديد) للدين، والقضية هنا هي كيف نفسر هذا الوجود الديني المتعاظم والمؤثر بشكل كبير في فضاء السياسة والاجتماع الإنساني؟
هذه الاستمرارية للعلمانية يراها منبنية على ثلاثة ديناميكيات رئيسية هي: (الفردنة) بمعنى تأسيس علاقة فردية بين الإنسان والمعاني الدينية، والجديد في هذه العلاقة هو شرعية الفردنة وقبولها اجتماعيا، وهذه هي الصفة السائدة الآن للتدين في أوربا. والديناميكية الثانية: الابتعاد عن المؤسسات الدينية حيث تفتقد هذه المؤسسات احتكارها لتعريف ما هو الدين الصحيح، وهو ما حدث في أوربا؛ إذ لم تعد المؤسسة الدينية هي الجهة التي تقول ما هي الكاثوليكية الصحيحة أو البروتستانتية الصحيحة. أما الديناميكية الثالثة فهي استهلاكية العلاقة بالدين؛ أي إدخال بعد استهلاكي للدين.
العلمنة لا تتم في عقول الممارسين للدين بقدر ما تتم في عقول المحللين للظاهرة من العلمانيين
غير أن ما يلاحظ على هذه الرؤية أنها تعزل مفهوم الدين نفسه، لتقتصر على الممارسات فقط القابلة للتوصيف، وكذلك هذه الرؤية محكومة بشكل خاص بالكاثوليكية، ولو قلنا إنها تنطبق بشكل عام على الشأن الديني في أوربا، فإن عالم الإسلام مختلف تماما عن ذلك، فالعلاقة بالدين في الأساس هي علاقة فردية لها أبعادها الاجتماعية الظاهرة أيضا وليست هي علاقة بمؤسسة، وتلك العلاقة المركبة هي أساس التكليف، ولا يمكن الحديث عن مؤسسة دينية بالمعنى الحديث إلا مع الدولة الحديثة التي جهدت في إيجاد مؤسسة رسمية للإمساك بالدين والتحكم بمنطوقه عبر المؤسسة تلك؛ ما نتج عنه مشكلات كبيرة، فالابتعاد عن المؤسسة هو في حقيقته ابتعاد عن الدولة نفسها، حيث يتم منح الشرعية وتعريفها بمقدار العداء للدولة العلمانية المستبدة!.
أما استهلاكية الدين وأن اللجوء إليه يكون فقط لجوءا لممارسة (مريحة) فهذا توصيف لتلك "الصرعات" الدينية السائدة في الغرب، ويتم التفكير بها بمنطق المجتمع الرأسمالي وتحقيق الرفاه، فالعلمنة لا تتم في عقول الممارسين بقدر ما تتم في عقول المحللين للظاهرة من العلمانيين ومن هنا نفهم كيف يقول باتريك إن الحرية الفردية التي أتاحت ارتداء الحجاب هي من مبادئ الجمهورية، وليست من مبادئ الإسلام، ويرى أن الحجاب في فرنسا إحدى وسائل الفردنة إذ عن طريق الحجاب والعودة إليه غالبا ما تكون البنت أكثر استقلالية عن أسرتها!!. ما يعني أننا هنا أمام مقاربة لعودة الدين بنظارة علمانية من جديد. وفي هذا السياق نفسه يندرج ما يطرحه أوليفيه روا حين يعتبر صيغة ما بعد الإسلام السياسي التي طرحها ليست أفول الدين، وإنما صيغة من علمنة الفضاء الذي تنم فيه الممارسات الدينية، لنجد أن القاعدة وهجماتها لديه هي احتجاج على العولمة.
باتريك ميشيل يرى أيضا أن تفسير عودة الدين يجب أن يتصل بنهاية الاستقطاب بين الشيوعية والرأسمالية كنظم قيم وليس كدول فقط؛ وهو ما أدى إلى إعادة طرح فكرة الدين من جديد. ومع إعادة تشكيل العالم فإن هناك مشكلة وأزمة في الهوية، فقد أدت خلخلة الهوية لنوع من الحماس الديني؛ لأن الأحاسيس والمشاعر اتجهت لأهم الموارد الرمزية التي ما تزال باقية والتي تعطي معنى للعالم: وهي الأديان بحسب رؤيته. لكن في المقابل: من طبيعة الأديان الكبرى أنها تقدم موردا رمزيا وتحاول أن تجيب على الأسئلة الكبرى. والعلاقة مع الأديان السماوية ليست طارئة، بل تلك الأيديولوجيات هي الحادثة، وبعد الاستقطاب تركت فراغا بفقدانها لمصداقيتها، وتم الرجوع من قبل بعض النخب إلى الدين، ولا أعتقد "بالعودة" إلى الدين على المعنى الذي يشير إليه باتريك على مستوى عامة الأفراد، فضلا عن أن العودة في المظاهر يدخلها جملة من العوامل مما لا شأن للاستقطاب به. هذا فضلا عن أنه حين يتم الحديث عن "عودة الدين" فهي مقولة نشأت ردا على مقولة كانت سائدة حول "أفول الدين"، والقول بشكل جديد للدين، وليس بعودة، هو التفاف على الرسالة الأساسية التي جاءت لأجلها العلمانية وهي إقصاء الدين عن الشأن العام.
-=============(12/393)
(12/394)
الإسلام ونهاية العلمانية
جون فول **
04/12/2005
عند الحديث عن العوامل الإثنية والدينية في علم الاجتماع البشري اليوم، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل نحن سائرون إلى صراع أم إلى تصالح؟ ورغم أن مفكرين كمايكل فرانز يرون أن عنصر الدين يمثل مشكلة في عالم اليوم، فإنني أرى أن الدين يصلح أن يكون سبيلا للتصالح والوفاق مثلما يمكن أن يكون أداة للصراع.
نهاية نظرية العلمنة
لذا سأطرح رؤيتي للدين باعتباره حلا وليس مشكلة. وسأقدم إطار هذه الرؤية من خلال كلمات رودني ستارك، أحد أبرز علماء اجتماع الدين: "على مدى ما يقرب من ثلاثة قرون، دأب علماء الاجتماع والمثقفون الغربيون البارزون على التأكيد على أفول الدين. وساد اعتقاد بأن التحديث هو المحرك الذي سيتسبب بصورة حتمية في إقصاء الدين عن الحياة".
ثم يستأنف ستارك طرحه قائلا: "لا بد من إعلان نهاية إيمان علم الاجتماع بنظرية العلمنة، والإقرار بأنها لم تكن إلا محصلة لأفكار وتوجهات محببة. فبعد نحو ثلاثة قرون من إخفاق نبوءاته، حري بمبدأ العلمنة أن يُلقى في مقبرة النظريات الفاشلة".
إننا نشهد عالما يُسقِط الفكرة القائلة بأن التحديث يؤدي بالضرورة إلى إقصاء الدين
أظن أننا نشهد عالما يسقط الفكرة القائلة بأن التحديث يؤدي بالضرورة إلى إقصاء الدين. فقد أدبرت تلك الحقبة التي سادت فيها تلك الفكرة. وبالنظر إلى دور الولايات المتحدة في شؤون العالم، جدير بنا أن نتقبل فكرة نهاية العلمنة كأحد أبعاد عملية التحديث، وليس باعتبار ذلك أيديولوجية منافسة أو بديلة.
وكمؤمنين، أو كأمريكيين، أو كبروتستانت متغيرين، أو ككاثوليك إصلاحيين، أو كابن واعظ مسيحي منهجي Methodist كان يدرّس في معهد الجيزويت -كما هو أنا- نحتاج في كل هذه الحالات إلى أن نعترف بدور الدين.
باختصار، هناك ثلاثة عناصر تشكل إطار رؤيتي. سأوجزها أولا، ثم أبسط تضميناتها ونتائجها على علاقة الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي:
أولا: إن خبرة مجتمعات عديدة في العالم خلال نصف القرن الماضي تظهر أن التحديث لا يعني انتهاء دور الدين كقوة فاعلة رئيسة في الحياة العامة. وهذا يعني بدوره أن علمنة المجتمع ليست جزءًا أصيلا في عملية التحديث.
موقع الدين في التحديث
ثانيا: من الواضح أن سياسات "فصل الكنيسة عن الدولة" أو "فصل الدين عن السياسة" لم تكن محايدة دينيًّا. أي أن الدعوة للعلمنة والعلمانية اتخذت في حد ذاتها موقفًا أيديولوجيًّا ودينيًّا. فهذه الدعوة إذن ليست وصفًا موضوعيًّا منفصلاً عن القيمة لما يحدث في عملية التحديث.
ثالثا: ما تقدّم -وباستخدام مصطلحات السياسة- يعني أن العلمنة ليست شيئا يحدث كجزء طبيعي من العملية التاريخية للتحديث. بل يمكن أن ينظر إلى العلمانية كما أظن أنها كانت دائما واحدة من رؤى عديدة متنافسة حول ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع في الحقبة المعاصرة. أي أننا نشهد نهاية حقبة كانت تعتبر فيها العلمنة معطى لازمًا في تطور المجتمعات الحديثة. إننا نشهد نهاية العلمانية.
يمثل هذا الوضع بعدًا مهمًّا لما سمي في بعض الأحيان انبعاث أو إحياء الدين -أو الأديان- مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. ومرة أخرى، فإن ما ننظر إليه وما نريد أن نركز عليه هو أن فكرة علمنة المجتمع وفكرة استحسان العلمنة المترافقة معها هي مجرد جزء من عالم الرؤى والأفكار المتنافسة، وليست ببساطة توصيفًا سوسيولوجيا علميا لما يسمى بالحقيقة الواقعة.
ولهذا المنظور الجديد أهمية خاصة لأجل فهم الإسلام المعاصر، ففي العالم الإسلامي كان ينظر دائمًا وبوضوح للدعوة إلى علمنة المجتمع باعتبارها أيديولوجية منافسة، أكثر من كونها جزءًا ضروريًّا وأصيلاً في عملية التحديث.
هل العلمنة قرين التحديث؟
فكرة علمنة المجتمع هي مجرد جزء من عالم الرؤى والأفكار المتنافسة، وليست ببساطة توصيفا سوسيولوجيا علميا لما يسمى بالحقيقة الواقعة.
فعلى مدى قرنين، ركزت المؤثرات (والنتائج) الرئيسة لعملية الإصلاح في العالم الإسلامي على إنشاء أمم حديثة، ودول حديثة، ودول قومية حديثة. وفي وقت مبكر، أدت الفكرة السائدة حول أن التحديث يشمل قدرًا من فصل الدين عن الحياة العامة إلى وسم دعاة الإصلاح والتحديث بالعلمانية.
كانت أهم عناصر برامج الإصلاح والتحديث، في القرنين التاسع عشر والعشرين، إحداث انفكاك واضح من الماضي؛ الذي كان يعتبر ويعرّف باعتباره "تقليديًّا". وقد أكد ذلك ما صدر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من دراسات العلوم الاجتماعية الرئيسة المختصة بتعريف التحديث.
وكان من أهم الدراسات حول التحديث والتي لعبت دورًا مهمًّا في تشكيل فهم العمليات المتصلة بالتحديث كتاب نشر في الخمسينيات بعنوان "اندحار المجتمع التقليدي" لمؤلفه دانيال ليرنر. أرسى الكتاب رؤية واضحة لما كان يعتقد أنها قضايا التحديث.(12/395)
وضمن مناقشات الكتاب، تحدث ليرنر عمن أسماهم "الانتقاليين". وفي هذا السياق، كان هناك "التقليديون" الذين كان من بين ما يعتقدونه أن الدين شيء مهم جدًّا. وهناك أيضا من كانوا نتاجًا لعملية التحديث، وهم الحداثيون؛ الذين يعتقدون -ضمن ما يعتقدون- أنه ليس للدين دور في المجال العام، وأنه أمر شخصي يتعلق بحياة الفرد الخاصة.
ولدى وصفه للانتقاليين في تركيا، يقول ليرنر: إنهم "يكتسبون حراكا عقليا (في الوعي)، أي قدرة شخصية على التعرف والانفتاح (على الآخر) والتواصل الفاعل. إنهم يعلمَنون كما أنهم ينشطون. وفي نظرهم، يكون التعاطي مع المشكلات بصياغة وصنع سياسات، وليس بالصلاة والدعاء".
هذه صورة لما كان يفترض أن يكون عليه الشخص التحديثي. لكن مع وصولنا لنهاية حقبة ساد فيها الاعتقاد بأن العلمنة جزء أصيل في عملية التحديث، فإننا نرى أن الكثيرين من الحداثيين في أكثر المجتمعات تحديثا يعتقدون -وهم في مستهل القرن الحادي والعشرين- أن السياسات ليست بالضرورة بديلا عن الصلاة.
في التجربة التركية وتجارب أخرى
ففي تركيا المعاصرة، وبعد مضي أكثر من نصف قرن على دراسة ليرنر، هناك عدد كبير من رجال الأعمال والعلماء والمثقفين -الحداثيين تماما- لا يشعرون بأن عليهم أن يختاروا بين السياسة والصلاة، بل إنهم في المقابل يعيشون منظورا يشمل الاثنين.
كان ينظر (في الغرب) عادة إلى رواد التحديث في العالم الإسلامي من خلال آفاق نظرية العلمنة التقليدية القديمة. وعندما ينظر الأمريكيون إلى العالم الإسلامي، فإنهم يرون في التحديثيين العلمانيين شخصيات بطولية.
ومصطفى كمال أتاتورك في تركيا مثال بارز على ذلك. فقد أرسى أتاتورك أسس المجتمع الحديث في تركيا التي هي واحدة من أعظم حلفائنا، وهي عضو مهم في حلف معاهدة شمال الأطلسي (ناتو)، كما كانت داعمًا رئيسيًّا للغرب خلال الحرب الباردة. ولهذا تأتي نظرة الغرب (ولها ربما ما يبررها) لإنجازات مصطفى كمال، باعتبارها كانت أساسية في قيام تركيا المعاصرة.
من المهم أن ندرك، في سياق دور الدين في الشؤون الدولية وعمليات قيام مجتمعات حديثة، أن مصطفى كمال أقام نظاما سياسيا بناء على ادعاء بأنه لا مناص من إقصاء الدين عن الحياة العامة إذا ما أريد أن يقام مجتمع حديث. وقد حكم رضا شاه بهلوي (في العشرينيات والثلاثينيات) وابنه محمد رضا شاه (في الخمسينيات والستينيات) إيران وفق إطار سياسات مشابهة.
وثمة حالات عديدة أخرى في العالم الإسلامي، حيث كان ينظر للعلمنة باعتبارها جزءًا ضروريًّا من التحديث. ويتضح هذا من توصيف عمليات التحديث الاجتماعي والعمل السياسي كذلك. وغالبا ما اعتبر خلع الحجاب عنصرًا مهمًّا في برامج التحديث، كما يتكرر ذكره في توصيفات برامج الإصلاح.
فقد كانت شرارة "البداية لحقبة جديدة للنساء" في مصر مثلا هي قيام هدى شعراوي ونبوية موسى بخلع الحجاب بصورة مفاجئة درامية وعلنية بعد نزولهما من القطار في محطة السكك الحديدية الرئيسية بميدان رمسيس بالقاهرة، لدى عودتهما من مؤتمر دولي عام 1923.
استحالة فصل الدين عن الحياة العامة
ما يجب الإقرار به الآن هو أن الفكرة القائلة بضرورة فصل الدين عن الحياة العامة لأجل تحقيق التحديث قد دحضت من خلال حياة وخبرات وتجارب أناس كثيرين وبلاد عديدة، في شتى أنحاء العالم، وبصورة خاصة في العالم الإسلامي.
وعندما ننظر إلى العالم الإسلامي في سياق خيارات السياسة الأمريكية، من المهم ألا يغيب عنا هذا الإطار الفكري الأوسع حول نهاية نظرية العلمنة. وهو في حد ذاته مهم؛ لأننا بحاجة إلى البحث عن الحلفاء المناسبين. ففي حقبة تدرك أهمية الحوار الحضاري، نحتاج إلى أن نكون على وعي بالناس الذين نستطيع التحاور والعمل معهم بفاعلية.
وكما خلص جون لينتشوفسكي إلى التأكيد على أهمية أن ترتكز الحرية على أسس أخلاقية، فإنني أريد لذلك التأكيد المهم على أن يمتد لكي نلحظ أن حرية العالم كله تتطلب أسسا أخلاقية.
وإذا كنا نسعى لبناء وتقوية الركائز الأخلاقية للحرية في الولايات المتحدة، فإننا لا نبحث بالضرورة عن حلفائنا من بين أشباه الملاحدة أو الدهريين. وإذا كنا لا نفعل ذلك في الولايات المتحدة ذاتها، فلماذا نفعله عندما نتعامل مع العالم الإسلامي؟ ولماذا نرى في سلمان رشدي مثلا حليفا عظيما ومسلما معتدلا بدلا من البحث والتحاور مع من يؤمنون ويحافظون بقوة على القيم الأخلاقية على أساس ديني، ويعتقدون أن للدين مكانًا في السياسات والحياة العامة.
في مثل هذا السياق، وكمثال بعيد، فإن آية الله الخميني يمثل حليفا أفضل لنا من سلمان رشدي. ولكن على أي حال، فإن خياراتنا المتاحة ليست هي أن نختار بين أمثال سلمان رشدي وأمثال الخميني. فلدينا في العالم الإسلامي أناس يؤمنون ويتطلعون إلى قيام مجتمعات على أساس أخلاقي، ومع هؤلاء نستطيع -كما فعل غيرنا- أن نتحدث.
نحو مجتمع أخلاقي
الصدام المهم في الحقيقة هو بين من يرون أن الدين لا دور له في المجتمع ومن يرون أن له دورا.(12/396)
وأود أن أشير هنا إلى مجموعة من المثقفين، تضم بين أعضائها المؤرخ الأمريكي أنتوني سوليفان وكاتب هذا المقال، وتسمى "الحلقة"، وهي تمثل مجهودا على نطاق صغير يهدف إلى تقديم وسيلة أو آلية للتواصل الفعال، بناء على وعي مشترك وإيمان بمجتمع أخلاقي. وتضم المجموعة ضمن أعضائها أيضا مثقفين غربيين ومسلمين مثل فهمي هويدي (مصر)، وراشد الغنوشي (تونس).
وهناك آخرون كثيرون في العالم الإسلامي، بعضهم أكثر ظهورًا من غيرهم، ويمثلون أمثلة ذات دلالة على أهمية الدين في الحياة العامة وفي سياقات وخلفيات الحداثة.
وثمة قادة كذلك مثل أنور إبراهيم (ماليزيا) الذي جمع بين الالتزام الديني والدور القيادي في السياسة العامة. ورغم أن الرجل مسجون الآن في بلاده بسبب صراعات سياسية محلية، فإنه -وآخرين كثيرين من أمثاله- يمثلون دحضا عمليا لنظرية العلمنة القديمة.
في حقبة نهاية العلمنة كمعطى مسلَّم به، وفي زمن ينبغي فيه القبول بالعلمانية كإحدى الأيديولوجيات المتنافسة على صياغة وتعريف الرؤية التي نريد للمجتمع أن يكون عليها، يمكننا -بل يجب علينا- أن نختار حلفاء مؤثرين. فعندما نتوجه نحو العالم الإسلامي، لسنا مضطرين للتعامل فقط مع العلمانيين غير المؤمنين (اللاأدريين).
في عالمنا المعاصر هناك صدام، نعم، وهناك نزاعات. ولكن النزاع ليس هو بالضرورة -الصدام الذي طرحه صمويل هنتنجتون- صداما بين الحضارات، وبالأخص كحالة صراع بين الإسلام والغرب، وضمن حرب كونية بين المسلمين وغير المسلمين.
الصدام المهم في الحقيقة هو بين من يرون أن الدين لا دور له في المجتمع ومن يرون أن له دورًا. في ذلك الصدام، سيكون للذين يؤمنون -بأن الحرية لا بد لها من قاعدة أخلاقية قوية على أساس ديني للدفاع عنها- حلفاء طبيعيون كثيرون في العالم الإسلامي.
===============(12/397)
(12/398)
الإسلام والعلمانية في الشرق الأوسط
خدمة كامبردج بوك ريفيوز **
…
04/12/2005
اقرأ أيضا:
تقول الأطروحة الأساسية للمساهمات المتعددة في هذا الكتاب: إن تيار العلمانية في بلدان الشرق الأوسط، وخاصة العربية، قد فشل وهو في انحسار مستمر لصالح تيار الفكر الإسلامي. وللتأسيس لهذه الأطروحة يقدم أحد محرري الكتاب، جون إسبوزيتو، بروفيسور الأديان والعلاقات الدولية في جامعة جورج تاون، تمهيدا استعراضيا لوضع العلمانية في الشرق الأوسط في بدايات القرن الواحد والعشرين، يركز فيه على ما يراه تراجعا مستمرا للعلمانية، ليس فقط على مستوى الغالبية العامة عند الناس في المنطقة، بل وأيضا على مستوى النخب.
ويلاحظ إسبوزيتو أن النخب العلمانية الحاكمة في أكثر من بلد لم تستطع استيعاب هذا التراجع أو القبول به، خاصة أن التقدم البديل التعويضي كان يحصل في جانب الحركات الإسلامية واتساع شعبيتها. ويتابع إسبوزيتو بشيء من التفصيل أمثلة الجزائر وتركيا (وتونس إلى حد أقل)، مستنتجا بروز ما يسميه "العلمانية الأصولية" في هذه البلدان. ويرى أن خطر هذه "الأصولية" الجديدة يكمن في النظر إلى العلمانية على أنها ليست خيارا من الخيارات بل "الخيار"، وأنها السبيل الأوحد الذي يجب أن تنهجه المجتمعات (ص 9)، أو كما تحولت -كما يصفها عزام تميمي - إلى "دين جديد" (ص 28).
والمشكلة الكبيرة هنا هي أن النخب العلمانية الحاكمة لا تريد أن تعترف بالتغيرات الاجتماعية والفكرية والسياسية الجذرية التي حدثت ولا تزال تحدث في بلدانها حيث بروز تيارات شعبية غير علمانية وتحديدا إسلامية، ولا ترى وسيلة للتعامل مع هذه التغيرات إلا قطع الطريق عليها وقمعها كما حدث في البلدان المذكورة.
الأطروحة الأساسية للكتاب أن تيار العلمانية في بلدان الشرق الأوسط، قد فشل وهو في انحسار مستمر لصالح تيار الفكر الإسلامي.
والمفارقة الغريبة التي يلتفت إليها أسبوزيتو هي أن العلمانية في الشرق الأوسط صارت متلازمة مع الدكتاتورية رغم أنها تزعم الحرية والانفتاح والديمقراطية الليبرالية. ويضرب أمثلة على ذلك بتحالف الجيش وأجهزة الأمن مع النخب العلمانية الحاكمة لإحباط التحولات الديمقراطية، سواء فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، أو فوز حزب الرفاه في أكثرية المقاعد البرلمانية في تركيا وتسلم أربكان للوزارة، أو فوز حركة النهضة التونسية بعدد كبير من المقاعد في الانتخابات التونسية التي سبقت حل الحركة وإعلان الحرب عليها.
أما من ناحية تاريخية فإن عزام التميمي، مدير معهد الفكر الإسلامي في لندن، يرصد "أصول العلمانية العربية" متابعا السجالات الفكرية التي ميزت أوائل حركة الاتصال الفكري العربي-الغربي. فيعرج على مساهمات "الإسلاميين الحداثيين" الأوائل مثل رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحاولاتهم الاقتباس عن الغرب مع الحفاظ على الهوية والحضارة الإسلامية، ثم يتناول "المسيحيين الحداثيين" الأوائل مثل شبلي شميل، وفرح أنطون، وجورجي زيدان، وسلامة موسى، وغيرهم من الذين دعوا إلى تقديم أفكار مثل حب الوطن والمواطنين على العلاقات التقليدية والدين.
ثم ينتقل إلى الجيل الثاني من "الحداثيين" من أمثال أحمد لطفي السيد وقاسم أمين، اللذين كانا من تلامذة محمد عبده، ويلاحظ تأثرهما بأطروحات الحداثيين المسيحيين خاصة لجهة النظر إلى الإسلام نفس النظرة التي نظرت من خلالها أوربا إلى المسيحية، وبالتالي الدعوة إلى فصله عن الحياة العامة.
تحالف العلمانية مع الدكتاتورية
ومن زاوية نظرية وتأصيلية فكرية متعمقة في العلمانية نفسها كفكرة فان جون كين، بروفيسور السياسة في جامعة وستمنستر، يبحث في فصل ممتع ومهم في "حدود العلمانية". وهو يغوص في جذورها الغربية و"الرسالة" الأساسية التي جاءت بها للحد من تدخل الدين في الشأن العام في السياق الأوربي، طارحا التساؤل الذي يراه مثيرا لاستفزاز العلمانيين وهو فيما إذا كانت العلمانية تحول دون حرية التفكير في الديمقراطية نفسها، وبأنها تحولت إلى دوغما سياسية.
وهو إذ يعود إلى أهم أطروحات أبرز المدافعين عن العلمانية في الوقت الراهن ودعوتهم المعتدلة إلى "خصخصة الدين، وليس التهوين من شأنه" كما يقول ريتشارد رورتي، فإنه يرى أن العلمانية تحمل تناقضات داخلية لا يمكن القفز عنها، رغم أنها تناقضات لا تصل إلى حد إسقاط العلمانية من الداخل.
التناقض الأول هو دعوتها إلى حرية العبادة وحرية الاجتماع الديني، الذي يقود في نهاية المطاف، كما هو الحال الراهن، إلى زيادة رقعة الدين، والدعوات الدينية للتدخل في الشأن العام والسياسة باعتبار أن للدين دورا مهما يمكن أن يؤديه في السياسة. ففي الوقت الذي لا تستطيع فيه العلمانية إلا أن تعترف وتسمح بحرية الأديان والممارسة الدينية، فإنها تعترف بتناقض داخلي يعمل على تقويضها، وهي لا تستطيع أن تقف في وجهه لأنها تفقد صفتها الليبرالية الأساسية.
العلمانية تحمل تناقضات داخلية لا يمكن القفز عنها، رغم أنها تناقضات لا تصل إلى حد إسقاط العلمانية من الداخل.(12/399)
أما التناقض الثاني فيتمثل في ترافق "عدم اليقين الوجودي" مع العلمانية ليحل محل اليقين الديني عند الأفراد، وهذا لا يشبع التطلعات الإنسانية والروحية عند الناس خاصة في عالم مليء بالضغوط والتوترات حيث يحاول الأفراد الوصول إلى سبل السكينة والراحة الخلاصية على المستوى الداخلي لهم، وحيث تبرز أهمية "التضامن الديني" (ص 33).
ويشير كين إلى تناقض داخلي آخر هو تقارب العلمانية مع الدكتاتورية تحت مسميات عديدة. ويضرب مثلا على ذلك تركيا وإلى حد ما فرنسا، ففي الأولى تتحالف العلمانية مع الدكتاتورية العسكرية تحت مسميات حماية الدستور العلماني من تصاعد المد الإسلامي، وفي الثانية تتحالف العلمانية مع ممارسات دكتاتورية مثل منع الحجاب أو التضييق على المسلمين تحت مسمى الاندماج أو محاربة التعددية الثقافية.
تعريف جديد للعلمانية
وفي مساهمة أخرى في الكتاب يناقش عبد الوهاب المسيري، بروفيسور الأدب الإنجليزي المتخصص العربي في الصهيونية والعلمانية، التعريفات الأساسية للعلمانية ويطرح مجموعة مفاهيم جديدة. ففي مقابل التعريف المشهور للعلمانية بأنها "فصل الدين عن الدولة" يدعو المسيري إلى تعريف جديد يصف جوهر النظرة العلمانية إلى العالم عبر التفريق بين العلمانية الجزئية (تقابلية الدين والدولة) والعلمانية الشاملة التي تعني فهم العالم والاجتماع الإنساني وفق نظرة علمانية صارمة وشاملة لجميع جوانب حياتهم، وليس فقط الجانب السياسي المعني بالدولة كجهاز حكم.
ويرى المسيري أن هذا التعريف أدق وأكثر عملية في فهم "الصيرورة العلمانية" وفي فهمها كمتتالية وليس فقط كشيء جزئي متسامح مع بقية منظومات الأفكار والمؤسسات الاجتماعية الإنسانية. فالعلمانية، بكونها منهج حياة شاملا، لا تقبل بأقل من السيطرة الكاملة على مناحي الحياة الإنسانية، وهذا يعني تكريس النظرة المادية ليس للأشياء فحسب، بل وللجوانب الإنسانية في حياة البشر أيضا، أو ما يسميه المسيري في كتاباته العربية "حوسبة الحياة" أي جعل كل الأمور وسائل مادية.
رفع القداسة عن العلمانية
الصراع هو بين الإيمان الذي يجسد ما هو متجاوز، والافتراض العلماني الثيوقراطي بأن الحقيقة التامة قد تم الوصول إليها.
أما برويز منصور، كاتب وباحث إسلامي آسيوي، فقد ساهم في هذا الكتاب بدراسة عميقة تدعو إلى تفكيك "القداسة" عن العلمانية، ونقض الادعاء السائد بأنها موئل الحقيقة والعلم. والتفكيك الذي يقوم به منصور عبر الرحلة الفكرية الشيقة لمكونات الفكر الغربي وبالتحديد الفكر النتشوي ثم موضع هذا الفكر والنظر إلى خلاصاته "العلمانية" كنتاج للتطور والصيرورة التاريخية الغربية، ثم عزل هذا النتاج عن التطبيق القسري على المجتمعات والصيرورات التاريخية لبقية مناطق العالم.
وهو يقول بأننا يجب ألا ننظر إلى العلمانية "كنظرية كبرى" قادرة على تفسير الظواهر، أو جاهزة للتطبيق في كل مكان وزمان، كما أنه من غير العملي أن يتم حبس النقاش وكأنه صراع بين قيم الإسلام الإيمانية ومنطلقات الحداثة العقلانية، أو بين رغبة الإسلام للتمكن والنظام العالمي المتمكن، بل بين الإيمان الذي يجسد ما هو متجاوز والافتراض العلماني الثيوقراطي بأن الحقيقة التامة قد تم الوصول إليها (ص 96).
اسم الكتاب: الإسلام والعلمانية في الشرق الأوسط.
المؤلف: جون إسبوزيتو- عزام التميمي- جون كين- عبد الوهاب المسيري- برويز منصور.
عدد الصفحات: 214
الطبعة: الأولى - 2000م
الناشر: دار نشر هيرست وشركاه، لندن- بريطانيا
===========(12/400)
(12/401)
تحولات العلمانية وممانعة الإسلام
معتز الخطيب **
04/12/2005
كتب فوكوياما في ديسمبر/ كانون الأول 2001 أن "مسيرة التاريخ العريضة" ستتقدم بناء على نتيجة الحرب العسكرية (في أفغانستان والعراق)، و"التطور الثاني والأهم ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه، فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر ما إذا كان يريد أن يصل إلى وضع سلمي مع الحداثة، خاصة في ما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية والتسامح الديني". وتحدث كاتب آخر عن "الحرب في العراق ومستقبل العلمانية في المنطقة" (الحياة 28 سبتمبر/ أيلول 2003)، في حين أوصت مؤسسة "راند" البحثية (2004) -ضمن ما أوصت- بدعم العلمانيين في العالم الإسلامي وتعزيز فكرة فصل الدين عن الدولة في الإسلام.
في المقابل تحدث هنتنجتون في كتابه الأخير عن تحديات للهوية الأميركية، منها مناداة الليبراليين بشكل متكرر بسيادة قيم العلمانية وفصل الدين عن الدولة وعن الحياة العامة الأميركية، ما أضعف -برأيه- المكون الديني المسيحي للهوية الأميركية.
ويرى هنتنجتون أنه لبناء الهوية الأميركية لا بد من تحولين أساسيين، أولهما عودة الأميركيين للدين المسيحي وزيادة دور المسيحية في الحياة العامة الأميركية، وثانيهما الدور الذي يمكن أن يلعبه الإسلام كعدو أساسي جديد لأميركا. ومؤخرا كتب جون فول عن "الإسلام ونهاية العلمانية"، نهايتها بوصفها أحد أبعاد عملية التحديث وليس كأيديولوجيا منافسة.
هل لهذا كله معنى؟
إننا أمام توجهين رئيسيين، الأول يدعو إلى العلمانية بوصفها حلا لمشكلة العالم الإسلامي مع "العالم الحر"، والثاني يدعو إلى دور للدين في الشأن العام والحياة العامة، ما يعني خروجا على المعنى الشائع للعلمانية، وإن كان لا يصل إلى القول بنهاية المفهوم حتى لا نقع في المبالغات الصحفية، فضلا عن أن حديث النهايات ربما قرئ على أنه ينطلق من أرضية متطرفة، ترى أن أي تحول عن المنظومة الأرثوذكسية لنسق أو مفهوم ما: هي نهاية له.
لكن مع هنتنجتون يتم استعمال الدين لتفعيل الصدام استكمالا لنظريته في صدام الحضارات التي هي تصنيف بحسب الدين أساسا، في حين أن "فول" يتحدث عن إمكان تحالف مع المؤمنين الذين يعتقدون أن للدين دورا في الحياة العامة بدلا من البحث عن الملحدين وأشباههم، لأن الحرية يجب أن ترتكز على أسس أخلاقية.
هذه الكتابات تحملنا على معالجة مسألتين: الأولى وهي إمكانية علمنة الإسلام كما تطرحه بعض رؤى الإصلاح الأميركية بعد 11 سبتمبر/ أيلول. والثانية هي التحولات التي تشهدها العلمانية خصوصا بعد أحداث سبتمبر/ أيلول، لكن لا يمكن الخوض في المسألتين كلتيهما دون الخوض في المفهوم والتباساته.
سؤال المفاهيم والتباساته
لا يمكن القول بأن المكونات التأسيسية للنموذج العلماني قد جاءت من حضارات متنوعة المصدر، فذلك يؤول إلى اعتبارها "صالحة لكل زمان ومكان"، بمعنى أنها تغدو لا تاريخية في مقابلة مع "القرآن".
فمن المهم في أي حديث تحديد المفهوم أولا، لأن المفاهيم مفاتيح للفهم ومرايا للوعي، وكيف يمكن تحديد العلائق بين المفاهيم دون التمييز بينها وتحديد مدلولاتها؟ من هنا فإن "العلمانية" نفسها من أكثر المفاهيم التباسا، وكما يقول محمد أركون "كلمة العلمانية لا تدل على شيء، وليست لها أرضية مفهومية -ولا تاريخية ولا فلسفية- في اللغة العربية. إنما هي كلمة معلقة في الهواء".
ومن هنا تعددت تعريفاتها ومركباتها المفهومية، خصوصا في الفكر العربي المعاصر، ليس لكونها ليس لها أرضية مفهومية عربية فقط، بل لأنها متلازمة مع الغرب والاستعمار، بوصفها مكونا منسوبا إلى سياق حضاري وتاريخي خارجي، ومعاديا في الآن نفسه، وما يفرزه ذلك من التباسات متشعبة بدءا من الاختلاف بين طبيعة المسيحية والإسلام، وانتهاء باختلاف الثقافات وحديث الخصوصيات، فضلا عن التباس السجالات الأيديولوجية المسيسة حولها. ويأتي هذا في مقابل نزوع بعض العلمانيين إلى الحديث عن أنسنة المشروع العلماني ونسبته إلى البشرية عامة وتهميش مقولة المنشأ الغربي للمفهوم والنموذج.
إنه لا يمكن القول بأن المكونات التأسيسية للنموذج العلماني قد جاءت من حضارات وسياقات ومفاهيم اجتماعية متنوعة المصدر، الغرب واحد منها!، فذلك يؤول إلى اعتبارها "صالحة لكل زمان ومكان"، بمعنى أنها تغدو لا تاريخية في مقابلة مع "القرآن" بالنسبة للمسلمين، ما يجعلنا أمام دين في مواجهة دين!.
وضمن هذه الرؤية ربما يأتي حديث البعض عما سماه "الطبيعة العلمانية للإسلام"!. ومن ثم يغدو سؤال: هل الإسلام دين علماني؟ من هذا القبيل سؤالا أيديولوجيا يستعير التباسات مفهومية من خارج فضائه المفهومي كما سيتبين، فضلا عن أن المفهوم يعكس جملة من الأزمات والصراعات والرؤى الفلسفية والحلول للعلاقة بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية (الكنيسة) في السياق الغربي.(12/402)
ورغم صعوبة تحديد مفهوم العلمانية، فإن التعريف البسيط والشائع لها هو "فصل الدين عن السياسة" أو الدولة، بمعنى أن الرسالة الأساسية التي جاءت بها هي الحد من تدخل الدين في الشأن العام. وهذا المعنى البسيط يثير عددا من الإشكالات والالتباسات المفهومية التي ينبغي تأملها وبحثها، إذ يستعير ثنائية "الدين والدولة" الغربية المنشأ، ويرادف بين السياسة والدولة.
مفهوم الدين -كما ورد في اللغة العربية وفي اللغات السامية جميعا- يشمل السياسة ويشمل الاقتصاد ويشمل الحساب والعقاب كيوم الدين ويشمل الخضوع والإذعان ويشمل الاستقرار كما في المدنية، ويشمل مجموعة من المعاني التي تعني نمطا حياتيا متكاملا فيه الاقتصادي والاجتماعي والديني والأخروي والعمراني وكل ما هو داخل في المعنى اللغوي لمفهوم الدين. وحين نضعه في ثنائية الدين والسياسة، نوازي بين الأصل وفرعه، فالسياسة فرع عن الدين بمعناه الواسع.
كما تتجلى صعوبة استخدام مفهوم "الدين" من نواحٍ عدة، منها العمومية والإطلاقية التي تضفى على هذا المفهوم، وتوحي بالمساواة الكاملة بين مختلف الأديان، كما أنه لا يعير اهتماما للتمييز بين "الدين" و"الفكر الديني"، فالفكر الديني في جزء كبير منه بشري متغير وغير مقدس، وعلى النقيض من ذلك "الدين" مقدس ثابت مطلق، في حين هو ينحاز مسبقا للفكر العلمي (المادي الحسي) بما هو فكر بشري أيضا يقصي نظيره ويرفض الميتافيزيقي، ومن ثم فلا معنى للحديث عن حياد.
وبالنسبة لمفهوم السياسة فهي تعني -كما يعرفها ابن القيم- "أخذ الناس إلى الصلاح، وإبعادهم عن الفساد". يقول ابن عقيل -أحد فقهاء الحنابلة- "لو أنك تقصد أنه لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فهذا غلط وتغليط للصحابة، السياسة هي أي فعل يكون فيه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم يفعله الرسول ولو لم يرد فيه نص قرآني". فالسياسة فعل اجتماعي عام.
وأطلقت السياسة في التاريخ الإسلامي على كل ما يتعلق بأمور التهذيب والتربية والإصلاح والتكوين، ومن ثم لم تكن السياسة هي الدولة، وإنما كانت السياسة هي الفعل الاجتماعي أكثر من كونها هي الدولة.
هذه الالتباسات المفهومية تجعل من أي حديث عن العلمانية في السياق العربي الإسلامي محل إشكال، إذ تخضع لاستعارات خارجية وإسقاطات مغايرة.
الإسلام وتحدي أطروحة العلمنة
إشكال العلمانية مع الإسلام لا يقتصر على اختلاف مفهومي، فثمة أسباب تاريخية وبنيوية وفكرية لممانعة الإسلام ضد العلمنة، ومن ثم لن يكون لدعوات الإصلاح الديني الأميركية المطروحة بعد 11 سبتمبر/ أيلول صداها وتأثيرها البنيوي على الإسلام.
كان الأنثربولوجي أرنست غلنر طرح تساؤلا عميقا وهو: "لم يكون دين واحد بعينه [الإسلام] على هذه الدرجة الملحوظة من مقاومة العلمنة؟" معتبرا القول بأن العلمنة تنتشر في الإسلام هو "ببساطة أمر زائف بالأساس".
تتلخص رؤية غلنر في أن الإسلام دين مؤسس يختتم التراث الإبراهيمي وأنبياءه بصورة نهائية، وفكرة التوحيد فكرة مركزية صارمة فيه، وأن الإسلام عقيدة وشريعة معا، وليس هناك من انفصال بين خصائص العقيدة وخصائص الشريعة، كما أنه لا يوجد فيه قانون كنسي، بل شريعة مقدسة في ذاتها قابلة للتطبيق على جماعة المؤمنين لا على تنظيم أو مؤسسة.
ولحقيقة استيلاء الإلوهية على التشريع مضامين عميقة، ما يعني أن ثمة نوعا من الفصل بين السلطات داخل تركيبة المجتمع الإسلامي منذ البداية الأولى، فهي تُخضع السلطة التنفيذية إلى التشريع (الإلهي)، وفي الممارسة الفعلية تحول اللاهوتيون/ القانونيون إلى مراقبين يضبطون ويرصدون صراطية واستقامة وصلاح السياسة بغض النظر عما إذا كانوا يملكون سلطة تنفيذية أم لا.
أما مبدأ "لا تجتمع أمتي على ضلالة" فربما يمنح إجماع الأمة -لا المركز السياسي- نوعا من السلطة التشريعية، وضمن إجماع الجماعة هذا يصبح صوت العلماء والفقهاء مؤهلا لأن يملك ثقلا خاصا.
وأمكن للشريعة أن تتوسع بناء على منهجية معرفية راسخة (أصول الفقه)، فكان القانون الدستوري -إذا جاز التعبير- والمعيار المتعالي المتاح والمتفوق للاستقامة والصلاح بعيدا عن متناول السلطة السياسية والتلاعب به لمصلحتها.
غلنر: إن في الإسلام إيمانا عميقا بمعنى الدين المؤسس العقيدي القادر على تحدي أطروحة العلمنة بشكل كلي ومؤثر.
كما أن الإسلام يغيب فيه نظريا طبقة رجال الدين (الإكليروس)، فليس هناك مكانة مقدسة تفصل الداعية أو المرشد وغيره عن جماهير المؤمنين، فهو وإن تمتع بكفاءة ومكانة أرفع، ليس كائنا اجتماعيا من نوع مختلف، وبهذا يتميز النظام اللاهوتي الإسلامي بالمساواتية التامة، والمؤمنون على نفس المسافة من ربهم.
وتاريخيا لم يعرف المجتمع الإسلامي ازدواجية الكنيسة/ الدولة، وأحد أسباب ذلك النجاح السياسي السريع والمبكر الذي عرفه الإسلام في وقت لم يكن فيه المجتمع الكاريزمي الأصلي بحاجة إلى تعريف نفسه باعتباره معاديا للدولة، فقد كان هو الدولة منذ البداية الأولى.(12/403)
الخلاصة التي ينتهي إليها غلنر أن في الإسلام إيمانا دينيا عميقا، بمعنى الدين المؤسس العقيدي القادر على تحدي أطروحة العلمنة بشكل كلي ومؤثر.
تحولات العلمانية.. وتناقضاتها
في سنة 2000 تحدث جون أسبوزيتو وجون كين وآخرون ضمن كتاب "الإسلام والعلمانية في الشرق الأوسط" عن فشل تيار العلمانية في بلدان الشرق الأوسط، وأنه في انحسار مستمر لصالح تيار الفكر الإسلامي.
ثم جاءت أحداث سبتمبر/ أيلول وما تلاها من حروب أميركية وجهاد ضدها وجدل ديني سياسي على مستويات مختلفة من السياسة إلى التعليم والممارسة الدينية، وتعاظم دور القوى الدينية وتأثيرها في الحياة السياسية العراقية كل ذلك أسهم في بروز ودعم تلك الأطروحة.
قد يبدو ذلك أمرا عاديا يؤكد أطروحة غلنر، لكن المثير والجديد هو التسييس الشديد للمشاعر الدينية الأميركية، من خلال الإقبال المستجد من جانب "المولودين من جديد" على النزوع التبشيري الكبير، والهجوم للسيطرة على سياسات الدولة الأميركية الخارجية، خاصة في الشرق الأوسط، وهو يعكس مظاهر الصحوة الدينية في الولايات المتحدة، خاصة خلال عقد التسعينيات، وهي صحوة سادت مختلف الطوائف الدينية الأميركية وعلى رأسها الجماعات الإنجليكية التي نجحت في بناء عدد كبير ومؤثر من المؤسسات السياسية.
العودة العامة للدين في أميركا انعكست على الروايات الأميركية وظهرت في الشركات والمؤسسات الاقتصادية، كما أثرت على الحياة السياسية، وتمظهرت في الحضور الكبير للقضايا الدينية والمتدينين في إدارة الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش.
جاءت أحداث سبتمبر وما تلاها من حروب أميركية وجهاد ضدها وجدل ديني سياسي لتؤكد أطروحة انحسار العلمنة.
الصحوة الدينية -وفقا لتحليل هنتنجتون- تصب مباشرة في الدور المساعد الذي يمكن أن يلعبه الدين على الساحة الدولية، ومن ثم فهو يبشر بأن العودة للمسيحية تمثل عاملا مهما في دعم الهوية الأميركية ونشرها خلال الفترة الراهنة.
هذه التحولات تعني -ضمن ما تعني- ضرورة الفصل بين التحديث والعلمنة، والمثال الأبرز والمعبر هنا هو تلك الدعوة الأميركية لتخصيص يوم للصلاة لنصرة الجنود الأميركيين في العراق التي ترافقت مع خطط الحرب، وهو ما يؤكد فكرة جون فول، ويتفق مع غلنر أيضا الذي يقول إن "عالم الإسلام يُظهر بوضوح أن من الممكن إقامة اقتصاد عصري -أو على طريق العصرنة- تخترقه بشكل معقول المبادئ التكنولوجية والتعليمية والتنظيمية المناسبة، ويعمل على ضمها وتوحيدها مع الإيمان الراسخ والتماهي في الإسلام، بكل ما يملكانه من قوة وانتشار وقدرة قادرة على الاندماج في الذات".
ورغم أن أطروحة هنتنجتون والتحولات السابقة تشكل تحديا للعلمانية، فإنها تسهم في تعرية "الأصولية العلمانية"، خاصة العربية التي ترى أن العلمانية هي الخيار الأوحد لتحقيق التحديث والديمقراطية.
ففي مؤتمر "الديمقراطية والإصلاح في الوطن العربي" (الدوحة 3 يونيو/ حزيران 2004) ألح البعض على ضرورة العلمانية كشرط لتحقيق الديمقراطية، وهي دعوة لا تريد أن تعترف بالتغيرات التي تحدث على الساحة الفكرية والسياسية، كما لا تحترم معتقدات الشعوب، ولا ترى وسيلة للتعامل معها إلا بقطع الطريق عليها وقمعها، لأنها تدرك جيدا أن دعوة العلمانية إلى حرية العبادة وحرية الاجتماع الديني يقود في نهاية المطاف إلى زيادة رقعة الدين والدعوات الدينية للتدخل في الشأن العام والسياسة، وبهذا القمع تفقد صفتها الأساسية وهي الليبرالية، ما يجعلها متلازمة مع الدكتاتورية كما هي حاليا، وهنا يتم تبرير الانقضاض على الديمقراطية تحت ذريعة أن الإسلاميين لا يعترفون بها كما حدث في الجزائر مثلا، أو منع الحجاب في فرنسا تحت مسمى الاندماج وصيانة العلمانية!
=================(12/404)
(12/405)
مجمع الفقه ينتقد الدعوة العلمانية لتحرير المرأة
عمان - طارق ديلواني - إسلام أون لاين.نت
لفيف من العلماء في الدورة الـ 17 لمؤتمر المجمع
اختتم مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي أعماله في العاصمة الأردنية بإصدار عدة توصيات أبرزها التحذير من المؤتمرات الدولية التي تعقد حول حقوق المرأة وتنطلق من مفهوم علماني، وتعتبر أن بعض أحكام الشريعة الإسلامية قامعة لحرية النساء.
وفي البيان الختامي للمؤتمر انتقد علماء وفقهاء ومفكرو العالم الإسلامي "مؤتمرات التنمية والسكان" التي تعقد في مجال حقوق المرأة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية والثقافية، وذلك بسبب انطلاقها من مفهوم "فصل الحياة عن الدين" واعتبارها بعض مبادئ الإسلام وأحكامه شكلا من أشكال التمييز ضد المرأة.
وحذر المشاركون في الدورة الـ 17 للمؤتمر، الذي اختتم فعالياته الأربعاء 28-6-2006، من اتخاذ شعار "المساواة بين الرجل والمرأة" مبررا لأمور وممارسات مخالفة للإسلام.
ودعوا إلى ضرورة حماية المرأة المسلمة من الممارسات والعادات والتقاليد التي تعرضها للظلم وتنتهك حقوقها التي تقرها مبادئ الشريعة الإسلامية إضافة إلى مبادئ حقوق الإنسان الدولية.
مسلمو الغرب
ومن بين توصياته، توجه مجمع الفقه بدعوة إلى الدول الإسلامية لإمداد الأقليات المسلمة في الدول غير الإسلامية بما يعينهم على تقوية وجودهم واندماجهم.
كما دعا المؤتمرون إلى تأسيس مركز معلومات شامل عن أوضاع المسلمين في الدول غير الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي؛ بما يسمح بتغطية تركيبتهم الديموجرافية والتأريخ لهم وإيضاح مكانتهم في الدول التي يعيشون بها.
ورأى العلماء عدم وجود مانع شرعي من إسهام المسلمين المقيمين بدول غير إسلامية في الأنشطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي لا تتعارض مع ثوابت الدين، ولا سيما إذا اقتضت المواطنة ذلك، شريطة أن لا تشكل مشاركتهم تهديدا على هويتهم وشخصيتهم الإسلامية.
الإرهاب
من ناحية أخرى، أكد العلماء تحريمهم لجميع أعمال الإرهاب وأشكاله وممارساته، واعتبارها أعمالا إجرامية تدخل ضمن جريمة الحرابة، أينما وقعت وأيا كان مرتكبوها.
ونصت التوصيات في هذا الشأن على أنه: "يعد إرهابيا كل من شارك في الأعمال الإرهابية مباشرة أو تسببا أو تمويلا أو دعما، سواء كان فردا أم جماعة أم دولة".
وشدد العلماء على ضرورة معالجة الأسباب المؤدية إلى الإرهاب "وفي مقدمتها الغلو والتطرف والتعصب والجهل بأحكام الشريعة الإسلامية، إضافة إلى إهدار حقوق الإنسان، وحرياته السياسية والفكرية، واختلال أحواله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية".
كما طالب العلماء بالتمييز بين جرائم الإرهاب وبين المقاومة المشروعة للاحتلال بالوسائل المقبولة شرعاً باعتبار أن "إزالة الظُلم واسترداد الحقوق المسلوبة، هو حق معترف به شرعاً وعقلاً وأقرته المواثيق الدولية".
المذاهب الثمانية
واعتبر المشاركون في المؤتمر أن كل من يتبع أحد المذاهب الثمانية: الحنفي، المالكي، الشافعي، والحنبلي، والجعفري، الزيدي، والإباضي، والظاهري، هو مسلم لا يجوز تكفيره ويحرم دمه وعرضه وماله.
وأشارت التوصيات إلى أن ما يجمع بين المذاهب المعتمدة أكثر من الاختلافات بينها؛ موضحة أن أصحاب هذه المذاهب متفقون على المبادئ الأساسية للإسلام، وأن اختلاف العلماء من أتباع المذاهب هو اختلاف في الفروع وبعض الأصول.
وأكد المشاركون أيضا على عدم تحميل مسئولية المذاهب العقدية والفقهية والتربوية أي ممارسات خاطئة ترتكب باسمها من قتل للأبرياء وهتك للأعراض وإتلاف للأموال والممتلكات.
ودعت التوصيات إلى ضرورة توعية علماء المذاهب المختلفة بمنهج الاعتدال والوسطية بشتى الوسائل العملية، مشيرة في الوقت نفسه إلى وجوب التصدي للمذاهب والاتجاهات الفكرية المعاصرة التي تتعارض مع مقتضيات الكتاب والسنة.
كما اعتبر المؤتمرون أنه لا يجوز تكفير أصحاب العقيدة الأشعرية ومن يمارس التصوف الحقيقي، وكذلك لا يجوز تكفير الفكر السلفي الصحيح.
إرهاب الاحتلال
من ناحية أخرى، دعا مجمع الفقه الإسلامي المجتمع الدولي إلى وقف إرهاب سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، ومن بين أشكاله قتل للأبرياء من أطفال ونساء ورجال.
كما شدد المجمع على ضرورة إنهاء احتلال العراق، وندد بالعنف والإرهاب الدائر هناك، ومحاولة إثارة النزاع الطائفي، مطالبا المرجعيات الشيعية والسنية ببذل كل ما في وسعها لإيقاف هذا المسلسل "الدامي الخطير".
وحول الصومال، وجه المجمع نداء إلى فرقائه يدعوهم فيه إلى المصالحة الجادة والفعالة، ونبذ العنف والاقتتال، وتغليب المصلحة العليا لبلادهم على المصالح الشخصية.
وكانت فعاليات الدورة الـ17 لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، بدأت السبت الماضي بعمان.(12/406)
وجاءت استضافة الأردن لهذا المؤتمر ضمن جهود عمان منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، لتعزيز الخطاب الديني المتسامح، ورفض منهج التكفير، خاصة أن الأردن يضم "تيارا تكفيريا عريضا" خرج من رحمه أبو مصعب الزرقاوي الزعيم السابق لتنظيم القاعدة في العراق.
===============(12/407)
(12/408)
تونس.. مخاوف علمانية من انتشار الحجاب
تونس- أ ف ب- إسلام أون لاين.نت/ 9-3-2004
العودة القوية للحجاب أثارت مخاوف العلمانيين بتونس
رغم الحظر القانوني والتضييق الأمني الشديد على ارتداء الحجاب في تونس، فإن شوارع المدن التونسية شهدت في الأشهر القليلة الماضية عودة قوية ولافتة للنظر لارتداء الحجاب بشكل أوسع بين التونسيات بعد أن كان قد اختفى تقريبا خلال التسعينيات من القرن الماضي، وهو ما أثار مخاوف بعض التيارات العلمانية القريبة من السلطة والرافضة للحجاب.
وذكر تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية الثلاثاء 9-3-2004 أن موضوع العودة القوية للحجاب في تونس أثار مناقشات حادة داخل الحركة النسائية التونسية (علمانية) والتي انقسمت الآراء بداخلها بين مؤيد له "باعتباره خيارا مشروعا باسم الحرية الشخصية"، وآخر رافض له "لما يرمز إليه من انغلاق ورجعية"، بحسب تقديره.
يشار إلى أن ارتداء الحجاب محظور في تونس بحكم القانون رقم 108 الذي صدر في عام 1981 في عهد الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، الذي اعتبر الحجاب "زيا طائفيا" وليس فريضة دينية، ودعا لمنعه خاصة في الجامعات ومعاهد التعليم الثانوي.
وقد عبرت "الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" (علمانية، غير حكومية) عن "قلقها العميق" لتنامي ارتداء الحجاب في تونس مؤخرا بعد أن كان شبه مختفٍ طيلة العقدين الأخيرين.
"انغلاق ورجعية"!
وشددت الجمعية التونسية أثناء انعقاد المؤتمر السنوي لها الإثنين 8-3-2004 الذي يوافق اليوم العالمي للمرأة، على "رفضها القاطع للحجاب لما يرمز إليه من انغلاق ورجعية"، بحسب تصورها.
واعتبرت دراسة قدمتها الجمعية خلال المؤتمر أن "الدين والعادات والتقاليد والتعليم" أهم مصادر قلق المرأة في تونس.
وتلقى العودة القوية لارتداء الحجاب تفسيرات عدة بين أوساط المراقبين، فهي في نظر الغالبية عودة إلى الدين الإسلامي وهو ما ركزت عليه بعض الفضائيات العربية في الآونة الأخيرة، فيما ينظر البعض الآخر إليها على أنها "تحصن بالهوية الإسلامية في مواجهة الغرب المهيمن والمحتل" لكل من فلسطين والعراق.
"لا معنى" للحرية مع الحجاب!
ورأت بعض الأصوات العلمانية المؤيدة للحكومة، والمتشددة في المطالبة بمنع الحجاب، أن تأييد الحجاب باسم الحرية "لا معنى له".
وقال النقابي صالح الزغيدي، القريب من الحركة النسائية بتونس، لوكالة الأنباء الفرنسية: إن تأييد "ارتداء الحجاب باسم الحرية لا معنى له خاصة أنه يخضع لتعاليم دينية".
فيما أكدت السيدة التونسية فاطمة قسيلة أنه رغم رفضها الشخصي لارتداء الحجاب "رفضا قاطعا، لكن احترام الآخر هو سيد الموقف ويجب الخضوع له".
وتتجدد بين حين وآخر في تونس حملات منع النساء من ارتداء الحجاب كما تتعرض الطالبات المحجبات بصفة خاصة إلى المضايقة. وتوجه في هذا السياق أصابع الاتهام إلى أطراف علمانية داخل السلطة تسعى لمحاربة مظاهر التدين بكل قوة داخل المجتمع التونسي.
حظر "اللباس الطائفي"
وتقول السلطات التونسية: إن الإجراءات ضد المحجبات تأتي تطبيقا للقانون الذي جاء به منشور 108 ويمنع ما تطلق عليه "اللباس الطائفي".
وينص قانون الأحوال الشخصية التونسي الصادر في العام 1956 على المساواة التامة بين المرأة والرجل ويمنع تعدد الزوجات ويؤكد أن النساء مواطنات كاملات الحقوق.
احتجاجات قوية في 2003
وشهد العام الماضي 2003 احتجاجات تونسية قوية على موقف السلطات التونسية المتشدد من قضية الحجاب.
وفي هذا السياق طالب عدد من المحامين والشخصيات السياسية التونسية رئيس الدولة زين العابدين بن علي بالتدخل العاجل لإيقاف الانتهاكات المتواصلة ضد النساء التونسيات المرتديات للحجاب.
إهانة المحجبات
وجاء في عريضة وقعها أكثر من 100 محام وناشط حقوقي حصلت "إسلام أون لاين.نت" على نسخة منها يوم 11-11-2003 أن "النساء التونسيات المرتديات للحجاب يتم حرمانهن منذ بداية السنة من العمل ودخول المعاهد والجامعات، كما يعمد رجال الأمن دون موجب قانوني إلى تعنيفهن، ونزع الحجاب بالقوة مع الشتم والوصف بشتى النعوت، ولو أمام أزواجهن أو إخوانهن، وإجبارهن على إمضاء التزام بعدم ارتداء الحجاب مستقبلا".
كما سعت أوائل العام الماضي 2003 محامية تونسية ناشطة في مجال حقوق الإنسان في سابقة هي الأولى من نوعها لإلغاء القانون الذي يمنع ارتداء الحجاب داخل المؤسسات التابعة للدولة.
وقالت سعيدة العكرمي المحامية العضوة في المجلس الوطني للحريات بتونس -غير معترف به- في تصريحات لشبكة "إسلام أون لاين.نت" يوم 2-2-2003: إن رفعها لهذه القضية أمام المحكمة الإدارية لإلغاء القانون رقم 108، جاء انطلاقا من قناعتها الراسخة بأنه "يتعارض مع المنطلقات الأساسية للميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي يحض على حرية الاعتقاد، وممارسة الشعائر الدينية واختيار الإنسان الزي الذي يناسبه".(12/409)
وأدانت طالبات تونسيات يوم 2-6-2003 حملة شنتها الحكومة ضد الحجاب وأدت إلى حرمان بعضهن من خوض امتحان نهاية العام الدراسي 2002-2003، فيما اعتبرت منظمات حقوق إنسان تونسية هذا الإجراء بحق الطالبات المحجبات مخالفا للمعاهدات والمواثيق الدولية.
وفي السياق نفسه أيضا انتقد "المجلس الوطني للحريات بتونس" في بيان له يوم 30-5-2003 منع العديد من المعاهد العليا والكليات الطالبات اللاتي يرتدين الحجاب من دخول المؤسسات التعليمية.
وكان الصادق شعبان وزير التعليم العالي والبحث العلمي التونسي قد وجه منشورا إلزاميا حمل رقم 70 بتاريخ 27-12-2002 إلى كل عمداء ومديري المؤسسات التعليمية حول ما سماه "ارتداء الزي الطائفي".
وجاء في هذا المنشور أنه "يمنع الدخول لهذه المؤسسات على كل من يرتدي أزياء ذات إيحاءات طائفية، أو يحمل أية إشارات أخرى من هذا القبيل".
==============(12/410)
(12/411)
الصراع العربي (الإسرائيلي) تحت الرايات العلمانية(1-3)
الأربعاء:07/03/2007
(الشبكة الإسلامية) عبد العزيز كامل
الشبكة الإسلامية >> الأقصى في خطر
احتفل الكيان الصهيوني بذكرى مرور (50 عاماً) على إعلان (دولة إسرائيل) تلك الدولة المسخ التي زرعتها أحقاد الغرب، بينما تعهدتها بالرِّي والنماء أخطاء العرب.
نعم، فما كانت (إسرائيل) لتبقى وتعلو، أو لتوجد أصلاً، لولا سلسلة من أخطاء تترادف، وخطايا تتراكم، ممن وضعوا أنفسهم في واجهة هذا الصراع الديني الاعتقادي، حيث تعمد هؤلاء عن سابق إصرار وترصد أن يفرغوا هذا الصراع من محتواه الاعتقادي وخلفيته الدينية من جانبنا، في مقابل تعمد الآخرين عن سابق إصرار وترصد أيضاً أن يصبغوه بالصبغة العقائدية في كل جزئياته، بدءاً من اختيار اسم هذه الدولة (إسرائيل) ورمزها (نجمة داود) ودستورها (التوراة والتلمود) وشعارها (أرض الميعاد) وحلمها التاريخي إعادة بناء (هيكل سليمان) في (أورشليم القدس) حيث يتطلع اليهود لمجيء ملك من نسل داود يحكم العالم!.
أما بنو قومنا، فتحت الرايات العلمانية المتعددة، قد جدوا واجتهدوا في إبعاد الإسلام عن المعركة، وإقصاء القرآن عن توجيهها، وتنحية العقيدة الحقة عن مواجهة العقيدة الباطلة، بل بالغوا في ذلك حتى استبعدوا المسلمين غير العرب من المشاركة في المعركة ابتداء، فأطلقوا على هذا الصراع: (الصراع العربي الإسرائيلي) مرة، و(معركة القومية العربية) مرة أخرى، و(أزمة الشرق الأوسط) مرة ثالثة. بينما كان في الإمكان حشد الأمة الإسلامية كلها خلف الأمة العربية في هذا الصراع الحضاري المصيري بين أمة الإسلام وأمة يهود.
ولكن الذي حصل ولا يزال يحصل أن القيادات العلمانية تصر على التصدي لمعركة ليست لها ولا أهلها، وتأبى التنازل عن مبادئها المنافية للدين، على الرغم من كل أنواع الفشل الذي جرّته على الأمة عبر خمسين عاماً من عمر هذا الصراع.
ولما كانت هذه الأعوام الخمسون قد انقضى نصفها في الحروب الخاسرة، بينما انقضى نصفها الآخر في عمليات السلام الفاشلة، فسوف نبدأ أولاً باستعراض جولات تلك الحروب في النصف الأول من عمر الصراع (1948 1973م) ثم نثنِّي بمسارات ومراحل العملية السلمية في المرحلة الثانية من (1973 1997م).
الجولة الأولى: حرب أيار (مايو) 1948م: انتهت هذه الحرب إلى نتيجة مذهلة؛ إذ تعرضت سبعة جيوش تابعة لسبع دول عربية لهزيمة منكرة، لا أقول أمام جيش لدولة واحدة، ولكن أمام عدة منظمات يهودية شبه عسكرية، وهي تلك التي تم توحيدها بعد ذلك تحت اسم (جيش الدفاع الإسرائيلي) فما الذي حدث..؟
يمكننا التعرف على ذلك من خلال اللقطات التاريخية التالية:
* - بعدما أصدرت الأمم المتحدة قرارها الظالم في نوفمبر 1947م بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، سارع القادة السياسيون العرب إلى اتخاذ قرار بدخول حرب شاملة ل(تأديب) عصابات اليهود، وكان ذلك القرار حماسياً ارتجالياً، لم يسبقه إعداد أو تخطيط، وقد عارض القادة العسكريون قرار الحرب بشدة في هذا التوقيت، وحذروا منه أشد التحذير.
* - فوجئ القادة العسكريون باتخاذ القرار السياسي الفعلي بالحرب، قبل بدء تلك الحرب بيومين أو ثلاثة، في وقت لم يكن لدى معظم الجيوش العربية حتى ميزانية تسمح بدخول حرب، ولم يكن قد جرى تدريبها بعدُ على الدخول في حروب شاملة.
*- اجتمع رؤساء أركان كل من (مصر والعراق والأردن وسوريا ولبنان) قبل الحرب وأعلنوا الاتفاق على إعداد ما لا يقل عن خمس فرق عسكرية كاملة الاستعداد والتسليح مع ستة أسراب من المقاتلات والقاذفات، بحيث تكون جميعاً خاضعة لقيادة عربية موحدة، ولكن هذا الاتفاق لم ير النور، فلم يتم إعداد الفرق، ولم تدبر الأسراب ولم توحد القيادة!
*- لم توضع خطة منسقة للجيوش العربية لخوض الحرب، بل حُدد لكل جيش هدف يصل إليه، وأُجِّل التنسيق إلى ما بعد وصول كل جيش إلى هدفه!
*- لم يتجاوز عدد الجنود العرب الذين سيقوا إلى الحرب خمسة عشر ألف جندي، في حين حشد اليهود نحو ستين ألف مقاتل مجهزين تجهيزاً كاملاً للمعركة التي لم يقرروا هم البدء فيها.
*- دخلت الجيوش العربية الحرب في 15 مايو 1948م، دون أي معلومات عن العدو، بل كانت غالبية تلك الجيوش تقاتل في أرض تجهل طبيعتها وطريقة القتال فيها.
*- كان الفيلق الأردني هو الأجود من حيث التدريب والتسليح، ولكنه مع الأسف كان تحت قيادة الجنرال البريطاني النصراني (جلوب).
*- بالرغم من كل هذا، فقد دفعت العاطفة الإسلامية الجنود العرب إلى إحراز عدة نجاحات في بداية الحرب، كادت أن تحوِّل الدفة لصالحهم ضد اليهود المعروفين بالجبن الشديد في القتال، ولكن حكومتي (بريطانيا وأمريكا) أحستا بذلك الخطر، فسارعتا إلى دفع مجلس الأمن الدولي إلى إصدار قرار بفرض الهدنة اعتباراً من يوم 8 يوليو 1948م ولمدة شهر كامل.(12/412)
*- مرة أخرى سقط السياسيون في العجلة، ووافقوا على الهدنة، فتنازلوا بذلك لليهود عن عنصر المبادأة أو المبادرة، وحرص العرب على أن يظهروا بمظهر الحريص على احترام (الشرعية الدولية)! التي لم تحترمهم، والتي زرعت اليهود في أرضهم.
*- حرص اليهود على استغلال كل دقيقة من فترة الهدنة لتغيير موازين القوى لصالحهم، وسخروا أشد السخرية من غباء القرار العربي بقبول الهدنة، حتى إن (مناحم بيجن) كتب وقتها يقول: (إننا لا نعرف حتى الآن كيف ولماذا قبلت الدول العربية الهدنة، بعد أن كان الموقف العسكري في صالحها تماماً)!
*- بعد انتهاء شهر الهدنة، كان اليهود قد نجحوا في تسلم زمام المبادرة سياسياً وعسكرياً، ثم بدؤوا في حرب استنزاف للجيوش العربية كل على حدة، فقد عادت الحرب ثانية، وكان اليهود هم البادئون هذه المرة، فنفذوا ضربة جوية مفاجئة لمطار العريش في (مصر)، وهو المطار الذي كان يعتمد عليه الجيش المصري؛ لأن بقية المطارات كانت خاضعة للمحتل الإنجليزي، ثم أعقب ذلك قصف جوي لتجمعات الجيش البرية في كل قطاعات القتال مما أدى إلى حالة من الفوضى والارتباك.
*- بعد أن حقق اليهود قدراً كبيراً من النجاح وأصبحوا في حاجة إلى فرصة لالتقاط الأنفاس، أصدر مجلس الأمن قراراً ثانياً بالهدنة، واستجاب العرب مرة أخرى فأعطوا لليهود فرصة ثانية للمزيد من لمِّ الشمل واستعادة النشاط!
*-عادت الحرب للمرة الثالثة بمعارك متفرقة هنا وهناك، إلى أن أصدر مجلس الأمن قراره الثالث بإيقاف الحرب نهائيّاً بعد أن فشلت كل الجهود العربية في إجلاء اليهود عن الأراضي التي احتلوها في فلسطين، وهو ما يعني بعبارة أخرى: الهزيمة في تلك الحرب والفشل في تحقيق أي من أهدافها!
ومما يجدر ذكره هنا، أن عقد الأربعينات الذي جرت فيه تلك الحرب، قد شهد انتعاشاً في الشعور بالانتماء القومي العربي، حيث بدأ العرب وقتها في الفصل بين مفهومي (الأمة العربية) و(الأمة الإسلامية) وتُوِّج هذا الشعور القومي بإنشاء (الجامعة العربية) رداً على من كانوا ينادون بالعودة إلى (الجامعة الإسلامية).
الجولة الثانية: حرب 1956م :
جاءت الجولة الثانية بعد أن آلت السلطة في بعض الدول العربية إلى أنظمة ثورية، دعت نفسها بالتقدمية، وكان النظام الثوري العسكري في (مصر) هو المتزعم لها، وقد عدّ من أهدافه الرئيسة المعلنة: تحرير (فلسطين) والقضاء على دولة (إسرائيل)، وجعل من هذا الهدف إلى جانب توحيد العرب تحت راية القومية العربية قضية يبني بها المجد والزعامة، فماذا كان مسلك الثوريين العساكر بعد أن تسلموا دفة الصراع مع اليهود..؟ هذا ما توضحه المشاهد التاريخية التالية:
- كان أول عمل قام به (قائد الثورة) (جمال عبد الناصر) بعد تسلمه منصب الرئاسة رسمياً هو تأميم قناة السويس في 26 تموز (يوليو) 1956م، وكان قراراً اتخذ دون دراسة أو تحسب لما يمكن أن يترتب عليه من نتائج، وقد جاء رد فعل على تصريح لوزير الخارجية الأمريكي وقتها (فوستر دالاس) قال فيه: إن الاقتصاد المصري منهار.
- ثار الغرب لهذا القرار، وخاصة ما كان من (إنجلترا وفرنسا) حيث أخذتا في الإعداد لإجراء حاسم وتواترت الأنباء عن حشود إنجليزية وفرنسية في (قبرص) استعداداً لعمل عسكري ضد (مصر) بالاشتراك مع دولة اليهود، ولكن القيادة لم تكترث، ولم تأخذ هذه التهديدات مأخذ الجد، بل كان هناك استرخاء عسكري بالرغم مما يجري، حتى إن القيادة خففت من أعداد القوات المعدة للقتال لأسباب غير مفهومة.
- عندما بدأت نذر الحرب كان اليهود يحتفظون بالتفوق العسكري مقارنة بالإمكانات المصرية التي يفترض أنها أكبر وأقوى الإمكانات العربية، فقد كان التفوق ظاهراً حتى في الجانب العددي البشري، فكان التفوق في المشاة بنسبة 1: 3 لصالح اليهود، وفي القوات البرية (الدبابات) بنسبة 1: 1.8 لصالح اليهود، وفي سلاح المدفعية بنسبة 1: 2.5 لصالح اليهود أيضاً.
- نسق اليهود جهودهم مع حلفائهم استعداداً للحرب، فاتفقوا مع فرنسا على تأمين الغطاء الجوي الكافي للمدن الإسرائيلية وعلى أن يتولى السلاح البحري تأمين حراسة السواحل الإسرائيلية، وأن تشارك القوات الفرنسية بالقتال ضد أي دولة عربية تدخل الحرب إلى جانب (مصر)، وأُسند إلى السلاح الجوي البريطاني مهمة تدمير الطيران المصري على الأرض.
- وأخيراً اقتنعت القيادة الثورية بأن أمر الحرب جد لا هزل فيه، فبدأت في تركيز الجهود على حماية سيناء من الشرق، بينما أهملت الجبهة الجنوبية إهمالاً مريباً، حيث كان من الغريب أن يخصص لهذه المنطقة الحيوية نحو 120 جندياً من المشاة لحمايتها!!.
- وبدأت الحرب في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1956م بمهاجمة الخط الأقل خطراً في نظر القيادة المصرية، وهو المنطقة الجنوبية من سيناء، وأعلن اليهود أنهم يقاتلون على بعد 40 كيلو متراً من قناة السويس، حتى يعطوا الذريعة لكل من إنجلترا وفرنسا للتدخل العسكري، بحجة حماية حرية الملاحة الدولية في قناة السويس.(12/413)
- وبالفعل أقدم سلاح الجو البريطاني على ضرب الطيران المصري على الأرض، واضطر المصريون للقتال دون غطاء جوي على مختلف المحاور، وأبلى المقاتلون المصريون بلاءً حسناً في القتال، لولا أن الأوامر صدرت من القاهرة، للقوات الرئيسة بالانسحاب بعد إنذار أرسلت به انجلترا وفرنسا، وبدأ الانسحاب ليلة 31 أكتوبر 1956م، من قطاع إثر قطاع مما سبب حالة من الارتباك والاضطراب.
- وفي ظل غياب أي غطاء جوي أو طبيعي من جبال أو أشجار، كان الانسحاب شاقاً ومكلفاً، فقد أصبحت القوات المنسحبة هدفاً مكشوفاً أمام الطائرات النفاثة المغيرة والمحملة بكل أنواع الأسلحة المدمرة والحارقة.
وهكذا انتهت الحرب بهزيمة الجيش المصري وإهانته في حرب بدأتها الدعاية وأوصلها الغرور إلى أسوأ نهاية، فقد احتُلت سيناء ولم تنسحب إسرائيل منها إلا بعد أن ضمنت السماح لها بالملاحة في خليج العقبة كيف تشاء.
وكان ل (بريطانيا) (صديق العرب المفضل دائماً) الدور الأكبر في تقديم الجيش المصري لقمة سائغة لليهود.
الجولة الثالثة: حرب يونيو 1967م:
هي الحرب الثانية في العهد الثوري التقدمي الوحدوي الاشتراكي... العلماني! وقد كانت عاراً لم تُمسح آثاره إلى اليوم، حيث كان الهدف الرئيس لها احتلال القدس، فتحقق الاحتلال، ولم يتم التحرير إلى اليوم لا سلماً ولا حرباً. وهذه بعض المشاهد التاريخية للكارثة التي سميت زوراً (نكسة)!
- تضخم الغرور في الذات اليهودية بعدما تم إحرازه من انتصارات رخيصة على شعوب مغلوبة على أمرها، ولم تكد تنقضي عشر سنوات على حرب 1956م حتى تفتحت شهية اليهود لحرب جديدة، ففي شهر ديسمبر 1966م أعلن (ليفي إشكول) رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، نية بلاده في دخول حرب جديدة ضد العرب وهدد بغزو (سوريا)، في لهجة جديدة وغير معهودة من اليهود المتظاهرين أبداً بالمسكنة والاستضعاف.
- وفي عام 1967م لم ينقض شهر نيسان (إبريل) منه حتى كان اليهود قد نفذوا ما توعدوا به؛ فشن سلاحهم الجوي هجوماً ضخماً ضد (سوريا)، وفي الشهر التالي هدد الهالك (إسحاق رابين) بدخول دمشق، بعد افتعال مشكلة وأزمة بسبب تحويل مجرى نهر الأردن، وقيام أعمال فدائية ضد دولة اليهود من داخل (سوريا).
- وكان هذا الهجوم الإسرائيلي ضد (سوريا) رسالة موجهة أيضاً إلى (مصر)، التي كان قادتها منهمكين أو غارقين في المستنقع اليمني، حيث الحرب الظالمة التي أقحم فيها الجيش المصري للقتال هناك نصرة للقوى (التقدمية) ضد القوى (الرجعية)! وبدلاً من أن تتنبه تلك القيادة للخطر، وتسعى لحشد القوة ضد العدو الحقيقي المتربص من وراء الحدود، اكتفى الثوار بنشر قوات بغرض الردع والتخويف واستعراض القوة في (سيناء).
- اعتبر اليهود ذلك الاستعراض بمثابة إعلان حرب من (مصر)، وأعلن (موشي دايان) وقتها أن (مصر) هي العدو الحقيقي وليست (سوريا)، وأن على (إسرائيل) أن تتفرغ لحربها وأصبح قرار الحرب في إسرائيل في حكم المنتهى منه، ولم يبق إلا انتظار الذريعة المناسبة.
- ومرة أخرى قدم النظام الثوري الذريعة لليهود المتربصين، فصدر قرار بمنع الملاحة في خليج العقبة الذي تنتقل منه البضائع من وإلى (إسرائيل).
وانتشرت القوات المصرية على خليج العقبة بعد انسحاب قوات الطوارئ الدولية منه، وزاد الطين بلة أن جرى الإعلان عن توقيع ميثاق دفاع مشترك بين (مصر) و(الأردن) بالرغم من الخلافات التي كانت قائمة بينهما.
- لم يعد هناك وقت للتفكير لدى دولة اليهود، فشكّل رئيس وزرائها حكومة حرب وأدخل فيها (موشي دايان) وزيراً للدفاع، لينفذ توعده بالانتقام من (مصر)، وكانت القوات الإسرائيلية قد أتمت استعداداتها التي بدأتها منذ زمن لخوض الحرب الشاملة في حين كانت القوات المصرية غير مستعدة حتى مساء الرابع من يونيو من العام نفسه.
- وفي صباح الخامس من يونيو 1967م، قام اليهود بشن الحرب، معلنين أنهم في وضع دفاع عن النفس بعد أن حشدت مصر قواتها في سيناء، وأغلقت خليج العقبة؛ وأحلت قواتها محل قوات الأمم المتحدة، وبدأ اليهود في توجيه ضربة جوية مفاجئة ضد القواعد الجوية العربية في كل من (مصر) و(سوريا) و(الأردن) و(العراق)، وأطلق على هذه العملية (ضربة صهيون)!
- انطلق الطيران اليهودي كله من مرابضه (150 طائرة) وتوجه نحو 19 قاعدة مصرية جوية موزعة في أنحاء (مصر) (الدلتا سيناء الصعيد) لتدكها وهي على الأرض وبعد خمس عشرة دقيقة من بدء الحرب كان الجنرال (مردخاي هود) قائد سلاح الجو الإسرائيلي في لقاء مع ممثلي الصحافة الإسرائيلية والعالمية، حيث زف إليهم البشرى بتلك المذبحة الجوية وقال: لقد دمرنا الحصيلة الكبرى من طائرات العدو، منها (309) طائرة في (مصر)، و(60) طائرة في (سوريا)، و(29) طائرة في (الأردن) و(12) طائرة في (العراق)، وطائرة واحدة في (لبنان)، في حين لم تخسر (إسرائيل (إلا (19) طائرة!!.
- يعود السبب في هذا الحدث المفجع في تاريخ الحروب الحديثة إلى عدد من الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها القيادات العربية، ومنها:(12/414)
إساءة تقدير قوة العدو، وإهدار الاستفادة بالقدرات الذاتية، ويعود أيضاً إلى سبب آخر مهم، وهو: أن القيادة المصرية كانت قد قررت القبول بتلقي الضربة الأولى نزولاً على نصائح (السوفييت)، حيث قدرت الخسائر المتوقعة في حال تلقي الضربة الأولى بما يتراوح بين 15 20% من مجموع القوة الجوية العربية، واعتبرت القيادة السياسية هذه النسبة ضئيلة، وتُعد تضحية مقبولة في مقابل إظهار (إسرائيل) بمظهر البادئ بالعدوان أمام الرأي العام العالمي!!!.
- أما الحرب البرية الرئيسية بعد ذلك، التي دارت رحاها في سيناء، فيكفي أن نتصور ساحة قتال مكشوفة أمام طيران معادٍ، يصول ويجول فيها وينتقي الأهداف التي يشتهيها دون أي عائق من جيش مأمور بالانسحاب لا بالمقاومة!
- وبالرغم من كل عوامل الفشل التي بدأت بها المعركة، إلا أن دفاعاً مستميتاً من الجنود، حاول في بعض الجهات مقاومة الهزيمة ببسالة نادرة، حتى إن القادة الإسرائيليين أنفسهم اعترفوا بحدوث موجة من الاضطراب سادت صفوفهم في المحور الشمالي بسبب المقاومة العنيفة.
- وأجمع عسكريون كثيرون على أن القيادة العسكرية المصرية لو كانت قد دبرت هجمة مضادة لإجهاض الهجوم الإسرائيلي في ذلك الوقت لكان لذلك تأثير في تغيير مجرى المعركة غير أنها أصيبت بالشلل المعنوي بسبب الضربة الجوية المفاجئة فاكتفت بإصدار أوامر الانسحاب، مما تسبب في فقد الجيش المصري لـ 80 % من سلاحه، وفقد عشرة آلاف جندي، وألف وخمسمئة ضابط، ووقوع خمسة عشر ألف جندي، ونحو خمسمئة ضابط أسرى في يد العدو، ولم تتوقف الحرب على الجبهة المصرية إلا بعد أن طلبت مصر وقف إطلاق النار على جبهتها معلنة بذلك التسليم بالهزيمة.
- التفت اليهود بعد ذلك إلى الجبهة الأردنية، فاحتلوا الضفة الغربية، فطلبت الأردن وقف إطلاق النار وسلمت بالهزيمة، ثم اتجه اليهود إلى سوريا واحتلوا مرتفعات الجولان مع قاعدتها مدينة القنيطرة، ثم أعلن عن وقف إطلاق النار؛ وبذلك انتهت الجولة العسكرية الثالثة، وأعلن الرئيس المصري أنه يتحمل مسؤولية الهزيمة؛ وأنه لذلك سوف يتخلى عن السلطة، ولكن الجماهير التي خدرتها الشعارات الثورية، تقبلت الهزيمة والتضحية بالأرض والدم والوطن، ولكنها لن تقبل التفريط في الزعيم ولو قادها إلى الجحيم!.
الجولة الرابعة: حرب أكتوبر 1973م :
درجت أوساط كثيرة على وصف حرب أكتوبر عام 1973م بأنها حرب (التحريك) وليست حرب (التحرير) كما اشتهرت على الألسنة .. فهل في الأمر من سر؟! الظاهر أن ذلك الوصف فيه شيء من الصحة، إذ إن الأمور بعد هزيمة عام 1967م، كانت تتجه نحو الحل السلمي، حتى إن (عبد الناصر) نفسه قد قبل في آخر حياته بمبادرة أمريكية للسلام بين العرب وإسرائيل، وهي مبادرة (روجرز) ولكن جو الإحباط بعد أن تبينت الشعوب حجم الكارثة، ومشاعر السخط على القيادات العربية التي تسببت فيها، بالإضافة إلى استمرار احتلال اليهود لما احتلوه في تلك الحرب في (مصر وسورية والأردن وفلسطين)، كل ذلك حال دون إمكانية الإقدام على توقيع معاهدات صلح مع اليهود، تقرهم فيه الزعامات العربية من موقف ضعف على البقاء والعيش في أرض فلسطين، كان لا بد إذن من عمل شيء كبير، يكون نقطة انطلاق نحو إنهاء حالة الحرب مع اليهود إلى الآن..!
ولأن هذه الخطوة المطلوبة أعني إنهاء الصراع مع اليهود كانت كبيرة في حجمها، خطيرة في أبعادها، ومثيرة في تفاصيلها، فقد كان لا بد من تخفيف وقعها على الشعوب قدر المستطاع وعلى مراحل؛ ولهذا كان الإعداد لحرب (التحريك) التي وُضِعَ لها سيناريو مسبق في ردهات وكواليس السياسة الدولية.
وكان هذا السيناريو يقضي باستعادة الجيش المصري والنظام معه لهيبته باسترجاع جزء من شبه جزيرة سيناء التي أضاعها النظام الثوري نفسه في مرحلة سابقة، وفي الوقت نفسه يحفظ لقادة اليهود ماء وجوههم أمام شعبهم فيلتفون حول هذا النصر، ويفرغونه من محتواه من الناحية العسكرية ثم من الناحية السياسية. وقد تم الأمر على هذا النحو:
في يوم السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973م الموافق للعاشر من رمضان 1393هـ، اجتازت القوات المصرية قناة السويس، وانتقلت إلى الضفة الشرقية، واقتحمت خط (بارليف) الحصين، لتأخذ مواقع دفاعية بعد عشرة كيلو مترات من شاطئ القناة في داخل سيناء، ولم تعط للقوات المسلحة بعد ذلك أي صلاحية لتتابع تقدمها في سيناء لإكمال تحريرها مع وجود الإمكانية لذلك، حتى إن رئيس الأركان نفسه في الجيش المصري (سعد الدين الشاذلي) قد اختلف مع القيادة السياسية واتهمها بالتواطؤ، وعاش سنوات طويلة في منفاه الاختياري خارج البلاد.(12/415)
وبعد عشرة أيام من بدء الحرب وإحراز تلك الانتصارات فيها لصالح العرب، عبرت عدة دبابات يهودية قناة السويس من منطقة (الدفرسوار) وفتحت ثغرة في صفوف القوات المصرية، ثم تتابع تقدم الدبابات اليهودية، وانتشرت على طول القناة من ضفتها الغربية، وحاصرت مدن القناة، وحجزت القوات المصرية في سيناء، وبهذا انقطعت وسائل الاتصال بين قطاعات الجيش المصري، وبدت (إسرائيل) أمام مواطنيها ومؤيديها في الداخل والخارج منتصرة، حيث تمكنت من أسر القوات المصرية كلها في سيناء، والالتفاف عليها؛ بينما كانت الدعاية المصرية والعربية تصور العبور على أنه من أعظم الانتصارات،وانتهت الحرب عند ذلك الحد بإعلان وقف إطلاق النار، في وضع لا يسمح للمصريين بادعاء النصر الشامل، ولا يمنع اليهود من ادعاء الثأر الكامل. وبعد انتهاء الحرب مباشرة بدأ تدشين العملية السلمية بين مصر وإسرائيل في مراحلها المبكرة، وذلك بزيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكي (اليهودي) (هنري كيسنجر) لمصر، حيث اتفق مع القيادة على فض الاشتباك بين المصريين والإسرائيليين والاتجاه نحو حل النزاع في الشرق الأوسط بالطرق السلمية.
وهنا أمر ينبغي تنبيه القارئ إليه، وهو أننا لا نشكك في إمكانية تحقيق النصر على اليهود، ولا في إخلاص الجنود الذين قاتلوا وقتلوا، بل لا نقلل من أهمية دور التعبئة المادية والمعنوية للمعركة هذه المرة، ولكننا نعبر فقط عن قناعة بأن هذا النصر الجزئي كان حجة أقامها الله على العرب والمسلمين في إمكان نصرهم على عدوهم ولو كانوا أذلة، وأنه كان يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو نهضة ووحدة عربية وإسلامية شاملة، ولكن أعداء الأمة أصروا أن يجعلوا منه نقطة انطلاق أيضاً، ولكن إلى نكبة وفرقة عربية وإسلامية شاملة... وهذا ما كان في النصف الثاني من عمر الصراع، عبر خمسين عاماً من الضياع....
وللحديث بقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة البيان 115
=============(12/416)
(12/417)
هل يهدد الحجاب العلمانية الفرنسية؟
الخميس :18/12/2003
(الشبكة الإسلامية)
"إن فرنسا هي جمهورية موحدة علمانية ديموقراطية اشتراكية". هذا ما تنص عليه المادة الأولى من دستور العام 1946 صادق عليه الشيوعيون والاشتراكيون، والديموقراطيون المسيحيون(M r P) أيضاً، وهذا ما يوضح كثيراً ما حدث من تطورات بعد إقرار قانون 1905 في فرنسا الذي يقضي بفصل الدين عن الدولة والذي حدد مرحلة حاسمة في المعركة من أجل العلمانية.
وبالأمس 17/12/2003 دعا الرئيس الفرنسي جاك شيراك البرلمان في بلاده إلى اعتماد قانون يقضي بحظر العلامات الدينية الظاهرة في المدارس العامة, بحيث يكون جاهزاً للتطبيق في بداية الموسم الدراسي المقبل, وذلك باسم العلمانية التي أكد على أنها مبدأ "غير قابل للتفاوض" ولا "لإعادة الصياغة". وبين هذه المظاهر الحجاب. واعتبر أن "ارتداء ملابس أو علامات تعبر بشكل ظاهر عن انتماء ديني يجب أن يحظر" في المؤسسات والمدارس العامة, وأن الحجاب والقلنسوة والصلبان الكبيرة "لا مكان لها" في المؤسسات التعليمية الرسمية. كما أعلن رفضه لإضافة أعياد جديدة "على جدول العطل المدرسية الكثيرة", لكنه أشار إلى حق التلامذة بالتغيب إذا رغبوا لمناسبة أعياد كبرى مثل الأضحى والغفران.
وأبدى شيراك حرصه على الاختلاط وحماية حقوق النساء "لأن درجة تقدم المجتمع رهن بمكانة المرأة في إطاره", معرباً عن رفضه "تقويض المساواة بين الاجناس" بذرائع مختلفة. ودعا إلى إعداد "مدونة علمانية" تكون ملزمة لجميع الموظفين الذين يلتحقون بالإدارات العامة.
لكن آلان غريش (رئيس تحرير ليموند ديبلوماتك 5/8/2003) يرى أنه عندما يصر وزير الداخلية الفرنسي نيقولا ساركوزي على أنه يجب أن تظهر النساء سافرات في صور بطاقات الهوية فإنما هو يطرح قضية لها علاقة بالنظام العام وليس بالعلمانية ... وعندما يجري الحديث عن اختلاط الجنسين في المدرسة فإنما يتعلق الأمر بالمساواة بين الصبية والبنات وليس بالعلمانية، فالمدرسة العلمانية تأقلمت حتى أواخر ستينيات القرن الماضي مع عملية الفصل بين الجنسين، كما تأقلمت الجمهورية العلمانية مع رفض حق الانتخاب للنساء على مدى عقود.
ويتساءل غريش: هل العلمانية مهددة اليوم في فرنسا؟ وهل يجب التحرك كما في العام 1905؟ ويجيب: إن سيطرة الكنائس قد تقلصت وما من واحدة منها تضاهي من قريب أو بعيد النفوذ الكاسح للكنيسة الكاثوليكية في مطلع القرن الماضي. وبالعكس فان جان بوبيرو، في تأمله في صيغة "الاكليروسية، هي العدو" يتساءل حول ما إذا كانت "قد بقيت هي الراية للعلمانية المناضلة. لكن من هم اليوم رجال الاكليروس الجدد؟ ومن هم الذين يشكلون خطراً ملموساً على حرية التفكير؟. هل هم بدرجة أولى الديانات المنظمة أم بالأحرى "اكليركاتور" (كاريكاتور رجال الدين) المال أو وسائل الإعلام؟
ويعيد غريش التساؤل: هل بضع عشرات من القتيات اللواتي يضعن الحجاب في المباني المدرسية هن اللواتي يهددن هذا الميثاق؟ أم هي المظالم وأشكال التمييز والغيتوات والبطالة وكل هذه القضايا المهملة التي تستبعدها "الإصلاحات"؟ واصفًا ذلك بعمليات "الإلهاء".
في حين أن المفكر الفرنسي فرانسوا بورجات يرى (في حوار خاص مع معتز الخطيب الباحث في الشبكة الإسلامية 15/12/2003) أن المشكلة تكمن في "عدم التفريق بين لب القيم ومرجعيات القيم، مثل ما فعل أتاتورك في بداية القرن العشرين، فحين فرض على الناس لبس "الطربوش" كان يخلط بين شكليات العالم الدلالي ولب الحداثة".
وينظر إلى هذا الجدل حول الحجاب في فرنسا بوصفه "تعبيرًا عن رفض أن تلعب الثقافة (غير السائدة) دورًا معلنًا في النسيج الأيديولوجي الوطني".
===============(12/418)
(12/419)
تركيا تحتفل بالذكرى الثمانين وسط جدل حول العلمانية
الاربعاء:29/10/2003
(الشبكة الإسلامية) الجزيره نت
تحتفل الجمهورية التركية الأربعاء بالذكرى الثمانين لتأسيسها، وسط احتدام الجدل بين نخبة متحمسة بشدة للعلمانية والتيار الإسلامي المتنامي.
وأثار قرار رئيس الدولة أحمد نجدت سيزر جدلا عنيفا برفض دعوة زوجة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وزوجات نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى حفل الاستقبال بمناسبة العيد كونهن محجبات وهدد بعض النواب بمقاطعة الحفل.
واعتبر محللون هذه الخطوة مؤشرا قويا على المضي قدما في معارضة مفتوحة حول مراجعات الأسس التي تبنتها العلمانية.
وتغذي خطوة سيزر الجدل حول هذا الموضوع، في حين تتحدث وسائل الإعلام التركية عن "أزمة" على مستوى رأس الدولة. ويضاف هذا الخلاف إلى توتر ناشئ عن دعوة الحكومة إلى إصلاح النظام التعليمي.
ومنذ الفوز المفاجئ لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية العام الماضي تتمحور المعركة خصوصا حول موضوع حساس هو الحجاب الإسلامي الممنوع في الإدارة العامة والجامعات.
ويخشى الجيش الذي يعتبر حامي النظام العلماني التركي أن يؤدي انتهاك المبادئ العلمانية على المدى الطويل إلى إعلان انتهاء الجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك.
وتقوم المؤسسة العسكرية بجهود سياسية وقانونية وعسكرية مكثفة منذ السبعينيات لقمع أي ولادة جديدة للإسلام السياسي. وكان الجيش أجبر أول حكومة إسلامية في تاريخ البلاد على التخلي عن السلطة عام 1997.
يذكر أن رئيس الوزراء الحالي أمضى حين كان رئيس بلدية أسطنبول عقوبة بالسجن لمدة أربعة أشهر عام 1998 بتهمة "التحريض على السلوك الديني". وهو يؤكد اليوم الدفاع عن علمانية تحترم الديمقراطية والحريات الدينية.
=============(12/420)
(12/421)
الحجاب الإسلامي .. يسيء إلى العلمانية!!
الأربعاء:25/06/2003
(الشبكة الإسلامية) رويترز - الجزيرة
قال رئيس الوزراء الفرنسي جان بيير رافاران إن فرنسا ربما تصدر قانونا جديدا يحظر الحجاب الإسلامي وغيره من الرموز الدينية في المباني والمدارس العامة إذا لم يحترم الناس السياسات العلمانية للجمهورية.
وأوضح رافاران أنه يأمل أن تكون التقاليد العلمانية لفرنسا من القوة بما يكفي لأن يحترمها كل السكان.
وأشار في اجتماع للماسونيين الفرنسيين والأجانب اليوم إلى أنه "إذا لم يكن هناك إجماع وخاصة على الرموز والسلوك المرتبط بالدين في المنشآت العامة فلن أتردد في فرض احترام العلمانية بالقانون".
وتشهد فرنسا حاليا نقاشا محتدما بشأن ارتداء الحجاب في المدارس. وطلب عدة نواب محافظين إصدار "قانون بحظر الحجاب"، لكن آخرين ترددوا خشية ما سيترتب على ذلك من عواقب مثل حظر غطاء الرأس اليهودي التقليدي أو قلادة الصليب التي ترتديها الفتيات المسيحيات.
وتزايدت تقارير الصحف الفرنسية في الآونة الأخيرة عن فتيات يرتدين الحجاب في المدارس وحمامات سباحة البلدية تخصص فترات للنساء استجابة لطلب جماعات إسلامية.
ويشكو المسلمون في فرنسا من التمييز ويقولون: إن الرموز الدينية الأخرى مسموح بها في المدارس والمباني العامة، أما الرموز الإسلامية فلا.
ويعيش في فرنسا التي يبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة نحو خمسة ملايين مسلم نصفهم من المهاجرين والنصف الآخر مولود في فرنسا. ويمثل هؤلاء أكبر تجمع للمسلمين في أوروبا وثاني أكبر ديانة في فرنسا بعد الكاثوليكية.
===============(12/422)
(12/423)
د. محمد عمارة يكتب عن "العلمانية" ونشأتها
الاثنين :09/09/2002
(الشبكة الإسلامية) د. محمد عمارة
مصطلح "العلمانية" هو الترجمة التي شاعت بمصر والشرق العربي للكلمة الإنجليزية secula r ism بمعنى الدنيوي، والواقعي، والعالمي .. ذلك لأن العلمانية هي نزعة فلسفية وفكرية وسياسية واجتماعية ترى العالم مكتفيًا بذاته، تدبره الأسباب الذاتية المودعة فيه .. فالعالم والواقع والدنيا هي مرجعية التدبير للاجتماع الإنساني والدولة والحياة، ومن ثم فإن الاجتماع والحياة والدولة ليست في حاجة إلى مدبر من خارج هذا العالم من وراء هذه الطبيعة.. والإنسان مكتف بذاته، يدبر شؤونه ويبدع قيمه ونظمه بواسطة العقل والتجربة، وليس في حاجة إلى شريعة سماوية تحكم هذا التدبير..
فالعلمانية - لذلك- تضبط بفتح العين، لأنها نسبة إلى العالم، أي الدنيا والواقع الدنيوي، فهي مصدر غير قياسي، إذ القياسي فيها هو "العالمانية" -نسبة إلى العالم- وهناك في المغرب العربي من يترجمها "بالدنيوية".
ولقد نشأت العلمانية - بأوربا- في سياق النهضة الحديثة، وكانت من أبرز معالم فلسفة التنوير الوضعي الغربي، التي جابه بها فلاسفة عصر الأنوار - في القرنين السابع عشر والثامن عشر- سلطة الكنيسة الكاثوليكية، بعد أن تجاوزت هذه الكنيسة الحدود التي رسمتها لها النصرانية، وهي خلاص الروح، ومملكة السماء، وترك ما لقيصر لقيصر، والاقتصار على ما لله .. لقد تجاوزت الكنيسة حدود رسالتها واختصاصاتها، فبعد عصور من سيادة نظرية "السيفين" THEO r Y OF THE TWO SOW r DS أي السيف الروحي - أو السلطة الدينية للكنيسة- والسيف الزمني - أي السلطة المدنية للدولة- جمعت الكنيسة السلطتين معًا، فضمت ما لقيصر إلى ما للكنيسة واللاهوت في ظل نظرية "السيف الواحد" THEO r Y OF ONE SOW r D.
وتحت حكم "البابوات- الأباطرة" أضفت الكنيسة قداسة الدين وثباته على المتغيرات الدنيوية والاجتماعية - أفكارًا وعلومًا ونظمًا- فرفضت وحرّمت وجرّمت كل ما لا وجود له في الأناجيل، وبذلك دخلت أوربا عصورها المظلمة، الأمر الذي استنفر رد الفعل العلماني، الذي حرر الدنيا من كل علاقة لها بالدين.. ففي مواجهة الكهنوت الكنسي الذي قدس الدنيا وثبتها، وجعل اللاهوت النصراني - وهو خالٍ من الفلسفات المنظِّمة للدولة والاجتماع- المرجع الوحيد للسياسة والعلم والدولة والاجتماع- في مواجهة هذا الفعل، جاء رد الفعل العلماني لينزع كل قداسة عن كل شؤون الدنيا، وليحرر العالم من سلطان الدين، وليعزل السماء عن الأرض، جاعلا العالم مكتفيا بذاته، والإنسان مكتفيا بذاته، والاجتماع والدولة والنظم والفلسفات محكومة بالعقل والتجربة، دونما تدخل من الدين.
ولقد ساعدت الملابسات التي نشأت فيها العلمانية، وكذلك المواريث الدينية والفلسفية الغربية على هزيمة الكنيسة، وتراجع اللاهوت النصراني أمام النزعة العلمانية.
فلقد كان التخلف الأوربي شاهدا على فشل الحكم الكنسي الكهنوتي.. وكان موقف النصرانية، الذي يدع ما لقيصر لقيصر، ويقف بالكنيسة ولاهوتها عند خلاص الروح ومملكة السماء سلاحًا بيد العلمانية ضد اغتصاب الكنيسة للسلطة الزمنية.. وكانت الفلسفة اليونانية - وخاصة عند أرسطو [384-322ق م]- والتي رأت الذات الإلهية مجرد خالق ومحرك أول للكون، ترك تدبيره ورعايته للأسباب المادية المودعة فيه -أي أن العالم مكلف بتدبير ذاته، لا يحتاج إلى مدبر مفارق له-.. كانت هذه الملابسات الواقعية والمواريث الدينية والفلسفية - في أوربا- عونًا لانتصار العلمانية على الكنيسة وسلطانها..
ولقد تميز في إطار فلاسفة العلمانية الأوربية تياران:
- تيار مادي ملحد طمح إلى تحرير الحياة - كل الحياة - من الإيمان الديني.. وكانت الماركسية أبرز إفرازات هذا التيار.
- أما التيار الثاني، فهو مؤمن بوجود خالق للكون والإنسان، لكنه يقف بنطاق عمل هذا الخالق عند مجرد الخلق، فيحرر الدولة والسياسة والاجتماع من سلطان الدين، مع بقاء الإيمان الديني علاقة خاصة وفردية بين الإنسان وبين الله.. ومن فلاسفة هذا التيار هوبز HOBBES [1588-1679م]، ولوك LOKE [1632-1716]، وليبينز LEIBNIZ [1646-1716]، وروسو r OUSSEAU [1712-1778]، وليسينج LESSING [1729-1871]..
ولقد ظلت العلمانية خصوصية غربية حتى القرن التاسع عشر، عندما جاءت إلى بلادنا الإسلامية في ركاب النفوذ الأجنبي والاستعمار الغربي الحديث.. وإذا كانت مصر - بحكم الموقع والسبق في التطور.. والاستقلال النسبي عن السلطان العثماني منذ ولاية محمد علي باشا [1148-1265هـ 1770-1849م] عليها- 1805م- قد مثلت طليعة الأقاليم الشرقية في التأثر بالفكر الأوربي - ومنه العلمانية - فلقد كان وفود العلمانية إليها نموذجًا لتسللها من أوربا إلى بلاد الشرق الإسلامي في ركاب النفوذ الأجنبي والاستعمار الحديث ..(12/424)
فبعد تحطيم النظام الحمائي للصناعة والتجارة - الذي أقامه محمد علي باشا في مصر- زاد نفوذ التجار الأجانب، ونشأت على عهد الخديوي سعيد، في سنة 1272 هـ 1855م- أول محكمة تجارية مختلطة بين المصريين والأجانب-"مجلس تجار"- تسلل إليها القانون الوضعي الفرنسي.
ومع تزايد أعداد الجاليات الأجنبية ونفوذها- وخاصة بعد عقد اتفاقية حفر قناة السويس- نشأت "المحاكم القنصلية" لتقضي في المنازعات الناشئة بين المصريين وبين الأجانب، وقضاتها أجانب، ولغتها أجنبية، وقانونها وضعي علماني..
ولما زادت فوضى "القضاء القنصلي" - الذي توزعته سبع عشرة محكمة قنصلية- نظمت هذه الفوضى 1875م بإنشاء "المحاكم المختلطة"- وقضاتها أجانب، ولغتها فرنسية، وشريعتها هي قانون نابليون-..
وبعد أن كان هذا الاختراق - في المحاكم القنصلية.. ثم المختلطة- مقصورا على المنازعات التي يكون أحد طرفيها أجنبيًا حدث تعميم لبلوى هذا الاختراق العلماني في كل "القضاء الأهلي"- أي فيما عدا المحاكم الشرعية- التي انحصر اختصاصها في شئون الأسرة والأحوال الشخصية- وكان ذلك عقب استعمار الإنجليز لمصر، فيما سمي "بالإصلاح القضائي" 1883م.
ولقد استعان الغرب الاستعماري بنفر من أبناء الأقلية المارونية، الذين تربوا في مدارس الإرساليات التنصيرية بلبنان، في الدعوة إلى نموذجه الحضاري العلماني.. فكان فرح أنطون [1291-1340هـ 1874-1922م] أول دعاة العلمانية في بلادنا.. ثم تخلّق للعلمانية تيار فكري بلغ ذروته في كتاب الشيخ علي عبد الرازق [1305-1386هـ 1887-1966م] عن (الإسلام وأصول الحكم)- الذي صدر 1925م- مصورا الإسلام -كالنصرانية- دينا لا دولة، ورسالة لا حكمًا، يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله..
وفي مواجهة هذا التسلل العلماني إلى بلادنا، كانت مقاومة تيار الإحياء والتجديد الديني لعلمنة القانون والنهضة.. فلقد رأى هذا التيار الإحيائي التجديدي في العلمانية عدوانا على شمولية المنهاج الإسلامي- لأنه دين ودولة، وجامع بين ما لقيصر وما لله.. ولأن نطاق عمل الذات الإلهية - في التصور الإسلامي، ولا يقف عند مجرد الخلق، وإنما هو - سبحانه وتعالى - خالق ومدبر للعالم والاجتماع بواسطة الشرائع والرسالات {ألا له الخلق والأمر}[الأعراف:54]، {قل إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له} [الأنعام: 162، 163].
فكان رفاعة الطهطاوي [1216-1290هـ 1801-1873] أول من انتقد تسلل القانون التجاري لنابليون إلى المجالس التجارية في الموانئ التجارية، ودعا إلى تقنين فقه المعاملات الإسلامي "الوافي بتنظيم المنافع العمومية، لأن بحر الشريعة الغراء لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحياها".
ونهض القانوني البارز محمد قدري باشا [1237-1306هـ 1821-1888م] -وهو من تلامذة الطهطاوي- بتقنين فقه معاملات المذهب الحنفي، ليقدم البديل الإسلامي في القانون، كجزء من الرفض والمقاومة للقانون الوضعي العلماني.
ولقد عبر الإمام محمد عبده [1265-1323هـ 1849-1905م] - بلسان مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي- عن ضرورة إسلامية النهضة، لأن الإسلام - على عكس النصرانية- منهاج شامل "فهو كمال للشخص، وألفة في البيت، ونظام للملك.. ولأن سبيل الدين لمريد الإصلاح في المسلمين سبيل لا مندوحة عنها..".
ومنذ ذلك التاريخ، ظل التدافع سجالا- في واقعنا الفكري والقانوني والسياسي- بين دعاة العلمنة لمشروعنا النهضوي وبين دعاة إسلامية هذا المشروع.
وعندما أعادت مصر صياغة قانونها المدني، الذي وضعه الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا [1343-1391هـ 1895-1971م] والذي طبق عقب إلغاء الامتيازات الأجنبية 1948م، زادت في هذا القانون مرجعية الشريعة الإسلامية عنها في سابقه الذي وضع 1883م..
ولما وضعت مصر دستورها الجديد 1971م نصت مادته الثانية على أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للقوانين .. وفي التعديل الذي تم الاستفتاء عليه لهذه المادة 1980م غدت الشريعة هي المصدر الرئيسي للقوانين، فانفتح بذلك الباب الدستوري أمام المشرع المصري لأسلمة القانون، ولإجلاء العلمانية عن المواقع التي احتلتها في بلادنا تحت نفوذ وحراب الاستعمار.
ــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
1.الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، دراسة وتحقيق: د.محمد عمارة. طبعة بيروت 1973.
2.الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، دراسة وتحقيق: د.محمد عمارة. طبعة دار الشروق. القاهرة 1993.
3.تقويم النيل، لأمين سامي باشا. طبعة القاهرة 1936م.
4.عصر إسماعيل، لعبد الرحمن الرافعي. طبعة القاهرة 1948.
5.العلمانية بين الغرب والإسلام، للدكتور محمد عمارة. طبعة دار الوفاء. القاهرة 1996.
================(12/425)
(12/426)
العلمانية العربية وعقدة الوضعيَّة
الأحد :21/04/2002
(الشبكة الإسلامية) عبد الرحمن الحاج إبراهيم *
صراع الدين والعلمانية إحدى المعارك المزمنة في الثقافة العربية والإسلامية، ولا نبالغ إذا قلنا إن تضخم هذا الصراع كان السبب الرئيسي في إخفاقنا في تحقيق النهضة في البلاد الإسلامية والتي بدأنا الحديث عنها وفيها منذ أكثر من قرن ونصف، ونحن نشهد اليوم إعادة الأسئلة نفسها التي طرحت آنذاك، والسؤال الكبير نفسه الذي شغل المفكرين: " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟".
وبعدما كان الدين (الإسلام) هو الباعث على النهوض، جاءت المعضلات التنموية وقضية الاستتباع للقوى الاستعمارية لتفسح المجال للعقائد والأفكار الوافدة، وخصوصاً الماركسية، لتحول الصراع من صراع من أجل التنمية وفيها، إلى صراع ديني إسلامي ـ ماركسي، استطاعت الماركسية أن تطوي فيه تحت عباءتها كل الاتجاهات العلمانية التي كانت قد ولدتها إشكاليات نموذج الدولة الحديثة إثر انهيار الخلافة الإسلامية.
والآن ثمة اتجاهات في العلمانية تحررت من ماركسيتها تعترف بأهمية الدين، باعتباره "قبة رمزية" للفضاء الثقافي، يمدّ الإنسان بالمعنى، وحيث لا يمكن لأمة أن تحيا خصوصيتها وتمايزها بدونه، وفي هذا الإطار ولد في مطلع التسعينيات مشروع مثل "المؤتمر القومي ـ الإسلامي".
إذاً العلمانية العربية ـ وهي كغيرها من العلمانيات في العالم الإسلامي ـ بدأت تخطو أولى خطواتها الإيجابية في التعامل مع "الإسلام" كدين وحضارة. لكن تبقى قضية الدين في هذه العلمانية شأناً أخلاقياً وشخصياً إلى حدّ بعيد، وما يزال العلمانيون على اختلاف مللهم ودرجاتهم يؤمنون بعدم إدخال الإسلام كمحرك رئيسي للأنظمة السياسية والتشريعية والاجتماعية، إذاً فقد انتقلوا ضمن فضاء العلمانية الغربية نفسها، من العلمانية الفرنسية المتطرفة إلى العلمانية الإنكليزية.
المشكلة الرئيسية في العلمانية العربية أنها تبنت المشكلات الغربية عن الدين المسيحي وأسقطتها على الإسلام، ولأن الدين المسيحي في القرون الوسطى يتسم باللاعقلانية والخرافية ومعاداة العلم، فإنهم يعتبرون الإسلام كذلك بالرغم من الاختلاف الجذري بينهما، وأيضاً لأن الدين في الغرب لا عقلاني، فإن العلمانية هي العقلانية وهي تساوي الوضعيّة أي قيام العقل البشري بدور التشريع لنفسه متخلّصاً من تكبيلات الدين (في أوروبا) الخرافية. وهكذا وقعت العلمانية العربية في مستنقع أوهام، تتكلم عن الإسلام وفي ذهنها المسيحية!
من هنا نفهم لماذا الإصرار العلماني على استبعاد كل ما يتعلق بالإسلام في الشأن العام، فالعلمانيون يؤمنون بأن التمسُّك بالتشريع الإسلامي تمسك بالخرافة واللاعقلانية ممثلة بثقافة مضى عليها مئات السنين، وعندما نقول "يؤمنون" فإننا نعني أنهم يؤمنون بالمعنى الديني، حيث أخذت العلمانية كديانة قلّد فيها الغرب ولم تنبت في الأرض الإسلامية نفسها بدوافع ذاتية. وهكذا فإن أي تصالح مع الدين سيكون لا محالة بتجاوز النص الديني برمته؛ وخصوصاً فيما يتعلق بالشأن القانوني والتشريعي.
وعلى هذا الأساس فإن أي محاولة علمانية لإعادة البحث والتفسير والتأويل للإسلام هي لا محالة مجرد "مغامرة عقلية" لتجاوز النص الديني (القرآن والسنة على وجه الخصوص) وتقييده وتخصيصه بل ونسخه! وليست بحثاً علمياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأن العلمانية في المحصلة هي منطق ديني وضعي يكفر بكل ما عداه دون أن يحتاج إلى مبررات حاسمة. وبالتالي فالحد الوحيد الذي يمكن لهذه العلمانية العربية أن تتعامل فيه مع الإسلام هو المنطقة التي تعتقد أنه لا يمكنها تعويضها، أقصد البعد النفسي الروحي أي ما يطلق عليه بـ "الفضاء الرمزي".
في حين ينظر مفكرو هذه الشعوب من علمائها المسلمين إلى النّص على أنه يساوي هويته وتمايزه عن الآخرين جملةً وتفصيلاً، وبالتالي فإن أي تجاوز للنص (الوحي) هو تجاوز لإيمانه ووجوده، والاجتهاد هنا ليس مجرد مغامرة عقلية، بل بحثاً استكشافياً مضنياً، والتأويل ليس رغبات يقسر عليها الدين، بل موقف علمي تمليه ضرورات معرفية من داخل النص نفسه ومن طبيعة الدين ذاتها، أي أنه ينزع دوماً نحو الاحتكام إلى النص والانطواء تحته، فالنص ليس إلاّ كلام الله (تعالى) الذي لا يتم تجاوزه إلاّ بالكفر به.
لكن هل يعني ذلك تقديم الدين على العقل؟
طبعاً لا، ولا تعني في الوقت نفسه تقديم العقل على الدين، إن ثمة إيماناً يحكم العقل الإسلامي عموماً يقول بضرورة توافق العقلي والديني، وحسب تعبير ابن تيمية رحمه الله " موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول " إذاً العقل طرف أساسي في الإسلام ، ذلك أنه يؤمن باستحالة تعارض النص مع العقل ، ولديه آليات علمية معقدة لفض أي " اشتباك " يتوهم في هذا الإطار ليس على حساب العقل ولا على حساب النقل ، كما معروف في كتب أصول الفقه القيمة .(12/427)
وإذا كانت العلمانية ـ في مبدئها ـ تعني عقلنة التعامل مع الواقع، فإن ثمة تقاطعاً مشتركاً بين الفكر الإسلامي معها، حيث يلح هو الآخر عليها، لكنه في الوقت نفسه يعتبرها جزءاً من المرجعية وليست كل المرجعية، حيث الطرف الآخر من المرجعية هو النص. وفي كل الأحوال فإن وجودًا مشتركًا بينهما لا يتحقق إلاّ بتخلي العلمانية العربية عن منطقها الإيماني ، وعودتها إلى العقلانية ذاتها ، والحديث عن المشترك يشكل - برأينا - مدخلاً رئيسياً لأي حوار يمكن أن يخدم الثقافة العربية الإسلامية والواقع العربي التعيس .
إن على الفكر الإسلامي أن يحرص على هذا المدخل، وأن يصبّ حواراته ونقاشاته في إطار توازن المرجعية المزدوجة (العقل ـ النقل) ، وفي القضايا ذات الشأن العام على وجه الخصوص .
ولا نتوقع من العلمانية أن تتخلص من عقدتها الوضعية قبل أن تتحرر من منطقها الديني الإيماني ، وتتجه نحو العقلانية ، وعلينا نحن مساعدتها في ذلك .
ــــــــــــ
* كاتب وباحث
===============(12/428)
(12/429)
هل ستسير باكستان إلى الحداثة أو العلمانية
الجمعة :25/01/2002
(الشبكة الإسلامية) إسلام آباد ـ محمود عبد السلام :
تشهد باكستان تحولاً كبيراً يعتبر الأول من نوعه في تاريخ البلد عبرت عنه بعض الأوساط المحلية بالقول : قرارات الرئيس الباكستاني الجنرال " برويز مشرف " التي أعقبت عملية البرلمان الهندي ، التي جاءت على خلفية إدراج أميركا بعض الفصائل الكشميرية في قائمة الإرهاب تعتبر بداية لنهاية علاقة الجيش الباكستاني بالمسجد وبالجماعات الدينية ، وروافدها من المدارس التي أسسها رئيس باكستان السابق الجنرال " ضياء الحق " خلال فترة حكمه ، فقد جاءت هذه القرارات لتحجيم دور الإسلاميين من المجتمع الباكستاني رغم أن سلفه من العسكر قد حرصوا على توثيق صلاتهم مع الإسلاميين وإبراز دورهم كقوة دينية لها قدسيتها واحترامها على كافة الأصعدة في البلد ، ليضفوا من خلال هذه السياسة شرعية على حكمهم تحت شعار الأسلمة وفاء للشعار الأول الذي أقيمت باكستان على أساسه ، والذي يعبر عنه الباكستانيون بقولهم : " مطالب باكستان . . لا إله إلا الله " ،
فالجنرال مشرف يطمح إلى تخفيف هذا التأثير الإسلامي في الشارع الباكستاني مقابل أن يحظى باعتراف دولي فيما لو تخلص من هذه التيارات التي يعتبرها الغرب تيارات متطرفة أو أصولية تعرقل عملية السلام والأمن في المنطقة بالدرجة الأولى حسب تعبيرهم .
باكستان تستعد للمقايضة
ورغم أن باكستان - مواصلةلهذه السياسة - قداستعدت لتسليم المطلوبين الأربعة عشر هندياً ، كشرط أساسي لنيودلهي في شروطها لتسوية النزاع مع باكستان بعد أن لوحت بعملية مقايضتهم مع المطلوبين الباكستانيين الذين ينتمون إلى جماعات عرقية مطلوبة تتمثل بحركة المهاجرين القومية تدينها إسلام آباد بقضايا قتل وتفجيرات نفذتها في إقليم السند الأشد تضرراً في هذه العمليات وتقيم حالياً تحت الحماية الهندية ، في حين جددت رفضها لتسليم العناصر الباكستانية المطلوبة هندياً ، مؤكدة في الوقت ذاته على أنها مستعدة لمحاكمة كل من تقدم نيودلهي أدلة إدانة تثبت تورطه بقضايا إرهابية في المحاكم الباكستانية ، طبقاً لدستور وقوانين البلد على اعتبار أنهاغير ملتزمةبالتسليم ما دامت لم توقع اتفاقية تسليم المطلوبين مع الهند .
ويرى مراقبون أن الاستعدادات الباكستانية كانت نتيجة للضغوطات الأمريكية بعد تصريحات وزير الخارجية الأمريكية كولن باول بأنه لا يستبعد أن تسلم باكستان المطلوبين لنيودلهي كخطوة إيجابية لمواصلة عملية السلام التي ستصار إلى نزع فتيل الصراع بين البلدين لا سيما وقد صرح الرئيس برويز مشرف في خطابه الأخير بأنه لن يسلم الهند عناصر باكستانية ، في حين لم ينف تسليم غير الباكستانيين لدى خطابه ، الأمر الذي قرأه المراقبون أن عملية تسليم المطلوبين الهنود واردة على أجندة المحادثات والتفاوض .
تطبيق القرارات رهينة الوضع الداخلي
وإلى ذلك تباينت وجهات نظر المحللين الباكستانيين حول المستقبل الذي يمكن أن تصار إليه البلد بعد هذه التحولات الكبيرة والجذرية ، فبعض العسكريين السابقين الذين يشاطرون الجنرال مشرف سياسة العصا الغليظة ضد من يعتبرونهم سبب القلق في المجتمع ، ورغم تحفظهم على إمكانية نجاح الرئيس مشرف بتنفيذ هذه الخطة وتطبيق القرارات التي نص عليها في خطابه ، لا سيما وموعد الانتخابات الباكستانية المزمع عقدها في شهر أكتوبر القادم ستشكل تحد آخر سابق لهذه العملية ، فيقول رئيس الجيش الباكستاني السابق الجنرال " طلعت مسعود " : تبقى قرارات الجنرال برويز مشرف منوطة بكيفية تطبيقها على الأرض كواقع عملي يثبت مصداقيتها ، لا سيما والانتخابات غدت قريبة ، وبعد عملية الانتخابات على الحكومة الحالية أن تحول جميع مسؤولياتها ومهامها التي تضطلع بها الآن إلى الأحزاب السياسية التي ستشارك في الانتخابات باعتبارها ستصل إلى محط ثقة الشعب لتضطلع بدورها بهذه المهام ، إذاً فالقرارات تتعلق بالدرجة الأولى باستمرار هذه السياسة ونجاح تطبيقها والتي تعني التخلص أو تحجيم التيار الديني المتطرف من المجتمع ، الأمر الذي يعني أن مواصلة هذه السياسة نحو التطبيق متعلقة بشكل وثيق بالأوضاع الداخلية للبلد ، على اعتبار أن معظم الشعب في باكستان يؤيد سيناريو تخليص المجتمع من هذه الأحزاب الطائفية أو التي تؤمن بالعنف كونه لا يتفق معها على هذه السياسة ، ومع ذلك على الحكومة أن تضع بعض القضايا الهامة والأساسية بعين الاعتبار طالما أنها تريد مواصلة تنفيذ هذه الخطة والمضي بها والتي تتمثل بـ :
&9619; أن تجمع الأحزاب السياسية في باكستان وتحاول صهرها في بوتقة واحدة وفي خط منهجي سياسي موحد ، الأمر الذي يعني عزل وتهميش غيرها من الأحزاب المتطرفة وغير المرغوب فيها من هذه البوتقة كخطوة ضرورية لتجنيب البلد من خلق مشكلة داخلية .
&9619; تحسين الوضع الاقتصادي وتأمين فرص عمل مناسبة للقضاء على ظاهرة البطالة المتفشية كخطوة ضرورية كذلك في إنجاح هذه العملية .(12/430)
&9619; أن تنهض بالمجتمع لتحوله إلى مجتمع متسامح فيما بين شرائحه وأطيافه المختلفة ، لأن هذه الخطة ستعزز موقف الحكومة داخل المجتمع .
&9619; أن تخلق دعماً داخلياً لهامن الأحزاب السياسية والبرلمان ومن كل الأطراف الفاعلة في البلد ، ورغم أنها قد حظيت بالدعم العالمي إلا أن الدعم السياسي لا بد أن يتوفر من النظام السياسي المحلي كونه الركيزة في الأمر .
فإدخال الأحزاب السياسية ضد تيار ( التطرف الديني )بالتعاون مع الحكومة أمر أساسي باعتباره الطريق الصحيح الذي يجب أن تسلكه الحكومة ، وإلا فهذه الأحزاب الدينية سترد وتعبر عن ردة فعلها بعمليات عنف ضد هذه القرارات .
وفيما لو فشلت الحكومة الباكستانية في هذه الخطة وتنامت قوة الهند على حسابها ، فهذه التيارات ستشكل معضلة حقيقية للحكومة الباكستانية .
إلى أي حد يمكن لأمريكاممارسة الضغوطات على هذه الجماعات ؟
ورغم هذا التفاؤل الذي يبسط العملية إلى درجة لا تعتبر مخاطرة أمام التحديات التي يراها البعض إلا أن شريحة أخرى في المجتمع الباكستاني تصر على أن العلمية غاية في الصعوبة كي تأخذ حيز التنفيذ بعد أن كانت هذه الجماعات تحظى باحترام من الوسطين الشعبي و الحكومي ، خاصة وهذه الشريحة تعتبر أن باكستان بمساعدة بعض الأيدي الأجنبية ساهمت في تقوية وتغذية هذا التيار ، فوكيل وزارة الخارجية السابق ورئيس لجنة باكستان للشؤون الخارجية " أكرم زكي " يرى بأن الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة هؤلاء الجنرالات الذين أوصلتهم إلى السلطة ـ حسب تعبيره ـ قد استغلت هذه الشريحة لتنفيذ مصالحها وتمرير مخططاتها الخاصة في المنطقة ، ثم تريد التخلص منها إلى غير ما رجعة بعد أن انتهى دورها الذي تمثل في تقويض الاتحاد السوفييتي آنذاك إذ يقول :
لندع الأيام تقرر ما إذا كان الرئيس مشرف سينجح في خطته وتنفيذ قراراته أم لا ؟
ولكن الشيء الأساسي والمهم في الأمر ، من الذي خلق هذه الفوضى في المجتمع الباكستاني ، ومن الذي شجع عليها وروج لها ؟!!
لقد أرادت الولايات المتحدة استغلال بعض الجهات الدينية في هذه المنطقة ضد الشيوعيين في الاتحاد السوفييتي ، فعملت على تأسيس الجنرالات ومن ثم أوصلتهم إلى السلطة ، فتمكنوا بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية صناعة ما يمكن أن نسميه ظاهرة ( ثورة الجنرال الموصلة إلى السلطة ) ، وأمريكا والجنرالات هم أنفسهم من صنع هذه الجهات وهذه التيارات التي اعتبروها في المحصلة تيارات متطرفة أو أصولية ، وعندما شعروا بعدم الحاجة لها وصمتها الولايات المتحدة بالإرهاب ، وتحت هذا الغطاء تريد أمريكا تفكيكها والتخلص منها ليصار بها إلى الفكر العلماني الذي هو من صناعتهم .
فالأجندة الأمريكية قد طبقها عدة جنرالات في البلد ، حيث الجنرال الأول ( ضياء الحق ) ينتمي إلى التيار الإسلامي وثورته كانت إسلامية ، بينما الثورة الثانية كانت علمانية سيطبقها الجنرال مشرف نفسه .
والولايات المتحدة عندما كانت تؤيد هذه الأحزاب الدينية قدمت لها الدعم ، وساهمت في تقديم المساعدات لها على اعتبار أنها كانت تحقق بها بعض الأهداف ، ولكنها الآن ترغب في ممارسة ضغوطات عليها أو التخلص منها بعد أن انتهت هذه الفائدة ، ويبقى السؤال المطروح والملح في الأمر : إلى أي حد يمكن لأمريكا ممارسة الضغوطات على هذه الجماعات ؟
يمكن القول بأنه نتيجة ممارسة هذه الضغوطات التي نراها على أرض الواقع حالياً من خلال قرارات الجنرال مشرف الأخيرة ستغيب الشخصيات الكبيرة والفاعلة في هذه الجماعات عن الأنظار حالياً وإلى وقت قصير ، ولكن سرعان ما ستعود مرة أخرى لتمارس أعمال عنف وخلق جو من المشاكل للحكومة كردة فعل .
فالحكومة عندما تفرض هذه السياسة أعتبرها غير عادلة ومن الخطأ أن تطبق في الشارع الباكستاني ، وأنا لا أعتقد أن خطة مشرف ستحقق نجاحاً بالقضاء على المتطرفين أو الإسلاميين من المجتمع ، فهي تحاول الآن إنشاء مسجد مثالي للشعب وتبني حوله ملعباً ومسبحاً أيضا وستفتح المسجد للصلاة فقط !
رغم أن عليها أن تدرك بأنها ستفتح المسجد خمس مرات يومياً للصلوات الخمس وليس مرة واحدة في اليوم ، وهذا أمر يتعذر تنفيذه أو تطبيقه عملياً ، فقد يمكنها تنفيذ هذا القرار في الكنيسة التي تفتح مرة واحدة في الأسبوع ، وليس في المسجد ، الأمر الذي يعني أنه من الصعوبة بمكان نجاح أو تحقيق هذه الخطة .
صهر قوة البلد السياسية في بوتقة الثقة
في حين الرأي الثالث الذي يحلو له حفظ مسلك العودة والإمساك بالعصا من المنتصف في القضية على اعتبارها تجربة أولى من نوعها قابلة للفشل أو النجاح فيرى بأن السبيل الأسلم للتخلص من العنف والإرهاب هو احتواء هذه الجماعات ودمجها في التيار السياسي والشريحة التي ستحكم البلد لإعطائها نصيباً من مجلس الشعب ولتشترك في القرار وتعبر من خلاله عن سياستها وعن رأيها وعن طموحاتها كي لا تلجأ إلى سياسة العنف في التعبير عن إرادتها ، وإلى ذلك وزير الشؤون البرلمانية وأحد كبار الشخصيات في حزب الشعب الباكستاني " افتخار جيلاني " يقول :(12/431)
رغم أن معظم الشعب الباكستاني لا ينتمي إلى هذه الأحزاب والجماعات الدينية إلا أنها قد أثبتت وجودها على الأرض ، فللسيطرة عليها أو لتخفيف حدة التطرف الديني في المجتمع على الحكومة أن تجمّع قوة البلد السياسية لتضعها في بوتقة الثقة ، والشعب لا يرغب بهذا النوع من القرارات التي جاءت على لسان الرئيس مشرف ضد الجماعات الدينية ، فإذا لم يكن للشعب مجلساً برلمانياً لإسماع صوته والتعبير عن سياساته يعتبر انتشار هذه الظاهرة أمر طبيعي باعتبارها لم تشترك في الحكم ، ولم تتمكن من إسماع صوتها من خلال هذا المنبر الذي تمثله السلطة أو المؤسسات الحكومية للشعب ، لذلك ذهبت إلى منبر آخر بديل كما حصل للأحزاب الدينية .
فالحكومة فيما لو أرادت التخلص من ظاهرة التطرف في المجتمع عليها تطبيق النظام السياسي وإشراك الأحزاب الدينية كباقي الأحزاب السياسية في الثقة ، على اعتبار أن هذه الأحزاب تستطيع المساهمة في دعم الحكومة بإعداد خطط أو اتخاذ خطوات للقضاء على ظاهرة (التطرف) من المجتمع ، ويمكن تطبيق ذلك في الانتخابات التي ستعقد قريباً ، لا سيما والأحزاب الدينية ترغب في المشاركة مع الأحزاب السياسية الأخرى بهذه الانتخابات ، وهم من جانبهم سيؤقلمون أنفسهم مع الأحزاب السياسية المعتدلة في البلد ليشكلوا تحالفاً يقف في وجه المتطرفين ، وهذا شيء إيجابي باعتبارها ستتأقلم مع الأحزاب السياسية الأخرى ، الأمر الذي لن يترك فرصة أمام الأحزاب المتطرفة كي تطفو على سطح الواقع الباكستاني .
ولكن حكومة مشرف ارتكبت خطأ كبيراً باعتبارها لم تضم الأحزاب السياسية المعتدلة إلى سلكها لتستفيد منها في تحقيق خطوات إيجابية للقضاء على ظاهرة التطرف ، إذ يستحيل أن ينجح شخص واحد في تحقيق أو تنفيذ هذه القرارات بعيداً عن مساعدة الأحزاب السياسية الأخرى ، فربما يكون على الجنرال مشرف أن يستقطب القوى السياسية إلى جانبه ويهيئ المؤسسات المدنية لتنفيذ هذه الخطة .
ومهما تباينت الآراء وتفاوتت التوقعات حول إمكانية نجاح تطبيق هذه الخطة التي ستقود البلد نحو برنامج الحداثة والتجديد أو بمفهوم البعض نحو العلمانية لمواكبة متطلبات العصر التي يعول عليها مؤيدي الرئيس مشرف في قراراته ، إلا أن هذه القرارات قد أحدثت خضة عنيفة في الشارع الباكستاني ربما يعتبرها البعض الأولى من نوعها تماشياً مع أن هذه الخطوة وليدة ومستجدة على لواقع الباكستاني فيما لو أخذت حيز التنفيذ والجدية على المستوى العملي بعد أن تحدت جميع التيارات الدينية في باكستان هذه القرارات التي اعتبرتها مخالفة للشريعة الإسلامية من خلال تصريحات نارية صدرت عن معظم القادة والزعماء الإسلاميين في البلد ، لاسيما وشريحة كبيرة في الشارع الباكستاني تعتبر أن هذه القرارات هي المسمار الأول الذي سيدق في نعش العلاقة بين العسكر والتيار الديني لتستبدل العلاقات الحميمة التي كانت قائمة بين الطرفين منذ قيام باكستان بعلاقات ملاحقة ومطاردة واتهام
================(12/432)
(12/433)
إسرائيل تدخل أفغانستان بالمرأة والعلمانية
الثلاثاء:11/12/2001
(الشبكة الإسلامية) الرياض إكسبرس
أفادت مصادر إعلامية أمس ، بان هناك اتصالات إسرائيلية مع الجيش الامريكى فى أفغانستان لتأسيس موطئ قدم لإسرائيل فى أفغانستان0 وقالت هذه المصادر إن اسرائيل قد طلبت تعاون الهند فى هذا المجال0
وكشفت المصادر نفسها أن اسرائيل ستعمل على امداد الافغان بالمساعدات لتنفيذ خطتها ، وستفتح مكاتب لمنظمات اغاثية غير حكومية فى جميع أنحاء أفغانستان بواسطة احدى النساء الافغانيات من ذوات الميول للحداثة وذلك للعمل على تحويل أفغانستان - وهو البلد الاسلامى المشهور بتطبيق الشريعة الاسلامية - الى بلد ليبرالى معاد للشريعة
==============(12/434)
(12/435)
الإسلام والعلمانية وجها لوجه في مؤتمر بالقاهرة
الاربعاء:02/05/2001
(الشبكة الإسلامية) الشبكة الاسلامية - الدوحة -فريق الاخبار
تشهد القاهرة اليوم الأربعاء مؤتمرا يبحث العلاقة بين حرية الابداع والثوابت الوطنية والدينية وهي قضية
سيطرت على الاوساط الثقافية في مصر خلال العام الماضي.
ويتوقع أن يشهد المؤتمر الذي تنظمه جمعية مصر للثقافة والحوار في مقر نقابة الصحفيين تحت عنوان - حرية الابداع - مواجهات ساخنة بين مجموعة من ممثلي التيارين الاسلامي والعلماني البارزين.
وقال أبو العلا ماضي عضو مجلس إدارة الجمعية لرويترز " منذ اندلاع أزمة رواية وليمة لاعشاب البحر ثم أزمة الروايات الثلاث الاخيرة هناك خلافات حول قضية حرية الابداع والثوابت.. هناك رؤية يتبناها التيار الإسلامي وأخرى يتبناها التيار العلماني ويجب أن يكون هناك حوار بينهما.
وكانت الأوساط الثقافية والسياسية المصرية شهدت جدلا ساخنا حول
قضايا حرية الأدب والإبداع خلال الثلاثة عشر شهرا الماضية. وأثار قيام وزارة الثقافة باعادة نشر رواية - وليمة لاعشاب البحر - للكاتب السوري حيدر حيدر ردود فعل قوية ووقعت مواجهات في بداية مايو من العام الماضي بين الشرطة وطلاب جامعة الازهر الذين احتجوا على اعادة نشرها.
ومع بداية العام الحالي نشبت أزمة أخرى إثر نشر الهيئة العامة
لقصور الثقافة ثلاث روايات اعتبرها وزير الثقافة فاروق حسني وجانب من المثقفين والإسلاميين إباحية .
وقال أبو ماضي صاحب التوجه الإسلامي " دعونا التيارين في هذا المؤتمر في محاولة للوصول إلى موقف مشترك من حرية الابداع والثوابت.
ومن بين المشاركين في المؤتمر المفكرون الإسلاميون محمد عمارة وطارق البشري والدكتور محمد سليم العوا.
كما يشارك فيه الدكتور عادل غنيم أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس
والشاعر حسن طلب رئيس تحرير مجلة إبداع وصلاح عيسى رئيس تحرير جريدة القاهرة التي تصدرها وزارة الثقافة ويحيى الرفاعي الرئيس الأسبق لنادي القضاة وأمين هويدي وزير الدفاع ورئيس جهاز المخابرات العامة الاسبق ووحيد عبد المجيد رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي الذي تصدره مؤسسة الأهرام.
وتتناول الجلسات قضايا - الحق في التعبير والثوابت الدينية - والحق في
التعبير والقضايا الوطنية والأمن القومي - والتشريعات المتعلقة بالحق
في التعبير .
تأسست جمعية مصر للثقافة والحوار في أبريل من العام الماضي
وهي تضم مجموعة من الإسلاميين الذين فشلوا في الحصول على ترخيص للعمل كحزب سياسي يحمل اسم - الوسط - كما تضم شخصيات ليبرالية بارزة
===============(12/436)
(12/437)
قضية فلسطين بين الإسلام والممارسة السياسية العلمانية
الثلاثاء:10/04/2001
(الشبكة الإسلامية) الشبكة الاسلامية - الدوحة -فريق الاخبار
كانت تركيا (الأتاتوركية) وإيران (الشاهانية) أكبر مثال على ذلك، فهما أول دولتين في العالم الإسلامي تعترفان بدولة (إسرائيل)، كان ذلك في 17-3-1950م، ومعلوم مدى التطرف العلماني (ذي التوجه الغربي الليبرالي) الذي كانت تعيشه هاتان الدولتان، وغير خافٍ تعاون شاه إيران السابق مع (إسرائيل) ومدها بالبترول أثناء حرب 1973م، وغير خافٍ أيضاً التعاون المستمر حتى الآن عسكرياً واقتصادياًّ وسياسياًّ بين تركيا وإسرائيل. وعلى جانب آخر: وقفت قوى العلمانية المرتبطة بشرق أوروبا (أيام الشيوعية والاشتراكية) موقفاً مخزياً من قضية فلسطين في وقت مبكر، "فقد انتقدوا (التدخل) العربي في حرب عام 1948م، وطالبوا بسحب الجيوش العربية (الغازية)، واعتبروا الحرب مؤامرة استعمارية رجعية تهدف إلى منع قيام دولة يهودية، وطالبوا بإتاحة الفرصة للشعب اليهودي ليقيم دولته القومية في فلسطين، ولم يقتصروا على هذا، بل سيروا التظاهرات في العواصم العربية مطالبين بإقامة دولة يهودية!"(1).وبواكير دعاوي الصلح مع الدولة الصهيونية ظهرت وما زالت على أيدي (الرفاق) الشيوعيين واليساريين الذين تجمعهم مع (رفاقهم) الشيوعيين اليهود وحدة الفكر والانتساب إلى الأممية الشيوعية "حيث بدأ مسلسل مساعي الحوار (العربي الإسرائيلي) منذ عام 1965م حينما وجه المحامي المصري اليساري يوسف حلمي بالاشتراك مع الزعيم الشيوعي اليهودي المصري هنري كوريال رسالتين لكل من جمال عبد الناصر وبن جوريون يدعونهما فيهما باسم (الحركة الديمقراطية) و (حركة السلام المصرية) لعقد مؤتمر للسلام بمشاركة الدول العربية و (إسرائيل) ودول عدم الانحياز والدول الكبرى، ولكن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م أجهض تلك المحاولة...وبعد عدوان 1967م التقى النقيب السابق بالجيش المصري (أحمد حمروش) رفيق كوريال في الحزب الشيوعي المصري وعضو (الحركة الديمقراطية) و (حركة الضباط الأحرار) مع كوريال وأريك رولو في باريس، حيث رتبوا اللقاء بين جمال عبد الناصر وناحوم جولدمان رئيس (المؤتمر اليهودي العالمي)(2)، وقد أجهضت المحاولة بوفاة عبد الناصر عام 1970م"(3). ولا يستغرب أي عارف بحقيقة الشيوعية هذه المواقف من معتنقيها؛ فالأممية الشيوعية تتناقض مع غيرها من الأمميات وعلى رأسها الأممية الإسلامية ، بينما تتساوى عندها القوميات المختلفة عربية، أو يهودية (الصهيونية) ، ويمكن أن تتعايش معها بحظوظ مختلفة بحسب اقتراب هذه القوميات من مبادئها وتحقيقها لمصالحها، كما أن الشيوعيين العرب يعدون إخوانهم الشيوعيين اليهود في (إسرائيل) (رفاقهم) في الشيوعية. ولم يقف التلاقي والتعايش مع الصهاينة عند حد اليساريين العرب، بل تعداه أيضاً إلى اليساريين الفلسطينيين أنفسهم، فنايف حواتمة أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يطالب في حديث صحفي بتأسيس برنامج جديد لتصحيح الحالة الفلسطينية "باستراتيجية نضالية (!) بكل ما هو ممكن، واستراتيجية تفاوضية في إطار قرارات الشرعية الدولية"(4)، وهي القرارات التي سنعرض لها لاحقاً إن شاء الله تعالى، وهذا الموقف نفسه تقريباً هو موقف جورج حبش والجبهة الشعبية. وغير خاف مدى ضلوع اليساريين والشيوعيين السابقين في جهود التطبيع والدعوة إلى التعايش مع الدولة الصهيونية، ومن ذلك: إعلان تحالف كوبنهاجن عام 1997م وتأسيس (جمعية القاهرة للسلام) في العام الذي يليه، بدعم أوروبي وأمريكي. وهذه الجهود والمساعي إلى التعايش والسلام من قبل هؤلاء تجاه الدولة الصهيونية نراها منطقية في ضوء ما ذكرناه سابقاً عن منطلق العلمانيين وتوجهاتهم؛ فبعد سقوط العداء المبدئي بين العلمانيين والكيان الصهيوني نتيجة تنحية الإسلام عن ساحة الصراع:قد العلمانيون إرادة المواجهة والقتال تبعاً لذلك، وتوجهوا إلى شرعيتهم الدولية يسألونها (حقوقهم المشروعة) ويرضون بالفتات الذي يلقى إليهم في ظل الاستعداد للتعايش مع كيان لا يرونه مناقضاً لهم حتى ولو اختلفوا معه، أو رأوه ظالماً وغاشماً . وافتقدت الأنظمة العلمانية إرادة القتال حتى في أوج مدها الثوري المزعوم، ف "... منذ أن جاؤوا وهم يعدون العدة لحرب فلسطين! ويعلنون أنهم سيختارون مكان وزمان المعركة، ولن يسمحوا لإسرائيل بأن تجرهم إلى معركة لا يحددون هم مكانها وزمانها وسلاحها.. وكل الأمم التي فنيت، بل كل الكائنات التي اندثرت، كانت تحلم بمعركة تدور وفقاً لشروطها، تحدد هي مكانها وزمانها وأسلحتها، وراعها وهي تباد تحت ضربات خصمها أنه لم يلتزم بأمانيِّها وضربها قبل أن تنتهي من تحديد الزمان واختيار المكان وإتمام شحذ السلاح! وأنه نجح دائماً في جرها إلى المعركة الخاسرة.إن إرادة القتال هي التي يجب أن تتوفر أولاً، ويأتي بعد ذلك تخير أفضل الظروف للقتال.."."وفي كل مرة كان انفعالهم {بعد ضربات إسرائيل} ينعكس في شكل دهشة ومرارة العاتبين.. وليس أدق في الدلالة عن حالتهم هذه من(12/438)
التعبير المفضل عندهم وهو (العدوان الغادر)!.. ونقبوا في جميع القواميس، إن وجدتم أحداً قبلهم وصف ضربات عدوه المصيري بأنها (غدر) !.. الغدر
يأتي من الأصدقاء، أو ممن لا نحمل لهم أية نوايا عدوانية، ولا نتوقع منهم عدواناً.."(1).وليس أدل على عدم إرادتهم القتال من عدم استعدادهم الجدي له على مدى أكثر من تسعين عاماً، ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة {التوبة: 46}.ثالثاً: هدر الطاقات والحيلولة دون مواجهة العدو: 1 - وفي المقابل: وقف كثير من النخب السياسية العلمانية حائلاً دون منازلة القوى الشعبية مع الصهاينة عسكرياً وسلمياً ، بل إن هذه النخب اصطدمت دوماً بالحركة الإسلامية التي كانت رأس الحربة في هذه المنازلة بدل التعاون المفترض معها، وما ذلك إلا لأنها وجدت في هذه الحركة خطراً عليها، فناصبتها العداء؛ لتضع العلمانية بذلك نفسها في خندق واحد مع الصهيونية في مواجهة التيار المعبر عن رسالة هذه الأمة وأصالتها.وهكذا بات الإسلام الحقيقي (الذي يسمونه أصولياً) عدواً مشتركاً للعلمانية والصهيونية، فأصبح تحالفهما للقضاء على هذا الخطر الذي يهدد بقاءهما هدفاً مشتركاً تلتقي عليه جهودهما، ومن ثم: كانت النظم العلمانية حاجزاً تلقائياً بين المقاومة الإسلامية (العسكرية والسلمية) والعدو الصهيوني، بل أصبح ضرب الحركات الإسلامية وتصفيتها مؤشراً على مكاسب صهيونية قادمة مرتبطة بتنازلات أو إخفاقات علمانية تستلزم (تأمين الجبهة الداخلية) بإخلائها من المعارضين النشطين المتوقعين لهذه المكاسب وتلك التنازلات، أي: إخلائها من الحركات الإسلامية ورموزها الفعالة، بل أصبح الضغط أو تخفيفه على هذه الحركات (ورقة) تفاوضية ابتزازية تلوح بها هذه النظم العلمانية في وجه الغرب أو في المفاوضات مع الدولة الصهيونية كلما أحست بالإفلاس السياسي. ومسيرة الأحداث تؤكد ذلك التعاون بين العلمانية والصهيونية، أو على الأقل: تؤكد أن العلمانية كانت حاجزاً تلقائياً بين المقاومة الإسلامية والعدو: - فأولى التحركات العسكرية الشعبية الواسعة، وهي ثورة 1936م (1935م 1939م) والتي استمرت توابعها بعد ذلك، كان يحمل لواءها مجاهدون من جمعية الشبان المسلمين، وكان يقودها الشيخ عز الدين القسام، ثم نشط بعد ذلك جيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني، وتمكن المتطوعون في هذه الثورة المسلحة من تحقيق انتصارات متلاحقة خلال عامي 1938و 1939م، ولكن بجانب تحرك القوى البريطانية والعصابات الصهيونية كان خذلان الأنظمة العربية العلمانية لهذه الانتفاضة، فشحُّوا بالدعم المادي لقادة الثورة وهم في أمس الحاجة إليه ليستمروا في جهادهم، بل سارعت هذه الأنظمة بإيعاز من بريطانيا إلى احتواء هذه الظاهرة تحت شعار الوساطة وحقن الدماء" معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل"، ولا شك أن هذه الثورة كانت خروجاً عن حسابات وسياسات الاستعمار والأنظمة العربيةعلمانية "خصوصاً أن الثورة أبرزت قيادات ثورية لا تعرف المهادنة أو أنصاف الحلول !"(2).- وقبل حرب 1948م وأثناءها تحرك الإخوان المسلمون على الصعيدين الشعبي والعسكري، فاستطاعوا تحريك الرأي العام المصري تجاه القضية الفلسطينية من الزاوية الإسلامية، وقد برز دور الإخوان المسلمون أثناء ثورة فلسطين الكبرى عام 1936م، عندما سارعوا إلى تنظيم المظاهرات، وألفوا اللجان لتلقي التبرعات وإرسالها إلى اللجنة العربية العليا، وقاموا بإرسال برقيات احتجاج إلى المندوب السامي بفلسطين ووزارة الخارجية البريطانية وعصبة الأمم، وأخرج الإخوان في مصر أكثر من نصف مليون متظاهر إلى شوارع القاهرة في اليوم الثاني لصدور قرار تقسيم فلسطين في 29-11-1947م، وأعلنوا رفضهم للقرار، مؤكدين عروبة فلسطين وإسلاميتها، مما مثل التجسيد المادي لحضور القضية الفلسطينية في الشارع المصري.وقد سطر متطوعو الإخوان في حرب 1948م ملاحم تغنى بها الفلسطينيون وأكسبت الجماعة الاحترام والتأييد، خصوصاً في ظل الموقف الداعم لقرار التقسيم من قبل الحزب الشيوعي الفلسطيني! النقيض الأيديولوجي لجماعة الإخوان المسلمين ومنافسهم الشعبي آنذاك، وفي ظل الضعف والعجز العربي الرسمي.(1) .فماذا كان الموقف العلماني الرسمي إزاء ذلك؟: عرقلت الحكومة برئاسة النقراشي باشا جهاد الإخوان المسلمون بطرق عديدة ؛ لأن "الحكومة تنظر بعين الريبة إلى حركات الإخوان وتخشى أن يؤلفوا جيشاً في فلسطين يكون بعد ذلك خطراً كبيراً على سلامة الدولة"(2)، وفي الوقت الذي كانت المعارك مستعرة بين هؤلاء المتطوعين وعصابات الصهيونية نصبت الحكومة ما عرف باسم (قضايا الإرهاب) و (قضايا الأوكار)، وتم حل الإخوان المسلمين رسمياً، وسيق زعماؤهم إلى المنافي والمعتقلات، واغتيل مؤسسها ومرشدها العام الشيخ حسن البنا، في وقت كان يعد العدة فيه لإعلان الجهاد العام والتعبئة الشعبية لتكوين قوات كبيرة يدخل بها فلسطين، وهكذا تم منع الإخوان من مواصلة جهادهم ضد اليهود(3). ولا يخفى الرابط بين هذه الإجراءات ودور هذه الحركة في قضية(12/439)
فلسطين: ففي إشارة ذات مغزى يعلق محررا مذكرات ديفيد بن جوريون على ما ذكره في يوم 6-12-1948م بأن حكومة النقراشي راغبة في الخروج من الحرب، ولكن
النقراشي باشا يخشى (الوضع الداخلي) إذا بدأ محادثات سلام !.. يعلقا بقولهما: "ازداد غليان (الإخوان المسلمين) في مصر، وفي كانون الأول - ديسمبر فرض حظر على التنظيم واعتقل قادته (في حين كان أعضاؤه يقاتلون في أرض إسرائيل)"(4).- والآن من المعروف أنه بعد انتكاس حركات تحرير فلسطين (الفندقية) لم يبق في ساحة الصراع الحقيقي والعملي مع العدو الصهيوني سوى الحركات الإسلامية، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتان، وهذا يعرفه الجميع.هذا في الوقت الذي تحولت فيه منظمات التحرير الفندقية إلى (جنين) نظام علماني يرتبط صراحة مع دولة العدو ومع أمريكا بتعهدات واتفاقات سياسية وأمنية واستخباراتية للتعاون في مواجهة (الإرهاب) الذي هو حركات مقاومة العدو الصهيوني، ووفقاً لهذه التعهدات والاتفاقيات تقوم أجهزة الأمن (الفلسطينية) بحملات اعتقال ودهم لعناصر هذه الحركات، كما يتم تبادل المعلومات مع أجهزة الأمن (الإسرائيلية) حول هذه الحركات، ويتم تأميم مساجدها ومؤسساتها وطرق اتصالها بالجماهير، بل يتبجح مسؤولو السلطة بهذا التعاون، باعتباره وفاءً بالتزامات لاتفاقيات دولية !، وهكذا كان "التعاون اللصيق بين أجهزة الاستخبارات والأمن في إسرائيل،السلطة الفلسطينية، والأردن، ووكالة الاستخبارات الأمريكية، هو الذي أجهض جزءاً كبيراً من عمل حماس العسكري، وكذلك الجهاد الإسلامي ؛ فقواعد المعلومات الأمنية بين هذه الأطراف أصبحت مشتركة (!) وواحدة، ولم يعد أحدها يبخل على الآخر بما لديه، وتبادل المعلومات والمراقبة اللصيقة يتمان بتنسيق وتناغم"(5). - ولم يقتصر الأمر على جهود النظم العلمانية لمحاصرة المقاومة العسكرية للعدو الصهيوني والوقوف حائلاً دونها، بل تعدتها إلى العمل على محاصرة المقاومة الشعبية غير العسكرية وإجهاضها، ففور اندلاع انتفاضة الأقصى الأخيرة تسارعت جهود النظم العلمانية لعقد المؤتمرات باشتراك إسرائيل وأمريكا من أجل احتواء (العنف) وإيقافه والعودة إلى مسار المفاوضات، وتعالت صيحات بعض المثقفين والسياسيين العلمانيين (الحكماء) من فوق مقاعدهم الوثيرة بأن تحرير فلسطين لن يتم بإلقاء الحجارة ونزف الدم الفلسطيني.وعندما تعاطفت جماهير العالم الإسلامي مع إخوانهم في فلسطين خرج من يلقي عليهم المواعظ السياسية التي تدعوهم إلى الواقعية الحكيمة؛ لأن مظاهر هذا التعاطف لا تفيد شيئاً في تحرير فلسطين، بل إن الدعوات إلى مقاطعة البضائع والشركات الأمريكية والإسرائيلية التي نشطت مؤخراً ولقيت تجاوباً شعبياً واسعاً.. لم تسلم من انتقادات حكومات ورموز علمانية، فتعالت مرة أخرى صيحات الحكماء العلمانيين بعدم جدوى هذه المقاطعة وعدم القدرة عليها، ولا شك أن هذه المواقف متوقعه ممن ربطوا بلادهم سياسياً واقتصادياً بالغرب، بحيث أصبح قطع حبل العلاقات بالغرب قطعاً لشريان حياتهم هم. رابعاً: التمزق والتشرذم في مواجهة عدو متكتل: لم يقتصر التأثير السياسي للعلمانية في قضية فلسطين على إخراج الإسلام من دائرة الصراع وما تبع ذلك من افتقار إلى البعد الرسالي في الصراع، وإلغاء العداوة (من أجل المبدأ)، والافتقار إلى إرادة القتال، وهدر الطاقات الإسلامية والشعبية في هذا الصراع.. ولكن هذا التأثير حقق أيضاً هدفاً آخر من المخطط الصهيوني، وهو تفتيت التكتل الإسلامي، وإدخال الأمة في دائرة تمزقات متشعبة، وإدخال الأفراد في متاهة اغتراب قيمي عندما ضاعت بوصلة هويته على يد العلمانية. فاختلاف مذاهب العلمانية وتطبيقاتها، وتباين كل قطر في توجهاته ومصالحه (التي لم تعد موحدة).. مزق جهود هذه الأقطار في مجالات عديدة فكرية وجغرافية وسياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، فبين الليبرالية ودرجاتها، والاشتراكية ونظرياتها، والقومية وتطبيقاتها، وبين الارتباط بالغرب أو بالشرق أو محاولة التوسط والتوفيق بينهما ضاعت جهود الأمة، أو تحولت إلى تصريحات جوفاء ومشاهد مسرحية دعائية يقوم بها الزعماء العلمانيون؛ لإلهاء الشعوب وحفظ ماء الوجه أمامها. فالعلمانية عندما اعتمدت القومية العربية إطاراً للصراع تكون قضية فلسطين قد خسرت تلقائياً إمكانات وجهود الأقطار الإسلامية غير العربية من المشاركة في هذا الصراع، وليس أدل على ذلك من اعتراف إيران وتركيا مبكراً كما ذكرنا سابقاً بالدولة الصهيونية ومد يد التعاون معها. زد على ذلك: أن العلمانية لم تكتف بتحييد الشعوب الإسلامية غير العربية في الصراع، بل عملت أيضاً على تحييد الشعوب العربية نفسها، عندما كرست التوجه القائل بأن قضية فلسطين قضية فلسطينية تخص شعب فلسطين وحده، ولا يبقى للشعوب العربية الأخرى إلا أن (تتعاطف) مع هذا الشعب في محنته ومأساته.وقد كان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وانحرافها العلماني إحدى الخطوات في (فلسطنة) الصراع، وجدير بالذكر في هذا المجال (التمزق والفلسطنة) أن (زعيم القومية العربية)(12/440)
جمال عبد الناصر، وقبيل بدء مغامراته الاستنزافية والتمزيقية في اليمن، كان قد أعلن في فبراير عام 1958م قيام دولة وحدة عربية بين مصر وسورية، ف
"استبشر بها الفلسطينيون خيراً، وبنوا الآمال الكبار عليها متوقعين من دولة الوحدة اتخاذ خطوات إيجابية لعودة الفلسطينيين إلى بلادهم وتحرير أرضهم المحتلة، إلا أنخيبة أملهم كانت كبيرة عندما رفض عبد الناصر طلباً تقدم به الحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا بقبول فلسطين في الاتحاد السوري المصري. ويبدو أن عبد الناصر كان متخوفاً من أن يؤدي قبوله بهذه الوحدة إلى تحمله مسؤولية تحرير فلسطين وممارسة الضغوط عليه لإعطاء المسألة الفلسطينية دوراً أكبر، بينما لم يكن عبد الناصر يعطي الأولوية للقضية الفلسطينية. ويقول باتريك سل: إن دولة الوحدة لم يكن القضاء على إسرائيل هدفاً من أهدافها"(1). وذلك يؤكد أن القومية العربية العلمانية في ممارستها العملية كانت أداة لتمزيق القوى المواجهة للعدو الصهيوني، ولم تكن أداة للتوحد العربي كما يزعمون أو يُنَظِّرون. وإذا أخذنا لدراسة هذا الأثر العلماني مجالاً يتأثر بغيره من المجالات ويؤثر في غيره أيضاً، وهو المجال العسكري، نموذجاً لهذا التمزق، نجد أن من أهم أسباب الهزيمة في فلسطين باعتراف جميع الأطراف هو ذلك التمزق الذي اعتراه.فإضافة إلى أخطاء النظم العلمانية العسكرية الأخرى، كالتهوين من قوة العدو والاستخفاف بها، والأسلحة الفاسدة، وضعف التدريب والتسليح، والافتقار إلى التخطيط الجيد... كان لتشرذم القوات العربية تحت قيادات مختلفة متخالفة أثر كبير في الهزيمة العسكرية، ففي حرب 1948م يعرض ديفيد بن جوريون وجهة نظره في أسباب هزيمة العرب التي ساهمت في انتصار اليهود عسكرياً عليهم بأنها: "1- خطتهم الاستراتيجية كانت سيئة، ولا سيما خطة المصريين. 2- لم تكن لديهم قيادة موحدة {أثر العامل السياسي}.3 - تسليحهم لم يكن كافياً لم يكن هناك قوة جوية، ومصر كانت ضعيفة في البحر. 4- الطاقة البشرية المجندة لم تكن كافية أيضاً. استطعنا تعبئة قوة أكبر من قوتهم .5 - معنوياتهم منخفضة {لافتقاد الهدف وضياع الهوية والتخبط العسكري}.6 - قدرة تعلم منخفضة. 7 - لم تكن عندهم صناعة عسكرية {أثر العامل الاقتصادي والعلمي}(1).وهذا ما يقر به علمانيو العرب أنفسهم، ولكن بالطبع بعد انتهاء المعارك.بل وصل هذا التشرذم والتمزق إلى حد بعيد قد لا يتصوره أي (متعاطف) مع القضية الفلسطينية: فيذكر بن جوريون في يومية 16-1-1949م أن موشيه دايان عاد بعد حديث مع أحد القادة العرب ليخبره أن "العجوز يشكو من الإنجليز الذين هو عبدهم (!)، يطلب عدم ترك المصريين، لا سمح الله !، في غزة، من المفضل أن نسلمها إلى الشيطان، أن نأخذها نحن، شرط ألا يأخذها المصريون (!)"(2)، أما النظرة الاستراتيجية عند هذا (العجوز) فيوضحها هو نفسه لليهود قائلاً: "إذا غادرت الدول العربية البلد فإننا سنقيم معاً"، وفي صراحة لا لبس فيها يوضح أنه "لا يريد محادثات مشتركة مع الدول العربية، وهذه عليها المغادرة"، بل إنه لا يعترف بحق أي دولة في أن تكون موجودة في البلد {فلسطين} باستثناء اثنتين: إسرائيل ودولته"(3). ولا شك أن هذا التمزق والتشرذم العسكري والسياسي كان عاملاً مهماً في الهزيمة العسكرية وما صاحبها ولحقها من تراجع سياسي، تمثل في اكتساب الصهاينة أرضاً جديدة وقبول العرب الهدنة التي مكنت العدو من إعادة تنظيم صفوفه وتعويض وتجديد تسليحه، والتفرغ لبناء دولته في ظل اعتراف عربي ضمني بحدودها، بينما تحطمت القوة العربية وتدنت الروح المعنوية في صفوف جنودها، أما عرب فلسطين: فكان لهم الشتات!.كان هذا أيام النكبة العلمانية، ولا يختلف الأمر كثيراً في نكستهم الثورية التقدمية الوحدوية... سنة 1967م: فقد وقعت هذه النكسة (هكذا يطلق إعلامهم على هذه الهزيمة وكأنهم كانوا منتصرين قبلها) وقعت د استنزاف طويل وصراع بين عدة أطراف عربية، ورطها فيها زعيم القومية العربية آنذاك جمال عبد الناصر، كان منها: حرب اليمن والوحدة الفاشلة بين مصر وسورية.ويؤكد مراسل حربي لجريدة الأوبزرفر على حقيقة تسبب التفرق والتشرذم في هذه الهزيمة، فيقول: "إن الإسرائيليين اعتمدوا في ذلك على أن القوات العربية ليست تحت قيادة موحدة، وإن الأحداث أكدت صحة هذا الاعتقاد".وقال: "... وعلى الجبهة الشمالية سورية، تحققت نبوءة المخططين الإسرائيليين، وكانت عمليات القوات السورية محدودة جداً، فلم يقم السوريون بأية عمليات جدية لمساعدة المصريين في الخروج من المأزق الذي وقعوا فيه، وانحصرت مساعيهم في هجومات محلية على مستعمرتي حدود إسرائيليتين"(4). وتعجب بعد ذلك لجريدة (الثورة) تخرج بعد اكتمال الهزيمة لتلقننا درساً وحدوياً قائلة "... كان يمكن أن تكون نتائج المعركة أعظم بكثير لو توافر تنسيق أوسع للاستراتيجية العربية ورافق ذلك توزيع أدق للقوات"(5). ولا شك أن العلمانية بتمزيقها للأمة وإدخالها في صراعات تستهلك قدراتها وتلهي شعوبها قد أسدت إلى الدولة الصهيونية خدمة كبرى وحققت(12/441)
لها هدفاً بعيداً، "وأي شيء هو أسعد لإسرائيل من أن تلقى دولاً مفككة، ممزقة، هزيلة، يمعن بعضه في تحطيم وتجريح البعض الآخر، ويضمر له من
العداوة والضراوة والكره عشرة أمثال ما يضمر لإسرائيل؟ !"(1). وقد كان هذا الهدف لدولة العدو يخطط له من قديم بأسلوب ثانٍ تحقق في الواقع أيضاً، هو: إقامة دويلات طائفية حول الدولة الصهيونية، ولا يمنع إذا استدعى الأمر محاولة تقسيم بعض الدول الكبرى على هذا الأساس(2) ؛ لتكوّن هذه الدويلات حزاماً أمنياً يمثل خط دفاع متقدم عن اليهود، وهو أحد عناصر ما يعرف بتأمين المجال الحيوي(3)، وهنا يبرز المثال الواضح لذلك التخطيط، وهو دويلة الرائد سعد حداد التي انفصل بها في جنوب لبنان عام 1979م، ثم غزو لبنان الكامل ومحاولة فرض اتفاقية (سلام) مع قادة القوات اللبنانية الكتائبية المارون عام 1982م. ولكن ما لا يعرفه كثيرون أن هذا المخطط مخطط قديم، دأب قادة العدو على تحين الفرصة المناسبة لتنفيذه، فيذكر بن جوريون في يومياته (19-20-12-1948م) اقتراحات بعض القادة بهذا الخصوص في إحدى جلسات الحكومة، من ذلك اقتراح مردخاي بنطوف: "يجب تحطيم الحلقة الأضعف، كان هذا في لبنان الماضي، كان يمكن الذهاب إلى بيروت وتأليف حكومة مارونية (بقيادة المسيحيين الموارنة) وإبرام سلام معها"، و "يقترح جوش {بلمون }، بموافقة يغئيل {يادين} جيشاً عربياً غير نظامي (غير إسلامي) كي يشكل حزاماً"(4).وهي الفكرة التي نوقشت مرة أخرى سنة 1954م وقت أن كان موشي شاريت رئيساً للوزراء، وقد وافق شاريت على مبدئها وإن اختلف مع بن جوريون في ظروف وتوقيت تنفيذها، ويذكر شاريت أن الفكرة نفسها نوقشت أيضاً في 16-5-1955م أثناء اجتماع مشترك لكبار موظفي وزارتي الدفاع والخارجية، فبعد أن أثارها بن جوريون عبّر دايان فوراً عن مساندته بحماس: "حسب رأيه (دايان) الشيء الوحيد الضروري هو العثور على ضابط، ولو برتبة رائد (!) فقط، وعلينا إما أن نكسب قلبه أو نشتريه بالمال، ليوافق على إعلان نفسه مخلِّصاً للسكان الموارنة، وعندئذ يدخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان، ويحتل المنطقة الضرورية، ويخلق نظام حكم مسيحي يكون
==============(12/442)
(12/443)
لإستشارة : …مصطلحات لا أعرفها
تاريخ الاستشارة : …
الموضوع : …استشارات ثقافية وفكرية
السائل : …ابراهيم الشريجة
السؤال
السلام عليكم ارجو اجابتى عن بعض الاسئلة التى اسمع بها لكنى لا أعرفهاوالتى منها
1- ما معنى العولمة؟
2- مامعنى العلمانية ؟ وكيف تكون مواجهتا؟
مع ارفاقهما بامثلة0
3-ما هى مصادر الثقافة الاسلامية؟وكيف يكون التناغم فى المجتمع ؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل / إبراهيم الشريجه حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
بدايةً أسأل الله جل وعلا أن يثبتنا وإياك على الحق ، وأن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ، آمين.
أخي الفاضل إبراهيم: إليك نبذة مختصرة عن المصطلحات الواردة في رسالتك :
1- معنى العولمة: العولمة عرفها العلماء بعدة تعريفات ، منها:
1- هي نمط سياسي اقتصادي ثقافي لنموذج غربي متطور ، خرجت تجربته عن حدوده لعولمة الآخر ، بهدف تحقيق أهداف وغايات فرضها التطور المعاصر.
2- وقيل هي : ظاهرة قادمة من الغرب ، من مجتمعات متقدمة حضارياً ، متجهة إلى مجتمعات نامية ومتخلفة ، والتعامل معها بنجاح يتطلب بناء الذات والارتقاء بها في المجالات المختلفة ، حتى يكون التعامل مع تلك الظاهرة إيجابياً، وتتمثل العولمة في مجموعة من التوجهات ذات البعد المستقبلي ، وتدور حول قضايا ، مثل: الديمقراطية، واقتصاد السوق الحر .. إلخ .
ويرى منظروها ومؤيدوها أنها إيجابية العموم ، إلا أن آخرين يرون فيها مخاطر أساسية عديدة ، حيث تثير المسألة عدداً من الأسئلة الصعبة التي تنتظر الإجابة ، مثل: هل ستؤدي العولمة إلى تحطيم الحدود بين الأقطار ، وإذابة الهوية ؟ وهل سيسود الغرب المتقدم بنمطه الاقتصادي والرأسمالي ، ويعولم الاقتصاد والثقافة، والوضع السياسي في العالم لحسابه ، لعدم قدره الدول النامية على مواكبة تطور العالم الأول ، والتعامل معه ندياً على كل المستويات ؟ وهل بإمكان العرب تطور أوضاعهم في المستقبل المنظور لمواجهة هذه التحديات الخطيرة ، للتعايش السلمي والإيجابي مع ظاهرة العولمة؟
إذن العولمة هي نظام يفرض النظام الغربي بكل أساليب حياته على الأنظمة الهشة والضعيفة، ويخضعها له ، إلا إذا قاومت الأنظمة وغيرت من وضعها وسياستها ، حتى تحافظ على نفسها وهويتها وعقيدتها وذاتها، وإلا ذابت في أقوى هذا المارد العملاق الذي لا يبقي ولا يذر .
ثانياً : معنى العلمانية: تعني هذه الكلمة : اللادينية ، أو الدنيوية ، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين ، وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، ولقد نشأت في أوربا ، وعمت أقطار العالم بتأثير الاحتلال والتنصير والشيوعية.
ومن أفكارها ومعتقداتها ما يلي :
1- بعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلاً .
2- وبعضهم يؤمنون بوجود الله ، لكنهم يعتقدون بعدم وجود أي علاقة بين الله وبين حياة الإنسان .
3- فصل الدين عن السياسة، وإقامة الحياة على أساس مادي .
4- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية، وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية .
وأما عن معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي فهي:
1- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة .
2- الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذٌ من القانون الروماني .
3- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ، ويدعو إلى التخلق .
4- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي .
5- تشويه الحضارة الإسلامية.
6- إحياء الحضارات القديمة.
إلى غير ذلك من الأفكار والمعتقدات التي تتعارض مع الدين وتحاول القضاء عليه، والتي تكون مواجهتها ألا يفهم الإسلام صحيحاً، وتحويله إلى واقع عملي يعيشه الناس ، حتى يتمكنوا من التفريق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال.
ثالثاً: مصادر الثقافة الإسلامية:
أساساً مصدر العلوم والأفكار والمعتقدات الإسلامية هما: القرآن والسنة، فهما المصادر المعصومة أساساً لدى المسلمين، ثم يعقبها الإجماع وهو: اتفاق أهل الحل والعقد من علماء الإسلام، على حكم مسألة ما، وكذلك القياس وهو: عبارة عن قياس حكم جديد على حكم قديم منصوص عليه ؛ لاتفاقهما في العلة .
ولقد أثمرت هذه الأصول كل ثقافة الإسلام في شتى نواحي الحياة ، حتى أصبح واقعاً ملموساً أقام أمة رائدة ناهضة ، استمرت حضاراتها قائدة للدنيا مئات السنين ، حتى بدأ ضعف التمسك بهذه المصادر، فأدى ذلك إلى الانهيار الحضاري، ومن ثم الإزاحة عن قيادة الدنيا ، والدخول في كهوف الجهل ، والتخلف إلى يومنا هذا ، ولم ولن يتسنى لنا العودة إلى الصدارة، والقيادة مرة أخرى ، إلا بالعودة إلى تلك المصادر الربانية الأصيلة ، فهل نحن فاعلون ؟ نتمنى هذا ، وبالله التوفيق .
المجيب : …الشيخ / موافي عزب
=============(12/444)
(12/445)
: …ماذا أفعل مع أخي العلماني
تاريخ الاستشارة : …
الموضوع : …استشارات ثقافية وفكرية
السائل : …محب الإسلام
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله! سؤالي هو:
إن لدي جهاز حاسوب، من خلاله يتمكن أخي من الدخول لتصفح مواقع كفر علمانية متهجمة على الإسلام بشكل رهيب على الإنترنت! مع العلم بأن أخي علماني متطرف جدا!
السؤال هو: ماذا أفعل؟ هل هناك طريقة أستطيع بها منع أخي العلماني من تصفح هذه المواقع، بحيث لا يسبب ذلك خلافا بيني وبينه إذا أمكن!؟ وقد حاولت أن أهدي أخي للإسلام مرة أخرى، لكنه موغل في العلمانية بشكل مخيف!
ونرجو منكم الإجابة!
والسلام عليكم!
وجزاكم الله خيرا!
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محب الإسلام حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فمن المعلوم أن الله جل وعلا قد يبتلي عباده المؤمنين الصالحين ببعض ذوي القربى ممن هم يحادّون الله ورسوله، ويعادون دينه وشرعه، فها هو نوح عليه الصلاة والسلام قد ابتلاه الله بابنٍ كافر عنيد، وبزوجةٍ مشركة عاصية، وبعده إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قد ابتلاه بأبيه الذي كان من أعظم الناس كفراً وإشراكاً، قال الله تعالى: {ونادى نوحٌ ابنه وكان في معزلٍ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} [هود:42]، وقول إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يا أبتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} [مريم:42]، بل إن الله جل وعلا قد ابتلى خير أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه بعمِّه أبي لهب، وقد كان عدواً فاجراً شديد الخصومة والفجور، وهذا أمرٌ يطول وصفه.
والمقصود أن الله جل وعلا من حكمته أن يبتلي المؤمن بالكافر، قال تعالى: {ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض}[محمد:4]، وقال تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً}[الفرقان:20] ولا ريب أنك قد ابتليت بهذا الأخ العنيد المكذب، فإن حقيقة العلمانية هي على الصواب (اللادينية) كما هو مبين في غير هذا الموضع، فلا بد إذن أن تكون على بينةٍ من دينك في كيفية معاملته، وأيضاً فلا بد من أن تكون على قدر المسؤولية التي هي على عاتقك، فأنت الآن في وجه رجل قد وصفته أنتَ بأنه (علماني متطرف جداً) فيجب إذن أن تكون مسلماً متمسكاً بدينه حقّاً (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) [الأنبياء:18].
ومما يعينك كثيراً في هذا الباب أن تكون دائماً مستحضراً لحقيقة البلاء الذي أنتَ فيه، ولا ريب أن في كتاب الله ما يُشفي العليل، ويروي الغليل من ذلك، فأنتَ في فتنةٍ واختبار، أتصبر على دينك وتدافع عنه، أم تكون من المهزومين المخذولين المتذبذبين ؟! {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً}.
وأما عن كيفية منعه من استخدام الحاسوب، فلا بد من أن توضح له بكل وضوح أنك لا تسمح له باستخدامه، وهو على هذه الحالة الرديئة، فيكف وهو يستخدمه في المواقع الكفرية المعادية للإسلام!! فالواجب منعه بكل ما تستطيع، ولو أدَّى ذلك إلى نفرته تماماً منك، فإن هذا من باب ردع أهل الطغيان، وهو من جنس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجب عليك.
وأما عن دعوته للإسلام، فلا ريب أن هذا من أعظم الأعمال التي تُقربك إلى الله، كما ثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثم ادعهم إلى الإسلام، فلئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمر النعم)، وقد قال الله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} [فصلت:33].
ومما يفيدك جدًا في هذا المقام، أن تعلم أن الناس في دعوتهم إلى الله على ثلاث مراتب:
الأولى: الحكمة، وتكون مع المستجيبين الذين لا يعاندون بحيث يتبعون الحق إذا تبين لهم.
الثانية: الموعظة، وتكون مع من فيه تباطؤ عن اتباع الحق، بحيث أنه قد يستجيب ولكن بعد تأخر.
الثالثة: الجدال، ويكون مع المعاند الذي يُجادل ويناظر، وهي مجموعة في قوله جل ثناؤه: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } [النحل:125].
وأيضاً فإن الجدال بالتي هي أحسن مشروطٌ بأن يكون المجادل غير ظالم، فإن ظَلَم وتعدَّى لم نكن مأمورين بجداله بالتي هي أحسن، بل يجوز الإغلاظ عليه، بحسب ما تقتضيه المصلحة، قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت:46]. وهذا يحتاج لشيءٍ من التوسع ليس هذا محله، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
المجيب : …أ/ أحمد مجيد الهنداوي
============(12/446)
(12/447)
كيف نكون دعاة مصلحين في بلادنا أمام الغزو الفكري والعقائدي الفاسد
تاريخ الاستشارة : …2005-11-17 11:07:55
الموضوع : …استشارات الأسرة والمجتمع
السائل : …الكيدالي الأنصاري
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحن نشكر الشبكة الإسلامية باعتبارها أول شبكة استعملناها عبر الأنترنت، ونسألكم عن ما يلي:
1_ لماذا غابت جمعيات خيرية إسلامية عنا وبادرتنا جمعيات تبشيرية نصرانية خيرية بما تملك؟
تنبيه:
التعريف بالموقع الجغرافي:
نحن نعيش بشمال جمهورية مالي الإقليم الثامن {كيدال} ادرار، كلنا مسلمون بحمد الله ويطلق علينا اسم {الطوارق} ونطلق على أنفسنا {كالتماشق} ويرجع أصلنا إلى أصلين عرب وبربر وننقسم من حيث الثقافة إلى ثلاثة أقسام:
1_مثقفون بثقافة عربية إسلامية وهم قلة الآن بسبب غياب الدعم المعنوي والمادي من قبل الدولة أو جمعيات خيرية.
2_مثقفون بثقافة فرنسية علمانية وهم كثرة بسبب حضور دعم معنوي ومادي من قبل الدولة والجمعيات التبشيرية النصرانية حتى تحولت أفكارهم إلى أفكارهم واعتنق بعض منهم عقيدتهم وللأسف.
3_اللاثقافية بسبب عدم وجود مراكز تعليمية وثقافية.
وننقسم من حيث الفرق الإسلامية إلى ثلاثة:
1_التصوف:
وهم الأكثرون لهم بعض البدع كالتوسل بالصالحين ودعائهم لهم أثناء الشدائد وخوفهم منهم وغير ذلك من المحدثات التي لا أصل لها.
