وأعلن البابا جريجورى السابع (تولى البابوية 1073 - 1085) " أن الكنيسة بوصفها نظاما إلهيا خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية ، ومن حق البابا وواجبه - بصفته خليقة الله فى أرضه - أن يخلع الملوك غير الصالحين وأن يؤيد أو يرفض اختيار البشر للحكام أو تنصيبهم حسب مقتضيات الأحوال "
ولم يكن ذلك كلاما فى الهواء ، إنما كان واقعا عاشته أوروبا عدة قرون ..
وابرز الأمثلة التى يرويها التاريخ الأوروبى ما حدث بين " جريجورى السابع " هذا والإمبراطور الألمانى " هنرى الرابع " مما أشرنا إليه من قبل ، " إذ أن خلافا نشب بينهما حول مسألة " التعيينات " أو ما يسمى " التقليد العلمانى " فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا ، ورد البابا بخلع الإمبراطور وإصدار قرار حرمان ضده ، كما أحل اتباعه وأمراء مملكته من ولائهم له وألبهم عليه . فعقد الأمراء مجمعا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد ، فوجد الإمبراطور نفسه مضطرا إلى استرضاء البابا ، ولم يستطع أن ينتظر حتى يصل البابا إلى ألمانيا ، فسافر إليه فى " كانوسا " وظل واقفا فى الثلج فى فناء القلعة ثلاثة أيام فى لباس الرهبان متدثرا بالخيش حافى القدمين عارى الراس حتى تعطف عليه البابا ومنحه مغفرته !
وفى بريطانيا حصل نزاع بينالملك " هنرى الثانى " وبين " توماس بكت " رئيس أساقفة كنتربرى بسبب دستور رسمه الملك يقضى على كثير من الحصانات التى يتمتع بها رجال الدين ، ثم إن رئيس الأساقفة اغتيل فثارت المسيحية على هنرى الثانى ثورة عنيفة ، فاعتزل الملك فى حجرته ثلاثة أيام لا يذوق فيها الطعام ، ثم أصدر أمره بالقبض على القتلة وأعلن للبابا براءته من الجريمة وألغى الدستور ، ورد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها ومع ذلك لم يحصل على المغفرة حتى جاء إلى كنتربرى حاجا مظهرا ندمه ، وسار الأميال الثلاثة الأخيرة من الطريق على الحجر الصوان حافة القدمين حتى دميت قدماه ، ثم استلقى على الأرض أمام قبر رئس الأساقفة المقتول وطلب من الرهبان أن يضربوه بالسياط ، وتقبل ضرباتهم وتحمل كل الإهانات فى سبيل استرضاء البابا واتباعه " (1)"
ولكن الملوك والأباطرة أخذوا آخر الأمر يتمردون على ذلك السلطان القاهر الذى تستذلهم به الكنيسة ، ويطالبون " بالسلطة الزمنية " خالصة لهم على أن تقتصر الكنيسة على السلطة الروحية فحسب ، وكان مستندهم فى ذلك نظرية الحق الآلهى المقدس .
يقول رندال (ج 1 - ص 277 من الترجمة العربية لكتاب " تكوين العقل الحديث " ) :
" نشأت نظرية الحق الالهى للملوك فى أول عهدها كمحاولة لتحرير الحكومة المدنية ، أو العلمانية من رقابة البابا والكهنة . كما أنها كانت ردا على دعواه أن له حقها إلهيا فى السيطرة على الأمور الزمنية " .
ونظرية الحق الالهى تستند بدورها إلى نظرية رومانية قديمة تعرف بنظرية العقد الاجتماعى .
يقول راندال (ج 1 - ص 281 من الترجمة العربية من المصدر السابق) :
" تعود أصول فكرة العقد الاجتماعى إلى الفكر الرومانى وفكر القرون الوسطى معا . وقد كانت الإمبراطورية الرومانية - كما ضمنت فى مجلة الحقوق المدنية - على القول بأن كل السلطة وكل حق فى وضع القوانين يعودان للشعب الرومانى ، غير أن الشعب تنازل بموجب قانون شهير عن هذه الحقوق للإمبراطور ، وهو تفسير طبيعى لمجرى التاريخ الرومانى ، فجميع حقوق الشعب الرومانى وجميع سلطاته انتقت إلى الإمبراطور ، وله وحده حق " إصدار " القوانين وحق تفسيرها . وعندما تم إحياء القانون الرومانى فى القرون الوسطى ، انتبه الإمبراطور إلى هذه النظرية واتخذها سلاحا ضد سيطرة الكنيسة ، ثم تبعه فى ذلك جميع الأمراء . وهكذا نشأت نظرية العقد الاجتماعى القائلة بأن كل سلطة مدنية ترتكز فى أساسها على الشعب ، وأن الشعب قد حولها إلى الحاكم ليمكنه من القيام ببعض الوظائف الضرورية . ومن الواضح أنها نظرية ذات حدين .. فقد تفسر لتأكيد سلطة الحاكم الشاملة باعتباره مصدر جميع السلطات ، أو لتأكيد سيادة الشعب الأساسية باعتباره المصدر الأخير لتلك السلطة .. "
وكان " مكيافيللى " و" هوبز " من أشهر المدافعين عن الحق الالهى المقدس ، وعن استبدادية الحكام .
ويهمنا مكيافيللىهنا أكثر ، لأنه علم على اتجاه معين فى السياسة الأوروبية نلحظ آثاره بشدة فى أوروبا العلمانية المعاصرة .
__________
(1) " " عن كتاب " قصة الحضارة " لول يورانت ترجمة محمد بدران ، ج 15 - ص 194 ، 197 .(12/12)
هناك حقيقة أكدناها مرارا أن الحكم بما أنزل الله لم تعرفه أوروبا المسيحية فى أى يوم من الأيام ، وأن علمانية الحكم - بهذا المعنى - قائمة فى أوروبا منذ اعتنقت المسيحية . ولكن هذا لم ينف - كما بينا مرارا كذلك - أنه كان للكنيسة ورجالها نفوذ شخصى على الملوك والأمراء طيلة اجتماع السلطة الزمنية والسلطة الروحية فى يد الكنيسة . وفى تلك الفترة لم يكن الحكم دينيا بالمعنى الصحيح - وإن سمته أوروبا كذلك - لأنه لم يكن يحكم بما أنزل الله لا من قبل الملوك والأمراء ولا من قبل الكنيسة المسيطرة عليهم . ومع ذلك فقد كان هذا النفوذ الدينى الذى تمارسه الكنيسة على الحكام يلزم هؤلاء الحكام بشئ من " أخلاقيات " المسيحية رضوا أم كرهوا ، عن إيمان حقيقى أم عن ملق للروح المسيحية ونفاق ..
وليس معنى ذلك أن الحكام التزموا دائما بتلك الأخلاقيات المسيحية ، فكثيرا ما كانوا يخالفونها ، ولكنهم كانوا يحسون بالحرج من مخالفتها ، ويعتذرون دائما عن المخالفة بشتى المعاذير .
فالذى صنعه ميكافيلى هو تعرية " السياسة " من ذلك القناع الأخلاقى المستمد من الدين ، وكشفها عارية من كل أثر لدين أو الأخلاق !
جاء يشرع الجريمة السياسية ويجعلها أصلا ينبغى للحكام أن يتبعوه !س
ولقد كان الحكام - إلا من رحم ربك - يسرون فى سياستهم على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة ، والغاية طبعا هى غايتهم هم ! ولكنهم كانوا - حين يستخدمون الوسائل غير النظيفة لتحقيق غاياتهم غير النظيفة - يستترون وراء عبارات براقة تحوى كل نبيل منا لقيم والمبادئ والأخلاقيات ، أما مكيافيللىفإن الجديد الذى أتى به - وهو خطير فى ذاته - أنه أعطى الوسائل الخسيسة فى السياسة شرعية صريحة لا مواربة فيها ولا إنكار .
ولقائل أن يقول : وماذا أضاف مكيافيللى من عنده إلى الواقع ؟ ألم يكن الواقع خسيسا فى غاياته ووسائله ؟ فكل ما فعل مكيافيللى أنه كان صريحا بالدرجة التى كشف بها القناع عن الواقع المزيف وجعله حقيقة واقعة !
نعم : ولكن الفارق - العملى - كبير !س
وقد لا يتضح الفرق فى البداية لأن البداية تكون مجرد مطابقة النظرية للواقع الموجود بالفعل . ولكن الفارق يتبين - ويزداد - مع التطبيق .
حين ترتكب المنكر وأنت شاعر بأنه منكر ، فستقتصد فى ارتكابه فلا تلجأ إليه إلا تحت ضغط قاهر ، وستقف فى ارتكابه عند الحد الذى ترى أنه لا يطيح بسمعتك كلها أمام الناس ، وقد تحاول الرجوع عنه فى يوم من الأيام . أما حين يكتسب المنكر فى حسك الشرعية فلماذا تقتصد فى ارتكابه ، ولماذا تقف عند حد من الحدود ؟!
إنها هى ذاتها حكمة وقوع اللعنة على الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه .. لأنهم لا يقفون فى ارتكاب المنكر عند حد معلوم .
وحقيقة إن كتاب " الأمير " الذى ألفه مكيافيللى وأعطى فيه الشرعية للوسائل الخسيسة التى يستخدمها الحاكم من كذب وغش وخديعة وقتل وسفك دماء .ز قد قوبل باستنكار عنيف وقت ظهوره ، لأن أوروبا - كما أسلفنا - كانت نافرة من الدين منسلخة منه ، ولكنها ما تزال تعترف " بالقيم " ، وتحاول الحفاظ عليها ، ولكن بشرط العثور على منبع آخر لها غير الدين .. ومن ثم ظهرت عدة نظريات تحاول أن تجعل للحكم " أخلاقا " ولكنها غير مستمدة من الدين ، كما فعل جان جاك روسو فى حديثه عن نظرية العقد الاجتماعى وأوجست كومت فى فلسفته الوضعية ..
ولكن المنزلق " العلمانى " كان لابد أن يأخذ طريقه .. فمنذ استقلت السياسة عن الدين واستقلت عن الأخلاق المستمدة من معين الدين ، لم يكن من الممكن أن تظل لها أخلاق !
والقرن - الجاهلى - العشرون خير نموذج لما نقول ، فقد قامت فى هذا القرن أبشع دكتاتوريات التاريخ !
ونظرة إلى وقع ايام موسولينى وهتلر ، وما وقع فى الدول الشيوعية منذ الثورة الشيوعية حتى اليوم ، كفيلة بأن ترينا إلى أى مدى انحدرت السياسة " العلمانية " فى تبرير الوسيلة بالغاية ، وكلتا الوسيلة والغاية ما أنزل الله بها من سلطان !
فى فاشية موسولينى ونازية هتلر كانت الغاية هى التجمع القومى والعزة القومية وإحلال قومية كل منهما مكانها " تحت الشمس " !
وفى سبيل هذه الغاية (التى قد تكون مشروعة فى ذاتها إذا خلت من العدوان على الآخرين) استباح كل من الرجلين أن يقتل ألوفا ومئات الألوف من المعارضين باسم " حركات التطهير " و" وحدة الصف " و" القضاء على الثورة المضادة " و" القضاء على الطابور الخامس " وما أشبه ذلك من التعلات . وفتحت معسكرات التعذيب ، وذاق الشعب كله ويلات الجاسوية والإرهاب .
وفى التورة الشيوعية كانت الغاية إزالة الظلم (!!) الذى يقع على الناس من جراء الملكية الفردية والصراع الطبقى واستئثار الطبقة المالكة بالحكم والسلطان والمنافع على سحاب الطبقة الكادحة ! وقد مر بنا فى فصل الشيوعية وصف العدل (!) الذى طبقته الشيوعية ، والوسائل النبيلة (!) التى طبقت بها ذلك العدل ، ومن بينها ذبح ثلاثة ملايين ونصف مليون من المسلمين فى عهد رجل واحد .. وإخضاع الشعب كله لألوان من الإرهاب نادرة فى التاريخ !(12/13)
أما الديمقراطية اللبيرالية الرأسمالية فهى التى تبيح احتراف المعارضة واحتراف التأييد بحسب موضع كل حزب منا لحكم : هل هو بداخله أم خارجه ، بصرف النظر عن الحق والعدل والمصلحة الوطنية أو القومية .. وتبيح الكذب من الساسة على شعوبهم فى الدعاية الانتخابية (وغير الانتخابية) وتبيح استخدام وسائل استراق السمع بحجة المحافظة على الأمن ، وهى تقوم أساسا على مساندة الطبقة الرأسمالية فى امتصاص دماء الكادحين وإن أخرجت ذلك كله فى مسرحية طريفة اسمها " الحرية والإخاء والمساواة " ! وهذا كله فى السياسة الداخلية ..
أما فى السياسة الخارجية فالأمر أدهى وأمر .
فالقرن الجاهلى العشرون هو الذى شهد ابشع حالات قانون الغاب : القوى يأكل الضعيف !
فى حربين عالميتين متتاليتين شهد الناس أفظع فنون العدوان فى التاريخ ، من غازات سامة وقنابل محرقة وتدمير جماعى وقتل للنساء والأطفال والشيوخ والمدنيين غير المحاربين .. إلى أن كانت القمة قنبلتى هيروشيما ونجازاكى الذريتين ، اللتين ما تزالان حتى اليوم بعد أربعين سنة من إلقائهما تنتجان أجنة مشوهة بفعل الإشعاع الذى السام ، وذلك غير الخراب المدمر الذى أحدثتاه وقت إلقائهما فى مساحة كبيرة من الأرض قتلتا فيها كل من عليها من الأحياء من البشر والدواب والشجر ، وحرمتا الحياة فيها لأجل غير معلوم !
والقنبلة الذرية لعبة صغيرة إلى جوار المدمرات التى اخترعت بعد ذلك ، والتى تهدد الحياة فى أى حرب تالية تقوم بين الجيوش ويصلاها الآدميون !
وذلك إلى إباحة الكذب الدولى والخيانة على أنهما عملة " شرعية " فى عالم السياسة الدولية !
تبرم المعاهدات لكى تنقض ! ويعلم المبرمون جميعا أنها حبر على الأوراق ! وأنه لن يتقيد بها أى طرف إلا ريثما يجد الفرصة السانحة للخروج عليها وإلقائها طعمة للنيران !
وتتكون عصبة للأمم وهيئة للأمم كلتاهما ستار للسياسة العدوانية التى تتخذها " الدول العظمى " ضد الدول الصغار ! وانظر موقف هيئة الأمم " الموقرة " من أية قضية يكون المسلمون طرفا فيها أمام غير المسلمين ! يقع العدوان على المسلمين فى أى مكان فى الأرض فتمرره الهيئة الموقرة باحتجاج شفوى على أقصى تقدير لا يغير شيئا من الواقع ولا يسمن ولا يغنى من جوع ! ويقع الدفاع من المسلمين ضد أى عدوان واقع عليهم فتجند هيئة الأمم قواتها لتأديب المدافعين ! لأنهم تجرءوا فردوا على المعتدين !س
وذلك بخلاف الوسائل الفردية التى تستخدمها " الدول العظمى ! " بطريقها المباشر لتنفيذ " غاياتها " النبيلة !
حين قامت ثورة المجر سنة 1956 ميلادية وجدت روسيا فى نفسها من " النيل " ما تحرك به الدبابات الشاهقة تهدم به البيوت على أصحابها أحياء وتردمهم فى الركام لأنهم تجرءوا فطلبوا أن يمنحوا حرية التصرف بأنفسهم فى أمر أنفسهم دون وصاية الدولة الروسية عليهم .. فهل تقاوم الردة إلا بالقتل الجماعى ؟! إلا أن تكون ردة عن دين الله ! فما أشد همجية المقاتلين يومئذ إذا قاموا يقاتلون المرتدين ويدعونهم إلى الرجوع فى دين الله !
كذلك حين قام الأفغانيون يقولون نريد أن تكون لنا الحرية فى أن تكون مسلمين ! فما " أنبل " الجيوش الروسية التى تصب فوقهم القنابل السامة وقنابل النابالم والتدمير الجماعى للقرى وتحريق المزروعات من الجو وحرب الجراثيم وكل محرم فى عرف " الإنسان " ..
أما المخابرات الأمريكية فالأرض كلها مجال لمؤامراتها بغير حساب ..
نريد انقلابا هنا .. ونريد تغييرا هناك !
وسرعان ما تنقلب الأرض وتتغير الأحوال !س
وكل الوسائل حلال !
الكذب والغش والتصفية الجسدية وشراء الضمائر بالمال !
المهم أن تنفذ الغاية .. والغاية والوسيلة كلتاهما غارقة فى الأوحال !
يقول كاتب غربى مشيرا إلى هذه الحقائق بلسان ساخر :
" بعض الناس يقض مضاجعهم ما يقترفه العالم الرأسمالى من جرائم وآثام ، فيظلون عميا لا يرون جرائم البلشفية وإفلاسها .. وكثير منهم يستغلون نقائض العالم الغربى ليصرفوا الانتباه عن فظائع موسكو البشعة .. أما أنا فأقول : لعن الله كليهما " " (1)"
(2) فى الاقتصاد :
لم يكن النظام الإقطاعى متمشيا مع الدين الربانى فى صورته ومضمونه ، وال كانت فيه أى ذرة من العدل ، وإن كانت الكنيسة أوهمت الناس أنه هو النظام الربانى الدائم الثابت الذى لا يتغير ، لأن أوضاع الناس فيه هى الأوضاع التى قدرها الله منذ الأزل ورضى عنها ، واقتضت مشيئته أن يظل الناس عليها إلى الأبد ! وأنه من رضى بما فيه من هوان ومذلة وشظف ومشقة فقد استحق من الله الجنة والرضوان !
__________
(1) " " من كلام " لويس فيشر " فى كتاب " الصنم الذى هوى " (ترجمة فؤاد حمودة) ، ص 274 من الترجمة العربية) عن كتاب العلمانية تأليف : سفر عبد الرحمن الحوالى .(12/14)
ولكن الناس حين خرجوا من الدين على خط العلمانية لم يستبدلوا بالإقطاع ما هو خير منه ، سواء فى الرأسمالية أو الشيوعية ، بل ظلوا ينتقلون من جاهلية إلى جاهلية حتى هذه اللحظة ، وكلما حاولوا أن يصلحوا الظلم جاءوا بظلم جديد . وهذا هو شأن البشر دائما حين يشرعون لأنفسهم ويرفضون الهدى الربانى ، ينقسمون أولا إلى سادة وعبيد ، سادة فى أيديهم المال والسلطان ، يشرعون ، وحين يشرعون فإنهم يضعون القوانين التى تضمن مصلحتهم وتسخر الآخرين لهم ، وعبيد ليس فى أيديهم مال ولا سلطان ، فلا يشرعون ، إنما يقع عليهم ما يضعه السادة من تشريعات ، ويسخرون - رضوا أم أبوا - لمصلحة أصحاب السلطان .. ومن جهة أخرى يصيبهم الخبل والاضطراب والتخبط نتيجة القصور البشرى والجهل البشرى والعجز عن الإحاطة والعجز عن رؤية المستقبل الذى ينبنى على الحاضر ، نعم ، ولكنه مع ذلك غيب لا يمكن التنبؤ به عن يقين .
ولم يكن الإقطاع - كما أسلفنا - نظاما ربانيا ، ولا كانت فيه ذرة من عدل .. ولكن النفوذ الذى كان للدين على القلوب - مع كل ما كان فى ذلك الدين من تحريفات ، وفى أهله من فساد - كانت له جملة من الآثار فى أهل الريف الأووربى الذى يعيش فى ظل الإقطاع . فمن جهة كان عند الناس " أخلاق " يتعاملون بها ، مستمدة من تعاليم ذلك الدين ، وكانت هذه الأخلاق أبرز ما تكون فى قضية العفة الجنسية وقدسية الرباط المقدس بين الزوجين ، وكانت كذلك تشمل حسن الجوار وترابط أفراد المجتمع عن طريق التزاور والمجاملات الاجتماعية ، ومن جهة أخرى كان فى نفوس الناس رضى وقناعة تجعل الحمل العصبى الذى يعانونه محتملا فى النهاية رغم سوء الأحوال الاقتصادية إلى أقصى حد .. وما بنا أن ندافع عن الظلم المتمثل فى الإقطاع ، ولا حتى عن الرضى الذليل الذى كانت الكنيسة تطلبه من الفلاحين مقابل الوعد بنعيم الآخرة ، فإن الدين الصحيح يطلب من الناس أن يثوروا على مثل ذلك الظلم ويصححوه بتحكيم شريعة الله . ولكنا نقرر واقعا تاريخيا كان قائما بالفعل بخطئه وصوابه ، لنقيس به الواقع التاريخى الذى تلاه على خط العلمانية حين خرج الناس من نفوذ ذلك الدين .. فقد بقى الظلم - من يحث المبدأ - كما هو ، ولكن ذهبت الأخلاق ، وذهب الرضى من نفوس الناس ! واصبح الحمل العصبى الذى يعانونه أبشع من أن يطاق ! فانتشر الجنون والقلق والانتحار والحالات العصبية والنفسية وإدمان الخمر والمخدرات والجريمة ..
لم تكن " المكيافيللية " فى الحقيقة مقصورة على عالم السياسة . إنما كانت دينا جديدا حل محل الدين المخلوع ! الغاية تبرر الوسيلة . لا فى السياسة فقط ، ولكن فى الاقتصاد والاجتماع كذلك .. بل فى كل شئ تدخل فيه الوسائل والغايات ..