2_جماعة التبليغ:
وتاريخ دخولها المنطقة من 7 سنوات تقريبا ووجدت فراغا في المنطقة واستغلّته وبدأت بزعماء القبائل والعلماء أكثرهم قبلوها والآخرون رفضوها ومن سلبياتهم أنّهم يقلّلون شأن من لم يخرج معهم ثلاثة أيام.
3_أتباع منهج أهل السنة والجماعة من خلال الكتب والمجلدات ووسائل الإعلان وهم قلة بسبب انتشار التصوف والمقلدين تقليد الأعمى، أشيروا علينا ماذا نفعل جزاكم الله خيرا؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ الكيدالي حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فنسأل الله أن يقدّر لك الخير، ويسدّد خطاك، ويلهمنا جميعاً رشدنا، ويُعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
فُشكراً لكم على هذا التواصل مع موقعكم الشبكة الإسلامية، وثقوا بأننا سوف نكون -بحول الله وقوته- عند حسن ظنكم، فمرحباً بكم مع إخوةٍ يشاركونكم هموم الدعوة وقضايا الدعاة إلى الله.
ولا يخفى على أمثالكم الظروف التي قعدت بالمنظمات الخيرية، ولكن للدين ربٌ يحميه، وقد نصر الله هذا الدين حين كان هناك رجلين فقط (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) ونصره حين قال قوم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام (إنا لمُدركون) فرد عليهم بقوله: (كلا إن معي ربي سيهدين).
وأرجو أن تكونوا من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، واعلموا أن لحظة الفجر تأتي بعد أشد ساعات الليل ظلاماً، وأن نصر الله وتأييده يأتي بعد أصعب اللحظات وأحرجها (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) عندها يأتي الفرج (ألا إن نصر الله قريب) وحينها لا ينسب الفضل لأحد سوى الله الواحد القهار المتفضل بالنصر والفلاح.
وأذكركم يا إخواني بأن الداعية مصباح والمصباح لا يقول ما بال الدنيا مظلمة، ولكن حسب المصباح أن يقول هاأنذا مضيء، فالعمل العمل، ولأن يُضيء الإنسان شمعة خيرٌ من أن يلعن الظلام؛ لأن لعن الظلام والتحسر على الحطام سلبية، والمسلم إيجابي يبدأ بإصلاح نفسه ثم ينطلق في دعوة الآخرين؛ لأنه يعلم أن النجاة لمن كان صالحاً مُصلحاً، طاهراً في نفسه ساعياً في طهارة غيره، والمؤمن يفعل ذلك إعذاراً إلى الله ورغبةً في هداية الناس (معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون).
وليست العبرة بالكثرة، وأرجو أن يُبارك الله في القليل، واحرصوا على تحريك الهمة في النفوس، والاجتهاد في معرفة المداخل المناسبة لمخاطبة كل فئة من الفئات، والداعية مثل الطبيب الحاذق الذي يعرف الداء ثم يصف الدواء، والطبيب الناجح لا يعيّر مرضاه بما فيهم، ولكنه يلاطفهم ويبدأ بعلاج الأمراض الخطيرة، وكذلك يكون الداعية في لطفه وحكمته وتدرجه في الإصلاح، مع ملاحظة الفروقات بين فئات المدعووين، ولا يخفى على أمثالهم أهمية إصلاح العقائد وترسيخ معاني الإيمان في النفوس، مع ضرورة أن يصبر الدعاة إلى الله، وأن يُخلصوا في دعوتهم، فإن الله يُبارك في كلام المخلصين وأعمالهم ويعطف قلوب الناس إليهم.
والداعية الناجح يعرف أحوال المدعو، ويُتقن فقه الدعوة وفنونها، ويعرف ما يدعو إليه، ويجتهد في أن يبدأ بنفسه.
وإذا أعطينا دعوتنا أوقاتنا، وسخرنا لها إمكاناتنا، وبذلنا في سبيلها أموالنا فسوف تكوهن الثمار بإذن الله عظيمة .
وهذا نبي الله نوح استنفذ كل الوسائل وقدّم دعوته في سائر الأحوال، فدعاهم ليلاً ونهار، سراً وجهاراً، وأعلن لهم، حتى قال القرطبي: كان يذهب لهم في بيوتهم ليلاً، وذلك عند تفسير قوله تعالى: {أسررت لهم إسراراً}.
ولا شك أن الهداية بيد الله، ولكن واجب الدعاة أداء ما عليهم، والاجتهاد في نشر الحق ونصره، ولأن يهدى الله بكم رجلاً واحداً خير لكم من حمر النعم.
والله ولي الهداية والتوفيق,,,
المجيب : …د. أحمد الفرجابي(12/448)
==========(12/449)
(12/450)
لماذا أصبح العرب يقلدون الغرب تقليداً أعمى؟
تاريخ الاستشارة : …2006-05-21 11:23:26
الموضوع : …استشارات ثقافية وفكرية
السائل : …faysal
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
لماذا أصبح شباب العالم الإسلامي لا يهتم بدينه؟ ولماذا أصبح العرب يقلّدون الغرب تقليداً أعمى؟
والسلام عليكم ورحمة الله بركاته
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ faysal حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فبداية، فإن هذا السؤال، سؤال قيم، وسؤال جدير بالطرح، وأول دلالة لهذا السؤال، هو أنك بحمد الله شاب مؤمن تهتم بدينك، وتحرص على نفع أمتك، فالحمد لله، الذي وفقك لهذا الخير، وأنعم عليك بهذا الهدى.
وأما عن إجابة سؤالك، فإن الجواب لا بد أن يكون موجوداً في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فإن هذا الدين الكريم، فيه كل جواب لكل هذه الأسئلة، وفيه الهدى لكل ضال، وفيه الرشاد، لكل غاو منحرف، كما قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} وقد استفاض صلى الله عليه وسلم في بيان كل نافع لأمته، وبيان كل شر لها، حتى روى عن أبي ذر - رضي الله عنه، أنه قال: تركنا رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وما طائر يقلب جناحيه في الهواء، إلا وهو يذكر لنا منه علماً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بقي شيء يقرب من الجنة، ويباعد من النار إلا وقد بين لكم ) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير.
والمقصود أن جواب هذا السؤال موجود نصاً في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد بين صلوات الله وسلامهم عليه بياناً واضحاً لا غموض فيه ولا اشتباه، مع بيان أن المسلمين على كثرتهم، سوف يكونون ضعافاً لا يلتفت إليهم ويؤبه بهم، بل هم مستضعفون، ثم بين أن السبب في كل ذلك هو وجود الوهن ( الضعف) في الدين، ثم فسر هذا الوهن بأنه ( حب الدنيا والركون إليها)، وهذا هو المعنى الذي أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يوشك الأمم أن تداعى، عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال: ( بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء، كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهانة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال: ( حب الدنيا وكراهية الموت ).
والمقصود أنه لما ضعف كثير من المسلمين في دينهم، وقدموا حب الدنيا على حب الآخرة وثوابها، تسلط الكافرون على المسلمين تسلطاً، زادوهم به ضعفاً إلى ضعفهم، حتى تشوهت معالم الدين في نفوس المسلمين، وانتشرت فيهم المذاهب المصادمة والمعاندة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، كالشيوعية والعلمانية ( اللادينية) ، فأدى ذلك إلى بعد كثير من المسلمين عن أصل دينهم، حتى صاروا لا يعرفون من حقائقه شيئاً يذكر، مضموماً إلى ذلك شيوع الفساد، والمجاهرة بالحرام، حتى صار المسلم غريباً في دينه وفي التزامه، كما ثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء ) أخرجه مسلم في صحيحه.
والمقصود أن هذه الأسباب مجتمعة هي السبب في بعد كثير من المسلمين عن دينهم، ومتى حصل هذا البعد بهذه الأسباب، كان هنالك الإعجاب بما عليه هؤلاء دون تمييز، لما يصح أن يستفاد منه من جهتهم، وما لا يصح أخذه منهم، والسبب في ذلك أن المغلوب يميل لتقليد الغالب، فصار كثير من المسلمين يعظمون حال هؤلاء، ويتشبهون بهم، ويقلدونهم تقليداً أعمى في كل شيء، كما ثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لتتبعن سنن ( طرق) من قبلكم شبراً بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه)، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟! قال:( فمن؟ ) متفق على صحته من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وإيضاح هذا المقام، أن كثيراً من المسلمين، عندما قهروا من جهة الأمم الكافرة، واستولت هذه عليهم، توهم كثير من المسلمين أنهم إنما قهروهم وغلبوهم، نتيجة أن هؤلاء هم أصحاب الكمال، وأصحاب العقل والفضل، فصاروا بهذا مقلدين لهم في شكل شيء عندهم، دون بصيرة أو فهم، بل الحال إنما هو كحال الطفل الذي يقلد أباه؛ لظنه كماله وتمام صفاته، فهذا كهذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد عقد ابن خلدون -رحمة الله - فصلاً نافعاً في هذا الباب، قال فيه نحواً من هذا الكلام، فراجعه في الجزء الأول ص 73 من مقدمته.
غير أننا نود لفت نظرك، إلى أن هذا الحال، لا يشمل جميع شباب المسلمين ولا يعمهم، بل أن في المسلمين من هم بحمد الله متمسكون بدينهم على بصيرة ووعي ونور من الله تعالى، فالخير في أمة صلى الله عليه وسلم لا يعدم حتى قيام الساعة، ونسأل الله تعالى لكم التوفيق والهدى والسداد.
وبالله التوفيق والسداد.
المجيب : …أ/ أحمد مجيد الهنداوي
=============(12/451)
(12/452)
ما هي الليبرالية والرائلية
تاريخ الاستشارة : …2006-07-11 08:21:10
الموضوع : …استشارات ثقافية وفكرية
السائل : …عبدالرحمن حسين سندي
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عندي سؤالان: الأول إجابته طويلة بعض الشيء، والثاني سهل إن شاء الله.
السؤال الأول متعلق بالليبرالية:
اختلف شباب جيل اليوم في تفسير الليبرالية:
فمنهم اتخذها منهجاً له لإعجابه بالكلمة حين ترددت على مسامعه واتخذها البعض على أنها شيء ( Cool ) على قولهم، ومن ( الفلة ) والحركات الشبابية، ومنهم من اتخذها بالتعصب الأعمى.
لي صديقة على الإنترنت تقول ( أنا تفكيري ليبرالي إلى أبعد الحدود ) وفخورة - ما شاء الله عليها-، وتعريفي لليبرالية هو التحرر الفكري.
أتمنى أن توافيني بتعريف الليبرالية؟ وأين نشأت؟ ومن مؤسسها؟ وما أمثلتها؟
وما الأدلة التي أستخدمها في إقناع أصدقائي عن التراجع عنها؟ وما الاستراتيجية التي أستخدمها في التعامل مع كل ليبرالي؟ هل أعاملهم بلطف؟ أم بماذا؟
وما هو وجه الشبه بينها وبين العلمانية؟ وهل كل ليبرالي علماني ككل علماني ليبرالي؟
وما هي الليبرالية الإسلامية؟ وهل لها وجود من الأساس؟
السؤال الثاني عن الرائلية:
ما هو تعريف الرائلية؟ ومن هو مؤسسها؟ وما حكمها؟
أتمنى أنكم تعطوني الزبدة والمفيد والمختصر، شاكراً لكم، ومتمنياً لكم الفردوس الأعلى، والله يوفقكم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الابن الفاضل/ عبدالرحمن حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فنحن نتمنى أن يفتخر شبابانا بمصطلحاته ويعتز بدينه وإسلامه، فإن المنهزم هو الذى يقلد الأعداء ويتشبه بهم في لباسه وطريقة حياته، ويلوي لسانه برطانتهم، وديننا يرفض هذا الهوان، ويدعو الشباب إلى التمسك بالقرآن، وبالحرص على هويته الإسلامية ونشرها بين الأنام، فنحن أمة قائدة لا مقودة، وينبغي للدنيا أن تسير في ركابنا، وتقتبس من قيمنا وديننا، والمسلم يتميز بمصطلحاته وقيمه.
وأرجو أن يعرف الشباب أن لغتنا العربية هي أوسع اللغات وأكثرها مرونة وأشرفها، ولا عجب، فقد اختارها الله وعاء لكتابه وسنة نبيه، وعندما قال الصحابة للنبي r راعنا يعني انتظرنا فلا تستعجل بتلاوة القرآن حتى نحفظه، وكانت هذه الكلمة تصادف معنى قبيحاً عند اليهود، نزل القرآن بنهيهم عن المصطلح، فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم}.
ونحن لا نريد لك أن تجاري أمثال هؤلاء الشباب، واجتهد في تحريضهم على طاعة الرحمن وتلاوة القرآن، كما نتمنى أن تحصر صداقتك في الذكران وتجنب مصادقة النسوان، فإن هذا طريق للشيطان الذي يستدرج ضحاياه من بني الإنسان.
وأرجو أن تعلموا أن كثيراً ممن ينادون بحرية الفكر، هم في الحقيقة دعاة إلى حرية الكفر، فليس لمعظمهم فكر، ولكنهم يرددون في غباء ما يقوله أهل الكفر، فاحذرهم وفر منهم فرارك من النمر، ويؤسف الإنسان أن يقول إن هؤلاء لا يستخدمون حريتهم المزعومة إلا في حرب الإسلام وأهله، ولا يستطيع واحد منهم أن يقول كلمة عن دين اليهود أو دين النصارى، مع ما فيها من تناقضات وضلالات، بل لا يستطيع أحدهم أن يتكلم عن محرقة اليهود أو غيرها من القضايا التي ليس لها أدلة ولا شهود، لأنه إن فعل ذلك سوف يفقد ألقابه وشهرته، هذا إذا بقي حياً في هذا الوجود، فهم يكيلون بمكيالين، ويكذبون في كل لحظة وقضية مرتين، وليتهم عرفوا أن حرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حريات الآخرين، فلا بد أن تكون الحرية مضبوطة، حتى لا تكون أذى للناس، كما أن تحررهم المزعوم تحول إلى تحلل من كل فضيلة وخير.
أما العلمانية فإنها تعني اللادينية، أو إبعاد الدين عن الحياة وحصره في الاستخدام الشخصي، وهذا مذهب باطل مصادم لشريعة الإسلام التي تشمل الدين والدنيا والآخرة، وقد نشأ في بلاد الغرب ثم نقله رجال من بني جلدتنا ممن يتكلمون بألسنتنا ولكنهم يمرقون من الدين بولائهم للأعداء وبنقلهم لحياتهم وأخلاقهم، حتى وجد من قال بأخذ النجاسات في بطونهم، وقد أثبت هذا المذهب أيضاً عجزه وضيقه، حتى بقطعة قماش تضعها فتاة على رأسها طاعة لربها، وحرموا الطالبات المسلمات من حقوق شخصية، طالما زعموا أنهم حماتها وحراسها، وقد شبه بعضهم العلمانية بالبغال عن مكانة الحمار كثيراً، ولم يصلوا إلى رتبة الحصان، ويؤسفنا أن نقول إن عدداً من حملة الأقلام ينتمون لهذا المذهب، ومنهم من يزعم أن الإسلام هو المسؤول عن تأخرنا، و{كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً}.(12/453)
وقد أرسلت البلاد الإسلامية أعداداً من الطلاب إلى بلاد الغرب، وبعد عودتهم أصبحوا عالة على دولهم بحملهم لهذه الأفكار، فلم يخرجوا من الدين وحدهم ولكنهم يصرون على إخراج غيرهم، وليتهم جاؤوا بالعلم المفيد، ولكنهم جاءوا بأظفار طويلة وأجساد ناعمة وكلمات محفوظة ممجوجة، ولم يتعلموا إلا السفه وسبل الخروج على القيم والدين، وبارك الله في بعض الشباب الذين حافظوا على دينهم، فكانوا دعاة إلى الله، ورجعوا أكثر علماً وثباتاً على الدين وحفاظاً على القيم والتراث.
أما بالنسبة لكلمة الرائيلية فلا علم لي بها، ولا أظنك تحتاج إليها، ونحن نتمنى أن نكتفي بما عندنا من الخير، ولا بأس من قبول الخير والحكمة مهما كان مصدرهما، ولكننا ما ينبغي أن نستورد التصورات، لأنها لا تصلح لأرضنا، بل ينبغي أن نتحف الدنيا بما عندنا من الكمالات، وأرجوا أن يشغلنا الله بالمفيد، وأن يثبتنا على الحق حتى الممات.
والله الموفق.
المجيب : …د. أحمد الفرجابي
==============(12/454)
(12/455)
إنكار تلبس الجني بالإنسي مكابرة
تاريخ الفتوى : …03 صفر 1423 / 16-04-2002
السؤال
ما رأي فضيلتكم في ما يقال عن أن بعض الناس هداهم الله لا يعترفون بالجن ولا حتى بالمعالجة بالقرآن الكريم ، وبعض القنوات الفضائية أصبحت تركز على هذا الموضوع وتنكر أن الجن يقدرون على صرع الإنسان وركوبه ويدعون أن الجن فقط يوسوس للانسان لا غير أما صرع الإنسان فغير معقول وما ردكم عليهم (أخشى يا فضيلة الشيخ أن يكون هذا الإنكار له دوافع علمانية حتى يبعدو القرآن عن الحياة وشكرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فتلبس الجني بالإنسي ثابت بالكتاب والسنة ويؤيده الواقع المشاهد قديما وحديثاً وإنكاره رد للكتاب والسنة، ومكابرة للعقل والحس، وقد يكون دافع الرد التأويل الفاسد، وقد يكون العلمنة، وقد يكون غير ذلك، ولمزيد الفائدة تراجع الفتوى رقم:
3352 ورقم: 4738
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
============(12/456)
(12/457)
تقدم الغربيين وتأخر المسلمين...السبب والعلاج
تاريخ الفتوى : …07 رمضان 1423 / 12-11-2002
السؤال
لماذا نرى الدول الغربية متقدمة بفصل الدين عن الدولة؟ ولماذا جل الدول المسلمة قابعة في مكانها لا يطالها التقدم؟
جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الدول الغربية تقدمت في العلوم المادية تقدماً كبيراً، لأخذ أبنائها بأسباب تلك العلوم، وهم لم يأخذوا بأسباب تلك العلوم إلا بعد أن فصلوا دينهم عن حياتهم، وأقاموا حياتهم على أسس علمانية.
ولكن لماذا حدث هذا؟
حدث كل ذلك، لأن الدين عندهم حينئذ لم يكن هو الدين الخالص الذي جاء به عيسى عليه السلام، وإنما كان الدين حينها محرفاً مبدلاً قد طالته أيدي التحريف والتبديل، فغيرت وبدلت وزادت ونقصت، فكان من نتائج ذلك أن تعارض الدين المبدل مع مصالح الناس في دنياهم ومعاملاتهم، بل زاد على ذلك بأن تعارض مع حقائق العلم الثابتة، ولم تكتف الكنيسة -وهي الممثلة للدين عندهم- لم تكتف بما عملته أيدي قسيسيها ورهبانها من التحريف والتبديل حتى جعلت ذلك ديناً يجب الالتزام به والتقيد به، وحاكمت إليه العلماء المكتشفين والمخترعين، وعاقبتهم على اكتشافاتهم العلمية المناقضة للدين المبدل، واتهمتهم بالزندقة والإلحاد، فقتلت من قتلت، وحرقت من حرقت، وسجنت من سجنت.
ومن جانب آخر، فإن الكنيسة الممثلة للدين عند النصارى أقامت تحالفاً غير شريف مع الحكام الظالمين، وأسبغت عليهم التقديس، وسوغت لهم كل ما يأتون من جرائم وفظائع في حق شعوبهم زاعمة أن هذا هو الدين الذي يجب على الجميع الرضوخ له، والرضا به، وفي تلك الظروف بدأ الناس في تلك البلاد يبحثون عن مهرب من سجن الكنيسة وطغيانها، ولم يكن مخرجهم الذي اختاروه إذ ذاك إلاّ الخروج على ذلك الدين الذي يحارب العلم، ويناصر المجرمين، ولم يجدوا بداً من التمرد عليه، وإبعاده وطرده عن كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية والأخلاقية وغيرها.
تلك هي قصة فصل الدين عن الدولة في بلاد الغرب، ولم يكن ذلك غريباً بالنسبة لذلك الدين، وتلك الكنيسة.
أما الإسلام، فإن فصله عن الحياة غير ممكن فهو وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه لا يطاله تحريف أو تبديل.
وهو الدين الذي لا يحابي أحداً، فالحاكم والمحكوم فيه سواء، وهو الدين الذي يرعى مصالح الخلق ويحافظ عليها فليس فيه تشريع يعارض مصلحة راجحة.
وهو الدين الذي يحض على العلم ويحث عليه، وهو الدين الذي ليس فيه نص شرعي صحيح يعارض حقيقة علمية ثابتة.
وأما ما تعانيه بلاد الإسلام من تأخر في العلوم المادية فليس لأن الإسلام حال بينهم وبين ذلك، بل لأنهم لم يأخذوا بالإسلام الذي أراده الله لهم على الوجه الذي ينبغي، فالإسلام يحثهم على القوة والقيادة ورياسة الأمم، وتقديم الخير للبشرية إلى غير ذلك من المعاني العظيمة، وهذا ما حصل بالفعل للمسلمين حين أخذوا بالإسلام كله، فسادوا وأنشأوا حضارة شهد لها القريب والبعيد، والعدو والصديق.
فالأمة بحاجة إلى أن ترجع إلى دينها رجوعاً حقيقياً فتحكمه في جميع مجالات الحياة، وتأخذ بتعاليمه وأخلاقه، وحينها سنرى العلماء من المسلمين يمضون قدماً، والإسلام يعدهم الأجر العظيم، والفضل الكبير على عملهم إن هم أحسنوه وأتقنوه.
نسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
=============(12/458)
(12/459)
حكم الانتساب لحزب يعمل ضمن قوانين علمانية
تاريخ الفتوى : …07 صفر 1425 / 29-03-2004
السؤال
ما حكم الانتساب أو العمل أو الاقتراع لحزب تعهد بالعمل ضمن أسس وقوانين علمانية وأقسم اليمين على ذلك، علما بأن المرشخ المنتخب مسلماً كان أو كافراً يجبر لتعظيم أصنامهم، أفيدونا؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن الصعب الحكم على هذه المسألة دون النظر فيما تنطوي عليه من مصالح ومفاسد، والموازنة بينهما، والحكم بناء على ذلك، إذ أن المصالح والمفاسد إذا اجتمعت فإما أن تكون المصلحة راجحة على المفسدة، فتقدم المصلحة، وإما أن تكون المفسدة راجحة على المصلحة فتقدم المفسدة، وإما أن تساوي المصلحة المفسدة، فتقدم المفسدة، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقد بين هذه القاعدة نعني قاعدة اجتماع المصالح والمفاسد، العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام.
وعلى هذا فالأولى الرجوع في هذه المسألة إلى أهل العلم بتلك البلاد التي فيها هذا الحزب أو بمن لهم إلمام بواقع الحال هناك.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
==============(12/460)
(12/461)
حكم جمع الصلوات طوال فترة الدراسة
تاريخ الفتوى : …14 جمادى الثانية 1425 / 01-08-2004
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
الإخوة الكرام أنا شاب ذهبت من عند اهلي إلى فرنسا ابتغاء طلب العلم؛ ولكن كما تعلمون هي دولة علمانية لا تجيز الصلاة في الأماكن العمومية أو المرتبطه بالدولة.
وأنا أقضي معظم نهاري في الثانوية وبعض الأحيان أقضيه كله كحال الشتاء يكون النهار قصيرا!
فهل يجوز لي جمع الصلواة وبماذا تنصحونني؟
أرجوا منكم أن تجيبوني على السؤال خاصة أن الفتاوى التي أحلتموني إليها لا تنطبق علي تماما!
ولتبسيط قضيتي سأفصلها:
أنا شاب موريتاني أتيت هنا بادئ الأمر لدراسة اختصاص يتعلق بالتكنلوحيا الحديثة ولكن وبعد مضايقات كثيرة من الأساذة قررت تركها وتبديل الاختصاص وسأذكر هنا إحدى تلك المضايقات, فى البداية كان يسمح لي بالذهاب الي الصلاة حتى اليوم الذي طلبت الإذن من أحد الأساتذة فأجابنى عليك الاختيار بين الدرس والصلاة فقلت الصلاة, وذهبت أصلي, لكنه لم يتركني وشأني حتى حرض علي باقي الأساتذة مما استدعى المديرة إلى الاجتماع بي وقالت لي نحن دولة علمانية وعليك ترك الصلاة حتى ترجع إلى بيتك ومن هنا قررت ترك ذلك التخصص ,ووجدت تخصصا آخر تلائم مع الصلاة لكن ذلك لقلة الوقت الذي أدرس فيه.
أمافي السنة المقبلة فوقت الدراسة كثير وحظر الحجاب في سنته الأولى.
فما العمل أثابكم الله ولا تنسوني من دعائكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم بارك الله فيك وزادك حرصا على الخير أن دين المرء هو رأس ماله في هذه الحياة كما قال القحطاني رحمه الله تعالى:
الدين رأس المال فاستمسك به فضياعه من أعظم الخسران
فالواجب على المسلم المحافظة عليه والحرص على اجتناب كل ما من شأنه أن يضيع على المرء دينه
وإن أول ما ننصحك به هو عدم البقاء في تلك البلاد بلا ضرورة لذلك أو مصلحة راجحة، فإن كان بإمكانك أن تدرس هذا التخصص في بلادك أو غيرها من بلاد المسلمين كان هذا أولى لك من البقاء في تلك البلاد وتعريض نفسك ودينك للفتن والمغريات.
وإن لم يمكنك دراسة هذا التخصص في بلاد المسلمين فننصحك أن تختار من بلاد الكفر البلاد التي هي أقل فسادا وانحلالا ولا تمنع من إقامة شعائر الدين، ونظن أن هذا الأمر ميسور، فإن الدراسة في بلاد الغرب تكاد تكون متقاربة من حيث المستوى والتأهيل.
فإن لم يتيسر لك إلا أن تدرس في فرنسا وكنت قادرا على إقامة شعائر دينك وتأمن على نفسك من الوقوع في الفتن فلا حرج، لكن يتعين عليك إقامة الصلوات في وقتها، وأن تختار من المدارس ما لا يتعارض وقت الدراسة فيها مع أوقات الصلوات، ولا نجد لك عذرا في جمع الصلوات طيلة مدة الدراسة التي تمتد لعدة أشهر.
وللفائدة نحيلك على الفتاوى التالية: 42122، 2160، 4724.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
=============(12/462)
(12/463)
…لا يستطيع أحد أن ينال من هذا الدين
تاريخ الفتوى : …18 شعبان 1425 / 03-10-2004
السؤال
لقد وقعت بين يدي مقالة ماجنة لكافر علماني ماجن، يشبه الإسلام فيها بالسرطان، ويدعو إلى مكافحته - قاتله الله ما أكذبه - ولكن لست أهلا لكي أرد عليه الرد المناسب، فأرجو ممن لديه غيرة على هذا الدين الحنيف منكم أن يقوم بالرد على هذا الفاسق بما يستحقه، وإن استطعتم أن تغلقوا ذلك الموقع القذر؛ فأرجو أن تفعلوا جهدكم! كما أرجو إبلاغي بما تردون عليه؛ لكي يطمئن قلبي بأنه لا يزال هناك من يدافع عن هذا الدين الحنيف، ويدعو إلى الله (إلا تنصروه فقد نصره الله) أما المقالة، فيمكنكم أن تصلوا إليها من خلال هذه الوصلة http://www. r ezga صلى الله عليه وسلم com/debat/show.a r t.asp?t=0&aid=22422
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اطلعنا على المقال المنشور في الصفحة المشار إليها، فوجدنا صاحبه ينطق بالكفر ولا يبالي، ثم تصفحنا بعض مقالاته، فوجدنا أن هذه طريقته دائماً، استهزاء بالدين وثوابته، وسخرية بالمتمسكين به، حتى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وصحابته لم يسلموا من وقاحة كاتب المقالات.
ثم إن الموقع المنشور عليه المقال هو مجلة الحوار المتمدن، وهي مجلة تنعت نفسها بأنها: يسارية علمانية ديمقراطية. أي أنها راعية للكفر وتنضح به، والكتاب فيها على شاكلة صاحب المقال المشار إليه وكلهم مجهولون.
وعلى كل حالٍ، فما كتبه هؤلاء وما كتبه غيرهم وما فعلوه مما يقصدون به إطفاء نور الله تعالى وتشويه دينه، وصد الناس عنه لن يحقق بإذن الله تعالى مقصودهم، ولن يكون إلا وبالاً عليهم فلتثق بذلك تمام الثقة، ومن شك في ذلك فهو شاك في قول المولى جل جلاله: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {التوبة: 32}،هذا وإن الرد على هؤلاء العلمانيين فيه شغل للدعاة وإهدار لأوقاتهم وصرف لجهودهم في غير الأولى، وجزاك الله كل خير على غيرتك، جعلنا الله وإياك ممن يعمل على إعلاء كلمته ونصرة شريعته وحراساً لدينه.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
=============(12/464)
(12/465)
الكافرة إذا أسلمت ولم تعمل بشعائر الإسلام
تاريخ الفتوى : …24 شوال 1425 / 07-12-2004
السؤال
بارك الله فيكم على هذا الموقع.
أنا رجل متزوج من نرويجية من حوالي 25 سنة وحينما تزوجنا أسلمت ورزقت منها بثلاث فتيات وولد وأعمارهم مختلفة, والمشكلة أن زوجتي لا تمارس أي نوع من أنواع الشعائر الإسلامية ولقد ذهبت عدة مرات إلى المسجد لكي تتعلم الدين ولكن دون جدوى وحاولت كثيرا ولم أخرج بنتيجة وحاول أولادي تعليمها الإسلام وكذلك دون جدوى. أنا وأولادي الحمد لله ملتزمون جدا ولا يوجد أي تأثير لها عليهم من ناحية الدين و تربية أولادي تربية إسلامية صحيحة و الحمد لله و الكل ملتزم بشعائر الدين والدعوة والحمد لله.
زوجتي تؤمن بوجود الله و اليوم الآخر. ما زلنا نحاول فلو بقيت على موقفها فهل نسأل يوم القيامة عنها وماذا نفعل؟
وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كانت هذه المرأة قد نطقت بالشهادتين فقد دخلت في الإسلام، ويلزمها الانقياد لشرائعه، فإن الإيمان عند أهل السنة قول وعمل، ولا يغني أحدهما عن الآخر.
فإن تركت هذه المرأة العمل بمقتضى الشهادتين فالواجب دعوتها وإقامة الحجة عليها، فإن أصرت على ترك العمل بمقتضى الشهادتين فإنه يحكم بردتها، ويجب عليك أن تفارقها، لأن الله نفى الإيمان عمن لم يستسلم لشرعه، قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا {النساء: 65}.
وقد نهى الله عن استمرار الزوجية مع الكافرة فقال: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ {الممتحنة: 10}. وكذلك نهى الله سبحانه عن التزوج بالكافرة، قال سبحانه: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ {البقرة: 221}. وانظر الفتوى رقم: 54607 فإن فيها مزيد بيان.
أما إذا لم تكن قد دخلت في الإسلام ولم تنطق الشهادتين فلا يخلو حالها من أمرين:
الأول: أن تكون ملحدة أو علمانية لا تدين بدين، فالواجب فراقها لنفس الأدلة السابقة.
الثاني: أن تكون كتابية (يهودية أو نصرانية) فلك إمساكها حينئذ لمشروعية نكاح الكتابية. قال تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ {المائدة: 5}. وعليك أن تستمر في دعوتها إلى الإسلام.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
=============(12/466)
(12/467)
أخوه يتصفح مواقع علمانية على جهازه الخاص
فهل عليه إثم إذا لم يستطع منعه ؟
تاريخ الفتوى : …06 ذو الحجة 1425 / 17-01-2005
السؤال
شكرا لكم جزيلا على موقعكم في الحقيقة إن أخي علماني متشدد، وهو يستخدم كمبيوتري في تصفح مواقع علمانية متطرفة لدرجة الخروج عن الإسلام ، مع العلم أن اشتراك الانترنت على حسابه هو، فماذا أفعل كي أمنعه بحيث لا يسبب ذلك خلافا قويا بيننا إذا أمكن ؟
جزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز أن تمكن أخاك من استخدام جهاز الكمبيوتر الخاص بك إذا تيقنت من أنه يستخدمه في تصفح المواقع العلمانية، وذلك لقوله تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {المائدة: 2}.واعلم أن تمكينك له من استخدام جهازك يجعلك شريكاً له في الإثم، فكما أن الدال على الخير كفاعله ـ فكذلك الدال على الشر كفاعله!! أما الطريقة التي تتبعها في التخلص من استخدامه لجهازك فهي الصراحة معه، بأن تطلعه على حقيقة موقفك ودوافعك التي أدت إلى استخدام هذا الإجراء معه، وأن المسألة مسألة عقيدة. ولكن عليك أن تلتزم الرفق معه، فلعل الله أن يهديه، فإن لم تقدر على ذلك فابحث عن وسيلة تتوصل بها إلى منعه من استخدام جهازك كما نوصيك بأمرين، الأول: أن تتعرف على حقيقة العلمانية وحكم الإسلام فيها حتى تكون على بينة من أمرك، وإن من أوسع من تكلم في ذلك الدكتور سفر الحوالي في كتابه " العلمانية"، وكذلك الشيخ محمد قطب في كتابه " مذاهب فكرية معاصرة". الأمر الثاني: أن تجتهد في دعوته إلى الاسلام والاستقامة عليه واعتباره عقيدة وشريعة ومنهج حياة، وأن يكون حاملك على ذلك الشفقة على أخيك ورحمته والخوف على عاقبته إن مات علمانيا. فإن لم تستطع دعوته بنفسك ـ فعليك أن ترشد غيرك إلى الاجتهاد في دعوته إعذاراً إلى الله وقياماً بواجب الدعوة. ولا تترك الدعاء له أبداً أن يشرح الله صدره للإسلام ويرزقه الاستقامة عليه، فليس ذلك على الله بعزيز، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
=============(12/468)
(12/469)
حكم العمل في مؤسسة علمانية
تاريخ الفتوى : …25 رمضان 1427 / 18-10-2006
السؤال
الإخوة المفتون سؤالي هو: أن زوجتي تعمل قبل أن أخطبها في إحدى المؤسسات التابعة لحركة فتح في غزة وتتقاضى راتبا من الحكومة، ولكن المشكلة هنا أنها لا تداوم في العمل إطلاقا، ولو ألزمت للدوام في هذه المؤسسة سأرفض تماما لكون مثل هذه المؤسسات علمانية وسأطلب حينها أن تستقيل وفي إحدى المرات طلبت منها أن تنتقل إلى مؤسسة حكومية أخرى فرفضت فهذه مشكلتي وأتمنى منكم أن ترشدوني؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اشتمل سؤالك هذا على ثلاث نقاط هي:
* كون زوجتك تتقاضى راتباً من الحكومة وهي لا تداوم في العمل إطلاقاً.
* كون المؤسسة التي تعمل عندها مؤسسة علمانية.
* كونك أنت لا تقبل عملها عند المؤسسة المذكورة.
وحول النقطة الأولى نحيلك على الفتوى رقم: 75031، فإنها تبين حكم الراتب المكتسب بغير عمل.
وحول النقطة الثانية فإن العلمانية تعني اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وأن الدين يبقى بمعزل عن الدنيا وأمورها، وهي تدعو للمحاربة العلنية والخفية للإسلام، وعدوها الأول هو الإسلام والمسلمون، وأكثر مؤسساتها تعمل لصالح اليهودية العالمية أو الصليبية، ولا شك في أنه لا يجوز العمل في مؤسسة هذه حالها.
وحول النقطة الثالثة فإنه لا يجوز للمرأة أن تعمل إلا بإذن زوجها، وله منعها من العمل إن شاء، وعليها طاعته في ذلك ما لم تكن قد اشترطت عليه ذلك في العقد، وإذا اشترطت عليه بقاءها في عملها فلها ذلك، لكن بشرط أن يكون العمل لا يشتمل على محذور شرعي من تبرج أو اختلاط محرم، وأن لا يكون فيه حرام أو إعانة على الحرام، أو غير ذلك من المحاذير الشرعية، فالحاصل -إذاً- أن من حقك منع زوجتك من العمل المذكور، لما ذكرت، كما أن من حقك منعها من أي عمل آخر ولو لم يشتمل على مخالفة شرعية إذا لم تكن اشترطت عليك أن تستمر فيه.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
================(12/470)
(12/471)
عبد الإله بن كيران..
في فضل القيادة من دون كاريزما!
حسام تمام 27/6/1428
12/07/2007
ربما كانت الوحيدة بين الحركات الإسلامية التي تجري فيها الانتخابات دون أن يكون معروفاً مسبقاً أو متوقعاً من ستأتي به القواعد إلى سدة القيادة. وهذه ليست الميزة الوحيدة -وإن كانت الأهم- لحركة التوحيد والإصلاح المغربية عن بقية الحركات الإسلامية التي مازال معظمها يخضع في قيادته إما لقوة الكاريزما المهيمنة أو هيمنة الشرعية التاريخية أو تظل رهناً لأوضاع المصادرة والتضييق التي تقر فيها الحركة مجتمعة أن صعود القيادة أو تغييرها بالانتخاب ترف لا تملك الدعوة إليه أو النضال من أجله!
***
إذا كانت هذه ميزة حركة التوحيد والإصلاح الأولى؛ فإن الإقرار بها لا يكتمل إلاّ بالإقرار أنها لم تكن لتتحقق إلاّ بقيادات تاريخية كان من أهم شواغلها ترسيخ القيادة المؤسسية والتخلص من الآفات التقليدية التي غلبت على مجمل قيادات الحركات الإسلامية، وهنا لابد أن يتوقف المرء طويلاً عند عبد الإله بن كيران رئيس الحركة لفترتين في أهم مراحل تكوينها وصاحب البصمة الأهم في فضل ترسيخ نمط القيادة من دون كاريزما في حركة التوحيد والإصلاح!
***
منذ أن اقتربت من الحركة الإسلامية في المغرب وأنا أسمع عن هذا الرجل، وكان أكثر ما سمعته نقداً حاداً في حقه قد يصل إلى الجرأة على الرجل خاصة من بعض شباب الحركة، وكان هذا - في رأيي- غريباً في حق رجل تولى قيادة الحركة ما يقرب من عقد كامل شهد أهم أحداثها وتحولاتها حتى استوت على عودها رقماً مهماً في الحالة الإسلامية في المغرب وخارجها.
وحين التقيته للمرة الأولى قبل عامين في مكتبه بصحيفة (التجديد) في الرباط كان لافتاً لي طريقة تعامله مع مرؤوسيه التي تتسم بالمباشرة وعدم التكلف، ولاحظت أنها تخلو من ميكانيزمات الهيمنة والإخضاع التي دائماً ما تسم علاقة القادة بالأتباع، وهو ما ينشأ بينه وبين مرؤوسيه علاقة ندية أكثر منها تبعية. واستوقفني أكثر أنني حين بدأنا نقاشنا لم أجد كبير عناء في اقتحام الرجل بل ونقده، ولم يتركني الرجل كثيراً في حيرتي فقال في لحظة صفاء -وكأنما يجيب على أسئلة لم أطرحها عليه-: أنا قائد لا يبحث عن التوقير بين حركته (أو للدقة قال: أنا قائد غير موقر بين حركتي!)، وأضاف: ولن تجد في حركتنا هذا النمط الشائع من القيادة بين الإسلاميين.
***
لفهم هذا النوع من القيادة سواء في شخص بن كيران أو حركة التوحيد والإصلاح لابد من التعرف على الجيل المؤسس للحركة الإسلامية في المغرب، الجيل الذي نشأ في حركة الشبيبة الإسلامية، ثم أسس للعمل الإسلامي في عقد السبعينيات في الجامعات المغربية، وبعدها انفصل في بداية الثمانينيات عن تنظيم الشبيبة بسبب تورط الأخير في العنف والتحريض على الدولة.
إنه الجيل الذي أسس لتجربة إسلامية جديدة بدأها بتنظيم "الجماعة الإسلامية" 1981، واستمرت حتى تغير اسمها عام 1988 إلى حركة "الإصلاح والتجديد"، ثم دخلت عام 1996 في وحدة فريدة من نوعها كان ثمرتها "التوحيد والإصلاح".
كان بن كيران واحداً في مجموعة متقاربة عمرياً وفكرياً ومتساوية تقريباً في قدراتها وإمكاناتها ليس فيها من يفوق الآخرين أو يتميز عنهم، فكان معه محمد يتيم وعبد الله بها وعز الدين توفيق وسعد الدين العثماني وعبد العزيز بومرت والأمين بوخبزة ومحمد العمراني...وغيرهم ممن صاروا رموزاً للعمل الإسلامي.
***
أما بن كيران فهو رباطي من أصول فاسية بما تعنيه " فاس" من معاني الوجاهة والتقاليد، وُلد في 8 أبريل عام 1954 لأب من عائلة صوفية تعمل بالتجارة عُرف بعض أبنائها بالعلم الشرعي من بينهم "العالية" أول امرأة اعتلت كرسي العلم في مسجد القرويين، أما أخواله فهم من أسرة خزرجية الأصل استوطنت فاس قبل قرون. عن أمه أخذ عبد الإله الاهتمام بالشأن العام، وقد كانت تواظب على لقاءات حزب الاستقلال، فيما أخذ عن أبيه بعض التصوف والتعلق بتحصيل العلم الديني والميل إلى التجارة.
تلقى عبد الإله التعليم الديني برعاية من والده وحفظ أجزاء من القرآن في الكتاب، ثم تعرف في بداية حياته على بعض التنظيمات اليسارية، كما اقترب من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الاشتراكي في نفس الوقت تقريباً الذي كان يتردد فيه على حزب الاستقلال، وأخيراً كان التحاقه بتنظيم الشبيبة الإسلامية في عام 1976 بعد واقعة اغتيال الزعيم الاشتراكي عمر بنجلون التي اتهم فيها التنظيم.
تدرج عبد الإله سريعاً في العمل الإسلامي وأصبح من قيادات التنظيم، وكان لأبناء جيله ميزة أنهم من بدؤوا العمل الإسلامي لأول مرة في الجامعة، وأثناء ذلك قادوا الشارع تضامناً مع الشبيبة الإسلامية ومرشدها عبد الكريم مطيع الهارب خارج البلاد من الملاحقة القضائية في اغتيال بنجلون، فعرفوا تجربة السجن بسبب ذلك.(12/472)
فيما بعد سيمضي هؤلاء الشباب بالعمل الإسلامي في طريق الانفصال عن الشبيبة؛ في البداية احتجاجاً على طريقة إدارة المرشد التي تميل للتخوين وبث روح الشك وعدم الثقة بين الأعضاء، ثم سيتحول الأمر إلى خلاف في الرؤى والأفكار بعدما تبنت الشبيبة العنف وخرقت الإجماع الوطني بانحيازها إلى انفصال الصحراء..كان هذا في عام 1981، وهو العام الذي بدأ فيه بن كيران في وضع أولى بصمات نوع جديد من القيادة في العمل الإسلامي.
***
لما استقل الشباب عن تنظيم الشبيبة بدؤوا في وضع لبنات تنظيم جديد: الجماعة الإسلامية الذي ضم العدد الأكبر والأهم منهم، ولكن دون أن يعلنوا عن ذلك، وتصادف أن صعّد مرشد الشبيبة من عمليات التحريض ضد النظام والإساءة إلى الملك وتورط في إدخال أسلحة للبلاد عبر الجزائر كما انحاز إلى انفصال الصحراء؛ فبدأ النظام حملة اعتقالات موسعة في صفوف كل المنتمين للتنظيم. ولما كان أعضاء الجماعة الإسلامية أعضاء سابقين فقد طالتهم الاعتقالات، وهنا سيظهر أول دور محوري لـ"بن كيران".
كان أبناء الجماعة الإسلامية قد انفصلوا - فعلاً- تنظيمياً وفكرياً عن الشبيبة الإسلامية وكان من الطبيعي أن يعلنوا ذلك لكنهم لم يفعلوا، ربما كانوا يرفضون أن يبدؤوا بإعلانهم الخروج فصلاً في معركة مع مرشدهم السابق، أو ربما كانوا يستحيون أن يظهروا وكأنهم يتبرؤون من ماضيهم "الإسلامي".. فامتنعوا لهذا وربما لأسباب أخرى عن إعلان موقف قاطع مع الشبيبة، فكان وحده بن كيران من تجرأ، وأخذ مبادرة أن يعلن للسلطات هذا القرار الذي رفض الجميع أن يأخذه أو يوافقه عليه، بل وأصدر نيابة عن نفسه وإخوانه بياناً صريحاً بذلك على أن يترك لبقية الإخوان أن يتبرؤوا منه، ومن البيان إذا ما رفضوه بل وأن يأخذوا قراراً بفصله من الجماعة إذا ما رأوا ذلك بعد خروجهم أو توقف ملاحقة من ظل هارباً منهم!
لقد رأى عبد الإله أن الحركة تأخذها العزة بما سيدخلها في نفق لن تجني منه إلاّ الحنظل، وأن واجب اللحظة القيام عنها بما تستحيي أن تقوم به وهي التي لم تخف السلطة والسجون؛ فتطوع لمهمة لم ينتدبه إليها أحد بل ووضع نفسه في وضعية المتهم بالتساهل أو اللين في مواجهة السلطة بل وربما كان سيصبح أول ضحاياها إذا لم يتفهمه إخوانه الذين مازالوا حديثي عهد بالتشدد، ولم يفارقوا بعد روح التضحانية التي تجعلهم يستعذبون الأذى ولو قبل أوانه ومن دون أي استحقاق!
ولكن جاءت مبادرة عبد الإله بالخير على إخوانه و جماعتهم التي سرعان ما تخلصت من عقدة الشبيبة الأولى في سلسلة عقد كانت تحكم علاقتها بالنظام، ويبدو أن نجاح هذه المبادرة سيكون له تأثير بالغ في منهج عبد الإله في التعامل مع كل العقبات والعقد التي واجهتها الحركة أو عاشتها.
***
سريعا سيدخل عبد الإله معركته الثانية والتي كانت موجهة ضد السرية ولم يكن قد صعد بعد إلى سدة القيادة التي كان فيها محمد يتيم رئيساً للجماعة الإسلامية، و على الرغم من ذلك طرح عبد الإله مبادرته التي تدعو إلى ضرورة أن تقطع الجماعة مع السرية وتسعى إلى أن توفق أوضاعها قانونياً وفق النظام واللوائح المعمول بها.
لا يمكن فهم أهمية ما دعا إليه بن كيران إلاّ إذا وضعناه في سياقه التاريخي؛ فقد كانت السرية في هذا الوقت من أهم أسس العمل الإسلامي الذي توارثته الجماعة عن تنظيم الشبيبة وغذته من أدبيات الحركات المشرقية التي كانت حاضرة بقوة، ومن ثم فلم تكن تتصور القطع معها في يوم ما.
قوبلت دعوة العمل في إطار القانون ورفض السرية برفض عارم من التيار العام للحركة لكن عبد الإله أصر عليها وقاوم من أجلها، فما كان إلاّ أن وافقت الحركة على الفكرة جزئياً بأن تسمح لعبد الإله بأن يتحرك في مسألة القانونية، ولكن في إطار محدود لا يتصل بالجماعة كلها وإنما بفرعها بالرباط الذي كان مسؤولاً عنه، فقام عبد الإله من فوره بإيداع أوراق جمعية "الجماعة الإسلامية" في فرع وزارة العدل بالرباط، وكانت تلك أول محاولة في تاريخ الحركة الإسلامية لتجاوز السرية وتوفيق أوضاعها قانونياً.
***
ستكر المسبحة وتأخذ أفكار عبد الإله مسارها في الحركة رغماً عن رفض التيار العام لها، وفي أول اعتقالات طالت معظم أعضاء فرع تنظيم "الجماعة الإسلامية" في مدينة مكناس، وكادت تسقط التنظيم في القطر كله سيقود بن كيران حملة لإقناع الحركة بلا جدوى السرية، وأنها أضعف من أن تحافظ على التنظيم بل إن خطأً واحداً يمكن أن يقضي على التنظيم مهما تحصن بالسرية. وكان درس اعتقالات مكناس مما ساعد الحركة على تقبل دعوة عبد الإله وإن على مضض.
ثم ستتعزز وضعية عبد الإله مع انتخابه رئيساً للحركة عام 1986 بأغلبية تجاوزت الثلثين بما يؤهله لأن يقود أيضاً الدعوة إلى تجاوز مأزق الاسم (الجماعة الإسلامية) بعدما أثار رفض الجهات الرسمية التي رأت أنه لا يتناسب مع بلد كل شعبه مسلم، ويستمد نظامه الشرعي من الدين باعتبار أن الملك فيه أمير المؤمنين، وستتجاوب الجماعة مع بن كيران وتغير اسمها إلى التجديد والإصلاح!
***(12/473)
ستستمر أفكار عبد الإله في فرض منطقها على الحركة لتدفع بها نحو تجاوز إشكاليات مهمة؛ ومن أهمها تلك التي تتصل بعلاقاتها بالدولة، هل هي دولة إسلامية؟ وهل تسلم الحركة بالنظام الملكي؟ وهل تقبل بمبدأ إمارة المؤمنين الذي يؤسس للملك والملكية شرعية دينية؟.. إنها الإشكاليات التي كانت تتلبسها بتأثير النشأة مع الشبيبة الإسلامية وبتأثير الفكر الحركي المشرقي أيضاً.
سيطرح بن كيران وكان رئيساً للحركة تصوراً يبدو بسيطاً لتجاوز هذه الإشكاليات، ولكنه بالغ الأهمية على الأقل في لحظته التاريخية (وكل ما فعله لا يُقرأ إلاّ في سياقه التاريخي)، فقد ذهب بن كيران إلى القول بأن الدول مثل الأفراد، لا نحكم عليها إلاّ بما تدعيه، وإذا كانت الدولة قد أعلنت أنها مسلمة فهي كذلك حتى ولو ارتكبت ممارسات تخل بإسلامها، ومثلما لا نكفر الفرد الذي يعلن الإسلام حتى ولو أتى بالذنوب والمعاصي فإنه لا ينبغي أن نكفر الدولة بمجرد أن ارتكبت ما لا يتوافق مع الإسلام طالما أعلنت أنها مسلمة.
***
على بساطتها ستعمل هذه الفكرة عملها في الحركة لتفكك كل الألغام التي كانت تقف في طريق علاقتها بالدولة ونظرتها لها، ستتجاوز سريعاً نفق تكفير الدولة الذي دخلته معظم الحركات الإسلامية الأخرى، ومن ثم ستتخلص من كل العقبات التي تقف أمام "تطبيع" وضعيتها في المجتمع المغربي.
سيتولي بن كيران ومعه نائبه عبد الله بها أقرب قيادات الحركة إلى قلبه وعقله وضع وثيقة تقبل فيها الحركة بالنظام الملكي، بل وتقر فيها بإمارة المؤمنين التي تؤسس للشرعية الدينية للملك ونظامه، وكانت وجهة نظرهما أن الإقرار بالشرعية الدينية للملك يلزمه بهذه الشرعية التي تسوّغ للحركة الإسلامية مساءلته عليها ومحاولة إلزامه العمل بمقتضاها.
في هذه الوثيقة التي طرحها عام 1990 ستتضح رؤية بن كيران بأنه إذا كان النظام الملكي هو الضامن لوحدة التراب المغربي فإن إمارة المؤمنين هي الضامن لإسلامية الدولة وعدم انحرافها أو سقوطها في براثن الأطروحات العلمانية الداعية للتخلص من أي مرجعية دينية.
ستواجه وثيقة بن كيران وبها معارضة شرسة من التيار العام في الحركة ممثلة في مكتبها التنفيذي، وأمام هذا الرفض سيضع الرئيس ونائبه استقالتهما تحت تصرف قيادة الحركة والتي ستنتهي إلى القبول بالوثيقة بعد إعادة صياغتها فيما يمثل انتصاراً للخط الذي تبناه بن كيران ودعا إلى ترسيخه في مسار الحركة.
***
التئاماً مع مشروعه لتطبيع وضعية الحركة في المجتمع المغربي كان بن كيران صاحب مبادرة تأسيس العمل النسوي للحركة وذلك بمجرد انتخابه رئيساً للحركة، وعام 1986 وفي بيته بحي الليمون في الرباط التئمت أول مجموعة للأخوات شكلت نواة أول تجمع نسوي للحركة، وفي بيته أيضاً انعقد أول مؤتمر نسوي للحركة.
وكان بن كيران أكثر من دعموا العمل النسوي حتى انتهت الحركة الإسلامية المغربية إلى تصور متقدم لها عن بقية الحركات الإسلامية الأخرى في قضية وجود المرأة وعملها في الحركة، وهو تصور يقوم على ثلاثة أركان: وحدة العضوية؛ إذ تصبح شروط عضوية المرأة في الحركة هي نفس شروط الرجل ولا يُميز بين العضويتين، ثم وحدة التنظيم؛ إذ لا يوجد تنظيم خاص منفصلاً للنساء عن الرجال، بل يشتركان في كل هيئات الحركة، ثم العمل المشترك؛ إذ يعمل الإخوة والأخوات بطريقة تشاركية.
كما قاد عبد الإله مبادرة دخول الحركة إلى العمل الحزبي فكان صاحب مبادرة تأسيس أول حزب للحركة؛ حزب "التجديد الوطني" الذي رفضت الدولة الترخيص له، ثم قاد المفاوضات مع عبد الكريم الخطيب ليقبل بدخول الحركة في حزبه "الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" الذي تحوّل فيما بعد إلى حزب"العدالة والتنمية"، وقد ظل مسؤولاً عن إدارة ملف الحزب طوال رئاسته للحركة، واستمر مسؤولاً عنه إلى ما بعد عقد أول مؤتمر عام للحزب، ولم يترك المسؤولية إلاّ بعد انتخاب سعد الدين العثماني أميناً عاماً للحزب.
***
لقد قاد بن كيران حركته: التجديد والإصلاح مدة فترتين رئاسيتين متواصلتين (1986- 1994) كانت الأكثر أهمية في تاريخها؛ إذ سيكتمل تأسيس الحركة وبناء التنظيم بشكل هيكلي وإداري صارم ووضع اللوائح والقانون الداخلي وتأسيس مجلس الشورى.
ستتضح ملامح الحركة تحت قيادة بن كيران وستتحول من تنظيم سري محدود الحركة والتأثير وقيد الملاحقة إلى حركة علنية معروفة لها مقراتها وصحفها وحزبها السياسي، وسينتظم في عضويتها نحو عشرة آلاف عضو يمثلون الكتلة الأكبر في بناء الحركة حتى يومنا هذا.
***
عبد الإله بن كيران ليس مفكراً، ولكن لديه القدرة على إنتاج بعض الأفكار المهمة أو التقاطها وتوظيفها في العمل الحركي، وإن لم يكن لديه من القدرات ولا السعة ما يسمح له بالاشتغال على تطوير هذه الأفكار.(12/474)
من الأفكار التي أطلقها بن كيران، واستفادت منها الحركة فكرة أن مهمة الحركة الإسلامية ليست الوصول إلى السلطة حتى ولو كان الهدف إقامة الدين، بل إن مهمتها هي المشاركة في إقامة الدين من دون أن يتوقف ذلك على الوصول إلى السلطة، فهو يرى أن الحركة الإسلامية إذا صارت سياسية وطلبت الحكم - ولو لإقامة الدين - فهي سيجري عليها ما يجري على الساسة وطلاب الحكم. ويلح دائما على أن فعل الحركة يجب أن يكون تغيير ما بالنفس والمجتمع وليس الوصول إلى السلطة التي ستأتي تتويجاً لهذا التغيير وليس مقدمة إليه.
كما كان صاحب فكرة أن الأمة مازالت تعيش عقدة النبوة والحاجة لزعامة تقودها تحل بديلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقف بن كيران ضد هذه العقدة والداعين للقيادة المؤسسية البريئة من هذه العقدة؛ فكان أكثر من تصدوا لنمط القيادة الصوفية الأبوية الذي دعا إليه وطبّقه الأستاذ عبد السلام ياسين مؤسس ومرشد جماعة العدل والإحسان، والذي يقوم على فكرة أنه لا يمكن للإنسان السير إلى الله إلاّ بشيخ أو مرشد.
***
لقد جرّت أفكار عبد الإله عليه العنت والنقد سواء من إخوانه في الحركة أو من بقية الحركات الإسلامية الأخرى؛ وتسببت له طريقته في القيادة في سلسلة من الصدامات التي لا تنتهي مع أجيال الحركة؛ فقد كانت تخلو من فكرة صناعة صورة القائد المبجل المهيب، كما لم تكن تخلو من رعونة دائماً ما أدخلته في صراعات بل وعداوات كان يمكن تجنبها بقليل من الكياسة واللباقة.
لقد دفع عبد الإله ثمن نزع الفتيل بين الحركة الإسلامية والدولة، فاتُّهم باللين والضعف والتساهل مع الدولة، بل واتهم في بعض الأحيان بالعمالة للنظام، و"بيع" الدعوة.
ودفع أيضاً فاتورة أنه أسرع بالحركة بأكثر من طاقتها على السير أحياناً، فحملها على مجموعة من الأفكار والمبادرات المتقدمة والصعبة التي أنهكتها وأتعبتها وراء سيره السريع والمتلاحق، فكان أن فضّلت القواعد أن ترتاح قليلاً مما فعله عبد الإله بن كيران.
صوتت القواعد ضد بن كيران في انتخابات الحركة عام 1994 فأبعدته عن رئاستها، واختارت بدلاّ منه محمد يتيم رئيساً لها ليكمل بها مسيرة الوحدة عام 1996، كما استكمل بن كيران دفع الفاتورة بإبعاده عن الإشراف على ملف الحزب وانتخاب سعد الدين العثماني أميناً عاماً له.
ثم دفع الفاتورة ومازال بما يبدو من تجاهل بل ونكران كثير من أبناء الأجيال الشابة للرجل وعدم تقديرها أو حتى وعيها بما أدّاه تاريخياً للحركة لدرجة أن ترشيحه للبرلمان في الدائرة التي كان نائبها تقليدياً صار محل جدل واختلاف بين قواعد الحركة!
***
لقد عرفت الحركات الإسلامية نوعاً من القيادات على استعداد أن تناطح أعتى نظام وتتحدى أقوى سلطة، لكنها لا تمتلك الجرأة أمام جماهيرها فتضعف تجاهها وتخشاها بأكثر مما تخشى السلطة، بل وتتردد في مواجهتها فيما تستخف بالسلطة وبما يمكن أن تلاقيه منها من تضييق واعتقال وسجن، فيما ندر فيها أمثال بن كيران الذي يغامر بمواجهة الجماهير، ويقبل أن يتصدق بعرضه في هذه المواجهة من أجل تحرير حركته من المعارك الوهمية والخروج بها من الأنفاق التي تؤدي بها خارج التاريخ.
لقد تأخر تطور كثير من الحركات الإسلامية بسبب أن القيادة وقعت أسيرة الجماهير فداهنتها، وأنتجت لها خطاباً على قدرها، فنزلت بها الجماهير بدلاً من أن تأخذ هي بيدها، ومن هنا كان يجب أن نتوقف عند عبد الإله بن كيران صاحب فضل القيادة من دون كاريزما.
===========(12/475)
(12/476)
الوهم الممتدُّ ..والشعارات المتساقطة!
د. عدنان النحوي 11/5/1428
28/05/2007
إنَّ الأحداث المحزنة التي وقعت في غزة خلال الأسبوعين الماضيين، والاقتتال بين حماس وفتح قتالاً عنيفاً، وتبادل الاتهامات في وسائل الإعلام، واستفزاز كل فريقٍ للآخر، ممَّا أدَّى إلى سقوط كثير من الضحايا، وفتح المجال لإسرائيل أن تستفيد من ذلك فائدة كبيرة! فساهمت في قتل الفلسطينيين بطائراتها وصواريخها، وأضرَّ ذلك كلّه بقضية الإسلام وقضية فلسطين ضرراً كبيراً. وكأنَّ جميع الأحداث السابقة لم تكن كافية لتقدم للطرفين الموعظة والعبرة!
لا شكَّ أنَّ "اتفاق مكة" أوقف القتال الدائر بين الفلسطينيين أنفسهم في صراع ملتهب جنونيّ على السلطة، على الحكومة، على الدولة، على شيء ما، سمِّه أنتَ ما شئتَ، ولكنني أُسمِّيه "الوهم الممتدّ، والشعارات المتساقطة"!
إن التنافس بين الفلسطينيين دفع الأمور إلى أن تتجه إلى صراع بين الشعارات حين لا يُبْحث عن نهج ولا خطة، وسرعان ما تتغير الأهداف و يُطوى شعار التحرير، و كأنَّما التنافس هو بين شعارات لا يُرجى منها إلا اكتساب تأييد الجماهير وحشد الأنصار لتلك الشعارات! ثمَّ الصراع والاقتتال!
ولذلك لم يكن عجيباً أن يوقف اتفاق مكة نزيف الدم الفلسطيني، بعد أن أدرك الجميع خطورة ما كان فيه الفلسطينيون من فتنة كبيرة لا تُحمد عقباها.
ولكن هل يُغيّر اتفاق مكة ما تخفيه الصدور، ويعيد القلوب إلى خشية الله والتوبة الصادقة!
لقد كشفت الأحداث الأخيرة والسابقة ألواناً متعددة من نواحي الخلل في واقع المسلمين. ولا نستطيع هنا أن نعرض ذلك كله، ولكن يجب الإشارة على الأقل إلى نقاط سريعة. فقد اندفعت الأحداث كي يموت فيها التناصح فلا يقبل هذا النصيحة ولا يقبلها ذاك، وتثور العصبيات والأهواء في لهيب متفجّر، مما نراه في أكثر من موقع في العالم الإسلامي!
والأمر الأخطر هو أن التنافس دفع الصراع إلى أن يتجه إلى مواقف غير شرعية لا ترضي الله سبحانه وتعالى، ولا تُرَاعى فيها حُرْمة دم المسلم ولا حرمة عرضه أو ماله، وقد يسقط بعضهم في وحول الكذب!
فمن أين يأتي النصر في هذه الأجواء؟! وما هي الأيدي الخفيَّة التي تحرّك الأحداث وتدفعها إلى هذه الأجواء المظلمة؟!
أما بالنسبة للدول الأخرى الكبرى، وبالنسبة لإسرائيل، فقد تبيّن لنا بعض ملامح أساليبهم، فهي لا تنظر إلى قضية فلسطين كقضية مستقلة معزولة عن سائر قضايا منطقة الشرق الأوسط أو قضايا العالم اليوم وأمس وغداً. إنها تضع خطتها ونهجها وسياستها لجميع القضايا على ترابطها في ميدان المطامع والجشع، وعلى تفرد كل قضية بخصائصها المتميزة، خطة ونهج يجمعان الحالتين في آن واحد.
ونحن المسلمين نرفع دويَّ شعاراتنا لكل قضية منعزلة عن سائر القضايا، كلُّ قضية يُشْغَلُ أهلها بها وحدهم، وربما وجدوا بعض العواطف من هنا وهناك. ولكن في جميع قضايا المنطقة لا يوجد لدى أبنائها وأصحابها نهج مدروس أو خطة محدّدة، فحسبهم الشعارات، ولا يوجد نهج واحد جامع، ولا هدف واحد يتجمعون كلُّهم إليه.
الدول الكبرى تملك القوّة المادّية الحقيقية، قوة السلاح المدمّر، قوة الأجهزة المتعدّدة المتشابكة، قوة المؤسسات، قوة العلم المادي والصناعي، يُضاف إلى ذلك ما لديهم من عملاء ارتموا في أحضانهم، كما تجد في أفغانستان والعراق وفلسطين عملاء من أناس فقدوا الثقة بأمتهم، وفقدوا قبل ذلك إيمانهم بربّهم وخالقهم الله الذي لا إله إلا هو.
ولقد انتشر في الآونة الأخيرة تعبيرات ومصطلحات لا ندري كيف هبطت علينا دويّاً إعلاميّاً هادراً. ولعل من أبرزها: "احترام الآخر" ، أو "الاعتراف بالآخر"، دون أن ندري من هو الآخر، إلاّ أن الحق الذي يجب أن يكون هو أن يعترف الآخر بنا، ويحترمنا الآخر، فنحن المعزولون الذين لا يُعْترف بنا ولا بحقوقنا ولا بهويّتنا التي تنازلنا عنها طواعية. وقِسْ على ذلك سائر المصطلحات التي لا مجال لمعالجتها في هذه العجالة كالديموقراطية، والعلمانية، والعولمة، والمرأة وغير ذلك!
الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا ازدادت جرأة في الدعوة إلى ما تزعمه من ديموقراطية كاذبة وعلمانية باطلة وعولمة قاتلة. ازدادت جرأة في دعوة المسلمين إلى باطلها، فاخترقوا صفوف المسلمين الممزَّقة، يدعون ويجهرون ويُلحِّون، ويضعون من أجل ذلك إمكانات ضخمة، إمكانات إعلامية، وماليَّة، وعلمية، وبشريَّة، وعسكرية، ثمَّ يُزيّنون ذلك كله بزخرف كاذب، ووعود كاذبة، ومكر وخداع قد سقط فيه الكثيرون. ومن أبرز مظاهر وسائلهم وأساليبهم ثلاثة أمور:
أولاً: أنهم يسيرون خطوة خطوة يتبعون بها الشيطان وخطواته، وقد نهى الله المؤمنين أن يتبعوا خطوات الشيطان:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور:21](12/477)
وثانياً: أنهم لا يتعجّلون ولا يضجّون ولا يُغرقون أنفسهم بالشعارات، ولكنَّ عملهم هادئ صامت، يصبرون ويتربّصون ويكيدون.
وثالثاً: أنهم يفكرون تفكير الشياطين، ويخططون تخطيطاً مادياً معزولاً عن الإيمان والدار الآخرة، ويمضون على نهج مدروس لديهم، إلاّ أنه معزول عن نور الإيمان وهداية الرحمن. فيكسبون جولات على قَدَرٍ من الله وسُنن لله ماضية وحكمه بالغة، حتى يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر!
أما نحن فقد منعنا التفكير عن أنفسنا، وإن فكرنا فنفكِّر مثل تفكيرهم المادي، لنؤمّن مصالح للدنيا. وقلَّما نلجأ إلى الله لجوءاً حقيقياً مستكملاً شروطه الإيمانية الربانية، لنفكّر تفكيراً إيمانياً! ولكنَّ تفكيرنا المشَتَّت المضطرب مزّقنا، وادّعاءَنا الإسلام دون الالتزام فرَّقنا!
ومن هنا نستطيع أن نتلمس أهم آثار تخطيط الشياطين ومكرهم في واقع المسلمين اليوم، مما يمكن إيجازه بنقاط سريعة واضحة صريحة:
1. أثاروا الفتن والأحزاب والأحقاد في كل بلد إسلامي، ثمَّ حرَّكوا هذه القوى ليقاتل المسلمون بعضهم بعضاً، والأعداء ينظرون فرحين. انظر ماذا يحدث في أفغانستان والعراق والصومال وفلسطين ودارفور وأندونسيا وغيرها. لم ينجحوا بذلك لبراعتهم فقط، ولكن لهواننا وضعفنا وضعف التزامنا بأمر الله.
2. مزّقوا العالم الإسلاميّ إرباً إرباً بعد سقوط الخلافة الإسلامية، ولم يجدوا صعوبة في تمزيقنا، وربما وجدوا من بعض المسلمين إقبالاً وتأييداً.
3. أثاروا جميع أنواع العصبيات الجاهلية بالمكر والإغراءات وشراء النفوس والإعلام، وأثاروا العصبيات العائلية وألقوا بين المسلمين ما يتنافسون عليه ويتخاصمون، وأشغلوهم بما يصرفهم عن قضاياهم الرئيسة.
وقِسْ على ذلك سائر العصبيات. وقد نجحت خططهم في جميع البلدان التي مكروا بها، ثمَّ امتدَّ مكرهم هذا إلى بلدان أخرى، ومازالوا ماضين يُثيرون كلَّ غرائز الحقد والتحاسد وحب الدنيا حتى جعلوا المسلمين يلهثون وراءها، فما وجدوا إلاّ سراباً بعده سراب!
لقد أصبحوا وكأنهم هم يديرون قضايا العالم الإسلامي، ويظنُّ بعضُنا أنه هو الذي يدير دون أن يشعر أنه يُدار. ويُسَرّ بعضنا بظهوره على الفضائيات وإلقاء الخطب النارية والشعارات الحماسية، ويُخْدَعون بكثير من أسباب الزخرف الذي يُلْقى إليهم، ثمَّ يكتشفون الحقيقة بعد فوات الأوان، ولات ساعة مندم!
بمراجعة تاريخ القرنين الأخيرين نلاحظ بوضوح أن الأخطار على العالم الإسلامي آخذة بالازدياد، وأن الغزو يشتدُّ وتتنوّع أساليبه، وأنَّ الوهن في العالم الإسلامي يشتدُّ أيضاً، وأشدّ مظاهر الوهن هو تكوُّن جماهير ارتبطت قلوبها بالغرب وفكره وأدبه وعاداته وتقاليده ولغته، حتى أصبح الملايين من المسلمين لا يعرفون لغة قرآنهم، فهم لا يقرؤونه، وأصبحوا لا يشعرون بضرورة دراسة العربية وتدبّر القرآن والسنَّة باللغة التي جاءا بها من عند الله ورسوله. بل أصبحنا نحن نشجعهم على ذلك، ونقدم لهم التسهيلات ليبقوا على لغتهم، نترجم لهم معاني القرآن الكريم، وخطب الجمعة، والسنَّة، ولا بأس في ذلك كخطوة أولى، ولكننا لا نعرّفهم بوجوب دراسة اللغة العربية التي أصبحت منذ نزول الوحي بها لغةَ الإسلام والمسلمين، ولغة الإيمان والتوحيد، ولم تعد لغة شعب محدود. إنها أصبحت لغة الإنسان؛ لأنَّ القرآن جاء للعالمين.
ونلاحظ كذلك أن التخطيط لزيادة تمزيق العالم الإسلامي يزداد قوّة وشراسة، وأنَّ التخطيط لإثارة جميع القوى المناهضة للكتاب والسنَّة ما زال مستمرّاً، وأنَّ من المسلمين من يقع في شرك هؤلاء وهؤلاء.
ويمكن أن نحدّد مصادر الخطر اليوم على العالم الإسلامي بالنقاط التالية:
1. إسرائيل ومخططاتها التوسعية ما عُلِمَ منها وما خفي.
2. العالم الغربي الذي ما زال يمدُّ أطماعَه ومكرَه وزحفَه، وتمتد خططه ومكره.
3. الذين يحملون شعار الإسلام، ولا يؤمنون بالكتاب والسنَّة كما نزل بها الوحي الكريم، ويحاربون الإسلام سراً وعلانية.
4. القوى المنافقة في قلب العالم الإسلامي، على تعدّد أشكالها وتنوّع ولاءاتها واختلاف وسائلها.
5. ضعف العالم الإسلامي أو معظمه من حيث الإعدادُ والنموّ العمليِّ والصناعيّ. لقد اهتم الكثيرون بالأخذ عن الغرب أشكال الملابس وزينتها ونماذجها، والأغاني والرقص، والتفلّت الجنسي تحت شعار الحريّة، وشعر التفعيلة والنثر، والحداثة ومذاهبها، ولم يحرص هؤلاء على أخذ العلم الحقيقي والصناعة وأسباب القوّة لأمتهم، وإنما أحضروا، وحملوا كل ما يوهن الأمة ويُمزِّقها.
من هذا العرض الموجز السريع، ومن خلال هذا البحر المتلاطم من الأخطار، نعود إلى قضية فلسطين وواقعها اليوم.(12/478)
إنَّ جميع الآمال والأحلام التي حملناها خلال أكثر من ثمانين عاماً تلاشت أو كأنَّها تتلاشى. فبعد أن كانت القضية قضية الأمة المسلمة، أصبحت من خلال مخططات إجرامية قضية الشعب الفلسطيني وحده، ليواجه أقوى دولة في المنطقة وحده، ليواجه الدولة التي تراجعت كل الدول العربية عن مواجهتها، بل إنَّ بعضهم ارتبط معها بتبادل التمثيل السياسي، وبعضهم الآخر يبدو أنه على الطريق، وليواجه الواقع الدولي الذي يقف صفاً متراصاً لحماية دولة اليهود.
في الوقت الذي كان فيه دويّ شعاراتنا وضجيجها على أشدّه حماسة وتهديداً ووعيداً لإسرائيل، كانت إسرائيل تعمل بهدوء في مخططاتها، حتى امتدَّ نفوذها على جزء كبير من العالم الإسلامي، دون ضجيج ولا صراخ، وامتدت مساحتها في فلسطين كذلك.
ودولة اليهود حسب مقررات هيئة الأمم المتحدة كانت مساحتها تقريباً 60% من أرض فلسطين، أما المساحة المقررة للفلسطينيين 40%. هذا كان سنة 1947م في قرار التقسيم. أما اليوم ، فمساحة دولة اليهود تزيد عن 90% من أرض فلسطين، ومساحة الأرض التي يُزْعَم أنها ستقوم عليها دولة للفلسطينيين هي بحدود 9-10% من أرض فلسطين، هذا بعد قيام ثلاث انتفاضات، تولى الإعلام العربي وغير العربي تغذيتها، وجميعهم يعلم أنه لا قدرة للفلسطينيين على إزالة دولة إسرائيل، كما كان شعار جميع الفصائل، وصفَّق الناس وهاجوا وماجوا لتلك الشعارات، وعُقدت الندوات والمؤتمرات وامتلأت الصحف، وضجَّت المهرجانات، ودارت الأناشيد، وجُمعت مليارات الدولارات، وطاف الناس هنا وهناك في حماسة عالية. ولكن لم يسأل أحد من الفلسطينيين ولا من الفصائل، ولا من الأحزاب، ولا من العرب، ولا من المسلمين، لم يسأل أحد أبداً: يا قوم هذا شعاركم فما هي خطتكم لتحقيقه؟!
ثمًَّ بدأ التنازل شيئاً فشيئاً عن الشعارات: فكانت المطالبة بدولة عند حدود سنة 1967م. ثمّ جاءت المطالبة بحكومة وحدة وطنية بعد أن لم تستطع الحكومة القائمة تحقيق أيّ شيء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية واختفى شعار الإسلام، وحلَّ محله شعار الديموقراطية والانتخابات التي شغلت الناس وصرفتهم عن قضيّتهم، وأثارت الفتنة بينهم، وأشعلت القتال بينهم بعد ذلك، ودفع هذا الشعب الفلسطيني الذي صفّق طويلاً لهؤلاء ثمَّ لهؤلاء، ثمناً غالياً من الجوع والحرمان والحصار الدولي المدمر، والتقتيل والتدمير والسجون!
ثمَّ بدأت مرحلة: دولة الوحدة. وتوزّع الناسُ يطوفون الأرض يتوسّلون إلى الدول من أجل الاعتراف بدولة الوحدة الوطنية التي لم تتكوّن بعد، ورفعِ الحصار عن الشعب الذي لم تعُدْ سواعِدُه ولا أكفّه ولا حناجره قادرةً على الهتاف والتصفيق، فحسبه أن يَسْكُبَ الدموع على قتلاه وضحاياه وعلى أطفاله، وعلى جوعه، وعلى مزارعه وبساتينه وثرواته!
لا بدَّ من وقفة صريحة هنا. لقد حدث تحوُّل كبير في الشعارات، وخاصة في وسائل الإعلام، حيث يظهر الدعاة المسلمون، وقد اختفت مصطلحات الإسلام عن ألسنتهم، وحلّت مصطلحات الديموقراطية والعلمانية وأمثالها، و أصبح الجميع ديموقراطيين. ألم يكف أن يقول داعية كبير في مقال له كبير: "نحن مع الديموقراطية بجميع أشكالها ومعانيها". لقد قالوا قبل ذلك مثل هذا عن الاشتراكية وتغنُّوا بها، فما نالوا خيراً منها ولا من أربابها. واليوم، مهما تغنُّوا بالديموقراطية فلن ينالوا منها ولا من أربابها خيراً، إلاّ زيادة المكر والكيد والكبر والإذلال والتدمير والعدوان. كان الشعار: "فلسطين ملك للمسلمين ومسؤولية المسلمين جميعاً"، ثمَّ اختفى هذا الشعار وحُصرت القضية بالفلسطينيين.
هذه الدولة التي يصارعون من أجلها، ويتصارعون من أجلها، ويَقْتُلون أنفسهم من أجلها، هذه الدولة على رُقْعة لا تزيد عن10% من مساحة أرض فلسطين، لا يوجد فيها أيُّ مقوّمات اقتصادية أو علمية أو فنية أو عسكرية لتقيم دولة، ولا حدود لها!
إنها فتنة وباب إشغال للمسلمين حتى يتابعوا تراجعهم وتنازلهم، ثمَّ لا ينالوا شيئاً إلاّ الإذلال والمهانة والهوان والضياع.
إنَّ إسرائيل، حتى لو قامت الدولة، تستطيع أن تدخل إلى أيّ بقعة منها، فتدمّر وتقتل، وتعتقل، ولا أحد في الأرض كلها يصدُّها عن ذلك إلاّ الشكوى تِلو الشكوى للمجتمع الدولي الذي سُكِّرتْ أبصاره وسُدَّت آذانه!
لقد اتجهت الأحداث أو وجّهت لتجعل أهل غزة والضفة، في واقعهم الحالي، لا يستطيعون الاستغناء عن إسرائيل والمجتمع الدولي، وفترة الحصار هذه أكبر دليل على ذلك. فالماء والكهرباء لا يأتي للقطاع إلاّ من إسرائيل. وكثيرون يحصلون على رزقهم من العمل في إسرائيل.
جميع الظروف لا تسمح لهذه الدولة المزعومة بأن يكون لها الكيان الحقيقي بالمفهوم الحقيقي للدولة. إلاّ أنها تسمح للوزراء والرؤساء أن يركبوا السيارات ويتمتعوا بالألقاب، وبالسفر والمقابلات، والظهور على الفضائيات والصحف، وإعطاء التصريحات والحوارات، والانشغال بهذه الأمور وأمثالها. دون أي نتيجة إلاّ الاستدراج لتنازل بعد تنازل، ثمَّ الاقتتال والصّراع!(12/479)
لقد وضح أن الطاقة المالية هي من الدول المانحة ومن إسرائيل. ففي أيّ لحظة يمكن أن توقف هذه المعونات، فيقاسي الفلسطينيون أشدّ أنواع المعاناة والإذلال.
وهنا يثور سؤال مهم: إذا كان هذا هو الحال في اللحظات الراهنة، فكيف سيكون حين يعود اللاجئون أو بعضهم، وحين يزداد السكان بشكل أو بآخر، وحين تقلُّ الموارد الذاتية والإمكانات؟!
هل هناك دراسات إيمانية حول هذه القضايا وأمثالها؟! هل هنالك خطط لمجابهة المستقبل؟!
هذه الأمور الواضحة الجليَّة ألم يُفكِّر بها أحد من الفلسطينيين؟! ألم يشعروا بما قدّموا من تضحيات ثمَّ لم ينالوا شيئاً، إلاّ أن تتقاذفهم السياسة الدولية يرمونهم حيناً يساراً وحيناً آخر يميناً، وحيناً هنا وحيناً هناك؟!
هذه اللحظات الحالية تمثّل لحظات التناقض والاضطراب في المواقف والتصريحات، وتمثّل لحظات الحَيَرة والارتباك، ومحاولة ستر العورات بوسائل متعدّدة بعد أن كُشِفت عوراتنا كلُّها، محاولة سَتْرها عن المسلمين أنفسهم، أما الأعداء فعوراتنا مكشوفة كلها لهم. إننا نخدع أنفسنا وحدنا، ونخدع الشعب والجماهير!
إن تجربة ثمانين عاماً من تاريخ قضية فلسطين لم نستفد منها شيئاً، فالوعود الكاذبة التي أُعطيت لنا قبل أكثر من ثمانين عاماً، والتي خُدِعنا بها وخسرنا بتصديقنا لها الشيء الكثير، فما زالت الوعود الكاذبة تُعطى لنا، وما زلنا نُخْدَعُ بها، وما زلنا نلهث وراءها، نسْتجدي من روسيا وفرنسا وإنكلترا وألمانيا وغيرها نظرة العطف وكلمة الإشفاق، وحتى الاعتراف بنا وبوجودنا ونحن نغرق في المصائب المتتالية وفي وحولها .
لقد تخلى الكثيرون عن إسلامهم وإيمانهم، ولم يعودوا يثقون بالله وبأن النصر من عنده فحسب، وجرى الكثيرون يلهثون يستجدون النصر من أوثان وأوهام، فينالون الصدمة بعد الصدمة، والإذلال بعد الإذلال، والهزائم بعد الهزائم.
مع ضخامة التجارب الحقيقية في الميدان، ومع وجود كتاب الله وسنة صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، ومع كثرة المؤتمرات والندوات والمهرجانات وما فيها من شعارات وصراخ، مع ذلك كله لم نتعظ، ولم نصحُ، ولم نعدْ تائبين إلى الله خاشعين بين يديه، فما زلنا ننحرف عن الإسلام بالتصريحات والفتاوى والمواقف، بالارتجال وعدم الرويّة، بحبّ إثبات الذات في الساحة، ولو على حساب الدين والأمة، حتى وضح أن الكثيرين يطلبون الدنيا لا الآخرة، ويؤثرون الدنيا على الآخرة، خلاف ما يأمر به الله سبحانه وتعالى. ما زلنا ندويّ بالشعارات ونبتعد عن النهج والتخطيط والدراسات الإيمانية، وما زالت الشعارات تتساقط، وما زلنا في أوهام تمتدُّ، لم نستطيع أن نجعل شيئاً منها حقيقة!
لم ندرك، بالرغم من كثرة التجارب وجلاء الآيات، أننا كلما تنازلنا عن إيماننا وديننا وجاملنا الأعداء بِتَبنِّي مبادئهم حتى يرضوا عنا، كلما فعلنا ذلك زاد الأعداء من إذلالنا. فممالأة الأعداء ومراءاتهم وموالاتهم لم تعطنا أيَّ احترام لنا لديهم ولا أيَّ وفاء لوعود، ولا أيَّ توقُّف عن إذلالنا. كلّما جاملنا زاد إجرامهم بنا، والأمثلة كثيرة في التاريخ.
لا يوجد لدى المسلمين اليوم رؤية واحدة يجتمعون عليها، ولا هدف واحد يؤمنون به ويجاهدون من أجله، ولا يمثلون اليوم أمة مسلمة واحدة، صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، كما يريدها الله سبحانه وتعالى ويحبّه ويأمر به.
إنَّ جميع انحرافاتنا ومخالفاتنا لأمر الله تتجمع كلها في قضية واحدة رئيسة هي تمزُّقنا وتفرُّقنا شيعاً وأحزاباً مما يستوجب عقوبة شديدة من الله وعذاباً عظيماً كما نذوق بعضَه اليوم:
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105]
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم:30-32].
وكذلك:
(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام:159].
إن الأخطار على العالم الإسلامي كله آخذة بالامتداد والازدياد، وليس أمام المسلمين إلاّ أن يعودوا إلى الله عودة صدق والتزام، وتوبة وإنابة، ثمَّ يلتقون صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص يحملون رسالة الله كما أُنزلت على صلى الله عليه وسلم يبلّغونها إلى الناس كافّة، بعمل ممتد لا يتوقف. فإذا توقّف المسلمون عن حمل دعوتهم هذه، فإنَّ المجرمين في الأرض يبادرون إلى دعوة المسلمين إلى ضلالهم وفسادهم، ويلحّون بذلك. فإمَّا يقظة وعودة والتزام، وإما هلاك محتم وعذاب من عند الله عظيم.(12/480)
وحتى يلتقي المسلمون أمة واحدة فلا بدَّ من منهج صادق نابع من الكتاب والسنّة، وقواعد الإيمان والتوحيد، ومدرسة النبوّة الخاتمة، مدرسة صلى الله عليه وسلم ، منهج لا يقوم على الأوهام المخدّرة ولا على الشعارات الطائرة المتساقطة والزخارف المغرية، وإنما يقوم على قواعد صدق تعالج واقعنا المؤلم المتدهور، منهج ونهجٍ تلتقي عليه القلوب والعزائم.
وأساس هذا النهج هو منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ يصاحبه المسلم صحبة منهجية صحبة عمر وحياة، كلٌّ قدر وسعه الصادق، لا وسعه الكاذب. إنه "نهج مدرسة لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن ومناهجها"، يُعرض في كتب توجزه وكتب تفصِّله.
لذلك، فقد فاجأتنا الأحداث الأخيرة في غزة بالاقتتال الدائر بين حماس وفتح، الاقتتال الذي استمرَّ أكثر من أسبوع سقط فيه عديد من القتلى والجرحى. وفاجأتنا بهدنة بعد هدنة لإيقاف القتال، لا تستمرّ إلاّ للحظات ثمَّ يستأنف القتال.
أول سؤال نطرحه على الطرفين: ما هو النهج والخطة التي وضعتموها منذ اللحظة الأولى التي انطلقتْ فيها شعاراتكم كلُّها لتحقيق شعاراتكم؟! هل كان هنالك خطّة مدروسة واعية للواقع المحلّي والدولي لتحقيق الأهداف المعلنة؟!
والسؤال الثاني: أين اختفت تلك الشعارات كلها؟!
والسؤال الثالث: شعار الدم الفلسطيني حرام! كيف جعلتموه حراماً ثمَّ حلّلتموه؟!
والسؤال الرابع: هل حقّاً تقاتلون في سبيل الله ملتزمين جميع الشروط الشرعية لمعنى في سبيل الله؟! وهل تريدون الدنيا وزهوتها أم الدار الآخرة؟ والله يعلم ما في القلوب.
والسؤال الخامس: كيف أحللتم نقض اتفاق مكة؟! أم أنه كان اتفاقاً لم يغيّر ما تضمره النفوس وتخفيه؟!
والسؤال السادس: أين الخلل؟! ومتى بدأ؟! وهل تورّطتم في مخالفة منهاج الله؟!
ارجعوا جميعكم فرداً فرداً إلى أنفسكم وحاسبوها حساباً شديداً، فالحياة الدنيا دار ابتلاء وتمحيص، والدار الآخرة دار حساب وجزاء. فإذا خرج الإنسان من هذه الدنيا لن يجد فسحة لمراجعة نفسه وإصلاحها، لا مجال للتوبة!
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
[المؤمنون: 99-100]
إنَّ الذي حدث في أرض فلسطين أمر مروّع، مخيّب للآمال، فاجعة قاسية، كأنَّ الناس فقدوا إيمانهم ووعيهم، وتملكتهم العصبية الجاهلية القاتلة المحرّمة تحت شعارات الوطنية والديموقراطية وغيرها، وقست القلوب، ونُزِعَت الرحمة، وجال الشيطان في الساحة وفي النفوس يزيّن الباطل ويشوّه الحقّ، ويقطع الحبال والصّلات!
هل الخلل فينا قديم، ثمَّ أخذ ينمو مع الأيام حتى اتسع الانحراف، فغاب التناصح، وغاب التزام منهاج الله التزام نيّة وعزيمة وعلم، وغاب النهج والتخطيط وغلبت الشعارات وضجيجها، وبُحَّت بها الحناجر! إنه انحراف واسع عن نهج الإيمان والتوحيد ومنهاج الله! لا بدَّ من وقفة ويقظة ومحاسبة للنفس وتقويم للمسيرة! إلى أين تسيرون؟! وإلى أين تتجه الأحداث؟!
وإننا نُقدِّم هذا النهج بتفصيلاته ودراساته المفصّلة والموجزة، نقدّمه ونعرْضُه لكلٍّ مسلم ومسلمة، وكل حركة إسلامية، وكل جماعة ومجتمع، وكل من يريد الدار الآخرة ورضوان الله والجنَّة، ويجعل الدنيا ميدان جهاد ومجاهدة على صراط مستقيم إلى الهدف الأكبر والأسمى ـ الدار الآخرة ورضوان الله والجنة ـ، حتى يكون للمسلمين في الأرض منهج للبناء واحد ونهج واحد، كما كانوا أيام صلى الله عليه وسلم ، فيُبْنى بذلك جيلٌ مؤمن واحد في إيمانه وفكره وتصوّراته وفهمه للواقع، وفي أهدافه المحددة، ووسائله المحددة التي يمكن أن تتطور وتنمو مع الممارسة ومجابهة الأحداث المتجددة، في جوّ صادق من التعاون:
(...... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2]
"يجب أن نتعاون فيما أمر الله أن نتعاون فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما أذن الله لنا الاختلاف فيه".
ولا يمكن أن يقوم التعاون الصادق إلاّ إذا تحققت فينا نحن المسلمين أخوة الإيمان كما أمر الله سبحانه وتعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
[الحجرات: 10]
ولا تتحقق أخوّة الإيمان إلاّ إذا اتجهت القلوب كلها إلى الدار الآخرة وآثرتها على الحياة الدنيا، وصدقتْ إيمانها بالله وكتبه وملائكته ورسله، وتابت بين يديه وأنابت إليه:
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الزمر: 54-55](12/481)
ولا تصدق الإنابة ولا يصْدق الإسلام لله إلاّ إذا كان العهد الأول هو مع الله، والولاء الأول هو لله، والحب الأكبر هو لله ورسوله:
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 19-22].
وكذلك:
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [المؤمنون : 57-62].
وكذلك:
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [النحل:91-92].
وحتى يتحقق هذا في واقع الحياة لا بدَّ من نهج واع وخطة مدروسة يحملها الجيل المؤمن الرباني، لينبع النهج والخطة من منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ، ومن قواعد الإيمان والتوحيد، ومن مدرسة النبوّة الخاتمة، مدرسة صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا علم الله صدق القلوب والعزائم، وصدق الولاء الأول لله والعهد الأول مع الله والحب الأكبر لله ولرسوله، وصدق أخوة الإيمان، وصدق الإنابة والخشية والخشوع، وصدق البذل والجهاد في سبيل الله صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، أنزل نصره وأعزَّ أمته!
هذا هو أمر الله أيها المسلمون! فإما هذا وإما الهلاك! ومن أجل ذلك نقدِّم النهج الذي أَشرنا إليه، عسى أن تنجح العزائم المؤمنة المتعاونة في بناء الجيل المؤمن، وفي تحقيق لقاء المؤمنين، وبناء الأمة المسلمة الواحدة. وبغير ذلك ستثور العصبيات الجاهليَّة لتمزّق المسلمين.
وإذا كانت حركة فتح "علمانية"، وحماس تعرف ذلك كما أوضحته في ميثاقها الأول، ودعت نفسها وفتحاً إلى الالتقاء على مبادئ جاهلية:
أخاك أخاك إنَّ من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح
ولم تدعُ نفسها وفتحاً إلى قوله سبحانه وتعالى:
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). [التوبة: 24]
ومضت السنون ولم تجد فتح العلمانيَّة من يدعوها إلى الإسلام والالتزام به. فلو دُعِيَتْ فتح إلى ذلك، وهذا واجب شرعي، فربَّما استجابت لذلك!
ولكنَّ حماساً نفسها رفعت الشعارات الوطنية والإقليمية الفلسطينية والديموقراطية حتى كادت تختفي شعارات الإسلام. وأراد الجميع أن يحلُّوا قضيّة فلسطين على أساس فلسطيني، يتحمّل الفلسطينيون وحدهم مجابهة إسرائيل والواقع الدولي الداعم لإسرائيل. وانعزل العرب والمسلمون عمليَّاً عن القضيَّة.
ولو أنَّ المبدأ الذي رُفع هو الإسلام بكلِّ شروطه ومبادئه ومعانيه، ومدَّت حماس يدها إلى المؤمنين في الأرض، ليكونوا كلهم صفّاً واحداً يلجأ إلى الله مخلصين له الدين، يسألونه العون والمدد، لو تمَّ ذلك فربّما تغيّرت الأوضاع.
ومع هذه المفاجآت المؤلمة المحزنة، نظلُّ ندعو الجميع إلى نهج مدرسة لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن ومناهجها، إلى منهاج الله، إلى العودة إلى الله والتوبة واللجوء إليه! ندعو إلى ذلك بكل صدق ونصح وإخلاص، ونمضي على ذلك حتى نلقى الله عليه، لا نبدّل ديننا بديموقراطية ولا فلسطينية ولا أي معنى من هذه المعاني!
وأخيراً عسى أن يقف كلُّ فريق مع نفسه ويُقوِّم مسيرته على ميزان ربّاني قبل أن يلقى الله على ما هو عليه، فيخسر الدنيا والآخرة:
(...... وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
[النور:31]
==============(12/482)
(12/483)
حول نهاية التاريخ وسقوط الإيديولوجيات
أ.د عماد الدين خليل 24/1/1428
12/02/2007
أما نهاية التاريخ التي قال بها المنظر الأمريكي (فرنسيس فوكوياما) فلا تعدو أن تكون افتراضاً، وهو إذا أحلناه على قوانين الحركة التاريخية نفسها يغدو افتراضاً مستحيلاً...
ذلك أن البشرية فُطرت على التغاير والتنوع والاختلاف، وهي معطيات تعكس نفسها على مرآة التاريخ حيناً، والجغرافيا حيناً آخر، وبصيغ شتى قد تبدأ بلون البشرة واللغة، والعادات والتقاليد الأولية، وتنتهي بالنشاط أو الفعل الحضاري بمفهومه الشامل.. وكل المحاولات التي جرت لإلغاء هذه الحقيقة أو تجاوزها، أو القفز عليها، آلت إلى الفشل.
و( فوكوياما) نفسه عاد، بعد سنوات من إصداره كتابه المعروف، لكي يغير ويبدل في بنيته الأساسية، ولكي يعطي المجال للتغاير المحتوم بين الأمم والجماعات والشعوب.
لقد قالها القرآن الكريم بوضوح: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [سورة هود: 118] - إلاّ من رحم ربك- ولذلك خلقهم، أي خلقهم للتغاير والتنوع والاختلاف، وهي من بين جملة من الشروط التي تعين على تحريك الحياة البشرية ودفعها إلى الأمام، وتطهيرها من السكون والفساد: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [سورة البقرة: من الآية 251].
في يوم ما حلمت الشيوعية بنهاية التاريخ على طريقتها الخاصة، تستلم البروليتاريا مقاليد السلطان، وتستوي الأمم والشعوب تحت مظلة شيوعية يستوي فيها الجميع، وتذوب خصوصيات وفواصل الأمم والطبقات والشعوب، ويغيب العمق التاريخي، والإرث الحضاري، و لا يتبقى هناك سوى نماذج مكررة تنتظر فرصتها للمأكل والمسكن والجنس.. فماذا كانت النتيجة؟
واليوم يحاول منظر أمريكي كفرنسيس فوكوياما أن يعيد المقولة نفسها، ولكن تحت مظلة الرأسمالية وبقيادة الدولة الكبرى والأقوى: الولايات المتحدة الأمريكية. وهرول المخدوعون بهذا الإدعاء يلقون أرديتهم وخصوصياتهم وإرثهم الثقافي ودينهم وعقيدتهم، وهم يتصورون أن الانتماء للمظلة الجديدة سيمنحهم الخبز والدفء والملذة والأمان.
وفي اعتقادي: فإن نظرية نهاية التاريخ وُلدت كي تموت؛ لأنها ترتطم ابتداء بقوانين التاريخ نفسه!
وأما سقوط الإيديولوجيات الذي أكدته معطيات القرن الأخير الموشك على الانصرام: إذ تهاوت نظرية الرجل الأبيض، والاستعماريات الغربية الكبرى، والشوفينيات العملاقة، والوجودية ذات الإغراء .. والشيوعية السوفيتية الأممية و .. فإنه لا يعني - بالضرورة- عدم قدرة الأيديولوجية أو العقيدة الأكثر انسجاماً مع مطالب الإنسان، على التواصل والديمومة والبقاء.. بل على العكس تماماً: إن سقوط الإيديولوجيات الوضعية يؤكد ضرورة الإيديولوجية الدينية؛ لأنها الوحيدة التي لا تأسرها نسبيات الزمن والمكان، أو تصوغها عقول بشرية، مهما جدت واجتهدت فإنها عرضة للخطأ والقصور والانحياز.. لأنها تفتقد- ابتداء- القدرة الشمولية، والرؤية الموضوعية العادلة، للوجود والمصير.
والعولمة هي إفراز طبيعي تماماً لجملة من الشروط والعوامل التي شكلت الحضارة الغربية المادية عبر القرون الثلاثة الأخيرة.. وهي مزيج مرتبط الوشائج من كل المؤثرات والمعطيات التي تنطوي عليها هذه الحضارة: التفوق العلمي في سياقيه الصرف والتطبيقي، والقدرة العسكرية بتقنياتها الهائلة المتمخضة عن ذلك التفوق.. والإمكانات الاقتصادية الأسطورية.. والمركزية الأوروبية المنسحبة، أو المهاجرة إلى القارة الجديدة، ورؤية الرجل الأبيض للشعوب الأخرى، والعقلية الاستعمارية الباحثة عن تسخير الأيدي والعقول العاملة الأكثر رخصاً وعطاءً، وعن الخامات التي تديم قدرتها على العمل والاستمرار، والأسواق التي تلتهم إنتاجها.. أضف إلى ذلك نبضها الديني الذي لا يزال يخفق تحت أردية العلمانية والإلحاد وينتظر الفرصة للرد على أولئك الذين تحدوه يوماً، وإنزال العقاب بهم.
هذه كلها تجتمع اليوم لكي تشكل منطوق العولمة بفرضياته ومعطياته معاً.. بل إن نظرية نهاية التاريخ نفسها، وبموازاتها نظرية صراع الحضارات لصمويل هنتنجتن وغيرهما من التنظيرات الفكرية تصب هي الأخرى في بؤرة العولمة.
ولنتذكر اللدغة التي تلقتها المنظومة الشرق أقصوية التي طمحت إلى قدر من الاستقلالية في نشاطها الاقتصادي والمالي... إذ سنجد أن الخاسر الوحيد في لعبة العولمة، أو دولابها الأسطوري هي الشعوب الأضعف، مهما كانت مطالبها عادلة ومحقة.
إن خط الغنى والفقر الذي سبق وأن تحدث عنه المفكر الجزائري مالك بن نبي -رحمه الله- والذي يمتد على محور طنجة- جاكرتا، فيفصل العالم إلى شمال وجنوب.. لن يكون بمقدور العولمة أن تلغيه بوعودها الخادعة، بل على العكس، وكما هو واضح عبر معطيات العقد الأخير، ستزيده عمقاً، وسيكون عبور الخنادق الموغلة بين الطرفين أمراً مستحيلاً
===============(12/484)
(12/485)
التكامل الفريد
أ.د عماد الدين خليل 27/11/1427
18/12/2006
هناك حالة أو ظاهرة أو سمّها ما شئت: إنه ما من مبدأ أو مذهب أو خبرة بشرية تنطوي على الحسن والرديء، وتتضمن في نسيجها شيئاً من الحسن، إلاّ ونجده في حالة مقارنته وتحليله مركوزاً في نسيج الإسلام. بمعنى أن كافة الخبرات الجيدة في التاريخ والتجربة البشريتين تلتقي مع الإسلام، وبمعنى آخر أن الإسلام يقدم للإنسانية بشكل جاهز ومعجز كل ما هو حسن في جوانب حياتها كافة، والتي لم تستطع التوصل إليه إلاّ بعد كدح طويل وهدر في الطاقات والأعمار.
بالمقابل فإن كل ما يبدو ناقصاً، مجتزأ، شريراً، مائلاً، حائداً عن الحق في المذاهب والخبرات جميعاً، يحذر منه الإسلام، ويحرمه، ويعلن الحرب عليه. ويبدو- بشكل من الأشكال - أن المعضلة الأساسية تكمن في نسب ( الخلطة) إذا صح التعبير.. المساحات المعطاة لكل صغيرة وكبيرة في حياة البشرية، وبالنسبة المحددة والحدود المطلوبة والموقع الملائم والدرجة اللونية الصالحة.
إن الإسلام وحده من يفعل ذلك لأنه من علم الله سبحانه، الذي يعلم من خلق، والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.. بينما في المذاهب الأخرى تتداخل النسب وتضطرب، وتزحف باتجاه بعضها، وتتجاوز حدودها المرسومة على حساب الأخريات، فتكون التخمة والحرمان، الشبع والجوع، الوجدان والانعدام، الأبيض والأسود.. ويكون الفرد أو الجماعة، العدل أو الحرية، الروح أو الجسد، الدنيا أو الآخرة، الأرض أو السماء، العلم أو الإيمان، المنفعة أو القيم .. الخ ويكون الميل والهوى والظن والفوضى والاختلال.
وبموازاة هذا، فإن شخصية محمد صلى الله عليه وسلم الذي يمثل التعبير الكامل عن الإسلام، القرآن الذي يمشي على الأرض، تعطينا نموذجاً على توازن سائر القدرات والخبرات في الشخصية البشرية.. هل كان هذا سبب ترشيحه من (مايكل هارت) في (المائة الأوائل) ليكون على رأس أعظم الشخصيات المائة في التاريخ البشري؟
ولعل هذا التوازن والتكامل الباهر في نسيج الإسلام ما يجعل من الجرم الشنيع محاولة خرقه وإدخال الاختلال إليه، بهذه الطريقة أو تلك، بتغليب عامل على آخر، أو تجاوز مساحة على حساب مساحات أخرى، أو إسكات خفقة أو نبضة لكي يعلو على حسابها صوت من الأصوات.
إنه يبدو كما لو كان خطأ فادحاً؛ لأنه يميل بالموزون إلى الاختلال، وبالمتناسق إلى الاضطراب، وبالجميل الزاهي إلى المتنافر القبيح..
ويحاول أن يسحب هذه التجربة الباهرة لكي تنزل عن مستواها المتألق، فتحاذي هذه التجربة أو الخبرة أو تلك، من تجارب الناس وضلالاتهم وظنونهم وأهوائهم.
وهكذا يبدو مما شهده تاريخنا أحياناً، خطل تلك المحاولات المتشنجة التي مارست نوعاً من هذا الخرق: المعتزلة وهم يغلبون العقل.. الصوفية المنحرفة وليست الأصيلة القائمة على التوحيد، وهي تغلب الروح.. المتكلمون وهم يغلبون المقايسات المنطقية .. الفلاسفة وهم يغلبون الميتافيزيقا على الوجود... المرجئة وهم ينحنون لضغوط الواقع المنظور... الخ.
كما تبدو محاولة العلمانية في تاريخنا المعاصر منطلقة من الخطيئة نفسها، وهي السعي لتجزيء الإسلام، وتجاوز نسيجه الباهر المتوحد الملائم تماماً للإنسان.
ليس هذا فحسب بل إن العلمانية، في بدء التحليل ونهايته إنما هي سعي محموم لتحجيم الإسلام، لإلغاء مساحات واسعة من نسيجه والتضييق عليه، ودفعه دفعاًَ إلى الانكفاء في المسجد في محاولة لنصرنته، أي لجعله ديناً طقوسياً صرفاً لا يتعامل إلاّ مع العلاقة الفردية الخالصة بين الإنسان وربه.. وينسحب من مجرى الحياة الدافق لكي يهيمن عليه الطواغيت والوضّاعون والأرباب.
وهم يدخلون علينا بخبثهم ومكرهم من أبواب متفرقة، ويحاولون أن يغطوا على لعبتهم بإدعاء الحرص على سلامة الدين ونظافته وطهره من أن تلطخه وتمس بثوابته الأبدية أوحال السياسة، أو متغيرات الكشف العلمي القلقة النسبية، أو هدير المجتمع الصاخب الذي تحكمه المصلحة وتشكّله الدوافع المادية الصرفة.
إنهم يحاولون أن يجرّدوا الدين من قدرته على الالتحام بالحياة.. يمنعوه من إعادة صياغتها بما يريده الله سبحانه، وذلك بسحب يده من السياسة والعلم والممارسة الاجتماعية ودفعه دفعاً إلى أن يترهبن وينعزل عن الدنيا لكي تخلو لهم الساحات.
وإنها لجريمة مزدوجة يبدو أحد وجهيها في تشويه واجتزاء الصورة الحقيقية المتوازنة والمتكاملة والمدهشة لهذا الدين، ويبدو الوجه الآخر في إحلال معطيات الوضعيين محلها.. وهي معطيات أثبت الزمن على امتداده، قصورها وعقمها ونسبيتها وقلقها وظنيتها وعجزها عن تغطية مطالب الحياة على تشعبها وامتدادها..
وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى). [سورة النجم: 23].
==============(12/486)
(12/487)
في تفسير ظاهرة صعود "الحركات الإسلاميّة"
إبراهيم غرايبة 9/8/1427
02/09/2006
دأب الخطاب العربي المعاصر على تسمية ظاهرة الحركات الإسلامية بالإسلام السياسي، ويقدم كتاب تركي الربيعو الذي صدر مؤخراً بعنوان "الحركات الإسلامية في منظور الخطاب العربي المعاصر" تحليلاً للخطاب العربي حول الحركات الإسلامية ومحاولته لتفسير الظاهرة وأبعادها، وربما يجدر بالإسلاميين معرفة طريقة تفكير الآخرين ورؤيتهم، فالفكر العربي المعاصر والذي يغلب عليه الاتجاه اليساري يحتكم إلى الماركسية في رؤيته للعامل الدين وتطبيقاته في التاريخ.
كانت هزيمة 1948و1967 مناسبة للباحثين للتفكير في أسباب الهزيمة والانحسار، وقد وجد اليساريون ذلك في الدين، وراح صادق جلال العظم في كتابه "نقد الفكر الديني" يبشر بانهيار الدين بقوله: "يبدو أن الموقف الديني القديم الممتلئ بالطمأنينة والتفاؤل في طريقه إلى الانهيار" وقد عزا ذلك لأسباب عديدة منها: أننا نمر في طور نهضة مهمة، وبانقلاب علمي وثقافي شامل، وأننا نمر في مرحلة تتميز بتحويل صناعي واشتراكي جذري، وأننا تأثرنا إلى أبعد الحدود بأخطر كتابين صدرا وهما "راس المال" وأصل الأنواع" لدراوين.
ولكن ما حدث بعد عام 1967 هو العكس تماماً، فقد نشأت صحوة إسلامية كبرى مازالت ممتدة ومتنامية، وكان كتاب سيد قطب "معالم في الطريق" الذي صدر عام 1965 بالإضافة إلى كتبه الأخرى، وبخاصة "في ظلال القرآن" أكثر تأثيراً ربما من أي كتاب آخر في الأجيال العربية، حتى إن غازي القصيبي وصفه في إحدى رواياته على لسان أحد شخوص الرواية بأنه أهم كتاب صدر في الخمسمائة سنة الأخيرة.
لقد تعددت تفسيرات الصحوة الإسلامية وارتبكت، فأتباعها ينتمون إلى كل الفئات الاجتماعية والاقتصادية، ويذهب غالي شكري إلى الربط بين ظاهرة الإسلام السياسي وانتشارها، وبين انتشار المخدرات كرد فعل سيكولوجي يقوم به الإنسان المقهور على جملة التحديات، إن المقهور بتزمته وتمسكه بالتقاليد وبنكوصه إلى الماضي واحتمائه بأمجاده، يلجأ إلى أوالية شائعة في حالات الفشل تدفعه إلى أحضان الدين، وإلى مزيد من التعنت والتزمت.
وهكذا تظهر الحركات الإسلامية على أنها تعبير عن أوالية شائعة في حالات الفشل، يلجأ إليها الإنسان المقهور أو الإنسان العصبي، ويوصلنا هذا التفسير إلى نوعية الخطاب هنا وهو إقناع المخاطبين بضرورة الحجر الصحي على الشباب المسلم المنضوي في إطار الحركات الإسلامية، ويظهر هذا جلياً في الترابط الخفي الجلي بين المعرفة والسلطة، بين المعرفة التي يذكيها الخطاب التقدمي العربي، وبين رغبته في ممارسة السلطة، أو التعاون مع السلطة الحاكمة للوصول إلى الهدف.
وردت بعض التفسيرات الظاهرة إلى انحطاط البرجوزاية العربية وهزيمة حزيران، وتراجع المشروع الوطني، فساهمت هذه الأسباب في صعود الوعي الديني وتجليه في الحركات الإسلامية، وهناك وجهة نظر تقول إن التعليمية القائمة على التلقين تشكل أساساً صلباً يعين على انتشار الواعظين والأئمة، وعلى انتشار ظاهرة التطرف الديني في أوساط المثقفين والمهنيين، أما الأستاذ محمد حسنين هيكل فيقول: إن السادات كان مشغولاً بأعدائه من ناصريين ويساريين، فسعى لاستغلال الدين من خلال لقب الرئيس المؤمن وإصراره على حضور صلاة الجمعة، وتقوية محطة القرآن الكريم واستغلال الدين في الجامعات.
وهناك تفسير اجتماعي مفاده أن الظاهرة الإسلامية هي أيدولوجيا ريفية في عالم المدن، فيقول محمود أمين العالم: هؤلاء الشباب كانوا من أصول ريفية فقيرة، ممن نزحوا إلى المدن الكبرى للعلم أو البحث عن عمل، وهم من أسر فقيرة أو من فئات وسطى وصغرى.
ويعزو الأستاذ فالح عبد الجبار يعزو إشكالية المنتج الريفي الصغير والتي تتجلى في شكل ديني له ثبات في القانون، والذي يهاجر إلى المدينة حاملاً معه تأثيرات الريف إلى المدينة وليس العكس، ويشير محمد حافظ دياب أن الخطاب القطبي الذي تؤول إليه جميع الخطابات الإسلامية المعاصرة، هو في النهاية التعبير الحي عن أيدولوجيا ريفية مسحوقة في عالم المدن، هذا التفسير يسود في أوساط الخطاب اليساري العربي، حيث ترتد بالظاهرة إلى موجات من الهجرة الريفية التي غزت المدن وما تحمله من أيديولوجية غيبية هيأت مرتعاً خصباً لنشوء هذه الحركات؛ فالحركات الإسلامية هي تعبير عن صراع الريف والمدن، وفي الحقيقة فإنه تفسير يتضمن نظرة احتقار للفلاح وثقافته، ويحمل أيضاً نزعة استشراقية لا تحترم الدين الإسلامي، أو تعده دين البساطة والبداوة والريف.
وهكذا فقد غلب على الخطاب العربي نظرة ملتزمة بالعودة إلى المثال، لا إلى الواقع والخصوصية، وهي تضفي على الدين قيمة سلبية مستمدة من رؤية وتجربة أوروبية، فالخطاب العربي يجد نفسه باستمرار أمام هذه الإشكالية المستمرة، التي تتمثل في فاعلية الدين على صعيد الجماهير، وقدرته على تجنيدها في الدفاع عن الأرض والوطن بحيث أصبح الدفاع عن الدين الإسلامي هو دفاع عن هوية، عن جماعة وأرض، على نحو يناقض كل مقولات الخطاب العربي المعاصر أو أغلبها.(12/488)
إن المتتبع للخطاب اليساري العربي وبخاصة في النصف الثاني من عقد الثمانينيات، يجد أن هذا الخطاب يقع في إطار يهدف إلى إدانة الحركات الإسلامية المعاصرة، ووصفها بالانحطاط والشكلية والجمود، والرجعية، والوعي الزائف، فالأستاذ محمود العالم يرى:
"إن خطابهم يتسم بشكل عام بالجمود والتسطح والشكلية، بل والسذاجة أحياناً إنه رفض انفعالي للواقع، وأنه لا يوجد في بلادنا معارضة دينية مستنيرة، واعية بحقائق مجتمعنا وعصرنا وملتزمة بهموم شعبنا".
ويذهب سمير أمين في هذا الاتجاه: "إن سيد قطب يكاد يكون المنتج الأيديولوجي الوحيد للإخوان المسلمين، وأنه المرجع لكل الحجج التي تستقي منها السلفية في عهدنا، ولم يزد أحد المفكرين -مفكري السلفية- شيئا على ما قدمه قطب".
ويحتدم الجدل في الخطاب العربي الإسلامي حول إشكالية الدين والدولة، وتكثر التساؤلات إزاء تاريخ بعيد للدولة وللعقل السياسي العربي، من التاريخ الأموي والعباسي، الذي تحولت فيه الخلافة إلى مُلك، وغياب الشهادة المعاصرة للدولة الإسلامية هو الذي فسح المجال للتأويلات العديدة.
ويجد كل من هشام جعيط وعبد الله العروي أن هذه المقولة (الإسلام دين ودولة) بدأت مع الغزو الاستعماري للمنطقة العربية في أوائل القرن الثامن عشر، فقد لاحظ الفقهاء في ظل الدولة الإسلامية انفصال الشرع والعدل عن العمران، في حين إن التجربة الأوروبية التي باتت نموذجاً يحتذى هي شاهد على ارتباط العدل بالعمران، فتنادوا إلى القول بضرورة الربط بين التقدم والعدل الذي لا يتحقق إلا بالشرع لأن العدل بالشرع، والعدل
يعني تقييد الحاكم بقواعد الشرع، وقد كان "العروي" على وعي بمأزق الدولة القائمة في الوطن العربي.
وأما برهان غليون في كتابه "الدولة والدين" فقد لاحظ أن الضغوط والطلبات تزداد على الفكرة الإسلامية من قبل الشارع، ومن قبل الدولة نفسها في بعض الأحيان، في حين شهدت الفكرة القومية العلمانية تراجعاً كبيراً على المستوى النفسي والعقدي، والسياسي، فأصبحت الوطنية تبحث عن مصدر نموها وإلهامها في الفكرة الدينية، وتأكدت بذلك القطيعة التقليدية المتزايدة بين الفريقين، يعتقد الأول أن بناء الدولة لن يستقيم إلا إذا أُخذ بما يظن أنه نظرية الدولة الحديثة بامتياز، أي فلسفة العلمانية كدين للدولة، ويؤمن الثاني بأن العرب والمسلمين لن يتمكنوا من الخلاص وتحقيق الأمن والاستقرار والسعادة الأرضية والأخروية إلا إذا نجحوا في إعادة بناء الدولة العربية على الأسس التي قامت عليها دولة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
ويرى غليون بأن الإسلام "لم يفكر بالدولة، ولا كانت قضية إقامة الدولة من مشاغله، وإلا لما كان ديناً، ولما نجح في تكوين الدولة، لكن الدولة كانت أحد منتجاته الجانبية والحتمية" فالدين هو روح الدولة التي تصبح بدورها جسد الدين وسلاحه وذراعه، والدولة الإسلامية م تكن بحال دولة الله، بل دولة المسلمين بما هم كائنات بشرية قابلة للخطأ والصواب".
وقام رضوان السيد (وهو أستاذ جامعي درس في الأزهر وفي ألمانيا) بتحقيق وتقديم أهم المؤلفات الكلاسيكية للفقهاء المسلمين في مجال الدين والدولة، من الماوردي إلى الطرطوشي، وهناك تأكيد على أن الكلاسيكيين كانوا أكثر حصانة وشجاعة في قراءتهم لإشكالية الدين والدولة، وأنهم يسبقون الكتابات الأيدلوجية المعاصرة التي تذكيها خطابات الإسلام السياسي أو تلك التي يذكيها مثقفون عرب علمانيون معاصرون، والتي تكشف عن عمق الهوة وعن مدى المأزق الذي يوجه مسيرة الفكر العربي المعاصر في قراءته المؤدلجة للماضي والحاضر والمستقبل، والتي تنحدر علينا من كل حدب وصوب، المأزق الذي يكشف عجز الخطاب العربي، وعلى مدى قرن كامل من إنتاج خطاب عقلاني في هذا المقام
===============(12/489)
(12/490)
عن النهضة والدين وأحداث 11 سبتمبر
د. غازي التوبة 22/7/1427
16/08/2006
تأرجح الموقف من الدين الإسلامي عند دعاة النهضة خلال القرن الماضي بين موقفين:
الأول: اعتبر أنّ الدين لا يحول بين المسلمين وبين النهضة، وأنّ المشكلة تكمن في نقل التنظيمات الغربية، وفي فتح باب الاجتهاد، وفي المواءمة والتوفيق بين المعطيات الشرعية ومعطيات الحضارة الغربية.
الثاني: يعتبر أنّ الدين الإسلامي يحول بين المسلمين وبين النهضة؛ لذلك يجب عزله وتجاوزه وتأويل المتعارض منه بما يتفق مع معاني الحضارة الغربية.
وانطلق أتباع الموقف الثاني من المشابهة بين أوروبا والعالم الإسلامي؛ فأوروبا نهضت عندما نبذت الدين وعزلته في الكنيسة، ومنعته من أن يتدخّل في شؤون الحياة، وحصرته في زاوية العبادة الشخصية، وكذلك على المسلمين أن يفعلوا الشيء نفسه من أجل النهضة والانبعاث والارتقاء وامتلاك الحضارة، فعليهم أن يحصروا الدين في المسجد، ويجعلوه منظِّماً لعلاقة الفرد بربه فحسب. ناسين أنّ الذي جعل أوروبا تنبذ الدين هو تعرّض المجتمع الأوروبي لأزمات وجودية بنيوية ظهرت في أمرين:
الأول: تعارض الدين مع العقل عندما غالطت الكنيسة الحقائق العلمية من مثل: دوران الأرض حول الشمس، وأفتت بكفر القائلين بتلك الحقائق.
الثاني: تعارض الدين مع الفطرة عندما احتقرت الكنيسة الدنيا والشهوات، واعتبرت أنّ الخلاص يكون بنبذ الدنيا وقتل الشهوات، واعتبرت أنّ العلاقة الجنسية مع المرأة نَجَس، وأن الفوز بالآخرة يكون بالابتعاد عن الشهوات والإقلاع عن الزواج والدخول في عالم الرهبنة والكهنوت.
لكن هل هذه المشابهة والمقاربة بين أوروبا والعالم الإسلامي صحيحة؟
لا أظنّ ذلك، لأنّ الوقائع التاريخية تشير إلى أننا لم نعانِ مثل تيْنِكَ الأزمتين الوجوديتين البنيويتين، وإنما هما خاصّتان بالغرب، لذلك فإنّ سحب نتائجهما على الدين الإسلامي توسيع خاطئ وجهل بحقائق الإسلام.
برز الموقف الأول خلال القرن التاسع عشر، وقامت قيادات في إستامبول ومصر وتونس بالتوفيق، والمزاوجة بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، فأصدر السلطان العثماني خط كلخانة عام 1838 والخط الهمايوني الشريف عام 1856م، وقد دعا الخطان إلى الإقرار بحقوق الإنسان، وإلى العمل بالحرية الاقتصادية واقتصاد السوق، وإلى المساواة بين الطوائف، وتنفيذ حق المواطنة لجميع الأفراد في الخلافة العثمانية الخ...، كما أصدر السلطان دستوراً للخلافة العثمانية عام 1876م وأجرى انتخابات على إثره في كل أنحاء الخلافة، وتكوّن مجلس (المبعوثان) الذي كان بمثابة برلمان للخلافة الخ...، وأصدر الخديوي في مصر قرارات مشابهة لما عمله السلطان في الأستانة، فأصدر قراراً بتشكيل مجلس شورى القوانين، وأرسل البعثات التعليمية إلى فرنسا، وأقرّ تعليم البنات، وطوّر الجيش المصري وزوّده بأحدث الأسلحة الخ...، وأصدر الباي في تونس (وكانت تابعة للدولة العثمانية) عهد الأمان في عام 1857م، وكان مقدمة لإصدار الدستور في عام 1861م، ولإنشاء مؤسسات من مثل: مجلس الجنايات والأحكام العرفية، ومجلس التحقيق، ومجلس الشورى.
لكنّ الموقف من الدين تغيّر في القرن العشرين، وأصبح الموقف الثاني هو الغالب، وراجت مقولاته التي تعتبر أنّ الدين هو العقبة أمام النهضة، وهو السبب في التأخّر والتخلّف، وترافق ذلك مع سيادة الفكر القومي بشقيه: التركي والعربي بعد الحرب العالمية الأولى، أما في المجال القومي التركي فاعتبر كمال أتاتورك أنّ الأمّة التركية أمّة طورانية، وأنّ الإسلام طارئ عليها، وأنّ عليها أن تفرز روابطها العرقية مع الأتراك في شرق أوروبا، وأنّ عليها أن تنبذ الدين الإسلامي لتدخل عالم الحضارة والحداثة، لذلك ألغى الخلافة العثمانية، وفصل الدين عن الدولة، وألغى التشريعات الإسلامية، وألغى الحجاب، وفرض اللباس الغربي والبرنيطة، وأعلن الأذان باللغة التركية، كما فرض استخدام الحروف اللاتينية في اللغة التركية بدل الحروف العربية الخ...
أمّا في المجال القومي العربي فقد قامت بعد الحرب العالمية الأولى دول قومية عربية في العراق وسورية والأردن وفلسطين، واعتبرت هذه الدول نفسها أنها أجزاء من أمّة عربية تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، وليس الدين عاملاً في تشكيل هذه الأمّة، لذلك اتجهت الحكومات الوطنية في هذه الدول إلى بناء الإنسان والإدارة والاقتصاد والجيش والمجتمع والفنون والتربية بمعزل عن الدين وتوجيهاته وأحكامه؛ لأنّ الدول القومية والوطنية في الغرب لا تعطي دوراً للدين، ويمكن أن نسحب الحكم السابق على الدولة المصرية التي اعتمدت نوعاً آخر من القومية تقوم على البعد الجغرافي وهي القومية المصرية الفرعونية، لكنها تعاملت مع الدين بنفس طريقة؛ تعامل الدولة القومية العربية.(12/491)
ساد الفكر الاشتراكي في المنطقة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وعزّز الموقف الثاني في معاداة الدين، واعتبر الدين الإسلامي الأصل في التخلّف؛ لأنه يخدّر الطبقات الفقيرة ويبعدها عن وعي واقعها بترويج الأوهام الغيبية من جنة ونار وملكوت أخروي، واعتبر أنّ طبقة رجال الدين منحازة إلى الأغنياء و الملاّك، وأنّ الفكر الديني مناقض للفكر العلمي الخ... لذلك دعا إلى استئصال الدين الإسلامي من وعي الناس وحياتهم، وكانت تلك الدعوة ذروة الامتداد للتيار الثاني.
فماذا كانت نتيجة المزاوجة بين التيارين: القومي والاشتراكي؟
وماذا كانت نتيجة الدعوات إلى استئصال الدين الإسلامي من كيان المجتمع؟
كانت النتيجة إخفاق هذين التيارين وانبثاق الصحوة الإسلامية في السبعينيات، والمناداة بتمكين الإسلام في حياة الناس، وبرزت عدّة مظاهر إسلامية منها: العودة إلى الحجاب، وازدحام المساجد بالمصلّين، وانبثاق ظاهرة البنوك الإسلامية، ورواج الكتاب الإسلامي، وسيطرة الإسلاميين على بعض الاتحادات الطلابية والمهنية والنقابية، وفوز الإسلاميين بنسبة جيدة من المقاعد البرلمانية في بعض الدول العربية...الخ.
لكننا نرى بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م انبعاثاً جديداً لمقولات الموقف الثاني، ومن الدين الإسلامي، وحياة جديدة لها، لكنها أضافت لها مقولات أخرى من مثل أنّ الدين الإسلامي هو سبب الإرهاب، وأنه مضاد للتحديث، وأنه يناقض الديمقراطية، وأنّ المجتمعات الإسلامية هي المجتمعات الوحيدة التي لم تتقبّل الحداثة الغربية، وأنها القلعة الوحيدة المتبقّية في العالم والممتنعة عن بركات الحضارة الغربية، وأبرز من طرح تلك المقولات الكاتب الأمريكي (برناردلويس) في عدد من الكتب التي ألّفها حول المنطقة العربية والإسلامية بعد أحداث 11 سبتمبر، وكذلك (فرانسوا فوكويوما) الذي دعا في مقال كتبه في (نيوزويك) إلى فرض العلمانية على العالمين: العربي والإسلامي من أجل إنهاء بؤر التعصّب التي يحفل بها الواقع الإسلامي، والتي فرّخت الإرهاب العالمي.
ترافق نداء الكاتبين السابقين: (برنارد لويس) و(فرانسوا فوكويوما) مع سيل من الكتابات العربية تؤيّد ما قاله الكاتبان الغربيان، وتدعو إلى تجفيف المنابع، وتعديل المناهج، ومراقبة أجهزة الإعلام، وغربلة كتب التاريخ، وتجديد الدين الخ...
فهل ستقوم نهضة في القرن الحادي والعشرين مع استبعاد الدين وعزله؟
أم أنها ستخفق كما أخفقت سابقتها في القرن العشرين؟
لا نريد أن نستبق الوقائع والأحداث، ونصدر أحكاماً عليها، لكننا ندعو فقط إلى الاستفادة من التجربة السابقة التي امتدّت طوال القرن العشرين وانتهت إلى الإخفاق، وكلّفت الأمّة الكثير من الجهود والأوقات والأموال والدماء والعناء والآلام...
==============(12/492)
(12/493)
الليبراليون .. غربة الدين والوطن
د . محمد بن سعود البشر 13/4/1427
11/05/2006
الليبراليون المسْخ على فريقين: إما مولع برموز الفجور الفكري، والعهر الأخلاقي في الخارج .. وإما عميل يتردّد على الأجنبي في الداخل، وكلاهما مُفرط في الدين .. خائن للوطن..
كنت أحسن الظن في بعض المثقفين الذي يتشرفون بأن يصنفهم المجتمع ضمن (التيار الليبرالي)، فإن غابت الغيرة على الدين في لقاءاتهم ومنتدياتهم فإن الغيرة على الوطن حاضرة في أطروحاتهم الفكرية، ورؤاهم الثقافية، ومشاعرهم الوجدانية.
حسن الظن هذا نسفَتْهُ بعض مواقف هؤلاء في غير مناسبة ثقافية أو لقاء فكري.
في جمع ثقافي، قال أحدهم:
ندعو (محمود درويش) ليأتي إلينا .. هو علم، وله جماهير، وسيأتي إلينا جمع غفير من داخل بلادنا وخارجها .. واستطرد مادحاً حتى قلنا ليته (سكت).
صوت عاقل يجيب:
كيف تدعون من يسبّ الله، والرسولل، ويشتمكم، ويسب بلادكم، بلاد الحرمين وقبلة المسلمين ..؟! إن لم تكن بكم غيرة على الدين، فلتكن غيرة على وطنكم .. إني لأعجب منكم أيها الليبراليون السعوديون: كيف أكون أكثر غيرة منكم على بلادكم ..؟!
آخر يتفاعل:
لقد وجهتم إليه الدعوة للحضور .. فرفض .. فلماذا التملّق والتميّع ..؟! ولماذا تصرّون على دعوة من يسب الله والرسولل والمؤمنين، ويستهزئ بنا وبوطننا؟! لا أظن أن هناك (شريفاً) يرضى أن يُسبّ أبوه في داره؟!
هذان فريقان ليبراليان متطرفان .. وبينهما فئة متميّعة، لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً .. يتقلّّبون كما الليل والنهار .. يبيعون آخرتهم وانتماءاتهم بعرض من الدنيا، يخالفون ما عليه إجماع الأمة، فإن أُعطوا من الدنيا رضوا، وإذا لم يُعطَوْا منها تحدثوا وكتبوا، وناقشوا، وخالفوا ليدخلوا في دائرة المؤلفة قلوبهم ..!!
الليبرالية في الغرب: علمانية التوجة، وطنية الإنتماء ..
والليبرالية في بلادنا تجمع غربتين: غربة الدين وغربة الوطن ..
وهذا هو (المسْخ الحقيقي) ..
ليست هذه حماسة جيّاشة .. أو تصعيد في الظن أو اجتهاد خاطئ .. بل إن أسماءهم .. وأشخاصهم .. وهيئاتهم حاضرة في الذهن، تذكّرني بقوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ..).
=============(12/494)
(12/495)
النظرة العلميّة الجديدة وتأكيد الايمان
أ. د. عماد الدين خليل 4/4/1427
02/05/2006
تحت مسوّغ الدراسة العلمية مُرّرت أفكار فرويد الهدّامة للقيم والأخلاق والفضيلة والحب والوفاء وطاعة الوالدين، وغُرست مكانها مفاهيم كالصراع (الأوديبي) وعقدة (الكترا)، وجنسية الرضاعة، والمرحلة الشرجية، والقضيبية .. الخ.
هل الواقعية ومطالب البحث العلمي تعني ضرورة التحلل القيمي والأخلاقي؟ أين مفهوم التكريم للإنسان، وأفضليته؟ ولو سلمنا جدلاً بصحة افتراضات دارون من الناحية العلمية، فإن نظرية فرويد تجعل الإنسان ـ على العكس ـ في حالة نكوص أبدي .. فكيف يكون الانتخاب الطبيعي في ظل مفاهيم أحادية التفسير للسلوك الإنساني؟ وهل أن تفسيرات فرويد خالية من البعد الأيديولوجي والسياسي؟
أسئلة ملحّة تفرض نفسها على الذهن ولنبدأ بآخرها .. إن فرويد هو -كمعظم المتفوقين في تاريخ الشعب اليهودي- رجل ملتزم، شئنا أم أبينا. ونتائجه في ميدان علم النفس لا تخلو من بعد أيديولوجي أو سياسي، على الأقل في جانبها السلبي الذي يتمحور عند "ضرورة التحلل القيمي والأخلاقي" وتغييب البعد الإنساني في الممارسات البشرية.
إن تحويل الإنسان إلى " كائن جنسي" لهي مسألة في غاية الخطورة؛ لأن إمكانات توظيفها واسعة جداً ولا حدود لها. وإذا لم يكن فرويد قد فعل عبر معرفته النفسية ومعطياته في مجال التحليل النفسي سوى أن منح هذه المقولة شرعيتها العلمية، فإنه قد صاغ أحد أشدّ الأسلحة حدّة ومضاءً لذبح الخصوم وتدمير بنيتهم.
مهما يكن من أمر فإن استنتاجات فرويد هي -كمثيلاتها في دوائر العلوم الإنسانية- مجرد احتمالات .. محاولات للمقاربة .. وليست بحال من الأحوال حقائق ومسلّمات نهائية .. ومن ثم فإنه ما إن مضى على الإعلان عنها سوى فترة محدودة من الزمن حتى تلقّت من علماء النفس الغربيين، بل من تلامذة وزملاء فرويد أنفسهم، من الطعون ما جعلها تنسحب قليلاً إلى الوراء لكي تخلّي الساحة لنظريات -وأشدّد على الكلمة- أكثر حداثة وإقناعاً.
إن إحدى مفارقات العلم الغربي في خلفياته الإنسانية .. ذلك التناقض الحادّ بين نظريتين مارستا دوراً خطيراً في تكييف الحياة الغربية عبر القرن الأخير بوجه الخصوص: الانتخاب الطبيعي لدارون، و(اللبيدو) الفرويدي أو (الأنا السفلى) التي تسحب الإنسان إلى دهاليز الشبق والملذة وتجعله "خائفاً" أبداً و "ناكصاً" إزاء كوابت (الأنا العليا).
إننا قبالة تضاد على زاوية منفتحة مداها مائة وثمانون درجة ينفي أحد طرفيه الآخر .. فنحن إما أن نخضع لمنطق الانتخاب الطبيعي واصطفاء الأقوى، أو نسلّم بمنطق الهروب والنكوص قبالة تحديات الخبرة الدينية والاجتماعية.
فبأيهما نأخذ؟ وأيهما يمكن أن يكون"علماً" يقينياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
إن مطالب البحث العلمي -وحتى الواقعية في التعامل مع الظواهر والأشياء- لا تتطلب بالضرورة انفصالاً عن القيم، وانفكاكاً عن الالتزامات الأخلاقية، كما أنها لا تشترط إلغاء الثوابت المتفق عليها لإنسانية الإنسان.
إن هذا لا يناقض ذاك أو يتعارض معه، وإنما يمنحه أطراً واسعة مرنة قد تمنعه ـ من بعيد ـ من الانزلاق ـ باسم العلم ـ صوب الخرافات والضلالات. والذي حدث عبر القرنين الأخيرين، واحد من أكثر الانزلاقات في تاريخ الإنسان حدة وبشاعة .. حيناً تحت مظلة الداروينية، وحيناً تحت مظلة الفرويدية، وحيناً ثالثاً تحت مظلة الوجودية السارترية، وحيناً رابعاً تحت مظلة الماركسية.
وبمرور الوقت أخذت تتضح جملة من الأخطاء الحادة التي عادت بعد أن ذبحت أجيالاً بكاملها من الأوربيين وغير الأوربيين، لكي تذبح المنتمين إلى هذه النظرية أو تلك، وتدين صناّعها وأربابها. ومن عجب أن الأرباب أنفسهم تخلوا عن نظرياتهم ـ أحياناً ـ قبل أن ينسلّ منها الأتباع فيما يذكرنا بحواريات الشيطان وأتباعه في العديد من المقاطع القرآنية:
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ).[ابراهيم: من الآية22]
الحديث يطول ولكني سأقف قليلاً عند بعض الحلقات.(12/496)
يقول المفكر والأديب المجري المعروف (آرثر كوستلر) متحدثاً عن إحدى خبراته أيام كان منتمياً للحزب الشيوعي الألماني في الثلاثينيات: كان الدافع الجنسي مقرراً ومعترفاً به، إلاّ أننا كنا في حيرة بشأنه. كان الاقتصار على زوجة واحدة، بل كان نظام الأسرة كله عندنا أثراً من آثار النظام البورجوازي ينبغي نبذه؛ لأنه لا ينمّي إلاّ الفردية والنفاق والاتجاه إلى اعتزال الصراع الطبقي، بينما الزواج البورجوازي لم يكن في نظرنا إلا شكلاً من أشكال البغاء يحظى برضاء المجتمع وموافقته. إلاّ أن السفاح والاتصال الجنسي العابر كان يعتبر أيضاً شيئاً غير مقبول، وكان هذا النوع الأخير قد شاع وانتشر داخل الحزب سواء في روسيا أو خارجها، إلى أن أعلن لينين تصريحه الشهير الذي يهاجم فيه نظرية (كاس الماء) تلك التي تزعم أن العملية الجنسية ليست أكثر خطراً وأثراً من عملية إطفاء العطش بكاس من الماء. وكان الدكتور (ولهلم رايخ)، وهو رجل ماركسي من أتباع فرويد ، ومؤسس معهد (السياسة الجنسية) قد أصدر تحت تأثير (مالينوفسكي) كتاباً سماه (وظيفة الشهوة الجنسية) شرح فيه النظرية التي تزعم أن الإخفاق الجنسي يسبب تعطيل الوعي السياسي لدى الطبقة العاملة، وأن هذه الطبقة لن تتمكن من تحقيق إمكانياتها الثورية ورسالتها التاريخية إلاّ بإطلاق الحافز الجنسي دون حدود أو قيود.
وهو كلام يبدو الآن ـ كما يقول كوستلر نفسه ـ أكثر اعوجاجاً وسخفاً مما كان يبدو لنا في ذلك الحين.
وهذه النظرية التي يصوغها الدكتور الماركسي ـ الفرويدي: (رايخ) والتي تمثل امتداداً ميكانيكياً لمقولة ماركس وانغلز في (المنشور الشيوعي) المعروف، يجيء لينين الزعيم الماركسي لكي يقلبها رأساً على عقب، وهو بصدد مهاجمة نظرية (كاس الماء) .. فتأمل!
من ثم فإننا لا ندهش إذا قرأنا في (حدود العلم) لسوليفان ـ على سبيل المثال ـ أن علم النفس ما زال في الوقت الحاضر في مرحلة بدائية جداً! بل إن البعض ينكر وجود أي علم من هذا القبيل!! وأنه ليس هناك بالتأكيد نظام من المعارف النفسية الثابتة التي جرى إقرارها بصورة عامة، بل هناك عدد من النظريات، لكل منها مجال محدود للتطبيق، وهي تختلف عن بعضها اختلافات عميقة حينما تتناول الظاهرة نفسها.
فإذا كان لنظريتين في علم النفس رأيان مختلفان تماماً إزاء ظاهرة من الظواهر، فكيف يُتاح لنا أن نحكم على صدق المنهج النفسي، وعلميّته ، ويقينيّته؟ فإذا ما تأكد أن إحدى النظريتين مصيبة، بشكل أو آخر، كانت الأخرى بالتأكيد خاطئة، وليس لنا من ثم أن نعتقد بأن علم النفس يتكئ على دعائم ثابتة، كما يحدث في الفيزياء والكيمياء، على الرغم من أن هاتين تتعرضان ـ أيضاً ـ ولكن بنسبة أقل لتغيرات أساسية في صميم مقولاتهما.
وقد يقول قائل: إن كلاً من النظريتين النفسيتين تتضمن قدراً من الخطأ وقدراً من الصواب، وفي هذه الحالة أيضاً لا يمكن الاطمئنان إلى سلامة المنهج الذي يعتمده علماء النفس في صياغة نظرياتهم؛ لأنه ـ في أغلب الأحيان ـ يعتمد التعميم، ومن ثم تختلف النظريات النفسية ـ أحياناً ـ اختلاف النقيض مع النقيض، دون أن يكون هناك قاسم مشترك. ذلك أن
" التعميم " هو الضربة القاتلة لمناهج البحث العلمي الرصين.
ومهما يكن من أمر فإن (سوليفان) يتناول بالتحليل والنقد اثنتين من أبرز النظريات النفسية وأكثرها انتشاراً: النظرية السلوكية ونظرية التحليل النفسي، لكي ما يلبث أن يصدر حكمه على ضعف، واهتزاز النتائج التي توصلنا إليها بصدد تركيب العقل البشري، وطريقة عمله.
وهو يرى أن السلوكيين، إلى جانب قيامهم بوضع نظريات على أسس واهية جداً من الحقيقة، فإنهم يقدّمون نظريات تناقض خبراتنا المباشرة. إنهم ينكرون الحقائق الواضحة، ينكرون أننا نستطيع تشكيل صورة بصرية أو سمعية وما إليها في عقولنا. إن أولئك الذين يمتلكون من بيننا قدرة عظيمة على تكوين الصور البصرية العقلية، أو الذين يستمتعون بالإصغاء العقلي للأعمال الموسيقية المحببة لديهم، يعلمون أن هذه المقالة لا تنطوي على أي جانب من الصحة. حقاً إن النظرية السلوكية عندما يجري تطبيقها على العمليات العقلية البسيطة جداً، تبدو قاصرة إلى درجة تصبح معها غير ذات قيمة!
وبخصوص نظرية التحليل النفسي يعرض سوليفان للعديد من المحاولات التي انشقت
عن فرويد، ويشير بسخرية إلى أن عدد هذه المحاولات من الكثرة بحيث ينافس المسيحية في طوائفها، وكل طائفة من طوائف التحليل النفسي تدعي لنفسها، مثل طوائف المسيحية، نظرة شاملة وواقعية، وتشير إلى قائمة مؤتمرة من العلاقات الروحية والجسمانية لإثبات كفاية تعاليمها وصلاحيتها.. إن أي شكل من أشكال التحليل النفسي لا يمكن اعتباره في وضع مرض كعلم. ولا يمكنه اللجوء إلى النتائج من أجل إثبات النظرية؛ لأن هذه النتائج، أي العلاجات التي يقدمها(12/497)
(التحليل النفسي)، يمكن بنفس الدرجة تقريباً الحصول عليها من خلال نظريات مختلفة كلية. لذلك لا يمكن الحكم على هذه النظريات من خلال النتائج. ويتبع ذلك أن هذه النظريات يمكن فقط الحكم عليها بالاستناد إلى احتمالاتها الأولية. وهنا نواجه صعوبة تتمثل في أن كل أشكال التحليل النفسي تظهر محتملة بدرجات متساوية تقريباً. وربما وجب التفريق لمصلحة تلك النظريات التي تأخذ بفكرة اللا شعور، وذلك في مقابل تلك التي تنبذ هذه الفكرة. إن مفهوم اللا شعور مفهوم مهم بالتأكيد، لكنه وُجد قبل التحليل بوقت طويل. وهكذا فإن كون التحليل النفسي قد أدخل شيئاً جديداً هو موضع جدل ونقاش.
والنتيجة التي ينتهي إليها (سوليفان) أنه ليس في نظريات علم النفس كافة شيء من شأنه أن يغيّر جدياً في قناعتنا بأن هذا العلم لا يمكن اعتباره علماً حتى الآن. وللمعارف الأخرى أيضاً مثل علم الاجتماع والاقتصاد وما إلى ذلك، بعض النواحي التي لا تعتبر مرضية من وجهة النظر العلمية. والعلم هو أقوى ما يكون عليه عندما يتناول العالم المادي. أما مقولاته في المواضيع الأخرى فتعتبر نسبياً ضعيفة ومتلجلجة!
وهي نفس النتيجة التي ينتهي إليها الكسيس كاريل في (الإنسان ذلك المجهول) .. إن السيطرة على عينة من العالم المادي لغرض فهمها ممكنة إلى حد ما، أما السيطرة على عينة يدخل فيها الإنسان، والعقل، والحياة، طرفاً، فتكاد تكون مستحيلة. ومن قبل سُئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الروح: معجزة الإنسان، وسرّ العقل، ومفتاح الحياة، فأجاب القرآن الكريم عنه: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). [الاسراء:85]. وهكذا نرى كيف تتساقط رموز العلمانية الملحدة التي تتنكر لله .. والإيمان .. وها هو ذا جان بول سارتر ، زعيم الوجودية الإلحادية، ينتهي إلى المصير نفسه .. على يده هو وباختياره هذه المرة. إنه يقول فيما ترجمه الدكتور محمد جابر الأنصاري بعنوان: " المحاورة الأخيرة بين سارتر ودي بوفوار" ونشرته مجلة الدوحة القطرية في مايو 1982 م: "أنا لا أشعر بأني مجرد ذرّة غبار ظهرت في هذا الكون، وإنما أنا كائن حساس تم التحضير لظهوره، وأُحسن تكوينه، أي بإيجاز ككائن لم يستطع المجيء إلاّ من خالق" !
ثم ها هو ذا الدكتور أحمد أبو زيد يذكر في مقال له بعنوان: "هل مات دارون حقاً؟"
( نشرته مجلة العربي في تموز 1982 م ) كيف أنه صدر في إنكلترا من شهور قليلة وفي أواخر عام 1981 م كتاب يحمل عنواناً طريفاً هو " التطور من الفضاء : (Evolution F r om Space) قام بتأليفه عالم الفلك الشهير (سير فريد هويل) وعاونه في ذلك أستاذ هندي يدرّس في جامعة كارديف. ويعترف الأستاذان بصراحة في ذلك الكتاب بأنهما ملحدان، ولا ينتميان لأي دين أو عقيدة، وأنهما يعالجان أمور الفضاء وحركات الكواكب بأسلوب علمي بحت، ومن زاوية عقلانية خالصة لا تحفل ولا تتأثر بأي موقف ديني. ويدور الكتاب حول مسألة احتمال وجود حياة على الكواكب الأخرى، ويتناول بالبحث الدقيق الفكرة التي سادت في بعض الكتابات التطورية عن ظهور الحياة تلقائياً من الأوحال الأولى نتيجة لبعض الظروف والتغيرات البيئية. ومع أن هنالك نظريات معارضة لهذا الاتجاه، وهي نظريات ترى أن احتمال ظهور الحياة من هذه الأوحال أو الطين الأولى لا تزيد عن(1 : 10 : 40.000) أي واحد إلى عشرة أمامها أربعون ألف صفر. مما يعني أنه لا تكاد توجد فرصة لظهور الحياة عن طريق التوالد التلقائي من هذا الطين، وبالتالي فإن الحياة لا يمكن أن تكون نشأت عن طريق الصدفة البحتة، وأنه لابد من وجود عقل مدبّر يفكر ويبدّل لهدف معين. وعلى الرغم من اعتراف المؤلفين الصريح ـ كما قلنا ـ بإلحادهما، فإنهما لا يجدان أمامهما مفراً من أن يكتبا الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان " الله ـ God ".
ولابدّ من الإشارة ها هنا إلى أن المعرفة الإنسانية سواء في ميدان علم النفس أو
الاجتماع ، أو حتى العلوم الصرفة وبخاصة علوم الطبيعة والحياة، عادت عبر العقدين الأخيرين لكي تتصالح مع الإيمان، وهذا يعني بالضرورة تصالحها مع الثوابت والمرتكزات التي تحترم إنسانية الإنسان، وتميّزه، وتفرّده على العالمين.
إن هذا التصالح أو الوفاق لم يؤثر البتة على حرية العالم في الكشف، بل على العكس إنه يجيء بمثابة دفع وتحفيز للمزيد من الكشف عن الحقائق والنواميس التي لن تكون في نهاية الأمر إلاّ تأكيداً لقصديّة الخلق، وإحكام البناء الكوني، وإبداعية الله سبحانه.
لنقف بعض الوقت عند كتاب "العلم في منظوره الجديد" لـ(روبرت أغروس) و(جورج ستانسيو) والذي نُشر في العدد (134) من سلسلة عالم المعرفة في شباط 1989 م. مترجم الكتاب الدكتور كمال خلايلي يلخص فصوله الخصبة بالحديث عن الظروف التي نشأت في ظلها النظرة العلمية القديمة التي تطورت في العصور اللاحقة إلى مذهب مادي صارم يؤمن بأزلية المادة، ويرفض من ثم كل ما هو غيبي، ولا يعترف في تفسيره لمختلف الظواهر إلاّ بنوعين هما العلل، وهما الضرورة والصدفة.(12/498)
إزاء هذه النظرة المادية برزت إلى الوجود في مطلع القرن العشرين نظرة علمية
منافسة، كان من ألمع روّادها آباء الفيزياء الحديثة كـ(آينشتاين) و(هاينزنبرغ) و(بور) وكثيرين غيرهم ممن استحدثوا مفاهيم جديدة كل الجدة أطاحت بالمفاهيم والنظريات الفيزيائية السابقة التي كانت رائجة منذ عصر أرسطو وحتى أواخر القرن التاسع عشر. فقد أثبت آينشتاين مثلاً نسبية الزمان والمكان، بل الحركة. وبيّن الفيزيائي الدانماركي (نيلز بور) أن الذرة ليست أصغر جسيم يمكن تصوّره، كما كان نيوتن يظن، بل إنها هي الأخرى مكونة من نواة يحيط بها عدد لا حصر له من الإلكترونيات. وأجمعت آراء كبار علماء الفيزياء النووية والكوزمولوجيا على أن الكون بما يحويه من ملايين المجرات ومليارات النجوم والكواكب قد بدأ في لحظة محددة من الزمن يرجع تاريخها إلى ما بين (10 و 20) مليار سنة، فثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المادة ليست أزلية وأن للنجوم آجالاً محددة تولد وتموت كالآدميين، وأن الكون المادي نفسه في تطور وتمدّد مستمرين، بل إن من بين الفيزيائيين الفلكيين المعاصرين من قادته نتائج أبحاثه إلى القول: إن الكون كان مهيأً منذ الانفجار العظيم لتطور مخلوقات عاقلة فيه، وأن الإنسان في مركز الغاية من إبداعه، فرأوا في ذلك كله، وفي الجمال المنتشر في الطبيعة على جميع المستويات، هدفاً وخطة مرسومة، فآمنوا بعقل أزلي الوجود، منتصب وراء هذا الكون، واسع الأرجاء، يديره ويرعى شؤونه.
ثم أعقب هذا الجيل من الفيزيائيين والفلكيين جيل آخر من العلماء المتخصصين في مبحث الأعصاب وجراحة الدماغ، من أمثال (شرنغتون) و(أكلس) و(سبري) و(بنفيلد) وقفوا حياتهم كلها على دراسة جسم الإنسان، فانتهت بهم أبحاثهم إلى الإقرار بأن الإنسان مكون من عنصرين جوهريين: جسد فانٍ وروح لا يعتريها الفناء، وبأن الإدراك الحسّي -وإن كان يتوقف على عمليات فيزيائية وكيميائية- ليس شيئاً مادياً بحدّ ذاته، وخلصوا كذلك إلى ما يفيد بأن العقل والدماغ شيئان مختلفان تمام الاختلاف، وأن الإرادة والأفكار ليستا من صنع المادة، ولا من إفرازاتها، بل هي على العكس من ذلك تؤثر تأثيراً مباشراً في العمليات الفسيولوجية ذاتها.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية شعر كثيرون من علماء النفس أن إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي وإلغاءه في المذهب السلوكي قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، فظهرت في الخمسينيات من القرن الماضي قوة ثالثة عُرفت فيما بعد باسم "علم النفس الإنساني". ومن أبرز رواد هذه المدرسة (فرانكل) و(ماسلو) و(ماي) الذين يعترفون بأولية العقل وبعدم قابلية حصره في الخواص الكيميائية والفيزيائية للمادة، وبكون الإنسان قوة واعية تملك حرية التصرّف والاختيار، ويرفضون من ثم تفسير السلوك البشري كله بلغة الدوافع والغرائز والضرورات البيولوجيّة وردود الفعل الآلية، ويؤمنون عوضاً عن ذلك بما يسمى القيم الأخلاقية والجمالية والجوانب الروحية والنفسية والفكرية.
لا بأس ـ أخيراً ـ أن نقرأ معاً بعض مقاطع الفصل الرابع من الكتاب المذكور، والذي يحمل عنوان "الله": "يبدو أن المادة ليست أزلية بالرغم من كل شيء. وكما يعلن عالم الفيزياء الفلكية (جوزف سلك) "فإن بداية الزمن أمر لا مناص منه". كما يخلص الفلكي (روبرت جاسترو) إلى أن "سلسلة الحوادث التي أدت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة".
" فهل من إله في كون كهذا ؟ الفيزيائي (إدموند ويتكر) يعتقد ذلك فهو يقول: "ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميّز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم". وينتهي الفيزيائي (إدوارد ميلن) بعد تفكره في الكون المتمدد، إلى هذه النتيجة "أما العلّة الأولى للكون في سياق التمدّد فأمر إضافتها متروك للقارئ. ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله".
"أما النظرة العلمية الجديدة فترى أن الكون بمجموعه ـ بما في ذلك المادة والطاقة والمكان والزمان ـ حدث وقع في وقت واحد، وكانت له بداية محددة. ولكن لابد من أن شيئاً ما كان موجوداً على الدوام؛ لأنه إذا لم يوجد أي شيء من قبل على الإطلاق فلا شيء يمكن أن يوجد الآن. فالعدم لا ينتج عنه إلاّ العدم. والكون المادي لا يمكن أن يكون ذلك الشيء الذي كان موجوداً على الدوام؛ لأنه كان للمادة بداية. وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل (12 إلى 20) مليار سنة. ومعنى ذلك أن أي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي. ويبدو أن الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل، فإذا كان العقل هو الشيء الذي وُجد دائماً فلابد أن تكون المادة من خلق عقل أزلي الوجود. وهذا يشير إلى وجود كائن عاقل وأزلي خلق كل الأشياء، وهذا الكائن هو الذي نعنيه بعبارة (الله).. ".(12/499)
إن هذا الخط الجديد من العلماء، وبموازاته حشد من فلاسفة العلم من مثل (الفرد نورث) و(ايتهيد وسوليفان) وغيرهم ، أبحروا باتجاه معاكس لمعطيات القرن التاسع عشر، قرن الفصام النكد الذي أقامته الكنيسة والإلحاد بين العلم والدين، ودعوا إلى احترام القيم الإنسانية ليس في ذاتها فحسب، بل لكونها تمثل عوامل تسريع في الكشف العلمي والتحام أكثر حميمية بالعالم والطبيعة والكون.
=============(12/500)
(13/1)
روعة التّهافت؟!
د. مسفر بن علي القحطاني 20/3/1427
18/04/2006
" القيم إلى أين؟ " هذا التساؤل الكبير كان محطّ اهتمام أكثر من خمسين مفكراً جمعتهم اليونسكو من كل أنحاء العالم للتباحث حول مستقبل القيم في ظل التطورات الهائلة التي أصابت عدة قطاعات حيوية جاءت بها ثورة التقنية والأسواق المفتوحة وعممتها وسائل الإعلام والاتصال, وكان هناك شبه إجماع -حسب قراءتي لمقالاتهم ومناقشاتهم لهذه القضايا- وهو أن التهديدات هي أعظم من المبشرات ودواعي التشاؤم التي تحكم معطياتها إشراقات التفاؤل.
لقد رصدت هذه المجموعة من الباحثين والفلاسفة خطورة المستقبل القادم للقيم الإنسانية، لا بدعوى التنبؤ بإرهاصاته، ولكن من أجل الحماية من تداعياته الكارثية، وبالخصوص على مستوى القيم الفكرية والثقافية والأخلاقية وحتى الدينية، فقد بدأت تخضع هذه القيم لمنطق العرض والطلب، وحاجات السوق الكبير الذي ساحت به العولمة في كل أودية العالم، وأصبحت المساومات المادية هي لغة التفاهم بين الدهاقنة أصحاب التمويل وعابري البحار من الشركات المتعددة الجنسية، وبين أفراد ومؤسسات الثقافة ومصانع الفكر, وهنا مكمن الخلل الذي يتعدّى سوء الاستغلال للتراث الإنساني والقيم النبيلة التي حفرتها مَسلّة المجتمعات البشرية, وهذا ينذر بكساد قيمي قد يحطّم المجتمع ،ويلاشيه، ويصبح الناس كالمسامير المتحركة في تلك المجتمعات الميكانيكية، أو سلعاً رخيصة لاستهلاك الأقوياء وإلهاء الضعفاء.
هذه المقدمة السابقة هي رؤيتي الواضحة لمستقبل القيم في كثير من أنحاء العالم، بعيدة عن أي نظارة تختزل الواقع في وردة صغيرة. صحيح أن المجتمعات ليست قالباً واحداً في حجم التأثر بل هناك تفاوت في القوة والضعف بينها قد يكون مرده إلى العامل الزمني الذي تحدده العولمة في خطتها للانتشار, وفي منطقتنا العربية القطار قد وصل المحطة، والركاب ينتظرون الدخول فيه لحجز مقاعدهم في رحلتهم نحو المجهول!
أعلم أن هذا التشاؤم لا يليق بالمسلم الذي يصنع الخير من معامل الشر، ويحطم قيود اليأس بالعمل المثمر، ويغرس النخلة، ولو قامت الساعة, لكن الفأل المفرط لا يمنع دقّ نواقيس الخطر القادم من تحولنا إلى سوق كبير يُباع فيه كل شيء, نعم كل شيء حتى الفكر والقيم والإنسان, والمتأمل في اقتصاديات العولمة وأسواقها الحرة رأى كيف تذوب اللغات، وتُهمّش الثقافات، ويُباع الإنسان، أو يُدفن حياً تحت ركام الديون أو البحث عن فتات العيش في مزابل الأغنياء والمترفين. لذلك خرجت صيحات فلاسفة الغرب كـ(جاك دريدا) و(هابرماس) و(بيار) و(ريفكي) و(تشومسكي) و(كنيدي) وغيرهم بالدفاع عن القيم، ولو كانت ناقصة التأثير؛ فالحداثة الغربية بمفاهيميها العلمانية قد ماتت في نفوس الكثيرين، وسقطت في براثن فيروسات الغطرسة والتعالي وازدواجية المبادئ, وورثتها الحاليين ناقمين عابثين محطمين بناء الأسلاف مهما كان جماله في أعينهم.
أنني أشاهد في مجتمعي تلك الصورة المتكررة للاستبداد والاستغلال, وتلك البدايات التي انتهت منها شعوب، وذاقت مرارتها ثقافات، تريد بسط نفوذها تحت هيمنة الإعلام المؤدلج, ووطئت المنتديات الاقتصادية التي يُجلب لها متحدثون من العالم يعيدون تنميط الثقافة وإنتاج القيم للناس، كما يريدون، لا كما نؤمن ونعتقد, لقد اضطّروا المثقفَ والكاتبَ والعالمَ لأن يتوقف عن الإبداع والبحث والتأليف حتى يرتفع الطلب، أو يبيع ما عنده وفق احتياج السوق وأهواء الناس, وعليه دائماً -إذا لم يكن له صديق أو معرّف في هذا السوق- أن يعدّ الجواب لأسئلة الناشرين: كم سيجلب من مال أو يشتري بضاعته الفكرية من أناس، ولو بالإثارة التافهة أو الدّوْس على القيم السامية؟! هذه الحالة المؤسفة خيوط بداياتها تتفاقم في مجتمعنا وملامحها بدأت تظهر في معارضنا للكتاب، وبرامجنا الإعلامية في تحقير العظيم، وتعظيم الحقير، وتحطيم الوعاة، وقراءة سورة يس على مشهدنا الفكريّ الأصيل؟!
===========(13/2)
(13/3)
أيها المجاهدون في (حماس)
أبشروا فـ(إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين)
ناصر بن سليمان العمر * 20/1/1427
19/02/2006
لقد شفى صدورنا وأبهج نفوسنا ونفوس المؤمنين هذا الانتصار الذي تحقق بفوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات الأخيرة، ومن هنا فإننا نقدم التهنئة للمسلمين في فلسطين وغيرها، وللإخوة في حركة (حماس) على وجه الخصوص، ذلك أن انتصارهم وفوزهم فوز لكل مسلم يرى أن حل قضية فلسطين لا يمكن أن يتحقق إلا بأسلمة القضية والالتزام بالمنهج الشرعي، وعلى رأس ذلك الجهاد في سبيل الله، ونسأل الله أن يكون هذا الانتصار محققاً للآمال، وخطوة في الطريق الصحيح لتحرير فلسطين من الغاصبين، ولم يكن هذا الانتصار مفاجئاً ولا غريباً، فإن الشيء من معدنه لا يُستغرب، وهو ثمرة طبيعية لجهاد مشروع وعمل مشكور.
ولا شك أن هذا الانتصار يشير إلى أمور، أهمها:
الأول: أن الأمة تشهد انتصارات عظيمة في مجالات كثيرة، ومنها ما يتعلق بالجهاد، فحب الأمة للجهاد وتضحيتها من أجله، وبخاصة جهاد اليهود، وإدراكها العداوة المتأصلة بيننا وبينهم، انتصار لأهل الإسلام ودعاته، بل هو انتصار عظيم على أولئك المهزومين الذين يحاولون إنهاء القضية بحلول سلمية ذليلة، وهو انتصار للمشروع الإسلامي الذي طال ترقبه وانتظاره.
الثاني: هذا الحدث مؤشر جليّ واضح، يشير إلى إفلاس المنظمات غير الإسلامية، كحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)؛ إذ نجد الفرق الشاسع بين الأصوات التي حصلت عليها (حماس)، وبين الأصوات التي حصلت عليها (فتح) على الرغم من وجود قياداتها وكوادرها على رأس السلطة الفلسطينية، علماً بأن هناك منظمات جهادية لم تدخل في الانتخابات، كحركة الجهاد، ولعلها لو دخلت لاستحوذت على كثير من الأصوات مع أختها (حماس)، وربما لم تحصل (فتح) إلا على القليل من الأصوات.
لقد وصفت وسائل الإعلام العالمية هذا الحدث بأنه (زلزال)، فلا عجب أن يتنادى السياسيون في العالم للاعتراف بهذا الانتصار اعترافاً بالواقع؛ لأن تجاهله لم يعد ممكناً مع أنهم طالما تجاهلوا الجهاد والمجاهدين والمنظمات الجهادية زمناً طويلاً، وهذا يدل على أن الحق ظاهر، وأنه لا يصح إلا الصحيح، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[الصف:8]، وأن العالم لا يعترف إلا بلغة القوة.
بيد أنه لابد أن نعلم أن هذا الانتصار ليس هو الأمل أو الغاية، وإنما هو مؤشر وخطوة في الطريق إذا استُخدم الاستخدام الأمثل، وإلا فآمالنا أسمى من ذلك وأعظم.
ومن هنا فإنني أقول: إن حركة (حماس) تعيش امتحاناً صعباً عظيماً أعان الله القائمين عليها على تجاوز هذه المرحلة، ولعل من أقل ما لإخوتنا علينا أن نبادرهم بالتهنئة، وأن نسعى في بذل النصيحة لهم، ولذا فإنني أكتب هذه الرسالة على شكل نقاط رئيسة، مراعياً في ذلك الواقعية، واستعمال قاعدة المصلحة والمفسدة بضوابطها المعتبرة، وهو اجتهاد أملته المحبة والنصيحة، والمشاركة في هذا الانتصار؛ ليؤتي أكله بإذن ربه، ولو كره الكافرون والمشركون والمنافقون:
* عُرفت حركة (حماس) منذ تأسيسها قبل سنوات، بمنهج معتدل وسطي، مع إعلانها للجهاد ومضيها قدماً في مضماره الذي سلكه قبلها عدد من المجاهدين في سبيل الله، واستطاعت في عقدين من الزمن منذ إنشائها على يد مؤسسها الشيخ أحمد ياسين -رحمه الله الذي نسأل الله أن يتقبله من الشهداء- أن تتجاوز عقبات كثيرة جداً، وأن تقدم تضحيات ضخمة لا تنكر، سواء على مستوى قياداتها، أو على مستوى أفرادها؛ كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، فرسمت منهجاً تجاوزت فيه منعطفات خطيرة، ووُفّقت في ذلك كثيراً:
فأولاً: من الناحية القيادية والسياسية فصلت بين الجانب السياسي والجانب الجهادي، فجعلت لقيادة الجهاد قيادة مستقلة، وجعلت للجانب السياسي الإعلامي قيادة مستقلة، مع تنسيقها بين هاتين القيادتين.(13/4)
ثانياً: استطاعت أن تحدد بعض الخطوط الحمراء بوعي ينم عن فهم ما وراءها، فلم تتورط فيما يتعلق بخلافات داخلية بين أفرادها وأعضائها، ولم تتورط في إشعال الخلافات مع المنظمات الجهادية الأخرى، وتجنبت مزالق كثيرة أُريدَ لها أن تقع فيها، بل استطاعت أن تتجنب الدخول في صدام مع السلطة الفلسطينية مع كثرة استفزازاتها لها، وعلى الرغم من ذهاب عدد من أبنائها ضحية لمثل هذه المؤامرات، ومع ذلك تجاوزتها حركة (حماس) بعقلية إدارية فائقة نادرة، كما أن حركة (حماس) بمنهجها الذي رسمته لم تتورط في عمليات خارج فلسطين، على الرغم من الضغط الواقع عليها من داخلها وخارجها للوقوع في هذا الأمر، وهذا من تمام استحضار الهدف وحسن رؤية الواقع، فلم تنزلق إلى ما كانت تفعله بعض المنظمات غير الجهادية كالحركة الشعبية وغيرها من الحركات المشهورة، سواء الشيوعية أو العلمانية؛ إذ أساءت تلك للقضية الفلسطينية إساءة بالغة، وبحمد الله لم تكن تلك المنظمات تحمل الصبغة الإسلامية، ولا الشعار الإسلامي فضلاً عن الجهاد، أما حركة (حماس) فقد وُفّقت توفيقاً كبيراً؛ إذ حصرت عملياتها وجهادها ونشاطها داخل فلسطين، وهذا من باب السياسة الشرعية، وأرى أن هذا الأمر يعتبر دليلاً على وجود قيادة فذة، ونبوغ فريد، ومعرفة بالواقع، وسياسة حكيمة، (...وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً...)[البقرة:269].
والشاهد مما سبق أنه على الرغم من الظروف التي مرت بها (حماس)، فإنها استطاعت أن تتجاوز كثيراً من العقبات لست في سبيل بيانها أو تفصيلها، كانت تلك بعضها، وبعضها ظاهر معروف، ولعل ما لا نعلمه كثير.
* أعلنت (حماس) من أول وهلة أن الجهاد طريقها لتحرير فلسطين، كل فلسطين، وعلى رأس ذلك القدس والمسجد الأقصى، وفعلاً مضت في هذا الطريق بأسلوب عملي، وقدمت التضحيات المشهودة والملموسة التي لا ينكرها منصف، ولا شك أن الجهاد هو الطريق الوحيد لعودة فلسطين، وما عداه من الطرق الإدارية أو السياسية ليست إلا رابطاً أو مساعداً أو مكملاً للجهاد بالنفس، الذي هو الأصل. ولا يمكن أن يخرج اليهود من فلسطين إلا أن يُخرجوا، ولن يُخرجوا إلا بالجهاد، بل سيُقتلون -بإذن الله- كما هو نص الأحاديث الصحيحة، كما في حديث ابن عمر المتفق عليه: أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله". ولا يعني هذا أنه لن تتحقق انتصارات قبل ذلك، فالتاريخ شاهد على وقوع انتصارات عظيمة، ولكن الأمر قد يكون دولاً حتى يأتي الفتح الأكبر بإذن الله، (...أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة:214]، فإن كان الأمر كذلك فالتاريخ والمستقبل يوضحان أن الطريق الصحيح لتحصيل ذلك هو طريق الجهاد، وما عداه ففروع مساندة ومكملة، وهذا ما ينبغي أن يُتنبّه له، حتى لا يتحول الفرع أصلاً، والأصل فرعاً.
* رفضت (حماس) مساومات اليهود؛ سواء للاعتراف بدويلتهم، أو التنازل بجزء من أرض فلسطين، وهذا موقف تُشكر عليه، مع أنها لو تنازلت لفقدت الأصل الذي من أجله قامت، ولأحرقت أوراقها، ودين الله منصور ولا شك، (...إنّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الأعراف:128]، وقد قدمت (حماس) من أجل المحافظة على هذين الأمرين التضحيات الضخمة، وواجهت الصعوبات والعقبات، واستطاعت أن تتجاوزها بتوفيق الله وإعانته.
* في هذه المرحلة التي فازت فيها (حماس) يأتي الامتحان الصعب، ولذلك يخشى المحبون لحماس أن يتحول الأصل إلى فرع، والفرع إلى أصل، والأصل هو الجهاد، وطلب تحرير كل فلسطين، والفرع هو العمل السياسي كالفوز بالانتخابات، أو الإدارة الذاتية، أو نحو ذلك، فيُخشى مع هذا الانتصار أن تأتي ضغوط على (حماس)، وتشتد المساومات فتبدأ التنازلات التي شاهدناها ورأيناها في بعض بلاد المسلمين، فإنه وإن اختلفت الصورة فالحقيقة واحدة.
والآن يرتقب المسلمون من (حماس) أن تثبت على مبادئها، فلا تتزحزح عن هذين الأصلين: استمرار الجهاد في سبيل الله، وعدم التنازل عن شبر من الأرض المقدسة التي بارك الله حولها ولا ما تاخمها، فهي من أجل ذلك قامت، وقد مضى قياديوها السالفون وهم يقررون أنه لا يملك أحد حق التنازل عن الأرض.
* قد تُدفع (حماس) من أجل أن تحقق بعض الاتفاقيات التي قد تعقدها مع السلطة، أو مع اليهود، إلى خصومات تعوق مسيرتها، وأسأل الله ألا نرى ذلك، وثقتنا في قيادتها، وتاريخها يعزز حسن الظن بها.(13/5)
غير أن الناظر يخشى أن تُدفع إلى ذلك مع المنظمات الجهادية الأخرى، كحركة الجهاد الإسلامي، أو غيرها، بل هناك من يخشى أن يحدث خلاف داخل (حماس) إذا تمت الاستجابة لدفع من يدفعها، فهناك من سيظل ملتزماً بالأصل الذي قامت من أجله الحركة، فإذا تخلت الحركة عن الجهاد، ولو باسم الهدنة المطلقة التي لا يُدرى مداها، فيُخشى أن تحدث انشقاقات تجنبتها (حماس) فيما مضى من عمرها، فكان من أدلة نجاحها، ومن جملة تفوقها، وأحسب أن الحركة -بإذن الله- واعية لهذا الأمر، فقد استطاعت كما قلت في مقدمة حديثي أن تتفادى التورط في معارك داخلية مع منظمات ليست جهادية، بل مع من آذاها، على كثرة المؤامرات وتنوعها، والموقف اليوم أشد حساسية من ذي قبل.
* يرى كثير من المحبين لحماس أن تقبل تشكيل الحكومة مع الاستمرار على منهجها السابق، فإن حيل بينها وبين ذلك فهذا انتصار لها؛ لأن العالم أجمع سيعلم أنها قد ظُلمت، وأن خيار الشعب قد أُلغي، كما أن ذلك سيزيد من مكانتها في نفوس محبيها الذين انتخبوها. و(حماس) يوم انتُخبت بإرادة الشعب الفلسطيني انتُخبت لمحافظتها على أصولها التي أشرت إليها من الجهاد، وعدم التفريط في شيء من الأرض الفلسطينية، وعدم الاعتراف باليهود.
* الانتصار الحقيقي هو الثبات على المبادئ مهما كانت النتائج، وحسبك أن بعض الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، لم يؤمن معهم أحد، وأصحاب الأخدود ثبتوا على دينهم فحُفرت لهم الأخاديد، وحرقوا بالنار، ولم ينجُ منهم أحد، حتى الذراري والنساء، فضلاً عن أن يقيموا دولة أو دويلة، ومع ذلك كان لهم الانتصار المدوي عبر الأجيال، (...ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)[البروج:11]، وبعضهم آمن معه رجل واحد، ومع ذلك كتب الله لهم الانتصار كما قال عز وجل: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...)[غافر:51]، فالأنبياء قد انتصروا مع أن بعضهم قد قُتل، وبعضهم يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، فالانتصار الحقيقي ليس ما زعمته السلطة من حصولها على بضعة أمتار، أو على قطعة من الأرض في بلاد فلسطين، لا تستطيع أن تتصرف فيها، بل لايسع رئيسها الخروج من بقعة منها كما حدث لعرفات في رام الله، سنوات عدة.
وإنما الانتصار الحقيقي هو الثبات على المبادئ التي عُرفت بها، وأعلنها قادتها منذ إنشائها، حتى لو مُنعت، حتى لو أُقصيت، فلن يضرها ذلك أبداً، بل يزيد من مكانتها ومن دعمها ومن حب الناس لها، وهذا هو الانتصار الذي سوف يمهد الطريق للانتصار الآخر الذي هو ثمرة انتصار المبادئ، وإذا انتصرت المبادئ فقد تحقق النصر الأعظم بإذن الله، ثم قد يتبعه انتصار آخر على أرض الواقع، كما قال الله جل وعلا: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ...)[الصف:13]، فقوله: (وأخرى) مشعر بأن الانتصار الحقيقي هو إقامة الجهاد، والثبات على المبادئ، وإعلان الدين، ثم تأتي من بعد ذلك انتصارات أخرى ظاهرة للعيان، وهي ولا شك من جملة الانتصار.
فمن حافظ على مبادئ هذا الدين، وعلى أصوله فهو المنصور بإذن الله، ومن تخلى فلن يضر إلا نفسه، (...وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد:38]، (...وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ...)[محمد:4].
* انتصار (حماس) انتصار للمجاهدين في فلسطين أينما كانوا جماعات وأفراداً، لذا فإن عليهم أن يتجنبوا الدخول في أي صراع أو خلاف مع (حماس)، وأن يدعموهم بكل ما يستطيعون، وأن يتعاونوا لتحقيق الهدف المنشود، كما تعاونوا من قبل، حتى وإن اختلفت الرؤى الفرعية في بعض المسائل الجزئية، فلا يضرهم ذلك، وإنما يتحمل تبعتها من رآها، وهي مسائل اجتهادية لا يسوغ فيها الإنكار والخصومة ما دام لها وجه في الشرع، وأفتى بها من يوثق بدينه وعلمه، وهو انتصار للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ لذا لا بد من الوقوف مع حماس ودعمها والذب عنها، وإن اختُلف معها في بعض الاجتهادات المشروعة (...وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...)[الأنفال:46].
فإذا كان الأمر كذلك فإننا لا نشك في تحقق النصر عاجلاً وآجلاً، بإذن الله.(13/6)
* الأمة تنتظر من (حماس) أن تقدم أنموذجاً للدولة المسلمة المحكمة لشريعة الله في الأرض، ملتزمة بمنهج الوسطية الذي هو سمة هذه الأمة، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، مقيمة للعدل، ناشرة للعلم، وهم لا يطالبون بمستحيل، ولا ينتظرون معجزة، وإنما التزاماً بقوله سبحانه وتعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ...)[التغابن:16]، وقوله صلى الله عليه وسلم "سدّدوا وقاربوا واعلموا أنكم لن تحصوا"، والجميع يدرك ما دون ذلك من عقبات وصعاب، ولكنه حسن الظن بالله، ثم الثقة بالإخوة وقدرتهم على تجاوز مثل ذلك، وليثقوا بعد ذلك بوعد الله الذي لا يتخلف (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج:41].
وختاماً فليوقن الإخوة في (حماس) بأن الأمة كلها مقبلة على الجهاد الواضح البين الجليّ مع أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، وقد بدت بوادره في الآفاق، ولعل ما رأيناه من ظهور لـ(حماس) دليل على صحة التفاؤل بغد واعد، ودليل على أن المستقبل لهذا الدين، وأن دين الله منصور، على الرغم من الغمة كما قال سبحانه: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ...)[يوسف:110]، فالعزيمة العزيمة، والثبات الثبات على الأصول والمنطلقات، وحذار من أن يعود الفرع على الأصل بالإبطال، فقد قرر علماؤنا أن الفرع إذا عاد على الأصل بالإبطال فهو باطل، والفرع إذا عاد على الأصل بالفساد فهو فاسد، فإذا كان قيام دويلة صغيرة في داخل فلسطين تحت ظل اليهود سيقضي على الأصل وهو الجهاد، أو سيقود للاعتراف بالعدو والتفريط بالأرض، فلا شك أن هذا بلاء وفتنة.
هذا والله أسأل أن يوفق المجاهدين في (حماس) لاجتياز هذا الامتحان، وأن يسدّدهم، وأن يعينهم، وأن يجنّبهم شرّ أنفسهم وشرّ أصدقائهم وأعدائهم، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يذلّ الشرك والمشركين (...وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)[يوسف:21]، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين.
* المشرف العام على موقع (المسلم)
=============(13/7)
(13/8)
انعكاسات لأِزمة الفهم
غادة أحمد 17/1/1427
16/02/2006
سوء الفهم على مستوى الفرد يُشكّل أزمة له و لمن يتعامل معه، و يزداد تفاقم هذه الأزمة كلما اتسعت الدائرة، و أسوأ ما تكون عندما تتسع لتشمل المجتمع ككل في رؤيته لقضايا عدة، فينعكس ذلك على محاولات التقييم و الطرح و العلاج و الذي أحوج ما يكون للإنصاف و الموضوعية و الشمولية.
سوء الفهم للواقع الذي نحياه و عدم بذل الجهد لسبر أغواره و المتغيرات التي تحف به، و مع العجز عن المواجهة، يؤدي بنا في كثير من الأحيان لممارسة لون من ألوان الهروب الخفي فنتلفع بعباءة التاريخ - و الذي نتوهم أنه يستر الكثير من السوءات، و التي بات سترها أكبر همنا! - في محاولة للتنصل من أعباء المواجهة، و هذا بدوره يوفر لنا فرصاً كثيرة لتسويغ ما نحن عليه من سوء الحال و المآل، فلو كان عندنا صلاح الدين أو قطز أو ابن تيمية ... الخ، لكانت مشاكل البشر جميعاً فضلاً عن أزماتنا كالصدقة في زمن الغنى و فيض الأموال.
و ليتسع الرتق في سوء الفهم، فهو ليس لهذا الواقع فحسب، بل و لكثير من آيات الله تعالى، و إلا فأين نحن من قوله تعالى: (...اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...) [الأنعام: من الآية124]، (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ...)[البقرة: من الآية134].
هؤلاء الذين صنعوا الحياة في زمانهم، أتراهم لو عادوا لزماننا هذا أكانوا يملكون من الأمر شيئاً، و هذا الهروب الساذج الذي نمارسه يعطل العقل عن التوقف و التدبر، فتنقلب المعايير لعدم وضوح الرؤية، ولا يقتصر الإعذار على افتقاد مثل هذه النماذج، بل لعلنا نضيف أنه لولا تقصير الأولين و سوء فعلهم ما كان إرثنا لهذه التركة من التخلف، و نقعد نندب سوء حظنا وننوح على أحوالنا، و المولى سبحانه و تعالى يخاطبنا بقوله: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ...)[لأعراف: من الآية173].
فنحن في الحالين بُرَآء من الذنب براءة الذئب.
و يمتد بنا سوء الفهم، و يسافر معنا عبر مراحل الزمان، فنبحث عن أمة، بل أمم في زماننا هذا تحمل عنا عبء البطالة و العنوسة و الفقر و تشويه اللغة ...الخ، فلولا العمالة الوافدة من شتى بقاع الأرض، و لولا الزواج من المسلمات الأجنبيات! و ننسى أنها أزمات تعاني منها منطقتنا العربية كلها، بل العالم بأسره، و ننسى (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون:52]. إن أنّ مشرقها بآهٍ، ردد مغربها صداه.
و هذا بدوره يقودنا لتلمس أزمة الفهم التي نعاني منها في تعاملنا مع القرآن، ففي الأمة نهضة لحفظ كتاب اللهK و لا شك أن ذلك خيرٌ كبير، فهناك من يمتلكون موهبة الحفظ المتقن، و لكن هذا لا يسوّغ أن يصل بنا الأمر لممارسة عقوبة الضرب مثلاً و الحرمان مما يحبه الأطفال ليستظهروا الآيات، و لكم ننتقد سياسة الحفظ كآلية معتمدة في مسيرة التعليم، و لكن لا بأس من اعتمادها عند التعامل مع القرآن! و لننظر إلى ما يؤول إليه الحال، و لنتدبر! انعكاس مهارات الحفظ على أخلاقنا و تعاملاتنا و اقتصادنا و سياستنا ....و عالميتنا! في زمان العولمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
نعيش أزمة فهم لماهية التربية من حيث أنها ثقافة تؤثر في السلوك، و تقويم في الاتجاه الذي يحبه الله و يرضاه، مما يستلزم منا استمرارية ضخ الكثير من القيم و المعاني في عقول الناشئة و وجدانهم فتتراكم و تترسخ، و لا تكون يوماً عرضة للمساومة .
فليس من المفترض أن ننتظر حتى يكذب أولادنا لنبدأ في تعليمهم قيمة الصدق، أو أخذهم ما لا يحل لهم لنشرع في تبيان الحلال و الحرام، وقد نفعل ذلك من دون استصحاب أنهم مخلوقون لزمان غير زماننا، فلا نعتمد التجديد و الإضافة لقيم و مفاهيم لنتناسق و نتناغم مع سنن التغيير و التطوير في هذا الكون، فالشرع حاكم على العرف و المسلم منتج قبل أن يكون مستهلكاً، و ما هو الإنتاج؟ و ما معنى التنمية؟ و كيف يكون التدريب و الذي وصل نصيب الفرد الياباني منه في السنة ما يوازي (320) دولاراً و الأمريكي (200) دولار و العربي 1.5 دولار؟* ، و عندها فلن نعثر على طفل في العاشرة يرى أن امتلاك هاتف نقال حق أصيل له، لماذا؟ ما الهدف؟ سوى أن زملاءه على هذا الحال، فيحكمه العرف دون الشرع الذي يربيه كي يساهم في تحويل أمته من أمة مستهلكة إلى أمة منتجة، و أننا نتميز لا بما نملكه و إنما بما نكونه.
و الرجولة وفق التحديث اللازم و لكي تستعصي على المساومة، هي الاستعفاف و التزام وسطية الشرع عند استشراف الجمال فلا تخضع لعرف الفضائيات، و من ثم فلن نعثر على شاب يساهم في رفع أسهم أمته في بورصة الاستهلاك عندما تنفق المرأة في منطقة الخليج و في عام واحد فقط أربعة مليارات ريال على أدوات الزينة و التجميل**، غير ما يُنفق من الجهد و الطاقة .(13/9)
نعيش في أزمة فهم متبادلة بيننا و بين الغرب، و نطالبهم بما يتوجب علينا أن نكون من أربابه، لا من أجلهم، و إنما من أجل أن العدل و الإنصاف من ثوابتنا
ما أشد تعرض الاجتهاد وفق الكتاب و السنة و من علماء أفاضل لتهمة التعمد للمساس بالثوابت!!
و ما أهون التخلي عن هذه الثوابت عند تقييم الآخر المخالف لنا في العقيدة!! (...وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا...)[المائدة: من الآية8]، و كأننا نخشى إنصافه، و الذي قد يكشف سوءات تقصيرنا في الأخذ بزمام العلم و التقدم والذي برع فيه و حاز السبق.
و لِمَ لا نفعل؟ ألم نعش أزمة فهم عقوداً طويلة كان شعارها "...و من نافسك في الدنيا فألقها في نحره "!
و ها نحن قد ألقيناها بكل ما فيها دون تحقيق لسندٍ أو متن أو فتوى تتغير زماناً و مكاناً، فما بال الأقوال المأثورة؟
لا نفرق بين إرادات الشعوب و الحكومات، فهم و بكل إصرار عندنا سواسية و على نفس القدر من الفهم و الاستيعاب، ما أرادوا بنا إلا شراً، و ما أضمروا حيالنا إلا السوء، و ما يكتب منهم و لو مفكر واحد أو عالِم ما فيه إنصاف للمسلمين، و ما يعكس رغبة الكثير منهم لمعرفة الإسلام، و الذي قد تجد صوراً لتطبيقه مما ينبئ عن رغبة هذه البشرية في العيش في أمن و أمان و سعادة و سلام، فحين تُنذر أُم مسلمة في كندا بأخذ أولادها لتشرف على رعايتهم الجهات المتخصصة؛ لأِنها أهملت بتركهم بمفردهم، و هما في الثالثة و الخامسة من أجل الذهاب لعملها، مما استلزم اتصال المدرسة الملحق بها الثاني للاستفسار عن سبب تَغيبه، و الذي كان بسبب مرض الأول، و عدم تمكن الأم من المكوث بجانبه، فتذهب إحدى المسؤولات و تحصل على مفتاح السكن، و الذي يتوجب ترك نسخة منه مع الحارس، و تقوم بإعداد طعام الإفطار، و رعاية الأولاد لحين عودة الأم، و التي اعتذرت بعدم معرفتها بقوانين البلاد، أوَ لم تكن على علم بالشرع؟
أوَ ليس هذا من النظام الجميل و الانضباط الذي يحبه الإسلام و يرضاه لصلاح البشر جميعاً؟
و حين يقر مجلس اللوردات البريطاني قانوناً برفض الأدلة التي تُؤخذ تحت التعذيب، ألا يقرب هذا المسافات بيننا و بين تلك الشعوب، و تلك العقول المنصفة؟! وكثير؛ فلا يخلو مجتمع من خير و قيم و مثل، و لا ينفرد آخر بالشر و الأذى و العدوان.
ليست دعوة للتعاطف المطلق مع الغرب و تجاهل ما ترتكبه حكوماته في بلاد المسلمين، و إنما محاولة لرؤية أكثر وضوحاً حتى - و مهما كانت الضغوط - لا تُخدش ثوابتنا .
و في سياق ذي صلة يمتد سوء الفهم فيتهيأ لبعضنا أن التحقير و التصغير لمن اعتمدوا أفكاراً تُنسب إلى الحداثة و العلمانية و العصرانية ...الخ هو الأسلوب الأمثل لمخاطبتهم، و لعل منهم الجاهل أو المتأول، و حتى لو كان متعمداً، أوَ ليس من بين جوانحه نفسٌ تتألم، و إذا كان التوجيه الإلهي بعدم المبالغة في إلحاق الأذى بالكافر المحارب (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ...)[النساء: من الآية104]، بل إن أراد سماع الحق فلا تحقير و لا تصغير، و إنما (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ...)[التوبة: من الآية6]، فما بال من لا يزال ينطق بالشهادتين، و إذا لم يأت فلماذا لا نذهب نحن، و نحن الأكثر قوة و ثقة بالحق الذي نملكه (...ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ...)[المائدة: من الآية23]، و ما كان أرفق و أجمل رد أحد علمائنا الكرام في مؤتمر الحوار الوطني بأبها حين طالب أحدهم بفك الارتباط يبن النشاطات الخيرية و أعمال الإغاثة فلا تُحاصر بالإسلام، فهذه أعمال إنسانية لا وطن لها و لا دين، فتأتي الحجة الهادئة تقرع مثيلتها و تفندها، - ما صاحبها غمز و لا لمز و لا تحقير، وهكذا كل من كان له نصيب من علمٍ أو حكمة - و لماذا إذن لا تتكرر نفس الدعوة من صاحبها بفك الارتباط المزمن بين النشاطات التبشيرية و أعمال الإغاثة؟
أزمة الفهم التي نحياها تعكس سؤالاً ملحاً ... لماذا هذه العلاقة الحميمة بيننا و بين سرعة الاصطدام بالآخر؟
أم هو اصطدام مع النفس؟!
فتكون أزمة الفهم التي يعاني منها المسلمون - و ما سبق كان على سيبل المثال لا الحصر - هي فرع عن أزمة فهم مع النفس
================(13/10)
(13/11)
يا دعاة الأمة... لا تكونوا كالحديث الضعيف!
د. محمد بن سعود البشر 15/1/1427
14/02/2006
العلماء هم حملة الرسالة، المبلّغون عن الله، وهم بذلك موضع ثقة مجموع الأمة، وآحاد المجتمع، ننتظر منهم الكثير في هذا الوقت الذي يشهد أصواتاً تتطاول على العقيدة، وتسخر من القيم.. أصوات ذات نفس ليبرالي عفن، تنطلق من كيانات علمانية مستنسخة، تنفث في أجوائنا مناهج مستقاة من حمأة موبوءة، تنخر في البناء العقدي والفكري باسم التنوير ومحاربة الجمود، تقودها أقلام حظيت بمباركة كبار الأبالسة منهم، فأفردوا لأتباعهم ومريديهم ومن سار في ركبهم مساحة الكتابة وحرية التعبير، وحجبتها عن غيرهم ممن يمثلون ضمير الأمة وهوية المجتمع، هذا الزحف الليبرالي المسنود بدعم إعلامي يحتاج إلى وقفة مشهودة من العلماء والدعاة؛ ليقولوا كلمتهم الصادقة الناصحة في شأنهم.
ننتظر منكم أيها الدعاة أن تبيّنوا خطرهم وعظيم أثرهم لمن يملك قرار وقف تمردهم والحد من زحفهم، وننتظر منكم أن تضاعفوا من الجهد لتحديد موقف الأمة منهم، فلقد يسر الله لكم من وسائل التقنية للقول الفصل فيهم ما لم يتيسّر لأسلافكم، وإن كلمتكم ستبلغ فيها ما بلغ الليل والنهار.
يا دعاة الأمة.. لا تكونوا في وقفتكم تجاه هذه الشرذمة الليبرالية مثل الحديث الضعيف الذي لا يُؤخذ به إلا في باب الترغيب والترهيب، فلم يعد ينفع مع هؤلاء حديث زهد ولا موعظة، وقد آن الأوان أن يُقوّي بعضُكم بعضاً، ويعضد بعضُكم بعضاً، ويصل حديثكم متواتراً إلى من كلمته أقوى من أحاديث الترغيب والترهيب.
وإن من أهم وسائل التقوية والمعاضدة ليُحتجّ بقولكم عند من لديه القول الفصل أن تضاعفوا من الرصد والتحليل لما يُنشر من تلك الفئة عن ديننا وعقيدتنا ووطننا، وأن تتقدموا به إلى أهل القرار، ليعلموا أن الليبراليين وأهل الفجور الفكري والعلمنة الثقافية إنما هم شجرة خبيثة في بيئة طاهرة يجب أن تُجتثّ من فوق الأرض، ولا يكون لهم في مجتمعنا قرار، فهذه أولى وأهم مراحل المفاصلة مع القوم بكل صورها.
=============(13/12)
(13/13)
"العمل السياسي المعاصر في ضوء السياسة الشرعيّة"
حماس نموذجاً 1/2
أ.د. عبدالله بن إبراهيم الطريقي 14/1/1427
13/02/2006
ابتداءً أعتذر للقارئ الكريم بأنني لست خبيراً سياسياً في مجال العمل، ولا متخصصاً في القانون أو الأنظمة السياسية، ولذا فسيكون حديثي مجرد اقتراحات من كاتب ليس يخلو من معلومات في السياسة الشرعية، أزجيها لإخواني في فلسطين، ولاسيما في حركة حماس الإسلامية؛ إثر فوزها في الانتخابات التشريعية.
ولعل من الأفضل أن أجعل حديثي في سلسة من النقاط بغية التركيز، والبعد عن التكرار.
• أهمية العمل السياسي:
لا يماري أحد في أهمية السياسة في حياة الأمم، والأمة المسلمة دخلت غمار السياسة منذ نشأتها؛ إذ مورست السياسة في أصولها ومظاهرها الرئيسة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفته حاكماً ورئيساً لدولة المدينة..
ثم نهج الخلفاء الراشدون منهج النبوة مع اكتمال عناصر السياسة والدولة في عهدهم، واستمر المسلمون على ذلك مع وجود تطورات في الأنظمة السياسية.
وقد حرصت الأنظمة السياسية في التاريخ الإسلامي -على الرغم من اختلافها وتقلبها- على الإبقاء على كيان الإسلام وكيان الأمة المسلمة، قروناً طويلة، إلى أن مزقها الاستعمار العسكري والثقافي.
وفي عصرنا الحديث عني الكثيرون بالسياسة، ولاسيما في وجهها النظري.
إلا أن الاهتمام بالسياسة الشرعية، أو قل السياسة في الإسلام ليس كما ينبغي.
ومع ذلك نلحظ أن ساحة العمل السياسي لم تشغر من مفكرين ومنظرين وممارسين ممن لهم عناية ودراية بعلوم الشريعة أو الثقافة الإسلامية بصفة عامة.
وقد وُجدت عدة تجارب في بلاد إسلامية حاولت خوض معترك السياسة من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، مثلاً: ( باكستان، مصر، السودان، الأردن، اليمن..).
وربما يرى البعض بأن تلك التجارب لم يُكتب لها النجاح المأمول، وقد يبلغ اليأس ببعضهم إلى درجة المراهنة على إخفاق أي خطوة عملية في مجال السياسة.
وأعتقد أن هذا يأس مذموم؛ بدليل أن الملك عبد العزيز ابن سعود استطاع في منتصف القرن الماضي أن يؤسس دولةً إسلامية عصرية، توافرت لها عوامل النجاح، واستمرت على ذلك إلى الآن.
• الوضع العالمي الراهن:
إن الوضع الذي نعيشه ليس عادياً، فعالم الغرب والشرق يموج بالمتغيرات، وأسباب القوة توافرت لدول غير مسلمة؛ حتى صار بيدها الحل والعقد للأوضاع العامة في العالم.
ثم تطوّعت هذه القوى المستكبرة فصنفت الدول والشعوب وفق سلّم جائر، وأصبح العالم الإسلامي بموجب هذا التصنيف في آخر السلّم.
ولا شك أن ذلك يفرض على كل قائم بأمر أن يأخذه بالاعتبار.
• السياسة الشرعية ضرورة:
إذا أُطلقت "السياسة الشرعية" فإنها تنتظم أمرين:
أحدهما عام، والآخر خاص.
أما العام فالمراد به ما يقابل السياسة الوضعية، ويكون المراد بها مطلق التشريعات الإسلامية، أي السياسة التي تأخذ بالإسلام ديناً ومنهج حياة، ويقابلها هنا السياسات غير الإسلامية، سواءً كانت لا دينية "علمانية"، أو ذات دين غير إسلامي.
وأما المعنى الخاص: فيُراد به ما تعارف عليه فقهاء الإسلام من التصرفات والتدبيرات الحازمة التي يأخذ بها الحاكم سواء أكان قاضياً أم إماماً أم أميراً..
أو جملة التدابير والتنظيمات القائمة على الاجتهاد من لدن ولاة الأمر في دولة الإسلام، من أجل مواجهة الواقع المتغير.
وكلا المعنيين السابقين (العام والخاص) مهم، بل ضروري في المجتمعات المسلمة، فإن الأول هو ما يميز بين الدولة المسلمة وغير المسلمة، والثاني يميز الدولة المسلمة العصرية والمتطورة عن الدولة المسلمة الخاملة، أو ذات الفكر الجامد ( الظاهرية الجامدة).
• قواعد عامة:
يذكر أهل العلم الباحثون في مجال السياسة الشرعية جملةً من القواعد التي تُبنى عليها هذه السياسة.
ويمكن تقسيم هذه القواعد قسمين:
القسم الأول: مصادر السياسة الشرعية ومواردها.
والقسم الثاني: مرتكزات السياسة الشرعية.
فالقسم الأول، هي مصادر تستمد منها السياسة شرعيتها وقوتها ووجودها.
والحقيقة أن هذه المصادر نوعان بحسب السياسة التي يُراد شرعنتها، فإن كانت السياسة الشرعية المقابلة لغير الإسلامية فمصادرها إجمالاً: الوحي المنزل مع الإجماع والقياس، ثم بقية المصادر التبعيّة: كالمصلحة المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب، وسد الذرائع، والعُرف.
وإن كانت السياسة الشرعية، المقابلة للظاهرية الجامدة، فمصادرها في الجملة هي المصادر التبعية المشار إليها، وهذه المصادر - الأصلية والتبعية - كلها تقتبس من مشكاة النبوة المحمدية، وهو ما يميز بينها وبين المصادر البشرية عقلية كانت أو عرفية أو دينية.
وأما القسم الثاني من القواعد، وهو المرتكزات والأعمدة التي تنهض عليها السياسة الشرعية فإنها كثيرة، وأهمها فيما أرى:(13/14)
1) العبودية الصحيحة والشاملة لله رب العالمين لا شريك له. في كل شؤون الدولة، ممثلةً بأفرادها ومؤسساتها.(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162]. والمسلم يعترف بهذه العبودية في كل ركعة يركعها لربه. (إياك نعبد وإياك نستعين)، وبتحقيق هذه العبودية يستحق العباد الاستخلاف في الأرض، كما قال الله جل وعلا:(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...)[النور: من الآية55].
2) التزام قيم الإسلام الخلقية في كل التصرفات، وبخاصة المعاملات والعلاقات البشرية، ويأتي في مقدمة هذه القيم:
أ ) العدل، مع النفس، ومع الخلق كافة، قريبهم وبعيدهم، صديقهم وعدوهم، يقول الله سبحانه وتعالى: (...وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات: من الآية9]، ويقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى...) [النحل: من الآية90].
ب ) الصدق في القول والعمل؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة. كما في الحديث. وضده الكذب، وهو من خصال النفاق والفجور.
ت ) الوفاء بالعهود والمواثيق. يقول الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...)[المائدة: من الآية1]، ويقول سبحانه: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)[الإسراء: من الآية34].
ث ) الرفق والتسامح في المعاملة؛ فإن الله تعالى رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ومن الرفق العفو والصفح، والكلمة الطيبة، ولين الجانب، والجدال بالتي هي أحسن، والحلم، والكرم، والصبر.. وقد جاءت الأدلة الصحيحة والصريحة في هذه الخصال وأشباهها.
ج ) المعاملة بالمثل، يقول الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...)[النحل: من الآية126].
ح ) البر والإحسان بكل نفس منفوسة؛ ففي الحديث (في كل ذات كبد رطبة أجر)، والبر كلمة جامعة لكل خصلة جميلة من الأقوال والأعمال، والاعتقادات. يقول الله سبحانه: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177]. مراعاة الواقع، أو الحاضر الذي يعيشه العالم.
إن أي دولة، أو مؤسسة أو حركة علمية أو دعوية أو غيرها ما هي إلا جزء من الخريطة في هذا العالم، الأمر الذي يتطلب وعياً رشيداً وفهماً سديداً لهذا الواقع، من حيث تنوعه الثقافي والحضاري، ومن حيث توجهاته وأهدافه، ومن حيث تغيره وتقلباته.
ومن معالم هذا الحاضر التي ينبغي مراعاتها وأخذها بالاعتبار:
1- ضعف الأمة المسلمة وتفرقها، برغم كثرة عددها البشري الذي يزيد عن المليار مسلم، وتعداد دولها الذي يتجاوز الخمسين دولة.
وهذا الضعف لا شك أنه يضاعف المسؤولية على أصحابها، وعلى أهل القدرة وأهل الرأي والعلم والحكمة.
لكنه في الوقت نفسه لا يجوز تجاهله عند النظر إلى الأمة بصفتها الجماعية.
2- التنظيم الدولي القائم على التكتلات والتجمعات، من خلال المواثيق والمعاهدات الدولية.
وبموجب هذا التنظيم لم يعد باستطاعة الدولة، أي دولة أن تنفرد أو تشذ عن هذا التنظيم.
نعم تستطيع أن تكون فاعلة ومؤثرة فيه، ولكنها لا تستطيع أن تبتعد عنه.
والدولة من خلال عضويتها تستطيع أن تحقق المصالح لنفسها، أو على الأقل تدرأ المفاسد، وهذا لا يخرج عن مبدأ التعاون المشروع، يقول الإمام ابن تيمية: "وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر؛ فالتعاون على جلب مصالحهم، والتناصر لدفع مضارهم؛ ولهذا يُقال: الإنسان مدني بالطبع". مجموع الفتاوى62/28، وتأمل الجملة الأولى من كلامه.
3- مبادئ القانون الدولي العام، المنظمة للعلاقات الدولية وحقوق كل دولة وواجباتها، مما لا يتعارض مع قواعد التشريع الإسلامي ومبادئه السامية.
ومراعاة هذه المبادئ أمر يفرضه الواقع، ولو أن كل دولة تمردت على تلك المبادئ وخرجت عليها لتحولت الأرض إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، حيث لا رادع خلقياً ولا وازع سلطانياً يمنع الأقوياء من التهام الضعفاء؛ نظراً لغياب القوة الإسلامية العادلة.(13/15)
إلا أن هذه القوانين على رغم غياب الشريعة الإسلامية عنها، فإنها لا تخلو من قيم إنسانية عامة ومشتركة يتفق عليها العقلاء، كالعدل النسبي، والوفاء بالعهود، ودفع الظلم، والتعاون على مصالح الحياة.
3) ومن المرتكزات التي تقوم عليها السياسة الشرعية: مراعاة التدرج في تطبيق الشريعة، أو الأنظمة، وفي تحقيق المصالح ودرء المفاسد، لاسيما إذا كان مجال التطبيق عموم مجالات الحياة، ويصدق هذا على المجتمعات التي لم تعهد تطبيق الشريعة الإسلامية من قبل، أو تمارسها في السلوك الفردي فقط دون الحياة العامة.
وأياً كان صاحب الإرادة، سواءً أكانت دولةً قائمة أو ناشئة، أو حزباً أو حركة أو غير ذلك.
ويُقصد بالتدرج هنا السعي في تحقيق ما يمكن تحقيقه من المصالح ودرء ما يمكن درؤه من المفاسد، بعيداً عن المثاليات أو التشنّجات.
وذلك ما يتفق مع فطرة الإنسان وعقله السليم، وهو مقتضى طبيعة الأشياء.
ومما يشهد لهذا الأصل:
أ أن الشريعة -ممثلة بالوحي الإلهي- تنزلت منجّمة في نحو ثلاثة وعشرين عاماً، هي مدة بقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ نزل عليه الوحي إلى أن اختار الرفيق الأعلى.
ب أن تطبيق الأحكام ومثلها الأنظمة دفعةً واحدة وبقرار واحد، أو الإصرار على تحقيق جميع المصالح ودرء المفاسد ليس من الحكمة في شيء، بل فيه تعسّف ظاهر.
فمن هو ذلك الحاكم، أو الحكومة أو الحزب الذي باستطاعته أن يصدر قراراته الحاسمة التي تحوّل المجتمع من الكفر إلى الإيمان، ومن الطاعة إلى العصيان، ومن مجتمع كافر إلى مجتمع مؤمن، أو مجتمع غارق في الرذيلة إلى مجتمع فاضل؟!
بل من ذلك المسؤول الذي يستطيع أن يحوّل مؤسسة: تعليمية، أو إعلامية أو اقتصادية مثلاً من مؤسسة علمانية إلى مؤسسة إسلامية بمجرد إصدار قرار؟!
أجل.. إن الأمر يتطلب -لزاماً- تهيئة النفوس وتجفيف منابع الفساد والانحراف، ونشر العلم الشرعي عن طريق الكلمة الطيبة، والتربية الناضجة، والقرارت المتأنية والحكيمة؛ لتكون محلاً للقبول والاستقبال الحسن.
ت وقاعدة (اتقوا الله ما استطعتم) خير برهان على تلك الدعوى؛ ولهذا جاء في الحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". ولم يقل: فافعلوه.
وفي الحديث الآخر: "خذوا من العمل ما تطيقون".
ث يقول أهل الحكمة: (إن ما لا يُدركُ كلُّه لا يُتركُ جُلُّه)، وهي حكمة صحيحة؛ لأن إدراك الكل غير ممكن في معظم غايات البشر وقدراتهم.
4) وأعتقد أن أهم مرتكز يمكن أن نختتم به المرتكزات هو إخلاص العمل لله رب العالمين لا شريك له، من لدن المسؤولين عن العمل السياسي وتطبيق الشريعة الإلهية، سواء كانوا كباراً أو صغاراً، أمراء أو وزراء، أو علماء أو دعاةً أو مديرين، فكل يحتاج إلى الآخر، (فإن الخوافي قوة للقوادم).
وإن الجميع بحاجة شديدة إلى النية الحسنة القائمة على طلب رضا الله سبحانه وتعالى، وإعلاء كلمته، وإظهار دينه وإعزازه، ونصرة أهل الإسلام، وتحقيق العزة لهم، وجلب المصالح العامة لهم، ودرء الفاسد بقدر الإمكان عنهم.
فهذه مقاصد عظيمة ترضي الله تعالى وتستمطر رحماته على هذه الطائفة، بل كل مجتمعها، بل ربما عم خيرها أهل الأرض.
وصدق الله العظيم في قيله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة:5]. وصدق رسوله الكريم إذ يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى
=============(13/16)
(13/17)
هذه عطاءات البلد الحرام: فماذا أعطيناه
الشريف حاتم بن عارف العوني 3/11/1426
05/12/2005
في خضمّ أحداث الحياة، وصخب الحضارة، وازدحام المشاغل، وهموم المعاش، وأكدار الدنيا من الأمراض والأتعاب وأنواع الابتلاءات = هناك لحظات في حياة المسلم تسمو على ذلك كُلّه، ترتاح فيها نفُسه من أنواع الهموم والغموم، بل تصفو من آثارها، وتعلو عليها، وتحلّقُ إلى السماء، في خطاب ربّ السماء (سبحانه)؛ إنها اللحظات التي يتوجّه فيها المسلم في كل بقاع الأرض إلى البلد الحرام لأداء الصلاة خمس مَرّات في اليوم والليلة.
شاء الله تعالى أن يجعل التوجُّه إليه والخضوع له واللجوء إلى جنابه منوطاً بالتوجُّه إلى البلد الحرام، في الصلاة والدعاء (إذ من مُستحبّات الدعاءِ وأسباب الإجابة التوجُّهُ إلى القبلة)، وفي الحج ومناسكه، وفي كل ساعات القُرب ومجالس الشَرفِ على مَدى الحياة، بل إلى ما بعد الممات، عندما يُوّجَّهُ المسلمون في قبورهم إلى القبلة= كل ذلك والمسلمون متعلّقةٌ قلوبهم بالبلد الحرام!!
- فإلى جهته: يُوحَّدُ الله تعالى.
- وإلى جهته: تُنْصَبُ القامات، وتذلُّ الأنوف الشامخات، وتسجد الجبهات، في الصلوات والدعوات وصنوف القُربات.
- وإلى جهته: يرفع المسلمون حاجاتهم، وتضرُّعَ دعواتهم، إلى ربهم، الذي أحبّ أن يجعل البلد الحرام جهةَ التوجُّهِ إليه.
عندها.. تتحقّق الحاجات، وتنزل الرحمات، وتُحيط بالمسلم الألطاف، وتحفُّه الملائكة الأشراف.
وعندها.. يرضى الرحمن، ونتحبّبُ إلى ربّنا المنّان، وتعلو منازلنا في الجنان، ونفوز بالنجاة من النيران.
هذه العطاءات كلّها (وهي كل العطاءات، فبها تتحقّق سعادة الدنيا والآخرة) قدّرها الله تعالى بالتوجُّه إلى البلد الحرام!!
فلا عجب بعد ذلك أن تُصبح القلوبُ به متعلّقةً، والأفئدةُ له هاويةً، والوجوهُ إليه متوجهةً!
ولا عجب بعد ذلك أن لا يُذكر البَلَدُ الحرام في كل بقاع الأرض إلا رفرفرت قلوبُ المسلمين شوقاً إليه، وذرفت عيونهم صادق العبرات في انتظار لحظات اكتحالها برؤياه، والتنعُّم بقُرْبه والتقلُّبِ في أكنافه والبكاءِ على أعتابه والدعاءِ عند بابه.
لا عجب.. لأن بلداً ذاك هو عطاؤه (بتقدير الله تعالى)، حتى كان لقاءُ المسلم بربّه لا يصحّ في صلاته إلا بالتوجُّه إليه= سَتُطْبَعُ القلوب على محبّته، فتجري الدماءُ على ذكراه، وتذوب المشاعر على أمل لُقْياه.
فإذا حّرَك الحنينُ أقدامَ المحبّين، وانسابت خُطاهم كما تنساب حبّات الماء إلى مستقرّها، واتّبعوا نداء أبي الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام "وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً"، ذلك النداء الذي يكاد أَصَدَاهُ أن تسمعه الآذان، بعد أن سمعتّه القلوبُ الحنيفيّةُ المسلمةُ: ملة أبينا إبراهيم -عليه السلام-(1) فحرّك فيها ذاك النداءُ المشاعر، وحَرَّق لديها الأشواق، وخرَّقَ عليها حجابَ الصبر دون ساعات اللقاء. فخرجت كالأمّ تسمع أنين رضيعها، لا تلوي على شيء، ولا تفكّر بشيء، إلا أن تلقاه. نعم.. قاصدُ البلد الحرام كالأم في شدة الوَلَهِ وغياب الوعي إلا عن ذلك النداء لرضيعها، لكنه هنا ليس هو الأم التي تعطي بل قاصد البلد الحرام في العطاء هو الابن، وأمُّه هو البلد الحرام! فَحُقَّ لهذه البلدة أن تكون (أمّ القرى)، بل أن تكون (أم القلوب)؛ لأنّها أمّ العطاءات!!!
إبراهيمُ (عليه السلام) يؤذّن في الناس بالحجّ من آلاف السنين، فيستقرُّ في قلوب المسلمين ذاك النداء إلى يوم القيامة. يتشوّقون لساعة الإجابة، التي ينادون فيها: لبيك اللهم لبيك!!!
إنها قصّة حُبّ أزليّة، هي أقدم قصة حب بين إنسان وموضع على وجه الأرض، إنه حُبّ مكّة المكرّمةّّّ!!!
فإذا اقتربت أقدام المحبين من الأعتاب، وأوشكت قلوبُهم أن تطرق الباب: فلا تسل عن أصوات البكاء من شوق اللقاء!! ولا تسل عن رفرفة الأرواح تكاد تخرج إلى تلك البطاح!!! فالقلوب تكابد الشوق من حين أن سمعت نداء الخليل -عليه السلام- من آلاف السنين، وتُجدِّدُ نارَ هذا الشوق في كل يوم وليلة بذاك التوجّه بالروح والجسد إليه، في أجلّ ساعات وأصفى لحظات وأهنأ أوقات.
فإذا شاء الله تعالى للقلوب أن تنعم باللقاء، فدخل الحُجّاج والمعتمرون والعاكفون والطائفون والركّع السجودُ البلدَ الحرام: فيا لله كيف ثبَّتَ اللهُ القلوب؟! فلو كان ما فيها بالجبال لانصدعت، إنه لقاء حُبٍّ قديم متجدِّد وشوقٍ من آلاف السنين!!!(13/18)
قِفْ وانظر تلك الوجوه في تلك اللحظة: عبراتٌ مسفوحة، وأفراح تعجز عنها الأرواح، فترى هذا غَشْيانَ، وهذا دهشان لا يدري أهو في أرض أم سماء. وذاك يعانق البيت قبل أن يصل إليه؛ لأن روحه قد سبقته فصوّرته أنه بين يديه. والآخر عاجزٌ عن الحراك أيُّها البيتُ لمّا رآك، يخشى أن يكون ما فيه حُلمٌ سينتهي إن حاول أن يعانقك. وهناك من لا يكاد يرفع بصره إليك، واكتفى بالسجود لله تعالى بين يديك، هيبةً وتعظيماً. وأما هذا فلا يدري من أين يبدأ اللقاء، وكيف تكون طقوس الحب والوفاء، يحسب أنه لن تنطفئ أشواقُه إلا أن يموت هناك، وتطويه تلك البقاع في جوفها. وذاك أشرق وَجْهُهُ، ولم تعد تَطْرُفُ عينُه، لمّا اكتحل برؤياك، يخشى من النوم كما يخشى غيره الموت؛ لأنه سيمنعه من النظر إليك، ألا ترى أنه يخرج حين يخرج راجعاً القهقرى إلى ظهره، ودَّ أن يترك بصره عندك، بعد أن ترك قلبه لديك. وآخر استحضر التاريخ، فغلبه تاريخك العظيم، فرضي منه بلحظة واحدة، فتمثّل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلّي خلف المقام، فكادت روحه أن تزهق لجلال هذا المقام، هُنَا صَلَّى الحبيبُ المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهنا طاف، وهنا ركع وسجد، وهُنا قام ودعا، وهنا بكى وبلّلت دموعه المباركة المكان، وهنا خَطَا، وهنا نام... يا الله! آمنت أن الآجال بيد الله، وإلا لما كان للأرواح أن تصبر بعد هذا كُلّه.
مئاتُ الملايين من البشر حجّت هذا البيت الحرام، كل واحد منهم قد فاض قَلْبُه بجلال هذا الموقف، كل واحد منهم يظن نفسه وحيدَ حُبِّه وفريدَ وَلَهِه؛ لأنه يرى الأرض والسماء قد ضاقت عن مشاعره، فكيف يشاركه غيره من أهل السماء والأرض في تلك المشاعر التي ملأت السماءَ والأرض من القِدَم، فما بقي فيهما لغير مشاعره -فيما يحسب- موضعٌ لغير حُبَّه هو وحده. لكن العجيب أن هذه المشاعر نفسها، قد ملأت سماء وأرض مئات ملايين البشر ممّن حجّ هذا البيت الحرام!!!
مئات الملايين من البشر جاؤوا إلى البلد الحرام، فوسع أفئدتهم كلّهم وضمّها إليه، فلا ضاق عن شوقٍ لقاؤه، ولا عجز عن قديم العهد وفاؤه، ولا تفلَّتَ من بين ملايين القاصدين قلبٌ لم يرُضه بلذاذة الوصال، ولا ادعى أحدٌ منهم أنه قصّر في تحقيق مالهم فيه من مُنْتهى الآمال.
هذه عطاءات البلد الحرام.
ثم بعد أن يظنّ هؤلاء المحبّون أن دهشة اللقاء الأولى قد انقضت (وسيعلمون إذا انتهت مناسكهم وأرادوا الرجوع إلى بلدانهم أنهم ما زالوا في لفيف الدهشة الأولى ما برحوها)، عظّموا الله تعالى بالطواف حول البيت، تطوف قلوبهم بأجسادهم لا أجسادُهم بقلوبهم، فالطواف رَمْزُ التبعيّة: من طواف ما حول نواة الذرّة بها، إلى طواف الكواكب حول شمسها، إلى طواف المجموعات في أفلاكها، إلى طواف الملائكة حول عرش ربّها عز وجل.
إن إقرار العبد بأنه عَبْدٌ، وفرحه بعبوديّته، وإعلانه الانقياد المطلق لربّه بالطواف حول بيته الذي نصبه رمزاً للتوجُّه إليه= يدل على كمال محبّة العبد لربّه. ولا أحبَّ عَبْدٌ من استعبده إلا لكمال في هذا المستعبِد، جعل الاستعبادَ المكروهَ للنفس في العادة محبوباً لها لمّا كانت عبوديّةً لصاحب ذلك الكمال. والكمال المطلق لله تعالى وحده، ولذلك وَجَبَ على عبيده أن يفرحوا غاية الفرح بعبوديّتهم لله تعالى، وأن يحقّقوا هذه العبودية على أقصى مايستطيعون.
وممّا زادني شرفاً وفخراً … …
وكدت بأخمصي أطأ الثريّا
وقوعي تحت قولك يا عبادي … …
وأن صيرت أحمد لي نبيّا
وقوعي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيّا
وهذا ما يشعر به الطائف بالبيت، تراه يطأ أرض المطاف، وهو يَشْعُرُ أنه يطأ النجوم؛ لأنه العَبْدُ التامّ العبوديّة لله العظيم الذي لا إله إلا هو وحده، فهو يحقّق هذه العبودية الشريفةَ الكريمةَ بطوافه.
فأيّ شعور أعظم من هذه الشعور؟! وأي حقيقةٍ غائبة عن الناس أهداهم إيّاها هذا البلد الحرام بالطواف حول الكعبة المشرّفة؟!
هذه عطاءات البلد الحرام.
فإذا أقبل الطائفون إلى الحجر الأسود لتقبيله، وهو من الجنّة، قبّلوا فيه أرضّ موطنهم الأول: الجنّة، التي أخرج الشيطانُ (عدوُّهم الأول) أبويهم منها. وهنا تستعر لواعج الأشواق وتحترق خوالج العُشاق إلى الموطن الأول لهذه البشرية، وهي الجنّة، فتحنّ إليها أشد ما يكون حنين الغريب الطريد من وطنه إليه، إذا ما رأى ما يذكّره به. فحُقّ أن يُقال عند تقبيل الحجر: هُنا تسكب العبرات!!(2).
وهذا الحنين إلى الجنّة، الذي أذكاه تقبيل الحجر الأسود، سيكون دافعاً إلى أن يسعى هذا الغريبُ المطرودُ إلى أن يعود إلى وطنه، بسلوك الجادّة التي وضعها ربُّه إليه، ويحذر سُبُلَ الشيطان عدوّه الأول الذي كان سبب خروجه من الجنة.
وهكذا تكون عطاءات البلد الحرام.
فإذا ذهب إلى المقام ليصلي خلفه سنة الطواف، ورأى مقام إبراهيم، وهو آيةٌ بيّنةٌ على التوحيد "فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم" لأنه بقيّةُ أبي الأنبياء وباني كعبة التوحيد على وجه الأرض.
كل بقعةٍ في هذا البلد الحرام لها مع التوحيد قصةٌ قديمة وتاريخٌ عريق، حتى ذلك الحجر المسمى بمقام إبراهيم.(13/19)
إنه بلدُ التوحيد، ولن تجد بلداً أولى بهذا اللقب من مكّة المكرمة، ولن تجد لقباً أولى بها منه. وإلاّ فَأَوْجِدْ لي بلداً له بإمام الحنفاء إبراهيم -عليه السلام- وبإمام الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - أوثق صلة، كما لمكة!
إنه بلد التوحيد.. منه بدأ التوحيد، ومنه انتشر، وفيه آياته ورموزه.
وإذا قلنا: (التوحيد) فهو أوّل وأعظم عبادة، بل هو الذي لا عبادة إلا به. فلا رضى لربنا -عز وجل- إلا به، ولا نجاة من الخلود في النار إلا بتحقيقه.
وكان هذا (التوحيد) أحدّ عطاءات البلد الحرام... وهكذا تكون عطاءاتُه!
أمّا ماء زمزم فهو خير ماء على وجه الأرض: طعامُ طُعْمٍ، وشفاءُ سُقم.
يُقبل عليه قاصدوه بعد أن أحرقت أجوافهم آهاتُ اللقاء، وسكبوا الدموع في تلك الساحات، فما نضب عطاؤه، ولا نقِص عن رِيٍّ ماؤه. يتضلّعون منه، فهو بركةُ التوكّل، وخفقةُ مَلَكٍ، له من البشر صلةٌ بإحدى أجلّ العبادات، وهي التوكّل، وله من طُهر السماء وبركتها خَفقةٌ من جناح أحد الملائكة. فكان الماءَ المباركَ الذي ما عرفت البشريّةُ أطهر ولا أعظم بركةً ولا أروى منه!!
هل تعرفون ماءً ما اعتاده أحدٌ إلا غصَّ بماءٍ سواه، والله إنه ماء زمزم! اسألوا أهل مكّة ممن اعتاد أن لا يشرب إلا ماء زمزم، هل طاب له ماءٌ سواه بعده، وكأنّ مريئًا أهْنَاه ماءُ زمزم لن يهنأ بغيره، ولو كان ماءً من النيل أو الفرات.
الماء رمز الطهارة .. وماء زمزم أطهر ماء
الماء سَبَبُ الحاة .. وماء زمزم سببٌ لأطيب حياة: حياة إيمان وعافية
الماء إنما يروي .. وماء زمزم لا ريَّ كرِيَّه، وهو طعام يُغني عن الطعام.
الماء قد يحمل الداء .. وماء زمزم شفاءٌ -بإذن الله- من كل داء
الماء شُرْبُهُ عادة .. وماء زمزم شربه عبادة
الماء نعمةٌ تستوجب الحمد... وماء زمزم قُرْبَةٌ يُجيب لها ربُّنا دعاء العبد: "ماء زمزم لما شُرب له".
الماء لا علامة في شربه على الإيمان.. وماء زمزم علامةٌ للإيمان، وعدم التضلّع منه علامة على النفاق "آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلّعون من ماء زمزم".
فإذا ما نَعِمَ المشتاقون بوصال البيت المعظَّم، وانطفأت نيرانُ أكبادهم بماء زمزم، وسرت في دمائهم حبّاتُ قطراته، مطهّرةً مجاري الشيطان في عروقهم ببركاته. تكاد ترى قلوبهم قد خالطتها بشاشةُ التوكّل وثقتُه وعزّه المؤمنين به؛ لأنه الاعتماد على خالق الأرض والسماء وربِّ كل شيءٍ ومليكِهِ. وتكاد ترى مسحةَ المَلَكِ في نضارة جلودهم وضياء وجوههم؛ لأنهم قد غسلوا أجوافهم بماءٍ من خفقةٍ بجناح مَلَكٍ كريم.
وهكذا عطاءات البلد الحرام.
عندها يحتاجون إلى درسٍ عميقٍ حتى يصحّ منهم التوكُّل على الله تعالى، فيخرجون إلى السعي بين الصفا والمروة، رَمْزُ اتّباع الأسباب والأخذ بها، الذي علّمته الأمُّ هاجَر للبشريّة، بعد أن علمتهم التوكّل بقولها لزوجها الخليل -عليه السلام-: "من أمرك أن تضعنا بأرض ليس فيها زرعٌ ولا ضرعٌ ولا أنيس ولا زاد ولا ماء، فقال -عليه السلام-: ربي أمرني، فقالت: فلن يضيّعنا"، نعم لقد قالتها بكل وضوح وسهولة؛ لأنها قالتها بكمال الإيمان وتمام التوكّل: "لن يضيعنا". ومع ذلك خرجت تسعى بحثاً عن الماء بين الصفا والمروة، وتكرّر السعي بينهما، لترفع مناراً للتوكّل الصحيح، وأنه التوكل الذي لا يُغْفِل الأسباب، بل الذي يبذل الأسباب كلّها، ولا يعجز ولا ييأس من تكرار الأخذ بها حتى ينجحَ، ويحقّقَ الله ُ تعالى له المطلوب.
إنه درسٌ عميق للتوكّل الصحيح، ودرسٌ عميقٌ في بيان الصلة بين الدين والدنيا، وشرحٌ عمليٌّ للعبادة بمعناها الكامل الشامل، وبيانٌ واضحٌ لفهم هذه الملّة للعلاقة بين العبد وربّه. لو وَعَتْ أمّتنا هذه الدروس، ولو فقهت الحِكمة التي بذلتها لها هذه الشعائر، لما كانت يوماً إلا الأمّة القائدة الرائدة!!!
إنه الدرس الذي يُطبّقه القاصدون للصَّفا، والذي لا يخلو في كل خطوةٍ من خطواته من الارتباط الكامل بالرب سبحانه؛ ولذلك يتوجّهون إلى البيت كلّما صعدوا الصفا والمروة بالتهليل والتكبير والدعاء. وهُمْ بهذا التوجُّه إلى البيت، وهذا التوجُّه المتكرّر في خضمِّ ذلك السعي المتكرّر، يعلنون استمرار الولاء، وكأنّهم يُقسمون على حفظ العهد الذي بينهم وبين هذا البيت، وأنهم لن ينسوه في خِضِمّ (السعي)، نعم لن ينسوه في خضم حياتهم ولَهَثِم في طلب المعاش، والذي لن تجد أصدق وصفاً عليه من أنه (سَعْىٌ) في طلبه.
إنّ هذا الاستحضار للصلة بين العبد وربّه، التي لا تكون فقط في العبادة المحضة في حياة المسلمين، بل تكون فيها وفي كُلّ لحظات اليوم والنهار، وفي ساعات الانشغال بالدنيا وإعمارها= هذا ما ميّزَ المسلمين عن غيرهم: ممّن فصلوا الدين عن الدنيا (كالغرب حاليّاً والأنظمة العلمانية)، وممّن جعلوا الدين بلا دنيا (كالغرب في القرون الوسطى، وكالفكر الصوفي في القرون المتأخّرة في العالم الإسلامي).(13/20)
إنّ تلك الصلة الدائمة بين المسلم وربِّه، هي التي فسّرت العبادة في الإسلام بذلك التفسير الفذّ، الذي لا يعرفه الناس (كل الناس) إلا في الإسلام. إذ إن العبادة بمعناها الكامل الشامل في الإسلام هي تحقيق السعادة.. نعم.. وأنا أعني ما أقول: العبادة هي تحقيق السعادة؛ لأن الله تعالى الذي خلق البشر وركّبهم على ماهم عليه من العقول والرغبات والحاجات الجسديّة والنفسية، قد أنزل لهم دينه الذي لا دين له تعالى سواه، وهو دين الإسلام "إن الدين عند الله الإسلام"، "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". والمقصود من الدين أن يكون نظاماً إلهيّاً للبشرية، به تتمّ علاقاتهم على الوجه الأكمل: بينهم وبين ربّهم، وبينهم وبين أبناء جنسهم من البشر، وبينهم وبين المخلوقات جميعاً. وإذا صحّت هذه العلاقة الشاملة، وتنظّمت التنظيم الإلهيّ الدقيق، القائم على العدل والإحسان= تحقّقت السعادة للبشريّة في الدنيا، فاستحقّت السعادة الأبديّة في الآخرة؛ لأنّها لم ترفض نعمة ربِّها العظمى، وهي دينّه وشريعتُه (ونظامُه)، ولم تكفرها، بل شكرت وآمنت، واتّبعت ذلك التنظيم الإلهي: الشامل للعبادات المحضَة ولكل شؤون الحياة؛ وبذلك جعل الإسلامُ حياة المسلم كلّها عبادة، وجعل القيام بهذه العبادة تحقيقاً للسعادة في الدنيا والآخرة: "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيّبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".
فما أجلّ هذا الدرس الذي أهداناه البلدُ الحرام، ولم يَرْضَ في توضحيه إلا أن يكون درساً عمليّاً، لنستفيده بكل وضوح!! فهل استفدناه بوضوح؟!!!
لكن.. هكذا تكون عطاءات البلد الحرام.
وهذه هي بعض عطاءات البلد الحرام لقاصديه من غير أهله، هذه بعض عطاءاته لهم، وبقي من عطاءاته الجليلة واللطيفة، ما لا يكاد يتسع له كتاب، ولا يطيقه كاتب.
أمّا عطاءاته لأهله وقاطنية، ومَنْ حَظُوا بنعمة المجاورة فيه، الذين ما عرفوا إلا لذّة الوصال، ولا أضناهم الحنين، ولا أقلقهم الشوق، فهم في نعيم القُرب متقلّبون، وفي أعماق العناق قائمون نائمون= فلا تسل عمّا أعطاهم البلد الحرام، ولكن سل: ما الذي بخل عليهم به البلدُ الحرام؟!!
"أولم نمكّن لهم حرماً ءامناً يُجبى إليه ثمراتُ كل شيء رزقاً من لدنّا" [القصص: 57].
"أولم يرو أنّا جعلنا حرماً آمناً ويُتخطّف الناس من حولهم" [العنكبوت:67].
"ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرَّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" [إبراهيم:37].
فيا أهل مكّة: أنتم آمنون حين يخاف الناس، طاعمون حين يجوع الناس، أفئدة الناس إليكم مقبلة، ووجوههم إلى بلدكم آمّة. لكم حُرمة البلد الحرام، وما عرفنا البلاد إلا وأهلها يحمونها؛ إلا أنتم، فبلدكم يحميكم. وما عهدنا بلداً تأتيه ثمرات كل شيء من خارجه، مكفولةً أرزاقه؛ إلا بلدكم. ولا عَرَفَ التاريخُ بلداً يشتاق إليه غير أهله أكثر من اشتياقهم إلى بلدانهم وأوطانهم، إلا بلدكم.
يا أهل مكة: يفرُّ الناس عند الخوف إليكم، ولا تفرّون من بلدكم إلى غيره. أَمِنَ الطيرُ والوحشُ فيه، أمِنَ العُشْب والشجر.. حتى الشوك فيه آمن. أمن فيه كل شيء، فأمنت فيه القلوب، فَحُقّ له أن يُسمَّى بـ(البلد الأمين)، وأن يُقسم به ربُّنا عز وجل "وهذا البلد الأمين".
يا أهل مكّة: أفئدتكم في بلدكم قارّة، لا تشتاق إلى غيره. وقلوب غيركم إلى بلدكم فارّة، لا تعرف القرار إلا فيه.
يا أهل مكّة: أنتم في أحبّ البلاد إلى الله، وما أخرجكم منه أحد، فاحمدوا الله على هذه النعمة التي تأسّف عليها خير البريّة وسيّد البشريّة محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، عندما قال: "والله إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خَرْجَتُ".
يا أهل مكة: كم مَرّة أثقلت الذنوبُ كواهلكم، فجئتم مسجدكم، فحططتم عنده الأوزار، ورجعتم كحمائم البيت طُهراً وخِفّة ظهر من الآثام، حتى كادت أرواحكم بالسعادة تطيرُ معها. وكم مَرّةً تغشتكم الهموم والغموم، وقد علمتم أن جلاءها بالله عند حرمه، فما أتيتموه في أيّ ساعةٍ من ليل أو نهار، إلا وخرجتم منه وقد قويت قلوبكم على مكابدة الحياة، وفاقت عزائمُكم كُلّ عقبات الدنيا. وكم مَرّةً لفظتكم الأقاربُ، وتنكّرَ لكم الأهلُ والجيران، فما بئستم ولا يئستم؛ لأن عندكم حرمَ الله: ملاذَ الطريد، وملجأ الخائف، وحمى المستجير، وبيتَ ابنِ السبيل، وفيه طعامه وشرابه: ماء زمزم، وفيه الصلوات المضاعفات، والدعوات المستجابات.(13/21)
يا أهل مكّة: الناس يصلّون وأنتم تُصلون، لكن صلاتكم بمائة ألف صلاة في غير بلدكم. والناس آمالُهم وأمانيهم تنحصر في أن يتيسّر لهم الطواف حول البيت، وقد لا تتحقِّق تلك الآمال إلا إذا شاخ أحدهم ومال، ولا يبلغ الآخر منه مُنَاهُ إلا وقد شابَ رأسُه وفؤاده. أمّا أنتم فتطوفون بالرضيع والفطيم، ويطوف منكم الصغير والكبير، وتطوفون بالناس تعلمونهم مناسكهم، ولا يمنعكم أحدٌ من حرمكم في جميع أيام عمركم. حتى إذا حَلّ من أحدكم الأجل: صُلّي عليه عند الكعبة، ودُفن بالحرم، فما غُبط أهلُ بلدٍ كما غُبطتم: في الحياة.. وبعد الممات، فهنيئاً لكم.
وهكذا عطاءات البلد الحرام.
يا أهل مكّة: كل عطاءات البلد الحرام لغير أهله هي لكم بأوفر حظٍّ منها وأتمِّ نصيب، ولكم من عطاءاته ما لا يحصل لغيركم، والناس من غير أهل بلدكم قد أعظموا عطاءاته لهم، حتى كان له في نفوسهم من الحُبّ والشوق مَا لا يُعرف لبلد غيره، ولا يَعْرِفُه قلبٌ لبلد ولا بلدٌ من قلب. فماذا يجب أن يكون في قلوبكم لبلدكم هذا، الذي لا يُوجَدُ بلدٌ عطاؤه كعطائه، ولن يوجد؟!!
يا أهل مكّة: أنتم في خير أرض الله، وفي أحب البلاد إلى الله؛ فكونوا خيرَ عباد الله وأحبَّ عباد الله إلى الله "الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات".
لئن كانت هذه بعض عطاءات البلد الحرام، فماذا أعطينا البلد الحرام؟!!!
سؤال يحتاج إلى جواب: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان".
(1) قال سعيد بن جبير ومجاهد في قوله تعالى "وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً": "وقرت في قلب كل مؤمن ذكر وأُنثى". (تفسير أبن جرير:16/515، 517).
وصحّ عن عدد من السلف: منهم ابن عباس -رضي الله عنه: أن الناس كلّهم سمعوا نداء إبراهيم عليه السلام، حتى من هُم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله تعالى أن يحجّ إلى يوم القيامة: لبيِك اللهم لبيك. (تفسير الطبري: 16/514-517)، واخبار مكة للفاكهي: رقم (973-978).
(2) حديث "هنا تكسب العبرات" لا يصح، لكن صحح ابن خزيمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين استلم الحجر فأضت عيناه بالبكاء، ووافقه على تصحيحه الحاكم.
=============(13/22)
(13/23)
بين عقليّتين ونهجَين
د. عدنان علي رضا النحوي 13/8/1426
17/09/2005
انطلق العقل الغربي في العصور الحديثة من خلال تاريخ طويل استغرق قروناً، وتفاعلت فيه عوامل كثيرة وأحداث متعاقبة، لكنها كلها انطلقت من الوثنية اليونانية، وما حملت من علم ونظرة خاصة بالفنون والأدب، ونظرة خاصة للحياة والكون، اجتمعت كلها لتكوّن الفلسفة اليونانية الوثنية.
ولكن لابد أن نسرع فنقول: إن هذه الوثنية لم تكن هي أول أمر هذه الشعوب.
قد كان أول أمرهم الذي يعنينا هو رسالة الإيمان والتوحيد التي لا شك أنها بلغتهم كما بلغت كل أمة أخرى في التاريخ البشري، فقد بعث الله برحمته رسولاً إلى كل أمة أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)] النحل: 36[
وكما كان شأن كثير من الأمم، فقد انحرفت اليونان عن التوحيد وغلبتها الوثنية بصورة شديدة، وعبدوا آلهة ابتدعوها من أنفسهم، وأقاموا لها التماثيل، ودخلت هذه الوثنية في جميع ميادين حياتهم وتصوّراتهم وأدبهم.
ولما قامت دولة الرومان لم يكونوا أهل أدب أو فكر، فأخذوا كل ذلك عن اليونان، وأصبح فكرهم وأدبهم امتداداً لفكر اليونان وأدبهم، ولما جاءت النصرانية إلى أوروبا اصطدمت بهذه الوثنية الطاغية على الحياة، وعانى رجال النصرانية معاناة شديدة مدة تزيد على ثلاثمائة سنة، أمكن بعدها التفاهم مع "قسطنطين" على أن يعينوه على الوصول إلى سدة الإمبراطورية الرومانية، مقابل تنازلات، ومقابل رفع الأذى عنهم.
خلال هذه المدة تأثرت النصرانية بالوثنية، ووقع خلاف بين النصرانيين أنفسهم، فريق يدعو إلى عقيدة التثليث، وفريق يرى أن عيسى عليه السلام ليس ابن الله ولا شبيها لله، ولكنْ رسول من عند الله، ونالت طائفة التثليث الدعم من الدولة، وأخذت بعض طقوسها من الوثنية الرومانية، وبدأت التساهل مع النصرانية الجديدة التي انحرفت عن رسالة عيسى عليه السلام، وفي سنة 311م وقع الإمبراطور جاليريوس مع ثلاثة آخرين بإعطاء حرية العبادة للنصارى.
ولما أصبح قسطنطين الأول (280 - 337م ) هو الإمبراطور اعترف بالدين الجديد، الذي لم يكن لديه النص الرباني الأصلي الذي جاء به عيسى عليه السلام، وإنما كان ما تناقله أتباعه وما دوَّنه علماؤه بعد عيسى عليه السلام بزمن غير قصير.
دعا الإمبراطور قسطنطين رجال الكنيسة إلى اجتماع في "نيقية Nicaea " سنة 325م في محاولة لتصفية النزاع بينهم وبين الأريوسيين الذين يقولون بأن عيسى عليه السلام ليس مشابهاً لله في الجوهر، والذين ينتسبون إلى آريوس الإسكندرية (ت:326م)، ولكن المجمع المنعقد في "نيقيه" أصدر قراراً يتبنى الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام (t r inity) وتسمى هذه" بعقيدة نيسين Nicene C r eed" .
هذه العقيدة كانت نتيجة التأثر بالتصورات الوثنية تأثراً انحرف بها عن التوحيد الخالص الذي جاء به عيسى عليه السلام.
ولما جاء الإمبراطور ثيودوسيس ( 346 - 395 ) فرض الكنيسة الكاثوليكية في جميع الإمبراطورية، وفرض القرار النيسيني، والتطور الثلاثي لطبيعة عيسى عليه السلام، ولإنهاء الصراع مع الأريوسيين دعا إلى لقاء كنسي سُمِّي فيما بعد "المجمع العالمي Ecumenical council " سنة 381م في مدينة القسطنطينية، وأقر هذا المجمع التصور الثلاثي والعقيدة النيسينية، وأخذ في مطاردة الأريوسيين واعتبرهم هراطقة.
لقد انتهى الصراع بين الوثنية والنصرانية إلى قيام الكنيسة الكاثوليكية التي تتبنى العقيدة النيسينية، وتطور الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام، والذي أصبح مذهب الإمبراطورية الرومانية كلها، وأصبح للكنيسة سلطان كبير على السلطة المدنية.
وبدأ صراع جديد بين الكنيسة والسلطة الزمنية من ناحية، وصراع بين الكنيسة والعلماء امتد زمناً غير قليل، ولقد حملت هذه الأحداث كلها امتداد التأثير الواضح للوثنية اليونانية في عصور أوروبا المختلفة: العصور الوسطى، أو عصر الظلمات، عصر النهضة، عصر التنوير، والعصر الحديث، وامتد التأثير إلى أعماق الفكر الأوروبي، وكان من أهم آثار هذا الصراع الممتد أن برزت العلمانية في أوروبا تحمل الرغبة الحاسمة للتحلل من الدين وعزله عن حياة المجتمع، وحصره بين جدران الكنيسة، ولقد حمل هذا الاتجاهَ عددٌ غير قليل من الفلاسفة الأوروبيين، واستقرَّت العلمانية في العالم الغربي توجِّه الفكرَ والأدب والأخلاق، والسياسة والاقتصاد، وأعطت الحرية الفرديةَ تفلُّتاً واسعاً في الجنس، وحرية في الرأي لا تعطِّل القرار الذي يتخذه القادة بين الكواليس، ويستغلون الدين كلما احتاجوا إليه.
وقد جعلت العلمانية رأس الأمر كله ومدار اهتمامهم الأول هو المصالح المادية الدنيوية الخاصة، فمن أجلها تدور الحروب أوالسلام، والوفاق أو الشقاق.(13/24)
ولكن هذه الشعارات كانت تغلف بشعارات عامة مزخرفة كالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان ومساواة الرجل بالمرأة وغير ذلك.
إلا أن الديموقراطية في حقيقتها لم تشهد إلاّ الحروب التي تشعلها المصالح الخاصة والتنافس عليها واستغلال الشعوب بالإغراء أو القوة والبطش، ولا أظن أن تاريخ البشرية شهد استبداداً أشد من استبداد الأسلحة المدمرة الفتاكة التي تطلقها أمريكا على أجزاء كبيرة من العالم لفرض ما تسميه " الديموقراطية والحرية" ، ثم لا تجد إلا الخداع والكذب، والأشلاء والجماجم.
من خلال مسيرة العقل الأوروبي والغربي مع مسيرة العلمانية قدَّر الله أن ينهض الغرب بنهضة علمية وصناعية كبيرة، زوّدتهم بالقوة المادية الكبيرة والسلاح المدمر، وكان أساس هذا التطور ما أخذوه عن المسلمين عندما كان المسلمون في أوج تطورهم وازدهارهم العلمي، وأوروبا في ظلال الجهل.
وفي الوقت نفسه قدَّر الله أن يقع المسلمون في غفوة طويلة وغفلة كبيرة من خلال تاريخ طويل من الانحراف.
وعندما كانت أوروبا تغطُّ في ظلمات الجهل والتخلف، كان المسلمون هم قادة العالم بالعلم في ميادينه المختلفة، وقدّموا العلم ونشروه مع نشر رسالتهم ودينهم حيثما امتدوا.
برزت عبقريات المسلمين في شتى أنواع العلوم كالرياضيات والطبيعيات والطب والفلك والجغرافية، والاكتشافات الجغرافية، وفنِّ العمارة، وغيرها من العلوم.
كانت العبقريات قد انطلقت من الإسلام من الإيمان، من جميع الشعوب الإسلامية، لتخدم البشرية كلها نوراً وهداية، وعلماً وعدالة، وحرية ومساواة.
مهما وقعت انحرافات أو أخطاء في مسيرة المسلمين، فإنها لم تصل أبداً إلى ما بلغه الغرب من إفناء وتدمير ووحشية، لقد كان الإسلام يكبح نزعات الفتك الإجرامي، ولقد وجدت الشعوب التي دخلها الإسلام عدالة لم تعهدها في تاريخها، وحرية كريمة منضبطة تسود الجميع، وديناً يجمع البشرية كلها في ظلال الإسلام وأنداء الإيمان، ويضع الحقوق الصادقة لكل فئة أو طائفة، لينسجم الجميع تحت حكم الإسلام وشريعة الله الحقة.
لقد جمع الإسلام شعوباً مختلفة الأجناس واللغات لأول مرة في التاريخ البشري، عندما أعاد الإنسان إلى الفطرة التي فطره الله عليها، إلى حقيقة الفطرة السليمة غير المشوهة أو المنحرفة.
فانطلقت قوى الشعوب كلها منسجمة متآلفة، وجمع الإسلام بذلك طاقات الشعوب ومواهبها بعد أن آمنت وأسلمت لله رب العالمين، وبعد أن ذابت العصبيات الجاهلية من حزبية أو عائلية أو قومية، وبعد أن وجد كل شعب أنه آمن، ينال حقوقه كما تناله الشعوب الأخرى، على ميزان رباني عادل أمين.
فانطلقت بذلك الحضارة الإسلامية تصب فيها مواهب الشعوب كلها وقدراتها، وخيرات بلادها في مجرى واحد صافٍ، تقودها عقلية إسلامية صاغها القرآن الكريم وسنَّة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، عقلية تنطلق من الفطرة السليمة التي أعاد الإسلام الناس إليها.
هذه الحضارة الإسلامية، ليست حضارة شعب واحد ولا حضارة بيئة واحدة، إنها حضارة الشعوب كلها، الشعوب التي تآلفت على الإسلام فطرةً وإيماناً وتوحيداً، وعلماً بمنهاج الله، وصراطاً مستقيماً واحداً، يجمع الناس كلهم على استقامته التي لا يضلُّ عنها مؤمن، وعلى تفرُّده بأنه سبيل واحدة لا سبل شتَّى، فلن يختلف عليه المؤمنون.
هذه الحضارة وهذه العقلية تميزت أيضاً بأنها جمعت المؤمنين كلَّهم على مدار التاريخ البشري أمة واحدة، على أسس واحدة وحق واحد.
فسورة الأنبياء، بعد أن تستعرض مسيرة عدد من الأنبياء والرسل عليهم السلام، وتبيِّن أنَّهم كلهم كانوا يدعون إلى دين واحد هو الإسلام، ولعبادة رب واحد هو الله الذي لا اله إلا هو، تختم السورة الكريمة هذا العرض بالآية الكريمة:
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ]الأنبياء: 92[
ويتكرر هذا المشهد العظيم في سورة "المؤمنون"، حيث تستعرض السورة مسيرة الرسل والأنبياء الذين دعوا إلى دين واحد هو الإسلام، وإِلى عبادة رب واحد هو الله، تختم هذا العرض والمشهد بقوله سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ] [المؤمنون: 51-52[
هذه هي معركة التاريخ البشري تدور بين عقليتين ونهجين: عقلية تنطلق من الفطرة السليمة، ونهج رباني من عند الله على سبيل واحدة وصراط مستقيم، تتلقاه الفطرة السليمة بالإيمان والاتباع، وعقلية تنطلق من عواطف الأهواء وصراع المصالح، ومناهج بشرية تتلون من أرض إلى أرض، ومن مصلحة مادية إلى مصلحة، فيصارع بعضها بعضاً، كلٌّ يغلف أهواءه ومصالحه بزخارف كاذبة وزينة خادعة، سرعان ما يكشف الواقع كذبها وخداعها.(13/25)
من هنا يعتبر الإسلام أن الحقَّ الأول للإنسان هو حماية فطرته التي فطره الله عليها، حمايتها من أن تفسد أو تلوَّث أو تنحرف، وجعل هذه الحماية مسؤولية الوالدين أولاً في الأسرة والبيت، ثم مسؤولية الأمة كلها بمختلف مؤسساتها، ابتداءً من المدارس والمسجد وامتداداً إلى سائر المؤسسات، ولنتدبَّر هذه الآيات الكريمة تعرض لنا خطورة أمر الفطرة:
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ]الروم: 30[
ولنتدبر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرويه أبو هريرة رضي الله عنه:
"ما من مولود إلاَّ ويولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحس فيها من جدعاء" [أخرجه الشيخان وأبو داود ، صحيح الجامع الصغير:5784]
هذه القضية، قضية الفطرة وحمايتها، أهملتها جميع المؤسسات التي تدّعي أنها ترعى حقوق الإنسان، وأهملتها نظريات التربية المادية المختلفة، وأنى لهذه المؤسسات كلها بعد هذا الإهمال أن تصدق في رعاية حقوق الإنسان، أو في تربيته وتعليمه وبنائه.
بعد إهمال الفطرة وحمايتها، ستخرج عقليات مختلفة متعددة متناقضة مضطربة، وستُخرِج هذه العقليات تبعاً لذلك مناهج شتّى وسبلاً شتّى ومصالح شتى يدور بينها الصراع، ليمثل هذا الصراع الجزء الأكبر من التاريخ البشري بين بحار من الدماء وأكوام هائلة من الجماجم والأشلاء.
ولذلك كانت هذه العقلية ومنهجها منذ بدايتها التي أشرنا إليها في الوثنية اليونانية، قد أهملت فطرة الإنسان وأهملت حمايتها في مسيرة طويلة حتى يومنا هذا.
ويبين الله لنا هذا الاختلاف الواسع بين هذين النهجين والعقليتين بقوله سبحانه وتعالى:
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ]الأنعام: 153[.
فهنا صراط مستقيم وسبيل واحدة، وهناك سبلٌ شتى ودروب معوجة، هنا يلتقي الناس على دين واحدٍ و إيمان وتوحيد، وشريعة واحدة تنظم الحياة كلها وتبين الحقوق والواجبات والحدود، وهناك يلتقي الناس على مصالح ويفترقون عليها، وعلى شرائع شتى لا تلتقي إلاَّ على فتنة وفساد يخفونها تحت زخارف من شعارات الحرية والديموقراطية وغير ذلك.
تسعى أمريكا اليوم حسب دعوة بوش إلى جمع الناس على ما تسميه الديموقراطية، وما تدّعيه من حرية.
وفي هذه وتلك لا يوجد من حقيقة ثابتة إلاَّ الزخرف الذي سرعان ما ينكشف عن أقسى ما عرفته البشرية من مآس نشاهدها جليّة في بقاع متعددة من الأرض.
أنى التفتنا لا نجد إلاّ الأطماع الهائجة المتصارعة التي لا يكون اللقاء معها إلاَّ لقاءً آنيًّا قد ينقلب بعد حين إلى عداء و صراع.
فلا يمكن لدعوة الديموقراطية ولا الاشتراكية ولا العلمانية، مهما زينوها بالزخارف أن تجمع الشعوب كلها، وإن جمعت أحداً فإنها تجمعه تحت قهر القوة الجبارة والسلاح المدمر ليكون جمعاً آنيّا.
لا يمكن أن تجتمع البشرية إلاّ على الحق البين، إلاّ على دين الله الحق، دين الإسلام بجلائه وسموِّه وصدقه، فهو النهج الوحيد لدى البشرية كلها، النهج الذي يمكن أن يجمعها لتجد في ظلاله العدالة الأمينة غير المزيفة، والحقوق الصادقة لكل إنسان: للرجل والمرأة والتوازن الدقيق بين الحقوق والواجبات، والحرية المنضبطة للرجل والمرأة، للناس كافة.
إنه النهج الوحيد الذي يضع المرأة في ميادينها الحقيقية، والرجل في ميادينه الحقيقية، ويبني المجتمع على نظام دقيق، يعرف الرجل فيه مكانه و تعرف المرأة مكانها، ويعرف الجميع ميادين التعاون، عندما تعرف المرأة دينها وتؤمن به وتخضع له، ويعرف الرجل دينه ويؤمن به ويخضع له، سيعرف كلٌّ حدوده على صورة تتكامل فيها الجهود.
أما إذا غلب الجهل وثار الهوى، فتصدر عندئذ الفتاوى والآراء والاجتهادات مضطربة متناقضة لا تخضع إلى ميزان أمين، وتنحرف الآراء حتى تطلب المرأة أن تتساوى مع الرجل في كل نشاطاته، وربما ينقلب الوضع فيصبح الرجل يطلب المساواة بالمرأة، يسعى كثير من المفسدين في الأرض أن يحرفوا دين الله ويؤوِّلوه، حتى يكاد يصبح ديناً جديداً منبت الصلة عن دين الله. وسيدرك بعض المسلمين الذين يدعون إلى شعار مساواة المرأة بالرجل، عاجلاً أم آجلاً، أنهم إِنما يدعون إلى هلاك المرأة وهلاك الرجل وهلاك المجتمع.
ومهما حاول المفسدون والضعفاء أن يغيروا في دين الله فإن الله قد تعهد بحفظ دينه ولغة دينه، وإنما هي سنن لله في هذه الحياة الدنيا، يُبتلى بها الإنسان ويُمحَّص حتى تقوم الحجة له أو عليه يوم القيامة.
ولحكمة يريدها الله جعل من أوجه الابتلاء والتمحيص في هذه الحياة الدنيا بروز المفسدين والمجرمين، ليميز الله الخبيث من الطيب، فكم من الناس يخفون الوهن والانحراف في صدورهم، فتأتي سنن الله فتكشف هؤلاء وما يحملون وما يخفون.(13/26)
إننا نعيش اليوم في مرحلة من مراحل التاريخ البشري، يقف فيها المسلمون موقف الوهن والضعف والهوان، والمجرمون في الأرض ملكوا القوة القاهرة والتطور المادي الكبير، على تخلّف خطير في قيم الدين، وعلى كبر واستكبار.
وفي الوقت نفسه جعل الله ما في السماوات والأرض مسخَّراً للإنسان، لكل من يسعى ويبذل، ويظل السعي والبذل باب ابتلاء واختبار، الميدان مفتوح للجميع، للمؤمنين وغير المؤمنين، كل يجني ثمرة سعيه:
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) ] لقمان: 20[
وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)]الزخرف: 33 - 35[
فالمؤمنون يسعون في الحياة الدنيا، أو يجب أن يسعوا، ليمتلكوا القوة من العتاد والعلم، ليوفوا بالأمانة التي خُلِقوا للوفاء بها، وليس لزخرفٍ في الحياة الدنيا ومتاعها، إنَّ المؤمنين يحملون أمانة عظيمة في الأرض ولا بد أن تكون في يدهم أسباب القوة والمنعة، ليبلِّغوا دين الله للناس كافة كما أُنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتكون كلمة الله هي العليا، وشرعه هو الذي يحكم، ليأخذ كل إنسان حقه العادل، ويقف عند حدوده العادلة، وأما المجرمون في الأرض فيسعون ليمتلكوا القوة من عتاد وعلم، ليفسدوا في الأرض، ويعتدوا ويظلموا، وينهبوا ويقتلوا، ظلماً وعدواناً.
( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) ] هود: 116[
أيها الناس إنكم تحملون أمانة عظيمة فانهضوا إليها، واصدقوا الله في أمركم كله، وكونوا صفاً واحداً لتوفوا بأمانتكم، ولا عذر لكم أن تقولوا: إن المجرمين يملكون القوة، فانهضوا واصدقوا يمكِّنكم الله من القوة ما آمنتم وأطعتم وصدقتم:
( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51[ (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ] الصف: 13 ] (...وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ] الروم:47[ أيها المسلمون كونوا مؤمنين ينصركم الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ....) [النساء: 136[.
============(13/27)
(13/28)
سؤال النهضة والتنمية المعلق يعود أكثر إلحاحاً وأهمية
إبراهيم غرايبة 29/7/1426
03/09/2005
كان فتح مدينة القسطنطينية عام 1453م ثم الزحف الإسلامي غرباً حتى أسوار فيينا عاصمة النمسا عام 1683 مصحوباً أيضاً بانحسار إسلامي في الأندلس وشرق آسيا والمحيط الهندي وامتداد بحري استعماري برتغالي، ثم هولندي ثم بريطاني في الخليج العربي والهند، وأفاق العرب والمسلمون في عام 1798 على دوي المدافع الفرنسية تدك المدن المصرية.
ربما كان الخروج الإسلامي من الأندلس عام 1492 بعد ثمانمائة عام من الوجود الحضاري والسياسي المميز، ثم الانسحاب التركي العثماني عام 1683 عن فيينا بعد فشل الحصار عليها، وما تبع ذلك من سلسلة الهزائم التركية، والتي ربما بدأت جذورها قبل ذلك بمائة عام، منذ عهد السلطان سليم الثاني حفيد سليم الأول الذي أدخل الوطن العربي في الدولة العثمانية عام 1516، وابن سليمان القانوني الذي بلغ بالدولة العثمانية إلى أوجها، ثم الحملة الجغرافية والاستكشافية والاستعمارية التي بدأت عام 1492، وهو العام الذي سقطت فيه غرناطة بحملة كولومبوس لاكتشاف طريق بديل إلى الهند أدى إلى معرفة الغرب بالقارة "الأمريكية" التي كان يعرفها العرب قبله بألف وخمسمائة سنة على الأقل، وما تبعها من حملات بحرية في المحيطات والبحار أدت إلى هيمنة على السواحل والممرات والخلجان والطرق البحرية التي كانت تحت سيطرة العرب، ثم الاحتلال البريطاني للقارة الهندية والسيطرة على الطريق البحري والبري الممتد بين أوروبا والهند بدءاً بمضيق باب المندب وجبل طارق ومروراً بالجزر والسواحل والخلجان في البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي.
وأفاق العرب والمسلمون متأخرين ربما بعد ثلاثمائة سنة على حقيقة تخلفهم عن الغرب، وتقدمه عليهم أشواطاً بعيدة، فكانت الحملة الفرنسية على مصر بداية للسؤال العربي الإسلامي القاسي والملح، ما الذي حدث؟ ما الذي أوقف المد الإسلامي الحضاري والسياسي والعسكري بعد ألف عام من النمو والاتساع المتواصل؟ كيف يستعيد العرب والمسلمون نهضتهم؟
أين الخطأ؟ هو السؤال الذي يعتقد برنارد لويس أن المسلمين دأبوا على طرحه منذ مدة طويلة عندما أدركوا تفوق الغرب عليهم، فهو سؤال يشي بالمرارة والقلق وإحساس متزايد وعميق بالغضب، فقد كان المسار الإسلامي آخذاً بالصعود والتفوق لأكثر من ألف سنة من الفتوحات والانتصارات، بدأت في الشام والعراق في القرن السابع الميلادي، وتواصلت في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وصاحب تلك الحملات العسكرية تجارة واسعة ومتنوعة وممتدة في القارات الثلاث، وحركة ثقافية وعلمية وفنية.
ثم بدأ المد الإسلامي بالتوقف والانحسار، فتوقفت الانتصارات، وبدأ الانحسار من أنحاء مختلفة من العالم بدءاً بالأندلس في نهاية القرن الخامس عشر، وتوقفت حركة الترجمة الكبرى، وتوقف الإنتاج العلمي والمعرفي، وبدأ الأوروبيون يحرزون تقدماً ملموساً في فنون الحضارة، وبقدوم ما يُسمّى "المعرفة الجديدة" بدأوا يتقدمون بسرعة، وسبقوا التراث العلمي والتكنولوجي ثم الثقافي للعالم الإسلامي بأشواط طويلة.
وعندما استطاع فاسكو دي غاما الوصول بحراً من البرتغال إلى رأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الخامس عشر فتح طريقاً بحرياً بين أوروبا وآسيا متجاوزاً المجال الإستراتيجي للطريق السابق الذي كان يسيطر عليه المسلمون، وبدأ البرتغال والإسبان والهولنديون ينشئون قواعد لهم في جنوب شرق آسيا، وفي الموانئ والسواحل المطلة على المحيط الأطلسي والمحيط الهندي لتأمين طرق التجارة والتحكم بها.
وكانت القارة الأمريكية التي اكتشفها الغرب مصدراً للموارد والهيمنة التي لا تصلها القوة الإسلامية العثمانية، ومكنت الأراضي الخصبة والمعادن التي امتلكها الأوروبيون من الاستغناء عن كثير من المنتوجات القادمة من الشرق الأوسط وآسيا، ونشطت المهارات التجارية والحرفية.
وكانت هزيمة الأتراك في فيينا عام 1683 بداية تحول وانكسار، وتبعتها هزائم متوالية ومتواصلة، في مالطة عام 1684، وفي المواجهة مع روسيا عام 1696 عندما استولى القيصر الروسي بطرس الأكبر على مدينة أزوف على البحر الأسود.
وبعد الحملة الفرنسية على مصر بدأ المسلمون يتطلعون إلى التجربة الفرنسية الثقافية والحضارية بصفة ذلك خطوة للنهضة من جديد، وأملاً في أن يجدوا في هذه الأفكار محركات تدير عجلة العلوم والتقدم.
وأصبحت التجربة الأوروبية "العلمانية" تمثل مرجعية لحركات التحديث والإصلاح في العالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهو ما دعا إليه كثير من المصلحين والمفكرين، مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي.(13/29)
وكان المثقفون الذين حكموا العالم الإسلامي وتولوا المناهج والإدارة فيه ممن سار في طريق الغرب، وتحولت الدول الإسلامية إلى علمانية، ثم ظهرت موجة إسلامية مضادة تدعو إلى نبذ العلمانية، باعتبار أن الإسلام مختلف عن المسيحية، فالدولة الإسلامية ليست دينية إلا بالقدر الذي تُعدّ فيه بريطانيا ملكية، ومشكلة النزاع بين الدين والدولة هي مسيحية أوروبية، ولا تنطبق على العالم الإسلامي.
كان المسلمون يحتقرون الغرب ولا يأبهون بالجهود الحثيثة التي يبذلها للنهضة والتقدم، وعندما أفاقوا على صدمة التفوق التقني في بداية القرن الثامن عشر كان الغرب قد سبقهم بأربعمائة سنة في التقدم العلمي، وبدأ التأثير الغربي يغزو الشرق من مدخل التقنية.
عرف الشرق الساعة الميكانيكية التي يصنعها الغرب لقياس الزمن بدقة تتفوق على الوسائل التي كانت تستخدم في الشرق، كان ذلك في القرن السادس عشر الميلادي، ثم المطبعة والنظارات الطبية والتلسكوب.
وبدأ الحكام في الأستانة (استمبول) والقاهرة يستعينون بالغرب لتحديث دولهم وجيوشهم، واستقدم الخبراء من الغرب للمشاركة في عمليات إعادة تنظيم الجيش، واستخدمت أنظمة الإدارة الغربية، والأسلحة الغربية، وأُرسلت البعثات التعليمية إلى الغرب لاقتباس العلوم الغربية "الإفرنجية".
وبدأ تذوق الموسيقى الغربية والفنون الغربية أيضاً، وانتشر اللباس الغربي، وأنظمة العمارة في البيوت والقصور والمباني العامة، حتى المساجد صارت تبنى على الطراز المعماري الغربي.
وعندما يظهر تأثير أجنبي في شيء ذي أهمية جوهرية لثقافة ما، مثل المؤسسات والمساجد فهذا يعني أن الثقة بالنفس ثقافياً قد اهتزت.
كان التأثير البصري الغربي طاغياً بدءاً في اللوحات الفنية والصور الشمسية ثم في اللباس، وكان لذلك تأثير على الهوية والمعتقدات، فالصور والتماثيل التي كانت محرمة في الثقافة الإسلامية صارت شائعة في القصور والمطبوعات والنقد وطوابع البريد، وبدأ التغيير في الجيوش التي صارت جميعها ترتدي أزياء غربية، ثم امتد تغيير اللباس إلى المجتمعات، وعندما يغير الناس ملابسهم ويرتدون ملابس مجتمع آخر يكونون قد اتخذوا خياراً ثقافياً آخر، وقد يكون مقاومة أو قبول تغيير الملابس- والذي ظل موضع جدال في الشرق أكثر من قرنين- يستند إلى هذه الدلالة.
وبدأت الترجمة تشهد مساراً مختلفاً عما عهدته طوال القرون الماضية، فقد بدأت ترجمة الروايات والمسرحيات، واتجهت الترجمة نحو اللغات الغربية، وانحسرت اللغة الفارسية والتركية من الوسط العربي، كما انحسرت العربية من الأوساط الإيرانية والتركية، واقتبست بلدان الشرق الأوسط الأنواع الأدبية الأوروبية، مثل الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، واستوعبت في الشرق استيعاباً كاملاً، وزادت أعداد الكتب الأصيلة من هذه الأنواع التي تصدر في هذه البلدان، بل لقد أصبحت هذه هي الأنواع الأدبية المعتادة للتعبير، وامتد التأثير إلى النسيج اللغوي نفسه، حتى إن الكتابات العربية الحديثة والأصيلة في الشرق الأوسط وبخاصة في الصحف تبدو وكأنها ترجمة حرفية من الإنجليزية والفرنسية.
وامتد التأثير الثقافي إلى التسلية والترفيه، فانتشرت ألعاب الورق، والألعاب الرياضية البدنية، مثل كرة القدم والسلة والبولو.
وكان دعاة الإصلاح والتحديث في العالم الإسلامي يركزون جهودهم في ثلاثة مجالات رئيسة، هي المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، ولكن النتائج كانت مخيبة للآمال، فقد أدى السعي للنصر بجيوش محدثة إلى سلسلة من الهزائم المهينة، وأدى السعي للرخاء عن طريق التنمية الحديثة إلى الفقر والفساد والاعتماد على المساعدات الخارجية.
ولم تساعد الجيوش ولا المدارس والجامعات والمصانع والبرلمانات دول الشرق ومجتمعاتها، ولا أوقفت الفجوة بين العالم الإسلامي وبين الغرب، وكل ما عملته أنها ساعدت بعض النخب.
ولم يقتصر الأمر على أن يجد المسلمون أنفسهم ضعفاء وفقراء بعد قرون من الثراء والقوة، فقد أتى القرن العشرون بمزيد من الإذلال والهزائم، وتقدمت عليهم دول أخرى كانت أضعف وأفقر، مثل اليابان ودول شرق آسيا.
ومازال السؤال الأساسي مطروحاً: أين الخطأ؟ وكيف نصحح؟
الكثير من المسلمين يطرحون السؤال اليوم في سياق النقد الذاتي بعيداً عن رد الأسباب كلها إلى الاحتلال والهيمنة والاستعمار، ويردها البعض إلى قضايا ومفاتيح إصلاحية ونهضوية، والبعض يردها إلى قضايا ثقافية وفكرية تعود إلى التخلي عن الثقافة الإسلامية والتبعية الثقافية والفكرية للغرب.
والمشروع الغربي للإصلاح يرد مشكلات العالم الإسلامي إلى غياب الحرية، حرية التفكير وحرية الاختيار، وحرية الاقتصاد، وحرية المرأة.(13/30)
وأيا كان السبب، وأيا كانت الإجابة فإن منطقة الشرق الأوسط تبدو في طريقها الحالي وكأنها مقدمة على تفجير نفسها والعالم كله معها أيضاً، وهذا يجعل لسؤال الإصلاح والنهضة وجاهة وأهمية ربما تفوق المرحلة الماضية، فالمشهد العربي والإسلامي اليوم يبدو سباقاً بين الحرب الأهلية والمصالحة، وبين النهضة والتخلف، توظيف فرص اللحاق بالعالم أو ضياعها إلى الأبد، ذلك أن العالم يبدو مقدماً على التشكل في خريطة جديدة، وقد نرى في السنوات العشرين القادمة أقطاباً متعددة للعالم، الصين، والهند، وأوروبا، وروسيا.
وقد يتعرض الوطن العربي إلى احتلال أوروبي جديد.
وإذا استطاعت الأمة العربية والإسلامية أن تسوي خلافاتها، وتعمل على تكاتف طاقاتها ومواهبها ومواردها لتحقيق أهداف نهضوية مشتركة، فقد تضع لنفسها مكاناً لائقاً على الخريطة العالمية، ولكنها إذا لم تفعل فلن يبقى وضعها كما هو في السنوات الخمسين الماضية، بل إنها قد تتجه نحو الفوضى والتبعية والفقر والتخلف.
============(13/31)
(13/32)
الرّؤية الغربيّة للإسلام بين الإنصاف والتحيّز
إبراهيم غرايبة 22/7/1426
27/08/2005
عاد الإسلام من جديد إلى صدارة الاهتمام الغربي أكاديمياً وإعلامياً وسياسياً وإستراتيجياً، وتظهر الحملة الغربية للإسلام قدراً من التفهم بالإضافة إلى ما هو سائد من تحيّز وعداوة. ويقدم كتاب الدكتور محمد عمارة "الإسلام في عيون غربية" نماذج من الجانبين تصلح ملخصاً للمثقف والمتابع ليطلع على نحو عادل ومتوازن لقضية الإسلام والغرب، ولا يقع أسير التعميم والتحيز.
وقد نشرت مجلة "شؤون دولية" الصادرة في "كمبردج" بإنجلترا عدد يناير سنة 1991 ملفاً عن الإسلام لاثنين من أبرز علماء الاجتماع السياسي الإنجليزي (ادوارد مورتيمر) و(ارنست جيلنر).
"لقد شعر الكثيرون بالحاجة إلى اكتشاف تهديد يحل محل التهديد السوفيتي، وبالنسبة إلى هذا الغرض فإن الإسلام جاهز في المتناول، فالإسلام مقاوم للعلمنة، وكان لوجود تقاليد محلية للإسلام دور في عدم نجاح نظرة التقدير والمثالية للحضارة الغربية، وقد امتلك الإسلام مقومات الإصلاح الذاتي، وذلك هو التفسير الأساسي لمقاومة الإسلام المرموقة للعلمنة. إن الإسلام من بين الثقافات الموجودة في الجنوب، وهو الهدف المباشر للحملة الغربية الجديدة، ليس لسبب سوى أنه الثقافة الوحيدة القادرة على توجيه تحدٍ فعلي وحقيقي للثقافة العلمانية الغربية"
ومما جاء في أبحاث ومقررات مؤتمر مجمع الخبراء في الكنائس الغربية في مايو 1978 في "كولورادو" بأمريكا" "إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية، والنظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً، ونحن بحاجة إلى مئات المراكز لفهم الإسلام واختراقه، ولذلك لا يوجد لدينا أمر أكثر أهمية وأولوية من موضوع تنصير المسلمين".
ستركز هذه المقالة على نماذج من شهادات العلماء والمفكرين الغربيين المنصفة، فنجد من هؤلاء مجموعة كبيرة قدموا شهادات منصفة، وقاموا أيضاً بخدمات جليلة للفكر الإسلامي، مثل سير توماس ارنولد (1864-1930) صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" و"الخلافة" و"العقيدة الإسلامية" و"التصوير في الإسلام".
فيقول في كتاب الدعوة إلى الإسلام:" إن حالات المجتمع المسيحي نفسه قد جعلت الجهود التي تنطوي على الغيرة والحماسة الدينية في اكتساب مسلمين جدد أشد أثراً وأعظم قيمة، فبعد تدهور الكنيسة الإغريقية نشأ استبداد في الأمور الدينية جعل الحياة العقلية ترزح تحت القرار الحاكم الذي حرم كل مناقشة في شؤون الأخلاق والدين.
ولكننا لم نسمع في ظل الإسلام عن أي محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي".
ولا يستطيع أي فرد أن يوضح الطابع العقلي للعقيدة الإسلامية أكثر مما وضحه البروفسور (مونتيه) (1856-1907) "الإسلام في جوهره دين عقلي، فتعريف الأسلوب العقلي بأنه طريقة تقييم العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق ينطبق على الإسلام تمام الانطباق، وإن للإسلام كل العلامات التي تدل على أنه مجموعة من العقائد التي قامت على أساس المنطق والعقل، فقد حفظ القرآن منزلته من غير أن يطرأ عليه تغير أو تبديل باعتباره النقطة الأساسية التي تبدأ منها تعاليم هذه العقيدة، وكان من المتوقع لعقيدة محددة كل تحديد وخالية من التعقيدات الفلسفية، ثم في متناول إدراك الشخص العادي أن تمتلك- وإنها لتمتلك فعلا قوة عجيبة- لاكتساب طريقها إلى ضمائر الناس".
ويقول (سير توماس): إن الفكرة التي شاعت أن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق. إن نظرية العقيدة الإسلامية تلتزم التسامح وحرية الحياة الدينية لجميع أتباع الديانات الأخرى، وإن مجرد وجود عدد كبير جداً من الفرق والجماعات المسيحية في الأقطار التي ظلت قروناً في ظل الحكم الإسلامي لدليل ثابت على ذلك التسامح.
ومن الشهادات المنصفة شهادة العلامة"دافيد دى سانتيلا" الذي يقول: "إن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من الشريعة الإسلامية قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مر الدهور، فالشريعة الإسلامية ألغت القيود الصارمة والمحرمات المختلفة التي فرضتها اليهودية على أتباعها، ونسخت الرهبانية المسيحية، وأعلنت رغبتها الصادقة في مسايرة الطبيعة البشرية والنزول إلى مستواها، واستجابت إلى جميع حاجات الإنسان العملية في الحياة، تلك هي الميزات التي تسم الشريعة الإسلامية في كبد حقيقتها، قد نجرؤ على وضعها في أرفع مكان وتقليدها أجل مديح علماء القانون وهو خليق بها".
ويقول الباحث والمؤرخ الإنجليزي (مونتجو مرى وات) وشهادته ثمرة لدراسات الإسلام مقارناً بالديانات الأخرى استمرت ثلاثين عاماً: "إن القرآن الكريم ليس بأي حال من الأحوال كلام محمد ولا هو نتاج تفكيره، إنما هو كلام الله وحده، ولا ينبغي النظر إليه باعتباره نتاج عبقرية بشرية.(13/33)
ومعظم المسيحيين يميلون إلى افتراض أن المسيحية ستكون هي دين العالم في المستقبل، ولكن هذا أبعد ما يكون عن الصحة، ولنذكر دليلاً واحداً، فبعض الأمم المسيحية الكبيرة تعاني بشدة من العنصرية، والدين الذي لا يستطيع أن يحل مشاكل العنصرية بين أعضائه من المستبعد أن يكون قادراً على تقديم حلول كثيرة مجدية لمشاكل العالم الأخرى".
ويقول المستشرق العلامة الألماني شاخت جوزيف: "من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضر قانونه الديني الذي يُسمى بالشريعة، وهي تختلف اختلافاً واضحاً عن جميع أشكال القانون، إنها قانون فريد، فالشريعة الإسلامية هي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وبالرغم من أن التشريع الإسلامي قانون ديني فإنه من حيث الجوهر لا يعارض العقل بأي وجه من الوجوه، فالتشريع الإسلامي منهج عقلاني في فهم النصوص وتفسيرها، ويقدم مثالاً لظاهرة فريدة يقوم فيها العلم القانوني لا الدولة بدور المشرع، وتكون فيها لمؤلفات العلماء قوة القانون".
ويقول أبرز مؤرخي العلم العالمي جورج سارتون: "حادثه واحدة من أخصب الحوادث في نتائجها في تاريخ الإنسانية، ألا وهي ظهور الإسلام.
إن الفرق بين القرآن والإنجيل عظيم جداً وهو يرجع إلى أن القرآن الكريم يشتمل على جميع الأسس الضرورية للحياة الإسلامية (الدين والفقه والتشريع والتقويم واللغة).
والفتوح العربية لم تكن نتيجة صراع بين برابرة جياع وبين سكان مدن أخذوا يتقهقرون في سلم المدنية، بل كانت صراعاً بين دين جديد وثقافة جديدة ناشئة وبين ثقافات منحلة متعادية قلقة.
إن التقدم الصحيح ومعناه تحسين صحيح لأحوال الحياة لا يمكن أن يُبنى على وثنية الآلات، ولكن يجب أن يقوم على الدين وعلى الفن وفوق كل ذلك على العلم القائم على محبة الله ومحبة الحقيقة وحب الجمال وحب العدل، وإن المشكلة الأساسية في عالمنا اليوم هي رفع المستوى الروحي لمجموع الناس، وكان تفوق العرب في ثباتهم وفي شدة حبهم للعلم".
ويقول المستشرق الفرنسي (كارادى فو): "والسبب الآخر لاهتمامنا بعلم العرب هو تأثيره العظيم في الغرب، فالعرب ارتقوا بالحياة العقلية والدراسة العلمية إلى المقام الأسمى في الوقت الذي كان العالم المسيحي يناضل نضال المستميت للانعتاق من أحابيل البربرية وأغلالها، لقد كان لهؤلاء العلماء (العرب) عقول حرة مستطلعة"
ويقول المستشرق الأسباني جوان فيرفيه: "وإذا نحن تحرّينا الدقة نجد أن أصل التطور العلمي للرياضيات عند المسلمين يبدأ مع القران الكريم، وذلك فيما ورد في القرآن من الأحكام المعقدة في تقسيم الميراث، ويُعدّ الخوارزمي أول رياضي مسلم، ونحن مدينون له بمحاولة وضع تنظيم منهجي باللغة العربية لكل المعارف العلمية والتقويم، كما ندين له باللفظ الأسباني "غوارزمي" الذي يعني الترقيم (أي الأعداد ومنازلها والصفر)، وكان الجبر هو الميدان الثاني الذي عمل فيه الخوارزمي، وهو فرع من الرياضيات لم يكن حتى ذلك الوقت موضوعاً لأية دراسة منهجية جادة".
ويقول المستشرق الإنجليزي جب: "وثمة ما يبرر الادعاء القائل: إن الشعر العربي له الفضل إلى حد ما في قيام الشعر الجديد بأوروبا، وإن كنا لا نستطيع السير طول الطريق مع البروفسور "ماكيال" الذي يقول مؤكدا :"كانت أوروبا مدينة بدينها إلى اليهودية، وكذلك هي مدينة بأدبها الروائي إلى العرب، وقليلون هم الذي ينكرون أن الحياة والنشاط وسعة الخيال التي تطبع الآداب الجنوبية يعود إلى الوسط الثقافي العربي في الأندلس خلال العصور المتقدمة، والى الفكر الذي أنشأته تلك الحضارة لدى الإنسان الأندلسي".
ويقول المستشرق الروسي جرا بر: "إن العمارة الإسلامية نشأت بوصفها ظاهرة فريدة متميزة بذاتها انبثقت عن مجموع كبير معقد من الأشكال السابقة عليها أو المعاصرة لها، إنها مجرد مثل واحد لقدرة فريدة لدى المسلمين على تحويل عناصر شكلية أو وظيفية عديدة أخرى إلى شيء إسلامي، ومقدرة المسلمين الهائلة على تطويع الأشكال المستمدة من أقاليم عديدة مختلفة بحيث تلبي مقاصد الإسلام ومبادئه".
وتقول المستشرقة الألمانية (سيجر يد هونكه) صاحبة الكتاب المهم والشهير "شمس العرب تسطع على الغرب": " يعمل العرب على إنقاذ تراث اليونان من الضياع والنسيان فقط، وهو الفضل الوحيد الذي جرت العادة على الاعتراف به لهم حتى الآن، ولم يقوموا بمجرد عرضه وتنظيمه وتزويده بالمعارف الخاصة ومن ثم إيصاله إلى أوروبا بحيث إن عدداً لا يُحصى من الكتب التعليمية العربية حتى القرنين (16-17) قدمت للجامعات أفضل مادة معرفية، فقدا كانوا -وهذا أمر قلما يخطر على بال الأوروبيين- المؤسّسين للكيمياء والفيزياء التطبيقية والجبر والحساب بالمفهوم المعاصر، وعلم المثلثات الكروي، وعلم طبقات الأرض، وعلم الاجتماع، وعلم الكلام"(13/34)
وتقول: "إن الإسلام أعظم ديانة على ظهر الأرض سماحة وإنصافاً نقولها بلا تحيز ودون أن نسمح للأحكام الظالمة أن تلطخه بالسواد، وإذا ما نحينا هذه المغالطات التاريخية الآثمة في حقه، والجهل به فإن علينا أن نتقبل هذا الشريك والصديق مع ضمان حقه في أن يكون كما هو".
هذه نماذج من أقوال المفكرين الغربيين اقتبستها مما جمعه الدكتور محمد عمارة في كتابه المهم، وقد يكون عرضها مفيداً للمشتغلين بالعلاقة بين الإسلام والغرب والمثقفين المسلمين ليكونوا على تواصل مع الحركة العالمية القائمة اليوم في الاهتمام بالإسلام والمسلمين سواء على نحو عدائي أو لأجل الحوار
===============(13/35)
(13/36)
مع قضية .. المرأة والعمل السياسي
د. عدنان علي رضا النحوي 22/5/1426
29/06/2005
لقد سبق أن كتبت أكثر من مقال نُشر حول المرأة وميادين نشاطها، وكتبت كذلك كتاب:"المرأة بين نهجين: الإسلام أو العلمانية". ولكن على كثرة ما أُثير حول هذا الموضوع في الآونة الأخيرة، وما طُرح من مغالطات، وجدت من واجبي أن أعود وأكتب هذا الردَّ والتعقيب على بعض ما قرأت.
يطلق بعضهم اليوم نصاً عاماً مطلقاً دون أي قيود يقول: إنَّ الإسلام قرَّر مساواة المرأة بالرجل مساواة كاملة سواء بسواء، أو يحصرها بحقِّ المرأة في النشاط السياسي كالرجل سواء بسواء. ولقد ذكرتُ في مقالة سابقة أنَّ هذا النصّ العام لا يصحّ إلا أن يستند على نصٍّ من الكتاب والسنَّة أو على ممارسة حقيقيّة ممتدّة زمن النبوّة الخاتمة والخلفاء الراشدين.
وردّ بعضهم عليّ في قولي المذكور أعلاه: إذا لم يوجد النصّ العام في الكتاب والسنّة ولا الممارسة الممتدّة، فهل يوجد نصّ بالتحريم، وهل الأصل في الأشياء الحلّ ما لم يقم نصّ على التحريم أو على العكس؟!
أقول هذا أسلوب جدليّ فيه مغالطة كبيرة، وخلط بين أمرين مختلفين. في مجال الحرام والحلال الأصل في الأشياء التحليل ما لم يرد نصّ على التحريم. أما في أمور التشريع المتعلق بالحقوق والواجبات، والعلاقات بين الرجل والمرأة، وبين الناس عامة، وميادين الممارسة في الحياة فلا بدَّ من نصّ يبيّن الحقوق والواجبات، ويؤيد ما يضعه الناس من نصوص عامة خالية من الضوابط والقيود أو يرفضها. ولذلك جاءت في الكتاب والسنّة نصوص ثابتة تحدّد حقوق الرجل والمرأة في الميراث حيث تختلف الحقوق، وجاءت نصوص ثابتة في أنَّ المسؤولية الأولى للمرأة رعاية بيت زوجها، وطاعته ورعاية ولده: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته ..... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ... " [أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي[.
والإسلام فرض الجهاد في سبيل الله على الرجل المسلم، ولم يفرضه على المرأة المسلمة، وإن اشتركت المرأة المسلمة فما كان ذلك إلا في بعض جوانب المعركة كمداواة الجرحى، وتوفير بعض المساعدات، أو في ظرف خاص مثل معركة أحد، لحديث رسول ا صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة رضي الله عنها فقال:
"نعم! عليهنَّ جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" [أخرجه البخاري]. وأحاديت صحيحة أخرى. وصلاة الجمعة فرض على الرجل المسلم وليست فرضاً على المرأة المسلمة، وصلاة المرأة المسلمة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً). [ النساء : 34].
والرجل هو المكلف بالإنفاق على البيت، والمرأة ليست مكلفة بذلك إلا إن أحبَّت أن تعين زوجها. فالرجل قوَّام على بيته وعلى زوجه، وقوَّام صيغة مبالغة تفيد المسؤولية الكبيرة.
وقِوامة الرجل في البيت على زوجه مفصّلة في الكتاب والسنَّة تفصيلاً واسعاً لا يترك لأحد فرصة لفساد تأويل، وكلها تجعل الرجل أمير البيت بالمعروف، وعلى الزوجة طاعته بالمعروف، ليسود السكن والمودة، حين يعرف الرجل دينه والمرأة دينها، ويتّقي كلّ منهما ربَّه، فيعرف كلّ منهما مسؤولياته وحدوده عن إيمان صادق وعلم صاف بالكتاب والسنّة.
ولكن من الناس اليوم من يريد أن يؤوّل معنى القِوامة حتى يحصرها في أمور ضيّقة تجعل من الزوجة مساوية للرجل في نظام الأسرة، تاركاً الأحاديث والآيات الكثيرة الواردة في ذلك.
ولا يحل لامرأة أن تصوم "نافلة" وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها محرم، ولا يحل لها أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها محرم ، وأحاديث صحيحة أخرى كثيرة حول ذلك يصعب عرضها. وفي أحوال الطلاق تكون القاعدة: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.
وبالفطرة ندرك الفروق بين المرأة والرجل بصفة عامة، وجاء العلم اليوم ليكشف الفروق الرئيسة بين الرجل والمرأة في النواحي الجسمية والنفسية. ولكن الله أعلم بكل الفروق، فأنزل تشريعه رحمة بعباده ولصالحهم في الدنيا والآخرة.
إذا كانت هذه بعض الفروق بين الرجل والمرأة، فإنها كلها لا تنقص من قدر المرأة في الإسلام ولا من كرامتها، فكرامة المرأة وقدرها تنبع من طاعتها لله في شرعه، وكرامة الرجل وقدره تنبع من طاعته لله في شرعه، ليعرف كلٌّ منهما حدوده التي حدّها الله دون التمرّد عليها بتأويل فاسد أو تجاهل لنصوص ثابتة.(13/37)
وإذا كانت هذه بعض الفروق، فإن الإسلام ساوى بين المرأة والرجل في أمور أخرى واضحة. فالشعائر فرض على المسلم والمسلمة، وطلب العلم فرض على المسلم والمسلمة، وتبليغ رسالة الله ودينه فرض على المسلم والمسلمة كلٌّ في ميدانه وفي نطاق مسؤوليته، كلٌّ قدر وسعه الصادق. وللمرأة ميادين للعمل ليست للرجل، وللرجل ميادين للعمل ليست للمرأة، ويمارس الرجل مسؤولياته وحقوقه في النهج الذي رسمه الله له وبيّنه وفصَّله، وتمارس المرأة مسؤولياتها وحقوقها في النهج الذي رسمه الله لها وبيّنه وفصَّله. والأسرة هي الميدان الذي تشترك فيه المرأة والرجل في العمل في سكن ومودَّة وتعاون، ولكل دوره ومنزلته كما أشرنا سابقاً.
فيمكن للمرأة أن تمارس نشاطها العلمي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي وهي في ميدانها الذي رسمه لها الإسلام، دون اختلاط بالرجال، ودون تبرّج وكشف للزينة، ومع كامل الالتزام بآداب الإسلام. وهذا كله بعد أن تُوفي المرأة بمسؤوليَّتها الأولى التي حدَّدها الله لها في رعاية زوجها وبيته وولده. وأساس ذلك أن يكون المجتمع مجتمعاً ملتزماً بشرع الله خاضعاً له، حتى يتسنَّى وضع النظام والقانون الذي يفسح المجال للمرأة أن توفي بمسؤولياتها، من حيث تنسيق الوقت لكل نشاط دون تعارض وإخلال.
ولفهم فقه هذه القضية لا يكفي أن نأخذ حادثة واحدة نتلقّفها من هنا وهناك، ننتزعها من ظروفها وملابساتها لنبتدع نصّاً بشريَّاً عاماً ننزله منزلة نصوص الكتاب والسنَّة ليُطبّق في كلِّ زمان ومكان! القضيّة قضية نهج ربّاني متماسك متكامل أنزله الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا بدّ من دراسته كلّه على ترابطه، وتطبيقه كله والتزامه كله على ترابطه وتماسكه، ولا يجوز التزام جزء وترك أجزاء.
والأمثلة التي يستدل بها مروّجو مساواة المرأة بالرجل كلها حالات فرديّة. لا تحمل صفة الامتداد والاستمرار، ولا تخضع لنصٍّ عام من كتاب أو سنَّة. وتظل مرتبطة بظروفها الخاصة. وكلُّ المروّجين لمبدأ مساواة المرأة بالرجل يأخذون قصة أم سلمة في الحديبية، حين شكا إليها زوجها رسول ا صلى الله عليه وسلم همّه من أنّ الصحابة لم ينصاعوا لأمره بالتحلّلِ وفكّ الإحرام. فأشارت عليه: اخرج أنت وفك الإحرام، فيقتدوا بك! واستحسن الرسو صلى الله عليه وسلم رأيها. وهكذا كان ! فالرجل يفرغ همه لزوجه، سواء أكان هماً سياسياً أو غير ذلك، ولا يُعقل أن ينحصر حديث الرجل مع زوجه في أمور المنزل، فالحياة كلها مفتوحة أمامهما يخوضان فيها على طاعة الله من خلال السكن والمودة، فهي ليست دليلاً على مشاركة المرأة للرجل سواء بسواء في النشاط السياسي. ولا أدلّ على ذلك من أنَّ أمّ سلمة نفسها لم نعد نراها هي أو غيرها مشاركة للرجال سواء بسواء في مجالس الشورى والسياسة وغيرها. أم سلمة -رضي الله عنها- كانت زوجة أعانت زوجها برأيها، ولم تكن سياسية مارست السياسة في المجتمع. ولا نجد في كتب السيرة والتاريخ لها دور المرأة التي خاضت ميادين السياسة كما يدعو بعضهم النساء إليه اليوم!
ومن النساء اليوم، ومن الدعاة من يستدل على حق المرأة ومساواتها للرجل في النشاط السياسي، (وهذا يتبعه المساواة في غير السياسة) ، مِنْ أنَّ مِنَ النساء من هنَّ موهوبات مبدعات مثل الرجل أو أكثر. لا خلاف حول ذلك، فالله يضع المواهب في الرجال والنساء على حكمة له. لا ننكر أنّ من النساء من هنّ موهوبات في هذا الباب أو ذاك، وأنه من حقّهنّ ممارسة هذه الموهبة في الطبّ والتدريس والأدب والعلوم وغير ذلك. ولكن الاختلاف هو في أسلوب الممارسة، فهناك فرق بين النساء اللواتي يتولّين التدريس للذكور أو للإناث فقط، أو يمارسن التدريس مع الرجل في نفس المدرسة سواء بسواء كالرجل، أو أن يمارسن التدريس في أجواء النساء فقط! وأسلوب الإسلام واضح جلي! وكذلك في الطب وفي مختلف العلوم والميادين. فالمرأة تمارس مواهبها من خلال ضوابط شرعيّة، ومن خلال التزام منهج ربّاني متكامل وليس من خلال قواعد متفلّتة!
وخديجة -رضي الله عنها- كانت أول امرأة آمنت، وأعانت الرسو صلى الله عليه وسلم بمالها وعقلها وجهدها، وبالتزامها لدين الله في حدود ما كان ينزل حينذاك. وذهابُها مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل أمر طبيعي من زوجة تقف مع زوجها وتعينه، خاضعة لشرع الله، على قدر ما كان يتنزّل آنذاك. ولكن أين المشاركة السياسية كالرجل سواء بسواء. كان الرسو صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه في دار الأرقم، فهل كان النساء يختلطن مع الرجال في دار الأرقم كالرجال سواء بسواء، حيث كانت تدور شؤون الدعوة كلها؟(13/38)
وانتداب أسماء -رضي الله عنها- عند الهجرة، وكانت هذه المهمّة هي نقل الطعام والأخبار إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن الحماسة أخذت ببعضهن حتى جعلت من هذا العمل دليلاً على مشاركة المرأة في النشاط السياسي كالرجل سواء بسواء، أو "جعلت من هذا العمل لا يقف عند النشاط السياسي والمشاركة فيه، ولكنه صناعة للحياة كلها"! وما زالت المرأة تقوم بمثل هذا الجهد في مجتمعات كثيرة خاضعة لأعراف المجتمع مع كل حالة.
كل هذه الأمثلة لم تقع إلا في مرحلة لم يكتمل فيها التشريع المنزّل من عند الله. فلم يكن الحجاب آنذاك قد فرض، وكثير من حدود المرأة والرجل لم يكن تنزّل بها تشريع أو اكتمل.
وأمَّا أنَّ الفاروق -رضي الله عنه- عهد إلى الشفاء بنت عبد الله محتسبة على السوق، فخبر يحتاج إلى تدقيق. فما ورد في "الإصابة في تمييز الصحابة" قوله: "وربما عهد إليها بشيء من عمل السوق" . و"ربما" تجعل الخبر غير موثوق، ولم ينقله عنه كثير ممن كتب عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أو عن الشفاء رضي الله عنها. وكان أحرى بنا أن نبرز الشفاء -رضي الله عنها- معلِّمة للنساء من الصحابة الكتابة والقراءة والرقية. فقد كانت من فضليات الصحابيات تعرف حدودها. وربما كان ما كُلِّفت به من أمر السوق، لو ثبت الخبر أمراً ليس فيه اختلاط بالرجال. فالخبر غير دقيق ولا العمل معروف وفيه "ربما"! وفيه: "بشيءٍ من عمل السوق" . وبعضنا يقرر من عند نفسه العمل عن غير علم ولا تبيُّنٍ.
أما القول بأنَّ سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ أفتى بدخول المرأة هذه المجالس النيابية، والمشاركة فيها فقول غير سليم. وسماحته لم يُفْتِ بذلك، وإنَّما أفتى بعكس ذلك. ففي كتابه: " الفتاوى النسائية " يقول: " فإن الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجل المؤدي إلى الاختلاط سواء كان على جهة التصريح أو التلويح بحجة أنَّ ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة أمر خطير جداً له تبعاته الخطيرة وثمراته المرّة وعواقبه الوخيمة، رغم مصادمته للنصوص الشرعيّة. ومن أراد أن يعرف ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تُحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم ...." ويقول سماحته: "فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخصّ الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ..." [ ص: 15-17]
ويقول فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ في كتابه: "من الأحكام الفقهية في الفتاوى النسائية" ص 62 : " ... المجال العمليّ للمرأة أن تعمل بما يختص به النساء مثل: أن تعمل في تعليم البنات سواء أكان ذلك عملاً إدارياً أو فنياً، وفي بيتها أعمال كثيرة ....، وأما العمل في مجالات تختص بالرجال فإنه لا يجوز لها أن تعمل حيث إنه يستلزم الاختلاط بالرجال وهي فتنة عظيمة يجب الحذر منها" .
والاستشهاد بالآية الكريمة : (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة :11]
ليس حجة على شيء إلا أن في الرجال ضعفاء ومنافقين، وكذلك في النساء يوجد ضعيفات ومنافقات. فهذا أمر خارج عن موضوع البحث كله.
وربما تجد امرأة أو فتاة تردُّ على ما طرحته حول هذا الموضوع، ثم تخفي اسمها، و كان أولى أن تُفصح عن اسمها لتمارس حقَّها في ذلك. فبإخفاء اسمها ناقضت نفسها في دعواها من حق المرأة في المشاركة في العمل السياسي كالرجل سواء بسواء. فإذا أخفت اسمها فكيف ستنزل ميادين الرجال باسمها وجسمها؟!
وكان خيراً لكل من يتعرَّض لمثل هذه الموضوعات أن يتثبَّت من كل خبر قبل أن ينقله على غير وجهه الصحيح، كما في موضوع الصحابية شفاء بنت عبد الله العدوية رضي الله عنها، وكما فيما نُقل عن سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله.
وأنصح كذلك أن يتجنب المسلم المغالطة والتأويل الفاسدين واللعب بالألفاظ، كما نرى عند بعض من يدعو إلى مساواة المرأة بالرجل مساواة مطلقة، أو بالعمل السياسي، وأنصح بعدم تلقُّط الحوادث المرتبطة بظروفها غير ممتدَّةٍ مع الزمن، وغير ممثِّلة لقاعدة شرعيَّة.
وكذلك فمما قرأته من جميع الداعين إلى مساواة المرأة بالرجل إما مساواة مطلقة، أو مساواة في العمل السياسي، لم أجد أحداً أتى بدليل شرعي واحد يحسم القضية لصالح رأيه. وكما قلت فإنَّ الأمثلة التي يسوقونها إما حوادث لم تحمل صفة الاستمرار في المجتمع الإسلامي زمن النبوّة الخاتمة والخلفاء الراشدين، وإما تأويل غير سليم لآية أو حديث، تأويل لم يُعرف خلال خمسة عشر قرناً الماضية، ولا يتفق وأُصول اللغة العربية أو قواعد الاجتهاد، أو تحميل الألفاظ ما لا تحتمل، أو أن تكون الرواية غير صحيحة أو غير دقيقة، ويكون الاستنتاج تبعاً لذلك غير سليم.(13/39)
ولا بدّ من أن نعي أنَّ إثارة حقوق المرأة اليوم ومساواتها بالرجل إثارة تحمل الفتنة والتضليل. ذلك لأن مشكلة المسلمين اليوم ليست مساواة المرأة بالرجل، فالمرأة نفسها تحتاج إلى بناء وإعداد، والرجل يحتاج إلى بناء وإعداد، وقضايا الأمة كلها يجب أن تُدرس وتُحدد المشكلات ومواطن الخلل، ثمّ يوضع نهج عام وخطة كاملة لمعالجة جميع المشكلات. أمّا أن نخفي مشكلاتنا الكبيرة ونبرز مساواة المرأة بالرجل فأمر غريب يتنافى وأبسط قواعد المنطق وواجبات الإصلاح ومنهاج الإسلام.
ولقد طُبّقت مساواة المرأة بالرجل في السياسة وغيرها في بلدان عربية وإسلامية، فماذا قدَّمت هذه المساواة لبلادهم؟ وماذا جنت البلاد غير الهزائم والذل والهوان؟ ولم تأخذ من الحضارة إلا زخرفاً كاذباً، لم يهب القوَّة للأمة ولا العزّة والمنعة، ولا القدرة على حماية الأرض والنفس والعرض.
لقد أشغلنا الغرب بقضايا كثيرة أخذت وقتنا وجهدنا وأموالنا واستنفدت طاقاتنا، حتى وقفنا عاجزين لا وزن لنا.
المظاهرات صورة من صور النشاط السياسي، والمرأة شاركت في المظاهرات في بعض البلاد الإسلامية، فلننظر ماذا لا قين وماذا كتبت الصحف عن ذلك. وأنشطة سياسية أخرى رأينا عواقبها في بعض مجتمعاتنا الإسلامية، ورأينا عواقبها الخطيرة في العالم الغربي. أليس في هذا كله من واعظ وعبرة؟!
================(13/40)
(13/41)
الإسلام الحكومي والصحوة
محمد العبد الكريم 16/5/1426
23/06/2005
توطئة:
موقف الصحوة من الجهاد:
الجهاد في فكر الصحوة ذروة سنام الإسلام، و"التربية الجهاديّة" مطلب وضرورة من ضرورات قيام الدين.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "انتدب الله -عز وجل- لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل "(1)
ولا أحد من دعاة الصحوة وعلمائها يتخلى عن هذا المبدأ، وهم لا يستعيبون ذكره أو تربية الناشئة عليه، بل يفاخرون بالانتساب إليه ويتشرفون غاية الشرف بمذاكرة أحاديثه، ويتشوقون إلى طلبه والاستشهاد في ساحات المعارك.
لكنهم يفرقون بين الجهاد كمبدأ وقيمة، وما يجري باسم الجهاد على أرض الواقع في الجزائر أو مصر أو بلاد الحرمين على وجه الخصوص، تماماً كما يفرقون بين مصطلح السلفية كقيمة معرفية ومرجعية لأهل السنة، وبين تطبيقاتها العبثية التي جعلت من السلفية مسبة على أصحابها والمنتسبين إليها.
تهمة الصحوة:
بسبب إيمان دعاة الصحوة بقيمة الجهاد ومبدئيّته في الشريعة، صارت محلاً للتهمة؛ رغم وضوح مواقفها من الأحداث التي جرت على أرض الحرمين، ورغم بيان الجبهة الداخلية الذي سبق التفجيرات، ورغم حسم الموقف فكرياً وميدانياً، ومع كل ذلك تجري محاولات التوريط والاستعداء بأقوى ما يمكن.
فالصحوة اليوم متهمة بأنها تمثل الجناح السياسي لحركات العنف والجهاد المسلح، وقد اعتمد اتهامها على تفسيرات كثيرة لم تكن تخضع للبحث أو الدراسة والتتبع والربط والاستبيان والفهم السليم ...؛ بل كان عماد البحث عند أكثر جماعات "الإسلام الحكومي" والتيار الليبرالي بوجه عام: إما تجارب سابقة خاضها بعض "المتلبرلين" (2)، أو بعث لأقوال سيد قطب ومحمد قطب وأبو الحسن الندوي ...، أو مقاطع من رسالة العلمانية والإرجاء للشيخ سفر الحوالي، أو مكالمة له في قناة الجزيرة (3) ، أو شريط للشيخ سلمان في "رسالته لرجل الأمن" ، أو تخيّلات وأوهام بأن هناك مراحل وأقبية وسراديب ...، أو قياسات تُستدعى من واقع وتُستجلب لواقع مغاير، أو تحميل للعبارات أضعاف ما تحتمل ...الخ ، وكل تلك التصديات والمماحكات لم تصمد أمام أقل تمحيص علمي؛ بل كانت في كثير من الأحيان محل استهجان، وكشف عن تخلّف عقلي ونقص في المروءة وفجور في الخصومة.
فمحاولات الربط الدائمة بين تيار الصحوة والجهاديين" بصورتهم الحالية " لم تخلُ من تكلّف، ولم تنته إلى نتيجة يمكن قبولها حتى على المستوى الرسمي أو الشعبي.
وكل ما هنالك "شخبطة" صحفية، وحوارات متلفزة مدفوعة الأجر، ولقاءات فضائية حاولت ولم تنجح ولكنها ما زالت تحاول.
وإذا انتقلنا إلى أحداث العام الماضي والمواجهات الأمنية التي انتهت لصالح الدولة، سنجد أنه نشأ عن تلك الأزمة أزمة كبرى في تفسير الحدث نتج عنها خلط صارخ بين الأوراق آلَ إلى اعتبار تيار الصحوة بكل ميادينها وأنشطتها ومخيماتها وحلقاتها ودروسها ومحاضراتها وقنواتها الفضائية ... ستاراً عن مقاصدها الحقيقية، وعبّر عن ذلك في أدبيات الطرح الليبرالي بـ" الإسلام السياسي" أي: الذي يسعى من خلال التستر بالدين إلى مآرب سياسية. هذه بإيجاز تهمة الصحوة، والتي يسعى فيها تيار "الإسلام الحكومي" بدور التعبئة والاستعداء والتواطؤ.
وماذا بعد!
لقد أدلى الكثيرون بدلوهم، وكان من المجمع عليه بين التيارات الليبرالية والإسلامية "الحكومية" أن الصحوة بدعاتها ورموزها يشكلون عبئاً كبيراً يجب تصفيته والخلاص منه، وقد قُدّمت المقترحات بهذا الصدد؛ بل قُدّمت الأسماء التي يجب الأخذ برأيها في مراقبة التعليم وتقريبها إلى أماكن نفوذ القرار حتى تؤدي دورها في التجفيف والتصفية بقدر أكبر،
ولم يتورع رموز ودعاة الإسلام "الحكومي" عن إعلان تواطئهم مع كل من يقف في وجه الصحوة متوقعين أنهم قد أثبتوا -بما لا يدع مجالاً للشك- أن هناك مخططاً رهيباً يقوده سيد قطب من تحت قبره يأمر فيه أتباعه بتكوين قاعدة صلبة حتى تحين المرحلة الثانية لإقامة الخلافة الإسلامية.
أين الحقيقة؟
رغم بساطة الحقيقة ووضوحها إلا أن الاستعراض الذي قام به "تيار الإسلام الحكومي" أطال الوقت في اللجاجة والخصومة.
إن تلك التهمة التي اتهمت بها الصحوة تستدعي لوازم، وتطرح أسئلة كثيرة عن سبب خروج الخوارج في أطهر وأنقى قرن عرفه التاريخ، فهل كان لسيد قطب أثر في بروز تيار الخوارج؟!
ألا يمكن أن يكون فهم النص وطريقة التعامل معه بغض النظر عن التيارات والمذاهب والأشخاص دوراً في تشكيل إسلام متشدد وإسلام معتدل؟ أليس من الممكن استيعاب أزمة التكفير وحلها من خلال حلحلة المفاهيم الخاطئة؟
ألم يكن رجوع أكثر من ثلث الخوارج على يد ابن عباس -رضي الله عنه- بسبب تركيزه على تصحيح مشكلة ذهنية، وليس التعمق في شرح المذهب ومن أين أتى وما هي أهدافه؟(13/42)
أليس رجوع بعض "الفئة الضالة" اليوم على يد بعض الإصلاحيين كان من خلال تصحيح فكرة خاطئة تعاملوا معها من دون ذكر خلفيات الفكرة؟!
1- صحيح البخاري 1/22 . كتاب الإيمان . باب الجهاد من الإيمان .رقم ( 36 )
2- يسمى كثير منهم بخبراء في الحركات الإسلامية.
3- أطلق بعضهم على الشيخ "إمام المفسدين" رداً على من دعا له بالشفاء من مرضه! اللهم قنا شر أنفسنا.
==============(13/43)
(13/44)
المرأة المسلمة.. والنشاط السياسي!
د. عدنان علي رضا النحوي 24/4/1426
01/06/2005
للمرأة قضايا تثار في كلِّ مجتمع مضطرب الموازين منحرف القيم أو جاهليٍّ أو ملحدٍ ، كان للمرأة قضيّة في العصر الجاهليّ في الجزيرة العربيَّة، وفي اليونان، وفي روما في عصور الانحلال والتفلّت. ولها قضيّة كُبْرى في الحضارة الغربيّة التي سحقت المرأة وسرقت شرفها، وحطّمت كرامتها ورمتها في فتنة الدنيا ووحول فسادها، مخدّرة لا تُحسُّ بحقيقة شقائها، خدّرتها الشهوة المتفلَّتة، أو الجري اللاهث وراء لقمة العيش، أو زهوة المراكز والمناصب والمسؤوليات.
ولكن لم يكن للمرأة مشكلة في عصر النبوة الخاتمة، ولا في عصر الخلفاء الراشدين، ولا في أيّ عصر ساد فيه حكم الكتاب والسنَّة وكانت كلمة الله فيه هي العليا.
ولكننا اليوم نعاني من هذه القضيَّة، قضيّة المرأة بعامة ومشاركتها في العمل السياسي بخاصة في الآونة الأخيرة، ونرى البعض يطلق مثل هذا الحكم:
" الإسلام لم يُفَرِّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية فهما على قدم سواء".
حكم عام يُطلق يكاد يوحي بأنه مستقى من نصّ من الكتاب والسنة، أو أنه يمثل ممارسة واضحة في التاريخ الإسلامي منذ عهد النبوّة.
إِنّ هذا النصّ العام المطلق على هذه الصورة الجازمة والتي يطلقها بعض العلماء المعاصرين دون أي قيود، لا تصحّ إلا بتوافر نصّ ثابت من الكتاب والسنة، أو بتوافر ممارسة واقعية ممتدّة في المجتمع الإسلامي الملتزم بالكتاب والسنة، والذي تكون فيه كلمة الله هي العليا. ولكننا لا نجد في الكتاب والسنّة أيّ نصّ يجيز هذا الحكم العام المطلق الخالي من أي قيود، ولا نجد كذلك أيّ ممارسة عمليّة ممتدّة له في حياة المسلمين والمجتمع الإسلامي الملتزم منذ عهد النبوة الخاتمة صلى الله عليه وسلم ، وحياة الخلفاء الراشدين، وسائر فترات التاريخ التي التزم فيها المجتمعُ الإسلامَ. نساء النبيّ r لم يمارسن النشاط السياسيّ مساويات للرجال على قدم سواء، ولا نساء الخلفاء الراشدين، ولا نساء العصور التي تلت، ولا نجد هذه الدعوة التي يطلقها بعض العلماء إلا في العصور الحديثة المتأخرة التي انحسر فيها تطبيق الإسلام ، وغزا الفكر الغربي ديار المسلمين.
وإذا كان رسول ا صلى الله عليه وسلم شكا إلى زوجه أم سلمة ما حدث من أصحابه في الحديبية، فأشارت عليه برأيٍ استحسنه وأخذ به، فهذه حالة طبيعية في جوّ الأسرة المسلمة أن يُفرغ الرجل إلى زوجته بعض همومه، وأن يستشيرها في ذلك، وأن يستمع إلى رأيها، فإن وجد فيه خيراً أخذ به، وإن لم يجدْ تركه. هذه حادثة نتعلم منها أدب الحياة الزوجيّة في الإسلام، ونتأسَّى برسول ا صلى الله عليه وسلم ونسائه في ذلك، دون أن نعتبر ذلك نشاطاً سياسياً لنخرج منها بحكم عام مطلق ينطبق على جميع النساء في جميع العصور والأماكن في النشاط السياسي.
وأم سلمة بعد ذلك لم يُعرَف عنها أنها شاركت في النشاط السياسيّ مساوية للرجال على قدم سواء، وكذلك سائر النساء لم يُعرف عنهن هذه المشاركة المساوية للرجال في المجتمع المسلم. فهذه حادثة تكاد تكون فريدة لا تصلح لإطلاق حكم عام.
وحين أنزل الله سبحانه وتعالى على عبده ورسول صلى الله عليه وسلم قوله:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب: 28- 29 ].
لم يكن الأمر أن نساء صلى الله عليه وسلم يتطلّعن إلى الزينة والحليّ والمتع الدنيوية، كما هو حال نساء الملوك والرؤساء حسب ما ذكر بعضهم. لقد كنّ يدركن وهن في مدرسة النبوة أن الإسلام نهج آخر، ولكن حياة النبيّ r كان فيها شدة وتقشف وزهد لم يكن في سائر بيوت المؤمنين، فأردن المساواة مع مستوى غيرهنّ من المؤمنات، لا مستوى الملوك والرؤساء.
وعندما ندرس هذه الآيات وما يتعلّق بنساء النبيّ r ، فإنما ندرسه ليس من منطلق الرغبات الدنيوية الظاهرة في حياة الملوك، وإنما ندرسه منطلقين من القاعدة الرئيسة التي نصّ عليها القرآن الكريم من أنهنّ أُمهات المؤمنين، لهن هذه الحرمة والمنزلة العظيمة. فجاءت هذه الآيات الكريمة لتذكّر المسلمين ونساء النبيّ r والنساء المؤمنات بعامة أن هناك نهجين مختلفين للحياة في ميزان الإسلام: نهج الدار الآخرة وما يشمله من قواعد وأسس ونظام ، ونهج الدنيا وما يموج فيه من أهواء وشهوات. نهجان مختلفان:
نهجان قد ميّز الرحمن بينهما … …
نهج الضلال ونهج الحقّ والرشَدِ
لا يجمع الله نهج المؤمنين على … …
نهج الفساد ولا حقّاً على فَنَدِ(13/45)
ولقد وَعَت أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- هذا التذكير، فاخترْن الله ورسوله والدار الآخرة، ليكُنّ بذلك القدوة للنساء المؤمنات أبد الدهر. ولا يتعارض هذا مع بقاء الطباع الخاصّة بالنساء، الطباع التي فُطرن عليها يهذّبها الإسلام ويصونها من الانحراف.
ولقد خلق الله المرأة لتكون امرأةً، وخلق الرجل ليكون رجلاً، وجعل سبحانه وتعالى بحكمته تكويناً للمرأة في جسمها ونفسيّتها، وجعل للرجل تكويناً متميزاً في جسمه ونفسيّته، ومازال العلم يكتشف الفوارق التي تظهر بين الرجال والنساء. وعلى ضوء ذلك، جعل الله للرجل مسؤوليات وواجباتٍ وحقوقاً، وللمرأة مسؤوليات وواجبات وحقوقاً، لتكون المرأة شريكة للرجل لا مساويةً له، حتى يتكامل العمل في المجتمع الإسلامي، حين يوفي كلٌّ منهما بمسؤولياته، وقد عرف كلٌّ منهما حدوده كما بيّنها الله لهم جميعاً.
وهناك حقوق مشتركة بين الرجل والمرأة. فالبيت المسلم هو ميدان التعاون في ظلال المودّة والسكن والرحمة، دون أن يتحوّل الرجل إِلى امرأة أو المرأة إلى رجل. ومن حق المرأة أن تتعلم لأنَّ طلب العلم فريضة على كل مسلم، رجلاً كان أو امرأة ، " طلب العلم فريضة على كل مسلم"، (1) ومن حقّها وواجبها أن تكون مدرِّسة للنساء، وطبيبة للنساء، وفي كل نشاط مارسته النساء المؤمنات في مجتمعات يحكمها منهاج الله وكلمة الله فيها هي العليا، دون أن يتشبّهْن بالرجال:
فعن ابن عباس -رضي عنه- عن الرسو صلى الله عليه وسلم قال: "لعنَ الله المتشبّهات من النساء بالرجال، والمتشبّهين من الرجال بالنساء. "(2)
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن الرسو صلى الله عليه وسلم قال: " لعنَ الله الرَّجُلةَ من النساء " (3) .
وأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها هنا تبيّن أن للإسلام نهجاً مختلفاً عن نهج الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية، وتبيّن بالنصوص والتطبيق كما أسلفنا أن المرأة ليست مساوية للرجل في النشاط السياسي في الإسلام، إلا إذا نزعنا إلى نهج آخر أخذت تدوّي به الدنيا، وأخذنا نبحث عن مسوّغات له في دين الله .
ومن أهم ما أمر به الإسلامُ المرأة متميّزاً بذلك من غيره طاعتها لزوجها، حتى قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
) لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولا تؤدّي المرأة حقَّ الله -عزّ وجلَّ- عليها كلَّه حتى تؤدّي حقَّ زوجها عليها كله ، ...) (4)إلى آخر الحديث.
فعندما ندرس المرأة وحقوقها ومسؤولياتها في الإسلام فيجب أن ننطلق من حماية الأسرة ورعاية الأطفال وتربيتهم، فالأسرة والبيت المسلم هو ركن المجتمع الإسلامي وأساسه، وهو المدرسة الأولى التي تبني للأمة أجيالها، لا تتركهم للخادمات وغيرهن.
في الإسلام لابد من عرض التصوّر الكامل المترابط لنشاط المرأة، دون أن نأخذ جُزْءاً وندع أجزاءً، ونركّز على أمر لم يركّز عليه الإسلام، ولم يبرزه لا في نصوصه ولا في ميدان الممارسة. فالحياة الإسلامية متكاملة مترابطة في نهج الإسلام، لا تتناثر قطعاً معزولة بعضها عن بعض.
ولا يمنع شيء أن يخرج من بين النساء المؤمنات عالمات مبدعات شاعرات، مفتيات موهوبات. ولكن هذا كله ليس هو الذي يحدّد دور المرأة في الإسلام، فالذي يحدّده شرع الله بنصوصه الواضحة دون تأويل وبالممارسة الممتدّة الواضحة. والمرأة حين تكون عالمة أو فقيهة أو أديبة، فهي أحرى أن تصبح أكثر تمسّكاً بقوله سبحانه وتعالى:
(.... فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله...) [النساء: 34]
ومما يثير العجب حقّاً أن الرجل الشيوعي جوربا تشوف، أدرك خطورة غياب المرأة عن بيتها وواجباتها فيه، واجباتها التي ليس لها بديل. فلنستمع إلى ما يقوله:
" ... ولكن في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميّزة المختلفة بدورها أماً وربّة أسرة، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال" .
ويتابع فيقول: " ... فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء والإنتاج وقطاع الخدمات، وحقل العلم والإبداع، ما يكفي من الوقت للاهتمام بشؤون الحياة اليومية، كإدارة المنزل وتربية الأطفال، وحتى مجرّد الراحة المنزليّة. وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان والشباب، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربويّة وحتى إنتاجية، إنما يتعلّق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية... "(5)(13/46)
في دراستهم للمجتمع وللصناعة والإنتاج، انطلقوا كما نرى، ولو متأخرين، من البيت، من الأسرة، من دور المرأة في البيت، الدور الذي لا بديل له. ونحن المسلمين، وقد فصّل لنا الإسلام نظام حياتنا منطلقاً من تحديد مسؤوليات الفرد، الرجل والمرأة، ثم البيت والأسرة- تركنا ذلك وقفزنا لنبحث في حق المرأة أن تكون وزيرة أو عضواً في البرلمان أو رئيسة دولة، أو رئيسة شركة، ونضع من أَجل ذلك قانوناً عاماً مطلقاً دون قيود " :الإسلام لم يفرّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية!" وحسبُنا تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين، فهل كانت المرأة مساوية للرجل في الحقوق السياسية؟! أم أن الصحابة والخلفاء الراشدين أخطؤوا ولم يدركوا هذه الحقوق فظلموا المرأة وحرموها من حقوقها؟!
لا نقول: إِنّ المرأة عامة، أو أن النساء كلهن لا يصلحن للمهمات الكبيرة بحكم كونهنّ نساء. لا نقول هذا. ولكن نقول: إن الله الذي خلق الرجل والمرأة حدّد مسؤوليات الرجل والمرأة، ومارس المسلمون ذلك في عهد النبيّ r، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وفي عصور كثيرة أخرى.
وقد يكون بعض النساء أكبر موهبة أو طاقة من بعض الرجال، فهل هذا يعني أن تنزل المرأة معتركاً مختلفاً فيه أجواء كثيرة، وتترك قواعد الإسلام تأسّياً بنساء غير مؤمنات، أو مجتمعات غير ملتزمة بالإسلام.
وغفر الله لمن قال، كما نشرته إحدى الصحف: " إنّ الرسو صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم أنه سيظهر بين النساء أمثال جولدا مائير، أنديرا غاندي، تاتشر، ما قال حديثه الشريف: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) . فالمؤسف أنَّ من الناس من يعتبر أنَّ هؤلاء النساء أفلح بهنّ قومهن. عجباً كل العجب! هل أصبح الكفر وزينة الدنيا ومتاعها هو ميزان الفلاح! وأين قوله سبحانه وتعالى:
(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [ الزخرف : 33-35] نِعْمَ البيت الواسع والسرر المريحة للرجل الصالح. ونعمت القوّة والسلاح والصناعة للمؤمنين.
إننا نعتقد أنه لا يصح أن نستشهد بمجتمعات غير ملتزمة بالإسلام لنخرج بقواعد شرعية في الإسلام.
أما حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم (ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) ، فالحديث يرويه أحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجه والترمذي. ويأتي الحديث بألفاظ مختلفة ولكنها تجمع على المعنى والنص. وإنّ مناسبة الحديث ونصّ الحديث باللغة العربيّة يفيد العموم ولا يفيد الخصوص. ولا يعجز الرسو صلى الله عليه وسلم أن يخصّ ذلك بأهل فارس لو أراد التخصيص. ولكن كلمة قوم نكرة تفيد العموم، وامرأة نكرة تفيد العموم، فلا حاجة لنا إلى تأويل الحديث بما لا تحتمل اللغة، وربما لا مصلحة لنا في هذا التأويل.
وبما أنَّ المرأة مطالبة بعبادة الله وإقامة دينه، فإنها كذلك مكلفة مثلها مثل الرجل بتقويم المجتمع وإصلاحه! ولكنّ الله سبحانه وتعالى جعل للرجل تكاليف في ذلك ليست للمرأة، وجعل للمرأة تكاليف ليست للرجل. وذلك حتى في أركان العبادة ـ في الشعائر ـ فصلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد، وصلاة الرجل في المسجد خير من صلاته في البيت. والجهاد فرض على الرجال في ميدان القتال، وليس فرضاً على المرأة، وجهاد المرأة هو في بيتها ورعايته ورعاية زوجها:
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ امرأة جاءت إلى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! أنا وافدة النساء إليك! هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أُجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون. ونحن النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أبلغي من لقيتِ من النساء أنَّ طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك، وقليل منكنّ يفعله) .
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: " كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى " (6).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "وفيه :" ... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ) . (7)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، أعلى النساء جهاد؟! قال: ( نعم ! عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة).(8)
وبصورة عامة فإن الإسلام جعل الميدان الأول للمرأة البيت بنص الآيات والأحاديث والممارسة والتطبيق، وجعل ميدان الرجل الأول خارج البيت، ويبقى للمرأة دور خارج البيت غير مساوٍ للرجل، وللرجل دور في البيت غير مساوٍ لدور المرأة.
ولا بد أن نؤكد أن للإسلام نهجاً متميّزاً غير نهج العلمانية والديمقراطية ومناهج الغرب في عمل المرأة والرجل. نهجان -كما ذكرنا- مختلفان.(13/47)
نحن نمرّ بمرحلة فيها عواصف غربية وأمواج تكاد تكتسح. ما بالنا نريد أن نخرج المرأة المسلمة من مكانها الكريم الذي وضعها الإسلام فيه، لنجاري الغرب في ديمقراطيته وعلمانيته.؟! ونكاد نخجل من اتهام العلمانية لنا وادعائها بأن الإسلام حجر على المرأة. إن أفضل ردّ عليهم لا يكون بأن ندفع المرأة المسلمة إلى بعض مظاهر الغرب لندفع عن أنفسنا ادّعاءَهم . إن أفضل ردّ أن نقول لهم إن الإسلام أكرم المرأة وأعزها وحفظ لها شرفها وطهرها، وأنتم أضعتم المرأة وأضعتم كرامتها، ثمَّ نعرض الإسلامَ كما هو، وكما أُنزل على صلى الله عليه وسلم ، وكما مارسه المسلمون في عهد النبوة والخلفاء الراشدين.
المرأة المسلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في أجواء النساء، حيث لا يستطع الرجل أن ينشط هناك إلا في أجواء الاختلاط التي لم يعرفها الإسلام لا في نصوصه ولا في ممارساته. وللمرأة المسلمة أنشطة كثيرة تقوم بها دون أن تلج في أجواء لم يصنعها الإسلام. المنافقات يقمن بإفساد المجتمع مع المنافقين جنباً إلى جنب سواء بسواء كما نرى في واقع البشرية اليوم. أما المؤمنات فيصلحن في المجتمع بالدور الذي بيّنه الله لهنّ، غير مساويات للرجال ولا ملاصقات لهن. دور بيّنه الله للنساء وللرجال، لا نجده في الديمقراطية، ولا في العلمانية، ولا في تاريخ الغرب كله.
نعم! إن أول من صدّق رسول ا صلى الله عليه وسلم كانت زوجه خديجة رضي الله عنها. ولكنها بتصديقها لرسول ا صلى الله عليه وسلم التزمت حدودها في رسالته، فلم تنطلق خديجة -رضي الله عنها- في أجواء النشاط السياسي أو ميادين القتال أو مجالس الرجال. وكذلك كانت سميّة أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها، وكانت قبل استشهادها ملتزمة حدود الإسلام. والنساء اللواتي قاتلن في أُحد أو حنين، كان ذلك في لحظات طارئة عصيبة لا تمثل القاعدة الدائمة الرئيسة للمرأة في الإسلام، كما بيناها قبل قليل، فلم نَرَهنّ بعد ذلك في مجالس الرجال أو ميادين السياسة سواء بسواء كالرجال، وإنما كنّ أول من التزمن حدودهن التي بينها لهنّ الله ورسول صلى الله عليه وسلم .
المرأة التي قامت تردّ على عمر -رضي الله عنه- في المسجد، كانت في مكان تعبد الله فيه وتتعلم. وهو جو يختلف عن المجالس النيابية اليوم، وكانت في مجتمع يختلف عن مجتمعاتنا اليوم. وهذه المرأة نفسها لو عُرِض عليها الأجواء المعاصرة لأبت المشاركة فيها، وكثير من المسلمات اليوم يأبين المشاركة في الأجواء الحديثة.
وأتساءل عن السبب الذي يدعو بعضهم إلى الحرص على إدخال المرأة المجالس النيابية العصرية! لقد أصبح لدينا تجربة غنيّة في المجالس النيابية تزيد عن القرن، فلننظر ماذا قدّمت للأمة المسلمة، هل ساعدت على جمعها أم على تمزيقها؟ وهل ساهمت في نصر أم ساهمت في هزائم؟ وهل هذه المجالس التي نريد أن نقحم المرأة المسلمة فيها هي صناعة الإسلام وبناؤه ، أم أنها مثل أمور أخرى غيرها استوردناها من الغرب مع الحداثة والشعر المتفلّت المنثور وغيره من بضاعة الديمقراطية والعلمانية؟!
وبصورة عامة، فإنّ هذا الموضوع: مساواة المرأة بالرجل كما يقول بعضهم: " لقد قرّر الإسلام مساواة المرأة بالرجل"! هكذا في تعميم شامل، شاع هذا الشعار في العالم الإسلامي، وأصبح له جنود ودعاة ودول تدعو إِليه. وكذلك: "مساواة المرأة بالرجل في ممارسة الحقوق السياسية"، هذا كله موضوع طُرق حديثاً مع تسلل الأفكار الغربية إلى المجتمعات الإسلامية، مع تسلل الديمقراطية والعلمانية، كما تسلّلت قبل ذلك الاشتراكية.
هنالك عوامل كثيرة يجب أن تُدرس وتُراعى عند دراسة نزول المرأة إلى ميدان العمل السياسي الذي يفرض الاختلاط في أجواء قد لا يحكمها الإسلام من ناحية، ولا تحكمها طبيعة العمل نفسه. والاختلاط مهما وضعنا له من ضوابط، فقد أثبتت التجربة الطويلة في الغرب وفي الشرق إِلى انفلات الأمور، وإلى التورط في علاقات غير كريمة.
وكذلك فنحن لسنا بحاجة لنزول المرأة إلى الميادين، ففي الرجال عندنا فائض، والرجال بحاجة إلى أن تُدرس حقوقهم السياسية التي منحهم إياها الإسلام.
إن نزول المرأة إلى الميدان السياسي ذو مزالق خطيرة، فعندما يُطلق هذا ويُباح، فهل معظم النساء اللواتي سيمارسن هذا العمل نساء ملتزمات بقواعد الإِسلام كلّه، و بالحجاب واللباس عامة؟
إنَّ إطلاق هذا الأمر ونحن لم نَبْنِ الرجل ولا المرأة، والتفلّت في مجتمعاتنا واضح جليّ ومتزايد في الرجال والنساء، دون أن ينفي هذا وجود بعض النساء الملتزمات والرجال الملتزمين، إنَّ إطلاق هذا الأمر قد يقود إلى فتنة يصعب السيطرة عليها.
وإني لأتساءل: لأيّ مجتمع تصدر مثل هذه الآراء؟! لأيّ رجل وأي امرأة؟ هل المجالس النيابية الحاليّة تصلح ميداناً للمرأة المسلمة لتمارس النشاط السياسي؟ أين هو المجتمع الذي يطبّق شرع الله كاملاً، لتُطلق فيه مثل هذه الأمور؟ وهل هذه المجالس مجالس يسودها شرع الله؟!(13/48)
وميادين العمل المباح للنساء واسعة جداً وكافية لهن، وكلها منضبطة بقواعد الإسلام مثل المدرسات والطبيبات، وكل عمل ليس فيه باب من أبواب الفتنة أو الاختلاط، مع توافر جميع الشروط الشرعية الأخرى عند مزاولة هذه الأنشطة.
لا بدّ من الاستفادة مما حلَّ بأقوام آخرين حين انطلقت المرأة في المجتمع في هذا الميدان أو ذاك. وإذا نزلت ميدان السياسة فما الذي يمنعها أن تنزل إلى المصانع وسائر الميادين الأخرى، كما نراها في العالم الغربي؟!
وكذلك أتساءل: لماذا هذه الضجّة الكبيرة عن المرأة وحقوقها؟ ألا تنظرون إلى الرجل وحقوقه؟ في عالمنا اليوم فَقَدَ كثير من الرجال حقوقهم، فلماذا تكون الضجّة على حقوق المرأة وحدها، ففي ذلك ظلم للمرأة وللرجل.
والإسلام في نهجه جعل الحقوق والواجبات متوازنة في الحياة كلها من خلال منهاج رباني أصدق من سائر المناهج وأوفى وأعدل.
وأخيراً أقول: قبل أن نطلق مثل هذه الآراء اليوم، فلنبن الرجل ولنبن المرأة ولنبن المجتمع المسلم.
فلنبنِ الأمة، فلنبنِ الرجل والمرأة، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم الملتزم، ولنبنِ الأمة المسلمة الواحدة الملتزمة بالكتاب والسنة. حيث تكون كلمة الله هي العليا، فيكون هذا المجتمع أقدر على تحديد دور الرجل والمرأة.
إلى ذلك يجب أن تتجه الجهود متكاتفة بدلاً من أن تتمزَّق في قضايا جزئية لا تساعد إلا على تمزيق الأمة: أيها العلماء والفقهاء والدعاة والمسلمون، أقيموا الإسلام حقّ الإقامة أولاً في نفوسكم رجالاً ونساءً، وأقيموه في الأرض، كما يأمركم الله سبحانه وتعالى، وبلّغوه الناس وتعهّدوهم عليه، ثمَّ انظروا في حقوق المرأة والرجل تجدوها بيّنة جليّة لا تحتاج إلى فتوى، كما وجدها أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم والمؤمنون المتقون في العصور كلِّها!
(1)عن أنس وغيره من الصحابة . صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم: 3913 أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، صحيح الجامع الصغير وزيادته 5100 .
(2)صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم 5096 ، المشكاة : رقم : 4470 .
(3)عن عائشة رضي الله عنها، وعن عبد الله بن أوفى، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك، رضي الله عنهم، في روايات متعددة كلها تتفق مع النصّ المذكور. أخرجه الإمام أحمد: الفتح الرباني : 16/227 وأخرجه ابن ماجه وابن حبان. وفي صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم : 5295 .
(4)جورباتشوف: البيروسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع ، ص : 166 ترجمة أحمد شومان .
(5)مسلم : 32/47/1800 ، وأبوداود : 9/34/2531 .
(6)البخاري : 11/11/893 مسلم : 33/5/1829 ، الترمذي : 24/27/1705 .
(7)أحمد وابن ماجة.
(8)أبوداود : 34/6/4607 ، الترمذي 42/16/2676 ، ابن ماجة : المقدمة 35 .
===============(13/49)
(13/50)
رجل الرحمة والمحبة والسلام (1/3)
د. بدران بن الحسن 22/3/1426
01/05/2005
بين يدي خير الأنام
سينصب كلامنا في هذا المقال على موضوع شخصية النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- باعتباره القدوة الحسنة المرتضاة من الله تعالى لكافة البشر، هذه الشخصية التي يُراد لها في وسائل الاعلام خاصة أن تبقى باهتة، في حين يُطبّل لأناس لا يتوفر فيهم معشار جزء من خلقه وأخلاق صلى الله عليه وسلم .
وخاصة منذ أحداث 11/9 وما تلاها من هجوم على الإسلام والمسلمين، واتهامهم بل واتهام النبي - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - بأنه رجل حرب ونهب وسلب، وأنه كان غليظ القلب، وأن الاسلام دين العنف والرهبة والقتال، وصار رموز الكنيسة وغيرهم من رموز الأديان الأخرى يُنعتون بأنهم رجال المحبة والرحمة والسلام، وتناسى الناس في زحمة الكذب الاعلامي والتزوير في الحقائق التاريخية والدينية والثقافية شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الشخصية التي نالت القدر الأوفى من كل الشمائل والخلال النبيلة، والقيم الإنسانية العليا.
لقد كان ميلاد محمد - صلى الله عليه وسلم - إيذاناً ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات وأغلال كثيرة كانت تعيق انطلاقها جميعاً، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة، فجرت عناصر الخير في كل شيء، كان احتجاجاً قبلياً على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدّد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليُلهم ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!
ولد الهدى فالكائنات ضياء … …
وفم الزمان تبسّم وثناء
ولقد شكلت شخصية محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- الرجل الذي اكتملت فيه كل الأخلاق الحميدة، وانتفت منه كل الأخلاق الذميمة، ولذلك خاطبنا الله بقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). والمطّلع على سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- يدرك أنها كانت حقيقة تاريخية لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها، وهي تتلمس طريقها نحو عالم أكمل وأمثل، وحياة فُضلى، ومن الطبيعي ألا تجد الإنسانية مثلها الأعلى في شخصيات وهمية، وإلا فهي تضلّ طريقها المستقيم وتسير مقتدية بالخيال والأوهام، فمن حقنا إذاً أن نتخذ من سيرة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- نموذجاً لسلوكنا في حياتنا.
وحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - تكشف أمامنا المثلى الأعلى في جميع أحوال الحياة؛ في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان، بل في كل أوجه الحياة. فمحمد - صلى الله عليه وسلم - هو المثل الكامل.
ولن تجد الإنسانية في غيره مثلاً حياً لها؛ فسيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - حقيقة تاريخية، يصدّقها التاريخ الصحيح ولا يتنكر لها، وهي سيرة جامعة محيطة بجميع أطوار الحياة وأحوالها وشؤونها، وهي سيرة متسلسلة لا تنقص شيئاً من حلقات الحياة، وهي أيضاً سيرة عملية قابلة للتطبيق، ذلك أن ما كان يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والحديث كان يحققه بسيرته أولاً، وهذا ما شهد به معاصروه، فقالت عائشة -رضي الله عنها- وقد سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم «كان خلقه القرآن»(1).
وفي مقالنا هذا، نحاول أن نتكلم عن خلال ثلاث هي الرحمة والمحبة والسلام، وتخصيصنا لهذه الخلال الثلاث بالحديث يأتي من محاولة كثير من الجهات ادّعاءها بهتاناً وزوراً، وقد كثر الحديث منذ أحداث 11/9 عنها ونسبتها إلى أي دين آخر ما عدا الإسلام، وكذلك نسبتها إلى أي شخصية أخرى ماعدا سيد الخلق وقدوة الرجال وحبيب الله ورحمة العالمين وأساس سلم العالم محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
محمد الرحمة المهداة
إن رحمة النبي -صلى الله عليه و سلم- بُعد مهم في شخصيته، وفي دعوته، ومن صميم شخصيته رسولاً ونبياً ومبلغاً عن ربه وهادياً للناس. وحينما نقرأ قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ونقف أمام الآية ندرك سعة رحمة هذا النبي الكريم، وكيف كان r يفيض رحمة في خلقه وسلوكه وأدبه وشمائله. وإنه لتناسب وتآلف في أرقى مستوياته بين الرسالة والرسولل في هذه الرحمة، حتى لا يُتصور أن يحمل عبء بلاغ هذه الرحمة إلى العالمين إلا رسول رحيم ذو رحمة عامة شاملة فياضة طبع عليها ذوقه ووجدانه، وصيغ بها قلبه وفطرته..(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) [التوبة: 128]. فهو مثل أعلى للرحمة الإلهية لذلك وصفه الله تعالى بأنه رؤوف رحيم.
لقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين.. رحمة شاملة للوجود بأجمعه. يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة التي كان يمثلها النبي -صلى الله عليه و سلم- ذلك لأنه (بالمؤمنين روؤف رحيم) ويستطيع الكافرون والمنافقون أيضاً -إلى جانب المؤمنين - الاستفادة من هذه الرحمة كذلك. فعندما قيل له: ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم "إني لم أُبعث لعانًا، وإنما بُعثت رحمة"(2).(13/51)
كما أن رحمته شملت أسرته وأمته وأصحابه، فقد كان r خير الناس وخيرهم لأهله وخيرهم لأمته، من طيب كلامه، وحُسن معاشرة زوجاته بالإكرام والاحترام، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" (3). كما أنه في تعامله مع أهله وزوجه كان يُحسن إليهم، ويرأف بهم ويتلطّف إليهم ويتودّد إليهم، فكان يمازح أهله ويلاطفهم ويداعبهم. كما كان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم، وكانت عائشة تغتسل مع صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحد، فيقول لها: (دعي لي)، وتقول له: دع لي (4).
وكان r رحيماً بالجميع، بل إنه يسمع بكاء الصبي فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه. و كان r يمر بالصبيان فيسلم عليهم (5). وجاء الحسن والحسين، وهما ابنا ابنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما حتى ووضعهما بين يديه، ثم قال صدق الله ورسوله(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [لأنفال:28] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.
فرحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلته لطيفاً رحيماً، فلم يكن فاحشاً ولا متفحّشاً، ولا صخّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. بل إن سيدنا أنس -رضي الله عنه- يقول: "خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، والله ما قال أفّ قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" (6) ، وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "ما ضرب رسول ا صلى الله عليه وسلم خادماً له، ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله"(7). وفي رواية "ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله" .
ولذلك قال فيه القرآن الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشاورهم في الأمر) [آل عمران:159] ، فقد كان منهجه الرحمة بالعباد والتخفيف من الإصر والغلال التي عليهم، وهو في هذا يقول صلى الله عليه وسلم "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)(8) .
وتتجلّى رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالمذنبين، وبمن لا يعرفون كيف تقضى الأمور فيعفو ويصفح ويعلم، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَه مَه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا تزرموه، دعوه) ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول ا صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن" قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه"(9).
كانت رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل غضبه، بل إنه في الحرب كان يقاتل بشجاعة، ولكنه أيضاً كان صاحب شفقة عظيمة، كان سياسياً، ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير. ففي غزوة أحد استشهد عمه حمزة أسد الله ورسوله رضي الله عنه، ومُزّق جسده تمزيقاً. كما مُزّق جسد ابن عمته عبد الله بن جحش تمزيقاً(10). وشُجّ رأسه المبارك صلى اله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيّته، وغطّى الدم جسده الشريف(11).
وبينما كان المشركون جادّين في حملتهم لقتله كان أكثر رحمة بهم، وكان يدعو: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(12). فهل يوجد أرحم من محمد في مثل هذه اللحظات.
وفي فتح مكة كيف تعامل مع من أخرجوه وظاهروا على إخراجه وإيذائه؟ وكيف تعامل مع من حاصروه في شعب أبي طالب وتسببوا في وفاة أحب زوجاته إليه خديجة الكبرى رضي الله عنها، وفي وفاة عمه أبي طالب؟ فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضاً؟
لقد دخل مكة بعشرة آلاف مقاتل، دخل على مركبه، والدرع على صدره، والمغفر على رأسه، والسيف في يده، والنبال على ظهره، ولكنه مع كل مظاهر لباس الحرب هذه كان أنموذجاً للرحمة.
سأل أهل مكة: «ما ترون أني فاعل بكم؟» فأجابوه: "خيراً أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم" فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: (لا تثريبَ عليكم اليوم يَغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) (يوسف: 92) لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء"(13).(13/52)
هذا هو محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه رحمته التي شملت كل الناس، واستمرت دستوراً هادياً إلى أن تقوم الساعة، وليست تلك الرحمة الكاذبة التي تأتي ردود أفعال من أناس يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، كما أنها ليس تلك الرحمة ذات الوجهين التي تُطبّق على البعض، ويُحرم منها البعض، كما نراه في كثير من الشخصيات والنظم والقوانين الدولية والمحلية، التي تحاكم آخرين وتستثني آخرين. أو تلك المؤسسات والشخصيات التي ترأف وترحم الحيوان، ولكنها تشرّع لظلم الإنسان لأخيه الانسان.
|1|2|
1- مجلة «حضارة الإسلام» المجلد الأول، العدد السابع، السنة الأولى، 1960-1961، ص 63-69،
2- رواه الترمذي
3- رواه مسلم.
4- رواه الشيخان
5- رواه السيخان
6- رواه مالك والشيخان
7- رواه الترمذي
8- رواه مسلم
9- رواه البخاري، المغازي
10- اب هشام، السيرة النبوية، 3/103
11- رواه البخاري، المغازي: ومسلم، الجهاد
12- رواه البخاري، الانبياء؛ مسلم، الجهاد
13- ابن هشام، السيرة النبوية، 4/55؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 4/344.7- رواه الترمذي
===============(13/53)
(13/54)
رجل الرحمة والمحبة والسلام (1/3)
د. بدران بن الحسن 22/3/1426
01/05/2005
بين يدي خير الأنام
سينصب كلامنا في هذا المقال على موضوع شخصية النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- باعتباره القدوة الحسنة المرتضاة من الله تعالى لكافة البشر، هذه الشخصية التي يُراد لها في وسائل الإعلام خاصة أن تبقى باهتة، في حين يُطبّل لأناس لا يتوفر فيهم معشار جزء من خلقه وأخلاق صلى الله عليه وسلم .
وخاصة منذ أحداث 11/9 وما تلاها من هجوم على الإسلام والمسلمين، واتهامهم بل واتهام النبي - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - بأنه رجل حرب ونهب وسلب، وأنه كان غليظ القلب، وأن الاسلام دين العنف والرهبة والقتال، وصار رموز الكنيسة وغيرهم من رموز الأديان الأخرى يُنعتون بأنهم رجال المحبة والرحمة والسلام، وتناسى الناس في زحمة الكذب الاعلامي والتزوير في الحقائق التاريخية والدينية والثقافية شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الشخصية التي نالت القدر الأوفى من كل الشمائل والخلال النبيلة، والقيم الإنسانية العليا.
لقد كان ميلاد محمد - صلى الله عليه وسلم - إيذاناً ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات وأغلال كثيرة كانت تعيق انطلاقها جميعاً، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة، فجرت عناصر الخير في كل شيء، كان احتجاجاً قبلياً على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدّد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليُلهم ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!
ولد الهدى فالكائنات ضياء … …
وفم الزمان تبسّم وثناء
ولقد شكلت شخصية محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- الرجل الذي اكتملت فيه كل الأخلاق الحميدة، وانتفت منه كل الأخلاق الذميمة، ولذلك خاطبنا الله بقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). والمطّلع على سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- يدرك أنها كانت حقيقة تاريخية لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها، وهي تتلمس طريقها نحو عالم أكمل وأمثل، وحياة فُضلى، ومن الطبيعي ألا تجد الإنسانية مثلها الأعلى في شخصيات وهمية، وإلا فهي تضلّ طريقها المستقيم وتسير مقتدية بالخيال والأوهام، فمن حقنا إذاً أن نتخذ من سيرة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- نموذجاً لسلوكنا في حياتنا.
وحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - تكشف أمامنا المثلى الأعلى في جميع أحوال الحياة؛ في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان، بل في كل أوجه الحياة. فمحمد - صلى الله عليه وسلم - هو المثل الكامل.
ولن تجد الإنسانية في غيره مثلاً حياً لها؛ فسيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - حقيقة تاريخية، يصدّقها التاريخ الصحيح ولا يتنكر لها، وهي سيرة جامعة محيطة بجميع أطوار الحياة وأحوالها وشؤونها، وهي سيرة متسلسلة لا تنقص شيئاً من حلقات الحياة، وهي أيضاً سيرة عملية قابلة للتطبيق، ذلك أن ما كان يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والحديث كان يحققه بسيرته أولاً، وهذا ما شهد به معاصروه، فقالت عائشة -رضي الله عنها- وقد سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم «كان خلقه القرآن»(1).
وفي مقالنا هذا، نحاول أن نتكلم عن خلال ثلاث هي الرحمة والمحبة والسلام، وتخصيصنا لهذه الخلال الثلاث بالحديث يأتي من محاولة كثير من الجهات ادّعاءها بهتاناً وزوراً، وقد كثر الحديث منذ أحداث 11/9 عنها ونسبتها إلى أي دين آخر ما عدا الإسلام، وكذلك نسبتها إلى أي شخصية أخرى ماعدا سيد الخلق وقدوة الرجال وحبيب الله ورحمة العالمين وأساس سلم العالم محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
محمد الرحمة المهداة
إن رحمة النبي -صلى الله عليه و سلم- بُعد مهم في شخصيته، وفي دعوته، ومن صميم شخصيته رسولاً ونبياً ومبلغاً عن ربه وهادياً للناس. وحينما نقرأ قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ونقف أمام الآية ندرك سعة رحمة هذا النبي الكريم، وكيف كان r يفيض رحمة في خلقه وسلوكه وأدبه وشمائله. وإنه لتناسب وتآلف في أرقى مستوياته بين الرسالة والرسولل في هذه الرحمة، حتى لا يُتصور أن يحمل عبء بلاغ هذه الرحمة إلى العالمين إلا رسول رحيم ذو رحمة عامة شاملة فياضة طبع عليها ذوقه ووجدانه، وصيغ بها قلبه وفطرته..(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) [التوبة: 128]. فهو مثل أعلى للرحمة الإلهية لذلك وصفه الله تعالى بأنه رؤوف رحيم.
لقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين.. رحمة شاملة للوجود بأجمعه. يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة التي كان يمثلها النبي -صلى الله عليه و سلم- ذلك لأنه (بالمؤمنين روؤف رحيم) ويستطيع الكافرون والمنافقون أيضاً -إلى جانب المؤمنين - الاستفادة من هذه الرحمة كذلك. فعندما قيل له: ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم "إني لم أُبعث لعانًا، وإنما بُعثت رحمة"(2).(13/55)
كما أن رحمته شملت أسرته وأمته وأصحابه، فقد كان r خير الناس وخيرهم لأهله وخيرهم لأمته، من طيب كلامه، وحُسن معاشرة زوجاته بالإكرام والاحترام، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" (3). كما أنه في تعامله مع أهله وزوجه كان يُحسن إليهم، ويرأف بهم ويتلطّف إليهم ويتودّد إليهم، فكان يمازح أهله ويلاطفهم ويداعبهم. كما كان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم، وكانت عائشة تغتسل مع صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحد، فيقول لها: (دعي لي)، وتقول له: دع لي (4).
وكان r رحيماً بالجميع، بل إنه يسمع بكاء الصبي فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه. و كان r يمر بالصبيان فيسلم عليهم (5). وجاء الحسن والحسين، وهما ابنا ابنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما حتى ووضعهما بين يديه، ثم قال صدق الله ورسوله(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [لأنفال:28] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.
فرحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلته لطيفاً رحيماً، فلم يكن فاحشاً ولا متفحّشاً، ولا صخّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. بل إن سيدنا أنس -رضي الله عنه- يقول: "خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، والله ما قال أفّ قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" (6) ، وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "ما ضرب رسول ا صلى الله عليه وسلم خادماً له، ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله"(7). وفي رواية "ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله" .
ولذلك قال فيه القرآن الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشاورهم في الأمر) [آل عمران:159] ، فقد كان منهجه الرحمة بالعباد والتخفيف من الإصر والغلال التي عليهم، وهو في هذا يقول صلى الله عليه وسلم "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)(8) .
وتتجلّى رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالمذنبين، وبمن لا يعرفون كيف تقضى الأمور فيعفو ويصفح ويعلم، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَه مَه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا تزرموه، دعوه) ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول ا صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن" قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه"(9).
كانت رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل غضبه، بل إنه في الحرب كان يقاتل بشجاعة، ولكنه أيضاً كان صاحب شفقة عظيمة، كان سياسياً، ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير. ففي غزوة أحد استشهد عمه حمزة أسد الله ورسوله رضي الله عنه، ومُزّق جسده تمزيقاً. كما مُزّق جسد ابن عمته عبد الله بن جحش تمزيقاً(10). وشُجّ رأسه المبارك صلى اله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيّته، وغطّى الدم جسده الشريف(11).
وبينما كان المشركون جادّين في حملتهم لقتله كان أكثر رحمة بهم، وكان يدعو: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(12). فهل يوجد أرحم من محمد في مثل هذه اللحظات.
وفي فتح مكة كيف تعامل مع من أخرجوه وظاهروا على إخراجه وإيذائه؟ وكيف تعامل مع من حاصروه في شعب أبي طالب وتسببوا في وفاة أحب زوجاته إليه خديجة الكبرى رضي الله عنها، وفي وفاة عمه أبي طالب؟ فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضاً؟
لقد دخل مكة بعشرة آلاف مقاتل، دخل على مركبه، والدرع على صدره، والمغفر على رأسه، والسيف في يده، والنبال على ظهره، ولكنه مع كل مظاهر لباس الحرب هذه كان أنموذجاً للرحمة.
سأل أهل مكة: «ما ترون أني فاعل بكم؟» فأجابوه: "خيراً أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم" فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: (لا تثريبَ عليكم اليوم يَغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) (يوسف: 92) لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء"(13).(13/56)
هذا هو محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه رحمته التي شملت كل الناس، واستمرت دستوراً هادياً إلى أن تقوم الساعة، وليست تلك الرحمة الكاذبة التي تأتي ردود أفعال من أناس يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، كما أنها ليس تلك الرحمة ذات الوجهين التي تُطبّق على البعض، ويُحرم منها البعض، كما نراه في كثير من الشخصيات والنظم والقوانين الدولية والمحلية، التي تحاكم آخرين وتستثني آخرين. أو تلك المؤسسات والشخصيات التي ترأف وترحم الحيوان، ولكنها تشرّع لظلم الإنسان لأخيه الانسان.
|1|2|
1- مجلة «حضارة الإسلام» المجلد الأول، العدد السابع، السنة الأولى، 1960-1961، ص 63-69،
2- رواه الترمذي
3- رواه مسلم.
4- رواه الشيخان
5- رواه السيخان
6- رواه مالك والشيخان
7- رواه الترمذي
8- رواه مسلم
9- رواه البخاري، المغازي
10- اب هشام، السيرة النبوية، 3/103
11- رواه البخاري، المغازي: ومسلم، الجهاد
12- رواه البخاري، الانبياء؛ مسلم، الجهاد
13- ابن هشام، السيرة النبوية، 4/55؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 4/344.7- رواه الترمذي
================(13/57)
(13/58)
رجل الرحمة والمحبة والسلام (2/3)
د. بدران بن الحسن 21/4/1426
29/05/2005
أم لم يعرفوا رسولهم؟
يقول الله تعالى في محكم تنزيله: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) [المؤمنون: 69]، هذه الآية تشكل في الحقيقة مسوغًا هاماً لنا في تناول شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك أن معرفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سيرته وفي سنته وفي شمائله من أهم الأمور التربوية التي تساعدنا على الاقتداء ب صلى الله عليه وسلم . فإنه لا توجد سيرة أخرى أجدى بأن تُقتدى ويُحتفل بها مثل سيرت صلى الله عليه وسلم . وفي تاريخ البشرية كلها لا نجد حياةً نُقلت إلينا تفاصيلها، وحُفظت لنا وقائعها في وضوح كامل، وتفصيل عميم شامل كما حُفظت، وكما نُقلت إلينا حياة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - رسول الله ورحمته المهداة إلى الناس أجمعين، فكل كلمة قالها، وكل خطوة خطاها، وكل بسمة تألّقت على محيّاه، وكل دمعة تحدرت من مآقيه، وكل مسعًى سار لتحقيقه، وكل مشاهد حياته حتى ما كان منها من خاصة أمره، وأسرار بيته، وأهله، نُقل إلينا موثّقاً بأصدق ما عرف التاريخ الإنساني من توثيق وتدوين.
ولا عجب في هذا، فمادام الله قد اختاره ليختم به النبوة والأنبياء، فمن الطبيعي أن تكون حياته منهجاً جليلاً لأجيال لا منتهى لأعدادها، وأن تكون هذه الحياة بكل تفاصيلها أشد وضوحاً، وتألقاً من فلق الصبح ورابعة النهار، لا بالنسبة إلى عصره فحسب، بل بالنسبة إلى كل العصور والأجيال.
إن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشمائله، وجوانب شخصيته، ونتائج دعوته درس لكل سالك إلى طريق الله، وكل قائد أو مربٍّ أو رب أسرة أو سالك أي سبيل من سبل الخير إلى أن ينقطع الزمان.
وفي الحلقة السابقة تناولنا صفة الرحمة في شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي هذه الحلقة ننتقل إلى صفة أخرى لا تقلّ تميّزاً عن الأولى، ولكن تسلك بنا طريقاً آخر لإدراك أحد أهم أبعاد شخصيت صلى الله عليه وسلم ، وهو المحبة. فكيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل محبة؟ وما هي الجوانب التي شملها هذا الخلق العظيم؟ وما موقفنا نحن تجاه محبته؟
منهجه يدعو إلى مجتمع المحبة:
إنها لصورة قاتمة باهتة مخيفة تلك التي رسمها البعض للإسلام في أذهان الناس حتى صار الناس يخافون من الدين ومن التدين؛ لأنهم يظنونه شيئاً قاسياً لا يرحم، وأتباعه غلاظ لا يلينون، وأحكامه سيف قاطع على الرؤوس.
وقد استثمر المستشرقون الموقف، واتهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - والإسلام بالحقد والكراهية، وكل أوصاف التجهم والتعصب والعنف، حتى لكأنها صارت حقيقة، وأُسقط في أيدينا، وظن بعضنا أن هذا الزيف حقيقة.
ولكن الحقيقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نور يُستضاء به في ظلام الجاهلية، ومحبة خالصة تؤلف بين القلوب، وأن الإسلام شمس مضيئة أنارت ظلام الجاهلية، وهو دين الحب والأمل و الحياة واليسر، و شرائعه هي شرائع الحق والعدل، وأحكامه هي أحكام الحياة.
وللقيمة الرفيعة لخلق الحب والمحبة في الحياة، وأهميته في تحقيق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سعى لتحقيقه بوسائل متعددة، وربّى أصحابه وأمته على هذه النفسية الراقية، وحث على إشاعته بين الناس، ببناء كل العلاقات على أساس من الحب؛ حبّ الله، وحب الخير، وحب الصلاح والصالحين، وحب الإنسانية.
وبعبارة أخرى فإن نهج صلى الله عليه وسلم ، وحياته كلها دعوة للتحابب. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه مسلم في كتاب الإيمان : " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا . أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم" .
وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل . وشاب نشأ بعبادة الله . ورجل قلبه معلّق في المساجد . ورجلان تحابّا في الله: اجتمعا عليه وتفرّقا عليه . ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال : إني أخاف الله . ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله . ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه ". فمن الناس الذين يصلون إلى تلك المرتبة العالية يوم القيامة (ورجلان تحابا في الله ) فاجتمعا على حب الله وافترقا على حبه . بمعنى أن سبب اجتماعهما حب الله، واستمرا على ذلك حتى قضى الله أمراً كان مفعولاً فتفرّقا بموت أو سفر أو غيره، وهما صادقان في حبّ كل واحد منهما صاحبه لله تعالى، حال اجتماعهما وافتراقهما .(13/59)
ليس هذا فحسب، بل إن شرائع الإسلام وأحكامه كلها دعوة للمحبة، فالزكاة مثلاً التي هي قرينة الصلاة وجوباً وأهمية، فإن المستفيد منها وهو الفقير يشعر بأنه ليس وحده في المجتمع، وإنما هو فرد في جماعة لا تنساه وتكفله، ومن هنا تتلاشى الأحقاد وتنبت المحبة والألفة، وهكذا تكون الجماعة كالجسد الواحد، الغني يدفع من مال الله الذي عنده فيجد البركة والنماء، والفقير يتناول رزق ربه فيسدّ حاجته، والمجتمع ينقى ويطهر من الأمراض الخبيثة.
ولهذا فإن حب الخير للناس مما يقوم عليه ويتقوى به إيمان المؤمن، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس، فكان إذا أرسل غلامه للتقاضي يقول له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك سأله الله تعالى: هل عملت خيراً قط؟! قال: لا إلا أنني كنت أداين الناس فكنت أقول لغلامي: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فقال الله له: قد تجاوزت عنك".
فهذه العلاقة بين المؤمن والمؤمن يحرص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها تهب الجماعة المسلمة قوتها وصلابتها؛ فلا تهون ولا تتفتت ولا تعبث بها الفتن، فيقول صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، ويقول صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، فإن كل مؤمن هو لبنة في بناء المجتمع، يدخل الإيمان بينه وبين غيره كالمونة اللاصقة الجاذبة الموضوعة بين لبنات البناء، فيشتد البناء ويقوى وترتفع هامته، ثم إن من فيض الإيمان تنبعث الرحمة الهادية، التي ترجو ما عند الله، وإنه لحق، حيث يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولايسلمه ولا يخذله، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة". ذلك هو الحب الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لبناء المجتمع عليه.
النبيّ الإنسان المحبّ:
وإذا التفتنا إلى حياته الخاصة r في بيته ومع أولاده وأهل خاصته وجدناه المثل الأعلى في الحب والود والشفقة. فكان r يحب الأطفال، ويقبّل أولاده، ويعطف عليهم، ويأمر بالمساواة في المحبة بينهم، كما كان يحب أهله وزوجاته، وهو القائل: "حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة".
لقد كان r يحترم ويود ويحب زوجاته، ويقدر مشاعرهن بطريقة لا يرقى إليها أي من المحبين الذين ادّعوا أو أحبّوا أهليهم وأولادهم.
لقد كان قدوة، بل خير قدوة r، فقد كان يعيش بين أزواجه رجلاً ذا قلب وعاطفة ووجدان، حياته مليئة بالحب، والحنان، والمودة، والرحمة.
ومما يذكر أنه كان مع عائشة -رضي الله عنها- التي يحبها كثيراً، يراها تشرب من الكأس فيحرص كل الحرص على أن يشرب من الجهة التي شربت منها، وهي صورة يندر أن يقوم به مدّعو الحب بيننا، إنه حب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - للصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما.
ومِن تودّده لها وزيادة في حبها أنه كان يسابقها في وقت الحرب، يطلب من الجيش التقدم لينفرد بأم المؤمنين عائشة ليسابقها ويعيش معها ذلك الحب الزوجي الراقي.