يقول " سول " فى كتاب " المذاهب الاقتصادية الكبرى " (ترجمة الدكتور راشد البراوى ، ص 50 - 51 من الترجمة العربية) عن الفترة التى نبذ فيها الدين ولكن ظلت بقايا القيم - قبل اندثارها - يبحث الناس لها عند سند غير الدين :
" سيطرت فكرة الآخرة على المذاهب السائدة خلال العصور الوسطى وإن لم تسيطر على العادات والتقاليد ، والمجال الدنيوى بما فيه الحياة الإنسانية نفسها ليس سوى مكان يستعد فيه الناس للحياة بعد الموت بما يشتمل عليه من ثواب وعقاب ، فكان على المرء أن يتحمل الألم وهو عالم أنه ليس إا مقدمة لما يتوقع فى حياة مستقبلية .. أما الدافع الفكرى على تقويم العادات الاجتماعية أو زيادة الرفاهية الدنيوية فكان ضئيلا ، اللهم إلا من حيث الفائدة الروحية التى يمكن اجتناؤها .
" والآن تحول الاهتمام فأصبح محصورا فى تحسين الحياة على الأرض ، وكشفت العلوم والمخترعات عن إمكانيات الأرض لذاتها ، لقد كانت المكاسب المادية ظاهرة فى كل شئ ، وكان لا حد لها من يحث وجود أساليب أفضل وأيسر لإنتاج الأشياء ، وسرت روح المغامرة .
" وهنا برز السؤال التالى : أليس فى وسع الفلسفة أن تعالج النظم البشرية بنفس الطريقة التى تدرس بها الأشياء المادية ؟
" وكان الجواب بالإمكان . ذلك أن المطلوب إنما هو تطبيق العقل على الأساليب التى يستخدمها الناس كيما يعيشوا (فى الأصل : كيما يعيشون) معا ، وراح الكثيرون يصوغون الخطط والمشروعات التى تكفل قيام الحياة المثالية أو اليوتوبيا .
" وصار لزاما على الذين نبذوا الإيمان باله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ، ووجدوه فى الطبيعة .. أما الذين ظلوا على استمساكهم بالدين ولو باللسان - وإن لم يكن فى الواقع كما هو أغلبهم - فقد اعتقدوا أن الله يعبر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها وليس بوسيلة مباشرة . وبذلك لم تعد الطبيعة مجرد شئ له وجود فحسب ، وإنما هو شئ ينبغى أن يطاع ، وصارت مخالفتها دليلا على نقص فى التقوى والأخلاق " .
ويقول راندال فى كتاب " تكوين العقل الحديث " (ج 2 ، ص 468 من الترجمة العربية) عن الفترة التالية التى تم فيها الانسلاخ من القيم كلها بعد فقدان معينها الحقيقى وهو الدين :(12/15)
" هكذا كان العلم (يقصد علم الاقتصاد السياسى) يبدو فى الظاهر محاولة مجردة عن المصلحة ، للوصول إلى فيزياء اجتماعية للثورة ، لكنه كان فى الحقيقة تبريرا منظما للمطالب التى تهدف إلى زيادة حرية جمع المال وتستعين بالعلوم الجديدة البشرية والطبيعية "
ويقول " روبرت داونز " فى كتاب " كتب غيرت وجه العالم " (ترجمة أحمد صادق وزميله ، ص 73 من الترجمة العربية) :
" النظرية الأساسية فى كتاب ثروة الأمم " (1)" نظرية ذات نزعة مكيافللية ، وهى أن العامل الأول فى نشاط الإنسان هو المصلحة الشخصية ، وأن العمل على جمع الثروة ما هو إلا مظهر من مظاهرها . وبذلك قرر أن الأنانية والمصلحة الشخصية تكمن وراء كل نشاط للجنس البشرى . وصارح الناس باعتقاده أنها ليست صفات ممقوتة يجب الابتعاد عنها ، وإنما هى على العكس عوامل تحمل الخير إلى المجتمع برمته . وفى رأيه انه إذا أريد توفير الرفاهية للأمة فلابد من ترك كل فد يستغل أقصى إمكانياته لتحسين مركزه بشكل ثابت منظم دون تقيد بأى قيود . فللحصول على غذائنا لا نعتمد على كرم الخمار " (2) " أو الخباز أو الجزار ، وإنما هم يقدمونه لنا بدافع من مصلحتهم الشخصية ، وإنا عندما نخاطبهم لا نتجه إلى ما فيهم من دوافع إنسانية ، وإنما نتجه إلى مصلحتهم المادية ، ولا نكلمهم عن احتياجاتنا ، بل عما يعود عليهم من نفع وفائدة " .
هذه الصورة المادية البحتة هى التى شكلت روح الرأسمالية ورسمت سمات الحياة فى ظلها ، ففقد الناس آدميتهم بالفعل وصاروا إلى ذلك المسخ الذى يعيش اليوم فى الغرب الرأسمالى .
ينقل كنث لن فى كتابه " تطور المجتمع الأمريكى " (ترجمة نعيم موسى - ص 112 من الترجمة العربية) من كلام جروج فيتزهيو ، أحد الذين ساءهم وضع الرأسمالية فى نهاية القرن الماضى ما يلى :
" إننا جميعا فى الشمال والجنوب نعمل فى تجارة الرقيق الأبيض . وبقدر نجاح الشخص فيها يزداد احترامه .. وهذه التجارة أشد قسوة من تجارة الرقيق الأسود لأنها تفرض المزيد من العمل على عبيدها .. وفى الوقت الذى لا تحميهم فيه ولا تسوسهم برفق تفاخر بأنها تفرض المزيد (أى من العمل) ..
" نعم إنه (أى العامل) بعد انتهاء عمل اليوم يصبح حرا ، إلا أنه يظل يرزح تحت عبء العناية بعائلته وبيته ، مما يجعل حريته سخرية جوفاء باطلة ، فى حين يبقى رب العمل حرا بالفعل ، ويستطيع أن يتمتع بالأرباح التى جناها من عمل الآخرين دون اهتمام بمصلحتهم ورفاهيتهم ".
أما ما تلا تلك الفترة حتى اليوم فى العالم الرأسمالى فمعروف لا يحتاج إلى بيان .. ففوارق الدخل بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال فوارق بشعة إلى حد مذهل .. ولا يأتى هذا الربح المتضخم - كما أسلفنا فى فصل الديمقراطية - إلا من الوسائل الخسيسة التى تستخدمها الرأسمالية لتحقيق غاياتها الخسيسة ، وكلها محرم فى دين الله :
(1) الربا ..
(2) أكل مال الأجير وعدم توفيته حقه ..
(3) إفساد فطر الناس وأخلاقهم ليقبلوا على منتجات ليس فيها فائدة حقيقية لهم ، ولكنها تدر على الرأسماليين أرباحا طائلة لا تدرها المنتجات الجادة التى يحتاج إليها الناس حقا فى حياتهم النظيفة المستقيمة .
(4) وأخيرا الاحتكار ..
والنتيجة الأخيرة التى تحققها الرأسمالية العلمانية من طرفيها المتمثلين فى أصحاب رؤوس الأموال والعمال ، هى الفساد الخلقى الفاحش ، والقلق العصبى الذى يؤدى إلى الانتحار والجنون والخمر والمخدرات والجريمة وتفكك الأسرة وتشريد الأطفال والهبوط المستمر بالإنسان إلى عالم الآلة وعالم الحيوان ..
أما الشيوعية فربما كانت أسوأ بديل عرفته البشرية إلى اليوم ..
حقيقة إن الشيوعية هى النظام الجاهلى الوحيد - حتى اليوم - الذى فرض على الدولة كفالة كل فرد يعيش فى ظلها ، ولكن ذلك - كما أسلفنا - لم يكن كرما إنسانيا منها ، فهى تأخذ مقابل ذلك الجهد الفرد كله ، و" من لا يعمل لا يأكل " على الحقيقة لا على المجاز . ثم إن الدولة تستذل الناس بلقمة الخبز على نحو غير مسبوق فى كل النظم التى مرت بها الجاهلية البشرية على الأقل فى التاريخ الحديث .
وربما كان من الحق أن الناس كانوا دائما فى جاهليات التاريخ مستذلين بلقمة الخبز ، يبيعون مقابلها بعض كرامتهم أو كلها ، وبعض إنسانيتهم أو كلها .. ولكن النظام البوليسى الصارم الذى يحكم الناس بالحديد والنار والتجسس ، ويمنع الناس بالرعب و الإرهاب أن يفتحوا أفواههم بكلمة نقد واحدة ضد الدولة أو الزعيم المقدس أو المذهب أو النظام .. إنه ليفرض على الناس - مقابل لقمة الخبز - قدرا من الذل ومن ضياع الكرامة الإنسانية لا مثيل له - فى نوعه ودرجته - فى كل النظم التى تزعم أنها نظم " حضارية " على مدار التاريخ !
__________
(1) " " كتاب ثروة الأمم هو من تأليف " آدم سميث " فيلسوف الرأسمالية وإمامها الفكرى وقد كان له دوى هائل فى الغرب .
(2) " " لاحظ أثر الجاهلية فى اعتبار الخمار واحدا من مقدمى الغذاء .. بل فى مقدمتهم !(12/16)
وهذا فوق التفرقة الضخمة فى كل جانب من جوانب الحياة بين أن يكون الإنسان مجرد فرد فى القطيع ، وبين أن يكون عضوا فى الحزب ولو فى أسفل درجاته فضلا على الدرجات العليا .
يقول " ميليوفان دجيلاس " نائب الرئيس " تيتو " فى كتاب " الطبقة الجديدة " :
" إن الطبقة البيروقراطية الشيوعية الجديدة صاحبة الامتيازات الضخمة تستخدم جهاز الدولة كستار وأداة لتحقيق مآربها وأغراضها الخاصة .. وإذا ما عدنا لدراسة الملكية فإننا سنجدها ليست أكثر من حقوق الربح وحرية السيطرة ، وإذا ما اتجه المرء إلى تحديد ربح الطبقة من خلال هذه الحقوق فى إطار تلك الحرية فإن الشيوعية تتجه فى النهاية إلى خلق شكل جديد من أشكال الملكية وخلق طبقة حاكمة مستثمرة جديدة.
" إن الطغيان الشيوعى والإرهاب فى أساليب الحكم هما الضمانة لامتيازات طبقة جديدة تبرز على المسرح السياسى " .
" لقد سبق أن أعلن ستالين عام 1936 مع صدور الدستور الجديد للاتحاد السوفيتى أن الطبقة المستثمرة قد تم القضاء عليها نهائيا .. وفى الحقيقة لقد تم فى المعسكر الشيوعى القضاء التام على قوى الرأسمالية الوطنية التى استؤصلت تماما من الجذور . ولكن مع زوالها بدأت تبرز فى صلب المجتمع الشيوعى طبقة جديدة لم يسبق للتاريخ أن رأى مثيلا .
" ولقد أكدت هذه الطبقة أنها أكثر تسلطا فى الحكم من أى طبقة أخرى ظهرت على مسرح التاريخ ، كما أثبتت فى الوقت نفسه أنها تحمل أعظم الأوهام ، وأنها تكرس أعتى أساليب الظلم فى مجتمع طبقى جديد.
" لقد تم تأميم المقدرات المادية إلا أنه لم يجر توزيعها على أبناء الشعب ، بل أصبحت ملكا مكتسبا للطبقة الحاكمة وللأعضاء القياديين للحزب والبيروقراطيين السياسيين "
" لقد حاز الأعضاء الكبار من أفراد النخبة الممتازة أفضل المساكن والبيوت كما شيدت لهم الأحياء الخاصة ومنازل الاصطياف ، وحصل أمناء سر الحزب ورؤساء البوليس السرى ليس على السلطة العليا وحسب ، إنما على أجمل المساكن وأفخم السيارات وسواها من مظاهر الأبهة والعظمة والامتيازات ، أما بقية الأعضاء من دونهم فقد حازوا امتيازات متناسبة مع مراكزهم الحزبية "
" وليس هناك أية طبقة أخرى فى التاريخ تشابه الطبقة الجديدة فى وحدة تماسكها ، ووحدة الفكر والعمل فى دفاعها عن نفسها ، وفى قدرتها على إحكام القبضة على كل ما هو واقع تحت سيطرتها منا لملكية الجماعية حتى السلطة الاستبدادية المطلقة " " (1)"
وأما " الأخلاق " فى ظل الاقتصاد العلمانى الشيوعى فلا مجال للحديث عنه بعد الذى فصلناه فى فصل " الشيوعية " . ولسنا نقول : إن هناك " أخلاقا " أفضل منها فى ظل الاقتصاد العلمانى الرأسمالى . كلاهما بلا أخلاق ، كلا المعسكرين يهبط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان . فإذا كان هناك فارق بين الحيوانات السائبة والحيوانات المقيدة داخل الحظيرة فهو الفرق بين التسييب والتقييد .. وليس فارقا فى " نوع " الحيوان ..
(3) فى الاجتماع :
كان الإقطاع ظالما كما قلنا ، ولكن بعض الجوانب الاجتماعية فيه كانت تحكمها أعراف مستمدة من روح الدين .. ومن ذلك الحفاظ على الأسرة ، والزواج المبكر ، وقوامة الرجل وقيامه بالإنفاق ، واستقرار المرأة فى بيتها ، وتفرغها للأمومة وتدبير المنزل ورعاية النشء ، ومحافظتها على عرضها قبل الزواج وبعده ، واعتبار ذلك جزءا من مقومات الأسرة وركنا أساسيا من أركانها ، والتعاون بين أفراد المجتمع .. وما إلى ذلك من العلاقات الاجتماعية القائمة على وصايا الدين .
ولكن ذلك كله لم يعجب المنسلخين من الدين فقرروا تغييره ، وإنشاء بديل منه لا يقوم على أساس الدين !
كان التغيير فى المبدأ هو تغيير " السند " أو " المنبع " مع محاولة المحافظة على شئ من الأخلاق ، أى البحث عن منبع آخر للقيم الاجتماعية غير الدين .. فليكن هو " الطبيعة " أو يكن هو " النفس الإنسانية " ذاتها .. المهم ألا يكون المنبع هو الدين ، ولا يكون المرجع الذى تستمد منه القيم هو الوحى الربانى !
ولكن القيم لم تكن لتستمر فى فاعليتها بعد أن تنقطع عن معينها الحقيقى وهو الدين والوحى الربانى ..
ثم إن الهزات العنيفة التى أحدثتها الثورة الصناعية جاءت والقيم مهتزة بالفعل ، قائمة على غير أساس حقيقى يقيها من الهزات . فإذا انهارت هذه القيم سريعا فلا عجب .. وإذا أفلح الشريرون فى هدمها بوسائلهم الشريرة بعد أن استعصت عليهم خلال عدد متطاول من القرون فلا عجب كذلك .. فالجدار القائم على غير أساس ينتظر من يهزه ليسقط إا لم يتداع من تلقاء نفسه ، بينما الجدار القائم على أساس متين لا يتزلزل إلا بالجهد الجهيد .
جاءت الثورة الصناعية " فتحررت " المرأة .. أى استعبدتها (والرجل كذلك) لأغراضها الخاصة . وكانت " أغراضها " قدرا من الشر لا يخطر على بال إنسان ..
تحررت المرأة فتحلت من القيود كلها ، وفى مقدمتها قيود الدين وقيود الأخلاق .
__________
(1) " " مقتطفات من الكتاب من صفحات 51 ، 54 ، 78 ، 81 ، 83 ، 84 مأخوذة من كتاب " العلمانية " لسفر عبد الرحمن الحوالى ، وهو من أحسن ما كتب فى موضوع العلمانية .(12/17)
وطالبت بالمساواة الكاملة مع الرجل فرفضت أن يكون قيما عليها لأن القوامة لا تصلح بين الأنداد !
واشتغلت ، فانشغلت عن مهمتها الأولى فى تربية النشء ..
وتفككت الأسرة وانحل البيت وتشرد الأطفال ، وتكونت منهم عصابات جانحة ترتكب الجرائم لمجرد سد الفراغ .
وانحلت روابط المجتمع فصار كل إنسان يعيش وحده .. حتى الأسرة .. الزوج له عمله ومغامراته ، والزوجة لها عملها ومغامراتها .. والأولاد يغادرون البيت فى سن معينة ولا يعودون بعد ذلك ، ولا يربطهم بالأب والأم رباط ، إلا زيارات خاطفة فى مناسبات متباعدة فى أحسن الأحوال .. ويكبر الأبوان فى تلك العزلة الباردة فلا يجدان من يطرق عليهما الباب .. فينشدان سلواهما فى الكلاب !
وانتشر الشذوذ لأسباب كثيرة ، من بينها - كما يقولون هم بأفواههم - رفض المرأة للقوامة وضياع سيطرة الأب ..
وفى جانب آخر من الأرض قامت " فلسفة " بشرية مغايرة ، وإن كانت تشترك مع سابقتها فى كثير من السمات !
تشترك معها فى إخراج المرأة من البيت وشغلها عن الأسرة والأولاد .
وتشترك معها فى تحطيم كيان الأسرة ..
وتشترك معها فى حل روابط المجتمع ..
ولكنها تختلف عنها فى الطريقة !
فى الأولى يتم تحطيم المجتمع عن طريق تضخيم الفرد وجعله هو الأساس . فيتحطم المجتمع نتيجة المبالغة فى إحساس الفرد بذاتيته الزائدة عن الحد .
وأما الثانية فتجعل المجموع هو الأساس إلا الفرد ، فتسحق الفرد من أجل المجموع ، ثم تعود فتحطم المجتمع نتيجة تحويله إلى مجموعة من الأصفار كل منهم بلا مشاعر ولا كيان !
(4) فى العلم :
بدأ الصراع بين الدين والعلم حين هاجمت الكنيسة العلماء الذين قالوا بكروية الأرض وهددتهم بالحرق أحياء فى الأفران .. وكانت الكنيسة هى المعتدية بلا شك ، وكانت حماقة شنيعة منها أن تقف هذا الموقف من أمور علمية بحتة ، يخطئ العلماء فيها أو يصيبون ولكنها تظل فى دائرة العلم لا يتدخل فيها " رجال الدين " لأن الدين الصحيح لم يحرم البحث العلمى ، وإنما لفت نظر البشر إلى آيات الله فى الكون ، وقال لهم تفكروا فيها وتدبروا لتعرفوا قدرة الخالق العظيم ، دون أن يقيدهم بنظرية معينة فى تفسير ظواهر الكون ، بل ترك ذلك للعقل البشرى يحاول فيه بقدر ما يطيق ..
ولكن الاحتجاج بحماقة الكنيسة لفصل الدين عن العلم أو بذر بذور العداء بين الدين والعلم كان فى ذاته حماقة أشد !
فلتكن الكنيسة حمقاء بقدر ما تكون .. ولكن الفطرة السوية لا تفصل بين الدين والعلم ، لأن كلا منهما نزعة فطرية سوية لازمة للكيان البشرى ، ولازمة لمهمة الخلافة التى وجد الإنسان من أجلها فى الأرض .
الإنسان عابد بطبعه ، راغب فى المعرفة بطبعه ..
ولا تعارض فى الفطرة السوية بين نزعة العبادة ونزعة المعرفة ، ولا بين الإيمان بالغيب والإيمان بما تدركه الحواس .
ولقد خلق الله الإنسان ليعبده :
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات 51/56]
وجعل من بين العبادة عمارة الأرض :
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك 67/15]
وجعل من الأدوات المعينة على عمارة الأرض العلم النظرى فى صورة " معلومات " عن الكون ، والعلم التطبيقى فى صورة تسخير طاقات السماوات والأرض للإنسان .
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق 96/4-5]
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)} [سورة الإسراء 17/12]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [سورة الجاثية 45/13]
ومن هنا يكون العلم ذاته جزءا من العبادة المطلوبة من الإنسان ، يستوى فى ذلك العلم بأمور الدنيا والعلم بأمور الدين ، فإن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى تحتاج إلى هذا العلم وذاك .. العلم الدنيوى من أجل العمارة المادية . والعلم الدينى لجعل هذه العمارة المادية مستقيمة على المنهج الربانى ، وتلك هى الخلافة الراشدة المطلوبة من الإنسان .
من أجل ذلك لا يوجد فى الدين الصحيح ولا فى الفطرة السوية تعارض ولا تنازع ولا خصومة بين الدين والعلم ! إنما تعمل نزعة العبادة ونزعة المعرفة فى تناسق كامل فى النفس السوية دون قلق ولا حرج ولا تصادم ولا نزاع ..
وكذلك قامت الحركة العلمية الهائلة التى قامت فى العالم الإسلامى فى ظل العقيدة ، بل بدافع من العقيدة ! فمن المعلوم من التاريخ أن المسلمين لم يصبحوا أمة علم إلا بعد أن دخلوا فى الإسلام !(12/18)
ولقد كان النموذج الإسلامى قائما حول أوروبا من الشرق والغرب والجنوب .. بل إن أوروبا لم تعرف العلم الحقيقى إلا حين أرسلت أبناءها يتعلمون فى مدارس المسلمين فى الأندلس والشمال الإفريقى وصقلية الإسلامية ، فلئن كانت الكنيسة قد ارتكبت حماقتها بمعاداة العلم والعلماء ، فلقد كان الحل هو نبذ دين الكنيسة الفاسد لا نبذ الدين كله ، وقد رأوا نموذجا مفلحا ومثمرا منه فى العالم الإسلامى .. ولئن كانت " المكايدة " قد أصبحت هى العملة المتبادلة بين الكنيسة من جهة والعلماء من جهة ، فلقد كان المقتضى السليم لذلك هو أن يرد العلماء للكنيسة إلهها الزئاف الذى تعذب العلماء باسمه وتطاردهم ، ويفروا إلى الله الحق الذى وجدوه معبودا عند أولئك العلماء الأفذاذ الذين تتلمذوا عليهم وتعلموا العلم على أيديهم ، والذى وجدوا العبادة الصحيحة له تخرج مثل هؤلاء الأفذاذ ، وتتيح لهم حرية البحث العلمى بلا قيود .