وفي المرض، حين تقترب ساعة اللقاء بربه وروحه تطلع إلى لقاء الرفيق الأعلى، لا يجد نفسه إلا طالباً من زوجاته أن يمكث ساعة احتضار صلى الله عليه وسلم إلا في بيت عائشة، ليموت ورأسه على صدرها، ذاك حبّ أسمى وأعظم من أن تصفه الكلمات أو تجيش به المشاعر.
إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرسم لنا طريقاً للحب فريداً من نوعه أوسع مما حصرته فيها مفاهيمنا المادية العلمانية التي تضيّق علينا واسعاً وتحرمنا من مشاعرنا. ولذلك فهو في حبه هذا لعائشة -رضي الله عنها- لا يجعله هذا الحب أن ينسى أو يتناسى حبه العظيم الخالد لخديجة الكبرى التي كانت أحب أزواجه إليه، والتي قدمت له في ساعة العسرة ما لم يقدمه أحد آخر.
وفي لحظة شعور امراة تسأله السيدة عائشة -رضي الله عنها- وتقول: ما لك تذكر عجوزاً أبدلك الله خيراً منها (تعني نفسها)؟! فيقول لها: لا والله، ما أبدلني زوجاً خيراً منها، ويغضب لذلك، ويبين لها أن حب خديجة لم يفارق قلبه أبداً، ذلك هو الحب الوفي الذي يريد أن يعلمنا إياه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه يعلمنا أنه يحب عائشة، ولكن يحب أيضاً خديجة -رضي الله عنها- كما يحب زوجاته الأخريات رضي الله عنهن.(13/60)
ومما تذكره كتب السيرة أن صلى الله عليه وسلم حج بنسائه، فلما كان في بعض الطريق نزل رجل فساق بهن فأسرع، فقال النبي كذلك، سوقك بالقوارير -يعني النساء- فبينما هم يسيرون برك لصفية بنت حيي جملها، وكانت من أحسنهن ظهراً، فبكت وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أخبر بذلك، فجعل يمسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء وهو ينهاها.
إنه لموقف جميل من الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - مع زوجته حين مسح دمعتها بيده، ثم أمر الناس بالوقوف والنزول، علماً بأنه لم يكن يريد أن ينزل. لم يحقر النبي - صلى الله عليه وسلم - مشاعر صفية وعواطفها، بل احترمها وأنزل القافلة كلها من أجلها. فكم منا من رجل مسح دموع زوجته وطيب خاطرها!
إنه محمد النبي الحبيب - صلى الله عليه وسلم - مسح الدمعة بيده، ومرّر يده الكريمة على خد زوجته في قمة من مشاعر الحب والاحترام والعناية والتقدير لعواطف المرأة ومشاعرها. والذين يتفاخرون اليوم من الغربيين ومن العلمانيين باحترام المرأة لم يبلغوا ولن يبلغوا ما قام بهمحمد صلى الله عليه وسلم .
إبراهيم بن محمد:
لقد ابتلي النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لم يبتل به أحد، ولكنه كان المثل الأعلى في الاحتساب والصبر، وحين مات ابنه إبراهيم عليه السلام، اهتزت مشاعر الأبوة والحب، فيبكي ويحزن "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا يا إبراهيم على فراقك لمحزنون". يعلمنا عليه الصلاة والسلام كيف يكون الحب، وكيف يكون الحزن على فراق الحبيب، ولكن كل ذلك في حدود ما يرضي الله تعالى. إنهما حب وحزن نابعان من أب نبي بشر تتجلى فيه أعلى معاني الحب والرحمة والشفقة على فراق الأحبة، ولكنه حب لا ينسيه أنه مبلّغ عن الله، وأنّ أمانة الرسالة أعظم الأمانات. ولذلك حينما كسفت الشمس وظن بعض الناس أنها لموت إبراهيم، قال صلى الله عليه وسلم "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد أو حياته".
ويمتد حبه لأمت صلى الله عليه وسلم التي كان يبكي من أجلها في هدأة الليل، فقد كان يقف في سكون الليل وظلمته الحالكة ليصلي صلاة التائب على الرغم من أنه غُفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، وكان في ذلك الليل يتذكر أمته ويسكب عليها الدموع، ويسأل الله: "أمتي، أمتي".
حاجة البشرية والحضارة للحبّ:
إن البشرية اليوم والحضارة الإنسانية التي يهيمن عليها النوذج الحضاري الغربي، وتهيمن عليها الأذواق الغربية والمفاهيم الغربية في كل شيء حتى في مفهوم الحب- قد فقدت الحياة فيها كرامتها وقداستها حينما حولت كل المعاني والقيم والعلاقات إلى أشكال وماديات ومظاهر.
ولفقدان الحب صار يُحتفل به مثل ما يُحتفل بأي شيء آخر، وخصصوا له يوماً، وكأن بقية الأيام ليست للحب، وفيه يتذكر العشاق بعضهم بعضاً من خلال تبادل الهدايا والبطاقات، أو أي شيء مادي، وصارت تنفق أموال طائلة في مناسبة عيد الحب، بل إن من الناس من يفلس بهذه المناسبة.
وارتبط الحب في المفاهيم الغربية المهيمنة بالجنس والعري وتبادل الغراميات المحرمة، أو تلك التعبيرات المزيفة الجافة الفارغة من أي معنى.
ولكن الحب الحقيقي الذي جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - لتعليمنا إياه هو ذلك الحب المرتبط بالله تعالى وبنهجه في الحياة، وبما ارتضاه من علاقات ومعانٍ وقيم وتعبيرات عن المشاعر.
ونختم بهاتين الآيتين المعبرتين عن عمق الحب وأهمية ارتباطه بالله تعالى. يقول الله تعالى:(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة...)[الروم:21] ويقول عز وجل: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) [آل عمران: 31].
==============(13/61)
(13/62)
إحلال القيم.... الانتخابات نموذجاً
د. إبراهيم الناصر * 17/4/1426
25/05/2005
بسقوط الفكر الشيوعي الذي مثل عقيدة وفكراً (أيديولوجية) لعقود من الزمان، وما تلاه أو سبقه من سقوط منظومات فكرية استظلت بمظلة اليسار تكون الساحة الفكرية الكونية خلصت إلى منهجين أو عقيدتين متقابلتين هما الليبرالية الغربية والإسلام، قدر هذين المنهجين أنهما ضدان لا يتعايشان في مكان واحد، من حيث أن كلا منهما يمثل منهجاً للحياة يشمل تصوراً شاملاً للكون والحياة والإنسان، مبايناً للآخر تماماً، فهما يتنافسان في أن يحقق كلٌ منهما عولمة لمنهجه وإحلالاً لقيمه لدى الآخر والآخرين، تحقيقاً لقول الحق تبارك وتعالى في سورة المائدة عندما ذكر اليهود والتوراة ثم النصارى والإنجيل ثم المسلمين والقرآن المهيمن، قال بعد ذلك: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم), ولذا كان من هدي الإسلام مخالفة المشركين عموماً وأهل الكتاب خصوصاً، وعدم التشبّه بهم فيما هو من خصائصهم تحقيقاً للتوحيد وإبطالاً للتنديد.
والنفس البشرية أُلهمت الفجور، كما أُلهمت التقوى أي وجود قابلية النفس البشرية لهما واستعدادها لقبولهما, كما قال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) وقال عن الإنسان: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) فالإلهام والهداية هما القابلية والاستعداد لدى الإنسان بسلوك طريق الفجور والكفر من خلال الالتزام بالليبرالية أو طريق التقوى والشكر بالتزام طريق الإسلام.
وكون الليبرالية الغربية تتضمن بعض الحقوق الطبيعية الإنسانية مصحوبةً بتلبية رغبات الإنسان وشهواته وجشعه وأنانيته من خلال مبادئها في الحرية والرأسمالية والفردية والحقوق المنفلتة من قيود الشرائع السماوية، يوجد جاذبية إليها ويمد في عمرها؛ لأن الإنسان أُلهم الفجور كما أُلهم التقوى، ومن الفجور التلبّس بقيم الليبرالية وشهواتها، والإنسان إذا لم يحمل الإسلام سيحمل الليبرالية أو غيرها كما قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، وحكم عليه بالخسران إذا لم يؤمن بالله ويلتزم هديه كما قال تعالى: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) ووصفه بأوصاف السلب والنقص كما في آخر سورة الأحزاب عند عرض الأمانة قال:(وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً)، وقال تعالى (إن الإنسان خلق هلوعاًَ إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين) وغير ذلك من الأوصاف السلبية, وهذه صفات تتوافق مع مبادئ وأهواء الليبرالية الغربية وعموم المناهج الوضعية القائمة على محادّة الله في منهجه والمتعدّية لحدود الله في حكمه وشرعه.
والإنسان بخصاله تلك التي لم يهذبها الإسلام سيجد رغباته بمبادئ الليبرالية الغربية وبيئتها وأهوائها وشهواتها, فهناك إنسان ليبرالي وإنسان مسلم، ولا يوجد مسلم ليبرالي؛ لأن هذا جمع بين الضدين, وهناك منهجان ونظامان للحياة منهج الليبرالية ونظامها، ومنهج الإسلام ونظامه، ولا يوجد منهج ليبرالي إسلامي يكون الإسلام فيه عقائد وعبادات والليبرالية نظام حياة، إلا في أذهان الملبسين الحق بالباطل, المحرّفين للشرائع, المفتونين بحضارة الغرب, الجاهلين بالإسلام وطريقته.
وترويج أن الليبرالية هي بيئة وآليات لا تتعارض مع الإسلام فيه تزوير للحقائق أو جهل بها، وعندما كان أهل الإسلام في قوة إيمان وعزة شأن، كانوا ينشرون مبادئ التقوى والإيمان وقيم الدين في أنحاء المعمورة، وحققوا عولمة لنموذجهم القيمي في مجتمعات كثيرة, وعندما حصل التراجع للمسلمين وانحسر المد الإسلامي بسبب ضعف إيمان المسلمين ونقص دينهم تمكن منهم النموذج الغربي, وفرض العلمنة في معظم مجتمعات المسلمين بقوة السلاح أولاً ثم بنفوذ الفكر، وسعى إلى إحلال قيمه مستفيداً من حالة ضعف المسلمين وانبهار بعضهم به وإعراضهم عن تحذير نبيهم لهم في ذلك عندما قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى قال: فمن), ولو أخذنا الانتخابات بنسختها الغربية كنموذج باعتبارها آلية للديمقراطية الغربية ورمزاً لقيمة غربية, فلن تجد تعليلاً لهذه الدعوة إلى ممارستها بصيغتها تلك في المجتمعات الإسلامية من قبل الغرب - ساسة ومفكرين- إلا هذا التفسير. صحيح أن الساسة الغربيين تحكمهم المصالح على حساب القيم إذا حصل التعارض بينهما، لكن يبقى مبدأ عولمة النموذج وإحلال القيم ثابتاً في مبادئ ودساتير هذه الحضارة؛ فلا غرابة أن يتضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير ومشروع الشراكة الشرق أوسطية منظومة من القيم الغربية في المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأن يهتم الرئيس بوش رئيس الإمبراطورية الأمريكية بانتخابات جزئية في بلد من دول العالم الثالث (الانتخابات البلدية في السعودية)؛ لأنه يمثل حضارة لها رسالة في دعم قيمها كالحرية والديمقراطية، ولو بصياغة لا تتعارض مع أهواء الهيمنة والسلب والنهب للآخرين.(13/63)
هل نستطيع أن نصحح واقعنا ونصلح مجتمعنا بتأسيس قيمي محلي وبفعل ثقافي إسلامي؟ وعندما تقعد بنا حالة الجمود التي تشتملنا وضعف الإبداع الذي يشلّ عقولنا, هل نستفيد من إبداعات الآخرين وطرائقهم بمنهج راشد دون استنساخ، أي بأسلمة النموذج حسب مصطلحات البعض.
إن سُلَّم القيم- بضم السين وفتح اللام المشددة - المعروف لدى علماء الاجتماع يبين حال المجتمع من خلال أفراده عندما تبدأ بعض السلوكيات كظواهر معزولة ثم تنتقل إلى اتجاهات مشهودة ثم تتحول إلى قيم حاكمة، وعند هذه المرحلة يتطبع المجتمع بطبيعة تلك القيم الحاكمة لسلوكه، ولهذا فان المصلحين الواعين لهذه الحقائق يسعون دائماً إلى منع الظواهر والاتجاهات السلبية التي تنشأ في المجتمع من مواصلة تسلّق السلم قبل أن تصبح قيماً، فيسعون إلى ترشيدها وتهذيبها قبل وصولها رأس هرم القيم؛ فيصعب الاقتلاع والتغيير ويحصل التحوّل والتبديل؛ ولذا يصح أن نعدّ صراع التحوّلات في المجتمع أنه صراع قيم, أي إحلال قيم محل أخرى, وهذا الصراع ليس دائماً سلبياً لأنه ليس كل قيمة في المجتمع هي قيمة إيجابية، فالاستبداد في ميادينه المختلفة والفساد المالي والإداري، وبعض قيم القبيلة والعشيرة التي تحكم كثيراً تصرفات الحاكم والمحكوم وبعض القيم الاجتماعية هي قيم حاكمة سلبية، والإصلاح يكون في تغييرها أو تهذيبها كما هي طريقة الإسلام عندما نزل على العرب فغيَّر فيهم قيماً وهذّب أخرى، وهذه مسؤولية المصلحين والمجدّدين من الدعاة والعلماء والمثقفين الراشدين، أما صراع القيم بين دعاة الإسلام ودعاة الليبرالية (العلمانية) فهو في الغالب صراعٌ بين قيم دينية وقيم لا دينية، وفي أحسن الأحوال في المجتمعات المتدينة مثل مجتمعنا هو صراع يبدأ حول الذرائع والمقدمات؛ ولذلك تكثر الدعوة إلى إلغاء باب سد الذرائع، وتتوسع الدعوة إلى باب فتح الذرائع، وهما أصلان محكمان في الشريعة، لكن هاتين الدعوتين في هذين الاتجاهين في هذه المرحلة الاستثنائية تدلان على جهة مؤشر التحوّلات عند أصحابها، والمقصود أن نحذر من إحلال قيم غربية في مجتمعنا على حين غرة أو غفلة أو حسن ظن بمن يسعى إلى ذلك، وليكن لدينا من الفقه بأحوال الواقع ما يجعلنا نميّز بين ما يمكن قبوله وما يجب رفضه، وما يكون مزيجاً من الأمرين فيحتاج إلى ترشيد، والانتخابات هي من النوع الثالث، وقد ذكرت ذلك بأكثر من هذا في ورقة سابقة، ومسؤولية علماء الشريعة ودعاتها وأهل الفكر والنظر في الأمة من المهتمين بالشأن العام يكون في طرح رؤية رشيدة للانتخابات منطلقة من النظر الشرعي أدلة ومقاصد، ومن المواءمة الواقعية، مرونة وملائمة, خاصة إذا كانت البلاد سائرة إلى توسيع هذه الدائرة في ميادين أخرى.
=============(13/64)
(13/65)
ظاهرة التطرّف في المنطقة..محاولة جديدة للقراءة والفهم
عاطف الجولاني * 2/4/1426
10/05/2005
مشكلة التطرف الآخذة بالاتساع في المنطقة والعالم، باتت تُعدّ، في الآونة الأخيرة، من أكثر القضايا التي تثير اهتمام النخب الفكرية والثقافية والسياسية التي تحاول فهم الظاهرة ووضع وسائل مناسبة للتعامل معها.
نمو الظاهرة وانتقالها إلى أطوار وأشكال جديدة، ربما لم تكن موجودة من قبل، يدعو إلى قراءة أكثر عمقاً، بعيداً عن الفهم السطحي، والقراءة الرغائبية للظاهرة. فكثيراً ما كانت القراءة السطحية الساذجة، سبباً في فهم الظاهرة بصورة خاطئة، وبالتالي التعامل معها بصورة خاطئة أيضاً، ما فاقم من حجم المشكلة، عوضاً عن أن يحدّ منها.
وهذه محاولة لفهم الظاهرة بأبعادها الشاملة وتشخيص المشكلة بصورتها الحقيقية، ودراسة المتغيرات والأبعاد الجديدة التي بدأت تأخذها.
ليست ظاهرة جديدة
النهج المتشدد في التعامل مع الأمور، القائم على التعصب للرأي والقناعات، وعلى إلغاء الآخر ونفيه، والتعامل معه بتشدّد وحدّة فكرية أو سلوكية، ليس بالنهج الجديد، ولا يختص بفترة زمنية دون أخرى، ولا بمجموعة بشرية معينة، بل هو ظاهرة بشرية طبيعية موجودة منذ وجد الإنسان، وستظل موجودة ما دامت الحياة البشرية؛ لأنه يتعلق بطبائع البشر وميولهم ونفسياتهم.
والإقرار بأن وجود الظاهرة أمر طبيعي، ليس محاولة للتقليل من حجم المشكلة وخطرها، وإنما وضعها في سياقها الصحيح الذي يساعد على فهمها. وكونها ظاهرة طبيعية لا ينفي عنها صفة أنها ظاهرة مرضيّة لا صحيّة. وإذا كان القضاء عليها -بصورة مطلقة- مطلباً صعباً عزيز المنال، فإن الحدّ منها وتقليص أخطارها وآثارها السلبية على المجتمعات يبقى أمراً مطلوباً بصورة مستمرة.
التطرف يرتبط عادة بالانغلاق والتعصب للرأي، ورفض الآخر وكراهيته وازدرائه وتسفيه آرائه وأفكاره. والمتطرف فرداً كان أم جماعة، ينظر إلى المجتمع نظرة سلبية سوداوية، لا يؤمن بتعددية الآراء والأفكار ووجهات النظر، ويرفض الحوار مع الآخر أو التعايش معه ومع أفكاره، ولا يبدي استعداداً لتغيير آرائه وقناعاته، وقد يصل به الأمر إلى تخوين الآخرين وتكفيرهم دينياً أو سياسياً، وربما إباحة دمهم.
ويزداد خطر التطرف حين ينتقل من طور الفكر والاعتقاد والتصور النظري، إلى طور الممارسة والتطرف السلوكي، الذي يعبّر عن نفسه بأشكال مادية من أعمال قتل وتفجيرات وتصفيات واستخدام لوسائل العنف المادي المختلفة لتحقيق بعض الأهداف. وعادة ما يكون التطرف السلوكي والمادي نتيجة وانعكاساً لتطرف سابق في الفكر والقناعات والاعتقاد.
والتشدّد أو التطرّف موجود داخل كل مجتمع وحزب وجماعة، لكن بمستويات نسبية. وهذا ما يفسر التصنيفات الشائعة سياسياً لوجود أجنحة مختلفة داخل كل جماعة أو حزب، من متشددين ومعتدلين، صقور وحمائم، محافظين وإصلاحيين. وإذا فشل أي حزب أو جماعة في احتواء وجهات النظر الداخلية المتباينة، ولم تستطع هذه الأطراف التعايش مع بعضها البعض، فإن ذلك يفضي في كثير من الأحيان إلى انشقاقات وانقسامات.
الإسلام يحّذر من الظاهرة
من الخطأ الجسيم ربط التطرف بالإسلام الذي حذّر أكثر من غيره من أخطار هذه الظاهرة، ومن انعكاساتها السلبية على أصحابها وعلى مجتمعاتهم، والقراءة الواعية للنصوص الشرعية الإسلامية في القرآن الكريم والسنة النبوية، توضح بجلاء مدى إدراك الإسلام لخطورة الظاهرة، بل إن الإسلام أنكر على أتباع بعض الديانات مظاهر التطرف والتشدد في السلوك والعبادة، وانتقد القرآن الكريم أولئك الذين شدّدوا على أنفسهم في بعض الطقوس العباديّة، بقوله: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم).
وأطلق الإسلام على المتطرفين أوصافاً سالبة، من مثل وصفهم بـ "المتنطعين" و"المغالين"، كما وصف ظاهرة التطرف بـ "الغلوّ" و"التنطّع". والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - حذّر من مصير صعب ومظلم ينتظر المتشدّدين والمتطرفين بقوله: "هلك المتنطعون"، أي المتطرفون المتشدّدون.
وقد عانت الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها - كغيرها من الأمم- من ظواهر تطرّف فرديّ وجماعيّ على حدّ سواء.. ويجدر التنبيه إلى ضرورة التفريق بين تنامي ظاهرة التطرف وبين اتساع دائرة الصحوة الإسلامية، والالتزام بالدين وزيادة مظاهر التدين الفطري في المجتمعات العربية والإسلامية. فالبعض يندفع بصورة خاطئة ودون وعي للربط بين الأمرين، الأمر الذي يؤدي إلى استنتاجات خاطئة.(13/66)
التطرف لا ينحصر بالجانب الديني، فهناك أشكال مختلفة من التطرف السياسي والثقافي والاجتماعي. وإذا كان التطرف الديني في الوقت الراهن هو الأبرز في المجتمعات العربية والإسلامية كما في المجتمعات الغربية، فإن تطرفاً يسارياً ساد المنطقة العربية في فترة الستينيّات وبداية السبعينيّات، ولم يكن التطرف القومي أحسن حالاً. وغالباً ما كان أصحاب التوجهات الدينية في تلك الفترات يقعون ضحية ذلك التطرف اليساري أو القومي حين وصل اليساريون والقوميون إلى السلطة، فتعرّضت الجماعات الدينية للقمع ومصادرة الحريات والاعتقال، وفي بعض الأحيان إلى التصفية والإعدام، بعد أن صودر حقها في التعبير، بل في الوجود، ووُجهت لها الاتهامات بالرجعية والعمالة للاستعمار.
المسألة إذن ليست حكراً على تطرف ديني، فكما أن هناك تكفيراً دينياً، هناك أيضا تكفير سياسي وعلماني. ومثلما أن هناك توجهات إسلامية متطرفة ترفض الاعتراف بالآخرين وتعمل على إلغائهم، هناك في المقابل علمانية متطرفة تستخف بالدين وتتجرّأ على الثوابت الدينية، وترفض محاورة من يخالفونها الرأي، وتصنّفهم على أنهم خارجون على الصف الوطني، وتمارس بحقهم سياسة القمع والاستئصال.
وقد كان المفكر العربي محمد عابد الجابري محقاً حين أكّد أنه "في جميع الأيديولوجيات هناك دوماً موقع ما للتطرف والغلوّ". مضيفاً: "سبق لي أن قلت: إنه لو كان الزمان زمان الماركسية لكان كثير من الشباب الذين يستقطبهم اليوم التطرف الديني أو الإثني يعملون في صفوف التطرف الماركسي، وهذا سبق أن حدث".
كما أن التطرف ليس حكراً على المجتمعات العربية والإسلامية، فكل المجتمعات عانت أو تعاني من أشكال مختلفة من التطرف الديني والسياسي، سواء في الفكر والمعتقد، أو في الممارسة والسلوك. لكن لأسباب مقصودة، وبفعل ضعف العالم العربي والإسلامي، وسيطرة الآخرين على وسائل الإعلام وأدوات التوجيه القادرة على تشكيل القناعات، تم التركيز على ما يُسمّى "بالتطرف الإسلامي"، في محاولة لإلصاق تهمة الإرهاب بالمجتمعات الإسلامية وبالإسلام ذاته.
وما هو مؤسف أن الإعلام العالمي يسلط الأضواء على كل صغيرة وكبيرة من الممارسات المتشدّدة والمتطرفة في العالم العربي والإسلامي، وفي ذات الوقت يُغضّ الطرف عن الإرهاب والتطرف الديني والسياسي الذي يجتاح المجتمع الإسرائيلي، وأدى إلى سيطرة المتطرفين الإسرائيليين على أغلبية مقاعد الكنيست الإسرائيلي، وكان اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين أحد تعبيراته السلوكية. كذلك يتم تجاهل كثير من مظاهر التطرف التي بدأت تجتاح عدداً من الدول الغربية التي نجحت فيها أفكار وأحزاب سياسية متطرفة في زيادة رقعة حضورها الشعبي وتأثيرها السياسي، بل إن المحافظين الجدد الذين ينطلقون من قناعات ونبوءات دينية متطرفة باتوا يسيطرون على السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان لأفكار اليمين المحافظ ومؤيديه دور حاسم في التجديد للرئيس بوش لولاية انتخابية ثانية.
أسباب تنامي ظاهرة التطرف في المجتمعات العربية
تنشأ ظاهرة التطرف في العادة نتيجة جملة عوامل متشابكة، وليس نتيجة عامل واحد. وقد لوحظ عند تشخيص كثير من الغربيين لظاهرة التطرف في المجتمعات العربية والإسلامية، مبالغة دراساتهم في التركيز على أربعة عوامل أساسية من وجهة نظرهم هي:
1-الفقر.
2-الجهل والأميّة.
3-مناهج التعليم "المتشدّدة" التي تؤدي إلى تخريج أفراد مشبعين بأفكار متطرفة خاصة ما يتعلق بالدراسات الدينية.
4- وجود أنظمة حكم متطرفة تمارس العنف وترعى بعض الجماعات المتطرفة.
ومن أجل فهم الظاهرة وتشخيصها بصورة صحيحة أكثر عمقاً، يمكن تقسيم الدوافع التي تؤدي إلى تطور مظاهر التطرف الفكري والسلوكي ونموها في المجتمعات العربية والإسلامية إلى قسمين:
- عوامل ذاتية من داخل هذه المجتمعات.
- وعوامل خارجية.
العوامل الداخلية
أولاً: عوامل دينية، وفي مقدمتها:
1- ضعف الوعي، والفهم الخاطئ لبعض المفاهيم الشرعية، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآليات تنفيذ ذلك المسموح والممنوع في التطبيق.
2- ضعف مؤسسات التوجيه الديني الرسمية في الدول العربية، وعدم استقلالية هذه المؤسسات، وتبعيتها المطلقة للسلطة السياسية، وخضوعها الكامل لمواقفها وتوجهاتها، بل ومبالغتها في الدفاع عن كافة سياسات السلطة وتوجهاتها. ما أفقدها ثقة المواطن، وجعلها غير مؤثرة في التوجيه والتوعية والترشيد.
3- القناعة لدى قطاعات شعبية وسياسية بأن كثيراً من الحكومات العربية بعيدة عن التزام أحكام الشريعة الإسلامية، وأنها تعمل على تغييب أحكام الدين عن واقع الحياة، وهو ما أوجد دافعاً لدى البعض للتسرع في إصدار أحكام بتكفير هذه الحكومات، وإلى اتخاذ مواقف متشددة إزاء العمل السياسي والممارسة السياسية.(13/67)
4- تنامي ظاهرة الصحوة الدينية والتدين الفطري العام في العالم العربي، وفّر فرصة للجميع للاستفادة منها. ولا شك أن بعض الأفكار المتطرفة استفادت من هذا الإقبال على التديّن في كسب مزيد من المؤيدين لأفكارها، في ظل ضعف عملية الترشيد والتوجيه لهذه الصحوة.
5- محاربة الحكومات للتوجيه الديني غير الرسمي، ووضعها لكافة الحركات الإسلامية، المتشددة منها والمعتدلة، في سلة واحدة. وهو ما أضعف قدرة هذه الحركات على الإسهام بدورها في مواجهة بعض مظاهر التطرف التي باتت تشكل خطراً على الجميع. ولا شك أن عدم تمييز الرسميين بين توجهات معتدلة وأخرى متطرفة، أتاح فرصة مهمة لتوجهات التشدّد لتعزيز حضورها، كما أنه أوجد قناعة لدى قطاعات شعبية واسعة بأن تلك الحكومات تقف موقفاً سلبياً ضد كل ما هو ديني، سواء اتسم بالتشدد أو الاعتدال. ونتيجة هذه القناعة السلبية عن تلك الحكومات لدى شعوبها، بدأت تنظر إليها على أنها تقف ضد الدين ذاته لا ضد توجهات دينية معينة، كما أن المساواة بين المتشددين والمعتدلين ومعاملتهم جميعاً كمتطرفين ومتآمرين وخارجين على القانون، قد يحوّل بالنتيجة بعض المجموعات المعتدلة إلى مجموعات متطرفة ما دامت تشعر بأنها مستهدفة أيا كانت توجهاتها.
6-المبالغة في الاستخفاف بالدين وبالمقدسات الدينية، وفرض توجهات فكرية علمانية من قبل بعض الجهات الرسمية، يشكل نوعاً من الاستفزاز، ويؤدي إلى ردة فعل معاكسة نحو المزيد من التشدّد.
ثانياً: عوامل سياسية، منها:
1- التفرد بالسلطة وعدم تداولها، وغياب الحرية والديمقراطية في المجتمعات العربية والإسلامية، وانسداد أفق التغيير السلمي أمام الحركات والأحزاب السياسية، تسبب بحالة إحباط ويأس - لدى البعض - من إمكانية حدوث إصلاح سياسي ضمن الأطر والأنظمة السياسية القائمة أو عبر الوسائل السلمية، ودفع إلى اللجوء للعنف كسبيل وحيد متاح للتغيير والإصلاح. في هذا السياق يرى الدكتور الجابري أن "من أسباب ظهور التطرف سواء باسم الإسلام أو العرق أو باسم الطائفة أو باسم أي أيديولوجية ما، هو أولاً وقبل كل شيء غياب الديمقراطية، إضافة إلى الظروف الاجتماعية الاقتصادية". ويضيف: "عندما يمارس الإقصاء على هذه الفئة أو تلك يكون رد الفعل هو التطرف".
2- كثيراً ما يكون التطرف الديني أو السياسي من قبل الأفراد والجماعات، ردّ فعل على تطرف فكريّ أو سلوكيّ تمارسه السلطة حين ترفض الحوار مع الآخر وتصرّ على مواجهته بالعنف والقمع فقط.
بعض السلطات العربية لجأت إلى تشويه صورة خصومها ومعارضيها السياسيين، وتتهمهم بالتطرف لتحقيق مكاسب سياسية في معركتها معهم، ولتعطي لنفسها مبرراً للتعامل معهم بقبضة حديدية. وعند النظر إلى مصر والجزائر كحالتين للدول التي عانت ظاهرة العنف والتطرف، يُلاحظ أن القمع الذي استخدمته السلطة ضد المجموعات الإسلامية المعتدلة أدّى إلى تحويل بعض تيارات تلك المجموعات إلى التطرف. فجماعة التكفير والهجرة في مصر نشأت داخل السجون المصرية نتيجة ما لقيه أفرادها من قمع وتعذيب شديدين جعلهم يتحوّلون من مجرد ناشطين عاديين في صفوف جماعة الإخوان المسلمين إلى أفراد يتبنّون أفكار التكفير. والملاحظ أن السلطات العربية بدل أن تستخلص الدروس والعبر من تجاربها الخاطئة، تلجأ إلى استغلال ما حصل سابقاً لتوجيه الاتهام لجماعة الإخوان بأن جماعات التطرف والتكفير خرجت من تحت عباءتها، وبأنها تشكل محضناً لتفريخ العنف والتطرف.
3- نظرة بعض القطاعات إلى بعض الحكومات العربية والإسلامية على أنها غير وطنية وعميلة ومرتبطة بقوى معادية للأمة، دفع تلك القطاعات إلى القناعة بعدم جدوى الحوار مع تلك الحكومات، وبأن استخدام العنف هو الخيار الوحيد المجدي للتعامل معها.
4- توقيع اتفاقيات ومعاهدات تسوية بين أطراف عربية رسمية وبين (إسرائيل)، أوجد حالة غضب شعبي تجاه الحكومات المؤيدة لتلك الاتفاقيات التي تنظر إليها أغلبية شعبية على أنها ظالمة ومجحفة بالحقوق الفلسطينية والعربية، وأنها تمت بفعل ضغوط خارجية شديدة خدمة للمصالح الإسرائيلية.
ثالثاً: عوامل اجتماعية واقتصادية:
1- الفقر والتفاوت الاجتماعي، وشعور بعض الشرائح بالظلم وغياب العدالة، يؤدي إلى توليد حالات نقمة وإحباط تشكل مرتعاً خصباً لنشوء توجهات متطرفة ليست متعلقة بالضرورة ببعد ديني.
2- التطرف في الانحلال الأخلاقي، والسكوت الرسمي على المظاهر الصارخة للفساد الخلقي، بل وربما تشجيعه بمبرر الانفتاح، يولّد ردّات فعل مضادّة عند مواطنين عاديين وأصحاب توجهات وقناعات دينية. ويمكن القول: إن التطرف اللاديني (العلماني) قد يؤدي إلى تصاعد تطرف ديني مقابل.
رابعاً: عوامل نفسيّة:(13/68)
وهي تنجم في العادة عن جملة العوامل السابقة؛ فالتوجه للعنف الفكري والسلوكي يكون في العادة ناتجاً عن إحباط سياسي، بسبب اليأس من القدرة على التغيير السياسي والتمتع بالحريات في التعبير والقول والممارسة، ويكون ناتجاً كذلك عن إحباط اجتماعي واقتصادي من إمكانية تحسين الوضع القائم نتيجة اختلالات اجتماعية واقتصادية كبيرة. وربما يكون الإحباط ناجماً كذلك عن الواقع الذي تعيشه الأمة من حيث الضعف والضربات المتلاحقة التي تُوجّه لها دون أن يكون لها حول أو قوة على المواجهة.
عوامل خارجية
1- أحداث 11 سبتمبر وإعلان أمريكا حرباً شاملة ضد الإرهاب، وما تبعها من ممارسات متشددة ضد الأقليات الإسلامية في عدد من المجتمعات الغربية، والنظرة السلبية إلى المنطقة العربية والإسلامية على أنها مصدر الشرّ والإرهاب في العالم، وتولّد قناعة لدى قطاعات شعبية واسعة في العالم العربي والإسلامي بأن الولايات المتحدة تشنّ حرباً عسكرية وسياسية وثقافية ضد الأمة العربية والإسلامية تهدف إلى السيطرة على المنطقة واستغلال ثرواتها وإعادة رسم خريطتها السياسية والجغرافية وفق الرغبات الأمريكية، إضافة إلى الضغوط القوية على الدول العربية والإسلامية لمحاصرة الجمعيات الخيرية وإدخال تغييرات جوهرية على مناهج التعليم. كل ذلك تسبب بردة فعل سالبة لدى الشعوب العربية والإسلامية والقوى السياسية في المنطقة التي بدأت تلجأ إلى التشدد في الدفاع عن الذات.
2- الاحتلال الأمريكي للعراق ساهم بشكل كبير في تأجيج مشاعر العداء والكراهية في العالم العربي ضد الولايات المتحدة وضد كثير من الأطراف الغربية، ووفّر أرضية مناسبة لكثير من الطروحات المتشددة التي لقيت رواجاً في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والاحتلال الأمريكي الجديد للعراق.
3- بروز مقولات ونظريات الصراع الحضاري والثقافي في الغرب، وترويج أوساط غربية أن الإسلام هو العدو الجديد والخطر الداهم الذي يتهدد الحضارة الغربية، أثار كثيراً من الأوساط العربية والإسلامية ودفعها إلى تبني مقولات مقابلة تقوم على أساس الخوف الثقافي والحضاري. وزاد من حجم المشكلة أن الأمر لم يعد يقتصر على طرح نظريات الصدام والصراع الحضاري بين الحضارة الغربية والحضارة العربية والإسلامية، من قبل مفكرين مثل هنتنغتون وفوكاياما، بل تعداه إلى تصريحات تحريضية صدرت عن سياسيين معروفين كنيكسون وتاتشر والعديد من السياسيين الغربيين خلال الأعوام الأخيرة.
4- تنامي نفوذ المحافظين الجدد، ونجاحهم في الوصول إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، وهيمنة البرامج والأجندات الدينية المتشددة لهذا التيار على أفكار وسلوكيات الإدارة الأمريكية، وتشكّل قناعة واسعة في المجتمعات العربية والإسلامية بأن الحرب التي تشنها الإدارة الأمريكية الحالية لمحاربة الإرهاب ما هي في حقيقتها إلا حرب دينية صليبية ضد الإسلام والأمة الإسلامية، وكان له تأثير بالغ في تأجيج مشاعر التشدّد تجاه الولايات المتحدة.
5- تنامي التطرف الديني والسياسي في المجتمع الإسرائيلي، وانسداد الأفق السياسي لفترة طويلة، وزيادة حجم الاعتداءات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في ظل الانتفاضة، وانحياز الولايات المتحدة وغالبية الأطراف الغربية لصالح الجانب الإسرائيلي، وبحثهم عن حجج وذرائع لتبرير جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، شكّل عاملاً آخر في تعزيز حالة الاحتقان النفسي لدى كثير من العرب والمسلمين.
6- مبالغة المجتمعات العربية والإسلامية في الخوف من أخطار وانعكاسات العولمة الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تم النظر إليها كسلعة غربية يجري تصديرها إلى العالم الإسلامي، وخشية أوساط إسلامية من أن تؤدي عملية الانفتاح وفتح الحدود وإزالة الحواجز السياسية والثقافية في ظل التفوق والهيمنة الغربيتين، إلى اختراق الثقافة والقيم والعادات الغربية للمنطقة على حساب ثقافتها وهويتها الحضارية، مما دفع إلى تنامي بعض دعوات الانغلاق والتشدد وإغلاق الحدود والمنافذ لاتقاء شرور العولمة العابرة للحدود.
هذه العوامل، إضافة إلى الاحتقانات السياسية والثقافية والنفسية التي تمرّ بها المنطقة، وما ينطوي عليه واقع الأمة العربية من كثير من مظاهر الضعف والعجز والتمزق، أدى إلى توفير أجواء مواتية لتنامي نزعات التشدد والتطرف، ولكن بشكل جديد؛ إذ باتت الظاهرة تشمل المجتمعات ولا تقتصر على الأفراد والجماعات والحركات. وهذه -بالتأكيد- حالة أكثر خطورة من حالات التطرف التقليدي التي كانت موجودة سابقاً. ويساهم في تعزيزها توفر مزاج ومناخ عام يمكن أن تترعرع في ظله توجهات التشدد والعنف بأشكالها المتعددة، الفردية والجماعية، وتشدد المجتمعات كرد فعل على الشعور بالاستهداف.
مقترحات للتعامل مع المشكلة(13/69)
ما لم يتم استيعاب المتغيرات الجديدة التي طرأت على ظاهرة التطرف في المنطقة والعالم، وما لم تتم مواجهتها بكثير من الحكمة والعقلانية، بعد الفهم العميق للظاهرة، فإن من الممكن ارتكاب أخطاء إضافية تؤدي إلى زيادة حجم المشكلة لا الحدّ منها. فلم يعد ممكناً مواجهة ظواهر التطرف والتشدد والإحباط، بذات الوسائل القديمة التي كان البعض يصرّ على اللجوء، إليها وأثبتت التجربة العملية فشلها.
لا بدّ هنا من التوقف عند نقطتين هامتين:
الأولى: عند العمل على معالجة المشكلة ضرورة التمييز بين التعامل مع التطرف في إطاره الفكري الذي يقتصر على الأفكار والقناعات والتوجهات، وبين التطرف الذي انتقل إلى دائرة الممارسة المادية السلوكية العنفية. فالأساليب المجدية في التعامل مع النوع الأول، لا تجدي بالضرورة في التعامل مع النوع الثاني. وما هو ضروري للتعامل مع الشكل الثاني قد لا يكون ضرورياً للتعامل مع الشكل الأول.
الثانية: جرت العادة على مواجهة ظاهرة التطرف بأحد أسلوبين:
1- الأسلوب الأمني البوليسي: وهو المفضل لدى غالبية الأجهزة الرسمية والمؤسسات الأمنية العربية والإسلامية.
2- الأسلوب السياسي والفكري: عن طريق الاستيعاب، وفتح قنوات الحوار، لإقناع من يحمل فكراً متطرفاً بأن أبواب التأثير والإصلاح بالطرق السلمية بعيداً عن العنف وإراقة الدماء، متيسرة أمامه وليست مغلقة.
ولوحظ أن غالبية الدول التي اقتصرت على التعامل بالأسلوب الأول، لم تنجح بعد سنوات طويلة من المواجهة، في الوصول إلى هدفها بإضعاف التوجهات المتطرفة، وكانت النتيجة مؤلمة للطرفين، للسلطة وللمجموعات المتطرفة، وغالباً ما دفع المجتمع الثمن غالياً من دماء أبنائه ومن اقتصاده واستقراره نتيجة هذه المواجهة العقيمة.
وهنا بعض المقترحات لمواجهة المشكلة:
1- إنهاء حالة التفرد السياسي الذي تمارسه كثير من الحكومات والأنظمة، والتوقف عن سياسة القمع وتكميم الأفواه، والتوجه لفتح أبواب الحريات المسؤولة في كافة الجوانب. وإذا كانت بعض الأطراف الخارجية تتحدث عن الإصلاح السياسي كضرورة تخدم مصالحها، فإن مصلحة الأمة وشعوبها، بل وحتى حكوماتها، أن تباشر عملية إصلاح ذاتية حقيقية، وأن تقنع الجميع بأن إمكانية التغيير والإصلاح بالوسائل السلمية متاحة. وأي تأخير في ذلك يسهم في زيادة حالة الإحباط السائدة.
2- معالجة الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، وتقليص الفجوة الآخذة بالاتساع بين أغلبية مقهورة ومسحوقة في المجتمعات العربية، وبين أقلية متنفذة تسيطر على الثروات والمقدّرات والمداخيل. لا سيما أن قناعة تسود لدى أوساط شعبية واسعة بأن الفساد واستغلال المناصب والمواقع للإثراء غير المشروع هي التي تقف وراء ما تتمتع به نخبة مهيمنة محدودة من مكتسبات.
3- إعطاء استقلالية حقيقية لمؤسسات التوجيه الديني، والتوقف عن توظيفها كأداة لحشد التأييد لتوجهات السلطة السياسية، كي تكون قادرة على ممارسة دورها بفاعلية في التوعية والتثقف الديني والتصدي لبعض مظاهر الفهم الخاطئ للإسلام.
4- التوقف عن وضع جميع الحركات الإسلامية في كفة واحدة ومناصبتها جميعها العداء بشكل أعمى، ودون وعي أو تمييز، وإدراك أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه الحركات الواعية في مواجهة الفهم الخاطئ.
5- الحذر من دعم مظاهر "التطرف العلماني" في مواجهة "التطرف الديني"، فكلا التطرفين نتائجه خطيرة على المجتمعات العربية والإسلامية، وتنامي الواحد يستفز الآخر ويعمل على تفعيله.
6- إنهاء الاحتلال الأمريكي للعراق، وتعامل الأطراف الغربية- لا سيما الولايات المتحدة- بصورة أكثر عدلاً مع الصراع العربي الإسرائيلي، يسهم في التخفيف من حالة الغضب التي تجتاح الشارع العربي وتؤدي إلى إيجاد حالات من التشدد كردة فعل متوقعة لما تتعرض له بعض الدول العربية من انتهاك لسيادتها.
7- وقف التصريحات المعادية للإسلام والمسلمين في الغرب، سواء من قبل بعض وسائل الإعلام، أو بعض النخب السياسية والفكرية والدينية، لأن من شأن هذه التصريحات العدائية أن تستفز غضب العرب والمسلمين، وتولّد مشاعر غضب شديدة.
* * * * * * *
خلاصة القول: إن التطرف رد فعل على تطرف آخر. فالعنف لا يولّد إلا عنفاً مضاداً، وسرعان ما يتحول الأمر إلى حلقة مفرغة لا نهاية لها. وما لم تتم معالجة الأسباب التي تشكل أرضاً خصبة لانتشار الأفكار المتشددة في العالم العربي الغربي، فإن أي معالجات أمنية ستكون قاصرة عن مواجهة الظاهرة، بل قد تشكّل سبباً إضافياً لتناميها. ومن الأهمية بمكان أن تدرك كل الأطراف الطور الجديد الذي تمرّ به ظاهرة التطرف في ظل المعطيات القائمة.
* رئيس تحرير صحيفة (السبيل) الأردنيّة
===============(13/70)
(13/71)
الحركة الإسلاميّة وتحدّيات الإصلاح والتنمية
إبراهيم غرايبة 21/3/1426
30/04/2005
تواجه الحركة الإسلامية في مرحلة المشاركة في المشروع الأمريكي للإصلاح والتحول إلى العمل الوطني والإصلاحي والتنموي بعد مرحلة طويلة من التركيز على العمل السياسي العام في مجال القضية الفلسطينية والقضايا القومية والإسلامية الكبرى- جملة تحدّيات رئيسة وكبرى ستقرر مصيرها وقدرتها على الاستمرار والبقاء والنمو.
فهذا التحوّل يقتضي إعادة صياغة وإنتاج برامجها وهياكلها وعضويتها وتركيبتها التنظيمية والعضوية وأفكارها ومواقفها بما يلائم التحولات الكبرى المتوقعة في خطابها وبرامجها ووسائلها وعلاقاتها. فأن تكون الحركة الإسلامية حزباً حاكماً أو شريكاً في الحكم يعني مطالبتها ميدانياً وعملياً بتحمل ومواجهة قضايا واقعية ميدانية ومجتمعية، وهو تحول لن يقل في عمقه وصدمته عن تحول الحركة الإسلامي في تركيا عندما أعادت إنتاج نفسها في حزب العدالة والتنمية.
لن تعود الحركة الإسلامية جماعة تعبر عن الضمير العام، والموقف الرومانسي المعلن والمرغوب للمجتمع والناس، ولكنها ستكون شريكاً ومسؤولاً يتعرض للمحاسبة ويطالب بإنجازات سياسية واقتصادية لم يكن يعمل بها ابتداء، ولا يعني هذا التحدي حتمية الفشل، ولكنه يعني بالتأكيد تحولها إلى حزب سياسي اجتماعي أقرب إلى العلمانية، وتتلاشى المرجعية الأيدولوجية لتحل مكانها فكرة أو فلسفة عملية وتطبيقية محكومة بالمصالح والفرص والممكنات.
وبالطبع فإن الحركة الإسلامية في الأردن منذ بدء مشاركتها في العمل السياسي وإنشاء حزب جبهة العمل الإسلامي قد قبلت عملياً وأيدولوجياً العمل من خلال الدستور والقوانين والعقد الاجتماعي السياسي المنظم للحياة السياسية، ولم يعد للخطاب الأيديولوجي قيمة تنظيمية أو عملية إلا بمقدار دعمه للبرامج والأفكار العملية المتبعة، وتستطيع الجماعات في كل الأديان أن تجد في الدين إطاراً مرجعياً يبرّر ويفسر المواقف والبرامج مهما كانت تبدو متناقضة ومختلفة.
وهكذا فإن المشاركة في الحكم وقضايا المرأة والتسوية السياسية وغيرها ستخضع لمراجعة فكرية وتنظيريّة تجعل المواقف الجديدة صحيحة ومنسجمة مع الضمير العام الذي اتبع لعقود طويلة.
وربما يكون هناك خيار حاسم يشبه خيار حزب العدالة والتنمية، وهو التخلي نهائياً عن "الإسلاميّة" أي الفكر والنظام السياسي والاجتماعي للمسلمين وليس الإسلامي، ودولة المسلمين وليس الإسلامية.
وبالطبع فإن التجربة وتحولاتها لم تقتصر على تركيا، ولكنها طُبقت في السودان، وإيران، والبوسنة، والعراق، وأفغانستان.
وهي تحولات لم تكن سلسلة وتلقائية، فقد صاحبها في كل الأمثلة والحالات السابقة آلام وانقسام وتحديات وتراجع وتغيّر ونزاع وتعديل مستمر في المواقف والأفكار، حتى تحولت التجربة الإسلامية إلى حالة سياسية مجتمعية محكومة بالمعطيات والتفاعلات الجارية أكثر مما تحكمها الأفكار والنظريات.
فقد انقسمت الحركة الإسلامية في السودان عام 1977 عندما قررت المشاركة السياسية مع الرئيس جعفر النميري بعد سنوات من المقاومة والاعتقال، ثم انقسمت المجموعة السياسية التي أنشأها الترابي عام 1999، وهاهو الترابي في السجن على يد رفاقه وتلامذته، وانقسمت الحركة الإسلامية في تركيا، وفي أفغانستان وفي العراق على خلفيات المشاركة والبيئة السياسية المحيطة بالعمل.
وتواجه الحركة الإسلامية في الأردن تحدياً إضافياً مختلفاً عنه في الأقطار العربية والإسلامية الأخرى، فقد بقيت الحركات الإسلامية غير الأردنية مرتبطة بقضايا المجتمع والبلد الذي تعمل فيه، وإن كانت مشاركتها وتجربتها ظلت مرتبطة بمرجعية فكرية وأيديولوجية أكثر مما هي ميدانية وعملية، ولكن الحركة الإسلامية في الأردن كانت في حالة ابتعاد كبير عملي وفكري عن القضايا والبرامج الوطنية والإصلاحية، وقد أنشأت خطابها وجمعت مؤيديها وأعضاءها وأنصارها على أساس القضية الفلسطينية، ومعارضة التسوية السياسية، والتمسك بالحقوق الفلسطينية، وتشكل برنامجها النيابي (الذي يكاد يكون التجربة السياسية الوحيدة) على أساس التعبير عن المطالب الفلسطينية.
هذا الخطاب يتعرض اليوم إلى انعطافة كبرى ومراجعة استراتيجية تعيد النظر في وجوده ومبرراته بعد تحول حركة حماس في فلسطين إلى العمل السياسي ومشاركتها في السلطة الوطنية ومنظمة التحرير والانتخابات البلدية والتشريعية الفلسطينية.
وهنا سيكون التحدي الإضافي، وربما المصيري أمام الحركة الإسلامية الأردنية في إعادة إنشاء برامجها وتجميع الأعضاء والمؤيدين على أسس جديدة مختلفة كثيراً عن المرحلة السابقة، وهو أمر لن يكون سهلاً ولا تحكمه فقط اعتبارات داخلية وبرامجية.
===============(13/72)
(13/73)
واجب تغيير المناهج
يوسف الحجيلان 5/3/1426
14/04/2005
إن منطق الهيمنة الذي تفرضه القوة شطر من قاعدة أن القوة مادة البقاء وقوام الحياة. وفي عالم يؤمن بالمادة لا غير ويعتقد بالمحسوس، وتبقى المثل والتقاليد (رشوت) خطابات ومواد دعاية وإكسسوارات تُستخدم عند الحاجة!!
تبقى هذه القاعدة أكثر رسوخاً وواقعية.
وفي أتون هذا الواقع وسيادة هذا المنطق تبقى تبعات الحادي عشر من سبتمبر تساؤلات يتصدر إجابتها بسطاء يرون أن ما تبعه من تغيّرات مسبَّب ونتيجة له.
ومتجاهلون ينظرون بعين طُوّعت لتنظر ما يروق لها، ويوافق توجهاتها لا غير, من قبيل أنه -ومنذ الأزل- وأمريكا تخطط لمثلما فعلت بعد هذا الحدث, ووفق كلتا النظريتين: يكون هذا الحدث وتبعاته على المسلمين شبيهاً بقتل خوارزم شاه لتجار التتر، وما جره ذلك الحدث من ملاحم ومذابح على أمة الإسلام, أما عداء أمريكا فمحل وفاق عند الطرفين.
وعلى كل حال فمؤشر التوجّس والخوف الأمريكي من الشرق وخطر الإسلام والأصولية، وما يحمله الفكر الجهادي من خطورة على الغرب واضح الارتفاع والتغير، وخطاب الديمقراطيين فضلاً عن الجمهوريين واضح صريح على لسان كلينتون, بمعاقبة الدول التي لا تسمح لأهل الديانات الأخرى بممارسة شعائرهم على أرضها.
وإن غازلت دوائر الاستخبارات الأمريكية بعض الفصائل الجهادية في بعض النقاط الساخنة لكن من باب عدو عدوي صديقي، وأحياناً كحلقة من مهمة الاستخبار والرصد.
وبعد سبتمبر أجلبت أمريكا بخيلها ورجلها وحدّها وحديدها في استغلال واضح مكشوف لبيئة أوجدها الحدث؛ فصار العالم مهيّئاً لتقبل كل ما يمكن أن يصدر عن أمريكا. واستشفّ صُنّاع القرار الأمريكي تلك الاستجابة فقالوا: من ليس معنا فهو ضدنا، في إسقاط جليّ لكل معايير الحكمة، وإلغاء لحرية التفكير واستقلال القرار.
فأرعبت دول العالم ووجدت نفسها تُساق راغمة أو راغبة لتستجيب للنداء الأمريكي لمكافحة الإرهاب، وضرب أصوله وتجفيف منابعه.
وكانت زأرة الأسد الجريح كافية لتبليغ الرسالة وتحديد المهمة، ولم تكن الحكومات بحاجة لجسّ المصداقية واختبار النوايا.
كيف وهي ترى بأم عينها حاملات الطائرات والبوارج والقاذفات العملاقة، وعشرات الألوف من نخبة الجيش الأمريكي تمخر عباب البحر، وتشق عنان السماء متوجهة شرقاً لمحو دولة طالبان من الخارطة السياسية.
في تطبيق واضح صريح للشعارات التي رُفعت إثر الحدث.
وبدأت مصانع القرار الأمريكي ممثلة بوكالة الاستخبارات والمباحث الفدرالية ومكاتب الأمن القومي والبنتاجون، ومئات النفعيين من يهود ونصارى متعصبين ورأسماليين بدؤوا كل يعمل على شاكلته، ويخدم منفعته من خلال وضع ما يُسمى بسياسة القضاء على الإرهاب مسخّرين في سبيل ذلك كل المنظمات العالمية ومطوعين كل النظم، وبحجة أنهم اكتوَوْا بناره فكلمتهم الأولى بأن تسمع في سبيل مكافحته.
وعلى الأثر بدأت القرارات والأنظمة تصدر في غير بلادها لتُطبّق حيث شاء الخصم، فاتُّهمت أمم وامتهنت معتقدات، وديست مبادئ، واستبيحت حرم بهذه الحجة.
وكانت مناهج التعليم والمدارس الدينية وحلق العلم والقرآن بل القرآن نفسه والسنة كان هذا كله أول من دخل قفص الاتهام والمحكمة، ولم يخرج بتهمة التنظير للإرهاب، ووضع قواعده فهو بحاجة لفلترة وتنقيح حتى يواكب المجتمع المدني المتحضر، ويساير ركب المعاصرة، ويليق بزمن المنظمات الإنسانية والحقوقية.
وهنا سؤال فرضه واقع: هل كانت المناهج التعليمية وما صحابها، فعلاً ترقى لمستوى التهمة فهي بحاجة لإعادة نظر وفلترة وصياغة جديدة.
والجواب ذو شقين :
أولاً: إن عدداً كبيراً ممن شاركوا فيما يُسمّى بعمليات إرهابية بل وحتى في حدث سبتمبر نفسه، تعلّموا إما في بلاد علمانية بحتة، أو في دول لا تعطي مدارسها للمنهج الديني كبير اهتمام؛ فتدرس أبواباً في الآداب العامة لا تمسّ من قريب ولا بعيد أبواب الجهاد والولاء والبراء والتكفير وغيره.
ثانياً: هذه المدارس والمناهج والحلق محل التهمة كانت فجذورها تضرب في التأريخ قدماً، ولم تحدث شيئاً من هذا فما معنى أن يكون اليوم هو ميلاد مفعولها ونتاج دراستها وثمرة جهدها؟
وهل احتاجت ثلاثمائة سنة من الحملات الصليبية على بلاد الإسلام، ثم بعدها الاستعمار الإمبريالي وما نتج عنه من عسف وقهر واضطهاد؟ وهل احتاج هذا كله لأكثر من سايكس بيكو وبطرس الناسك وشره الكنيسة؟ وهل احتاج التراجع والانكفاء لتغيير في مناهج معاهد اللاهوت والكليات الإنجيلية وسراديب الفاتيكان؟(13/74)
يتفق المربون وعلى كافة الأصعدة والمستويات على نظرية: أن الدرس العملي التطبيقي أبلغ من الطرح النظري في إيصال المعلومة وبلوغ الهدف المرجو، ومنذ نهاية الاستعمار، وإلى اليوم مروراً بعصر الحرب الباردة ثم تحول العالم إلى أحادية القطب والسياسة الأمريكية ما انفكت تدرِّس شعوب الشرق الإسلامي نظرية العداء لأمريكا والغرب، وبأطروحات متنوعة، ومدارس شتى من خلال الحصار الجائر وتجويع الشعوب، وقتل الكرامة واستباحة الخيرات والمعايير المزدوجة، وصبّ جامّ غضب أمريكا على هذه الشعوب، وتجريب الآلة الحربية المتطورة مباشرة أو بقيادة إسرائيلية ،وعدم الاكتراث بما يجري لهذه الشعوب بل القتل الصريح وبدم بارد بحجة أنها جزء من محور الشر أو داعمة للإرهاب أو خارجة عن القانون الدولي أو غير ذلك من (مانشيستات) الاتهام الجاهزة لمثل هذه الأغراض أصلاً.
تلك الدروس وهذه المدارس نجحت وبجدارة في أداء دورٍ عظيم جعل العداء لأمريكا ومن سار في قطبها عقيدة أكثر رسوخاً وقناعة في الشرق، ودفع بالمئات من الشباب لاسترخاص الموت في سبيل الدفاع عن أرض تُستعمر ودين يُداس وكرامة تُمتهن.
كنا ندرس أن الغرب أكثر إفادة من دروس الماضي، وأن مراكز الرصد لديه لا تفوّت شيئاً في سبيل ضمان عدم تكرار الخطأ. ولكن ها هي أسئلة يطرحها البسطاء ألم تتأدّب أمريكا من مدرسة فيتنام والصومال، وورطة الروس في أفغانستان والشيشان؟!
بعد سبتمبر مباشرة كان القرار الأمريكي الأول وحتى قبل ثبوت التهمة هو ضرب بؤرة العمل الجهادي ومصنع رجالاته ومدارسه أفغانستان، وكانت تطمح إلى ضربة قاضية تكون بداية النهاية لهذا الفكر، غير أن الواقع أثبت أن تفجير قنابل الميكروويف في بانشير وتورا بوار وهندكوش تسبب في تطاير الشظايا إلى كل بلاد العالم تحمل معها أمانة التجنيد للفكر الجهادي وصنع المساحات الكافية لبناء قواعد المدّ اللوجستي والبشري، وتصعيد التعاطف الشعبي الموجود أصلاً ومن خلال دروس ماثلة واقعية يجسدها ما ترتكبه الآلة الأمريكية من ذبح وهدم ودمار ليرقى هذا التعاطف إلى مستوى التفاعل والدعم والتضحية.
إنها حقيقة مرة في المذاق الأمريكي أن يكون نتاج العمل لضرب هذا التوجه بداية ميلاد العشرات من المحاضن المشابهة بل التابعة، وبحالة يصعب معها المتابعة والرصد, إن لم يستحل.
فلم لا يكون والحالة هذه الممثل الحقيقي لدور خوارزم شاه هم الأمريكان، ومن قال من ليس معي فهو ضدي في عقلية لم تعرف الآخر إلا بعد أن اكتوت بناره. إن التأريخ يثبت بالتجربة أن الضربات كلما كانت أقسى كلما كانت أنجع في عملية إيقاظ الأمم من سباتها وبث روح التحدي لديها.
وإن من سوء التدبير أن تطارد أمريكا العائدين من أفغانستان فتلجئهم بطريقة عجيبة إلى أن يكونوا أكثر ولاءً لمبادئهم، وتضحية من أجلها؛ فقد تبين لهم أنه ليس فقط طالبان أو القاعدة في أفغانستان هما المطلوبين في هذه العملية، بل كل من يحمل الفكرة ويدين بها، ولو لم يسع لتفعيلها.
أضف إلى ذلك معتقلات كوبا، والتي أضحت تقوم بدور قميص عثمان لكن بطريقة سلبية، ثم الإكراه الأمريكي للحكومات أو تفاعل بعضها بلا إكراه مع الطلب الأمريكي باستخدام سياسة القوة والاعتقال ضد كل أطياف التيار: سلمه وحربه، وهذا نهج ثبت عدم جدواه مع الجماعات القتالية في العالم، بل وبعد سنين من المعارك والقتل كانت طاولة المفاوضات هي الملجأ للحلّ. إن ما يُمارس على أرض الواقع من ضرب لما يُشتبه أنها معاقل للتيار أو مصادر تمويل له، والأخذ بمجرد الظنة، وإلغاء كل دعاوى الديمقراطية والتعايش، إن بعض هذا يكفي لشحذ همم المئات من الشباب كي تتحول من مجرد الولاء إلى تفعيل الدور والقيام بشيء ما.
ويا لَغباء الأمريكان حين نقلوا المعركة إلى حيث شرايين حياتهم ( العراق ) وموارد طاقتهم الخليج!! إن الصراعات الأيديولوجية لا يحسمها الحديد والنار وهذه من المسلمات.
فأيّ المناهج أجدر بالمراجعة وأحق بالتغيير؟!
==============(13/75)
(13/76)
وفاة البابا... صانع مجد الكاثوليكيّة
في العصر الحديث
د. بدران بن الحسن 1/3/1426
10/04/2005
لقد توفي البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان بعد رحلة طويلة مع المرض. أما الهالة الإعلامية التي أُقيمت على وفاته فهي جد مثيرة، وغير مسبوقة في تاريخ الرموز الدينية المسيحية. وفي الحقيقة لقد هالني هذا الاهتمام المنقطع النظير بوفاة هذا الرجل، وخاصة بكاء المسلمين عليه، وبالأخص معظم القنوات العربية التي اهتمت بموته بطريقة لا تصدق.
فمن هو البابا يوحنا بولس الثاني؟ وما هي أهم إنجازاته؟ ولماذا هذا الاهتمام العالمي به؟
من هو يوحنا بولس الثاني؟
البابا يوحنا بولس الثاني، بولندي الجنسية واسمه الحقيقي "كارول جوزيف فوتيلا" ولد في 18 أيار عام 1920 في بولندا لأب كان يعمل موظفاً في الجيش البولندي. وقد تدرج في السلم الكنسي من راعي إلى أسقف إلى كاردينال إلى أن اختير للمنصب البابوي، ورئيساً للكنيسة الكاثوليكية في عام 1978 ليكون أصغر من تولّوْا هذا المنصب في القرن العشرين. ومضى البابا ليصبح أحد أكثر الوجوه المألوفة في العالم. وقد كان يبلغ من العمر آنذاك (58) عاماً، وهو البابا رقم (265) في تاريخ باباوات الكنيسة الكاثوليكية، كما يُعتبر أول بابا غير إيطالي يتقلد هذا المنصب منذ (465) عاماً. وقد وصل يوحنا بولس الثاني إلى "الكرسي البابوي" بطريقة دراماتيكيّة أثارت العديد من الشبهات حوله، وحول القوى الداعمة له، فقد خلف يوحنا بولس الأوّل الذي لم يبق في منصبه سوى (33) يوماً؛ إذ قيل: إنه سُمّم لأنّه لم يكن مناسباً للمرحلة الخطيرة في ذلك الوقت على الصعيد العالمي، وتمهيداً لقدوم بولس الثاني الذي قيل أيضاً: إنه في حقيقة الأمر من أصول يهودية، وإنه بدّل دينه عند انتقاله من تشيكيا وهي بلده الأصلي إلى بولندا كما فعل بعض اليهود آنذاك خوفاً من بطش النازيين كما يدّعون، وخاصة من شاهد الحصة التي أنجزتها القناة التلفزيونية الأمريكية (CNN) يوم وفاته، وذلك الحوار مع أصدقاء طفولته اليهود الذين شهدوا بقربه منهم ومحبتهم له ومعرفتهم بحقيقة شخصيته. بل إن المتأمل في مسيرته يرى من وراء ذلك مختلف المخططات الأمريكيّة الأوروبيّة التي دعمت وصوله آنذاك، ومختلف مخابر صناعة الزعماء كيف سهرت على تلميع صورته وإبرازه زعيماً دينياً متسامحاً مع الجميع، وممثلاً ليسوع المسيح (بزعمهم)، وتجدّدت الشبهات حول اختياره مرة أخرى عندما أصبح البطل الأهم في إسقاط الشيوعية في بلده بولندا، ومرة أخرى عندما قدّم الفاتيكان اعترافاً دبلوماسياً رسمياً بدولة إسرائيل، وثالثاً عندما ذهب لحائط المبكى واعتذر لليهود عمّا قام به أسلافه في حقهم. وبغض النظر عن صدقية القول: إنه من أصل يهودي، فإن ما يهمنا هنا هو هذه الشخصية المثيرة في التاريخ المسيحي المعاصر، وتاريخ العالم المعاصر ككل، وأهم ما قام به.
لقد كان من أذكى الباباوات في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الممتد 2000 سنة، ومن أكثرهم جرأة على ممارسة نفوذه بقوة شخصية فريدة من نوعها، كما أنه من أكثر الباباوات ممارسة للعمل السياسي والاجتماعي، وأكثرهم حضوراً في عالم ما بعد الثورة الفرنسية التي غيّرت وجه أوروبا إلى ما يسمى بالعلمانية وانحصار الكنيسة في أداء دورها التعبدي الشعائري. فقد أخرج الكنيسة من جمودها، ودفع بها إلى ممارسة دورها الاجتماعي في توفير الإيمان والدعم الأخلاقي في وجه الماديّة المهيمنة على العالم اليوم، مما استعاد للكنيسة الكاثوليكية خصوصاً، والنصرانية عموماً حيويّتها، وخاصة في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا. وشملت جولاته البابوية الطويلة أكثر من (120) بلداً، وأحرز لنفسه سمعة دولية كداعية للسلام. وفي عام 2000 قام البابا بخطوة ذكية لها دلالاتها الدينية والحضارية والسياسية بزيارة للمشرق العربي (الشرق الأوسط كما يُقال في الإعلام الغربي والعربي التابع) للاحتفال بذكرى الألفية الثانية، واقتفاء لخُطا القديس بولس، شملت الناصرة في فلسطين ونُصب ضحايا المحرقة النازية في إسرائيل، ودير القديسة (سانت كاترين) في سيناء بمصر. واشتهر البابا بدعوته المستمرة للحوار بين الاديان، وتعزيز التفاهم بينها. ولذلك فيمكن القول: إنه قام بدور لا يعادله دور أي شخصية دينية خلال القرن العشرين الماضي في العالم الغربي.
دوره في هدم المعسكر الشيوعي:
قام البابا بأداء دور محوريّ تاريخيّ في هزيمة الشيوعية بشكل سلمي عام 1989، وذلك في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة التي أدت إلى إعادة التوحيد التاريخي لأوروبا في أيار (مايو) 2004 الماضي عندما انضمت بولندا وثماني دول شيوعية سابقة إلى الاتحاد الأوروبي.(13/77)
فقد تمكن الفاتيكان عبر البابا من لعب دور أساسي في القضاء على الشيوعية وانهيار الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وقد قاد بنفسه الحملة لإسقاط النظام الشيوعي، ليس في موطنه بولندا فحسب، بل وفي معظم دول ما كان يعرف بالكتلة الشرقية. وهذا مما كثف من النشاط السياسي المباشر للفاتيكان مما يخالف الأعراف العلمانية الغربية كما يدّعون، وهذا أيضاً ما يؤكد أن العلمانية التي في الغرب ليست ضد الدين وإنما علمانية ضد الكهنوت والتسلّط الكنسي، لكنا إذا وجدت في الكنيسة سنداً لتحقيق مقولاتها فإنها سرعان ما تفتح البابا للدين لقيادة بل وصياغة مفردات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وهذا ما نلاحظه من نشاط للفاتيكان خصوصاً في حماية القيم الأخلاقية في مواجهة ثقافة الشذوذ والإباحيّة، وفي مشاركة الفاتيكان في إسقاط النظام الشيوعي المخالف لسنن الفطرة.
أما العلمانية التي صدّرها لنا الغرب فهي علمانية تسلّطية جاهلة متخلّفة ومتحكمة في مصائر الشعوب، ولا تعي دورها سواء في إطار نسختها الغربية التي جاءتنا بها، أو في إطاراتها المختلفة بعد إدخال كثير من المسميّات عليها مثل: الديمقراطية المحليّة، والإصلاح السياسي، أو الحكم الرشيد، أو حرية العقيدة وغيرها.
وفي سياق الدور الذي قام به يوحنا بولس الثاني في هدم الكيان الشيوعي، فإن كثيراً من الدراسات تشير إلى الخلفية التي أتى منها وهي خلفية بولندية ذات بيئة يهودية، ولذلك فإما أن أصوله يهودية، أو ذات صلة وصداقة باليهود، وهذا ما عجل بوفاة سلفه بطريقة غامضة؛ لأن يوحنا بولس الأول -كما يُقال- كان لا يتلاءم مع المشاريع المناهضة للشيوعية لكونه مناصراً للفقراء والمزارعين والفلاحين ومتمسكاً في موقف الكنيسة الصلب من اليهود.
ولذلك فإن المصالح العليا للغرب اقتضت خرق عُرف دام قرابة خمسة قرون وتنصيب بابا غير إيطالي، خاصّة وأن هذا البابا يرجع إليه الفضل في إعادة العلاقات الدبلوماسية للفاتيكان مع الولايات المتحدة عام 1984 في عهد الرئيس اليميني المسيحي الأمريكي رونالد ريغان.
وبدأ دور البابا في خلخلة الاتحاد السوفيتي منذ استلامه منصبه ففي 2 يونيو 1979 بعد ثمانية اشهر فقط من انتخابه واعتلائه الكرسي البابوي. عاد يوحنا بولس الثاني إلى موطنه الأصلي بولندا (مقر حلف وارسو) لمدة تسعة أيام لزيارة كانت بداية انهيار الاتحاد السوفيتي من خلال دعمه لاتحاد نقابات العمال المستقلة (تضامن) في بولندا حيث ساعدها على الوصول للسلطة لتصبح أول حكومة حرة في الكتلة الشرقية، ومن خلال مطالبته القوية بحرية العقيدة والممارسة الدينية في دول العالم الشيوعي وبخاصة في وطنه.
وكان ممّا قاله في الجموع المحتشدة هناك: "إن المسيح يحارب الشيوعية، لا تكونوا اشتراكيين، نفهم من الكاهن الأكبر، نريد الله في مدارسنا، نريد الله في منازلنا.."، وكان البابا قد أصدر قبل عام ونيّف كتاباً بعنوان (الذاكرة والهوية) قال فيه: إن الشيوعية كانت "شراً لابد منه، وإن هذا الشر المستطير كان يبتلعنا".
والكل يتذكر كيف توالت الانهيارات التي شهدها المعسكر الشرقي ابتداء من بولندا وانتهاء بيوغسلافيا، وكيف استعادت المسيحية دورها من جديد، وكيف انضم نصارى أوروبا الشرقية إلى إخوانهم نصارى أوربا الغربية تحت لواء أوروبا الموحدة، وكيف يتم التأكيد مرة بعد أخرى على أن المسيحية هي الدين المهيمن في أوربا الموحدة، وكيف يعارض كثير من ساسة أوروبا انضمام تركيا؛ لأنها ليست مسيحية، وهو ما يشكل إدخال عنصر غريب في الجسم المسيحي الأوروبي، كما يؤكد ذلك رجالات الكنيسة وكثير من ساسة أوروبا من أصحاب القرار.
تبرئة يهود من دم المسح، وتعاطف مع إسرائيل
أما فيما يتعلق باليهود فإن يوحنا بولس الثاني ما كاد يقضي الثلاث سنوات في منصبه حتى أعلن في عام 1982 الاعتراف بدولة إسرائيل من باب الحق الديني. ثمّ قام البابا بتغيير جذري في مفاهيم الكنيسة يتناسب مع التطورات والتغييرات التي قام بها منذ اعتلائه كرسي الفاتيكان، فأصدر الفاتيكان عام 1985 وثيقة حول "العلاقات الكاثوليكية اليهودية"، وحثّت الوثيقة جميع الكاثوليك في العالم على استئصال رواسب العداء للسامية وذكّرتهم أن المسيح عبراني أيضاً، ولذلك يجب تفهّم تمسّك اليهود بأرض أجدادهم.(13/78)
واستمر هذا التغيير الدراماتيكي في موقف الكنيسة من اليهود إلى أن حصلت خطوة أخرى تؤكد الصلة الوثيقة بين ماضيه المتصل باليهود وقراراته المناصرة لهم وللصهيونية، وبين التساؤلات المثارة حول من دفع به إلى زعامة الفاتيكان، فقام في عام 1986 بزيارة كنيس يهودي في روما ليكون بذلك أوّل بابا في تاريخ الباباوية يزور كنيسا يهوديا، ثمّ قدم اعتذاراً خطّياً وشفهياً عما يسمى "بالهولوكست اليهودي" عبر الوثيقة الصادرة عن الفاتيكان في 16/3/1998، وجاء فيها: "عندما طردت النازية من أراضيها جموع اليهود ووحشية الحركات العنيفة التي أصابت أناساً عُزَّلا من السلاح، كل هذا كان يجب أن يحرك الشك بما هو أسوأ، هل قدم النصارى كل مساعدة ممكنة للمطاردين وبخاصة اليهود؟ لا نستطيع أن نعرف كم عدد النصارى في الدول التي احتلتها أو حكمتها القوى النازية أو حلفاؤها، احتجوا بغضب على فقدان جيرانهم اليهود، ولم يكونوا شجعاناً بما فيه الكفاية لسماع أصواتهم المعارضة، وللنصارى أقول: إن هذا الحمل الثقيل الجاثم على ضمائرهم بخصوص إخوانهم وأخواتهم خلال الحرب العالمية الأخيرة يجب أن يكون مدعاة للندم".
وفي الحقيقة فإن هذا يعتبر تواصلاً مع ما أصدره الفاتيكان سنة 1965، من وثيقة "تبرئة اليهود من دم المسيح" بعد ضغوط كبيرة من اليهود والصهيونية العالمية التي ضغطت بشكل كبير على الكنيسة بمساعدة الولايات المتّحدة وأوروبا، خاصّة فيما يتعلّق باتّهام الكنيسة بالتواطؤ مع النازية التي افتعلت "الهولوكوست" كما يدّعون. وقد كان يوحنا بولس الثاني أحد أهم الذين صاغوا تلك الوثيقة ويعتبر من مهندسيها.
وفي سنة 1991 صرح يوحنا بولس الثاني بأنه يصلّي من أجل أن يحيا "إخوتنا اليهود" بسلام في أرضهم. ثم في كانون أول من عام 1993 وقّع الفاتيكان وثيقة تبادل دبلوماسي مع دولة إسرائيل، وفي نهاية عام 1997 قدم البابا يوحنا بولس الثاني وثيقة بعنوان (نحن نتذكر) لمناقشة وتعديل النصوص في العهد الجديد التي تحمّل اليهود مسؤولية صلب المسيح وقصة تلاميذ المسيح بصفة خاصة، وكان يشير إلى مثل النص الإنجيلي القائل لليهود على لسان المسيح عليه السلام: "أيها الشعب الغليظ الرقبة، يا أولاد الأفاعي، يا أبناء الشيطان، أنتم لستم من أبناء إبراهيم، أنتم أبناء الشيطان" إلى أنه معاداة للسامية، فعمد إلى طمسه.
خاتمة: من بابا جدار برلين إلى بابا ما بعد 11/9
هذان أهم إنجازين حققهما البابا يوحنا بولس الثاني طيلة تربّعه على الكرسي البابوي للكنيسة الكاثوليكيّة، غير أن هذا لا ينسينا ما قام بإنجازه على مستوى توحيد الكاثوليك في العالم بطريقة لم يسبق لها مثيل، واسترجع دور الكنيسة ومكانتها، كما أنه عمل على الاعتراف بنبوة صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه نبي، وأن القرآن موحى إليه وليس من تأليفه، بعدما كان النصارى يرون النبي - صلى الله عليه وسلم - مهرطقاً في كتبهم الكنسيّة على مدار التاريخ، ابتداء من يوحنا الدمشقي إلى جيري فالويل الأمريكي الذي يقود التيار المسيحي المتصهين اليوم.
كما أنه ساهم في نشر المسيحية في العالم الاسلامي والعالم أجمع بطريقة رهيبة من خلال شعار المحبة والتسامح، وهذه أخطر الإستراتيجيات التي رسمها الفاتيكان ويوحنا بولس الثاني على رأسه.
بقي أن نقول في الأخير: إن الغرب يعرف كيف يصنع زعاماته وينيط بها أدواراً تاريخية من أجل تحقيق أهدافه الحضارية دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية أم ثقافية. ولذلك فإنهم الآن يحضّرون لبابا جديد يتلاءم مع ما بعد 11سبتمبر والملفات الشائكة التي أفرزتها التغيرات الكبرى التي حدثت بعد سقوط المعسكر الشرقي، وتوحّد أوروبا، والحرب على الإرهاب، والصراع على القدس، والحفاظ على هوية أوروبا المسيحيّة وتضمينها الدستور الأوروبي، والحوار بين الأديان، وخاصة مع الإسلام والمسلمين، واليمين المسيحي المتصهين (البروتستانتي الإنجيلي خاصة)
==============(13/79)
(13/80)
آمنة ودود وجحر ضبّ الفيمينزم
(Feminism)
د. بدران بن الحسن 24/2/1426
03/04/2005
مشهد من أحد فصول المسرحية:
في سابقة هي الأولى من نوعها أمّت امرأة أميركية من أصل افريقي صلاة الجمعة التي اختلط فيها النساء بالرجال مما أثار احتجاجات واتهامات بالاساءة الى الدين من مسلمين آخرين أكّدوا على أنه لا إمامة إلا للرجال.
نظمت الصلاة المثيرة للجدل منظمة تدعى "جولة حرية المرأة المسلمة" والموقع الإلكتروني "صحوة الإسلام". وأصبحت آمنة ودود، أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة فيرجينيا، أول امرأة تؤم صلاة جمعة مختلطة، حضرها نحو مائة من الجنسين، جلسوا متقاربين، في قاعة "ساينوت هاوس" في "كتدرائية سانت جون ذا ديفايد"، بعد أن رفض المسؤولون عن بعض المساجد السماح لها بإمامة الصلاة. وحاولت في خطبتها تبرير موقفها من إمامة الصلاة، وقالت: إن الدين الإسلامي يساوي بين الرجل والمرأة وأن لها الحق في إمامة الصلاة.
أقيمت الصلاة وسط إجراءات أمن مشددة بكنيسة سينود هاوس التابعة لإحدى الكاتدرائيات بمدينة مانهاتن. وكانت أماكن أخرى رفضت استضافة الحدث بعد تلقي تهديدات.
وقالت ودود في مؤتمر صحفي حاشد قبل الصلاة: "لا أريد أن أغير من طبيعة المساجد. أريد أن أشجع قلوب المسلمين على الإيمان بأنهم متساوون" مضيفة أنها تتمنى المساعدة في إزالة "القيود المصطنعة والمزعجة" التي تستهدف المرأة المسلمة.
وكانت إسراء النعماني منظمة الحدث أثارت جدلاً العام الماضي عندما دخلت مسجداً بمنطقة مورجانتاون بولاية وست فرجينيا من الباب الأمامي المخصص للرجال.
وقالت النعماني: "اليوم تنتقل النساء المسلمات من خلفية المسجد الى الأمام. إنه حدث تاريخي".
وتؤكد أمينة ودود مؤلفة كتاب " القرآن والنساء إعادة قراءة النص المقدس من وجهة نظر المرأة" حق النساء في إمامة الصلاة مشدّدة على أن قيام الرجال بهذا العمل "هو أمر مجحف".
وقال بيان صادر عن منظمة " مسلمون استيقظوا" و" حرية النساء المسلمات": إن النساء المسلمات سيحصلن اليوم على حقوقهن الروحية مضيفاً أن النساء سينتقلن من مكانهن التقليدي في آخر المسجد إلى الصفوف الإمامية.
وقال محمد شمسي علي نائب إمام المركز الثقافي الإسلامي في نيويورك: إنه «لا مانع لدينا في أن تؤم ودود بمصلين من النساء فقط، فهذا حق منحها إياه الله، ولكن إذا كانت ستؤم بالرجال أيضاً فهذا غير مسموح في الإسلام لأنه يتعارض مع الشعائر الدينية المتبعة».
واستنكر مجمع فقهاء الشريعة بأميركا إمامة المرأة لصلاة الجمعة. وأصدر المجمع، ومقره ولاية ميرلاند، بياناً استبشع فيه إمامة المرأة للصلاة، ووصفه بالموقف البدعي الضالّ، وحذّر المجمع من الافتتان بمثل «هذه الدعوات الضالة المارقة من الدين، والمتبعة لغير سبيل المؤمنين»، ودعاهم إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، والنظر عمن يأخذون دينهم.
وقال منظمو الحدث: إنه يأتي ضمن حملة أوسع لتشكيل مجتمع جديد يعتمد على مبادئ وتعاليم الإسلام وخاصة العدل والمساواة.
وأضافوا في بيان أن النبي محمد أقام نموذجاً للمجتمع في المدينة المنورة في القرن السابع، وفي القرن الحادي والعشرين "نحن ملزمون بأقامة مجتمع حديث يعتمد القيم الدينية وكذلك على حقوق المرأة".
جحر الضب يبتلع مئات المسلمين
ولعل المشهد السابق يذكرنا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي حذرنا فيه من تتبع كل ما يرد إلينا من أهل الكتاب أو بالأحرى اليهود والنصارى، حيث جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لتتبعُنّ سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن؟" (البخاري/ الاعتصام بالكتاب والسنة/ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لتتبعن سنن من كان قبلكم).
وجاء في مسند أحمد قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم باعاً بباع وذراعاً بذراع وشبراً بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم معهم قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى. قال: فمن إذا" (مسند أحمد/ مسند المكثرين).
فالتقليد الأعمى الذي درج عليه كثير من أبناء المسلمين حذّر منه الحديث الشريف، وهو حالة من الاتباع النفسي والفكري الذي يأسر صاحبه ويجعله لا يرى الحق إلا كما يراه هؤلاء اليهود والنصارى. وخاصة في وضعنا الحاضر الذي يشهد الغلبة الحضارية والعسكرية والاقتصادي والتكنولوجية من قبل الغرب النصراني اليهودي وسيطرته على مجريات أمور العالم بما فيه العالم الاسلامي.
وقد عبر عن هذه الحالة ابن خلدون -رحمه الله - مستشفاً ذلك من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تجربته في دراسة تقلبات الامم والشعوب بقوله : "المغلوب مولع بتقليد الغالب"، وهي كما قلنا حالة مرضية نفسية وفكرية تؤثر على تصورات الناس وإدراكهم لحقائق الأشياء.(13/81)
ولعل من أهم ما أثر على صاحبة المشهد المذكور سابقاً وأدخلها جحر الضب النصراني في نيويورك هو هذه الحالة من الامتهان والذل النفسي والانبهار بمفردات الحياة الغربية ذات المرتكز النصراني المحرّف، فكانت أن لجأت إلى التقليد الأعمى الذي جرها إليه "حركة الفيمينزم" أو الحركة النسوية الغربية ذات الامتداد في التاريخ الحضاري الغربي الذي طالما اضطهد المرأة وحرمها من كثير مما منحها الله لها، سواء في ذلك الحرمان الكنسي أو الحرمان الاجتماعي بفعل هيمنة المفاهيم الكنسية أو العلمانية التي تحتقر المرأة تارة وتنظر إليها بعين المتعة تارة أخرى.
فكانت الفيمينزم هي حجر الضب الذي وقعت فيه كثير من بنات المسلمين ومنهم آمنة ودود.
حجر الفيمينزم feminism: الأيديولوجيا الجديدة
قد يجد الكثيرون من المتابعين صعوبة في استيعاب ما ترمز إليه الخطوة التي قامت بها آمنة عبد الودود، ولذلك أثير نقاش فقهي حاد بين مختلف المتتبعين في مدى جواز إمامة المرأة لصلاة الجماعة، والجملة على وجه الخصوص.
ولكن ما ينبغي ان ننتبه إليه هو تلك العبارات التي تلفظت بها آمنة ودود من خلال تأكيدها على المساواة، وحق المرأة الديني في العدل والمساواة، ومحاولة إشارتها للمؤنث والمذكر في حق الذات الإلهية عند تفسيرها لبعض الآيات التي ذكر فيها اسم الله تعالى، وهو ما يعرف بالاتجاه الانثوي لفهم النص الديني (الفيمينزم).
فمنذ نشوء حركة فيمينزم في أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت مفاهيم حقوق المرأة ووجوب مساواتها بالرجل في كل شيء؛ في حق الملكية، والنشاط الاجتماعي، والممارسة السياسية، والتمثيل النيابي والانتخاب وغيرها، ووصل الأمر إلى ما يُعرف باللاهوت الأنثوي الذي حاول تأنيث كل العبارات المذكرة في الإنجيل.
وبمعنى آخر فإن حركة الفيمينزم نفسها مرت بمراحل تاريخية تأثراً وتأثيراً بمحيطها الفكري والاجتماعي والسياسي، وتبعاً للتطور الحضاري الغربي خاصة، وأهم التيارات الفكرية الموجودة به، والفاعلة على ساحته في كل مرحلة تاريخية.
تطور حركة الفيمينزم
1. مرحلة المشاركة الاجتماعية على قدم المساواة:
من الثابت في التقاليد الكنسية القديمة أن المرأة ذات وجود أقل قيمة من وجود الرجل، بل إنها مستبعدة من كثير من الطقوس الكنسية، والشعائر الدينية، والمسؤوليات لأنها إما "نجس" أو أنها "شيطان جميل" كما وصل إلى ذلك أحد المجامع الكنسية.
ومنذ بدايات حركة النهضة في أوروبا بدأت حركة تحرير المرأة تأخذ طريقها للتشكل والتهيكل. وقد شهدت هذه الحركة مرحلتين مهمتين من تطورها؛ أولها تمثلت في المطالبة بتحقيق المساواة من خلال تحسين واقع المرأة الاجتماعي والاقتصادي، حيث كانت المطالب تشمل تحقيق المساواة من خلال توفير فرص متساوية في مجالات التعليم والعمل والتدريب وأجور متساوية. وأعطى هذا التيار اهتماما أساسياً بخصوصية المرأة البيولوجية، وما يترتب عليها من حقوق أساسية؛ منها حق الاختيار واتخاذ القرار فيما يتعلق بالإنجاب، وحق التمتع بالأمومة ورعاية الأطفال والعمل خارج المنزل.
وركزت هذه المرحلة ورموزها على المناداة بتحسين واقع المرأة من خلال الأبنية والمؤسسات القائمة في المجتمع؛ حيث تم تعريف المساواة في أواخر القرن التاسع عشر بأنها عبارة عن المساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون القائم، وكذلك التمثيل المتساوي في المؤسسات القائمة، إن إستراتيجية الليبرال فيمينزم بُنيت على أساس أن المساواة يمكن تحقيقها من خلال العلاقات الاجتماعية والوسائل القانونية والمؤسسات السياسية والاقتصادية القائمة في المجتمع.
وما يترتب عليها من إجازة الأمومة من العمل والضمان الاجتماعي، والمطالبة بتوفير مراكز رعاية الأطفال من دور الحضانة ورياض الأطفال، والمطالبة بحق المرأة في التحكم في حياتها الإنجابية يعتبر جزءًا لا يتجزأ من مطالب هذه المرحلة.
2. مرحلة المساواة المطلقة أو العبثية
بدأت المرحلة الثانية من تطور مفهوم المساواة لدى التيار الليبرالي من الفيمينزم نتيجة لتأثرها بالتيارات الراديكالية والماركسية التي بدأت تنادي بالمساواة المطلقة من بداية النصف الثاني من القرن العشرين. حيث ظل الخطاب السياسي يطالب بالإصلاح في إطار المؤسسات المختلفة القائمة داخل المجتمع، وحصل التغيير فقط في جانب تناول المجالات التي تتعلق بالمرأة. وأصبح خطاب التيار الليبرالي يتناول قضايا الخاص والعام وأثرهما في نيل المرأة لحقوقها، ودور الحكومات في تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في المجال العام، وأثر ذلك في تحقيق المساواة في المجال الخاص. وكذلك الحرية الشخصية للمرأة، وقضايا أخرى شخصية ومتعلقة بالمرأة.(13/82)
وبدأ النظر إلى علاقة المرأة بالرجل من منظور الصراع بين جنسين وتمت الدعوة إلى القضاء على مفاهيم الذكورة والأنوثة، وظهرت حركات الشواذ والعاملين على إيجاد نموذج جنسي بديل لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى، كما تمت الدعوة إلى القضاء على مفهوم الزواج المعتاد ودعت إلى الزواج بين المثليين، وبدأت الدعوة إلى فصل احتياجات المرأة عن احتياجات الرجل، ورفض إشباع احتياجات المرأة العاطفية والجنسية من الرجل، والتوجه بدل ذلك نحو المرأة (المثلية الجنسية)، وأدى ذلك إلى ظهور التيار السّحاقي ليشكل ليس تياراً انحرافياً في السلوك فقط، بل تياراً فكرياً وسياسياً ترفده مؤسسات ومراكز وجمعيات وأعضاء في البرلمانات. بل ولجأت هذه التيارات النسوية إلى الأمم المتحدة في مؤتمراتها المختلفة وخاصة مؤتمر القاهرة للسكان سنة 1994، ومؤتمر بكين سنة 1995، وما تلاها من مؤتمرات المرأة والسكان وغيرها.
أتباع للفيمينزم وتبرّم بما شرع الله
في الحقيقة أن حركة الفيمينزم في جوهرها تعتبر الدين من وضع الرجال، وترى فيه محاولة رجالية لضمان سيطرة الرجال على مقاليد الأمور، ولذلك يستوى عند حركة الفيمينزم الاعتراض على أفكار البشر والاعتراض على شرائع الكتاب الحكيم، وأظن أن الكثير من المسلمات ممن دخل جحر الفيمينزم نسي قوله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً). [الأحزاب:36]، وإلا كيف نفسر تبرمهم مما ثبت من شرائع وشعائر.
فإذا كان من حقهن منازعة الرجال في حقوقهن والمطالبة بهن، فإن من الشعائر التعبدية ما لا صلة له بحقوق الإنسان سواء أكان هذا الإنسان رجلاً أو امرأة، وإنما هي حقوق رب الإنسان، الذي شرع من الشعائر ما هو أدرى بحكمتها.
ونختم قولنا بالتأكيد على أن الأمر لا يتعلق بالدفاع عن حق إمامة المرأة من منظور إيماني، بقدر ما يتعلق بعمل يتفق مع رؤية الفيمينزم التي ترى أحقيّة المرأة في منازعة الرجل ومغالبته في كل جبهة، وفي كل موضع وإظهار تماثلها بل وتفوقها على الرجل في كل شيء، ويستوى في ذلك الأمر الديني بالأمر الدنيوي.
ولذلك فإنه لا اعتبار لتلك الشعائر في ذاتها، وإنما محاولة اقتحام أي ميدان وطرق أي موضوع يثير الجدل ويثبت للمرأة حقها.
ولو كان الأمر يتعلق بحق المرأة الشرعي في الإمامة لكانت المشاركات في تلك الصلاة الكنسية التزمن بالزي الشرعي وبآداب الصلاة، ولما كان كل واحد يجلس بقرب صويحبته ويلوك العلكة، وهو يستمع إلى تلك المؤذنة التي أسدلت شعرها، وبدأت تصيح بكلمات الأذان، وكأنها في نادي للرقص الشعبي أو في حفلة تدريب على الأداء الصوتي أمام مرأى الناس، وفي موقع نجس لا تصح فيه الصلاة
==================(13/83)
(13/84)
التعصب الأوربي الصليبي!!
د. محمد مورو 19/2/1426
29/03/2005
منذ أن سطع نجم الحضارة الإسلامية ـ كحضارة عظيمة تحمل قيماً كريمة وتسعى لإسعاد البشر، وتحقيق مجتمع العدل والحرية والانحياز إلى المستضعفين- وهي في حالة صراع دائم ومستمر ضد القوى الشيطانيّة المتربصة بها, وعلى رأس تلك القوى الشيطانية كانت الحضارة الأوروبية التي لم تترك جريمة إلا وارتكبتها في حق البشرية. بدءاً من قهر الإنسان وقمعه، وانتهاء بنهبه وسلب ثرواته.
الحضارة الأوروبية حضارة إغريقية وثنية ذات قشرة مسيحية(1)، وقد أنتجت هذه الخلطة العجيبة بين الوثنية الإغريقية وبين القشرة المسيحيةـ أنتجت الروح الصليبية التي تتسم بها الحضارة الأوربية في مواجهة الأمة الإسلامية.
الحضارة الإسلامية بما تتسم به من عدل وتسامح وحرية ـ هي التي أنتجت أمثال عمر بن عبد العزيز الذي أمر بهدم جزء من المسجد ورده إلى الكنيسة.
وحتى في لحظات ضعف الحضارة الإسلاميةـ نجد أن رجلاً مثل الأمير عبد القادر الجزائري، وهو الذي عانى شخصياً، وعانت معه بلاده الجزائر من المذابح والمجازر والنهب والقمع الاستعماري الصليبي الفرنسي ـ نجده هو نفسه يحمي نصارى لبنان أثناء نفيه في دمشق سنة 1860 فيما عُرف بطوشة النصارى(2).
وهي الحضارة التي أنتجت أمثال الشيخ الباجوري شيخ الأزهر في عهد عباس باشا الأول ـ ذلك الشيخ الذي رفض الإفتاء بنفي بعض النصارى في السودان عندما طلب عباس الأول ذلك، وقد قال الشيخ الشجاع.
(إنه لم يطرأ على ذمة الإسلام طارئ، ولم يستول عليها خلل، وهم في ذمته إلى اليوم الآخر) (3).
أما الحضارة الأوروبية الصليبية فهي حضارة مجرمة. أليست هي التي أبادت الهنود الحمر في أمريكا؟ أليست هي التي مارست عمليات الخطف والاستعباد والاسترقاق لأهالي أفريقيا؟ وقتلت منهم (45) مليوناً يوم أن كان سكان إنجلترا مثلاً ثلاثة ملايين؟
أليست هي الحضارة التي ذبحت خمسة ملايين جزائري في فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر 1830 ـ 1962 (4).
أليست هي الحضارة التي زرعت الكيان الصهيوني في فلسطين؟
الحضارة الأوروبية حضارة مجرمة بكل إفرازاتها السياسية والفكرية. الرأسمالية والاشتراكية. الملكية والجمهورية. الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية.
فعلى سبيل المثال عانى شعب الجزائر معاناة شديدة على يد الملكيين والجمهوريين على السواء، على يد المحافظين والليبراليين الفرنسيين على السواء.
بل كانت معاناته تصل إلى ذروتها في فترات الحكم الاشتراكي في فرنسا.
ففي سنة 1940 مثلاً نفذت السلطات الفرنسية مذبحة كبيرة في أهالي الجزائر، وقتلت منهم في يوم واحد أكثر من (45 ألفاً) ـ بل وقام الطيران الفرنسي بحرق قرى جزائرية كاملة. وكان يحكم فرنسا في ذلك الوقت الاشتراكيون الديمقراطيون، بل إن وزير الطيران الذي أمر بدكّ القرى الجزائرية وإحراقها كان وزيراً شيوعياً.
وهكذا فإن الحضارة الغربية الأوروبية الصليبية لم تفرز إلا كل ما هو حقير ومجرم. ألم تفرز الشيوعية والفاشية والنازية؟ بل إن كل هذه الإفرازات السياسية والمدارس الفكرية المختلفة تتناسى خلافاتها الأيدلوجية والسياسية والفكرية وتظهر على حقيقتهاـ تظهر روحها الصليبية عندما يكون الأمر خاصاً بالعالم الإسلامي أو أحد شعوبه.
وإذا كانت الرأسمالية والشيوعية قد أُصيبتا بالإفلاس، وأصبحت سمعتهما سيئة للغاية؛ فإن المثقفين المغتربين في بلادنا يحاولون الآن تحسين سمعة الحضارة الغربية، وترويج بضاعتها لدينا عن طريق التبشير بإحدى إفرازاتها وهي الاشتراكية الديمقراطية.
ووصل الأمر إلى عقد أحد مؤتمرات هذه الاشتراكية الديمقراطية في مصر 1990 ـ ويتناسى هؤلاء أن الأفعى لا تلد إلا ثعباناً. بل إن حقائق التاريخ القريب تؤكد أن بلادنا عانت أكثر المعاناة على يد هذه الاشتراكية الديمقراطية بالتحديد.
ألم تقم حكومة فرنسا الاشتراكية الديمقراطية بأبشع المذابح في الجزائر؟ بل ومارس هؤلاء المنتمون إلى الاشتراكية الديمقراطية الفرنسية أبشع أشكال التعذيب والاستنطاق في السجون الجزائريةـ بل وابتكروا أساليب شديدة الهمجية سجلت اختراعها باسمهم مثل الإقعاء على قارورة زجاجية مكسورة، وغيرها من وسائل التعذيب الوحشية.
ألم تتلق إسرائيل الدعم دائماً وأبداً من الاشتراكية الديمقراطية الدولية، بل إن حكومة إسرائيل في معظم الفترات تنتمي إلى حزب العمل الإسرائيلي، وهو العضو النشط في الاشتراكية الديمقراطية الدولية.
ألم تتعرض مصر سنة 1956 إلى عدوان ثلاثي شاركت فيه ثلاث حكومات اشتراكية هي حكومة العمال البريطانية، وحكومة الحزب الاشتراكي الفرنسي، وحكومة حزب العمل الإسرائيلي.
يخطئ من يظن أن الحروب الصليبية هي تلك الحروب التي شهدها الشرق العربي منذ 1098 م وحتى 1295 م، بل الحقيقة أن الصراع مع أوروبا الصليبية امتد في الزمان والمكان قبل ذلك وبعد ذلك.(13/85)
ففي بلاد المغرب العربي امتد الصراع قبل ذلك، واستمر أكثر من ألف عام، ولا يزال مستمراً، بل إن الجزائريين يُطلقون عليها حرب الألف عام. وهي حرب استمرت بين أوروبا الصليبية ـ البرتغال ـ إسبانيا ـ إنجلترا ـ فرنساـ ألمانيا وبين بلاد المغربي وخاصة الجزائر بين كر وفر إلى أن انتهت باحتلال الجزائر سنة 1830.
وفي الشرق كانت تركيا تخوض حروب الإسلام ضد أوروبا الصليبية وفي قلب أوروبا ذاتها، واستطاعت أن تخضع معظم القارة الأوروبية للنفوذ الإسلامي التركي ـ إلى أن عادت أوروبا فاستطاعت أن تحيك المؤامرات ضد الخلافة العثمانية ونجحت في إسقاطها سنة 1924.
وقد استخدمت أوروبا الصليبية في صراعها مع الحضارة الإسلامية في المرحلة الأخيرة عدداً من التكتيكات والأساليب الشيطانية في سبيل السيطرة على الأمة الإسلامية وتدمير الحضارة الإسلامية، منها التطويق البحري عن طريق الكشوف الجغرافية، ومنها إرساليات التبشير المسيحية الأوروبية.
ومنها زرع مدارس الفكر الأوروبي والغربي في بلادنا عن طريق مؤسسات وأحزاب وصحف ومراكز إعلامية، ومنها الاحتلال العسكري، وهي ذات الخطة التي رسمها لويس التاسع أثناء سجنه في المنصورة إبان الحملات الصليبية، وفي الحقيقة فإن الهدف الأوروبي الصليبي في القضاء على الحضارة الإسلامية يتضمن أيضاً على كنائس الشرق باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية، وخاصة القضاء على الكنيسة القبطية المصرية باعتبارها جزءاً أصيلاً من التراث الحضاري والثقافي الإسلامي، وباعتبارها كنيسة متميزة ومستقلة عن الكنائس الأوروبية.
إذن عندما يتحدث المفكرون الإسلاميون في الوطن العربي عن التعصب الأوروبي الصليبي. فإن هؤلاء لا يعكسون تعصباً إسلامياً ـ بل هم يقرّرون واقعاً مرئياً لكل ذي عينين؛ بل هؤلاء الذين يتجاهلون الحقائق هم الذين يخفون تعصبهم ـ ولكن هؤلاء الذين يصفون الواقع كما هو ليسوا متعصبين ـ إذ لو كانوا متعصبين لحاولوا إخفاء تعصبهم.
نعم ـ عندما يتحدث الأفغاني أو النديم أو عرابي ـ أو مصطفى كامل أو محمد فريد أو حسن البنا أو أي زعيم وطني عن التعصب الأوربي الصليبي، وعندما يدعون إلى التمسك بالثقافة والحضارة الإسلامية، وعندما يحشدون الجماهير لمواجهة الغزوة الأوربية على بلادنا ـ، فإنهم في الحقيقة يدافعون عن الكنيسة القبطية أيضاًـ وعن التراث القبطي أيضاً، لأن الكنيسة القبطية تنتمي إلى الحضارة الإسلاميةـ ولأن التراث القبطي جزء لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية. وإذا كانت إرساليات التبشير تستهدف تنصير المسلمين. أو زرع أنماط التفكير الغربي في بلادناـ أو العمل كطابور خامس لصالح الاستعمار، وإذا كانت إرساليات التبشير قد ارتبطت بالاستعمار أيّما ارتباط. فهي إما أن تكون طلائع له، أو تأتي في ركابه لتدعيم موقفه ونشر أهدافه والعمل على تهيئة الأجواء لصالح المشروع الاستعماري، فإنها أيضاً استهدفت تذويب الكنيسة القبطية في مصر وتبشير أبنائها، ومحاولة تحويلهم إلى الكنائس الأوروبية البروتستنتية والكاثوليكية، ومحاولة اختراق المجتمع عن طريق التلويح بالمشروع الحضاري الغربي للأقباط.
إلا أن تلك المحاولات وجدت من يتصدى لها من الأقباط وخاصة البابا كيرلس الخامس الذي أنشأ مطبعة خصيصاً للردّ على شبهات ومحاولات إرساليات التبشير بين الأقباط، بل دعا إلى مقاطعة المدارس التابعة لإرساليات التبشير، واعتبر كل من يدعم تلك المدارس خارجاً على الكنيسة القبطية(6).1. من الأمور المثيرة للتأمل أن مراسم تنصيب بابا روما هي نفسها مراسم تنصيب كهنة المعابد الوثنية الإغريقية القديمة.
2. بسام العسلي ـ عبد القادر الجزائري ـ دار النفائس ـ بيروت
3. ميخائيل شاروبيم ـ الكافي.
4. محمد خليفة ـ أحمد بن بيلا ـ حوار معرفي شامل.
5. أسامة حميد ـ موجز تاريخ مصر في الحقبة العلمانية.
6. طارق البشري ـ المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية
=============(13/86)
(13/87)
برنارد لويس ...وصهينة الدراسات الاستشراقيّة
د. بدران بن الحسن 25/1/1426
06/03/2005
ولد برنارد لويس سنة 1916 في لندن لأسرة يهودية، تخصص منذ التحاقه بالدراسات العليا في دراسة الشرق والإسلام بالتحديد وتاريخ الإسلام والمسلمين. وقد حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن عام 1936، كما حصل على درجة الدكتوراه في تاريخ الإسلام من المدرسة نفسها عام 1939، وكان موضوع رسالته عن الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين.
وأثناء دراسته الجامعية عين مدرساً مساعداً بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية، غير أنه ترك العمل بالجامعة خلال سنوات الحرب (1940 - 1945) ليلتحق بخدمة المخابرات البريطانية وبعد الحرب، عاد للعمل بالجامعة حتى عام 1974. واستمرت صلته بالمخابرات البريطانية بعد ذلك، وظل مرجعاً مهماً ومستشاراً يُرجع إليه في شؤون الشرق الأوسط، ولذلك فإنه بمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية غيّر اهتمامه من دراسة تاريخ الإسلام في العصور الماضية، إلى دراسة تاريخ الشرق الأوسط والعالم العربي خاصة في العصر الحديث، ونشر في ذلك عدة كتب تصبّ كلها في تنميط صورة صهيونية عن الإسلام والمسلمين عموماً وعن العرب بشكل خاص، تصب كلها في خدمة المشروع الصهيوني في المنطقة، وتوجّه صانع القرار الغربي والأمريكي بوجه خاص وتزوده بأفكار وزاد معرفي للتعامل مع مختلف قضايا الشرق الأوسط، وتقوم أساساً على إستراتيجية التهويل من خطر الإسلام على الغرب، وتصوير الإسلام والعالم العربي كأنهما الخطر المحدق بالحرية الغربية وبالمصالح الغربية، وتدعو صراحة أو تلميحاً إلى ضرورة دعم دولة الصهاينة في فلسطين المحتلة.
وللعلم فإن برنارد لويس اليهودي البريطاني سرعان ما تخلّى عن الجنسية البريطانية، وتأمرك وصار أمريكياً لما صعد نجم الولايات المتحدة الأمريكية وتأثيرها في قضايا الشرق الأوسط، فالتحق بأمريكا سنة 1974 ليعمل في جامعة برنستون، وهناك صار نبياً من أنبياء الصهيونية المعاصرة، وعبّر في كثير من كتبه عن هذا التصهين في رؤيته للسياسة الخارجية الأمريكية وقضايا الشرق الأوسط.
ويُلاحظ على برنارد لويس وفاؤه لمنهج الاستشراف في بداياته، حيث كان آلة في خدمة الاستعمار، ولم يتأصر بالتطورات التي حدثت في هذا الحقل المعرفي، وظهور بعض المستشرقين الذين أبدوا موضوعية أكثر في دراسة الإسلام والعرب والشرق.
بل ظل برنارد لويس من طراز مارجليوث وجولدزيهر وغيرهما من المستشرقين شديدي التحيّز ضد الإسلام والعرب، وظل وفياً لمنهجهم في إصدار التعميمات غير العلمية وغير المبرهنة عن الإسلام والعرب وعن منهج دراستهما.
فراح يعمم مقولاته المتحيزة وغير العلمية، بل والكاذبة في منطق العلم والبحث العلمي، عن الإسلام والتخلف الحضاري في العالم الإسلامي، والتخلف العربي. وكان من أوائل من تكلم عن صراع أو صدام الحضارات، ثم تلقفها بعد ذلك تلميذه صموئيل هاتنجتون اليهودي الأمريكي صاحب فكرة "صدام الحضارات" و"الحدود الدموية للإسلام" وغيرها من التقوّلات المتخرصة.
لقد وجد برنارد لويس في أمريكا وفي جامعة برنستون مسرحاً آهلا بمن يتبنّون أفكاره الاستشراقية الظلامية، وأيديولوجيته الصهيونية، وراح يكيل التعميمات تلو التعميمات السوفسطائية، من أجل تنميط صورة المسلمين والعرب بطريقة سلبية تجعل من يستمع أو يقرأ له يشعر بالقرف من هؤلاء العرب ومن دينهم، ويتخذ موقفاً سلبياً منهم، ويشعر بتعاطف كبير مع "العالم الحر" ومع الصهاينة "المضطّهدين" بزعمه.
تولى برنارد لويس في جامعة برنستون خاصة وفي أمريكا عموماً قيادة حقل الدراسات الاستشراقية التي كان يهيمن عليها الصهاينة أو المتصهينين المتمركزين في أقسام ومراكز دراسات الشرق الأوسط، والدراسات الإسلامية، بالجامعات الأمريكية، أمثال ليونارد بايندر، وإيلى كيدورى، ودافيد برايس، و دانيال بايبس، ومارتن كريمر، وتوماس فريدمان، ومارتن بيرتز، ونورمان بودو رتز، وجوديت ميلر، وغيرهم.
والأخطر من ذلك أن ربنارد لويس وأشياعه لم يكونوا في حقيقة الأمر أكاديميين فقط، بل كان لهم دور استشاري من خلال عملهم خبراء لدى هيئات ودوائر اتخاذ القرار في الولايات المتحدة الأمريكية.
وظل برنارد لويس أستاذاً للدراسات الشرقية بجامعة برنستون حتى تقاعده من العمل الأكاديمي في 1986؛ إذ أصبح أستاذاً فخرياً (P r ofesso r Eme r itus)، وهو مركز جعله يبقى مرجعاً فيما يتعلق بالإسلام والعرب والشرق الأوسط ليس للأكاديميين الغربيين فحسب، بل لدوائر صنع القرار الأمريكي خاصة.
يركز برنارد لويس في كتاباته عن الإسلام والمسلمين والعرب والعالم العربي على مجموعة من الآليات الخطيرة، مثل آليات (ميكانزمات) التهويل، والبتر والتقطيع، وآلية التهوين (الإهمال). فهو يهوّل ما كان هامشياً أو عفوياً أو قليل الحضور في التاريخ الإسلامي والثقافة والحضارة الإسلامية، ويهوّن (يهمل) ما كان غالباً مهيمناً في الحضارة والفكر الإسلامي وفي الثقافة الإسلامية.(13/88)
كما أنه يمارس بتراً وتقطيعاً لكثير من الحقائق، ويقوم بتغييبها ويعمل على تجاهل أو عزل الأحداث والأفكار عن سياقها الطبيعي. فالقارئ لما كتبه ويكتبه برنارد لويس يجد وكأن الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي لا يوجد به غير الحشاشين والإسماعيلية والقرامطة، وبعض الفرق المنحرفة الأخرى التي بادت أو انحصرت عن التيار العام للإسلام والثقافة والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي.
ومما يُلاحظ على كتاباته عن التاريخ الإسلامي أنه يبرز كل الفرق المنحرفة والانحرافات الفكرية التي لا يمكن بحال أن تطغى على الخط العام المعتدل في التاريخ الإسلامي.
وبرغم اعترافه في كتابه (تنبؤات برنارد لويس) بأن العالم العربي هو مهد الحضارات والأديان السماوية بقوله: "هذه المنطقة التي كانت مركزاً للحضارات، وحاضنة الأديان السماوية، وكانت موطن أول مجتمع عالمي ذي ثقافة بينيّة بكل ما للكلمتين من معنى، وكان مركز إنجازات عملاقة في كل حقل من حقول العلوم والتكنولوجيا والثقافة والفنون، وكان قاعدة لإمبراطوريات متتالية شاسعة وعظيمة".
فإنه يرى أن هذه المنطقة انتهى دورها الحضاري، وخاصة مع تنامي مد الصحوة الإسلامية، هذه الصحوة التي يراها برنارد لويس بالعين العوراء، حيث يؤكد افتراء أن دعوة الإسلاميين للديمقراطية دعوة خادعة وغير صحيحة، وأن دعوتهم إليها هي بهدف الوصول للحكم، وعندما يتحقق هدفهم ينقضون على الديمقراطية وكل من يخالفهم الرأي. ويرجع ذلك -بزعمه- إلى طبيعة الإسلام ذاته؛ إذ يرى أن الأديان لا تقبل الديمقراطية، وخاصة الأديان الأصولية -يقصد الإسلام طبعاً-.
ويزيد في تهويل الأمر من خلال توقعه بأن العالم العربي والدول العربية هي الأكثر تعرضاً لخطر التفكك، وأنها ليست الوحيدة، فالاتجاه نحو التفكك سيزداد بتشجيع من الشعور الاثني والشعور الطائفي المتناميين، وقد تسربت الفكرة المغرية بحق تقرير المصير إلى عدد من الأقليات الاثنية التي لم تعد تكتفي بوضعها السابق.
لكنه بتطبيقه لآلية التهويل هذه في تهويل أمر الأقليات في العالم العربي، فإنه يمارس آلية التهوين من خلال تغاضيه عن التصريح بمن يقوم بتغذية هذا الشعور العرقي والتفكك الاثني.
ويخرج علينا بمقولة آخرى غربية يدعي فيها نبي الصهيونية الجديد بأنه من اجل إنقاذ الشرق الأوسط ينبغي ان نعتمد على عوامل ثلاثة هي تركيا وإسرائيل والنساء. لأن تركيا اختارت العلمانية والالتحاق بأوربا؛ فهي لا تحمل أمراض الشرق الأوسط بزعمه، اما إسرائيل فهي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، في حين أن النساء تعرضن للقمع من قبل الثقافة التقليدية السائدة (الثقافة الإسلامية طبعاً). وخاصة النساء اللائي يركز على دورهن في تحويل الشرق الوسط إلى بحيرة ديمقراطية.
كما أن برنارد لويس أعلن تفكك وموت العالم العربي منذ حرب الخليج، واعتبر أن إسرائيل وتركيا هما الدولتان الوحيدتان الناجحتان في منطقة الشرق الاوسط. كما أكّد في مقال له في مجلة (Fo r eign Affai r s) في 1992 حيث قال: إن "غالبية دول الشرق الاوسط. مصطنعة وحديثة التكوين وهي مكشوفة لعملية كهذه. وإذا ما تم إضعاف السلطة المركزية إلى الحد الكافي، فليس هناك مجتمع مدني حقيقي يضمن تماسك الكيان السياسي للدولة، ولا شعور حقيقي بالهوية الوطنية المشتركة، أو ولاء للدولة الأمة. وفي هذه الحال تتفكك الدولة مثلما حصل في لبنان إلى فوضى من القبائل والطوائف والمناطق والأحزاب المتصارعة"
ولذلك فهو يرى أن على أمريكا ألاّ تخاف من غضب الشارع العربي، فإن غضب العرب والمسلمين من الغرب يفتقر في مجمله إلى أي أساس، كونه لا يتجاوز محاولة يائسة من مجتمعات فاشلة لتحميل قوى خارجية، خصوصاً الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل، مسؤولية الأزمة الخانقة والتخلف والتفكك الذي تعانيه.
والناظر في معظم توجهات الإدارة الأمريكية في العالم العربي خاصة والعالم الإسلامي ككل، يلاحظ أن مقولات وتوجيهات برنارد لويس قد تحوّلت إلى سياسات وبرامج تعمل الإدارة الأمريكية المتصهينة على تنفيذها، ولا يجد المرء كبير عناء في ربط مختلف تفاصيل هذه السياسات مع الأفكار التي وضعها برنارد لويس في كتاباته الأخيرة منذ أربع سنوات تقريباً إلى اليوم. وبهذا حوّل برنارد لويس الاستشراق من حقل أكاديمي إلى مكتب تحليلات يحرص على توجيه سياسات الإدارات المتصهينة في العالم والإدارة الأمريكية خاصة في الشرق الوسط، كما يعبّرون عنه أو العالم العربي كما هو ثابت تاريخياً.
===========(13/89)
(13/90)
نحو تصوّر إسلاميّ للديمقراطيّة
د. عبدالله بن ناصر الصبيح 3/11/1425
15/12/2004
لمصطلح "الديمقراطية" جاذبية كبيرة، ولاسيما في ظل الهجمة الثقافية الغربية على الثقافات المحلية واختيارات الشعوب. وأصبحت تعني عند كثيرين الحرية والتقدم والسلام والاستقرار والرخاء الاجتماعي، بل إنها تعني عند البعض الخير والسعادة كلها.
ومما ساهم في رسم هذه الصورة الوضيئة للديمقراطية الضجيج الإعلامي حولها الذي ربط باسمها كثيراً من الأوهام فصارت تمثل الخلطة السحرية لمعالجة مشاكل المجتمعات المتخلفة. ونتيجة لهذا الصخب العالي وقع كثيرون فيما يمكن أن أسميه "فخ الديمقراطية"، ويعني احتقار الثقافة المحلية وإقصاءها وإفساح المجال لنماذج من الممارسة والمفاهيم لا تمت للواقع بصلة.
ومما يقي من الوقوع في فخ الديمقراطية الوعي بما وجّهه إليها كبار منظّريها من نقد، و اتهموها به من قصور؛ سواء في المفهوم أوفي صوره التطبيقية.
والديمقراطية ليست خيراً محضاً وليست شراً محضاً، ولكن بعض من يدعو إليها لا يراها إلا مفهوماً واحداً متماسكاً له صورة تطبيقية واحدة، والصورة الماثلة في ذهنه لها هي البرلمان والانتخابات، ونتيجة تصور هؤلاء ديمقراطية زائفة. وآخرون ممن يعارضون الديمقراطية لا يتبادر إلى أذهانهم منها إلا أنها حكم الشعب، ومن ثم فهي مرفوضة بإطلاق، ونتيجة تصور هؤلاء حكم الفرد المستبد.
وفي الواقع التطبيقي وفي التصور الفلسفي ليست الديمقراطية مفهوماً واحداً وليس لها صورة تطبيقية واحدة لا تتعدد. وهذا التنوع في المفهوم والممارسة سببه تنوع الخلفية الفلسفية والظروف الاجتماعية في المجتمعات التي طُبّقت فيها الديمقراطية.
فالديمقراطية حينما نشأت في أثينا قبل أكثر من ألفي سنة كانت خياراً للشعب في إدارة شؤونه مقابل حكم الفرد المستبد. فهي كانت وسيلة للتخلص من استبداد الفرد وتمكين أفراد الشعب من التعبير عن إرادتهم في طريقة إدارة مدينتهم.
وقد تطور مفهوم الديمقراطية من ديمقراطية أثينا التي تسمى "الديمقراطية المباشرة" إلى "الديمقراطية التمثيلية" في عصرنا الحاضر وهي ذات مفاهيم وصور تطبيقية متعددة.
وكثيرون من منظّري الديمقراطية يفرّقون بين الفلسفة والقيم التي تشكل محتوى الديمقراطية، وبين الديمقراطية من حيث هي أداة لاستطلاع رأي الشعب أو وسيلة للحكم. ويرَوْن أن الديمقراطية المجردة من حيث هي أداة عاجزة عن تحقيق الهدف منها في المجتمع. ولهذا يتحدثون عن مبادئ للديمقراطية يرون أنه لا بد من تحقيقها، ومنها: سيادة القانون وحرية التعبير، ومبدأ الفصل بين السلطات، والشفافية في الحكم، وعلمانية الدولة. وقد ذكر (يوروفسكي) في بحث له عن الديمقراطية الأمريكية أحد
عشر مبدأً يرى أنها تشكل العنصر الأساسي لفهم الديمقراطية، وكيف تعمل في الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن هذه المبادئ تحظى بالقبول من منظري الديمقراطية إلا أننا نجد جدلا ًبينهم في بعض المبادئ ومحاولة منهم لتقليصها، فمثلا من مبادئ الديمقراطية مبدأ الأغلبية الذي يعني القبول بالقرار الصادر عن الأغلبية. وهو مبدأ إذا افتقدته الديمقراطية لم تعد ديمقراطية وفقدت الهدف منها، ومع ذلك نجد أن كثيرين من منظّري الديمقراطية كما يقول (ألان تورين) في كتابه "ماهي الديمقراطية؟" كانوا يخشون من استبداد الأكثرية، بل يقول: إنه لم تكن مسألة أشدّ منها حضوراً عند المفكرين الأمريكيين الذين وضعوا الدستور الأمريكي بعد حرب الاستقلال. ولهذا كان الاتجاه في الماضي إلى حصر حرية الانتخاب في النخب واستثناء طوائف من الشعب كالنساء والعبيد.
وهذا الجدل العريض حول مفهوم الديمقراطية وتطبيقاتها يدفعنا معشر المسلمين إلى أن نخوض فيه ونجتهد في تكييف ديمقراطية تناسب تصورنا الإسلامي، ومما أقترحه في ذلك مايلي:
أولاً: التمييز بين المحتوى والوسيلة فيمكن أن نقبل الديمقراطية وسيلة للحكم ولاستطلاع رأي الشعب، ولكن أرى أنه ينبغي لنا أن نصوغ المحتوى الفكري، والقيم التي تحكمها بما يتفق مع قيمنا الإسلامية. ومن ذلك أن تكون المرجعية في الحكم هي الشريعة الإسلامية، وليست إرادة الشعب. وبهذا يمكن أن نعرف ديمقراطيتنا بأن مرجعها هو القرآن والسنة. وهذا ليس بدعاً في المفهوم الديمقراطي، حيث شاع عند فلاسفتها أنها وسيلة لا تستقيم من غير فلسفة تكون محتواها، يقول المفكر الأمريكي زبغنيو بريجنسكي :" إن الديمقراطية يمكن أن تكون هي إسهام الغرب الأساسي، إلا أن الديمقراطية ما هي إلا وعاء يجب أن يمتلئ بمحتوى...". ونحن يمكن أن نملأ الوعاء بما يتفق مع ديننا.
ومن يدعون إلى الديمقراطية في عصرنا لا يكتفون بالحديث عنها مجردة وإنما يربطونها بالفلسفة اللبرالية وحرية الفرد، ويرون أن الديمقراطية التي لا تحقق ذلك ليست حقيقية. وإذا جاز لهؤلاء أن يربطوها بفلسفة ارتضوها ألا يحق لسواهم فعل الشيء نفسه؟
وربما اعترض معترض بأن هذا يتعارض مع أحد مبادئ الديمقراطية وهو علمانية الدولة، وأجمل الردّ على هذا الاعتراض في النقاط التالية:(13/91)
أ. ليس كل مبدأ من مبادئ الديمقراطية يلزمنا قبوله فنحن لنا رؤيتنا الخاصة بنا، وبإمكاننا أن نطوّر صوراً من الديمقراطية تتفق مع هويتنا.
ب. لا يوجد في المسيحية المعروفة اليوم شريعة يجب على الدولة الحكم بها أو التحاكم إليها، ولهذا علمانية الدولة لم تكن دعوة لإقصاء شريعة ربانية قائمة في المسيحية؛ لأن هذه الشريعة غير موجودة أساساً، وإنما كانت دعوة للتخلص من سلطة رجال اللاهوت الذين يزعمون أنهم يستأثرون بالحقيقة، ويتكلمون باسم الله واسم المسيح زاعمين أن الله تحدث إليهم أو أن المسيح ألهمهم، ويلزمون الآخرين بالتسليم بما يقولون ويحكمون حكما جبرياً لا يراعي إرادة الشعب ومصالحه. ورجال اللاهوت هؤلاء يوجب الإسلام الأخذ على أيديهم؛ لأن ما يقومون به نوع من الهرطقة والكذب على الله وتزوير الدين.
ج. إذا تبين هذا ( وهو أن العلمانية ليست ضد شريعة قائمة في المسيحية) فعلمانية الدولة ليس لها صورة واحدة؛ فبينما نجد في أمريكا مثلا أن الدستور ينص على الفصل بين الدولة والكنيسة، أما في بريطانيا فنجد صورة مغايرة حيث إن الملكة هي رئيس الكنيسة، والدولة هي من يرعى الديانة المسيحية.
د. الفقيه في الإسلام (أو كما يسمى في الكنيسة رجل الدين) لا يملك الحقيقة، ومن حق أي أحد أن يناقشه ويعترض على ما قال؛ لأن المرجع ليس قول الفقيه، وإنما هو مرجع موضوعي مستقل عنه وهو القرآن والسنة.
إذن علمانية الدولة ليست مفهوماً واحداً متفقاً عليه بين الغربيين أنفسهم، وإذا أُريد بها الشورى، وحق إبداء الرأي والاعتراض - وهذا هو روح الديمقراطية - فهذا من أسس الحكم عندنا.
ثانياً : هناك مبادئ للديمقراطية حسنة، ومنها سيادة الدستور والشفافية في الحكم، واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات، وحرية التعبير، وصيانة كرامة الإنسان، وحفظ حقوقه، وهذه المبادئ هي حقيقة الديمقراطية وروحها وإذا افتقدتها أصبحت صورة زائفة لا حقيقة لها. وهذه المبادئ مما دعت إليه شريعتنا، وأوجبت على الحكام العمل به. وعلى من أراد أن يأخذ بالديمقراطية أن يأخذ بهذه المبادئ أولاً. ومما يُؤسف له أن الديمقراطية في كثير من بلدان العالم العربي الآن هي صورة الديمقراطية وليس حقيقتها.
ثالثاً: الديمقراطية ثقافة وممارسة اجتماعية، وليست مجرد برلمان وصندوق اقتراع. ولهذا لابد أن يصحب العملية الديمقراطية الحقيقية حرية التعبير وحرية الحوار وعلنيته.
رابعاً: الديمقراطية لا تنفصل عن رقابة الأمة. وكل ديمقراطية من غير رقابة اجتماعية هي زائفة. والرقابة الاجتماعية تقتضي الشفافية في الإدارة، وإتاحة المعلومات لجميع أبناء المجتمع.
خامساً: علينا الاجتهاد في تطوير أساليبنا في الحكم وإبراز مصطلحاتنا الإسلامية النابعة من تراثنا ومرجعيتنا الإسلامية.
===============(13/92)
(13/93)
الانتخابات العربية: دلالات وأبعاد
د. عبد الله بن عبد العزيز الزايدي 6/1/1426
15/02/2005
تظهر معظم نتائج الانتخابات في العالم العربي فوزًا للاتجاهات الإسلامية أو التي تنسب نفسها إليها بمختلف أطيافها وطوائفها، ففي فلسطين فازت حركة (حماس) في الانتخابات البلدية فوزًا كبيرًا، وفي العراق تغلبت القوائم الدينية على القوائم العلمانية مع ما بذلته من أموال وخدمات لتشجيع الناس على ترشيح قائمتهم.
وقبلها بمدة طويلة انتخابات الكويت التي أسقطت رموز التيار الليبرالي، وزادت نسبة التيار الإسلامي بالرغم من أن معظم الصحف ووسائل الإعلام يهيمن عليها خصوم التيار الإسلامي من الليبراليين الذين لم يألوا جهدًا في الصدّ عنه والسعي لإسقاطه بكافة أطيافه.
ومع أننا في المملكة العربية السعودية لا تظهر الاتجاهات المخالفة للإسلام بشكل علني، ولا تدعو إلى أفكارها بشكل سافر كما هو الشأن في كثير من البلاد العربية؛ فإن نتيجة الانتخابات البلدية أظهرت فوزاً كاسحاً لمن صنّفهم الآخرون على أنهم إسلاميون، مع أنهم لم يطرحوا أنفسهم بشكل مختلف عن الآخرين في خطابهم وبرنامجهم الانتخابي؛ نظراً لأن الجميع تحت مظلة الشريعة الإسلامية، إلا أن وضوح التوجّه الديني هوا لذي دفع الناس لانتخابهم.
وفي هذا الفوز للإسلاميين دلالات ينبغي أن تأخذها كافة القوى المناوئة للإسلام داخل البلاد العربية وخارجها بعين الاعتبار ومن هذه الدلالات:
1- إن خيار الأمة الحقيقي الذي تتوق إليه وتتمنى سيادته هو المشروع الإسلامي الذي يقدم أهل القوة والأمانة والنزاهة؛ لأن الناس قد جربوا أطيافًا أخرى فما وجدوا سوى التفريط بمقدرات الأمة والفساد بأنواعه.
وفي تركيا الخبر اليقين؛ فقد عانت طويلاً من فساد الأحزاب العلمانية وإهدارها لموارد البلاد حتى وصلت نسبة التضخم حدودًا خيالية، وضاقت سبل المعاش على الناس، وضاقوا ذرعًا بهذه الأحزاب المتسلطة على البلاد منذ سنين طويلة، فلما تقدم البديل الإسلامي المتَّسم بالنزاهة والكفاءة بادر الناس لترشيحه على نحو أدهش المراقبين بالرغم من الحملات الإعلامية المضادة، والتي كانت من الشراسة والفجور في الخصومة بحيث كان المراقب لا يظن أن حزب (العدالة والتنمية) يمكن أن يحظى بربع النسبة التي حصل عليها.
2- إن جمهور العرب والمسلمين -بالرغم من تسلط الإعلام المتجه لإضعاف مستوى التدين في العالم العربي والإسلامي- لا يزال متمسكًا بدينه، مصرًا على إنجاح خياره الإسلامي، مما يؤكد أن تلك الجهود المأزورة لم تؤت ثمارها السيئة بالقدر الذي كان يأمله القائمون على ذلك الإعلام والمالكون له والموجّهون لأهدافه.
3- الظلم الشديد الذي يلاقيه هذا التيار الممثل للأمة والمعبر عن رغباتها والناطق باسم جماهير من قبل الوسائل الإعلامية؛ إذ لا تحتفي أجهزة الإعلام بمثل هذا الفوز مطلقًا، ولا يجري الإعلاميون مقابلات مع الفائزين، ولا يعطونهم مجالاً للتعبير عن مشروعهم واغتباطهم بهذا الاختيار. ولا تلقى مثل هذه الاتجاهات من يمثلها ويعبر عن رأيها في وسائل الإعلام.
وفوز حركة (حماس) في الانتخابات البلدية في غزة مثال واضح؛ إذ لم يلق الصدى الإعلامي الموازي له، بل ربما حاول المناوئون في هذه الوسائل البحث عن أسباب غير طبيعية لهذا الفوز، محاولين التقليل من دلالاته والتهوين من أثره، بل ربما تجاوز الأمر إلى الطعن في مشروعيته؛ لكونه -بزعمهم- ناتج عن استثمار المشاعر الدينية للجمهور. بينما يحدث العكس تمامًا في حال فوز الاتجاهات العلمانية ويمكن تأكيد هذه الحقيقة بمطالعة الصفحة الأولى للكثير من الصحف العربية بعد إعلان نتائج الانتخابات.
4- إن التيارات الإسلامية تفوز باختيار الشعوب بهذه النسب المرتفعة بالرغم من الحملات الإعلامية المضادة، وبالرغم من عدم امتلاك هذه التيارات أجهزة الإعلام الرسمية والقنوات الفضائية التي غالبًا ما تُسخّر لخدمة القوى المناوئة للتيارات الإسلامية. فكيف لو كان لتلك التيارات الوسائل الإعلامية المكافئة لما لدى خصومها؟ ففي دولة مثل المغرب سخرت أجهزة الإعلام لتشويه التيارات الإسلامية بشتى الأساليب وحملات التشويه المحترفة، ومع ذلك فقد فاز التيار الإسلامي بنسبة تُعدّ مرتفعة قياسًا لما كان متوقعًا نتيجة الحملات المضادة.
5- إن عمليات التفجير والعنف التي مارسها بعض الشباب المتهور المتحمس المندفع بدوافع دينية، والتي استثمرها الإعلام المناوئ وحسبها على التيارات الإسلامية وحمّلها وزر هذه الأعمال الإرهابية، لم تفلح في إسقاط شعبية التيارات الإسلامية وإضعافها.. مما يؤكد وعي الناخب العربي، وأنه لم تنطل عليه أساليب المكر والتشويه.
6- إن هذه النتائج رسالة جلية توجهها الجماهير لحكومات بلادها وللعالم أجمع، وهي أنها لا ترضى بديلاً عن الإسلام دينًا وحضارةً ومنهج حياةٍ، وأنها تريد حكومات تحقق لها هذا المطلب العزيز، ولا تقهرها على تبني النظم المخالفة من علمانية وليبرالية وغيرها.(13/94)
7- إن من أسباب الاحتقان والتوتر في البلاد العربية والإسلامية هو تناقض كثير من الحكومات مع خيار شعوبها، ومضادتها لتوجهاتها الخيرة، وانسياقها مع القوى المناوئة للمشروع الإسلامي داخليًا وخارجيًا في مقابل شعوبها، وهذا ما سيجعل التوتر قائمًا والثقة غير متبادلة.
8- أن تدرك الحكومات أن هذا التوافق مع الشعوب سيكون عامل قوة لها، وسيجعلها قادرة على مواجهة الضغوط الأمريكية التي تريد فرض أجندة لا ترغب فيها تلك الحكومات، فيمكنها أن تواجه تلك الضغوط بالخيار الشعبي الذي - لاشك - له تقديره عند تلك القوى، وهي تدرك مدى قوته وتأثيره.
ولذلك فمن الحكمة والمصلحة أن تنظر تلك الحكومات لخيار شعوبها بعين الإنصاف والإقرار والتوافق لا بعين السخط والإنكار والتناقض ليتأصل الاستقرار، وتتحقق التنمية الشاملة، وينمو الاستثمار.
كما أن هذه الثقة الجماهيرية ينبغي أن تقابل من قبل الاتجاهات الإسلامية بما تستحق من:
1- الاستمرار في العمل الإيجابي في خدمة الأمة بالأعمال الخيرية وتقديم المشاريع، والخدمات مما يزيد في ثقة الناس، فيغتبطون بسلامة اختيارهم، وتتحقق آمالهم فيمن رشحوهم وأمّلوا منهم خيرًا.
2- الاستمرار في التواصل مع الجماهير وعدم الانقطاع عنها بعد الفوز، بل يجب أن يكون هذا الفوز حافزًا لتواصل مستمر تحقيقًا لمصالح الأمة حاضرًا ومستقبلاً.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
============(13/95)
(13/96)
ما المنهج في فكر الحداثة؟
د. بدران بن الحسن 18/10/1425
01/12/2004
هذا سؤال يحتاج إلى تفكيك وتركيب حتى يمكن الإجابة عنه.
تفكيك، أو بعبارة أخرى تحليل إلى عناصر أوّلية، لنفهم المنهج، والحداثة، وفكر الحداثة.
ثم تركيب لهذه العناصر، حتى نستطيع الإجابة عنه، باعتباره يعالج قضية مكتملة الصورة في أذهاننا.
ولهذا، نرى أن نبدأ الحديث عن الحداثة باعتبارها مرحلة تاريخية ارتبطت بالتطور الحضاري الغربي، كما ارتبطت بتطور التاريخ العالمي في صلته بالغرب وبالحضارة الغربية.
ثم بعد ذلك نتحدث عن جذور الحداثة، أو الأسباب المباشرة التي أدت إلى الحداثة، وهي كما نعتقد؛ الإصلاح الديني والسياسي، وحركة النهضة الصناعية، وتفجر المعرفة وظهور التكنولوجيا.
هذه العوامل الثلاثة التي أحدثت انقلاباً في علاقة الأوروبي بالعالم والكون والحياة، كما غيّرت نظرته الكونية كما يقول الفيلسوف الألماني ألبرت شفيتزر.
وهذا يقود إلى تناول الحداثة باعتبارها موقفا فكرياً، أي الحديث عن فكر الحداثة من خلال النظر إلى الحركة الفكرية التي واكبت ظاهرة الحداثة؛ من ثورة على نمط التفسير الكنسي للعالم والحياة والتاريخ، والنسق الأرسطي للتفكير القائم على الاستنباط والدوران داخل محيط المبادئ الفكرية المجرّدة، والاعتماد على الاستنتاجات العقلية، إلى نظرة وضعيّة؛ تؤمن بإمكانية المعرفة من خلال الحواس، واعتماداً على الطبيعة، واستبعاداً للميتافيزيقا واللاهوت الغيبي المسيحي.
وهذا بدوره يؤدي بنا إلى الإمساك بخيوط المنهج الذي قام عليه هذا الفكر؛ فكر الحداثة، وإلى الحديث عن أهم مفردات بل قواعد هذا المنهج، التي هي في تصورنا الفصل بين الفكر الكنسي الأرسطي الجامد وبين الفكر الوضعي العملي الواقعي، وجعل الإنسان مصدر القيم ومركزها؛ اي مرجعيّة إنسانية (هيومانية كما يقول المسيري) كامنة غير متعالية على الطبيعة.
وكذا توسّع مسار العلمنة واستبعاد المقدس من أن يكون فاعلاً في التاريخ، وهذا بدوره يقود إلى إفراغ مفاهيم مثل: الله، والغيب، والأخلاق من معانيها، ومن فاعليتها العلمية والاجتماعية.
لنصل في الأخير إلى مأزق هذا المنهج، ومآلاته الرهيبة على الفكر والحضارة والتاريخ الإنساني، بل وخطورته على الإنسان في أخص خصائصه؛ وهي إنسانية الإنسان وكرامته.
وإذا جئنا إلى العناصر التي تركب سؤالنا عن المنهج في فكر الحداثة، فإن الحداثة في المعنى اللغوي تأتي من الحديث ضد القديم، ولهذا فنحن أمام ثلاثة مصطلحات مترابطة تشكل مفهوما واحداً في مجموعها، هذه المصطلحات هي: الحديث (Mode r n)، والحداثة (Mode r nity)، والتحديث (Mode r nization).
فالأول يعبّر عن وصف لشيء يتصف بأنه حديث ضد قديم، أما الثاني فيعبّر عن حالة أو ظاهرة (phenomenon)، أما الثالث فيعبر عن عملية قصدية تبتغي القيام بتحول من قديم إلى حديث عبر مرحلة زمنية وتاريخية هي الحداثة (p r ocess of mode r nization).
إذن هناك مرحلة تاريخية شهدت ولا تزال تشهد عملية تحول من القديم إلى الجديد (الحديث) شاملة لكل الأبعاد الاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها. وبعبارة أخرى فهي مرحلة تحول ذات أبعاد متعددة.
وإذا تعلق الأمر بالحداثة باعتبارها ظاهرة غربية صاحبت التطور الحضاري الغربي، فإننا نقول بصددها: إنها تلك التحولات ذات الأبعاد المتعددة التي حدثت في المجتمعات الغربية منذ عصر النور والثورة الصناعية والإصلاح الديني إلى بدايات القرن العشرين الميلادي، عبر مسار معقد، وتراكم متنوع، دام عدة قرون.
أما فكر الحداثة، فهو ذلك الفكر الذي مهّد لهذا التحول الحضاري الغربي أو صاحبه، باعتباره (أي الفكر) عملية تعبير عن الظاهرة، وصياغة تجريدية لها ولتجاربها ومقولاتها وإنتاجاتها.
أما المنهج في الحداثة، فهو التصورات والمفاهيم والمقولات التي على أساسها بُني هذا الفكر، وعلى أساسها تمت الصياغات النظرية للحداثة.
الحداثة وأوجهها المتعددة
الحداثة موقف عقلي، يتمثل في عدم الرضا بالطرق التقليدية للحياة، والتركيز على استغلال الموارد الطبيعية مستخدمة في ذلك المعرفة والتقنية الحديثة، والتغير الاجتماعي أحد أهم علاماتها، كما أن النمو الاقتصادي أكبر نجاحاتها، وهي تلمس الحياة الانسانية في كل جوانبها تقريباً، ولذلك فيمكن القول: إنها ذات أبعاد أو أوجه متعددة.
ومن الصعوبة بمكان إعطاء تعريف محدّد للحداثة، أو تجسيدها في نموذج واحد؛ فالاقتصاديون يركزون اهتمامهم على النمو الاقتصادي، وذلك من خلال ربطها بالتقنية والتصنيع اللذين أدّيا إلى نشوء الرأسمالية والاشتراكية في العالم الغربي. بينما علماء الاجتماع يقدمون لنا عدة تعاريف ونماذج للظاهرة، ويركزون اهتمامهم على ما لحق بنية المجتمع من تغيير، أما علماء السياسة فيركّزون على جانب الأنظمة السياسية وتوازنات السلطة وكيفية تشكيل الحكومات وإدارتها للصراع بين طبقات المجتمع، ومن هذه الزاوية فإن الحداثة تنطبع فيما حدث من تطورات في بنية الديمقراطيات الغربية.(13/97)
بينما الإعلاميون يرون أن الحداثة تتجلى فيما طرأ على وسائل وطرق وأنواع الاتصال من تطوّر وتغيّر وتعدّد وكثرة ومركزية. وبالتالي ما يحدث في المجتمع من تطوّر في مستوى العلاقات بين مكونات المجتمع وطرق التواصل فيما بينها.
وإذا تأملنا هذه التحدّيات المختلفة في ظاهرها، نجد أن الرابط بينها هو التقنية (Technology)، أي أن الحداثة وسيلتها الأساس هي التقنية، وما لها من عوامل وآثار اجتماعية وثقافية.
ففي الجانب الاقتصادي حولت التقنية (التكنولوجيا) العملية الاقتصادية من المفاهيم البدائية البسيطة إلى ثورة في المعاملات المعقّدة والمتشابكة، وهذا بدوره ارتبط وأنتج نظم الرأسماليّة والاشتراكيّة والشيوعيّة وغيرها، وهي كلها لا تعدو أن تكون إفرازاً طبيعياً للتقدم التكنولوجي.
هذه المظاهر والتمظهرات المادية للحداثة، لا ينبغي أن تحجب عنا حقيقة أن الحداثة لها موقف فكري وثقافي، أو كما سبق، موقف عقلي، هذا الموقف أو المحتوى الثقافي، يتمثل في التركيز على التعامل العلمي (Scientific) مع الواقع، والمقصود منه الخضوع للتفسير الوضعي للحياة بعيداً عن أي لاهوت متعالٍ أو غيب. وهو ما يعني أن الحداثة في جوهرها الثقافي والفكري والعقلي موقف مادي (Mate r ialistic) منفصل عن أي قيم متعالية ليست من صنع الواقع الاجتماعي أو الطبيعي.
وهذه المظاهر أو الأوجه المتعددة للظاهرة ترجع إلى جذر واحد يربطها، ويشكل من خلالها الحداثة كسيرورة تاريخية للمجتمع الغربي. غير أن الأمر لا يتوقف هنا، فعلينا أن نُفَصّل القول في المنهج الذي سارت عليه الحداثة، قصداً أو عن غير قصد.
المنهج؛ الرؤية والمفاهيم والتطبيقات:
الحديث عن المنهج في الحداثة يقتضي منّا تفصيل الكلام عن الرّؤية الكونيّة التي شكّلت هذا المنهج، ثم أهم المفاهيم التي انتجتها أو قامت عليها الحداثة، ثم بعض التطبيقات لهذا المنهج والمتمثلة في المظاهر التي يمكن أن تنطبع فيها الحداثة، وكذلك القطاعات التي تشملها.
فيما يتعلق بالرؤية الكونية، فإنها بدأت تتشكل منذ بدايات القرن الخامس عشر الميلادي، وذلك من خلال ثلاثة تيارات مهمة في التاريخ الحضاري الغربي؛ وهي حركة الإصلاح الديني (البروتستانتي خاصة)، والعقلانية أو الفلسفة العقلانية الحديثة، وكذلك التيار الإنساني (humanism).
حيث عملت الاتجاهات الثلاثة متضافرة معاً وظيفياً ومتعاقباً زمانياً ومتكاملة على بناء رؤية كونية حديثة للعالم، والتخلص من الرؤية القائمة على المنظور الكنسي الأرسطي التقليدي (Ecclesiastic).
وإذا كانت البروتستانتية حررت المسيحي الغربي من سلطة الكنيسة والباباوات وانفرادهم بتفسير النصّ المسيحي الديني المقدس، والهيمنة على العقل والمعرفة، فإن الحركة الإنسانية عملت على التركيز على أن الإنسان الفرد هو المرجع في كل شيء؛ سواء في ذلك القيم أو المعايير أو الحقيقة في هذا العالم.
ومن جهتها عملت الفلسفة العقلانية على التأسيس للتفسير العقلي لحركة التاريخ والحضارة، وعلى إيجاد معاني عقلانية لكل المفاهيم المرتبطة بالإنسان في هذا الكون، فشكّلت العقلانية ابتداءً من كوبرنيكوس وكبلر وغاليليو ثم ديكارت وسبنسر وسبينوزا ولوك وهيوم وغيرهم من التجريبيين أيضا، هذه العقلانية شكّلت نظرة للكون قائمة على استبعاد المقدس عن أن يساهم في صناعة التاريخ، كما أنها رسّخت مفهوم المادة في مقابل الروح، أو انفصال الأخروي عن الدنيوي، خاصة العقلانية الديكارتيّة التي مهّدت للعلمانية على مستوى التفكير، لتنطبع في الواقع في علمانية روسو والثورة الفرنسية، التي حصرت المقدس إلى حساب توسيع الزمني في هذه الحياة.
هذه التيارات الثلاثة، إضافة إلى اتجاهات البحث في الفلك والبيولوجيا والفيزياء وعلوم الكيمياء والعضويات، صاغت مع "أوغست كونت" ما يسمى "بالوضعية" باعتبارها ليست اتجاهاً فلسفياً فحسب، بل رؤية كونية قائمة على تنميط الإنسان وعقله وتجربته مرجعاً للحقيقة ومصدراً للتفسير، ومن الطبيعة المجال الأوحد للفعل التاريخي، الذي ليس له امتداد آخر (غيباً كان أو ميتافيزيقا) متعالٍ عن المادة.
هذه هي الرؤية المركزية لمنهج الحداثة، الوضعية والعلمانية رؤية للكون والتاريخ والإنسان، ووفق هذه الرؤية وما حدث فيها من تعديلات عبر الزمن، تطوّرت الحداثة، ونضجت لديها مجموعة من المفاهيم تميز هذه المرحلة عن مرحلة ما قبل الحداثة (أي مرحلة القرون الوسطى)، ولعل من أهم هذه المفاهيم؛
مفهوم العلم (Science) حيث أعطى له محتوى وضعياً، وصار العلم هو ما أنتجه العقل البشري من خلال تعامله مع الواقع؛ طبيعيا كان أو اجتماعياً، إضافة إلى المعرفة الرياضية واللغوية، ولا شيء خارج الطبيعة واللغة والرياضيات.(13/98)
وعليه تم استبعاد كل ما له صلة بالغيب من مفهوم العلم، ولهذا صار الدين خارجاً من مفهوم العلم، بل لا صلة للدين بالعلم، كما أن قضايا الدين لا يمكن إقامة الدليل عليها، لأنها ذات طبيعة فوق تاريخية، أو ما وراء الطبيعية، والعلم نطاقه العقل والتجربة والواقع. فصار الدين يشكل في عُرف الحداثة حيّزاً ضيّقاً ضمن نوع من أنواع الأسطورة، وإن سمح الأمر -كما يقول أركون أحد فلاسفة الحداثة الغربية- فإن الدين ذو بنية أسطورية متعالية.
استبعاد المقدس، أو علمانية الحياة (Secula r ism)
وهو مفهوم مرتبط بالنظرة الكونية التي شكلت الحداثة، فلا دخل للدين في صناعة التاريخ، وإن أمكن إعطاؤه دوراً فهو دور مشارك وليس مركزيا، وذلك من خلال الدور الاجتماعي للقيم الدينية، والتي يقوم فيها الدين، أو المقدس، بأداء دور لصالح الزمني أو الدنيوي، أما أن يهيمن الدين على التاريخ أو يوجهه أو يصوغ الحياة، فهذه نظرة كنسية تم القضاء عليها، وتم حصر الدين أو المقدس في أداء دور ثانوي تقتضيه الضرورة العقلية المنطقية كما هو شأن "ديكارت" و"كانت"، أو تقتضيه الضرورة الاجتماعية كما هو شأن "دوركايم". أي أن دور الدين محدد بالضرورة، وبقدر ضئيل، وإن لم يُزل تماماً فإن تهميشه قد تمَّ. وهذا بدوره أعطى مكانا لمفهوم آخر هو المادية.
والمادية (Mate r ialism)، وإن كانت تشكل نظرة كونية ورؤية كلية للحياة من خلال التيارات الثلاثة السابقة الذكر، فإنه يشكل مفهوماً مركزياً في تراث الحداثة المفهومي والفكري، فاعتباراً من مفهوم العلمنة والحياة، فإن المادة هي ذات الأولوية في صناعة وتوجيه حركة التاريخ.
ولهذا نجد مفهوم الكم قد أُعطي أولوية كاملة على حساب مفهوم الكيف، كما أن معيار الكم صار هو الفيصل في قياس التقدم والتخلف، والقوة والضعف، والفاعلية وعدمها. أما المفاهيم الروحية مثل الله، الحق والخير والدين، فصارت فارغة من محتواها إلا بمقدار ما تنفع وما يقابلها من مادة، وما تجلبه من ربح مادي وتراكم للمادة.
وهناك مفهوم آخر من المفاهيم المركزية في فكر الحداثة هو مفهوم التقدم، حيث أُعطي له محتوى جعل منه حصان طروادة لكل ثائر على القيم، أو معارض للعُرف والمعروف والمتعارف عليه. فالتقدم مفهوم يتغنى به الحداثيون، ويجعلون العلامة عليه القطيعة مع التراث ومع السلف والتوجه نحو المستقبل ونشدان التغيير إلى ما لا نهاية.
وأهم جوانب التقدم، وأكثرها وضوحاً، هو التقدم المادي، وطبعاً في التعليم والتقنية والسيطرة على الطبيعة، والتحكم في مواردها.
والمفهوم الآخر هو العقلنة ( r ationality)، حيث تقوم الحداثة على عقلنة كل شيء؛ الإنسان والطبيعة والتاريخ، وحتى الدين ذاته قد تمت عقلنته، فكل شيء تم إخضاعه للإدراك العقلي، ومناهج النظر العقلي. فكل ما يمكن عقله فهو داخل ضمن إطار الإدراك والتعامل، وبالتالي فهو واقعي، وحتى ما لم يكن قابلاً لذلك فقد تم إخضاعه، ويتجلى ذلك في جهود "كانت" و"ديكارت" و"هيجل" وغيرهم.
في الأخير، وإكمالا للحديث عن المنهج، فإن أهم تطبيقات هذا المنهج تتجلى في الثورة الفرنسية، والتي كان "روسو" أباها الأول، حيث رفعت شعار "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قِسّيس"، مما يعني الثورة على كل قديم، وعلى النظامين الكنسي والسياسي بصفة خاصة. ومعروف ما كان للثورة الفرنسية من تأثير في العالم الغربي خاصة، من حث على تغيير الأوضاع القائمة.
كما أن من تطبيقات هذا المنهج، انتشار الديمقراطية الغربية، وسيادتها في أنظمة الحكم، واتخاذها منهج الحكم الوحد، وما تستلزمه هذه الديمقراطية من علمانية وعلمنة، وفصل بين الدين والدولة، وصراع التوازنات، وحديث عن حقوق الانسان وتغييب لحقوق الله.
ثم التقدم المادي الاقتصادي الكبير الذي حدث في الغرب، وما جره ذلك من استنزاف لموارد الطبيعة، وإتلاف لقدراتها، وتنميط الإنسان كأنه كائن ذو بعد واحد؛ هو البعد المادي، واعتبار التقدم الاقتصادي معياراً أوحدَ لقياس رفاهية وسعادة الانسان وتحقيقه لأهدافه في هذا العالم.
وكذلك من هذه التطبيقات نجد العلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانية التي تطورت بشكل مذهل لتحقيق مقولات التقدم والتحديث، ولكن وفق منظور مادي ورؤية اختزالية تختصر الإنسان وتطلعاته وأشواقه في أفق مادي محدود.
وختام الكلام
إن الحداثة ظاهرة ارتبطت بالوعي الغربي أصالة، ولها علاقة وطيدة بالتحولات التاريخية التي حدثت في الغرب، وهي بمفاهيمها إفراز طبيعي لحركة المجتمعات الغربية خلال التاريخ.
أما الحداثة خارج الغرب فهي تابعة في منهجها وفي تاريخها وفي نتائجها للحداثة الغربية؛ لأنها وليدة إشعاع الحضارة الغربية على العالم وبالتالي إشعاع فوضاه على بقية العالم بتعبير مالك بن نبي عليه رحمة الله، وهي بفعل تأثير الهيمنة الغربية على العالم، وعلى مصائر الشعوب، ومقاليد التاريخ، خلال هذ القرون الثلاثة الأخيرة. وهي من قبيل تقليد المغلوب للغالب حسب التعبير الخلدوني، والله أعلم.
=============(13/99)
(13/100)
إلى التطبيع أيها الدعاة!
د. علي بن عمر بادحدح 6/9/1425
20/10/2004
"التطبيع" مصطلح معاصر له في الواقع دلالة مكروهة مرفوضة، فالتطبيع اليوم جوهر السلام وشعاره، وقاعدته وأساسه، أما مقتضيات ومتطلباته فحقيقتها الهوان السياسي، والانسلاخ الثقافي، والاختراق الأمني والارتهان الاقتصادي، والمراد ببساطة ووضوح أن نعتبر الأعداء أصدقاء، وننسى تاريخهم العدواني، ونغض الطرف عن واقعهم الإجرامي، ولأجل ذلك تغير مناهجنا، ونهجن إعلامنا، ونبدل مصطلحاتنا، لئلا يكون هناك ما يثير حفيظتهم أو يكشف حقيقتهم، ولمزيد من إثبات إنهاء العداء فعلينا أن نفتح لهم أسواقنا ليتاجروا، وأرضنا ليمتلكوا، ومصانعنا لينتجوا، وحقولنا ليزرعوا؛ بل ومدارسنا ومعاهدنا ليعلِّموا ويتعلموا، وأخيرًا ليمسخوا هويتنا، ويتحكموا في رقابنا.
والحقيقة أن الكلمة في أصل دلالتها اللغوية تعني جعل الأمور طبيعية، أي لا غرابة فيها ولا اعتراض عليها، ولا خجل ولا نفور منها، فكونها طبيعية يدل على أنها متوقعة ومألوفة ومقبولة، ويكون الأمر طبيعيًا إذ جاء متوافقًا مع الأصول الثابتة والحقائق الراسخة، ومتجانسًا مع الجذور التاريخية والبيئة الواقعية، مستندًا إلى المعرفة العلمية والممارسة العملية؛ فالأستاذ الجامعي يتحدث بلغة تعليمية ويكتب بمنهجية علمية وهذا طبيعي ولا غرابة فيه، ومثل ذلك التاجر إذا تحدث بلغة الأرقام والأرباح والخسائر.. وهكذا فإن الشيء من معدنه لا يستغرب.
وهنا تتضح لنا المسألة، فهناك أمور غريبة مرفوضة يراد أن تصبح طبيعية، تحت شعار السلام ودعوة العولمة وعصر القرية الكونية، وفي المقابل هناك أمور الأصل فيها أنها طبيعية مقبولة يراد لها أن تكون شاذة مرفوضة تحت شعار (العنصرية)، ولافتة (معاداة السامية)، وعلى خلفية الأصولية، وصناعة التطرف، ودعاية الإرهاب.
إن الشق الثاني أخطر من الأول، ووسائل الوصول إليه أكثر، وصور تسربه وتشربه أظهر. نعم.. إنه من الخطر أن تظهر في مجتمعات المسلمين وديارهم بعض تلك المظاهر؛ فهذا يخجل من انتسابه إلى الإسلام وذاك يخفي التزامه به، والثالث يخشى من الدعوة إليه، والرابع يتراجع عن الدفاع عنه، وتصبح تلك الأمور وغيرها غريبة وتحتاج إلى مقدمات ومبررات.
إن موجة الإرهاب بشقيه: اليهودي الصهيوني، واليميني النصراني بما له من قوة إعلامية وهيمنة سياسية، واختراقات أمنية يعمل جاهدًا على قلب الحقائق، وتغيير الثوابت، وإنشاء أنماط فكرية واجتماعية ضاغطة في الاتجاه المعاكس للأوضاع الطبيعية في المجتمعات الإسلامية.
ومن هنا فإن من واجب الدعاة أن يواجهوا هذه الحملات ويتصدوا لها، وأن يعملوا في التطبيع الصحيح لكل ما هو من أصول الإسلام وطبيعة مجتمعه، وأن تكون حقائق الدعوة وبرامجها وأنشطتها وما يتصل بذلك من ثقافة فكرية وسلوكيات اجتماعية أن يكون كل ذلك طبيعيًا مألوفًا مقبولاً.
لماذا لا يسعى الدعاة في كل البلاد الإسلامية إلى أن يكون من الطبيعي امتلاء المساجد بالمصلين، وانتشار حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وكثرة الدروس والمحاضرات، ووجود البنوك الإسلامية، وتنوع المؤسسات والمنتجات الإعلامية الإسلامية، وقيام المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية، وتأسيس الجمعيات والمنظمات الإسلامية، وتأسيس المؤسسات والتجمعات السياسية الإسلامية، وترويج البرامج الترفيهية والسياحية الإسلامية، وغير ذلك من جوانب الحياة المختلفة التي تنضوي تحت منهج الإسلام الشامل الكامل؟!
إنه من غير الطبيعي أن يكون حجاب المرأة المسلمة غريبًا في ديار الإسلام، فضلاً عن أن يكون مُحارَبًا، وكذلك من المؤسف المحزن أن يسمح في كثير من الدول الإسلامية بإنشاء أحزاب علمانية أو اشتراكية وتحظر الإسلامية، ومن غير المقبول ولا الطبيعي أن تُمنع المدارس الإسلامية أو يُضيّق عليها بينما المدارس الأجنبية على اختلاف أشكالها تُفتح لها الأبواب وتُيسر لها الأسباب. ومن الغرائب، ومن العجائب أن تمتلئ شاشات الفضائيات بما يندى له الجبين من العري والفسق وإثارة الشهوات ثم تُمنع المذيعة إذا تحجبت، وهذه مجرد أمثلة، والواقع يحتاج إلى انتباه؛ لأن انحصار الدعوة في ميادين محدودة وفي قوالب جامدة وعلى فئات قليلة يزيد من عزلتها، ويسهم في إبعاد المجتمع عن دينه وثقافته وتاريخه، بينما يتم التطبيع المعاكس.
إن مما يساعد على تحقيق هذا الهدف أمور عدة:
أولها: إثبات صواب هذا الرأي بالمقارنة بالآخرين؛ فاليهود يعلنون أن دولتهم دينية لا علمانية ويتصدون لكل من يمس اليهود أو اليهودية في شرق الأرض وغربها مما لهم به من صلة أو ليس لهم به من صلة بحجة معاداة السامية، ولا يقال إن هذا غريب أو مستنكر.
وثانيها: إن الحقائق تكشفت بعد ما عُرِف بأحداث سبتمبر وزالت الأقنعة وأصبح العدوان والظلم واضحًا لا تخطئه عين ولا ينكره عقل، ومن ثم؛ فإذا كان هذا العدوان والحملات الظالمة كلها لأجل ديننا واعتزازنا به ودعوتنا إليه؛ فلندرك أن ذلك هو سر قوتنا وأساس تميزنا ونقطة انطلاقنا.(13/101)
وثالثها: إن الأمة جربت كثيرًا من الخيارات التي جرّت عليها الوبال، وتجلى لها أن خيارها الأمثل عودتها إلى ربها واستمساكها بدينها؛ فلنسع إذًا إلى إزالة العوائق التي تحول دون ذلك، ولعل أمثل وأنجع ما يفيد في ذلك هو تطبيع الدعوة في الأمة؛ فهذا يعيدها لهويتها ويدنيها من وحدتها ويزيد من قوتها.
فهيا إلى التطبيع أيها الدعاة..
=============(13/102)
(13/103)
المسار المستقبلي للعمل الإسلاميّ
إبراهيم غرايبة 19/7/1425
04/09/2004
كيف يعود التيار الإسلاميّ العريض إلى مكانه ومكانته اللتين كان عليهما خلال النصف الأوّل من القرن العشرين، رافداً أصيلاً مندمجاً في مجمل حركة المجتمع نحو التحرّر الوطنيّ والاستقلال السياسيّ والثقافيّ؟ وكيف يخرج العمل الإسلاميّ من دوّامة الاتّهام، والعُنف المتبادل والاستبعاد والعداوة والانزواء والهيمنة؛ ليتحول إلى مكوّن أساسيّ وأصيل في نسيج الأمّة يتفاعل مع التيارات، والمكوّنات الثقافيّة المتعدّدة، ويحرّك الأمّة نحو النّهضة والتنمية؟
يلاحظ المفكر الإسلاميّ "أحمد كمال أبو المجد" أنّ الحركات الإسلاميّة التي ظهرت في مطلع القرن العشرين وحتى أواسطه كان لها أهداف سياسيّة متطابقة تماماً مع الأهداف السائدة في المجتمع حتى تكاد تكون موضع إجماع جماهير الناس، وكانت في غالبها أهداف تحرير وطنيّ ومقاومة للنفوذ والتسلّط الأجنبيّ، وبهذا وبسببه دخلت جميع تلك الحركات تاريخ بلادها السياسيّ باعتبارها حركة تحرير وطنيّ قوميّ ثقافيّ.
والأستاذ "طارق البشري" يرى أيضاً أنّ الدّعوات الإسلاميّة كانت قبل ظهور الدعوات العلمانيّة المتأثّرة بالغرب مندمجة في حركات التحرير الوطنيّ عامّة، وفي الدّعوات العامّة للإصلاح والنّهوض، فلما انفرزت حركة علمانيّة وطنيّة تدعو للاستقلال بصورة عامّة للمجتمع المستقلّ مستعارة من نماذج الغرب وأُسسه الشرعيّة، لمّا حدث ذلك ظهرت الدّعوة الإسلاميّة تؤكّد أنّ الإسلام دين ودولة.
وبدأ الموقف السياسي التحرري للفكر الإسلاميّ وللحركات الإسلاميّة يتغيّر منذ النصف الثاني للقرن العشرين متّجهاً بتلك الحركات إلى موقف المعارضة الحادّة للنّظم السياسيّة وللحكومات القائمة.. ودافعاً بالطّرفين إلى مواجهات ومصادمات غير مسبوقة، وإلى اتجاه كثير من حكومات الدول العربيّة والإسلاميّة إلى السعي في تصفية الحركات الإسلاميّة سياسياً وجسدياً، وقابل ذلك اتجاه بعض الحركات الإسلاميّة لزعزعة الاستقرار السياسي لتلك الحكومات، وانتقلت إلى العمل خارج الإطار السياسي و "الشرعية القانونية" وتحديث الحركة الإسلاميّة والفكر الإسلاميّ من قوة نهضة إلى مصدر خطر على استقرار المجتمع، وعقبة تهدّد مسيرته نحو النّمو و الرّخاء، وإلى مشكلة أمنيّة مزمنة يكاد حلّها يستعصي على العقلاء والحكماء، وبسيادة هذه النظرة الأمنيّة فقد وقعت أضرار جسيمة، وفات على الأمّة بكل طوائفها خير كثير.
يرى د. "أحمد كمال أبو المجد" أنّ الحكومات مطالبة بأمور ثلاثة من شأن الالتزام بها أنْ يفتح أبواباً واسعة لتحقيق تصفية حقيقيّة دائمة لظواهر العنف والإرهاب الذي يرفع أصحابه رايات وشعارات إسلاميّة، وأنْ يردّ التيار الإسلاميّ العريض إلى مكانه ومكانته اللتين كان عليهما خلال النصف الأوّل من القرن العشرين، رافداً أصيلاً مندمجاً في مجمل حركة المجتمع نحو التحرّر الوطنيّ والاستقلال السياسيّ والثقافيّ.
إنّ التزام الحكومات بسيادة القانون والدستور، ومواصلة نهج العدل والمساواة مع المواطنين مهما كانت تجاوزات بعضهم واعتداءاتهم على الدولة والمجتمع يجعل الصّراع بين الشرعيّة والخارجين عليها، ولكنّ الحكومات هي الأخرى حين تسلك سلوكاً خارجاً على القانون فإنّ الصراع يتحول بين متساوين في الاعتداء، وقد يتعاطف الناس مع التمرّد والإرهاب المتسمّي بالإسلام إذا كان يواجه إرهاباً غير إسلامي!
ويستند التطرّف وجماعاته على خطاب فكريّ فيه تشوّه وغلوّ وانحراف لكنّه يتضمّن كثيراً من الأسس والقواعد الصحيحة التي يُساء فهمها والاستنتاج المتعلق بها، ويحمل أعضاء هذه الجماعات دافعاً فكرياً وعقيدياً قوياً تجاه تطبيق ما يدعون إليه ويعتقدون بصحته، وستكون المواجهة بعنف وسيلة غير مجدية، وربّما تزيد هذه الجماعات تمسكاً بقناعاتها وآرائها وتزيدها تطرّفاً وعُنفاً، ولكنّ الحوار الفكريّ المتواصل مع قادة وأعضاء هذه الجماعات سيؤدّي إلى التّصحيح، ويحرم التطرّف والإرهاب من روافده الأساسيّة من الشباب المتحمّس حسن النيّة الذين يبحثون عن الصواب، وقد يخطئون في طريق الوصول إليه (...وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)[الكهف: من الآية104].
لقد ثبت بالفعل أنّ أفراد الأمّة وجماعاتها ومؤسّساتها يعيشون في غياب كبير عن التفاهم والاتصال فيما بينهم ويلاحظ دائماً أنّ الفرقاء لا يستمعون إلى بعضهم، وحين يُتاح لهم النقاش والحوار وتبادل الآراء يتبين أنّ مساحات الاختلاف ضيّقة ومحدودة، ويمكن محاصرتها أو استيعابها.(13/104)
وأخطأت الحكومات خطأ شنيعاً باستجابتها للتيار العلمانيّ المتقرّب في النّظر إلى الفكر الإسلاميّ كله، والجماعات الإسلاميّة المعتدلة على أنّها محضن الإرهاب والتطرف، ومن ثمّ فقد اتجهت حكومات ومراكز قوى إلى محاصرة الفكر الإسلاميّ كله، ووضعه مع التطرّف والإرهاب في سلّة واحدة، ومحاربة الجماعات والتيارات الإسلاميّة العريضة في المجتمع والمعتدلة، ووضعها مع الجماعات المتطرّفة والإرهابيّة في سلة واحدة، فهي بذلك وضعت نفسها في مواجهة المجتمع الذي يغلب عليه التديّن وينتمي إلى جذوره الإسلاميّة، وأضفت صفة شرعيّة على الجماعات المتطرّفة، وجعلتها ترقى إلى مستوى التيار الإسلاميّ العام والمتجذّر في المجتمع بدلاً من أنْ تكون معزولة ومحاصرة.
ويقترح أخيراً د. "أبو المجد" قائمة من شروط النهضة الإسلاميّة للتكيّف المحسوب مع حقائق العصر تكيّفاً محكوماً بالثوابت الأخلاقيّة المستمدّة من أصول الثقافة العربيّة الإسلاميّة، وذلك بتفعيل القواعد والأفكار الإسلاميّة الحضاريّة التي تصلح إطاراً جامعاً للمسلمين والناس جميعاً، مثل: حرّية الفكر والرّأي، والإلحاح على القضايا المشتركة مع الأمم والناس جميعاً، وتصحيح علاقة المسلمين بسائر الأمم والشعوب وتواصلهم مع سائر الحضارات والثقافات، وتوظيف الأدوات التي اشتمل عليها الإسلام لتحقيق الاستجابة مع تغيّر الأمكنة والأزمنة والأحوال، والاهتمام بالجوانب الإسلاميّة التي استحدث الناس منها ألواناً وصوراً لم تكن معروفة للفقهاء الأوائل أو كانت أصولها معروفة لديهم ولكن صورها المعاصرة صارت تحتاج إلى فقه جديد والكفّ عن تضخيم جوانب صارت معروفة لكل المسلمين (كالعبادات) أو أخرى يحيا ويموت معظم المسلمين دون أنْ يتعاملوا معها (الحدود والجنايات).
ويدعو إلى التيسير في الفتوى تخفيفاً عن الناس ومراعاة الأولويات عند مخاطبة الناس، ووضع النظم والتشريعات، والاستئناس بتجارب الأمم الأخرى، والالتفات إلى قيمة الحريّة في الحياتين: السياسيّة والثقافيّة، والكفّ عن تصوّر الخلافة الإسلاميّة صورة محدّدة من صور الحكم غابت بسقوط الخلافة العثمانيّة، فالعبرة بمبادئ العدل، ومسؤوليّة الحكام وتقيدهم بالقانون، واستمداد التشريعات من مبادئ الشريعة الإسلاميّة، واحترام حقوق الإنسان وحرّياته، وأمّا ما عدا ذلك فترتيبات وتراكيب يجتهد المسلمون لإقامتها بمثل ما يجتهد غيرهم.
وقد ساهم في هذا التحوّل المتسارع وبخاصّة في السنوات العشر الأخيرة ظهور تحالف ثلاثي جديد من الغرب أولاً الذي يرى في الإسلام عدواً بديلاً للشيوعيّة وخطراً يهدّد المصالح الغربيّة ومنافساً للحضارة الغربيّة والحكومات ثانياً التي سيطرت على أكثرها رؤية ومنهجيّة أمنيّة غلبت منهج الساسة العقلاء والحكماء، ولا ترى طريقاً للعمل سوى العقاب وعدم الحوار والتفاهم، ونُخَب العلمانيّين ثالث من الكتاب والمثقّفين والسياسيّين الذين تهدّد الصّحوة الإسلاميّة مصالحهم ومكاسبهم وشهواتهم.
وساهم في ذلك أيضاً ظهور الجماعات التي ترفض مجتمعاتها، وتتّهمها بالكفر والجاهليّة، وتورّطها في أعمال عُنف عشوائيّ ضدّ المجتمع والغرب، وعزّز ذلك الاعتقاد والتحليل الذي يرى أنّ العمل الإسلاميّ والفكر الإسلاميّ يحمل بذور العنف والتطرّف حتى في صيغته المعتدلة.
الحركة الإسلاميّة وقياداتها الواعية المعتدلة تملك المبادرات، ومفتاح حلّ الأزمة الناشبة مع الغرب والحكومات والتيارات العلمانية، وذلك بتحديد حاسم لمنهجها ورؤيتها نحو العنف، والتكفير بوضوح يميّز بينها وبين تلك الجماعات، وبإعلان واضح ومفصل ومؤصّل لمواقفها السياسيّة والفكريّة تجاه الديمقراطيّة والتعدديّة والأقلّيات والمواطنة والمرأة، والحرّيات العامة والسياسيّة والتوسّل بالعُنف لأجل الوصول إلى الحكم.
إنّ المستقبل القريب يؤشّر على تنامي الاتجاه الإسلاميّ في الشعوب والمجتمعات إلى درجة تؤكّد أنّ الإسلام هو طابع الحكم والإدارة في العالم العربيّ والإسلاميّ وقد يكون ذلك بالحركات الإسلاميّة القائمة اليوم أو بدونه
===============(13/105)
(13/106)
العلمانيّة وانكشاف الأجندة الخفيّة
أنور بن علي العسيري 23/6/1425
09/08/2004
في حراكنا الإعلاميّ والثقافيّ المحليّ يلحظ المتابع المحايد روابط تكاد تشكّل حلقة واحدة متّصلة رغم تقطّع مراحل ظهورها، وتنوّع وسائل التعبير عن نفسها.. الأجندة الخفيّة التي تحالفت وتناغمت في معزوفة ذات رؤية مرحليّة واستراتيجيّة واحدة؛ تكشف عُريها عبر الأعمدة الصحفيّة الناريّة التي تقذف حمم مهاجمة الصالحين، ومحاولة تهديم بيوت الدّعاة، وَ وَصْم المخيّمات الدّعويّة الشبابيّة بتفريخ الإرهاب، وإلصاق تهم التكفير والتفجير بمراكز الشباب الصيفيّة، ودعوة المسؤولين إلى الأخذ بيد الحزم سلاحًا للوقوف ضد تنامي الدّعوة ومحاولة توجيه الناس للخير.. والعذر العلمانيّ لديهم هو أنّنا مجتمع مسلم مئة في المئة ولا نحتاج مزيدَ إسلام!!
ويتوّج كل هذه الهجمة المفتعلة من تيار القلّة الشّاذة عقد ندوة هنا أو مؤتمر هناك؛ لتوجيه أصابع الاتهام(الخفيّ) إلى الدّعاة بتكريس وترسيخ منهجيّة أداء العنف في عقل شباب الصحوة التاريخي.
هي حملة شرسة قطفت من ثمار التفوّق المادي الأمريكيّ العالميّ تفوّقها الوهميّ
تنكئ على معطى خارجيّ، وتنظر إلى أيّ تقدّم تناله دولة المركز الليبرالي متنفسًا لها لتدعيم وجود صوتها في مجتمعنا.
ومنذ أنْ حلّت كارثة العلمانية في عقول بعض أبنائنا الذين انتقلوا الى الغرب لتعلّم التطوّر التقنيّ فانسلت ونتيجة لظروف غيابهم عن الدين منذ نشأة الكثير منهم وماكان يعيشه مجتمع النشأة من تخلّف ماديّ قياسًا بهول صدمة التفوق الحضاريَّة منذ حلول هذا الداء الإقصائيّ في هذه العقول وفكر تحطيم الدين في قلب المجتمع المسلم هو الفكر الرائج، والذي يراهن عليه هذا التيار لهزيمة فريق الاستمساك بالثوابت الأصيلة، والتي يُنظر إليها على أنّها بوابة الماضي الذي يجب إهماله للدخول في عالم الحداثة العالميّة.
هذه الرؤية شغلت في إطار الوضوح الرقم صفر..لأنّها علمت يقينًا بقوّة الدين في تشكيل حياة المجتمع ما جعلها تهرول نحو منابر الإعلام تتسربل برداء حبّ الدين وتسعى زاحفة إلى هدمه من الخلف..عاشت هذه الأقلام سنين تتدثر بهذا الأداء (الخفيّ)منهج حياة تؤسّس على قاعدته مزيدًا من تهيئة العقول الشّابة، واختراق الصف إلا أنّها فشلت فشلا ذريعًا في تكوين قاعدة مجتمعيّة، أو تجسيد نموذج حداثيّ علمانيّ صالح للحياة في وسط مجتمع إسلاميّ يمجّد القدوة الشرعيّة ويحتفي بها طريقًا للحياة.
ورغم انهزامها إلا أنّ ظروف التغيّر العالميّ فتح مسار التعبير الأكثر وضوحًا لهذه الفئة الضّالة للاستقواء بالأجنبيّ، واعتباره قادرًا على إحداث التغيير المستقبليّ المنشود وفق خططهم لعلمنة أرض الحرمين متى هجم هذا التصوّر الغربيّ بقوّة مادّته وسطوته العالميّة على وطننا الإسلاميّ الحرّ
وتعتبر الكتابات الصحافيّة التي انتشرت في أصقاع الصفحات هذه الأيام نموذجًا يسجل لحظة تاريخيّة في حياة مجتمعنا المسلم على مدى ارتباط هذا الفكر بالسيد الغربيّ!وعلى مدى التناسب الطّرديّ بين الشهرة وتخريب قيم المجتمع، فكلما نزع قلم إلى نزع حياء المجتمع وضرب قيمه كلما ازدادت شهرته، وبزغ نجمه في الإعلام المحتكر من قبل سلاطين الفكر الاقصائي المستغرب والأمثلة والشواهد كثيرة.
قلم : يبارك قرار تخفيض عدد المخيّمات الصيفيّة باعتبارها مراكز تفريخ الإرهاب والبديل الاحتفاء بنجوم الفنّ، وفتح أماكن للتطعيس وملاهي للرقص حتى ينجو المجتمع من تطرّف رجال الدّين!
قلم آخر: يقفز إلى الوراء بعيدًا وهو يخاطب المسؤولين من موقع مسؤوليته الصحافيّة، وخوفه على أبناء وطنه من التطرف بالحزم في وجه الدعاة المتجولين الذين يجوبون القرى والهجر يحملون بضاعة لا اله إلا الله محمد رسول الله.
يدعو هذا القلم إلى منع هؤلاء وتحديد أسماء رسميّة محدّدة للظهور في الإعلام بدل فتح المجال لكلّ داعية؛ فمجتمعنا مسلم عن بكرة أبيه ولا يحتاج مزيد إسلام !
قلم ثالث: يتوجّع من حال وطنه الذي استشرى في جسده نور الدين!! تنتشر مراكزه الصيفيّة في كل مكان، وتحلّق في أجوائه المخيّمات الصيفيّة، ويطالب بالتحديث وتغيير نظرة المجتمع للحياة، وزرع البسمة بدل اقتطافها، وذلك لا يتمّ إلا بمشروع مبارك لاحياء مزيد من الحفلات الموسيقيّة وفتح المجال أمام المرأة لمنافسة الرجل في عمليّة اختلاط لا تجد من ورائها أيّ فرصة حقيقيّة لبناء سوق عمل سعوديّ منتج بقدر ماهي دعوة لإحلال الفساد وتطبيع الانحراف في مجتمع آمن لم ير ولم يسمع من قبل شذوذًا بمباركة أبنائه!
أقلام تنحدر من أعلى قمم المسؤوليّة الأخلاقيّة تهوي بالأمة ألف خريف وهي لا تدري..وأصوات تعالت حاسرة عبر الفضائيّات التي انتشرت انتشار النار في الهشيم لتفتح لهم (وبأموالنا) منافذ تأثير لم تحلم بها عقولهم القاصرة عن فهم أيّ شيء.(13/107)
هاهم يمتطون كراسي التقديم والإعداد ليعلنوا عن هجومهم الرامي إلى إلصاق تهمة التطرّف بفكرنا الديني،ّ وتوزيع الجرائم على المجتمع كل وفق تخصصه؛ فهذه الفئة تقتل إبداع النساء، وأخرى تحرمها من الميراث، وثالثة تمنعها من العمل، ورابعة تعتبر التحدّث عن الاعتدال سلوك غير طبيعي ينتهزه رجال الدعوة لعبور نفق الإرهاب ناسية أو متناسية أنّ الإسلام دين الاعتدال، وأنّ علماءنا ودعاتنا أهل منهج الوسطيّة عقيدة لا تملّقًا وتقية!!
ومتجاوزين التاريخ الإسلاميّ العتيق الذي نزل وحيًا من السماء، وانتقل انطلاقًا من ارض الحرمين الشريفين مشكّلا أبناء هذه الجزيرة قدوات يتطلع إليهم الجميع منذ فجر التاريخ الإسلاميّ.
إنّ هذه الدعوات تهدف (إضافة إلى علمنة البلاد) إلى محاولة تحطيم القدوات الإسلاميّة التي يتقدمها أبناؤنا من علماء ودعاة إجلاء في صفوف المواجهة الحضاريّة الإسلاميّة مع الآخر إلى تقديم نماذج جديدة من القدوات المحليّة للعالم الإسلاميّ .. الرذيلة وطنها، والإسلام خصمها فتحلّ بارتفاع أسهم هذه النماذج نكبة كبرى في عالمنا الإسلاميّ عن بكرة أبيه؛ إذْ بانهيار المركز تتفتّت الأطراف.
دعوات خطرة وغايات هرمة وانتهازية مقيتة ومحاولات تصفية حسابات بالية في موطن يعيش أزمة وتربص شديدين ينبغي على من ملك فكرا نيرا أو قلما طيعا أن يدرك خطورة المرحلة وإسلامية هذه البلاد التي حباها الله بالحرمين الشريفين فذلك اعز وأنقى من لخضوع لولاية الغرب وحجز مقاعد التبعية الحداثية لمن يريد محاربة دين هذه البلاد والاعتداء على مقدساتها
=============(13/108)
(13/109)
البديل الإسلامي في مجال الإعلام
د. عبد القادر طاش 15/2/1425
05/04/2004
تتميز رسالة الإسلام بأنها منهج شامل للحياة بامتدادها الدنيوي والأخروي: (قُل إنَّ صَلاَتي ونُسُكِي ومَحْياي ومماتي للهِ ربِّ العالمين، لا شَريكَ له وبذلك أمِرتُ وأنا أوَّل المُسلمين) (سورة الأنعام : 162 - 163). ولقد اعتورت المسلمين في حياتهم الحاضرة أسباب الضعف والتفكك، وعوامل الانحراف والتفلت حتى ذبل في نفوسهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي ذلك التصور الشمولي للإسلام باعتباره منهجاً للحياة، ودستوراً لحركة الإنسان والمجتمع في هذا الكون.
ولعل من نعمة الله علينا - نحن المسلمين - أن تشهد الساحة الإسلامية في الآونة الأخيرة صحوة إسلامية مباركة، تنطلق من الإحساس بالحاجة إلى تطوير مناهج الإصلاح في حياة المسلمين، بما يتوافق مع أصالة المنهج الإسلامي باعتباره صالحاً لكل زمان ومكان أولاً، وبما يستوعب متغيرات المرحلة الراهنة التي يعيشها المسلمون ثانياً، وبما يتواءم مع الاستجابة الواقعية المبصرة للتحديات التي تواجه التطبيق العملي المتكامل للمنهج الإسلامي في واقع الحياة المعاصرة أخيراً.
وإن من المنطق - ونحن نشهد هذه الصحوة المباركة - أن ننادي بتحويل الإحساس بالحاجة إلى شمولية الإصلاح، وتكامل التطبيق للمنهج الإسلامي، إلى برنامج عمل واضح المعالم، مفصل الجوانب، يقدم البدائل الإسلامية في مختلف مجالات الحياة.
وتكتسب المطالبة بإيجاد البديل الإسلامي في ميدان الإعلام - بجانبيه النظري والتطبيقي - أهمية بالغة لما تتمتع به وسائل الاتصال الجماهيرية اليوم من مكانة خطيرة في توجيه عقليات الجماهير، وتشكيل سلوكياتها في الحياة، في عالم تحول إلى (قرية كونية)، قصرت وسائل الاتصال الالكترونية المسافات بين أجزائه، وربطت شبكةً معقدة من الاتصالات بين دوله وشعوبه، بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية كله.
إن وسائل الاتصال الجماهيرية تعد اليوم الجهاز المركزي الذي يوجه الفرد والمجتمع، ولذلك فإنَّ صياغة منهج للإعلام الإسلامي يعمل على سد الفراغ الهائل في منظومات المنهج الإسلامي ليعتبر ضرورة ملحّة، حتىّ يمكن بلورة أنموذج جديد للإصلاح الإسلامي يقوم على الشمول والتكامل والواقعية.
وهذه الإضاءات المتواضعة محاولة لطرح بعض التساؤلات الحيوية حول الإعلام الإسلامي، ومفهومه، ودوره ومسؤوليته، في وقتٍ نحن في مسيس الحاجة فيه إلى جلاء صورته، وتحديد معالمه، والكشف عن كنوزه وذخائره، والتخطيط من أجل تحويله إلى واقع حيّ، يتعانق فيه القولُ مع العمل، وتتلاحم فيه النظرية بالتطبيق. وتتركز الإضاءات التي أحاول تسليطها حول ثلاثة تساؤلات هي:
- لماذا نحتاج إلى الإعلام الإسلامي؟
- وما الإعلام الإسلامي الذي نريد؟
- وكيف نصل إلى الإعلام الإسلامي؟
لماذا الإعلام الإسلامي؟
إنَّ المطلب القّيم لا بد أن تتوافر له مبرّرات قوية ومقنعة، تسّوغ تبنيه بإخلاص، وتدفع إلى الدعوة إليه بإلحاح، وتقوي العزائم في سبيل تحقيقه في الواقع بلا توانٍ أو هبوط. وتستند المطالبة بأسلمة الإعلام وصياغته صياغة إسلامية إلى مبررات ثلاثة هي:
1- المبرّر المنطقّي:
لقد جاء الإسلام - كما ذكرنا سابقاً - ليكون منهجاً شاملاً للحياة كلها بجميع جوانبها ومجالاتها. وقد رسم الإسلام للإنسان معالم لنظمه الاجتماعية المختلفة، لتتوافق هذه النظم مع الغاية الرئيسة لوجوده، وهي استخلاف الله له في الأرض لعمارة الكون وفق منهج الله وتحقيق عبادته وحده.
وارتباط المسلم بإسلامه ليس ارتباطاً عاطفياً روحياً فحسب، بل هو - إلى جانب ذلك - ارتباط واقعي عملي من خلال تطبيق شرائع الإسلام وهديه وتعاليمه السامية وتوجيهاته الربانية في مجموعة من النظم الإسلامية التي حكمت حياة المسلمين في شؤونهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمدنية والعسكرية.
وعندما ضعف التزام المسلمين بمبادئ دينهم، وتكالبت عليهم القوى الاستعمارية التي استهدفت خلخلة التصور الشمولي للإسلام وتطبيقه في حياتهم، تحوّل ارتباط معظم المسلمين بالإسلام في العصر الحاضر إلى مجرد ارتباط عاطفي محدود، يكتفي فيه المسلم بإقامة شعائره والتعبديّة، وتزكية نفسه بالرياضيات الروحية والأخلاقية الفردية. وقد نتج عن هذا المفهوم المغلوط لحقيقة الالتزام الإسلامي أن حفلت حياة المسلمين بصور الازدواجية والتناقض بين الارتباط العاطفي بالإسلام في ميدان العباد والأخلاق الفردية، وبين الارتباط العلمي الواقعي بالمذهب المناقضة للإسلام في ميدان النظم والتشريعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
إنّ حياة المسلمين المعاصرة لن تتحقق لها الصبغة الإسلامية إلا عندما ينسجم ارتباطها العاطفي بالإسلام في الجانب العقدي والروحي والفردي مع ارتباطها العلمي والواقعي بالإسلام في الجانب التشريعي والتنظيمي. ومن هنا تكتسب الدعوة إلى صياغة المعارف والنظم في حياة المسلمين صياغة إسلامية أهمية بالغة. بل إنَّ تحقيق هذا الهدف يعتبر التحدي الحقيقي الذي ينبغي على الأمة الإسلامية أن تواجهه في وقتها الراهن.(13/110)
ويعتبر الإعلام فرعاً مهماً من فروع المعرفة العلمية والتطبيقية، التي تحتاج إلى العناية بتأصيل مفاهيمها ومناهجها وتهذيب أساليب وطرق ممارستها الواقعية وفقاً لهدي الإسلام وتوجيهاته. وتتعاظم أهمية صياغة النظام الإعلامي: فلسفة وغاية ومنهجاً وممارسة، صياغة إسلامية في ضوء إدراكنا لأهمية الإعلام في حياة المجتمعات، وخطورة ما يقوم به في التأثير على الأفراد والجماعات سلباً كان هذا التأثير أو إيجاباً.
إنَّ المبرر المنطقي للمطالبة بصياغة الإعلام صياغة إسلامية، يؤكد على أن هذه الصياغة نتيجة منطقية لشمول المنهج الإسلامي وتكامله.
2- المبرّر الواقعي:
يواجه المسلمون اليوم في مختلف أقطارهم ومواطنهم غزواً فكرياً وثقافياً وحضارياً رهيباً. ولم يَعُد هذا الغزو الحضاري الشامل مقصوراً على الوسائل التقليدية للغزو من كتب استشراقية، أو مذاهب هدّامة، أو مؤامرات استعمارية مكشوفة. لقد انتهى عصر الغزو الاستعماري الاستشراقي المباشر. إن الغزو الحضاري الذي تواجهه الأمة الإسلامية يستخدم وسائل جديدة، وأساليب جديدة. إن الرسالة الغازية تعبر إلى الأجيال الصاعدة، بل إلى العقول المثقفة، عن طريق الخبر الذي تبثه وكالة الأنباء، والتحليل السياسي، أو الاقتصادي الذي تكتبه الصحيفة والصورة التي ترسلها الوكالات المصورة. والرسالة الغازية تعبر إلى العقول المثقفة عن طريق الفيلم التلفازي المدهش، وعن طريق شريط الفيديو، وعن طريق البرنامج الإذاعي المشوق. والرسالة الغازية تعبر إلى الأجيال الصاعدة عن طريق فيلم الكرتون المتقن. والرسالة الغازية تعبر إلى العقول المثقفة والأجيال الصاعدة عبر النظريات المدسوسة في مناهج التربية والتعليم، معللة بدعاوى العلم والتقدم والاكتشافات الحديثة !!
ولقد أعجبتني كلمة معّبرة لأحد المثقفين يقول فيها: ( إن الغزو الثقافي الخطر اليوم لم يَعُد يأخذ صورة مبشَّر في كنيسة يُقنع ( المحلّيين الهمج ) باعتناق ( ديانة متحضرة) وإن كانت النشاطات التبشرية في بعض أنحاء العالم الثالث لا تزال مصدر تهديد ثقافي لا يستهان به، والغزو الثقافي الخطر اليوم يَعُد يتخذ شكل مؤامرة استعمارية تستهدف تشكيك شعب ما في تاريخه وأخلاقه وديانته، وإن كان الحديث لا ينقطع عن مؤامرات كهذه، حقيقية أو وهمية. إن أخطر ما في الغزو الثقافي المعاصر أنه أصبح ذا دافع ذاتي تلقائي، يتم دون مجهود من الجهات الغازية، ويتم دون أن يدرك ضحية الغزو أنه معرض لأي خطر، فيقدم، في حماسةٍ وبلاهة، لا على قبول الغزو فحسب، بل إلى اعتناقه واحتضانه. هنا مكمن الخطر).
إن هذا الغزو الحضاري الرهيب يعمل على زعزعة مبادئ الإسلام وقيمه وهدم أخلاقياته ومثله في نفوس أبناء المسلمين لينشأوا في غُربةٍ عن دينهم وحضارتهم وتراثهم، ويصبحوا فريسة سائغة للأفكار الغربية ونمط الحياة الغربية بكل ما فيها من انحرافات ومفاسد وأوبئة. ولقد وصل هذا الغزو إلى منازلنا ولم يعد أمامنا مفر من مواجهته، المواجهة الصحيحة التي لا تكتفي بالتنديد والصراخ والدعاء بالويل والثبور، بل بتطوير استراتيجية مُحكمة تعتمد على هدفين :
الأول: توجيه الإعلام في الدول الإسلامية نحو الأصالة والذاتية النابعة من قيم الإسلام ومبادئه، وتوفير الجو الملائم والدعم المناسب لصنع البدائل الإسلامية التي تقف في مواجهة ما يقدمه الغرب.
والثاني: تنقية الإعلام - إلى جانب التعليم - من المؤثرات الغربية العلمانية والإلحادية، وتفنيد ما تقدمه وسائل الإعلام الغربية من مفاسد وانحرافات وبيان عوارها وتهافتها بمنطق مقنع وبوسائل مكافئة.
وهذه المواجهة الواقعية للغزو الفكري والثقافي في صورتها الشاملة المتكاملة المتكافئة لن تتحقق إلاَّ عندما تتبلور في أذهان المسلمين الصورة الحقيقية للإعلام الإسلامي، وتتوالى معطياته الواقعية وثمراته العملية في واقعهم المعاصر، إذ لا يمكن أن يهزم الباطل الزائف إلا الحقُّ الأصيل: ( بَل نَقذفُ بالحَقِّ الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فإذا هُوَ زاهِقٌ ) ( الأنبياء: 18).
3- المبّرر الإنساني:
وسائل الإعلام، لسان هذا العصر. وقد أدرك أصحاب الديانات والمذاهب والأفكار أهمية استغلال هذه الوسائل في سبيل إيصال أفكارهم وعقائدهم ومذاهبهم إلى الناس. وكان النصارى الصليبيون أكثر الناس إدراكاً لهذه الأهمية، وأسبقهم إلى استخدامها في مجال التنصير.
وفي الوقت الذي ينشط فيه أصحاب الديانات المحرّفة والمذاهب الفاسدة لاستغلال وسائل الإعلام لخدمة أغراضهم، نجد المسلمين غائبين عن الساحة الإعلامية إلاّ بعض جهود محدودة لا أثر لها.
والبشرية اليوم قد سئمت من الدين المحرّف، وانصرفت عن المذهب الفاسد، وهي تعيش ضياعاً وقلقاً واضطراباً. وقد أثقل كاهل الإنسانية في وقتها الراهن كابوس الإلحاد والعلمانية، والفساد الخلقي، والظلم والاستبداد السياسي، والاستغلال الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي، وتعالت الصيحات تبحث عن مصدر للأمان والعدالة والحياة الكريمة، فأين سيجدون كل ذلك إلاّ في الإسلام ؟!!(13/111)
إن البشرية اليوم بحاجة إلى الإسلام أكثر من أي وقت مضى. والمسلمون مطالبون - وفقاً للتوجيه الإسلامي بمخاطبة الناس بلغتهم ووسائلهم- بأن يستخدمون وسائل الاتصال والإعلام في سبيل الدعوة إلى الإسلام، وتوضيح صورته الناصعة، وإبراز محاسنه وثمراته للناس في كل مكان. إنَّ تبليغ رسالة الإسلام العالمية، وإيصال دعوته إلى البشرية كلها مبّررً إنساني عظيم للدعوة إلى صياغة الإعلام صياغة إسلامية حتى يمكن أن يؤدي هذا الإعلام دوره في الحياة الإنسانية.
ما هو الإعلام الإسلامي الذي نريد ؟
تختلف نظرات الناس حول الإعلام الإسلامي ما بين النظرة الجغرافية، والنظرة التاريخية، والنظرة الواقعية التجزيئية. فالنظرة الجغرافية تفهم الإعلام الإسلامي على اعتبار أنه الإعلام الصادر من دول العالم الإسلامي، أو الجهات التي تنتسب إلى الإسلام. وتكاد هذه النظرة أن تكون النظرة السائدة في الدراسات الأجنبية عن الإعلام الإسلامي. ولذل تصنف هذه الدراسات إعلام الدول التي تقع في إطار العالم الإسلامي ضمن الإعلام الإسلامي بمفهومه الجغرافي الرسمي، دون تمييز في المنهج أو الغاية أو الممارسة.
والنظرة التاريخية للإعلام الإسلامي تكاد تحصر الإعلام الإسلامي في إطار زمني ضيق، فتوحي بأن الإعلام الإسلامي مفهوم تراثي، وممارسة محدودة في فترة زمنية معينة، مثل تلك الدراسات التي تتناول الإعلام ووسائله في عهد النبوة أو الخلفاء الراشدين.
أما النظرة الواقعية التجزيئية للإعلام الإسلامي، فتستند إلى صورِ الممارسة الواقعية لبعض جوانب الإعلام الإسلامي المحدودة، وتفهم هذا الإعلام باعتباره إعلاماً ( دينياً متخصصاً ). ولذلك يغلب على من ينحو هذا المنحى أن يفهم الإعلام الإسلامي في حدود الصفحات الدينية، وركن الفتاوى، والخطب المنبرية، في الصحافة اليومية، أو في حدود تلك الصحف والمجلات التي تسمّى نفسها بالإسلامية، أو في حدود البرامج والأحاديث الدينية في الراديو، أو في حدود البرامج والأفلام والمسلسلات التاريخية والدينية، التي يشاهدونها عبر الشاشة التلفازية أو السينمائية !!
ورغم أن هنالك بعض جوانب الصحة في هذه النظرات المختلفة للإعلام الإسلامي، إلاً أنها لا تعبر عن حقيقة الإعلام الإسلامي بشموله وتكامله، ولا تمثل جوهره الأصيل، وخصائصه النظرية والتطبيقية. فالنظرة الجغرافية توهم الإعلام الصادر من دولة مسلمة يكتسب الشرعية الإسلامية بمجرد انتسابه إلى الدولة المسلمة، دون اعتبار لغاية ذلك الإعلام ومنهجه، ودون اعتبار لمضمونه وأساليب ممارسته. والمؤسف أن واقع الإعلام المعاصر في كثير من دول العالم الإسلامي لا يصور أبداً حقيقة الإعلام الإسلامي. والتحليل العلمي الموضوعي يكشف لنا أن كثيرا من منطلقات الإعلام، ومضامينه، وأساليب، ممارسته، وقواعد تنظيمه في كثير من الدول المسلمة يسير في ركب التقليد والتبعية للأنماط الغربية أو الشرقية في الإعلام، ويفتقد الهوية الإسلامية الواضحة !!
والنظرة التاريخية للإعلام الإسلامي، نظرة قاصرة، إذ تحجّم هذا الإعلام وتصوّره على أنه إعلام تراثي عتيق، ينفصل عن الواقع، ويبتعد عن معالجة قضايا العصر والاستفادة من معطياته ومنجزاته. والحقُّ أن الإعلام الإسلامي ليس مرتبطاً بفترة زمنية، وليس محدوداً ببقعة مكانية محدودة، بل هو منهج يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويحمل في طياته بذور الملائمة لكل زمان ومكان.
أما النظرة الواقعية التجزيئية للإعلام الإسلامي، فهي نظرة مجحفة، غير منطقية، وهي مثل سابقتيها تحجم هذا الإعلام، وتفصله عن الواقع، وتخصّص له جزءاً محدودا من النشاط الإعلامي الحافل. وهذه النظرة ذات أثر خطير في حياة المسلمين، لأنها تفصل الإعلام بنشاطاته الواسعة وممارساته المتنوعة، عن الهدى الإسلامي،ن وتكتفي بتحكيم الإسلام في جزءٍ من النشاط الإعلامي، ثم لا تبالي أن يناقض الإعلام مبادئ الإسلام وأخلاقه ويتعدى حدوده وضوابطه في الأجزاء الأخرى التي يطلق عليها ( الإعلام العام ) !! وكأن هذا المفهوم يقترب من المفهوم الغربي العلماني في فصل الدين عن الحياة، واعتبار الدين شأناً فردياً وعقيدة مكنونة، يخصص له جزء من النشاط الإنساني، ولا سلطان له على الواقع، ولا هيمنة له على الحياة الاجتماعية ونشاطاتها العامة.
إنَّ المفهوم البديل، بل المفهوم الحقّ للإعلام الإسلامي هو المفهوم المنهجي، الذي لا يجعل مقاييس إسلامية الإعلام مبنية على أساس الحدود الجغرافية والمكانية، أو الوضعية التاريخية المحدودة، أو الممارسة الواقعية الخاطئة للإعلام في الحياة، بل يبني تلك المقاييس والمعايير على أساس المنطلقات الرئيسة والأطر الفكرية والاجتماعية والإنسانية المنبثقة من روح الإسلام وتصوراته الكلية وقيمه السامية، وعلى أساس الضوابط الشرعية التي ينبغي أن يسير الإعلام على هدي منها، ويلتزم بها في نشاطاته المختلفة وممارساته الواقعية.(13/112)
إن الإعلام الإسلامي - بهذا المفهوم المنهجي - روح تسري في النشاط الإعلامي كله، تصوغه، وتحركه وتوجهه منذ أن يكون فكرةً إلى أن يغدو عملاً منتجاً متكاملاً، مقروءاً كان أو مسموعاً أو مرئياً. وبذلك يصبح الإعلام الإسلامي منهجاً قويماً تسير وفقه جميع النشاطات الإعلامية في كافة الوسائل والقنوات دون أن يحيد نشاط واحد منها عن الطريق، أو يتناقض مع النشاطات الأخرى سواء في الوسيلة الواحدة أو الوسائل المتعددة. وبذلك - أيضاً - يصبح الإعلام الإسلامي حكماً موضوعياً تتحاكم إليه جميع هذه النشاطات الإعلامية ثم لا يجد نشاط منها حرجاً في التسليم لحكمه والإذعان لتوجيهه.
وفهم الإعلام الإسلامي بهذه الصورة الشاملة، ينسجم مع الحقيقة الأصلية لهذا الدين، وهي أنه منهج شامل للحياة، وليس منهجاً جزئياً يعالج جانباً من جوانب الواقع الإنساني، ويهمل الجوانب الأخرى. وهذا المفهوم للإعلام الإسلامي، يحقق في حياة الأمة الإسلامية على الدوام الاستقرار والتوازن، ويخلصها من آثار الازدواجية والتناقض والصراع التي تعاني منها الأمة، كلما ابتعدت عن منهج الله. والنشاط الإعلامي المعاصر يعاني من هذه الأمراض الخطيرة، حيث تجد الازدواجية والتناقض في الوسيلة الواحدة فضلا عن وجودهما في الوسائل المتعددة، حيث تستمع إلى برنامج ( ديني ) يحث على الفضلة، فيعقبه مباشرة برنامج آخر يغري بالرزيلة، أو أغنية ماجنة تزين السقوط بصورة مشوقة !! وتشاهد في التلفاز برنامج ( دينيا ) يبنى في نفوس المشاهدين معاني الرجولة والصلاح والخير، ثم لا تلبث أن تصدم في الوسيلة نفسها بفيلم مثير، ينقض كل ما بناه البرنامج (الديني ) ويهدمه!! والأنكى من ذلك أن يقدم البرنامج (الديني ) في أسلوب جاف وإخراج رتيب، فلا يجذب المشاهد ولا يجوز على رضاه، بينما يخدم الفيلم غير الديني خدمة فائقة، فيقبل عليه الصغار والكبار، ويتحلق حوله الشباب والشابات في رغبةٍ وحماس!!
ولو نظرنا إلى واقع النشاط الإعلامي والنظم الإعلامية في المجتمعات المختلفة التي لا تدين بالإسلام لوجدنا ذلك النشاط في مجتمع ينبع أصلاً من التصورات العقدية والأيديولوجية للمجتمع، وينطبع بالقيم والتقاليد والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة فيه، ولوجدنا أن النظام الإعلامي يخدم أساساً الغايات والأهداف البعيدة والقريبة التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها. فالإعلام في الدول الغربية ( اللبرالية ) العلمانية ينطلق من غايات المذهب ( اللبرالي ) العلماني، وفلسفته، ويروج بطرق مباشرة وغير مباشرة للنمط العلماني الغربي للحياة الذي يفصل الدين عن واقع الحياة، ويجمد الحرية الفردية، ويعلي من قيمة الأنانية، والإنجاز الشخصي، ويعمق روح المادية والاستهلاكية. والإعلام في الدول الشيوعية يصطبغ بفلسفة الأيديولوجية الماركسية، وينطلق من غاياتها، ويروج بطرق مباشرة وغير مباشرة للنمط الإلحادي الماركسي للحياة الذي يصور هذه الحياة بأنها صراع بين الطبقات، ويجعل الحزب ( ديكتاتورا ً) متسلطاً ومهيمناً على الناس، ويوظف الإعلام ليكون خادماً للسلطة ومجرد أداة لتحقيق رغبات الحزب وشهواته !!
وللإسلام - دون شك - فلسفته الإعلامية الخاصة به. وفي ضوء هذه الفلسفة المستقاة من المصادر الأصلية للمنهج الإسلامي، تتحدّد معالم النشاط الإعلامي داخل المجتمع الإسلامي وخارجه. ولقد وضع الإسلام أصولاً عامة وقواعد كلية لكافة جوانب العملية الإعلامية. ولكن هذه الأصول والقواعد مبثوثة في المصادر الإسلامية المتمثلة في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وفي اجتهاد فقهاء المسلمين وعلمائهم عبر العصور المتعاقبة. والإعلام اليوم غداً علماً منظماً. ولذلك فإن المسلمين بحاجة ماسة إلى صياغة منظومة إعلامية ذاتية لهم، تحدّد معالم الهدى الإسلامي في النشاط الإعلامي من حيث :
أ - فلسفته الأساسية، وإطاره الفكري العام المبني على التصوّر الإسلامي للكون والحياة والإنسان وغاية الوجود الإنساني.
ب - غايته الكبرى، ومنهجه الأصيل في تحقيق تلك الغاية.
ج - وظائفه العامة والخاصة، ومدى ارتباط هذه الوظائف بالحاجات الواقعية لأفراد المجتمع، ومقدار استجابته للظروف المحيطة بهم.
د - أساليبهُ وطرقه في تقديم المضمون إلى الناس، ومدى مراعاة هذه.
الأساليب لخصائص الجمهور المتلقي للرسالة الإعلامية، وكيفية تفاعله معه.
هـ- وسائله وقنواته المتنوعة سواء التقليدية منها والحديثة، وخصائص
الوسائل الخاصة بالإعلام الإسلامي والتي ينفرد بها عن غيره من المذاهب الإعلامية الوضعية كقنوات الاتصال الشخصي المنظم، وألوان الاتصال الجمعي والدولي المتميزة، وكيفية استثمارها وتوظيفها لخدمة أهداف المجتمع المسلم وغاياته.
و- نظمه وسياساته العامة والخاصة والأسس والضوابط التي يضعها الإسلام لتقنين تلك النظم وصياغتها، وترشيد السياسات الإعلامية التي يتبناها.(13/113)
وهذا العمل الذي يستهدف صياغة منظومة إعلامية إسلامية للمجتمع الإسلامي لن يتحقق إلا خلال اجتهاد عصري يقوم به علماء يمتلكون زاداً متيناً من العلم الشرعي، ويمتلكون أيضاً زاداً متيناً من العلم الإعلامي في جانبيه النظري والتطبيقي. ولا بد من أن يعتمد هذا الاجتهاد العصري على تلاحم عنصرين هامين هما:
أولاً: دراسة المصادر الأساسية للإسلام دارسة إعلامية علمية لاستنباط الأسس والقواعد التي تنظم العملية الإعلامية أو ترشد إليها. ويردف هذه الدراسة محاولة الكشف عن ذخائر التراث الإسلامي عبر العصور مما له صلة بالممارسة الإعلامية.
ثانيا: دراسة نتاج البحوث والدراسات والممارسات الإعلامية المعاصرة واستيعابها، ثم استلهام روح التشريع الإسلامي ونتائج الدراسة الإعلامية العلمية لمصادر الإسلام وتراث المسلمين للوصول إلى رؤية واضحة لما ينبغي أن يكون عليه الإعلام الإسلامي في الجوانب النظرية والتطبيقية التي ذكرتها آنفاً.
كيف نصل إلى الإعلام الإسلامي ؟
إنَّ تحقيق ثمرة هذا التصور النظري للإعلام الإسلامي، بشموله وتكامله، لن يكون إلاّ بمحاولة الإجابة على هذا التساؤل الملحّ: كيف نصلُ إلى الإعلام الإسلامي؟.
وفي تصوّري أنَّ الوصول إلى الإعلام الإسلامي يحتاج منّا العمل الدؤوب في أربعة ميادين رئيسة هي:
1- ميدان الإعداد والتأهيل البشري:
إنَّ أّهم الوسائل للوصول إلى تحقيق الإعلام الإسلامي في واقع الحياة وأنجعها هو إعداد الكفايات البشرية المتخصصة في الإعلام، وتأهيلها فكرياً، وخُلُقياً، وعملياً، ومهنياً. إن الإنسان هو العنصر الأول في إحداث أيّ تغيير مقصود. والعناية بإعداد الإعلاميين الإسلاميين، وتأهيلهم حتى يكونوا قادرين على تحمل هذه المسؤولية الضخمة، ليس أمراً سهلاً قليل التكاليف، بل هو عمل كبير، يتطلب منا جهوداً عظيمة وطاقات عديدة. إن الطبيب - وهو يطّبب الأبدان- يمر بفترة صعبة ومكثفة وطويلة من إعداد والتأهيل، فما بالك بالإعلامي، وهو المعلم، والمربي، والقائد، والموجه، وصانع الرأي في المجتمع ؟! إن مهمّته- ولا شك - أعظم، ومسؤوليته أكبر، فهو يطّبب النفوس، ويؤثر في العقول، ويسهم في صياغة مواقف الناس وسلوكهم. ومن ثم، وَجَبَ أن يكون تأهيلُه موازياً لهذه المسؤولية المنوطة به ولابدّ لإعداد الإعلامي الإسلامي وتأهيله من أن يتكامل المنهج العلمي والعملي في الجوانب التالية:-
أ - الإعداد الأصولي والفكري، حيث يتعرّف الطالب على الأصول العقدية والفكرية والتشريعية للإسلام من خلال مجموعة مختارة من المقررات الشرعية والفكرية في القرآن الكريم، والتوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والثقافة الإسلامية.
ب - الإعداد اللغوي والتذوقي، فاللغة وسيلة الإعلامي، بل هي وعاء الفكر والثقافة، ولذلك لا بد له من أن يدرس بعض المقررات في اللغة العربية نحواً وصرفياً وفقهاً، وأن يسعى إلى التمكّن في فنون القول، والبيان والأسلوب، والتعبير، والتذوق الأدبي.
ج - الإعداد التخصصي والمهني، وهذا الإعداد لا بد أن يتكامل فيه الجانب النظري والجانب العملي التطبيقي حتى لا تصبح دراسة الإعلام دراسة نظرية بحتة. ولا بد من اكتساب الطالب للمهارات العملية والمهنية المطلوبة منه في واقع الممارسات الميدانية.
د - الإعداد الثقافي العام، وهذا يتطلب الإلمام بالواقع الذي يعيش فيه، من حيث قضاياه ومشكلاته، وأحداثه، وتياراته، كما يتطلب الإلمام ببعض المعارف والعلوم المُعنية له على فهم هذا الواقع وتحليله، وهي علوم وثيقة الصلة بالإعلام كعلم النفس والاجتماع، والعلوم السياسية والاقتصادية، واللغة الأجنبية.
ولا بد من التأكد هنا على أن من مستلزمات هذا الإعداد الصارم للإعلاميين الإسلاميين، أن يخضع الطلاب الذين يقبلون في أقسام الإعلام لشروطٍ موزونة سواء في المجال العلمي أو الأخلاقي. ولا بدّ أن يتوافر فيهم الحدّ الأدنى من الموهبة، والاستعداد النفسي. كذلك لا بد من التأكيد على أن يتوافر لهؤلاء الطلاب في المحيط الأكاديمي جوّ من العلاقة الحميمة بينهم وبين أساتذتهم، المبنية على الثقة والاحترام والتهذيب التربوي والتوجيه الأخلاقي عبر القدوة الصالحة التي يجدها الطلاب في أساتذتهم وموجهيهم. ويعد الجانب التربوي والأخلاقي ذا أهمية بالغة في مجال إعداد الإعلامي الإسلامي نظراً للصعوبات الجمّة والتحديات العديدة والمغريات المتنوعة التي تصادف الإعلامي الإسلامي في حياته العملية.
2- ميدان التأصيل والتنظير العلمي:
ما يزال الاهتمام بتأصيل قواعد الإعلام وأصوله وممارساته من وجهة النظر الإسلامية، محدوداً ومتناثراً. والمطلوب أن يتصاعد الاهتمام العلمي بالإعلام الإسلامي تأصيلاً وتنظيراً، وأن يركز على النوعية. وينطلقُ هذا الاهتمام من خلال إنشاء ودعم معاهد ومراكز البحوث الإعلامية، التي تهتم بالإعلام الإسلامي، واستقطاب الباحثين والدارسين الذين يتميزون بالإخلاص والوعي الإسلامي، والخلفيَّة الشرعية، والاستيعاب العلمي للتخصص الإعلامي، إلى جانب تمتعهم بالمنهجية في التفكير، والتمكن من أساليب البحث العلمي ووسائله.(13/114)
ولعل من الأهمية بمكان أن تسير هذه الجهود العلمية التأصيلية وفق خطة مدروسة وتصّور سليم للأولويات، وأن تعتمد على أسلوب فرق العمل الجماعية بدلاً من الأعمال والاجتهادات الفردية المحدودة. ولا بد من أن تتوافر لهذا العمل التأصيلي العلمي إمكانية بشرية ومادية ملائمة، كما لا بد من توافر قنوات علمية تُسهم في تحريكه وبلورته وانضباطه كالندوات العلمية، والحلقات الدراسية، والمشايع البحثية، والمؤتمرات واللقاءات، التي تتلاقح فيها الأفكار، ويتبادل فيها الباحثون والدارسون الآراء، ويتناقشون فيها حول نتائج بحوثهم ومؤلفاتهم.
3- ميدان الإصلاح الواقعي :
والمقصود بهذا: الإسهام الإيجابي في إصلاح أوضاع المؤسسات الإعلامية القائمة في العالم الإسلامي، الرسمية منها وغير الرسمية، وتنقيتها من الشوائب وترشيد مسارها الإعلامي، سواء ببذل النصح والمشورة، أو دعم الأعمال التي تخدم الإعلام الإسلامي، أو المشاركة العلمية في تلك المؤسسات والهيئات في ميادينها القيادية والإنتاجية والتقويمية.
ويبدأ الإصلاح الواقعي بمحاولة إيجاد قنوات تواصل وتعاونٍ بين المهتمين بشؤون الدعوة والإرشاد والإعلام الإسلامي من جهة، وبين العاملين في المجال الإعلامي من جهةٍ أخرى، وذلك من أجل تضييق الفجوة بينهم. ولقد عانت الأمة من جرّاء انعزال العلماء وذوي الاتجاهات الإسلامية عن الوسائل الإعلامية، وعدم توثيق صلاتهم وعلاقاتهم بالعاملين في هذه الوسائل. وإنَّ السعي من أجل تنظيف الإعلام من الانحرافات والتشوّهات هدف نبيل ويحتاج إلى تحمل وصبر واقعي للظروف التي يعيش فيها الإعلام. وإنَّ انتهاج أسلوب التدرج في الإصلاح ضرورة لازمة في ضوء معرفتنا أنَّ كثيرًا من المفاسد والانحرافات التي تحيط بوسائل الإعلام قد استغرق نشرُها وتكريسها زمناً ممتداً، وإصلاحها أو تخليص الإعلام منها يحتاج إلى زمن ممتد أيضاً، وما أسهل الهدم وما أصعب البناء !!
ولا أعتقد أنَّ من الإيجابية في شيء أن ننساق وراء الدعوة إلى عدم الاستجابة لضغط الواقع في المطالبة بإنتاج البدائل الإسلامية، والغياب عن الساحة الإعلامية، بدعوى انتظار نضوج الرؤية النظرية للإعلام الإسلامي، أو بدعوى أن الإنتاج الإعلامي الإسلامي والمشاركة المحدودة في وسائل الإعلام القائمة لن تجد نفعاً خضم التيار الجارف، وأنها ستكون صرخة هائمة في وادٍ سحيق. إن هذا الاتجاه السلبي- في نظري- لن يحقق ما يصبو إليه المخلصون للإعلام الإسلامي. والجهود الصغيرة المتواضعة عندما تجتمع وتتراكم وتتواصل، لا شك أنها ستثمر -بإذن الله تعالى- ثمرات يانعة تفيد الناس وتبقى في المجتمع: ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرارٍ ) ( إبراهيم : 24-25).
4- ميدان الإنتاج العملي المتميز:
إنّ صناعة البدائل الإسلامية في مجال الإعلام بمختلف فنونه وضروبه وألوانه، تحتاج إلى المبادرة إلى إنشاء مؤسسات وشركات إسلامية للإنتاج والتوزيع الإعلامي في مختلف المجالات، من طباعة، وصحافة، ونشر، وتلفاز، وفيديو، وتسجيلات صوتية، وشرائح مصورة، وأفلام سينمائية وغيرها. وإنشاء مثل هذه المؤسسات يتطلب طاقات بشرية عديدة، ويتطلب تكاليف مادية ومالية باهظة. ولكن الاستثمار في هذا النوع من الإنتاج سيحقق مكاسب معنوية ومادية لا نظير لها.
ولكن ينبغي التنبيه إلى أهمية أن يتولّى مثل هذا الإنتاج العملي الإسلامي المميّز طاقات ذات إخلاص وتقوى، وأن يستعان فيه بأهل الخبرة والمعرفة وان تكون الأعمال المنتجة، متقنةً من حيث جوانبها الفكرية والفنية، حتى لا تشوّه الإنتاج الإسلامي البديل وتعطي صورةً سيئة عنه. ولذلك لا ينبغي الاستعجال في هذا الجانب إلاّ بعد استكمال العدّة : تصوراً ومضموناً، وتوافر العناصر البشرية: إخلاصاً وتمثلاً، وإتقان العمل فنياً وحرفياً.
إن صياغة الإعلام- نظرياً وتطبيقياً- صياغة إسلامية، ليست مشروعاً سهلاً سريع التنفيذ. بل هو مشروع عملاق يمثل صورة من صورة التحدي الحضاري الشامل الذي تواجهه الأمة الإسلامية في حاضرها ومستقبلها. وإن توافر الجو السياسي والاجتماعي الملائم، والدعم المعنوي والمادي المناسب لتنفيذ مثل هذا المشروع العملاق، يُعدُّ ركيزةً أساسية للانطلاق نحو تحقيقه في واقع الأمة الإسلامية.. فالنشاط الإعلامي مرتبط دائماً بالبيئة السياسية والاجتماعية التي يعيش فيها، ويتأثر بها، سلباً وإيجاباً.(13/115)
ولكن لا ينبغي أن يصيبنا اليأس أو الإحباط بسبب ضخامة التكاليف المعنوية والمادية، بل ينبغي أن يكون ذلك دافعاً قوياً لنا لنروّي الأمل المتفتح في قلوبنا وواقعنا بماء الإخلاص، والعزيمة الصادقة، والتخطيط المدروس، والعمل الجادّ، والسعي الدؤوب المتواصل حتى يثمر الأمل ويتحقق الحلم. وقد يكون من المناسب أن نلقي نظرة على واقع الإعلام العالمي والإعلام العربي المعاصر، والمأمول الذي نتطلع إليه حتى يؤدي الإعلام العربي الإسلامي دوره ويبلغ رسالته إلى الإنسان
==============(13/116)
(13/117)
أمريكا.. انحطاط مغلَّف بالقوة!
صافيناز كاظم 9/2/1425
30/03/2004
الغرب دائمًا..ككيان استعماري ينظر إلينا نحن العرب نظرة متعالية شديدة الاعتداد بالذات واحتقار الآخر، وللأسف أسهم في دعم هذه النظرة الاستعلائية الغربية نحونا بعض مثقفينا وكتابنا الذين بالغوا في الثناء على الحضارة الغربية ومنجزاتها!.
لكن مع اختلاطي بنتاج هذه الحضارة سواء بالقراءة أو الدراسة أو بالمعايشة وجدت أن النظرة الاستعلائية للغرب تخفي وراءها عنصرية متعصبة ضد من يخالفهم في الجنس أو العقيدة؛ وهذه الروح العنصرية ضد الجنس و العقيدة طالما ضربتهم هم أنفسهم فيما بينهم؛ فالمذاهب المسيحية الكنسية تنازعت، والعناصر العرقية المتعددة تحاربت؛ ففي أساس الحضارة الغربية هناك نظرة فاسدة أراها حضارة متخلفة تمامًا، وأعجب كيف أن مثقفينا بداية من رفاعة الطهطاوي وطه حسين ولطفي السيد ولويس عوض لم يكتشفوها رغم ذكائهم؟ أو لعلهم اكتشفوها وخبأوها لسبب أدركوه!
سافرت إلى أمريكا سنة 1960 وعشت هناك ست سنوات متواصلة اختلطت بشرائح متعددة منها المثقف والجاهل والإنسان العادي وجدت فيها جهلاً شديدًا بالآخر وخصوصًا تجاه المسلمين والعرب ولم يكن هذا الجهل متواضعًا بل استعلائيًا لا يريد صاحبه أن يعرف وإذا عرف يقاوم المعرفة ويتمسك بعنصريته وانحيازه بشكل دفاعي وبشكل غريب يتباهى بقوته ويراها الكفيلة لسيادته على العالم.
إن نابليون على سبيل المثال الذي غزا مصر منذ أكثر من قرنين كان جاهلاً متغطرسًا معقدًا ومع ذلك صور في بلادنا على أنه على قمة الحضارة، بينما عرف أهله ورأوه على حقيقته قصرًا قبيحًا لا يستحق سوى أن يعزل، وكل ممثلي الإمبراطورية البريطانية كانوا على شاكلة نابليون "جهلاء متغطرسين" ، وللعلم الغطرسة وليدة الجهل والجهل يدعم الغطرسة.
انحطاط مغلف بالقوة
وأثناء وجودي في أمريكا وكنت ذاهبة إليها مشبعة بالتمجيد تجاه الغرب وحضارته الذي تم تلقينه لي على يد الأجيال السابقة علينا فوجئت بهذا الانحطاط المغلف بحضارة بالقوة، وفوجئت بمن يقول لي أثناء إحدى المناقشات " أمريكا تستطيع أن تدوس العالم بقدميها وقوتها" وإنني أندهش وأتساءل: لماذا لا تفعل ذلك طالما أن العالم يكرهنا؟
وعندما عدت من دراستي هناك - وكانت على نفقتي الخاصة- كتبت "إننا نظلم أنفسنا عندما نمجد الغرب على حساب تراثنا، وإننا جُهّلنا عمدًا بحضارتنا، وإنني مازلت أذكر ذلك المستشرق الروسي الذي قال لي يومًا بالقاهرة في أواخر الستينيات: هل قرأت للجاحظ؟ هل قرأت لابن حزم؟ هل قرأت لفلان وفلان؟ وأخذ يعدد لي علماء وكتاب الحضارة الإسلامية العظام، وكان ردي عليه: "إنني سمعت عنهم كلهم وقرأت بعضًا من مؤلفاتهم ولم أقرأ لأحدهم مجمل مؤلفاته؛ فكان رده الذي لن أنساه "يا للعار!!" ، وكنت في ذلك الوقت قد قرأت لشكسبير معظم الأدب الغربي والمسرح الغربي من مبتدئه إلى نهايته بشكل شامل كما قرأت نصوص الفلسفة الإغريقية وما يسمى بنتاج الحضارة الغربية الأساسي، ورغم أنني جادلت هذا المستشرق الروسي إلا أنني شعرت بأنه على حق، وأن هناك كثيرًا من كتبنا المتميزة لم تمتد إليها يدي وأيدي الكثيرين غيري.
بعد ذلك كتبت مقالة نشرت بمجلة "المصور" المصرية، وهي متضمنة في كتابي الأول "رومانتيكيات" عن كتاب "جلستان" أو "روضة الورد" للشاعر سعد الشيرازي، وأذكر أن هذا الكتاب كان أول ملامسة حقيقية بيني وبين تراثنا الإسلامي، وعلقت عليه قائلة: إنني وجدت فيه إليخوت وبريخت ويونسكو وكل الطفرات الإبداعية والثقافية التي يتباهى بها الغرب بالإضافة إلى الحكمة.
تصحيح المسار
ومن هنا الذي لم أكن قد قرأته من قبل وفي مقدمته المراجع الإسلامية. وأذكر أنني قد قرأت عام 1971 كتاب الشهيد سيد قطب "في ظلال القرآن" الذي جاء في ستة مجلدات فعزز من روحي المنتصرة المكتشفة للذات وللقدرات الخاصة بنا، والتي حاول الكثيرون أن يخفوها ويطمروها بعيدًا عن عيوننا، وأن يسرقونا منها ويسرقوها منا لكي نبدو مكسورين مهزومين عميًا وبكمًا وصُمًّا في اتجاه منتجات الحضارة الغربية.
نحن في عصر المقاومة
إن قوتنا الحقيقية ما تزال موجودة في أيدينا ومطمورة حولنا؛ فانكسارات الأنظمة العربية التي زعقت في الخمسينيات، وبدت كأنها تشحذنا بالقوة والكرامة والعزة لم تكن بالقوة الكافية لمواجهة التخلف الغربي؛ لأنها في الحقيقة لم تكن سوى انكسار كبير مغلف بانتصار وهمي، ولذلك فأنا لا أعترف بما يقال من انكسار وتبعية العرب للهيمنة الأمريكية؛ فما هي إلا تبعية سطحية يقودها من يملكون أمر هذه الأمة بشكل تعسفي، فأنا شخصيًّا غير مكسورة وهذا الانكسار الذي يبدو انكسارًا من نظم شاءت أن تكو تابعة للعلمانية الغربية لمصلحتها الخاصة، وأرى أننا لسنا في عصر الانكسار والهزيمة، بل في عصر المقاومة.
==============(13/118)
(13/119)
ماذا يريد هؤلاء..؟!
د. خالد بن سعود الحليبي * 25/12/1424
16/02/2004
صخب وضجيج تكتظ به صحافتنا المحلية في أعمدة عدد كبير من الكتاب هذه الأيام، يتحدثون عن بلادنا ـ حرسها الله ـ وكأنها بلاد متخلفة حضاريًّا، لا تزال تعيش بين تلافيف غابات مجهولة تحتاج إلى (كولمبس) جديد ليكتشفها، فتراهم وكأنهم يمسكون بيد ضرير خشية أن يقع في حفرة، أو ليسلكوا به طريقًا لا يعرفه من قبل..!
إن هؤلاء الكتبة ينادون برفع (الوصاية) من أيدي علماء الشريعة كما يعبرون ـ بدهاءٍ ـ بهذا المصطلح عن المصطلح الحقيقي الذي يريدونه وهو: (إلغاء مسؤولية العلماء عن المجتمع)، ليأخذوا هم بالزمام فينصبوا أنفسهم أوصياء على بلادنا وشعبنا، فيتحدثون باسم جماهير الشعب دون أن يحصلوا على تفويض منه، بل ولا قسم ضئيل منه؛ لأنهم لا يمثلون سوى أنفسهم، ويكررون الحديث عن المطالبة بحقوق المرأة السعودية في مطالب لا تمثل هموم المرأة السعودية الحقيقية، وإنما تمثل أحلامهم التي نسجوها خلال تلقيهم ثقافتهم المؤمركة.
لقد تجرأ كثير من هؤلاء على أن يتهم المجتمع كله بالتخلف وكاد بعضهم ـ لاسيما من غير السعوديين ـ يصرح بأن المجتمع السعودي للتو بدأ ينهض، ومعنى ذلك أنه كان في تخلف ورجعية. وثان دعا إلى عزل الدين عن الحياة في دعوة صريحة للعلمانية، وثالث استهجن رجوع الشباب إلى العلماء المعتبرين واستشارتهم في أمور حياته وعمله، ورابع يطالب بسفر المرأة دون إذن زوجها لتحقق حريتها، وخامس يضع جميع دعاة البلد من أهل التكفير، وسادس ينادي بألا يتحدث بعد اليوم أحد باسم الدين، فلكل فرد ـ أيًّا كانت خلفيته العلمية ـ أن يتحدث بما شاء من أمور الشريعة، ملغيًا هيئات حكومية عليا بأكملها كهيئة كبار العلماء، ومقام سماحة مفتي عام المملكة، ومجمع الفقه العالمي؛ بل وأحقية الشريعة في كونها أشرف علم وأعظم اختصاص، لا يحق لغير المختصين فيه أن يخوضوا في دقائقه، وسابع ينادي بإلغاء التعليم الشرعي نهائيًّا مدعيًا أن المساجد تكفي للتثقيف الشرعي، وثامن يفصل في قضايا في منتهى الدقة من أمور العقيدة مما يتصل بالولاء والبراء مما يعجز عنه بعض طلبة العلم الشرعي ولا يفتي فيه إلا كبار العلماء، وتاسع يرى أنه لا خصوصية لمجتمعنا نهائيًّا، وأن هذا من أسرار تخلفنا، وأنه آن الأوان ألا ننظر إلى الخلف.. ولا أدري ماذا يعني بالخلف؟! وعاشر بل عشرات..!
كلنا نحب الحرية في طرح آرائنا، ولكن الحرية لا تعني أبدًا أن يتحدث أصحاب الثقافة المستوردة بالكامل في قضايا لا يستطيع الخوض فيها إلا أهل الرسوخ في العلم، يقول الله جل في علاه: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا). [سورة النساء 83].
إن الأمر جلل.. فلقد أصبح هؤلاء يتقافزون على الصحف بطريقة مثيرة للراصد، فها هي أسماء كثيرة جدت على هذه الصفحات خلال الأيام القليلة الماضية، من خارج المملكة وداخلها، تجعلنا نتساءل ـ ببراءة ـ من أين أتى كل هؤلاء؟ وكيف خرجوا؟ ولماذا الآن بالذات؟ وإلى ماذا يرمون؟ ولماذا تسمح لهم الصحف بكل هذه المهاترات والاعتداءات على صميم العلم الشرعي أهله، مشنعين بفلان! ومستهزئين بفلان! وهل وراء الأكمة ما وراءها؟!
وإذا كان من حق كل إنسان أن يقول رأيه بكل حرية، فلماذا تحجب الآراء المخالفة لهذه الأطروحات في الصحف، وتحرق الردود والمناقشات الموجهة ضدها؟ ولماذا لم تحفل معظم الصحف والقنوات الفضائية من بين المشاركين في الحوار الوطني السعودي إلا بالشخصيات التي تحمل الرأي الذي تعتنقه تلك الصحف، بينما اختفت أسماء الدعاة المشاركين على ما لهم من قدر كبير في الطرح، وقدرة على استيعاب مستجدات الحياة المعاصرة، واستعداد واسع الأفق للحوار وتفهم وجهة النظر المخالفة بكل أريحية..؟! ولو لم يكونوا كذلك لما اختيروا أصلاً، ولماذا تصر الصحف على أحادية الطرح، بينما تحمل على الرأي المخالف لها حملة شعوا؛ بل وتلقي كل ما يناقش هذه الآراء في سلة المهملات عمدًا كما صرح بذلك أحدهم..!
إن الأسئلة أكبر من حجم هذه السطور.. ويبقى السؤال الأكبر منها جميعًا: إلا تمثل هذه الأطروحات المتتابعة تطرفًا آخر قد يثير تطرفًا فكريًّا جديدًا في مقابله؛ فيخسر الوطن فرصة حوارية كان من الممكن أن توصلنا شفافيتها إلى وضع أفضل؟.
عفوًا أيها المتزيدون.. إنني لا يمكن أن أتهم بلدي بأنها كانت تسير في اتجاه خاطئ؛ بل كانت ولا تزال تسير في اتجاه حدده المولى الخبير بعباده وبما يصلحهم، أوصلها إلى قمة في الأمن لم تحلم به أمريكا منذ أن تكونت من أشتات الأرض، ولكن ذلك لا يعني أبدًا ألا أقبل الحوار؛ بل مرحبًا به بكل آدابه، وبكل نتائجه التي لا تمس معتقدًا ولا مبدأً ولا كيانًا ككيان وطني الحبيب وشخصيته المتميزة.. نعم المتميزة.* الوكيل التعليمي بكلية الشريعة بالأحساء
==============(13/120)
(13/121)
المثقف والسلطة .. شكل العلاقة:مأزق المثقف ( الليبرالي ) .. ! (1/2) .
د. محمد الحضيف 21/11/1424
13/01/2004
أكثر الأسئلة جدلاً .. ربما : من هو المثقف؟
خطر هذا السؤال على بالي مرتين في الفترة الأخيرة . الأولى وأنا أقرأ كتاباً ، ترجمته ( مرهقة ) ، للمفكر الأمريكي ، الفلسطيني الأصل ، ( إدوارد سعيد ) . سعيد .. في فصل سماه ( صور المثقف ) ، من كتابه : ( الآلهة التي تفشل دائماً ) ، حاول أن يجيب على سؤال مماثل .. من خلال استقراء أراء بعض ( المثقفين ) ، أمثال الإيطالي أنطونيو غرامشي ، الذي تحدث عن ( المثقف العضوي ) .
المرّة الثانية ، التي قفز فيها السؤال إلى ذهني ، كان في مناسبات ( محلية ) . موقفان لشخصيتين ، هما الأكثر إثارة ، وربما حضوراً ، في المشهد الثقافي في المملكة . الأوّل أعلن أنه رفض التوقيع على خطاب ( إصلاحي ) ، تبنّاه عدد من المفكرين والمثقفين ، بحجة أنه يصادم ( مبادئه ) .. التي فسرها شخص مقرب منه ، على أنها موقف من الخطاب ( الإصلاحي ) ، الذي يمثل مكسباً للتيار الإسلامي .. وهو ما لا يتفق معه ذلك المثقف .. ( أيدولوجياً ) . الثاني شخصية ثقافية وأكاديمية ، شاركت في جلسات الحوار الوطني الثاني . خرج الحوار بتوصيات اتفق عليها المشاركون .. وهو أحدهم . في اللقاء الذي جمع المتحاورين بولي العهد ، تسلل ( المثقف ) الأكاديمي الكبير ، من بين الصفوف ، مستخفاً بزملائه ، وارتجل خطاباً ( أيدولوجياً ) عن الحب ( !! )، نسف فيه مفهوم الحوار ، وتوصيات اللقاء .. وأصول اللياقة ..!
المثقف هو المفكر ، وهو طليعة المجتمع فكرياً واجتماعياً . هو الذي يثير الأسئلة المشروعة ، ويتبنى قضايا المجتمع وهمومه .. هل يكون ( انتهازياً ) .. ؟ هل يقف مع ( الحزب ) ، أو السلطة .. ضد الأمة .. ؟ !هل ينقلب ( ميكيافيليا ) ضد فروسية المثقف ؟ تبدو العلاقة بين المثقف والسلطة ملتبسة . هناك علاقة تضاد ، وتكامل .. وعلاقة احتواء . تتوجس السلطة من المثقف المستقل ، فتجعل منه ضداً ، وخصماً .. ويصبح كل ما يصدر منه ، قابل لتأويل عكسي ، ويصير هو .. مطالب بتفسير أي موقف يقفه . وطنيته متهمّة ، وولاؤه موضع تساؤل ..!
حينما تكون العلاقة بالسلطة .. احتواءً ، يتحول ( المثقف ) إلى بوق للسلطة ، وينحدر إلى مستوى ( الأداة ) ، التي تستخدمها السلطة ، لإضفاء شكل ( أخلاقي ) على ممارسات ( لا أخلاقية ) . تحتاج السلطة المثقف ، لـ ( أنسنة ) سياساتها، تجاه الفرد والثقافة والمجتمع . تلك السياسات الموسومة بكل ما فيه انتهاك للآدمية ، وامتهان للثقافة .. إذ المثقف والثقافة ، يمثلان أعلى شكل من أشكال الفعل الإنساني .
تكامل السلطة مع المثقف ، يأخذ اتجاهين : سالب وموجب . التكامل السلبي للمثقف مع السلطة يتبدّى ، حينما يتبنى ( المثقف ) دوراً ،ضمن ترتيب معين ، يظهر من خلاله ، أنه ضد الطروحات الرسمية ، وهو في حقيقته .. وواقع الأمر ، يسعى لتكريس صورة ( نمطية ) إيجابية للسلطة.. مثل ( ديمقراطية ) السلطة .. وتسامحها، حيث تسمح له بالمعارضة .. وتعطي الرأي الآخر حق التعبير عن نفسه ، ضمن هامش محسوب . قد يتكامل المثقف إيجابياً مع السلطة .. وهذا أمر جيد، حينما يدعم توجهاتها الإيجابية ، في مسائل مثل ، صيانة الحريات ، والتحرك نحو هامش أوسع للمشاركة الشعبية ، والشفافية في التعاطي مع الشأن العام ، والتوزيع العادل للثروة ، واستقلال السلطة القضائية .. واحترام حقوق الإنسان .
انتهازية المثقف ، أفرزت تقسيمات من نوع المثقف ( المرتزق ) : كل شيء على ما يرام طال عمرك . أو المثقف ( المُسْتَلَب ) : طليعة الآخر .. المغاير ، الثقافة الخصم . أحداث سبتمبر ، كشفت عن نماذج مخيفة من هذا النوع .. الأخير ، من أولئك الذين يقومون بدور ( أبي رغال ) ، فيقودون ( الفيل ) الأمريكي ، إلى ما اعتبروه ثغرات في ( جدار ) الثقافة المحلية . التقيت بمراسل لإحدى الصحف الأمريكية ، كان يدور على بعض المثقفين والأكاديميين .. يحمل كتباً لمقررات مدرسية ، ويتحدث عن مواضيع ، وأسطر بعينها .. من بينها آيات قرآنية وأحاديث شريفة ، يزعم أنها تحرّض على الكراهية ، وتدعو للعنف . ذكر لي .. لما سألته ، أن الذي دلّه عليها ( مثقفون ) سعوديون ..!
ليبرالية المثقف المحلي .. عندما تكون ( الليبرالية ) في جوهرها ، احترام خصوصية الآخر .. هل هي حقيقة..؟ حين يكون ( الليبرالي ) في ( خندق ) الأجنبي ، ضد الثقافة ( الوطنية ) .. بسبب موقف أيديولوجي .. ! أو حينما يمارس ازدواجية فجة في معاييره (الليبرالية) : الديمقراطية، والإصلاح الدستوري.. جيدة، شرط ألا يستفيد منها التيار الإسلامي .. والتحالف مع السلطة القمعية ، والنظم الدكتاتورية مبرّر إذا كان الخصم هو الإسلام
المثقف الإسلامي .. ما علاقته بالسلطة ..؟(13/122)
وسِمَت العلاقة بين السلطة والمثقف الإسلامي ، بتاريخ من الصراعات ، منذ أن ظهر المصطلح .. ( إسلامي ) . برز مصطلح ( المثقف الإسلامي ) ، مع تعبيرات أخرى .. لها نفس الصفة ، بعد سقوط ( الخلافة ) ، وتأسيس الدولة ( القومية ) الحديثة ، ذات النزعة العلمانية ، المجافية للدين .. وهو ما كان سبباً في نشوء الحركات الإسلامية . إلغاء الخلافة عام 1924 ، من قبل حزب جمعية الاتحاد والترقي العلماني، الذي استولى على السلطة في تركيا ، أحدث حالاً من الأسى والذهول ، لدى كثير من المسلمين ، الذين كانت ( الخلافة ) .. على ضعفها ، تمثل لهم ملاذاً ، ضد جحافل المستعمر الأوروبي ، الذي نهب الخيرات ، وأشاع الفساد .
الحركة الإسلامية ، التي قامت على المفهوم الشمولي للدين ، بهدف استعادة دور الإسلام في حياة المجتمع المسلم ، اصطدمت منذ البداية بـ ( السلطة ) . الدولة الحديثة .. ( العلمانية )، التي قامت على أنقاض دولة الخلافة ، بعد تقسيم الاستعمار لإرثها .. على أساس قومي وإقليمي ، مثلث بعنصريها الرئيسيين : القومية والعلمانية ، نقيضاً لـ ( دولة ) الإسلام .. ومصادماً لنظرية الحكم الإسلامية . إذ الإسلام يقوم على ( أخوة ) الدين .. وليس العنصر أو القومية ، والعلمانية تقصي ( حاكمية ) الله ، وتجعل ( المشرع ) هو الإنسان .. لا الخالق .
أدبيات الحركة الإسلامية في أول أمرها ، اعتمدت المصطلح .. ( إسلامي )، بوصفه علامة تميزها عن الأطروحات والشعارات ، التي لا تنطلق من رؤية إسلامية . في وقت لاحق ، انتقلت الحركة إلى طور التنظيم ، والعمل الحزبي ، بسبب تعسف الإجراءات الرسمية وقسوتها، وزيادة المطاردات والتضييق الأمني .. من خلال اضطهاد العلماء ، ومطاردة المفكرين واعتقالهم ، وإغلاق الجمعيات التطوعية والخيرية ، ومصادرة الكتب والمطبوعات . بسبب هذه الممارسات .. صار المصطلح حاجة .. للتعبير عن ( هوية ) مستقلة .. مضطهدة ومحاربة ، و لتحقيق ( تمايز ) في الصفوف ، بين ما هو إسلامي ، وغير إسلامي .. لضمان وضوح الرؤية ، ولدرء ( الاختراقات ) الفكرية والأمنية .
الشعور بالاختلاف والافتراق ، بين الحركة الإسلامية ، والأنظمة الحاكمة ،خلق أجواء ( عدم ثقة ) ، وألقى بظلاله على العلاقة ، بين المثقف الإسلامي و( السلطة ).. التي يقع تحت نفوذها . اتسمت تلك العلاقة ، بعدد من الملامح .. أبرز مظاهرها :
* ظلت ( السلطة ) ، تتوجس دائماً من المثقف الإسلامي ، وتكيد له ، وتناصبه العداء .. وتتربص به .
* نُظِر لـ ( مشروع ) المثقف الإسلامي على أنه : تهديد لـ ( الشرعية ) ، وذو طبيعة تآمريه .. وانقلابي بطبعه .
* اعتبر ( مشروع ) المثقف الإسلامي .. انعزالياً ، يهدد العلاقة مع الغرب .. وله موقف عدائي من الحضارة الغربية .
* لم تفرق ( السلطة ) ، في معاملتها للمثقفين الإسلاميين ، بين من يوصف منهم بالاعتدال ، أو ذلك المتهم بالتطرف .
* تعاملت ( السلطة ) ،في معظم أطوار علاقتها ، مع المثقف الإسلامي .. بصفته الفردية ، أو من خلال المؤسسات والجمعيات التي ينتمي إليها .. بتوحش : فقتلت ، وسجنت ، وحاصرت ، وأقصت ، ونفت .. وقطعت الأرزاق .
* أدى موقف ( السلطة ) الاستئصالي .. والعنيف للمثقفين ، والأفراد الإسلاميين عموماً ، إلى نشؤ تيارات عنيفة ، تشكلت بسبب المطاردات الأمنية المستمرة ، والاعتقالات ، والتعذيب داخل السجون ، والقوانين العرفية .. و( القضاء ) المنحرف .. الظالم في أحكامه .
هل المثقف الإسلامي قريب من نبض الجماهير وهمومها .. ؟
سؤال قد يبدو منطقياً .. إزاء واقع علاقة المثقف الإسلامي بـ ( السلطة ) . إذا كان المثقف الإسلامي منحازاً في ( مشروعه ) إلى الجماهير .. لماذا تخلت عنه ، وتركته لـ ( السلطة ) تستفرد به .. انتهاكاً لحقوقه ، ومصادرة لمشروعه .. ؟ إذا كان مشروعه ( وطنياً ) ، يهدف إلى تعزيز الاستقلال ، ورفض التبعية .. لماذا وصفته الدوائر الرسمية بـ ( العمالة ) ، ووصمة اليساريون بـ ( الرجعية ) .. ويصمه ( الليبراليون ) ، الوكلاء الحصريون للمشروع الأمريكي في المنطقة .. بـ ( الظلامية ) .. ؟!
الملاحظات التالية ، التي كانت مظهراً للمثقف الإسلامي ، في أول انطلاق نضاله الدعوي والسياسي ، قبل بداية صعود المد الإسلامي ، عقب هزيمة 67م ، واندحار التيار القومي العلماني .. هذه الملاحظات قد تجيب على بعض التساؤلات :
* ركز المثقف الإسلامي ، على القضايا الكبرى .. السياسية والحضارية ، مثل تطبيق الشريعة ، وإقامة الخلافة ، والإرث الثقافي والحضاري للإسلام . هذه المسائل ، كانت اهتمامات وقضايا نخبة ، مما جعل المثقف الإسلامي ، بمعزل عن غالبية طبقات الشعب .
* ابتعد المثقف الإسلامي ، عن تطلعات رجل الشارع ، وحاجاته الأساسية .. حيث ظلت الهموم اليومية .. للفرد المواطن ، في أدنى اهتمامات ، وأسفل أجندة ، المثقف الإسلامي . انشغاله بالأهداف الكبرى النظرية ، على سموها ، لم تجعله يقترب من ( الهم ) اليومي للإنسان العربي .(13/123)
* لم تكن قضية الحريات أساسية عنده .. بسبب المفهوم السائد للحريات .. ( الغربي ) الجوهر ، الذي يعتدي على الدين ، ويتطاول على المقدسات .. وعلى المستوى الأخلاقي ، يروّج للرذيلة .. باسم الحرية الشخصية .
تَعَامُلْ المثقف الإسلامي بحذر ، مع موضوع ( الحريات ) .. لهذا السبب ، انعكس على موقف النخب العربية .. وتوجسهم ، من أي دور للإسلاميين في النشاط السياسي . كما أن الإعلام الحزبي المضاد ، بشقيه .. الذي اعتمد مرجعية شرقية ( سوفييتية ) ، أو ذلك الذي يتبنى توجهاً ( ليبرالياً ) غربياً .. استغل هذه النقطة ، في تشويه صورة الإسلاميين لدى الجماهير ، ووصفهم بأوصاف باعدت بينهم وبين قطاعات الشعب المهمشة .. التي قطعت الأنظمة شوطاً كبيراً ، في طمس هويتها ، ومصادرة حقوقها الأساسية .
* عدم الوضوح في مسألة حقوق الإنسان . إذ لم يبلور الإسلاميون رؤية واضحة في هذه المسألة ، واقتصروا على خطاب عام ، ينطلق من تكريم الإسلام للإنسان .
* تعدد الفهوم في مسألة حقوق المرأة ، وافتقارها لرؤية متماسكة .. حيث لم يحسم الإسلاميون موضوع المرأة ، ودورها في الحياة العامة .. وترك ممزقا بين الاختلافات الفقهية ، والعادات المحلية لكل بلد . هذا الموقف أعطى فرصة للانتهازيين ، لرفع ورقة المرأة في أكثر من مناسبة.
لقد امتهنت المرأة ،في ظل سيادة المفهوم الغربي لحقوق المرأة .. وغياب مشروع إسلامي ، يفعّل دورها الأسري والاجتماعي .. بوصفها جزءاً فاعلاً في المجتمع ، ويمنع التعدي عليها ، وانتقاص حقوقها المادية والمعنوية .. ويصونها من الاستغلال الغرائزي والشهواني .
* عدم الوضوح في مفهوم تداول السلطة .. وحق الفرد في الاختيار ، حيث ظل المثقف الإسلامي متردداً في رسم آلية للمشاركة الشعبية ، والانتقال السلمي للسلطة .. بسبب تلاعب الأنظمة في عملية الانتخابات . كذلك نجحت الآلة الإعلامية للسلطة .. ولبعض الأحزاب ، في صياغة ( صورة ذهنية ) مخيفة للواقع ، إذا آل الأمر للإسلاميين .
هل تغير موقف المثقف الإسلامي ، وتجاوز هذه ( الملاحظات ) ..؟
أعتقد أن التيار الإسلامي الآن ، بمثقفيه ومجاهديه ، هو الذي يقود النضال الوطني من أجل الإصلاح ، ويقود عمليات المقاومة والجهاد ضد ( الاحتلال ) ، الاستيطاني والغازي . لقد دفعت أحداث سبتمبر بـ ( عدو ) ضخم ، حاقد .. وشرس ، إلى المواجهة .. وأدت كذلك ، إلى ( استقواء ) فئات من داخل الصف .. به . رأت هذه ( الفئات ) .. في هذا ( العدو ) الجاثم بيننا ، وعلى حدودنا ، فرصة لـ ( الانقلاب ) ، وتحقيق أهداف ، ومصالح شخصية أو طائفية .. وتصفية حسابات أيدولوجية .
إن ( المثقف الإسلامي ) مطالب ، أكثر من أي وقت مضى ، أن يقف .. ويقاوم . إن تقديم ( التنازلات ) ، باسم التسامح ، وقبول الآخر .. لن يجدي مع ( هؤلاء ) ..!
سيظلون يلعنون سلفنا ، وينتقصون من رموزنا ، ويهدمون ثوابتنا ، وينقضون عرى ديننا ، واحدة تلو الأخرى .. ونحن ننزل ( السلم ) درجة .. درجة ، إلى الهاوية ..!
" والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون "
==============(13/124)
(13/125)
الحجاب وفرنسا... والأزهر!
جمال سلطان 27/11/1424
19/01/2004
حتى لا تضيع الحقائق في واقعة المخطط الفرنسي لفرض حظر على حجاب المسلمات في المدارس بقوة القانون المزمع عرضه على البرلمان لإقراره ابتداءً من العام الدراسي المقبل، هناك نقاط أساسية ينبغي أن نتوقف عندها، خاصة وقد كثر الجدل والضجيج، وأوشكت بعض الحقائق أن تضيع، مما استدعى إثباتها هنا، للحقيقة والتاريخ.
النقطة الأولى: وتتعلق بالمفارقة الحضارية بين العالم الإسلامي وهو في طور الانحطاط، وبين العالم الغربي وهو في بقية من حضارة لها قيم تحاول أن تحافظ عليها؛ فإننا رغم إدانتنا الكاملة للموقف الفرنسي ومشروع القانون واعتقادنا الجازم بأنه عدوان على ديانة المسلم هناك، وحرمانه من حقوقه الدينية المشروعة تحت هواجس لا أساس لها ولا مبرر، إلا أننا لا يمكننا أن نتجاهل " حضارية " السلوك الفرنسي قبل إصدار القانون، فهناك اجتماعات متوالية مع الجالية المسلمة في فرنسا وممثليها، وهناك حوار إعلامي وصحافي واسع النطاق يمهد لغربلة الأفكار، وهناك حرص فرنسي ظاهر على التشاور مع المؤسسات والمرجعيات الإسلامية المهمة كما حدث مع الأزهر مؤخرًا، وهناك تشاور سياسي مع بعض الدول والنظم الحاكمة في العالم العربي والإسلامي، وذلك كله يحدث قبل أن يصدر القانون، وحتى قبل أن يعرض على البرلمان، بينما في العالم الإسلامي فوجئنا بشيخ الأزهر، وهو يرأس مؤسسة علمية ضخمة، لها هيئاتها الشرعية ومؤسساتها، ناهيك عن هيبتها في العالم الإسلامي -والتي باتت مهددة الآن- فوجئنا به يدعو الصحفيين لكي يعلن أمامهم دعمه للقانون الفرنسي وأن على المسلمات هناك طاعته ولا إثم عليهن لأنهن مضطرات، لم يستشر الرجل أحدًا، ولم يعبأ برأي عام، ولم يحزن لغضب المسلمين في فرنسا، ولم يكلف خاطره أن يستمع للرأي الآخر كما استمع للرأي الرسمي الفرنسي، بحيث يدعو ممثلين عن المسلمين الفرنسيين للتشاور والاستماع لوجهات نظرهم، لم يراع الرجل أي شيء، وإنما ألقى ببيانه الذي وصفته صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية بأنه " شيك على بياض" من شيخ الأزهر للحكومة الفرنسية، بكل بساطة وباستبداد واستهتار بكل شيء وبكل من حوله وكل أطراف المسألة، هذه مفارقة مدهشة، بين عقلية تربت في أجواء القمع والاستبداد، وبين عقلية تربت في أجواء الحرية والتعددية والشورى "مع الأسف" التي نحن بها أولى.
ولعل هذه المفارقة تدعونا جميعًا إلى الانتباه إلى أهمية التأسيس في مشروعنا الإسلامي المستقبلي لثقافة الحرية والتعددية والحوار، فإنها -رغم كل سلبية يمكن أن تتمخض عنها- ستكون جسرنا إلى الحقيقة والكرامة واستقلال الإرادة الدينية والوطنية معًا.
النقطة الثانية: وهي ذلك التحالف المدهش والمفاجئ بين النخب الليبرالية واليسارية العربية وبين الحكومة الفرنسية في واحد من أسوأ مواقفها المدان حتى أوربيا بأنه ضد حقوق الإنسان، فبينما كانت النخب اليسارية في فرنسا ذاتها -ناهيك عن غيرها- تهاجم مشروع القانون وتتهمه بأنه انتهاك لحقوق الإنسان واعتداء على المواطنين المسلمين الفرنسيين؛ وجدنا اليساريين العرب عن بكرة أبيهم، يؤيدون القانون ويدافعون عنه وعن حكومة فرنسا " اليمينية" ويهاجمون المسلمين الفرنسيين ومعهم المسلمين في أنحاء العالم الذين حزنوا لما حدث أو احتجوا، مفارقة عجيبة، أيضًا على صعيد الليبراليين العرب والعلمانيين أصحاب دعاوى حقوق الإنسان، وقفوا جميعًا مؤيدين للقانون الفرنسي ومدافعين عنه، وقد سمعت بنفسي أحد شيوخ الليبراليين العرب في حديث تليفزيوني يؤيد الموقف الفرنسي، باعتباره انتصارًا للعلمانية والليبرالية، فلما واجهه المذيع بالموقف البريطاني والأمريكي وغيره الرافض لهذا القانون والذي يعتبره صراحة عدوانًا على حقوق الإنسان، قال بكل برود: إن العلمانية الفرنسية لها خصوصيتها مع احترامنا لوجهة نظر البريطانيين وغيرهم، أي أنه يتكلم كمندوب فرنسي أو دبلوماسي فرنسي، وليس كمفكر صاحب موقف " ليبرالي" داع إلى الحرية واحترام حقوق الإنسان، بالمقابل كان هناك هجوم واسع النطاق في أكثر من عاصمة أوربية من نخب ليبرالية ضد القانون الفرنسي؛ بل إن محكمة مجلس الدولة الفرنسي نفسها كانت أصدرت حكمًا فيما سبق ينفي بوضوح أن يكون ارتداء الحجاب فيه خروج على علمانية الدولة.(13/126)
مفارقة أخرى هي أفدح مما سبق بكل تأكيد، وهي أن الكنائس الفرنسية والبريطانية -تحديدًا- كان لها موقف صارم ضد القانون الجديد، واتهام صريح له بأنه معاد للحريات الشخصية واعتداء على حرية العبادة عند المسلمين تحديدًا، في حين أن شيخ الأزهر وهو المؤسسة الدينية الأكبر في العالم الإسلامي، يعطي مباركته للقانون ويمنح فرنسا كل الحق في فعل ما تشاء كيفما تشاء ولا دخل له ولا للمسلمين في ذلك، والرجل لم يكلف نفسه حتى مجرد دعوة الفرنسيين للمراجعة واحترام الحقوق، إنه لم يتعود على نقد الحكومة أي حكومة، اللهم إلا حكومة طالبان، فهي الحكومة الوحيدة التي جرؤ عليها في المشرق والمغرب، ولم يعتبر أن إدانته لها تدخل في حقوق الدول الأخرى، والحقيقة أن ادعاء الشيخ بأنه لا يتدخل في شؤون فرنسا هو مجرد محاولة هروب بالفضيحة، وإلا فإن الرجل لم يتدخل أصلاً حتى في بلده نفسه (مصر) عندما انتهكت قرارات حكومية رسمية حرية لباس الحجاب للفتيات في المدارس، فلم يصدر عن الرجل أي شيء، كذلك عندما قامت مدرسة فرنسية -في مصر- بطرد فتيات بسبب ارتدائهن الحجاب، وجأر أهلوهن بالشكوى للجميع، لم ينطق شيخ الأزهر بكلمة واحدة.. فحكاية التدخل في الشأن الفرنسي هو محض هروب، وإلا فمتى تدخل حتى في مصر ذاتها؟!
النقطة الثالثة: وهي تتعلق بالادعاءات بأن القرار الفرنسي لم يقصد به الحجاب، وإنما كافة الرموز الدينية، بما في ذلك الصليب والقلنسوة اليهودية، وهذا أيضا مجرد هروب من الفضيحة على المستوى الفرنسي، كما أنه دجل عندما يقول به كتاب عرب "متنورون". وذلك أن القرار استثني الصليب " غير الكبير " وهي مسألة نسبية، كما أن الإجماع منعقد على أن الحجاب ليس مجرد رمز ديني، مثل الصليب أو القلنسوة أو حتى بعض الرموز الدينية الإسلامية التي يتحلى بها النساء مثل المصحف المذهب وما يسمى " كف فاطمة " أو الـ" ماشاء الله " كما يسميها أهل المشرق، وإنما الحجاب فريضة دينية، أي جزء من الدين، بحيث يكون الاعتداء عليه هو اعتداء على صميم الدين وليس على مجرد شعار أو رمز، ثم إن الملاحظة المهمة في هذا السياق أن الصلبان والقلنسوات كانت موجودة ومنتشرة من قبل ولم يتحدث أحد عنهم بشيء ولم يتعرض لهم أحد بانتقاد، فلماذا تذكرها القرار الجديد؟ اللهم إلا كمحاولة للتمويه على المقصد الأساس وهو مصادرة حجاب المرأة المسلمة، فضموا ما سبق للادعاء بأن الحجاب لم يكن هو المقصود وحده في الموضوع، أبدا، الحجاب هو المقصود؛ فالمعارك كلها كانت حوله، والقضية المثارة من أولها لآخرها حوله، والجدل والصخب كله كان عنه، فلا داعي للهروب بادعاء الحديث أيضًا عن منع "الصلبان الكبيرة".
النقطة الرابعة: وتتعلق بحماية الفتوى الشرعية من العبث والتهريج، وضرورة البحث عن آليات لحفظ " الدين" من العبث، ليس على مستوى الأفراد، وإنما أيضًا على مستوى المؤسسات، إن الاتهامات الآن صارخة وصريحة بأن الفتاوى من المؤسسات الرسمية أصبحت تخرج وفق توجيهات سياسية، والفتاوى يتم تفصيلها حسب المقاس المطلوب، وهذه كارثة، وتعريض دين الناس للضياع، كما أنه يؤسس لفتن لا يعلم مداها إلا الله؛ لأن الثقة إذا فقدت في مؤسساتنا الدينية الكبيرة وذات الاحترام والهيبة في وجدان المسلمين وضميرهم؛ فسوف يحدث فراغ علمي كبير، لا يؤمن أن يملأه آخرون بما تشتهي الأنفس، من أول تخريب العقائد وحتى الترويج للتطرف والإرهاب الذي يفرون منه الآن.
ولقد قرأت - في نفس النازلة- مقالاً لكاتب عربي نشره في صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية قال فيه: إن على الفتيات الفرنسيات إطاعة القانون الجديد عملاً بالآية الكريمة (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، وأضاف الكاتب الجهبذ أن " جاك شيراك " هو ولي الأمر الحالي بالنسبة لهن!، وأظن أن الوقت لن يمر طويلاً حتى نقرأ في صحف عربية لمن يرى أن " جورج بوش " وإدارته هم أولو الأمر بالنسبة لنا أيضًا!
إن الأمانة تقتضي منا الآن أن نبادر إلى حملة واسعة للدعوة إلى إعادة الهيبة والكرامة لمؤسساتنا الدينية، وذلك يكون -أول ما يكون- بحماية استقلالها العلمي والإداري والمالي والتنظيمي، بحيث نضمن عدم خضوعها لمؤثرات السلطات السياسية هنا أو هناك، وبحيث نعزز مصداقية ما يصدر عنها من فتاوى وتوجيهات.
والجانب الآخر هو ضرورة إعادة النظر في قضية فتاوى الشأن العام، التي تتعرض لأمور تمس الأمة كلها أو الجموع الغفيرة فيها، وقد تتحدد فيها مصائر، فمثل هذه الفتاوى لا بد من قيد صدورها على مجامع علمية محترمة ومستقلة، تتناول القضايا بالنظر والتشاور والحيادية، وتخرج الفتوى وفق إجماع أهل العلم أو جمهورهم.(13/127)
ولا بد من الوضوح والصرامة في تأسيس هذه المجامع الفقهية، فعضويتها مقصورة على المشهود لهم بالعلم والورع والمروءة، وأما الخبراء في الشؤون المعاونة: اقتصادية، أو علمية، أو إدارية، أو سياسية، فهم جهات معاونة واستشارية وليست لها عضوية في المجامع الفقهية؛ لأن الحاصل الآن في بعض المجامع الإسلامية أن العضوية يدخل فيها كل من هب ودب، من أساتذة الزراعة إلى خبراء البترول إلى الأطباء وغيرهم، ثم عندما تصدر الفتوى تخرج بغالبية الأصوات، ولما كان أهل العلم في المجامع المذكورة لا يتجاوزون أصابع اليدين، بين أكثر من مئة عضو، كان طبيعيًّا أن تصدر الفتاوى التي تبيح الربا والتي تشرع لبيع الخمور في بلاد المسلمين لدعم السياحة، ممهورة بتوقيع المجامع العلمية الإسلامية
=============(13/128)
(13/129)
وهذه الجامعات والمدارس الدينية...ما شأنها؟
زين العابدين الركابي 19/11/1424
11/01/2004
هل نحن في عصر تحريف الأمور عن مواضعها، وقلب الحقائق؟ أو في عصر استراتيجيات نفسية وسياسية وإعلامية تتعمد أو تحترف (إسقاط خطايا الذات على الآخرين) وهي حرفة تعارفت الدراسات النفسية على تسميتها بـ ( مرض الإسقاط)؟.
في المبتدأ لن نتورط في تبرئة العرب والمسلمين من الأخطاء والخطايا، فهذه تبرئة تتجافى عن الطبيعة البشرية، وعن الواقع الماثل الطافح بالأخطاء من كل نوع. بيد أنه حسبُ المسلمين أخطاؤهم.. ومن الظلم البواح: أن يحمّلوا أوزار قوم آخرين، وأن يسقط عليهم ما تعج به حياة هؤلاء القوم، والملحظ الأشد حزناً - هنا- أن طوائف من المسلمين صدقت أو كادت تصدق بأن ما يُسقط عليها هو شيء صحيح بإطلاق، وأن هذا الشيء من خصائصها وسماتها التي لا تنفك عنها.. وهذا الشك العاصف في الذات مسبب بالقصف الإعلامي المركز والمستمر والذي يلج - مثلاً- على أن العرب والمسلمين عدوانيون، وشهوانيون، وإنه لكاذب من ينكر أن في العرب والمسلمين شيئاً من ذلك، ولكن بالاستقراء العلمي يتبين: أن المسلمين (هواة) بالنسبة إلى (الخبراء المتخصصين) في هذه المجالات. والغربيون- إلا العقلاء المنضبطين منهم - هؤلاء هم الخبراء المتخصصون العريقون في صناعة الموت.
كم عدد القتلى في الحروب والصراعات التي كان المسلمون طرفاً فيها عبر 1410هـ سنوات؟ هو عدد قليل، لا يساوي واحداً في المائة ألف من عدد القتلى في الحروب والصراعات التي أوقدها وقادها وخاضها غربيون في القرن العشرين، ومن هؤلاء القتلى 27 مليون عسكري في الحربين العالميتين: الأولى والثانية، ويقدر عدد المدنيين من ضحايا هاتين الحربين بـ 13 مليوناً من النساء والأطفال وكبار السن في أثناء الحرب العالمية الأولى، ونحو 20 مليوناً في الحرب العالمية الثانية، وبلغ مجموع القتلى في القرن العشرين - لأسباب دينية وأيديولوجية- وبعيداً عن المعارك الحربية - بلغ 80 مليون إنسان. وفي الجملة فإن 167مليون إنسان لقوا مصرعهم في مجازر وقفت خلفها السياسة، ومعظم هذه المجازر دبرها وقادها غربيون، هكذا تحدث التاريخ الموثوق فمن مسعّر الحروب على الحقيقة؟ وليس هناك امرؤ أمين صاحب ضمير يستطيع أن ينفي: أن من العرب والمسلمين من استبد به نزق الشهوات، ولكن هل الغربيون أطهار عفيفون زاهدون في هذه المسألة؟ إن الانفجار الشهواني قد بلغ الذروة هناك، بعد أن تحطمت قيم ومعايير عديدة. وهو انفجار تخطى العلاقة بين الذكر والأنثى إلى المعاشرة المثلية.. لسنا ننصر شهوة عربية ملهوفة على شهوة غربية ملهوفة. فالسوء هو السوء، سواء صدر عن هذا الجنس أو ذاك، ومورس في هذه البيئة أو تلك ، ولكنا نعجب من موقف، ومن تفكير من يستكثر بضعة أرطال من الشهوات المفلتة، ولا يلفت نظره: ألوف الأطنان من الشهوانية السائبة، بل يسقط هذه الأطنان على صاحب الأرطال، وفي كل شر.
المثل الثالث هو: المنابع والمصادر الثقافية ( وهذا هو جوهر المقال الذي يبسط القول في هذه النقطة التي أجملت في مقال الأسبوع الماضي) فلم تكد أحداث سبتمبر تقع حتى طفقت دوائر معروفة تبدئ وتعيد وتكثر الكلام حول: أن للإرهاب منابع وأن هذه المنابع هي: المناهج الدينية والثقافية في الوطن العربي والعالم الإسلامي. ولم ينحصر التشنيع والاتهام في (الاجتهادات البشرية) التي تصيب وتخطئ، وإنما تعدى هذه الاجتهادات إلى (المصادر العظمى) لدين الإسلام، أي الكتاب والسنة.
وهذا توجه ينطوي على ثلاثة (مخاطر) حقيقية لا وهمية، وجدية غير هازلة.
أ- فهذا التوجه (تدخل في الحرية الدينية) للمسلمين، فهو ينزع إلى أن يعلم المسلمين كيف يعتقدون؟ وماذا يعتقدون؟ وماذا عليهم أن يتركوه من المعتقدات؟.
ب- وهو توجه يحمل (المطالب الصهيونية) ويترجمها على نطاق واسع، فمنذ مدة طويلة تطالب المؤسسة الصهيونية بـ (تعديل) الإسلام نفسه، وفق دعوى تدعيمها وهي: أن (المشكلة) في الإسلام نفسه، لا في أتباعه فحسب. وأنه بناء على هذه الدعوى ينبغي أن ينعقد (إجماع دولي) لمواجهة مصدر التهديد وهو الإسلام ولقد جدد الحاخام اليهودي الأمريكي الشهير(مارفين هير) - منذ أسبوع- هذه الدعوى، عبر برنامج ( لاري كنج) ومما قاله هذا الحاخام: "لو سألتني بشكل مباشر: هل هناك آراء متطرفة في القرآن؟ سوف أقول نعم".
ج_ وهو توجه يؤيد -بقوة- مقولات (الإرهابيين) الذين يقولون: إن الغرب - والأمريكان بوجه خاص- يحاربوننا عل أساس عقدي ديني.
ولنبسط القول - الآن- في (المؤسسات) والاتجاهات التي تغذي الناس هناك بآراء ومواقف متحاملة على الإسلام والعرب والمسلمين.
أولاً- في الولايات المتحدة الأمريكية:
على الرغم من أن أمريكا دولة علمانية وفق نص التعديل الأول من الدستور الأمريكي وهو النص الذي يقول: " لن يصدر الكونجرس أي قانون بصدد ترسيخ الدين أو منع ممارسته".(13/130)
وعلى الرغم من التفسير القاطع الذي قدمه الرئيس الأمريكي الأسبق (جيفرسون) إذ قال: "هدف التعديل الأول في الدستور هو: إنشاء حائط فاصل بين الكنيسة والدولة". وعلى الرغم من تفسير المحاكم الأمريكية لهذا التعديل أيضًا، أي التفسير الذي يقول: " لا تستطيع الولاية أو الحكومة الاتحادية تأسيس كنيسة أو سن قوانين تساعد أي دين أو تفضل دينًا على آخر أو تجبر إنسانًا أو تؤثر فيه ليذهب أو يبتعد عن الكنيسة ضد رغبته".
على الرغم من ذلك كله، فإن العلاقة بين الدين والدولة في أمريكا لا تزال قوية ولا يزال (المد المسيحي) ينمو ويتأصل، وهذا وضع لا يزعجنا بل يسرنا أن يفيء النصارى إلى ديانتهم، فهذه إفاءة تقربهم إلينا - بموجب النص القرآني- ثم إن الإيمان بكتاب أفضل - بيقين- من الإلحاد يضم إلى ذلك: أن التمسك بمقادير من القيم المسيحية يبقي على تماسك الأسرة، ولقد سرنا - مثلاً- أن أكثر من 70% من أعضاء مؤتمر الترشيح للرئاسة - في أحد الحزبين الكبيرين متزوجون ولديهم عوائل. وهناك المقادير الأخلاقية التي تنشأ عن التمسك بالمسيحية وهي مقادير مشتركة في الغالب.
هذا الانعطاف نحو الديانة المسيحية امتد إلى الحياة السياسية يقول الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر): " يلعب الدين دوراً حاسماً في الحياة السياسية لأمتنا"، وقال (رونالد ريغان) مثل قوله. أما الرئيس الأمريكي الحالي (جورج بوش) الثاني فقد صرح بأنه : " لن يدخل الجنة من لم يؤمن بالمسيح ( نحن نؤمن بالمسيح) وبأن المسيح هو الفيلسوف الذي يتلقى منه الحكمة والسدادة، ومن المفارقات أن اليهود في أمريكا أثاروا ضجة كبرى حول مسألة (عدم الإيمان) بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ؟ لماذا لأنهم لم يؤمنوا به لا بالأمس ولا اليوم.
وفي ظل هذا الانبعاث المسيحي حصل ارتباط قوي بين جامعات عديدة وبين الكنيسة، ومن هذه الجامعات: الجامعة الأمريكية وجامعة جورج تاون في واشنطن، وجامعتا ديتون في ولاية أوهايو، وبيلور في ولاية تكساس، وجامعة أموري في مدينة أتلانتا، وجامعة دنفر في كوالورادو وجامعة ديوك في كارولينا الشمالية، كما نشأت مؤسسات تعليمية دينية كثيرة منها: (جامعة الحرية) التي أسسها أشهر قس أمريكي هو (جيري فولويل) الذي قدر: أن يصل عدد طلاب هذه الجامعة 50 ألف طالب مع نهاية القرن الماضي، ويتعلم الطلاب في هذه الجامعة علوم اللاهوت من منظور يهودي، كما أنشأ هذا القس أكثر من 20 ألف مدرسة دينية وهذا مثال فحسب. أما في المجال الإعلامي فإن الحركة المسيحية الأصولية تسيطر على معظم شبكة محطات الكنيسة المرئية والمسموعة، أي المحطات التلفزيونية والإذاعية.
ومع اجتناب الوقوع في خطأ التعميم، فمن المؤكد أنه يصدر عن هذه المؤسسات ما يؤيد الظلم والإرهاب الصهيونيين.
ومن ذلك ما قاله جيري فولويل إذ قال: إن الوقوف ضد إسرائيل هو معارضة لله"، وكان (شارون) - مثلاً- هو المعبر عن إرادة الله! ويصدر عن هذه المؤسسات ما يتعمد تقبيح وجه العرب، ومن ذلك ما قاله القس (بات روبرتسون) إذ قال: "إن الله يقف بجانب إسرائيل، وليس بجانب العرب الإسرائيليين". هذه العقليات التي تزكي الإرهاب وتشوه صورة العرب والمسلمين، ألم تتكون في جامعات ومدارس دينية في الولايات المتحدة؟
ثانياً- المؤسسة الصهيونية:
إن العنف والإرهاب الذي مارسته ولا تزال تمارسه هذه المؤسسة، إن هو إلا ثمرة (التعليم الديني) اليهودي، فمع السنوات الأولى لنشأة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة؛ صدر قانون التعليم الذي قسم المدارس إلى نوعين: مدارس حكومية تضم ثلثي الطلاب ومدارس حكومية ينتظم فيها الثلث الباقي، ومع ملاحظة أن نصيب التعليم الديني كبير جداً في المدارس الصهيونية العامة، وثمة مادة بعنوان (الوعي اليهودي) يدرسها الطلاب كافة.
وفي هذه المدارس تخرج غلاة الصهاينة الذين احترفوا الإرهاب، ويمارسون قتل (الأغيار) بنفسية من يمارس هوايته المفضلة!! إن (إيجال عامير) - وهو ابن حاخام- الذي اغتال إسحاق رابين قد تربى ونشأ وتكون على تعاليم (المدارس التلمودية) ومن أفضل الكتب التي كان هذا القاتل يدمن على قراءتها (سيرة باروخ جولد شتاين) الذي قتل 27 فلسطينياً مسلماً وهم يؤدون صلاة الفجر في المسجد الإبراهيمي.
فهل تنتظم الدعوة إلى تغيير المناهج الدينية: مناهج الجامعات والكليات والمدارس الدينية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل؟
وهل يوافق أصحاب هذه الدعوة على ( خيار الصفر الأيديولوجي) الذي اقترحناه- من قبل-، أم أن المطلوب - فحسب- هو: أن يهجر المسلمون - وحدهم- دينهم ومصادر هويتهم؛ وإلا فهم (إرهابيون) بالهوية والجبلة والديانة؟!
==============(13/131)
(13/132)
سيد قطب.. قراءة جديدة
جمال سلطان 21/10/1424
15/12/2003
( 1 )
لا يوجد قارئ في العربية مر على سيد قطب إلا وترك الرجل فيه أثرًا لا يمحى عبر الزمن، وهي ظاهرة تتصل عادة بالأشخاص أو المواقف الفاصلة والمميزة في حياة البشر، حيث تلتصق بالذاكرة الصورة أو الكلمة أو الذكرى بحيث يصعب على تصاريف الزمن أن تمحوها من ذاكرة الإنسان مهما مرت الأيام ومهما تعاورت الإنسان تصاريفها وأحوالها، من يقرأ سيد قطب يجد هذه الروح العجيبة التي تتسلل إلى حنايا النفس وتلمس أدق ما فيها وأرق ما فيها من مشاعر لكي تأخذ بها وبلباب العقل معها إلى آفاق بعيدة في عمق التاريخ وعمق النفس وعمق الحياة ، بل إنها تجمع عليك كل هذا في سياق واحد ولحظة واحدة وشعور واحد ، ليس الأمر متصلاً فقط بعبقرية الأدب وبراعة الأديب ، وإنما هناك روح الفكرة وصدقها وتوهجها المذهل في نفس صاحبها ، عندما يجتمع مع قلم حساس وشعور مرهف ، وإيمان بالله عميق ؛ تجد هذا الشعور المتدفق الذي تستشعره في عقلك ووجدانك عندما تقرأ لسيد قطب ، وخاصة في تحفته الكبيرة " في ظلال القرآن " ، ولم أجد أصدق تعبير عن حالها وقيمتها وأسلوبها من الكلمات التي وصف بها الزعيم المصري سعد زغلول كتابًا للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي فقال : كأنه تنزيل من التنزيل.
( 2 )
مشكلة التعاطي مع تراث سيد قطب ومنهجه هو مشكلة قرّائه؛ لأن كل قارئ كان يأخذ من الرجل ما يشتهي، بعضهم بحسن نية، مثل التيارات المغالية التي حاولت استنطاق كلماته بما يؤدي إلى التكفير ومشتقاته ، ومنهم من فعل الأمر بسوء نية وترصد غير أمين مثل هؤلاء الذين اندفعوا في خصومة مع غيرهم من الإسلاميين فصفوا حساباتهم مع سيد قطب، حتى أني اطلعت على كتاب اعتبر الرجل من فاسدي العقيدة والداعين إلى حكم الجاهلية والطاعنين في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كذلك هناك القراءات الأمنية لفكر الرجل ودوافعها من قبل بعض النظم القمعية مفهومة من تحويل الرجل وكتاباته إلى " شماعة " يعلقون عليها الثمرات المرة لسياساتهم القمعية في السجون والمعتقلات، مما أفرز لنا دوامات التطرف التي لا تنتهي ، وذلك على النحو الذي حدث مع الحقبة الناصرية في مصر ، وهناك قراءات ظالمة كانت نتيجة قراءات مغلوطة عن عمد من قبل شخصيات علمانية متطرفة ، عجزت عن فهم الحالة الإسلامية وخصوصياتها؛ فراحت تدعي فهما لأخص ما فيها وأعمق ما فيها ، وهو كتابات سيد قطب فأساءت إلى نفسها وإلى منهج البحث ذاته دون أن تسيء إلى الرجل ، هذه النزعات والنزاعات حول الرجل والتي ولدت الكثير من الجدل والعراك الفكري الساخن والمنفعل ، هي التي حرمت الكثيرين من تأمل قيمة الرجل وقامته ، وأسرار القبول العجيب لكتاباته، ومن ثم كيفية الإفادة الجادة من عطائه الفكري والدعوي ، وأحسب أن هذه الحالة هي التي ما زالت قائمة حتى الآن ، ولم يفلح حتى حواريوه وتلاميذه من الفكاك منها بفعل ضغوط الواقع وربما غياب الوعي بالقيمة المستقبلية لفكر سيد قطب.
( 3 )
سيد قطب كان ـ في تقديري ـ هو اللحظة الفارقة في تاريخ الفكر الإسلامي والعربي الحديث، بحيث يمكن أن يؤرخ المؤرخون للفكر العربي والإسلامي الحديث بهذه اللحظة، ما قبل سيد قطب وما بعد سيد قطب. وبإيجاز نأمل أن يتابعه من وهبه الله سعة الوقت والنشاط الذهني.
أقول: إن الفكر العربي والإسلامي بدأ رحلته في التاريخ الحديث بحال الصدمة والذهول أمام اكتشافه الفارق الحضاري الكبير بينه وبين العالم الغربي ، ووقع التمزق النفسي بين ما يؤمن به ويدين الله تعالى به من أن دينه هو الدين ، وأن نوره هو النور ، وأن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور ، وأن أمته هي الأعلى بالإيمان ، وبين الواقع الذي انكشف أمامه بهول الفارق بين ذلته وعلو الآخرين ، وهوانه واستكبار الآخرين ، وضعفه وقوة الآخرين ، وفوضاه وعبقرية نظام الآخرين ، وتخلفه وتقدم الآخرين ، هذه الصدمة المذهلة للعقل والمربكة للوجدان انعكست في أفكار ذلك الجيل فوقعت سلسلة الانهيارات الفكرية والعقدية التي طال الحديث عنها، وانتشر فيمن أرخوا لتلك المرحلة، بدء من رحلة رفاعة الطهطاوي مرورًا بانكسارات الشيخ محمد عبده ومدرسته بما فيها كتابات قاسم أمين ، وانتهاء بإحباطات طه حسين الذي رأى في النهاية أن النهوض بأمة المسلمين يكون باتباع أوربا في خيرها وشرها على السواء ، هذا التراث كله يصعب أن يتوقف المتأمل أمامه بمجرد النقد والاشتباك الفكري لدحض منطقه وتسفيه منطلقاته والكشف عن فساد منهجه ، وإن كان كل ذلك مطلوبًا بالتبعية ، ولكن الأهم هو تأمل اللحظة التاريخية التي ولد فيها هذا الفكر، وأبعادها النفسية ، أن تتعايش مع أصحابها وتفهم نزعاتهم والمؤثرات النفسية والاجتماعية التي أثرت عليهم قبل أن تناقش أفكارهم ، لقد كان تراثهم حالة نفسية واجتماعية أكثر منها حالة فكرية.
( 4 )(13/133)
ومع اقتراب القرن العشرين الميلادي من انتصافه بدأت تظهر في الأفق علامات وعي جديد ، بكتابات نقدية لتراث الصدمة والذهول ، كانت مقدماتها في التراجع الذي لاحظه مؤرخو الفكر على نزعات الكتابة عند طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وعلي عبد الرازق وآخرين ، كانت هناك عودة إلى التراث الإسلامي ، ومشاعر اعتزاز به ، وافتخار بعطاء الأمة الكبير ، وكان كل ذلك غائبًا عن كتابات لحظة الصدمة ، وبدأ الوعي بمشكلات الحضارة الغربية ، وتأملات نقدية في بنيتها وأمراضها النفسية والاجتماعية ونفاقها ووحشيتها التي حاولت إخفاءها بالترويج الكاذب لمعاني الإنسانية وحقوق الإنسان ، كما أن هناك كتابات نقدية للأجيال الجديدة كانت أكثر جرأة وجسارة في نقد تراث مرحلة الصدمة في المنطقة العربية ، ولعله في مقدمة هذه الكتابات مؤلفات الدكتور محمد محمد حسين يرحمه الله ، وخاصة كتابه المهم "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" والذي هاجم فيه بضراوة وعنف ـ له ما يبرره ـ أفكار تلك المرحلة وأشخاصها ، ولعل عنف الرجل يرجع إلى إحساسه بأن هالات القداسة التي حاول الإعلام العربي إضفاءها على رموز ذلك الجيل لا يمكن إسقاطها وكشف كذبها وزيفها إلا بهذا القدر من الوضوح ومن الصرامة الفكرية ، كذلك كانت هناك جهود كبيرة وصبورة للراحل الكبير الأستاذ أنور الجندي، وأعتقد أن جهود أنور الجندي مع جهود محمد حسين صاحب الكتاب الشهير الآخر " حصوننا مهددة من داخلها " قد أديا الغرض بكفاءة عالية، وإن كانا لم يمحوا آثار وعي الصدمة عن الواقع العربي وحتى الفكر الإسلامي ، خاصة في ظل صعود نجم الاشتراكية والفكر القومي والذي وصل من إبهاره إلى حد انكسار أفكار الإسلاميين أنفسهم وانجذابهم إلى "القطب" الجديد ، حتى ولو كان برؤية نقدية ، ولعلنا نذكر الكتابات التي عرفتها الستينات الميلادية من القرن الماضي ، والتي حاولت الربط بين الإسلام والاشتراكية أو الإسلام والقومية ، وكان من أبرزها كتاب الراحل الكبير مصطفى السباعي ـ يرحمه الله ـ عن " اشتراكية الإسلام".
في هذه اللحظة التاريخية ظهرت كتابات سيد قطب الأخيرة ، والتي مثلت القفزة الروحية والفكرية الرائعة التي نقلت الوعي الإسلامي والوجدان الإسلامي من الانجذاب إلى الواقع وتراث الصدمة بكل آثاره وذيوله إلى أفق جديد وبعيد، لا تشوبه أية شائبة من ذلك التراث المهزوم والمأزوم ، أتى سيد قطب لكي يقول للجيل الجديد بثبات مدهش وبساطة مفعمة بالثقة بالله ودينه وكتابه إن كل ذلك ركام من الفكر الضال ، بعد عن الحق والحقيقة قدر بعده عن نور الله وهديه. ثم أخذ بيد قارئه إلى هناك ، حيث النبع الصافي " الوحي الإلهي" لكي يعيد إلى قلب المؤمن بشاشة الإيمان ، وإلى عقل المؤمن بهاء الفكرة القرآنية ، ثم يكشف له عن خواء حضارة " الإنسان " الجديدة ، وأن إبهارها كاذب ، وأن عوراتها مفضوحة ، وأنها " محض جاهلية " لا تخفي وحشيتها وانحرافها وبعدها عن " إنسانية الإنسان " كل مساحيق التجميل الحضارية.
( 5 )
عندما كشف سيد قطب زيف الحضارة الجديدة ، لم يفعل ذلك مجرد حماسة ، رغم العاطفة المشبوبة في كلماته ونبضها ؛ بل كان يقدم خطابًا فكريًّا عاقلا لا يسع أصحاب التأمل الفكري الفكاك من حجيته وسلامة منطقه ، كما أنها كانت رؤى نقدية من بصير وخبير بتلك الحضارة ، معايشة لها أيام سفره في أمريكا، وقراءة متأملة في كتابات مفكريها وروادها ، كذلك كانت من العلامات الفارقة لكتابات سيد قطب عن الحضارة الغربية ، وهي من النقلات التي لم يعرفها الفكر العربي قبله ، أنه لم يكتب ما يكتب من منطلق الدفاع أو دفع التهمة عن دينه وأمته ؛ بل كان يكتب من منطلق استعلاء إيماني رائع وغير متكلف على هذا الواقع المنحرف الجديد الذي شكلته في عالم البشر الحضارة الغربية ، كان يهاجم وينتقد دون أي حاجة إلى دفاع أو مرافعة عن حضارته ودينه وأمته ، هذا لم يحدث قبل سيد قطب أبدًا. في تاريخ الفكر العربي الحديث ، كانت الكتابات حتى التي تهاجم الحضارة الغربية والفكر الغربي ـ على ندرتها ـ كانت دفاعية تعتذر عن ذاتها مع نقدها للآخرين ، ويذكر مؤرخو تلك المرحلة الجدل الذي وقع بين سيد قطب ومالك بن نبي ـ يرحمهما الله ـ عندما أعلن سيد قطب عن كتابه الجديد " نحو مجتمع إسلامي متحضر " ثم رأى أن يغير عنوان الكتاب قبيل الطبع إلى " نحو مجتمع إسلامي " ومنع كلمة " متحضر " لأنه اعتبر أن وصف الإسلام بذاته يشمل التحضر ويعني التحضر الحقيقي ، مالك تصور أن هذا تكلف من سيد قطب وتوتر فكري لا مبرر له ، ولكن الحقيقة أن هذا كان تناسقًا طبيعيًّا مع مشروع سيد قطب الفكري والروحي ، الذي لا يرى الإسلام بحاجة إلى دفاع أو تزويق أو تزيين ، هو بذاته النور وهو الحضارة وهو صانع إنسانية الإنسان المتوافقة مع فطرته وجوهر روحه والضامنة أيضًا لتوافق الإنسان مع الكون كله بشجره وحجره وأرضه وسمائه ، وإذا كان عالم المسلمين قد حرم من شيء من ذلك ، فتلك مشكلتهم هم لا مشكلة الإسلام .
( 6 )(13/134)
هذه الروح الجديدة التي كتب بها سيد قطب، نقلت مشاعر الجيل الجديد من المسلمين إلى عالم إنساني مدهش، ينظر باستعلاء حقيقي إلى الواقع المحيط به، ويسقط الهالة المقدسة عن رموز فكرية كبيرة في دنيا العرب والمسلمين ، ويجمع على الإنسان المسلم المعاصر لأول مرة شعوره وفكره في صعيد واحد، يجعله أكثر ثقةً في مستقبله ومستقبل أمته ، وأكثر رسوخًا في إيمانه بنور الله وهدي نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وأكثر إصرارًا على إعادة الاعتبار إلى شريعة الله وحكمه؛ لكي يكون مرجعية الحياة كل الحياة في عالم الإنسان ، ولقد كان سيد قطب - ككل مفكر عقدي يمثل لحظة فارقة في تاريخ أمته-حاسمًا في فصله بين الفكر الإسلامي وغيره من الأفكار التي تتأسس على غير هدى الله ونوره من النظريات المنحرفة أو المناهج الباطلة أو القوانين المصادمة لحكم الله وشرعه، لم يتردد لحظة في وصف ذلك كله بـ"الجاهلية"، وهو مصطلح إسلامي أصيل يختزل في دلالاته معاني البعد عن هدي الله ونوره مع الحمق مع الجهالة مع قصر نظر الإنسان.
وللأمانة فإنه من الصعب أن يجد الإنسان المسلم مصطلحًا آخر يؤدي هذه الصفات والدلالات مجتمعة في الحالة الإنسانية التي صاغتها ورسختها الحضارة الغربية ولوثت بها ـ على قدر متفاوت ـ بقاع الأرض كلها ، ولا يضير سيد قطب أن يكون هناك من الشباب الإسلامي من أساء استعمال المصطلح أو أخذه إلى غير رسالته ، وحاول أن يؤسس به فقهًا جديدًا أو منهجًا عقديًّا أصوليًّا جديدًا يفرز به الواقع ، أو من حاول أن يجعله منطلقًا لفتاوى مستهترة أو متعجلة أو متطرفة في تعاملها مع الواقع ، وكل ذلك حدث بالفعل ، ولكنه وزر من أخطأ به ، وليس وزر سيد قطب وعطائه ورسالته ، وهي نفس الاندفاعات التي جعلت طوائف من الجيل الثاني في الإسلام تسيء التعامل مع نصوص القرآن والسنة ذاتها ، فانتهى بها إلى تكفير صحابة رسول الله والتأسيس لمنهج الخوارج بكل عواقبه وتراثه الكئيب في تاريخ الإسلام .
( 7 )
يخطئ من يتصور أن مشروع سيد قطب قد انتهى أو أن واقعه وزمانه قد تجاوزه عالم الواقع وعالم الفكر، ومن يتصور ذلك لا يبعد كثيرًا عن فهم الغلاة في سيد قطب ، الذين حوّلوه إلى مجرد نصوص ودلالات فقهية أو عقدية ، وليس هكذا مشروع سيد قطب ، فمشروع الرجل هو تجديد إيمان المؤمن بدينه، وشحذ هممه نحو نهضة أمته وصناعة مستقبل أفضل لها وللبشرية، والتحذير الدائم من الخضوع لنمطية الواقع، أو التقولب في عصر من العصور البائسة ، وإنما العصر الحقيقي هو " عصر الجيل القرآني " هو عصر الإسلام الذي يؤسس لحضارة جديدة يظلها شرع الله وهديه ، فكر سيد قطب ثورة متجددة في عالم الفكر وعالم الواقع ، وهي تزهر في عقول ووجدانات من قرؤوه ويقرؤونه على مر الأيام ، ولا يوجد أديب إسلامي من بعده ، ولا مفكر إسلامي ، ولا داعية إلا وكان للرجل بصمته في فكره وفي مواقفه ، حتى من تكلف مخالفته أو التحفظ على بعض كتاباته ، ومن ثم يبقى مشروع سيد قطب مشروعًا مستقبليًّا تجديديًّا ، يلهم الأجيال الجديدة بروح العطاء للإسلام والعمل على نهضة أمته ، ويجعل نفوسهم مفعمة بالهمم العالية المستعلية على ضغوطات الواقع وتحديات الطريق ، وموصولة بمسيرة التاريخ الفذ والأمة الواحدة منذ آدم -عليه السلام- وحتى يرث الله الأرض ومن عليها ، ولذلك لا يعيد القارئ لكتاب الظلال على سبيل المثال قراءته الآن ، إلا ويجد فيه ذات الروح التي وجدها منذ سنوات بعيدة ، يقرؤها الشيخ أو الكهل فيستحضر بها مشاعره وهو شاب متدفق الحماسة والإقبال، وتنفعل بها نفسه من جديد ، وهذه خصيصة يصعب حضورها في أية كتابات فكرية أو أدبية أخرى ، وللأمانة فإن توالي الأحداث الجديدة في العالم وانكشاف مواقف السياسات الدولية ومعها الأخلاق والطموحات عارية مفضوحة بصورة لم تشهدها البشرية من قبل هي من الأمور الواضحة التي تعيد الاعتبار لسطور سيد قطب عندما عرى هذه المعاني كلها قبل أربعين سنة مضت ، في الوقت الذي كان ينظر الكثيرون -حتى من أهل الإسلام- إلى ما يقوله نظرة شفقة واستهتار، يرحمه الله.
===============(13/135)
(13/136)
الإبداع حين يكون ستاراً للاختراق الثقافي
كمال السعيد حبيب 9/10/1424
03/12/2003
تشير كلمة الإبداع إلى بناء شيء جديد على غير مثال سابق، فمثلاً أبو الأسود الدؤلي أبدع علم النحو العربي، والخليل بن أحمد أبدع العروض، والشافعي أبدع علم أصول الفقه، وأبو حنيفة أبدع علم القياس، ومالك هو الذي أبدع علم المصالح المرسلة والقياس، فضلاً عن المبدعين في علوم الطب والرياضيات والكيمياء والفلك وغيرها من العلماء العرب المسلمين، ولعمر بن الخطاب أولياته التي أبدعها علي غير مثال سابق في الإدارة والنظم السياسية والاجتماعية، أورد بعضها أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإبداعي في المالية والاقتصاد الأموال.. ولو أرسلت لنفسي عنانها لوجدتني أذكر كل المبدعين من علمائنا الذين أسسوا في كل منحى علماً متينًا وفكرًا سديداً؛ ففي علم السير -أي العلاقات الدولية- وضع محمد بن الحسن الشيباني مؤلفه الضخم "السير الكبير"، وله أيضاً "السير الصغير"، ناهيك عن قواعد المنهج الراقي في علم الحديث، والتي تعد أساسًا لما يطلق عليه اليوم "مناهج البحث".
في المرحلة الأولي من بناء العلوم الإسلامية كانت الحضارة العربية الإسلامية تتأسس بناء على حركة الحضارة ذاتها في الكون وفي الآفاق، وبمنهج عالم عادل جعل الكثير من المستشرقين يتحدثون عن عظمة الحضارة العربية الإسلامية على الحضارات الأخرى وعلى رأسها الحضارة الغربية ذاتها، ويكفي أن نتذكر كتاب سجريد هونكه "شمس الإسلام تسطع علي الغرب"، ولدينا اليوم ثروة هائلة من التراث الذي تركه أسلافنا جعل من يطلقون على أنفسهم "الحداثيين المعاصرين" ينتحلونه لأنفسهم، ويتمحكون به، ويصدرون كتاباً بعنوان "آباء الحداثة العربية " رغم أنه من الناحية المنهجية لم تكن الحداثة وما بعدها ومناهجها المعقدة وغير المفهومة مثل البنيوية والتفكيكية قد ظهرت بعد، وهي كلها مناهج غربية أقرب للطابع العبثي الذي يبدد البيان والفكر واللغة ويحيرها أكثر مما يساعدها على البيان والوضوح.
وعرفت الحضارة العربية الإسلامية جدالاً ومدافعة مع الحضارات الأخرى اليونانية بفلسفتها والرومانية بقوانينها وعقلانيتها، وطوعت هذه الحضارات لقيم الحضارة العربية الإسلامية، فلم تكن حضارتنا أبداً مغلقة على نفسها، ولكنها كانت تحافظ دائمًا على خصوصيتها وعلى قيمها، وكانت على وعي دائمًا بأن البعد القيمي والحضاري لابد من الحفاظ عليه، فهناك ثقافة وإطار مرجعي كان المبدع المسلم يضعه في اعتباره.
وقد لاحظت وأنا في تركيا أن عظمة الفن العثماني في البناء والخطوط والنقش كانت تضع في اعتبارها القيم الإسلامية المتصلة باحترام القيم الإسلامية التي لا تضاهي الخالق، فلم نجد رسوماً تنزع لمضاهاة خلق الله، ولم ألاحظ أي فنون متصلة برسم ذوي الأرواح.
ولم نجد شاعراً يثير الغرائز والفتنة بين المسلمين بقصد إشاعة الفاحشة بين الذين آمنوا، ذلك لأن الفن والإبداع مقصده الأساسي هو تحقيق المتعة والإحساس بالجمال وفق المرجعية الإسلامية، نعم عرفت بعض مراحل الرخاوة الحضارية من يحاول الخروج على هذه القواعد؛ لكن لم يكن ينظر لهذه المحاولات بالاحترام أو التقدير أو النظر إليها علي أنها فن وإبداع، وعامة من قام بهذا هم من الشعراء الذين لا وزن لهم كتعبير عن الروح الإسلامية.
الاختراق الثقافي البريطاني
لكنه مع التحول الحضاري لصالح الحضارة الغربية بدأ مثقفو الأمة يتحولون منبهرين تجاه الفنون والأفكار وطرق الكتابة الغربية، وكان يمكن أن يكون ذلك إضافة للحضارة العربية الإسلامية لو كان من يفعل ذلك على وعي بأنه يتعلم لكي يوظف علمه من أجل نهضة أمته وفنونها وأفكارها وطرق حياتها، لكن النخبة -للأسف- هي التي اندفعت كالحمر المستنفرة التي فرت من قسورة!، تلهث وتجري وراء كل ما يقذفه الغرب إلينا دون نظر أو روية، أو بذل أي جهد في محاولة تنقية وتطويع ما يؤخذ من الغرب لقيمنا وعلومنا وحضارتنا، وهنا وجدنا المثقف المرتبط بالأجنبي المحتل، ووجدنا المثقف المرتبط بمصالح الغرب وقيمه وأفكاره، ووجدنا عملاءً وليسوا مفكرين أو مبدعين.(13/137)
ففي مصر علي سبيل المثال وجدنا اللورد كرومر والمستشرق بلنت والقس دانلوب يقيمون علاقات مصالح ومصادقة مع النخبة المثقفة في هذا الوقت، ويدعمونها لنشر الثقافة البريطانية والغربية التي تضعف الثقافة الإسلامية، وخذ عندك مثلاً من قالوا عنه أستاذ الجيل (لطفي السيد)، وعميد الأدب العربي (طه حسين)، و (قاسم أمين)، و(سعد زغلول)، و(فتحي زغلول)، و(عبد العزيز فهمي)؛ بل والشيخ (محمد عبده) نفسه!، كل هؤلاء كانت مواقفهم الفكرية والسياسية تعبر عن الاختراق الغربي لفكرنا الثقافي، وبدلاً من مجيء الخبراء الأجانب من الخارج والأفكار من الخارج؛ فإنها أصبحت تزرع في أرضنا، ويروج لها أبناء جلدتنا!، وهذا حدث في مصر والشام و حتى في قلب الدولة العثمانية ذاتها، وهو ما قاد إلي تحللها وانهيارها، وعرفت الساحة الثقافية معارك هائلة فكرية وسياسية وحضارية، وقف فيها من تساندهم سلطة المحتل بسيفه وذهبه في مواجهة عامة الأمة ومثقفيها الحقيقيين؛ ففي معركة كتاب الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة لطه حسين وقف ضده الرافعي والغمراوي والشيخ الخضر حسين وأمين الخولي وغيرهم كثير، وفي المعركة السياسية كان من يطلق عليهم "حزب الأمة" في مواجهة الحزب الوطني، وكان الحديث عن وطنية مصطفي كامل تطرفاً ، وظهر في فترة الاستعمار البريطاني من اعتدى على المقدسات مدعوماً بذهب المستعمر وسيفه، مثل (سلامة موسى) في كتابه "اليوم والغد"، ومثل جريدة "المقتطف" و"المقطم" ومجلة "الهلال" التي كان يصدرها (جورجي زيدان).
المسألة الأساسية هنا هي ارتباط من أطلقوا علي أنفسهم "مثقفين ومفكرين" بالمستعمر، ورغم تقديرنا لجهود الوفد على المستوي الوطني والسياسي؛ لكن حزب الوفد كان يتبنى القيم والأفكار العلمانية، وهذا هو المأزق الحقيقي- في تقديرنا- لحركات الاستقلال؛ فهي مرتبطة ثقافيًا وفكريًا بالمستعمر، لكنها تريد أن تتحرر منه سياسيًا دون وعي بأن الحرية الحقيقة لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق الفكر والثقافة والحضارة.
صار الإبداع أداة لترويج فكر المستعمر وهز ثوابت الأمة الثقافية والحضارية فوجدنا من يهجم على القرآن والسنة واللغة العربية والمرأة المسلمة والأزهر والتعليم الديني، وصارت الجرأة والوقاحة عنواناً للمثقف المرتبط بالمستعمر البريطاني.
الغزو الثقافي الأمريكي الجديد
كما كان الأمر في عهد المستعمر البريطاني وجدنا المثقفين العرب والمصريين الذين حاولوا الوقوف في وجه الهجمة الإمبريالية الغربية يتجهون للإمبريالية السوفيتية. قد يقول البعض: لم يكن السوفييت استعماراً، لكنه كان كذلك وبالذات على المستوي الحضاري والثقافي وتبنى جيل كامل من المثقفين المصريين الأفكار الشيوعية التي تنظر لقيم الأمة ودينها باحتقار، ولم نر من حاول التحرر من السيطرة الإمبريالية الغربية عن طريق الإحياء الثقافي العربي أو الإسلامي، واكتشف تيار هام من هذا الجيل حجم الكارثة التي وقع فيها؛ فترك الفكر الشيوعي وأقبل ينهل من فيض حضارته.
ومع الاكتساح الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وجدنا انقلابًا كاملاً في التوجهات الثقافية لمثقفي اليسار؛ فإذا بهم يرتبطون بالمراكز الإمبريالية الغربية عبر المنظمات الحقوقية التي تستلهم القيم الثقافية الغربية، ووجدنا نفس المشهد القديم للورد كرومر يتكرر مع سفراء أمريكا الذين حرصوا علي تكوين نخب جديدة مرتبطة بالقبلة الأمريكية والبوصلة الفكرية الأمريكية، وتكفي الإشارة لما كتبه ناقد عربي له قيمته ووزنه مثل (عبد العزيز حمودة) في كتابيه "المرايا المحدبة والمقعرة" عن ارتباط التوجهات الإبداعية العربية والمدارس الحداثية بقيم الغرب؛ بل وتشجيع المخابرات الأمريكية لهذه التوجهات ودعمها، واستند الرجل في هذا لكتاب المؤلفة البريطانية الجادة (فرانسيس سوندرز) وكتابها القنبلة "من يدفع أجر العازف .. الحرب الباردة الثقافية"، وعلاقة المخابرات الأمريكية بالفنون والثقافة والآداب، وهي تعتمد على مثل إنجليزي يقول (من يدفع أجر العازف يختر اللحن)، وهكذا فالملحنين الذين يلحنون علي النغمات الأمريكية من المثقفين العرب اليوم لابد وأنهم قد دفع لهم أجر عزفهم!. وتوجد حالات واضحة في هذا المجال لا داعي لذكرها حيث يستخدم التمويل الأجنبي للأبحاث والأفكار والمؤسسات ستاراً لذلك كما ذكرت المؤلفة البريطانية.
نقول ذلك على الضجة التي أثيرت في مصر مؤخراً عن الكتاب التافه الذي أصدرته مكتبة الأسرة بأموال المصريين بعنوان "وصايا عشق النساء"، والذي أصدر مجمع البحوث الإسلامية فتوى تجرمه من المنظور الإسلامي، حيث يشبب بالنساء، ويفتح الباب على مصراعيه للفساد الأخلاقي، ويطلق المشاعر الإباحية للمرأة وعاشقها دون أي قيود، واستخدم الكتاب الآيات القرآنية في ثلاثة مواضع بطريقة تسيء للقرآن!.(13/138)
لقد أصبحت المراكز الثقافية في بعض بلادنا العربية وكراً للترويج للقيم الأمريكية، ووكراً للعملاء الذين يروجون لهذه القيم تحت ستار الإبداع، وهو ليس سوي أداة من أدوات الاختراق الثقافي لحصون الأمة الحضارية لحساب قيم المستعمر الثقافي الجديد، وهو هنا أمريكا هذه المرة.
من يقرأ تاريخ الصراع الفكري بين الإسلام والعلمانية في مصر في أوائل هذا القرن؛ سوف يجد العلاقة الوثيقة بين هذه الحقبة وبين ما يجري اليوم من إعادة إنتاج هذا الصراع من جديد في قوالب جديدة حيث يقف المثقف التاجر يعزف في صف من يدفع له أجره، وكان بالأمس المستعمر البريطاني واليوم المستعمر الأمريكي.. إنها نفس القصة ولكن في سياق جديد
==============(13/139)
(13/140)
مشاهداتي في تركيا!
كمال السعيد حبيب 15/9/1424
09/11/2003
زرت تركيا وذلك للتعرف على أوضاع الحالة الإسلامية هناك وعلاقة الإسلام بالواقع الاجتماعي والسياسي وعلاقته بالأحزاب السياسية، فهذا هو موضوع رسالتي للدكتوراه في العلوم السياسية، وفي الواقع فإن الحالة التركية تزخر بالكثير من الدلالات والخبرات، لكني أحاول التركيز على قضية أساسية لم تكن الحركة الإسلامية على وعي بها، وهي الظن أو الاعتقاد أن المجتمعات واحدة وأن العلوم واحدة، وأن ما حدث في مجتمع يمكن أن يحدث بشكل آلي أو أوتوماتيكي على المجتمعات الأخرى، وأن قواعد العلوم التي جري تطبيقها على حالة محددة يمكن أن تطبق علي الحالات الأخرى بدون وعي بأنه من أكبر الخطايا العلمية والحركية والمنهاجية تصور أنه يمكن تعميم قواعد العلوم على كافة الحالات دون معرفة البيئة أو الأرض أو المجتمعات التي نطبق عليها هذه القواعد، ففي العلوم الاجتماعية بالذات -وهي العلوم التي يجب أن تكون موضع اهتمام الحركات الإسلامية- لا يوجد قانون ثابت يمكن تعميمه بحيث نقول مثلاً: إن الثورات تنشأ في المجتمعات حين ينتشر الظلم والاستبداد، وإن أي مجتمع تنتشر فيه المظالم؛ فإن الثورة تصبح العمل الممكن والمتاح فقد ينتشر الظلم والاستبداد في مجتمع لكنه لا يولد ثورة، وربما يكون اللجوء لاستخدام القوة من أجل تثوير الناس ليس منهجاً صحيحًا، فظروف إيران ليست هي ظروف مصر، ولاهي ظروف تركيا أو الجزائر، ومن هنا فإنه يوجد ما أطلق عليه "علم الفروق بين المجتمعات".
بحيث إن الذي يحدد صحة المقولة العلمية ليس كونها صحيحة في ذاتها علي المستوي التجريدي، وإنما الذي يحدد صحتها هو قابليتها للتطبيق في سياق اجتماعي وسياسي معين، وهذا في الواقع يفرض على الحركات الإسلامية في بلدانها أمرين؛ أولهما: معرفة المقولات والنظريات والاتجاهات العلمية والفكرية، وحتى السنن والقواعد الاجتماعية المستقرة.
وثانيهما: التعمق في معرفة واقع بلدانها الذي تتحرك فيه، بحيث يمكنها فهم ما يصلح لمجتمعها، والتعامل مع الوسائل والأدوات والوسائل المناسبة لإصلاح هذا الواقع، ويدخل في معرفة هذا الواقع التأمل في طبيعة القوى السياسية والمجتمعية وطبيعة التوازنات التي تحكم المجتمع، ومعرفة نفسية وخصائص المجتمع الذي يمثل المجال الحيوي لفعل الحركات الإسلامية. ففي العلوم الاجتماعية والسياسية الذي يحدد كون المقولات أو النظريات المجردة صحيحة أو خاطئة أو أنها ملائمة أو غير ملائمة؛ هو السياق والواقع الاجتماعي والسياسي والحركي الذي تطرح فيه.
وبين المقولة العلمية المجردة أو حتى السنة الكونية الاجتماعية وبين الواقع الذي تطرح فيه يوجد وسيط مهم جداً؛ هو العقل الذي يجتهد لمحاولة التوفيق بين هذه السنن والقواعد المجردة، وبين الواقع الذي تتحرك فيه الحركات الإسلامية. ففي الفترة الأخيرة بدأت الحركات الإسلامية تلتفت لأهمية القواعد والسنن الاجتماعية مثل قوله تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) ، ففسق الأمراء وترفهم مؤذن بخراب العمران وزوال السلطان لكن هناك ما يطلق عليه في العلوم الاجتماعية الوسيط بين هذه القاعدة وبين الواقع الذي تتحرك فيه، وهذا الوسيط هو ما يطلق عليه التكنيك، أي التوصل عبر العقل والاجتهاد والجهد البشري للحركات الاجتماعية ليتحقق هذا القانون الاجتماعي وهذه السنة الكونية الاجتماعية، فهناك آليات هي التي قادت لوصول المترفين والفاسدين للسلطة، وهناك آليات وجهد بشري في الواقع لحرثه وفهمه ومعرفة كيف يمكن التعامل معه للتخلص من هذه الفئة المترفة الفاسدة، فهذه السنن لا تتحقق بشكل آلي فور وقوع شروطها دون جهد من البشر؛ بل إنني لا أبالغ إذا قلت إنه ربما يكون تحكم المترفين هو نتيجة لعدم القدرة على فهم الواقع والتعامل معه بما يتكافأ ومتطلباته من جانب الحركات الاجتماعية التي تسعى للتغيير ومنها بالطبع الحركات الإسلامية.
تركيا حالة فريدة
كما هو معلوم فإن الأتاتوركية تسلطت على واقع تركيا بعد سقوط الخلافة والقضاء عليها تمامًا عام 1923م، وتم إعلان الجمهورية التي مثلت فيما نتصور حالة فريدة في التاريخ البشري، فبقوة القهر والبطش والجهل سعت الأتاتوركية إلى الاعتداء على هوية المجتمع التركي وتاريخه وتراثه بحيث إنها كانت أكثر عنفًا ووحشية من النازية والشيوعية والفاشية، إلى درجة أن الزائر لتركيا لا يمكنه أن يفارق عقله السؤال الذي لايمكن دفعه وهو كيف حدث هذا؟ كيف استطاعت الأتاتوركية أن تستلب لهذا الحد التراث والتاريخ والهوية والعقيدة لشعب قوي له جذوره الممتدة في التاريخ وناضل وخدم الإسلام لأكثر من ألف عام، قاوم الأتراك الإجراءات المجنونة لأتاتورك لكن عنف السلطة وبطشها عصف بكل الذين قاوموا.(13/141)
وحدثني متخصصون التقيتهم في التاريخ التركي أن أكثر من خمسين ألف شخص من العلماء والمقاومين راحوا ضحية الإجراءات الكمالية المجنونة، واستمرت الوحشية الأتاتوركية حتى بعد وفاة أتاتورك عام 1938م، إذ كان حكم عصمت أنينو أشد وحشية، لكن محاولة الأتاتوركية الوحشية لبناء عالم ومجتمع ودولة على مزاج التصورات الأتاتوركية باءت بالفشل الذريع، فبعد 27عامًا جاء الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس ليكنس زبالة الأتاتوركية، وليعيد للإسلام اعتباره، فعاد الأذان باللغة العربية، وفتحت المساجد التي كانت تحولت لمتاحف، وفتحت المدارس الإسلامية، خاصة مدارس الأئمة والخطباء، وبدأت حركة ترجمة واسعة وعادت تركيا تحاول التواصل مع عالمها الإسلامي عبر التعرف على الفكر الإسلامي في البلدان الإسلامية، وتم ظهور جماعة طلاب النور وطبع رسائل سعيد النورسي بشكل علني، لقد كانت هزيمة الحزب الجمهوري الساحقة في انتخابات عام 1950 م تصويتاً على أن الإسلام ليس مجرد قميص يمكن لنظام حكم مهما كانت وحشيته أن ينزعه عن الجسد التركي لكنه - أي الإسلام- هو عظام تركيا ولحمها ودمها، ومع قسوة الدولة الكمالية ووحشيتها أيقنت الحركة الإسلامية هناك أنه لا يمكن الدخول في مواجهة عنيفة مع الدولة، واعتمدت أسلوب المواجهة العقدية والدعوية لدحض الأفكار المادية والإلحادية، وهو ما عبرت عنه رسائل النور التي كان يكتبها سعيد النورسي.
كما أن جماعات النقشبندية كان لها دور كبير في المقاومة والحفاظ علي الإسلام، بل إن هيئة شؤن الديانة التي أسسها أتاتورك للسيطرة على الدين ومشاعر المتدينين كان لها أكبر الأثر في الحفاظ على الإسلام، مع تعاظم الحركة الإسلامية الدعوية في فترة الستينيات بعد الانقلاب العسكري عاد حزب العدالة ليمثل إطاراً للإسلاميين، حتى قرر الإسلاميون خوض العمل السياسي مستقلين وليس تحت مظلة الأحزاب الأخرى، فنشأ حزب النظام ثم حزب السلامة.
وبعد انقلاب عام 1980 عادت الحركة الإسلامية للعمل عبر حزب الرفاه الذي اكتسح الانتخابات المحلية والنيابية واستطاع، رئيسه نجم الدين أربكان أن يكون أول رئيس وزراء في دولة علمانية، وبعد الانقلاب عليه عام 1997 تأسس حزب الفضيلة وهو يقود الآن حزب السعادة، كما أن حزب آق (أي الحزب الأبيض كما يعرف في تركيا) حزب العدالة والتنمية هو الحزب الحاكم، ورغم أنه يقول إنه حزب غير إسلامي؛ لكن مؤسسيه لهم أصول إسلامية، وهم يتبنون أيديولوجية محافظة أشبه بأيديولوجية الحزب الديموقراطي أيام عدنان مندريس وأيديولوجية حزب الوطن الأم أيام تورجوت أوزال، وهي أحزاب عرف المسلمون في تركيا في ظلها انتعاشاً للمد الإسلامي.
تجنب المواجهة
قرار الحركة الإسلامية في تركيا بعدم خوض مواجهة عنيفة مع العلمانية والعسكر كان بناءً على دراسة وفهم للواقع التركي، بحيث استطاعت الحركة الإسلامية أن توظف المساحات المتاحة من الحرية والديمقراطية النسبية في تركيا لصالح حركتها، والتزام قواعد اللعبة السياسية، بل والمسابقة في الحفاظ على هذه القواعد. هنا فهم واضح للواقع وللسياق الاجتماعي والسياسي التركي، ومن هذا الفهم جاء قرار الحركة الإسلامية الواعي باختراق النظام السياسي، والتعامل على أرضية القواعد التي وضعها أتاتورك ووضعتها العلمانية ذاتها، ومحاولة توظيفها وليس التصادم معها، ورغم أن الخبرة التركية مهمة جدًا، لكنها مهمة في السياق التركي وتبقي دلالتها حية بالنسبة للحركات الإسلامية الأخرى في ضرورة فهم الواقع الذي تتحرك فيه الحركات الإسلامية وابتداع وسائل اجتهادية للتعامل مع هذا الواقع دون القفز عليه بطرح رؤى فلسفية ونظرية لا مكان لها إلا في عقول مطلقيها .. الخبرة الواقعية والحركية هي معمل الحقيقة والبرهان على صدق النظريات والمقولات التجريدية أو خطئها، فليس معيار صدق المقولة هو اتساقها المنطقي المجرد ولكن اتساقها وملاءمتها مع الواقع الذي تتحرك فيه وتعمل معه
===============(13/142)
(13/143)
الإصلاح ... ضرورة
سهيلة زين العابدين حمَّاد 24/8/1424
20/10/2003
تواجه أمتنا الإسلامية تحديات جمة وخطيرة تستهدف هويتها وعقيدتها وتراثها وحضارتها وثرواتها وعزتها وكرامتها وحريتها، والكعبة المشرفة هدف أعداء الأمة، ولقد أشار إليها رئيس الوزراء البريطاني مستر جلادستون في أواخر القرن التاسع عشر في مجلس العموم البريطاني، وقد أمسك بيمينه كتاب الله عزَّ وجلَّ، وصاح في أعضاء البرلمان وقال: "إنَّ العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولابد من القضاء عليهما مهما كلَّفنا الأمر، أولهما هذا الكتاب، وسكت قليلاً بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال:هذه الكعبة!!" (1).
ويحاول الآن الأعداء النفوذ إلينا من خلال ثغرات موجودة في مجتمعنا، واستغلال هذه الثغرات للانقضاض علينا مدعين أنَّهم يريدون لنا الحرية والعدل والديمقراطية، هذه الكلمات التي يخدعون بها البعض من أبناء أمتنا من المنبهرين بالغرب وحضارته وثقافته وحريته وديمقراطيته الزائفة، فينصاعوا وراء تلك الشعارات الزائفة، ويكونوا عوناً لأعدائنا علينا، وما يلبثوا أن يجدوا أنفسهم وقعوا وأوقعوا معهم أمتهم وأوطانهم في مستنقع عميق لا قرار له، ولا مخرج منه إلاَّ بعد تقديم الملايين من الشهداء خلال عدد من السنين لا يعلم مداها إلاَّ الله وحده.
ولئلاَّ تتكرر مأساة أفغانستان والعراق علينا أن نعمل على إصلاح ما بأنفسنا (إنَّ الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم) ، ونحدد دور كل واحد منا في هذا الإصلاح، وأن نكون يداً واحدة وجبهة واحدة يتضامن فيها الشعب بكل فئاته وعناصره للعمل على سد كل المنافذ والثغرات التي قد ينفذ الأعداء إلينا منها.
لذا فإني سوف أقدم كامل رؤيتي لهذا الإصلاح في جانبه الثقافي والتربوي والإعلامي.
أولاً - الإصلاح الثقافي
لن يتحقق الإصلاح الثقافي في مجتمعاتنا الإسلامية إلاَّ إذا عملنا على تحقيق الآتي:
1-العمل على القضاء على الأمية في عالمنا العربي والإسلامي.
2- السعي إلى توحيد لغة المسلمين بنشر لغة القرآن الكريم:
علينا أن نسعى إلى توحيد لغة المسلمين بنشر لغة القرآن الكريم وجعلها لغة كل مسلم ومسلمة.
3-التسلح بثقافة إسلامية واعية:
يجب أن نتسلح بثقافة إسلامية واعية، وأن نواجه تحديات العولمة بها، بل علينا أن ننشر الثقافة الإسلامية، وأن نقدمها للعالم بكل ما فيها من سمو وجمالية وقيم وفضائل وعدل وخير للبشرية، بدلاً من "الأمركة" المفروضة على العالم بكل أمراضها وشذوذها، وهيمنتها وسطوتها وغرورها وغطرستها وظلمها وانحيازها للصهيونية العالمية ولكل من يحارب الإسلام، ويبيد المسلمين.
فلتكن ثقافتنا ثقافة إسلامية واعية صامدة أمام تحديات العولمة، فارضة ذاتها على الآخر لتكون النموذج الذي نقدمه للعالم في هذا العصر، وبدلاً من أن يفرض علينا الآخر ثقافته، وقد مرَّت علينا قرون، ونحن نتلقى من الآخر، وقد آن الأوان أن نقدم ثقافتنا الإسلامية بكل رقيها وسموها وثراها وغناها وتجددها الدائم، لأنها من نبع لا ينضب، علينا أن نتبع الآتي:
أولاً - الاهتمام بالتربية الأسرية ولا سيما التربية الروحية:
إذ أرى أنّ ضعف الجانب الروحي في شبابنا -ذكور وإناث -هو العامل الرئيس في هذا الانحراف العقائدي، وتنمية هذا الجانب، وغرسه في روح الأبناء غرساً سليماً هو القاعدة الأساسية في الإصلاح، لما للتربية الإسلامية من أهمية بالغة في غرس حب الله والإيمان به في النفوس، ومراقبته والخوف منه، فللتربية الروحية أهمية بالغة في تحديد عقيدة النشء يجب الاهتمام بها، والتركيز عليها منذ الطفولة المبكرة ليستطيع الأبناء مواجهة تحديات العصر، وتيارات التشكيك الموجهة ضد ديننا وعقيدتنا بعقيدة ثابتة لا تتأثر بتلك المحاولات التي تعمل على إفقادهم عقيدتهم الإيمانية بالخالق، وصلاحية ما شرَّعه لهم في أمورهم الدنيوية، وما وعدهم من نعيم في حياتهم الأخروية إن التزموا بما أمرهم به، واجتنبوا عمَّا نهاهم عنه (2)،فإذا قوي في الإنسان الإيمان بالخالق جلّ شأنه ومراقبته في كل قول وعمل فاتبع أوامره، واجتنب نواهيه، ورَّوض نفسه ووطَّنها على كبح جماح الغرائز والشهوات، وأصبحت له إرادة قوية يستطيع أن يصمد بها أمام المغريات، وعالج نفسه من الانحرافات، بالاعتراف بالذنب، والتوبة النصوحة والاستغفار، وقاوم مصائب الدهر بالدعاء، وليس إلى ما يغيب عقله كالمخدرات والمسكرات، كما يكتب معظم كتاب القصص والروايات.
ثانياً - الاهتمام بعلم الاستغراب:
علينا أن نبدأ بدراسة الغرب وعلومهم ومناهجهم، ونقدها من المنظور الإسلامي، وذلك للاستفادة مما حققوه من إنجازات في مجال العلوم التطبيقية، ومن مناهجهم فيما لا يتعارض مع الدين، وتوضيح مثالب وعيوب الحضارة الغربية باتباع منهج علمي حقيقي مجرد من الميول والأهواء والنزعات الذي أرشدنا ووجهنا إليه ديننا الحنيف.
ثالثاً - الاهتمام بالجاليات الإسلامية:(13/144)
أن يكون هناك تواصل فكري وثقافي بين أبناء الجاليات الإسلامية، وبين مفكري ومثقفي الأمة الإسلامية، عن طريق تنظيم المؤتمرات والملتقيات والمهرجانات والمواسم الثقافية، وعلى المؤسسات والمنظمات الإسلامية أن تنظم مؤتمرات في مختلف البلاد الإسلامية يشارك فيها مثقفو ومفكرو أبناء الجاليات الإسلامية لربطهم بوطنهم الأم، وليتم التواصل بينهم وبين أكبر عدد ممكن من مفكري ومثقفي الأمة.
إنَّ الصلة بيننا وبينهم تكاد تكون منقطعة، وهذا قصور منا نحن شعوبًا وحكومات، وعلينا أن نعمل على التواصل بيننا وبينهم فهم جزء لا يتجزأ منا، وسيسألنا الله عنهم إن فرَّط أحدهم في دينه، أو تعرض إلى ما يسيء إليه دون أن نقف إلى جانبه ونسانده للحفاظ على دينه ليجتاز محنته، ومتى أدركنا هذه المسؤولية، وقمنا بواجبنا نحوهم، نكون قد أسهمنا في أسلمة فكر وثقافة الأمة -وأقول هنا أسلمة فكر وثقافة الأمة لأنَّ الغالبية العظمى منا أضحت للأسف الشديد علمانية الفكر والثقافة، وأصبح معظم القائمين على وسائل الاتصال علمانيين-، ووحدنا توجهاتها لخير البشرية، وبذلك نكون قد أسهمنا في إعادة الدور الحضاري للأمة الإسلامية، وجعلنا الثقافة الإسلامية في موقع القوة والإبداع والابتكار لا موقف الضعف والتقليد والاتباع، كما هي حالنا الآن.
رابعاً - قيام مفكري ومثقفي الجاليات الإسلامية بدورهم الثقافي في المجتمعات الغربية:
على مفكري ومثقفي الجاليات الإسلامية أن يقوموا بدورهم الثقافي في المجتمعات الغربية، بالتعريف بالإسلام ومبادئه وقيمه وحضارته وتاريخه؛ لتصحيح ما شوهه رجال الكنيسة والمستشرقين عن الإسلام ونبيه - عليه الصلاة والسلام- وتاريخه، وما يقوم بتشويهه الإعلام الغربي الذي تسيره وتتحكم فيه الصهيونية العالمية.
ثانياً - الإصلاح في المجال الإعلامي
أولاً - أن تضع الدول العربية والإسلامية خطة إعلامية موحدة لمواجهة ما يواجهنا من مخاطر وضغوط وتحديات:
وأن يراعى في هذه الخطة الآتي:
- إنشاء وكالة أنباء عالمية إسلامية، وصحف وقنوات تلفازية بمختلف اللغات تشرح ديننا وقيمه وحضارته وتاريخه، وترد على ما يثار حوله من شبهات، مع شرح قضايانا، ومن المفارقات العجيبة أنَّنا نجد اليهود الصهاينة الذين لا يتجاوز عددهم الخمسة عشر مليوناً يملكون أربع من خمس وكالات أنباء عالمية، وكبريات الصحف وشبكات التلفزة العالمية في أوربا وأمريكا، إضافة إلى سيطرتها على السينما الأمريكية، وامتلاكها كبريات شركات الإنتاج السينمائي العالمية، مع سيطرتها على المسارح، وشركات الإعلان في أمريكا، ونحن المسلمين البالغ عددنا مليار ونصف لا نملك ولا وكالة أنباء عالمية واحدة، ولا صحيفة أو مجلة أو قناة تلفازية عالمية.والولايات المتحدة وإسرائيل كل منهما سوف يوجه قناة فضائية تبث بالعربية إلى العالم العربي تقدمان مزيداً من التضليل والأكاذيب لتضليل الرأي العام العربي، ونحن الواقع علينا كل هذا الظلم والعدوان لم نبث قناة، ولو باللغة الإنجليزية تعمل على تكوين رأي عام عالمي سليم تجاه ديننا وقضايانا المصيرية.
- إيقاف الدعاية والإعلان للبضائع والمطاعم واللحوم والمشروبات اليهودية والأمريكية. في المحطات التلفازية، والإذاعات الصحف والمجلات التي تصدر في البلاد العربية والإسلامية.
- مقاطعة الأفلام والمحطات التلفازية الأمريكية، بعدم بث الأفلام والبرامج والقنوات الأمريكية على الشبكات التلفازية المشفرة.
- أن يتبنى إعلامنا في البلاد الإسلامية الأدب الإسلامي، لأنه يشكل الآن الجبهة التي تجعلنا نحافظ على هويتنا الإسلامية وأصالتنا وتراثنا الفكري والحضاري، ويقينا شر الذوبان في ثقافة وحضارة الآخر.
- أن يُشجع أصحاب القنوات الفضائية المفتوحة والمشفرة على التنسيق فيما بينهم ليقدموا مواد جيدة بعيدة عن الإسفاف، تجمع بين الترفيه البريء والتثقيف الإسلامي الواعي، وعلى القنوات الفضائية المتخصصة ألاَّ تخرج عن المناهج والأهداف التي أُنشئت من أجلها.
- أن تتاح الفرص للأقلام الإسلامية الواعية المعتدلة غير المتطرفة بالكتابة في الصحف والمجلات.
- لا بد أن يتخذ وزراء العدل والإعلام والثقافة العرب والمسلمون خطوات إيجابية تجاه ما يقوم به اللوبي الصهيوني من إرهاب فكري وثقافي تجاه الأدباء والكتاب والمفكرين والصحفيين:
وهو تكميم أفواهنا كما كمموا سلاحنا ضد الجرائم الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، فأصبح الذين يدافعون عن الحق العربي في فلسطين ويكشفون أكاذيب وأضاليل اليهود وجرائمهم عبر التاريخ، يُحاكمون بتهمة " المعاداة للسامية" في المحاكم الغربية، يُحكم عليهم بالسجن؛ إذ عليهم المطالبة بإسقاط ما يسمى بتهمة المعاداة للسامية، و رفض المحاكم في كل دول العالم القضايا التي ترفع تحت مسمى هذا الاتهام لأنَّ هذه التهمة تقيد حرية التعبير، وحرية الرأي من جهة، ولأنَّها تعطي المشروعية للجرائم الإسرائيلية والصهيونية العالمية ضد الفلسطينيين والعرب من جهة أخرى.
ثانياً - الالتزام بميثاق جاكرتا للإعلام الإسلامي:(13/145)
ففي الحادي والعشرين من شهر شوَّال عام 1400هـ الموافق 1سبتمبر عام 1980م عقد المؤتمر الأول للإعلام الإسلامي في جاكرتا بإندونيسيا، وشارك فيه ما يقارب من 450 شخصية إعلامية إسلامية من مختلف أنحاء العالم يمثلون كافة أشكال وسائل الإعلام الإسلامي، وقد أقر هذا المؤتمر ميثاق الشرف الإعلامي الإسلامي، وجاء في المادة الأولى من هذا الميثاق الآتي:
الالتزام:
أ- بترسيخ الإيمان بقيم الإسلام ومبادئه الخلقية.
ب- بالعمل على تكامل الشخصية الإسلامية.
ج- بتقديم الحقيقة له خالصة في حدود الآداب الإسلامية.
د- بتبيين واجباته له تجاه الآخرين وبحقوقه وحرياته الأساسية.
وجاء في المادة الثانية الآتي:
يعمل الإعلاميون على جمع كلمة المسلمين، ويدعون إلى التحلي بالعقل والأخوة الإسلامية والتسامح في حل مشكلاتهم، ويلتزمون:
1- بمجاهدة الاستعمار والإلحاد في كل أشكاله والعدوان في شتى صوره والحركات الفاشية والعنصرية.
2- بمجاهدة الصهيونية واستعمارها الاستيطاني بأشكال القمع والقهر التي يمارسها العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
3- باليقظة الكاملة لمواجهة الأفكار والتيارات المعادية للإسلام.
وجاء في المادة الثالثة الآتي:
يلتزمون:
1-بالتدقيق فيما يُذاع وينشر ويعرض حماية للأمة الإسلامية من التأثيرات الضارة بشخصيتها الإسلامية وبقيمها ومقدساتها ودرء الأخطار عنها.
2-بأداء رسالتهم في أسلوب عف كريم حرصاً على شرف المهنة، وعلى الآداب الإسلامية. فلا يستخدمون ألفاظاً نابية ولا ينشرون صوراً خليعة، ولا يتعرضون بالسخرية والطعن الشخصي والقذف والسب والشتم وإثارة الفتن، ونشر الشائعات وسائر المهاترات.
بالامتناع عن إذاعة ونشر كل ما يمس الآداب العامة أو يوحي بالانحلال الخلقي، أو يرغب في الجريمة والعنف والانتحار، أو يبعث الرعب، أو يثير الغرائز سواءً بطريق مباشر أو غير مباشر.
بالامتناع عن إذاعة ونشر الإعلان التجاري في حالة تعارضه مع الأخلاق العامة والقيم الإسلامية.
وجاء في المادة الرابعة الآتي:
يلتزمون بنشر الدعوة الإسلامية والتعريف بالقضايا الإسلامية، والدفاع عنها، وتعريف الشعوب الإسلامية بعضها ببعض، والاهتمام بالتراث الإسلامي والتاريخ والحضارة الإسلامية، ومزيد العناية باللغة العربية، والحرص على سلامتها ونشرها بين أبناء الأمة الإسلامية، وبالخصوص بين الأقليات الإسلامية.
وبإحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية لاسترجاع السيادة التشريعية للقرآن والسنة.
ويتعهدون بالمجاهدة من أجل تحرير فلسطين وفي مقدمتها القدس وكافة الأقطار الإسلامية المضطهدة.
ويلتزمون بتثبيت فكرة الأمة الإسلامية المنزهة عن الإقليمية الضيقة والتعصب العنصري والقبلي واستنهاض الهمم لمقاومة التخلف في جميع مظاهره وتحقيق التنمية الشاملة التي تضمن للأمة الازدهار والرقي والمناعة(3).
هذا هو ميثاق جاكرتا للإعلام الإسلامي، وعلى الإعلاميين في عالمنا الإسلامي الالتزام به، وكذلك الالتزام بتوصيات وقرارات هذا المؤتمر لمواجهة التحديات التي تواجه أمتنا الإسلامية.
ثالثاً - على أصحاب رؤوس الأموال العرب والمسلمين العمل على الآتي:
1- العمل على إنشاء وكالة أنباء عالمية إسلامية على مستوى وكالات الأنباء العالمية لتنوير الرأي العام العالمي بحقائق تسعى وكالات الأنباء الأجنبية -التي تسيرها الصهيونية العالمية- إلى طمسها، وتضليل الرأي العام العالمي، وتأليبه ضد المسلمين والعرب، وتشويه صورتهم.
2- إصدار صحف عالمية إسلامية، وبث قنوات فضائية بمختلف اللغات الأجنبية توضح للرأي العام العالمي قضايانا المصيرية، وتاريخنا الإسلامي المشرف، وحضارتنا الإسلامية التي تعد أرقى الحضارات الإنسانية. فإعلامنا حتى هذه اللحظة لا يزال يخاطب نفسه، ولم توجد إلى الآن لغة حوار بيننا وبين الغرب، فالصهيونية العالمية لا تزال تسيطر على الرأي العام العالمي وتوجيهه لتحكمها في معظم وكالات الأنباء العالمية، والصحافة العالمية وشبكات التلفاز العالمية، وكذلك السينما والمسرح.
3- إنتاج أفلام سينمائية تاريخية ضخمة، تدبلج بمختلف اللغات توضح روعة تاريخنا الإسلامي، وعظمة الإسلام وسماحته، كما تركز على إنجازات العلماء المسلمين في مختلف مجالات العلم والمعرفة، كما تركز على القضية الفلسطينية، والمذابح التي أحدثها الإسرائيليون في دير ياسين، وقانا، وصبرا وشاتيلا، وما يحدثونه الآن من جرائم بشعة في الأراضي المحتلة، وما أحدثوه من جرائم خلال خمسين عاماً، وعن استشهاد الطفل "محمد الدرة" وغيره من الأطفال، وكذلك إنتاج أفلام سينمائية مماثلة عن القضية الشيشانية، والألبانية، وقضية البوسنة والهرسك، وما تلاقيه الأقليات الإسلامية من اضطهاد في الفلبين، وسيرلانكا، وغيرها.(13/146)
4- الاهتمام بالأقليات الإسلامية الموجودة في مختلف أنحاء العالم، ولا سيما في أوربا والأمريكتين، والعمل على جعلها مراكز إشعاع حضاري للعالم، وتُوجّه لها برامج في القنوات الفضائية المقترح إنشاؤها، بإعداد برامج عن تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وبرامج توضح لهم أمور دينهم، وتربطهم بأوطانهم، وتحكي لهم تاريخهم، وتسهم في حل ما يواجههم من مشكلات.
5- على القنوات الفضائية العربية الخاصة الالتزام بميثاق جاكرتا للإعلام الإسلامي حفاظاً على بناء الشخصية الإسلامية للإنسان المسلم بناءً سليماً، وحفاظاً على القيم الخلقية.
6- إنشاء دور نشر تهتم بترجمة كتب التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، والثقافة الإسلامية إلى مختلف لغات العالم، وتوزيعها في أوربا والأمريكتين على وجه الخصوص.
وهكذا نجد أنّ مسؤولية كبرى تقع على عاتق أصحاب القنوات الفضائية العربية الخاصة، وعلى غيرهم من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة من العرب والمسلمين، وهذه مسؤولية يوجبها عليهم ديننا الإسلامي، فالأمة الإسلامية تمر بظروف حرجة، والرأي العام الغربي مضلل تجاه قضايانا من قبل الصهيونية العالمية التي تسيطر على معظم وسائل الإعلام الغربي، وصورة الإنسان العربي المسلم مشوهة في العالم الغربي.
وإنني أتساءل: لماذا الأثرياء العرب يقفون هذا الموقف السلبي تجاه أمتهم، فنحن مليار مسلم عاجزون حتى الآن عن تكوين مؤسسات إعلامية عالمية في حين أنَّ يهود العالم الذين لا يزيد عددهم عن ثلاثة عشر مليوناً، يمتلك معظم وكالات الأنباء العالمية والصحف وشبكات التلفاز والسينما العالمية؟
وكلنا أمل أن يدرك هؤلاء مسؤولياتهم الدينية والوطنية.
1 -محمَّد فهمي عبد الوهاب: الحركات النسائية في الشرق، وصلتها بالاستعمار والصهيونية العالمية، ص7، دار الاعتصام، القاهرة.
2 - سهيلة زين العابدين حمَّاد:بناء الأسرة المسلمة، ص127، "الدار السعودية للنشر".
3 - د. محمد سيد محمد: المسؤولية الإعلامية في الإسلام، ص355-357.
==============(13/147)
(13/148)
الكرامة الجريحة
عبد الكريم بكار 20/8/1424
16/10/2003
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
نحن أهل كرامة جريحة، وهذا الشعور بذلك يأتينا من مصدرين:
من التاريخ أولاً؛ إذ إننا أمة ظلت صاحبة حضارة مهيمنة مدة لا تقل عن سبعة قرون، واستمرت إشعاعات عطاءاتها ثلاثة قرون إضافية، ويزيد في إحساسنا بالإهانة أننا في منتصف القرن الرابع عشر الهجري واجهنا -بوصفنا "أمة ذات منهج ورسالة"- تيارات عديدة، يرمي جميعها إلى طمس هذا المعنى، وجعل وعي الأمة ينفتح على معان وطنية وإقليمية وقومية وعلمانية ....، بوصفها بديلاً عن الانفتاح على أخص خصائصنا، وهو العبودية لله - تعالى - والاحتكام إلى الشريعة في الشؤون العامة والخاصة، وفي مواجهة هذا الاستلاب اجتهد المثقفون والغيورون في تلك المرحلة - وكانوا فيما ذهبوا إليه على صواب إلى حد بعيد - في كيفية مواجهة ذلك، وانتهوا إلى قرار بالذهاب إلى التاريخ على اعتبار أنه الذاكرة الحضارية للأمة والخزان الأساسي لأمجادها وبطولاتها. ونذكر كيف نشطت في تلك المرحلة الكتب التي تتحدث عن العبقريات وعن سير الرجال العظماء والنماذج التاريخية الفذة، والمعارك المظفرة، والإنجازات العلمية الباهرة، بالإضافة إلى بلورة شيء من حكمة التشريع وكون الإسلام لا يتناقض مع العلم... وأسدل الستار على نحو شبه تام على كل الألوان الرمادية والباهتة التي كانت جزءاً من ألوان ذلك التاريخ، كما تم الإعراض عن الحديث عن الأسباب التي أدت إلى توقف الحضارة الإسلامية عن العطاء؛ لأن الكشف عنها في تلك المرحلة كان سيؤدي إلى الإحباط، ويجعل الناس شبه مجردين من أسلحة المقاومة للتيارات التي أشرت إليها. وقد أدت تلك القراءات المبتسرة والجزئية دورها بكفاءة واقتدار في إنقاذ الذات لمسلمة والثقافة الإسلامية من هزيمة نكراء. وهكذا فقد ترسخ في وعي الأجيال الحاضرة وفي حسَّها مشاعر عميقة بالظلم الذي يلحقه بنا الآخرون اليوم، وبالهوان إذ خسرنا معظم الإنجازات التي كنا نفاخر بها في الأيام الخالية.
وأعتقد أن شيئاً من العلاج لهذا سيكون في إعادة قراءة التاريخ على نحو متوازن وبمنهجية سببية واستقصائية ذكية ومتقنة.
المصدر الثاني لإحساسنا بجرح كرامتنا؛ هو الواقع الذي نعيشه، فنحن أمة تملك أفضل منهج - على مستوى الأصول والأسس والمنطلقات الكبرى على الأقل- لإصلاح العالم، لكننا نعيش في أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية عليلة ومتخلفة عن المنهج الذي نؤمن به، وعن متوسط السائد من كثير من أوضاع عصرنا، ونحتاج إلى الكثير من الفكر والعمل والجهد حتى نتجاوز هذه الأوضاع.
المسلم اليوم يشعر أولاً أنه يعيش على هامش الحضارة، حيث إننا دخلناها من باب الاستهلاك والتمتع ليس أكثر، وينقضي عصر صناعي بعد عصر دون أن نلج أياً منها، ومعظم الدول الإسلامية مازال ما لديها من إمكانات صناعية وتقنية أقل مما كان متوفراً لدى أوروبا في القرن التاسع عشر. ويشعر من وجه آخر أنه غير قادر على حماية أرضه وحقوقه، وغير قادر على تفادي الصفعة التي يوجهها الآخرون إليه ولا على ردها، بل يشعر أحياناً أنه غير قادر على الشكوى من الألم الذي يشعر به، أو غير قادر على جعل تلك الشكوى مسموعة لتكون ذات معنى!!
وهكذا؛ فالإحساس المتضخم بالأمجاد الغابرة جعل إحساسنا بالإهانة التي نتلقاها - وهي أشكال وألوان- شديداً أو متفجراً، لكنه مبهم وغامض حيث لا تعرف الأكثرية الصامتة من هذه الأمة أي تحديدات لأسباب ما نحن فيه على نحو منطقي، فضلاً عن أن تعرف سبل الخلاص منه.
وأود هنا أن أبدي الملحوظتين التاليتين:
1-شيء أساسي أن نشعر بالإهانة والدونية؛ لأننا إذا فقدنا هذا الإحساس فإن ذلك يعني خللاً بنيوياً في رؤيتنا لأنفسنا وللواقع وللعالم من حولنا. وبعض المسلمين حصل على مواقع اجتماعية أو اقتصادية جيدة، فهو مغتبط بالتمتع بثمرات الحضارة وعقد الصفقات وحصد المزيد من المنافع. وينظر إلى الذين يشكون من سوء الأحوال نظرة استغراب، فالأمور تمضي على أحسن ما يرام، وأن يكون بينك وبين الغرب سبب أو تواصل ما، فهذا يعني انفتاح أبواب إضافية للنعيم والنجاح. هذه الفئة من المسلمين ضعُف لديها الإحساس الجماعي إلى حد التلاشي، وهي تشعر في أعماقها بالدونية، لكنها تجد دائماً ما يوجه وعيها نحو همومها ومكاسبها الشخصية. وهذه الفئة في ظل موجات اللهو والمتعة والأنانية التي تبعث بها العولمة - مرشحة للاتساع - ولا ندري كيف سيكون الحال بعد عشر سنوات من الآن ؟!
2-من المهم أن نتخذ من كرامتنا الجريحة محفزاً على المقاومة واكتساب المنعة والارتقاء والفكاك من أسر التخلف لا أن نجعل منها منهجاً للعمل. وهذه القضية لا تخلون شيء من الدقة، وتحتاج إلى شيء من التوضيح.(13/149)
حين يشتعل إحساسنا بالهوان، ونستجيب في توجهاتنا واستخدام الإمكانات التي لدينا لتلك الأحاسيس والمشاعر على نحو بدائي ومتسرع ووفق رؤية جزئية ومبتسرة -؛ فإننا نكون آنذاك غير مؤهلين لمداواة الكرامة المجروحة، ولا استرجاع الحقوق المسلوبة؛ بل إن الاستجابة على هذا النحو ستجعل جروحنا تزداد تقرحاً، وتجعل حقوقنا أكثر تعرضاً للاغتصاب والنهب. ولنا فيما جرى خلال العامين الماضيين من المضايقة والتحجيم للدعوة الإسلامية والمحاربة للمؤسسات الخيرية والمطاردة للدعاة... عبرة إن كنا قادرين على الاعتبار!
وأي شيء أسوأ من أن يصبح ذكر الإسلام والمسلمين شيئاً يثير مشاعر الخوف والاشمئزاز لدى كثيرين من أبناء أمريكا وأوروبا وغيرهما؟!
إن أمريكا أحسَّت بجرج عميق في كبريائها حين تعرضت رموزها الاقتصادية والعسكرية للهجوم، وردت على ذلك الجرح الغائر في كرامتها باتخاذه منهجاً للرد، فقابلت الصفعة بصفعات في أماكن عدة من العالم، وما زالت مستمرة في ذلك إلى هذه اللحظة، فماذا جرى؟
إنها تنتقم من بعض خصومها على نحو ساحق، لكنها لن تستطيع أن تحول دون تكرار ذلك الهجوم عليها مرة أخرى؛ لأنها لم تستطع التوقف لقراءة الأسباب الجوهرية التي أدت إلى الهجوم عليها. إنها تربح معركة هنا ومعركة هناك إلا أنها تخسر جاذبيتها الحضارية من خلال عدوانها على النموذج الذي كانت تقدمه للعالم، وتخسر مع كل ذلك الانسجام الداخلي مع القيم التي تروج لها.وهذا ما علينا أن نستفيد منه على نحو جيد.
أما إذا اتخذنا من جرح الكرامة وكؤوس الإهانة حافزاً على الخلاص؛ فإن سلوكنا آنذاك سيكون مختلفاً. وأتصور أننا آنذاك سنفكر ونتصرف على النحو الآتي:
-إن حالة ارتباك الوعي التي نعاني منها ليست جديدة، ولم تتكون في مرحلة واحدة، وجرحنا الغائر لم يحدث بسبب ما فعله ويفعله بنا الغرب، وإنما بدأ الأمر قبل ذلك بقرون عدة. وحين انفرط عقد الدولة العباسية لم يكن ذلك بسبب غرب أو شرق، وإنما بسبب الانحراف عن المنهج الرباني الأقوم الذي أكرمنا الله به، وبسبب عدم القدرة على التجدد وحل المشكلات المتأسنة .
ولهذا فإن ما نلقاه اليوم من ازدراء لا يعود إلى أحوال هذا الجيل، وإنما بسبب الوضعية العامة للأمة، وهي وضعية صنعتها أخطاء وخطايا القرون.
-كما أن على أمريكا أن تسأل بصدق واهتمام : لماذا يكرهها الآخرون؟ ولماذا يكون هناك شباب في عمر الورود مستعدين للموت من أجل إلحاق الأذى بها؟. فإن علينا أيضاً أن نسأل: لماذا يجري كل هذا لنا؟ ولماذا نحن عاجزون عن الدفاع عن أنفسنا؟ ولماذا لا نساهم في توجيه الحضارة الحالية، ولا نؤثر في موازين القوى فيها؟.
إذا نحن تصرفنا ضد أعدئنا وضد أولئك الذين يوقعون الظلم علينا بعين الأسلوب الذي يستخدمونه معنا، فما الميزة التي تجعلنا أكثر أهلية لوضع أسس لحضارة جديدة ومختلفة عن الحضارة السائدة؟
إننا في حاجة إلى أن نعمل على المدى الطويل حتى نكون في وضعية لا يفكر معها أحد في إهانتنا والعدوان علينا؛ لأن ذلك سيكون بالنسبة إليه مكلفاً جداً. والأرقى من ذلك أن يحترمنا الآخرون للقيم والمنجزات التي لدينا، فينشغلون بكيفية الاقتباس والتعلم منا، بدل الانشغال بإيذائنا وظلمنا. والأرقى من هذا وذاك أن نفكر وندعو ونعمل على تحويل أعدائنا إلى أولياء يدخلون في ديننا، وينشرن مبادئنا وقيمنا. وهذا ما قام به المسلمون الأوائل حين انتهوا من مشكلة الآخر الوثني في جنوب شرق آسيا عن طريق نشر الإسلام وجذب الناس إليه. وإن الغرب على المستوى الشعبي - ينتظر منا هذا الأداء، وهو في أمس الحاجة إليه.
وأنا هنا لا أرمي إلى تمييع الأمور، ولا إلى إخماد روح المقاومة؛ لكنني أريد لأعمالنا وجهودنا أن تكون في السياق المنتج، وأن تعبر قبل ذلك عن رؤيتنا الكونية للعالم، وليس عن انفعالاتنا ومشاعرنا.
-الصراع بيننا وبين أولئك الذين يجرحون كرامتنا ليس صراعاً عسكرياً، ولا يمكن للقوة اليوم أن تحسم أية قضية على نحو نهائي .
وإن أي نصر عسكري سيكون مؤقتاً ومجوّفاً إذا لم يرتكز على تفوق حضاري. وإن شروط الاحترام ونوعية الرد المطلوب على الإهانة - لا تستمد من أدبيات حقبة تاريخية ماضية، ولا يضعها الناس بحسب أهوائهم وأمزجتهم، ولا بحسب معتقداتهم ومبادئهم، وإنما يصوغ ذلك ويحدده أولئك الذين يضعون بصماتهم على الحضارة الراهنة، مهما كانت هذه الحضارة ضالة أو ناقصة أو خاوية وهذه نقطة جوهرية.(13/150)
-إن كرامتنا لم تمتهن بسبب استلاب حقوقنا أو نهب ثرواتنا فحسب؛ وإنما هناك أمور أخرى لا تقل أهمية، فالتخلف الذي يخيّم على العديد من جوانب حياتنا أوجد ندوباً ناتئة في نفس كل مسلم، حيث صار هناك ما يشبه الاعتقاد بأننا غير مؤهلين لإنتاج التقنيات المتقدمة ولا لتصميم النظم المعقدة. وإن كثيراً من العمال المسلمين في الغرب لا يجدون فرصاً لكسب أرزاقهم إلا في الأعمال الوضيعة أو الشاقة أو غير المجزية، والتي يترفع عنها كثير من أهالي تلك البلاد، وإن مسلم اليوم يشعر أن الأمة عالة على الأمم الأخرى في كل شيء حتى طباعة المصاحف وتشيد المآذن! وإن النقلة النوعية في التقنية والصناعة وحدها هي التي تجعل المسلم يشعر بأنه لا يعيش على هامش العصر، كما أنه ليس محروماً من الذكاء ولا المواهب التي يقر للآخرين بامتلاكها.
-سيظل من المهم دائماً أن ندرك أن علاقتنا بالأعداء والمنافسين والأغيار ستظل فرعاً عن الوضعية العامة التي نؤسسها في بلادنا، وإن العلاقات الدولية أشبه بسوق يعرض الناس فيه بضائعهم، ويأخذون منه على مقدار ما في جيوبهم، ولن نستطيع أن ندافع عن حقوقنا ولا أن نرسخ وجودنا على الصعيد العالمي عن طريق (الفهلوة) والإدعاء والشعارات، فهامش المناورة أمامنا ضيق جداً؛ وإن الناس يحبون أن يروا؛ فلنجعلهم يرون إذا ما كنا نريد لموقعنا العالمي أن يتحَسَّن.
-علينا أن ندرك على وجه جيد نقطة الضعف الأساسية في علاقتنا مع الآخرين؛ لأننا من غير إدراكها سنكون كمن يصرخ في واد، أو ينفخ في رماد. وأظن أن تلك النقطة لا تتجسد في نقص إمكاناتنا وقدراتنا مع أنها محدودة، وإنما في تكبيل إرادتنا؛ لأن أصحاب الإرادة المسلوبة يظلون يشعرون بالعجر والانهزام مهما كانت قوة الأوراق التي بين أيديهم.
إن تحرير الإرادة من الخوف والتبعية والاستخذاء أمام الأجنبي سيظل شرطاً جوهرياً لتحريك إمكاناتنا في الاتجاه الصحيح، وشرطاً جوهرياً لاتخاذ قرارات تاريخية ومصيرية .
والله ولي التوفيق.
============(13/151)
(13/152)
المشاركة في الانتخابات البرلمانية (1/2)
د. عبدالله بن إبراهيم الطريقي 28/7/1424
25/09/2003
مازال موضوع دخول الإسلاميين من علماء ودعاة ومفكرين في معترك السياسة محل أخذ ورد أو تردد من قبل كثير من الباحثين أو المتحاورين .
سواء كان هذا المعترك انتخاباً أو وظائف عليا في مجال التنظيم (التشريع) أو التنفيذ أو القضاء .
والتردد في العمل السياسي قديم, ولا سيما في تولي القضاء, ولكن ذلك التردد ليس بين الحل والحرمة, ولكن بين الجواز والكراهة من منطلق الورع.
وأساس هذا الورع ـ فيما يبدو ـ أمران :
الأول: خطورة المنصب (القضاء) ذاته.
الثاني: أن ولاية القضاء متفرعة من الإمامة الكبرى التي كان يتعاقبها خلفاء متفاوتون في العدالة؛ إلا أن الغالب عليهم الفسوق بعد الخلافة الراشدة، الأمر الذي جعل كثيراً من أهل العلم والورع يزهدون في كل منصب يرتبط بأولئك الخلفاء حذراً وخوفاً من إقرارهم على ظلمهم, أو لأن الرزق الذي يأتيهم عن طريق أولئك ليس حلالاً صرفاً في ظنهم .
بيد أن عدداً لا يستهان به من أهل العلم والفضل لم يترددوا في تولي تلك الولايات تغليباً للمصلحة.
وإذا ما انتقلنا إلى واقعنا المعاصر؛ سيبدو لنا واقع مختلف عن واقع العصور الإسلامية السابقة، ويتجلى هذا الواقع بطغيان العلمانية على مسرح الحياة بحيث اختلفت النظرة والتعامل مع الدين الإسلامي, فبعد أن كان الدين له الهيمنة الكاملة أو شبه الكاملة على تصرفات الأفراد والمجتمع, أصبح لا يكاد يتجاوز تصرفات الأفراد, إذا ما استثنينا بعض المجتمعات المسلمة, كمجتمع شبه الجزيرة العربية, هذا مع الاختلاف النسبي بين تلك المجتمعات أو الدول من حيث التزامها بالتشريع الإسلامي, أو عدم الالتزام.
وعلى رغم أن العلمنة (فصل الدين عن الحياة) منهج غريب على الأمة المسلمة, إلا أنه شاع فكراً وتطبيقاً, حتى أصبح الالتزام بتطبيق الشريعة أو الدعوة إلى التطبيق سبة أو تهمة تلصق بأهل الإسلام, وشارك في الترويج لهذه الفكرة جملة من مثقفي المسلمين.
من هنا اختلفت نظرة كثير من الإسلاميين نحو هذا الواقع المضطرب, وتكييفه، من ناظر إلى هذه المجتمعات بمؤسساتها وأفرادها على أنها انحرفت عن سبيل الهدى, وأن التصحيح لابد أن يكون جذرياً عن طريق التغيير السياسي, ثم هل يكون ذلك بالانقلاب مثلاً, أو بالمنافسة الحادة في العمل السياسي؟
أو يكون بإحداث الشغب وبث الرعب في قلوب الساسة وأعوانهم؟
وقد يكون في بعض هؤلاء من استولى عليه اليأس من صلاح الأمة وعودتها إلى طريق الحق, فآثر العزلة الفكرية، أو شارك بفكر سلبي، لبوسه اليأس والوهن .
ومن ناظر إلى هذه المجتمعات على أنها مازالت على سبيل الرشد والاستقامة, سواء في ذلك سلوك الأفراد أو المؤسسات والدول, فانبرى يصحح الواقع ويبرره, ويدين كل دعوة أو خطوة يقوم بها دعاة الإصلاح، وربما أصدر أحكاماً صارمة لا هوادة فيها, تحت ذريعة (الابتداع, أو الشذوذ, أو الخروج) ولم يفرق هؤلاء بين دولة ودولة, أو مجتمع وآخر، ولعل أقسى السيوف التي رفعت في وجه بعض الدعاة سيف (التكفير والتبديع)؛ فاضطربت الأقوال والأحكام, وضاع الحق بين ذلك.
ومن ناظر إلى هذه المجتمعات بأنها أرض خصبة صالحة للدعوة والإصلاح، مع ما فيها من الوهن, لكن كيف السعي إلى إصلاحها؟
قد يرى بعضهم أن الإصلاح يكون بالتربية وبث الوعي, وقد يرى آخرون أنه يكون بالمشاركة السياسية، وهكذا...
لذا لا نستغرب إذا ما اختلفت رؤية أهل العلم والفكر، أو مواقفهم نحو المشاركة في الانتخابات البرلمانية .
وقد يصعب على الباحث تحديد كل رؤية أو موقف على وجه الدقة، مع معرفة الأدلة بالتفصيل.
تلك مقدمة لابد منها قبل الدخول في الموضوع (مشاركة الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية).
وموضوعنا كما يبدو له شقان:
الأول : حكم المشاركة في الانتخابات .
الثاني : حكم الانتخابات .
ولا يتصور الجواب عن الشق الأول إلا بعد تصور الشق الثاني, الأمر الذي يفرض تقديم الحديث عن الأخير قبل الأول .
والحديث عن الموضوع برمته يتطلب تقديم قواعد تمهيدية قد تكون من عوامل تقريب الموضوع إلى الذهن والخروج به من كثير من مواطن الاشتباه, أو مفترقات الطرقات .
وأهم هذه القواعد:
القاعدة الأولى : الإسلام كلٌّ لا يتجزأ, وأحكامه سلسلة متصل بعضها ببعض .