ولكن رد الفعل للحماقة التى ارتكبتها الكنيسة كان حماقة جديدة ارتكبها " العلماء " !
لقد كانوا معذورين فى أن يتشككوا فى كل حرف تقوله الكنيسة وتزعم أنه من عند الله ، وفى أن يبدأوا العلم كله من نقطة الصفر ، ويجربوا لأنفسهم ليثبتوا .. فهذا على أى حال هو المنهج العلمى الصحيح الذى تعلموه على أيدى أساتذتهم المسلمين . وكلنهم غير معذورين حين تصل بهم حقائق العلم إلى رؤية القدرة المعجزة للخالق ، فيلوون رؤوسهم فى كبر ، أو يهزون أكتافهم فى استهتار " غير علمى " ! ويقولون إنه ليس الله ، ولكنه الطبيعة !
هنا الحماقة التى لا يبررها شئ .. لا الأمانة العلمية ولا الإنسانية الحقيقية للإنسان !
ولكن أوروبا بدأت من هذه الحماقة ثم لجت فيها إلى أبعد الحدود ..
مجرد ذكر اسم الله فى البحث العلمى يعتبر إفسادا للروح العلمية ، ومبررا لطرح النتائج العلمية كلها ولو كانت كلها صحيحة بمقياس العلم ذاته الذى جعلوه إلها من دون الله !
بل مجرد الاعتقاد بوجود الله ، وأنه هو خالق الخلق وخالق الكون كفيل بإخراج العالم من دائرة العلماء الذين يعتد بهم ويؤخذ بآرائهم ولو كانت آراؤه صحيحة بمقياس البحث العلمى ، بل إنه يحيط ذلك العالم بالارتياب والشك فى كل ما يقول ، ويجعله موضع الزراية من العلماء " الحقيقيين " ! الذين لابد أن يكونوا ملحدين لتكون آراؤهم موضع التسليم !
أى زراية بالعلم ذاته تؤدى إليه هذه الحماقة ؟!
بل أى روح " غير علمية " تلك التى تسيطر على " العلماء " فى تلك الجاهلية التى تقوم باسم العلم ؟!
ما التعصب إذن ، وما فقدان " الروح العلمية " والأمانة العلمية إذا كان هذا علما وأمانة وروحا علمية؟
وأى انتكاسة فى عالم " القيم " وعالم " الإنسان " أكبر من تلك الانتكاسة الشنيعة التى ترفض " الحقائق " بمجرد الأهواء ؟!
وكيف - كما قلنا من قبل - كيف يكون الشئ ذاته صحيحا " وعلميا " إذا نسب إلى الطبيعة وغير صحيح وغير علمى إذا نسب إلى الله ؟! ويكون هذا هو الشرط الذى لا يقبل غيره للدخول فى مجال العلم والعلماء ؟!
وكيف يتأتى لهذه الجاهلية أن تفصل - فى النفس الواحدة - بين نزعتين فطريتين : نزعة العبادة ونزعة العلم ، فتقول للناس : إذا أردتم الله فاتركوا العلم وإذا أردتم العلم فاتركوا اله ، وتسمى هذا " علما " و" روحا علمية " ؟ وما الفرق بين هذه الحماقة وحماقة الكنيسة التى من أجلها حاربها العلماء ؟!
ألم تقل الكنيسة نفس القولة ولكن من الجانب الآخر ؟! قالت ك إذا أردتم الله فاتركوا هذا العلم ، وإذا أردتم هذا العلم فأنتم خارجون على الله !
وحين نستبدل حماقة بحماقة هل نكون راشدين ؟ وهل يحق لنا أن نستعلى بحماقتنا على حماقة الآخرين ؟!
على أن الحماقة البديلة لا تقف عند حد تمزيق البشرية بين نزعتيها الفطريتين ، مما يشكل سببا من الأسباب الكثيرة للاضطراب والقلق النفسى والعصبى الذى تعانيه الجاهلية المعاصرة . إنما يستخدم العلم عن قصد فى إفساد العقيدة وإفساد الأخلاق ..
فبين الحين والحين تخرج " أبحاث علمية " كاذبة - ويعلم أصحابها أنهم كاذبون - تزعم أن الإنسان قد " خلق " الخلية الحية فى المعمل ! وتسفر الحقيقة بعد الاستفسار والتقصى أنهم أعادوا تركيب خلية حية فى المعمل من أجزاء حية أخذت من مجموعة من الخلايا الحية !!
ولكن هذا الدجل " العلمى " يراد به أن يقال للناس ها هو ذا الإنسان قد خلق فلم تعد هناك ضرورة للخالق ! أى يستخدم العلم الزائف لنشر الإلحاد فى الأرض ، وتتقبله المجلات " العلمية " الرصينة التى ترفض أى بحث علمى يذكر فيه اسم الله !
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} [سورة الزمر 39/45]
وسيظل التحدى الربانى قائما فى وجه الملحدين :
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35)} [سورة الطور 52/35](12/19)
وكما يستخدم العلم الزائف لنشر الإلحاد تستخدم ثمار العلم لإفساد الأخلاق . وأوضح الأمثلة على ذلك حبوب منع الحمل التىي قول الأطباء " الأمناء " - وقليل ما هم - إنها ليست مأمونة تماما ، وإنها قد تسبب أضرارا خطيرة ن وإنها ينبغى ألا تستخدم إلا بإشراف الطبيب .. هذه الحبوب تباع فى الصيدليات بسعر منخفض يكاد يساوى سعر التكلفة ، ويباع لأى فتاة تطلبه - وتكرره - دون تذكرة طبية .. لأنها - كما لا يخفى - أداة جبارة لنشر الفاحشة فى الأرض ، لأن الفتاة التى تستطيع أن تأمن نتائج اتصالاتها الجنسية غير المشروعة أيسر انزلاقا من التى تخشى حدوث المتاعب من هذه الاتصالات .
وذلك فضلا عن صرف جهود كثيرة فى أبحاث " علمية " بقصد اختراع المدمرات البشعة بغير موجب حقيقى ، فقد كان انتصار بعض البشر على بعض ممكنا بغير كل تلك البشاعة فى أدوات التدمير .. " (1)"
وهذا الشر العميق كله قد نشأ من " علمانية " العلم .. أى من ذلك المبدأ الملوث الشرير : مبدأ فصل الدين عن الحياة ..
(5) الأخلاق :
ربما لم يكن هناك مجال تأثر بالعلمانية بقدر ما تأثرت الأخلاق ..
ذلك أن الدين هو المنبع الطبيعى للأخلاق ، فإذا جفف هذا المنبع أو جف بسبب من الأسباب فلابد أن يتبعه حتما انهيار تدريجى فى الأخلاق ينتهى إلى " اللاأخلاق " .
ولقد كانت " النهضة " فى أول عهدها تعتقد - ربما بإخلاص وحسن نية - أن فى إمكانها أن تجد للأخلاق منبعا آخر غير الدين .. من الطبيعة أو من النفس البشرية أو من أى مكان آخر .. والواقع أنهم كانوا فى أول مرحلة الفساد ، فكانوا هم أنفسهم لا يتصورون أن البشرية يمكن أن تعيش بلا أخلاق ، أو أنه سيأتى وقت عليها تكون عارية من الأخلاق . فكان المشكل بالنسبة لهم هو محاولة البحث عن منبع للأخلاق غير الدين ، حتى لا تتخذ تلك ثغرة يهاجمون منها من قبل ذوى الغيرة على الأخلاق وهم يومئذ غير قليل .. ولكن المنبع البديل - أيا كان هو - قد أثبت عجزه عن إنبات القيم التى يحتاج إليها الإنسان فى حياته ، ككل التصورات التى تخطر فى بال الفلاسفة ولا تتعدى أذهانهم إلى واقع الحياة !
ثم جاءت أجيال أكثر علمانية من السابقة ، لأنها كانت قد بعدت أكثر عن المنبع الحقيقى للقيم ، فبدأت تناقش مبدأ القيم ذاته : هل هى ضرورية حقا للحياة البشرية ؟ وهل هى حقائق واقعية أم مجرد مثل خيالية معلقة فى الفضاء غير قابلة للتطبيق ؟ وإذن فلماذا لا نكون " واقعيين " ونتعامل مع الواقع البشرى كما هو ؟ أى بغير مثل وبغير قيم ؟!
وكانت هذه بداية موجة جديدة من الانحدار على المنزلق .. فإننا إذا سلمنا بالواقع الموجود اليوم على أنه هو الواقع الذى لا يمكن أن يوجد أفضل منه ، فما الذى يمنع هذا الواقع أن ينحدر غدا إلى هوة جديدة ، ثم ما الذى يمنعنا من مجاراته فى الهبوط بحجة الواقعية ؟!
إن الذى يمنع من هذا شئ واحد ، هو وجود القيم الأصيلة التى نقيس إليها أفعالنا ومستوانا ، لنعرف على ضوئها أهابطون نحن أم مرتفعون .. فإذا وجدنا أننا هبطنا حاولنا أن نوقف هبوطنا ونصعد من جديد .. أما فى غياب الميزان فما المعيار ؟ إن الواقعية ليست معيارا يقاس إليه أى شئ ، ما دامت تعتبر الواقع هو المقياس ! والناس إذا أفلتت أيديهم من خيط الصعود الذى يشدهم إلى أعلى فلابد أن تهبط بهم ثقلة الشهوات وجواذب الأرض فيزداد واقعهم هبوطا على الدوام .. وما دام معيارنا هو الواقع ، فسيظل المعيار ذاته يهبط مع هبوط الإنسان ! ونظل نحن - بحجة الواقعية - نتابع الهبوط .
لقد كان القرن التاسع عشر " واقعيا " فنبذ القيم التى سماها مثالية - بمعنى غير واقعية - واعتبرها ترفا عقليا لا تطيقه طبيعة الحياة ..
وكانت نتيجة ذلك هى القرن العشرين ! قرن التفلت من القيود كلها ، والهبوط إلى الحمأة التى يستعفف عنها الحيوان !
وذلك أمر معروف من التاريخ وإن جادلت فيه الجاهلية المعاصرة ، وهى ليست أول جاهلية تجادل فى الحق وتنكر البديهيات ! إن أى جيل من أجيال البشرية أنكر القيم الإنسانية لم يقف حيث كان يوم أنكرها ، إنما ازداد هبوطا .. حتى أدركه الدمار !
ولنستعرض خط العلمانية مع الأخلاق من أوله لنعلم مدى الهبوط ..
ولنبدأ بالمفهوم الحقيقى للأخلاق ، الذى كانت تؤمن به أوروبا ذات يوم ثم ظلت تتخلى عنه خطوة خطوة وهى تسير مع الشيطان .
إن الأخلاق " ميثاق " شامل .. يشمل كل أعمال الإنسان .
__________
(1) " " حدث فيما بين صدور الطبعة الأولى والطبعة الثانية من الكتاب حادث انفجار المفاعل النووى الروسى ، الذى تسربت منه الإشعاعات المدمرة . وتعرض لخطرها ملايين من البشر فى أوروبا . وهم فى حالة " سلم " لا حرب !(12/20)
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} [سورة الرعد 13/19-22]
والميثاق هو أصلا ميثاق مع الله ، تتفرع منه وتندرج تحته جميع المواثيق :
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء 4/58]
وأول الأمانات هى الأمانة المؤداة إلى الله ، ثم تأتى بعدها جميع الأمانات التى أبرز سياق الآية منها الحكم بين الناس بالعدل ..
وعلى هذا الأساس يكون للسياسة أخلاق ، وللاقتصاد أخلاق ، وللاجتماع أخلاق ، وللعلم أخلاق ، ولكل شئ على الإطلاق أخلاق .. ولا يكون هناك شئ واحد فى حياة الإنسان بلا أخلاق ..
ومنشأ الأخلاق ليس هو الفرض من الخارج . فى صورة أوامر ونواه وزواجر من عند الله أو من عند غيره ، إنما الله سبحانه وتعالى هو الذى يحدد ما هو حلال وما هو حرام ، وما هو حسن وما هو قبيح ، وما هو خير وما هو شر .. الخ فيتبعه المؤمنون التزاما بما أنزل الله ، وأما غير المؤمنين فيستمدون ذلك كله من عند غير الله . وفى الحالين لا يكون هذا هو منشأ " الأخلاق " عند هؤلاء وهؤلاء .. إنما يكون فقط هو منشأ " المعايير " التى تضبط الأخلاق .
إنما تنشأ الأخلاق - كما قلنا منق بل فى أكثر من موضع فى الفصول السابقة - من طبيعة الإنسان ذاته ، ومن أن له طريقين ، وأن له القدرة على التمييز والاختيار بين الطريقين :
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10]
ومن ثم فالقيمة الخلقية لاصقة بأعمال الإنسان بحكم طبيعته .. وإنما تختلف القيم باختلاف واضعها : هل هو اله أم هم البشر . فإن كانت من عند الله فهذه هى القيم الحقيقية الصالحة ، لأنها من عند خالق الإنسان العليم به وبما يصلح له وما يصلحه :
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [سورة الملك 67/14]
وإن كانت من عند البشر فهى عرضة للأهواء وعرضة للاختلاف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار . وتاريخ البشرية فى جاهليتها هو الدليل ، يستوى فى ذلك أن يكون الجاهليون من الفلاسفة أو من عامة الناس !
ولقد كان هذا كله واضحا لأوروبا المسيحية فى الفترة التى سيطر فيها الدين على قلوب الناس ، بصرف النظر عما فى ذلك الدين الكنسى من انحرافات .. فقد سبق أن قلنا إن وجود الانحراف والتحريف فيه لم يمنع وجود بعض الحقائق لأنهم كما يقول الله عنهم : " فنسوا حظا مما ذكروا به " وبقى مما ذكروا به بعض أشياء .. وكانت القيم الخلقية من بعض هذه الأشياء .
ثم زحفت العلمانية شيئا فشيئا على الحياة الأوروبية فأقصت الدين عن الحياة بقدر ما تمكنت هى من الحياة .. ومع إقصاء الدين أقصيت الأخلاق ، لأنها أصلا مستمدة من الدين .
وأول مجال أزيحت الأخلاق عنه هو مجال السياسة منذ قال مكيافيللى : إن الغاية تبرر الوسيلة .. ومعناها بصريح العبارة إسقاط الأخلاق من مجال السياسة ، وممارسة السياسة بلا أخلاق !
ثم أزيحت الأخلاق من المجال الاقتصادى منذ الثورة الصناعية بتحليل الربا ، وتحليل الغش والخداع والكذب وسرقة أجر الأجير وشغل الناس بتوافه الأشياء من أجل الربح ، وتحليل شن الحروب والاستعمار من أجل إيجاد أسواق لتصريف البضائع .. إلى آخر ما قامت به الرأسمالية من حيل غير شريفة للاستزادة من المال على حساب البشرية .
ثم أزيحت الأخلاق من مجال العلم ، فلم يعد هدف العلم البحث عن الحقيقة المجردة - له - إنما صارت تصاحبه المصالح والأهواء والشهوات التى أسلفنا نماذج منها فى إبعاد اسم الله عمدا من البحث العمى مع وضع بديل مزيف هو الطبيعة ، لا لأن هذه حقيقة ولكن لأنها تخدم هدفا معينا فى معركة معينة بين العلماء وبين الكنيسة ! ومن نشر أبحاث كاذبة بقصد نشر الإلحاد . ومن استخدام ثمار العلم لإفساد الأخلاق .. وغير ذلك مما كان مستحيلا أن يحدث فى ظل سيطرة الدين على مشاعر الناس ، ومن ثم التزامهم بأخلاقيات الدين .. ولكنه يحدث بسهولة فى ظل العلمانية التى تفاخر بإقصاء الدين عن كل مجالات الحياة !
ثم أزيحت الأخلاق من مجال الفكر . فلم يعد يحس المفكر أنه ملتزم بأمانة معينة هى فى أصلها الأمانة المؤداة إلى الله .. فحفلت وسائل الإعلام جميعا من أول لكتاب إلى التليفزيون ، مرورا بالصحيفة والمسرح والسينما والإذاعة ، بكل صنوف التضليل والكذب والخداع والغش وإفساد العقيدة وإفساد الأخلاق .(12/21)
ثم أزيحت من مجال العلاقات الجنسية بصفة خاصة - وهى أدق مجالات الأخلاق - فقيل إن الجنس مسألة " بيولوجية " لا علاقة لها بالأخلاق ! أى مسألة ذكر وأنثى يجرى بينهما ما يجرى بين الذكر والأنثى .. بلا قيود ولا أخلاق ولا ضبط ولا تصعيد .. وكانت الحمأة الدنسة التى تردت فيها البشرية ، وكان السعار الجنسى المجنون الذى لا يشبع ولا يرتوى ولا يفيق ..
وأخيرا أفرغت الأخلاق ذاتها من مضمونها حين قبل إنه ليس لها وجود ذاتى ، إنما هى انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية ، أو إنها من مصنع العقل الجمعى وإنها تتغير على الدوام ولا تثبت على حال !
وسقط " الإنسان " بسقوط الأخلاق !
(6) فى الفن :
كان الفن فى أوروبا فى فترة الجاهلية الكنسية فنا دينيا بمعنى أنه موجه لخدمة الدين ، وكان يحمل كل ما فى العقيدة الكنسية من انحراف ، إذ كان كله موجها لتمجيد " الرب " الذى ألهته الكنسية وهو المسيح عيسى بن مريم ، أو تمجدي الأقانيم الثلاثة عامة : الأب والابن وروح القديس ، مع مريم البتول ومجموعة من القديسين .. سواء بالشعر أو النثر أو الرسم أو التصوير (بمعنى إقامة التماثيل) .
وقد لاحظت فى كتاب " جاهلية القرن العشرين " ملاحظة خاصة بالفن الأوروبى ، وقلت إنها معروضة للدراسة لمن أراد أن يدرس ، تلك هى أن الفن الأوروبى فى جميع أدواره التاريخية كان مشغولا بالمعبود .. فحين كان المعبود فى الجاهلية الإغريقية مجموعة من الآلهة المختلفة توجه الفن الإغريقى إلى تلك الآلهة سواء فى الأساطير أو المسرحيات أو التماثيل . وحين انتقلت أوروبا إلى المسيحية عنى الفن بالإله كما صورته الكنيسة ، وحين كفرت أوروبا بإله الكنيسة وألهت الطبيعة اتجه الفن إلى المعبود الجديد وخاصة فى الفترة الرومانسية ، وحين صار المعبود هو " الإنسان " اتجه الفن كله إلى دراسة الإنسان فى جميع أوضاعه .
واليوم صارت المعبودات فوضى ، وتمثلت الفوضى كذلك فى الفن الأوروبى الحديث !
وهذه نقطة فنية على أى حال ليس مجالها التفصيلى فى هذا الكتاب إنما ينبغى أن تدرس دراسة نقدية متخصصة .
ثم إنى ألفت كتابا كاملا هو " منهج الفن الإسلامى " لأبين العلاقة بين الفن الصحيح والدين الصحيح ، وكيف تكون مجالات الفن الملتزم بالدين ، وكيف أن ارتباط الفن بالدين لا يضيق مجالاته كما يفهم البعض ، ولا يحوله إلى مواعظ دينية كما يفهم البعض الآخر ن إنما يوسع مجالاته فى الحقيقة ويعمقها ، ولكنه ينظفها فقط ويطهرها من الأرجاس .
وليس هنا مجال إعادة الحديث فى هذه الموضوعات ..
إنما نحن هنا نتحدث فقط عن آثار العلمانية فى الفن الأوروبى ..
فأول آثارها - فى التسلسل التاريخى - هو عبادة الطبيعة فى الفترة الرومانسية .
وليس ثمة عيب - كما قلنا من قبل - فى مناجاة الطبيعة والتفاعل معها والحفاوة بها ، فذلك كله أمر طبيعى فى النفس السوية . ذلك أن الله خلق الكون جميلا ثم جعل فى النفس البشرية حاسة تلتقط الجمال وتنفعل به . والقرآن يوجه الحس توجيها صريحا لرؤية الجمال فى الكون والإحساس به ، لا فى الورود والأزهار والجبال والوديان فحسب ، بل فى الأنعام كذلك ، التى هى مظنة الفائدة وحدها .
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)} [سورة النحل 16/5-6]
{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [سورة الأنعام 6/99]
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} [سورة النمل 27/60]
ولكن رؤية هذا الجمال والتفاعل معه والانفعال به تحدث به فى النفس السوية توجها إلى الله بالعبادة لأنه هو خالق هذا الكون الجميل ومسخره للإنسان ، وخالق هذه الحاسة الجمالية فى تركيب الإنسان ليستمتع بهذا الجمال .