فالعبادات والمعاملات متداخلة, ويصعب الفصل بينها, وجذورها متصلة بالعقائد والأخلاق, وذلك مما لا شك فيه.
القاعدة الثانية: أن الولايات العامة؛ كالإمامة الكبرى، والقضاء، والوزارة، والإمارة، والحسبة، وما إليها, كلها ذات طابع ديني, أي أنها شرعية؛ حتى وإن كانت لتنظيم شؤون الحياة الدنيا, كالمواصلات, والاتصالات والصحة والطاقة ... وغيرها.
ولهذا قال العلماء في تعريف الخلافة أو الإمامة: إنها " موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا" [الأحكام السلطانية للماوردي ص 5](13/153)
ويقول الإمام ابن تيمية: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها ... فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله, فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات" [مجموع الفتاوى 28/390].
القاعدة الثالثة: انتقال الولايات إلى غير الأمناء لا يسلبها الشرعية, وذلك أن (الشرعية) صفة ملازمة لتلك الولايات, فالقضاء مثلاً هو ولاية شرعية جليلة, فإذا كان قد تحول في بعض البلدان الإسلامية إلى قضاء قانوني صرف، وتولاها علماء القانون دون أهل الشريعة, فهذا الوضع لا يغير من أهمية القضاء وشرعيته شيئاً.
وواجب على المسلم الذي يتولى هذا المنصب أن يعدل فيه ويحكم وفق الشرع المطهر, ولا يجوز له أن يتخلى عن هذا المنصب إذا كان باستطاعته أن يحكم بالتنزيل .
القاعدة الرابعة: أن العلماء مسؤولون عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -, مسلمهم وكافرهم, وعن المجتمع المسلم بوجه خاص, سواء من حيث أفراده, أو من حيث مؤسساته.
وأساس هذه المسؤولية, هو وجوب التبليغ عليهم؛ فهم أمناء الرسل, ونوابهم في تبليغ الرسالات, (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)[آل عمران:187].
وفي الحديث: ( ليبلغ الشاهد الغائب) متفق عليه , وهذه مهمة شريفة وشاقة إلا على الربانيين منهم, قال سبحانه: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)[آل عمران:79] .
يقول الإمام الطبري مبيناً حقيقة الرباني: "فالربانيون إذاً هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا, ولذلك قال مجاهد: وهم فوق الأحبار, لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الجامع إلى العلم والفقه البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم"؛ (ويراجع تفسيره للآية ففيه كلام نفيس) .
كما أن الحكام والقائمين على مصالح الدنيا مسؤولون أيضاً، وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته قال: وحسبت أن قد قال : والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته".
القاعدة الخامسة : إن الأحكام الشرعية نوعان في الجملة :
الأول: الأحكام المفصلة , وهي التي جاء بها الشارع مفصلة ومبينة؛ كالتوحيد أو العقيدة, والعبادات, والفرائض, وأحكام الأسرة؛ كالنكاح والطلاق والنفقات والحضانة, وكالحدود والقصاص والديات.
الثاني: الأحكام المجملة, وهي التي جاء الشارع بها بطريقة الإجمال, كالمعاملات المالية, والتنظيمات الاجتماعية مثل السياسة والإدارة والتعليم ومثل العقوبات التعزيرية.
أما النوع الأول؛ فهو من الثوابت التي لا تتغير, سواء ثبت بالنص , أو بالإجماع, ولا فرق في ذلك بين ما هو قطعي, أو ظني, والخلاف في بعض جزئياتها ـ وهو موجود قطعاً ـ محدود, ولا ضير فيه ما لم يؤد إلى النزاع والشقاق .
وأما النوع الثاني؛ فهو مما يقبل التغير والتطور بحسب الأحوال والظروف المكانية والزمانية, ما لم يكن في ذلك تجاوز للقواعد والأصول المقررة فيها.
فالشركات ـ على سبيل المثال ـ هي نموذج لتغير الشكل والصورة عن نظام الشركات المعروف عند الفقهاء المتقدمين.
فإذا كانت متفقة مع أصول المعاملات الشرعية؛ فهي صحيحة وإن ظهرت باسم آخر, أو قالب آخر, أو جمعت بين عدد من الشركات المعروفة فقهياً .
القاعدة السادسة: إن النظام السياسي في الإسلام منه المجمل ومنه المفصل, وإن كان الأول هو الغالب.
ومن المفصل؛ الحقوق المشروعة لكل من الراعي والرعية, والواجبات على كل منهما.
ومنه أيضاً: موضوع الحكم, وهو ما يحكم به الحاكم سواء كان إماماً, أو قاضياً أو أميراً أو وزيراً أو غيرهم.
قال الحق تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة:49] , وقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية:18]؛ فالوحي إذاً هو موضوع الحكم, ولا يتنافى مع ذلك وجود قوانين (أنظمة) إجرائية وتنظيمية, وإذا رتبت هذه الأحكام الشرعية في أبواب وموضوعات معينة فلا ضير في ذلك.(13/154)
أما الجانب المجمل في النظام السياسي ـ وهو الكثير ـ؛ فهو عموم الإجراءات التنظيمية, وأساليب التنفيذ, مما يعد تفسيراً وتفصيلاً لقواعده, كالشورى , والبيعة, والنصيحة، والعدل, والرفق, والوفاء بالعهود.
يستوي في ذلك ما ينظم شؤون الحياة داخل بلاد الإسلام, وما ينظم العلاقات الخارجية. "وعلى هذا فالتعاليم المنظمة لشؤون المجتمع في كل مجالات السياسة والاقتصاد والدفاع والثقافة والتعليم والمجالات المشابهة هي تعاليم مرنة تقبل تطور الأسلوب التنفيذي لها, فهي وإن كانت ذات هدف واضح ثابت لا يتغير ولا يتبدل، إلا أن طريق تحقيق هذا الهدف ترك مرناً قابلاً للتغيير والتبديل في ضوء ظروف كل مجتمع وزمان" [الدولة وسياسة الحكم في الفقه الإسلامي ـ للدكتور أحمد الحصري 1/91 ] .
القاعدة السابعة: أن جملة التراتيب (التنظيمات) الإدارية اجتهادية, وليست توقيفية.
وآية ذلك أن التراتيب لم تكن تجري على وتيرة واحدة؛ بل كانت متغيرة من زمان إلى زمان, بل من دولة إلى أخرى, فالتراتيب في عهد الخلفاء الراشدين كانت غيرها في عهد النبوة, وغيرها في العهد الأموي, ثم العهد العباسي ... وهكذا.
ومعروف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من دون الدواوين, وأنه عدل عن أحكام في عدد من القضايا كان أبو بكر رضي الله عنه يراها.
وعلى هذا فسوابق تراتيب الدولة الإسلامية يؤخذ منها ما يناسب العصر وتقتضيه المصلحة, ومالا يناسب يعدل عنه إلى غيره من تراتيب أخرى.
هذه في نظري من أهم القواعد التي ينطلق منها حوارنا في موضوع الانتخابات والمشاركة فيها ـ صغتها بأسلوبي الخاص ـ وهي في زعمي محل اتفاق لدى أهل النظر والاهتمام بالنظم الإسلامية.
فإذا تقررت هذه القواعد نأتي إلى الموضوع نفسه متسائلين أولاً: هل أسلوب الانتخابات ثم المشاركة فيه يمكن أن يعد ترتيباً من الترتيبات أو التنظيمات الإدارية؟
وبصيغة أخرى: هل تولي الولايات العامة من الإمامة والقضاء وعضوية مجالس الشورى أو البرلمانات له أسلوب محدد لا يتغير؟ وما هو؟
فإذا تقررت هذه القواعد نأتي إلى الموضوع نفسه متسائلين أولاً: هل أسلوب الانتخابات ثم المشاركة فيه يمكن أن يعد ترتيباً من الترتيبات أو التنظيمات الإدارية؟
وبصيغة أخرى: هل تولي الولايات العامة من الإمامة والقضاء وعضوية مجالس الشورى أو البرلمانات له أسلوب محدد لا يتغير؟ وما هو؟
والجواب أن الوصول إلى الولايات أو استحقاقها لم يرد به نص معين, وإذا ما أخذنا الولايات منذ العهد الأول للإسلام, أي منذ وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابتداء قيام الخلافة مقام النبوة, ببيعة أبي بكر الصديق؛ فقد ذهب جمهور أهل السنة إلى أن هذه البيعة تمت باتفاق جمهور الصحابة أو أهل الحل والعقد أجمعهم, ولم تكن بنص شرعي.
والأدلة على ذلك كثيرة ومبسوطة في كتب الفقه السياسي أو السياسة الشرعية؛ بل في بعض كتب العقائد, ولعل من أقواها أن أحداً من الصحابة لم يحتج في تقديم أبي بكر بنص؛ بل قالوا: رضيك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟!.
وكذلك قول عمر بعد أن طعن وقيل له: ألا تستخلف؟ فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني, يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما دعوى الشيعة أن النص جاء بتعيين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ فهي دعوى عريضة, ليست أقوى من دعوى النص على أبي بكر؛ بل هي أضعف, سواء من حيث الثبوت أو الدلالة.
ورحم الله أبا بكر بن عياش (ت 193) الذي أثبت لنا هذا الموقف, قال: قال لي الرشيد: كيف استخلف أبو بكر رضي الله عنه؟ قلت: يا أمير المؤمنين, سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون؛ فقال: والله ما زدتني إلا عمى, قلت: مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أيام فدخل عليه بلال؛ فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس, فصلى بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل فسكت رسول الله لسكوت الله, وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فأعجبه ذلك وقال: بارك الله فيك. [سير أعلام النبلاء 8/506 ].
وإذا كان لم يرد نص بتحديد شخص بعينه أو بتحديد أسرة بعينها؛ فإنه يبقى الأمر مطلقاً غير مقيد.
نعم, ورد أن الأئمة من قريش, ولكن هذا بابه واسع, فدائرة القرشية أوسع من دائرة الشخص أو الأسرة، هذا من وجه, ومن وجه آخر؛ فإنه مقيد بحسب الإمكان, أي إذا وجد المؤهل منهم.
ومن وجه ثالث؛ فهذا مقيد بالإمامة الكبرى فقط, دون سائر الولايات الأخرى عامها وخاصها.
وبناء على ذلك؛ فالولايات إذاً غير مرتبطة بأشخاص ولا بأسر معينة, وهي من ثم لا تورث؛ بل هي مطلقة, فمن توافرت فيه الشروط فهو أحق بها, فلا تجوز المحاباة بها.
ففي الحديث: "من ولى رجلاً على عصابة, وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" [رواه الحاكم في مستدركه].
وإلى هنا نأتي إلى بيت القصيد في السؤال المتقدم؛ كيف الوصول إلى الولايات والمناصب؟(13/155)
وسيبقى الجواب معنا قائماً على الاحتمالات, وليس ثمة ما يسارع إلى الحسم والقطع؛ لذلك يلزم طرح السؤال التالي: ما الأساليب الممكنة أو الواقعة فعلاً في كيفية الوصول إلى الولايات؟
وإذا ما أخذنا التاريخ الإسلامي لاستقراء واقعه الإداري؛ لوجدنا أن المناصب نوعان:
الأول: الإمامة العظمى, وهذه عرف فيها: أسلوب الاختيار, كما حصل في بيعة أبي بكر, وبيعة علي بن أبي طالب, وقد لا يخلو التاريخ من نماذج أخرى مماثلة، وعرف أسلوب الترشيح من الإمام السابق, إما بتعيين ما يعرف بولي العهد, وهذا أسلوب شائع في تاريخ الإسلام السياسي, وإما بتعيين أكثر من شخص ليكون الاختيار لأهل الحل والعقد, كما حصل من فعل عمر, حيث رشح ستة من كبار الصحابة وهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص؛ ليختاروا واحداً منهم -رضي الله عنهم-.
وعرف أسلوب آخر, وهو أن ينتصب الإنسان بنفسه, وهذا يكون عادة عند وجود المنافسات بين الزعامات، أو ضعف أهل الحل والعقد, وعرف هذا الأسلوب, بطريق الغلبة والاستيلاء.
النوع الثاني: هو الولايات الأخرى غير الإمامة العظمى, وهذه لا يعرف فيها غير أسلوب واحد ـ فيما أعلم ـ هو أسلوب التعيين من الإمام الأعظم, أو نائبه.
نعم قد يستبد صاحب القرار في الاختيار والتعيين, وقد يستشير أهل الرأي, أو أهل العلم.
ذلك في التاريخ الإسلامي, أما في غيره؛ فقد عرفت أساليب عديدة عند الأمم الأخرى, منها ما يشبه الأساليب المتقدمة والمعروفة لدى الأمة المسلمة، ومنها ما يختلف عنها.
ولعل أهم الأساليب المختلفة, وراثة الملك من منطلق ديني, كما هو شائع في بعض دول شرق آسيا, وبعض الدول الأفريقية وأمريكا الجنوبية.
وأسلوب الانتخاب الذي شاع بين دول الغرب, التي اتخذت من النظام الديمقراطي منهج حياة, وهذا مربط الفرس, فقد تميز هذا النظام بميزات موضوعية (فكرية) وإجرائية تنظيمية:
أما التميز الموضوعي فيتجلى في الآتي:
1 ـ تشريع القوانين بما تقتضيه مصالح البلاد -حسب تصورهم-، وهذا أهم وظائف البرلمان.
2 ـ استبعاد الدين -أياً كان مصدره- من واقع الحياة العامة (سياسة، وإدارة، واقتصاداً، وثقافة، واجتماعاً ... إلخ).
لذا أصبحت القوانين دنيوية بحتة, ليس للدين أي أثر أو اعتبار فيها, اللهم إلا مجرد النظرة القائمة على المجاملة والاحترام الظاهري, أو النفاقي.
3 ـ قيام العلاقات السياسية والاجتماعية والفكرية على الحرية الفردية، وهو مبدأ ديمقراطي يعتز به الغرب الديمقراطي أيما اعتزاز, ويرى أنها مبدأ مقدس لا يساوم عليه .
وقد بالغ الغرب في تقديس هذا المبدأ, حتى جعله كالإله.
وهذه الحرية, وإن كانت مقيدة بعدم الإضرار بالآخرين، فهي مطلقة بحسب الرغبة والشهوة, أما الدين فلا سلطان له عليها، بل هي الحاكمة عليه.
وليس معنى ذلك أنها شر محض؛ بل فيها جوانب إيجابية يذكر منها:
أ ـ أنها تعطي مريد الحق والداعي إليه مساحة من الحركة والإرادة والاختيار, تجعله يعمل ويفكر في جو هادئ, ليس فيه ضوضائية المراقبة والمحاسبة أو الضغوط الفكرية والنفسية.
ب ـ أنها تشيع الصراحة والشفافية بين الحاكم والمحكوم بحيث تكون العلاقة بينهما متينة وصريحة.
هذا في جانب الميزات أو السمات الموضوعية للنظام الديمقراطي.
أما ميزاته الشكلية فتبدو في الآتي:
1 ـ التعددية الحزبية : وهي صفة ملازمة للنظام الديمقراطي, حتى عدها أهل الاختصاص إحدى الضرورات التي تقضي بها طبيعة النظام البرلماني (ينظر: القانون الدستوري والأنظمة السياسية, للدكتور / عبد الحميد متولي ص 108).
2 ـ الانتخاب , سواء للرئيس الأعلى, أو لأعضاء البرلمان, وهذا أسلوب ملازم للنظام الديمقراطي, حتى أصبحت الحكومة النيابية (المنتخبة) مبدأ راسخاً من مبادئ الديمقراطية, ثم إن من طبيعة هذا الأسلوب أنه مؤقت بمدة محددة, كخمس سنوات مثلاً أو ثمان أو عشر، بنهايتها تنتهي مدة المنتخب (بفتح الخاء) سواء أكان رئيساً, أم عضواً في البرلمان.
ويجري الانتخاب بأساليب مختلفة, منها ما يسمى بالاقتراع العام, والاقتراع المقيد.
ويراد بالمقيد: اشتراط شروط معينة كالكفاءة وتوافر نصاب المال في الناخب.
ويراد بالعام: مالا يشترط فيه شيء من ذلك في الناخب.
ومنها الانتخاب الفردي, والانتخاب بالقائمة.
ويراد بالفردي ذلك النظام الذي تقسم فيه البلاد إلى دوائر انتخابية صغيرة, تنتخب كل دائرة نائباً واحداً.
ويراد بالانتخاب بالقائمة: تقسيم البلاد إلى دوائر انتخابية كبيرة, كل منها ينتخب عدداً معيناً من النواب لا يقل عن ثلاثة.
3 ـ فصل السلطات الثلاث بعضها عن بعض, وهي: السلطة التشريعية, والسلطة القضائية, والسلطة التنفيذية.
وهذا واحد من مبادئ الديمقراطية التي ينادي بها الغرب, ويعتز بها.
ومعروف أن السلطة التشريعية تحت قبة البرلمان، والسلطة التنفيذية تحت يد الحكومة (أي رئيس الوزراء ووزراءه)، والسلطة القضائية تحت قبضة القضاة.
وهذه الأخيرة لها السلطة العليا في المراقبة على سائر السلطات.(13/156)
فهذه الميزات الثلاث (التعددية الحزبية، والانتخابات، وفصل السلطات) من أبرز السمات الشكلية للنظام الديمقراطي, أو النظام النيابي.
وبإعادة النظر الفاحص على تلك الميزات أو السمات الموضوعية والشكلية, يبدو واضحاً أن النوع الأول وهو السمات الموضوعية, يتناقض صراحة مع مبادئ التشريع الإسلامي, فالسمة الأولى وهي وضع القوانين وتشريعها, تتصادم مع أهداف النبوات والرسالات السماوية, لأنها تنازعها (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ )[الشورى:21].
وأما السمة الثانية وهي: فصل الدين عن الحياة, واستبعاده من واقع الحياة الاجتماعية, فهي كسابقتها, إذ فيها تفريق للدين وللحق, (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا*أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)[النساء:150-151] .
وأما السمة الثالثة وهي الحرية, فإن فيها الحق وفيها الباطل, فلا يمكن الأخذ بها جملة, ولا يمكن رفضها جملة ، بل يتعين تحديد مساحة الحرية المشروعة ليؤخذ بها, ليس لأنها ابتكار غربي أو منحة غربية؛ بل لأنها من طبيعة الحق في الإسلام, لكن ربما عرفت بأسماء ومصطلحات أخرى غير مصطلح (الحرية).
وإذا كان هذا المصطلح غير شائع في الفكر الإسلامي فلا يقتضي ذلك رفضه ورده؛ بل المشروع تجاهه وتجاه نظائره من المصطلحات الوافدة أن نحررها بدقة, ونقبل الحق منها, ونطرح ما سواه.
أما السمات الشكلية وهي: التعددية الحزبية, والانتخابات، وفصل السلطات, فالذي يبدو لي أنها من جملة التراتيب أو التنظيمات الإجرائية, التي يمكن أن يستفاد منها، وهي مثل النظام التعليمي المعاصر الذي ساد العالم كله تقريباً, حيث أصبح يجري وفق تراتيب صارمة لا يمكن التنازل عنها, كتقسيم المراحل إلى: ابتدائية ومتوسطة وثانوية, وجامعية, ثم دراسات عليا , والطالب لا يتجاوز المرحلة إلا بدراسة منتظمة لجميع المقررات المحددة، وبساعات محددة، وبنسبة محددة أيضاً.
وهذا أسلوب غير معروف بهذه التفصيلات عند علماء المسلمين قبل نحو قرن؛ بل لو اقتربنا إلى السياسة أكثر ودخلنا في تراتيبها لوجدنا أن التراتيب المعاصرة تختلف عن سابقاتها, فالدولة في المفهوم المعاصر تختلف عن الدولة في العصور الإسلامية القديمة, حيث أصبحت مسؤولة عن كل شيء, إشرافاً أو تنفيذاً, ولا سيما فيما يعرف بالخدمات, كما أن تعيين الوزراء ومن يماثلهم أو يقاربهم أصبح له أسلوب خاص, سواء من حيث نوع الوزارة واختصاصاتها, أو من حيث تحديد مدة الولاية, وكذلك من حيث توزيع الاختصاصات والصلاحيات والمهمات، فلمجلس الشورى اختصاصات, ولمجلس الوزراء اختصاصات ... وهكذا.
وإذا ما اتفقنا على أن مثل هذه القضايا (أعني التعددية الحزبية , والانتخابات , وفصل السلطات) أنها من جملة التراتيب, فالذي يحكمها هو مبدأ (جلب المصالح ودرء المفاسد) الذي بني عليه إجراءات كثيرة تمت في العهود الإسلامية, ولا سيما في العهد العمري ( نسبة إلى عمر بن الخطاب) الذي أدخلت فيه الدواوين وغيرها.
ومن هنا فالذي أرى أن من التكلف والتعسف البحث عن أدلة تفصيلية خاصة على شرعية التعددية أو الانتخاب, وفصل السلطات أو نحوها من القضايا الإجرائية, أو عدم شرعيتها, ومن يفعل ذلك فلن يسلم له دعواه, فالدليل المثبت أو النافي لابد أن يتطرق إلى التأويل أو الاحتمال, وعلى هذا فكل التراتيب والتنظيمات الإجرائية مبناها على المصالح والمفاسد.
سيقول قائل: إن تقدير المصالح والمفاسد سيكون محل اختلاف بين أهل العلم أو أهل الرأي والنظر, ومن ثم سيبقى الاختلاف في هذه القضايا؟
وهذا أمر وارد فعلاً, إلا أن أصل الدليل لا غبار عليه, فيبقى تحريره ليس إلا .
لذلك أرى أن الأمر بحاجة إلى مزيد من الدراسة والبحث والتفكير, من أجل تحديد المصلحة طبيعة وحجماً ومثلها المفسدة, للخروج برأي ناضج.
على أنه يجب ألا يفوتنا التنبيه على أمر مهم هو: أن القول بأن مثل الانتخاب ترتيب إجرائي وأنه يجوز الاستفادة من تجارب الآخرين مما لا يتعارض مع التشريع, لا يقتضي بالضرورة قبول المبدأ برمته؛ بل قد يكون فيه المفيد وغير المفيد, أو تجتمع فيه المصلحة والمفسدة، ومن هنا علينا أن نجري الموازنة, فإذا رجحت المصالح والفوائد قبلناه.
ثم علينا أن نعبر به من خلال الغربال الشرعي المفصل فنستبعد كل ما هو ضار, دينياً أو دنيوياً.
وبهذا الأسلوب في التعامل مع الأفكار والإبداعات الأجنبية نستطيع أن نصهر كل جديد, فندخله إلى الوطن الإسلامي, أو الميدان الإسلامي بثوب إسلامي أصيل.
ولنا باللغويين العرب أسوة, فقد كانوا يعربون الألفاظ الأجنبية بطريقة لغوية دقيقة, فيصوغونها صياغة تتفق مع أحد الأوزان اللغوية المعروفة, والمعاجم اللغوية مليئة بالألفاظ المعربة.(13/157)
ومما يمكن تعديله في الانتخاب: قصره على فئات معينة, تتصف بصفات عالية, مثل: العلماء, والقضاة, وأساتذة الجامعات, والحاصلين على الشهادات العليا, ونحوهم من الفئات.
ليس من المصلحة, ولا مما يرشد إليه العقل الصحيح أن تفتح مصارع الأبواب كلها لكل من هب ودب من الرعية ليعطي رأياً أو ينتخب شخصاً, قد لا يعرفه أو لا يسمع به, أو لا يعرف مؤهلات الترشيح وأسبابه, لذا لابد من استبعاد الجاهل, والعامي, وأصحاب الفكر المنحرف, وأصحاب السوابق المخلة بالشرف, وغير المسلمين, وأمثال هؤلاء، والاقتصار على أؤلئك النخب المثقفة.
وهذا الأسلوب المنضبط أشبه بنظام (أهل الحل والعقد) المعروف فقهياً وتاريخياً, والذي كان له أثره المهم في حياة الأمة المسلمة, مع تفاوت في التأثير من مجتمع إلى آخر, ومن زمان إلى زمان.
وقد كان العلماء المبرزون هم أبرز أصناف أهل الحل والعقد, وكان لهم (العلماء) آثار ظاهرة على مدار التاريخ الإسلامي, في مجالات متعددة, يأتي في صدارتها: التعليم والتربية, والإفتاء, والقضاء, والحسبة, وإمامة الصلوات, والخطابة, هذا هو أدنى الأعمال التي كانوا ومازالوا يقومون بها.
وقد يتحملون أعمالاً ثقالاً ذات مساس بالحياة السياسية, مثل الشورى, والنصيحة, وتولي بعض الولايات العامة, كالوزارة وإمارة الجيش والجهاد في سبيل الله.
وكان يشاركهم في المسؤولية ويساندهم أصناف أخرى من أصحاب الزعامة والرئاسة والجاه, ونحوهم ممن كان يؤثر اقتحام الحياة العامة.
ذلك من أهم أعمالهم ووظائفهم, برغم أنهم هيئة ليس لها تنظيم محدد.
وفي العصر الحاضر يمكن أن يوضع لها تنظيم دقيق يحدد الصفات والاختصاصات, وتكون كالمجلس الأعلى الذي يشرف على مؤسسات الدولة, وتصرفاتها, كما تكون مسؤولة عن الترشيحات والانتخابات ، أما الترشيح فيسند إلى الجهات، كالجامعات، والقضاء، والنوادي الثقافية والأدبية، ومراكز البحوث العلمية، على نمط الترشيح للفائزين بالجوائز الكبرى على سبيل المثال .
وأما الانتخابات ( التصويت ) فيسند إلى منسوبي تلك الجهات، ممن يجمل المؤهلات العلمية، وتتوافر فيه الصفات اللازمة، على نمط (أسلوب الاستبانات ) مثلاً .
وليس من المهم تحديد الأشخاص, فذلك متعذر,بل يكفي معرفة الصفات ، أو الجهات فقط.
وفي ظني أن مثل هذا التنظيم المطور يحقق المقاصد الآتية:
أولاً: أنه يحقق النيابة عن الأمة, فإذا كان الولاة في واقع الأمر نواباً عن الأمة وولاة عليها, فإن من المنتظر أن تكون هذه النيابة جاءت بطريقة مقنعة للأمة, لا عن طريق الاستعلاء وفرض الذات.
والمتأمل في واقع الولاية العامة في عهد الخلافة الراشدة أنها جاءت في جملتها عن طريق الشورى والاختيار الحر.
وإذا كانت ديمقراطية الغرب تفخر بأنها (حكومة النيابة) فإن لدى الأمة المسلمة من التجارب ما يغنيها ويسعدها في دينها ودنياها, إن هي استجابت لسنن الله الكونية والاجتماعية.
ثانياً: أنه يحقق قاعدة الشورى المأمور بها شرعاً.
وإذا كانت هذه القاعدة جاءت مجملة, فقد تنوعت تطبيقاتها قديماً وحديثاً, وقد حققت أهدافها في عهد النبوة, وعهد الخلافة الراشدة, وعهود أخرى, فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استشار في أموره الخاصة كقضية الإفك, وفي أمور المسلمين العامة وهي كثيرة جداً, واستشار أفراداً محدودين, كما أنه استشار عموم الصحابة, وهكذا في العصر الراشدي, فقد اتخذت الشورى صوراً وأنماطاً مختلفة.
ولا يعرف أن نازلة جديدة أو أمراً يهم الأمة, اتخذ فيه الخليفة الرأي قبل المشاورة والحوار العميق.
ثالثاً: أن هذا الأسلوب يثبت براءة السلطة الحاكمة من الاستبداد أو ما يعرف بالدكتاتورية التي طالما أدين بها كثير من الأنظمة السياسية قديماً وحديثاً.
رابعاً: أنه يحقق قاعدة "أنزلوا الناس منازلهم" فالعلماء والقضاة وذوو الفكر النير في الأمة ينبغي أن يكون لهم الصدارة في منازل الشرف, وأن يؤخذ رأيهم في كل أمر ذي بال, لأنهم كالنجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر, كما ورد في الحديث, ولن تفلح أمة همشت علماءها, أو أذلتهم, أو استمالتهم للدنيا, أو استغلت ضعفهم وطيبتهم للمآرب الخاصة.
خامساً: أنه يحقق مبدأ التعاون المأمور به شرعاً, ولتكون الصورة واضحة دونك هذا البيان: إن الأمة هي كالجسد, كما جاء تمثيل ذلك في الحديث الصحيح "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" فأهل الحل والعقد يمثلون الرأس لهذا الجسد, والإمام يمثل القلب, وأجهزة الدولة تمثل الجوارح كاليد والرجل واللسان وكل هذه الأجزاء لا يغني أحدها عن الآخر, فالرأس لا يجدي شيئاً بدون القلب وسائر الأعضاء, والقلب وحده لا يعمل بدون رأس وأعضاء, والأعضاء كذلك لا يمكن أن تستغني عن الرأس والقلب, لذا لا غنى عن التعاون البناء والجاد بين عموم أجزاء الجسد, وإلا أصابه الشلل الجزئي أو الكلي, وحينه تتضاعف الأمراض ويزداد الوهن في جسم الأمة فلا تستطيع حيلة, ولا تهتدي سبيلاً.(13/158)
على أن كل فرد في الأمة يمثل خلية من خلايا الجسم, فإذا مرض هذا الفرد بمرض الانحراف أو مرض الوهن والسلبية, بدأ الوهن يسري في الجسم,وربما تطور حتى يعدي الرأس أو القلب أو الأعضاء الأخرى.
يؤكد ذلك قول الحق تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:71] وحديث: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ..." الحديث.
سادساً: أنه يحقق التناسق الطبيعي لهيكلة المجتمع والدولة, فإذا كان المجتمع يمثل جسداً حياً متكاملاً, كما تقدم آنفاً, قلبه الإمام الأعظم, ورأسه ومدبره أهل العلم والرأي والفكر, وأعضاؤه: عموم مؤسسات الدولة بمسئووليها وموظفيها, فإن هذه التركيبة تمثل تناسقاً طبيعياً, متكاملاً في العضوية.
وإذا كانت وظائف الإمام محددة, وكذلك وظائف أجهزة الدولة, فإنه ينبغي توضيح وظائف العلماء والمفكرين (أهل الحل والعقد) كما سبقت الإشارة.
وهكذا يتبين ضرورة وجود هذه الهيئة المطورة (أهل الحل والعقد) وترسيخ دورهم ومكانتهم,وأن وجودهم يسد ثغرة مهمة لا يقوم بها غيرهم.
ويتبين أيضاً أن إسناد الترشيحات لعضوية مجلس الشورى, أو المجالس الأخرى, إلى هذه الهيئة بكل أصنافها وأطيافها, سيحقق نتائج مثمرة بلا شك, وفق المقاصد المتقدمة.
كما أن في ذلك سبقاً إلى تطبيق منهج فريد ومتميز, يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
أما الأصالة فهو إحياء دور هيئة أهل الحل والعقد التي رأينا آثارها وأعمالها خلال العرض المتقدم.
وأما المعاصرة فبمواكبة التطور في المجال السياسي الذي يشهده العالم اليوم.
وإذا كانت ديمقراطية الغرب هي النموذج الحي للأنظمة السياسية المعاصرة, وهي المثال المحتذى في نظر كثير من المستغربين, فإن نظام (أهل الحل والعقد) في نظري هو خير منافس للنظام الديمقراطي أو (النظام النيابي), إذا ما أولينا نظامنا عناية مناسبة, واهتماماً لائقاً به.
على أنه ينبغي عدم الخلط بين هذه الهيئة ومجلس الشورى أو البرلمان, فهذا الأخير له أعضاء محصورون، ولهم وظائف معينة, أما الهيئة فهي أوسع نطاقاً من حيث الحجم, وهي كالأصل لما دونها من جهات ومجالس.
ذلك جملة الرأي في موضوع الانتخابات.
أما المشاركة فيها بحسب الوضع الراهن في البلدان المسلمة التي تأخذ بها من قبل الإسلاميين, فذلك في تقديري موكول إليهم, فإذا رأوا في المشاركة مصلحة ظاهرة فلا بأس، لكن بشرط أن يتم ذلك عن طريق التشاور مع أهل العلم ورجالات الدعوة, وألا يكون اجتهاداً شخصياً. والله أعلم.
==============(13/159)
(13/160)
رصد للتحول والتغيير
محمد بن عبد الوهاب الطريري 25/7/1424
22/09/2003
إن الناظر لمشهدنا الثقافي الراهن يرى التحولات الصاخبة في الخطاب الثقافي لمختلف الأطياف الفكرية، ما بين صراع ووفاق وحوار وإقصاء، ونعت بالعلمنة،ورمي بالجهل والرجعية، خلافاً لما هو سائد إلى وقت قريب، حيث كان الخطاب الثقافي بل والعلمي - في الجملة- ينحو اتجاهاً أحادياً عاماً لا ينازعه في طريقة فكر، ولا يؤرقه طرح مخالف.
وكان هذا الخطاب ينعم في طريقه بالأمن الفكري المستتب، فلم يعكر صفوه فكر معين، أو يعثر بأطروحات مختلفة، وكانت له أبجدياته المحددة والمقولبة التي لا تخرج عن قالبها الفكري المحدد واللفظي المحدد، وكأن الفكر قد وضع في إقامة جبرية، لا يخرج عن نطاق مكانه، واللسان كذلك فلا يجاوز عبارات محدودة تلائم القوالب الفكرية.
وكان مجرد الخروج عن هذا السياق يواجه بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذ الجرأة على العرف المحلي جرأة على الدين، يجب قمعها بما يناسب حالها.
ولا ريب أن البيئة الهادئة والمنغلقة رعت هذا التوجه وحافظت عليه، غير أنه حصل تغير نوعي في هذه البيئة، وهو انتشار التعليم، وإيفاد البعثات إلى الخارج، والانفتاح الإعلامي الذي ألغى الحدود الجغرافية بين الدول، وطَرقَ العقول طرقاً عنيفاً، ساهم في صوغ ذهنية متسائلة؛ فكون هذا انحساراً للخط الأول، وهو انحسار نسبي، إذ لا يزال له حضوره؛ فحدثت خلخلة لمسلمات هذه الذهنية السائدة، وهي مسلمات إقليمية، إذا لا نزاع على المسلمات الشرعية، والنزاع عليها إن حصل يتوارى بتهافت طرحه.
فطرحت هذه الخلخلة أسئلة في السائد والمألوف لا يحبذها التيار التقليدي، الذي قد ينشئ محاكم تفتيش لأية محاولة تفكير تحاول المس بمسلماته الإقليمية، إذ فيها خروج عن النهج والسمت المحدد.
وجاءت هذه الخلخلة -التي أفرزها انتشار التعليم، وإيفاد البعثات إلى الخارج، والانفتاح الإعلامي- بتيارات غير مألوفة، فتحصل لدينا يمين ويسار (وهي تسمية مجازية) يتضادان في طرائق التفكير وترتيب الأولويات، بل إن نظرة أحدهما للآخر لا تعدو الانسلاخ من قيم الدين، أو التحجر والرجعية.
ثم تطور خطاب اليمين؛ فخرج اليمين المعتدل، رافعاً لواء الحوار، والرأي والرأي الآخر، معتمداً على الآية الكريمة: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
وفوجئ اليسار بهذا الخطاب الجديد؛ فاحتفى به بعض منهم، وكرهه آخرون لمآرب أخرى.
ثم أسهم هذا الخطاب في محاولة تقريب التوجهات بصورة ملفتة تدعو للاحترام والتقدير، معتمداً على ثقافة الحوار، قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، ونابذاً لثقافة الإقصاء والتهم الضبابية التي تجعل بيننا وبين الآخر مسافة شعارها "ممنوع الاقتراب"، وهي لا شك مسافة تضخم الأمور الصغيرة، وتعقد الأمور البسيطة، وتجعل من الممكن غير ممكن، وقد تحجب أبواباً للخير لو فتحت لعم نفعها وأينع ثمرها، ولنا في هدي خير الأنام عليه السلام أسوة،إذ مساحة التحرك والتعامل مع الأمور واسعة أمامه، فلم يمنعه نزول الوحي عليه من السماء أن يسمع لرأي سلمان - رضي الله عنه- في حفر الخندق، وأن يعدل عن رأيه إلى رأي غيره، ثم يكون في ذلك للإسلام فتحاً مبيناً.
ونحن لسنا أصحاب عقائد مبنية على الخرافة، تعيش حالة رعب من التغيير القادم والتوجس من الجيل الصاعد. فلو أخذنا على سبيل المثال الكنيسة البابوية في العصور الوسطى التي كانت تحرق من يفكر بغير الطريقة التي تريد بتهمة الهرطقة، وما ذاك إلا لعجزها عن حمل أتباعها على اتباعها، فحصل زلزال فكري ضخم، قوض أركانها، وأهال عليها التراب، وذاك بقيام ثورة مارتن لوثر، ثم إعلان العلمانية نهجاً للحياة بعد الثورة الفرنسية.
وأما نحن فأصحاب حنفية سمحة انبثق فجرها في جبل النور، وعم نورها أنحاء الكون؛ فلسنا في حاجة لأن نرى في تعاملنا المختلف مع الأحداث المستجدة، ونظرنا المختلف للقضايا النازلة مروقاً عن نهج السلف، إذا كان هذا التعامل وهذا النظر ملتزماً بقواعد الشريعة ومقاصدها.
==============(13/161)
(13/162)
من دخل البيت الأبيض فهو آمن!
دكتور محمد يحيى* 19/6/1424
17/08/2003
أصبح الآن عند الكثير أنه من دخل البيت الأبيض فهو آمن، ومن تأَمْركَ به فقد سلم، ولذلك يولي البعض وجوههم شطر البيت الأبيض وأصحابه أينما كانوا، حتى في بلادهم الأصلية، ويكتبون في صحفهم التي تصدر بأموال الشعوب المسلمة المغلوبة على أمرها.
وهؤلاء هم الذين يروجون الآن لفكر الهزيمة والانبطاح والاستسلام والتبعية، بل ويتقاضون عنه الأجر والجوائز، والفكرة بسيطة للغاية فهم يكتبون الآن أن أمريكا هي سيدة العالم، وأنها غالبة على أمرها للأبد، وأنه لا مجال لأحد إلا أن يسمع ويطيع ويفعل ما يؤمر، والمكافأة تكون في الجنة، وجنة أمريكا لا تعني أكثر من مجرد الرضاء المعنوي للأمريكان، وبعض مقالات المديح في صحفهم، وربما بعض المعونة، وأرفع درجات الجنة الأمريكية هي في ضمان البقاء في المقاعد والسلطة، وهي على أية حال درجة غير مضمونة ولا تدوم. أما العقاب فهو دخول النار، ونار أمريكا تعني إرسال قوات المارنز الأمريكي، وإسقاط الحكام والهجوم الإعلامي الدائم، غير أن دراويش وكهنة أمريكا الذين يبشرون بها ليل نهار لا يكتفون بهذا؛ بل يعلنون لنا أن السمع والطاعة والاستسلام والامتثال إنما هي للشعوب والعقائد قبل الحكام والأنظمة، فهؤلاء الآخرون قد أوتوا العلم قبلها وجاؤوا مسلمين للبيت الأول، أما الآن فقد حان أوان إسلام الشعوب ودخولها إلى العقيدة الحقة، وأول شروط الاستسلام اللازم للشعوب؛ هو أن تتخلى عن كل ما يناقض العقيدة الأمريكية ألا وهو دينها السابق الإسلام ، فبوش لا يقبل أن يختلط الإيمان المسيحي الصهيوني مع أية عقيدة أخرى، ولذلك فالإصلاح المطلوب هو إصلاح ديني، أي: إصلاح الدين نفسه بمعنى التخلي عنه ونبذه وتنحيته؛ لإفساح المجال أمام الدين الأمريكي الغربي.
ولذلك فلابد من الإصلاح وتجديد وتحديث الخطاب الديني والمفاهيم الإسلامية والعادات والتقاليد والهوية العربية كي ينزوي الإسلام القديم رويداً رويداً، ويحل محله إسلام الوجه لأمريكا وعقيدتها.
التسليم التام لأمريكا والكتاب الموالون لأمريكا والذين ينالون المكافآت على هذا يخوِّفون الجميع بأنه إذا لم يجر تسليم الوجه والقفا وكل شئ لأمريكا؛ فسوف تحدث كارثة تتمثل في تشويه صورة الإسلام في الغرب، والتخلف عن ركب العولمة الأمريكي.
وهؤلاء الكتاب والكهنة والساسة لا يقفون عند حد التبشير بالدين الأمريكي؛ بل إنهم يشحذون أسلحتهم للهجوم الدائم على الدين (الإسلام) وتسفيهه وتحقيره والتشكيك في شعائره وعقائده وتاريخه وعلمائه، وهم لا يكفون الآن لحظة واحدة في المنابر المفتوحة لهم عن سب ولعن الإسلام جهاراً نهاراً والدعوة إلى العقيدة الأمريكية تحت مسميات العلمانية أو التحديث أو الإصلاح.
إنهم لم يعودوا كما كانوا في الماضي يغطون تصوراتهم ببعض الحياء، فلقد سقط الغطاء تماماً وأصبحت التبعية علنية ظاهرة ومطلوبة تحظى بالمكافأة والجوائز؛ بل يُحاسب تاركها بقدر ما يُثاب فاعلها ويلقى الثناء والرقي والعلو في المكانة .
إنه عصر الدين الأمريكي فمن شاء فليسبق!.
* أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة
==================(13/163)
(13/164)
تعدد الزوجات..وحقوق الإنسان (1/2)
صالح بن عبدالرحمن الحصيِّن 6/6/1424
04/08/2003
قال الله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة...) [النساء:3].
هذه الآية واحدة من بضع آيات في سورة النساء جاءت لحماية حقوق اليتامى ذكوراً وإناثاً.
وفرض قيام المجتمع لهم بالعدل، والتحذير من الإخلال بذلك، والهداية إلى الوسائل التي تكْفُل العدل في اليتامى بإيفائهم حقوقهم على المجتمع أو على أفراد معينين فيه.
والنصّ الكريم مؤلف ـ كما قال الإمام القرطبي في تفسيره ـ من جزأين؛ شرط هو: (إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) وجوابه: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع).
وأوَّل ما يتبادر إلى ذهن السامع والقارئ لهذا السؤال: ما هي العلاقة بين الشرط والجواب؟
ا هي العلاقة بين الإقساط في اليتامى ـ أي العدل فيهم بإعطائهم حقوقهم ـ وتعدد الزوجات؟
كيف يكون تشريع تعدد الزوجات مقتضياً وموجباً للعدل في اليتامى؟
في الإجابة عن هذا السؤال وعند الرجوع إلى التفسير بالمأثور، نرى أنَّ الإمام ابن جرير رحمه الله أورد في تفسير هذه الآية الكريمة وبيان سبب نزولها أربعة أقوال للسلف مختلفة، ولكن اختلافها اختلاف تنوع لا اختلاف تعارض وتضاد، وهي في هذا الاختلاف محكومة بالقاعدة المعروفة: أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأنَّ القول بأنَّ آية معينة نزلت في كذا قد يعني أنَّ هذا الوضع يشمله معنى الآية المعينة وحكمها، ولا يعني أنَّها لا تشمل وضعاً آخر.
والمقصود بـ(اليتامى) في الآية في ثلاثة أقوال من الأقوال الأربعة: الذكور والإناث.
وفي تفسير القرآن ينبغي الحذر من التجاوز عن التفسير بالمأثور أو ما اختاره أئمة التفسير المعروفين، ولكن ذلك لا يمنع عند تدبر القرآن من استلهام معان يمكن أن يتناولها اللفظ من حيث اللغة ولا تتعارض مع أحكام الشرع.
ومن هذا المنطلق ربما تكون الدلالة اللفظية المجرَّدة للنص الكريم مشيرة إلى الحكمة من تشريع تعدد الزوجات، ولا شكَّ أنَّ الواقع العملي يثبت وجود علاقة قوية وأكيد وظاهرة بين وجود تعدد الزوجات في المجتمع، وضمان حقوق اليتامى بوجه عام، توضيح ذلك فيما يلي:
لا يستطيع المجتمع أن يقوم بما فرضه الله عليه من الوفاء بحقوق اليتامى بمجرَّد إيجاد (دور أيتام) كافية لاستيعاب أعدادهم:
أولاً: لأنَّ لدُور الأيتام سلبيات كثيرة لا يبرر التسامح تجاهها إلا قيام الضرورة لوجود (دُور الأيتام) وعدم البديل لها.
وثانياً: لأنَّ لليتيم حاجات تتجاوز حاجة الجسم من الأكل واللباس والمأوى؛ حاجات عاطفية ونفسية وتربوية لا تقلّ في أهميتها عن الحاجات الجسمية، والواقع العملي وأحكام الشرع (الإسلامي) تظهر أنَّ هذه الحاجات في الغالب تُلبَّى عندما تتزوج أمُّ اليتيم فيكون لليتيم في هذه الحالة أب بديل وجوّ أسريّ بديل وإخوة وأخوات من أمه، وتكون علاقة زوج الأم بربيبه أو ربيبته (أولاد الأم من الزوج السابق) مشابهة في الغالب لعلاقته بأولاده لصلبه، حتى إنه يحرَّم عليه شرعاً الزواج بربيبته، كما يحرم عليه الزواج من ابنته.
وقد تنبَّهت بعض الشعوب بفطرتها إلى هذا الأمر، فوُجد مثلاً تقليد لدى القبائل الأفغانية يلتزم فيه الأفغاني، سواء كان أعزب أو متزوجاً، بالزواج من أرملة قريبه بعد وفاته؛ حماية للزوجة ولأولادها، ولذلك كان مما يلفت النظر أثناء الحرب الأفغانية الروسية، ومع وجود الأعداد الهائلة من الأيتام، عدم قيام الحاجة الظاهرة لإنشاء دُور الأيتام.
وصار همّ دُور الأيتام القليلة ـ التي أنشأها المحسنون بحماس ـ أن تتصيَّد الأيتام تصيّداً.
والواقع يظهر أنَّ أمّ الأيتام في الغالب لا تتزوَّج إلا في مجتمع يكون فيه الطلب على النساء كثيراً والعرض قليلاً، وهذا الوضع لا يتحقق عادة إلا في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات.
في مثل هذه المجتمع وحده تتاح فرصة الزواج لكل امرأة مهما كان لديها من موانع الرغبة فيها كزوجة؛ مثل أن تكون أرملة مصبية، أي ذات أولاد.
وبالعكس فإنَّ المجتمعات التي لا يشيع فيها تعدد الزوجات، تتحدد فيها فرصة الأرامل في الزواج، حتى إنَّه مع مرور الوقت يصبح زواج الأرملة عيباً أو محرَّماً بحكم التقليد، كما هو الحال في القارة الهندية.
معنى ما تقدَّم أنَّ شيوع تعدد الزوجات في مجتمع ما، يجعل الطلب على النساء في ذلك المجتمع كبيراً، فحتى الأرملة ذات الأيتام سوف تجد الرجل المناسب الذي يرغب في زواجها، فإذا تزوَّجت فاء ظلّ الأب البديل على أولادها اليتامى ونعموا بالجوّ الأسري كأيّ أطفال عاديين لم يُصابوا بفقد أبيهم، وبذلك يتحقق في هذا المجتمع الوفاء لليتيم بحقوقه، أو كما جاء في الآية الكريمة (الإقساط فيه).(13/165)
وما تقدَّم يشير إلى معنى أوسع للحكمة من تشريع تعدد الزوجات، فكما شاهدنا، فإنَّ المجتمع الذي يشيع فيه تعدد الزوجات يعمل فيه قانون العرض والطلب (وهو قانون طبيعي) عمله في أي مجال آخر، فتتاح فيه الفرصة للزواج لكل امرأة، فلا يبقى فيه عوانس ولا مطلقات ولا أرامل فقدن الأمل في الزواج بعد فقد أزواجهن. وسيعمل هذا القانون الطبيعي ـ ولا بدّ ـ عمله، فيؤثر إيجابياً وبصورة ظاهرة على قيمة المرأة في المجتمع، وبالتالي على حريتها، واستيفائها حقوقها، وأن تؤتى ما كتب الله لها، وأن تعامل من قبل الرجل والمجتمع بالعدل.
ولعلَّ هذا ما تشير له الآية الكريمة (ذلك أدنى أن لا تعولوا...)، فتعدد الزوجات ـ في النظر المتعمق ـ يحمي المرأة من الظلم وانتقاص الحق، وهذا مشاهد في الواقع العملي، فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) حيث يشيع تعدد الزوجات، تتمتع بمركز اجتماعي، وحرية، وقدرة على التصرف بقدر لا يُتاح للمرأة في القارة الهندية مثلاً، حيث تسود عادة وحدة الزوجة، ففي هذه المجتمعات الأخيرة تولد المرأة ومعها شعور أسرتها بأنَّه ولد للأسرة عبء مالي إضافي يتمثَّل في الثمن الباهظ لشراء زوجها عندما تبلغ سنّ الزواج، إذ على الأب أن يدفع (الجهيز) وتتحدد قيمة (الجهيز) في الغالب بمدى القدرة المالية للأب. أعرف أخاً من جنوب الهند كان موسراً، ولكنه انتهى مفلساً بعد أن دفع (الجهيز) لتزويج بناته التسع، والمسلمون الهنود وحدهم ـ وبحكم تأثرهم بالعادات الهندوكية السائدة ـ توجد عندهم مشكلة تستأثر بقدر كبير من همومهم؛ هي مشكلة تزويج البنات الفقيرات.
نماذج غير عربية
ومن الطبيعي أنَّ المرأة الهندية عندما تنجح في الحصول على الزوج؛ فإنَّها تحت سلطان شبح الخوف من فقده سوف تصبر على ظلمه، وسوف تتغاضى عن مطالبتها إياه بحقوقها قبله، ولن تستطيع القوانين البشرية مهما كانت كفايتها وفعاليتها مقاومة عمل القوانين الطبيعية.
ومن يتابع الصحف اليومية الهندية وأخبار ما تنشره عن مآسي انتحار الزوجات أو حرقهن من قبل أزواجهن وأسر أزواجهن بسبب عجز الزوجة عن الوفاء بالتزامها بثمن زواجها (الجهيز)، سوف يرى صورة من صور الظلم الناشئ عن تدني قيمتها بتأثير القانون الطبيعي للعرض والطلب.
وهذا الوضع (في الهند) له ـ ولا شكّ ـ صلة بمشكلة وأد البنات، وإجهاضهن في الهند، كما تحدَّث عن ذلك موقع (bbc.new) و(بي سي أون لاين) في 7/12/2000م، وذكر صراحة أنَّ وأد البنات مشكلة قائمة في الهند لمدة طويلة، حيث تستمد مبررها من العادات المرتبطة بمهور الزواج، التي تجعل المرأة ذات بعد اقتصادي، وقد طلبت الهيئات الطبية في الهند المساعدة الدولية لمنع مليونين من حالات الإجهاض تتم في الهند سنوياً بسبب اكتشاف أنَّ الجنين أُنثى.
لقد اكتُشف تناقص نسبة الإناث إلى عدد الذكور في الهند منذ مطلع القرن العشرين، ولكنه في السنوات الأخيرة تنامى النقص في نسبة الإناث للذكور بصفة دراماتيكية.
النموذج الأفريقي
وعلى العكس؛ فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) عندما تبلغ سن الزواج تستقبلها أبواب العشّ الزوجي مشرّعة، وتدخلها مرفوعة الرأس كريمة، سوف يتردد زوجها كثيراً قبل أن يقدم على ظلمها أو انتقاص حقوقها أو حريتها؛ لأنَّه يعلم أنَّه إذا فارقها فلن تكون أبواب الزواج من جديد موصّدة أمامها، إنَّ قانون العرض والطلب قد رفع قيمتها وأعطاها القدرة على التصرف والاختيار، وسيكون زوجها أمام علة فاعلة وسبب واقعي لمعاشرتها بالمعروف.
إذا صحَّ ما سبق؛ فإنَّ من المنطقي توقع أن تنخفض نسبة الطلاق في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات، هناك سبب إضافي لتدني نسبة الطلاق في مجتمع تعدد الزوجات؛ يرجع إلى الرجل (وهو بحكم الطبيعة وبصرف النظر عن جنسه أو ثقافته أو مكانه أو زمانه) يميل غالباً إلى (التعدد) لن يجد نفسه (في مجتمع التعدد) في ظروف تحمله على الطلاق، بسبب رغبته في التعدد (كما يحصل في مجتمع عدم التعدد).
وإذا كان الرجل كحقيقة واقعة يميل غالباً إلى التعدد؛ فإنَّ تشريعاً للتعدد ـ كالتشريع الإسلامي بقيوده وضوابطه ـ يضمن البديل العادل للمرأة، ولا يجعلها ـ كما هو الواقع في المجتمعات التي تنكر التعدد المشروع ـ محرومة من الحماية لحقوقها وحقوق ثمرة التعدد، أو محتاجة لتشريع قوانين (غير كاملة وغير مضمونة النفاذ والفعالية) لحماية حقوقها وحقوق أولادها.
وبعد هذا؛ فإنَّ لصلة تعدد الزوجات (في الحدود وبالقيود التي يرسمها التشريع الإسلامي) بالعدل في جانب المرأة بالنسبة لمفاهيم الحضارة المعاصرة مجالاً آخر للقول، ملخصه:
إنَّ رعاية حقوق الإنسان وحمايتها أهم ـ أو من أهم ـ القيم الخلقية في الحضارة المعاصرة (على الأقل نظرياً، وبصرف النظر عن التطبيق الواقعي).(13/166)
يشهد لذلك أنَّه عندما ظهر إخفاق المعيار الاقتصادي في تصنيف البلدان والدول من حيث التقدم والتخلف، جاءت النظرية الحديثة باعتماد معيار مدى رعاية الدولة لحقوق الإنسان؛ لقياس درجتها في سلم التقدم والحضارة، ونتيجة لذلك اعتبرت البلدان الاسكندنافية متقدمة في هذا السلم عن البلدان الأوربية الأخرى.
الغرب وفرنسا كنموذج
كانت فرنسا أول دولة أوربية تصدر إعلاناً لحقوق الإنسان عام 1789م، وفي دستورها عام 1946م أكدت تلك الحقوق، وأضافت إليها حقوقاً أخرى كحقّ العمل، وحق الانضمام إلى الاتحادات، وحقّ الإضراب. ولكن للمرأة حقوقاً هي أهمّ لديها، أو يجب أن تكون أهمّ لديها من حقّ الإضراب، أو الانضمام إلى الاتحادات أو حتى العمل، وأعني بذلك حقّ المرأة في الأمومة، وفي الزواج، وفي أن يكون لها بيت تكون مليكته الراعية فيه، وتؤدي فيه وظائفها الطبيعية.
ووجه أهمية الأمومة للمرأة يتضح من أنَّ علم النفس عندما دخل المعاملات والمختبرات على يد علماء النفس السلوكيين، أثبت أنَّ غريزة الأمومة أقوى لدى الأنثى من غريزة الجوع ومن غريزة الجنس.
أمَّا بالنسبة لأهمية الزواج للمرأة؛ فتظهر عندما نتذكر أنَّ الهدف الذي رسمه القرآن الكريم للزواج أن يسكن الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل، وأن يكون بينهما المودة والرحمة، (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) [الأعراف:189]، (خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) [الروم:19] ولفظ "ليسكن"، "لتسكنوا" يحمل معاني واسعة تشمل الشعور بالراحة والمتعة والأمن والسلام، وما يشبه شعور الطفل عندما تحضنه أمه، وهذا اللفظ بما يحمل من معان لا مرادف له في العربية، وربما لا يوجد له مرادف في اللغات الأخرى، وإذا تحقق هذا الهدف للزواج؛ فإنه يكون مصدراً للسعادة لا يمكن أن يعوّض بأي أمر آخر اعتاد الناس أن يعتبروه مصدراً لها.
وأما بالنسبة لأهمية وجود المكان والجو الأسري الذي تمارس فيه المرأة وظائفها التقليدية التي تتناغم مع طبيعتها ومشاعرها ومواهبها وإحساسها بالجمال، وهو ما يعطي المرأة قدراً كبيراً من الشعور بالاكتفاء، الذي هو بدوره أمر ضروري للصحة النفسية، أقول: بالنسبة لأهمية ذلك للمرأة؛ فإنَّ الأمر لا يحتاج إلى تدليل أو إفاضة في الإيضاح. وفي رأي أحد الخبراء أنَّ ظاهرة ظهور بعض أعراض الاختلال النفسي لدى المرأة الخليجية، مثل حالات الاكتئاب والقلق والشعور بعدم الاكتفاء راجع إلى تخلي المرأة الخليجية عن ممارسة وظائفها التقليدية في البيت بإسنادها إلى الخادمة، وبذلك يظلّ الشعور بعدم الاكتفاء، وأنَّ شيئاً ـ غير معين ـ ينقصها في حياتها يلازم مثل هذه المرأة في تفكيرها اللاشعوري، ولا تدرك في عقلها الواعي أن ما ينقصها هو حرمانها من ممارسة الوظائف التقليدية للمرأة، ولو كانت هي التي اختارت هذا الحرمان.
فإذا كانت حقوق المرأة في الأمومة، والزواج، وتمتعها بالجو الأسري الذي تمارس فيه الوظائف التقليدية للمرأة، إذا كانت هذه الحقوق بهذه الأهمية للمرأة؛ فإنَّ أية دولة أو مجتمع يحدد ويضيّق فرصتها في الحصول على هذه الحقوق لا يمكن أن يدعي العدل في جانب المرأة، ولا العمل لصالحها وسعادتها.
وقد وضح فيما سبق أنَّ معارضة الدولة والمجتمع لتعدد الزوجات (كما هو في النظام الإسلامي) يحدد حتماً ويضيّق بصورة جدية الفرصة أمام المرأة للحصول على تلك الحقوق، وإذا كان الأمر كما ذكر، فكيف نفسِّر الصورة السلبية لدى الحضارة المعاصرة لنظام تعدد الزوجات؟
للإجابة عن هذا السؤال نلاحظ أمرين:
الأول:يتعلق بالمجتمعات والدول الغربية، ومن المناسب ذكر قصة معبرة لها دلالتها، فحينما أصدر البرلمان الإنجليزي القانون المشهور بإباحة العلاقات الجنسية الشاذة كان هذا الحديث موضوع حديث بيني وبين أحد الأصدقاء، وقد علق بقوله: "ولكن ستمضي خمسون سنة قبل أن يصدر البرلمان الإنجليزي قانوناً بإباحة تعدد الزواج" لم يكن صديقي مبالغاً، فقد مضى حتى الآن على تعليقه أكثر من خمس وثلاثين سنة!. إنَّ ضمير المجتمع في أوربا يسهل عليه أن يقبل وجود علاقات جنسية خارج نطاق الزواج حتى لو كانت شاذة تحت تأثير قبوله لفكر الحرية الجنسية، أما (تابو) تعدد الزوجات فلا يزال جزءًا ثابتاً في الموروث الثقافي الأوربي (Cuitu r e) ، وبعبارة أخرى جزءًا من المعنى القانوني الغامض لعبارة: النظام العام والآداب العامة في المجتمعات الغربية.
وإذا استحضرنا أنَّ الديانة المسيحية ـ بشكلها الأوربي ـ عنصر هام من عناصر الموروث الثقافي الأوربي، واستحضرنا نظرة هذه الديانة للزواج بحدّ ذاته، سهل علينا فهم النظرة السلبية للثقافة الأوربية إلى نظام تعدد الزوجات.
والموروثات الثقافية ـ كما هو معروف ـ لا تخضع دائماً للمنطق ولا للمحاكمة العقلية، ولكن على كل حال فهذه النظرة لها في المجتمعات الغربية ـ كما رأينا ـ مبررات مفهومة، وإن كانت غير صحيحة.(13/167)
أمَّا في العالم الإسلامي حيث صدرت قوانين في العراق وتركيا وتونس تحرِّم وتجرم تعدد الزوجات، فإنه يصعب أن توجد لهذه القوانين مبررات مفهومة، إذ إنه حتى فكرة النظام العام والآداب العامة، لا يمكن أن تكون أساساً لهذه القوانين، والموروث الثقافي في هذه البلدان -فضلاً عن أحكام الشريعة- لا يمكن أن يكون مصدراً لهذه القوانين، بل إنَّه ضدها.
وإذاً، فما هو التفسير لصدور هذه القوانين في العالم الإسلامي؟
الجواب:إذا استثنينا الانتهازية السياسية، النزق الطائش في تصور العلمانية، والهوى الجامح في التفلت من أحكام الإسلام؛ فإنَّه يمكن القول بأنَّ الدافع لإصدار تلك القوانين، الخضوع اللاواعي لسلطان الثقافة (Cuitu r e)، والانبهار بألفاظ الحرية والمساواة وكرامة الإنسان، دون أن يوجد تحديد واضح لمفاهيمها في الذهن.
وفي المقابل تعوَّد الغرب على إطلاق ألفاظ وعبارات لها إيحاءات وظلال فكرية مكروهة مثل: الحريم، واستعباد الرجل للمرأة وتسخيرها لمتعته، والحياة المهينة للمرأة، كما تعوَّد ببغاوات الشرق على ترديد هذه الألفاظ والعبارات.
وليس أدلّ على طغيان سلطان الثقافة الغربية على عقل المسلم في هذا المجال من أنَّه حتى المدافعون عن الإسلام من الكتاب الإسلاميين لم يستطيعوا التخلص من هذا الطغيان، فنجدهم يدافعون عن نظام تعدد الزوجات بصفة اعتذارية، وكأنهم قد اقتنعوا بأنَّ هذا النظام غير مرغوب فيه، وأنَّهم يودّون أنه لم يوجد في تشريع الإسلام. أما وقد وُجد؛ فلا حيلة لهم إلا التماس المبررات الاعتذارية لوجوده، فهم يسلمون من حيث المبدأ بصحة النظرة السلبية لهذا النظام كنظام اجتماعي، ثم يبررون وجوده في الإسلام بأنَّه نظام استثنائي، وأنَّه في طريق الانقراض عن حياة المسلمين، وأنَّه مبرر فقط في ظروف معينة، ثم يحاولون حصر هذه الظروف التي تقوم بها الحاجة الفعلية أو الضرورة لأن يتزوَّج الرجل على زوجته.
وفضلاً عن أنَّه لا يوجد أساس علمي شرعي لاعتبار نظام تعدد الزوجات (كما هو منظَّم في الإسلام) نظاماً استثنائياً لا يمكن أن يتسامح الإسلام تجاهه إلا في ظلّ الظروف وضمن الشروط الواقعية التي تجعله حاجة معتبرة (في تقديرهم)، إذ إنه لا النصوص الثابتة ولا تطبيقها من قبل الرعيل الأول من الصحابة والتابعين يشهد لذلك، فضلاً عن ذلك؛ فإنَّه إذا صحَّ ما أوردته ـ فيما سبق ـ من حجج عقلية لإثبات أنَّ نظام تعدد الزوجات في ذاته نظام يحقق المصلحة العامة للمجتمع، فقد كان ينبغي لهؤلاء الكتَّاب أن يعتبروه نظاماً اجتماعياً صالحاً حقيقاً بأن يعتزَّ به ولا يعتذر عنه، وأن يكون همهم تشجيعه والدعوة إلى إشاعته، بدلاً من التنفير عنه، على أنَّه في الحالات التي لا يكون الدافع فيها وراء القوانين المحرمة لتعدد الزوجات في العالم الإسلامي اتباع ما تهوى الأنفس، فإنَّ الدافع لها اتباع الظن والخضوع للأوهام، بدلاً من البناء على الحقائق وإجراء المحاكمة العقلية للأمور قبل الحكم عليها، ولو حكم المشرعون لتلك القوانين العقل؛ لأبصروا التناقض العجيب بين تحريم تعدد الزوجات، وإباحة صور من علاقات المتزوجين بنساء خارج نطاق الزوجية، علاقات تشبه العلاقة الزوجية في كل شيء إلا في عدم وجود الإجراء الشكلي لعقد الزواج، والذي كان سيحمي حقوق المرأة وحقوق ثمرة علاقتها بالرجل من الأولاد.
ويبرز التناقض عندما يقدم الشخص للمحاكمة بتهمة ارتكابه لجريمة تعدد الزوجات، فتبرئه المحكمة إذا عجز الإدعاء العام عن إثبات وجود عقد زواج شرعي في الحالة، بحيث يقوم الدليل على أنَّ الحالة حالة زواج يمنعه القانون، وليست حالة زنا يبيحها القانون!.
المشرّعون لتلك القوانين يقولون (إنَّما نحن مصلحون) غايتنا حماية حقوق المرأة وكرامتها وحريتها، ولا (يشعرون) أنَّ هذه القوانين تهيئ لهم الظروف الطبيعية لحرمان المرأة من حقوقها ولتحديد حريتها واستلاب كرامتها، وما كانت القوانين البشرية أبداً قادرة على مغالبة القوانين الطبيعية وإلغاء آثارها، لا سيما في مجتمع تتسم فيه الأجهزة المسؤولة عن تنفيذ القوانين بالعجز والتخلف والفساد، كما هو الحال في أغلب المجتمعات فيما يسمى العالم الإسلامي.
إنَّ الوهم السائد بأنَّ نظام تعدد الزوجات نظام اجتماعي سيئ وضد مصلحة المجتمع، وقد اخترعه الرجل استجابة لهواه ومتعته، وأنَّه مظهر لاستعلاء الرجل على المرأة، منتقص لحقوقها مهين لكرامتها وسبب لشقائها، والإلحاح على تكرار هذه الأحكام على نظام تعدد الزوجات في الندوات والمؤتمرات ووسائل الإعلام، كل ذلك أوجد لدى الكتّاب الإسلاميين المعاصرين الوحشة تجاه نظام تعدد الزوجات المحكوم بقيود الشرع وضوابطه، دون محاولة منهم للقيام لله، والتفكير والاختبار الموضوعي الحيادي لهذه الأحكام المسبقة على النظام، وتحديد ما إذا كانت هذه الأحكام نتيجة الأفكار الشائعة السائدة في أذهان الناس وعلى ألسنتهم أو نتيجة للمحاكمة الفعلية، والبحث عن المصالح في ضوء الواقع وتجارب الأمم، وعدم الانسياق مع الهوى والعاطفة والشعارات الخادعة.(13/168)
ومعلوم أنَّ شيوع الفكرة وسيادتها ولو كانت وهمية، يعطيها من إمكانية الإيمان بها واليقين ما لا تحظى به ـ في كثير من الأحيان ـ الحقائق، بل يجعلها من المسلّمات البديهية التي لا تقبل المراجعة أو التشكيك. ونتيجة لما سبقت الإشارة إليه؛ رأينا الكتابات المعاصرة في الدفاع عن الإسلام تنساق مع الأفكار الوهمية الشائعة عن تعدد الزوجات، فتعتبره من حيث المبدأ غير مرغوب فيه، وإنَّما يكون مشروعاً على وجه الاستثناء، وحيث توجد ظروف معينة تجعله استجابة لحاجة حقيقية وفعلية تبرر الاستثناء، وأنَّه لا ينبغي أن يكون الدافع إليه الرغبة الطبيعية للرجل في الاستمتاع، وحسب علمي القاصر فإنَّه لا يوجد من نصوص الشرع ما يسند هذا الاتجاه، وهدي الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ـ كما يشهد التاريخ الصادق ـ على خلافه.
وإذا صحَّ ما أطلت الجدال فيه والاحتجاج عليه من أنَّ هذا النظام ـ كما رسمه الشرع الحكيم ـ نظام اجتماعي صالح، ليس فقط لأنَّ أي بديل عنه ـ في ضوء دراسة الواقع ـ ضار بالمجتمع عامل على فساده؛ بل لأنَّه يحقق مصلحة المرأة مثل ما يحقق مصلحة الرجل أو أكثر، ويضمن للمرأة من العدل والحرية والوفاء بحقوقها الطبيعية ما يفوت عليها في ظلّ أنظمة تمنع تعدد الزوجات كما ينظمه الإسلام.
إذا صحَّ ما ذكر فإنَّ هذا النظام سوف يحقق آثاره النافعة بصرف النظر عن دوافع الرجل للزواج، وهذا تماماً مثل الزواج بحدّ ذاته، فهو نظام اجتماعي صالح، بصرف النظر عن العامل النفسي الذي دفع الرجل للزواج، إذا لم يكن هذا العامل النفسي عاملاً سيئاً.
إنَّ نظام تعدد الزوجات ـ كأي نظام اجتماعي صالح ـ له بلا شك سلبياته، وبعض هذه السلبيات راجع إلى طبيعته، ولكنها حينئذٍ لا توجب إلغاءه، إلا لو كانت ترجح على إيجابياته، وهذا غير واقع، وبعضها راجع إلى إساءة استعمال البشر، وهذه أيضاً لا تعالج بإلغاء النظام، وإنَّما بالعمل على حمل الإنسان المسلم على عدم إساءة استعمال النظام.
وبناءً على ما تقدم؛ فإنَّه ليس من العدل أن يُترك الناس للأوهام والأفكار الخرافية حول تعدد الزوجات، ويكون الواجب أن يكشف عن أعينهم غشاوتها، وأن يُوعوا بالحقائق عن هذا النظام. وإذا كانت وسائل الدعوة عاجزة عن القيام بدور فاعل في هذا المجال؛ فإنَّ الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم مسؤولة عن تضمينها مناهج التعليم ما يميز بين الأوهام والحقائق، في هذا النظام وغيره من الأنظمة الاجتماعية.
وعوداً للكلام على الآية الكريمة المصدَّر بها هذا المقال، وفي ضوء ما سبق؛ فإنَّه يمكن إبداء الملاحظات التالية:
1 ـ هذه الآية هي الآية الوحيدة التي تدلّ بنصّها على مشروعية تعدد الزوجات، أمَّا النصّ الوارد في الآية الأخرى (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء:23] في سياق تعداد المحرَّمات في الزواج؛ فلا يدلّ بالنص على التعدد، وإنما بمفهوم المخالفة، وكذلك النص الوارد في الآية الأخرى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) [النساء:129] فإنَّما يدل على مشروعية التعدد بالإشارة.
2 ـ ورد في التعبير عن العدل بثلاثة ألفاظ (أن لا تقسطوا)، (أن لا تعدلوا)، (أن لا تعولوا)، والإقساط والعدل وعدم العول متقاربة في المعنى، على أنَّه ينبغي التمييز في المعنى بين العدل في الأشخاص، والعدل بين الأشخاص؛ فالعدل في الأشخاص يعني إيفاءهم حقوقهم، والعدل بين الأشخاص يعني التسوية بينهم.
والعدل المشروط لإباحة تعدد الزوجات في الآية الكريمة -كما يدلّ كلام المفسرين- يعني الأمرين: وجود العزم على التسوية في المعاملة بين الزوجات، ووجود الظنّ الغالب بقدرة الزوج على ذلك، ثم وجود العزم على الوفاء بما لكلّ من الزوجات من حقوق الزوجية، ووجود الظنّ الغالب لدى الزوج بقدرته على ذلك.(13/169)
3 ـ كما رأينا؛ فإنَّ نظام تعدد الزوجات في الإسلام صورة مختلفة عن نظام تعدد الزوجات في أي دين آخر، أو ثقافة أخرى، وإذا كان أيّ نظام اجتماعي له سلبياته ولا بد؛ فإنَّ النظام الإسلامي يتفادى ما أمكن تلك السلبيات، فيشترط فيه العدل في الزوجات، ثم العدل بين الزوجات حين يكون ذلك ممكناً بحكم الطبيعة البشرية، ثم لا يسمح به حين يؤثر سلباً على غاية مصلحية يهتم بها الإسلام وهي صلة الرحم، فيمنع أن يكون بين الزوجات نوع معين من القرابة كما بين المرأة وأختها، أو المرأة وخالتها، ثم هو بعد ذلك يحدد العدد، فلا يجيز التعدد لأكثر من أربع، والزيادة عن أربع من خصائص نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وقد كشف التاريخ والواقع العملي عن حكمة مهمة من حِكَم هذه الخصيصة، ذلك أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يبلغ نبوته، ويهدي بهداية الله عن طريق القول والعمل، فهو مثال ونموذج للأمة، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، وهو شاهد على أمته، وموجب هذه الشهادة أن تكون بينة واضحة ودليلاً ظاهراً على مشروعية الفعل، وأنَّ تطبيق ما أنزل الله من الهدى ممكن، وكيفية هذا التطبيق، ولا يتم ذلك على كماله إلا بأن يكون لدى الأمة علم تفصيلي بحياته - صلى الله عليه وسلم - العامة والخاصة، وذلك يوجب أن يوجد عدد كاف يضمن به البلاغ، ولا إشكال في شؤون الحياة العامة، أمَّا الحياة الخاصة فلا يمكن أن يبلغ هديه فيها إلا عن طريق الزوجات، وإذا كان النقلة عدداً قليلاً فقد ينسى الناقل أو لا يرى أنَّ الأمر من الأمور التي يجب نقلها، أو يخطئ في النقل، وهذه العوارض تعرض لمن ينقل عنه في سلسلة الإسناد. وقد كشف التاريخ أنَّه بسبب وجود هذا العدد من الزوجات الذي اختاره الله لنبيه أمكن أن تعرف الأمة كل تفاصيل ودقائق حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - الخاصة، حتى إنَّ المسلم العادي بعد أربعة عشر قرناً يعرف عن تفاصيل الحياة الخاصة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما يعرف عن الحياة الخاصة لأبيه.
4 ـ قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) قيد غير مراد، فلا يعني أنه إن لم يخف الأفراد أو المجتمع الإقساط في الأيتام فلا يجوز لهم تعدد الزوجات، وإنما يستفاد منه الإشارة إلى أنَّ تعدد الزوجات بديل صالح يوفر الوقاية من ظلم اليتامى وعدم إيفائهم حقوقهم.
5 ـ المنطق الصحيح والواقع العملي يشهدان بأنَّ شيوع تعدد الزوجات في المجتمع يعطي المرأة الفرصة في الزواج مهما كانت الصعوبات والعوائق التي تقف في طريقها إلى الزواج، وبذلك تتوفر الحماية الاجتماعية لأمّ اليتامى وأولادها، ويتأثر مركز المرأة الاجتماعي إيجابياً، فنكون أقدر على الحفاظ على حقوقها وحريتها وضمان معاملتها بالعدل، وعموم لفظ الآية يتضمَّن أنَّ نظام تعدد الزوجات عامل فاعل في العدل في اليتامى، وإذا كان اسم الإشارة (ذلك أدنى أن لا تعولوا) راجعاً إلى كلّ ما سبقه، فذلك يعني أنَّ هذا النظام عامل فاعل للعدل في النساء من حيث الجملة.
6 ـ المنطق الصحيح والواقع العملي يشهدان أنَّ المجتمع أو القانون الذي يعارض تعدد الزوجات، يحدد فرصة المرأة في الزواج، فيحدد بالتالي فرصتها في أن تكون أماً، وأن يكون لها زوج تسكن إليه ويسكن إليها، وتنمو بينهما المودة والرحمة، ويكون لها بيت تؤدي فيه وظائفها الطبيعية كامرأة، وكلّ هذه الأمور حاجات أساسية وحقوق للمرأة أهمّ لديها وفي واقع الحياة من عدد من الحقوق التي تضمَّنتها وثيقة حقوق الإنسان.
فتحديد فرصة المرأة في الحصول على هذه الحاجات الأساسية بالحدّ من تعدد الزوجات انتهاك واضح لحقوقها - كإنسان-.
7 ـ عند التأمل والاحتكام للنظر المنطقي والعقلي، يظهر جلياً أنَّ نظرة الغرب إلى نظام تعدد الزوجات (كما هو في الإسلام)، أساسها التصورات الناتجة عن الموروثات الثقافية، وليس أساسها المنطق والمحاكمة العقلية، أو اعتبارات المصلحة الاجتماعية العملية. والنظرة السلبية لهذا النظام لدى بعض المسلمين المعاصرين ناشئة فقط عن التأثر بالتصورات الغربية، والانخداع بتحقير الغرب لهذا النظام عند المسلمين، وعيبهم به.
8 ـ بحكم طبائع الأشياء، فإن لنظام تعدد الزوجات ـ كأي نظام اجتماعي آخر ـ سلبيات، ويحدث أحياناً كثيرة أن يُساء استعماله، ولكن هذا شأن أي نظام اجتماعي صالح، والعلاج ليس بهدم النظام وإنَّما بمعالجة السلبيات والعمل على تقليلها، ومكافحة إساءة الاستعمال.
وبالله التوفيق.
==============(13/170)
(13/171)
الصحوة .. المواجهة وأزمة التخطيط
د.سفر بن عبدالرحمن الحوالي 2/6/1424
31/07/2003
إن مما يجب الاعتراف به وجود قدر من العفوية والارتجال في برامج الحركات الإسلامية، وهي مظاهر تدل على أن الصحوة مع انتشارها وقوة زخمها لم يصلب عودها بعد، وليست قادرة على مواجهة الحضارة الجاهلية المعاصرة التي تسعى لاجتياح العالم تحت ستار (العولمة).
هناك أزمة في التخطيط، وأزمة في فهم الآخر ومطابقة العلاقة معه لمقتضى الشرع، وأزمة في معرفة سنن الله في التغيير والهزيمة والنصر. لا ينقص الصحوة الإخلاص وحب التضحية؛ لكن هذين لا يكفيان، ولا ينقصها - كثيراً- العلم الشرعي؛ لكن وجوده شيء وفهمه والعمل الصحيح به أمر وراء ذلك. كثير من شباب الصحوة ومعهم بعض موجهيها أيضاً يميلون إلى التصنيف المبسط للأشخاص والقضايا، والحرفية الظاهرية في فهم النصوص، والسذاجة في التعامل مع تعقيدات العصر، لكن هذا لا يعني التشاؤم؛ فالمبشرات أكثر من المعوقات بفضل الله، ومظاهر التحسن والنضج بادية سواء في الأحداث أو الوسائل، ومن أهم السبل للارتقاء بالواقع الدعوي والأخذ بأسباب النصر والقوة؛ دراسة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتأسي بها، والاعتبار بأحداثها ومواقفها، وأضرب لكم مثالاً واحداً مما يناسب حالنا هذه الأيام؛ وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يغزو قبيلة ورّى بغيرها (أي أظهر أنه يريد غزو غيرها لكي يباغتها)، واليوم تأتي مواقف تحتاج الأمة فيها إلى التورية ضمن السياسة الشرعية، ولكن ذلك لا يحدث خوفاً من الاتهام؛ لأن الاتهام عند آخرين جاهز لأدنى احتمال دون تقدير للاعتبارات العلمية، والمصالح الشرعية، وبُعد النظر في العواقب، سواء في ميدان الجهاد أو الدعوة والإصلاح.
منهجية الصراع
من أهم أوجه الخلل في التفكير المنهجي افتعال الصراع أو توهمه حيث لا سبب له.
فهو يفتعل بين العلم والدعوة لمن ترك أحدهما، وبين الجهاد والإصلاح ممن لم يستطع التوفيق بينهما، وهكذا كما ذكر الله عن النصارى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14]، وسبب ذلك عدم إدراك سنة الله في التنوع وتيسير كل أحد لما خُلق له، وفقد الرؤية الكلية والانحصار في رؤية ضيقة على جانب واحد من الحق؛ وإلا فما المانع من أن يجتمع الحوار العلمي والإعداد الجهادي العام؟
إنهما ليسا متناقضين؛ بل كل منهما وجه للقوة، فلولا قوة الصين لما اضطرت أمريكا إلى حوارها، ولولا القنبلة النووية لما سمعت الهند من باكستان، وفي الوقت نفسه سقطت قوة الاتحاد السوفيتي عسكرياً لما أخفق عقدياً.
كلنا نؤمن بأن الإيمان شُعب، واستكمال التربية على كل الشعب متعسر أو متعذر؛ فالحل الصحيح إذاً هو مراعاة حال الأمة؛ ففي مثل واقعنا الحالي أرى أن أهم شعبتين بعد التوحيد هما: الجهاد، والزهد. ونتدرج في استكمال ذلك بواقعية؛ فالمجاهد في فلسطين وإريتريا والشيشان وكشمير والفلبين هو في حالة ضعف بالنسبة لعدوه المباشر؛ مع أنه في الوقت نفسه يواجه القوى العالمية التي تنصر هذا العدو عليه، ويعاني من قلة الناصر من المسلمين بعذر أو بغير عذر.
وأهم من ذلك أن قوتنا العظمى هي في ديننا وعقيدتنا، وبها نغلب العدو ونفتح القلوب والبلاد؛ فاهتمامنا بالعلم والدعوة، وقدرتنا على البلاغ والحوار لشرح محاسن الإسلام أكبرُ أسباب النصر على العدو في ميدان المعركة، وأعظم ممهد لإعلاء كلمة الله في الأرض دون أن يعني ذلك الاكتفاء بالحوار عن الجهاد، أو الاستغناء بالمقاومة عن المجادلة والدعوة. إن مقتل جنرال من العدو نصر نفرح به؛ لكن ينبغي أن يكون فرحنا بإسلام عالم أو قسيس أعظم منه.
منهجنا في الحوار
في كل حالٍ يجب أن نكون أقوياء؛ فالغرب وغيره لا يستمع إلا للقوي، ومن القوة قوة الحجة والبرهان والحكمة في التعامل مع الاستمرار في المصابرة، لا نمنع الحوار لكن ننبه إلى ضوابطه ومحاذيره، ونحرض على الجهاد لكن ننبه إلى شروطه وعواقبه، ويعمل الطرفان كاليدين للإنسان.
أما بالنسبة للغرب؛ فهو ليس شيئاً واحداً، وأمريكا نفسها منقسمة، ومن الخطأ التعامل معها على أنها كلها يمين متطرف أو كلها مفكرون عقلانيون، فأمريكا فيها أسوأ ما أنتج الغرب من دعاة الدمار والهمجية، وفيها أحرص الناس -بعد المسلمين- على العدل.
ومن الحكمة أن يواجه كل منهما بما يناسبه، ومن هنا يجب أن نستكمل القوة في كل ميادينها والإعداد للمواجهة الحاسمة دون استعجال للأحداث واستثارة للعدو ونحن لا طاقة لنا به، وقد أثبتت الحرب الأخيرة في أفغانستان أن ضعفنا الإعلامي شديد؛ بل هو أشد من الضعف العسكري.
نبدأ بالتعريف ثم العمل!(13/172)
علينا أولاً أن نحدد مفهوم المقاومة وصفة العدو، فإن كان المقصود بالمقاومة المواجهة الشاملة دعوياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً؛ فالجواب بيقين: نعم! ولكن وفقاً لسنة الله في الإعداد والتدرج والقومة بعد الكبوة؛ فهي إذاً مصابرة طويلة، وجبهة عريضة هائلة، لا حدود للمعركة مع الصليب على الأرض، ولا نهاية لها إلا قيام الساعة، ونحن الآن نعيش مقدمات النصر وذلك بسقوط القيم الأخلاقية لأمريكا، ذلك السقوط الذي حوّل كثيراً من الناعقين بتمجيدها إلى ثكالى يصرخون لرثائها.
وأما صفة العدو؛ فإن كان المقصود بأمريكا إدارتها الصهيونية وغطرستها العسكرية، فهذا ما يجب على العالم كله أن يقاومه؛ لأنه شر على الإنسانية كلها. وإن كان المقصود الشعب أو طائفة كبيرة منه وأكثر المثقفين؛ فهم أخصب بيئة للدعوة إلى الإسلام، ويجب أن تكون قوتنا هنا هي قوة العلم والإيمان، وسلاحنا هو الحجة والبرهان، ولا ينبغي أن يغيب عنا أنه بعد الهجوم على أمريكا كتب كثير من المفكرين هناك في نقد الغطرسة الأمريكية والانحياز ضد المسلمين ما لا يقل عما كتبه أكثر المسلمين صلابة وأبلغهم بياناً، ومن هنا يجب أن يكون تقييمنا للمقاومة شاملاً وحكيماً، وأن تكون خطة العمل متكاملة وسليمة.
لفتة لابد منها!*
إن الأمر لم يعد أمر جماعات إسلامية.. لقد طورت الأمة نفسها، وطورت بعض الجماعات منهجها فنشأ تيار عريض تجاوز الأطر الضيقة والتجمعات المحدودة؛ ليمتلك مواقع ومؤسسات وتأثيراً متنامياً داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها، إن (80%) من الأخبار التي يتداولها العالم يومياً هي مما له علاقة بالإسلام والمسلمين، وفيما تتعرض العلمانية لإخفاقات متوالية يشهد العالم كله عودة صاخبة للتراث وحديثاً جديداً عن الدين، وبالإفادة من وسائل التواصل الحديثة، وبالاستناد إلى أن الإسلام هو دين الفطرة، وهو الحق وما عداه باطل أو محرف؛ استطاعت الصحوة الإسلامية أن تكسب مواقع جديدة كل يوم، وسهلت مهمة العاملين للإسلام فرادى أو جماعات أو مؤسسات، ولم تقف الأمة عند حدود الإيمان بأن الإسلام هو الحل، وأن كل الشعارات والأفكار العلمانية يجب أن تُوأد، بل تجاوزته إلى الإيمان بأهمية الجهاد والمطالبة بتطبيق الشريعة، وهناك أكثر من مسؤول غربي -فضلاً عن دراسات كثيرة جداً- صرح بأن الشعوب الإسلامية لو أتيح لها حرية الاختيار لما اختارت سوى الإسلام، ولو أُعطيت فرصة الجهاد لاندفعت إليه من كل مكان؛ فالعلمانية والانهزامية إذاً مفروضتان على الأمة فرضاً، وكفى بذلك إنجازاً وسبباً للتفاؤل.
==============(13/173)
(13/174)
الاستراتيجية المقبلة لما بعدالعراق (1/2)
د. المصطفى تاج الدين* 23/5/1424
23/07/2003
لعل من أهم الأسئلة المركزية المطروحة في مرحلة ما بعد حرب العراق سؤال : ما العمل؟ وكيف السبيل إلى الإبقاء على الذات العربية الإسلامية مكتنزة بكل آمال النهوض رغم هذا الواقع الكئيب؟ سؤالان لم يعد هناك مجال لتجاهلهما أو محاولة إخفائهما بادعاء امتلاك الجواب الجاهز، أو ربما بإنكار شرعية السؤال ذاته.
يقدم القرآن الكريم توصيفين لمستقبل هذه الأمة، وكلاهما متعلق بشرط سنني لا تتحقق نتيجته إلا بتحقق شرطه الموجب، فهناك الوعد بالنصر شرط التحقق بشروطه "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم"، وهناك إمكانية الهزيمة التي تركها القرآن الكريم ممكنة إذا تحققت شروطها "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا"، فربط نصرهم بالاستطاعة، والتي هي بدورها مرتبطة بدور المسلمين -الموجه لهم الخطاب- في إيجاد هذه الاستطاعة وخلقها.
إن أي قراءة للقرآن الكريم بخلفية النصر المحتوم موقف غير قرآني، وإن بدا مبشراً ومدغدغاً للعواطف الزائلة؛ لأنه يقع في خطأ تجاهل مرير لقوة الآخر ووهن الذات، وإن الإيمان باحتمال الهزيمة يشحذ الهمم لتجنب أسبابها. كما أن قراءة القرآن بنفسية الهزيمة المحتومة لا شك موقع في اليأس من رحمة الله الواسعة، وتصور قدري ينفي القدرة على التغيير والإصرار على الإصلاح. فاعتبار التوصيفين مؤذن بخلق التوازن في الشخصية المسلمة حتى لا تستسلم لموقفين سلبيين موقف الشعار، والذي يجعل الحناجر تصرخ بالويل والثبور على كل شيء، وتصيح بأننا منصورون وأننا سنفعل ونفعل، وأن أمريكا ستسقط ليس في العراق هذه المرة، بل ولا قدر الله في سوريا وربما في مصر أو السعودية، هكذا حتى تسقط كل القلاع. الموقف الشعاري موقف منكفئ على نفسه، رومانسي الطابع يستلهم شخوص التاريخ: عمر و صلاح الدين، دون الوعي بالظروف التي صنعت الرجلين العظيمين وأمثالهما. إن مثل هذا الموقف كمثل موقف بطل في الملاكمة لم يقبل بالهزيمة فقط؛ لأن تاريخه مليء بالانتصارات، ولم تسمح له كرامته بالانسحاب. و قد يكلفه هذا حياته، يمنعه من رجعة أخرى والأيام دول!.
وموقف الهزيمة الذي لا يرى في التراجع سوى نهاية التاريخ، والصراع عنده لحظات تاريخية متقطعة لا تعاد في الزمن، وإن مثله كمثل بطل في الملاكمة رفض النزال لأنه سيهزم كما هزم في معركة سابقة.
ولو ادعينا القدرة على أن نضع تصوراً تفصيلياً لاستراتيجية مستقبلية للعمل من أجل العودة التاريخية لهذه الأمة؛ لكان محض تقول لا تسمح بتحقيقه طبيعة الأشياء، فحسب هذه الحروف أن تكون إطاراً لبرنامج عمل يفضله العاملون على بعث هذه الأمة والمرابطون على ثغورها المختلفة.
على المستوى الداخلي:
لقد أصبحت الدولة القطرية أمراً واقعاً، والوحدة الإسلامية -بل والعربية- أمراً ثقافياً ونفسياً، والدليل على ذلك فلسطين، والآن العراق، وقبل ذلك الكويت، حيث إن صدق العواطف في مساندتها سرعان ما تتكسر على المعطيات المحلية التي أفرزتها الدولة القطرية. فنحن لا نستطيع أن نفعل شيئا ذا بال رغم أعدادنا الغفيرة، وإيماننا بعدالة القضية. وإذا كان الأمر كذلك فإن خطابات التخوين والتفسيق بسبب الوقوف إلى جانب أمريكا ومساعدتها في ضرب العراق يجب أن تتوقف، ليحل محلها خطاب جديد يرنو إلى المستقبل، ويشكل نواة فكر وحدوي جديد سنبرز بعض ملامحه. هل الكويت مذنبة لأنها قدمت أرضها للمحتل للهجوم على العراق؟ وهل الأكراد متواطئون لأنهم فتحوا الشمال للعدو أو ربما "الصديق" ليلتف على أرض العراق؟ نعم إنهم كذلك، و لكن من لم يخن فليرم الكويت والأكراد بحجر. ترى من أين مرت السفن الحربية الأمريكية؟ ألم تمر من البحر المتوسط عبر بلدان عربية؟ ومنها بلدان "ثورية"؟!
إن عقلية البحث عن المذنب عقلية غير مثمرة، والسبب بكل بساطة: كلنا مذنبون. إننا ومن موقع قومي ضيق ننتقد تركيا؛ لأنها تريد الاستفادة من الوضع العربي لتعزيز دورها الإقليمي في الشرق الأوسط، ونحن ننسى أننا نحن الذين ضربنا الخلافة العثمانية في العمق، حينما أقنعنا لورنس العرب بإقامة الدولة العربية الحديثة على حساب دولة الخلافة (أقول هذا وأنا على علم بالاستبداد التركي ونتائجه في تحطيم دولة الخلافة) نعم لكل منا نصيب من الخطأ ينبغي أن يعترف به، ولكل دولة عربية وإسلامية نصيبها مما نحن فيه. أجل لقد أصبحنا -ومع كامل الأسف- متساوين في الخيانة بعد أن كنا متساويين في صنع قصة الكرامة العربية الإسلامية. فهل نوقف السباب والشتائم؟ ترى إن لم نتوحد في الهزيمة، فهل نأمل فيها بعد النصر إن كان ثمة نصر؟
ينبغي إذاً التركيز على خلق تصور جديد لعلاقتنا بالأنظمة السياسية التي تحكمنا في إطار الدولة القطرية، ويقوم هذا التصور على:
الحرص على استقرار الأنظمة السياسية ذات التوجه التعددي:(13/175)
على أي حركة جماهيرية أن تتجاوز فكرة تغيير الأنظمة وإحلال أنظمة جديدة مكانها، والسبب أن كل نظام جديد سيكون أقل نفوذاً من سابقه وعليه أكثر ارتباطاً بالخارج حيث يستمد قوته ونفوذه.
إن علينا العمل بكل إخلاص من أجل تقوية الأبعاد الوطنية والدينية في أنظمتنا عن طريق خلق مصالحة شاملة مع أنظمة الحكم في العالم العربي والإسلامي، بشرط أن يوفر هذا النظام السياسي أرضية لممارسة الحريات، واحترام حقوق الإنسان، وما على التجمعات السياسية وخصوصا الإسلامية والوطنية سوى تقوية المجتمع المدني، ودعم النظام السياسي في اتجاه سياسات الإصلاح، وبذل النصح الخالص من أي شوائب المنافسة والاستقطاب، وعلينا أن نربي شبابنا على ثقافة سياسية إسلامية قوامها العمل من أجل البناء لا الهدم، والقدرة على ابتكار الأفكار وصياغتها في إطار برامج عمل قابلة للتنفيذ، بدلاً من فناء الأعمار في النقد الهدام، والاحتشاد لخلق اضطراب هنا أو مشكلة هناك.
تخليص العمل الإسلامي من بعده الحزبي:
لقد أنتج واقع الدولة القطرية واقعاً جديداً في الممارسة السياسية الإسلامية لم يتعودها العقل الإسلامي، وهو تشكيل أحزاب من أجل تغيير مسار الحكم من العلمانية إلى الإسلام. ورغم أن الحركة الإسلامية تحاول جاهدة التأريخ لظهورها بالحركات التحررية من الاستعمار- باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي شاركت فعليا في طرد المستعمر -إن طرد فعلاً- فإن ثمة فرقاً واضحاً بين الخطاب الإسلامي والخطاب الوطني. حيث تحول الحزب الإسلامي إلى ما يشبه الطائفة الدينية، فكل حزب له علماء محسوبون عليه، وله مفتون، وله منبر إعلامي يمتلئ بما يوافق توجهات الحزب؛ بل ولكل حزب آيات قرآنية مفضلة تختزل رؤيته السياسية، أي أن البعد الطائفي في التحزب الإسلامي ليس مقصوداً ولكنه نتيجة طبيعية لأساليب العمل وطبيعة الخطاب المتحكم في الأداء السياسي. ولقد أنتج هذا الواقع توجها للأحزاب الإسلامية نحو الاستقطاب، وخصوصاً في الانتخابات، وهذا ما أدى بالخطاب الإسلامي إلى الانكماش رغم الزخم الظاهر؛ لأن الطائفة تبقى طائفة رغم امتدادها الظرفي لسبب أو لآخر، كما أن المواطن البسيط لا يستطيع التمييز بين الإسلام والحزب الإسلامي، وأي تمثيل سيئ للإسلام فإنه يؤدي إلى الشك في المبادئ الدينية ذاتها وقدرتها على الإصلاح (نموذج السودان، الجزائر، أفغانستان، اليمن)، وعليه فعلى الأحزاب الإسلامية أن تعالج هذا عن طريق:
- التعاون مع الحكام تعاوناً صادقاً دون السكوت على مظاهر الانحراف في إطار الحرص على المصلحة الوطنية، وإسداء النصح الناضج والعملي للحكومات.
- على العلماء ألا ينضموا لحركات أو أحزاب معينة؛ لأنهم ضمير هذه الأمة، وروحها الموحدة، فمن غير المقبول أن يستمر العلماء محسوبين على إطار دون آخر؛ باستثناء نوع من العلماء الذين إذا تكلموا أو كتبوا لا يتأثرون بأولويات تنظيماتهم، ويكاد أن يستحيل هذا النوع وجوداً.
- على الشباب المستقيم والمثقفين النزهاء أن ينضموا إلى كل الأحزاب القائمة، ويعملوا في إطارها صبراً واحتسابا، فليس المشكل في الأنظمة فقط؛ بل إن الأحزاب على اختلاف أطيافها أيضا تحتاج إلى إصلاح.
- الحرص على خلق فرص الحوار الدائم والمستمر في كل فرصة بين كل الحساسيات الإيديولوجية والفكرية بدون هدف في الاستقطاب أو الكسب الجماهيري، وليكن الحوار منظماً متسقاً مع أنماط أخرى من الحوار غير الرسمي.
- على الأحزاب الإسلامية أن تقلل وربما أن توقف تعيين أعضائها في المناصب الانتخابية، وأن تعمل بدلاً من ذلك على ترشيح المستقيمين من خارج أطرها، بشرط أن يكونوا من الوجهاء، ومنحدرين من أسر علم وتدين وصلاح. إن بريق المناصب يخطف الألباب، وخصوصاً أولئك المحرومون والذين مهما أظهروا من زهد فإن نفسياتهم قد تركبت في جو من الحرمان يمنعهم من الوفاء بأمانة المسؤولية، وأدائها على الوجه الأحسن، ثم إن العمل للإسلام ينبغي أن يتخلص من كل سعي إلى المكسب الدنيوي وهي ضريبة يقدمها المصلحون في كل زمن وعلى رأسهم الأنبياء. وأنا هنا أتحدث عن الغالب، لا أن نحرم كل داعية من منصب سياسي قد يستحقه بشرط ألا يتخذه بابا للكسب. والمراد أن يتحول التيار الإسلامي إلى قوة ضغط شعبية، وليس إلى مجرد طرف من أطراف اللعبة السياسية.
- على الحركة الإسلامية أ أن تعمل على إحياء الورع من جديد والذي به نستطيع محاربة الفردية والاتجاه نحو الاستمتاع المادي الاستهلاكي، وهو ما لم تستطع الحركة الإسلامية التحديثية محاربته؛ بل إنها هي أيضا خلقت المسلم المادي الذي لا يكفيه راتبه مهما كان، والذي يعيش في دوامة استهلاكية لا تتوقف، تجعله غير قادر على العمل الصحيح من أجل حل مشاكل مجتمعه، أو ربما قول كلمة حق في مكانها.(13/176)
لعل من أهم الأسئلة المركزية المطروحة في مرحلة ما بعد حرب العراق سؤال : ما العمل؟ وكيف السبيل إلى الإبقاء على الذات العربية الإسلامية مكتنزة بكل آمال النهوض رغم هذا الواقع الكئيب؟ سؤالان لم يعد هناك مجال لتجاهلهما أو محاولة إخفائهما بادعاء امتلاك الجواب الجاهز، أو ربما بإنكار شرعية السؤال ذاته.
يقدم القرآن الكريم توصيفين لمستقبل هذه الأمة، وكلاهما متعلق بشرط سنني لا تتحقق نتيجته إلا بتحقق شرطه الموجب، فهناك الوعد بالنصر شرط التحقق بشروطه "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم"، وهناك إمكانية الهزيمة التي تركها القرآن الكريم ممكنة إذا تحققت شروطها "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا"، فربط نصرهم بالاستطاعة، والتي هي بدورها مرتبطة بدور المسلمين -الموجه لهم الخطاب- في إيجاد هذه الاستطاعة وخلقها.
إن أي قراءة للقرآن الكريم بخلفية النصر المحتوم موقف غير قرآني، وإن بدا مبشراً ومدغدغاً للعواطف الزائلة؛ لأنه يقع في خطأ تجاهل مرير لقوة الآخر ووهن الذات، وإن الإيمان باحتمال الهزيمة يشحذ الهمم لتجنب أسبابها. كما أن قراءة القرآن بنفسية الهزيمة المحتومة لا شك موقع في اليأس من رحمة الله الواسعة، وتصور قدري ينفي القدرة على التغيير والإصرار على الإصلاح. فاعتبار التوصيفين مؤذن بخلق التوازن في الشخصية المسلمة حتى لا تستسلم لموقفين سلبيين موقف الشعار، والذي يجعل الحناجر تصرخ بالويل والثبور على كل شيء، وتصيح بأننا منصورون وأننا سنفعل ونفعل، وأن أمريكا ستسقط ليس في العراق هذه المرة، بل ولا قدر الله في سوريا وربما في مصر أو السعودية، هكذا حتى تسقط كل القلاع. الموقف الشعاري موقف منكفئ على نفسه، رومانسي الطابع يستلهم شخوص التاريخ: عمر و صلاح الدين، دون الوعي بالظروف التي صنعت الرجلين العظيمين وأمثالهما. إن مثل هذا الموقف كمثل موقف بطل في الملاكمة لم يقبل بالهزيمة فقط؛ لأن تاريخه مليء بالانتصارات، ولم تسمح له كرامته بالانسحاب. و قد يكلفه هذا حياته، يمنعه من رجعة أخرى والأيام دول!.
وموقف الهزيمة الذي لا يرى في التراجع سوى نهاية التاريخ، والصراع عنده لحظات تاريخية متقطعة لا تعاد في الزمن، وإن مثله كمثل بطل في الملاكمة رفض النزال لأنه سيهزم كما هزم في معركة سابقة.
ولو ادعينا القدرة على أن نضع تصوراً تفصيلياً لاستراتيجية مستقبلية للعمل من أجل العودة التاريخية لهذه الأمة؛ لكان محض تقول لا تسمح بتحقيقه طبيعة الأشياء، فحسب هذه الحروف أن تكون إطاراً لبرنامج عمل يفضله العاملون على بعث هذه الأمة والمرابطون على ثغورها المختلفة.
على المستوى الداخلي:
لقد أصبحت الدولة القطرية أمراً واقعاً، والوحدة الإسلامية -بل والعربية- أمراً ثقافياً ونفسياً، والدليل على ذلك فلسطين، والآن العراق، وقبل ذلك الكويت، حيث إن صدق العواطف في مساندتها سرعان ما تتكسر على المعطيات المحلية التي أفرزتها الدولة القطرية. فنحن لا نستطيع أن نفعل شيئا ذا بال رغم أعدادنا الغفيرة، وإيماننا بعدالة القضية. وإذا كان الأمر كذلك فإن خطابات التخوين والتفسيق بسبب الوقوف إلى جانب أمريكا ومساعدتها في ضرب العراق يجب أن تتوقف، ليحل محلها خطاب جديد يرنو إلى المستقبل، ويشكل نواة فكر وحدوي جديد سنبرز بعض ملامحه. هل الكويت مذنبة لأنها قدمت أرضها للمحتل للهجوم على العراق؟ وهل الأكراد متواطئون لأنهم فتحوا الشمال للعدو أو ربما "الصديق" ليلتف على أرض العراق؟ نعم إنهم كذلك، و لكن من لم يخن فليرم الكويت والأكراد بحجر. ترى من أين مرت السفن الحربية الأمريكية؟ ألم تمر من البحر المتوسط عبر بلدان عربية؟ ومنها بلدان "ثورية"؟!
إن عقلية البحث عن المذنب عقلية غير مثمرة، والسبب بكل بساطة: كلنا مذنبون. إننا ومن موقع قومي ضيق ننتقد تركيا؛ لأنها تريد الاستفادة من الوضع العربي لتعزيز دورها الإقليمي في الشرق الأوسط، ونحن ننسى أننا نحن الذين ضربنا الخلافة العثمانية في العمق، حينما أقنعنا لورنس العرب بإقامة الدولة العربية الحديثة على حساب دولة الخلافة (أقول هذا وأنا على علم بالاستبداد التركي ونتائجه في تحطيم دولة الخلافة) نعم لكل منا نصيب من الخطأ ينبغي أن يعترف به، ولكل دولة عربية وإسلامية نصيبها مما نحن فيه. أجل لقد أصبحنا -ومع كامل الأسف- متساوين في الخيانة بعد أن كنا متساويين في صنع قصة الكرامة العربية الإسلامية. فهل نوقف السباب والشتائم؟ ترى إن لم نتوحد في الهزيمة، فهل نأمل فيها بعد النصر إن كان ثمة نصر؟
ينبغي إذاً التركيز على خلق تصور جديد لعلاقتنا بالأنظمة السياسية التي تحكمنا في إطار الدولة القطرية، ويقوم هذا التصور على:
الحرص على استقرار الأنظمة السياسية ذات التوجه التعددي:
على أي حركة جماهيرية أن تتجاوز فكرة تغيير الأنظمة وإحلال أنظمة جديدة مكانها، والسبب أن كل نظام جديد سيكون أقل نفوذاً من سابقه وعليه أكثر ارتباطاً بالخارج حيث يستمد قوته ونفوذه.(13/177)
إن علينا العمل بكل إخلاص من أجل تقوية الأبعاد الوطنية والدينية في أنظمتنا عن طريق خلق مصالحة شاملة مع أنظمة الحكم في العالم العربي والإسلامي، بشرط أن يوفر هذا النظام السياسي أرضية لممارسة الحريات، واحترام حقوق الإنسان، وما على التجمعات السياسية وخصوصا الإسلامية والوطنية سوى تقوية المجتمع المدني، ودعم النظام السياسي في اتجاه سياسات الإصلاح، وبذل النصح الخالص من أي شوائب المنافسة والاستقطاب، وعلينا أن نربي شبابنا على ثقافة سياسية إسلامية قوامها العمل من أجل البناء لا الهدم، والقدرة على ابتكار الأفكار وصياغتها في إطار برامج عمل قابلة للتنفيذ، بدلاً من فناء الأعمار في النقد الهدام، والاحتشاد لخلق اضطراب هنا أو مشكلة هناك.
تخليص العمل الإسلامي من بعده الحزبي:
لقد أنتج واقع الدولة القطرية واقعاً جديداً في الممارسة السياسية الإسلامية لم يتعودها العقل الإسلامي، وهو تشكيل أحزاب من أجل تغيير مسار الحكم من العلمانية إلى الإسلام. ورغم أن الحركة الإسلامية تحاول جاهدة التأريخ لظهورها بالحركات التحررية من الاستعمار- باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي شاركت فعليا في طرد المستعمر -إن طرد فعلاً- فإن ثمة فرقاً واضحاً بين الخطاب الإسلامي والخطاب الوطني. حيث تحول الحزب الإسلامي إلى ما يشبه الطائفة الدينية، فكل حزب له علماء محسوبون عليه، وله مفتون، وله منبر إعلامي يمتلئ بما يوافق توجهات الحزب؛ بل ولكل حزب آيات قرآنية مفضلة تختزل رؤيته السياسية، أي أن البعد الطائفي في التحزب الإسلامي ليس مقصوداً ولكنه نتيجة طبيعية لأساليب العمل وطبيعة الخطاب المتحكم في الأداء السياسي. ولقد أنتج هذا الواقع توجها للأحزاب الإسلامية نحو الاستقطاب، وخصوصاً في الانتخابات، وهذا ما أدى بالخطاب الإسلامي إلى الانكماش رغم الزخم الظاهر؛ لأن الطائفة تبقى طائفة رغم امتدادها الظرفي لسبب أو لآخر، كما أن المواطن البسيط لا يستطيع التمييز بين الإسلام والحزب الإسلامي، وأي تمثيل سيئ للإسلام فإنه يؤدي إلى الشك في المبادئ الدينية ذاتها وقدرتها على الإصلاح (نموذج السودان، الجزائر، أفغانستان، اليمن)، وعليه فعلى الأحزاب الإسلامية أن تعالج هذا عن طريق:
- التعاون مع الحكام تعاوناً صادقاً دون السكوت على مظاهر الانحراف في إطار الحرص على المصلحة الوطنية، وإسداء النصح الناضج والعملي للحكومات.
- على العلماء ألا ينضموا لحركات أو أحزاب معينة؛ لأنهم ضمير هذه الأمة، وروحها الموحدة، فمن غير المقبول أن يستمر العلماء محسوبين على إطار دون آخر؛ باستثناء نوع من العلماء الذين إذا تكلموا أو كتبوا لا يتأثرون بأولويات تنظيماتهم، ويكاد أن يستحيل هذا النوع وجوداً.
- على الشباب المستقيم والمثقفين النزهاء أن ينضموا إلى كل الأحزاب القائمة، ويعملوا في إطارها صبراً واحتسابا، فليس المشكل في الأنظمة فقط؛ بل إن الأحزاب على اختلاف أطيافها أيضا تحتاج إلى إصلاح.
- الحرص على خلق فرص الحوار الدائم والمستمر في كل فرصة بين كل الحساسيات الإيديولوجية والفكرية بدون هدف في الاستقطاب أو الكسب الجماهيري، وليكن الحوار منظماً متسقاً مع أنماط أخرى من الحوار غير الرسمي.
- على الأحزاب الإسلامية أن تقلل وربما أن توقف تعيين أعضائها في المناصب الانتخابية، وأن تعمل بدلاً من ذلك على ترشيح المستقيمين من خارج أطرها، بشرط أن يكونوا من الوجهاء، ومنحدرين من أسر علم وتدين وصلاح. إن بريق المناصب يخطف الألباب، وخصوصاً أولئك المحرومون والذين مهما أظهروا من زهد فإن نفسياتهم قد تركبت في جو من الحرمان يمنعهم من الوفاء بأمانة المسؤولية، وأدائها على الوجه الأحسن، ثم إن العمل للإسلام ينبغي أن يتخلص من كل سعي إلى المكسب الدنيوي وهي ضريبة يقدمها المصلحون في كل زمن وعلى رأسهم الأنبياء. وأنا هنا أتحدث عن الغالب، لا أن نحرم كل داعية من منصب سياسي قد يستحقه بشرط ألا يتخذه بابا للكسب. والمراد أن يتحول التيار الإسلامي إلى قوة ضغط شعبية، وليس إلى مجرد طرف من أطراف اللعبة السياسية.
- على الحركة الإسلامية أ أن تعمل على إحياء الورع من جديد والذي به نستطيع محاربة الفردية والاتجاه نحو الاستمتاع المادي الاستهلاكي، وهو ما لم تستطع الحركة الإسلامية التحديثية محاربته؛ بل إنها هي أيضا خلقت المسلم المادي الذي لا يكفيه راتبه مهما كان، والذي يعيش في دوامة استهلاكية لا تتوقف، تجعله غير قادر على العمل الصحيح من أجل حل مشاكل مجتمعه، أو ربما قول كلمة حق في مكانها.
* أستاذ التعليم العالي المساعد - الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا
================(13/178)
(13/179)
الصحافة.. ودرس في الإرهاب
خالد بن محمد الماجد 27/3/1424
28/05/2003
إذا لم يشغلنا الهياج العاطفي المصاحب للهجمة التي تشنها بعض الصحف على مجتمع العلم والدعوة، وإذا أتحنا لعقولنا أن تنفذ بصيرتها في تفاصيل هذه الهجمة التي تمثل الجزء الأكبر من تغطيات تلك الصحف اليومية لحوادث التفجير، وما تلاها من تداعيات، فسنكتشف أن حظوظ الهجمة في الفشل كبيرة؛ لسبب واحد راجع إليها نفسها، وهو أنها تفتقر إلى شروط القول الحسن الذي يتلقاه الناس بالرضا والتسليم، أو بالاحترام والتماس العذر، وهي: العلم، والحكمة، والصدق(المصداقية)، والنصح، وعدم التناقض. وحين لا يكون في القول من الحسن إلا حلاوة اللفظ، فما ينبغي للقائل أن تغره فيفرح بها؛ لأنها إيذان بدخوله في الذين وصفهم أعلم المتكلمين، وأحكمهم، وأصدقهم، وأنصحهم، فقال عزَّ من قائل عليم: (وإن يقولوا تسمع لقولهم)، بيد أن هذه الفرصة التي منحها هؤلاء للتخفي وراء ستر الحلاوة اللفظية فرصة مشوبة بكدر الكشف؛ لأن سترها لا يخفي معالم القبح كلها، مما يتيح للخاصة الاطلاع عليه (ولتعرفنهم في لحن القول) ، كما أنه ستر لا يطول زمنه، إذ لا يلبث أن ينحسر كاشفاً للعامة عن العورة كلها، فهو كالظلام لا يزال يستر العاري حتى يشرق عليه النور.
إنها هجمة تفتقر إلى العلم بما تهاجمه فتنسى في غمرة هجومها أنها تقترب من نسف بعض أهم الثوابت، التي تمثل أركاناً في الدين الذي آمن به المجتمع -حتى المهاجمون- وأصبح الأساس الذي قام عليه، والمرجعية التي يفيء إليها، ومنها عقيدة الولاء والبراء، وهي ثمرة الإيمان بالإسلام، ويصرح بعض المهاجمين بدعوى التناقض الذي عليه العلماء والدعاة حين يستنكرون عمليات التفجير، ثم يقررون مبدأ الولاء والبراء، والجهاد في سبيل الله، وتسدد أقلامُ كتاب تلك الهجمة و(كاريكاتورييها) سهامَ التجريح والتنقيص إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غير محتفلة بجماله، ولا خجلة من جلاله، ولم يشفع له عندها ما زخر به الكتاب العزيز من الاحتفاء العظيم به، وبأهله، حتى ليكاد يخلو من التصريح بعدِّ أخطائهم التي قد تقع حال قيامهم به، وتعدى هجومها فطال المجتمع بأسره الذي لم يزل يقر تدريس هذه المبادئ في مناهج التعليم، وشمل هجومها الدعوة إلى الله فأنكرتها في مجتمع المسلمين، بل وجرمتها، وأعلنت أنها خروج عن أهداف العملية التعليمية، وساقت حجة تنبئ عن افتقار إلى العلم فتقول: كيف تتوجَّه الدعوة إلى المسلمين، هل هم كفار؟ وإذا كان من الممكن أن يقترح أصحاب الهجمة شطب أول أهداف التعليم في المملكة الذي نصت عليه سياسته، وأن يقترحوا على وزارة الشؤون الإسلامية إغلاق قسم الدعوة في الداخل، وتسريح دعاته، فليبينوا لنا كيف نفعل بالقرآن الذي يشاركوننا الإيمان بأنه حق ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) ، حيث ترد نصوصه بأمر المؤمنين بالإيمان كقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله..) وأمر المسلم المصلي قارئ القرآن بأن يردد في كل صلواته أكثر من سبع عشرة مرة (اهدنا الصراط المستقيم) وتوجه دعوة صريحة للمؤمنين كقول الله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، فما الحيلة مع هذه النصوص؟ هل نقبلها فنؤمن بها، ونعمل بمقتضاها، أو ننقلب عليها، فنزيلها من المصحف.. مثلاً، أو نتعامل معها بعقلية الببغاء فنمرها كما جاءت، بلا فهم لمعانيها، ولا عمل بمقتضاها.
كما أنها تفتقر إلى العلم بمن تهاجمه، فهي تظن أنها تهاجم طائفة قليلة من المجتمع، يحلو لها أن تسميهم بالمحافظين والسلفية الحركية أو الصحويُّون، أو (غلاة الوهابية) والحقيقة الساطعة أن كل من يدين بالولاء لهذا الدين، والعمل لنصرته، ويفرح بكل انتصار يحققه، ويحزنه كل هجوم من أعدائه على مقدسات الدين، وعلمائه، ودعاته، ومؤسساته، يشعر بأنه هدف هذه الهجمة، وهذا يشمل المسلمين جميعاً، من أعضاء هيئة كبار العلماء إلى عجائز المسلين في القرى والهجر، فهاتوا أحداً من هؤلاء يقبل تصريح بعض أولئك المهاجمين، بأن أحد عناصر ثالوث الإرهاب (العقيدة التيمية الوهابية).(13/180)
ولئن احتالت الهجمة بأن تقصر التهمة على تلك الطائفة، وأن تبرئ المجتمع منها، وتبرئ الدين منها ظاهراً، فحيلتها مكر سيئ (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) ، وهو أسلوب رخيص سبقتهم إليه الإدارة الأمريكية في حربها على الإسلام وأهله، حين احتالت بدعوى معاداة الأصولية لا الإسلام، ومحاربة الإسلاميين لا المسلمين، فما استساغ حيلتها المسلمون في أقطار الأرض كلها، فكيف ينتظر أن يستسيغها هذا المجتمع، وحظوظ أهل العلم والدعوة فيه أعظم من حظوظ الصحافة، وأقدامهم في أرضه أرسخ من أقدامها، وأيديهم أطول، وقلوبهم أثبت، ونفوسهم أشجع، ومقاصدهم أسمى، وأعمالهم أزكى!، فنصرة المجتمع ستكون لهم، لا لها، وغضبه سيكون عليها، لا عليهم، كيف وهم أهل الإسلام، وفي جزيرة الإسلام، وجوارهم حرم الكعبة قبلة الإسلام، وحرم المدينة أول مسجد بني في الإسلام. وهاهي حملتها نفسها تكشف للمتبصِّر ما لأولئك العلماء والدعاة من الحضور، حيث طلب رأيهم المجتمع كله وتطلَّع إليه، حتى هذه الصحافة أصرت على إحراجهم فإذا هي تعزز حضورهم من حيث أرادت أن تسحب البساط من تحتهم، فأطبق المجتمع على أن أي جهود لحل العنف لا يكون للعلماء والدعاة فيها القدح المعلى فمآلها الفشل. ويالها من مفارقة! وصدق ربنا إذ يقول: (إن الله لا يهدي كيد الخائنين) .
كما تفتقر إلى المصداقية -أهم سمات الصحافة الهادفة الشريفة- وذلك ما شاهده الناس، وشهدوا به، وبخاصة في حملاتها على مؤسسات الدولة الشرعية، وأكذبهم فيها المسئولون أنفسهم، وليس آخرها تغطية بعض الصحف لتمثيلية الانتحار الساذجة في الأسبوع قبل الماضي، وهي بمعايير الصحافة كلها فضيحة مخزية، لو كان ثمة من يحاسب. إن رسالة الصحافة الإصلاح، وليس الكذب، أو الاستفزاز تحت اسم الإثارة، وما ينبغي أن تكون مكاناً لنفث أحقاد الصدور، أو دعوة الناس إلى (الكراهية).
كما تفتقر إلى النصح، فأما عدم نصحها للدين فذلك أيسر ما يمكن المتابع التوصل إليه، وأما المجتمع فما نصح له من ضرب عامته بأئمته، وأوقد فيه نار الاحتراب، وهذا ما أحسب الهجمة قد أوغلت فيه.
وهي بهذا تفتقر إلى الحكمة؛ لأنها إذ تعمم تهمة الإرهاب على مجتمع العلم والدعوة كله، وهو الذي يواليه بل وينضم إليه غالب المجتمع فإنما تفتت وحدة المجتمع أبلغ تفتيت، وترسِّخ -بلا وعي- قدم الإرهاب في المجتمع، وتقوي ذراعه، حيث يظن من هو واقع في الإرهاب حقاً بدافع ديني -على فرض صدق التهمة- أن قاعدة المجتمع العريضة تؤيده، فيوغل في العنف، كما أنها تقدم الذريعة القوية للإدارة الأميركية لمزيد من الضغط على المجتمع وابتزازه في مرحلة عصيبة من تاريخه، فأي خير للمجتمع -يا أصحاب الهجمة- تجلبون، وأي شر تدفعون؟!.
وأما أنها هجمة تفتقر إلى الاتفاق وعدم التناقض، فلأن هدفها المعلن الكف عن الإرهاب، ومحاربته، وتجفيف منابعه، وأسلوب هجومها يناقض ذلك أشد مناقضة؛ لأن مسلكها العدائي الصارخ لمجتمع العلم والدعوة، والاستعداء عليه، الواقع عن إصرار وتعمد ينبت الإرهاب، بل هو ممارسة لأشد أنواع الإرهاب أثراً، فهو من جهة يحفز إلى الإرهاب الدموي؛ بمحاولته توسيع دائرة الاتهام به، ليشمل أكبر عدد من المسلمين البرآء، فيوقد نار العداوة في قلوبهم، ويغريهم بالانتقام. ولا أدري كيف يعزب عن المهاجمين معرفة ما يحدثه هجومهم من غضب عارم في أوساط المسلمين، وأوساط الشباب خاصة، وسنهم سن الإرهاب الذي يخشونه؟ وهذا الأسلوب من جهة أخرى ممارسة للإرهاب الفكري؛ حيث يستعدي السلطة على ذلك المجتمع لتوجه إليه سوطها الغليظ، فتحاصر رأيه، وتضيِّق الخناق عليه، وتسلبه حقه في معالجة المشاكل وفق ما يراه هو، لا ما تراه الصحافة، وتعلمنا درساً في الحرية التي تلوكوها كثيراً ألسنة المهاجمين حين يلزم رئيس تحرير إحدى الصحف السلطة بأن عليها أن تفهم خطاب ولي العهد وتعمل به (ألا تقبل استنكاراً للحدث تعقبه(لكن)، أو يكون مشروطاً بنقد العلمانية). هذا الإرهاب الذي يؤصله أدعياء الحرية أشد وأنكى من الإرهاب الدموي، يقول ربنا : (والفتنة أشد من القتل) .
فإلى مجففي منابع الإرهاب دعوة صادقة ألا ينسوا تجفيف هذا المنبع الفوار بطوفان الإرهاب، الذي قد يغرق المجتمع.
ومع هذا الحظ الكبير في الفشل الذي ينتظر الهجمة؛ فإن لها فرصة في النجاح، هي فرصة الباطل الضعيف في غيبة الحق القوي، لن يكون إلا استثناءً، غير كامل، ولا دائم، وسيكون سببه السبب نفسه الذي ينعتق به اليهود - لفترة من الزمن- من ربقة الذلة المضروبة عليهم، المنصوص عليه في الكتاب العزيز (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) وفرصة النجاح هذه وإن كانت قليلة النفع لأصحاب الهجمة، قليلة الضرر على أهل العلم والدعوة؛ إلا أنا نرجو الله ألا تتاح لهم، فلا يمتد إليهم حبل من الله، ولا من الناس، وإن كان امتد منه شيء؛ فنأمل أن ينقطع بهم، ليتردوا من شاهق في درك الذلة الذي يستحقونه.(13/181)
ولأن هذه الهجمة قدمت لنا مثالاً غير مشرف للصحافة العدائية التي تنتهك شرف الصحافة، وداست على أدب الحوار، وأغلقت نوافذه، وبينت لنا كيف يُعمي الهوى ويصم، فلا يبصر صاحبه النور، ولا يسمع الحق، ولا يقتفي أثره، وبينت كيف يذره صريع الحقد و"الكراهية" والبغضاء، فإننا نتذكر الاستجابة لأمر الله -جل وعلا- فنقول: (موتوا بغيظكم) .
وبعد، فإن التحدي الحق الذي يواجه مجتمع العلم والدعوة ليس في كيفية مواجهة سهام من الشبه ترشقها يد قصيرة، ولا الجواب على ألفاظ السباب التي يتقيؤها كل همزة لمزة، ولكنه في كيفية صياغة وتقديم مشروع الحياة الكريمة الرائدة، الذي يستلهم من الإسلام الأهداف والمقاصد، وينفتح في رشد وهدى على الآليات والوسائل، ويساهم في صياغته، وتطبيقه، والدعوة إليه كل من تحقق فيه شرط الإسلام، ويعاديه من يعادي الإسلام فحسب.
فيا أيتها الهجمة المعادية ..
امضي في عدائك واستعدائك، وكيدك ومكرك إلى المدى الذي ترسمين..
فلن يهول أهل العلم والدعوة هذا العداء..
لن يحول بينهم وبين النصح الذي دانوا به، والإصلاح الذي قصدوه ذلك الاستعداء..
لن تهزهم عبارات الاستهزاء ..
لن يجرهم إلى معركة لا يقتنعون بخوضها ذلك الاستفزاز..
لأنهم يؤمنون بأن هذا كله مكر سيئ سيحيق بأهله، وكيد شيطاني و (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) ..
ولأنهم يوقنون بأنهم يحملون دعوة وعد الله حاملها بالنصر فقال: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) وقد نصرها الله فيما مضى من الدنيا وهو الأطول؛ فلن يعجز أن ينصرها فيما بقي وهو الأقل..
ولأنهم يتطلعون إلى الانضمام في سلك من قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله)..
امضوا في رشق سهامكم؛ فلسوف تلاقي حصوناً حصينة، لا أجساداً هزيلة، فهي -لا محالة- على متونها متكسرة، (والعاقبة للمتقين) .
=============(13/182)
(13/183)
درس من بغداد
د. وليد بن عثمان الرشودي 20/2/1424
22/04/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلقد كان يوم الأربعاء السابع من صفر لعام أربعة وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة يوم مفاجآت لكل العالم، حيث هوت بغداد تحت أقدام جيش التحالف (الأنجلو أمريكي) الذي اجتاج أرض العراق كاملة، فما أبقى فيها ذرة إلا ودنستها أقدام ذلك العدوان الأثيم الذي استنكرته سائر البشرية.
وبعد أن تهاوت بغداد التي صنع لها صدام قوة -هي أشبه بنمر الورق- تدعو العاقل إلى التأمل في هذه الملمة، وتدبر دروسها وأخذ العبر منها؛ كي يحافظ على هويته وينطلق نحو عالميته .
لقد كان لسقوط بغداد ألمه في النفوس، ولكن يجب أن يكون لهذا الألم أثر ينتج أملاً فمن ذلك:
01 لقد ظهر في هذه الحرب أن السنن الكونية نافذة، والأقوى هو الأغلب، فأمريكا طاغية وصدام ظالم باغٍ، وكانت آليات أمريكا أقوى من عتاد وجند صدام، فحسمت المعركة لصالحها، ولو قال قائل: أين الشعب العراقي -والمسلم منهم- من هذه السنة الكونية؟ لقلنا إن صدام لم يعلن توبة صادقة، ورجوعاً صريحاً لدين الإسلام، وإعلان الجهاد في سبيل الله لتحقق له سنة شرعية، وقد تدفع السنة الشرعية السنة الكونية .
02 إن الجيوش إذا ربِّيت على نصرة الأفراد وحمايتهم سقطت وتهاوت سريعاً، وذلك مصداق حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( من تعلق شيئاً وكل إليه) فجيش صدام صمم ليحافظ على فرد فزال الفرد، ومن يحافظ عليه بخلاف قوة التحالف التي صممت أصلاً لهدف فجعلته نصب عينها، حتى حققت هدفها وهذه حقيقة لا تقبل الجدل.
03 إن الله تعالى حكيم عليم فلا يقع شيء إلا بعلمه، ولا يظهر شيء إلا بحكمته فمع سقوط بغداد وحرقة النفس عليها إلا أن في ذلك حكمة قد نعلم بعضها وقد لا نعلم أكثرها، فلعل من أعظم الحكم تهيئة المناخ لجيل جديد يعيد لبغداد هيبتها وهويتها الشرعية، ويرفع الراية التي يصح تحتها جهاد القوات المحتلة، ولعل من الحكم أن تثأثر الناس لدينها، وأن تنهض بمهمتها في إعلاء كلمة الدين ومجاهدة المعتدين، فتنتقل المعركة من معركة جيش البعث إلى معركة جيش الإسلام، وهنا يكون الوعد الرباني متحقق الوقوع ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).
04 لقد انقطع البعض عن القنوت بعد سقوط بغداد، وهذا في نظري يكمن في تصور الأزمة وأنها متعلقة ببقاء النظام العراقي أو زواله، وأنا عندي أن القنوت اليوم أولى منه بالأمس، فاليوم الأمة تمر بمرحلة استعمارية جديدة، وهذه نازلة كبرى تقتضي التضرع والابتهال والانكسار والدعاء بإلحاح، لعل الله أن يحمي بلاد المسلمين.
05 إن الألم الذي نعانيه اليوم يعاني الكافر مثله (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) فنحن نرجو الأجر والظفر، وهم ألمهم لا رجاء من ورائه في الآخرة، وإنما هو الخسران المبين، فلابد من السعي في زيادة ألمهم، وذلك بعدة صور من أعظمها المحافظة على ثوابتنا وتعلقنا بديننا، ومن ذلك بغض ثقافتهم المنحرفة ورفضنا لها، ومن ذلك تواصينا مع أهل العراق فنفتح باب الدعوة والتواصل، وأن نضع لنا موقع قدم هناك قبل غيرنا، ومن ذلك أن نحافظ على المكتسبات المتبقية في بلاد العراق بلاد العلم والحضارة.
06 إن على الأمة أن تعيد حساباتها وألا تتعامل مع قضاياها عاطفياً أو آنياً، بل لا بد أن يكون عملها منهجاً استقرائياً على وفق خطط مدروسة متأنية تقتضي دراسته اجتماع لأهل العلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع، والخروج برؤية تامة متماسكة، إن مشكلة الأمة في تعاملها مع قضاياها هي أنها تتعامل مع أحداثها بعين العاطفة، فيكون علاجها للأزمات هو جمع التبرعات ومعالجة المرضى ومداواة الجرحى وحفر الآبار، وهذا خير عظيم ولكن خير منه هو أن نحسن قراءة المستقبل وأن نعرف كيف نتعامل معه وأن نضع لنا في المستقبل موطن قدم، وألا يكون حالها هو دفع هذه الملمة لنستقبل بعدها أختها أكبر منها، فلو كان هناك قراءة للمستقبل لما وصلت أفغانستان إلى ما وصلت إليه اليوم، ولما كانت البوسنة تتأرجح تحت العلمانية بعد جهاد شرعي طويل، ولما ضاعت العراق، ولكن هي العاطفة التي تسيِّرنا، ولقد كان لنا في رسول الله أسوة حسنة حينما نظر إلى المستقبل فقال: (اليوم نغزوهم ولا يغزونا)، وحينما ولوا عليهم امرأة قال: ( لا يفلح قوم ولوا عليهم امرأة) فلا بد من إنتاج في قراءة المستقبل على جميع صوره العلمية والعملية.(13/184)
07 لقد أثبتت هذه الأحداث كره الناس لأمريكا، فلا بد من تغذية هذه الكراهية، حيث إن أسبابها موجودة وسبل دفعها مفقودة، فالظلم والطغيان والكبرياء والجبروت وفرض مفاهيم الحريات الخاصة على الناس واختبار نمط حياتهم والتصرف بثرواتهم وإعادة سياسة الرجل الأبيض، كل هذه أسباب تورث الحقد والبغض لهذه الأمة الأمريكية، ولئن ظن الأمريكان أن انصراف كثير من أبناء الأمم عن بلدانهم هو بسبب الظروف الأمنية، فقد أخطأوا وأبعدوا النجعة، وإنما هو بسبب البغض الحقيق للثقافة الأمريكية، ثقافة القهر والاستعلاء على الناس، ذلك الذي جعل الناس يختارون دولاً هي بالنسبة لأمريكا في ذيل القائمة تفضيلاً لثقافتها على الثقافة الأمريكية، وكلنا ذلك الرجل الذي يحمد الرب- جل جلاله- على النعماء والبأساء وبحمده على كشف وهتك الستر الأمريكي، ولا أستبعد أن تحاول أمريكا أن تعيد حساباتها في الاصطلاح مع الشعوب الأخرى.
فأمريكا هي الإرهاب يا ولدي
هي الإسفين في عضدي
هي الطاعون يفتك في عرى كبدي
هي الأستاذ في تشويه معتقدي
هي التدمير والتشريد والتجويع في بلدي
فلن أبكي على أرواح موتاها
ولن أمشي أعزي في ضحاياها
ولن أعطي ولو فلساً لجرحاها
ولن أدعو لعل الله يرعاها
فهذا بعض ما صنعته يمناها
ففي الأقصى جراحات وتقتيل
وفي بغداد تجويع وتدمير
ألا تبَّت بحول الله يمناها ويسراها
08 لقد أظهر الإعلام قوته في الحرب، وأنه أقوى من الآلة العسكرية، وإن كان ظهور ذلك في حرب 67 و 73، إلا أنه في الحرب العراقية ظهر بقوة وجلاء، فمن كان يستمع للحديث العراقي يظن أن العراق لن تكفي أرضه لدفن جثث الجنود الغازين، ومن سمع الإعلام الغازي ظن أن الأمة العربية والإسلامية قد غيبت هويتها واستنسخت لها هوية أمريكية أخرى، ولقد حازت أمريكا قصب السبق في الآلة العسكرية والإعلامية، وخدرت الشعوب كافة في وقت كانت فيه القنوات الإعلامية العربية تحاسب المتكلم عن حدة كلامه وقوة عبارته في نقده لعدوه وعدو الأمة .
إن الغرابة كل الغرابة أن تجد أمريكا من يدافع عن كرامتها المزعومة في البلاد الإسلامية أكثر ممن يدافع عنها في بلاد أمريكا، وحرام في القنوات الإعلامية العربية أن تنتقد أمريكا، وهذا ظاهر بيّن وما تخفي الكواليس أعظم. ولكن ما أملك قوله هو رحمة الله على رفات إنسان ضحى من أجل الحقيقة في تلك الوسائل الإعلامية، وأنت ما زلت تتذكر فصل ذلك الإعلامي الغربي الذي انتقد أمريكا في حربها بعد دقائق من إتمام الحوار مع القناة العراقية، فما أعظم حرية أمريكا ومصداقية إعلامها!.
09 لقد ظهر من دروس بغداد أن الطابور الخامس هو أخطر الفرق المقاتلة، وأن أمريكا استطاعت -عبر قوتها الاستخباراتية- أن تجعل لها عيناً وأذناً في كل مكان قيادي، ومازال كثير من القياديين لا ينتبهون لخطورة الطابور الخامس، وأنه هو الثغر الشاغر بيد المعتدي، وهم يلاحظون أن قراراتهم تبلغ أمريكا قبل أن تستكمل أناملهم التوقيع، فهل نعيد الحسابات كرة بعد كرة؛ لنقي الصف ونوحد الكلمة على هدف واحد حقيقي إن شئنا أن تكون لنا كلمة ويبقى لنا كيان .
010 في صحيح مسلم من حديث المستورد القرشي قال عند عمرو بن العاص سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو أبصر ما تقول قال أقول ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً إنهم لأحلم الناس عند فتنة وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك).
خمس قواعد ذهبية حقيق بالأمة أن تعمل بها وهي خير أمة أخرجت، للناس فهل يكون فينا الحلم مع هذه الفتنة فلا يهلكنا الاستغراق في لحظتنا ومصيبتنا هذه فنجر الأمة إلى هوة سحيقة بتصرف غير مدروس وعمل غير مسؤول؟ وهل نفيق بعد هذه المصيبة بعجالة؛ لنلملم الجراح ونواسي الثكالى، ونبدأ حياة الجد والاجتهاد في نصر جديد مجيد للأمة؟ وهل نبذل فراً كراً ونخطط برؤى مستقبلية ناضحة، بحيث نعرف ماذا سوف نعمل بعد عشر بل عشرين بل خمسين سنة، وهل ينتهي الفقر والمسكنة والضعف في أمة هي أغنى الأمم حتى طمع العدو في خيراتها، وقرر أنها لا تستحق هذه الخيرات لعدم استفادتها منها؟ وخامسة هي ما نرجوها بعد الصور التي رأيناها من الشعب العراقي تجاه نظامهم الساقط، فما أعظم لعنة الشعوب وأبلغ دعائهم على كل ظالم ولو بعد حين؟
وبعد فهذه أسطر كتبتها بحسرة وألم أرجو أن تكون عاقبتها أملاً، وأن يعمل ولو بشيء منها، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
==============(13/185)
(13/186)
الله أكبر غلبت الروم*
أ.د ناصر بن سليمان العمر 16/2/1424
18/04/2003
……
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
• (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون).
• ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، والله لايحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا، ويمحق الكافرين).
• ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).
مآتم الظلم تتلوهن أعياد … …
إياك أن تجزعي إياك بغداد
أم استبد بأهليك الطغاة أذى … …
وراح يمتحن الأحرار جلاد؟!
ماكان للظلم أن يمحو عقيدتنا … …
ولن يروق لنا كفرٌ وإلحادُ
نهاية الظلم يابغداد واحدة … …
الله، والحق، والتاريخ أشهاد
أيها الأحبة:
عن ماذا أتحدَّث ؟
ليست العبرة أن نسرد التاريخ، ولكن العبرة أن نستفيد من التاريخ، وأن نستفيد من الأحداث، وأن تتربَّى الأمة من أحداثها.
هذه الأحداث التي جرت، وسقوط بغداد، فيها عبر وفيها دروس، أوجزها بمايلي:
فأقول : مقتصراً على أهمِّ الدروس والعبر:
أولاً: السؤال الكبير :
هل فعلاً انتصرت أمريكا وحلفاؤها ؟
الناس يتحدثون عن هذا الانتصار،ولكنني أقول لكم:
نعم، حققت أمريكا بعض المكاسب، لكنها لم تنتصر.
تحقيق المكاسب شيء، والانتصار شيء آخر.
بل إنني جلست أتأمل في الهزائم والخسائر والنكبات التي حققتها أمريكا من خلال هذه الحملة الظالمة الباغية الطاغية على العراق، وما تتوعد به من حملات آتية، فوجدتُ أن خسائرها وأن هزائمها تتفوق أضعافاً مضاعفة على ما بدا لنا من بعض الانتصارات والمكاسب السريعة.
هذه مسألة آمل ألاَّ تستغرقنا اللحظة الحاضرة فيما نشاهده، عن الحقيقة الكبرى التي كنت أتحدث بها منذ فترة طويلة، ولا أزال، وسأظل - بإذن الله - حتى نرى الأمر عياناً بياناً وهو : سقوط هذا الصنم . سقوط هذه الدولة الظالمة الباغية الطاغية: أمريكا، ومن معها.
أمريكا نعم دخلت بغداد، ودخلت العراق.
نعم.. حصلت على بعض المكاسب..
وعندما أتحدث عن أمريكا فغيرها تبع لها، ولكنها خسرت خسائر جمَّة أذكر بعضها على سبيل الإشارة لاعلى سبيل الحصر، فالمقام لايتسع لذلك.
1. أمريكا سقطت أخلاقياً.. وما أحدثته في هذه الحرب مما تهون عنده جرائم وردت في التاريخ .. يبين أن أمريكا لم تلتزم بأي ميثاق بشري ولاغيره من مواثيق الحروب التي نزلت في الكتب السماوية أوحتى التي أقرَّتها بعض القوانين البشرية، بل حتى ما أقرَّته أمريكا نفسها من قوانين لم تلتزم بها في هذه الحرب، فهي سقطت أخلاقياً.
واطمئنوا، إذا سقطت أخلاقياً فستسقط من أرض الواقع - بإذن الله - .
2. أمريكا سقطت - كما قلت أكثر من مرة - دولياً .. لتحديها دول العالم، ونُشرت احصائية - أشرت إليها في الدرس الماضي - مذهلة لبعض الدول الصديقة لأمريكا حيث وصلت شعبيتها في بعض تلك الدول إلى 25%، بل إلى 12%، وهي في نزول وانهيار - والحمدلله - بسبب حملتها الظالمة الجائرة، وتحديها العالم أجمع.
وهذا مكسب ضخم .. ماكان يتوقع أحد أن يتحقق في هذه الفترة الوجيزة القصيرة من عمر التاريخ !
شعبية أمريكا خلال سنة فقط انهارت أكثر من 50%..
والأيام القادمة .. والشهور القادمة .. والسنوات القادمة - بإذن الله - تحمل مزيداً من العداء والكُره والبُغض لأمريكا..
وقلت لكم أكثر من مرة . إذا أراد الله سقوط دولة، أسقطها من قلوب الناس قبل أن تسقط من أرض الواقع، فكما سقطت روسيا الشيوعية من قلوب الناس،حتى من المؤيدين لها، ثم سقطت من أرض الواقع، هاهي أمريكا تسقط من قلوب الناس حتى من كان يؤيدها قبل سنتين فقط، ويدافع عنها، وهذا مؤذن بسقوطها - بإذن الله - من أرض الواقع.
3. كانت أمريكا قبل سنة فقط تتهم المسلمين بالإرهاب، وليس الغريب أو العجيب أن تتهم أمريكا المسلمين بالإرهاب، فهذا ديدنها، وإنما المشكل أن الكثير صدَّق هذه الدعوى، وهذه الحملة، حتى إن بعض المسلمين، وبعض المحسوبين على الإسلام، ومن يتكلم بلغتنا، بل من بني جلدتنا صدَّق هذه المقولة فأصبح في كتاباته يكتب عن الإرهاب الذي تتحدث عنه أمريكا، وهو لايعلم أو يعلم أنها تقصده هو، فضلاً عن غيره، وماهي إلا شهور فينكشف للعالم أن أكبر دولة إرهابية في العالم هي : أمريكا .
أمريكا هي حاضنة الإرهاب، وداعمة الإرهاب، سواء في فلسطين وفي أقطار عدة من العالم.. وبالمناسبة ليس هذا جديداً، ولكنه لم ينكشف إلا أخيراً، وإلا قبل ثلاثين سنة وأمريكا تحمي الإرهاب في مواطن عدة من أنحاء العالم.. الإرهاب الحقيقي، سواء إرهاب اليهود أو المنظمات الإرهابية الحقيقية، كانت أمريكا هي التي تدعمها، وكانت أمريكا هي التي تمدَّها..(13/187)
لم ينكشف هذا للعالم، وماكان يعرفه إلا خواص الناس والساسة، والمتخصصين فإذا هو ينكشف للعالم أنه لاأحد يجاري أمريكا في إرهابها..
وماحدث في بغداد، وفي العراق، وما تتوعد به الآن دليل على ذلك.
بعد دخول بغداد.. سئل وزير الدفاع الأمريكي :
أين أسلحة الدمار الشامل ؟
انظروا لهذه الإجابة الخبيثة التي تدل على ما تخفي صدورهم، وما نطقت به ألسنتهم، وما تخفي صدورهم أكبر.. قال:
إن أسلحة الدمار الشامل يبدو أنها هُرِّبت إلى سوريا..!! وهو أراد أن يكسب شيئين:
1- أن يقول للناس: نحن ما كذبنا أن في العراق أسلحة دمار شامل، لكن هرَّبها إلى سوريا.
2- وحتى تكون ذريعة لمواجهة سوريا التي بدأت لها التهديدات الآن، وإذا دخلوا سوريا - وأسأل الله أن لا يحقق أمنيته - سيقول: هُرِّبت إلى البلد الفلاني، وهكذا دواليك..
والمعركة قائمة الآن.. اليوم ذكرت الصحف أن أحد كبار المسئولين في أمريكا انضم - قالت انضم - لعدد من المسئولين الأمريكان الذين يهددون عدداً من دول المنطقة، وخاصة بعد ما رأوه من انتصار - والله المستعان -.
إذن هذا.. بيَّن من أصبح الإرهابي ؟هذا مكسب: أن يعرف العالم أن أمريكا هي داعمة الإرهاب، وداعية الإرهاب.
4. أيضاً.. أمريكا دخلت بغداد.. ولكنها دخلت معركة لن تنتهي - بإذن الله - إلا بهزيمتها الساحقة.. دخلت في حروب ومواجهات لن تنتهي، بل ما حدث في العراق، وفي بغداد، ليس إلا أول المعركة، وهذا قلته لكم قبل ثلاثة أسابيع بل إنني قلت بعد بدء ضرب بغداد بساعات بموقع: (الإسلام اليوم) قلت: لم تبدأ المعركة بعد.. أي أن المعركة في بدايتها، والمعركة طويلة، وطويلة وطويلة..
وأبشروا وأسأل الله أن تكون قصيرة، وستكون بهزيمة أمريكا وحلفائها - بإذن الله -.
إذن هي لن تنعم بالأمن.. لن تنعم بالراحة.. لن تنعم بالهدوء.. لن تستقر لا في داخلها، ولا في خارجها.. لن تستقر مصالحها في الخارج، ولا في الداخل، وهذا لاشك هزيمة لأمريكا بدل أن كانت من أكثر دول العالم أمناً مع وقوع الجرائم، لكن كانت الجرائم فردية، الآن دخلت في مواجهات أكبر من ذلك..
5. وأخيراً.. انكشفت أمريكا على حقيقتها، وسقطت شعارات العدالة والحرية، والديمقراطية التي طالما تغنَّت بها أمريكا، وصدَّقها المغفلون من أبناء المسلمين، فضلاً عن غيرهم من العالم.
وأعطيكم مثلاً واحداً برهاناً على ذلك:
أليست الحملة اسمها: (حملة حُرِّية العراق).
ثمَّ.. سقطت بغداد.. ما الذي حدث في العراق ؟ انتهى النظام - كما أعلن الرئيس الأمريكي نفسه - بدأ النهب والسلب والقتل والاقتتال بين أبناء العراق من المسلمين وغيرهم.. وعندما أقول: (أبناء العراق) لا يعني أنهم كلهم من المسلمين..
أين الحُرِّية التي جاءت بها أمريكا ؟ جاءت الفوضى، وجاء الدمار، وجاء الإخلال بالأمن، وجاءت السرقات.. هذه هي حُرِّية العراق، كما تفهمها أمريكا..
باختصار.. هذه بعض الهزائم الضخمة بعيدة المدى التي حققتها أمريكا في هذه الحملة، فمن المنتصر ؟
هل انتصرت ؟ قد تكون انتصرت في بادي الأمر، أو حققت بعض المكاسب، ولكنها في الحقيقة لم تنتصر، ولن تنتصر - بإذن الله - .
هذا درس عظيم.. حتى لا نعيش اليأس والقنوط والتشاؤم والاستسلام، كما يروِّج له البعض من بعض الكُتَّاب الذين يقولون: هذه أمريكا، وهذا جزاء من يواجهها، فهم يهيئون لمرحلة قادمة من أجل الاستسلام لهذا العدو الغاشم.
ثانياً: الدرس الثاني، وهو درس عظيم:
سقوط الشعارات الوثنية من قومية وبعثية وغيرها بشكل لم يكن يتصوره أكثر الناس.
وهذه الشعارات - أيها الإخوة - سبق أن ذكرت لكم في محاضرة.. في كتاب: (رؤية استراتيجية في القضية الفلسطينية) قبل سنتين، وقلت:
إنه تحقق في فلسطين انتصارات ضخمة، ومن أعظم هذه الانتصارات:
سقوط الشعارات العلمانية والبعثية والقومية وغيرها في فلسطين، ولم يبق إلا راية الإسلام، هي التي تواجه اليهود في فلسطين.
هذا مكسب ضخم، الآن المعركة متعددة بين اليهود وبين المسلمين في داخل فلسطين ومن يرفع راية الجهاد، وسقطت جميع تلك الشعارات التي قبل ثلاثين سنة تقول: سنلقي إسرائيل في البحر.
هذا السقوط مكسب ضخم..
الآن أيضاً: سقوط ركن من أركان الظلم، وهو الحكم البعثي في العراق.. لا شك أنه مكسب، وسقوط هذا الشعار: شعار القومية أو شعار البعثية،كل الشعارات الوثنية ستتساقط بإذن الله.
وهنا - أيها الإخوة - آمل أن ترعوني أسماعكم لحقيقة تنمو وتكبر يوماً بعد يوم، أقول لكم - واثقاً بوعد الله وبنصره - .
إن الإسلام قادم، وإن النصر قادم، وإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
الذي يرقب المسيرة منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة، يلحظ هذا الأمر: تتهاوى عروش ضخمة عدوة لله ولرسوله، وترتفع رايات قوية تنصر دين الله - جل وعلا.
- هوت الشيوعية، وهي عقبة كؤود أمام المسلمين.
- هوت المنظمات التي كانت في داخل المسلمين: القومية، الناصرية، البعثية، العلمانية، كثير.. هوت الآن.. ومن لم يهوِ منها يتهاوى.. وهذا أيضاً انتصار ضخم للمسلمين، والآن تتهاوى أمريكا.. وهذا انتصار ضخم للمسلمين.(13/188)
في النهاية: المسلمون يرتفعون، ويعودون إلى ربهم، ويدركون فعلاً كيف يكون لهم المستقبل - بإذن الله - وأعداؤهم يتهاوون واحداً تلو الآخر.
لو أحصينا - خلال ثلاثين سنة - ما سقط من أعداء لأمة الإسلام ولهذا الدين فإذا هي أعداد ضخمة - كما أشرت لكم - سواء خارج بلاد المسلمين أو في داخلها. وهذا يجب أن لا نغفل عنه، وهو مكسب لا بد أن تمر به الأمة حتى تحقق النصر.. (ولكنكم تستعجلون).
إذن: سقوط البعثية، سقوط القوميات، سقوط الشعارات التي أقضَّت الأمة، وأزعجت الأمة زمناً طويلاً.. ثلاثين أو أربعين سنة.. هذا انتصار للأمة، لا يقدَّر بثمن، ولكن لا تزال الأمة أمامها طريق طويل من أجل أن تعيد مجدها وعزّها - بإذن الله.
ثالثاً: أيضاً من هذه الدروس:
قارن بعملية يسيرة: بين مواجهة المسلمين لأعدائهم، في أفغانستان عندما واجهوا روسيا، أو في فلسطين وهم الآن يواجهون اليهود، أو في الشيشان وهم يواجهون أيضاً الروس، أو في كشمير وهم يواجهون الهند مع قلة عددهم وعدتهم، وثباتهم إلى الآن، ويزدادون ثباتاً بعد ثبات - والحمد لله - .
بينما دولة ضخمة كالعراق، بأسلحتها وأموالها ونظامها وأرضها تهوي في ثلاثة أسابيع. يعطينا حقيقة لامجال فيها :
أن الذي يقف أمام مد الطغيان والكفر هو الإسلام.
وأن جميع الشعارات مهما كانت قوتها لاتستطيع أن تقف مع من هو أقوى منها، أما إذا كان الإسلام هو المقابل فإنه يثبت ثبوتاً يبهر أعداءه قبل أصدقائه.
وهنا أعطيكم قاعدة :
أن سنن الله . الكونية إذا تدافعت غلب الأقوى، أما إذا انضمَّت السنة الشرعية فإنه في هذه الحالة تكون القوة والغلبة للسنة الشرعية : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) ( ولما برزوا لجالوت وجنوده) وهم قلة ضعفة، عددهم محدود، ودعوا الله: ( ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) ( فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت) سبحان الله .. ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال: كلا، إن معي ربي سيهدين).
إذن . ثبات المسلمين في أفغانستان حتى سقطت روسيا، وليس فقط حتى خرجت من أفغانستان،وثبات المسلمين الآن على قلتهم وضعفهم في فلسطين، واليهود يعانون معاناة وهزيمة ورعباً في داخل فلسطين - زادهم الله رعباً وذلاً -، وفي الشيشان .. عدد سكان الشيشان كله رجاله ونساؤه، كباره وصغاره .. المجاهدون وغير المجاهدين، كلهم قرابة مليون، والجيش الروسي مليون، الجيش الروسي المدجج بالسلاح مليون، وثابتون منذ قرابة عشر سنوات وفي كشمير يواجهون دولة طاغية ظالمة باغية، تملك سلاحاً نووياً وأسلحة فتاكة، وثابتون منذ سنوات عدة - والحمد لله - .
فأبشروا بالخير.. أليس هذا من الانتصار ؟
لامكان لليأس .. لامكان للتشاؤم.. ولكن مرة أخرى أقول :
إن الطريق طويل، ويحتاج إلى صبر وتحمُّل وبُعد نظر وعدم استعجال.
رابعاً / من هذه الدروس التي نقف معها :
هو ما أشرتُ إليه عندما قلت :
لن يقف أمام اليهود والنصارى وغيرهم من ملل الكفر إلا المجاهدون الصادقون، وهذا يتطلَّب استعداداً مبكراً، واستثماراً لكل الفرص، مع عدم الاستعجال أو اليأس أو القنوط.
وهذا حديثنا مع سورة يوسف - إن شاء الله - بعد الآذان. حيث سأبيِّن أن جميع مقوِّمات النصر، والتي تحقَّق بها انتصار يوسف موجودة في سورة يوسف وسيرته - عليه السلام - فإذا أخذنا بها حصل لنا العز والتمكين، كما حصل ليوسف.
خامساً: من الدروس :
ظهر الرافضة على حقيقتهم،فما أن تمكنوا، واطمأنوا إلى تمكن أمريكا، فإذا هم يعيثون في الأرض فساداً .. وإذا هم يبدأون في قتل إخواننا أهل السنة، وهذا ماكان يخشاه إخواننا من قبل الحرب، أما المقاومة التي حدثت في أول دخول القوات الأمريكية فلها عوامل وأسباب ليس هذا مكان بيانها، وتفاصيل أدعها لحينها،أما الحقائق فقد ظهرت الآن .. وهذا يظهر قوة العلاقة بين أمريكا والرافضة، منذ سنوات ونحن نقول هذا الكلام.
ومن أبرز مظاهر ذلك : أن الذين رحَّبُوا بالقوات الأمريكية عندما دخلت بغداد أغلبهم من الرافضة، ما أقول كلهم من الرافضة، أغلبهم من الرافضة.
وهذا ليس كلامي أنا، وإنما كلام وسائل الإعلام الغربية…
القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الغربية ذكرت : أن الذين رحَّبُوا بأمريكا أكثرهم من الرافضة.. وليس هذا غريباً عليهم.
ثم الآن أكثر الزعماء الذين برزوا - لاأريد ذكر أسماءهم - كلهم من الرافضة، وأثبتوا عمالتهم لأمريكا ومساعدتهم لأمريكا قبل دخولها.. واقرأوا الصحف تجدون هذه الحقيقة .. كأحمد الجلبي وغيره، وحزام التميمي .. وتميم بريئة منه.. هذه حقائق.. قوة العلاقة بين أمريكا والرافضة قديمة.. وتذكرون في هذا المكان قلت لكم قبل ستة أشهر تقريباً أو خمسة أشهر قلت :
إن (70%) في دراسة استطلاعية أجريت في إيران، تطالب بتوثيق العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية .. حقائق.. أرقام.. فأين دعاة التقريب ؟ أين دعاة التسامح ؟ أين الذين يقولون - مع كل أسف - لاداعي لإثارة الفروق المذهبية ؟
من قال : إن خلافنا مع الرافضة هو فروق مذهبية ؟!(13/189)
نعم .. لاداعي لإثارة الفروق المذهبية بين الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة .. نعم.. لايجوز هذا الأمر .. وهذا يخدم العدو.
أما الرافضة نحن نختلف وإياهم في الأصول لافي الفروع.
والحقيقة: أننا لانلتقي وإياهم أبداً في الطريق.
لانخدع بما يقال، فهم من أكثر الناس كذباً على مر التاريخ..
اليهود على كذبهم، لم يصلوا في الكذب كما وصل إليه الرافضة، لماذا ؟
لأن الكذب عند الرافضة جزء من عقيدتهم أدخلوه باسم التقية، فهم يخدعون الناس، ويكذبون على الناس، ولكن عندما تظهر الحقائق يظهرون على حقيقتهم.
فأقول لهؤلاء المخدوعين من أبناء جلدتا:
رويدكم، إياكم أن تخدعوا، وإن كنتم منخدعين فلا تخدعوا غيركم من أبناء الأمة .
نعم .. أنا أقول: قد تقتضي المصلحة الشرعية والسياسة الشرعية أن نتقي شرهم كما نتقي شر غيرهم، وهذا يُحدَّد في مكانه وزمانه وأسلوبه ضمن الأطر الشرعية، وأصول الشرع تقضي بأن المفسدة الكبرى قد تدفع بالصغرى.
أما أن نقول : إنه ليس بيننا وبينهم فروق فهذا باطل وخداع !! .. بل إنني أدعو هنا إلى دعوة الرافضة للإسلام الصحيح،وقد حقَّقت هذه الدعوة نجاحاً ضخماً - والحمدلله - في عدد من مناطق المملكة، وفي غيرها.. أن يدعوا إلى الإسلام، والالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة، وهذا أمر قصَّرنا فيه كثيراً فاستغله الأعداء.
وموقفي من الرافضة قد بيَّنته في مذكرة قدمتها لهيئة كبار العلماء قبل قرابة عشر سنوات بعنوان : الرافضة في بلاد التوحيد - كفانا الله شرَّهم - .
هذه حقيقة ظهرت مع الأحداث، لابد أن نكون على يقظة وتنبه لها.
سادساً: من الدروس العجيبة :
نهاية الظالمين ..
وهي سنة كونية، طال الزمن أوقصر، فإن لهم موعداً لايستأخرون عنه ساعة ولايستقدمون.
فهذا ظالم سقط، وهذا مؤذن بإذن الله بسقوط من هو أعظم منه ظلماً وهي أمريكا ومن معها، واليهود ومن معهم، وكل من حالفهم أو أيدهم، فهذه نهاية الظالمين.. درس عظيم من دروس سقوط بغداد (( إن ربك لبالمرصاد))، (( فلا تحسبنَّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون)) (( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)).
سابعاً: من الدروس أيها الأحبة:
عدم الاستعجال . والثقة بوعد الله، والأخذ بالأسباب المؤدية إلى ذلك .
ومن أسباب تأخر النصر :
أن الأمَّة ليست أهلاً له الآن - والعلم عند الله - .
وواقعها العام والخاص يشهد بذلك، وإلا فوعد الله لايتخلف أبداً، ولكن تتخلف أسبابه، وتوجد موانعه، فإذا توافرت الأسباب، وزالت الموانع تحقَّق النصر بإذن الله (وعدالله، لايخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لايعلمون).
فلا تستعجلوا.. أبشروا بالخير وأمِّلوا واثبتوا واصبروا وصابروا، وسترون - بإذن الله - أويرى أبناؤكم ما يسرُّهم ويسر هذه الأمة .
المهم .. أن نأخذ بأسباب النصر، وأن لانقف متفرجين .. ( يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ماقاتلوا إلا قليلاً ) .
مما أظهرته الأحداث وتأثرت له كثيراً :
الحاجة إلى إصلاح الأمة في عامتها وخاصتها.
ففي الوقت الذي كان الطغاة البغاة يدخلون بغداد ويستبيحون هذه الدولة المسلمة بشعبها المسلم،فإذا مباراة تقام في الوقت نفسه يحضرها أكثر من (50) ألف متفرج!!!
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم..!!
والله يا أحبتي .. إنها لمأساة .. حتى في هذه اللحظات ؟! أكثر من (50) ألف، غصَّت بهم المدرجات، يصيحون ويصفِّرون ويشجِّعون..!!
يشجِّعون ماذا ؟ وقوَّات الصليب تجتاح بغداد!
ألا نستحي من الله ؟ ألا نخاف من الله ؟ ما أحلم الله علينا! ما أحلم الله!
فيا أحبتي الكرام .. لانتساهل في هذه المسائل..
الأمة بحاجة إلى إصلاح في داخلها من أفرادها ومن عامتها وخاصتها، كلٌ منايبدأ في بيته..
كثيراً مانسمع النقد للدول وللمؤسسات.. لكن مامدى تطبيق الإسلام على بيوتنا وعلى أنفسنا ؟ كل منكم ينظر إلى بيته الآن، بل إلى نفسه:
مامقدار قيامه بأمر الله - جل وعلا - في صلاته، في عبادته، في إنابته، في أخذه بالحق، في ماله، في أكله، في شربه، في تربية أبنائه..
بل إن البعض بسبب هذه الأزمة أدخلوا آلات اللهو والدشوش إلى بيوتهم باسم متابعة الأخبار، فأدخلوا بلاء ً عظيماً إلى بيوتهم.
الاستراحات .. المقاهي مليئة بالشباب.. ماذا يفعلون في تلك المقاهي والاستراحات ؟
الأسواق مليئة بما مايغضب الله - جلََّ وعلا - وهذه تكون من أسباب العقوبة - أيها الأخوة - .
( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ) 000.
هذه سنة كونية، إذا أردا الله إهلاك قرية، إهلاك أمة، إهلاك بلد تسلَّط المفسدون السفهاء، فعبثوا فيها وأفسدوا فحق عليها القول .. حق عليها العذاب، فيدمِّرها الله تدميراً .(13/190)
الناس الآن لايستمعون إلى المواعظ، لوجاء أحد يعظهم لملَّوا، ولذلك فإني أقول لكم : أول مانبدأ بالوعظ في أنفسنا، وفي بيوتنا، وأن نقيم حِلَق الذكر في بيوتنا، ومع أهلنا وعشيرتنا،وفي مساجدنا، هذا العدد الذي يستمع إلى هذه الكلمة أمامي الآن،هذا العدد الطيِّب الخيِّر، لو أنهم بثَّوا وانتشروا في مناطق عدة، وذكَّروا ووعظوا لأحيوا الأمة، وإلا فإنني أخشى من عقوبة، ونحن نتفرج الآن على العقوبات تحل بالبلاد القريبة منا.
أفنأمن ونطمئن ؟
هل بيننا وبين الله عهد وميثاق أن يمنع عنا العقوبة إلا بالالتزام بدينه ؟
فإذا تخلينا عن دينه، وعن عقيدتنا فأخشى أن يحلَّ بنا ماحلَّ بغيرنا !
فعودوا إلى الله .. توبوا إلى الله .. واقع مؤلم.. الأحوال لم تتغير.. لم يعد الناس إلى الله - جل وعلا -، ولذلك صدقت كلمة الإمام/ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - عندما قال هذه الكلمة العجيبة الرائعة :
إن مشركي زماننا أشد شركاً من الأولين.
لأن الأولين إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، أما مشركوا زماننا فلا يعودون إلى الله، لافي السرَّاء ولافي الضرَّاء.
هذا درس عظيم من هذه الدروس: المبادرة .. المبادرة، قبل حلول العقوبة.
ثامناً: أيضاً من هذه الدروس:
سذاجة الشعوب وبساطتها.
شعوب ساذجة بسيطة، سواء المعجبون بصدام، أو المعجبون المرحِّبون بأمريكا.
كم ضاعت الأمة وهي تصفِّق للطغاة.
عشرون سنة أو ثلاثون سنة تصفِّق لصدَّام، وقبل صدَّام كانت تصفِّق لآخرين هووا وذهبوا، والآن يسقط صنم، فيرحبون بأمريكا ببساطة وسذاجة عجيبة جداً .
إذن هذا يحتاج إلى إصلاح الأمة، وإلى بث الوعي فيها أكثر من أي وقت مضى.
تاسعاً: من هذه الدروس:
إن الأمة - في هذه الأحداث - ثبت أن فيها أخياراَ وصلحاء، وعلماء ومجاهدين، ورجال من المجاهدين الذين أثبتت الأحداث صدقهم وضربوا لنا، وفتحوا صفحات مشرقة بإيمانهم وحسن ظنهم بربهم، ذكَّرونا بعهد السلف - رضوان الله عليهم - من الرجال والنساء.
الأمة فيها أخيار، الأمة فيها خير، فيها صلاح، في الوقت الذي أقول وبغداد تسقط وكان أكثر من (50) ألف يتفرَّجون على مباراة، مع ذلك لدينا من الأخيار والشباب الصالحين والعلماء رجالاً ونساء مايسر - والحمد الله - .
الآن عدد النساء اللاَّتي أقول إنهن من العالمات، لاأستطيع أن أقول إنهن بالمئات أبالغ، ولكنهن بالعشرات - والحمد لله - .
أما الداعيات والخيِّرات فهن بالمئات، إن لم يكن أكثر من ذلك.
منطقة الرياض فقط فيها (200) دار نساء، فيهن أكثر من (40) ألف امرأة، مجموع المنتمين لجماعة تحفيظ القرآن - كما سألت قبل يومين - في الرياض فقط، والقرى المحيطة،أكثر من مائة ألف فرد، يحملون القرآن، ويحفظون القرآن، ويقبلون على القرآن .. هذا فقط في الجماعات الخيرية، دون مدارس تحفيظ القرآن، ودون عدد من المدارس التي لاعلاقة لها بدور التحفيظ … غير أولئك الذين في داخل بيوتهم، أو في الجامعات .. هذا في مدينة الرياض فقط…
الخير موجود .. ثبت في هذه الأحداث أن هناك رجالاً يتألَّمون ويتحسَّرون على واقع أمَّتهم، من أكثر مايأتينا من الرسائل هي الدعوة للجهاد، وطلب الجهاد، والاستعداد للبذل بالمال والنفس والأهل.
الأمة فيها خير كثير، ولكنها تحتاج إلى جمع هذه الجهود وترتيب هذه الجهود، حتى لاتذهب هباء.
عاشراً: من الدروس العجيبة :
أن الجيوش والأمم إذا رُبيَّت على خدمة الأفراد وطاعتهم هُزِمت في لحظات،أما إذا رُبِّيت على طاعة الله - جل وعلا - انتصرت، وعاشت بين الأمم .
الأمة بُلِيت في عصورها المتأخرة بعدد من الدول التي تربِّي أفرادها على حب الأفراد والطاعة للأفراد، الطاعة العمياء من دون الله - جل وعلا - .
ومن آخر الأمثلة في ذلك :
ماحدث في العراق، فلما هوى الصنم استسلم الجميع.
وقد انتبه لهذا أبو بكر - رضي الله عنه - ، وانتبهوا للمقارنة :
لما توفِّي صلى الله عليه وسلم وكان الموقف الذي وقفه بعض الصحابة من هول الصدمة والمفاجأة، حتى قال بعضهم، كما قال عمر : إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يمت، قام أبو بكر فقال قولته - التي تعتبر من أقوى مواطن الثبات - :
( من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات،ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت).
هذا في حق محمد صلى الله عليه وسلم فكيف بتعبيد الناس للطواغيت وللأصنام..
إذا تهاوى الصنم تهاوى الجميع، أما إذا عُبِّدت الأمة لله،في حبها في بغضها في كل شأنها ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
إذا عُبِّدت لله كانت النتائج الباهرة، ولذلك قلت لكم : انظروا سرعة السقوط في بغداد، والثبات الذي ثبته المجاهدون في فلسطين وفي أفغانستان وفي الشيشان وفي كشمير، وفي غيرها، زادهم الله ثباتاً وعزاً ونصراً .
لانهم هناك عُبِّدوا لله، لم يُعبَّدوا لمنظمة ولالفرد، حتى لوكان صالحاً..
وأذكر لكم قصة حدثت معي شخصياً أيام جهاد أفغانستان :(13/191)
كنت في زيارة إلى هناك من أجل مساعدة إخواننا في أفغانستان، عندما كانت منظماتهم تعمل في باكستان، فسألت (سيَّاف) سؤالاً لاتزال إجابته ترن في أذني، قلت له : إن مما لاحظته أن بعض زعماء المجاهدين الأفغان يرفعون صورهم في معسكراتهم، والأفراد التابعين لهم، وأنت أراك لاترفع أي صورة لك .
قال : إن جهادنا لله - جل وعلا -، ونحن نجاهد في سبيل الله، فإذا رفعت صورتي سيتحوَّل جهادي من أن يكون لله ليكون دفاعاً عن هذه الصورة، فأنا لاأريد أن أرفعها حتى تبقى نيتي لله - جل وعلا - وصدق !
مجرد رفع صورة قد يحوِّل الولاء فيكون للأفراد بدلاً من أن يكون لله.
ولذلك لمَّا دخل المجاهدون كابل بدأت العصبية الشخصية والفردية التي دمَّرت أفغانستان - كما تعلمون - .
هذا يتعصَّب لهذا الزعيم، وهذا يتعصَّب لهذا الزعيم، وهذا يتعصَّب لهذه القبيلة، ولهذه الطائفة حتى حلَّ بأفغانستان مالايخفى عليكم.
فلذلك علينا أن نعبِّد الناس لله، ولا نعبِّدهم لأحد من البشر كائناً من كان، فإذا كان أبو بكر - رضي الله عنه - يقول في حق محمد صلى الله عليه وسلم :
(من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبدالله فإن الله حي لايموت)
فكيف يعبَّد الناس لأمثال هؤلاء !
وهذه نتيجة مؤلمة رأينا حقيقتها في بغداد، وقبل ذلك في دول أخرى .
الحادي عشر: أيضاً من هذه الدروس:
نحن عاطفيون
العاطفة مهمة وجميلة وجيدة، لكن يجب أن تخضع للعقل، والعقل يجب أن يخضع للشرع.
لاحظوا: بدأ سقوط بغداد بعد العصر!
بعض الإخوان كان يقنت في كل يوم العشاء، أوقف القنوت في صلاة العشاء!! سبحان الله .. حتى العشاء ماقنت ! قال : خلاص انتهى الأمر!
والأسئلة ! لاأحصي ماجاءني من أسئلة : هل نقنت أو نوقف القنوت ؟
الآن حاجة المسلمين للقنوت أكثر من حاجتنا من قبل، لأن العدو الذي جاءنا أعظم ظلماً وطغياناً وكبراً من الظالم الأول.
ومأساة العراق التي كنا نقنت من أجلها، الآن تتحوَّل إلى مأساة العراق، ومأساة المسلمين أجمعين.
التهديدات الآن على قدم وساق، اقرأوا وسائل الإعلام.. تهديدات لدول تهديدات لشعوب .. تهديدات لأنظمة..
وهكذا يفعل المنتصر إذا كان ظالماً طاغياً باغياً، لايفكِّر في السنن الكونية، فأقول: العاطفة جميلة وجيدة، لكن يجب أن تحكم بالقواعد الشرعية، والضوابط الشرعية.
الثاني عشر: من تلك الدروس التي رأيناها:
قوة الإعلام
والحرب خدعة - كما قال صلى الله عليه وسلم - .
أستطيع أن أقول : إن الإعلام هو الذي أدار المعركة أكثر من السلاح !
والغرب متفوِّقون - قاتلهم الله - في هذا الأمر.
وإعلام بعض الدول العربية هو الذي أحدث الهزيمة في نفوس المسلمين، لأنهم كانوا يعطون أرقاماً خادعة، فلما انكشفت الحقيقة كانت صدمة عنيفة!
ولذلك قلت لبعض المسلمين ولبعض المجاهدين في بعض الدول :
لو أنفقتم 50% على الإعلام،و50% على الاستعداد للجهاد من سلاح وغيره، لكان صواباً، وماذاك إلا لأهمية الإعلام اليوم، والدعم أوالرعب الذي يبثه، فلا نقلل من شأن الإعلام، لأنه هو الذي يؤثِّر في الناس الآن.
ووقفتان أخيرتان .. من الدروس التي آمل أن لاتؤاخذوني إذا ذكرتها، وأنا والله محب لكم، ومحب للسامعين،وللجميع،وصريح معكم :
الحماس غير المنضبط، والاستغراق في اللحظة الحاضرة !
كنا نقول للشباب : اهدأوا، والوضع لايسمح بالذهاب إلى العراق !
أنا على يقين كما أنكم أمامي، أنه لن يحل مشكلة الأمة إلا الجهاد في سبيل الله، وهو الجهاد الحقيقي،وهو مقاتلة أعداء الله.. ولكن.. أن يؤتى للجهاد قبل أوانه تحدث المصيبة !
فقلت للإخوة : ادعموا إخوانكم في العراق.. بالنسبة لإخواننا في العراق يدعمون بالمال، وبكل مانستطيع، وهم قد هُجم عليهم، والدفاع ليس له شروط، جهاد الدفع ليس له شروط، لكن بالنسبة للذها ب إلى هناك فلم تكن هناك راية، لم يكن هناك ميدان، وإلى اليوم.. اسمعوا الأخبار ماالذي يحدث في بغداد ؟ الذين ذهبوا أسأل الله أن يعظم أجورهم وأن يجزيهم على قدر نياتهم، بل أعظم من نياتهم، واسأل الله لمن قتل منهم أن يكون شهيداً في سبيل الله، لأنه سأل الله الشهادة، بل سعى إليها. لكن هذا شيء،والاندفاع في غير موضعه شيء آخر!
وقلت لكم: المعركة طويلة، فنحتاج للحماس، لكننا نحتاج للحماس المنضبط بالضوابط الشرعية.
العاطفة وحدها لاتكفي .
ودراسة الآيات والأحاديث التي وردت تبين هذا الجانب، وقصة خالد في مؤتة، ادرسوها، ماذا فعل، وماذا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم .
فيجب التوازن في هذه المسألة، نعم هناك مخذِّلون، مثبِّطون، لايرون الجهاد أبداً.
هؤلاء لهم شأن آخر، لاعلاقة لنا بهم.
وآخرون مندفعون متحمِّسون قد يضعون الشيء في غير موضعه، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
فهذا من الدروس، وتكرر هذا الدرس في العام الماضي عندما قلناه في أفغانستان، وحدث ماكنا نخشاه،وهاهو يتكرر اليوم في العراق.
ماأحوجنا إلى أن نتعلم، وأن نستفيد من الدروس،ونسأل الله الصدق والإخلاص ( من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)(13/192)
لكن يكون بصدق، أن يكون متهيِّئاً .
في مقابلة مع قناة المجد - يوم الثلاثاء الماضي - سئلت عن العمليات الاستشهادية، وقلت : إنها هي السلاح المباشر الذي يُخيف الأعداء إذا استخدم في موطنه.
ودعوتُ الإخوة في فلسطين وفي العراق وفي الشيشان أن يطوِّروا هذا السلاح فهو الذي يهز الأعداء. وإذا كانوا أكثر منا عدَّة وعدداً فنحن أقوى منهم إيماناً، وحبنا للشهادة أكثر من حبهم للحياة فهذه حقيقة. وقد ذكرت ضوابطاً لموضوع العمليات الإستشهادية ليس هذا مكان بيانها لكنها ليست مطلقة. وهي مسألة خلافية بين العلماء ولكنني من خلال بحثي للمسألة ترجح لدي القول بجواز ومشروعية العمليات الإستشهادية ولكن بضوابط حتى لايستعجل الناس وأن لاتنقل إلى بلاد المسلمين ولكن في مواطن القتال كما أشرت في فلسطين في العراق الآن وهو بلد محتل في الشيشان في كشمير المحتلة، كلها من أقوى الأسلحة وأنجح الأسلحة وهي شهادة في سبيل الله، نرجو لصاحبها أن يكون شهيداً بإذن الله. لكن مرة أخرى أقول يحتاج الأمر إلى ضوابط وعدم استعجال وبعد نظر….
وأخيراً… في هذه الأحداث ظهرت حكمة الله جل وعلا وأنَّ الله حكيم عليم وما أحوجنا إلى تأمُّل هذه الحكمة وبعد النظر للإفادة من الأحداث فالله سبحانه وتعالى حكم عدل ولايظلم ربك أحداً. ومقياس ذلك في قوله تعالى ((أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنا هذا قل هو من عند أنفسكم)) هذه لأهل أحد … أقول ما أصابنا من عند أنفسنا (( وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)) ((ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ماترك على ظهرها من دابة)) فما أحوجنا إلى دراسة هذا الحدث والإفادة منه وبعد النظر والتأمل حتى لانؤخذ على حين غرة ..
أقراء ايضا:
كيف مكَّن ليوسف في الأرض؟ * هذا المقال نسخة مكتوبة من الدرس الذي ألقاه فضيلة الشيخ الاستاذ الدكتور / ناصر بن سليمان العمر يوم الأحد 11/2/1424هـ في مسجد خالد بن الوليد بالرياض ارتجالاً - كعادته في دروسه ومحاضراته ــ دون أن يحرَّر وينقَّح كسباً للوقت.
==============(13/193)
(13/194)
يا أهل العراق
أ.د. عبدالله الطريقي 29/1/1424
01/04/2003
نحمد إليكم الله تعالى يا شعب العراق، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون.
ونعتذر إليكم - أيها الإخوة- عن تأخر الخطاب، ونقدر الوضع الذي تعيشون.
ويسرنا أن نقدم التحايا الطيبة لكل فرد منكم، جاهد وما زال يجاهد في سبيل دينه الإسلامي العظيم، ويدافع عن وطنه وحرماته.
ولا نملك في هذا الزمن الذي ينطق من خلال أصوات الطائرات والمدافع والصواريخ، أَوْ من خلال أبواق وسائل الإعلام الصاخبة، إلا أن تنطق ألسنتنا وأقلامنا بهذه الحروف التي نرفعها إليكم على استحياء، راجين قبولها، وتقدير أعذارنا.
إن الصيحات والتعليقات التي نسمعها وتسمعونها وإن غلب عليها التأييد لقضية العراق العادلة، إلا أنها ذات مضامين متقاربة، تخاطب الوجدان والعواطف.
أما حروفنا نخاطب فيها عقولكم وضمائركم الحية التي تربت على مدارس الأئمة: أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، وسياسة العظماء: هارون الرشيد، والمأمون والمتوكل، وغيرهم كثير كثير.
ولهذا نتقدم إليكم بذكرى ووصايا:
أما الذكرى فبالآتي:
01 يعلم الشعب العراقي جيداً تاريخه الإسلامي المجيد الحافل بالبطولات التي وقعت في أرض العراق، كالقادسية .