أما النكسة العلمانية فى الحس الأوروبى المنسلخ من الدين فقد ذهبت فى طريق آخر مخالف ، فجعلت من هذا الحس الجمالى وثنية كاملة تعبد الطبيعة بدلا من عبادة الله . وقد وردت كلمة الوثنية بالذات ورودا مكررا فى شعر الرومانسيين كأنما هو أمر مقصود !(12/22)
بل إن الرومانسية فى الحقيقة هى التى يسرت للحس الأوروبى الانزلاق إلى تلك المغالطة المكشوفة التى جعلت الطبيعة إلها بدلا من الله ، حتى سرت هذه المغالطة إلى " العلماء " أنفسهم فتعاملوا معها كأنها حقيقة واقعة .. بل صاروا فى النهاية يقبلونها - وحدها - على أنها هى العلم ، ويرفضون الحقيقة الأصلية وهى كون الله هو الخالق ، ويعتبرونها إفسادا لروح البحث العلمى !
ثم ذوت الرومانسية بعد فترة من الوقت وحلت محلها الواقعية رد فعل لها ، إذ كانت الرومانسية مغرقة فى الخيال المغرب فجاءت الواقعية لترد الناس وترد الفن إلى الواقع ..
ولكن أى واقع هو الذى ارتد إليه الفن وارتد إليه الناس ؟!
إنه الواقع الصغير .. الهابط .. المنسلخ من الدين .. من القيم .. من الأخلاق !
ففى الفترة التى استغرقتها الرومانسية وارتدت بعدها إلى الواقع كان الناس قد ساروا خطوات على خط العلمانية المنسلخة من الدين فهبطوا ، فجاءت الواقعية لترصد واقعهم حيث هم .. ثم تقول هذا هو الواقع البشرى !
فأما كون هذا هو الواقع الذى كان عليه الناس وقتئذ فهذا حق لا شك فيه ، وأما أن هذا الواقع البشرى على إطلاقه فأمر يكذبه التاريخ . تكذبه فترات الهدى فى حياة البشرية ، التى ارتفع الناس فيها إلى قمم تبدو - فى هذا الواقع المنحرف - كأنها خيالات ، ولكنها كانت واقعا عاشه الناس بالفعل ، وينبغى أن يحاولوا على الدوام أن يعودوا إلى ذلك المستوى السامق أو يعودوا إلى قريب منه . وليس المطلوب من الفن الواقعى أن يدارى على هبوط الناس ولا أن يصورهم فى صورة غير واقعية من أجل إرضاء المثل العليا ! كلا فالفن المزور لا يستطيع أن يعيش . ولكن هناك فرقا بين تصوير الواقع على أنه واقع نعم ، ولكنه منحرف عن الأصل الذى كان ينبغى أن يكون عليه ، وبين تصويره على أنه هو الواقع الإنسانى الذى لا يمكن تعديله أو لا ينبغى تعديله أو لا يعنينا تعديله ! كلاهما تصوير للواقع . وكلن أحدهما يصور الواقع المنحرف بروح الإنكار ، ويدعو إلى الارتفاع عنه ، والآخر يعطيه شرعية الوجود فتكون النتيجة الحتمية - دائما - مزيدا من الهبوط !
نموذج الواقعية الهادفة هو سورة يوسف فى القرآن الكريم :
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [سورة يوسف 12/23-24]
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)} [سورة يوسف 12/31-32]
ولكن هذه ليست اللقطة الأخيرة .. إنما اللقطة الأخيرة هى الأوبة والتوبة والترفع والارتفاع :
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [سورة يوسف 12/51-53]
ونموذج الواقعية الهابطة هو الأدب الذى يدعى الواقعية وهو فى الواقع يدعو إلى الهبوط ! وهبه صادقا فى ادعاء الواقعية فلماذا يصر على التقاط اللحظات الهابطة وحدها ويتجنب لحظات الارتفاع ؟! ثم لماذا لا يسمى الهبوط باسمه الحقيقى وهو الهبوط ؟!
ثم .. تبعثرت الاتجاهات الفنية فى الفترة الأخيرة .. ولكنها حافظت على طابع واحد .. هو الهبوط !
من السريالية إلى الوجودية إلى اللامعقول .. إلى أدب الجنس المكشوف ..
أما السريالية فقد تتبعت التلحيل النفسى الذى أنشأه فرويد وقال فيه إن حقيقة النفس الإنسانية ليست فى النفس الواعية التى تتعامل مع الواقع الخارجى ، إنما هى فى العقل الباطن الذى لا ترتيب فيه ولا منطق ! فحاولت فى نماذج أقرب إلى الخبل منها إلى العقل أن تبرز " حقيقة النفس الإنسانية " ! فلم تصنع شيئا فى الحقيقة إلا بعثرة هذه النفس إلى قطع متناثرة لا دلالة لها ولا معنى ولا طعم .(12/23)
وأما اللامعقول فقد كان هروبا من " المعقول " هروبا من العقلانية التى طغت على الفكر والحياة الأوروبية ، ومحاولة للقول بأن الحياة ليست معقولة .. ليس لها هدف ..ليس لها نظام .. ليس لها منطق .. ليس لها غاية .. إنما تحدث فيها الأحداث لمجرد الحدوث ! وحين تحدث فإنه يكون لها ثقل " الواقع " . ولكن حدوثها وعدم حدوثها سيان ! وحدوثها على هذه الصورة وحدوثها على صورة أخرى سيان ! لأن كل الصور تتساوى فى عدم المعقولية وفى الافتقار إلى معنى واضح وغاية واضحة .
ولقد كان هذا تعبيرا باطنيا حقيقيا عن أن الحياة فقدت معناها وفقدت غايتها حين فقدت الخيط الذى ينظمها جميعا وينظمها ويفسر غايتها ويفسر أحداثها ، وهو الدين .. ولكن الجاهلية لا تدرك ذلك ، وتأخذ الأمر على أنه مجرد فن ! أو إن أدركت فإنها تدرك أن الحياة البشرية أصبحت فى حاجة إلى " فلسفة " جديدة تعطيها معنى وتعطيها غاية ، بشرط ألا تكون هذه " الفلسفة " مستمدة من الدين !!
وأما الوجودية فهى أخبث من ذلك لكه .. ولا تنس أن سارتر - " الكاتب الإنسانى الغظيم " - يهودى من أم يهودية .
تقول وجودية سارتر إن الكون والحياة لا هدف لها ولا غاية .. ولا عدل فيها ولا حق . إنما كله ضلال وعبث . وإن الوجود الإنسانى ضياع كله ، ومن المستحيل أن يحقق الإنسان فيه وجوده !
وإلى هنا نستطيع أن نقول إن هذا أيضا تعبير باطنى صادق عن فقدان الحياة معناها وهدفها حين تفقد العنصر الذى يوجد الترابط بن أجزائها ويعطى أحداثها تفسيرها ومعناها وهو الدين .
ولكن وجودية سارتر لا تقف عند تسجيل الضياع والعبثية وفقدان المعنى والغاية .. ولكنها تقدم حلا للمشكلة ! وياله من حل !
الحل أن يعيش كل إنسان وحده ، وأن يحقق وجوده بأن يفعل م يرى هو أنه حق وأنه واجب وأنه حسن !
فى مسرحيته " الجحيم هو الآخرون " يرسم الجحيم فى نفس إنسان - إذا كان إنسانا ! - يتعذب من أول المسرحية إلى آخرها من جود آخرين لا يكفون عن الوجود من حوله ، ويفرضون عليه أن يكونوا موجودين معه ، فيمنعونه أن يكون نفسه .. أن يحس بذاتيته .. أن يفعل ما يمليه عليه هواه الشخصى . فيظل ساكنا ساكتا يتعذب . يتطلع إلى اللحظة التى يذهب فيها عنه " الآخرون " لينطلق بوجوده الذاتى ، ليحقق ذاته .. وكلنهم لا ينصرفون .. فيظل هو فى الجحيم !
أما أدب الجنس المكشوف - إن كان يسمى " أدبا " - فو واضح من أن يحتاج إلى تعليق !
وفى تاريخ البشرية كله ط آداب " تعالج الجنس بقصد الإثارة ، أو تعبر عن تجارب هابطة لإنسان شهوان .. ولكنها كانت تأخذ فى عالم الأدب مكانا منزويا ، يتستر بها صاحبها فى الظلام ، ويسقط عمن يتعاطونها رداء التوقير والاحترام ، ويقبل عليها ط المراهقون " من أى عمر كانوا ، فليست المراهقة فترة معينة من عمر الإنسان كما هى فى اصطلاح علم النفس ، إنما هى حالة نفسية غير مستقرة وغير متزنة يمكن أن يصاب بها الفتى فى إبان طيشه ، ويمكن أن يصاب بها ابن السبعين .. فتخف أحلامه ويذهب وقاره وتذهب عنه قدرته على الحكم المتزن على الأشياء ..
ولكن الجديد الذى أحدثه " التطور " العلمانى هو إعطاء " الشرعية " لهذا الهبوط الحيوانى ، وكشفه فى النور ، وإعطاؤه صفة " الفن " ، ووضع منتجيه فى قائمة المشاهير ، بل فى قائمة العظماء من الفنانين ! وينشغل النقد الأدبى والنقد الفنى بتتبع آثارهم وكشف جوانب العظمة الفنية فيهم .. بل يتبجح نقاد فيبحثون لهم عن عظات " نفسية " فى وسط الماخور الكبير الذى يعيش فيه هؤلاء وهؤلاء من نقاد و" فنانين "
لقد سقط " الإنسان " كله إلى السراديب ، وقرر المقام هناك ، وأضاء الأنوار على قاذوراتها وعرضها على أنها " البضاعة الحاضرة " ! ولم تعد سرا يستخفى منه .لم تعد قذارة تستنكر .ز لم تعد شيئا يتقزز منه الناس .
أرأيت إلى دودة الأرض اللاصقة بالطين ؟! إنها تستروح أنسام المستنقع الآسن الذى تعيش فيه ، وترى أنه بالنسبة لها هو الوضع الطبيعى .. هو الأصل الذى ينبغى أن تعيش فيه !
أرأيت لو أنك أردت أن ترفعها من الطين وتنظفها ؟
إنها تستنكر وترفض .. وتتفلت من بين أصابعك لتزداد لصوقا بالطين !
وهكذا لم يعد أدب الجنس المكشوف قذارة يترفع عنها الفن . إنما صار هو الفن الذى يتفنن فيه الكتاب ، يعرضون مفاتنه - أو بالأحرى مباذله - فى تفصيل دقيق مكشوف ، ويعرضونه على أنه قاعدة الحياة أو قمة الحياة !
هل هى عدوى " فرويد " فى عالم الفن ؟
لاشك أن فرويد مسئول عن البداية التى ابتدأ بها هذا الفن الهابط . وقد كانت البداية هى قصة " عشيق ليدى تشاترلى Lady Chatte r ly's Love r للقصاص الإنجليزى د . هـ . لورنس D. H. Law r ence المتتلمذ على فرويد ، والذى يعتبر هو نفسه " حالة فرويدية " . تلك القصة التى صودرت وصودرت وصودرت .. ثم أبيحت مع حذف الجزء الشديد الإفحاش منها . ثم أبيحت مع جزء منه .. ثم أبيحت كاملة كما هى .. عارية من كل حياء .. وطبع منها ملايين !
ولكن فرويد وحده لا يكفى لتفسير كل ذلك الهبوط ..
إنه الانسلاخ من الدين ، الذى يسمى " العلمانية " !(12/24)
ففرويد لم يكن يتصور - وإن تمنى - أن تأتى يوم تعرض فيه العملية الجنسية على المسرح بوصفها جزءا من مسرحية " فنية " ! ثم ينقلها التليفزيون على شاشته ليراها الأولاد والبنات فى البيوت !
وذلك إلى آلاف وآلاف من المسرحيات والقصص والأفلام والأغانى والصور والصحف والمجلات ، لا تعرض شيئا إلا الجنس ، ولا تعرضه إلى وضع الحيوان .
تلك هى العلمانية فى مجالات الحياة المختلفة .. فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والعم والأخلاق والفن .. ولك نشاط يمكن أن يصدر عن " الإنسان " إن كان قد بقى له بعد ذلك كله مكان فى عالم " الإنسان "!
وتقول العلمانية - الغربية على الأقل - إنها لا تحارب الدين ! فمن شاء أن يتدين فليتدين ! وانظر حولك تجد متدينين بالفعل لا تتعرض لهم العلمانية من قريب ولا من بعيد !
أرأيت لو أن إنسانا أطلق حولك كل أنواع الجراثيم الموجودة فى الأرض ، فى الهواء الذى تتنفسه . فى الماء الذى تشربه . فى الطعام الذى تأكله . فى الوجود الذى تلمسه . ثم قال لك إن أردت أن تظل سليما معافى فكن كما شئت ، فنحن لا نتعرض لك ! كم يكون قوله مسخرة المساخر ، وكم يكون مغالطة مكشوفة ؟!
وذلك فضلا عن أنه فى عرف نفسه لا يعتبر ما يطلقه من حولك جراثيم .. بل يعتبرك أنت الجرثومة التى يخشى منها على كيانه ، والتى لم يستطع أن يقضى عليها قضاء كاملا فتركها وهو يتمنى - من الشيطان - أن تزول !
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [سورة النساء 4/89]
إن الدين - حتى بمعناه الغربى المشوه - لم يعد له مكان فى العلمانية المعاصرة .
فإذا كان قد أخرج من عالم الاقتصاد ومن عالم الاجتماع ومن عالم العلم ومن عالم الأخلاق ومن عالم الفن .. فماذا بقى له من واقع الحياة وماذا بقى له من النفس الإنسانية ؟!
بقيت له ساعة فى الكنيسة من يوم الأحد من كل أسبوع عند أفراد من الناس !
نعم .. ولكن ما الدين حتى بالنسبة لهؤلاء ؟
هل له واقع فى حياتهم ؟
هل يمنح قلوبهم الطمأنينة اللازمة لحياة الإنسان .. الطمأنينة التى تتنع التمزق النفسى وتمنع القلق والاضطراب ؟
هل يمنح وجودهم معنى يحميهم من الإحساس بالضياع ؟
هل يمنحهم تصورا للكون والحياة والإنسان غير التصور المادى الذى تقدمه العلمانية الجاهلية ؟
لو سألت أولئك الخارجين من سماع الموعظة يوم الأحد عن رأيهم الدينى فى التعاملات الاقتصادية الربوية اتى تقوم عليها حياتهم فهل تجد عند أحد منهم تحريما لها أو استنكارا لقيامها ؟ أم يقول لك قائلهم : هذه مسألة اقتصادية .. ما علاقة الدين بالاقتصاد ؟!
ولو سألت أحدا منهم : ما رأيك فى كذب الساسة بعضهم على بعض فى السياسة الدولية ، وعلى شعوبهم فى السياسة الداخلية ؟ ومت رأيك فى الالتزام الحزبى الذى يلزم صاحبه بالمعارضة أو التأييد حسب وضع حزبه من السلطة ؟ وما رأيك فيما تكتبه الصحافة السياسية بقصد التشويش على الحقائق لا بقصد إظهار الحق ؟ أل يقول لك على الفور إن هذه مسائل سياسية .. ولا دخل للدين بالسياسة ؟!
ولو سألت الفتاة وصديقها الخارجين من " الصلاة " ما قولكما فى العلاقة القائمة بينكما ؟ ألسي الدين يحرمها ؟ ألا يقولان لك إن الدين مسألة اعتقادية ولا علاقة له بالعلاقات الاجتماعية ؟! إن لم يقولا لك - كما يقول الكثيرون والكثيرات - إن الجنس مسألة بيولوجية بحتة لا علاقة لها بالدين ولا علاقة لها بالأخلاق ؟!
كلا ! ما يزيد " الدين " فى ظل العلمانية على أن يكون مجرد وجدانات حائرة لا تلبث أن تتبدد وتضيع فى الدوامة العاتية المعادية لكل ما يأتى من عند الله !
- - - - - - - - - - - - -
العلمانية والإسلام
إذا صحت دعوى العلمانيين فى الغرب بالنسبة للدين الكنسى أنهم يتعايشون معه ويتعايش معهم دون تدخل من أحدهما فى شؤون الأخر - وهى كما رأينا ليست صحيحة فى الحقيقة- فإنها بالنسبة للإسلام لا تصح على الإطلاق !
لقد كان الدين الكنسى منذ اللحظة الأولى دينا يهتم بالآخرة ويدير ظهره للحياة الدنيا ، نتيجة ما دخل فيه من تحريف فصل الشريعة فيه عن العقيدة ، وجعله عقيدة صرفا إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية .. ومع ذلك فقد كان العمل من أجل الآخرة يلقى أثره على الحياة الدنيا ، قصد الناس أم لم يقصدوا ، ووعوا ذلك فى إدراكهم أم لم يعوه ، فكان ذلك الدين - رغم التحريف الضخم فى كل جوانبه - يعطى أثارا واقعية فى حياة الناس وسلوكهم ، وتصوراتهم ومشاعرهم ، وهى التى جاءت العلمانية لتزحزحها من مكانها رويدا رويدا حتى أجلتها إجلاء كاملا ، فلم يعد للدين عند الأكثرية العظمى من الناس فى الجاهلية المعاصرة مكان على الإطلاق ، وبقى عند الأقلية " المتدينة " مجرد مشاعر ووجدانات ، وعلى الأكثر بعض " العبادات " ولكن هذه وتلك لا تحكم شيئا فى واقع الحياة . وبهذا وحده - أى بمسخ الدين على هذه الصورة المزرية - أصبحت العلمانية تتعايش - على مضض ! - مع الدين ! وقد كان هذا مسخا بالنسبة للدين الكنسى ذاته ، الذى شوهته الكنيسة حتى قطعت صلته بالأصل السماوى .. فكيف يكون الأمر بالنسبة لدين الله الحق ؟!(12/25)
إن الدين احق لا يمكن ابتداء أن يكون عقيدة مفصولة عن الشريعة .. فالالتزام بالشريعة - فى دين الله الحق - هو مقتضى العقيدة ذاتها . مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. بحيث لا تكون الشهادة صحيحة وقائمة إن لم تؤد عند صاحبها هذا المعنى ، وهو الالتزام بما جاء من عند الله ، والتحاكم إلى شريعة الله ، ورفض التحاكم إلى أى شريعة سوى شريعة الله .
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)} [سورة النساء 4/65]
يقول ابن تيمية فى كتاب الإيمان (ص 33 من طبعة دار الطباعة المحمدية بالقاهرة) :
" والمقصود هنا أن كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والطهارة والحج وغير ذلك فإنما يكون لترك واجب فى ذلك المسمى .. ومن هذا قوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل ذلك على أن هذه الغاية فرض على الناس فمن تركها كان من أهل الوعيد " .
لقد نزل هذا الدين ليعطى التصور الصحيح لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، وليقيم فى عالم البشر واقعا محكوما بهذا التصور ، منبثقا عنه ، مرتبطا به ، متناسقا معه فى كلياته وجزئياته ، ولا يتصادم معه ولا ينحرف عنه .
فالله الخالق البارئ المصور ، الرازق المحيى المميت ، المدبر اللطيف الخبير ، عالم الغيب والشهادة .. بكل أسمائه وصفاته الواردة فى كتابه المنزل ، هو المتفرد بالألوهية والربوبية ، وهو المستحق للعبادة وحده بغير شريك ..
وكل ما فى الكون وكل من فى الكون غيره سبحانه هم خلقه وعباده .. واجبهم عبادته وحده بغير شريك .
والإنسان واحد من خلقه .. متميز .. نعم .. مكرم نعم .. ذو وعى وإدراك وإرادة وفاعلية .. نعم . ولكنه مخلوق من مخلوقات الله ، واجبه ككل خلقه الآخرين محصور فى عبادة الخالق وحده بغير شريك .
ولقد كرمه الله بالوعى والإدراك والإرادة والفاعلية ، وأعطاه قدرا من الحرية فى تصرفاته الإرادية يملك به أن يسير فى طريق الطاعة وأن يسير فى رطيق العصيان .. ولكنه لا يرضى من عباده إلا أن يعبدوه :
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [سورة الزمر 39/7]
والذى يقرر العبادة المفروضة على كل كائن من الكائنات هو خالق الكائنات جميعا ، الذى خلقها وحده بغير شريك ، ومن تفرده بالخلق ينشأ انفراده بالحاكمية :
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54]
وبحق الحاكمية الناشئ من التفرد بالخلق أمر الإنسان أن يعبده وحده ويخلص العبادة له :
{إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة يوسف 12/40]
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر 39/3]
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11)} [سورة الزمر 39/11]
وإخلاص العبادة يقتضى الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، ويقتضى توجيه الشعائر التعبدية له وحده ، ويقتضى كذلك التصديق بكل ما جاء من عنده على لسان رسول صلى الله عليه وسلم ، والاحتكام إلى شريعته وحدها دون الشرائع الجاهلية التى يصنعها البشر من عند أنفسهم دون سلطان من الله والإخلال بأى واحدة من هذه الثلاثة يوقع الإنسان فى الشرك ويخرجه من دائرة الإيمان :
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النحل 16/35]
كما قالوا : {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [سورة ص 38/5]
فهذه هى الثلاثة التى أوقعتهم - أساسا - فى الشرك : توجيه الشعائر التعبدية لغير الله ، والتحليل والتحريم من دون الله ، والاعتقاد بوجود آلهة مع اله ..
وكلها مجتمعة شرك ، وكل واحدة بمفردها شرك لا يستقيم معه إيمان ..
والمعاصى تقع من البشر جميعا : كل بنى آدم خطاء " (1)"
ولكنها لا تخرجهم من الإيمان باتفاق علماء الأمة ..
إلا أن يجعلوها شرعا فعندئذ يكفرون بها . بل هم يكفرون بالتشريع ولو لم يرتكبوا المعصية بأنفسهم .. فالذى يقول - بلسانه أو بفعله - إن الله أمر بقطع يد السارق ولكنى أرى أن العقوبة المناسبة للسارق هى السجن - وهو ما تفعله العلمانية الجاهلية - فقد كفر بذلك وإن لم يسرق بنفسه ولم يفكر فى السرقة .
__________
(1) " " رواه أحمد .(12/26)
والذى يقول - بلسانه أو بفعله - إن الله أمر برجم الزانى المحصن وجلد الزانى غير المحصن ، ولكنى أرى أنه لا عقوبة على الزنا إذا كان برضى الطرفين البالغين الراشدين (أى لم تكن الفتاة قاصرا) ولم تقع شكوى من أحد الزوجين ؛ فإن كان هناك اغتصاب أو اشتكى أحد الزوجين فالعقوبة هى السجن - وهو ما تفعله العلمانية الجاهلية - فقد كفر بذلك وإن لم يرتكب الفاحشة بنفسه ولم يفكر فى ارتكابها ..
وكذلك كل شرع من شرع الله ..
من اعتقد بأفضلية غيره عليه ، أو حتي مساواته معه ، فعدل عنه إلي غيره ، أورضي بغيره ولم يجاهده بيده أو بلسانه أو بقلبه فقد خرج من دائرة الإيمان ، وأن صلي وزعم أنه مسلم !
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51)} [سورة النور 24/47-51]
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [سورة النساء 4/65]
" إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون . فمن كرة فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع "
" فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن . ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن . ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن . وليس وراء ذلك من الإيمان حبه خردل "
فإذا كان هذا أمر الله ورسوله فأني يقول قائل إن الإسلام يمكن أن يلتقي مع العلمانية التي تقول : لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ؟! أو تقول إن الاقتصاد لا علاقة له بالدين .. أو تفصل بين حكم الدين وبين أي شي في حياة الإنسان ؟!(1)
=================(12/27)
(12/28)
العلمانيّون والإسلام
محمد قطب
مقدمة
يقوم العلمانيون منذ فترة بحملة واسعة ضد تحكيم الشريعة الإسلامية ، وضد الإسلاميين الذين يطالبون بتحكيمها ، ويحشدون جهودهم في ذلك كأنما يدرءون خطراً داهماً يوشك أن يدهمهم ، ويلوّحون في حملتهم بالديمقراطية بديلا من الإسلام ويرددون كثيرا في كلامهم كلمة " التعددية " وكلمة " الآخر " و " الحرية السياسية " و " تداول الحكم " .
ويعجب الإنسان من ذلك حين يعلم أن كثيرا من أولئك العلمانيين كانوا شيوعيين يوم أن كانت الشيوعية ذات سطوة وسلطان . فلما انهارت الشيوعية بالسرعة المذهلة التي انهارت بها ، لبس أولئك العلمانيون ثياب " الديمقراطية " وصاروا ينادون بها كأنهم من دعاتها منذ نعومة أظفارهم ! وقد كانوا في فترة اعتناقهم الشيوعية ينددون بالتعددية الحزبية ويرون فيها الفساد كله . فلما سقطت الشيوعية واحتاجوا إلى تغطية أنفسهم لبسوا ذات الرداء الذي كانوا يلعنونه بالأمس وينددون به !
ويعجب الإنسان كذلك حين يراهم يعارضون تطبيق الشريعة بدعوى أن تطبيقها لا يتيح الحرية للأمة لكي تمارس " حقوقها السياسية " ولا يتيح " للمعارضة " أن تعبر عن مواقفها ، ولا يحترم " الآخر " .. بينما كانوا بالأمس من أشد أعوان الحكم العسكري الذي يكتم أنفاس الأمة ، ويسحق المعارضة سحقاً لا هوادة فيه ، ويفرض رأيه على الأمة فرضاً على طريقة الفرعون الذي كان يقول : ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (2) ويجعل فكرة " تداول الحكم " جريمة منكرة لا تخطر إلا في بال الخونة المارقين ! ويملأ السجون والمعتقلات بألوف من الرجال والنساء والشباب والشيوخ ، ويعذبهم بما لامثيل له في التاريخ كله إلا في محاكم التفتيش !
وربما يزول العجب - أو بعضه على الأقل - إذا أدرك الإنسان أن الذي يحرك العلمانيين أساساً هو كراهيتهم للشريعة الإسلامية ونفورهم من تطبيقها . ومن ثم يتخذون مواقفهم في الموقع الذي يهاجم الإسلام والإسلاميين ، بصرف النظر عن طبيعة ذلك الموقع وحقيقة أفكاره .. ولا يجدون في أنفسهم حرجا أن يغيروا مواقعهم من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ، ما داموا في هذا الموقع أو ذاك يدخلون في زمرة قومٍ أعداءٍ للإسلام والإسلاميين ، ويشاركونهم في مهاجمة الإسلام والإسلاميين !
__________
(1) أنظر تفصيلا لهذه القضية في كتاب ، مفاهيم ينبغي أن تصحح
(2) سورة غافر [ 29 ] .
ولكنا نضرب صفحاً عن هذا كله ، وندخل مع العلمانيين في حوار هادئ جهد الطاقة ، نريده أن يكون علمياً بحتاً وموضوعياً بحتاً ، وأن نصل منه معاً إلى حقائق علمية وموضوعية تكشف الغبش الذي غشّى على كثير من الندوات التي قامت في الفترة الأخيرة بين العلمانيين والإسلاميين ، ولم تصل إلى شيء في النهاية ، لأنها كانت أقرب إلى الصراع الفكري منها إلى البحث الموضوعي ، وكان الوقت المخصص لكل متكلم دقائق معدودة لا تتسع لبحث حقيقي ، وقصارها أن تعرض وجهة نظر سريعة في جزئية من جزئيات الموضوع .
وسنفترض من أجل هذا الحوار الهادئ جهد الطاقة أن الناس جميعا مخلصون ، وأنهم يريدون الحق ويسعون إلى الخير على الرغم من اختلاف وجهات نظرهم ، ثم نبحث معاً بحثا موضوعيا في الدليل الذي يهدي إلى الصواب ، فإذا وجدناه التزمنا به ، ولم نحِدْ عنه ، متمثلين في هذا الحوار بالأدب الذي وجه الله نبي صلى الله عليه وسلم أن يتبعه مع مخالفيه ، مع ثقته عليه الصلاة والسلام أنه على الحق ، إذ وجهه أن يقول لهم : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (1) ومتمثلين قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ (2) وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (3) .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، واهدنا بفضلك ورحمتك إلى سواء السبيل .
محمد قطب
أوربا وتجربتها مع الدين
كانت تجربة أوربا مع " الدين " تجربة بئيسة إلى أقصى حد ..
كان الدين بالنسبة إليها ظلاما وجهلا واستبداداً وغلظة وانصرافاً عن عمارة الأرض ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ .. ) (4) .
ووقر في حس أوربا من خلال تجربتها الخاصة أن هذا هو " الدين " ..
ولذلك نفرت منه ، ثم هاجمته وأبعدته عن واقع الحياة ، وحبسته في نطاق ضيق في ضمائر الناس ، إن بقي للناس ضمائر بعد أن أبعدوا عن الدين !
وأوربا في هذا معذورة من ناحية ، ولكنها - من ناحية أخرى - غير معذورة .(12/29)
معذورة في النفور من " ذلك الدين " والسعي إلى تقليص نفوذه ونزع سلطانه وحبسه في أضيق نطاق ممكن ... بل نبذه والخروج عليه جهرة .. ولكنها غير معذورة في أن يكون هذا موقفها من " الدين " بعامة ، الصحيح منه وغير الصحيح !
لم تعرف أوربا دين الله الحقيقي الذي أنزل على عيسى ابن مريم عليه السلام ، إنما عرفت صورة محرفة منه ، هي التي أذاعها بولس " رسول الأمم " ، ونشرها في ربوع الأرض ، وبخاصة في أوربا .
يقول المؤرخ البريطاني " ويلز " :
__________
(1) سورة سبأ [ 24 ] .
(2) أي حين اختلف الناس ولم يعودوا أمة واحدة على الحق كما كانوا في مبدإ الأمر .
(3) سورة البقرة [ 213 ] .
(4) سورة الحديد [ 27 ] .
" وظهر للوقت معلم آخر عظيم ، يعده كثير من الثقاة العصريين المؤسس الحقيقي للمسيحية (1) ، وهو شاول الطرسوسي أو بولس .. والراجح أنه كان يهودي المولد ، وإن كان بعض الكتاب اليهود ينكرون ذلك (2) ، ولا مراء في أنه تعلم على أساتذة من اليهود ، بيد أنه كان متبحراً في لاهوتيات الإسكندرية الهيلينية .. وهو متأثر بطرائق التعبير الفلسفي للمدارس الهلنستية (3) ، وبأساليب الرواقيين (4) ، كان صاحب نظرية دينية ومعلماً يعلم الناس قبل أن يسمع بيسوع الناصري بزمن طويل .. ومن الراجح جدا أنه تأثر بالمثرائية ، (5) إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المثرائية . ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنباً إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعا بفكرة لا تظهر قط بارزة قوية فيما نقل عن يسوع من أقوال وتعليم ، ألا وهي فكرة الشخص الضحية الذي يقدم قربانا لله ، كفارة عن الخطيئة (6) . فما بشر به يسوع كان ميلادا جديدا للروح الإنسانية . أما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة ، ديانة الكاهن والمذبح ، وسفك الدماء لاسترضاء الإله " (7) .
ويقول أيضا :
" وفي أثناء ذلك الأمد غير المحدد كان يحدث فيما يبدو قدر جسيم من ضرب بعينه من الثيوكرازيا ( أي التداخل والمزج بين الآلهة والعقائد المختلفة ) بين النحلة المسيحية والعقيدة المثرائية التي تكاد تضارعها في سعة انتشارها بين سواد الشعب ، ونحلة سيرابيس إيزيس حورس ..
.. على أن ما أسهمت به نحلة الإسكندرية في الفكر المسيحي والطقوس المسيحية كان أعظم قدرا أو يكاد .. إذ كان طبيعيا أن يجد المسيحيون في شخصية حورس ( الذي كان ابنا لسيرابيس وهو سيرابيس في نفس الوقت ) شبيها مرشداً لهم فيما يبذلون من جهود عنيفة لتفهم ما خلفه لهم القديس بولس من خفايا .. " (8) .
وتتضح من شهادة " ويلز " عدة أمور :
أن الدين الذي نشره بولس ليس هو الدين الذي جاء به المسيح عليه السلام .
أن بولس قد مزج الدين الذي جاء به المسيح عليه السلام بالوثنيات القائمة يومئذ وخاصة الميثرائية التي أتى بها من فارس والهلنستية التي جاء بها من الإغريق والتثليت الذي جاء به من الديانة المصرية القديمة .
أن أهم ما كان في الدين الذي جاء به المسيح هو " الميلاد الجديد للإنسان " وهذه سمة الرسالات السماوية جميعا ، التي تتنزل لتخليص البشر من أوهامهم الوثنية وانحرافاتهم ، وتقدم العقيدة الصحيحة لهم ، فتمنحهم ميلاداً جديداً ينعتقون فيه من أغلال الوهم ، وعبودية بعضهم لبعض ، ويرتفعون به إلى الوضع اللائق بهم : عباداً لله وحده ، متحررين من كل عبودية زائفة لغير الله .. وأن هذا " الميلاد الجديد للإنسان " هو الذي طمسته ديانة بولس ، فأعادت الناس إلى " الديانة القديمة " ديانة الكاهن والمذبح .. أي الديانات الوثنية التي كانت قائمة قبل الميلاد الجديد ..
ويقول برنتن :
" إن المسيحية الظافرة في مجمع نيقية - وهي العقيدة الرسمية في أعظم إمبراطورية في العالم - مخالفة كل المخالفة لمسيحية المسيحيين في الجليل (9) . ولو أن المرء اعتبر العهد الجديد التعبير النهائي عن العقيدة المسيحية لخرج من ذلك قطعاً لا بأن مسيحية القرن الرابع (10) تختلف عن المسيحية الأولى فحسب ، بل بأن مسيحية القرن الرابع لم تكن مسيحية بتاتاً " (11) .
وهي شهادة واضحة لا تحتاج إلى تعليق .
ويقول رينان الفيلسوف الفرنسي :
__________
(1) أي للدين الذي عرفته أوربا .
(2) كما ينكر بعض الكتاب اليهود شخصية عبد الله بن سبأ الموازية في عملها لشخصية بولس ، فهذا دخل النصرانية ليفسدها من داخلها ، وذاك دخل الإسلام ليحاول إفساده من الداخل .
(3) مدارس الفلسفة الإغريقية وخاصة مدرسة الإسكندرية .
(4) مدرسة فلسفية أسسها الفيلسوف زينون مبنية على الزهد في متاع الحياة الدنيا وعدم المبالاة بلذائذ الحس وآلامه .
(5) ديانة فارسية قديمة ( عبادة مثرا إله النور )
(6) أي القربان البشري .
(7) كتاب " معالم تاريخ الإنسانية " ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد ، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة ، ج 3 . ص 705.
(8) المرجع السابق : ج 3 ص 708 - ص 709 .
(9) أي المسيحية الأولى المنزلة من عند الله كما جاء في كلام الكاتب في السطور التالية .
(10) أي المسيحية التي عرفتها أوربا واعتنقتها .(12/30)
(11) أفكار ورجال تأليف جرين برنتن ترجمة محمود محمود ص 207 من الترجمة العربية .
" إنه ينبغي لفهم تعليم يسوع المسيح الحقيقي كما كان يفهمه هو أن نبحث في تلك التفاسير والشروح الكاذبة التي شوهت وجه التعليم المسيحي حتى أخفته عن الأبصار تحت طبقة كثيفة من الظلام . ويرجع بحثنا إلى أيام بولس الذي لم يفهم تعليم المسيح بل حمله على محمل آخر ، ثم مزجه بكثير من تقاليد الفريسيين وتعاليم العهدالقديم (1) . وبولس كما لا يخفى كان رسولا للأمم ، أو رسول الجدال والمنازعات الدينية وكان يميل إلى المظاهر الخارجية الدينية كالختان وغيره ، فأدخل أمياله هذه على الدين المسيحي فأفسده . ومن عهد بولس ظهر التلمود المعروف بتعاليم الكنائس . وأما تعليم المسيح الأصلي الحقيقي فخسر صفته الإلهية الكمالية ... وإن أولئك الشراح والمفسرين يدعون المسيح إلها دون أن يقيموا على ذلك الحجة ، ويستندون في دعواهم على أقوال وردت في خمسة أسفار .. مع أن تلك الأقوال لا تدل أقل دلالة على أن المسيح هو الله " (2) .
ويتضح من شهادة رينان :
أن بولس كان المفسد الأول والأكبر لتعاليم المسيح عليه السلام .
أنه ألقى على الدين الجديد من عند نفسه ما لم يكن في الدين المنزل من عند الله .
أنه بعمل بولس وغيره من الشراح والمفسرين فقد الدين المنزل من عند الله صفته الإلهية الكمالية .
نعم .. لسنا نحن المسلمين الذين نقول إن الدين الذي اعتنقته أوربا لم يكن دين الله المنزل على عيسى عليه السلام ، إنما يقوله مؤرخهم وكتابهم ، ويقوله كل من يعرف حقائق التاريخ .
ولقد كان مدى التحريف هائلاً جداً في ذلك الدين الذي اعتنقته أوربا وظنت أنه دين الله .
ولم يكن التحريف في مجال العقيدة وحدها - وهو خطير في ذاته - ولكنه وقع في أمر آخر لا يقل خطرا عن العقيدة ، هو فصل العقيدة عن الشريعة ، وتقديم الدين للناس كأنه عقيدة فقط بغير تشريع !
وقد كان لهذا آثار بالغة الخطورة في حياة أوربا .. السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية .. وفي كل اتجاه .
لقد أشار " ويلز " إلى أن الدين قد تحول على يد بولس من بساطته وصفائه الذي جاء به عيسى ابن مريم إلى دين " المذابح والكاهن " الذي كان قائما في الديانات الوثنية السابقة .. وذلك حق .. وهو ذو صلة بالتحريف الذي أحدثه ذلك اليهودي المتنصر الذي دخل النصرانية ليفسدها من الداخل (3) ، كما فعل عبد الله بن سبأ بعد ذلك بعدة قرون حين دخل الإسلام ليحاول إفساده من الداخل ، ولكنه لم ينجح كما نجح شاول من قبل ، لأن الله تكفل بحفظ رسالته الخاتمة ، ببينما وَكَلَ حفظ الرسالات السابقة للبشر فضيعوها :
( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ... ) (4) .
)إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (5) .
وفرق كبير بين حفظ الله واستحفاظ البشر . فالكتاب الذي تكفل الله بحفظه قد بقي كما أنزل بغير تحريف ، فظل قائما ليطبق في واقع الأرض ، وليرجع الناس إليه كلما همّ أحد أن يحدث تغييرا في أصول الدين ، بينما حرفت الكتب الأخرى التي وكل حفظها إلى البشر ، وسهل على أصحاب الأهواء - ومن بينهم ذلك اليهودي المتنصر - أن يحدثوا في دين الله ما ليس فيه ، كما تبين من شهادات الذين استشهدنا بهم آنفا من الكتاب النصارى أنفسهم .
وكما قلنا لم يكن التحريف مقصورا على العقيدة ( تأليه عيسى ، وادعاء بنوته لله سبحانه وتعالى ، وضم إله ثالث إليهما ليصبح الإله ثلاثة في واحد : الأب والابن وروح القدس ) إنما أضيف إليه فصل العقيدة عن الشريعة ، وتقديم الدين للناس عقيدة بلا شريعة ، تحت شعار لا سند له من دين الله المنزل ، قوامه " أدِّ ما لقيصر لقيصر وما لله لله ! " (6).
__________
(1) يرجع رينان ما أدخله بولس من الفساد على دين المسيح عيسى عليه السلام إلى أنه لم يفهم تعاليم المسيح ، ونحن نرجح أن المسألة لم تكن عدم الفهم ، إنما كانت الخلط المتعمد .. ومع ذلك فلو فرضنا جدلا أن المسألة نشأت عن عدم الفهم ، فتبقى الحقيقة قائمة : أن دين بولس ليس هو الدين المنزل من عند الله .
(2) عن محاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبو زهرة ص 215 .
(3) أشرنا إلى شاول وقصة دخوله في النصرانية في كتاب " رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر " ص 76 ويراجع في ذلك كتاب " .محاضرات في النصرانية " لمحمد أبو زهرة .
(4) سورة المائدة [ 44 ] .
(5) سورة الحجر [ 9 ] .
(6) أشرنا إلى هذه المقولة المنسوبة للمسيح في كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " ص 16 ، وقلنا إنه يتعذر توثيق نسبتها إلى المسيح ، وإنها حتى لو ثبتت نسبتها إليه فلا يمكن أن يكون المقصود بها إعطاء قيصر حق التشريع من دون الله ، إنما يقصد بها عدم الدخول في معركة مع القيصر في فترة الاستضعاف .(12/31)
ومن شأن الدين المحرف على هذا النحو أن يتحول علماؤه - أو رجاله - إلى كهنة ، وأن يتحول الكهنة مع الزمن إلى وسطاء بين البشر وبين الله ، فيكون لهم سلطانٌ طاغٍ على أرواح الناس ..
إن لكل دين " رجالا " مهمتهم أن يتفقهوا في الدين ليعلموا الناس أمور دينهم التي لا يستطيعون أن يتعرفوا عليها بأنفسهم ، فيتعلموها على يد أولئك الذين تفقهوا فيها .
وحين يكون الدين عقيدة وشعيرة وشريعة ، وعلما للدنيا والآخرة ، يكون هؤلاء " الرجال " علماء وفقهاء ، ودعاة ومربين ، يربون بالقدوة الطيبة وبالعلم النافع الذي يبصّر الناس بآخرتهم ودنياهم .
أما حين يكون الدين عقيدة فقط بغير شريعة ، وعقيدة محرّفة على هذا النحو الذي لا يستطيع العقل أن يدركه أو يسيغه ، فهنا تنحصر مهمة أولئك " الرجال " في محاولة وصل الناس بربهم عن طريق الجانب الروحاني وحده من ذلك الدين ، دون الجانب الفكري أو العقلاني - لأنه أصلا لا يخضع للعقل - ودون الجانب الفقهي والتعليمي الذي يبصّر الناس بمنهج الحياة الصحيح الذي ينظم لهم جوانب الحياة المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفكرية .. فينقلب أولئك " الرجال " بمقتضى ذلك الحال إلى " كهنة " يحتفظون " بالأسرار " .. الأسرار التي تستعصي على أفهام الناس ، ويصبحون - بمقتضى ذلك الحال أيضا - وسطاء بين العبد والرب ، لأن الطريق بين العبد والرب محفوف بتلك الأسرار العجيبة التي تحتاج إلى وسيط يفسرها للعبد ، وهو سالك طريقه إلى الله ، أو على الأقل يؤنسه في وحشة الطريق الغامض الذي يسلكه إلى الله ، فيطلق له إشعاعة روحية يحاول بها أن يهتدي في منعرجات الطريق !