02 والتاريخ ما زال يتحدث ويتذكر أرض الخلافة الإسلامية في الكوفة وبغداد، والتي امتدت قروناً من السنين، وكتبت بمداد الذهب.
03 ولئن كان النسيان قد طوى تلك الحضارة، أو تناساها عند بعض أبناء أمتنا، وأخذوا يبحثون في تاريخ الأجنبي وحضارته ويتغنون بهما، إلا أن مثل هذه الأحداث المتمثلة بتكالب العدو الغربي على الأمة المسلمة، يؤكد علينا جميعاً ضرورة التمسك بحبل الله والاعتزاز بديننا وحضارتنا والرجوع الصادق إلى الله تعالى والاستظلال بكنفه.
04 الصراع بين الحق والباطل سنة إلهية لا يمكن أن تتخلف، مهما يحاول الأعداء من التظاهر بالتسامح والتقارب مع المسلمين.
وكفى بالواقع شهيداً على ذلك.
وصدق الله العظيم في قوله: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" وقوله " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد".
05 ومن اللائق بكل مسلم أن يؤمن بأن العاقبة للمتقين، وأن الخذلان والهزيمة لأهل الكفران والطغيان، قال عز وجل " فاصبر إن العاقبة للمتقين"، وقال " فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين".
06 وجدير بالمسلم أيضاً ألا يغيب عنه أن النصر من عند الله القوي العزيز، الكبير المتعال. هذا هو التصور الحقيقي للنصر، أما القوة المادية فما هي إلا أسباب وقد تصيب وقد تخطيء " وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم"، "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ".
ومتى وجد هذا اليقين عند المسلمين، وبذلوا ما استطاعوا من أسباب مادية، فإن الله تعالى ناصرهم بفضله وقدرته.
وأما الوصايا التي نتقدم بها إلى إخواننا الصامدين في أرض العراق، فنوجزها في الآتي:
01 نوصيكم بصدق التوكل على الله والاعتماد عليه والاستعانة به، وطلب المدد والنصر منه، فكفى بالله وكيلاً، وكفى به معيناً ونصيراً . وما أحسن وصية نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما "يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".
02 ومما هو لائق بكم - وأنتم تعيشون هذه الظروف- أن تحسنوا الظن بربكم سبحانه، وأن تثقوا بنصره وإنفاذ وعده، وأنه ليس من سننه خذلان عباده الصادقين " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"، وفي الحديث الصحيح " أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني".
03 أن يكون هدفكم الأعلى والأسمى دائماً إعلاء كلمة الله تعالى، وليس شيئاً آخر .
فهذا هو المقصود من الجهاد المشروع في الإسلام ولا شيء غيره.
ومن العبث بالنفس وبالإنسانية أن يخاطر الإنسان بنفسه، ويضحي بماله وما يملك في سبيل غايات دنيئة ومتواضعة، من تلك شعارات القومية والوطنية والحزبية. وإذا صح أن تصدر هذه الغايات، من قبل أهل الجهل والظلم والكفر،فإن المسلم يجب أن يتعالى على مثل تلك الغايات ويسمو بنفسه إلى مستوى رفيع ينشد الحق والعدل ورضا لله والجنة.
وحينما سُئل نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل حمية ، والرجل يقاتل ليُذكر، أي ذلك في سبيل الله؟ قال كلمته الجامعة ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
04والذي ينبغي علينا وعليكم جميعاً في ظل هذه الظروف أن نلهج إلى الله ونلح عليه بالدعاء بالنصر والتمكين من العدو فهذا الموطن فمن يستجاب فيه الدعاء كما قال سبحانه " أمن يجب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض".(13/195)
05 ونحن إذ نقدر صعوبة الظروف التي يعيشها أبناء العراق قبل الحرب وأثناءها؛ نتمنى عليهم أن يكونوا لحمة واحدة في سبيل نصر الحق، وقمع الباطل، وتصحيح الأخطاء السابقة، وإذا وجدت العزيمة الصادقة نحو هذه الأمور فعند ذلك ستكون من عوامل النصر بإذن الله.
06 ولهذا ندعو الشعب العراقي إلى توحيد الصف، ووحدة الهدف، والوقوف بحزم ضد الاستعمار والاحتلال، مهما كانت شعاراته ومهما كانت وعوده ، وتذكروا قول الشاعر العربي:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها … …
عند التقلب في أنيابها العطب
ومتى كانت أمة الصليب تعرف الوفاء بالعهود، أو تعرف الرحمة بالشعوب المستضعفة.
لقد تجاهلوا قوانينهم الدولية التي ترعاها هيئة الأمم المتحدة، وتجاهلوا ما يسمى بالأعراف الدولية، فكيف يصدقون مع قوم لا يعيرون لهم اهتماماً، ولا يقيمون لهم وزناً - أعني العرب والمسلمين عامة - .
07 وقد يتساءل البعض ممن يتحرى طلب الحق والعدل من أهل العراق، ما موقف المسلم من هذه الحرب؟ هل يقف في صف القيادة العراقية (البعثية)، أم يقف ضدها فيتحالف مع أمريكا؟ أم يقف على الحياد؟ والذي يبدو واضحاً أن المسلم وهو يرى هذه الهجمة الصليبية الشرسة على العراق، لا يسعه إلا أن يقف صامداً في وجه هذه الهجمة ، وأن يقاتل بكل ما يستطيع في سبيل دينه وأمته وبلده، ولا يجوز للمسلم أن يقدم أي خدمة لهذا التحالف المعتدي، لما في ذلك من موالاة العدو ومناصرته ضد الأمة المسلمة، ولما فيه من الخيانة لهذه الأمة العزيزة، بل الخيانة لله ورسوله.
وأما التعاون مع حزب البعث، فنرى أنه يجوز منه ما يحقق مصلحة البلاد، ويدرأ عنها هذا الشر الجسيم، لكن لا يجوز للمسلم أن يكون عضواً فاعلاً في هذا الحزب، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه .
أما أن يكون المسلم حيادياً في هذه الحرب؛ فهذا فيه خذلان للشعب العراقي، وتشجيع للغازي المعتدي، لأن ذلك هو غاية ما يريد من أجل سرعة سقوط العراق في يده.
08 ومن الكياسة أن يتأمل في دوافع هذه الحرب ومغازيها، وألا نأخذ كلام الخصم ودعاويه على ظاهرها .
إن أمريكا تدعي - حين حشدت لهذه المعركة- بأنها تريد تطهير العراق من النظام الدكتاتوري، وتنقذ شعب العراق من ظلمه.
ولو كانوا صادقين فأين هم من الأنظمة الدكتاتورية المتسلطة في عدد من دول العالم، وما الذي جعل العراق هي الضحية الأولى من بين الدول العربية؟ بل أين هم من هذا النظام منذ أكثر من عشرين سنة؟!، قد يقول كثير من المحللين والمفكرين إن أمريكا إنما تقاتل من أجل مصلحتها.
ونحن نقول نعم من أجل مصلحتها، ولكن هل هذه المصلحة هي النفط فقط كما يقال حديثاً؟ أم هي المصالح الإستراتيجية في المنطقة؟ أم هي مصالح غير محددة؟
الحق أن مصالح أمريكا متنوعة، منها مصالح مادية، ومصالح سياسية، ومصالح فكرية وهذا النوع من المصالح - ونعني المصالح الفكرية- من أهم المصالح والمقاصد لهذه الحرب، أي أن لها أبعاداً دينية وثقافية وحضارية.
وهذا أمر لا يمكن أن يفصل عن السياسة الأمريكية فهي دولة غربية، وتعتمد فلسفتها على أمرين يبدو في ظاهرها التناقض هما: العلمانية والنصرانية، ولكنها استطاعت أن تمزج بينهما.
ولعل ذلك ما جعل الحكومة الأمريكية تعلن -بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر- أن الحرب على ما يسمى بالإرهاب قد تمتد عشر سنين، وأنها ستكون حرباً صليبية.
============(13/196)
(13/197)
العمل الإسلامي: مرحلة مجتمعية
من النخبوية إلى المجتمعية ومن الهرمية إلى الشبكية
إبراهيم غرايبة 23/12/1423
24/02/2003
بدأ العمل الإسلامي والنهضوي فرديا ثم تحول إلى مؤسسي، والمطلوب اليوم أن يتحول من النخبوي والتنظيمي إلى مجتمعي تؤديه الأمة كلها، فالتحدي هنا أن تقوم المؤسسات والحكومات والجماعات بنقل الخبرات التي لديها إلى المجتمع كله، وأن تشاركها الأمة المسؤوليات والأدوار والأعمال، وهنا تؤدي الشبكية إلى ربط الأعمال وتنسيقها، وسد الثغرات، ودعم الحلقات الضعيفة وتقويتها.
ونشاهد اليوم لدى الأمة الكثير من المظاهر والإنجازات التي تدل على إمكانية نقل الدعوة والإصلاح والهم العام من نخبة إسلامية في أعلى هرم الأمة إلى الأمة كلها، فالمساجد اليوم تمتلئ بالرواد من الناس الذين لا ينسق وجودهم في الصلوات والدروس جماعة ما كما كان الأمر قبل عشرين سنة أو أكثر، حين بدأت الصحوة الإسلامية بالنمو والانتشار، ولكن الإقبال على المساجد حالة مجتمعية عامة، والأمر نفسه ينطبق على رحلات الحج والعمرة والحجاب والأشرطة الكاسيت والإعلام وغيرها من البرامج التي بدأت نخبوية تقوم عليها وتنسقها جماعة إسلامية منظمة وصارت اليوم حالة مجتمعية عامة.
وامتدت الصحوة الإسلامية إلى دول وأقطار ليس فيها وجود لجماعات إسلامية منظمة، كما شملت فئات من المجتمع ليس من بينها في العادة من ينتظمون في الجماعات الإسلامية.
وقامت مؤسسات استثمارية تجارية لا علاقة لها بحكومة أو جماعة مستمدة أساساً من إقبال الناس ورغبتهم بتطبيق الشريعة الإسلامية، مثل البنوك الإسلامية التي تزيد موجوداتها على المائة وخمسين مليار دولار، وشركات التأمين الإسلامية.
ويقابل هذه الحالة صورة أخرى مردها إلى عدم رعاية الصحوة الإسلامية وترشيدها واستثمارها على نحو إيجابي، ونعني التطرف والتدين المنقوص المشوه والإرهاب المنسوب إلى الإسلام، ولا نقلل من شأن هذه المشكلات، ولكننا نعتقد أنه يمكن تحويل هؤلاء المتدينين إلى أعمدة في الإنتاج والإصلاح والاستقرار بدلاً من استدراجهم ليكونوا أعداء لبلادهم، ومصدر إعاقة للنهوض والتنمية.
فأبناء الصحوة الإسلامية والمتدينون أغلبهم من المتعلمين والمثقفين الذين تخرجوا من الجامعات في بلادهم وفي الدول لغربية المتقدمة، هم يرون في الدعوة الإسلامية مصدر حراك للمجتمع يصلحه وينميه، ويمتلكون رؤى برامج في الإصلاح يتحمسون لها، فالتدين يعطي الدافع والحماس لمشروعات حياتية وتنموية تقلل كثيراً من تكاليفها وتجعلها منسجمة مع ضمائرهم وتطلعاتهم.
إن الحكومات والمؤسسات يمكن أن تجد في الدعوة الإسلامية مورداً كبيراً لو استثمر استثماراً صحيحاً، فإنه سيخفض كثيراً من النفقات والجهود المبذولة مع فاعلية ونجاح أكبر في تحيق الأهداف، وبخاصة في مكافحة الجريمة والإدمان والتفكك الأسري، وبرامج العمل التطوعي، والتعليم المستمر، وتأهيل الأسر والمجتمعات المحلية وبرامج البلديات والنقابات، وغير ذلك كثير مما يمكن تفعيله، والحصول على أفضل النتائج بأقل التكاليف.
ويقدم تقرير "الحالة الدينية في مصر" الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية مداخل متقدمة و مهمة لفهم حراك المجتمع العربي وتفاعلاته، وبخاصة أن مصر تمثل قلب الوطن العربي وبارومتر حياته العامة والسياسية.
لقد أصبح موضوع العلاقة بين الدين والحياة العامة أهم الموضوعات التي شغلت بها دراسات العلوم السياسية في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات والمؤتمرات والندوات فضلاً عن الصحافة والإعلام، وقد كانت معظم الصراعات والحروب في السنوات العشر الأخيرة يشغل الدين موقع القلب فيها، وكانت الدراسة الشهيرة لـ "صمويل هنتنغتون" عن صراع الحضارات التي نشرت في مجلة الشؤون الخارجية الأميركية قد أثارت جدالاً واسعاً لم يتوقف حتى اليوم.
إن النظرة العلمية إلى الحالة الدينية يجب ألا تستغرقها ظاهرة الأصولية الإسلامية، فقد تنامت أيضاً الأصولية المسيحية واليهودية وربما الأصوليات الأخرى، كما بدا واضحاً في الانتخابات الهندية حيث نجحت الأصولية الهندوسية أكثر من أية فترة سابقة، وحتى الأصولية الشاملة لا تمثل إلا جزءاً قليلاً من الظاهرة الدينية، إذ إن المؤسسات الدينية التقليدية كوزارات الأوقاف والأزهر في مصر والكنائس تؤدي دوراً متنامياً في الحياة العامة.
والعودة إلى الدين تحولت إلى ظاهرة اجتماعية، قد تكون مسألة الفنانات المتحجبات واحدة من تجلياتها الإعلامية التي امتلكت دوياً إعلامياً ولكنها تتعدى ذلك إلى أوساط اجتماعية عديدة، ويلاحظ في مدينة عمان كيف تنتشر مساجد في أحياء مقتصرة على الأغنياء، تمتلئ بالمصلين في جميع الأوقات، ولعل من أطرف المشاهد في هذه المساجد هي مجيء نساء غير محجبات للصلاة في هذه المساجد، وربما يكون هذا الاتجاه يحمل بعداً نفسياً وسلوكياً للبحث عن الشخصية والهوية وعن توازنات نفسية وثقافية جديرة بالبحث والتفكير.(13/198)
ولكن من أهم ما يجب الالتفات إليه في فهم الظاهرة الإسلامية بشكل خاص والدينية بشكل عام هي التحول المجتمعي الذي يجري في العالم العربي والإسلامي، وكيف انتقل الهم النهضوي والإصلاحي من عمل فردي بدأ في القرن التاسع عشر أو ما قبله بقليل، أو في بدايات القرن العشرين، ثم تبلورت المشروعات الدعوية والإصلاحية في حركات وجماعات إسلامية كجماعة الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية في دول القارة الهندية، وحزب الرفاه في تركيا والجماعات السلفية والصوفية.
وما يحدث اليوم هو تحول في التدين والعمل الإسلامي من كونه عمل جماعات وحركات إلى عمل مؤسسي ومجتمعي تؤديه الأمة بأسرها، وقد يضلل أفهامنا ويستدرجنا إلى مواقع غير صحيحة ذلك التناول الإعلامي الذي يتعامل مع الظاهرة الإسلامية باعتبارها فقط عملاً حركياً منظماً تنسقه جماعات إسلامية بعضها معتدل وأخرى متطرفة دون ملاحظة تذكر لدور المجتمع أو المؤسسات الرسمية والأهلية.
ويمكن التقاط مجموعة من التعاملات المؤسسية والاستثمارية مع الظاهرة الإسلامية بعيداً عن عمل الجماعات والحركات الإسلامية، مثل البنوك الإسلامية، وقد أنشأ مؤخراً البنك العربي أكبر وأهم البنوك العربية بنكاً إسلامياً "البنك العربي الإسلامي الدولي" وشركات التأمين الإسلامية، وشركات الحج والعمرة، والمحلات التجارية المرتبطة بالسلوك الإسلامي كالحجاب والكاسيت، والأمر يتعدى الملاحظات السابقة بكثير إذا أعدنا النظر والتفكير في دور وزارات الأوقاف والمساجد والجامعات والمدارس ومحطات الإذاعة والتلفزيون والإنتاج السينمائي والتلفزيوني فسنجد أن جهوداً كبيرة تبذل للدعوة الإسلامية وينفق عليها مئات الملايين، وهي أعمال ستؤدي مراجعتها وإصلاحها إلى حالة حضارية متقدمة.
ويسجل مركز الدراسات السياسية ملاحظات واستنتاجات مهمة متعلقة بدراسة الظاهرة الإسلامية، منها أن الدراسات الأكاديمية والصحفية كانت معنية أكثر شيء بسياسات الحركة الإسلامية تجاه الدولة أو دراستها كحركة اجتماعية، وركزت هذه المعالجات على ظواهر العنف السياسي دون غيرها، ويمكن القول مع قدر من التحوط إن الدراسات في هذا الحقل ما تزال تقع في دائرة العلوم السياسية، ولم توظف مناهج علم الاجتماع أو التحليل الثقافي.
ومن هنا فإن الظاهرة الإسلامية تفتقر إلى المعلومات الدقيقة الشاملة، ولا تتلاءم دراساتها مع طبيعة الظاهرة ولا مع فهم المجتمع، وتحكمها صورة نمطية يغلب عليها السجال والهجاء والشغل بما يسمى "الإسلام السياسي"، وتعاني من العمومية والتكرار ولا تستند إلى ممارسة تحليلية عميقة.
حالة الانبعاث الديني لا تقتصر على العالم الإسلامي، فالعالم كله يشهد بعثا دينيا يؤثر على الحياة العامة والثقافة، ويعيد تشكيل الدول والمجتمعات، فإلى جانب العالم الإسلامي حيث تمثل الحركة والاتجاهات الإسلامية القوة الشعبية الفاعلة والغالبة، تقوم في أوروبا صراعات دينية قومية مثل الكروات والصرب، الصرب والبوسنة، الصرب والألبان، والكاثوليك والبروتستنت في إيرلندا، وتحتل الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة مكانة مؤثرة في الحياة السياسية والعامة، وينسب إليها نجاح الرئيس الأمريكي بوش وبرامجه ومواقفه، وتمتلك شبكة واسعة من الكنائس والجامعات ومحطات التلفزة والشركات والجمعيات، وفي الهند تغلبت الأصولية الهندوسية على حزب المؤتمر العريق الذي ظل يحكم الهند منذ تأسيسها، وفي أمريكا اللاتينية قام دعاة التحرر من رجال الدين الكاثوليكي بمحاولات للإصلاح الاجتماعي والسياسي، مثل مؤتمر مدبللين للأساقفة الكاثوليك عام 1968، ومؤتمر يوبليا عام 1979، وكانت الكنيسة في أوروبا الشرقية أهم خصم سياسي للشيوعية ولعبت دوراً مهماً في إسقاطها، وفي سيريلانكا يدور صراع بين البوذيين "السنهال" والهندوس "التاميل"، والصراع بين المسلمين والهندوس في الهند لم يتوقف، وفي الصين أخذت انتفاضة المسلمين بُعداً جديداً، حيث تقوم الحكومة الصينية بإعدام العشرات منهم بعد أكثر من نصف قرن من التعايش المعقول نسبياً، وهي أحداث تمثل نموذجاً وليست شاملة، وتدل على القوة الكامنة للدين، كما تكشف ضعف العديد من الأمم والدول.
إن الدولة ظاهرة حديثة جداً، ولم تكن الدول السيادية في مطلع القرن العشرين تتجاوز العشرين دولة، لكنها اليوم حوالي مائتا دولة، أي أنها تضاعفت خلال مائة سنة عشرة أضعاف، وهي اليوم تواجه تحدياً حقيقياً يهدد مصيرها واستمرار سيادتها وطبيعتها ووظائفها، وتقدم الحركات الدينية في معظم أنحاء العالم شعوراً جديداً بالهوية والانتماء وتجمع مساعي الشعوب نحو الإصلاح وحياة أفضل، بعدما فشلت معظم الدول والحكومات في تحقيق الرفاه لمواطنيها.(13/199)
وقد أضافت العولمة وتقنيات الاتصال فرصاً وتحديات جديدة، حيث بدأت الدول تتخلى بسرعة عن كثير من وظائفها وسيادتها لصالح الشركات والمجتمع الأهلي أو للقوى والمنظمات الخارجية كالأمم المتحدة، وحلف الأطلسي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية أو للشركات العالمية الكبرى التي تحولت بسرعة فائقة إلى دول وإمبراطوريات عملاقة.
يرى "جون اسبوزيتو" الأستاذ بجامعة جورجتاون أن مشروعات ووعود النخب السياسية بالتنمية وحياة أفضل لم تتحقق، وارتبط هذا الفشل بالعلمانية، وكان المشهد الذي آلت إليه الدول والمجتمعات يدعو إلى ردود فعل عكسية وغاضبة وبحث عن وسائل وأطر أخرى للإصلاح غير تلك التي سادت طوال هذا القرن، حيث تكونت مجتمعات تستفيد فيها أقلية ضئيلة عدداً من كل مزايا الحضارة الحديثة، وترزح الأغلبية في بؤس وفقر، وكان هذا الغنى الفاحش والفقر المدقع على درجة من التجاور والاحتكاك، تؤدي إلى المواجهة المستمرة.
ويقدم ممثلو الحركات الدينية أنفسهم على أنهم سيحققون مجتمعاً أكثر أصالة وعدالة اجتماعية، ويدافعون عن الفقراء والمضطهدين، وقد جذبت هذه الحركات مهنيين ومثقفين وأساتذة وعلماء تخرجوا من أفضل الجامعات وأهمها في بلادهم وفي أوروبا وأمريكا، كما تستخدم بفاعلية التقنية الحديثة ووسائلها الإعلامية في التأثير والاتصال على نحو يبشر بمهارة قيادية وتقنية تؤهلها لقيادة المجتمعات والدول.
فالمجتمعات تبحث بحرقة عن أصالتها وهويتها، ولا يكفي القول إن الفقر والبطالة والتهميش هي الأسباب الوحيدة المحركة للبعث الديني، وسيظل الدين والثقافة لها وزنها في التنمية.
وقد عرضت مجلة اليونسكو في أحد أعدادها صورتين متجاورتين ومعبرتين، في الصورة الأولى ترقص مجموعات من الهنود الحمر بملابسهم التقليدية، وفي الصورة الثانية يقف آلاف الروس في طابور طويل ينتظرون فرصة الدخول إلى مطعم مكدونالدز للوجبات السريعة، والصورتان ضمن حوار مع المفكر الهندي "سميتو كوتاري" أحد اثنين أسسا مركز لوكايان لتعزيز التبادل بين المثقفين في الهند والعالم، حيث يعرض كوتاري في ذلك الحوار أنماطاً وأمثلة مما يجري في العالم من سلب ممتلكات الآخرين المادية والمعنوية دون مراعاة واعتبار للعلاقة بين الدين والثقافة وبين التنمية، فقد أدى استخراج الموارد الطبيعية إلى تهميش الملايين في تلك المناطق وضياع هويتهم الثقافية.
وفي الهند تمتلك 42 عائلة أكثر مما يمتلكه 150 مليون مواطن هندي، والشاهد في الأمثلة ليس فقط في الفجوة المتسعة بين الفقراء والأغنياء، ولكن في انقراض أفكار وثقافات كانت تحقق للناس قدراً كبيراً من احتياجاتهم كالزراعة والبناء وفق النظام التعاوني، فيستطيع الناس أن يحصلوا على بيوتهم وأقواتهم بمجهودهم دون نفقات مالية، والتدمير الذي حدث ليس فقط في النظام الاقتصادي، ولكن الثقافة المصاحبة لهذا النظام تعرضت للانهيار.
إن الحكومات والمؤسسات الأهلية تمتلك في الدين مورداً كبيراً، لو استثمر بشكل صحيح فإنه سيخفض جزءاً كبيراً من أعباء الناس الاقتصادية والاجتماعية، وتستطيع الحكومات لو أرادت أن تحول المتدينين من أعداء لمجتمعهم وبلادهم إلى أعمدة مهمة في الاستقرار والإنتاج
=============(13/200)
(13/201)
أمة على كف صدام
أنور العسيري 23/11/1423
26/01/2003
بين العهد العمري -الذي قاد بإذن من الله شعاع الإسلام إلى أرض العراق، وبين العهد الصدامي الحديث- بون شاسع ومسافة كالفضاء لا تقطعها الأزمنة ولا الأمكنة، بون بين صناعة الحضارة على قاعدة النور الإسلامي وبين صناعة الهزيمة على قاعدة تنظيرات اللادينيين على مساحة الكرة الأرضية الشاسعة، بون بين معنى الرجولة الحقيقية التي أرسلت أفواج "سعد بن أبى وقاص" تدك معاقل الكفر، وتزرع الإسلام بساطا من نور، وبين رجولة صدام الحاكم بهوى نفسه، الذي قاد شعبه المسكين والمنكوب منذ فجر التاريخ الدموي لأرضه العذراء، إلى مهالك سماها معارك من أجل انتصار منطق العمالة الموحد على امتداد جغرافية الأنظمة السياسية الحاكمة في أرض أمتنا المباركة، وصل الإسلام -بفضل الله- ثم بفضل الرجال من قادة أمتنا- إلى العالم، وواصل فعل البعث العراقي مسلسل التدمير الذاتي للعراق إلى آخر لقطاته، لنرى هذه المرة أيموت الشعب من أجل انتصار البطل، أم ينتصر الشعب من أجل انهزام البطل ؟
انشطار في الفهم، وتعامٍ عن دور الحق، وقمع للنور وكبت للشعوب كان من نتائجه أن استنسخت من رحم صدام السلطة عشرات الأشكال، فتوزعت صورته في أنحاء الإدراك العربي المسلم لتجعله نموذجا حقيقياً لحالات صدامية تقبع في صدورنا منذ سنين، لا تريد التخلي عن مواقعها القيادية ولا تريد أن تتيح للآخر فرص التعبير والتغيير، ولا تملك مشروعا قابلا للفهم أو التطبيق، لكنها -على أي حال- تملك مشروعا شعريا سلطويا مادحا مصفقا مطبلا راقصا فنانا راكلا معبرا عن هم كرة وعن واقع إبداع المهرولين، بين هذه المشاريع المختلفة المتفقة بين مشاريع سلطوية اجتمعت مئات المرات، ولم تتفق على أي شيء، ويبدو أنها لن تتفق إلا على تمسكها بحقها في العيش على هرم السلطة، وبين واقع عالمي يقظ متوثب طامع مبهر متجاوز، يرفض الصغير ويحتقر الضعيف.
فمن يصدق أن إرهابيا مثل "نتينياهو" لم يصلِ لأنه ابن لعائلة فلان، بل لأنه رجل يفكر لدولته، وهاهو كتابه بين يديّ يرسم تصورا عميقا مفكرا لمستقبل دولته، أما نحن فنؤكد أن الكثير منا لم يعرف من العلم إلا قليلا ولم يقرأ إلا ما مدح به، ولم يدرك إلا ما صاح به مستشاره الغربي، أو ما أدركه منذ نعومة أظفاره، من أن الحركات الإسلامية خطر على كيان الدولة، أو فلنقل على كيان الكرسي!
إن خطورة المرحلة القادمة في نظر العقلاء ليست في اقتلاع صدام؛ لإبداله بصدام مناسب للهوى الأمريكي الجديد، إذ إن هذا الأمر لا يعدو كونه إفرازاً طبيعيا لمدخلات فاسدة لوثت الأمة، فأنتجت هذا الكم الهائل من الذل، لكن الخطر الحقيقي في هذه المرحلة هو في هذه القرارات التي تساق منذ زمن لتغير مجرى حياتنا كمجتمعات، فتقذف بنا من هوى سلطة لهوى سلطة أخرى دونما نظر لهذا الإنسان( الغلبان )، الذي يلتحف الليل في زنازينهم. المعادلة الصعبة التي باتت أكثر انفعالا وإثارة هي الجريان المثير لسلسة غير محدودة ومتوالية غير مضبوطة من القرارات المصيرية دونما إدراك من المواطن الإنسان، وكذا انفلات عقال الهموم التي ترسلها قرارات الفوقية الحاكمة في أمتنا، والبركان الثائر أراه قد نثر أولى ثماره، تتلقفه الأيادي المسلمة في كل مكان وعيا بخطورة ما يقودنا إليه القائد العربي الذي استسلم تماما لكل ما تفرضه الشرعية الدولية، ونسي أن يرضخ لشرعية الله ودستور القرآن فينهل من معينه؛ ليغذي قراراته الفردية، وينضج قدرتها على الصمود في عالم تحكمه القوة والمصلحة والرغبة في المنافسة على زمام القيادة الحضارية للعالم .(13/202)
أمة على كف رجل مصيره الفردي قد لازم مصيرها، وعبثه الشخصي قد أدار مفتاح انهيارها! ياله من مصير مضحك مبكٍ، و أمر يبدو في عالمنا اليوم قليل الحدوث إلا في المنطقة المحكومة بلغة الضاد، فرد يستطيع أن يحيل أمة بتاريخها وحضارتها إلى سراب، يبيح لنفسه وأبنائه ميراثها يبعث في شعبه حق التهليل والتصفيق والمدح، في وقت فتحت في العالم كله مغاليق الاستبداد فانفجرت شلالات الإبداع تقود أمما كانت في عصر حريتنا الإسلامية المضبوطة على بساط الدين بؤرا للجهل وملاذا آمنا للغوغاء، تشبث بأسلوب الحكم المبعد لكل قوى المجتمع المدني الحر أتاح لأمريكا التي تهرول بإعلامها القبيح فرص التباكي على حال المرأة العربية والمسلمة وادعاء اهتمامها بحاجة شعوب منطقتنا للحرية والديمقراطية والتربية والتعليم، مثلهم مثل المواطن الأمريكي، وهي بذلك لا تعلم أو هي تعلم، ولا تريد أن تعي حقيقة أن منشوراتها الإعلامية التي أرسلتها وترسلها علينا وعلى شعب العراق عبر طائراتها؛ لتبشرنا بمستقبل مشرق يتلو قدوم الكوبوي الأمريكي على ظهر طائرته المثيرة للألم قد باتت لعبة خارج إطار الزمن وأن الشعب المغيب عن العالم قد استطاع أن يقرأ في تيار المعرفة المتدفق أولى خطوات نصره المحتم بإذن الله ومن هنا وجب التأكيد على أن تنادي العقلاء من أمتنا اليوم إلى استيعاب خطر المرحلة ليس مجرد تنظير فلسفي بل هو عمل ملح، إذ المواجهة اليوم أصبحت -وبلغة الواقع على المكشوف- فأمريكا اليوم لم تعد تبالي بهده النوعية الصدامية بعد أن تحولت رغبتها لاستنزاف الشعوب إلى نوعية حاكمة أكثر جرأة في إعلان الخيانة، فهي تبحث عن نمط يضيف لقيمها بعدا جغرافيا جديدا من التمكين، ويساعد على تهيئة إسلام على الطريقة الأمريكية يعد بوابة رئيسة للعلمانية، وهو ما دعت إليه صراحة "مادلين اولبرايت" في فترات سابقة لهذه الأنظمة التي تضع الإسلام ستارا وتخبئ تحت مركبتها عجلة تجاوزه من العمل على تكثيف تحولها للعلمانية لتخرجه إلى النور، ولتصادم بذلك مجتمعاتها علانية وليكون النموذج التركي البغيض هو النموذج الإسلامي الذي تقبله أمريكا، ورغم هذا السباق لقلب قاعدة المجتمعات الإسلامية، فأمريكا لا يمكن لها أن تغفل دور الحركات الإسلامية الشعبية، والتي-ورغم كل هذه الخطط والمناوشات السياسية والترهات الجدلية بين الحكام وأمريكا- مازالت مدركة لأطماع العدو، مستفيدة من قربها من كتاب الله وسنة نبيهمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن هنا تكمن حراجة الموقف الأمريكي، والذي سيواجه اليوم في دخوله لأرض الإسلام موجات الحركات الإسلامية الشعبية الرافضة شرعا لوجوده المحتل، والتي وجدت سندا شعبيا جارفا جراء التهور الأمريكي تجاهها، ومحاولة إرغامها على القبول بالموقف الغربي الحضاري نموذجا ورؤية للحياة بشكل سافر لم يشهد التاريخ له مثيل من قبل، وقد يكون هذا التنامي للطموح الأمريكي على أية حال أمر في صالح المجتمعات المسلمة المنتفضة ضد الظلم، فهذا النوع من التغيير الهيكلي والذي يستهدف بنية أمة بذاتها لايمكن له أن يتم عبر ضربات خاطفة هنا أو هناك، بل يحتاج إلى بسط سيطرة زمانية ومكانية تسمح بتغلل هذه الأفكار ومواجهتها لقيم الأصالة الساكنة في صدور أمتنا، وهذه النوعية من الهيمنة الممتدة ستعطي للأمة إمكانية التقاط الأنفاس وفرص إعادة البناء -ولو على عجل- لمواجهة مهمة في تاريخ عودتها إلى النور .
إن توتر الوضع يزداد كل لحظة، وأمريكا التي باتت تؤمن أكثر من أي وقت مضى بقدرتها على تجاوز الجميع، وفي الوقت نفسه بخطورة الوجود الإسلامي الحركي والسياسي المنادي بحكم الله في الأرض، ستسعى -إن فشلت في إيجاد مبرر يلف العالم تحت عباءة تأييدها، لتدك معاقلنا جوا وبرا وبحرا- إلى العودة الى ألف باء السياسة الأمريكية من خلال تطبيق نظرية (فرق تسُد) وذلك عبر زرع بذور الشقاقات والخلافات والدعم غير المحدود، لكل من يحقق مصالحها في خلخلة الاستقرار في المنطقة البترولية الاستراتيجية لها وللعالم، مما يوجد في ذلك الوقت المبرر الصالح لتكثيف وزيادة حجم وجودها وتمركز قواتها الزاحفة بمئات الآلاف صوب منطقتنا الآمنة .(13/203)
إن الخطر الذي نعلنه اليوم هو في ذات الوقت فرصة قد لا تتكرر لهذه الأمة، فلقد كتب الله لها مواجهة مباشرة مع عدوها، متجاوزة بذلك كل إسقاطات السياسة العمياء المتوارية خلف سحب الغفلة والانتهازية والمصلحية الفردية الضيقة، ومواجهة كهذه تستلزم رصا للصفوف من نوع جديد لم تعهده الأمة منذ سنين، و بعث لروح الحوار في تنظيماتنا الشعبية الإسلامية الدعوية والسياسية، وكل الأفكار الملتقية في طريق النور، وهذا يتطلب ارتفاع النخب الإسلامية على خصوماتها الحزبية والمتسربة من بيئة الفردية التي تحياها في مجتمعاتها حتى تستطيع معالجة مشاكل الأمة، فالتقاء علماء الأمة ورجال فكرها وثقافتها أهل الإدراك والحكمة لينسجوا رؤية شمولية متكاملة لواقعنا اليوم، وليضعوا الإنسان العادي قبل الحاكم المنهزم أمام مسئوليته الشرعية و التاريخية أمر لا يحتمل التأخير، إذ لا مبرر للصمت بل لتجاوز التفكك وصناعة اللقاء وترك كل دعاوى الحوار مع الآخر، ولو مؤقتا والتركيز الفوري على نشر فضيلة الحوار مع الذات أول؛ا حتى نتمكن من فهم أنفسنا وتقوية إمكاناتنا وتجميع عناصر قوتنا، ومواد فهمنا للأشياء من حولنا، فنتخذ المواقف التي ستجد جمهورا يحملها على أكتافه وخطوة كهذه ستكون -ولا شك- محسوبة ومتصدرة ومتوثبة في أوراق صانع القرار الأمريكي، فعهد صدام الفرد قد انتهى، عهد انتحار تاريخ برحيل رجل، قد ولى عهد انكسار عزة لانكسار رجل، قد تلاشى عهد الخنوع لذلك الفرد، واليوم عهد الإسلام يحتاج رجالا يحملونه، وعقولا تدركه وسواعد تستقبله، ومراكز تدرسه وملتقيات تخرج أبناءه فتثيره للعالم سنا عزة.
وأخيرا :
فالإسلام لم يدخل منذ سنين في واجهة الصراع مع العدو بفضل محاولات القوى السياسية العلمانية العربية والغربية على حد سواء لإخراجه من قيادة المسيرة، واليوم تريح أمريكا العالم الإسلامي بفتح باب الصراع على حقيقته وكشف غوامض الكلمات، ومواجهة نور الإسلام مباشرة، وهذا الدخول المباشر للإسلام كطرف رئيس في الصراع سيكون -ولاشك- تحولاً نوعياً وسيهيئ للنخب الإسلامية صاحبة المشروع الحقيقي القابل للتنفيذ إلى أخذ زمام المبادرة، وهي كذلك فقد ساعدت أمريكا من حيث لا تدري على ارتداد الشعوب الإسلامية إلى ملاذها الإسلامي، وذلك بتهجمها السافر على كل ملامحه وتنظيماته وأبنائه في أنحاء العالم، وبات الصراع -ولأول مرة مباشرا- لا يمر- عبر وسيط سياسي علماني الهوى، بل شعب مسلم أمام أمريكا بكل جبروت مادتها، وهو باعث أمل ومحط انتظار لأمل جديد بالانتصار، والمفتاح الوحيد للنصر يكمن في عودتنا الأصيلة إلى منهج الله تعالى منهج الأنبياء منهج العزة، فبه سنسكن قلب الحضارة، وهذا هو شرط الله لتمكين المسلمين، وليدرك الجميع أن قوتنا في عودتنا وأن نهاية الظلم قادمة، وأن النظر إلى المادة دون غيرها في حسم الصراع أمر لم تعهده كثير من معارك المسلمين، والثورات الشعبية في التاريخ ضد كل غاز عنيد.
============(13/204)
(13/205)
وحدة الأمة بديلا عن الوحدة الوطنية
لمواجهة الغزو الأمريكي القادم
كمال حبيب * 12/11/1423
15/01/2003
يشير مفهوم الوحدة الوطنية إلى لحظة استثنائية في الحياة السياسية، تفرض على المختلفين التنازل عن اختلافاتهم من أجل مواجهة هذه اللحظة، فنسمع مثلاً عن حكومات الوحدة الوطنية التي تأتلف فيها أحزاب متباينة في توجهها لمواجهة لحظة خطر، ونسمع عن حركات التحرر التي تتحدث عن الوحدة الوطنية بين الفصائل السياسية المختلفة لمواجهة عدوها المشترك، وبالطبع فإنه بعد انقضاء لحظة الخطر هذه، أو اللحظة التي فرضت الوحدة يصبح من حق كل فصيل أن يستقل عن الطرف الآخر، ويعتبر مفهوم الوحدة الوطنية هنا ذا طابع إيجابي؛ لأنه يفرض على القوى المختلفة المنتمية لوطن واحد أن تتنازل عما يفرقها، وتجتمع على ما يوحدها باعتبار أن الوحدة هي طوق النجاة للطرفين، وأنها مصلحة أكيدة لهما معاً، وكل المجتمعات عرفت هذا اللون من الوحدة الوطنية الإيجابية .
لكن مفهوم الوحدة الوطنية يجري طرحه في سياق آخر مختلف بنوع من المراوغة اللئيمة - في تقديرنا- وهو مجال التنازل عن الانتماء الديني من أجل التمسك بالهوية الوطنية، والمفترض وفقاً لهذا المفهوم أن يتنازل المسلم وغير المسلم في البلدان الإسلامية عن انتمائهما الديني في سبيل التمسك بالهوية الوطنية، وهنا يتم طرح الهوية الوطنية كمفهوم مناقض للهوية الدينية، وفي الواقع فإن المسلم أو غير المسلم لا يقبل أن يتنازل عن هويته الدينية بأي حال من أجل الهوية الوطنية فالدين عنصر حاكم في التكوين البشري والإنساني بل والمجتمعي، لذا فالهوية الوطنية تعمل كما أوضحنا في المجال السياسي الذي يعني جيشاً واحداً وعلماً واحداً ودولة واحدة، أما مجال ما قبل السياسة أو المجال المجتمعي، فإن الدين يبقى يعمل وينشط سواء لدى المسلم أو غير المسلم، وعلى سبيل المثال فإن غير المسلم لن يقبل أن تكون الوطنية دينا بديلاً له تمنعه من تطبيق عقيدته في مجال الأحوال الشخصية والعبادات، كما أن المسلم لن يقبل هو الآخر أن تكون الوطنية بديلاً عن تطبيق عقيدته في المجالات التعبدية والحياتية، أي أن الوطنية التي تصنع من نفسها ديناً بديلاً لن تكون مقبولة لا من المسلم ولا غير المسلم .
الحيلة العلمانية وشعار الوحدة الوطنية
يذهب العلمانيون العرب -وهم في ذلك متأثرون بشكل بائس بالعلمانية الغربية - إلى أن الدين في العالم الغربي كان وراء الحروب الدينية التي أدت إلى قتل الآلاف من المذاهب الدينية المتعصبة ضد بعضها، كما أن الدين هو الذي احتكر الحقيقة عبر رجال الدين في الغرب، ومن ثم فإنه علينا أيضاً في العالم العربي أن ننحي الدين جانباً ونتمسك بهوية مختلفة هي الهوية الوطنية أو القومية، ومعني الهوية الوطنية أي الانتماء للقطر، فمصر يكون أبناؤها مصريين "المسلمون منهم وغير المسلمين" وهكذا السوريون والمغاربة والعراقيون، وهذه الدعوة القطرية الضيقة نشطت في أوائل هذا القرن إبان الاحتلال البريطاني، الذي شجع الاتجاهات القطرية في مصر من جانب آباء العلمانية الأوائل، الذين كانوا مرتبطين بالاستعمار مثل أحمد لطفي السيد وقادة الوفد المصري، ويلاحظ المراقب أن الاستعمار البريطاني وظف مفهوم الوطنية توظيفاً سياسيا لصالح أهدافه في مصر، فلم يشجع الهوية القومية العروبية وإنما شجع المصرية؛ لأن البعد القومي لمصر كان سيوسع من العالم الضيق لمصر إلى ما وراء حدودها، خاصة في فلسطين باعتبارها مسألة أمن قومي، لذا نجد علمانيا مثل طه حسين كان يدعو للمصرية الضيقة ولم يعتبر الصهيونية خطراً، وشارك في افتتاح الجامعة العبرية في القدس، والتي كانت أحد أسس قيام الكيان الصهيويني بعد ذلك .
أي أن الهوية المصرية من منظور علماني هي انتماء المصري لمصريته فقط دون أن يكون لديه أي شعور بما وراء هذا الوطن الضيق، ومن هنا كان الشعار مصر للمصريين، ونحن مع هذا الشعار حين يكون في مواجهة المستعمر البريطاني، لكن حين يكون بمعنى التخلي عن الشعور بالهوية للعروبة وللوطن العربي الكبير، فإنه شعار آثم ويصب في النهاية في مصلحة أعداء الأمة في كل وقت .(13/206)
لكن نعود مرة أخرى لمفهوم الوحدة الوطنية، بمعنى نزع الطابع الديني عنه، وأن يكون الدين لله والوطن للجميع، أو بمعنى فصل الدين عن الدولة على نسق الخبرة الغربية، لابد من الإشارة هنا إلى الخبث العلماني في نسخته العربية البائسة، فالعلمانية كما طرح البعض هي حركة إحيائية داخل الحضارة الغربية، بمعنى أنها تعود إلى المسيحية في صورتها الأصلية التي تدعو إلى الفصل بين الدين والسياسة " أي بالتمسك بمبدأ دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر " أي فصل ما للكنيسة ولرجالها عن الدولة التي تم طرحها كإطار يجمع ولا يجزأ في الخبرة الغربية، لكن الدولة لم تلغ الكنيسة، ومن ثم فالوحدة الوطنية بالنسبة لغير المسلم في مصر تعني الانتماء إلي الدولة المصرية دون التخلي عن ممارساته الدينية، لكن المسلم الذي يدعو دينه الإسلام إلى عدم الفصل بين الدين والسياسة سوف يجد نفسه محكوماً بنظام سياسي غير إسلامي، أي لا يستلهم الإسلام كشريعة وكمرجعية في إدارة الشؤون السياسية .
وهنا فالوحدة الوطنية هي حيلة علمانية لإبعاد الإسلام عن السياسة وعن إدارة شؤون الدولة والتي من المفترض أن تكون دولة إسلامية أي محكومة بالشرعية الإسلامية، ولم يظهر شعار الوحدة الوطنية في مصر بشكل واضح إلا في فترة السبعينات، حيث اعتبره النظام الساداتي أحد أسس نظامه خاصة مع تصاعد المطالب الطائفية للجماعة القبطية في مصر مع ظهور البابا شنودة في فترة السبعينات، وتحول الكنيسة من دار للعبادة إلى دولة موازية للأقباط هي التي تقدم لهم الخدمات، وهي التي يتكلم رئيسها باسمهم في مواجهة الدولة وهو ماجعل قطاع واسع من الأقباط يرفض تدخل البابا شنودة في القضايا السياسية باعتباره رجل دين، وتحدث البعض عن هل الانتماء القبطي للدولة أم للكنيسة ؟ كما أن قطاع من رجال الدين الذين جرى تهميشهم من جانب البابا شنودة قاوموا فكرة التدخل السياسي للبابا في الشؤون العامة، وقاد التوظيف العلماني للوحدة الوطنية ضد الصحوة الإسلامية، وضد المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في مصر لصالح الأقباط التي فجرت أحداث العنف الطائفية في مصر عام 1981م والتي كانت أحد الأسباب التي قادت السادات إلى اعتقالات سبتمبر، فبينما جرى توظيف شعار الوحدة الوطنية في مواجهة الإسلاميين من العلمانيين، استغل البابا شنودة الشعار لطرح مطالب ذات طابع طائفي مثل زيادة عدد الكنائس، والحصول على نسب في الوظائف العليا تساوي نسبة الأقباط، هذا الأمر دفع السادات في بعض خطبه إلى القول " أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة " أي أن الكنيسة هي الأخرى استغلت شعار الوحدة الوطنية لصالح مطالب طائفية في مواجهة الدولة، ولم تلتزم بفكرة المواطنة التي تعد المرادف من وجهة النظر العلمانية والكنسية لشعار الوحدة الوطنية .
عودة الطائفية والحديث عن الوحدة الوطنية
ظل شعار الوحدة الوطنية أحد أدوات الاتجاه الاستئصالي العلماني في مواجهة الصحوة الإسلامية والتيار الإسلامي والمشروع الإسلامي، طوال فترة الثمانينات والتسعينات، والتي شهدت أحداث عنف طائفية في مصر بالوجه القبلي وكان أخطرها أحداث الكشح عام 1989م والتي أعطت مؤشرات على خطر عودة الطائفية والارتباط بالقوى الخارجية وإحساس الأغلبية بأنها محاصرة مع شعور الأقلية بالاستقواء بالخارج، وقبل أن ينصرم القرن الماضي بدأت أمريكا تدخل الجانب الديني في سياستها الخارجية، وأنشأت ما عرف بقانون الاضطهاد الديني أو قانون الحريات الدينية، والذي وضع غالب الدول الإسلامية على اللائحة السوداء باعتبارها دولا تضطهد الأقليات وركزت التقارير السنوية التي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية عن الحريات الدينية على مطالب طائفية للأقباط في مصر، وتكلم آخر تقرير عن اضطهاد الشواذ باعتبارهم أقلية من المنظور الأمريكي، وتوعد هذا التقرير علماء الدين المسلمين أنهم إذا لم يفسروا الدين بطريقة تعبر عن حرية الضمير الديني _أي حق الشواذ في التعبير عن فسادهم - فإنهم سيدخلون تحت طائلة الإرهابيين، وسيتم القبض عليهم في سياق الحملة الدولية لملاحقة الإرهاب من المنظور الأمريكي .(13/207)
أي أن مسألة الأقليات لم تعد فقط دعما علمانيا داخليا عبر شعار الوحدة الوطنية سيئ الصيت، وإنما أصبحت المسألة تدخلاً دوليا لحماية حقوق الأقليات تحت شعار الحماية الدينية لهم، وظهرت دوائر قبطية للتأثير من الخارج مثل أقباط المهجر الذين يتحالفون مع المنظمات الأصولية الإنجيلية، بل ومع المنظمات الصهيونية لدعم المطالب الطائفية لطائفتهم في الداخل، وبدت الدولة المصرية غير قادرة على مقاومة الضغوط الخارجية وفي الوقت نفسه هي تتحرك في محيط أغلبيته مسلمة، لكنها وتحت الضغوط الخارجية حاصرت مظاهر الصحوة الإسلامية، بل وتعقبت التعبير الإسلامي الطبيعي لعوام الناس، وكان أغرب ما قامت به هو الحديث عن الشروط العشرة لبناء المساجد، أي أن الأمر وصل إلى أن تقوم الدولة بمحاصرة المساجد التي تمثل المتنفس الوحيد للناس، وهو ما لم يحدث في تاريخ الإسلام وفق ما نعرف، نعم عرفنا الشروط العشرة لبناء الكنائس باعتبار أن الدولة غالبيتها مسلمة وتنظم أمور أقليتها، لكن أن يصل الأمر إلى حد تنظيم بناء المساجد واختفاء شروط بناء الكنائس فهذا مالم نسمع عنه .
وكان مدهشاً في الأسابيع الماضية أن تحدث حادثتان أثارتا جدلاً كبيراً ويعكسان كيف يتم استغلال مفهوم الوحدة الوطنية بشكل ذرائعي ضد الوطن وضد الإسلام، الحادثة الأولي هي :
تصريحات البابا شنودة في نادي الليونز، والتي طالب فيها بضرورة التمثيل النسبي للأقباط في المجالس النيابية، وأنه خشي أن يفسر سكوته من جانب من سأل وهو قبطي على أنه يخشى الحكومة المصرية، وأكد في حواره مع جريدة الأسبوع المصرية المستقلة إنه يتحدث بلسان طائفة من الشعب هم الأقباط، وقال بالحرف الواحد : إنني يهمني مصلحة قطاع معين من الشعب يريد أن ينال حقوقه " وقادت تصريحات البابا الطائفية إلى انزعاج في الأوساط المصرية أن تكون قراءة كاشفة للوضع الدولي الجديد الذي يجري الترتيب له من جانب أمريكا في المنطقة تحت عنوان " الشرق الأوسط الجديد".
الواقعة الثانية هي التدخل الفج للكاتب "مفيد فوزي" في واقعة منع الداعية الإسلامي "عمرو خالد" من الخطابة من موقعه كقبطي وليس كعلماني، واعتباره أن طرد عمرو خالد هو تأكيد للوحدة الوطنية، ووصفه له بأوصاف جارحة ومهينة وهو داعية إسلامي مثل وصفه له "براسبوتين " وأبو جهل وداعية القنوات الفضائية، كما هلل لميرنا المهندس الفنانة المصرية التي خلعت حجابها، واعتبر الحجاب حجاباً للعقل وحائلاً دون الوحدة الوطنية، ودون الوجه العلماني لمصر وقال " بعودة ميرنا المهندس تكون مصر عادت لمصر الوحدة الوطنية، مصر الحضارة، مصر في مواجهة قوى الظلام والغيبيات ودعاة الاسموكن .
وهذه الواقعة الثانية قادت كتاباً في صحف عديدة لاعتبار ماحدث فتنة طائفية لعن الله من يوقظها، وهاجمت هذه الصحف بعنف ما كتبه "مفيد فوزي" وهو ما جعله يتراجع عن تصريحاته بضغوط سياسية .
وحدة الأمة المفهوم البديل
مفهوم وحدة الأمة مفهوم مركزي في الحضارة الإسلامية، وهو يعني شيئيين هما : التعاضد بين أبناء العقيدة الواحدة، بمعنى أن تكون هناك رابطة خاصة بين أبناء الدين الواحد، ثم الرابطة السياسية التي تقبل بوجود المخالفين في العقيدة، وفق عقد يتبادل فيه أبناء الأمة جميعاً الواجبات والمسؤوليات، فالإسلام يقر الرابطة الخاصة بين أبناء الديانات غير المسلمة على المستوى الاجتماعي أي مستوى ما قبل السياسة، فلهم عبادتهم ولهم طرقهم الخاصة في الأحوال الشخصية، ولكن على المستوى السياسي فإن الإطار الإسلامي هو الحاكم دون أن يخل بالحقوق السياسية لغير المسلمين كأبناء للأمة " لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم " أي أنهم جزء من الأمة وليسوا منفصلين عنها على المستوى السياسي، مع تقدير أن الغالبية هي مسلمة وأن قانونها هو الشريعة الإسلامية .
ومثل مفهوم وحدة الأمة بالمعنى الإسلامي أداة حماية غير المسلمين طيلة أربعة عشر قرناً، حتى إن كتاباً مستشرقين اعتبروا العصور الإسلامية هي عصر الصعود الكاسح للأقليات غير المسلمة .
وتبقى مصر والأمة الإسلامية انتماءً لأبنائها جميعا، على المستوى السياسي طالما كان الولاء لهذه الأمة التي محورها الوطن الإسلامي ،
وعلى الأقليات أن تكون واعية؛ لأن قوتها ومستقبلها في أوطانها وليس في يد القوى الخارجية الدولية القادمة والغازية، والتي تريد أن توظف الأقليات لصالح مخططاتها .
إن معيار الولاء للأمة الإسلامية والتي تعني حماية أراضي وبلدان العالم الإسلامي وشعوبه جميعاً في مواجهة الغزوة الأمريكية القادمة، هي العلة الحاكمة بتعبير الأصوليين لمعيار الانتماء، لا فرق في ذلك بين مسلم أو غير مسلم، أين يكون موقف أي فئة أو طائفة أو جماعة هو الذي سيحدد مدى انتمائها لأمتها، كما أنه سيحدد نجاحها أو إخفاقها في اختبار الانتماء والولاء .
* كاتب وصحفي مصري
================(13/208)
(13/209)
رسالة إلى عقلاء أمريكا
د. وليد عثمان الرشودي 28/10/1423
01/01/2003
امتلأ العالم بأسره بروح الكراهية للإدارة الأمريكية جراء بغيها وغطرستها وظلمها.
وهذه أسطر أكتبها إلى العقلاء لعلهم يرجعون عن سكرة الغرور وحب الذات إلى تحكيم العقل ورعاية الحرمات.
ومع أن الإدارة تدثرت زمناً طويلاً بدثار العلمانية، ورفعت شعارات الحرية والمساواة وغيرها، إلا أن الأحداث الأخيرة وتداعياتها كشفت عن هشاشة هذه الدعوى، وفتحت مجالاً خصباً للتيارات الدينية المتطرفة لتهيمن على مجريات الأحداث وتوجهات السياسة الأمريكية.
إن شعار ( الحرب على الإرهاب ) الذي رفعه هؤلاء إنما تم بخلفية دينية واضحة، وكأن الإرهاب صناعة إسلامية أو ابتكار وهابي !
وهكذا تم وصم المسلمين بالتطرف والإرهاب، وأصبحت المظاهر الإسلامية رمزاً للعنف في وسائل الإعلام، وصارت الجمعيات الخيرية الإسلامية في تقييم الإدارة الأمريكية أوكاراً للإرهاب وممولاً للأعمال التخريبية في أنحاء العالم !!
ولست أحب أن أكرر مآسي الظلم الأمريكي الصارخ، في القضية الفلسطينية أو مسألة السودان أو غيرهما.
ولكنني أقف مع تقرير الخارجية الأمريكية حول حرية الأديان، واتهامات التقرير الموزعة على الدول الإسلامية بممارسة الاضطهاد الديني وعدم احترام الحريات.
ونريد أن نسأل الإدارة الأمريكية، ليس عن احترام الحريات الدينية داخل بلدهم، بل : هل تركوا الناس وشأنهم وحرياتهم في بلادهم وليس في بلاد الأمريكان؟ فما بال التدخل الأمريكي في المدارس الدينية، وفي الأسلوب الحياتي، وفي المناهج السلوكية.
- إن على كل إنسان يحب ألا يعتدى عليه ألا يعتدي على الآخرين، يستوي في ذلك الاعتداء الحسي والمعنوي، وعلى كل من ذاق ويلات الإرهاب بجميع صوره الإرهاب الفكري والعسكري ألا يرهب الآخرين؛حتى لا يرهب هو وأن يعامل الآخرين بما يحب أن يعاملوه به وهذا موجود في شريعة الإسلام كما في الحديث (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) وفي القرآن قال تعالى : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل:126) وقال تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )(البقرة: من الآية194) (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190) .
- إن على من يحب الخير للآخرين أن يمتثل الخيرية في نفسه قبل ذلك، فلا يصح أن ينصح ممول المخدرات الناس أن يدعو التعاطي، كما لا يصح من فاجر أن ينصح الناس بترك الفجور، فالقدوة هي أساس قبول القول والعمل، والسلطة الحقيقية ليست ما ينال بالقوة والحديد والنار، فهذا لا بد أن يلحقه الضرر بنفس سلاحه ( ومن قتل بالسيف فبالسيف يُقتل ).
فكل دولة سادت الناس بالعدل خلدت وحفظ ذكرها بخلاف الدولة التي سادتها بالقوة والهيمنة .
- إن على من يريد نشر الخير للناس أن يشمل جميع الفئات، ولا يخص فئة دون فئة أو جماعة دون جماعة، فما أقبح الانتقائية فأين خير أمريكا من ايرلندا وأفريقيا والصين وغيرها من البلاد التي تعاني ما تعاني ؟ فلماذا لا تتحرك في رفع الظلم عنهم كما تزعم هي في حبها للخير للناس، أم أن من أوقع الظلم هناك يختلف عمن أوقع الظلم هنا في المصالح المتبادلة وتوزع قوى الهيمنة ؟.
- إن من أعظم الجرائم وأخطرها حينما يُنصب على الناس من لا يرضونه، فإنه بهذا يفتح باب الدماء والشحناء وتنتهك الحريات والأخلاقيات وصوره ذلك في أفغانستان ظاهره اليوم، وربما في العراق غداً، حتى لو ادعوا الديمقراطية وهي ديمقراطية قسرية فرضتها قوة الهيمنة لا المحبة والمنفعة، فما يظنه من يحب الخير للناس أنه جاءهم بالخير فإنما جاءهم بالشر وأهل الدار أدرى بما فيها، فليس لصناع القرار في البيت الأبيض التحكم في البلدان وسكانها بوجهة نظر فردية أمريكية، فإن كل أهل بلد أدرى بما يصلح بها، ولو تُرك أهل العراق ونظامه دون تدخل أمريكا طوال السنوات الماضية لكانت الأمور أفضل بكثير للعراق وأهله وشعبه و للعالم أجمع.
- إن على طالب العدل أن يقيمه على نفسه أولاً، فلا يظلم أحداً، ثم ليطلب العدل للآخرين بعد ذلك، وكل من أقلع عن ظلم فعليه أن يصطلح مع من ظلمه ليكون بذلك قدوة بين العالمين، وأمريكا حتى يضرب لها تمثال العدالة كما عندها تمثال الحرية فلا بد لها أن تُرجع إلى الناس مظالمهم وأعظمها مظلمة هيروشيما التي أبادت بها مدناً بأكملها، وأضافت إلى تاريخها أعظم مجزرة عالمية لم يعرفها التاريخ من قبل، ثم مظلمة فيتنام وألوف القتلى من غير ذنب ناهيك عن جرائم الجاسوسية، ولا أريد أن أعكر الصفو بذكر المظالم على الأمة الإسلامية في فلسطين وليبيا والعراق والسودان وكل بلد من المسلمين نالها شيء من ويلات أمريكا، فيا أيها العقلاء أفيقوا من سباتكم إن أردتم نشر العدل بين العالمين.(13/210)
لقد علم الجميع أن السدود مع قوتها وصلابتها وتحملها لقوة دفع الماء يتلفها الفأر الصغير، ويعلم الجميع أن الماء مهما بلغ الحاجز الذي يحجزه ثم كان فيه خرقاً لتدافع الماء تجاه هذا الخرق ليخرج منه، وهكذا الشعوب مهما بلغت القوة التي تسيطر وتفرض قوتها عليها فسوف تبحث عن ذلك الخرق، ومتى ما تسلطت أمريكا على شعب من الشعوب فإنه يقوم بواجب المدافعة مهما بلغت تكاليف تلك المدافعة في الأرواح والأموال، ولعل العقلاء يتذكرون شهداء الجزائر وليبيا وغيرهم في وجه المستعمر .
- إن اعتداء ابن عمي علي أحب من اعتداء الغريب، وهذه نظرة عربية معروفة، ولذلك فالتفكير الأمريكي في تخليص بعض الشعوب من ظلم حكامها كما يقولون مرفوض عند مقارنته بحكم الغريب عليهم، إذ مهما يكن من أمر حكامهم فهو أهون عليهم من تولي الغريب عليهم، ولقد ذاقت الشعوب ويلات الاستعمار ورأت خاتمته في أفغانستان .
- معاشر العقلاء إن من أحب أن يعيش في سلام فعليه أن يحترم اختيار الآخرين وها هي اختيارات أمة الإسلام في العالم اليوم قد اختارت من يرفع شعار الإسلام في تركيا وباكستان والسودان والبحرين، فضلاً عن من هي إسلامية من غير شعارات كالسعودية، فاحترموا اختيارات الشعوب تقدم لكم العيش الذي تطلبونه بسلام ونعيش معكم في وئام، هذه كلمات سريعة أطلقها لكل من أحب أن يعقل ويعرف العاقبة وأنه لا يغنى التجبر ولا التكبر، فإن الظلم عاقبته وخيمة ولله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وهو العزيز الرحيم.
===============(13/211)
(13/212)
التقسيم التوحيدي:سلاح أمريكي جديد!
د. محمد يحيى * 18/10/1423
22/12/2002
من الشائع في الكتابات السياسية اليوم أن أمريكا تسعى الآن إلى عملية تقسيم واسعة النطاق للعديد من البلدان الإسلامية ، وأولها هو العراق الذي يقال إن الخطة التي تقضي بتقسيمه إلى ثلاثة أجزاء هي دولة كردية ودولة سنية ودولة شيعية ، ويرد في الأخبار كذلك تقسيم السودان إلى جنوب وشمال ، بل وربما إلى دول أخرى في الغرب والجنوب الغربي وحتى داخل الدولة الشمالية نفسها ، وآخر هذه التقسيمات هو تقسيم السعودية إلى دول شرقية تحوي المواد البترولية ودول غربية تضم الأماكن الإسلامية المقدسة كما يسمونها، وحتى هذه الدول الغربية قد تنقسم إلى أجزاء شمالية ووسطى وجنوبية وهناك بالطبع الحديث القديم حول تقسيم مصر إلى دولة قبطية ونوبية وإسلامية( أو بالأصح علمانية ) ثم هناك حديث عن تقسيم الصومال وهو أمر واقع وتقسيم الجزائر بفصل دولة للبربر وتقسيم إندونيسيا ، وقد بدأ بالفعل بفصل تيمور الشرقية كدولة نصرانية وقد يستمر بفصل أجزاء أخرى .
وقد يمتد حديث التقسيم ليطال إيران مثلا بفصل جزء كردي وجزء عربي سني وحتى جزء أذربيجاني وكذلك إلى تركيا بفصل جزء كردي وإلى نيجيريا بفصل عدة دول في الجنوب الموصوف خطأ بالنصراني.
سلاح استعماري
والواقع أن التقسيم والفصل والتجزئة والتفتيت هي من الأسلحة المفضلة لدى الدول الاستعمارية بالذات لضرب الدول والكيانات الإسلامية .
وهو سلاح فعال لإيجاد دويلات صغيرة تقوم على أقليات دينية أو عرقية أو ثقافية غير إسلامية ، معادية للإسلام تقبع في مناطق استراتيجية الموقع أو تملك موارد طبيعية غنية وتكون موالية للغرب وتستخدم سلاحا لضرب ما تبقى من الكيانات الإسلامية الكبيرة والتى تتحول إلى حالة ضعف وتشرذم داخلي وحالة إضراب وفقر بعد فصل الدويلات التابعة .
وعملية التقسيم والتجزئة تحقق أهدافا كثيرة للدولة الاستعمارية ومنها أمريكا فهي كما قلنا توجد دويلات صغيرة تابعة يمكن التحكم فيها وهي سوف تكون بطبيعتها موالية وعملية للأمريكان ومتحمسة في خدمتهم في محاولة لشكرهم ورد الجميل لمساعدتهم كما أنها تكون عادة وكما قلنا قابعة في مواقع استراتيجية أو مالكة لثروات طبيعية ثمينة مما يجعلهم يسيطرون على هذه الثروات ويستغلون الموقع الاستراتيجي لمصلحة سياستهم أو كقواعد لقواتهم ، كما أن التقسيم يضعف الدول الإسلامية ويلقي بها في حالة من الفقر لضياع الثروات والوقوع في حالة من الإضراب العام بعد أزمات الانفصال مما يقضي على أية آمال أو احتمالات لها في التقدم والوصول إلى وضع القوة والاستقلال ..وهناك العديد بالطبع من الفوائد التي تعود على الدول الاستعمارية من ممارسة التقسيم والتجزئة .
تقسيم من نوع جديد
ولكن لا يجب أن يكون الحديث عن التقسيم والتجزئة حديثا مرسلا وسهلا يطلق في كل وقت بلا تمييز ولا تدقيق ، فهناك حقيقة غائبة عن هذا الحديث في كتابات الصحف المستعجلة وهي أن أمريكا كقوة غاشمة استعمارية أكبر قد تجاوزت الآن عملية التقسيم والتجزئة للدولة المستهدفة بمعناها وشكلها القديم غير المميز .
إننا الآن إزاء حالة جديدة وفريدة من التقسيم الجديد النوع يمكن أن نسميه بالتقسيم التوحيدي، أو التجزئة التكاملية، وهي حالة تحقق نفس أهداف النوع القديم من التقسيم، ولكنها تتفادى عيوبه ومنها إثارة الرأي العام فى البلد المستهدف وتحفيزه للرد والدفاع ،ومنها مخالفة القوانين الدولية بشبهات التدخل وغير ذلك، والواقع أن النوع الجديد من التقسيم التوحيدي نتيجة لعيوب النوع القديم أو التقليدي من التقسيم يحقق نفس الأهداف القديمة ويزيد عليها أهدافا جديدة ، كما يحسن من كفاءتها وبذلك أخذ يدخل الساحة الآن وبقوة ، ولكن ما الذي نعنيه بالتقسيم التوحيدي ، إننا نعني ببساطة نوعا من فصل الأقليات وبالذات الدينية عن جسد الدولة أو الكيان الإسلامي الأكبر ووضع هذه الأقلية في حالة قوة وهيمنة وسيطرة من مواجهة الأغلبية المسلمة دون أن يستتبع ذلك الشقاق هذه الأقلية أو الأقليات في هيئة كيان أو دولة مستقلة منفصلة في هذا الجسد، وإنما تظل هذه الأقلية على حالة القوة والهيمنة هذه داخل الجسد الواحد لكي تسيطر وتهيمن وتتحكم في الأغلبية ( المسلمة ) وذلك كله من وراء شعارات الوحدة الوطنية والجسد الواحد والعلمانية بالطبع .
سودان علماني(13/213)
وهذا النمط الجديد هو بالتحديد ما وجدناه بداية في السودان مع تقوية حركة جارانج إزاء الاتفاقات التي عقدتها حكومة السودان مع هذه الحركة بفضل النفوذ الأمريكي والأوروبي تصايحت أصوات في عدة بلدان عربية تتحدث عن مخاوف التقسيم وفصل الجنوب عن الشمال وكانت الحركة المتمردة تنفي ذلك وتؤكد حرصها على وحدة السودان بينما يشكك البعض في هذه التأكيدات ويصفونها بأنها مجرد ألاعيب سياسية ودعائية لإبعاد الأنظار عن هدفها الحقيقي، وهو إقامة دولة مستقلة في جنوب السودان ، ولكن في الحقيقة فإن حديث جارانج وعصابته حول وحدة السودان هو حديث صحيح حقيقي بل وطبيعي من وجهة نظرهم لأن المسألة فيه تتوقف على نوعية السودان الذي يريدونه موحدا، أنه حسب كلامهم وكلام أنصارهم الأجانب والسودانيين وحتى المصريين من المتعاطفين معهم وبالذات من مجموعة الاستراتيجيين إياهم والطائفيين هو سودان علماني في الشمال تنزع منه الهوية الإسلامية والعربية وتقيد حياته وعقيدته الإسلامية وتمنعها، بينما تطلق كل الحرية للهوية المسيحية المزعومة للجنوب وذلك تحت شعار الحرية وحقوق الأقليات ومنع طغيان الأغلبيات .
إن حركة جارانج قد ذاقت طعم القوة بالدعم الدولي الواسع النطاق والمساعدات الهائلة من كل الأنواع ومن كل الجهات ( بما في ذلك إسرائيل ) لم تعد تكتفي بحلم إقامة دولية مستقلة في الجنوب حتى وإن امتلكت هذه الدولة موارد البترول والثروات الطبيعية لكن القوة العسكرية الهائلة التي أعطيت لها مع تدخل دولة خارجية أخرى معها وآخرها إريتريا، ومع إضعاف الطرف الآخر هو الحكومة السودانية الشرعية ومع خيانة بعض الأطراف السودانية الداخلية والعربية كل هذا أعطىالحركة المتمردة الطموح لكي تسير ، ومن موقع القوة والهيمنة والعلو على كامل أراضي السودان بحيث تصبح هي الطرف الأقوى في معادلة كونفدرالية أو فدرالية يتم التوصل إليها ويقيد الطرف الآخر بدعاوى العلمانية أو مساواة الأقليات أو التعددية وما أشبه بعد تفسير هذه الشعارات على النحو الذي يؤدي إلى تكبيل الأغلبيات وهيمنة الأقليات أو بالأصح إلى تكبيل ومنع وحصار الإسلام والعروبة ( باعتبارها الأطراف المعتدية أصلا والمطلوب تقيدها وعقابها ) ومنح الحرية الواسعة للأقليات ( النصرانية فقط وليست الجنوبية كلها التي تضم المسلمين والوثنيين ) باعتبارها هي الضحية التي طالت معاناتها وجاء آوان تعويضها .
تقوية النخب العلمانية
هذا هو ما نعنيه بالتقسيم التوحيدي وهو لن يطبق في السودان وحده بل هناك دول عديدة مرشحة لتطبيقه وهي ليست بعيدة بحال عن السودان ففيها يجرى تشجيع وتكتيل وتقوية الأقليات الدينية أو العرقية أو الثقافية ( العلمانية مثلا ) وتركيز مفاتيح القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في يدها، مع إضعاف الأغلبيات المسلمة بشتى الوسائل وفي كل الاتجاهات والمجالات تحت شعار المرحلة الرئيسة، وهو ضرب التطرف الإسلامى ومعه كوكبة الشعارات المصاحبة مثل العصرنة والعلمنة والتحديث وما شابه ، لكن عملية تقوية الأقليات وإضعاف الأغلبيات المسلمة لا تصل إلى حد الانفصال الفعلي، أي الرسمي المعلن عنه في هيئة دولة وجيش وعلم واسم ومقعد في الأمم المتحدة ... إلخ، بل تظل في إطار الدولة الأهلية القديمة الواحدة ولكن مع فارق جذري وجوهري، وهو إبعاد الأغلبيات الإسلامية عن السيطرة على أجهزة ومؤسسات هذه الدولة ومنح هذه السيطرة للأقلية النخبوية العلمانية المتغربة ( التي لا تزال تحمل أسماء إسلامية تفاديا للإثارة النهائية للجماهير الإسلامية ) والتي تحكم ومعها الأقلية القوية تحت شعارات المساواة والديمقراطية بمفاهيمها المزيفة والمشوهة وليس الحقيقة .
وبهذه الطريقة تصل الأقليات ومعها القوة الاستعمارية الاستكبارية الكبرى المؤيدة لها ( أمريكا ) إلى نفس أهداف الانفصال والتقسيم لكنها تضيف إليها ميزات جديدة وهي أن الأقليات لا تقيم دولة خاصة بها تنعزل فيها وتتغلف فيها على نفسها بحيث تتولد داخلها صراعات وانقسامات وضغوط تضعفها أو بحيث تدخل في حرب قد تفضح مخططات ومصالح الدولة الكبرى المشجعة لها وإنما تكون لها قوة وهيمنة وسيطرة داخل الدولة الواحدة الأصلية على الأغلبية الضعيفة وبذلك يحدث لها أمران أولهما تماسك قوتها الداخلية في وجه العدو الإسلامي والثاني هو توجيه أية قوى داخلية شرسة نحو الهيمنة على الإسلام المحيط بها .
تحكم الأقلية في الأغلبية المسلمة(13/214)
كذلك فإن هذا الترتيب وهو التقسيم التوحيدي يتجنب إثارة مشاكل تترتب على الانقسام التقليدي كما أنه في الوقت نفسه يضمن وجود الأقليات الدينية القوية داخل الدولة الموحدة لكي تحكمه وتربطه الأغلبيات الإسلامية وتسيطر عليها بالمشاركة مع النخب العلمانية المتدربة التي تحمل أسماء إسلامية .. ذلك لأنه لو انفصلت هذه الأقليات الدينية في دولة خاصة بها فإنه سوف ينشأ رد فعل مضاد داخل الدولة المتبقية ذات الأغلبية المسلمة الصافية يطالب بإقامة حكم إسلامي صريح في مقابل الدولة الدينية الجديدة ، وأمريكا بالطبع لا تريد مثل هذا التطور بل تريد أن تهيمن العلمانية المتغربة على أمور الحكم في البلدان الإسلامية وتريد في الوقت نفسه أن تصل الأقليات الدينية غير المسلمة إلى وضع من الهوية الدينية الخاصة بها والقوة والاستقلالية القائمة على هذه الهوية الدينية ، والحل السحري لتحقيق ذلك هو ذلك التقسيم التوحيدي الجديد الذي يبقي الأقلية رسميا داخل الكيان الموحد القديم لكنها تبقى في موضع القوة المسيطرة أو الفعالة المتمتعة بالهوية الدينية المعلنة تحت دعاوى المساواة بينما لا يسمح هذا الوضع برد فعل إسلامي يطالب بإدارة دولة إسلامية في مقابلة الدولة النصرانية أو الأقلية؛ لأنه ببساطة لا توجد مثل هذه الدولة، وتظل هذه الأغلبية المسلمة في هذا الوضع تحت حكم النخبة العلمانية المتغربة ومعها حكم الأغلبية الدينية وتكبت مشاعرها وهويتها بحجة مراعاة الوحدة الوطنية من ناحية، وبحجة مراعاة متطلبات العلمنة والتحديث من الناحية الأخرى .
إننا عندما نتحدث عن التقسيم وهو أمر حقيقي وواقع كأداة للقوة المتغطرسة لا يجب أن نبصر كلامنا على التقسيم التقليدي الذي أخذ يختفي من على الساحة بل يجب أن نضع في اعتبارنا التقسيم بمعناه الجديد التوحيدي وهو أخطر بكثير على مصالح الأمة الإسلامية ووجودها نفسه من الانقسام التقليدي .*مفكر إسلامي وأستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة
==============(13/215)
(13/216)
سياط المستضعفين (1/2)
محمد عبد الله بن الشيباني * 24/8/1423
30/10/2002
أعلنت حالة الطوارئ في المستشفيات الإسرائيلية وأقسام الشرطة والأجهزة الأمنية في كافة أرجاء القدس المحتلة والمناطق المحيطة بها بعد سماع انفجار قوي وتبين في ما بعد -حسب وكالة عيتيم" الصهيونية" التي أوردت الخبر- أن الانفجار ناتج عن عجلة سيارة"باص" تجاوزت السرعة العادية(1).
وقبل ذلك بيومين أعلنت حالة الاستنفار القصوى في صفوف هذه الأجهزة والجيش وبعد 24 ساعة على إعلان حالة الطوارئ، هزَّ الجامعة العبرية دوي انفجار مريع.
هذان الحادثان جاء أولهما ليترجم حالة الهلع والذعر والخور التي خلفتها سنتان من انتفاضة الأقصى، والتي تسود الدولة العبرية
أما الثاني فأطار مع الريح أسطورة "الأمن "ومعجزة "الموساد"فضلاً عن هيبة الجيش وعيون التكنلوجيا"الباصرة"، وإلاَّ فأي معنى لكل هذه الأجهزة، إذا كانت تستنفر كافة أفرادها إضافة إلى المستشفيات لمجرد انفجار" إطار" سيارة؟ ثم يسفر استنفارها واستعدادها عن مثل هذه العملية التي وضعت بدقة فائقة في موقع حرج وفجرت بتقنية عالية.
هذه الحادثة ليست سوى واحدة من آلاف الحوادث التي أرغمت المتعاطفين مع الكيان الغاصب -وحتى أخلص أهله له - أن يطلقوا صرخات آيسة تنذر بزوال الكيان بعد انهيار كافة مقومات بقائه.
وما المقال الذي نشرته صحيفة (يدعوت احرنوت) بقلم الإرهابي "نتنياهو"بعنوان" وجود إسرائيل بات مهددًا "وما ذكر من (وهن وضعف القوة الإسرائيلية الفعلية والمعنوية في عيون العرب)، وقول أخيه في الإرهاب "بيريز":(إن الصراع وصل إلى مرحلة حرجة وأن مستقبل الصراع أصبح يلفه الغموض)(2)، وقول أحد الصحف الإسرائيلية وكان الأكثر صراحة:"عن عيد اغتصاب فلسطين": (إن الاستقلال الذي نحتفل به لم يعد له معنى).. تلك شهادات أماطت اللثام عن بعض الإنجازات الكبرى "التي حققتها انتفاضة الأقصى المباركة وعن ومضة من الأذى البالغ ، والهزة الشنيعة التي أصابت بها المجتمع الصهيوني، حقائق ناطقة وإن لم يصدقها المدجنون بقدرات الموساد الخارقة والمؤمنين ببشارة "الكيان" الذي لا ينال منه.
لقد كانت انتفاضة الأقصى بمثابة رحمة وزعت الصمود والتحدي على كافة الشعب الفلسطيني والشعوب الإسلامية من ورائه،وأصاب كل المجتمع الإسرائيلي بأذى .
وقد ساعدت عدة عوامل في إنجاح هذه الانتفاضة رغم "الصفقات" المربحة "والصفعات" المؤلمة التي استهدفت زعزعتها والنيل منها:
أولاً: ارتفاع روح التضحية والجهاد/
لاشك أن دعوات الحكومات الإعلامية للتطبيع وهرولتهم "العملية "إليه،ودعوة "حكماء " العلمانية إلى تحكيم العقل بدل العواطف الجياشة واعتماد المصالح بدل المبادئ في تحديد العلاقات والتحالفات، لاشك أنها كانت أكثر زخمًا، وأجهر صوتًا وأكثر صخبًا،إلا أن انتفاضة الأقصى أثبتت أن الصوت الرافض للتخلي عن الذات مقابل "أوهام" السلام كان أصدق قيلاً وأكثر نصيراً، فما أن انطلقت حجارتها الأولى حتى أصبح التطبيع - وكما هو الواقع- أشد المصطلحات مقتًا لدى الشعوب ، والمدافع عنه خائنًا ، والعمليات الإستشهادية خيارًا إستراتيجيًا لا يقبل النقاش، والدعوة إلى المقاطعة فخرًا، وأصبح جل شباب فلسطين مشاريع استشهادية ،وزاحمت الفتيات الفتيان وانتقل وجدانهم من أرض فلسطين المباركة إلى فسيح جنة عرضها السماوات والأرض.
ثانيًا: توازن الرعب..المبادرة الفلسطينية/
اكتشف المجاهدون أن لكل سلاح متطور سلاحًا بدائيًا مساويًا له في التأثير مشابها له في النتائج، وأن سياط المستضعفين مع الإيمان و التحدي تفعل مالا يفعله سيف المستكبرين مع الخواء الروحي والإفلاس النفسي فظهرت من سياط المستضعفين ضروب نقف عند آلمها بإيجاز:
السوط الأول:الحجارة والمقلاع والصدور العارية .
وهذه آية الإيمان وعلامة التحدي الكبرى، وما طالعتتا وسائل الإعلام بصور اليهود مختبئين عن حجارة الأطفال في مصفحاتهم ودباباتهم أو وراء الأبنية الإسمنتية والحواجز الرملية إلا دوى في وجدانتا قوله -عز وجل- (لا يقاتلونكم جميعًا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر)
السوط الثاني:العمليات الاستشهادية:
لم يكن (جمال سليم) مبالغًا حين قال:"إن القنبلة البشرية- الاستشهاديون- ستنتصر على القنبلة النووية التي تتباهى بها إسرائيل"(3) وحسب إحصاءات إسرائيلية، رسمية فإنه تم تنفيذ 130 عملية استشهادية، 95 منها ناجحة"(4) إلا أن الذي لم تذكره الشرطة الإسرائيلية أن هذه العمليات كانت تجمع في توقيتها ومكانها بين البعدين السياسي والعسكري الأمني، مما أربك أجهزة دولة العدو وأرهب مواطنيها وما لم تذكره أيضًا هو أن طلعة الفتيان والفتيات البهية على شاشات وسائل الإعلام وهم يبتسمون للموت وهم في مقتبل العمر، أشاعت جوًا عامًا من التوق للشهادة في سبيل الله، وبشَّرت المسلمين أن هناك من يبذل دمه نصرة للإسلام و أهله وأقنعت الرأي العام العالمي أن هناك أذى بالغًا دفع هؤلاء إلى مثل هذه الأعمال .
السوط الثالث: مصانع الأسلحة :(13/217)
بعد عدة دلائل أشارت إلى وجود مصانع سرية لدى الفلسطينيين، حسمت قناة(أم بي سي) الأمر في الشهر (3-2002) بعرضها تقريرًا مصور ومفصلاً عن أحد هذه المصانع حيث قام المهندسون بشرح خطواتهم لصناعة الأسلحة وتعبئة العبوات والأحزمة الناسفة للاستشهاديين ، ووحدات لتطوير الصواريخ الصغيرة، ومدافع الهاون،وفي خبر عاجل أوردته (يدعوت أحرنوت) يوم (28-08-002)) "أن جنود العدو عثروا في جنين على مختبر كبير لتصنيع المتفجرات، وعثروا على عدة عبوات ناسفة جاهزة مختلفة الأحجام(5).
السوط الرابع: السيارات المفخخة:
وهي أقدم الأساليب وأشد هذه "السياط " فتكًا وكانت عنوان العام الأول من الانتفاضة، قبل أن تزاحمها الأحزمة والعبوات الناسفة وتحد من فاعليتها الحواجز الأمنية.
السوط الخامس: الصهاريج الملغومة:
وقد تمت عمليتان -على الأقل- إحداهما في مجمع " بي غليلو" وتزامنت مع اجتماع أمني للحكومة الإسرائيلية لبحث جاهزية الدولة الصهيونية للتعامل مع عمليات كبرى، كما لو أن هذه العملية نجحت، والثانية وقعت (08-08-002) في أكبر مجمع للغاز في الكيان وقالت الشرطة الإسرائيلية إن 3000 شخص -على الأقل- سيموتون لو لم تنفجر الشاحنة المحملة بـ 15طنًا من الوقود(6) قبل المكان المحدد بأمتار ووصفتها بالكارثة التي لا يمكن تصورها، ومنذ بداية العام 2002 بلغت تكاليف الإجراءات الأمنية التي اتخذتها الشركة 17مليون شيكل/.
السوط السادس:الأسلحة الرشاشة:
وعنها تقول مصادر الشرطة الصهيونية- حسب مجلة العصر- أنه تمت 13 ألف عملية بمختلف أنواعها، لقي فيها 660 مستوطنًا وجندياً حتفهم وأصيب 3500 بجروح متفاوتة، وقال المفتش العام لشرطة العدو "شلومو اهرونيتشي": وقع منذ يناير 2002 حتى يوليو 1071 عملية أصيب جراؤها1935، توفي منهم 238 وأحبطت 50 وأبطل مفعول 148 عبوة ناسفة (7) ويضيف "هذه ليست معطيات شرطة جافة بل هي صورة للوضع الاجتماعي في إسرائيل" الحالة التي اختصرها الصحافي الإسرائيلي "فيرد لويتش من" يدعوت"بالعنوان:(إسرائيل : يهود أقل زواجًا أقل عمالاً) .
السوط السابع: نهب المستودعات:
لم يعد يشغل بال الصهاينة وصول الفلسطينيين إلى مستودعات الذخيرة ومخازن الأسلحة الإسرائيلية، فهذا أمر أصبح شبه شهري، وإنما أصبح شغلهم الشاغل ما آذنت به هذه العمليات من احتمال وصول الأيادي الفلسطينية إلى المواد المشعة والكيماوية بعد وصولهم إلى المستودعات الصهيونية عن طريق اختراق التحصينات الأمنية وشراء ذمم الضباط ، ونقلت محطة التلفزة الإسرائيلية "الثانية" الجمعة (11-5-2001) أن سرقة لمستودع إسرائيلي أسفرت عن نهب42 قذيفة هاون و10 قذايف مضادة للدبابات و 4000 طلقة رشاش و 10000 رصاصة بندقية والطريف أنه تم نقل هذه "الغنيمة" على الحمير إلى غزة حسب القناة الإسرائيلية الثانية (8)
السوط الثامن: جيش الرعب:
أسفرت سنتان من انتفاضة الأقصى عن انكشاف ضعف اليهود النفسي وخلفت حالة هلع وذعر أصبحوا معها يحسبون كل صيحة عليهم، وفي هذا المنحى ذكرت الشرطة الصهيونية أنها تلقت منذ (يناير-2002) وحتى فاتح يوليو أكثر من مليون و700 ألف اتصال هاتفي منذر بوقوع عملية أو الاشتباه بجسم غريب(9) أي بمعدل 9239 اتصالاً يوميًا، هذا ولم يسفر اتصال واحد عن كشف عملية واحدة.
السوط التاسع: المقاطعة :
وهي التعبير الحقيقي عن صحوة الضمير العالمي وازدياد الوعي الإسلامي بالقضايا الكبرى، ولم تعد المقاطعة مقتصرة على المسلمين في الدول الإسلامية، بل ولا على المسلمين عمومًا وفي هذا المعنى وقّع أكتر من 750 أكاديميًا غربيًا على دعوة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، ودعت جمعية النقابات البريطانية الكبرى إلى مقاطعة إسرائيل. وقد انخفضت صادرات العدو -حتى إلى أمريكا- فقد انخفضت بنسبة 10% (10).
عاشر السياط:
أخيرًا نعرج على أشهر إبداعات الانتفاضة: سلاح التحدي.
إن شعبًا شاهد بعينيه ما وقع في جنين، ثم فكر في التحدي لشعب صمود، فكيف إذا رأيت الذين عايشوا فصول مجزرته المرعبة، وهم يتعالون على كل هذا الأذى فيخرجون من هذا الجحيم بهمة أقوى وعود أصلب ؟
لكن ..ما النتيجة؟* كاتب وشاعر شنقيطي
أصوات المغالين بأسطورة" الأمن "الدائم وأكذوبة "الرادع "النووي" و الجيش الذي لا يقهر قد بحت تحت مطارق الحقائق الواقعية المتتالية ، وأبان الصمود الفلسطيني- وبوسائل بدائية- أن الكيان كله نقطة ضعف وكله ثغرة أمنية .
صحيح أن الصهاينة يتبعون من أساليب المخادعة والعمل في الظلام والوسائل القذرة مالا يستخدمه المسلمون ولا يستحلونه ، وأن جل الإعلام والساسة الغربيين يخشون تلك الأساليب، وكل ذلك لم يمنع الشعوب أن تكتشف زيف دعوتهم،ولم تمنع اقتصادهم أن ينهار ولا الأصوات المنددة بهم أن تعلو ولا الانتفاضة أن تعبث بمقومات وجودهم وتستنزف مواردهم ،ولنستعرض شهادات من صحائفهم التي يصدرون عن حقيقة الواقع الذي يعيشون ، لنقف على مدى الانهيار الكلي والإفلاس العسكري والسياسي فضلا عن الضغط العصبي والنفسي، الذي أصبح إخوان القردة يصطلون به من لذع انتفاضة الأقصى المباركة(13/218)
الاقتصاد الصهيوني ...وفقدان المناعة.
أصيب الاقتصاد الإسرائيلي بـ"داء" فقدان المناعة المكتسبة من جراء إصابته بفيروس"الذعر" وبكتيريا "الخوف من" مستقبل يلفه الغموض" فرصدت أموال الدولة لتغطية نفقات الحرب، وهربت رؤوس الأموال إلى الخارج ،وقيل على السياحة السلام، ولم تجد أمام هذه الحالة مضادات"المساعدات الخارجية " الحية السخية خصوصًا الأمريكية.
عناوين وأرقام:
ثمن السلام مع بدء مسيرة التنازلات السلمية91 بدأ الاقتصاد الصهيوني يتطور وأعطته أوسلو93 دفعة قوية، وكادت سنوات التطبيع بعد ذلك أن تخلق له موطئ قدم ثابتة في الأسواق العربية، لولا أن تداركنا الله برحمة انتفاضة الأقصى، فعصفت بمكاتب رعاية "المفاسد" الصهيونية وبينت أن التسوية بين الظالم والمظلوم والمعتدِي والمعتدَى عليه، والمحتل والمحتلة أرضه لا يمكن أن تكون تسوية سلمية .
خسائر بالجملة قال مدير شركة ميتاف الصهيونية إن خسائر الاقتصاد الصهيوني بلغت في هذا العام2002 وحده: 28 مليار دولار وهو ما يساوي -حسب المصدر- 10% من أملاك الإسرائيليين (11) وبشكل أوضح قال : بلغت خسائر هذا الشهر 14 مليون دولار، وبلغت البطالة 11%حسب cnn وكان مما ترتب على هذه الخسائر العامة ما يلي:
1) إغلاق المشاريع الاستثمارية: وفي هذا الصدد أعلنت دائرة الإحصاء المركزية أن 37 مشروعًا استثماريًا أغلقت من أصل 42 تم افتتاحها سنة 2001 وعزت السبب إلى "الأوضاع الأمنية المتدهورة"(12)
2) تحويل الأموال إلي الخارج: ولكي تتصور حجم هذه الأموال المهربة إلى الخارج استمع إلى راديو"الكيان" وهو يقول في شهر مايو 2002 وحده حول للخارج مبلغ 133 مليون دولار، وسحب من صناديق الائتمان مبلغ ملياري شيكل حسب مدير شركة" ميتاف" (13) بل قال رئيس قسم مراقبة العملة الأجنبية البنك المركزي للكيان أنه حول من 20-9-01 إلى يوليو-2002 مبلغ مليار دولار(14)
3)التسريح الجماعي للعمال : وهو نتيجة طبعية لأي تباطؤ وركود اقتصادي فضلاً عن انهيار شبه شامل، وتوالت إعلانات التساريح للعمال، وقالت صحيفة معارف الإسرائيلية إن 20 ألف سيتم تسريحهم من قطاع التكنلوجيا وحده و أن ألفًا سيتم تسريحهم من شركة الصناعات العسكرية(15) و65 ألفًا من شركات السياحة فضلاً عن شركات البناء وقطاع الزراعة .
القطاعات الحيوية وبنظرة سريعة إلى القطاعات المهمة في اقتصاد الدولة العبرية تبين ما يلي :
قطاع السياحة: تم إغلاق 25 شركة سياحية ،والاستغناء عن خدمة 65 ألف عامل في القطاع وتدنت السياحة ب70% حسب cnn نقلاً عن (للآسوشيتد برس) ،وانخفض عدد السواح بـ65%.
قطاع النقل: وبلغت خسائره 500 مليون دولار(16) وبلغت أرباح شركة "العال" العكسية 240 مليون(17) ولأن هذا القطاع استهدف زعزعته عاملان :أولهما العلاقة الغرامية بين الاستشهاديين والباصات.
الثاني: تأثر النقل الجوي أولاً والبري ثانيًا بانهيار قطاع السياحة.
قطاع التكنلوجيا: وفيه تراجعت قيمة الأسهم المعلنة في "ناسداك" ل80 شركة إسرائيلية من 54 مليار دولار إلى34 مليار دولار(18) وهذا ما يفسر توقع (يدعوت احرنوت) بفصل هذا العدد الهائل 20 ألف عامل من هذا القطاع.
القطاع المالي: ونقتصر على هذه العناوين البارزة، فمن موقع صحيفة يدعوت "وتيرة التضخم المالي ترتفع إلى10.7%(19).."تراجع الشيكل أمام الدولار وباقي العملات "وبلغ تراجع الشيكل أمام الدولار منذ بدء الانتفاضة 36%" حجم إيرادات الدولة تراجع بنحو مليون دولار "وانحفض معدل الأجور بنسبة 5.8% (19*)
قطاع الزراعة: وبلغت خسائره 127 مليون دولار(20) من جراء أجواء الحصار وضعف القدرة الشرائية للفلسطينيين والصهاينة واتساع دائرة المقاطعة
شركة الصناعات العسكرية : جاء في عنوان ليدعوت أحرنوت :عمال "الصناعات العسكرية يغلقون الشوارع وأعلنت إذاعة العدو السبب في نشرتها 28-08-02 حيث قررت "الصناعات العسكرية بيع كافة مصانعها وأن الدولة ستقدم لها دعمًا بقيمة 300 مليون دولار شريطة بيع بعض المصانع وتسريح عدد كبير من العمال(21)
إبداع وخصخصة : ذكرت إذاعة الجيش المحتل أن الجيش سيتنازل عن حراسة المستوطنات لصالح شركات خاصة وأن مستوطنة "غوش عيسون " ستكون أول المستوطنات المتخلى عنها وعلى ذمة إذاعة جيش العدو قال قائد القوات البرية " إن عدم وجود خبرة لدى كثير من أفراد الجيش في الحراسة والتعامل مع المقاومين الفلسطينيين، الذين أصبحوا قادرين على اختراق أقوى التحصينات الأمنية وتنفيذ عملياتهم هو السبب في اللجوء إلى إبداع الخوصصة هذا. (22)
الصحة والتعليم وذكرت (يدعوت) أن مستشفيات الكيان تعاني من حالة عجز في الأجهزة والأدوية وأزمة في السيولة المادية التي لا تمكنها من سد ديونها البالغة 80 مليون دولار(23) أما في التعليم فقد قلصت ساعات الدراسة 40 ألف ساعة دراسية (23)
ليس سرًا " براك" والجيش والعفونة(13/219)
الجيش: ولن نزيد في شأن الجيش على هذه الكلمات من "براك" استمع إلى هذا الصوت التعيس من وسط وزارة الدفاع وهو يخاطب ضباطه :إن الحالة المتقدمة للعفونة وترهل القيم تقوض معنويات الجمهور الإسرائيلي، ويضيف "وليس سرًا أن قوات الاحتياط والتي تمثل ثلث القوات المقاتلة في انهيار تام "(24)وقول" يدعوت" الجيش يتعرض لموجة انتحارات منذ أربعة أشهر.
الشرطة(2500 ) هاربون
ولذلك طلبت الشرطة العسكرية بزيادة مخصصًا تهم (25) من أجل إنشاء سجن حربي" لا تحزن" ليس لاستقبال الفلسطينيين الذين خططوا لهجمات- بل لاستقبال المجندين الإسرائيليين الذين اختاروا غياهب السجون الإسرائيلية على جحيم غزة الذي لا يطاق.وقال (عوزي دايان) رئيس مجلس الأمن القومي للكيان الأربعاء 4-9-02 :( إن الاقتصاد الإسرائيلي لن يتمكن من توفير ميزانيات الأمن لمدة طويلة) وفقا لتقرير ل"شمدار سمويلمن يدعوت الصهيونية".
وللرياضة نصيب: ألغى اللاعب "الرماني "تاناس" عقدًا مع نادي" مكابي نتانيا" قائلاً: لقد انفجرت القنابل على بعد أمتار مني، وأنا أتناول الطعام فقررت التخلي عن عقد بقيمة 185مليون دولار سنوياً والعودة سالماً.
وهاجر الشباب:نبهت (معاريف) إلى ما دعت ظاهرة هجرة الشباب وذكرت أن 22% من الشباب ينوون الهجرة وذكرت ديل اشبيكل " الألمانية"أن 60 طالب هجرة تقدموا للسفارة الألمانية(26) وبلغ عدد المهاجرين من الكيان بالجملة مليون مهاجر وانخفضت نسبة المهاجرين إلى الكيان ب35% عام 2001 (27) وفي القدس - وهي المحك الحقيقي للصراع- هاجر 16 ألف يهودي بينما انتقل للسكن فيها وفي المناطق التابعة لها 10آلاف فلسطيني حسب أسبوعية (يروشلايم) الصهيونية /قدس برس/15-06-2002.
أزمات نفسية :قالت الجمعية الإسرائيلية لتقديم الاستشارات النفسية "عيران" إن عدد الموجهين إليها زاد بنسبة 12% سنة 2001 وأن 3900 من بينهم كانوا ينوون الانتحار (28).
الرد :شاروني .عسكري وشعبي.
أسقطت الانتفاضة باراك وسواءً أسقطت شارون أو أخطأته فقد سحبت منه كل الأوراق ،وأيست شعبه من أي أمل فيه ، فاستنفد كافة الوسائل السياسية ،والدبلوماسية والعسكرية" الأمريكية والصهيونية" وبدا عاجزًا عن فعل أي شيء لا يهمه إلا الكرسي، مما اختصرته (هآرتس) بعنوان "فشل شارون هو العنوان البارز على كل المسارات" يذكر أن شارون جاء ليوقف الانتفاضة فرد عليه الشهيد (فؤاد إسماعيل الحوراني) ببرود أعصاب وأيقظه على معزوفة الانتفاضة تعزف في فندق لا يبعد عن مخدعه 50 مترًا مخلفًا عشرات القتلى والجرحى بعد أن بلغ الرسالة.
استراحة : قد يجد بعض الإسرائيليين وسائل خاصة بهم أيامًا ريثما يرحلوا:
فينقذ شارون بورصتهم بإقالة زعيم حزب شاس ليغير عناوين الصحف ويشغل المحتلين عن وطأة الاقتصاد كما اعترف به رئيس مكتبه ، وأمام المجندين أن يستريحوا في غياهب السجون،ويجنح بعضهم إلى المهدئات من لفح الحقائق المرة وقد بيع في ثلاثة أشهر150 ألف دواء مهدئ حسب معاريف الصهيونية. ولآخرين أن ينحدروا إلى وحل المخدرات وعددهم حسب معا ريف عدد الخميس 06-07-02 يبلغ 300 ألف متعاط .بينما لجأت فتيات وفتيان إلى الوشم تفاديًا للعنة العمليات الإستشهادية (29)، حسب (يديعوت أحرنوت) 11-07-02 ويبدو أنهم لجأوا إلى الوشم لينقذهم من "بركة" العمليات الإستشهادية بعدما يئسوا من سياسة شارون التي فرغها ما أبان عنه الفلسطينيون من الصمود والتحدي، وما أسفر عنه ذلك من حالة الجيش والاقتصاد- من أي معنى.1-وكالة عيتيم الصهيونية للأنباء 04-08-2002.
2-طلال فخري /مجلة الجندي المسلم/10-11-1422هـ
3-أحد قادة حماس "حفل تأبين الشهيد محمود مرمش/الأخبار/islamonline.net
4-معطيات رسمية للشرطة الصهيونية/وسام عفيفة/WWW.ALAS صلى الله عليه وسلم WS
5- الأخبار العاجلة/يدعوت أحرنوت/الموقع العربي بتاريخ:28-08-2002م
6- قسم الأخبار-bbca r abic.com
7- أشلومو أهرونتشي" المفتش العام لشرطة الكيان-08-08-2002م/ISLAMTODAY.NET
8- المحطة الثانية في التلفزة العبرية بتاريخ الجمعة 11-05-2001م
9-تقرير رسمي للشرطة الصهيونية/قدس برس/البشير للأخبار
10- رئيس شرجا باروش"رئيس معهد التصدير بالكيان02-09-2002م
11- تسفي ستيفاك رئيس شركة ميتاف الصهيونية /gihadonlineo r g
12-إدارة الإحصاء المركزية في الكيان /قدس برس/الجزيرة
13- تسفي ستيفاك رئيس شركة ميتاف الصهيونية /qassam.o r g
14-قسم الإشراف على العملة الأجنبية في المصرف المركزي في الكيان -نشرة بتاريخ الثلاثاء 82-08-2002*-وأيضا حسب أمنون أطاد /يدعوت أحرنوت الموقع العربي/اقتصاد
15-"ارييه مرزاحي نقلا عن رئيس المجلس الإداري للشركة صحيفة هآرتس "11-8-2002م
16- نشرة لرمكز الدراسات الإستراتيجية 10-08-2002/حسب gihadonlineo r g
17- نشرة لمركز الداسات الاستراتيجية 10-08-2002
18- المصدر السابق
19- معطيات نشرتها دائرة الإحصاء المركزية للكيان يوم الثلاثاء 20-08-2002
19*- أمنون أطاد/يدعوت أحرنوت
20-- مجلة البيان/مقالات ملف الانتفاضة/الموقع
21-الإذاعة العبرية صباح الأربعاء 28-08-2002م البشير للأخبار(13/220)
22- إذاعة الجيش الصهيوني /عوض الرجوب/المستوطنات بداية الدولة ونهايتها
23- يدعوت أحرنوت/قدس برس
24- يهود براك" في خطاب بوزارة الحرب العبرية 25-أكتوبر2000/مجلة "نتيف" الصهيونية
25- الإذاعة العبرية مساء الاثنين 22-05-2001
26-ديل أشبيكل" نقلاً عن السفارة الألمانية بتل أبيب/البشير 05-08- 2002
27-نشرة لمركز الدراسات الاستراتيجية 10-08-2002/حسب gihadonlineo r g
28- نشرة لمؤسسة عيران /حسب a r abnews.com/ashaab
29- يدعوت أحرنوت العدد الصادر بتاريخ 01-07-2002م
==============(13/221)
(13/222)
من يحكم العالم ؟
سهيلة زين العابدين حماد 22/8/1423
28/10/2002
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي اختل ميزان القوى في العالم ،وأصبح أحادي القوة ،وغدت الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تحكم العالم ،فهي التي تفرض العقوبات على من تريد، وتعلن الحرب على من تريد، وتزيل أنظمة الحكم التي تريد، وتتدخل في أدق الشؤون الداخلية لدول العالم الثالث، ولا سيما الشعوب العربية والإسلامية، بل تتدخل في مناهجها التعليمية، وفي العلاقات الأسرية، والظاهر لنا أنَّ هذا الأمر كله بيد الولايات المتحدة، ولكن الحقيقة أنَّ هناك حكومة خفية في الظل تحكم الولايات المتحدة، وقد اعترف القادة الأمريكان بهذا، فهناك قوة تُسيِّر الولايات المتحدة وفق ما تريد، وتتحكم في القرارات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تتخذها الإدارة الأمريكية، وأقول هنا إنَّها القوة اليهودية الصهيونية التي تسيطر على البيت الأبيض الأمريكي، وعلى الكونجرس الأمريكي، وعلى مجلس الشيوخ الأمريكي، وعلى الاستخبارات الأمريكية، وعلى وزارة الدفاع الأمريكية، وعلى الاقتصاد الأمريكي، وعلى الإعلام الأمريكي، بل هي التي تسيطر على الحكومات الأوروبية وعلى اقتصادها وإعلامها، فاليهود الصهاينة يمتلكون كبريات الصحف والمجلات وشبكات التلفاز والإذاعة في أوروبا وأمريكا، إضافة إلى امتلاكهم أربع من خمس وكالات أنباء عالمية، بل هم يسيطرون أيضاً على المنظمات الدولية، وهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ومؤسسة النقد الدولي، ومنظمة اليونسكو، وغيرها، فما الذي يجعل الأمين العام للأمم المتحدة - بعدما صدر قرار من الأمم المتحدة بتكوين لجنة تقصي الحقائق في جنين بناءً على طلب فلسطين والبلاد العربية- يقول : إنَّه يرسل إلى جنين لجنة تقصي الحقائق، ثمّ يقول : لا..ليس تقصي حقائق، إنَّما تحقيق، قالت له إسرائيل لا بد أن يكون فيها عسكريون، فيوافقهم على ذلك، فقال الإسرائيليون لابد أن نحدد العسكريين نحن، فيجيبهم حددوا العسكريين، فتُستجاب كل الطلبات، ولكن ينظر المتغطرس ـ على حد تعبير الدكتور كمال أبو المجد ـ وقد أخرج لسانه للعالم قائلاً في تحدٍ سافر: لا نريدها... لا تأتي! فلا تأتي. وتقف الأمم المتحدة عاجزة أمام إسرائيل -إسرائيل فقط- !!ولكن أية دولة عربية أو إسلامية تفرض عليها على الفور عقوبات اقتصادية وحصار اقتصادي، وقد لا تتورع الولايات المتحدة بتوجيه حملة عسكرية إليها كما في العراق الآن، أليس هذا دليلاً كافياً على أنَّ اليهود الصهاينة هم الذين يحكمون العالم الآن ؟ كما نجد الإدارة الأمريكية تفرض الآن على الحكومة السودانية شروطاً للحوار مع المتمردين الجنوبيين، وتهدد الحكومة السودانية إذا لم تبد حسن النوايا في هذا الحوار، فسوف يحظر على السودان حق التسلح، وسوف.. وسوف...إلخ التهديدات الأمريكية التي سئمناها، وذلك لأنَّها تستهدف من هذا إمَّا جعل السودان دولة علمانية تتخلى عن الإسلام في دستورها أو تنشئ دولة مسيحية في الجنوب، بينما لم تفرض على إسرائيل مثل هذه الشروط في مفاوضاتها مع الفلسطينيين، بل نجد كل الشروط والتهديدات تقع على الجانب الفلسطيني المغلوب على أمره، المسلوب أرضه.
هناك دليل آخر: العراق تحارب منذ أكثر من أحد عشر عاماً بحجة أنَّها تمتلك أسلحة الدمار الشامل، وفرض عليها الحصار الاقتصادي منذ ذلك الحين، والذي راح ضحيته أكثر من مليون طفل عراقي، وأصبح المواليد في العراق من يعيش منهم يصاب بالتخلف العقلي لقلة الغذاء ونقص الدواء، وقضية المفتشين الدوليين التي كان الهدف منها التجسس على العراق واضحة لدى الجميع، وتعد الولايات المتحدة الآن حملة كبيرة لغزو العراق واحتلالها للسيطرة على بترولها وتقسيمها إلى ثلاث دويلات على أساس عرقي ومذهبي، دولة كردية في الشمال، ودولة شيعية في الجنوب، ودولة سنية في الوسط، وتستمر هذه الدويلات الثلاث تتصارع وتتنازع فيما بينها لخلافات طائفية ومذهبية، وهكذا تمحى العراق ذات الحضارة العريقة من خريطة العالم؛ تمهيداً للسيطرة اليهودية الصهيونية عليها وفق تخطيط اليهود الصهاينة لذلك، بدليل إعطاء الإدارة الأمريكية الإذن لإسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية للعراق، وتعد إسرائيل العدة لذلك بقنابل نووية ،فما هي مبررات توجيه إسرائيل مثل هذه الضربة للعراق ؟
أين هو المجتمع الدولي والمنظمات الدولية ليعترضوا على هذا الغزو، وضرب إسرائيل للعراق؟
يوجه هذا الغزو للعراق، ويعد نصف مليون جندي لهذا الغزو؛ لأنَّه يملك أسلحة الدمار الشامل، ومن يوجهه الولايات المتحدة مصنعة هذا السلاح ومستخدمته في حروبها، وهي أول دولة في العالم استخدمت السلاح النووي بتفجير قنبلتين نوييتين على جزيرة "هيروشيميا ونجازاكي " اليابانيتين عام 1945م، كما استخدمت أسلحة الدمار الشامل في حروبها في فيتنام وغيرها، وقد استخدمته في حربها لأفغانستان، ولكن لا يستطيع أحد أن يتكلم ويقاضيها.(13/223)
وتوجه الولايات المتحدة هذا الغزو للعراق بحجة امتلاكها أسلحة الدمار الشامل التي تشكل خطراً ليس على دول المنطقة، بل على العالم أجمع بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية، كما يروج لذلك الرئيس الأمريكي ومعاونه، في حين أن إسرائيل ـ وهي في المنطقة نفسها ـ تمتلك أضعاف ماكانت تمتلكه العراق من أسلحة تم القضاء عليها وإتلافها، والولايات المتحدة ذاتها هي التي زودت، وتزود إسرائيل بكل أنواع الأسلحة بما فيها أسلحة الدمار الشامل، وقد كشفت صحيفة "هارتس" الإسرائيلية جانباً من ترسانة أسلحة الدمار الشامل لدى إسرائيل، فلقد ذكرت أنباء صحفية في إسرائيل، يوم الاثنين 10 جمادي الآخرة 1423هـ الموافق 19 أغسطس عام 2002م أن الطائرات الحربية "إف 16" ستستخدم لحمل أسلحة نووية إسرائيلية مستندة في معلوماتها إلى " نوكليير نوت بوك"، وهو مقال أمريكي متخصص صدر في سبتمبر ضمن نشرة علمية متخصصة تسمى " بولتان أوف ذي أوتوميك سيانتيست"، ونقلت صحيفة " هارتس" عن المقال قوله : " إنَّ إسرائيل تملك السلاح النووي منذ عشرات السنين على الرغم من أنَّ مسؤوليها يؤكدون باستمرار أنّ إسرائيل لن تكون أول دولة تدخل السلاح النووي إلى الشرق الأوسط." وينقل المقال عن تقرير للبنتاجون يعود إلى 11سنة "أن إسرائيل تملك منذ ذلك الوقت 75إلى 200 سلاح نووي بينها قنابل أو رؤوس نووية مركبة على صواريخ، بالإضافة إلى بعض الأسلحة النووية التكتيكية ،وتشير النشرة إلى أنَّ 25 طائرة "إف 15" من طراز " رعام" سلمت في عام 1998م إلى سلاح الجو الإسرائيلي، وهي قادرة على نقل 4,5 أطنان من المحروقات، و11 طناً من الذخيرة ضمن شعاع عمل يبلغ 4450 كيلومتراً "، ويقول المصدر ذاته : " إنَّ إسرائيل تملك أيضاً الصاروخ البالستي "أريحا"، كما تملك قمراً صناعياً للتجسس "أفق 5" الذي يزن 300 كلجم ،ويطلق بواسطة صاروخ "شافيت"، ويحصي المقال أخيراً 3 غواصات إسرائيلية قادرة كلها على إطلاق صواريخ بالستية (1)." [ انتهى الخبر]
والسؤال لماذا لم تطالب إسرائيل بنزع أسلحة الدمار الشامل ؟ ولماذا لم يرسل لها مفتشون دوليون بحثاً عنها ؟ ولماذا لم تفرض عليها عقوبات اقتصادية وحصار اقتصادي لامتلاكها هذه الأسلحة ؟ ولماذا لاتوجه إليها ضربة عسكرية لامتلاكها أسلحة الدمار الشامل، وهي بالفعل تشكل خطراً على العالم؛ لأنَّها تستهدف السيطرة عليه، وهذا مكتوب في تلمودها، وفي برتوكولات حكمائها؟
بل لماذا لم توجه لها ضربة عسكرية باعتبارها دولة إرهابية تمارس الإرهاب على الشعب الفلسطيني، وتستعمل كل وسائل الإبادة ضده ،ويكفي شهادة السيد " ديفيد ديوك "على ذلك، والتي تعلمها الإدارة الأمريكية جيداً، وتؤيدها بكل ما أوتيت من قوة؟
لماذا لم تصدر الأمم المتحدة ومجلس الأمن حتى الآن قراراً يدين إسرائيل على أعمالها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني ،واختراقها لكل الاتفاقيات والقوانين الدولية ؟
لماذا لم تُدَنْ إسرائيل وتعاقب على ضربها المفاعل النووي العراقي في الثمانينات من القرن الماضي، مع ثبوت إقامته لأغراض سلمية؟
لماذا لم تدن إسرائيل لضربها العمق اللبناني، بضربها بيروت، وتدمير البنية التحتية فيها، وبتدميرمحطات الكهرباء بها وفي فصل الشتاء؟ لقد ذهبتُ لزيارة بيروت إثر الضربة فوجدتها تعيش في ظلام دامس!
لماذا لم تتخذ الإدارة الأمريكية أي قرار ضد إسرائيل بعد اكتشافها لشبكات التجسس الإسرائيلية في الولايات المتحدة الأمريكية التي تهدد أمنها القومي ؟
بل لماذا تتكتم على هذه الشبكات التجسسية وتداري عليها في الوقت الذي تتصيد كل عربي ومسلم بتهمة أحداث سبتمبر، وتزج بهم في أقفاص "جوانتانامو"؟
لماذا يقرر الكونجرس في ما لاحق فيه بجعل القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، خارقاً بذلك كل القوانين والأعراف الدولية، وكل الدساتير، إذ لا حق له قانوناً ودستوراً أن يقر مثل هذا القرار في أرض لا يملكها الكونجرس، ولا تملكها إسرائيل، فجميع قرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن تعتبر القدس من الأراضي المحتلة؟
في حين أن اليهود الصهاينة، والصحافة العالمية، وبعض رجال الدين المسيحي يوجهون كل يوم هجمات شرسة ضد الإسلام، وضد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - .
كل هذا يثبت بيقين لا يقطعه أدنى شك أنَّ اليهود الصهاينة هم الذين يحكمون العالم اليوم، وهم يتحكمون في القرارات السياسية والعسكرية للولايات المتحدة والدول الأوروبية،وهم يسخَّرون هذه الدول والحكومات لخدمة مصالحهم ،وتحقيق مخططاتهم وفق بروتوكولات صهيون ؛ ليتسلموا في النهاية زمام الحكم في العالم.
ولنقرأ معاً هذا النص من البروتوكول التاسع:(13/224)
"إنَّ لنا طموحاً لا يحد ،وشرهاً لا يشبع ،ونقمة لا ترحم ، وبغضاء لا تحس ،إنَّنا مصدر إرهاب بعيد المدى .وإنَّنا نسخر في خدمتنا أناساً من جميع المذاهب والأحزاب ،من رجال يرغبون في إعادة الملكيات، واشتراكيين ،وشيوعيين ،وحالمين بكل أنواع الطوبيات (Utopias ) ،ولقد وضعناهم جميعاً تحت السرج ،ويحاول أن يحطم كل القوانين القائمة ،وبهذا التدبير تتعذب الحكومات ،وتصرخ طلباً للراحة ،وتستمد- من أجل السلام ـ لتقديم أي تضحية ،ولكننا لن نمنحهم أي سلام حتى يعترفوا في ضراعة بحكومتنا الدولية العليا"
وجاء في البروتوكول الرابع عشر هذا النص :
"حينما نمكن لأنفسنا فنكون سادة الأرض- فلن نبيح قيام أي دين غير ديننا ،أي الدين المعترف بوحدانية الله الذي ارتبط حظنا باختياره إيانا، كم ارتبط به مصير العالم؛ ولهذا السبب يجب علينا أن نحطم كل عقائد الإيمان ،وإذ تكون النتيجة المؤقتة لهذا هي إثمار ملحدين فلن يدخل هذا في موضوعنا ،ولكنه سيضرب مثلاً للأجيال القادمة التي ستصغي إلى تعاليمنا على دين موسى الذي وكل إلينا ـ بعقيدته الصارمة ـ واجب إخضاع كل الأمم تحت أقدامنا." (2)
ومخطط اليهود للسيطرة على العالم ليس حديث النشأة ،فما هو إلاَّ إحياء لتعاليم التلمود التي أكَّدت عليها بروتوكولات، من هنا نجد أنَّ الصهيونية العالمية قد أقامت دولة إسرائيل في قلب وطننا العربي لتتمكن من تحقيق هدفها الأكبر ،وهو السيطرة على العالم ،ولقد صرَّح بهذا الدكتور "ناحوم جولدمان"رئيس المؤتمر اليهودي العالمي في محاضرة له في مدينة منتريال في كندا سنة 1947م ،فلقد صرَّح بأنَّ اليهود اختاروا فلسطين ليس لمعناها التوراتي والديني بالنسبة إليهم ،ولا لأنَّ مياه البحر الميت تعطي بفعل التبخر ما قيمته ثلاثة آلاف مليار دولار من المعادن وأشباه المعادن ،وليس أيضاً لأنَّ مخزون أرض فلسطين من البترول يعادل عشر مرات مخزون الأمريكتين معاً ،بل لأنَّ فلسطين ملتقى طرق أوروبا وآسيا وأفريقيا ،ولأنَّ فلسطين تشكل بالموقع نقطة الارتكاز الحقيقية لكل قوى العالم؛ لأنَّها المركز الاستراتيجي العسكري للسيطرة على العالم."
وقد خططوا لهذا في مؤتمراتهم التي كان أولها في مدينة (بال) بسويسرا عام 1897م برئاسة زعيمهم تيودور هرتزل (1860-1904م) ،واجتمع فيه نحو ثلاثمائة من أعتى حكماء صهيون كانوا يمثلون خمسين جمعية يهودية ،وقرروا فيه خطتهم السرية لاستعباد العالم كله تحت تاج ملك من نسل داود.
وتتلخص خطتهم في محاولتهم السيطرة على السياسة العالمية بالقبض على زمام الصيرفة ،ونشر وسائل الفتنة التي تمهد لقلب النظام العالمي وتهدده في كيانه بإشاعة الفوضى والإباحية بين الشعوب ،وتسليط المذاهب الفاسدة والدعوات المنكرة على عقول أبنائه ،وتقويض كل دعامة من دعائم الدين أو الوطنية أو الخلق القويم.
والمخطط الصهيوني هذا مستوحى من التلمود ؛إذ جاء فيه :
"يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع استملاك باقي الأمم في الأرض لتبقى السلطة لليهود وحدهم..وإذا تسلَّط غير اليهود حق لهؤلاء أن يندبوا ويقولوا يا للعار ويا للخراب"
وجاء فيه أيضاً:
" وقبل أن يحكم اليهود نهائياً على باقي الأمم يلزم أن تقوم الحرب على قدم وساق ،وبعد النصر تنبت أسنان أعداء بني إسرائيل بمقدار اثنين وعشرين ذراعاً خارج أفواههم"
ومن تعاليم تلمودهم أيضاً :
"لا يأتي المسيح إلاَّ بعد انتهاء حكم الأشرار الخارجين على دين بني إسرائيل، وحينما يأتي المسيح تطرح الأرض فطيراً وملابس من صوف وقمحاً كل حبة منه بقدر كلية الثور الكبير ،وفي ذلك الزمن تعود السلطة لليهود ،كل الأمم تخدم ذلك المسيح، وتخضع له ..وفي ذلك الوقت يكون لكل يهودي ألفان وثمانمائة عبد يخدمونه"
والتلمود أنشأه الكهنة ورجال الدين اليهودي وضمُّوه إلى التوراة، وأصبح يشكل جزءاً لا يتجزأ من عقيدة اليهود ،فهؤلاء الكهنة ورجال الدين المقيمون في المعابد والمدارس الفلسطينية والبابلية الذين ألَّفوا أسفار الشريعة الضخمة المعروفة بالتلمود الفلسطيني والتلمود البابلي ،وكانوا يقولون إنَّ موسى لم يترك فقط لشعبه شريعة مكتوبة تحتويها الأسفار الخمسة ،بل ترك له أيضاً شريعة شفوية تلقاها التلاميذ عن المعلمين ووسَّعوا فيها جيلاً بعد جيل ،وقد ثار جدل حول هذه الشريعة الشفوية هل هي من عند الله فتكون واجبة الطاعة؟(13/225)
وما إن زال الصدوقيون (3) بعد تشتت اليهود عام 70م على يد تيتس الروماني، وورث رجال الدين تقاليد الفرسيين ورواياتهم قبل جميع اليهود المتمسكين بدينهم الشريعة الشفوية وآمنوا بأنَّها أوامر من عند الله، وأضافوها إلى أسفار موسى الخمسة فتكونت من هذه وتلك التوراة أو الشريعة الموسوية التي استمسك بها اليهود وعاشوا بمقتضاها كانت حقيقة لا مجازاً ،هي كيانهم وقوام حياتهم .وإنَّ القصة التي تروي تلك العملية الطويلة التي استغرقت ألف عام ،والتي تجمعت في خلالها الشريعة الشفوية ،واتخذت فيها صورتها النهائية المعروفة بالمشنا، والقرون الثمانية التي تجمعت فيها ثمار الجدل ،والأحكام والإيضاح فكانت هي الجمارتين أو شروح المشنا،وانضمام المشنا إلى أقصر هاتين الجمارتين ليتألف منهما التلمود الفلسطيني ،وإلى أطولهم ليتألف منهما التلمود البابلي ـ إنَّ القصة التي روت هذه الأحداث الثلاثة لمن أكثر القصص تعقيداً أو أعظمها إثارة للدهشة في تاريخ العقل البشري"
هذا بالنص ما قاله (ول ديورانت) عن منشأ التلمود في الجزء الثالث من المجلد الرابع لقصة الحضارة والذي خصص لعصر الإيمان.
هذا ويقول (ول ديورانت) "كان يهود ألمانيا وفرنسا في العصور الوسطى يدرسون التلمود أكثر ممَّا يدرسون الكتاب المقدس نفسه."(4)
وما يسعى إليه اليهود هو خراب العالم ودماره وفق تعاليم تلمودهم ليقيموا فوق أنقاضه مملكتهم الوهمية الأسطورية ،وهم ينشرون في سبيل هذا الوهم أوهاماً وخرافات بلغوا معها مدى توهموا فيه أنَّ اليهود من نطفة تختلف عن باقي النطف ،فمن تعاليم تلمودهم الذي كان أساساً لبروتوكولاتهم " إنَّ نطفة غير اليهودي كنطفة باقي الحيوانات.(5)"
ويقول التلمود "النطفة المخلوق منها باقي الشعوب هي نطفة الحصان ،واليهود كما يتوهمون يعتقدون أنَّ أرواحهم متميزة عن باقي الأرواح ،وأنَّها جزء من الله ،كما أنَّ الابن جزء من أبيه ،وهذا يبيح -بل يوجب لهم- دخول الجنة التي خلقت لهم ، وليس لأحد سواهم ،فيقول التلمود :"النعيم مأوى أرواح اليهود ،ولا يدخل الجنة إلاَّ اليهود..أمَّا الجحيم فمأوى الكفار مهما اختلفت أسماء دياناتهم ،ولا نصيب فيها إلاَّ البكاء لما فيها من الظلام والعفونة والطين "(6)
وجاء فيه أيضاً " تتميز أرواح اليهود عن باقي الأرواح بأنَّها جزء من الله ،كما أنَّ الابن جزء من أبيه ،وأرواح اليهود عزيزة عند الله بالنسبة لباقي الأرواح لأنَّ الأرواح غير اليهودية هي أرواح شيطانية تشبه أرواح الحيوانات "(7) ،وهم يرون أنَّ الله خلق" الأجنبي" أي غير اليهودي على هيئة إنسان ـ فقط ـ ليكون لائقاً لخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا من أجلهم " ،ومن تعاليمه أيضاً " أنَّ الأمم الخارجة عن دين اليهود أشبه بالحمير ويعتبر اليهود بيوتهم أشبه بزرائب الحيوانات." (8)
بهذه النظرة العنصرية المتعالية يريد اليهود أن يحكموا العالم،وهذا التعالي لا يقتصر على التلمود ،فالتوراة المحرفة أيضاً قائمة على ذات النظرة ،فاليهود يزعمون أنَّهم شعب الله المختار ،والحقيقة أنَّ دعوة اليهود لحكم العالم لم تكن من وضع منشئ التلمود ،وإنَّما كانت من وضع (فيعون) عام 30أو 20 قبل الميلاد، مستمداً الفكرة من التوراة المحرفة ،إذ وضع المبدأ الديني الفلسفي الذي قال " إنَّ العنصر اليهودي يجب أن يستوطن الأرض المقدسة : أرض الميعاد والزحف منها إلى العالم والسيطرة عليه." (9)
هذه الحقيقة ينبغي أن يدركها قادة العالم ليقفوا صلف اليهود وطغيانهم وجبروتهم وإرهابهم . 1- جريدة الوطن السعودية : العدد 690 ، الصادر يوم الثلاثاء 11 جمادى الآخرة 1423هـ الموافق 20 أغسطس 2002م.
2 -المرجع السابق:169.
3 -الصدوقيون طبقة دينية تعود بأصولها إلى قرون عدة قبل ظهور المسيح .لا يؤمن أصحابها بالعالم الآخر ،ولا يؤمنون إلاَّ بالشريعة المكتوبة خلافاً للفرسيين الذين كانوا يدافعون عن الشريعة الشفوية . اصطدمت هذه الجماعة بعامة اليهود ،وتعاونت مع الهيلينيين ثم الرومان لتحتفظ بمكانتها الاجتماعية،نوقد اختفت من الوجود بعد تحطيم الهيكل."
إسرائيل شاحاك ،الديانة اليهودية وموقفها من غير اليهود،ترجمة حسن خضر ،ص 11،12،سينا للنشر ،ط1،1994م.
4 -ول ديورانت :قصة الحضارة ، ترجمة محمد بدران،،الجزء الثالث المجلد الرابع ،عصر الإيمان ،ص 17،جامعة الدول العربية
5 -شوقي عبد الناصر :بروتوكولات حكماء صهيون وتعاليم التلمود ص 33،ط5.
6 -د.روهلنج :عقائد اليهود حسب التلمود ،وهو ضمن كتاب الكنز المرصود في قواعد التلمود ،ترجمة الدكتور يوسف نصر الله ،ص 68
7 - المرجع السابق :ص66..
8 -شوقي هبد الناصر: بروتوكولات حكماء صهيون وتعاليم التلمود : ص 35.
9 -أنور الجندي: المخططات التلمودية الصهيونية اليهودية في غزو الفكر الإسلامي ،ص23،دار الاعتصام
=============(13/226)
(13/227)
العمل الإسلامي واقع وآفاق
د. سارة بنت عبد المحسن بن جلوي* 19/4/1423
30/06/2002
يمر العالم الإسلامي اليوم بأوقات حرجة، ويعيش لحظات حاسمة في تاريخه، تقف به على مفترق طرق، طريق يقوده إلى استعادة مجده، والقيام بدوره الحضاري في قيادة الأمم والشهود عليها، وآخر يهوي به في غياهب التيه والتخبط، وبقية عالة على الأمم.
وعليه أن يأخذ موقفه، ويختار بين مجد يقدمه له منهاجه الرباني الصحيح، وتراثه الإسلامي العظيم، أو أن يستمر في تجرع انهزاميته وهو يرقب انحسار شهوده الحضاري أمام عالم اليوم .
واختياره يعني تحمله مسؤوليته، والمسؤولية هي موقف يتطلب من الإنسان أن يكون جديراً بتحملها .
فمنذ أن يختار المرء موقفاً بعينه، تتحول مسؤوليته إلى فعل متحقق، لا مجرد قدرة على الفعل أو الاختيار فقط .
ومسؤولية الإنسان المسلم أمام نفسه، أو غيره، هي مسؤولية صادرة من مصدر الحكم الأصلي، وهو الله - سبحانه وتعالى- فهي مسؤولية أمام الله ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسؤوُلُونَ).
لذا فإن المسؤولية - في الإسلام- تمتد من الفرد إلى الجماعةِ، فالأمةِ، فالناسِ كافة، في نظام متناسق كامل مترابط، يوحد الجهود، ويحقق الأهداف، من خلال علاقة جدلية بين رعاية الحقوق وأداء الواجبات. ومن ثم فإن كل لحظة في حياة المسلم تتجسد فيها المسؤولية بصورة ما .
وهنا يتحقق حمل الأمانة التي أشفقت منها مخلوقات الله ، وحملها الإنسان: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وًأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ).
والإسلام ساوى بين الرجل والمرأة في حمل الأمانة، والقيام بالمسؤولية، فهما مكلفان شرعاً، ومسؤولان قضاء وديانة ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلئِك سَيَرْحَمَهُمُ اللهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).
( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَّنهُ حَيَاةَ طَيِبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَاُنوا يَعْمَلُونَ ).
فالإسلام بخطابه العام المتعدد الأبعاد قد أناط بالمسلمين جميعاً رجالاً ونساء مسؤوليات شخصية خاصة مثل : العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والأسرة، وغيرها.
ومسؤوليات عامة تتعلق بالمجتمع، وقضايا الأمة، بل ومصير الأمة. مثل : التربية، والتعليم، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، وغيرها من المسؤوليات العامة التي يؤديها كلٌّ حسب وسعه وطاقته، وإمكاناته المادية، والنفسية والعقلية، وجَعَل ميزان ذلك كُلَّه التقوى والعمل الصالح، لا الذكورة والأنوثة، ومن هنا نقول: إن اختيار الطريق الذي يحكم مصير أمة الإسلام هو مسؤولية في أعناق أهلها رجالاً كانوا، أو نساء .
ومن منطلق القيام بهذه المسؤولية في مثل هذا الزمن الذي كثرت فيه التيارات الفكرية، والعقدية، والأخلاقية، والسياسية، وقوي فيه تدفقها من كل مكان، حتى نازعت المسلم دينه، وقيمة وأخلاقياته، جاهدة في محو ملامح شخصيته الإسلامية المتميزة، وتذويبها في خضم دوامة صراعات لا تنتهي، واستطاعت أن تؤثر في المجتمع المسلم بصورة لا يمكن تجاهلها، أو التقليل من شأنها؛ لأنها أدت إلى اضطرابات سياسية، واجتماعية، وفكرية، وصراعات داخلية أنهكت الأمة ومزَّقت شملها، وفرقت صفوفها، وغربت أبناءها عن دينهم، وقيمهم ، ومجدهم .
أقول: فمن منطلق القيام بالمسؤولية انبعثت حركات الصحوة الإسلامية بتياراتها المختلفة في محاولة صادقة للوقوف في وجه مد تلك التيارات الوافدة، والعودة بالأمة إلى مكانها الصحيح في ظل المنهاج الرباني، ليكون هو الموجه الوحيد لحياتها كلها، وتخليصها من التوتر، والتناقض الذي عاشته ردحاً من الزمن، بين قيم إيمانها وواقعها، وماضيها المجيد وحاضرها المهزوم .
وأصبحت الصحوة الإسلامية واقعاً له أثره الواضح في حياة الأمة، على الرغم من قلة إمكاناتها، وضعف خبراتها، وكيد أعدائها .
واقع العمل الإسلامي النسوي:
من أهمية دورها في مثل هذه الأيام الحافلة بأقصى أنواع الصراعات : العقدية، والفكرية، والاجتماعية، والسياسية مع اختلاف درجاتها، وتباين صورها.
وإن كان لها وجود، فهو وجود محدود في نطاق ضيق لا يؤثر في تحريك عجلة التغيير الاجتماعي نحو الإسلام إلا شيئاً قليلاً .
فواقعها يتسم بالسكونية وعدم الفاعلية، والغياب المقنع عن ساحة الصراع في هذه المرحلة الحرجة من تأريخ الأمة. ودورها ما زال قاصراً وهامشياً، لم يصل إلى المستوى المطلوب من الفاعلية، كما أنه محكوم بالارتجالية وغياب التخطيط.
ولو ألقينا نظرة عامة على ساحة العمل الإسلامي النسوي، نجد أنها متنوعة الاتجاهات وفق طبيعة البلد الذي تتحرك فيه .(13/228)
بالإضافة إلى الاهتمام بحفظ القرآن الكريم، وحضور الندوات، والأمسيات الدينية التي تركز على الأمور العقدية، والعبادات ، والمواعظ .
وإن كان يلاحظ نجاح التيار الصوفي المعتمد على الروحانيات، والعبادات ونظام المشيخة الصارم في بعض الأقطار الإسلامية.
في حين يتم تفعيل التنظيمات النسائية الإسلامية في العمل السياسي في بعضها الآخر، وإن كان ذلك ضمن نطاق ضيق محدود .
هذه لمحات خاطفة لطبيعة العمل الإسلامي النسوي بشكل عام، وإن كانت لا تقدم لنا صورة واضحة متكاملة ودقيقة؛ لأن تصوير الواقع بشمول ودقة، يحتاج إلى دراسة ميدانية متقصية، وهو أمر لم يتح لي .
إلا أن الأمر الأكيد في ذلك، هو أن العمل النسوي الإسلامي -في مجموعه- غير منظم، ولا فاعل، بالإضافة إلى أنه تابع تبعية مطلقة للتنظيمات الرجالية، إذ لا توجد -في الغالب- تنظيمات نسائية مستقلة، وقد أدت هذه التبعية إلى تعطيل كثير من الطاقات النسائية الفاعلة، وجمدت دورها في حدود ما يرسمه لها الرجل في التنظيم التابع له .
وهذا بدوره أدى إلى الحد من تحركها، وتأهيلها الدعوي، فلم تأخذ دورها كاملاً، ولا مكانها الحقيقي في بناء الأمة، بدليل أنه على الرغم من كثرة أعداد المسلمات الحاصلات على درجات علمية عالية، واللاتي تولين مناصب قيادية، واقتحمن معظم الميادين، إلا أننا نلحظ افتقاد الساحة الإسلامية لوجود زعامات نسائية مؤهلة في ميادين: الدعوة، والفكر، والعلم، والأدب، والتربية .. وغيرها.
وهذا يدل على عدم نجاح العمل الإسلامي النسوي في إبراز مثل تلك الزعامات، وأنه ما زال قاصراً وهامشياً .
فمحاولة الرجل - دائماً- السيطرة على توجيه النساء، وعدم ترك الفرصة لهن للتعبير عن أنفسهن، والتعسف في ممارسة حق القوامة عند الكثيرين جعل العمل النسوي يقاد ويوجه دائماً من قبل الرجل، فهو المفكر، والمخطط، والمنفذ الفعلي. وزمام الأمر دائماً يكون بأيدي الرجال، مما لا يدع للمرأة مجالاً للبروز، والتعلم من التجربة والممارسة العملية.
حتى قضايا المرأة نفسها تطرح دائماً وتعالج من قبل الرجل، والمرأة مستسلمة منصاعة لذلك كله، فكيف يمكن أن يكون لها دور فاعل في حياة المجتمع والأمة، إذا كانت لا تحكم نفسها، ولا فكرها ولا تقدر على تحديد وجهتها، وهدفها ؟
وهذا الوضع فيه إخلال بمسيرة العمل الإسلامي في بناء الفرد، والأمة، والواقع، إن عجز المرأة عن القيام بدورها له أسباب متعددة، وعوامل مختلفة، أسهم كل منها بدوره في هذا العجز الذي وصل -في بعض حالاته- إلى السكونية المميتة، سواء كبر هذا الدور، أم صغر.
فالمجتمع عجز عن أن يمد المرأة بالشروط الضرورية للتوازن الصحيح الذي يشعرها بقيمة دورها في الإسهام ببنائه، فبالإضافة إلى العامل السابق، فهناك الوسائط التربوية التي يتم من خلالها تربية النشء وتثقيفه، وتعليمه، منها:
01 الأسرة: المحضن الأساس لتلقي الأصول الرئيسة في تحديد ملامح الشخصية، والسلوك، والفكر، والتوجه.
المسؤولية في النفس، وبناء الشخصية الإيجابية المتوازنة، البناء الروحي الصحيح، وتأصيل الثقة بالنفس .
ولعل السبب في ذلك هو جهل الأبوين أصلاً بحقائق الإسلام التربوية، وأن شعور المرأة بأنها تسهم في بناء أسرتها، ومجتمعها، وأمتها، يعطيها التوازن الذي يدفعها إلى الحركة.
02 التعليم : بمستوياته جميعها صار همه الأوحد توصيل أكبر قدر من المعلومات والمعارف دون الاهتمام بالجوانب التربوية العلمية، التي تغرس الأهداف، وتوجه الميول والطاقات لتحقيق الأهداف، من خلال الربط بين الميول والغايات .
بالإضافة إلى أن تعليم المرأة لا يهتم إطلاقاً بتنمية ملكاتها الخاصة، التي تؤهلها للقيام بدور مستقبلي، من حيث طبيعة المواد والعلوم التي تناسب المرأة وتهيئتها لتكون فرداً فاعلاً منتجاً، وفي الوقت ذاته الصبغة العلمانية البحتة التي اتسمت بها تلك العلوم في معظم الأقطار الإسلامية، والتي لا تساعد على تكوين المعاني الربانية، والتي قال عنها محمد إقبال في وصفه للمدرسة الحديثة: إنها قد تفتح أعين الجيل الجديد على حقائق ومعارف، لكنها لا تعلم عينه الدموع ولا قلبه الخشوع .
03 التقاليد: إن كثيراً من التقاليد التي تحكم حياة المسلمين وبيوتهم لم توزن بميزان الإسلام، بل إنها تحكمت في حياة الناس، وحكمتهم وحلَّت محل التعاليم الإسلامية الصحيحة، واستطاعت أن تهمش دور المرأة، وتقلل من مكانتها، حتى كادت تبعدها كلياً عن المشاركة في بناء صرح الأمة الإسلامية، بل إنها ألغت الكثير من حقوق المرأة التي قررها لها الإسلام، وجعلت تلك الحقوق حبيسة كتب الفقهاء، وأدمغة المشايخ والدعاة. مع أن تلك الحقوق والمكانة لم تكتسبها المرأة من الظروف، وإنما هي منحة إلهية، وتشريع رباني .
04النظرة الخاطئة: التي تنظر بها المرأة إلى نفسها، وإلى دورها، وإلى قدرتها، كانت سبباً رئيساً في عرقلة حركة المرأة، بل ووقف حركتها، وتسليمها إلى السكونية المميتة.(13/229)
وهذه النظرة غالباً ما تكون متخفية في أعماق المرأة، بصورة دقيقة عميقة، لا تشعر بها في عقلها الواعي، وإن حكمت تصرفاتها وحركاتها الخارجية .
05 الإعلام : بوسائله المختلفة: المسموعة، والمقروءة، والمرئية، قد تجاهل عامداً دور المرأة المسلمة في بناء الأمة، ومكانتها فيها. وكان تركيزه الكلي على تنمية الجوانب المظهرية، والشؤون المنزلية، بل إنه أسهم -إلى حد كبير- في التقليل من شأنها ودورها، حين قدمها بصورة مبتذلة عابثة، في محاولة منه لتذويب شخصيتها الإسلامية، وخلعها من دينها، وقيمها، وأخلاقياتها ، ومبادئها، وأصالتها، وتحويلها إلى صورة مشوهة مهزوزة للمرأة الغربية، مع الفارق الثقافي، والتفاعل الإيجابي. وعمل على إقصاء المرأة المسلمة عن حقائق دينها بهجومه الخبيث على قيم الإسلام المتعلقة بالمرأة، فكان له كبير الأثر في تمردها على قيم دينها، وفتنتها بالغرب.
هذا هو واقع المرأة المسلمة بشكل عام، والعمل النسوي الإسلامي بشكل خاص.
فكيف يمكن أن تقوم المرأة المسلمة بدورها في المشاركة الإيجابية الفاعلة لتحقيق النهضة الإسلامية المعاصرة، وبناء جيل إسلامي واع مثقف مؤهل لتحمل المسؤولية العظيمة في إعادة بناء صرح هذه الأمة .
إن هذا يقتضي أن تؤهل المرأة المسلمة تأهيلاً خاصاً يتناسب مع عظم دورها، وحقيقة مكانتها.
والتأهيل يستلزم الإعداد المسبق من خلال برامج وآليات خاصة تهتم ببناء الشخصية المتكاملة، والعقلية الواعية المستقلة، والعلم الصحيح وغيرها من متطلبات التأهيل المدروس الأهداف، المحدد الملامح ، المطبق عملياً ، بشكل جماعي منظم .
فالجهود الشخصية، أو الفردية، أو الوقتية ، لا تكفي لتأهيل المرأة المسلمة، وترشيد العمل النسوي لدور مرتقب .
بل لا بد لهذا التأهيل أن يبدأ من الأسس الأولى، ويكون تأهيلاً متكاملاً في مناحي الحياة جميعها، حتى لا يحدث تشتت فكري، أو اضطراب نفسي، أو توزع قلبي،أو خلل حركي.
يضاف إلى ذلك وضوح الرؤية، وتحديد الهدف، والشعور بقيمة الدور وأهميته، وأن يتأصل ذلك كله في النفس، والفكر، والوجدان.
وهذا، ما نفقده في كثير من النساء المسلمات، وبخاصة الطبقة المتعلمة والمثقفة التي تتولى تربية الأجيال .
لأجل هذا فلا مناص من التأهيل؛ ليكون للعمل النسوي الإسلامي دوره الفاعل، وليكون لهذه الصحوة الإسلامية تأثيرها الحقيقي .
وهذا يستلزم الخطوات التالية :
الخطوة الأولى:
أن تعي المرأة المسلمة أن لها دوراً حقيقياً فاعلاً في بناء المجتمع، والأمة المسلمة، وأن هذا الدور لن يتحقق إلا إذا توافرت فيه العناصر التالية:
01 الوعي الصحيح لمقاصد الدين، وتعاليمه، لإيجاد قاعدة إيمانية تعين على الترقي في الالتزام الإسلامي من أدنى إلى أعلى .
02 صدق النية مع الله، وإخلاص العمل .
03 دراسة الواقع المعاصر،نفسياً، وفكرياً، وعلمياً، واجتماعياً، وأسرياً لمعرفة مواقع الخلل، ومواطن القصور، والثغرات .
04 معرفة حقيقة الطريق الذي تسلكه ، وتفصيلاته، وترتيب خطواته، ومراحله.
05 معرفة الوسائل التي تحتاج إليها، والأساليب التي ينبغي اتباعها، واختيار المناسب منها لإصلاح الخلل، وسد الثغرات، وإكمال القصور، بما يتناسب مع طبيعة كل مرحلة، وظروف المكان، والزمان، والإمكانات المتاحة.
06 تحديد الأهداف القريبة، والمستقبلية التي ينبغي الوصول إليها، ووضوحها.
07 معرفة حدود الطاقات النسائية وتجميعها.
08 تحديد ميادين العمل، والتأكد من مدى مساندتها لها .
09 القراءة المكثفة الجادة لفقه النص، وفقه الواقع.
الخطوة الثانية :
البدء بمحاولة تصحيح المفهومات المنحرفة في المجتمع، وبخاصة بين طبقة النساء، وتنمية الاستعلاء الإيماني الذي يرسخ موقف المرأة المسلمة في معركتين، معركة التقاليد المنحرفة، ومعركة التقليد للغرب .
الخطوة الثالثة :
تأهيل أكبر عدد من المثقفات المسلمات علمياً، ودينياً، وعقلياً، وفكرياً، وأخلاقياً، ليكُنَّ طليعة إسلامية قادرة على تحريك المجتمع وقيادته .
( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ).
الخطوة الرابعة :
وضع مناهج تربوية نسائية تراعي خصوصيات المرأة النفسية، والفكرية، والجسدية، وتكون متسمة بالتكامل، والتدرج، والشمول والواقعية، بحيث تعمل على بناء شخصية المرأة المسلمة الواعية، وتناسب فطرتها وتلبي حاجاتها لمواجهة الحياة المعاصرة بمتطلباتها كلها. وفي الوقت ذاته تتوافق مع مراحل حياتها الفكرية، والنفسية، ومقتضيات الواقع المحيط من حيث: التربية العقلية، والاستيعاب الإيماني، وتعويد العقل على الفهم، والموازنة بين الأمور، وتنمية المواهب .
الخطوة الخامسة :(13/230)
رسم منهاج سلوكي متنام مستقيم متفق مع شرع الله، ملائم للحياة الإسلامية الصحيحة، والحياة المعاصرة، متفق مع المنهاج الفكري ، والتربوي، للعمل على تنمية العقيدة الصحيحة، والإيمان الراسخ، والشعور بالمسؤولية. مع البعد عن الغموض والتعقيد.
ولا يكون ذلك إلا من خلال وعي للعلاقة الجدلية بين النص الإسلامي، والواقع الإسلامي، وذلك بدراسة تخصصية جادة لفقه النص، وفقه الواقع.
فإن أي محاولة لا تقوم على أساس عقيدة إسلامية صافية، وتفوق فكري فاعل لن يكون له أثر ؛ ذلك أن اتحَّاد العقيدة والفكر، هو طاقة الدفع الحضاري للعمل الإسلامي، والفصام بينهما هو سبب التدهور والضعف.
الخطوة السادسة :
الموازنة بين الطموح، والإمكانات، وبين ما نسعى إليه، وما نقدر عليه، فلا تتورط النفس في أمور لم تستعد لها، ولم تهيئ لها الوسائل اللازمة. ( فاتقوا الله ما استطعتم).
الخطوة السابعة :
العمل على تحريك المسلمات كافة للقيام بدورهن، مهما صغر هذا الدور، وفي أي مجال، ومكان، وزمان .
الخطوة الثامنة:
تحديد طبيعة العلاقة بين التنظيم النسوي، وتنظيم الرجال، من حيث التبعية والاستقلال. وفق الظروف المحيطة به، مع توعية الرجل بأهمية دور المرأة في عملية البناء والتغيير، من أجل تسهيل تحركها ونشاطها، لبناء الأمة من جديد، كما بناها الرعيل الإسلامي الأول في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال : " النساء شقائق الرجال" فتعمل النساء إلى جانب الرجال في تحقيق خير أمة أخرجت للناس. ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ).
الخطوة التاسعة :
العمل على إيجاد مؤسسات إسلامية نسائية عالمية، تتابع صحوة المرأة المسلمة، وتوحد صفوفها، وتنظم حركتها، وتنقلها من الاجتهادات التطوعية الفردية، إلى العمل الجماعي المنظم، من خلال عقد المحاضرات، والندوات، والمؤتمرات الإسلامية النسائية قطرياً وعالمياً، وفق متطلبات الظروف .
الخطوة العاشرة :
التحرك البصير في جميع شرائح المجتمع، مع التركيز على الشرائح الثقافية المتميزة، من خلال العمل الواعي الجاد في الوصول إلى قلوب النخبة من المثقفات غير الإسلاميات، ومحاولة كسبهن للعمل الإسلامي، وكذلك محاولة الوصول إلى قلوب العامة، وتحطيم الحواجز القائمة والمفتعلة الموجودة بين العمل الإسلامي، وعامة أفراد المجتمع بفعل الظروف الداخلية، والخارجية، وإعادة ولائهم للإسلام من أجل تكوين رأي إسلامي عام يقف وراء الدعوة، ويحبها، ويساندها، ويشد من أزرها .
الخطوة الحادية عشرة :
المشاركة الفاعلة في الأنشطة الاجتماعية المتنوعة، مع التركيز على النشاطات الطلابية في مراحل التعليم العام، والجامعي، والإسهام المتواصل في الكتابات الصحفية: الأدبية، والثقافية، والتخصصية، والدعوية، وإصدار الكتب الإسلامية التي تعالج قضايا المرأة وتحركها في الاتجاه الصحيح. وقبل ذلك كله، تغيير ما بداخلنا؛ لأن الخلل الحقيقي يكمن فيه، وتغيير الواقع يبدأ من داخل نفس كل منا، وهذا يستلزم معرفة سنن تغيير ما بالنفس، والمجتمع، والأمة. ( إِنَّ اللهَ لا يُغَيّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).
وما بالنفس هو : الأفكار، والمفاهيم، والظنون، التي هي مصدر العمل، والسلوك .
وختاماً :
عَوْد على بدء، وهو أن مصير هذه الأمة، واختيار طريق نجاتها، يقتضي منا أن نتحمل المسؤولية، ونقوم بالأمانة، ونؤدي الرسالة، وننتقل من سكونية، الواقع وهامشية دورنا فيه، إلى آفاق حركة المستقبل، وفاعلية دورنا فيه، ضمن إطار منهاج إسلامي تربوي تعليمي صحيح، وأهداف واضحة محددة تكون قاعدة لانطلاقة قوية ثابتة ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبثَاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ).
فالفاعلية في الحياة لا تتحقق إلا بالفهم العميق لطبيعة الدور الذي يقوم به الإنسان في هذه الحياة، ووضوح الفكرة التي يؤمن بها، وتحديد الأهداف التي يسعى لتحقيقها، والغايات التي يعمل لأجلها، واستشعاره لمسؤوليته أمام الله، فالوصول يحتَّم أن تلتقي حركة الإنسان مع هدفه، فإن اختلفت الحركة مع الهدف، أو لم يلتقيا، وجد القلق، والاضطراب، وطال الطريق ( أَفَمَن يَمْشي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشي سَوِياً عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ).*رئيسة تحرير مجلة الشقائق
============(13/231)
(13/232)
أي علمانية تناسب البلاد الإسلامية؟
عبد السلام بلاجي 15/11/1423
27/02/2002
إن هذا السؤال مهم ومحفز لأكثر من سبب: فهو تسليم - كما يظهر - بتعدد العلمانيات من جهة، كما أنه من جهة ثانية يبدو وكأنه يتساءل - ضمن تنوع العلمانيات - عن أيها يناسب البلدان الإسلامية، فهل العلمانية عقيدة عالمية ونظام كوني يحتم على كل الناس الالتزام به؟ أم أن العلمانية بتأويلاتها المختلفة تجربة خاصة أفرزتها سيرورة تاريخية معينة؟
لقد ظهرت العلمانية، بمختلف مدارسها، في بيئات نصرانية، فهل كان هذا مجرد صدفة؟ إن النصرانية، تم التبشير بها أول الأمر في فلسطين على يدي نبي الله عيسى عليه السلام، ثم قامت الدولة الرومانية بنقل مركز الكنيسة من فلسطين إلى بيزنطة، وبعد ذلك نقل هذا المركز إلى روما، علما بأن كلا من بيزنطة وروما لم تعرفا نزول أي نبي أو ديانة سماوية، ومع ذلك فقد اكتسبتا قداسة مركزية أضفتها عليهما الكنيسة وعامل. فهل هذا النقل كان تعسفاً؟ أم أنه يرجع إلى إرادة الكنيسة نفسها التي تدعو إلى إعطاء "ما لله لله وما لقيصر لقيصر"؟ وبالتالي قابليتها الذاتية للفصل بين ما هو روحي وما هو دنيوي؟ أم أن الأمر يرجع إلى هذين العاملين معا؟
وبعد انتقال الكنيسة إلى أوربا، واتخاذها من روما مركزاً لها، شهدت علاقة الكنيسة بالسلطة الحاكمة عدة تطورات، بداية من الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية إلى توازي السلطتين معا، إلى الفصل بينهما في مطلع القرن العشرين بعد كفاح مرير خاضه العلماء والمثقفون في عصور التنوير نظراً لأن المؤسسة الكنسية عرفت عدة ممارسات مستهجنة من قبيل مصادرة حرية التفكير والبحث العلمي، مما أدى إلى إعدام عدد من العلماء والمفكرين، وبيع "صكوك الغفران" أو حجبها عن الناس، وممارسة الدعارة بين الرهبان والراهبات مع دفن الولدان في أقبية الكنائس، أو التحالف مع الإقطاع والوقوف ضد دعوات التحرر والانعتاق...
أما في ربوع الإسلام، فقد كانت هناك تصورات وممارسات ومسارات أخرى مختلفة تماما، فالإسلام ذاته يتشكل من منظومة متماسكة وشاملة لا يمكن فصل مكوناتها: عقائد غيبية، وعبادات منتظمة، وتشريعات تنظم كل جوانب الحياة اليومية، وليس للفقهاء إلا دور اجتهادي واستنباطي لمواكبة مستجدات الحياة، علما بأن دائرة الفقهاء دائرة علمية مفتوحة، وليست مؤسسة دينية منغلقة المنافذ أو هرمية التنظيم، كما أن قبلة المسلمين لم تخضع لأية تنقلات تعسفية من قبل السلطات المتعاقبة في دمشق أو بغداد أو القاهرة أو مراكش أو قرطبة... ولم تكن هناك مؤسسة دينية تعدم العلماء والمثقفين، أو تتوسط بين العباد وربهم، أو ترتكب في دهاليزها فضائح جنسية أو أخلاقية, وحتى إذا وجدت بعض الانحرافات فإنها ترتبط بالسلطة أو بالأشخاص المرتكبين لها وليس بالدين نفسه أو بالأحرى بمؤسسة دينية لا وجود لها أصلا. وحتى في أسوأ الأحوال فإن بعض التأويلات أو الممارسات غير الملائمة قد ارتبطت بتيارات فكرية كالمعتزلة قديما، أو بعض الحركات الإسلامية حديثا. ولهذا السبب لم تجد حتى أكبر الحركات اللادينية راديكالية داخل الأمة الإسلامية مؤسسة دينية محددة تناطحها أو تصارعها، بل إنها تجد نفسها معزولة داخل مجتمعاتها كلما جادلت في قضايا مرتبطة بالدين الإسلامي بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فالأمة إذن هي التي احتضنت الدين، وسهرت على حمايته، فهل يتصور أن يطالب الحاضن أو يطلب منه الانفصال عن محضونه؟! أو يقف صامتاً أمام من يريد انتزاعه منه؟
وإذا عدنا إلى العلمانية ذاتها، وجدنا أن لها مدارس واتجاهات مختلفة نلمسها في مختلف التجارب والتصورات المطروحة، ويمكن على سبيل المثال لا الحصر إيراد التوجهات التالية:
1-العلمانية هي فصل للدين عن الدولة:
باعتبار أن الدين شأن فردي ينظم العلاقة بين الإنسان وخالقه، وأن الدولة مفهوم اجتماعي بشري ينظم علاقة الناس بالدولة، وعلاقة الناس ببعضهم البعض، وهذا التأويل قد ينسجم إلى حد بعيد مع التصور الكنسي نفسه، إلا أن السياسة والممارسات السياسية قد يكون لها اهتمام بالشأن الديني باعتبار جانبه البشري الاجتماعي.
2-العلمانية هي فصل للدين عن السياسة:
إن هذا التوجه أو التأويل أقل تساهلا تجاه الدين من التوجه الأول، فطبقاً لهذا التوجه لا ينبغي أن يكون للدين أي تأثير مهما كان صغيراً في برامج الدولة أو الأحزاب السياسية لا من قريب ولا من بعيد.
3- العلمانية هي فصل الدين عن الحياة:
هذا التوجه أكثر راديكالية ويبرز أكثر ما يبرز لدى بعض "الفرانكفونيين" سواء داخل فرنسا أو خارجها، وهو التوجه الذي أجج المعارك من أجل قضايا دينية شخصية مثل الحجاب، بل واعتبرها تهديدا للعلمانية والديمقراطية مع أنها قضايا فردية بحتة، و هذا التوجه يجعل من العلمانية عقيدة دينية وضعية متطرفة.
4- العلمانية هي القضاء على الدين:(13/233)
ويتمثل هذا التوجه أساسا في "الفكر الماركسي" الذي يرى في الدين مجرد "أفيون" للشعوب، ويطرح العقيدة الماركسية والإلحادية بديلا للدين والفكر الديني، وهو أقرب ما يكون للتوجه السابق، مع فارق هو أن التوجه السابق يبيح التعدد والديمقراطية للعلمانيين دون غيرهم (المؤمنين بالعقيدة أو الدين العلماني) بينما لا يؤمن التوجه الماركسي بالتعددية أصلا، أما الديمقراطية عنده فهي مركزية لا يسمح بها سوى "للبروليتارية" وحلفائها المنضوين في الأحزاب الماركسية.
أما على مستوى الممارسة، فلقد أفرزت العلمانية "الأنجلوسكسونية" أنظمة سياسية أكثر تساهلا تجاه الدين، ففي الولايات المتحدة الأمريكية -البروتستانتية- نجد نظاماً ديمقراطياً رئاسياً يفصل بين السلطات فصلا قاسياً، أما فيما يتعلق بالدين فإنه يسلك منهجا معتدلا، بحيث يسمح للمدارس بتعليم مبادئ الدين للأطفال، وعادة ما يجاهر رؤساء الدولة بالممارسة الدينية التي يعتبرها المواطنون ميزة إضافية للمرشحين للرئاسة، فضلا عن أن مختلف مناطق البلاد تشهد صحوة دينية قوية لا تلقى أية معارضة أو مصادمة من طرف الدولة ومؤسساتها، بل إنها تلقى كل القبول والترحيب.
وفي إنجلترا -الأنجليكانية- أفرزت الممارسة ديمقراطية برلمانية مع فصل مرن للسلطات في ظل نظام ديني غير علماني، وتعتبر هذه الديمقراطية عند علماء السياسة والقانون الدستوري أنضج وأعرق الديمقراطيات، وأكثرها سماحة واعتدالاً واستقراراً.
أما في فرنسا -الكاثوليكية- فقد أفرزت العلمانية، نظاماً ديمقراطياً شبه رئاسي، يتوسط بين النظامين الأمريكي والبريطاني سياسياً، وأقل سماحة منهما دينياً، وأكثر خصومات سياسية، وأشرس معارك حزبية وأيديولوجية.
إن هذه الفروقات السابقة هي التي جعلت البعض يستنتج أن التجربة الديمقراطية الغربية تكون أكثر مرونة وسماحة إذا ارتبطت دستوريا بالدين (أنجلترا نموذجاً)، وأقل مرونة إذا ارتبطت واقعياً بالدين ولم ترتبط به دستوريا (تجربة الولايات المتحدة الأمريكية)، ومنعدمة المرونة إذا انفصلت دستوريا وعمليا عن الدين (التجربة الفرنسية)، بينما يذهب البعض الآخر إلى أن درجة المرونة أو التصلب لهما ارتباط بالمذهب الديني، فهو منعدم المرونة في الوسط الكاثوليكي (فرنسا) ومتوسط المرونة في الوسط البروتيستانتي (ألمانيا وأمريكا)، ومرن جدا في الوسط الأنجليكاني (إنجلترا) وبغض النظر عن هذا التوجه أو ذاك, فإن التجارب الديمقراطية الغربية ذاتها تدل على أنه لا يوجد تلازم حتمي بين الديمقراطية والعلمانية أو الديمقراطية واللادينية، فالماركسية التي أبعدت الدين جملة وتفصيلا كانت أقل الأنظمة ديمقراطية وتسامحاً على الإطلاق.
أما في العالم الإسلامي المعاصر، فقد تعددت التجارب والمسارات، ففي تركيا ومنذ أكثر من سبعين عاما نهج أتاتورك أكثر التوجهات العلمانية تطرفاً، لكن هذا المسارلم يؤت أكله سواء على الصعيد الاجتماعي أو السياسي، فعلى الصعيد الاجتماعي تعرف تركيا صحوة دينية متنامية جوبهت بردات فعل رسمية عنيفة وتراجعات خطيرة على صعيد السياسة والتعليم والإعلام وغيرها، وعلى الصعيد السياسي استطاع التيار الديني اكتساح الانتخابات والوصول إلى سدة الحكم رغم كل العراقيل والمساطر المعقدة المعتمدة الأمر الذي أدى إلى عسكرة الديمقراطية وانسداد آفاقها اجتماعيا وسياسيا وحتى اقتصاديا.
وفي تونس حاول نظام بورقيبة اقتفاء آثار "أتاتورك" فعصفت به الصحوة الدينية دون أن يتمكن حتى من ترسيخ ديمقراطية عسكرية مماثلة للنموذج التركي، وحاول خلفه ترميم الواجهة الديمقراطية بالاستناد على القوى العلمانية المعزولة شعبياً، فنتج عن ذلك نظام ديكتاتوري معزول داخلياً وخارجياً، بل وقعت تناقضات حتى مع التيارات العلمانية التي ساندته في بداية الأمر لاقتلاع الحركة الإسلامية. فلما خلت له الساحة فتك بالجميع.
وفي أندونيسيا حاول "سوهارتو" بناء علمانية أقل تطرفا، لكنها لم تعمر إلا مؤقتا تحت سلطة الجيش والشرطة، لتسقط مؤخراً تحت ضغط الصحوة الإسلامية، لتستأنف الدولة مسارها في ظل نظام أكثر تسامحاً مع الدين وبتمثيل أكبر للأحزاب المستندة إلى المرجعية الدينية.
ويضيق بنا المجال لو أردنا استعراض كل التجارب في باكستان وماليزيا ومصر والسودان، والجزائر والمغرب ونيجيريا... وخلاصة القول أن العلمانية تجربة بشرية محدودة لا ينبغي إضفاء صفة الكونية عليها، وهي متعددة التوجهات والمشارب وليست توجهاً واحداً وموحداً، كما أنها فشلت في التطبيق خارج بلدانها وبيئتها وخصوصاً في البلدان الإسلامية، وهذا يحتم علينا ابتكار أساليب جديدة ملائمة لمسارنا التاريخي ولجذورنا الحضارية، ولبيئتنا الحاضرة، ففي كل أرجاء العالم، فإن الماضي يتحكم في بناء الحاضر، والحاضر يتحكم في بناء المستقبل، وأي إغفال لهذه القاعدة قد يترتب عليه انتحار حضاري أو انسداد وتوقف في مسار التنمية والتقدم.
==============(13/234)
(13/235)
فلسفة النص السياسي العربي(1/2)
أنور علي العسيري 1/11/1423
13/02/2002
على مساحة الأداء التاريخي للسياسة في عالمنا الإسلامي وبخاصة منطقتنا العربية تشكلت أنماط من التجاذبات والصراعات السياسية أثرت في بنية تطورها العام وساهمت مع عوامل أخرى في تحلل نموذجها الحضاري ، فمنذ قرون والامة تقود العالم حضاريا وتزدهر أنشطتها في اتجاهات مختلفة لكنها غالباً ما كانت تفشل في جانبها السياسي الذي كان يهيئ دائماً لسقوطها كأنموذج حضاري إسلامي راق من المفترض استمراره . وفي هذا العصر الذي نعيشه اقتحم (الاستخراب) وأدواته مرتكزاتنا واستطاع التغرير بكثير من المحبطين من هذا التاريخ السياسي وقلة منتجاته القابله للتطبيق والذي تغافل عنها الأداء الفكري السياسي في السابق بشكل لا يتناسب مع تطور الحضارة الإسلامية فكان أن اصطدم ذوو العقول الذين خرجوا يبحثون عن العلم في الغرب بمجتمعات مدنية تمارس حياتها في جو هادئ يتيح للإبداع فرص التكاثر عكس ماكان سائدا في أوطانهم ، ونتيجة لهذه المواجهة التاريخية بين شخصية إسلامية منهزمة من الداخل وسطوة الحضارة المادية سقطت أوراقهم، وبدلاً من أن يأخذوا منهم الوسائل أصبحوا يلهثون وراء قيمهم وأفكارهم وأسلوب حياتهم ، نتيجة لغياب الإيمان العميق والعقيدة داخل نفوسهم.
سهلت هذه الحالة التاريخية الفرصة لتكاثر الأفكار والأيديولوجيات الغريبة عن مجتمعاتنا فمن ليبرالية فرغت الحضارة من قيمها الروحية السامية إلى اشتراكية قمعت الإنسان البسيط من أجل الجماعة(جماعة الصفوة الاشتراكية ولاشك) إلى حركات تحرر مبتذلة تدعي لنفسها القومية والوطنية وهي تستقي وحي عقيدتها الفاسدة من الوحل الأساس ... وفي مدار هذه الهرولة الأيديولوجية كانت الأمة بمجموعها في حالة من الجهل لا يسمح لها أن تعرف أين تقف ومع من تبدأ أجبرت وليس لها من الإدراك ما يجعلها تقاوم هذه حركات الدخيلة فاستلبت فئام من ذوي النفوذ العقلي والسلطوي والمالي مراكز التأثير إرادتها ودفعت بأفكارها عبرها وسخرت وسائل إعلامها ومنتدياتها بل وجعلت المنطق يؤيد وجودها كحتمية تاريخية ...زخم من الاندفاع الأيديولوجي مورس على الأمة من مثل هذه القيادات المتغربة كان من نتائجه: اعتناق عقول من الشباب اليافع لمثل هذه الأفكار وعباراتها الثورية فأنتجت أجيالا متعددة تؤمن بهذه الأفكار كمخرج من حالة التشرذم وخاصة أن فلسطين كانت الورقة الأساسية في يد أي انقلاب يطيح بأي سلطة!
والآن وبعد أن جرب في حقل الأمة إفراز هذه الأيديولوجيات سقطت الأقنعة ، وصدم المؤيدون بهذه الحالة من الانهيار الحضاري والتردي المقيت الذي أوقف أمة الإسلام على طرقات العالم المتقدم تتسول كل احتياجاتها من الخيط حتى السيارة!
حالة من الانهيار تضافرت في شكل صدمات متلاحقة من الأحداث شكلت في تراكماتها التاريخية فرصة لظهور ملامح الحركات الإسلامية على الساحة في مقابل شعور الأنظمة السياسية بانخلاع الشعب عن خطاباتها الرنانة وشعاراتها الأيديولوجية الغريبة عنها والتي لا يفهمها إلا أبناء موسكو ورواد مقاهي نيويورك العابثة! هذا الانخلاع توافق خوفا من انهيار أنظمة هذه الفئات فقررت التوشح بالإسلام ولو صوريا من خلال التصريح علناً بأن الدستور إسلامي ( مع بقاء التطبيق تحت عباءة العلمانية المقيتة) !!
والان ورغم هول الأحداث وتسارعها وفرضها لتغيرات شاذة في منحنى الفعل السياسي العالمي إلا أن هذه الأحداث كذلك قررت أن تفرض جيلاً مسلماً شاباً غير الذي كان قبل الحدث الحادث.
جيل أراه يتزايد كل يوم ولله الحمد والمنة ، يعتز بدينه ويقرأ الأحداث من خلاله ويعرف أن لا نجاة لهذه الأمة إلا السير في قافلة الدين الإسلامي الحنيف، ومما يزيد الأمر تفاؤلاً وقوة أنها أجيال شابة دفعت الملايين من الدولارات لإلهائها عن الحقيقة بتعرية الأجساد على الشاشات الفضائية ورغم ذلك وقفت فطرتهم- بتوفيق من الله- أمام هذا المحك الجلل. ولأن الأمة تمر بمرحلة تمثل منعطفاً في تاريخها كان على أبنائها التوحد وخاصة الحركات الإسلامية ، لكن المشكلة التي كانت و مازالت تعاني الحركات الاسلامية منها هي تلك الريبة من أي مشاركة إسلامية سياسية ! وللحق فان مثل هذه الريبة ليست وليدة حالة بعينها بقدر ما هي وليدة تراكم تاريخي وسياسي واجتماعي وتجارب اقتحمتها الأمة منذ وقت مبكر في فجر تاريخها حتى غدت السياسة وأهلها في نظر الكثير من المسلمين أمر مهين ولا يجب للعاقل أن يقترب من أبوابها بل يصل الأمر إلى حد اتهام العلماء الذين يحاولون التأصيل لهذا العلم ومناقشة دور الأمة في صناعة القرار بتهم أقل ما يقال فيها عنهم انهم يثيرون الفتنة ويخرجون عن الإجماع ويسيرون على درب الخوارج !! سيل من العناوين المعلبة تحاول أن تقتل كل محاولات النهوض الإسلامي وتعتقد أن كل من يخالفها على خطأ، وهم بذلك يتجاهلون أن السياسة وسيلة مهمة لإعلاء كلمة الأمة وأنها نشاط مهم ورحب لإعلان قوة المسلمين مثلها في ذلك مثل الاقتصاد والطب وما سوى ذلك.(13/236)
لقد كانت النتيجة لهذه النظرة القديمة للسياسة إخلاء هذا المركز الحساس للأمة من قوى تحمل الهاجس الإسلامي، مما أدى إلى تمكين قوى الجهل السياسي من إحكام قبضة فهمها لمجريات الأمور وكيفية إدارة الدولة وفق عقيدتها التي لا يخفى على إنسان مواردها .
فأتيح للآخر الغريب عنا وضمن نطاق هذه الرؤية القاصرة أن يستولي على مقاليد الفهم السياسي وأن ينصب أدوات فهمه كمعيار ترتكز على يديه أي محاولة لدخول هذا المعترك الذي رغم منجزات الحضارة الإسلامية وتطورها في مراحل سابقة إلا أن فكرها السياسي ومفكريها ظلوا بأقل من درجة التأثير لصياغة هذا النمط من المعرفة السياسية المتراكمة والتي تسمح باجتياز الأنفاق التي مرت بها الأمة منذ قرون بفعل هذ الاقتتال الداخلي على السلطة السياسية على الرغم من أن الإسلام كان حكمه حاسما في اعتبار واجب المشاركة واجبا شرعيا وخاصة في مبدأ التناصح الذي يعني الرقابة على سلوك وأداء أي حكومة إسلامية وتقويم انحرافاتها، كذلك بسطه لقاعدة العمل الجماعي من خلال مفهوم الشورى الإسلامي إضافة إلى كون السياسة مشاركة لجموع الأمة في النهضة المرجوة كما أكد فلاسفة اليونان على هذا الأمر حين اعتبروا أن السياسة جزء من واجب المواطن الصالح والكامل ، ومن هنا يتكامل الأداء الحضاري في كل جوانبه وتتفاعل المعطيات البشرية الفردية وتندمج مجتمعيا لتؤسس حضارة فاعلة قادرة على البناء وإثراء الآخرين والاستفادة منهم مستلة سيف الحق من نور الإسلام الوسطي .
من هنا بدأت كثير من الحركات الاسلامية محاولة الخوض في المعترك السياسي ورغم أنها قبلت وجود الآخر الوافد إلا أن تلك الحركات ظلت تواجه الرفض من كثير من الحكومات العربية .
وإزاء هذا الركام من الشك الذي يصيب السياسي العربي تجاه هذه المشاركة ، والريبة الكبيرة من نوعية هذا الطرح ؛ من المنطقية العلمية أن نحاول كمسلمين أن نساهم في تفكيك هذا الشك وحالات التوجس السياسي عبر نثر مفردات هذا النص السياسي العربي وإذابة كل تضاريسه ومعرفة أين يكمن الخلل وهذا بدوره ينعكس على اللقاء السياسي الإسلامي بمجموعه فقد قدر للعرب أن يكون لهم قصب السبق عندما تزداد لحظات وعيهم الإسلامي فقط!
وبنظرة مجهرية لهذا النص السياسي العربي الذي هو بمجمله نص يتوائم مع حالات شاذة تضطرب فيها عرى الأمن وتتقوض وبالتالي تفرض هذا النمط الشاذ من الرؤيا والبناء الذاتي لهيكلة هذا النوع من القرار الذي يؤثر في كيان أمة بأسرها لابشخص بعينه ! إن هذا النص السياسي محمل بماض مثقل بالنزاعات والستغراق في الذاتية بحيتث تنقلب أفكار أمة وتوجهاتها لمجرد أن موقعاً سياسيا قد ارتضى تلك الأيديولوجية أو ذلك النمط من الحياة ، وتتم في سني الإطاحة بكل منجزات القرون الماضية وهكذا تأتى كل حالة سياسية لتفرض نصها وبرنامجها الخاص لتعممه على مجموع الأمة دون الأخذ في الاعتبار رأي الدين في مشاريعها ومدى توافقها معه.
لقد سهلت هذه النوعية من القرارات في مقابل غياب الرقابة فتح المجال لظاهرة الاستيراد السياسي لأيديولوجيات لاتنتمي للأمة ثبت فشلها ولامجال لمناقشة ذلك
لعل المتابع لطبيعة النص السياسي العربي تاريخياً يلحظ سمات مميزة؛ فهو نص فرضي أريد له أن يقدم قائمة بعباراته وملامح نموذجه في مجتمعات لاتنتمي له؛ فاضطر إلى بذر بذور الكسر ، واستخدام مصطلحات الإجبار. هذا النص وهذه الفلسفة "الهوبزية" المستخدمة منذ قرون لا تتيح تشكيل مجتمع إسلامي مبدع واعٍ متفتح ، فشعور المرء بإنسانيته هو ما يمنحه القدرة على التميز وبالتالي ينسحب هذا التميز على شكل الأمة ، على عكس الفلسفة "الهوبزية" المتسلطة التي تخرج أنماطاً من البشر ذات سلوك -على أحسن الأحوال- غير فعال وعلى أسوأ الأحوال متمردة على سلطة القرار المفروض . هذا النوع من القرار نجده قد استفرغ كل شخصيته السلطوية في مؤسساتنا العربية فتحولت كل منظمة- رسمية كانت أو غير رسمية-إلى حقل تجارب لهذا النمط من صناعة القرار، وكذا تناثرت أشلاؤه على بنيان المجتمعات حتى وصلت إلى البوابة الأولى للمجتمع المسلم وللأسرة التي غدت -الا فيما ندر-قهرية وسلطوية على رقاب أبنائها يفكر الآباء عنهم خيارات حياتهم، ويقررون عنهم تفاصيل آمالهم دون أن يتاح لهم فرص التعود على نمط الشورى في المجتمع عبر إتاحة نافدة لشورى الأسرة المسلمة! كل ذلك شكل في المحصلة جيلا تواقاً للانعتاق من هذه المتوالية القمعية التي تخنقهم في دوائر متشابكة لا يفصلها فاصل .(13/237)
والآن وقد توسعت مدارك الإنسان و تأكد ـ حتى السياسي ـ بأن كل ما جرب كان سبباً في إعطاء الانهيار سمة مركبة، كان علينا أن نقف جميعاً لنواجه الحدث فأمريكا تريد أن تتحكم في رؤوسنا و شخصيتنا وملامح عقول أبنائنا، وشكل بناتنا، ومكاسب تاريخنا؛ و من هنا فعلى المصلحين أن يخترقوا الجدار في اتجاهين وفي تواز وبمستوى متقارب من الجهد، واحد باتجاه يراد منه بث الوعي في المجتمعات ، وباتجاه آخر يراد منه فتح باب الحوار بكل وسيلة ممكنة لفرض نمط من التغيير في سلوك القرار السياسي، وبنية تركيبه، وإعادة صياغته اسلامياً ، مع الاعتبار بأن هذه المعركة تبارزنا فيها الامبراطورية الأمريكية التي تسعى في هذه الأيام إلى كوننة نمطها السياسي ليسهل لها قيادة الركب بشكل كامل عبر توالي قصفها السياسي والعسكري على المنطقة؛ فلم يبق في العالم الضعيف من يجرؤ على التحدث إلا المسلمون ورغم أنهم في ذيل العالم هذه الأيام إلا أن دينهم وبقيته المستمسكة أبى الله عليهم إلا أن يكونوا أصحاب مشروع يخيف أعتى الامبراطوريات العالمية سطوة في التاريخ !!