وهكذا أصبح " رجال الدين " في النصرانية المحرفة " كهنة " كما أشار " ويلز " يقومون بالطقوس التعبدية ، ويحتكرون تفسير الوحي ، فأصبح لهم نفوذ هائل على أرواح الناس .. وكانت تلك هي نقطة البداية الخطيرة التي أدت إلى الطغيان الهائل الذي مارسته الكنيسة ورجال الدين ..
إن " الكنيسة " ذاتها بدعة مبتدعة لم يتنزل بها سلطان من عند الله .
ففي الديانة اليهودية التي نزلت لبني إسرائيل قسّم الرب الإله - كما تروي التوراة - مهام أسباط بني إسرائيل ، فعهد إلى اللاويين - أبناء لاوى بن يعقوب - بمهمة تطبيق الشريعة ، لا بوصفهم " كنيسة " ولكن بوصفهم قضاة يحكمون بين الناس بما أنزل الله في التوراة ( بصرف النظر عما أحدثوه من تحريف في تشريعات التوراة ذاتها ) وكان هذا أشبه بتنظيم إداري ، لا يجعل للاويين قداسة خاصة دون بقية بني إسرائيل .
ثم أرسل عيسى عليه السلام لبني إسرائيل مصدقا لما بين يديه من التوراة وليحل لهم بعض الذي كان قد حرم عليهم بسبب كفرهم ، كما جاء على لسانه في القرآن الكريم :
( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) (1).
فكان المفروض أن يجري الأمر في عهد عيسى عليه السلام على ذات النسق الذي جرى به على عهد موسى عليه السلام ، مع التعديلات التي وردت في التشريع . أما الكنيسة التي ابتدعتها النصرانية المحرفة فلا أصل لها في دين الله ولا سند .. إلا ذلك السند المزيف المنسوب إلى المسيح : " أنت بطرس . وعلى هذه الصخرة ابن كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها . وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات ، فكل ما تربطه في الأرض يكون مربوطا في السموات ، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات !! " (2) .
إنها قولة لا تصدر عن نبي ! فعيسى نفسه - عليه السلام - لا يملك أن يربط شيئا أو يحله في الأرض إلا بإذن ربه ، وليس له أن يحل أو يحرم إلا بإذن الله :
( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) (3) .
( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (4) .
فإذا كان هذا هو حال المسيح نفسه - عليه السلام - فكيف يمنح هذا الحق الذي لا يملكه لنفسه - فيعطيه لبطرس أو غيره من البشر ، وهو حق الله الخالص الذي لا يشاركه فيه أحد على الإطلاق ؟
__________
(1) سورة آل عمران [ 49 - 50 ] .
(2) إنجيل متى ، الإصحاح السادس عشر ، [ 19 - 20 ] .
(3) سورة النساء [ 172 ] .
(4) سورة المائدة [ 17 ] .(12/32)
ولكن الكنيسة نشأت واستمدت سلطانها الزائف من تلك الأسطورة المنسوبة للمسيح ، وأصبحت هي ذاتها إحدى تحريفات ذلك الدين !
ثم إن الكنيسة لم تكتف بسلطانها الروحي على قلوب الناس ، الذي يفهم من شعارها ذاته الذي رفعته منسوبا إلى المسيح : " أدّ ما لقيصر لقيصر وما لله لله " .. إنما كان ذلك في وقت استضعافها في القرون الثلاثة الأولى ، حيث كان النصارى مضطهدين في عهد القياصرة الوثنيين الذين كانوا يحكمون الإمبراطورية الرومانية ويشتدون في اضطهاد النصارى وتعذيبهم ومطاردتهم حتى سكنوا الأديرة فراراً بدينهم من الاضطهاد الواقع عليهم ، الذي كان يصل أحيانا إلى حد إلقائهم إلى الأسود الجائعة لتفتك بهم أحياءً ، أو تعليقهم أحياءً على الصلبان حتى الموت ، وهي الطريقة التي كان الرومان يستخدمونها لتنفيذ أحكام الإعدام !
ولكن الكنيسة استأسدت بعد ذلك في القرن الرابع حين دخل قسطنطين في النصرانية لأهداف سياسية كما يقول المؤرخون ، ومكن للكنيسة ورجالها ، بعد أن أفلح في مزج دينها بأساطير الوثنية ، وأرضى بذلك النصارى والوثنيين معا ، وأمَّن سلطانه على الإمبراطورية التي كان النزاع الديني قد أوشك على القضاء عليها !
يقول درابر الأمريكي في كتاب " الدين والعلم "
" ودخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة ومناصب عالية في الدولة الرومية بتظاهرهم بالنصرانية ، ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين ولم يخلصوا له يوما من الأيام .. وكذلك كان قسطنطين .. فقد قضى عمره في الظلم والفجور ، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره ..
" وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا ، والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئا ، رأى لمصلحته الشخصية ، ولمصلحة الحزبين المتنافسين - النصراني والوثني - أن يوحدهما ويؤلف بينهما ، حتى إن النصارى الراسخين أيضا لم ينكروا عليه هذه الخطة ! ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة ! وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها ! " (1) .
وحين أصبح للكنيسة سلطان سياسي إلى جانب السلطان الروحي بدأ الطغيان !
إن الطغيان طبع بشري لا يحتاج أن نبحث له عن أسباب :
( كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى َنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) (2) .
إنما يمنع الناس من الطغيان شيء واحد من داخل نفوسهم ، هو تقوى الله . أو شيء واحد من خارج نفوسهم هو الخوف من قوة أخرى مكافئة لقوتهم أو زائدة عليها ! ولم يروا أحد من المؤرخين أن ضمائر " رجال الدين " كانت فوق مستوى الشبهات ، بل رووا أن كثيرا منهم كانوا على عكس ذلك ، فلما ملكوا السلطان السياسي فما الذي كان يمنعهم من الطغيان وهم يملكون من قبل ذلك السلطان الهائل على وجدان الناس ؟!
فرضوا سلطانهم على الأباطرة .. وأصدر البابا " نقولا الأول " بيانا قال فيه :
" إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها . وإن أساقفة روما قد ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل . ولذلك فإن البابا - ممثل الله على ظهر الأرض - يجب أن تكون له السيادة والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين " (3) .
وفرضوا لأنفسهم عشور أموال الناس ، فضلا عن تشغيل الناس سخرة في حقول الكنيسة التي سرعان ما أصبحت في ظل وضعها الجديد من ذوات الإقطاع ، وفضلا عن الإتاوات المفروضة على الأغنياء ، والوصايا المأخوذة بسيف الحياء حين يستدعى " الكاهن " لكتابة الوصية قبل الموت !
__________
(1) نقلا عن كتاب " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " للسيد أبي الحسن الندوى " .
(2) سورة العلق [ 6 - 7 ] .
(3) قصة الحضارة لول ديورانت ترجمة عبد العزيز جاويد ، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة ، ج 14 ص 352 .(12/33)
ثم فرضوا سلطاناً فكرياً رهيباً يحجر على العقول أن تفكر إلا بإذن الكنيسة ، وفي الحدود التي تسمح بها الكنيسة ! وقد كان هذا بالنسبة للكنيسة ضرورة لازمة منطقية مع التحريف الذي حدث في ذلك الدين ! فالإله الواحد الذي أصبح ثلاثة ، والثلاثة الذين هم في ذات الوقت واحد .. والعشاء الرباني الذي تتحول فيه كسرة الخبز إلى جسد المسيح ، وجرعة الخمر التي تغمس فيها كسرة الخبز إلى دم المسيح وتتجدد به الصلة بين العبد والرب حين يأكل الإنسان جسد المسيح ويشرب من دمه ! وكرسي الاعتراف الذي يصعد منه غفران " الكاهن " للذنوب إلى " الرب " فيعتمده في عليائه ، وصك الغفران الذي يكتبه الكاهن في الأرض فيدخل به الإنسان الجنة في الآخرة بغير حساب .. إلى عشرات من أمثال تلك " الأسرار ! " التي هي في حقيقتها أساطير .. كلها أمور لا يستطيع " العقل " أن يدركها ولا أن يتدبرها .. فماذا لو أعمل الناس عقولهم ، فاكتشفت عقولهم أن كل ما يقال لهم باسم " العقيدة " كلام لا يثبت للتمحيص ؟! ماذا يبقى للكنيسة عندئذ من سلطان على الناس ؟! الحل الأمثل لهذه الحال إذن أن تحجر الكنيسة على العقل ، وأن يعتبر التفكير هرطقة تفضي إلى إهدار الدم في الدنيا ، والحرمان من الغفران في الآخرة !
ثم لما بدأت العلوم تتسرب إلى أوربا من العالم الإسلامي عن طريق الترجمة ، وتحدث ما يمكن أن نسميه " غزوا فكرياً إسلامياً " خاصة بعد هزيمة النصرانية أمام المسلمين في الحروب الصليبية (1) .. جن جنون الكنيسة ففرضت حجرا على " العلم " وأهدرت دم كل من يقول - يومئذ - بكروية الأرض ، أو أنها ليست مركز الكون ، وهو العلم الذي نقله علماء النصارى الأوائل من مؤلفات العلماء المسلمين ! (2) .
ثم لما زاد تشكك النصارى في سلامة العقيدة التي تلزمهم بها الكنيسة ، وتحجر عليهم التفكير في شأنها تحت شعار : " آمن ولا تناقش " ، وزاد تمرد " المفكرين الأحرار " (3) على سلطان الكنيسة الطاغي ، ابتدعت الكنيسة آخر ما رمت به الناس من فنون الاضطهاد ، وهو محاكم التفتيش ، بكل بشاعاتها التي تقشعر لها الأبدان .
يقول " ويلز " :
" شهد القرن الثالث عشر تطور منظمة جديدة في الكنيسة هي محكمة التفتيش البابوية ... وبهذه الأداة نصبت الكنيسة نفسها لمهاجمة الضمير الإنساني بالنار والعذاب .. وقبل القرن الثالث عشر لم تنزل عقوبة الإعدام إلا نادرا بالملاحدة والكفار . فأما الآن فإن كبار رجال الكنيسة كانوا يقفون في مائة ساحة من ساحات الأسواق في أوربا ليراقبوا أجسام أعدائها - وهم في غالبية الأمر قوم فقراء لا وزن لهم - تحترق بالنار وتخمد أنفاسهم بحالة محزنة . وتحترق وتخمد معهم في نفس الحين الرسالة العظمى لرجال الكنيسة إلى البشرية ، فتصبح رمادا تذروه الرياح " (4) .
لم يكن ذلك كل ما فعلته الكنيسة في تنفير الناس من ذلك الدين ..
فقد انقلب الدين على يد الكنيسة إلى عامل معوّق عن الحياة ، مضاد للعلم والحضارة والتقدم والرقي ، محقّر للإنسان ونزعاته الحيوية ، مهملٍ للحياة الدنيا بوهم العمل على خلاص الروح ، والتهيؤ لملكوت الله في الآخرة .
ينسب للمسيح عليه السلام أنه قال : " إذا أعثرتك عينك فاقلعها وألقها عنك فإنه خير لك أن يهلك منك عضو واحد من أن يلقى بدنك كله في النار "
وأنه قال : " من أراد الملكوت فليترك ماله وأهله وليتبعني " .
وأنه قال : " من أراد الملكوت فليحمل صليبه وليتبعني " (5) .
وكلها دعوة للزهد في الحياة الدنيا والارتفاع عن الشهوات ..
وكلها لا يستبعد أن تصدر عن رسول من رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم ، فضلا عن الرسول الذي أرسل إلى اليهود خاصة الذين كان حب الحياة الدنيا قد أعماهم عن الآخرة ، وحب المال وعبادة الذهب قد أديا بهم إلى الكفر بالله .
ومثل هذه الدعوة تجدها في آيات الكتاب المبين ، وفي أحاديث الرسول صلى الله عيه وسلم :
__________
(1) لا يعطَى هذا الأمر - وهو هزيمة النصارى النهائية في الحروب الصليبية - حقه من البحث فيما يكتبه المؤرخون حتى المسلمون منهم - لأننا في الغالب نرجع إلى المراجع الأوربية ، وهم يكرهون أن يذكروا الحقائق المتعلقة بهزيمتهم ، ومن بينها أن هذه الهزيمة قد هيأت نفوسهم لنقل الحضارة والعلوم الإسلامية والتأثر بها ، وأن هذا كان بدء " النهضة الأوربية " !
(2) كان علماء المسلمين قد اهتدوا إلى هذه الحقائق منذ القرن الثالث الهجري - التاسع الميلادي - ولكن أوربا لم تتعرف عليها إلا بعد حركة الترجمة ابتداء من القرن الثاني عشر وما تلاه .
(3) كلمة F r ee Thinke r s لا تعني " المفكر الحر " بالمعنى الذي يتبادر إلى أذهاننا حين نقرأ هذه الكلمة ، ولكنها مرادفة للإلحاد .
(4) ويلز ، معالم تاريخ الإنسانية ، ج 3 ، ص 908 - 909 .
(5) بمعنى فليوطن نفسه على ملاقاة الموت ، فقد كانت طريقة الرومان في تنفيذ أحكام الإعدام هي التعليق على الصليب .. وليس المعنى حمل صليب من ذهب أو فضة كما يفعل بعض النصارى !!(12/34)
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (1) .
( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) (3) .
( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (4) .
" ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه . بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه . " (5)
" إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم .. " (6) .
ولكن المسلمين لم يفهموا من ذلك أنها دعوة لإهمال الحياة الدنيا من أجل الفوز بالآخرة ، ولا دعوة لكبت نشاط الجسد الحيوي من أجل خلاص الروح .. ذلك أن تعليمات الكتاب والسنة منعت ذلك الفهم الجانح :
( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (7) .
( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا .. ) (8) .
( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا .. ) (9) .
" ألا إني لأعبدكم لله وأخشاكم له ، ولكني أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " (10) .
" .. وإن في بضع أحدكم لأجرا . قالوا : يا رسول الله إن أحدنا ليأتي شهوته ثم يكون له أجر ؟! قال : أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فإذ وضعها في حلال فله عليها أجر " (11) .
لذلك لم تنقلب الدعوة إلى الزهد في متاع الأرض إلى رهبانية منعزلة عن الحياة كالتي ابتدعها النصارى :
( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (12) .
إنما كانت توازنا جميلا رائعا بين مطالب الجسد ومطالب الروح ، وبين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة .
كذلك لم يدر في خلد المسلمين قط أن الدين يدعوهم إلى قبول الظلم في الحياة الدنيا ، والرضى به طمعا في الفوز بالفردوس في الآخرة ، كما زعمت الكنيسة وهي تعبّد الشعوب الأوربية للإقطاع ، وتحضها على الاستكانة له وعدم التمرد عليه ، بدعوى أن " من خدم سيدين في الدنيا خير ممن خدم سيداً واحداً ! " .. ذلك أن الله حرم الاستكانة للظلم على من يقدرون على دفعه وأمر بالجهاد لإزالته :
( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) (13) .
( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) (14) .
ومهما يكن من أمر ٍ فقد تحول الدين النصراني على يد الكنيسة وآبائها ومفكريها إلى أغلال تفسد الحياة وتقعد بها عن النمو السويّ ، وتحولها إلى مستنقع آسن لا ينبض بالحياة ولا يسمح للحياة أن تنبض فيه .
__________
(1) سورة آل عمران [ 185 ] .
(2) سورة التوبة [ 24 ] .
(3) سورة " المنافقون " [ 9 ] .
(4) سورة التغابن [ 15 ] .
(5) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
(6) متفق عليه .
(7) سورة الأعراف [ 32 ] .
(8) سورة القصص [ 77 ] .
(9) سورة هود [ 61 ] .
(10) أخرجه الشيخان .
(11) أخرجه مسلم .
(12) سورة الحديد [ 27 ] .
(13) سورة النساء [ 97 - 99 ] .
(14) سورة النساء [ 75 ] .(12/35)
دين يهمل الحياة الدنيا بدعوى تفاهتها وحقارتها وعدم جدارتها بالاهتمام ، وبدعوى أن الإنسان خاطئ بطبعه ، ولا سبيل إلى إصلاحه في الحياة الدنيا وكفه عن الخطيئة إلا بكفه عن ممارسة الحياة ذاتها - بالرهبانية - وتوجيه اهتمامه كله للآخرة ، والإيمان " بالمخلّص " ، لأن هذا وحده - لا العمل الصالح في الدنيا - هو سبيل الخلاص والجلوس عن يمين الرب في جنة الفردوس في اليوم الآخر .
دين يحتقر الجسد ويشمئز من نشاطه الفطري ، لأن هذا النشاط هو الذي يوقع الناس في الخطيئة ، وما دفع إلى الخطيئة فهو ذاته خطيئة ! وعلاجه الوحيد هو الكبت والقهر (1) .
دين يحقّر الإنسان ليمجد الرب .. كأنما لا يتحقق تمجيد الرب إلا بتحقير الإنسان ... وذلك بدعوى ان الإنسان إذا اتجه لتحقيق وجوده تمرد على الرب ، فلا بد من سحقه وإذلاله وتحقيره لكي يتمجد الرب في قلبه ، فيحصل على الخلاص ! (2) .
دين يصرف الناس عن عمارة الأرض ، وعن ترقية الحياة وتنميتها ، بدعوى أن ذلك سيصرف الناس عن التوجه إلى الآخرة ، وسيحرك شهواتهم التي لا بد أن تكبت ، ومن ثم يوقعهم في الخطيئة الواقفة للإنسان بالمرصاد !
دين يحارب العلم ، بسبب جهل البابوات ورجال الدين ، وعدم اهتمام غالبيتهم بتثقيف أنفسهم ، واكتفائهم بسلطانهم الروحي على الجماهير ، وانكبابهم على " الكتاب المقدس " بكل ما فيه من تحريف ، على اعتبار أنه يحوي كل العلم المطلوب للإنسان في دنياه من أجل الخلاص في الآخرة !
دين لا يؤمن بالحركة النامية لأنه يؤمن بالثبات المطلق في كل شيء ، ويعتبر أي تغيير في الصورة خروجاً على الأصل الثابت الذي ينبغي أن تكون عليه الأشياء ، لأنها وجدت على هذه الصورة بإرادة الله ، فينبغي أن تبقى كذلك تمجيداً لإرادة الله ، وزجرا للإنسان - في تفاهته وحقارته - أن يتمرد على إرادة الله !
دين يحجر على العقل أن يفكر ، بدعوى أنه حين يفكر يزيغ ! ولا سبيل إلى منعه عن الزيغ إلا بمنعه عن التفكير ! ويكفي الأمة أن ينوب عنها الآباء ( البابوات ) في كل شيء . هم يفكرون لها ، وهم يفسرون لها ، وهم يعطونها الإجابة الصحيحة عن كل ما يخطر لها ، لا بعلم حقيقي ، ولكن بأنهم نواب بطرس وخلفاؤه ، وبطرس مفوض من الرب - أي عيسى ابن مريم عليه السلام في زعمهم ، ونستغفر الله من الشرك - وما يربطه في الأرض لا يحل في السماء ، وما يحله في الأرض لا يربط في السماء ! فهم بهذه الخلافة يتحدثون باسم الرب ، وكلامهم له صفة القداسة بذلك التفويض الإلهي ، وهم كذلك معصومون لأنهم خلفاء خليفة الرب .. فلا بد أن يكون قولهم هو الصواب !
دين لا يشعر الناس في ظله بالأمن .. فهم مهددون في داخل أنفسهم بالشعور الدائم بالخطيئة أو الخوف من الوقوع فيها ، ومهددون من خارج أنفسهم بسلطان الكنيسة الطاغي التي لا تكتفي - في محاسبتها للناس ورقابتها عليهم - بما يظهر منهم بالفعل ، بل بما يحتمل أن يظهر منهم في يوم من الأيام .. فتبدأ بسوء الظن ، وتثنىّ بالملاحقة المستمرة برغبة مسبقة أن تعثر على ما يدين الناس ويوقعهم تحت طائلة العقاب .. ويا له من عقاب ذلك الذي تقوم به محاكم التفتيش !
ليس العجب أن تنفر أوربا من ذلك الدين وتتمرد عليه ..
إنما كان العجب أنها صبرت عليه كل تلك القرون التي صارت - فيما بعد تمردها - تسميها " القرون الوسطى المظلمة " !
ولكن الواقع التاريخي يقول إنها لم تبدأ تمردها على ذلك الدين إلا بعد احتكاكها بالمسلمين ، وبصفة خاصة بعد هزيمتها في الحروب الصليبية ..
عنئذ بدأت أوربا تحس بمقدار الظلام الذي عاشت فيه كل تلك القرون ، وبدات تتوق للخلاص الحقيقي من أوهاق الكنيسة وطغيانها ، وبدأت تهفو إلى الإسلام بتأثير " الغزو الفكري الإسلامي " الوافد إلى أوربا من الشرق والغرب والجنوب ، مع حركة الترجمة بصفة خاصة ..
وهنا جن جنون الكنيسة - كما ألمحنا من قبل - وقامت تحارب التأثير الإسلامي بكل الوسائل ، وكان من بين تلك الوسائل تكليف الكنيسة لكتابها ومفكريها أن يشوهوا صورة الإسلام والمسلمين في عيون الأوربيين لينفروهم من الدخول في الإسلام ، وتوجيه أقبح الشتائم لرسول ا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، ونفي الرسالة والوحي عنه ، وتصوير الإسلام بأنه دين شهواني فظ غليظ عدواني سفاك للدماء .. كما كان من بين تلك الوسائل أيضا محاكم التفتيش !
وحينئذ وقعت أوربا في المأزق الذي تعاني آثاره حتى اليوم ، حين نفرت من دينها المحرف ، ومن الحكومة " الثيوقراطية " - حكومة رجال الدين - وأوصد الباب أمامها في الوقت ذاته إلى الدين الصحيح ..
__________
(1) الكبت شيء والامتناع الإرادي شيء آخر ( انظر إن شئت كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام ص 73 - 91 ) فالكبت هو استقذار الدافع الغريزي في ذاته وعدم الاعتراف له بشرعية الوجود ، سواء مارسه الإنسان في الواقع أم لم يمارسه . أما الامتناع الإرادي فلا يلزم منه الاستقذار .
(2) لاحظ حرص الرهبانية والصوفية كلتيهما على إذلال كيان الإنسان لتخليصه من الإحساس بذاته لكي يَخْلُصَ لله !(12/36)
وكانت " العلمانية " ، بما تشتمل عليه من إبعادٍ للدين عن الهيمنة على واقع الحياة ، وعزله عن النفوذ السياسي بصفة خاصة ، وتقرير حق الإلحاد ، والمنافحة عنه ، وحق مهاجمة الدين ومفاهيمه لمن أراد ذلك .. كانت العلمانية - بهذه الصفات - هي سبيل الخلاص - في نظر أوربا - من ربقة ذلك الدين ، الذي يمثل في حسها الظلام والأغلال التي تسحق وجود الإنسان !
الدين الحق
إذا كانت تجربة أوربا مع دينها هي تلك التجربة البئيسة التي انتهت بها إلى العلمانية فإن دين الله ليس كذلك . لم يكن كذلك حين أنزل من عند الله ، ولم يكن كذلك في التطبيق العملي في الواقع التاريخي .
يقول تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ ) (1) .
هو إسلام الوجه لله ، وعبادته وحده دون شريك ، واتخاذ أوامره وتعليماته منهجا للحياة .
وهذا الوصف لدين الله ليس خاصا برسالة معينة من الرسالات السماوية ، بل هو وصف لكل رسالة أنزلت من عند الله من لدن آدم ونوح إلى صلى الله عليه وسلم ، ولكنه أشد ما يكون انطباقا على الرسالة الخاتمة التي أنزلت على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، والتي تمت بها النعمة الربانية واكتمل الدين :
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (2) .
( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ .. ) (3) .
كل رسالة جاءت من عند الله كانت عقيدة وشعيرة وشريعة ومنهج حياة (4) .
فأما العقيدة فلم تتغير على مدى الرسالات كلها ، وليس من شأنها أن تتغير . لا إله إلا الله . اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .
وأما الشعائر من صلاة وصيام وزكاة فلم تتغير في عمومها ، وإن اختلفت تفصيلاتها وهيئاتها من رسالة إلى رسالة عبر التاريخ .
وأما الشرائع فقد اختلفت اختلافا واسعا بحسب أحوال الأقوام الذين أرسل إليهم الرسل واحتياجاتهم ، حتى جاءت الشريعة المكتملة مع الرسالة الأخيرة ، التي نزلت للبشرية كافة ، وللزمن المقبل كله من لدن بعثة صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، واكتمل معها منهج الحياة الذي يريد الله سبحانه وتعالى أن تسير عليه البشرية إلى يوم القيامة .
ولحكمةٍ أرسل الله الرسل ، وأنزل معهم البينات :
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (5) .
تلك هي حكمة إرسال الرسل إلى البشرية .. " ليقوم الناس بالقسط " . وأداة تحقيق القسط في واقع الناس هي الكتاب والميزان ؛ والرسولل هو المبلغ والمبيّن والشارح والمعلم والقدوة الذي يعلم الناس كيف يقيمون حياتهم بالقسط :
( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (6) .
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (7) .
ومن رحمة الله بعباده أنه لم يتركهم بلا هداية لكي لا يضلوا ، ويطغى بعضهم على بعض فيختل الميزان ويضيع القسط .
والخلل في حياة الناس يمكن أن يأتي من داخل النفس أو من خارجها .
فأما من داخل النفس فقد اقتضت مشيئة الله - وقد خلق الإنسان ليعبده ، وخلقه ليبتليه - أن يجعل مادة الابتلاء - بمعنى الاختبار - هي متاع الحياة الدنيا ، والشهوات المربكة في كيان الإنسان تجاه ذلك المتاع :
( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (8) .
( إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) (9) .
( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) (10) .
والابتلاء الذي يتعرض له الإنسان بشأن متاع الحياة الدنيا هو الأسلوب الذي يتناول به ذلك المتاع ، والقدر الذي يتناوله منه ، والحدود التي يقف عندها أو يصل إليها . بعبارة أخرى هل يلتزم في تناوله لذلك المتاع بما أنزل الله ، فيلتزم بالحلال الذي أحله الله والذي يعلم أن الخير متحقق به ، ويمتنع عن الحرام الذي حرمه الله ، ويعلم سبحانه أن الشر متحقق فيه ، أم تجرفه شهواته فيتجاوز حدود الله ويقع في المحظور .. ؟
__________
(1) سورة آل عمران [ 19 ] .
(2) سورة المائدة [ 3 ] .
(3) سورة الصف [ 9 ] .
(4) انظر إن شئت كتاب " لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة " .
(5) سورة الحديد [ 25 ] .
(6) سورة النحل [ 44 ] .
(7) سورة الأحزاب [ 21 ] .
(8) سورة الذاريات [ 56 ] .
(9) سورة الإنسان [ 2 ] .
(10) سورة آل عمران [ 14 ] .(12/37)
أما من خارج النفس فهناك غواية الشيطان الذي أخذ على عاتقه غواية بني آدم ليعصوا الله ويتجاوزوا حدوده :
( قالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (1) .
والأداة التي يستخدمها الشيطان في الغواية هي ذلك المتاع ، وما ركب في كيان الإنسان تجاهه من شهوات ، فينفخ فيها لتشتعل ، ليصعب على الإنسان الضبط فينجرف وراء الشهوات .
والابتلاء الذي يتعرض له الإنسان من قبل الشيطان هو ذات الابتلاء : هل يطيع الله ويلتزم بما أنزله من حلال وحرام ، وله على ذلك الجنة ، أم يطيع الشيطان الذي يؤزه لمعصية الله ، وجزاؤه على ذلك النار ؟!
( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ (2) إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (3) .
تلك قصة الإنسان على الأرض .. وذلك مصيره يوم يلقى الله ... ابتلاء في الحياة الدنيا ، وجزاء في الآخرة .
ولكن الله لم يترك بادئ ذي بدء الأداة التي تعينه على ضبط ما ركب في كيانه من شهوات :
( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (4) .
ثم أرسل له الرسل لإيقاظ تلك الأفئدة لكي لا تغفل عن مهمتها ، وجعلهم مبشرين ومنذرين ليقوموا بعملية التذكير :
( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (5) .
)وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (6) .
وبذلك تتلاقى الجوانب كلها ، ويرتبط بعضها ببعض ارتباطا محكما ، ويختار الإنسان طريقه على بينة من أمره ، ويتحمل مسئولية اختياره :
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (7) .
( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (8) .
وتتضح في ذلك الإطار مهمة الرسل في حياة البشرية ، ومهمة الدين في حياة الإنسان ..
لا غنى للإنسان عن الدين ..
فإذا كان الإنسان قد خلق لعبادة الله ، فالدين هو الذي يبين له الطريق الصحيح لعبادة الله ، وإذا كان قد خلق في الوقت ذاته للابتلاء فالدين هو الذي يبين له الطريق الصحيح للنجاح في الابتلاء .
ثم إن الإنسان عابد بفطرته ، سواء استقامت فطرته على الأصل الذي فطرها الله عليه أم انحرفت لسبب من الأسباب :
( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) (9) .
" إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين .. " (10) .
ومن ثم فليس له في العبادة إلا إحدى حالتين : إما أن يكون عابدا لله ، وإما أن يكون عابداً لغير الله ، وحين يكون عابداً لغير الله فإنه يكون عابداً للشيطان ، ذلك أنه لا توجد إلا هاتان العبادتان فحسب ، وإن كانت لعبادة الشيطان سبل مختلفة وأسماء مختلفة ، ورايات مختلفة ، ولعبادة الله صراط واحد مستقيم :
( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) (11) .
وحين يعبد الإنسان الله يكون " في أحسن تقويم " وحين يعبد الشيطان يكون في " أسفل سافلين " ، ومهمة الدين في حياة الإنسان أن يرفعه دائما ليكون في أحسن تقويم ، ويمنعه أن يسقط أسفل سافلين ..
إذا عرفنا مهمة الدين في حياة الإنسان فلزم أن نعرف في الوقت ذاته ما هو " الدين "!
وقد يبدو السؤال من البداهة بحيث لا يحتاج أن نسأله ولا يحتاج أن نجيب عليه !
ومع ذلك فتحديد معنى الدين قد أصبح - بسبب العلمانية المنتشرة في الأرض ولأسباب أخرى - قضية ذات أبعاد خطيرة .. قضية تعقد من أجلها الندوات ، وتؤلف الكتب ، وتلقى المحاضرات .. ويدخل قوم من أجلها السجون ، وتعلق المشانق ويستشهد الشهداء !
لا جرم أنها القضية الكبرى في الوجود ...
من أسباب الغبش الذي يغشّي قضية الدين تلك الغربة التي يعيش فيها الإسلام اليوم :
" بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء " (12) .
__________
(1) سورة الأعراف [ 14 - 17 ] .
(2) العبادة هنا معناها الطاعة والاتباع .
(3) سورة يس [ 60 - 61 ] .
(4) سورة النحل [ 78 ] .
(5) سورة النساء [ 165 ] .
(6) سورة الذاريات [ 55 ] .
(7) سورة الشمس [ 7 - 10 ] .
(8) سورة الزلزلة [ 7 - 8 ] .
(9) سورة الأعراف [ 172 ] .
(10) أخرجه مسلم .
(11) سورة الأنعام [ 153 ] .
(12) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي .(12/38)
ومن أسبابها ثقل " الأمر الواقع " على حس الناس ، وهو أمر واقع بعيد عن الصورة الحقيقية للإسلام .
ومن أسبابها بروز المعنى الذي فهمته أوربا من الدين - بسبب غلبة أوربا اليوم على الأرض - ومفاده أن الدين علاقة بين العبد والرب ، محله القلب ولا شأن له بواقع الحياة ! على أساس أن الدين لله والآخرة ، والواقع " لقيصر " يصرّفه كيف يشاء !
فإذا أضيفت إلى ذلك الفكرُ العلمانيُ (1) الذي يسود الأرض اليوم ، والذي يفصل الدين عن السياسة ، ويعزله عن الهيمنة على أمور الناس " الحياتية " فقد وصل الغبش إلى قمته ، وأصبح الأمر في حاجة إلى البيان الشديد !
مرجعنا في أمور الحياة كلها كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم :
( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (2).
( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (3) .
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (4) .
فإذا رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، فكلمة الإسلام العظمى هي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله . ومعناها عبادة الله وحده دون شريك ، والالتزام بما جاء من عند الله عن طريق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم
فما مقتضيات هذه الكلمة العظيمة التي يدخل الإنسان بها في الإسلام ؟
إن لها مقتضيات شتى نستخلصها كلها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وربما كأن أيسر طريق إلى ذلك أن نعرف بأي شيء كان المشركون مشركين ، لنعلم - في المقابل - كيف يصبح المسلمون مسلمين ، تحقيقا لقوله تعالى ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا ) (5) .
نجد في كتاب الله هذه الأحوال والصفات للمشركين :
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (6) .
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (7) .
( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) (8) .
ثم جاء وصفهم في آيات أخرى بأنهم " يبخلون بما آتاهم الله من فضله " و " ينفقون أموالهم رئاء الناس " وأنهم هلوعون جزعون ، وأنهم مطففون ، وأنهم " ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض " وأنهم يقتلون النفس التي حرم الله ، ويزنون ، وينحرفون في تعاملهم مع الناس انحرافات شتى ..
وخلاصة ذلك أنهم يرفضون الإقرار بوحدانية الله ، وينكرون البعث ، ويكذبون برسالة صلى الله عليه وسلم ، وهي كلها أمور تتعلق بالاعتقاد .
وأنهم يعبدون مع الله آلهة أخرى يتقدمون لها بألوان من العبادة لا تحق لغير الله سبحانه وتعالى .
وأنهم يحرمون ويحلون من دون الله ، أي يشرعون بغير ما أنزل الله .
وتلك الثلاثة : شرك الاعتقاد ، وشرك العبادة ، وشرك الاتباع ( أو شرك التشريع ) هي الجذور الأساسية الكبرى للشرك ..
ثم هناك أخلاقيات وأعمال أخرى نابعة كلها من أحد تلك الأنواع الثلاثة أو منها جميعا ، ويمكن أن نطلق عليها " متعلقات الشرك " ..
ومقتضى ذلك - في المقابل - أن يكون مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هو البراءة من ألوان الشرك جميعا ومن متعلقاته .
__________
(1) يلاحظ أن " العلمانية " بمعنى فصل الدين عن الدولة ، قديمة في الفكر الكنسي الذي قال : " أدّ ما لقيصر لقيصر وما لله لله " ! ولكن الكنيسة في أيام سطوتها فرضت سلطانها على قيصر لا لتلزمه بالحكم بما أنزل الله ، بل لتلزمه بأهوائها . أي إنها فرضت سلطانها هي ولم تفرض سلطان الشريعة . وهذا الذي جاءت العلمانية الحديثة لتقضي عليه ، وهو على وجه التحديد : فصل الدولة عن نفوذ رجال الدين !
(2) سورة الشورى [ 10 ] .
(3) سورة الحشر [ 7 ] .
(4) سورة النساء [ 64 ] .
(5) سورة البقرة [ 256 ] .
(6) سورة ص [ 1 - 5 ] .
(7) سورة سبأ [ 7 - 8 ] .
(8) سورة النحل [ 35 ] .(12/39)
أي إنه - بعبارة أخرى - الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، وتفرده - سبحانه - في أسمائه وصفاته وأفعاله . وتوجيه كل ألوان العبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج ونذر وذبح واستغاثة واستعانة وولاء وبراء إليه وحده دون شريك . والالتزام بشرعه وحده وعدم التشريع بما يخالف شريعته .. ثم الالتزام بأخلاقيات لا إله إلا الله ، والالتزام بالمنهج الرباني في كل أمور الحياة : السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية .. إلخ (1) .
ومع أن هذا كله هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإنه ليس على درجة واحدة من الإلزام ، وليست مخالفته والخروج عليه بمنزلة واحدة في ميزان الله .
ففي مقابل الجذور الرئيسية الثلاثة للشرك ، توجد جذور رئيسية ثلاثة للإيمان لا يتحقق الإيمان أصلا إلا بوجودها ، وهي ما يتعلق بالاعتقاد ، والعبادة ، والتشريع
1 - " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره " كما جاء في حديث : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " (2) .
2 - أن تلتزم بالعبادات المفروضة وتجعلها خالصة لله وحده دون شريك .
3 - أن تحتكم في أمورك كلها إلى ما أنزل الله ، ولا تحدث تشريعا يخالف شريعة الله .
وفي مقابل " متعلقات الشرك " توجد " متعلقات للإيمان " لا يخرج مخالفها من دائرة الإيمان وإنما ينقص إيمانه بمقدار ما يعصي الله فيها ويزيد إيمانه بقدر ما يأتي من الطاعات فيها ، ولكنه في الحالين غير خارج عن دائرة الإيمان .
ذلك هو الدين الحق ، كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وقد غشّت غواشٍ كثيرة على هذا الفهم الواضح للدين خلال القرون ، من الفكر الإرجائي ، والفكر الصوفي ، والبدع والمعاصي والانحرافات والغزو الفكري فشوهت كثيرا من مفاهيم الدين الاعتقادية والتعبدية والعملية .. (3) .
ثم جاءت " العلمانية " - وهي لون من ألوان الغزو الفكري - فركزت على مطلب معين لم يطلبه أحد من العصاة المنحرفين من قبل ، وهو فصل الدين عن الدولة وإخراج السياسة من الدين ، والمطالبة بعدم تحكيم شريعة الله ! !
وهذا الأمر هو الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب ..
نقول ابتداء إنه لون من ألوان الغزو الفكري ، لأنه فكر غربي لم ينبت قط في أرض الإسلام ، على كثرة ما نبت فيها من انحرافات خلال القرون ! إنما جاء من تأثير الثقافة الغربية ، وغلبة أوربا على العالم كله ، وعلى العالم الإسلامي في عصر ضعفه وانحساره وتخاذله .
ولا شك أن الهزيمة الروحية التي أصابت المسلمين بعد الهزيمة العسكرية أمام الغرب ، والتي نشأت من الخواء الذي أصاب العقيدة في قلوب المسلمين في العهود الأخيرة (4) ، لا شك أن تلك الهزيمة الروحية هي التي يسرت في نفوس المنهزمين تقبل هذا الفكر الغريب الذي لا أصل له في دين الله ، ولا يمكن أن يُتَقَبّلَ في دين الله .. وإلا فقد كان المسلمون - في أيام قوتهم وتمكنهم في الأرض - معتزين بدينهم ، لا يقبلون تغييراً في أصوله ، حتى لو عَصَوْا بعض أوامره وتعاليمه في واقع حياتهم ، فالمعصية مع الإقرار شيء ، وإنكار الأمر من الأساس شيء آخر ..
ونريد هنا على أي حال أن نناقش الأمر مناقشة موضوعية ، كما وعدنا في مقدمة الكتاب ، بصرف النظر عن دوافع العلمانيين أو مواقفهم ، فتلك أمور تتعلق بأشخاصهم ، ونحن هنا نناقش أفكارهم .
كانت " العلمانية " كما رأينا في الفصل السابق رد فعل لطغيان الكنيسة ، وأثرا من آثار التحريف الذي وقع في دين بولس الذي أخذته أوربا على أنه دين الله ..
ولنُعِد في اختصار أبرز سمات ذلك الدين ، التي كانت العلمانية في نظر أوربا هي المخرج الوحيد منها :
دين أخروي يهمل الحياة الدنيا وعمارتها .
دين يحقّر الإنسان بدعوى تمجيد الله .
دين يحقّر الجسد بدعوى تخليص الروح .
دين يحارب العلم .
دين يحجر على العقل أن يفكر .
دين يؤمن بالثبات المطلق - على أنه مشيئة الله في الأرض - فيحارب الحركة والنمو وما يصحبهما من تغيير .
وفوق ذلك كله طغيان الكنيسة الروحي والمالي والسياسي والعلمي والفكري .. وفي كل اتجاه .
ثم لننظر في دين الله ، ولنبحث فيه عن سمة من تلك السمات التي ألجأت أوربا إلى العلمانية لتتخلص منها .
فأما إنه دين أخروي يهمل الحياة الدنيا وعمارتها فالواقع التاريخي خير شاهد على عكس ذلك . فما تم من عمارةٍ للأرض ، وعمل دءوب فيها ، أوضح من أن يشار إليه ، بأي مقياس قسنا تلك العمارة وذلك العمل الدءوب .
فإذا كان مقياس العمارة هو بناء المدن ومد الطرق وتشييد المباني وتيسير الخدمات فما أروع ما قام به المسلمون في هذا الجانب ..
__________
(1) راجع إن شئت فصل " مقتضيات لا إله إلا الله في الرسالة المحمدية " من كتاب " لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة " .
(2) أخرجه الشيخان .
(3) راجع إن شئت كتاب " مفاهيم ينبغي أن تصحح " .
(4) اقرأ إن شئت فصل " خط الانحراف " وفصل " آثار الانحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " .(12/40)
وإذا كان مقياسها " المؤسسات " والتنظيمات وحسن الإدارة والسهر عليها فالمدارس التي تقدم التعليم المجاني ، والمستشفيات التي تقدم العلاج المجاني ، والأوقاف الموقوفة على أعمال البر ، ودواوين الجيش ، ودواوين القضاء ، ودواوين المظالم ، ودواوين الحسبة ، وبيت المال وغيرها من المؤسسات والتنظيمات تغنينا عن الحديث .
وإذا كان مقياسها القيم الروحية والأخلاقية ، فهنا تنفرد العمارة الإسلامية للأرض بأنها هي التي قدمت حضارة لا تكتفي بالعمارة المادية للأرض ، إنما ربطت نشاطها المادي بالقيم الروحية ، فعملت للدنيا والآخرة في آن واحد ، وأرضت مطالب الجسد ومطالب الروح في آن واحد ، وكونت مجتمعاً امّحت فيه فوارق اللون واللغة والجنس ، واجتمع على العقيدة الواحدة التي تربط الجميع برباط الأخوّة في الدين .. مجتمعاً فريداً في التاريخ .
وإذا كان مقياسها إحساس لإنسان بذاته ، واعتزازه بعمله ونشاطه ، وبأنه فرد في أمة ذات رسالة تؤديها لنفسها وللبشرية ، وانسياح الإنسان في الأرض وبحثه في مجاهلها ، وحمله نور الهداية إلى أطرافها .. فقد قامت الأمة الإسلامية بذلك أروع قيام .. وكان نشاطها كله منبثقا من إيمانها بهذا الدين ، وممارستها له في عالم الواقع في شكل سلوك ووجدانات ومشاعر .