إن أكثر ما يدفع تفاؤلنا للاعتقاد بتناسب أرضية الزمن الحالي لإعطاء هذه اللحمة المأمولة شكلاً ملموساً هو هذا التحول المفصلي في تاريخ الغرب مع العالم الإسلامي ، إذ نشهد اقتحاماً لكل خصوصياتنا في عملية وقحة أقل ما يقال عنها: إنها استخفاف بهذه الشعوب وتاريخها ! وهذه هي الحال فكلنا على نفس القارب وعلينا جميعاً أن نكون على قدر المسؤولية... وبهذا فإننا ندعو قوى الوعي وأرباب القرار، وعلماء الأمة ومفكريها على حد سواء إلى العودة لهذا الدين الذي تجاهلناه كثيراً في شؤوننا، وأن نفتح أبواب الحوار الصادق لنحدد مسار تلك العودة، فالحالة التي نمر بها أكبر من أن يسكت عنها مخلص أو أن يمررها ناصح ، فمجرد الانصياع (لروشتة) العلاج الأمريكي سيؤدي إلى اقتتال وفتنة داخلية أتاحت وستتيح فرصاً أوسع لتشكيل العالم الإسلامي ومناطق قواه أمريكياً ، فالإرهاب "المزعوم" لم يكن سببه مناهج تعليمية دينية بل العكس هو الصحيح فإن أهم أسبابه هو غياب المناهج الإسلامية في أغلب دول العالم الإسلامي التي ترشد سلوك الشباب، إضافة إلى ذلك غياب قوى الحرية في مقابل تحرر قوى القمع.إننا نربأ بأمتنا أن تفتح ذراعيها لمثل هذه التوجهات ونعلم تمام العلم أن الحضارة لا ترتقي على أكتاف القهر أو بشعار(( نحن فقط من يملك الحق )) فالغرب يتجه بسرعة مذهلة للاستغراق في الماديات القاتلة حتى أعلن كثير من مفكريه أن الإسلام هو المخرج الوحيد لاعادة التوازن إلى العالم، ولا غرو فنحن نملك المفتاح ولكننا لم نعره بالاً بعد!! فهل يفتح القرار يديه للفكر ، وهل يقبل الفهم أن يرشد الأداء ؟! ... نعم كل ذلك ممكن لو أعلنت الأمة رغبتها الصادقة الموسومة بالعمل في العودة، ولو قررت تفريغ مفكريها لبحث التاريخ ونبش كل مكنوناته لنعرف أين كنا؟ ولماذا أصبحنا وما هو المخرج ؟؟
من هذا المنطلق وعبر هذه المعرفة فليس أمام العقل السياسي وأهل العلم والفهم إلا أن يتكاتفوا أكثر من أي وقت مضى، وأن يفتحوا بوابة طالما أغلقت ... بوابة فتحها العالم الغربي باتجاه أبنائه فاستطاعوا الانطلاق؛ لأن عقولهم حية تنبض كل دقيقة ولا أدل على ذلك من وجود أكثر من أربعين ألف خلية أو وحدة فكرية في أمريكا كل خلية تضم مجموعة من المفكرين المنشغلين بقضية بعينها بحثاً واستقصاءً ودراسةً ... إنهم يستخدمون الفهم لتحديد خططهم وخطواتهم ، فكم مركز بحثياً يوجد في هذه الأمة ؟ وهل فعل القرار السياسي بنتائج تلك المراكز الاسلامية البحثية على قلتها ؟ إننا أمام معضلة داخلية أهم ما يجب علينا فيها أن نلغي الذاتية وأن نحل مكانها الأمة بمجموعها.
بهذا الفهم ستعز الأمة، وسيدوي في العالم صدى حضارتنا، فلامجال أمام الذاتية إلا في الانحسار إزاء ركب الأمة المسلمة .
واخيراً فالحل لن يكون بقرار ... بل بفكر إسلامي حر يحمل على يديه العقيدة
ولا يجب على هذه الأمة مهما احلولك الظلام أن تنسى أننا عباد رب... لاعباد غرب!
==============(13/238)
(13/239)
سقوط قيم الحضارة الغربية
عمر عبيد حسنة 8/10/1423
23/12/2001
المواجهة بين المسلمين وأعدائهم لم تتوقف منذ فجر الإسلام ، مصداقاً لقوله تعالى : " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا " ، فالمعركة مستمرة ، وإن تعددت ساحاتها وتبدلت أسلحتها ، لأن الشر من لوازم الخير ، يقول تعالى: " وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيرا " فسنة التداول الحضاري من طبيعة الحياة : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ولعل ذلك من أقدار الله الغلابة ومن ابتلاءات الخير والشر ، فالمسلمون مستهدفون بأصل إيمانهم وليس بسبب كسبهم أو فعلتهم في كثير من الأحيان ، يقول تعالى : " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد "، وسوف تتداعى عليهم الأمم لتأكل خيراتهم وتستنزف طاقاتهم وتتحكم ببلادهم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، وسوف تجتمع عليهم ، ولن ترضى عنهم حتى يتخلوا عن دينهم ويصبحوا أتباعاً لليهود والنصارى ، وإلا فالمعركة مستمرة : " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " وهذا قد يكون طبعياً من الأعداء ، لكن المشكلة - في غالب الأحيان - إنما تتمثل في غفلة المسلمين وسُبَاِتهم ، وعدم اليقظة إلى مكر عدوهم " ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة " .
وهذا الذي أتينا على ذكره من القرآن ، يشكل قانوناً أو سنة من سن النهوض والسقوط ، والتاريخ شاهد على ذلك في القديم والحديث ، وكم غفل المسلمون أو تغافلوا عن هذا القانون ، وركنوا إلى الذين ظلموا ، ووالوا أعداء الله ، واتخذوا بطانة من دونهم لا يألونهم خبالاً ، وخودعوا بعهود ووعود ، فكان السقوط وكان التخلف ، وكانت الهزيمة الثقافية والسياسية والعسكرية ، لكن من نعمة الله على المسلمين أن تسليط عدوهم عليهم ليس تسليط استئصال وإبادة ؛ لأنهم أمة النبوة الخاتمة ، وإنما تسليط إيذاء وعقوبة على المعاصي الفكرية والسياسية والأخلاقية التي يقعون فيها ، قال تعالى : " لن يضرُّوكم إلا أذى" هذا الأذى ليس هو شراً دائماً بل هو - في كثير من الأحيان -خير " لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم " لأنه أشبه بالمحرّضات والمنبهات الحضارية ، التي تشعر الأمة بالتحدي وتبصَّرها بمواطن التقصير ،وتقضي على الجوانب الرخوة في حياتها ، فتستعد للإقلاع من جديد .. فالغريب أن تتوقف المعارك ويتوقف الأذى ، والغريب ألاّ يدرك المسلمون ذلك حق الإدراك ، وهم يتلون القرآن ويقرؤون التاريخ .
لقد مر على الأمة الإسلامية من الحروب والمواجهات والكيود والعداوات ما يكفي لإلغائها ، ليس من الحاضر فقط ، وإنما لاقتلاعها من الماضي أيضاً ، والذي يعرف طرفاً من هذه الحروب والمواجهات والعداوات المتسمرة ، قد لا يفاجأ بالواقع هنا وهناك ، وإنما يرى ذلك شيئاً طبعياً ، فالشر من لوازم الخير -كما أسلفنا - .
ونستطيع أن نقول : إنه على الرغم من شراسة المعركة ، ووحشية الهجمة على الإسلام والمسلمين في كل مكان ، وضخامة الضحايا والتضحيات ، إلا أن ذلك لا قيمة له إذا ما قيس بالمكاسب التي تتحقق يومياً لعالم المسلمين ، والحقائق التي تتكشف يومياً أمام من كانوا غافلين عن طبيعة الصراع إلى زمن قريب ، وكانوا يحسنون الظن بقيم الحضارة الغربية ، ويتوهمون أنها قيم عالمية إنسانية ، تساهم باستنقاذ الإنسان من الظلم والعدوان ، وتمنحه الحرية والعدالة والمساواة ، وإذا بها شعارات للمخادعة والتضليل السياسي ، طرحت في بلاد المسلمين لإخراجهم عن قيم دينهم وحضارتهم ، وتأمين ارتهانهم السياسي والثقافي للغرب وحضارته وبمجرد أن تعجز هذه القيم الغربية عن تأمين العمالة الثقافية وتحقيق الغايات والأهداف ، التي طرحت من أجلها ، فإن الغرب يكون أول المضحَّين بها والمتنكرين لها ، وشواهد الإدانة واضحة في البلقان ، وفلسطين ، وأفغانستان ، وغيرها كثير .(13/240)
لقد بذل الغرب جهوداً جبارة لإشاعة قيمة الحضارة في عالم المسلمين ، وبلغ في ذلك شأواً بعيداً خاصة بعد سقوط مرحلة الاستعمار العسكري ، وأغرى الكثير من أبناء المسلمين بمحاكاته وتقليده والانتهاء إليه والافتتان به ، فاتخذوه قبلة في ثقافتهم ولباسهم وعاداتهم وكتبهم ومناهجهم وإعلامهم وتعلمهم وطعامهم وشرابهم ، إلى درجة قد يظن معها بعض الغافلين عن سنن التداول والتدافع الحضاري ، أن الأمة الإسلامية قد تودع منها ، حيث انتهى زمام السياسة والثقافة في كثير من بلاد العالم الإسلامي إلى قيادات موالية للغرب ، تحميها حراسات مدينة للغرب في وجودها ووسائلها ومصادرها . لكن الذي نراه ونشهده اليوم في هذه الحقبة ، التي يمكن أن نطلق عليها : حقبة المواجهة الثقافية والحضارية ، بعد المواجهة الاستعمارية : أن المسلمين الذين أسقطوا الاستعمار العسكري في الماضي -على الرغم من قوته وجبروته - يسقط أحفادهم اليوم القيم الغربية ويعرونها ويكشفون زيفها .. وأن هذه المواجهة الثقافية والحضارية اليوم تعم العالم الإسلامي ، من مغربه إلى مشرقه .. وأن البلاد الإسلامية التي أسقطت الاستعمار العسكري ،هي المهيأة دون غيرها للانتصار في المواجهة الحضارية ، وإسقاط القيم الغربية ، على الرغم من تصاعد المواجهة إلى صور من المواجهات المسلحة حيث يستنفر لها اليوم كل أعداء الإسلام .
وما أظن أن أحداً يقدر اليوم على إقناع حتى المسلمين البسطاء ، بأن قيم الحضارة الغربية في الحرية والمساواة والديمقراطية تستحق أدنى احترام أو تقدير ، بعد أن وَأدَها الغرب وتنكّر لها دعاتها من تلامذته ، عندما انقلبت عليه ، ورضي بمساندة الإرهاب والاعتداء والاستبداد السياسي والعسكريات الديكتاتورية في العالم الإسلامي . لقد كان الغرب ودعاة الديمقراطية أول من تنكر لها وضحى بها في أكثر من موقع في العالم الإسلامي ، وذلك عندما أتاحت الفرصة لظهور الإسلام ومجيء الإسلاميين ، وكان دعاتها أول الخائفين منها والمحاربين لها؛ لأن الهوامش البسيطة - لتطبيقها في العالم الإسلامي ، على مستوى النقابات والجمعيات والمؤسسات - عرَّفتهم بأقدارهم وحقيقتهم ، ذلك أن الذين يحاربون الديمقراطية ويخافون منها هم الذين يخسرون مواقعهم عند تطبيقها ..وأن الذين يتهمون بمعاداتها وحربها ، هم ثمار تطبيقها الحقيقي ، وأن الديمقراطية كانت - دائماً - فرصتهم الإسلامية ، والاستبداد وسيلة أعداء الإسلام ، وأعتقد أننا لو أنفقنا ما في الأرض جميعاً لما استطعنا إسقاط القيم الغربية من نفوس كثير من أبناء المسلمين المرتهنين لها ، كما سقطت - اليوم - على أيدي أصحابها ودعاتها الذين كانوا أول المتنكرين لها عندما سمحت بمجيء الإسلام والإسلاميين ، وأصبح من اليقين الثابت ؛ أن هذه القيم الغربية إنما وجدت لتحقق أغراض أصحابها ، وتأمين العمالة الثقافية في بلاد المسلمين .. وأنها بمجرد أن عجزت عن تحقيق أهدافها ، كان أصحابها ودعاتها أول المتنكرين لها .
لقد سقطت القيم الغربية اليوم ، كما سقط الاستعمار الغربي العسكري بالأمس ، سقطت في البلقان ، وسقطت من قبل في فلسطين ، وها هي تسقط اليوم في أفغانستان ، وفي الكثير من بلاد العالم الإسلامي ، حيث يدعم الغرب اليوم العسكر ، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي الذي يغاير قِيَمه بحسب الظاهر ؛ لأن ذلك يحول دون البديل الإسلامي ، الذي بقي الأمل الوحيد .. ولم يبق من سبيل أمام إنقاذ البقية الباقية من قيم الحضارة الغربية في بلاد المسلمين إلا تشويه البديل الإسلامي واستفزازه ، ودفعه إلى ممارسات شاذة وانفجارات عشوائية ، تشوَّه صورته ، وتعطي انطباعاً مخيفاً عنه ، وتصور أن العودة إلى العلمانية وقيم الحضارة الغربية ، هي طريق الخلاص من هذه الأصوليات المرعبة ، ولكن جاء ذلك بعد فوات الأوان وانكشاف الحقائق .. وقد يكون المطلوب من الإسلاميين اليوم ، أكثر من أي وقت مضى:
-التمسك بقيم الحضارة الإسلامية وثوابتها ،وتمثلها في حياتهم حتى يدرك الناس الفوارق الحقيقية بينهم وبين دعاوى الآخرين .
-تجنب المواجهة وردود الأفعال ، مهما كانت الاستفزازات وعظمت التحديات ؛ لأن المواجهة غير المتكافئة سوف تكون لصالح أعدائهم .
-التزام الخلق الإسلامي في التعامل مع الآخر ، مهما اشتدت عداواته .
-الانتصار لقضايا الحرية والمساواة وكرامة الإنسان، مهما كانت التضحيات ، والدفاع عنها كالدفاع عن الأنفس والأعراض .
-عدم الانفصال عن جسم الأمة وأهدافها الأساسية ، وتوسيع قاعدة الالتزام بالإسلام ؛ ليتحول من كونه دعوة جماعة أو جماعات ، إلى اختيار أمة بكاملها .
-الوقوف مع الحق أينما كان ، ومن أي إنسان جاء ، وعدم التعصب للذات ، أوالانتصار للنفس .
-عدم المساومة على القيم والمبادئ والثوابت الإسلامية .(13/241)
-الشجاعة في الاعتراف بالأخطاء ، والإقلاع عنها ، مهما كانت الخسائر ، ذلك أن الفرصة اليوم متاحة أكثر من أي وقت مضى لقيام البديل الإسلامي السليم ، والتأكيد على أن الإسلام دين الأمة وخيارها ، وليس حكراً على أحد ، وليس إلغاءً وتسلطاً لأحد ، وأنه الأمل الباقي بعد سقوط قيم الحضارة الغربية في عالم المسلمين .
============(13/242)
(13/243)
انتفاضة الأقصى … بين رؤيتين!
عبد العزيز بن محمد الوهيبي 22/8/1423
07/11/2001
"بعد أن تهدأ الحناجر من الصراخ ، والأيادي من قذف الحجارة ، والسواعد من رفع كلمات الاحتجاج ودعوات الجهاد، والتحرير … بعد ذلك هل يعلو صوت العقل والحكمة والدراسات المبنية على الإحصائيات والدراسات الدقيقة والتحليل المنطقي البعيد عن العواطف؟" هكذا يتحدث عقلاء الليبراليين ، ومنظرو قاعات الفنادق، ومراكز المؤتمرات الفخمة التي تعمرها الأرائك الأمريكية العالية القيمة . يتحدث هؤلاء أصحاب الياقات الزرق الذين ينتمي كثير منهم إلى مراكز الدراسات والنشر والبحث العلمي التي تعطي الرواتب الضخمة وترتبط بدعم مباشر أو غير مباشر من هذه الجهة الأجنبية أو تلك؟! هؤلاء الذين لا يملون من تكرار النصيحة لنا بعبارات مملولة، وحجج جوفاء يودون لو أن مصطلحات من نوع : الجهاد ، دار الكفر ، دار الإسلام، المشركين … الخ ، يودون لو تختفي من قواميس الخطاب السياسي العربي ليظهر بدلاً عنها مصطلحات من نوع : التعايش ، الشرعية الدولية ، احترام الحدود والسيادة الداخلية … الخ من عبارات عصر التنوير والثورة العلمانية الحديثة هذه هي - وحدها - اللغة التي يودون أن يكون الحوار على أساسها ، ويستخدم نفس أدواتها المنهجية وينطلقون من نفس تحيزاتها المنهجية والمعرفية وخياراتها التاريخية والاجتماعية … لكن هذه الخيارات - وإن كان كثير من النخب الثقافية يستعملونها بإصرار ، ويدافعون عنها بحماسة التبشير العقدي - أقول : إن هذه الخيارات لا تفهمها الجماهير العريضة ، ولا تتعاطى معها ، ولا تستسيغها، وهي
-وإن رضخت لها كواقع جغرافي إكراهي ضاغط- ، ترضخ لها رضوخاً مؤقتاً، وتستسلم لها إلى حين ، وهي تدرك في أعماقها أن الفجر "الصادق" قادم لا محالة ، وأن قدر المواجهة حق لا ريب فيه ، وأن كل وضع -بخلاف ذلك- إنما هي مسكنات مؤقتة ، ومعالجات جزئية ؛ ولذلك فقد انفجرت هذه الجماهير في كل مكان، وعبّرت عن بركان غضبها الهادر بكل السبل الممكنة بل وغير الممكنة أحياناً!! ومضت تلعن جلاديها وتهددهم وتتوعدهم بيوم المواجهة الكبير … " خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود ...!! " .
ونحن إزاء تحليل هذه الحدث نقف أمام نموذجين معروفين متناقضين غاية التناقض: النموذج العلماني الذي يجعل المنفعة المادية هي الهدف الأسمى ولا يؤمن بقضية الكرامة أو الهوية المتمايزة ، أو التناقض العقدي سبباً في التفرقة بين الشعوب ، ولذلك فهو يدعو إلى تطبيع العلاقات ، والتبادل الاقتصادي والتكامل التقني ، والاعتراف المتبادل ، وكسر الحواجز النفسية ، ولو كان ذلك بتغيير المناهج الدراسية ، والمفاهيم العقدية … !!
هذا النموذج هو الذي تأسست على هديه الدولة الحديثة ، ونالت مشروعيتها بالانتماء إلى الأمم المتحدة ، ورضخت لقراراتها وتوجيهاتها، وقبلت بالتعاطي معها والتحاكم إلى مؤسساتها ، وشاركت وأقرت بمؤتمراتها ولجانها واجتماعاتها؛ ذلك أن أي خروج عن هذه الشرعية هو - في رأيها- خروج عن أصل وجودها ومبرر سلامتها وأمنها . هذه الدولة على هذه الرؤية والمشروعية شكلت بناها الداخلية، وتوجهاتها الخارجية على هذا الاعتبار ، وبذلك فهي تتوجس من أي معالجة تخرج عن هذا النسق .(13/244)
في المقابل هنالك الجماهير المسلمة التي تملك مرجعية دينية تؤمن بالله واليوم الآخر ، وتعتقد: أن من قُتِلَ دون أرضه فهو شهيد ، وأن الشهداء في منزلة عليا من الجنة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، وأن الشهيد يرغب أن يحيا ثم يستشهد ثم يحيا ثم يستشهد مما يجد من منزلة الشهيد . وهي كلها قيم ومفاهيم لا يفهمها العلمانيون ولا يقدرونها ولا يتعاملون معها … العلماني يقلقله انخفاض ميزانية الدولة الفلسطينية وعدد العاطلين عن العمل و… و… وغيرها من فقدان الأشياء المادية عاجزاً تمام العجز عن إدراك المعنى العميق الذي تبعثه هبة الشعب الكريم للذود عن حياضه ، عن حجم الكرامة والقيمة والمعنى الذي تبعثه هذه الحركة الجماعيّة في جسد الأمة ، التجاوز عن القيم المادية إلى القيم العليا نقله يعجز عنها الكثير من هؤلاء المثقفين للأسف ، وهم مرتهنون -تماماً- بالنموذج الغربي المعادي والمتحيز … لا يدرك هؤلاء كيف يتمكن شعب أعزل - إلا من سلاح الحجارة أن يواجه جيشاً مدرباً ومتخصصاً على أعلى فنون القتال الإلكتروني الحديث ؟ كيف يمكن لأسر تمزق تحت مطارق الأعداء في سكنها ومصدر قوتها وفي أجيالها الصاعدة ومع ذلك تقاوم وتقاوم !! هؤلاء لن يدركوا -أبداً- هذه المعاني؛ لأنهم تدربوا تدريباً عالياًًً عللى التفكير بالطريقة الغربية ، وقد تشكل مع الوقت بينهم وبين أمتهم "حاجز"يصعب عليهم أن يتجاوزوه . في الرؤية العلمانية "الموت" فناء لا حياة بعده ؛ ولذلك فلا معنى لأن نموت من أجل أي شيء في الرؤية العلمانية البذل هدر مغفل للطاقة في غير موضعها وبلا مردود فهو تهور وجنون وفي الرؤية الإسلامية من تزكى فإنما يتزكى لنفسه ومن يبذل يعطِهِ الله ويعوضه. ومن هنا ندرك لماذا كانت الشعوب تستنجد بهويتها الدينية دائما في لحظات الصراع التاريخية ،لحظات التحرر من الاستعمار أو المواجهة مع العدو أو المواجهة مع المحتل؟ في تلك اللحظات كان يتقدم أساتذة الكتاتيب، وحفاظ القرآن من أمثال عمر المختار أو عبد الحميد بن باديس ويتراجع أصحاب الياقات الزرق خلف مكاتبهم حتى ينكشف الغبار فإذا رجع المجاهدون تحت رايات النصر المبين تقدم هؤلاء باعتبارهم الأقدر على الإدارة والكلام ، ثم لا نحتاج لكثير وقت حتى نكتشف أن المعركة أصبحت معهم لا مع الخصم البعيد !! فهل تتكرر مآسينا؟ نأمل ألا يحدث مثل ذلك. ولله الأمر من قبل ومن بعد .
=================(13/245)
(13/246)
العلمانية قوانين ظالمة.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى اله وصحبه اجمعين وبعد :
في هذه المداخلة اود ان اضع بعض العيوب العامة للعلمانية وقوانينها المعمول بها في العالم ولن استخدم شيء خاص بدولة وانما ما كان تابع للنظام العلماني وهو مشترك لكل معتقدي العلمانية.
الباب الاول: الاموال
اساس الاموال هي ما يمتلكه الشخص من متاع او عقار ولا تختص بالنقد المتداول بين الناس فالاموال في اساسها مقابلة لكلمة الاملاك في مصطلحاتنا المعاصرة . التركيز هنا اساسا على النقد لا على الاملاك نفسها لان الاموال بها يقيم الاملاك في النظام العلماني . وهي ليست كما يظن الكثير بانها مقياس للاملاك بل هي خدعة تسرق بها الدول شعوبها ومن يتعامل في هذه العملة .
************************************************** ********
مقدمة لا بد منها
**********************************
التحول من النظام الذهبي او المسكوكات الذهبية الى النظام الورقي.
بعد مرور مدة طويلة على المقايضة كنظام منفرد في التبادل السلعي , وجد الناس بعض السلع التي تصلح كمادة تبادل يقاس بها السعر او ثمن المقايضة يحتفظ به ولكون الذهب والفضة من اكثر الاموال التي تحتفظ بقيمتها بشكل نسبي اعتمدها الناس للتبادل , فبعد الحصاد لا تستطيع شراء كل ما يلزمك للموسم المقبل بل ان حاجاتك ستتقلب حسب الحوال وحسب احتياجك الطاريء وبنفس الوقت لا تستطيع ان تخزنه الى مدة طويلة وتعرضه للتلف . الحل هو ان تبدله الى سلعة يمكنك ان تبدلها مع اي شخص بسهولة . من هنا ابتدأ امر المسكوكات من دنانير ذهبية ودراهم فضية .
*********
الدراهم والدنانير هي اموال عرضة للضياع والسرقة كما انها عبيء في المبادلات الضخمة . في البداية بدأ اصحاب الاموال باصدار اورق سميت بالبنكوت وهي اوراق مالية يمكن استبدالها من عند الصراف بقيمتها نقدا اي ذهبا وفضة .
انتشر التعامل في اوراق البنكوت حيث تحول الاصدار من البنوك او المصارف الى الدول فتولت الدول اصدار اوراق العملة بطريقة يمكن لاي شخص يحمل هذه الاوراق التوجه الى المصرف المركزي ثم تبديل الاوراق النقدية بما تكفلت به الدولة كقيمة لهذه الورقة ,مما يلزم الدولة بعدم اصدار اوراق مالية دون وجود ما يغطيها من الذهب .
بعد ذلك اصدرت قوانين تلغي التحويل مع احتفاظ العملة بقيمتها ذهبا او ما يقابلها من ضمانات.
بعد الغاء التحويل كان بامكان اي شخص شراء الذهب من المحلات التجارية على شكل سبائك بقيمة التحويل .
لاسباب عديدة الغي الربط بين العملة والغطاء الذهبي للعملة , مما جعل الورق النقدي يتغير قيمته بالنسبة للذهب .
لم يتوقف الامر عند هذا الحد بل تجاوزه الا تصرف الدول بمخزونها او الغطاء بمقابل سمعة الدول او قوة اقتصادها .
************************************************** **
الوضع الحالي للعملة :
العملة حاليا تمثل تعهد من الدولة بالمحافظة على قيمة تبادلية دون وجود قيمة حقيقية للعملة . فبامكان الدولة تخفيض قيمة العملة او ربطها بعملة اخرى او ترك قيمتها معومة مربوطة بالاقتصاد المحلي , ومن هنا يمكن لاي دولة تغير عملتها او تخفيض قيمتها دون سابق انذار .
************************************************** *****
************************************************** *****
دول تسرق شعوبها!!!!
عندما تمتلك عقارا وتتغير قيمة الصرف فان هذا العقار سيتناسب قيمته مع القيمة الجديدة للعملة بشكل عكسي
عادة , اما ان كنت قد بعت عقارك قبل تغير قيمة العملة فعوضك على رب العالمين فان ما تملكه من نقد لا يمكنك من شراء عقارك مرة اخرى . ما معنى ذلك ؟
ان الفرق بين القيمة الجديدة للسلع والقيمة القديمة هو مقدار ما سرقته منك الدولة بشكل مشروع علمانيا
ما حكم ذلك شرعا ؟
هو حرام
يعد بمثابة السرقة
من ذلك حكم على من قطع من الدنانير الذهبية في الماضي انه سارق ويجب اقامة حد السرقة عليه.
اما هذه الدول ما هدفها من تخفيض العملة ؟
الغرض الاساسي هو تغطية ما عجزت الدولة عن دفعه من اجور ومرتبات وتخفيف الاعباء الداخلية المترتبة على الدولة نحو مواطنيها .
فاذا كان اساس التداول في الدول العلمانية مبني على السرقة . فما ترجوا من مواطنيها؟؟؟
اذا كان هذا نصح امريء لنفسه******فمن ذا الذي منه الهدى يتعلم ؟
==============(13/247)
(13/248)
العلمانية وانكشاف الأجندة الخفية
بقلم : أنور بن علي العسيري
في حراكنا الإعلاميّ والثقافيّ المحليّ يلحظ المتابع المحايد روابط تكاد تشكّل حلقة واحدة متّصلة رغم تقطّع مراحل ظهورها، وتنوّع وسائل التعبير عن نفسها.. الأجندة الخفيّة التي تحالفت وتناغمت في معزوفة ذات رؤية مرحليّة واستراتيجيّة واحدة؛ تكشف عُريها عبر الأعمدة الصحفيّة الناريّة التي تقذف حمم مهاجمة الصالحين، ومحاولة تهديم بيوت الدّعاة، وَ وَصْم المخيّمات الدّعويّة الشبابيّة بتفريخ الإرهاب، وإلصاق تهم التكفير والتفجير بمراكز الشباب الصيفيّة، ودعوة المسؤولين إلى الأخذ بيد الحزم سلاحًا للوقوف ضد تنامي الدّعوة ومحاولة توجيه الناس للخير.. والعذر العلمانيّ لديهم هو أنّنا مجتمع مسلم مئة في المئة ولا نحتاج مزيدَ إسلام!
ويتوّج كل هذه الهجمة المفتعلة من تيار القلّة الشّاذة عقد ندوة هنا أو مؤتمر هناك؛ لتوجيه أصابع الاتهام (الخفيّ) إلى الدّعاة بتكريس وترسيخ منهجيّة أداء العنف في عقل شباب الصحوة التاريخي.
هي حملة شرسة قطفت من ثمار التفوّق المادي الأمريكيّ العالميّ تفوّقها الوهميّ تنكئ على معطى خارجيّ، وتنظر إلى أيّ تقدّم تناله دولة المركز الليبرالي متنفسًا لها لتدعيم وجود صوتها في مجتمعنا.
ومنذ أنْ حلّت كارثة العلمانية في عقول بعض أبنائنا الذين انتقلوا إلى الغرب لتعلّم التطوّر التقنيّ فانسلت ونتيجة لظروف غيابهم عن الدين منذ نشأة الكثير منهم وما كان يعيشه مجتمع النشأة من تخلّف ماديّ قياسًا بهول صدمة التفوق الحضاريَّة منذ حلول هذا الداء الإقصائيّ في هذه العقول وفكر تحطيم الدين في قلب المجتمع المسلم هو الفكر الرائج، والذي يراهن عليه هذا التيار لهزيمة فريق الاستمساك بالثوابت الأصيلة، والتي يُنظر إليها على أنّها بوابة الماضي الذي يجب إهماله للدخول في عالم الحداثة العالميّة.
هذه الرؤية شغلت في إطار الوضوح الرقم صفر.. لأنّها علمت يقينًا بقوّة الدين في تشكيل حياة المجتمع ما جعلها تهرول نحو منابر الإعلام تتسربل برداء حبّ الدين وتسعى زاحفة إلى هدمه من الخلف.. عاشت هذه الأقلام سنين تتدثر بهذا الأداء (الخفيّ)منهج حياة تؤسّس على قاعدته مزيدًا من تهيئة العقول الشّابة، واختراق الصف إلا أنّها فشلت فشلا ذريعًا في تكوين قاعدة مجتمعيّة، أو تجسيد نموذج حداثيّ علمانيّ صالح للحياة في وسط مجتمع إسلاميّ يمجّد القدوة الشرعيّة ويحتفي بها طريقًا للحياة.
ورغم انهزامها إلا أنّ ظروف التغيّر العالميّ فتح مسار التعبير الأكثر وضوحًا لهذه الفئة الضّالة للاستقواء بالأجنبيّ، واعتباره قادرًا على إحداث التغيير المستقبليّ المنشود وفق خططهم لعلمنة أرض الحرمين متى هجم هذا التصوّر الغربيّ بقوّة مادّته وسطوته العالميّة على وطننا الإسلاميّ الحرّ
وتعتبر الكتابات الصحافيّة التي انتشرت في أصقاع الصفحات هذه الأيام نموذجًا يسجل لحظة تاريخيّة في حياة مجتمعنا المسلم على مدى ارتباط هذا الفكر بالسيد الغربيّ! وعلى مدى التناسب الطّرديّ بين الشهرة وتخريب قيم المجتمع، فكلما نزع قلم إلى نزع حياء المجتمع وضرب قيمه كلما ازدادت شهرته، وبزغ نجمه في الإعلام المحتكر من قبل سلاطين الفكر الاقصائي المستغرب والأمثلة والشواهد كثيرة.
قلم: يبارك قرار تخفيض عدد المخيّمات الصيفيّة باعتبارها مراكز تفريخ الإرهاب والبديل الاحتفاء بنجوم الفنّ، وفتح أماكن للتطعيس وملاهي للرقص حتى ينجو المجتمع من تطرّف رجال الدّين!
قلم آخر: يقفز إلى الوراء بعيدًا وهو يخاطب المسؤولين من موقع مسؤوليته الصحافيّة، وخوفه على أبناء وطنه من التطرف بالحزم في وجه الدعاة المتجولين الذين يجوبون القرى والهجر يحملون بضاعة لا اله إلا الله محمد رسول الله.
يدعو هذا القلم إلى منع هؤلاء وتحديد أسماء رسميّة محدّدة للظهور في الإعلام بدل فتح المجال لكلّ داعية؛ فمجتمعنا مسلم عن بكرة أبيه ولا يحتاج مزيد إسلام!
قلم ثالث: يتوجّع من حال وطنه الذي استشرى في جسده نور الدين!! تنتشر مراكزه الصيفيّة في كل مكان، وتحلّق في أجوائه المخيّمات الصيفيّة، ويطالب بالتحديث وتغيير نظرة المجتمع للحياة، وزرع البسمة بدل اقتطافها، وذلك لا يتمّ إلا بمشروع مبارك لإحياء مزيد من الحفلات الموسيقيّة وفتح المجال أمام المرأة لمنافسة الرجل في عمليّة اختلاط لا تجد من ورائها أيّ فرصة حقيقيّة لبناء سوق عمل سعوديّ منتج بقدر ما هي دعوة لإحلال الفساد وتطبيع الانحراف في مجتمع آمن لم ير ولم يسمع من قبل شذوذًا بمباركة أبنائه!
أقلام تنحدر من أعلى قمم المسؤوليّة الأخلاقيّة تهوي بالأمة ألف خريف وهي لا تدري.. وأصوات تعالت حاسرة عبر الفضائيّات التي انتشرت انتشار النار في الهشيم لتفتح لهم (وبأموالنا) منافذ تأثير لم تحلم بها عقولهم القاصرة عن فهم أيّ شيء.(13/249)
هاهم يمتطون كراسي التقديم والإعداد ليعلنوا عن هجومهم الرامي إلى إلصاق تهمة التطرّف بفكرنا الديني، وتوزيع الجرائم على المجتمع كل وفق تخصصه؛ فهذه الفئة تقتل إبداع النساء، وأخرى تحرمها من الميراث، وثالثة تمنعها من العمل، ورابعة تعتبر التحدّث عن الاعتدال سلوك غير طبيعي ينتهزه رجال الدعوة لعبور نفق الإرهاب ناسية أو متناسية أنّ الإسلام دين الاعتدال، وأنّ علماءنا ودعاتنا أهل منهج الوسطيّة عقيدة لا تملّقًا وتقية!!
ومتجاوزين التاريخ الإسلاميّ العتيق الذي نزل وحيًا من السماء، وانتقل انطلاقًا من ارض الحرمين الشريفين مشكّلا أبناء هذه الجزيرة قدوات يتطلع إليهم الجميع منذ فجر التاريخ الإسلاميّ.
إنّ هذه الدعوات تهدف (إضافة إلى علمنة البلاد) إلى محاولة تحطيم القدوات الإسلاميّة التي يتقدمها أبناؤنا من علماء ودعاة إجلاء في صفوف المواجهة الحضاريّة الإسلاميّة مع الآخر إلى تقديم نماذج جديدة من القدوات المحليّة للعالم الإسلاميّ.. الرذيلة وطنها، والإسلام خصمها فتحلّ بارتفاع أسهم هذه النماذج نكبة كبرى في عالمنا الإسلاميّ عن بكرة أبيه؛ إذْ بانهيار المركز تتفتّت الأطراف.
دعوات خطرة وغايات هرمة وانتهازية مقيتة ومحاولات تصفية حسابات بالية في موطن يعيش أزمة وتربص شديدين ينبغي على من ملك فكرا نيرا أو قلما طيعا أن يدرك خطورة المرحلة وإسلامية هذه البلاد التي حباها الله بالحرمين الشريفين فذلك اعز وأنقى من الخضوع لولاية الغرب وحجز مقاعد التبعية الحداثية لمن يريد محاربة دين هذه البلاد والاعتداء على مقدساتها!
=============(13/250)
(13/251)
الجواب عن شبهات الداعون إلى علمانية العاصمة القومية
بقلم : د.عبد الحي يوسف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فإن طرح الشبهات وإيراد المشكلات دأب أهل الضلالة من قديم، يفعلون ذلك صداً عن سبيل الله واستجابة لداعي الهوى في نفوسهم التي جبلت على الإعجاب بالرأي وإيثار العاجلة على الباقية، وفي القرآن الكريم نماذج لبعض تلك الشبهات التي طرحها المشركون الأولون على الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كقولهم: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)، وقولهم: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)، وقولهم: (أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر)، وقولهم: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وجماع ذلك قول الله في القرآن: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، قال أهل التفسير: نزلت الآية فيمن اعترضوا على تحريم الميتة بقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم : ما قتله الله حرام وما قتلته بيدك حلال؟ وقوله - سبحانه -: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، وهم في هذا كله يدّعون أنهم أهل استقامة وسداد وأنهم يرومون الخير للناس: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
وهاهنا نعرض لبعض هاتيك الشبهات التي يروِّج لها الداعون إلى علمانية العاصمة القومية:
[1] قولهم: إن في العاصمة ناساً يدينون بغير الإسلام وفي الحكم بالشريعة تضييق عليهم:
والجواب: أن وجود غير المسلمين في مجتمع يحكم بالإسلام ليس وليد اليوم، ولا هي مشكلة طارئة تحتاج إلى بحث، بل منذ أن بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وقامت للإسلام دولة في المدينة، وغير المسلمين ـ من اليهود وغيرهم ـ موجودون يعيشون بين ظهراني المسلمين ويمارسون شعائر دينهم؟ فما الجديد إذن؟ ومتى كان وجود الأقلية في أي مكان أو زمان يمنع الأغلبية من أن تطبق دينها؟ وهل عهد في تاريخ الإسلام كله إجبار غير المسلم على الدخول في الإسلام؟
يقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: "وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون ـ الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة ـ أن النظم والديانات ليست مما يفرض قسراً فعاملوا ـ كما رأينا ـ أهل سورية ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم نظمهم وقوانينهم ومعتقداتهم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم".
وغير المسلمين ـ تحت حكم الإسلام ـ في حمايةٍ من كل ظلم داخلي أو اعتداء خارجي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه كنت أنا خصمه يوم القيامة))، بل إن الثابت ـ واقعاً وتاريخاً ـ أن المسلمين كانوا هم المتضررين من تطبيق غيرهم ما يحسبونه ديناً، حيث عانوا في القديم من محاكم التفتيش في الأندلس ـ وقد اعترف بذلك مفكرو الغرب ومؤرخوه ـ وفي التاريخ الحديث ما أمر البوسنة وكوسوفا عنا ببعيد؟ ونقول أيضاً: إن الالتزام بالتشريع الإسلامي لا يمس حقوق غير المسلمين؛ لأن الإسلام كفل لهم حرية الاعتقاد وتطبيق تشريعهم في الأحوال الشخصية، ومن المعلوم للكافة أن الإنجيل ليس فيه أحكام تشريعية في المسائل المدنية والتجارية، ولهذا يأخذ النصارى في كل دولة بتشريعها في هذا المجال، فضلاً عن ذلك فالقوانين الدولية قد تواترت على إقليمية التشريع في جميع التشريعات إلا في مسائل الأحوال الشخصية، وبمقتضى ذلك يخضع الشخص لقانون الإقليم الذي يعيش فيه.
ثم ماذا يضير النصارى أن تمنع الخمور ويحظر الفجور ويلغى الربا ويحارب البغاء؟ هل يزعم أحدهم أن ديناً نزل من السماء يبيح شيئاً من ذلك؟ اللهم لا. لكن منطق الاستبداد الأرعن الذي تمارسه أمريكا على سائر الأمم هو الذي يحملها ـ ومن وراءها من الأذناب كحركة التمرد ـ على أن يحاولوا منع المسلمين من تطبيق شرائع دينهم تحت ذرائع شتى، والحال كما قال ربنا: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، لكن العجب العاجب هو أن يرضى بعض من ينتسب إلى الإسلام لنفسه أن يكون مروّجاً لمثل تلك الأباطيل، واضعاً في طريق سيادة الشريعة شتى العراقيل.
[2] قولهم: إن تطبيق الأحكام الشرعية يحرم العاصمة من مجيء السائحين، وترك الأحكام الشرعية يجعلها عاصمة جاذبة:(13/252)
والجواب: أن العقلاء وأهل المروءة متفقون على أن الغاية لا تبرر الوسيلة وأن ما عند الله لا يطلب بمعصيته، وقد قال العرب الأوّلون: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها". ثم من الذي يقول: إن العاصمة لا تكون جاذبة إلا إذا أبيح فيها الحرام؟ لو أنصفوا لقالوا: إن الواجب علينا أن نرعى الأخلاق، ونحفظ حدود الله من أن تضيّع فنحلّ الحلال ونحرّم الحرام؛ حتى يأتي إلينا السائحون الملتزمون وهم آمنون على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولو أنصفوا لقالوا: إن الواجب أن تتضافر الجهود لترقية الخدمات وتأمين الماء والكهرباء، وتعبيد الطرق وتوسعة المطارات وتجميل المسارات وإنارة الشوارع حتى تكون الخرطوم عاصمة جاذبة، بدلاً من الدعوة إلى العلمانية المنكرة التي تبيح ما حرم الله فنكون ممن لم يحفظ ديناً ولم يصلح دنيا، (وشر الناس من خسر الدنيا والآخرة)، ونذكّر أنفسنا وهؤلاء بقول الله - عز وجل -: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((ولا يحملنكم طلب الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله))، ومن التاريخ القريب يعلم المنصفون أن الخرطوم كانت يوماً ما ـ بوجهها الشائه وخدماتها المتردية ـ عاصمة الموبقات المهلكات فهل جذب ذلك السائحين إليها؟ أو فتح أبواب الرزق عليها؟ اللهم لا هذا ولا ذاك. لكن..
يقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
ثم ألا يعتبر هؤلاء بحال أمم سارت في ذات الدرب فلم تحصد إلا المرّ والعلقم، فلا أزماتها الاقتصادية حلّت، ولا وحدتها الوطنية حققت، ولا مشاكلها الأمنية زالت، بل زادت، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى).
[3] قولهم: إن الاستمساك بهذا الأمر ـــ أي تطبيق الشريعة في العاصمة ـــ يفوّت فرصة تحقيق السلام الذي بات وشيكاً بزعمهم:
والجواب: أن أهل الإسلام مجمعون على أن حفظ الدين مقدّم على حفظ النفوس والأعراض والأموال والعقول؛ وعليه فلو كان السلام في مقابل التنازل عن أحكام الله - عز وجل - فنقول: لا حيّاه الله ولا سقاه ولا مرحباً به ولا أهلاً، وحسبنا أن نذكّر أنفسنا؛ لتكف عن طاعة المبطلين، بتلك الدماء الزكية التي نزفت على أرض الجنوب والشرق لتكون كلمة الله هي العليا، فهل كان ذلك ليأتي آتٍ بعد زمان قريب ليقول: لا بأس بالتنازل عن الشريعة في العاصمة من أجل تحقيق السلام، ولو أن امرءاً رضي لنفسه أن يتنازل عن دينه لينال سلاماً متوهماً؛ فلن يبالي بعد ذلك بالتنازل عن عرضه، ومن تتبع تاريخ المتمردين وزعيمهم في نقض العهود ازداد يقيناً بقول الله في القرآن: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)، وبقوله - سبحانه -: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)، ومن أعطى الدنية في دينه فرضي بتغييب الشريعة في العاصمة اليوم فسيرضى بتغييبها في غيرها غداً.
[4] قولهم: إن علمانية العاصمة علاج للأوضاع وحماية لها من التعصب الديني:
والجواب: هو أن العلمانية ما كانت في يومٍ من الأيام علاجاً للتعصب الديني أو الطائفي أو العرقي، ومن كان في شك من ذلك فليرجع إلى تاريخ بلاد ارتضت العلمانية مبدأً ومنهجاً من قديم ـ كالهند ولبنان وتركيا ـ هل حالت العلمانية دون قيام مذابح الهندوس ضد المسلمين في الهند؟ أم حالت دون قيام الحرب الأهلية التي استمرت سنين عدداً في لبنان؟ أم حالت دون اضطهاد الأكراد في تركيا؟ والتاريخ شاهد بأن حرب الجنوب قامت قبل أن تطبق الشريعة سواء في ذلك التمرد الأول أو الثاني، بل إننا نقول إن المسلمين هم الخاسرون من تطبيق هذا المبدأ الفاسد حيث عهدنا في أكثر البلاد علمانية ـ كفرنسا مثلاً ـ أن تمنع الفتاة المسلمة من ارتداء حجابها في المدرسة، وفي تركيا تمنع نائبة في البرلمان من الدخول إليه إلا بعد خلع حجابها فأين العلمانية هنا؟ إن علاج التعصب لا يكون إلا بنشر الوعي وبث العلم وتربية الناس على فن الحوار مع الغير واحترام النظام وأدب الكلام، ولا أنفع ولا أطيب ولا أحسن من هدي القرآن في ذلك، (وجادلهم بالتي هي أحسن)، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (لا إكراه في الدين)، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولو أنصفوا لقالوا: إن العلاج يكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، ورفع الظلم وبسط العدل بتطبيق الشريعة.
[5] قولهم: إن العلمانية هي المبدأ السائد الذي يحكم العالم الإسلامي كله، وما ينبغي أن نكون نشازاً بين الناس:(13/253)
والجواب: أنه قد أجمع علماء المسلمين من قديم على أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، وأنها حجة عليهم لا العكس، وقد قال الله - عز وجل - في القرآن: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، وقال: (وإن كثيراً من الناس لفاسقون)، (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم)، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام ستنقض عراه عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة، وأخبرنا أن الكتاب والسلطان سيفترقان وأمرنا ألاّ نفارق الكتاب، ثم أي عقل هذا الذي يحكم على المكلّف بأن يدع تعاليم دينه ويهمل شريعة ربه ويكون إمعة لأن الناس أو أكثرهم فعلوا ذلك؟ وقد علم الناس أجمعون أن العلمانية ما حكمت العالم الإسلامي برضى المسلمين ولا مشورتهم، بل فرضت بقوة الحديد والنار عن طريق الانقلابات العسكرية التي قام بها أذناب المستعمر ومن ثم مارسوا التضييق على الدعوة وأهلها، وعمدوا إلى تغييب الدين عن حياة المسلمين، ومنذ أن طبقت ما عرف المسلمون تقدماً ولا رقياً بل إن أعرق البلاد المسلمة علمانية ـ وهي تركيا ـ صار همُّ ساستها اللهاث خلف أوروبا، والتوسل من أجل أن يمنحوا عضوية في الاتحاد الأوروبي، وفشلوا في ذلك رغم قول قائلهم من قديم: "لا بد أن نأخذ بحضارة الأوروبيين حتى النجاسات التي في أمعائهم والأوبئة التي في أكبادهم".
[6] قولهم: إن الدين لله والوطن للجميع، فلا بد أن يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات:
نقول: بل الدين لله، والوطن لله، والحكم لله، والخلق عباد الله، (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)، وماذا يضير غير المسلمين في أن تحكم الأغلبية بشريعتها وترجع إلى أحكام دينها في الأمر كله؟ ثم ماذا لو حدث العكس وكان المسلمون هم الأقلية هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟ وهاهم المسلمون يعيشون في البلاد الكافرة ـ في أوروبا وأمريكا ـ ويخضعون لأنظمة وتشريعات تتعارض مع بدهيات دينهم، ولا يجرؤون على المطالبة بتغييرها أو تعديلها، ولو فعلوا لقيل لهم: هذا هو حكم الأغلبية، إنه لا يقبل شرعاً ولا عرفاً بل ولا ديمقراطياً ـ وهم أكثر الناس تشدقاً بالدعوة إليها ـ أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لا سيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات. ثم لماذا يتخلى القوم عن علمانيتهم القاضية بأن القانون الحاكم يجب أن يكون نابعاً مما ترتضيه الأغلبية؟
[7] قولهم: إننا متدينون نصلي ونصوم ومع ذلك نعتقد أن العلمانية هي العلاج الناجع والدواء الشافي:
نقول: إن العبادات والتشريعات وأحكام المعاملات من عند الله ولا يد فيها للبشر، والإسلام كل لا يتجزأ، فليس مسلماً من قال: أصلي على نظام الإسلام وأتخذ منهجاً سياسياً على نظام ميكافيللي، ونظاماً اقتصادياً ماركسياً، كيف يكون الشخص متديناً وهو يرفض حكم الله وحكم رسوله، وصريح القرآن يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)، ويقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)، وهذا الفهم المغلوط للتدين هو الذي حمل بعضهم على أن يحج ويعتمر وينتسب إلى بيوتات دينية، ثم لا يبالي بالجلوس على مائدة يدار فيها الخمر أو يراقص الفتيات؛ لأن التدين في فهمه الكاذب الخاطئ قاصر على جانب الشعائر وحدها ولا علاقة له بمعتقد أو سلوك.
[8] قولهم: إن في تطبيق العلمانية ضماناً لعدم استغلال الدين في أغراض سياسية:
ولغرابة هذه الشبهة فإننا نستعمل معهم الدَّوْر فنقول: علينا ألا نطبق العلمانية لنضمن ألا تستغل في أغراض سياسية، وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. هل يعقل أن يمنع المسلمون من تطبيق أحكام دينهم بدعوى عدم استغلاله، ثم يجبرون على نظام مستورد يخالف دينهم وعقيدتهم بل يخالف رغبتهم واختيارهم؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون.
إن العلمانية ضد الدين لأنها لا تقبل التعايش معه كما أنزله الله بل تريد إقصاءه عن الحياة وحصره في زاوية ضيقة منها، إنها ضد الدين لأنها تريد أن تأخذ منه ما يوافق هواها وتعرض عما يخالفه، ولأنها تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)، إنها ضد الدين لأنها تتعالم على الله - عز وجل - وتقول له: نحن أعلم منك بما يصلح للناس والقوانين الوضعية أهدى سبيلاً من حكمك.(13/254)
إن العلمانية ضد إرادة الشعب في السودان كما أنها ضد إرادة المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والقاعدة العريضة من مثقفي الأمة ـ الذين هم أنضج وعياً وأزكى خلقاً وأقوى إرادة ـ لا يبغون غير الله حكماً ودينه شرعاً.
[9] قولهم: إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تستوعب ملايين القضايا والمشاكل الإنسانية المعقدة، أو أن تقدم حلولاً جاهزة لكل ما يستجد على مسرح الحياة:
والجواب: أن هذا التصور قائم على أساس أن الدين ثابت لا يتغير، وأن الحياة في تغير دائم، وأن الحكم بالأسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة، وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده، فقد شرع الله - تعالى - للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت الله عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حراماً. قال الله - تعالى -: (وقد فصّل لكم ما حرم عليكم)، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سكت عن أمور رحمة بنا غير نسيان، وقال صلى الله عليه وسلم : ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)).
فأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية منها ما هو ثابت محكم، ومنها ما هو متجدد مرن، فالأسس والقواعد الكلية التي تشكل الإطار العام تتسم بالثبات والإحكام، وهي تلك التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتاً ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات، والفروع الجزئية والتفاصيل المتعلقة بالكيفيات والإجراءات ونحوها تتسم في أغلبها بالمرونة والتجدد، ويكفينا قول الله - عز وجل -: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
إن المشكلة لا تكمن في وفاء الشريعة بحاجات الإنسان ومصالحه الحقيقة، ولكنها تكمن في كبحها لجماح الأهواء، ووقوف أحكامها عقبة في وجه دعاة العربدة والتحلل، إن أهل الفجور يتهمون الشريعة بالجمود لامحالة؛ لأنها لا تساير ما في نفوسهم من الشهوات والأهواء. فلا تبيح لهم الخمر ولا الرقص المختلط، ولا الردة ولا التبعية لكفار الأرض، ولا ترويج بضاعة المستشرقين باسم الفكر الإسلامي ولا تزييف التاريخ باسم حرية البحث، هذه هي المشكلة حقاً.
=============(13/255)
(13/256)
قراءة في كتاب العلمانية
بقلم : صفاء الضوي أحمد العدوي
نادرة تلك الكتب التي تستوعب أجزاء البحث الذي تتناولهه، وأقل منها أن يكون مع الاستيعاب؛ العمق، والجُدة، والأصالة، والتحقيق، وأندر النادر أن تجمع مع كل ذلك الإمتاعَ والأسلوب الأدبي الرصين، من تلك الكتب التي تستولي على القارئ المثقف الجاد، وتحرك عقله، وتدفعه للنظر المتعمق في القضايا المعروضة كتاب العلمانية للدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي.
المقدمة:
قدم المؤلف للكتاب بمقدمة بين فيها أن الإسلام هو أعظم منن الله على البشرية عامة، وعلى أمة الإسلام خاصة، وأن كلمة لا إله إلا الله هي روح هذه الأمة، وسر وجودها، ومنبع حياتها، وأن الأمة بقيت ردحاً من عمرها تتبوأ منزلة عالية بين الأمم حين كانت تدرك معنى هذه الكلمة، وتعمل بمقتضاها.
ثم بدأ نور هذه الكلمة في الخفوت، فبدأ شأن الأمة في الهبوط، حيث ظلت تفقد من ذاتيتها وأصالتها بمقدار ما تفقد من نور هذه الكلمة، في علاقة مطردة تؤكد سنة من سنن الله لم تتبدل على مدار التاريخ.
وكان من أعراض هذا المرض المدمر ؛" فقدان الذات": الانبهارُ القاتل بالأمم الأخرى، والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها، وكان مما زاد هذا المرض خطورة؛ الجهل بحقيقته، وعدم إدراك أسبابه، فكان التشخيص الخاطئ سبباً في العلاج الخاطئ الذي أدى إلى مضاعفات جديدة.
لقد تصور البعض أن هذا الداء يمكن علاجه بترقيعات نتلقاها من الكفار الذين أسموهم العالم المتحضر!.
كانت قابليتنا للذوبان مبرراً للحرب الشرسة التي شنها الغزاة على أفكارنا وأخلاقنا، حيث طمعوا في القضاء على مقومات وجودنا قضاء تاماً، فأقبلت طلائع ذلك الغزو الفكري تحمل شعارات متباينة الاتجاهات؛ عليها من البهرجة والبريق ما يكفي لتضليل أمة منبهرة مهزوزة.
جاءت الاشتراكية والقومية والديمقراطية وفلسفة التطور واللادينية وغيرها من المسميات والشعارات، وتغلغلت هذه الأوبئة في العقول والقلوب التي فقدت رصيدها من " لا إله إلا الله " أو كادت، ونشأ على ذلك فلول ممسوخة أخذت على عاتقها إكمال عملية المسخ لباقي الأمة، وتعبيد الشعوب المسلمة للغرب، والإجهاز على منابع الحياة والقوة الكامنة في دينها، لكن الله - تعالى - تدارك الأمة برحمته، فأنبت من بين هذا الركام والظلام رجالاً صادقين، وأطلت من بين النيام والأموات صحوة جهادية أصيلة، طلبت الهداية والعلاج من كتاب الله - تعالى - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فعادت إلى صفاء العقيدة، وسلامة المنهج، ولمحت ما في المناهج الموجودة من انحراف وضلال، فلفظت سموم الغزو الفكري الذي كاد أن يقضي عليها، وانتبهت إلى ما يروج في ساحاتنا الفكرية من مذاهب هدامة، كان منها مذهب العلمانية الذي كانت سحابة كثيفة من الضبابية تغشاه وتعمي حقيقته عن المثقفين فضلاً عن العامة، مما جعل أسهمها لا تزال مرتفعة في أسواقنا سواء باسمها الصريح، أو تحت شعار الديمقراطية، أو شعار " الدين لله، والوطن للجميع، أو غير ذلك من الشعارات.
كان هذا أحد الأسباب التي حدت بالمؤلف أن يتناول العلمانية بتلك الدراسة الجادة العميقة الموسعة، وكان السبب الثاني هو أن موضوع العلمانية المتمثل في عزل الدين عن توجيه الحياة يصادم مفهوم لا إله إلا الله، ومع ذلك نجده موجوداً في كافة مناحي الحياة في مجتمعات المسلمين، مما يستلزم كشف الزيف الذي يلفه ويخفي حقيقته عن المسلمين.
ثم عرف المؤلف بالعلمانية، وبيّن الخطأ في ترجمة الكلمة الإنجليزية secula r ism بالعلمانية، وأن هذه الكلمة لا صلة لها بالعلم، وأن الترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية، ثم أيد ذلك بإيراد عدة تعريفات من دوائر المعارف الأجنبية للعلمانية، كلها تؤكد أن معنى ال (secula r ism ) في بيئتها التي نشأت فيها: الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، أو الحركة المضادة للديانة المسيحية، وأنها نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة، وأن الدين لا دخل له في شؤون الدولة، ولا سياسات الحكومة، وخاصة التربية العامة، وأنها دنيوية مادية لا تقبل المفاهيم التي تتعلق بالدين والروحانية، فالتربية التي تعتمدها لا دينية، فالدين في معنى هذا المذهب لا ينبغي أن يكون أساساً للأخلاق والتربية، ويقدم المستشرق " أربري " في كتابه (الدين في الشرق الأوسط) نموذجاً لأهم معاني العلمانية وهو فصل الدين عن الدولة بالجمهورية التركية، ثم يعلق المؤلف على العبارة المشهورة في وصف العلمانية " فصل الدين عن الدولة " بأنها تعريف غير دقيق، وأن مدلولها الصحيح هو " إقامة الحياة على غير الدين "، فالإسلام والعلمانية - أي اللادينية - نقيضان لا يجتمعان.
قسم المؤلف الموضوع إلى خمسة أبواب: الباب الأول دين أوروبا أو المسيحية بين التحريف والابتداع وفيه فصلان: الأول: التحريف: تكلم فيه أولاً عن تحريف العقيدة ( قضية الألوهية - تحريف الأناجيل )، وثانياً عن تحريف الشريعة، وفصل الدين عن الدولة.(13/257)
والفصل الثاني: البدع المستحدثة في الدين النصراني: تكلم في هذا الباب عن دين أوروبا النصرانية الذي انحرفت عنه إلى اللادينية، وأثبت ما اعترى النصرانية من تحريف وتبديل، وأنه لم يعد يمثل دين الله الحق لا في العقيدة، ولا في الشريعة، بل تحول إلى مجموعة من الخرافات والبدع تولت الكنيسة كِبَر تسويقها وترويجها، وإيهام الناس أن ذلك هو الدين النصراني، وكان هذا التحريف الذي أصاب الدين النصراني على يد القساوسة الكذبة هو السبب الممهد للعلمانية، حيث طغت الكنيسة ودوخت أتباعها في خرافات يرفضها العقل، وتمجها الفطرة، فقد وقع أولاً تحريف العقيدة، وتحريف الأناجيل التي بلغت سبعين إنجيلاً كلها شاهدة على أنها محرفة، يكذب بعضها بعضاً، هذا فوق مئة وعشرون رسولاً منهم من ألّف أناجيل، ومنهم من كتب رسائل، وفرق وطوائف تزيد على الحصر تختلف في قضايا أساسية بالغة الأهمية.
ولقد كان انعقاد مجمع نيقية الشهير في عام 325م يمثل معلماً من معالم التاريخ البارزة، وشاهداً على أن النصرانية قد حرفت وبدلت، وفقد الناس الثقة في حقيتها وقدسيتها، وبعد تحريف الأناجيل جاء تحريف الشريعة، وكان من أولى فصول هذا التحريف فصل الدين عن الدولة،
بين المؤلف أن الشريعة النصرانية لم يكتب لها التطبيق على المستوى العام، وذلك لسببين متلازمين: الأول أن الشريعة النصرانية لم تقم لها دولة تتبناها وتقيمها في الأرض، فقد توفى الله عيسى - عليه السلام - ورفعه إليه وهو لم يزل في مرحلة الدعوة التي تشبه حال الدين الإسلامي قبل الهجرة، والسبب الثاني: أن المسيح - عليه السلام - بعث إلى قوم قساة تسيطر عليهم إمبراطورية وثنية عاتية، اضطهدت المؤمنين من أتباع المسيح وعذبتهم، فانحسر تطبيق الشريعة في أضيق نطاق بسبب هذا العداء الشديد.
وكان لليهود اليد الطولى في إلحاق الأذى بالمؤمنين بتعاليم المسيح - عليه السلام -، فلا يخفى أمر شاؤل الطرسوسي أو بولس ( رسول الأمم)! وخداعه باعتناق المسيحية، وقيامه بغزوها من الداخل تماماً كما قصد عبد الله بن سبأ غزو الإسلام من الداخل.
فكان بولس المفسد الأول والأكبر بجدارة لتعاليم المسيح - عليه السلام -، قام شاؤل هذا بإصداره تعليمات مناقضة لتعليمات المسيح مما أحدث في الناس بلبلة وفتنة، فوقعوا بذلك في بلاء عظيم، كما أنه مزج الدين الذي جاء به المسيح - عليه السلام - بالوثنيات القائمة آنذاك، ثم ما كان من الاضطهاد الشديد الذي أوقعه أباطرة الرومان - وعلى رأسهم نيرون - بأتباع المسيح - عليه السلام -، حيث تقشعر الأبدان من ذكر فظائعهم وجرائمهم، ثم جاء عام 325م الذي يمثل عام النصر الحاسم على أعداء المسيح، حيث ظفرت الكنيسة بالإمبراطور، وأدخلته في الدين المسيحي، لكن الكنيسة لم تنتفع بهذا التزاوج بين القصر والكنيسة بما يعود بالخير على الناس في دينهم، بل كان ارتباطها بالإمبراطور ارتباط مصلحة لا يمت إلى الإيمان بصلة؛ فبقيت الوثنية متجذرة في نفوس الناس تغطيها غلالة رقيقة من الصبغة المسيحية، ولهذا عجزت الكنيسة عن إقامة الحياة على أسس متينة من الإيمان، وفتح الباب للخرافات والأساطير والتقاليد الوثنية، وامتزج كل ذلك بروايات الأناجيل وآراء المجامع المقدسة، وتلاقحت الشريعة والقانون الروماني فأصبحت المسيحية ديانة تركيبية أو بوتقة انصهر فيها عقائد وخرافات وآراء متباينة شكلت ديناً غير متسق ولا متناسق.
ثم بدأت الكنيسة في إصدار نصوص مكذوبة تبرر بها للناس ذلك المنحى الجديد الذي اتخذته بعد هذا التزاوج المقيت بين الكنيسة وقيصر، وكان من أهم هذه الأقوال القول المنسوب زوراً للمسيح: أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله ".
فلقد ظل هذا القول شعاراً ترفعه الكنيسة كلما عنّ لها أن تتمرد على شرع الله، ثم بين المؤلف أن هذه العبارة المنسوبة للمسيح في إنجيل متى تبين أن الأناجيل التي بأيديهم لا تثبت أمام البحث العلمي، وأنها لا قيمة علمية تاريخية لها، فكلها ظنية الثبوت، ظنية الدلالة، فكيف يحتج بهذه الظنيات على مسألة بالغة الخطورة كهذه، ويعني مسألة أن يوافق المسيح على أن يجعل قيصر شريكاً لله - تعالى - في التوجه إليه بالعمل، وإيقاع الناس في شرك الطاعة والاتباع.(13/258)
ثم يتنزل المؤلف جدلاً ويفترض أن المسيح - عليه السلام - تفوه بهذه الكلمة، ويتساءل: هل يعني ذلك أن نفهم من العبارة ما فهمته الكنيسة من ظاهرها؟، ونتخذ من فهمنا هذا قاعدة هي أعظم القواعد الكنسية العملية على الإطلاق؟ ثم يعرض المؤلف العبارة التي استلوها من إنجيل متى، ويتتبع السياق لفهمها في إطارها فهماً صحيحاً على افتراض صحة ثبوتها، ونص القصة: "ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم قائلين: يا معلم، إنك صادق، وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد، فقل لنا: أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم، وقال: لماذا تجربونني يا مراؤون، أروني معاملة الجزية، فقدموا له ديناراً، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر، فقال لهم أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فلما سمعوا تعجبوا وتركوه "اهـ، وهكذا شأن أعداء الرسل، وخصوم الإيمان في كل زمان، يسعون في الإيقاع بالمؤمنين، ويحاولون إثارة السلاطين عليهم بما يدركون من افتراق طريق الإيمان وطريق السلطان، يفعلون ذلك لحرمان أهل الإيمان من الاستفادة من هدوء الحال لتمضي الدعوة في خطة تكوين طلائع الإيمان، وتربيتهم لحمل الأمانة، وتبليغ الرسالة، ونشر هدايتها في الناس، ويعلق المؤلف على هذه القصة فيقول: كان المسيح - عليه السلام - وأتباعه قلة مضطهدة تتبنى دعوة جديدة ناشئة، فلم يكن في مقدورها أن تصطدم بالإمبراطورية الطاغية، وتواجهها بعداوة سافرة، ولم تكن هذه المواجهة مطلوبة منها وهي لا تزال في طور الدعوة - يقابل ذلك في الإسلام فترة ما قبل فرض الجهاد -، وهذا الطور يقتضي الالتزام بمبدأ " كفوا أيديكم " كيلا يستثار عدو باطش فيفتك بالدعوة في مهدها، ثم يقول: فالمسيح - عليه السلام - ( لو صحت العبارة ) وافق على إجراء مؤقت تقتضيه ضرورة الواقع، وطبيعة الدعوة المرحلية، ثم أشار إلى نظائر ذلك في مراحل الدعوة في السيرة النبوية.
ويمضي المؤلف في استعراض ما عمدت إليه الكنيسة الزائغة من عبارات موهمة تنسبها الأناجيل إلى المسيح، وهي عبارات قيلت مجازاً، أو رددت في ظروف مؤقتة، وملابسات خاصة، وإنما قصدت الكنيسة أن تقرر بهذه العبارات قواعد أصولية تؤسس عليها دينها المحرف دون مراعاة لمنطق الاستدلال، ومقتضى التحقيق العلمي.
وكان من هذه العبارات التي نسبوها إلى المسيح - عليه السلام - أيضاً: "مملكتي ليست من هذا العالم"، وأشاعت الكنيسة المفهوم الذي تريده لهذه العبارة وهو: الدنيا والآخرة ضرتان متناحرتان، وضدان لا يجتمعان، الدنيا مملكة الشيطان، ومحط الشرور والآثام، وأن سعي الإنسان فيها للسعادة والتمتع بخيراتها دنس يحرمه من ملكوت الله في الآخرة، وهو مفهوم يتيح للمفسدين من القساوسة والقياصرة الطغاة أن يعبثوا بالحياة ما شاءوا دون أن يعترض طريقهم أحد، وما كان للمسيح - عليه السلام - أن يتكلم بمثل هذه العبارة التي هي أقرب إلى النظرة البوذية الوثنية للحياة من نظرة رسول كلفه الله بدعوة الناس لعبادة الله، وتحذيرهم من اتباع الأهواء، وما كان هذا المفهوم الذي روجوه للعبارة أن يخطر ببال أحد رسل الله الذين جاءوا لتغيير الواقع الجاهلي المنحرف، وإقامة واقع جديد تحكمه الشريعة المنزلة.
ثم أفرد المؤلف فصلاً عن البدع المستحدثة في الدين النصراني، فعد منها رجال الدين ( الإكليروس )، ورفض التعليل الجاهلي لظهور طبقة رجال الدين بأنه مجرد تطور بشري ديني اجتماعي، وأنه مر بثلاث مراحل: مرحلة السحر والخرافة، ومرحلة الدين، ومرحلة العلم، وأن الإنسان حين انتقل إلى مرحلة الدين بقيت فيه رواسب موروثة عن المرحلة الأولى من أبرزها طبقة رجال الدين الذين ليسوا سوى امتداد للسحرة والكهان، فيبين المؤلف أن هذا التفسير مرفوض، وأن التصور الإسلامي للتاريخ ينظر إلى الحياة البشرية على أنها خطان متوازيان: خط مشرق يمثل البشرية حين تهتدي إلى الله، وتسلك طريق الأنبياء الذين يتعاقبون لردها إلى جادة الطريق، وخط آخر مظلم يمثل حزب الشيطان، وفترات الضلال الذي طرأ على البشرية بعد أن كانت أمة واحدة على الإيمان، والسمة العامة للتاريخ هي الصراع بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل.
ثم أوضح أننا لا ننكر التشابه الظاهر بين رجال الإكليروس في المسيحية وبين السحرة والكهان في العصور السابقة، لكننا نرجع ذلك إلى كون الطائفتين انحرفتا عن الأصل الصحيح.(13/259)
ثم تكلم عن خط الانحدار الذي يصف حالة الكنيسة وهي تتردى وتفقد صلتها بالدين، وتقطع أواصرها بالإيمان، فيقول بعد أن يشير إلى أحبار اليهود وفسادهم، وأن المسيح - عليه السلام - كان يسميهم أولاد الأفاعي، وبائعي العهد، وعباد الدنيا، قال: لكن القسيسين والرهبان لم يكونوا أفضل حالاً من الأحبار، فقد سلكوا الطريق نفسها، وانصاعوا إلى الدنيا مستعبدين أتباعهم المؤمنين، فكانت هيئة الدولة تمثل هرماً قمته الإمبراطور، وقاعدته الجنود، وكانت الهيئة الكنسية تمثل هرماً مقابلاً قمته الباب، وقاعدته الرهبان، ونتيجة لمبدأ فصل الدين عن الدولة رعت الإمبراطورية الهرم الكنسي، ولم تر فيه ما يعارض وجودها، فرسخ واستقر، وكان من البدع المستحدثة في الدين النصراني أيضاً الرهبانية: وقد بين المؤلف أن للوجود الإنساني في هذه الأرض غايةً أرادها الخالق سبحانه منذ أن استخلف الإنسان في الأرض، وأناط به مسئولية عمرانها بالخير والصلاح، وركز في فطرته الاستعداد لهذه المهمة وبعث الرسل لقيادة الإنسان لتحقيق هذه الغاية على أكمل نموذج، وأقوم مثال، لكن الناس كانوا يضلون فيسيرون في غير الاتجاه الذي تأخذهم إليه الفطرة، وتقودهم إليه الرسل، فتستهويهم الشياطين، وتضلهم الشهوات عن سواء السبيل، فينحرفون عن الجادة في صور من الضلال متعددة ومتنوعة، وكان من هذه الصور المنحرفة النظرة غير السوية إلى الحياة وغايتها وقيمتها، والغلو في تهذيب النفس إلى حد التضييق والتعذيب، مع الانصراف عن عمارة الأرض، التي هي جزء من الغاية العظمى، ومع أن الرهبانية بدعة بشرية مشتركة بين أديان عديدة؛ إلا أن للرهبانية النصرانية ظروفاً وأسباباً أبرزتها حتى غدت من أجلى مظاهر النصرانية على مر العصور.
أسباب الرهبانية: (1) عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة، وهي إحدى التعاليم الكبرى في المسيحية المحرفة، ومرجعها عندهم أن آدم - عليه السلام - لما أكل من الشجرة عوقب بالحرمان من الجنة، فظل بنوه يرسفون في أغلال تلك الخطيئة حتى جاء الخلاص على يد المسيح ليصلب فداء للنوع الإنساني، فأصبح لزاماً على الإنسان أن يقتل نفسه ليمنحها الخلاص كما يقول متى في إنجيله: " من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ".
(2) رد الفعل المتطرف للمادية اليهودية الجشعة، والأبيقورية الرومانية النهمة.
(3) الأثر الذي خلفته الفلسفات والوثنيات التهريبية القانطة.
(4) الأوضاع الاجتماعية القاسية.
نظام الرهبانية:
ثمة شروط يتضمنها نظام الرهبانية: أولها العزوبة، وما يلزمها من التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، وترذيل الصلة الجنسية وإن كانت حلالاً، فهذا " سان بونافنتور " أحد رجال الكنيسة يقول: إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً حياً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذي تسمعون هو صفير الثعبان ".
الثاني: التجرد الكامل عن الدنيا، ويعنون بها العزلة النهائية عن المجتمع، وقطع النظر عن كل أمل في الحياة.
الثالث: العبادة المتواصلة.
الرابع: التعذيب الجنوني.
صادمت هذه التعاليم المنحرفة الفطرة فكان لابد من الخسران والشقاء، وكان من تلك البدع المستحدثة كذلك الأسرار المقدسة: امتلأت الوثنيات القديمة بالأسرار والأساليب الخفية، والرموز الغامضة، وقد سجل التاريخ غلطة شنيعة على بعض أتباع الديانات باقتباسهم لأشياء من تلك الأسرار والرموز؛ وإدخالها في دينهم، وذلك ما حصل بعينه في المسيحية المحرفة.
تناول المؤلف واحداً من هذه الأسرار التي دأبت الكنيسة على استعمالها في ستر نقائصها ومخازيها، وقطع الطريق على كل محاولة تطلب تفسيراً يقبله العقل، وترفض أن تتصلت الكنيسة على عقول الناس بقولها ( سر إلهي )، وكان من هذه الأسرار الإلهية الكنيسية سر " العشاء الرباني " أو " القربان المقدس ".
ثم يبين المؤلف أن ذلك كان من دس شاؤل اليهودي الذي يؤكد جوستاف لوبون - أحد النقاد العقليين - أن شعائر النصرانية ومنها العشاء المقدس بدعة منقولة عن الوثنية المثرائية، وأن شاؤل كان متأثراً بالمثرائية التي كان من شعائرها التضحية بالعجل المقدس، ولهذا كان المسيحيون الأوائل يقيمون وليمة تذكارية في عيد الفصح قوامها الخبز والخمر يرمزان إلى جسد ودم المسيح، وهي التي تعرف بعقيدة الاستحالة أ أي استحالة الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح، فليس لأحد من أتباع الكنيسة أن يسأل أو يشكك في ذلك السر، وإلا عوقب بالحرمان والطرد من الملكوت، وكانت هذه العقيدة العجيبة من الثغرات الواسعة التي دخل منها النقد المرير للكنيسة، وسبب كثيراً من الإنشقاقات الدينية، والسخرية الشديدة التي انهال بها على الكنيسة النقاد العقليون من أمثال الفيلسوف الفرنسي فولتير.(13/260)
البدعة الرابعة: عبادة الصور والتماثيل: وهذه أيضاً كانت من البصمات الظاهرة التي تركتها الوثنية على الديانة النصرانية، على الرغم من أن التماثيل تعتبر من الأعمال المحرمة في شريعة التوراة، ولم يقف الحد عند كونها مظهراً من مظاهر المخالفة لشريعتهم، بل تعدى ذلك إلى أن صارت التماثيل والصور آثار مقدسة، ومعبودات يسجد الناس لها، ويوقدون لها الشموع، ويحرقون البخور، وينثرون فوقها الزهور التماساً لبركاتها، ورجاء تأثيرها الخفي، وكان للفتوحات الإسلامية التي امتدت حتى شملت معظم المعمورة أثرها في أن يعيد كثير من شعوب الدول النصرانية نظرتهم إلى ما أصاب دينهم من لوثات الوثنية، حيث اطلعوا على عقيدة التوحيد الخالص في دين الإسلام، فأحسوا بسخافة معتقداتهم، وضحالة تفكيرهم، ففتحوا أعينهم على تلك الحضارة الغازية الشامخة الناصعة، فقامت في الغرب حركات معادية لبدعة التماثيل والصور، وطالبت بإزالة تلك الوصمة الشنيعة التي كشفت الدين الذي ينتسبون إليه، وأظهرت ما فيه من النقص والعيوب والتشويه الذي يخجلهم أمام المسلمين، لكن الكنيسة رفضت ذلك، وظل الصراع بين المنادين بتحطيم التماثيل والصور وبين الكنيسة المعاندة، وعقد مجمع نيقية الثاني عام 787م وحضره 350 أسقفاً، وقرروا جميعاً بقاء الثماثيل والصور، بل ألزموا الناس بالإغراق في ذلك بوضع التماثيل والصور كذلك في البيوت والطرقات، لبقاء أثر المسيح وأمه والرسل وسائر القديسين في نفوسنا، وبذلك انتصرت الكنيسة الوثنية على حركات الإصلاح، ثم عادت الحركة المناهضة لعبادة الصور والتماثيل للظهور مرة أخرى بعد ثلاثة قرون، وذلك حينما اتصل الغرب الوثني بالشرق المسلم إبان الحروب الصليبية، وكان البروتستانت هم الذين يتولون الحركة الإصلاحية في هذا الجانب، بينما ظل الكاثوليك على تقديسها ولعن محطميها، وبلغ الهوس بهؤلاء المفتونين بصور المسيح - عليه السلام - وأمه أن قامت إحدى شركات السينما في السويد بإنتاج فيلم عن " حياة المسيح الجنسية "، في ابتذال وامتهان لم يحرك في الدول الغربية ساكناً، بينما احتجت بعض المنظمات الإسلامية، وطالبت بإيقاف عرض الفيلم، ولم يقتصر الأمر على المسيح وأمه بل إن الكنيسة تجرأت على الباري - جل شأنه - وصورته كما تصور المخلوقين - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -، معلنين أنهم لا يمكنهم أن يفهموا الله إلا عن طريق تصوره بالصورة البشرية، كما يقرر ذلك أحد علماء الكنيسة.
ويتابع المؤلف عرض البدع التي استحدثت في النصرانية؛ فيذكر منها المعجزات والخرافات، فكان من الطبيعي لدين مركب من تعاليم المسيح، وكم هائل من المعتقدات الوثنية؛ أن يجد صعوبة في الإقناع العقلي، والبرهان المنطقي، فذهب يعوض هذا النقص بادعاء الخوارق التي هي في حقيقتها أوهام وأخلاط، بقصد التمويه على العقول الضعيفة، والنفوس الساذجة، وساعد الإرث الوثني على تقبل جماهير الناس المتعلقة بالكنيسة بهذه السخافات، واتسع نطاق تلك الأوهام حتى أصبحت مكانة رجل الدين وقداسته مرهونة بما يظهر على يديه من الخوارق، وما يتعاطى من الشعوذات، وما يأتي به من ألاعيب تجهل العقول الساذجة علته الحقيقية، مدعياً أن ذلك هبة من الروح القدس له، ويسجل لنا التاريخ أمر " الساعة " التي أهداها هارون الرشيد إلى الإمبراطور ( شارلمان )، فأصابه الفزع هو وحاشيته ظانين أن بها جناً يحركها، فكيف بعامة الشعب من الفلاحين والرعاة؟!.
وكان لهذه الخرافات جذور عميقة في نفوس أتباع الكنيسة، ولهذا كانوا يتعلقون بالقساوسة، ويعتقدون فيهم قدرات خارقة في صد العواصف، وإنزال المطر، وكانوا ينزلون بهم أشد النكال إذا فشلت تراتيلهم في تحقيق آمال الناس، فكم من قديس أهانوه وضربوه، ونزعوا أجنحته الذهبية، وركبوا له أجنحة ورقية إهانة له على فشله، كما كانت صيحاتهم الغاضبة تعلو في الساحات الكبرى حيث يأتون بهؤلاء القديسين الكذبة، ويقيدونهم عراة، ويهتفون بهم: المطر أو حبل المشنقة.
وأشار المؤلف إلى عدد من تلك الخرافات التي كانوا يشيعونها في الناس، فذكر خرافة " تجلي العذراء " التي يثيرونها بين الحين والحين، وذكر أيضاً خرافة الرقم (13)، ويبين أن أصله أن يهوذا الذي دل على المسيح هو التلميذ الثالث عشر للمسيح، فكان ذلك مصدر شؤم للكنيسة وأتباعها.
ومن البدع المستحدثة في الديانة النصرانية بدعة: صكوك الغفران، وهي الصكوك التي كان القساوسة يمنحونها لأتباع الكنيسة ليتطهروا من الخطايا، ضامنين لهم المغفرة، مطلقين لهم العنان ليفعلوا ما شاءوا من المعاصي، طالما اشتروا هذا الصك، أما البؤساء ممن لا يملكون المال لشراء هذا الوهم فيظلون محرومين من هذه الموهبة مهما بلغ تقواهم وحبهم للمسيح، وتعلقهم بالعذراء.(13/261)
وكان الأساس الذي بنيت عليه هذه الأكذوبة هو فكرة القداسة التي ادعاها رجال الدين، والتي بني عليها فكرة الاستشفاع بهم لدى الله لمغفرة الخطايا، وظل الجهلة والسذج يتوسلون إلى القساوسة راجين الشفاعة، والتقرب إلى الله زلفى؛ فنتج عن ذلك مبدأ التوسط بين الله والخلق، حتى أصبحت وظيفة رجل الدين المسيحي القيام بهذه الوساطة، فعن طريقه تؤدى الصلاة، ويتناول العشاء الرباني، وهو الذي يقوم بالتعميد، وطقوس الزواج، والموت، ويتقبل الاعترافات بالمذنبين.
ثم يبين المؤلف أن هذه الصكوك إنما بدأت حين كانت الكنيسة تواجه ظروفاً عصيبة إبان الحروب الصليبية التي بلغ معها يأس النصارى من تحقيق النصر على المسلمين مبلغاً عظيماً، وأصاب الشعوب الأوروبية إحباط شديد؛ فاخترعت الكنيسة فكرة هذه الصكوك كتجسيد لأماني المشتركين في تلك المعارك بالمغفرة، ولشحذ هممهم للاندفاع في المشاركة في تلك الحروب، كما يقول ول ديورانت في قصة الحضارة.
ويخلص المؤلف من هذا العرض لهذه البدعة بقوله: وعليه فلم يكن يحظى بالحصول على صك الغفران إلا رجل ذو مال يقدر على شرائه حسب التسعيرة التي تحددها الكنيسة، أو رجل يحمل سيفه ليقاتل تحت راية الكنيسة، وغير هذين رجل ثالث فقير لا مال له، أو عاجز عن القتال، أو رجل غير مستعد للموت في سبيل الكنيسة، لكنه يظل أسير صراع نفسي مرير، وشعور بالحرمان قاتل.
وهكذا فالكل مضحون، والكل خاسرون، والكنيسة هي الرابح الوحيد، حيث أثرت ثراء فاحشاً من عملية بيع الصكوك، وإن كانت عند الله أذل مقاماً، وأخسر صفقة.
ومن الوجهة السياسية قويت الكنيسة، وتدعمت سلطتها، فكان الثراء والنفوذ بعض ثمار تلك البدعة التي دفعت الكنيسة إلى الطغيان والغطرسة الباغية، ولم ينتبه رجال الكنيسة الذين أعماهم الغرور بسبب ما وصلوا إليه من الغنى والسيطرة عن خطر هذا الطغيان عليهم، فكانت مهزلة صكوك الغفران مسماراً في نعش الكنيسة، وبداية لنهايتها، حيث هبط سوق الصكوك، وأصابه الكساد، وتجول القساوسة ببضاعتهم يبيعونها بأبخس الأثمان، فازداد إعراض الناس عنها، حيث تولد لديهم شعور بأن شراءها إن هو إلا إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو أنه غير مضمون العاقبة، وتبع ذلك الشعور ظهور الفضائح التي كشفت جانباً من سيرة رجال الكنيسة وفجورهم، فكان ذلك إيذاناً بالشك الكبير في قداسة هؤلاء القساوسة وصلاحهم، وتوحدت المشاعر من مختلف قطاعات الشعب بالعداوة والازدراء تجاه رجال الكنيسة، ورأى الأوربيون - حكاماً ومحكومين - الحياة الكريمة التي يعيشها الشرق الإسلامي، حيث لا كهنوت، ولا طغيان، ولا احتكار، فهزت هذه الرؤية أنفسهم، وبهرت عيونهم، فباتت صكوك الغفران في نظرهم هراء لا طائل تحته، وعبئاً يبعث على الاشمئزاز والاستخفاف.
ولما كانت الكنيسة هي الدين النصراني في نظر أتباعها كان لابد أن يهتز الدين كله في نظرهم باهتزاز صورة الكنيسة، وفقدان الثقة في قدسيتها وطهارة رجالها، وكان ذلك هو بداية السير في طريق الكفر، ونبذ الدين، واستغل أعداء الدين - لا سيما اليهود - تلك الأجواء فبذروا على الفور بذورهم بالمناداة بطرد الدين من حياتهم، ووضعوا أمامهم ذلك الخيار الصعب الذي مفاده: إما أن يؤمن بصكوك الغفران فيحكم على نفسه بالجمود، والغباء، والرجعية المتناهية، وإما أن يكفر بها فيلزمه الكفر بالإطار الذي يحويها بكامله؛ إطار الدين والغيبيات، لا سيما الآخرة، وهو الخيار الذي جسده الفيلسوف اليهودي الوجودي " جان بول سارتر" في إحدى رواياته المشهورة ( الشيطان والرحمن ).
هذا مع أن الكنيسة في عصرنا الحاضر لا تصدر تلك الصكوك المخزية، بل تستحي من ذكرها، وتخجل كلما دار الحديث عنها.
الباب الثاني: أسباب العلمانية: وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: الطغيان الكنسي: أسبابه، أنواعه ( الطغيان الديني - الطغيان السياسي - الطغيان المالي )، الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم، الفصل الثالث: الثورة الفرنسية: ( الفكر اللاديني - وقوف الكنيسة ضد مطالب الجماهير - القوى الشيطانية الخفية )، الفصل الرابع: نظرية التطور: ( آثار الداروينية - انهيار العقيدة الدينية - نفي فكرة الغاية والقصد - حيوانية الإنسان وماديته - فكرة التطور المطلق ).(13/262)
بدأ المؤلف في فصل الطغيان الكنسي إلى التعريف بداء الطغيان، وبيان أنه مرض يدمر النفس الإنسانية حين تصاب به، وأن من خصائصه أنه لا يصيب إلا ذا نفس هزيلة أتيح لها وسائل تفوق طاقتها، ولم يكن لديها ما تتحصن به من خلق أو إيمان يكبح جماحها، وأشار إلى أن ظهور هذا المرض على الحكام الوثنين، أو الطغاة من زعماء الدنيا؛ فإنه يكون معقولاً إلى حد ما، أما حين يصدر هذا السلوك الشائن ممن يراهم الناس قديسين ورسل سلام فهذا مما يشق على النفس تحمله، ويصعب على العقل تقبله، فهم الرجال الذين طالما سمعوا منهم عبارات التسامح والمحبة في مواعظهم الدينية. ويبحث المؤلف في أسباب ذلك الطغيان الذي كانت الكنيسة تمارسه، فأشار إلى الاضطهاد الذي أوقعه الوثنيون من الرومان على أتباع المسيح - عليه السلام -، والذي ألجأ هؤلاء الأتباع إلى التخفي بالدعوة، وإخفاء ما بأيديهم من نسخ الأناجيل، التي كانت تتعرض للمصادرة والحرق، مما أدى إلى انحصار المصادر الدينية للمسيحية على فئة قليلة من الناس كان لهم وحدهم حق شرحها وتأويلها، فلم يكن بأيدي الناس من المصادر التي يراجعون على أساسها ما يسمعون من رجال الكنيسة، فتكلم هؤلاء وحدهم، وكان على الناس جميعاً أن يسمعوا من هذه الفئة التي احتكرت حق الشرح والبيان، فكان على الناس أن يقدموا الطاعة العمياء، فشجع ذلك رجال الكنيسة على الطغيان، وفرض سلطانهم وتعميق هيبتهم لدى الناس، وكان من نماذج هذا الطغيان:
الطغيان الديني: فمنذ مجمع نيقية عام 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني، حيث فرضت عقيدة التثليث، ولعنت مخالفيها، وعذبت الموحدين، ومارست التحليل والتحريم، والنسخ والإضافة، فحرمت الختان، وأباحت الميتة، والتماثيل، والضرائب التي تجبيها الكنائس، وغير ذلك من المحرمات التي أحلتها المجامع الكنسية، كما أضافت الكنيسة ألواناً من المعتقدات الوثنية كقضية الاستحالة في العشاء الرباني، وعقيدة الخطيئة الموروثة، وعقيدة الصلب، والعذراء، والطقوس السبعة، وفرضت الكنيسة كل ذلك على أتباعها بحجة أنها أسرار عليا لا يجوز الشك فيها، بل لا يجوز الخوض فيها.
لم يقف الأمر عند هذا الحد من الطغيان الذي فرض على الناس الانصياع لتلك المعتقدات، بل تعدى ذلك إلى إنزال النكال البشع بكل من تسول له نفسه الاعتراض أو التبرم من أحوال الكنيسة، وفساد رجالها، وما خبر محاكم التفتيش بجديد، فقد كان المسلمون في الأندلس هم الضحية الأولى لتلك المحاكم البشعة، فقد أبيدوا إبادة تامة بأقسى وأشنع ما يتخيله الإنسان من الهمجية والوحشية، وكانت المحكمة الأم لهذه المحاكم الوحشية (المحكمة المقدسة!! في روما )، وإن المؤرخين ليصابون بالرعب عند ذكر هذه المحاكم، وسرد تاريخها الأسود، فكيف بالضحايا الذين وقع عليهم هذا العذاب الذي يفوق الخيال، وكان يكفي لوقوع الشخص في هذا العذاب الرهيب أن يوشي به جاره أنه سمعه يذكر الثالوث أو المعجزات بما يعد في نظر رجال الكنيسة جريمة يستحق صاحبها أن يقطع جسده، أو يفرم في مفارم اللحم، أو يشعل تحته النيران الخفيفة ليموت موتاً بطيئاً، أو تغرز الكلاليب في لسانه ويشد فيقطع، وعقدت الأهوال ألسنة كبار العلماء الأفذاذ مثل نيوتن، وبيكون، وديكارت، وكانت، وغيرهم، فلم يجرؤ أحد منهم على التلفظ بكلمة تثير عليهم غضب رجال الكنيسة القساة.
الطغيان السياسي: من الطبيعي أن يكون لرجال الدين في أي أمة أثرهم الطيب في المجتمع، وأن تكون أزمة الأمور في أيديهم، لتقويم المعوج، وتصحيح الخطأ، أما أن يتحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين، مع نبذ شريعة الله، ليحل محلها التسلط والاستبداد، فذلك العجب العجاب، لكن هذا هو الذي حدث من الكنيسة، حيث تناحر البابوات مع الأباطرة على النفوذ، والقبض على مقاليد الأمور في المجتمع، ولم يفتأ البابوات يعلنون أن الكنيسة - بوصفها نظاماً إلهياً - خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه أن يخلع الملوك غير الصالحين، أو يرفض اختيار البشر للحكام.(13/263)
ظلت الكنيسة على هذا الحال من السلطة الروحية البالغة، والهيكل التنظيمي الدقيق والاستبداد المطلق، فكان البابوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة، كما كان بإمكانهم خلع الملوك وعزلهم بإرادتهم المحضة، ومن رفض الرضوخ لأحكام البابوات أسقط البابوات عنه الشرعية، وأعلنوا الحرب عليه، ولعل خير مثال على ذلك يعرضه علينا المؤرخ البريطاني "ويلز"، وكذلك "ديورانت" في ( قصة الحضارة ) وهو حادثة الإمبراطور الألماني ( هنري الرابع ) المشهورة مع البابا جريجوري السابع، فقد جرى بينهما خلاف فظن الإمبراطور أن بوسعه أن يخلع البابا، فرد البابا بخلعه، وألب عليه أتباعه والأمراء، فعقد الأمراء مجمعاً وقرروا فيه أن الإمبراطور سيفقد عرشه إلى الأبد إذا لم يحصل على عفو البابا، وخضع الإمبراطور، وأذل نفسه، وسافر مجتازاً جبال الألب في برد الشتاء القارس، وظل واقفاً في فناء القلعة ثلاثة أيام وهو في لباس الرهبان، متدثراً بالخيش، حافي القدمين، عاري الرأس، مظهراً كل علامات المسكنة والتوبة حتى ظفر بالمغفرة، وحظي برضا البابا!
وأشار المؤلف إلى نماذج من التحديات التي كانت تصدر من بعض الملوك تجاه الكنيسة لكنها كانت تتحطم أمام نفوذ الكنيسة وطغيانها، وكان من أشهر هؤلاء الملوك الذين قاوموا هذا الطغيان الإمبراطور " فردريك الثاني " الذي عرف بصلابته التي عزاها المؤرخون إلى ثقافته العربية والإسلامية، حتى اتهمته الكنيسة بأنه اعتنق الإسلام، وسمته الزنديق الأعظم، فدافع هذا الإمبراطور عن نفسه برسالة عدت وثيقة هامة في وصف الصراع بين البابوات والملوك، أو الصراع بين الكنيسة والعلمانيين الذي كان يثور ويتأجج، فكان موقف فردريك ظاهرة فذة، لكنها لم تصمد أمام قرارات الحرمان، وسطوة الكنيسة الباغية.
الطغيان المالي: بيّن المؤلف أن الأناجيل على ما فيها من تحريف كانت قاطعة في الدعوة إلى الزهد، والتنفير من التهالك على ملذات الدنيا، لا سيما جمع المال والافتتان به، وأن المسيح - عليه السلام - كان أسوة حسنة في ذلك فقد عزف هو وحواريوه عن الدنيا عزوفاً صادقاً بينما كان القوم من اليهود ينظرون إلى الدنيا نظرة جشع لا ينتهي، وشره لا ينقطع. وجاءت القرون التالية فشهدت مفارقات عجيبة بين مفهوم الكنيسة في هذا الأمر وبين واقعها العملي، فبينما كانت تحرم ما أحل الله من الطيبات متأثرة بتلك النظرة التشاؤمية للحياة الدنيا؛ كانت سيرتها الذاتية مخزية، حيث تهالكت على الدنيا، وامتصت دماء أتباعها، وعاش رجالها في بذخ متناه، وكانت أملاك الكنيسة الإقطاعية من الأراضي تفوق كبار الإقطاعيين في أوروبا، حتى بلغت ممتلكاتها الإقطاعية ثلث أراضي إنجلترا، كما كانت تأخذ الضرائب الباهظة من الباقي من الأرض، كما فرضت الكنيسة العشور على غلات الأراضي الزراعية والمهنيين، ولم تكتف الكنيسة بالأوقاف والعشور بل فرضت الرسوم والضرائب، كما كانت تحظى بالكثير من الهدايا والهبات التي كان الأثرياء يقدمونها لها للتملق، أو الرياء، أو ما كان منها على سبيل الصدقة والإحسان، وفوق ذلك كانت هناك المواسم المقدسة، والمهرجانات الكنسية التي كانت تدر على الكنيسة أموالاً طائلة، كما كانت الكنيسة ترغم أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها لا سيما بناء الكنائس والأضرحة، كان كل ذلك يملأ نفوس الناس جميعاً بالسخط، إلا أن الظروف لم تكن مواتية لإعلان هذا السخط، أو التعبير عنه بشكل صريح.
الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم:
بين المؤلف في هذا الفصل أن الصراع الذي نشب بين العلم والدين كان من أعقد وأعمق المشكلات في التاريخ الفكري الأوروبي، ورغم كل الظواهر البارزة في الحياة الغربية التي تؤكد أن المعركة قد حسمت لصالح العلم، فإن هناك ما يدل على أن الدين أو بعض قضاياه الاعتقادية والسلوكية لا يزال موجوداً، وأن المعركة لم تحسم نهائياً، بل هي مستمرة، وأن كل طرف من الطرفين قد حقق في هذا الصراع ثباتاً وصموداً، أو تمكن من احتلال مساحات من مناطق نفوذ الآخر، فالمناطق التي احتلها العلم من مناطق نفوذ الدين هي في الحقيقة المواقع التي انتصر فيها العقل واليقين على الخرافة والوهم، كما أن المواقع التي صمد فيها الدين أمام الهجوم العلمي الكاسح هي المواقع التي انتصرت فيها الحقيقة الموحاة على التخرصات والأهواء.
ويلخص المؤلف هذه الفكرة في عبارة موجزة فيقول: إن الحق في كل من الطرفين هو الذي انتصر أو سينتصر على الباطل في كليهما، وأنه لو كان الدين الأوروبي يقيناً مجرداً، والعلم الأوروبي يقيناً مجرداً؛ لما حدثت معركة على الإطلاق، ويضيف: إن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، ولهذا فإن الأوفق أن نسمي ما حدث في الغرب صراعاً بين الكنيسة والعلم وليس بين الدين والعلم.(13/264)
ثم يبين أن جناية رجال الدين الأوربيين على الحقيقة كانت أشنع وأنكى من جناية أنصار العلم عليها، ذلك أن الكنيسة ارتكبت خطأين فادحين: أحدهما تحريف حقائق الوحي الإلهي، وخلطها بالفلسفة والأهواء، والآخر فرض الوصاية الطاغية على ما ليس داخلاً في نطاق اختصاصها.
كانت أوربا مستغرقة في دياجير الخرافة والجهل، فعرفت الطريق إلى النهضة العلمية التي كانت تشع من الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية، فاستيقظ العقل الأوروبي من سباته، وأخذ يقتبس عن المسلمين طرائق البحث، ومناهج التفكير، وهنا ثارت الكنيسة، وهاج هياجها على أولئك الذين يتلقون علوم الكفار ( المسلمين )!، ويلتفتون عن الكنيسة وتعاليمها، فأعلنت حالة الطوارئ، وشكلت محاكم التفتيش، فاشتعلت المعركة، وازداد أوارها بمرور الأيام.
ثم استعرض المؤلف مراحل ذلك الصراع فتحدث عن النظرية التي هزت الكنيسة، وأذهبت قدراً كبيراً من ثقة أتباعها فيها، وهي النظرية الفلكية التي قدمها كوبرنيق 1543م وخالف فيها ما كانت الكنيسة تعتقده من أن الأرض مركز الكون، وأن الأجرام السماوية كافة تدور حولها، ولم ينج من محاكم التفتيش لأنه كان قسيساً بل لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل، فأفلت من عقوبة الكنيسة، التي حرمت كتابه، واعتبرته من وساوس الشياطين، وجاء بعده " برونو" بتأكيد نفس النظرية، فسجنته الكنيسة فأصر على رأيه فأحرقته، ثم جاء جاليليو فأيد النظرية فلقي في السجن العذاب والمهانة، وكاد أن يلقى نفس مصير برونو لولا أنه خشي على حياته فأعلن ارتداده عن أفكاره، وركع ذليلاً أمام رئيس المحكمة، وراح يلعن ما توصل إليه، ويصفه بالإلحاد، وتعهد بالإبلاغ عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد مثل هذه الأبحاث المضللة!! وبعد مدة من الزمن راجت تلك النظرية الفلكية، وهبطت أسهم الكنيسة، وطالب العلماء ودعاة التجديد بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيداً عن الوحي، ثم ظهر ديكارت فدعا إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة، واستثنى الدين تحت الرهبة من الكنيسة التي لم يزل لها نفوذ وسطوة.
وهذه الازدواجية في الفلسفة والنظر العلمي، والفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي ظهرت أيضاً في منهج " بيكون " التجريبي، الذي كان يمثل مرحلة طبيعية في سلم التدرج من الإيمان المطلق بالوحي إلى الإنكار المطلق له، بيد أن بعض الفلاسفة آثر الدخول المباشر على آراء الكنيسة وإخضاعها للمنهج العلمي، ومن هؤلاء " سبينوزا " اليهودي الذي وضع أسس مدرسة النقد التاريخي، وقد أعمل سبينوزا منهجه بدراسة الكتب الدينية بنفس المنهج الذي تدرس به الروايات التاريخية، واستنتج أن أسفار التوراة لم يكتبها موسى، وإنما كتبت بعده، ثم جاء باسكال ووجه النقد لعقيدة الخطيئة، ثم جاء " جون لوك " فكان أبلغ من ديكارت في المطالبة بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض، ثم دعا إلى التسامح الديني، وإفساح الطريق أمام الناس ليعتنقوا ما شاءوا من الأديان، على أن كل ذلك كان يظهر بتلطف وحذر حيث كانت الكنيسة تتربص بأصحاب تلك الأفكار، وتخيفهم بمحاكم التفتيش، وقد تعرضت كتب هؤلاء العلماء للحرق والمصادرة، كما تعرضوا هم للإيذاء والمضايقة من قبل الكنيسة، ثم جاء " نيوتن " وظهرت نظريات علمية هزت الكنيسة وأثارتها، كان من هذه النظريات القول بأن من الممكن تفسير ظواهر الطبيعة بربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل قوى خارجية عنها، وكانت هذه النظرية بمثابة النواة للمذهب الطبيعي، والنظرية الميكانيكية.
حاربت الكنيسة هذه النظرية على أساس أنها أهملت الاعتقاد في أن الله هو الذي يسير كل حركة في الكون، ولم يتسع أفق الكنيسة لإدراك أن نسبة الأفعال إلى الأسباب والوسائط لا يلزم منه إنكار نسبتها إلى الله - تعالى - باعتباره الفاعل الحقيقي، لكن الكنيسة دأبت على محاربة كل جديد، فترتب على ذلك جنوح أصحاب النظرية برد فعل أهوج، فأنكروا عمل العناية الإلهية، وأعلنوا أن كل ما عرفت علته المباشرة فلا داعي لافتراض تدخل الله فيه - حسب تعبيرهم -.(13/265)
كان اندفاع الباحثين والعلماء في مواجهة الكنيسة، والانفكاك من ربقة رجالها المتغطرسين؛ يعبر بشكل صريح بكفرهم بالكنيسة وبرجال الدين، وساعدت نظرية نيوتن على إيجاد فكر لا ديني منظم، وربما كانت النظرية قد مهدت للثورة الفرنسية، وفتحت الطريق أمام نظرية دارون التي كانت إيذاناً بأفول نجم الكنيسة، وانتهاء وصايتها الفكرية على أوروبا، وولادة آلهة جديدة لا كنائس لها، ثم ظهر في القرن الثامن عشر روح جديدة عمت الباحثين والفلاسفة والعلماء، دار محورها حول العقل والطبيعة، وتعالت الأصوات بتضخيم دور العقل، وبأنه الحكم على كل شيء، وأن ما عداه فوهم وخرافة، فالوحي يخالف العقل، فهو أسطورة كاذبة، وصار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل فوجدوه في الطبيعة، فخلعوا على هذا المسمى كل صفات الله التي عرفوها في المسيحية مع فارق بين الإلهين في نظرهم، فإله الكنيسة يبطش ويعذب، ويفرض القيود، أما إله الطبيعة فجذاب ليس له كنيس، ولا يفرض طقوساً، ولا صلوات، ولا رجال دين يستعبدون الناس.
وسادت تلك العبادة الجديدة؛ عبادة العقل والطبيعة، فكانت سمة هذا العصر الذي سمي عصر التنوير، وتوالت انتقادات العلماء للكنيسة ترسم خط العداء الذي ظهر في أجلى صوره على يد فولتير الذي انتقد عقيدة التثليث، وتجسيم الإله، وأشار إلى أن " بولس " طمس المسيحية وحرفها، ونادى بأن الطاعة إنما هي طاعة البشر باسم قوانين الدولة، وأن على رجال الدين أن يخضعوا مع جميع الناس لنظم الدولة، فلعنته الكنيسة، وحرمت قراءة كتبه، ونتج عن المذهب العقلي الجديد بالإضافة إلى نظرية نيوتن مذهبان جديدان على العالم الإسلامي ينمان عن التخبط والضياع: الأول: مذهب المؤلهة أو المؤمنين بإله مع إنكار الوحي.
===============(13/266)
(13/267)
العلمانيون واحتراف البكاء على الحرية
بقلم : شادي الأيوبي
من المضحك المبكي في هذه الأيام ما احترفه بعض العلمانيين من البكاء على أطلال الحرية المفقودة، والتضجر من بعض القيود التي يدعون وجودها على الجهر بآرائهم، سواء أكانت تلك قيوداً اجتماعية، أم كانت قيوداً من المشرفين على وسائل الإعلام، ولا يتورع البعض منهم عن الادعاء بوجود "اضطهاد فكري ونفسي" من فئات المجتمع المختلفة.
وتتنوع شكاوى هؤلاء من التضييق على الظهور، إلى إعطاء الفرص الأوفر لمخالفيهم- من الإسلاميين في معظم الأحيان- للإدلاء بآرائهم في مختلف القضايا، ولا يتورع بعض المغالين من مغموريهم بادعاء وجود تهديدات وأخطار تمس حياته، وهذه مسألة بالغة الخطورة؛ لأنها تمس قضية الأمن الوطني الذي يجب أن يشترك جميع أبناء الوطن في الحفاظ عليه بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية أو الدينية.
والحق أن الأجواء قد اختلفت كثيرا بالنسبة لهؤلاء، لكن هذا الاختلاف كان نتيجة طبيعية لزيادة الوعي لدى فئات المجتمع المختلفة، وليس بسبب رغبة الإعلاميين في اضطهاد العلمانيين كما يحاول بعض هؤلاء أن يوحوا لنا، حباً منهم في لعب دور الضحية المستحقة للشفقة.
فهؤلاء اعتادوا خلال سنوات الطويلة امتدت من الخمسينات والستينات وحتى منتصف الثمانينات تقريبا- مدة المد اليساري عالمياً- اعتادوا أن يكونوا فرسان الميدان الإعلامي دون منافس أو معترض، وكانت جميع الميادين الإعلامية مفتوحة لهم على مصراعيها، من مكتوبة ومسموعة ومقروءة، وكان من النادر سماع أصوات قوية معارضة لهم؛ لأن التيار السائد في ذلك الوقت كان مؤيداً بشدة لأفكارهم ومبادئهم، بحيث كانت أي أصوات معارضة تخنق في مهدها، أو ترسل إلى كواليس النسيان والإهمال، مما جعلهم يصولون ويجولون دون معارض أو محاسب لسنوات طويلة.
غير أنه في المدة الأخيرة، وبسبب أن الحالة الإسلامية بدأت تؤتي أكلها، وبسبب من إلحاح الجماهير التي عادت إلى مبادئ دينها ورفض ما يخالفه، فقد صارت هناك ضرورة لمراعاة الذوق العام المتجه نحو التدين الواعي، والرغبة بالاستزادة من المعلومات الدينية والثقافة الجادة، وهكذا اتجه العديد من المنتجين إلى برامج وأفلام ومسلسلات تراعي رغبة الجمهور.
وهنا يحق لمعترض لأن يقول: ألا تنظرون إلى ما يجري اليوم من برامج هابطة يجري وراءها الشباب بالآلاف، ولا ترون المسلسلات الخليعة التي تملأ الساحة؟
نقول: نعم هذا صحيح وموجود، لكنه لا يقارن بما كانت عليه الأحوال في السنوات الخالية، حيث كانت الشاشات المختلفة لا تعرض لذكر الدين إلا في الأعياد أو في شهر رمضان المبارك، وذلك ببعض المسلسلات الموجهة أصلاً لتضييع معنى الصيام، عبر ما تعرضه من فنون ورقصات وغناء مائع.
ونحن إذا عقدنا اليوم مقارنة بين تلك السنوات وبين السنوات التي نعيشها اليوم، نجد فرقاً كبيراً، فالجمهور المتدين الذي يقاطع البرامج التافهة، كان غير موجود تقريباً، أما أنه توجد اليوم جماهير تائهة تجري وراء كل هابط، فهؤلاء كانوا دائماً موجودين، وسيظلون موجودين، وذلك أن الغث يبقى دائماً ليتميز الصحيح.
فقبل عشرين سنة مثلاً، كنت ترى شيوخاً معممين يتكلمون في أمور الدين المبدئية، لكنك لن تجد من يعطي تحليلاً سياسياً أو اقتصادياً من وجهة نظر دينية، كما لن تجد من يتكلم عن حيوية الدين الإسلامي، والدعوة إلى النهضة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال مبادئ مستقاة من الدين ومبادئه.
واليوم لا يماري أحد في وجود تغير كبير وجذري، يسميه الإسلاميون صحوة، ويسميه خصومهم انتكاسة وتخلفاً، لكنه على كل حال فرض وجوده واحترامه على من يريده ومن لا يريده، ومن مظاهر ذلك التغير:
- الإقبال على التدين والالتزام بمبادئه، سواء على الصعيد الفردي، أو على صعيد الجماعات والمجتمعات، ويستطيع المراقب ملاحظة الفارق الواسع بين التدين قبل 30 عاماً والتدين في أيامنا هذه، فقبل كان التدين محصوراً في جماعات إسلامية معينة - ولا ينكر أحد ما قام به هؤلاء من خدمات للدين في مدة كان الدين فيها غريباً تماماً- أما اليوم فالتدين صار حالة عامة يشترك فيها ابن الشارع البسيط والأكاديمي المثقف، وابن الحركة الإسلامية ومن لا ينتسب إليها، ولك أن تنظر إلى عدد المجاهرين بالإفطار في رمضان قبل ثلاثين عاماً وأعدادهم اليوم لتعرف مدى التغير..
- البرامج الإسلامية التي انتشرت في القنوات المختلفة والإقبال المتزايد عليها، خاصة برامج الفتاوى وجلسات العلم والفقه، حيث تقبل عليها اليوم فئات كبيرة من المجتمع، ومما يجعل من هذه البرامج ومثيلاتها واعدة اهتمام فئتين من المجتمع كانتا تقليدياً في الجهة المقابلة وهما فئتا الشباب والنساء.(13/268)
- ظهور القنوات الفضائية ذات التوجه الإسلامي ونجاحها في دخول البيوت دون تحفظ، خاصة بعد ارتفاع صرخات التحذير من البرامج الهابطة التي ظهرت نتائجها الخطيرة على الكثير من الشباب، ثم نجاحها في تقديم الجديد الممتع، والذي يعتمد على العقل والنقل والعلم الحديث، مما رفع من سقف خطابها ليصل إلى المثقفين الكبار، مع محافظتها على مخاطبة رجل الشارع البسيط.
- طبقة العلماء المثقفين والمفكرين والإداريين الذين أثبتوا وجودهم خلال المدة الأخيرة، والذين قدموا الدين بطريقة عصرية قريبة للأفهام وآسرة للعقول، بعيدة عن التعقيدات، فبرامج الإعجاز القرآني المعتمدة على الآيات القرآنية والمستندة إلى أدلة من العلم الحديث، وبرامج تعليم الإدارة وفنون المهارات الذاتية، والتي جاء بها مثقفون مسلمون من بلاد الغرب وطعموها برجوعهم للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وغيرها من البرامج التي تتخذ من الدين مرجعية لها، أصبحت في غاية الجاذبية والرواج، حيث نبهت الجماهير إلى فكرة مهمة كانت غير واضحة المعالم لسنوات عديدة: إمكانية قيام نهضة حضرية على أساس من الالتزام بتعاليم الدين وشريعته..
- ظهور تطبيقات عملية ناجحة للفقه الإسلامي في مجالات كانت مهجورة منذ زمن بعيد خاصة المجال الاقتصادي، والذي كان من أول مجالات الشريعة الذي تسربت إليه التطبيقات الوضعية، حيث تشق البنوك الإسلامية وشركات المضاربة الشرعية طريقها بنجاح مضطرد يوما فيوما، ورغم الإخفاقات التي تعرضت لها في بداية مسيرتها، إلا أنها استطاعت إثبات وجودها على الساحة، بحيث صارت منافساً- ولو مبتدئاً- للبنوك التقليدية.
التغير الأخير لم يكن نتيجة مصادفة تاريخية أو اجتماعية لكنه كان نتيجة لجهود كبيرة بذلت ولا تزال تبذل، وإلى عوامل أخرى، منها:
- الجهود التربوية الجبارة التي قامت بها الحركات الإسلامية المعتدلة في سبيل نشر الوعي المرشد بين المجتمعات المسلمة، ولكي نكون منصفين في خضم الثورة الإعلامية الحالية، فإن تلك الجهود الخفية تلك كانت أساس الوعي الجماهيري الحالي، مع أن تلك الجهود لم تنل حقها من الدراسة والأضواء، فقد كانت ولا تزال جهوداً خفية بعيدة عن الظهور لأسباب عديدة.
- الجهود التي قام بها الدعاة الجماهيريون المثقفون، والذين استطاعوا إيصال الثقافة الإسلامية إلى الجماهير دون تحفظ حزبي أو فئوي، فهؤلاء بطريقة بسيطة ودون الانجرار إلى المواجهة مع أي طرف، جعلوا من الدين والشريعة أهم عامل تأمل الجماهير اليوم في قيام نهضتها على أساسه.
- الانفتاح الإعلامي الأخير الذي حمل في طياته الكثير من الغث والسمين، على أنه ساهم بشكل عام في خلق مناخ عام من الشعور بالوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية، خاصة في أوقات الأزمات، مما جعل القوى الاستعمارية تضيق بها ذرعاً، وتطالب بإقفالها أو التضييق عليها، وهي التي كانت أصلاً تطالب بإفساح المجال لها، عندما كانت تغطيتها توفر لها الحجة للتدخلات غير المنتهية في شؤوننا.
- مسارعة الإسلاميين إلى مجالات التقنية الحديثة لا سيما مواقع الإنترنت، فبعد الراديو والتلفزيون اللذان كان العلمانيون سباقين إليها ثم مسيطرين عليها، كان الإسلاميون من الذين لم يتأخروا في إنشاء مواقع على الإنترنت، وهذه ساهمت في نشر أفكارهم، والترويج لمبادئهم وتواصلهم مع الناس، ومواقع الإنترنت كما هو معلوم- من ناحية تقنية أسهل وأقل تكلفة من غيره من أدوات الإعلام..
- إعراض القنوات غير الملتزمة عن التصدي للقضايا المصيرية والقضايا المهمة، وانصرافها إلى برامج اللهو التي لا تنتهي، فلا تكاد ترى ذكر قضيتي العراق وفلسطين إلا في نشرات الأخبار، أما المشاكل الاجتماعية فليس لها معالجة جادة كذلك، بينما تئن المجتمعات العربية تحت وطأة مشاكل خطيرة، مثل: البطالة والغلاء وانتشار الأمراض الاجتماعية كالتدخين والمخدرات وانتشار فظيع للأمية والجهل..
على أن الدعاوى العلمانية تحتوي على الكثير من التعامي والتجاهل لكثير من المشاكل التي ساهم هؤلاء في إيجادها، ولمشاكل أخرى لا يزالون يتسببون بإيجادها، كما تحوي تناسياً وتجاهلاً لتاريخ عريض من التفرد مارسه هؤلاء بدعم من قوى كثيرة، جعلتهم- كما أسلفنا- يتفردون بالمجاهرة بآرائهم والترويج لمبادئهم علناً لسنوات طويلة..
ويستطيع المرء تعداد الكثير من التجاوزات والمضايقات التي تعدى فيها العلمانيون على الحريات العامة، في سبيل إقصاء منافسيهم عن المجالات العامة، تبدأ بالمضايقات والتحرش وتنتهي بالإقصاء والطرد، ومنها على سبيل المثال:
- تمسك العلمانيين غير المنتهي بالسلطة السياسية وإقصاء جميع معارضيهم بشتى الوسائل القمعية، وهذه النقطة هي قمة المأساة في عالمنا العربي والإسلامي، حيث تسخر إمكانات الدول والشعوب لخدمة طائفة أو جهة معينة جعلت من نفسها طبقة فوق سائر الناس، وتمتعت بالخيرات دون الخلق، دون أن تسمح لأي أحد بسؤال بسيط من نوع: من أين لك هذا؟؟(13/269)
- إقصاء الخصوم السياسيين من الوظائف العامة والتعليم، خاصة ما تتعرض له النساء المحجبات من مضايقات وطرد من جامعات ووظائف الدولة حتى الأماكن العامة، والقانون الوحيد الذي لم يسنه العلمانيون في هذا المجال هو منع الهواء والماء عن هؤلاء المحجبات وأسرهن..
- إبعاد الملتزمين بالدين حتى غير المنتمين منهم لأي تيار إسلامي - عن الظهور الإعلامي، فكثير من المذيعات اللواتي التزمن بالحجاب مثلاً، أُخرن إلى الصفوف الخلفية ومنعن من الظهور على الشاشات، إن لم توجه لهن إنذارات بالطرد من العمل إن لم يتراجعن عن قرارهن الجديد..
===============(13/270)
(13/271)
العلمانيون وزلزال تسونامي
إعداد : د. الوصيف علي حزة- رحمه الله
إن المتابع لهذا الحدث الذي هز القلوب والأسماع وأودى بحياة الكثير على حين غرة ، والذي تناولته وسائل الإسلام بتفسير مادي بحت يثير العجب ، حيث إنه كان من المتوقع أن تكون النظرة إلى الحدث بعين المعتبر المتعظ؛ ذلك أن المؤمن لا يمر على آية من آيات الله تعالى إلا مرور المعتبر ، قال تعالى : قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137) هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين {آل عمران: 137، 138} ، وقال تعالى : فاعتبروا يا أولي الأبصار {الحشر : 2} .
ذلك أن من شيم أهل الغفلة والجهل والكفر الإعراض عن آيات الله تعالى مطلقًا سواء الآيات القرآنية أو الآيات الكونية ، قال تعالى : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون (2) لاهية قلوبهم {الأنبياء:1- 3}، وذلك لأن انتفاعهم بالآيات معدوم ، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون {يونس: 101}.
ومن طبيعة هؤلاء أن يفسروا الأحداث والتاريخ والوقائع تفسيرًا ماديًا: وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم {الطور:44} ، وليس هناك مجال - عندهم - لمفهوم الإيمان المقترن بالآية الكونية ، فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم {الأحقاف:24، 25} .
ولما كانت نظرتهم إلى الحدث بهذه الصورة المادية البعيدة عن الإيمان كان علاجهم للمشكلة من هذه الزاوية أيضًا؛ إذ لَمَّا حدث الزلزال اتجهوا للبحث عن خبراء اليابان والمراصد وأحزمة الزلازل في العالم - ونحن لا نقلل من شأن العلم الحديث - لأن المؤمن يتخذ الأسباب التي أودعها الله في كونه ، ولكنه - أي المؤمن- لا يكتفي بالأسباب فقط وإنما يتجه إلى خالق الأسباب مبدع الكون الذي إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون ، فيطلب منه العون والمدد حتى لا يتشبه بولد نوح ، لما قال له أبوه: يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ، كان جوابه باحتياطات مادية أيضًا : قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين {هود:43} .
فهل نسي العلمانيون - أو تناسوا - بأن القشرة الأرضية تأتمر بأمر الله ؟ قال تعالى: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين {فصلت:11} .
فكل ما في الكون طوع أمره جل وعلا خاضع لعظمته متذلل لجلاله : ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس {الحج: 18}، أمرها فأطاعت وأسجدها فسجدت وأمسكها لتؤدي دورها: إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده {فاطر: 41}.
والعقلاء يعلمون أن الأرض بيد الله وحده يحركها كيف يشاء ، وفي كتاب الله ذِكْرُ الخسف الذي لحق بقارون لما عتا وتكبر بسبب ما أعطاه الله تعالى فكان التذكير بنهاية طاغية وهو قارون الذي نسب الفضل لنفسه ولم ينسبه لصاحبه، فقال: إنما أوتيته على علم عندي ، فكان الجزاء : فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين {القصص:81} .
وانظر إلى قوم لوط لما استباحوا الفاحشة وإتيان الرجال من دون النساء شهوة وترديًا في حمأة الرذيلة فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود {هود:82} .
إن ما أصاب ثماني دول في زلزال تسونامي أولى بنا أن نفسره على أن هذا جزاء ما اقترفت أيدي الناس من حل للربا والخمر والزنى والحرب على كتاب الله واتخاذ آيات الله هزوًا فكان كما قال ربنا : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا (8) فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا {الطلاق: 8، 9}.
إن كثيرًا من المنكرات تُرتكب باسم الفنون والآداب والحداثة والعصرية من خلال وسائل الإعلام والسياحة والتي يتمكن فيها العلمانيون فيشوشون على أهل الإيمان إيمانهم، وما نجم عن هذا الزلزال المدمر من هلاك وإبادة لمدن بأسرها فيها الصالح والطالح هو من سنن الله تعالى كما روى البخاري في صحيحه أن السيدة زينب بنت جحش سألت رسول اللَّ صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : "نعم ، إذا كثر الخبث".
قال ابن حجر : الخبث : هو الزنى وأولاد الزنى .
وقا صلى الله عليه وسلم : "إِن الله يغار من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"، ولعل انتشار سياحة الجنس في هذه البقاع والاستعلان بالفاحشة أدى إلى هذا الدمار الهائل والذي لم يقف عند محل الزلزال وإنما تعداه إلى أماكن بعيدة .
قال تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة {الأنفال :25}.
وقال آخرون : إن بلادًا كثيرة كأمريكا وأوربا انتشرت فيها الفواحش أضعافا مضاعفة ولا يزالون في نعمة تتلوها نعمة!!(13/272)
نقول: إن الله جل وعلا يستدرج أهل الباطل ويعطيهم على المعاصي ليس حبًا لهم ولا رضا عنهم ولكن استدراجًا، قال تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون {الأنعام:44}.
وقال تعالى : فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (44) وأملي لهم إن كيدي متين {القلم:44، 45}.
فأما المؤمنون إن قصروا وعصوا فإنما تصيبهم النوازل لتعيدهم إلى سواء السبيل ، قال تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون {الروم:41} .
وأخيرًا نقول لمن أراد معرفة الزلزال قبل وقوعه فلقد نبه رسولنا r إلى ذلك فيما رواه البخاري : "لا تقوم الساعة حتى يقل العلم ويفشو الجهل وتكثر الزلازل ويفيض المال فلا يقبض" .
وقد قل العلم الشرعي وإن زادت العلوم الدنيوية التي لا نقلل من أهميتها ولكن على حساب العلوم الإسلامية ، وفشا الجهل بالتوحيد ومنهج أهل السنة والجماعة وكثرت الزلازل كما رأينا .
وهذه إرهاصات بين يدي الساعة تدل على قرب وقوعها ولكننا لا يمكن أن نحدد عددًا معينًا من السنين كما ذهب بعض الدجاجلة إلى ذلك ، وإنما نقول : علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة {الأعراف:187}.
ومن الجدير بالذكر أن المسلمين لهم نظرتهم الإيمانية إلى الأشياء والأحداث والتاريخ ، إلا أن العلمانيين الذين أشربوا في قلوبهم حب الغرب الصليبي أو الإلحاد الشيوعي زلزلوا حياة الأمة وشككوا العامة في إيمانهم برب الأرض والسماوات بنظم التعليم والإعلام.
فهل من عودة صادقة إلى الله جل وعلا حتى يرفع عنا هذه الغمة كعودة قوم يونس : إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين {يونس:98}.
هل من عودة إلى شريعة الإسلام وأحكامه لتدفع عنا الخزي والعنت ؟ هل من مجيب ، وهل من مدَّكر؟
والحمد لله رب العالمين
==============(13/273)
(13/274)
العلمانية. . ذلك الشرك الأكبر
[الكاتب: محمد الفزازي فك الله أسره]
كانت العلمانية ولا تزال باباً من أبواب الشرك والإلحاد، وكان العلمانيون ولا يزالون صناديد الكفر والعناد. ولما كانت هذه المعضلة متمثلة في إقصاء شرع رب العالمين عن الحكم به والتحاكم إليه، واستبدال شريعة الغاب به، كانت كل البلايا والمصائب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية.. وما يتفرع عن ذلك، مما يكتوي به الناس اليوم، من أقصى الأرض إلى أقصاها، كانت بسببه.
إن إبعاد الشريعة الإسلامية عن الحياة رزية عظيمة للحياة، بل قضاء على الحياة. والناس بدونها {صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] وجثثاً لا روح فيها، مهما بدت للعيان كأنها حية تأكل الطعام وتمشي في الأسواق؛ إذ الحياة على هذا النحو الفارغ من الإيمان هي مجرد حياة، كحياة من قال فيهم رب العزة: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]
إن أمة لا يحكمها شرع الله تعالى أمة ميتة، ولن ينفخ فيها الروح من جديد إلا أن تعود لمصدر الحياة الوحيد، ألا وهو الاستجابة لله العزيز الحميد، ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهديه التليد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] فشرع الله يحيينا، وشرع البشر سم قاتل مميت. شرع البشر مزرعة للظلم وحمى للظالمين، شرع البشر ساحة تتفاقم فيها المعضلات وتتوالد فيها المآسي. شرع البشر شرع قاصر بقصور البشر، جاهل بجهل البشر، شرع محكوم بالهوى والنفعية والجهل.. ولا يستطيع الإنسان أن ينفك عما جُبِل عليه من هذه النقائص، إذ هي من نسيج مكوناته وصنعته، ومِلاط بنيته وطِلاء واجهته.. وهذا ما يجعل شرع الإنسان يحمل كل النقائص الطابعة لفطرته، ولا يرجى الكمال من ناقص، وفاقد الشيء لا يعطيه.
ومما هو معطل من شرع الله تعالى والذي هو أحد أسباب الحياة: القصاص. وتعطيل القصاص وحده يكفي لإشاعة الفوضى والجريمة والانتقام والثأر بين الناس. وهذا الإقصاء في صورته الجزئية هذه باب من أبواب الموت للمجتمعات والأفراد. قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، إذن فليس في تعطيل مصدر الحياة هذا سوى جلب للموت المحتوم.
إن الكل يعلم أن العلمانية هي اللادينية، وهذا يكفي المسلم في إنكارها واستنكارها والبراءة منها ومن أهلها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا صلة تربط بين العلم والعلمانية البتة. ولهذا نصحح للذين ينطقون الكلمة بكسر العين، أن الفتح هو الأصح، وأنها عَلمانية لا عِلمانية. والنسبة فيها إلى العَلم لا إلى العِلم. فتنبه إلى هذا. فالعلم بريئ من ساحة الجاهلية، الجاهلية جهل. والعلم كل العلم فيما قال الله تعالى، وما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما قاله الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
لذا نؤكد أن المعركة بين الإسلام والعلمانية في حقيقتها هي معركة بين العلم في جانبها الإسلامي لأن الإسلام من عند العليم الخبير، وبين الجهل المركب في جانبه العلماني الذي هو من عند الإنسان الجاهل. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] وقل إن شئت هي المعركة بين الإسلام والكفر. فلينظر العلمانيون في أي جانب هم؟ ومع من يحاربون؟ ومن يحاربون؟ وسيجدون أنفسهم أعداء لله تعالى وللمؤمنين، ولن يغني عنهم الغرب الكافر يوم القيامة شيئاً، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران:22]
إن المحقق المدقق، وإن كان الأمر في غنى عن التحقيق والتدقيق، يرى أن ما من نكبة أو نكسة أو مصيبة تحل بالأمة إلا ويقابلها شرع من شرائع الله تعالى قد تعطل. وما من مأساة أو هزيمة أو جائحة أو معضلة.. سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية… كالبطالة والأمية والجهل والتضخم والفقر والمرض وتفشي ما يعلمه الناس من ويلات خلال ممارساتهم اليومية… إلا ويقابل كلا من ذلك شرع من شرائع الله قد تعطل وألغي وأقصي على يد الكافرين والمنافقين. وهكذا تستطيع أن تدرك مدى الشرائع الإسلامية المعطلة والمبعدة من حدود وقصاص وتعازير وآداب عامة وحِسبة… بمدى المصائب والكوارث النازلة على كاهل الناس، أفراداً وأسراً وجماعات ودولاً… وتستطيع أن تدرك أيضاً مدى الجرم الذي يرتكبه العلمانيون وهم يمارسون حربهم على الله تعالى في إقصاء الكتاب والسنة في حق البشرية كلها.(13/275)
ولا داعي هنا للتذكير بأن كلاً من الإيمان والتقوى المبنيين على الفهم السليم للإسلام، مجلبة للرزق والسعادة والطمأنينة والعز والتمكين والتقدم… طبعاً العلمانيون لا يفهمون هذا. ولا سيما وهم يرون مجتمعات الغرب تغرق في الترف والأموال والرفاهية والتقدم والعلم والتكنولوجيا وما إلى ذلك، ثم ينظرون إلى المجتمعات الإسلامية فلا يجدون إلا عكس ذلك. إلا أن بلادتهم لا تمنعنا من تنبيههم إلى أن الغرب وصل إلى ما صل إليه، ليس بالكفر والإلحاد، ولا حتى بالاعتماد على النفس في معركة السبق العلمي وما يؤول إليه كل سبق من هذا النوع. ولكنهم وصلوا إلى ذلك بسرقة الحضارات ونهب الثروات بالعسكر والمستعمرات، وبجلب اليد العاملة الرخيصة طوعاً أو كرهاً، واستيراد الأدمغة العالمة من شتى البقاع رغبة أو رهبة، ثم بناء ما نراه من أوجه المدنية والتقنية والفنية والقوة… وفي المقابل تخلف من تخلف من المجتمعات، ومنها المجتمعات الإسلامية، لا بسبب الإسلام الذي أول آية من كتابه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ولكن، أولاً وأخيراً، بسبب بعدهم عن الإسلام نفسه علماً وعملاً، ولم تنفع في امتلاخ المجتمعات الإسلامية من التخلف بكل صوره بعض الشعائر التعبدية المفصولة عن الشرائع القضائية التي ليس في الفصل بينها إلا الخزي في الدنيا وعذاب الرب في الآخرة: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]. إن تعرية فصول الاستعمار وما صاحبه من ترحيل اليد العاملة وتهجير العقول العالمة من كل حدب وصوب.. كان من أسرار تقدمهم التقني والعلمي والعسكري والاقتصادي… وما إلى ذلك، كما كان تخلفنا عن الإسلام العظيم مطية لتخلفنا عن أعدائنا وعقاباً لنا بهذا التخلف الذي آل إلى التبعية التامة في أخص خصوصياتنا ألا وهي عقيدتنا. وها أنا ذا أهمس في آذان العلمانيين أن حضارة الغرب حضارة مسروقة ومنهوبة في أسسها. ولم يكن تخلفنا إلا جزاء وفاقاً لتعطيل شرع الله تعالى وتطبيق شرع اليهود والنصارى الذي هو آفة الآفات اليوم، وفي كل يوم بكل المقاييس والاعتبارات.
نعم عندهم الأموال، بصرف النظر عن مصدرها..، وعندهم المتاع والرجال والأولاد المتعلمون، وهم أملهم في المستقبل.. لكنه مال حرام وسحت قام على كتف المستضعفين، وارتوى بعرق المغلوبين.. أما أولادهم فجلهم لقطاء وأبناء زنى، من أمهات باغيات لا أب لهم.. وبالجملة نقول ما قال الله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]
ومع ذلك فمشاكلهم لا أول لها ولا آخر وعوامل الانهيار لديهم بادية للعيان، وبداية الانحدار إلى الهاوية الدنيوية قبل الأخروية قد بدأت بالفعل. وهو أمر محتوم لا مفر منه. والمسألة مسألة وقت. والتذكير هنا بأمراضهم الاجتماعية من بطالة وجريمة ومخدرات وتفكك الأسر وما إلى ذلك له اعتباره في ما نحن فيه. وعلامة على صدق ما نقول. فمن كان يصدق أن ينهار الاتحاد السوفياتي الجبار وتتمرغ الشيوعية الاشتراكية في أوحال المذلة على يد بدو حفاة عراة جياع، زادهم الأول والأخير: [الله أكبر]، ولولا مكر المنافقين والكافرين، لأمر كان مقدراً، لفتح الأفغان ومن كان معهم الكريملين وليس فقط كابول. ولكن قدر الله وما شاء فعل.
والحديث مع العلمانيين في الحقيقة حديث مع الذين لا ينكرون الدين، على الأقل في تصريحاتهم. ذلك لأن منهم من يقول هو مسلم مؤمن قوي الإيمان، وربما يصلي ويزكي ويصوم ويحج.. فقط هو يرى أن الإسلام في جانبه التشريعي إما أنه استنفذ أغراضه ولم يعد صالحاً لهذا الزمان، وبالتالي هو مرتد كافر بالله تعالى لا تنفعه صلاة ولا صيام.. وإما أنه يقول: تطبيق الشريعة سوف يجر علينا الويلات من القوى الغربية، وسيكون هناك حصار وعقاب وعزل عن المجتمع الدولي، وسيُحدث مشكلات داخلية وخارجية لا قبل لنا بها… إلى آخره، وبالجملة فنحن مغلوبون على أمرنا، ولا خيار لنا في مجاراة هؤلاء ولو على حساب دين الله تعالى. ومعلوم أن من يفكر هذا التفكير ليس بمؤمن بأن الله تعالى هو الذي بيده الأرزاق والأعناق، وأن الخشية ينبغي أن تكون منه وحده سبحانه، لا من غيره. {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [التوبة:13]
وللذين يؤمنون بالقرآن -جدلاً- وهم يبحثون عن الازدهار الاقتصادي لشعوبهم، ويبحثون عن رفع المستوى المعيشي لمواطنيهم في صحتهم وتعليمهم وتشغيلهم… في غير دينهم. عليهم أن يعيدوا قراءة كتاب ربهم الذي يدّعون أنهم به مؤمنون، وليتأملوا في هذه الآيات الكريمة:(13/276)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82]
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282]
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 / 3]
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]
إلى آخر ما هناك مما يصعب إحصاؤه ويعسر استقصاؤه من النصوص القرآنية والحديثية في أن طاعة الله ورسوله خير في الدين والدنيا: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]
ونعيد السؤال الآن بوضوح تام:
هل أنتم - معشر العلمانيين - تؤمنون بالله واليوم الآخر، وتؤمنون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتؤمنون أن القرآن حق كله، يهدي للتي هي أقوم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتؤمنون بالدين كله، وتكفرون بالطاغوت كله، أي أنكم تقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، حقيقة صادقة من قلوبكم..؟؟
فإن كان الجواب بالإيجاب، فدونكم السنة، ودونكم الكتاب، ولتكفروا بالطاغوت المتمثل في شريعة الغاب. وإن كان الجواب سلباً وكفراً فلن تزدادوا بالكفر إلا ضنكاً وخُسراً. والعاقبة للتقوى. وويل يومئذ للمكذبين.
إن العلمانية أكبر من أن تكون ظاهرة قطرية أو مسألة اجتماعية يمكن علاجها بوسيلة أو بأخرى. إنها سياسة عالمية محكمة، ومصممة العزم على تنحية دين الله تعالى من الأرض إلى الأبد. وهي سياسة ثابتة ومستمرة ومستقرة، ولن يتغير منها شيء، بل هي باقية، وباقية معها ويلاتها إلا أن يصح حسن العزم منا، ونتوب إلى الله جلت قدرته، وحينها، حينها فقط ترحل عنا العلمانية، ولا يبقى لها بيننا مكان من طنجة إلى جاكارتا، وما وراءهما. ويرحل عنا الذل والهوان الذي نعيشه الآن. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَّالٍ} [الرعد:11]
وأخيراً، أقول: إن العلمانية كفر بالله تعالى وبما أنزل، وسبب مباشر في نقمته سبحانه على من احتضنها أو ناصرها أو رضي بها وعنها. وإنها أيم الله باب من أبواب الفتنة الكبرى التي لا تذر شيئاً ذا بال إلا أتت عليه كالرميم. لا يصمد في وجهها أخضر ولا يابس إلا ما شاء الله.
فلينظر العلمانيون في بلادنا الإسلامية في ما هم فيه، وليعلموا أن علمانيتهم هي الحاجز المنيع دون أي تحرر أو تحرير للبلاد والعباد سواء. ولنستحضر دائماً أن الذي عطل الجهاد في سبيل الله تعالى وتعطل بسببه عز المسلمين هو العلمانية التي جعلت البَغاث يستنسر والكلاب تستأسد.
والله أسأل أن يهدي الضالين وينصر المجاهدين في شرق الأرض وغربها، آمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
وكتبه محمد بن محمد الفزازي
طنجة، ليلة يوم التروية 1419 للهجرة
============(13/277)
(13/278)
كنتُ في جُحر العلمانية ..
فخرجتُ لفضاء الإسلام ..
إذا أردنا لأمتنا حقيقة امتلاك جيل النصر المنشود فلا بد من إعداد النخبة المسلحة بسلاح العلم والفكر القادرة على استيعاب المتعمق لسائر الجوانب الفلسفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية العالية للواقع الذي نعيشة ..
هذه خاطرة تجول قبل البدء في مسطورتي ..
حينما أكون مُتجرِّدة من أي تأثير خارجي، ولم يَدُر في فلك ذهني خاطرة ما تُجاه فكرةٍ ما سأقبل بالإسلام بالطبع فقيَم الفطرة، ونواميس الاستقامة والاعتدال، تتركز فيه، كنتُ أفكر يوماً ما عن أمر حرّمه الإسلام وليس فيه فائدة للبشر، أو العقول السليمة تخالفه، لم أجد مع إدامة نظري حيناً ..
قلّبت قواميس النصوص الشرعية في مكتبتي الصغيرة، ذهبت لأصرح حروف النهي ( لا ) لا تفعل .. أريد تتبع تلك المنهيات والزواجر .. قلبتها دون شكّ أو ريب، فرأيت الحياة الرغيدة والمعيشة السعيدة، لو وقفنا عند حدودها، نظام عجيب من الأخلاق والقيم تأباه القيم الشهوانية، التي تربت على انفلات النزوة .
لم أكن علمانيةً يوماً ما ، ولم أكد أن أكون .. كلا .. ولكنني دخلت في جحرها أبحث عن الحقيقة حتى في الجحور، في ظلام دامس، وليل كالحٍ .
إن رغبت أن ترى قلب الإنسان وقالبه يظهر لك كأشعة الطبيب حينما يخبرك عن شرخ في جمجمة مُخك، وشعر ينفد منه الهواء إلى قلبك، فعليك بالنت، لا تأخذ من أي أحد كان منهجاً أو فكرة، وإن إدعى النزاهة والخُلُق والطيبة والطهارة، حتى ترى صنيعه حينما يختفي خلف حاسبه لينفث ما يمليه عليه قلبه في ظلام النت الدامس .
أقول .. دخلت جحر العلمانية في أحد مواقعها على هذه الشبكة، أريد أمرين لا ثالث لهما، أحاور وأناقش، هذا أولاً .. وثانياً : أبحث عن الحقيقة في ظل هذا الصراع، .. أنا مُسلمة ولا أزال لم أتعلمن في يوما ما ساعة، الذي أعجب منه هو صمود إسلام واحدة قليلة العلم في جحر العلمانية، وتكسر كثير من صخور العلمانيين أمام ساعدها ..
العلمانية في مجتمعاتنا -بحمد الله - مشوّهة لأبعد حد ويصف، حتى لو وَصفتُ امرأة حولي بالزنا أهون من أن أصفها بالعلمانية أو الليبرالية، وهذا ما جعل كثيراً من أبواقها يتلونون في عالم المصطلحات ..
فبعد تشويه العلمانية ظهر ما يسمى بـ (الليبرالية) وإن كان المسمى قديماً لكنه انتشر بعد تشويه سمعة شقيقه وصنوه ( العلمانية ) .. ولم تلبث الليبرالية أن تشوّهت بفعل مجانين الشرق ومهوسي النزوات فاستعاض كثير منهم ذالك الاسم بـ ( الاصلاح )
دخلت موقعاً يُعد عند المعتنين بالفكر العلماني من أشهر المواقع مكثت فيه أشهر طويلة أتصفحه كل يوم ساعات، رأيت كيف أن الانسان بمقدوره أن يجعل من نفسه حيواناً بهيماً، بدل الآدمية والتشريف التي تشرف بها .
لي قصص متنوعه معهم في مواقعهم ومع بعض رموزهم عبر مكاتبات بريديه، أقول وبعد تجربة مريرة -أقول وأقول بمليء فمي- من ظن أن هناك كائنا ليبرالياً أو علمانياً منصفٌ فهو كاذب أو مجنون ..
وأقول .. بعد خوض حمم كثيرة ومراشقات متنوعة يخرج العلماني مكنونه وهو كفره الصريح بالإسلام وردته عن الملة القيمة! وإن زعم في أول الأمر أنه مسلم يصلي فهو في الحقيقة مُلحد، لكنه ينتظر فقط الفرصة السانحة التي تناسبه لكي لا يفقد بريقه الذي يريد ..
حينما أحاور علمانياً غربياً وأتناقش معه في النت، وأناقش بعده علمانياً شرقياً يتمالكني إحساس قويّ أن ذلك الغربي أقرب للإسلام من ذلك الشرقي المتهافت ..
99% من علمانيي العرب لا يعرفون من العلمانية سوى الشهوة والنزوة، ولو ذكرت عنده دولة لبنان لامتدحها بأنها متحضرة متطورة، ولو ذكرت عنده السعودية لقال متخلفة !
بماذا تحضرت لبنان وبماذا تخلفت السعودية ؟! هناك جانبان للحضارة لا ثالث لهما :
الأخلاقيات .. والتقنية ! فبماذا غلبنا لبنان وبماذا غلبناها ! .. الجواب معروف، فلن أجيب عليه، وبمعرفة الجواب تعرف أي عقل يمتلكه العلماني الشرقي أو العربي بالمعنى الأدق ..
إن ما يمارسه العلمانيون مع الغرب يطيب لي أن أسميه دعارة فكرية، وسفاحاً سلوكياً، حيث لم ينظر هؤلاء العرب إلا لبريق المادة فباعوا عقولهم وباقي الحضارة أخذوا منها كما أخذنا لا فرق ..
العلمانيون ومن تحاورت معهم يعيشون اضطراب غير محدود في تحديد الهوية، ولو شبهتهم على الصعيد السياسي لشبهتهم بتركيا العلمانية !
تمرد الغرب على دينه البشري .. أقول بشري أي أنه من صنع البشر بسبب تحريفه .. لأنهم بدلو ما أنزل الله فتمردو على ما صنعت أيديهم، فأراد بعض السَقَطة من المسلمين أن يحاكوهم في ذلك ليتمردو على دين سماوي محفوظ، فكل ما يقوله الغربي العلماني عن دينه يريد أن يقوله عن الاسلام !
وهو لا يدري الفرق بينهما ..!
فتجده يلحق كل مصيبة بالاسلام، ومع توالي النكبات وتفوق الغرب وتكرار المصائب بشكل يومي تبع من كره دينه وقيمه وتعاليمه .
ومع ذلك تشبعوا كرها لمجتمعاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فهي التخلف والنكسه مهما كانت بلا نظر ولا ترو .. هكذا الحكم مسبقاً .
فأصبح هؤلاء يتكلمون معك وكأنه يتكلم بلسان بوش أو بلير !(13/279)
اللهم أحشرني مع بوش وبلير .. فمن يكون معنا يكمل العدد لنلعب بلوت في الآخرة !
هذا الدعاء ليس مني بالطبع فأنا مسلمة، لكن قاله لي علماني سعودي (يزعم) ومع ذلك يقول: أنه مسلم، ولو قلت له أنك (كافر) بهذا لأصبحت تكفيرياً -طبعاً في عرف اسلام بوش-
مروق من الإسلام وتمرد عليه منقطع النظير ..
لم أر في حياتي تجمّع آدمي كهؤلاء حينما يجتمعون في موقع حواري على الشبكة، خذ صنوف اللأحاد على أطباق شتى، وصاحبها قرير العين ..
حينما ولجت مواقعهم رأيت الأسماء العربية الأصيلة .. فلانة القحطانية .. فلانة المطيرية .. فلان الشمري .. هذه كلها ترويج وسياسة إعلامية كاذبة للترويج للفكرة العلمانية الساقطة، وأكثر من يتخفى خلف هذه الأسماء هم من أصحاب العقائد المنحرفة مسبقاً كالشيعة والاسماعيلية والصوفية الحجازية خاصة ..
كنتُ مغترة بهذه الأسماء مصدقة لها لأول الأمر، لكن بان لي أن هؤلاء لا يعرفون من ثقافة الاسلام شيء أو من الأصول العربية المعروفة لدى هذه الأسماء العربية العريقة ..
متلازمتان لا تنفكان العلمانية والنزوة الشهوانية .. هكذا رأيت أن الغاية من تغريبنا ليس لأجل القوّة الاقتصادية ولا العسكرية ولا غيرها ... بل يكفينا أن نكون متحضرين إن رمينا الحجاب وبعنا الخمر وأبعدنا كلمة حرام من قاموسنا ..
فبعد ذلك فنحن متحضرون بالطبع .. ليس اقتصادياً وعسكريا وتقنياً لأن هؤلاء لا يعرفون شيئاً من ذلك !
سنكون متحضرون كحضارة لبنان .. فقط
عُذراً على الإطالة ..
شذى قباني
نقلاً عن منتدى الساحات
==============(13/280)
(13/281)
خطبة الحاجة على الطريقة العلمانية
يتأدب المسلمون - عادة - عندما يبدأون الكلام ذا البال ، أو الأحاديث الهامة ، أو الخطب المطولة ، فيبدؤون بحمد الله تعالى ، والثناء عليه بما هو أهله ، يلي ذلك إعلان كلمة التوحيد والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلاوة آيات من القرآن الكريم ، على النحو الذي يعرف باسم "خطبة الحاجة" اهتداءً بهدى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ثم يدخلون في الموضوع المقصود .
لقد أصبح للعلمانيين العرب في - أيامنا هذه - ما يشبه "خطبة الحاجة" عند المسلمين ، غير أن خطبتهم تبدأ بسب الإسلاميين والتعريض بهم، وإعلان التصديق بأنهم إرهابيون، وتأييد خطوات "الحكومات الديموقراطية" التي تبطش بهم ، ووصفهم بأنهم أعداء الحضارة، وأعداء التقدم والاستنارة ، ودعاة الفتنة.. إلى آخر قائمة المغالطات الإعلامية المعروفة .
ويندر أن نجد اليوم مقالاً في صحيفة ، أو بحثاً في مجلة ، أو حواراً بين أصحاب الفكر العلماني المنحرف ، في أي مكان ، وعبر أي منبر ، يتعرض للأحوال العامة في المنطقة العربية ، إلا ويبدأ بسب الإسلاميين ، والهجوم عليهم ، والدعوة إلى عزلهم ، والتنكيل بهم ونحو ذلك .
اليساريون في مصر ، كتبوا مقالاً هاجموا فيه أحد الكتاب في صحيفة "الأهرام" بدعوى أنه يتعاطف مع الإسلاميين ، وقدموا للمقالة بالديباجة المعروفة فلم يقصروا في شتم الإسلاميين ولعنهم والتأكيد على أنهم سبب كل بلاء ، ولكن الكاتب المقصود ، لم يتأخر ، حيث نشر مقالاً ينفي فيه "تهمة" تعاطفه مع الإسلاميين، ولم ينس أن يبدأ مقاله بالديباجة أو "خطبة الحاجة العلمانية" من سب وتجريح وتشهير بالإسلاميين ، ثم دخل في موضوعه مدعياً : أن "التطرف اليساري" هو الذي يغذي "التطرف" الإسلامي ، فأصبح الأمر مثيراً للضحك حيناً ، وللشفقة أحياناً أخرى ، في زمن الهوان والضعة ، زمن انحدار أصحاب الأقلام العربية العلمانية.
.............................
بقلم جمال سلطان
مجلة البيان
===============(13/282)
(13/283)
العلمانية والجاهلية وجهان لعملة واحدة
مجلة منار السبيل
السنة الثانية-العدد 4- أكتوبر 1993
د. جعفر شيخ إدريس
بما أن الحضارة أو الثقافة العلمانية حضارة تحل الهوى محل الإله الحق، فإن لها في كل أشكالها -القديمة أو الحديثة، اليونانية والأوربية أو العربية- سمات مشتركة، نابعة من ذلك الأصل الكفري المشترك، لأن قيم الناس وثقافاتهم هي ثمرة معتقداتهم وأحوال قلوبهم، فإذا تشابهت المعتقدات وتشابهت لشابهها القيم، تشابهت الأقوال والأعمال والتحليلات والتفسيرات:
"كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم" [البقرة 118]
"كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون" [الذاريات 52-53]
فالثقافات الجاهلية كلها ثقافات تطلق العنان للشهوات الجنسية فتبيح الزنا بكل أشكاله:
عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل ونكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. [البخاري، النكاح:37]
هذه الإباحية الجنسية العربية أقل شراً من إباحيات أمم أخرى، لأنها كما ترى تحرص على أن يكون للمولود نسب ينتمي إليه وإن كان نسباً غير حقيقي.
وكما تبيح الحضارة الجاهلية الزنا فإنها تبيح كل مقدماته ومسبباته، فالنساء في المجتمع العربي الجاهلي، كأخواتهن في المجتمع الجاهلي الغربي، كن لا يتحرجن من إظهار محاسنهن الأنثوية لكل الرجال، فكن يكشفن شعورهن ونحورهن بل صدورهن، ولم يكن يدنين عليهن جلابيبهن، بل كن أحياناً لا يتحرجن حتى من التعري الكامل، وكن يختلطن بالرجال ويخلون بغير المحارم، وكن يتعطرن ويخرجن ويخضعن بالقول في خطابهن.
والحضارات الجاهلية حضارات لا تعرف التوسط ولا سيما في معاملة النساء.
فهي تذهب من طرف معاملتها معاملة الحيوان والعبيد (قال عمر رضي الله عنه كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً - البخاري، اللباس، 30) إلى طرف مساواتها بالرجال في كل شئ بل تقديمها عليهم: (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم) [النمل: 23]
"قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون. قالوا نحن ألو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين" [النمل 32-33]
وقد تغلو الحضارة الجاهلية في اتباع الشهوات الجنسية فتبيح الشذوذ، كما فعل قوم لوط وكما فعلت الحضارة اليونانية، وكما تفعل اليوم الحضارة الأوربية.
والحضارات الجاهلية كلها تبيح شرب الخمر، ولعب الميسر، وأكل الربا. وهي حضارات لا ينفك أهلها عن الفخر بالأنساب أو الألوان أو القوى المادية أو غير ذلك مما لا تعلق له القيم الفاضلة، ويتخذون مثل هذه الميزات ذريعة إلى الاعتداء على الضعفاء. هكذا كان العرب في جاهليتهم يفعلون، وهكذا فعلت الحضارة الغربية مع الأمم الضعيفة فاستعمرت بعضاً، واحتلت بعضاً، واسترقت بعضاً ثم عاملتهم أسوأ مما تعامل به الحيوان.
لكن الحضارات الجاهلية قد تفلح رغم كل هذه المثالب في بناء مدنيات باهرة، وتتفوق في العلوم الدنيوية وما يبني عليها من تقنية فتأتي بمنجزات كبيرة في مجال الزراعة والصناعة وسائر أنواع التفوق المدني العمراني. ولكن لما كان هذا الجانب المدني المادي قائماً على جرف ثقافي هار فإنه لا يلبث أن يتداعى.
"يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" [الروم: 7]
"أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها. وجائتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون." [الروم: 9]
ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد." [الفجر:6-14]
==============(13/284)
(13/285)
يا ( بني علمان ) ..... ما قولكم في اليابان ؟!
بقلم : سليمان بن صالح الخراشي
عندما يقدر لك أن تقرأ كتابات ( بني علمان ) ، أو تتحاور معهم تجد أنهم متشبعون بالنظرة الغربية للدين ، وبتاريخهم المعاصر ؛ حيث الصراع بين الدين النصراني ( المحرف ) ممثلا في الكنيسة ، والعلم المادي .. مما أدى بهم إلى تنحية الدين واستبداله ( بالعلمنة ) ... فهذه النظرة مسيطرة بشكل طاغ على ( بني علمان ) في البلاد الإسلامية ، مما أدى بهم إلى المطالبة بعزل الإسلام عن شؤن الدنيا ؛ لعلهم يصلوا إلى ما وصل إليه الغربيون !
فهم كما قال الأستاذ محمد قطب في كتابه ( التطور والثبات .. ، ص 266 ) : ( اختفت الحملة الأولى والثانية وظهرت في الأفق دعوة جديدة، هي التي ما تزال قائمة حتى اليوم، على يد أولئك "التلاميذ" المخلصين من "المسلمين!" إن أوربا اليوم متقدمة، وهي ليست متدينة! لقد طرحت الدين جانباً فتقدمت وتحضرت ووصلت إلى القوة والسلطان! ونحن متدينون (!) وفي الوقت ذاته متأخرون! فينبغي أن نسلك الطريق القويم، ننبذ ديننا -كما فعلت أوربا- فنتقدم ونتحضر ونصل إلى القوة والسلطان! وليس من الضروري أن نكفر ونلحد! إنما يجب أن نسارع إلى فصل الدين عن كل ما له علاقة بواقع المجتمع وواقع الحياة) !!
وفات هؤلاء المخذولين أن التقدم التقني المادي لا علاقة له بالأديان ولا بالثقافات ولا بالمجتمعات .. إنما هو كلأ مباح للجميع ، من بذل أسبابه حصله وظفر به ؛ كما قال تعالى ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . وما كان عطاء ربك محظورا ) .
وما التجربة الغربية إلا أنموذج واحد من النماذج التي ظفرت بالتفوق الدنيوي حاول ( بنو علمان ) تضخيمه والترويج له ؛ لحاجة في نفوسهم !
وتناسوا أو تغافلوا عن نماذج كثيرة غير غربية متفوقة .. لم تمر بحالة ( الفصام النكد ) الذي مر به الغرب بين الدين والعلم .
ومن هذه النماذج البارعة : نموذج ( اليابان ) الذي لا يتحدث عنه ( بنو علمان ) كثيرا !! لأنه يهدم نظرتهم القاصرة ؛ حيث استطاعت هذه البلاد أن تبز الآخرين بمن فيهم الغرب في مجال التقنية ، مع محافظتها على ( ثقافتها ) في مواجهة الغزو الفكري الغربي - كما سيأتي إن شاء الله - .
وقد أحببت في هذا المقال أن أنقل آراء بعض المطلعين ( العقلاء ) ممن تأملوا أسباب تفوق اليابان وأخذوا منها العبر ؛ لعلها تساهم في نقض النظرة التي رسخها ( بنو علمان ) في أذهان المسلمين سنين عددا ، بل حاولو تطبيقها عمليا على أرض الواقع ، فباؤا بالفشل ، وخسروا دينهم ودنياهم . فلا هم الذين سلم لهم دينهم ولا هم الذين الذين نافسوا الآخرين في تفوقهم .
أقوال العقلاء في اليابان :
يقول الدكتور نعمان السامرائي في كتابه ( في أعماق التجربة اليابانية ، ص 10 ) : ( حين أتأمل في التجربة اليابانية أجدها تطرح أكثر من قضية ؛ لعل على رأسها : أولا : لقد أثبتت اليابان بالدليل العملي أنه يمكن انتهاج سبل ووسائل مستقلة للتقدم والتنمية ، بعيدًا عن الغرب ووسائله وقيمه ونظمه ). ويقول أيضًا ( ص 99) : ( ربما كان الجانب المهم بالنسبة لنا من التجربة اليابانية هو ذلك التطور الواسع مع المحافظة على التقاليد ) .
ويقول أيضًا ( ص 16 ) : ( إن التجربة اليابانية في التنمية والتقدم فذة ومثيرة ، وهي تهمنا في الشرق الإسلامي أكثر من غيرنا ، فقد سجلت نجاحًا باهرًا دون أن تدير ظهرها للتراث والدين والنظام الاجتماعي ، وقد حافظت وما زالت على الهوية واللغة ، وهي تستخدم أصعب لغة في العالم ، بحيث يزيد عدد الحروف والصور والرموز على ثلاثة آلاف ! ، وأن الإملاء الياباني يشكل معضلة من المعضلات ، ومع كل ذلك ومع شح الموارد تقدمت ومازالت تتقدم ، على حين يطالبنا البعض بالتخلي عن الدين والتراث والهوية مقابل " شيك " بالتقدم رصيده مجرد " حلم " ليس أكثر ) !.
إلى أن يقول ( ص 17 ) : ( إن التجربة الغربية في التنمية تجربة إنسانية واحدة ليس أكثر ، ويمكن أن يقوم إلى جانبها تجارب ناجحة ؛ كتجربة اليابان والصين ، دون أن تكون تقليدًا حرفيًا ..) .
ويقول الإداري الاقتصادي حمدي أبوزيد إن اليابان ( لم يرفض الإصلاحات بصورة كلية ، ولكن عمل على تبنيها بصورة تتناسب مع احتياجات العصر الجديد والتقاليد اليابانية الإجتماعية الموروثة ) . ( اليابان : دروس ونماذج ، ص 31) .
ويعترف الأمير طلال بن عبدالعزيز في كتابه ( حوار حول العولمة .. ، ص 35 ) : أن اليابان ( حافظت على هويتها الثقافية في الوقت الذي استطاعت فيه أن تتواءم مع النظام العالمي ) .
ويقول بول كنيدي في كتابه الاستعداد للقرن الحادي والعشرين : ( تتمثل نقاط القوة اليابانية في التماسك الإجتماعي والعرقي ، والشعور العميق بالهوية القومية والتفرد الثقافي وخضوع الرغبات الفردية لصالح الجماعة ) . ( نقلا عن عرض للكتاب في مجلة الجديد ، العدد الأول 1994م ) .(13/286)
ويقول الدكتور حسين شريف في كتابه ( التحدي الياباني ، ص 16 - 17 ) : ( إن تجربة ميجي - نسبة للإمبراطور ميجي ايشن الذي أطاح بالحكم العسكري في اليابان عام 1868م - وما اتسمت به من خبرة متميزة في عملية التوفيق بين القديم والحديث قد نجحت في تحقيق الاستمرارية لعملية التكيف بالسرعة الملائمة مع الغرب مع الحفاظ في الوقت ذاته على هويتها وقوميتها ) .
ويقول ( ص 17 ) : ( أصبحت اليابان بفضل إصرارها وعزيمتها من أسرع دول العالم تطورًا بالرغم من قيامها أساسًا على تقاليدها العريقة ).
ويقول ( ص 20 ) : ( أما عن المقومات التي أدت إلى نجاح نهظة اليابان الحديثة فإنها ترجع في الأساس إلى المواءمة بين الأصالة والتحديث ، وبالتوفيق بين التقاليد اليابانية القديمة ومتطلبات العصر الحديث ) .
ويقول السفير المصري في اليابان : عبدالفتاح شبانه في كتابه ( اليابان : العادات والتقاليد وإدمان التفوق ، ص 7 ) : ( حافظ المجتمع الياباني على تقاليده العريقة ، وأخلاقياته الشرقية ... ).
ويقول ( ص 9 ) : ( يلعب الدين دورًا رئيسًا في حياة الإنسان الياباني ، ونظرًا لاتباعه تعاليم ديانته بصدق وتنفيذها بأمانة حتى في عمله فقد تمكن المجتمع الياباني من تحقيق التفوق الاقتصادي على كافة دول العالم ) .
وماذا عن المرأة اليابانية ؟
يقول السفير المصري في اليابان : عبدالفتاح شبانه : ( مايزال المجتمع الياباني حتى اليوم يرى أن الهدف من التعليم بالنسبة للفتاة هو جعلها أكثر استعدادًا للقيام بأعباء الحياة الزوجية ) . ( مرجع سابق ، ص 21-22) .
ويقول أيضًا ( ص 23) : ( لم تحقق حركات تحرير المرأة تقدمًا كبيرًا في اليابان رغم الدعاية التي تمارسها هذه الحركات في وسائل الإعلام ، ورغم القانون الذي وضعه المحتل الأمريكي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ) .
يقول الدكتور نعمان السامرائي : ( لقد جرى استطلاع للرأي العام عام 1986م حول الأسرة ، وقد تبين أن أكثر من 90% من اليابانيين ممن شاركوا في الاستطلاع قالوا : إن تدبير أمور المنزل ورعاية الأطفال هي المجال الأول للمرأة حتى وإن كانت تعمل ) . ( ص 73 مرجع سابق ) .
ويقول السفير الأمريكي " أدوين " في كتابه ( اليابانيون ص303 مترجم ) : ( ومن الأسباب الأخرى التي تفسر عدم استجابة المرأة اليابانية بصورة أكبر لحركة التحرير النسائية أن هذه الحركة ببساطة لا تناسب أسلوب حياتها ومن ثم يكون الارتباط بهذه الحركة بمثابة فخ وقعت فيه المرأة اليابانية .. ) .
كيف صنع الإنجاز الياباني ؟
( في حديث لمسؤول كبير في إحدى المؤسسات الأمريكية تعمل في مجال التقنية المتقدمة يقول: ( لقد هزمتنا اليابان في أي حقل يختارونه: في صناعة الراديوهات، التلفزيونات والسيارات وغيرها من الصناعات، لقد تغلبوا علينا في جودة المنتجات والأسعار المنخفضة، والآن يتغلبون علينا في مجال الإبداع.. لا يوجد دفاع ضدهم، وفي القريب العاجل ستصبح الولايات المتحدة مصدراً للغذاء والمواد الخام لليابان ومستورداً لمنتجاتها الصناعية.. إن اليابان تدفع الولايات المتحدة بسرعة هائلة إلى مجموعة العالم الثالث) .
( تبدأ القصة بعد الحرب العالمية الثانية حيث خرجت اليابان منها مهزومة محطمة، وكانت سياسة السلطات الأمريكية لليابان تهدف إلى إقالة اليابان من عثرتها وإعادة تكوينها لتصبح ضمن المعسكر الغربي، ولكن تلك السياسة لم تكن تهدف ولا تتصور أن ما تقدمه من مساعدة لليابان يمكن أن تخرج هذا العملاق مرة أخرى من قمقمه... فتساهلت الولايات المتحدة في نقل التقنية الأمريكية لليابان بل شجعت على ذلك وكانت شركة سوني شركة يابانية مغمورة وناشئة، ولكنها كانت طموحة وذات بصيرة نافذة، فتولت زمام المبادرة في بدء رحلة نقل التقنية الالكترونية لليابان، وكان ذلك عندما تمكنت من شراء رخصة تصنيع جهاز الترانزستور في اليابان من شركة بل الأمريكية مقابل 25000 دولار.
وكان هذا شأن الشركات اليابانية الأخرى التي استخدمت نفس الاستراتيجية التي تتمثل في شراء رخص التصنيع لمنتج أمريكي ما، ثم تعمل على تقليد التصميم وتنتجه بعد أن تضيف إليه تحسينات تجعله أكثر جودة وبتكاليف أقل وأسعار أقل، واستمر اليابانيون يسلكون هذا الطريق لعدة عقود من الزمن دون أن يتنبه الأمريكيون لخطورة هذا الوضع ، ولم يدركوا ذلك إلا مؤخراً عندما اشتدت المنافسة اليابانية للمنتجات الأمريكية والأوروبية، فأخذت حكومات تلك الدول والشركات الخاصة فيها تضع القيود والأنظمة التي تحد من نقل التقنية لليابان أو تمنعها إن كان ذلك في مقدروها، ولكن ذلك التنبه جاء بعد فوات الأوان، لأن اليابان كانت قد بلغت مرحلة النضج، وتجاوزت مرحلة التقليد والتبني إلى مرحلة الأبحاث الذاتية والإبداعات الذاتية التي جعلتها مصدراً غنياً للتقنية ، وفي مركز قوي يفرض حتمية تبادل التقنيات المختلفة مع تلك الدول.(13/287)
لقد استطاعت الشركات اليابانية وغيرها من المنظمات اليابانية خلال الفترة من عام 1951م وحتى مارس 1984م الدخول في عقود بلغت حوالي 42.000 عقداً لاستيراد التقنية لليابان من الخارج، وكانت تلك التقنيات تمثل خلاصة وأفضل ما توصلت إليه الدول المتقدمة، وكان للأسلوب الياباني في اختيار هذه التقنيات دور كبير في نجاح نقل التقنية. فاليابانيون لم يكونوا مهتمين بنقل أي نوع من التقنية، ولكنهم كانوا حريصون على اختيار الأفضل، وكان سبيلهم إلى ذلك يتمثل في إرسال موجات من المتخصصين اليابانيين لدراسة التقنية المرغوب نقلها بدقة وعمق فيحققون بذلك أكثر من هدف:
الأول :هو التعرف عن كثب على نوعية التقنية وخصائصها من مصادرها، وفي نفس الوقت يحاولون الحصول على ما يتعلق بها من رسومات وتصاميم ومعلومات.
أما الهدف الثاني : فإنه يتمثل في استغلال مرحلة الدراسة هذه للتحضير لمرحلة التحسينات التي سوف يضيفونها على المنتج قبل إعادة إنتاجه وبالتالي مفاجأة المنتجين الأصليين في وقت قصير عادة بالتعديلات والتحسينات التي يضيفونها إلى المنتج فتجعله أكثر جودة وأقل سعراً، ويمهد لهم الطريق لتعزيز منافستهم وكسب الأسواق بصورة إقتحامية مذهلة... لقد كانت الكمية الضخمة من الرخص التقنية المتنوعة من أهم الأسباب التي ساعدت اليابانيين على بناء قاعدتهم الصناعية المتطورة، ومن المذهل أن ما دفعته اليابان مقابل كل هذه العقود وعلى مدى هذه السنوات القليلة لم يتجاوز مبلغ 17 بليون دولار أمريكي ، والذي يمثل جزءاً بسيطاً جداً من الميزانية السنوية للأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية !
لقد أثبت اليابانيون في هذا المجال مثل العديد من مجالات التنمية الأخرى بأنهم ذوو بصيرة نافذة، فقد كان أمامهم طريقان لتنمية وتطوير التقنية اليابانية: إما صنعها بأنفسهم أو شرائها من الخارج . وكان قرارهم حاسماً وهو اختيار البديل الثاني أي شراء التقنية، أما بالنسبة لبائعي التقنية فقد كانت النتيجة مدمرة، فالتقنية التي يبيعونها لليابانين تعود إلى أسواقهم في شكل أجود محدثة لهم كابوساً ومنافسة مزعجة، ولكن البائعين كانوا ينظرون إلى عملية البيع باعتبارها صفقة تجارية ومصدراً للدخل ولم يخطر في بالهم ما يمكن أن يحدثه ذلك من تطورات ومنافسة تهدد مصالحهم ومراكزهم، وهي الحقيقة التي لم يكتشفوها إلا مؤخراً مما أحدث لديهم رد فعل ليس في مواجهة اليابان فقط، ولكن كمبدأ عام في نقل التقنية لجميع الدول ، وبدأت تبرز عبارات مثل "نحن نريد الآن أن نبيع حليباً أكثر من أن نبيع بقراً"!!
إنه واقع يجب إدراكه من قبل الدول النامية التي تطمع وتحلم في نقل التقنية من الدول المتقدمة ، فقد تعلمت تلك الدول درساً قاسياً من تجربتها مع اليابان ولن تسمح بتكرارها، بل إن اليابان نفسها أخذت تعض أصابع الندم على ما قدمته من مساعدة تقنية لكوريا الجنوبية والصين الوطنية والتي لن تكررها مع أية دولة أخرى، وما على الدول النامية إلا البحث عن الطرق الكفيلة لإرساء قواعد التقنية فيها سواء عن طريق المجهودات الذاتية أو باتباع وسائل مبدعة تخترق بها التحصينات المفروضة على التقنية في الدول المتقدمة ) . ( انتهى النقل من كتاب الأستاذ حمدي أبوزيد ، مرجع سابق ، ص 312-315).
قلت : فتبن من كل ما سبق أن الدول ( كلها ) مهما كانت ديانتها وثقافتها تستطيع أن تصل إلى التفوق الدنيوي إذا ما بذلت أسبابه المادية ، وتخلصت من معوقاته ( الداخلية والخارجية ) ، وما تجربة اليابان ( الوثنية ) عنا ببعيد ، وقل مثل ذلك في غيرها : الصين ، كوريا ، نووي باكستان ، ...الخ
خاتمة :
وإذا كانت اليابان قد اعتزت بتراثها الوثني وثقافتها .. أفلا يليق بأصحاب الدين الصحيح ، خاتم الأديان ، أن يعتزوا بما فضلهم الله به على العالم ؟؟ وألم يأن للمسلمين أن يتخلصوا من ( الأكذوبة الكبرى ) التي طيرها ( بنو علمان ) في كل مكان من ديارهم ؟؟!
وبلادنا - بلاد التوحيد - خير مؤهل لنقض هذه الأكذوبة العلمانية على أرض الواقع ، حيث لم تتورط بعد في تلك النظرة المغلوطة ، فتجمع رغم أنوف الجميع بين الدين الصحيح والدنيا اللائقة ( بنقل التقنية كما سبق )، وتحافظ على أصالتها وأخلاقها وكرامة رجالها ونسائها .... فتكون خير قائد لبلاد المسلمين يهديهم إلى طريق العزة والقوة . أسأل الله الكريم أن يهدي حكام المسلمين إلى الإعتزاز بدينهم ، وتحكيم شرع الله في بلادهم ، ومجانبة ( بني علمان ) ممن يريدون لهم أن يكونوا مجرد ( تابع ذليل ) لأعداء الإسلام .
===============(13/288)
(13/289)
فصل الدين عن الدولة
مجلة البيان
د. جعفر شيخ إدريس
أصبحت قضية فصل الدين عن الدولة، أو ما يسميه الغربيون فصل الدولة عن الكنيسة، من القضايا المسلم بها في الفكر الغربي السياسي، وبالتالي في الفكر السياسي العالمي الدائر في فلك الحضارة الغربية. ودعاة فصل الدين عن الدولة قد يعترفون بأن هذا أمر حدث لظروف تاريخية خاصة بالحضارة الغربية، وبالديانة النصرانية، لكنهم مع ذلك يرون أنه أصبح أمرا لازما لكل دولة حديثة، ويسوغون هذا بأن الأساس في الدولة الحديثة هو المواطنة. وما دام المواطنون في الدولة الواحدة لا ينتمون في الغالب إلى دين واحد، بل تتقاسمهم أديان متعددة، وقد يكون بعضهم ملحدا لا يؤمن بدين، ففي التزام الدولة بدين واحد من هذه الأديان افتئاتا على حقوق المواطنين المنتمين إلى الأديان الأخرى أو المنكرين لها كلها لأنه:
يفرض عليهم دينا لا يؤمنون به،
ويحرمهم من ممارسة الدين الذي اختاروه إما كله أو بعضه،
ويحرمهم من حقهم في شغل بعض الوظائف الكبيرة كرئاسة الدولة،
وقد يكون سببا لخلافات ونزاعات عميقة تفقد الدولة معها الاستقرار اللازم لتطورها.
ويرون لذلك أن تكون الدولة دولة علمانية محايدة لا تلتزم بالدين ولا تحاربه ولا تنكره، بل تترك أمره للمواطينين يختارون ما شاؤوا من عقائد، ويلتزمون بما يريدون من قيم، ويمارسون ما يروق لهم من عبادات.
هذه الصورة للعلمانية التي حرصت على أن أجعلها براقة كأشد ما يريد المدافعون عنها أن تكون، تنطوي على افتراضات هي أبعد ما تكون عن الحقيقة. من ذلك:
أولا: أنها تفترض أن العلمانية يمكن أن تكون محايدة بالنسبة لكل الأديان. لكنها لا تكون كذلك إلا إذا كان مجال الدين مختلفا عن مجال الدولة، إلا إذا كان الدين والدولة يعيشان في منطقتين مستقلتين لا تماس بينهما، وأن دعاة الدولة الدينية يقحمون الدين في مجال غير مجاله، ولذلك يضرون به وبالدولة.
فهل هذا الافتراص صحيح؟ إنه لا يكون صحيحا إلا إذا كان الدين محصورا بطبعه في بعض المعتقدات وبعض الشعائر التعبدية، وبعض أنواع السلوك الشخصي الذي لا علاقة له بالجماعة، ولا يدخل لذلك في مجال الدولة. لكن الواقع أن هذا الوصف لا ينطبق على أي من الأديان الكبيرة المشهورة: اليهودية والنصرانية والإسلام. فما منها إلا وله حكم في العلاقات بين الجنسين، وفي العلاقات الأسرية، والاجتماعية، وفيما يحل أكله وشربه وما يحرم، وهكذا. وكلها أمور تدخل بالضرورة في مجال الدولة.
كيف حل الغربيون هذا الإشكال؟ حلوه بنوع من المساومة: فهم قد أخذوا بعض القيم النصرانية وجعلوها قوانين للدولة. وهم يجعلون اعتبارا كبيرا لقيمهم الدينية في سياستهم الخارجية، ولا سيما في معاملة الإسلام. لكنهم في الجانب الآخر تركوا أشياء من دينهم، وساعدهم على ذلك تاريخهم الملئ بتحريف الدين إما في نصوصه أو في تأويله، ثم جاءت في العصور الأخيرة حركات فكرية تحررية أذاعت القول بأن ما يسمى بالكتاب المقدس ليس كلام الله تعالى، وأنه من كتابة بشر عاديين تأثروا بالجو الثقافي في المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها. ولذلك فإن ما قرره هذا الكتاب في مسائل مثل الشذوذ الجنسي ينبغي أن لا ينظر إلا على أنها قيم مجتمعات سابقة. هذا كلام لا يقوله السياسيون والحكام فحسب، وإنما يقوله كثير من رجال الدين، والمختصين بدراسته. لكن حتى هؤلاء المتحررون يشعر الكثيرون منهم الآن أن العلمانية لم تعد محايدة بين الأديان بل صارت هي نفسها دينا يدافع عنه أصحابه ويحاربون به النصرانية. وأذكر أن أحدهم قال لي في أحد المؤتمرات ناصحا: لا تخدعوا كما خدعنا، فتظنوا أن العلمانية موقف محايد، بل هي الآن دين. أو كما قال ذاك الناصح.
فكيف تحل هذه المشكلة بالنسبة لأناس كالمسلمين يرون أن القرآن كلام الله تعالى لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن ما صح من سنة رسول الله هو أيضا وحي الله؟
وكيف إذا كان دينهم لا يقتصر على ما ذكرنا من أمور تدخل في نطاق الدولة، بل يتعداها إلى اخرى هي من أخص خصائص الدولة؟
ما ذا يفعل هؤلاء؟ لا خيار لهم بين الحكم بما أنزل الله ورفض العلمانية، أو الحكم بالعلمانية والكفر بما أنزل الله تعالى.
إن أكثر ما يتعلل به دعاة العلمانية في بلادنا هو اختلاف الأديان في البلد الواحد. بأي حق يقولون ـ تفرض على أناس دينا غير دينهم، وقيما ليست قيما لهم؟ ماذا إذا لم يكن في البلد إلا مسلمون، أو كان غير المسلمين أفرادا قلائل؟ لماذا يفصل هؤلاء بين دينهم ودولتهم؟(13/290)
وحتى لو كان المنتسبون إلى غير الإسالم من أصحاب الديانات الأخرى يمثلون نسبا كثيرة، فإن العلمانية ليست هي الحل العادل. لأن أصحاب هذه الديانات إما أن يكونو في السياسة علمانيين، وإما أن يكونوا ممن يريد للدولة أن تستمسك بعقائده وقيمه وتدافع عنها. فإذا كان من الفريق الأول يكون المسلمون قد تنازلوا عن دينهم بينهما هو لم يتنازل عن شيئ، لأن العلمانية هي مبدؤه سواء كان هنالك مسلمون أو لم يكن. أذكر أنني قلت ذات مرة لبعض الجنوبيين المثقفين عندنا في السودان إنكن لا تعترضون على الحكم إذا كان اشتراكيا كما كان الحال في أوائل حكم الرئيس نميريى، ولا تعترضون عليه إذا أقر الرأسمالية أو الليبرالية، لأنكم تعتقدون أن الدين لا دخل له بهذه المسائل، فلماذا إذن تعترضون على الحكم الإسلامي. إن الإسلام لا يفرض عليكم دينا بالمعنى الذي حصرتم الدين فيه، أعنى العبادات والأحوال الشخصية. فلماذا لا تعاملون جانبه السياسي معاملتكم للإشتراكية والرأسمالية لأنه يعطيكم أكثر مما تعطيم إياه العلمانية؟
يقول أنصار العلمانية في الغرب وفي البلاد الإسلامية، إن هذا قد يكون صحيحا لكنهكم في الحكم الإسلامي تفرقون بين الناس بسبب دينهم، فتمنعون غير المسلم من أن يكون رأس دولة. وأقول لهم دائما: ولكن العلمانية هي الاخرى تفعل ما نفعل. إنها تشترط على الإنسان أن يكون علمانيا لكي يكون رأس دولة، تشترط عليه ان يؤدي القسم للولاء لدستور يفصل الدين عن الدولة، أي أنها تشترط على المسلم أن يعلن كفره بجزء من دينه. وإذا فعل هذا عن اعتقاد كان كافرا خارجا عن الإسالم. وإذن فكما أن الإسلام يشترط في رأس الدولة المسلمة ان يكون دائنا بدين الإسلام، فإن العلمانية تشترط في رئيس دولتها أن يكون دائنا بدينها. فما الفرق.
يقولون: لكن العلمانية ليست دينا. ونقول هذا في مفهومكم أنتم. أما في لغتنا العربية، وديننا الإسلامي، فإن كل ما يلتزم به الإنسان من عادات وتقاليد، ومن باب أولى من قيم وعقائد، هو دينه، سواء كان مبنيا على إيمان بالله او كفر به. ام لم تسمع قول الشاعر العربي عن ناقته:
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا شدد لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال؟ أما ... أما يقيني؟
فإذا كان دوام الحل والارتحال دينا فما بالك باعتياد معتقدات وقيم وسلوك؟ ألم يقل الله تعالى عن سيدنا يوسف (ما كان لياخذ أخاه في دين الملك) يعني ما نسميه نحن الآن بقانونه؟العلمانية ليست إذن حلا لبلد يكون فيه المسلمون أغلبية، بل ولا حتى أقلية معتبرة، إذ أن ما تطلبه العلمانية من المسلمين إنما هو التخلي عن دينهم من أجل دين العلمانيين.
==============(13/291)