وإذا كان مقياسها التقدم العلمي فحدث عن ذلك ولا حرج .. وتكفي حضارة الأندلس شاهدا ، ويكفي المنهج التجريبي في البحث العلمي شاهداً ، وتكفي علوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم الفقه وأصوله .. وكلها جهود ذاتية غير مسبوقة ، تفردت بها الأمة الإسلامية ، وأنتجت فيها في قرون معدودة ما يغطي حقباً من التاريخ !
وأما تحقير الإنسان بدعوى تمجيد الله .. فما من دين عظّم الله ومجده على استقامة في المشاعر وفي السلوك وفي التصور وفي الأداء كما فعل الإسلام ، إذا قارناه بتصورات اليهودية المحرفة التي تصور الله سبحانه وتعالى كأنما هو بشر ذو نزوات ، وكأنما هو - في بعض الأحيان - أعجز من البشر :
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (1) .
( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) (2) .
وذلك فضلا عن ترهات التوراة فيما يتعلق بمقام الله ، مما تتقزز النفس من مجرد تصوره ..
وإذا قارناه كذلك بتصورات النصرانية المحرفة التي زعمت لله ولدا ، وأشركته معه في الألوهية ، بل أشركت كذلك روح القدس ( جبريل عليه السلام ) معهما ليصير المجموع ثلاثة ، والثلاثة واحد .. آمين ! !
ومع كل التعظيم الحق لله ، والتمجيد لذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، فقد كرّم الله الإنسان ، ولم يعتبره خاطئا " خطيئة أزلية " تتحملها كل أجيال البشرية على السواء ! !
قال تعالى ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (3) .
كرمه تعالى بأن سواه بنفسه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة :
( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .
وكرمه بأن جعله خليفة في الأرض :
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (5) .
وكرمه بأن علمه الأسماء كلها ، وميزه بهذا التعلم على الملائكة :
( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ .. ) (6) .
وكرمه بأن أعطاه القدرة على التعلم بالقلم :
( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (7) .
وكرمه بأن وهب له العقل المفكر ، ووكل لهذا العقل تدبر الوحي ، وفهم مراميه وتطبيقه في واقع الحياة ، والاجتهاد فيما لم ينزل فيه نص - رحمة من الله غير نسيان :
( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (8) .
وكرمه بأن خلقه في أحسن صورة ، ورزقه من الطيبات :
( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ .. ) (9) .
__________
(1) سورة المائدة [ 64 ] .
(2) سورة آل عمران [ 181 ] .
(3) سورة الإسراء [ 70 ] .
(4) سورة ص [ 71 - 72 ] .
(5) سورة البقرة [ 30 ] .
(6) سورة البقرة [ 31 - 33 ] .
(7) سورة العلق [ 3- 5 ] .
(8) سورة النحل [ 78 ] .
(9) سورة غافر [ 64 ] .(12/41)
وكرمه بأن لم يقهره على العبادة كغيره من المخلوقات ، بل منحه حرية الاختيار :
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (1) .
ولم يجعل عليه " خطيئة أزلية " يتجرع مرارتها على مر الأجيال ، بل تاب على صاحب الخطيئة الأصلي وعفا عنه :
( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (2) .
فإذا أخطأ أحد فعليه وحده وزر خطيئته لا يحمله غيره :
( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (3) .
وإذا تاب من خطيئته فله كل التكريم :
( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) (4) .
أما تحقير الجسد لتخليص الروح فقد أشرنا في الفصل السابق إشارة عابرة إلى الفارق في هذا الشأن بين الإسلام وبين رهبانية النصرانية .. ونضيف هنا إلى تلك الإشارة أن الإسلام ينظر إلى دوافع الجسد على أنها في ذاتها نظيفة ، وأن الله خلقها لتعمل وتؤدي مهمتها التي خلقت من أجلها لا لتقتل ولا لتكبت . وإنما المستقذر هو الفاحشة .. أي تجاوز الحد الذي رسمه الله لكل دافع من تلك الدوافع . أما في داخل تلك الحدود فهي ليست مباحة فقط ، بل مطلوبة ومرغوبة . والذي تقوم به التربية الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة ليس هو الكبت ، إنما هو الضبط ، وهو عملية صحية وإيجابية ، تقوي الإرادة ، وتحفظ الطاقة من التبدد ، ثم تستخدم فائض الطاقة - الذي يتوفر بعد عملية الضبط - في عمل هو في ميزان الإسلام أسمى الأعمال وأعظمها ، وهو الجهاد لإعلاء كلمة الله ، ورد العدوان عن الإسلام والمسلمين .
وبذلك يأخذ الجسد مجاله الفطري الطبيعي ، دون أن يهبط الإنسان إلى المستوى الحيواني في ممارسة المتاع الحسي ، وفي الوقت ذاته يجند الإنسان نفسه للقيم العليا ، التي تتوارى حتماً حين يغرق الإنسان في المتاع الحسي ، أو تُقْتَل حتما حينما يَقْتُلُ الإنسان دوافعه الفطرية بدعوى تخليص الروح من ربقة الجسد !
وأشرنا فيما سبق من هذا الفصل إشارة عابرة كذلك إلى موقف الإسلام من العلم .. ونضيف هنا أن الإسلام هو الذي دفع المسلمين إلى طلب العلم ، والتعمق فيه ، والبحث الجاد في مجالاته المختلفة .. وأن روح البحث العلمي سواء النظري أو التجريبي ، لم تكن طبيعة في هذه الأمة قبل إسلامها . إنما اكتسبتها الأمة من الإسلام حينما آمنت به ومارسته في عالم الواقع . فقد بدأ الوحي - أول ما بدأ - بالتوجيه إلى القراءة :
( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (5) .
وتوالت الآيات تطلب من المسلمين التفكر والتدبر في ملكوت السموات والأرض وتخبرهم أن الله سخر للإنسان ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ، وأن عليه أن يبذل جهده في التعلم لتحقيق ذلك التسخير في عالم الواقع . وأن القوة مطلب من مطالب هذه الأمة من أجل المحافظة على عقيدتها وكيانها ، ومن أجل منع الفتنة عن المسلمين ، والقوة لا تتأتى بغير العلم .. وقد أثمرت هذه التوجيهات الربانية ظهور المنهج التجريبي في البحث العلمي على يد المسلمين حين كانوا مسلمين حقا ، وبالمنهج التجريبي تقدمت العلوم تقدما هائلا ، ووضعت اللبنات التي يقوم عليها صرح التقدم العلمي في الوقت الحاضر .
وأهم من ذلك كله أن التقدم العلمي عند المسلمين سار على وفاق كامل مع العقيدة ، ولم يقع بينه وبينها ذلك الفصام النكد الذي وقع في أوربا مرتين ، مرة في ظل الدين الكنسي المحرف ، ومرة في ظل العلمانية المنحرفة ، وفي المرتين شَقِيَ الإنسان بذلك الصراع المفتعل بين الدين والعلم ؛ بين نزعتين فطريتين في داخل النفس ، لا تصادم بينهما في أصل الفطرة ولا تضاد !
أما الحجر على العقل فلم يقع قط في ظل هذا الدين كما وقع في دين الكنيسة المحرف . بل كان الدين هو الذي دعا إلى إعمال الفكر من أول الأمر : ( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ) (6)
بل ندد بالذين لا يتفكرون ، وامتدح الذين يقومون بالتفكر :
( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (7) .
__________
(1) سورة الشمس [ 7 - 10 ] .
(2) سورة البقرة [ 37 ] .
(3) سورة الإسراء [ 15 ] .
(4) سورة آل عمران [ 135 - 136 ] .
(5) سورة العلق [ 1 - 5 ] .
(6) سورة سبأ [ 46 ] .
(7) سورة محمد [ 24 ] .(12/42)
( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ) (1) .
( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) (2) .
ولم تكن دعوة القرآن للناس مجرد دعوة إلى التفكر بلا هدف محدد ولا ضابط ، إنما هي دعوة للبحث عن الحقيقة ، والاهتداء في أثناء البحث بالدليل ، والتجرد من الهوى الذي يفسد الحكم ، والشعور بالمسئولية عن كل حكم يصدره الإنسان .. وتلك - في عبارة مختصرة - هي أدوات المنهج العلمي في البحث ، التي قامت عليها النهضة الفكرية الهائلة التي قدمها المسلمون للبشرية ، والتي بدأت أوربا نهضتها بالاقتباس منها والبناء عليها :
( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (3) .
( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ) (4) .
( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (5) .
( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ .. ) (6) .
( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ) (7) .
( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ ) (8) .
وفي ظل هذه التوجيهات أعمل المسلمون فكرهم في كل مجالات البحث ، لا يشعرون بالتناقض بين مقتضيات دينهم ومقتضيات فكرهم - إلا من شذ منهم بتأثير الغزو الفكري اليوناني أو شطحات الصوفية ، وهم قلة على أي حال في خضم الإنتاج الفكري الهائل الذي أنتجه المسلمون - ولم يكن هناك هيئة من " الإكليروس " تراقب أعمالهم لتقدمهم إلى محاكم التفتيش ، إنما كانت هناك ضمائرهم تحاسبهم لكي يقولوا الحق ولا يحيدوا عنه ، وكان " الحق " الذي يمثله دينهم يملأ قلوبهم فيزيدهم قربا من الله كلما اكتشفوا جديداً من العلم ، فكانوا كما قال الله عنهم ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (9) .
أما قضية الثبات والتغير ، فالمسلمون هم أساتذة هذا الفن .. فن الاجتهاد في إطار النص ، والاجتهاد - فيما لا نص فيه - في إطار مقاصد الشريعة ..
إن هذا هو " الفقه الإسلامي " الذي أعطى منذ القرون الأولى تلك الثروة الهائلة التي ما تزال تنير الطريق للسالكين ، والتي تمثل ذخيرة صالحة للاستمداد منها ما بقيت هذه الأمة في الأرض ، بما وضعت - في علم أصول الفقه - من قواعد لمواجهة كل جديد يجد في حياة الناس ..
لقد أدرك المسلمون منذ اللحظة الأولى التي انقطع فيها الوحي بوفاة الرسو صلى الله عليه وسلم ، أنه لا بد من الاجتهاد لمواجهة الظروف الجديدة التي لم يتنزل فيها بذاتها نص في الكتاب أو السنة . فلم يضيقوا بالجديد ، ولم يقفوا أمامه حائرين ، وفي الوقت ذاته لم يتبعوا أهواءهم بغير ضابط ، بحثا عما يرون هم - بمجرد الهوى - أنه هو " المصلحة " التي يتحقق بها الخير . ذلك أنهم آمنوا ابتداء أن دين الله المتمثل في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم هو الحق . وهو القسط . وهو " المصلحة " في الدنيا والآخرة وأن فيه وحده الهدى ، إما بنص مباشر أو بقاعدة يستنبطون منها ، وأن مخالفة نصوصه أو مخالفة قواعده لا تأتي بخير ولا تتحقق منها مصلحة ، مهما بدا للإنسان بنظره - أي بمجرد هواه - أن الأمر غير ذلك .. وأنه لا يحدث في الأرض شيء لا يكون له حكم في كتاب الله .. (10) .
وآمنوا في الوقت ذاته أن الحياة لا يمكن أن تسير على وتيرة واحدة دون أن تجدّ فيها أحداث . وأنهم لا يستطيعون - ولا يستطيع بشر - أن يوقفوا الحياة عند نقطة معينة أو يضبطوها في قالب معين لا تخرج عنه .. ولكن لا ينبغي للتغير في الوقت ذاته أن يخرج الناس عن الصراط الذي رسمه الله لهم في وحيه المنزل .. إنما تتغير الحياة ، وتظل في تغيرها محكومة بثوابت الوحي ، لكي لا تأسن من ناحية ، ولا تضل من ناحية أخرى وتنفلت بلا ضابط .
وهكذا كانت قضية الثابت والمتغير واضحة تماما في أذهانهم ، وكانت هي الدافع الذي دفع الفقهاء إلى الاجتهاد ، وإلى الإيمان بأن الاجتهاد لا يتوقف ما بقيت الحياة .
__________
(1) سورة الفرقان [ 73 ] .
(2) سورة آل عمران [ 190 - 191 ] .
(3) سورة النمل [ 64 ] .
(4) سورة الأنعام [ 148 ] .
(5) سورة الإسراء [ 36 ] .
(6) سورة النجم [ 23 ] .
(7) سورة " المؤمنون " [ 71 ] .
(8) سورة يونس [ 32 ] .
(9) سورة فاطر [ 28 ] .
(10) يقول الشافعي رحمه الله : " فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها " الرسالة للشافعي تحقيق الشيخ أحمد شاكر ص 20 .(12/43)
إذا كان هذا دين الله الحق ، في أصوله المنزلة من عند الله ، المحفوظة بحفظ الله لها ، كما هو في التطبيق الواقعي الذي استمر عدة قرون ، وأضاء للدنيا كلها مسالك الطريق ، قبل أن يتقاعس المسلمون عنه في الفترة الأخيرة ، فينحسروا ويتقهقروا ويتخلفوا ويضعفوا .. فأي شيء في هذا الدين يدعونا إلى نبذه وعزله عن الحياة ، واستبدال غيره به ليخرجنا منه ؟ !
إنما يكون علاج ما نحن فيه من انحسار وتقهقر وتخلف وضعف ، أن نعود إلى منبع القوة الذي تقاعسنا عنه ، وإلى نقطة الانطلاق التي منحتنا من قبل الحياة والتقدم والازدهار .. وهو ما تحاوله الصحوة الإسلامية اليوم ، ونرجو أن تنجح فيه ..
حقاً هناك نقطة واحدة هي التي يتمسك بها العلمانيون في جدالهم كله ، ويركزون عليها ليدّعوا وجاهة دعواهم في فصل الدين عن الدولة ، وهي وجود الاستبداد السياسي على فترات متطاولة من تاريخ المسلمين .
ووجود الاستبداد السياسي على فترات من تاريخ المسلمين حقيقة واقعة دون شك .. ويجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا ، وتكون لدينا الشجاعة الكافية ، والولاء الكافي للحق الرباني لنقرّ بوجود هذه السلبية في الواقع التاريخي للمسلمين . فهذه أمانة تؤدى لله عز وجل :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ .. ) (1) .
حقيقة إن التاريخ السياسي للمسلمين ليس ظلاماً كله كما يدعي أعداء هذا الدين لينفّروا أهله منه ، وليخذّلوا الصحوة الإسلامية عن محاولة العودة إليه .. وإن في هذا التاريخ - فيما بعد فترة الخلافة الراشدة المجمع على مثاليتها ، وارتفاعها على كل ما عرفته البشرية من النماذج في القديم والحديث - نماذج كثيرة من العدل السياسي ، وأخلاق الحكم الرفيعة ، وشعور المحكومين بالرضى والطمأنينة ، والتمتع بالأمن والاستقرار ..
ولكن وجود الاستبداد السياسي يبقى مع ذلك حقيقة واقعة ، وحقيقة بارزة في التاريخ السياسي للمسلمين .
ولكن الضجة التي يثيرها العلمانيون حول هذه النقطة تحمل عدة مغالطات تحتاج إلى بيان ، لتوضيح الحقيقة فيها ، وإزالة الغبش الكثيف الذي يثار حولها ..
إنها - كما قال عليّ رضي الله عنه - كلمة حق أريد بها باطل !
وأول هذه المغالطات وأبرزها أن الاستبداد السياسي نتيجة حتمية للحكم " الديني " وأن ما حدث في تاريخ المسلمين هو نفسه ما حدث في تاريخ " الحكومة الثيوقراطية " في أوربا ، ولذات السبب الذي أحدثه هناك ، وهو استناد الحكام إلى قداسة الدين وممارسة الاستبداد باسم شيء مقدس له على نفوس الناس سلطان ، واعتبار المعارضين لأولئك الحكام خارجين على الدين ذاته مما يسوغ اضطهادهم وقهرهم والفتك بهم دون أن يحميهم من الطغيان حامٍ !
وهذه المغالطة الكبرى تشتمل هي ذاتها على عدة مغالطات ..
فليس في الإسلام أصلا حكومة " ثيوقراطية " ولا يمكن أن يكون فيه ، لأنه ليس في الإسلام ابتداء هيئة تسمى " رجال الدين " !
وقد مرّ بنا في الفصل الأول أن " الكنيسة " كانت بدعة مبتدعة لم يتنزل بها من عند الله سلطان ، ولا سند لها إلا هذه القولة المنسوبة للمسيح عليه السلام ، والتي لا يمكن أن تصدر عنه في الحقيقة ، وهو رسول مرسل من عند الله ! ومن ثم فدين الله الحق بريء من تلك البدعة التي أفسدت حياة أوربا وأذاقتها الويلات ..
و " الحكومة الثيوقراطية " كما عرفتها أوربا لم تكن حكومة تحكم بما أنزل الله - وليتها كانت ! - إنما كانت - كما يعرف مؤرخو أوربا - حكومة " رجال الدين " ، تحكم لا بالدين ، ولكن باسم الدين ! وتفرض سلطانها على الأباطرة والشعب باسم ذلك الدين ! أما الشريعة التي كانت تحكم الناس في ظل الحكومة الثيوقراطية فقد كانت هي القانون الروماني ، ولم يكن لها علاقة البتة بالشريعة المنزلة عليهم من عند الله والتي كان المفروض أن يلتزموا بها ، وهي الواردة في التوراة مع التعديلات الواردة عليها في الإنجيل :
__________
(1) سورة النساء [ 135 ] .(12/44)
( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (1) .
( وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) (2) .
إنما بقيت الشريعة المنزلة طوال حكم " الحكومة الثيوقراطية " قيماً أخلاقية يتقيد بها الأتقياء ورعاً من عند أنفسهم فلا يزنون ولا يسرقون ولا يقتلون ولا يغشون ولا يرابون .. إلخ ، ولكنها ليست شريعة مطبقة يعاقب من خرج عليها بمقتضى النصوص الواردة فيها ، إنما كان القانون الروماني - قانون قيصر - هو الذي يحدد الجريمة ويحدد العقاب ! وأما سلطان " رجال الدين " على الأباطرة فلم يكن لإلزامهم بتنفيذ الشريعة المنزلة - وليته كان ! - ولا كان سلطانهم على " الشعب " لإجراء أحكام الشريعة عليهم .. إنما كان لإخضاع هؤلاء وهؤلاء لسطوتهم الذاتية ، التي عن طريقها يكتنزون بالمال السحت الذي ينهبونه من الأباطرة ومن الشعب ، ويعفون أنفسهم من الضرائب التي يلتزم بها الآخرون ، ويسخّرون الناس لخدمتهم بغير أجر ، ثم يزدادون طغيانا فيحجرون على أفكار الناس وعقولهم ، ويخنقون أرواحهم باسم الدين !
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .. ) (3) .
فأين هذا من التزام الحكام في الإسلام بتطبيق شريعة الله ؟ ! !
إن حكومة أبي بكر رضي الله عنه ومن بعده لم تكن حكومة " ثيوقراطية " .. إنما كانت حكومة تحكم الناس بما أنزل الله ، وتطبق شريعته ، سواء منها ما نزل فيه نص أو ما اجتهد فيه المجتهدون في إطار النصوص .
أم إنه كما يقول المثل الشعبي " كله عند العرب صابون " ؟ ! ! (4) .
إن الغلطة من الأصل هي محاولة وضع الإسلام وتطبيقاته على ميزان التجربة الأوربية ، واستخدام المصطلحات الغربية ذات الدلالات المحلية البحتة ، كأنها اصطلاحات " إنسانية " أو عالمية ، تصلح للتطبيق على أي شيء وفي أي مكان ، دون نظر إلى الفروق الجوهرية بين التجربة التي تمت في ظل الدين المزيف ، والتجربة التي تمت في ظل الدين الحق ، وبين الاصطلاحات التي صنعها البشر في ظروف معينة والمصطلحات التي أنزلها الله لتحكم الحياة ، أو اجتهد المجتهدون بها وهم ملتزمون بما أنزل الله .
__________
(1) سورة المائدة [ 44 - 47 ] .
(2) سورة آل عمران [ 50 ] .
(3) سورة التوبة [ 34 ] .
(4) مثل شعبي يقال لمن يأخذ الأشياء بمظهرها الخارجي ولا يفطن إلى ما بينها من فروق تمنع الجمع بينها في إطار واحد وإن تشابهت في المظهر .. وإذا طبقناه على العلمانيين ودعاواهم نقول : كله عند العلمانيين حكم باسم الدين !(12/45)
والمغالطة الثانية أن " رجال الدين " الذين أقاموا " الحكومة الثيوقراطية " في ظل النصرانية المحرفة كانوا " طبقة مقدسة " تستمد قداستها الزائفة من ذلك النص الذي نسبوه للمسيح عليه السلام وهو منه براء ، والذي زعموا فيه أن المسيح أعطى حق الحل والربط لحواريّه بطرس ، وهذا أعطاه بدوره لآباء الكنيسة من بعده ، وأن ما ربطه بطرس - وخلفاؤه من بعده - في الأرض لا يحل في السماء ، وما حله في ألأرض لا يربط في السماء . أي إنهم زعموا أن الأرض تحكم السماء ، والبشر يحكمون قدر الله ومشيئته .. وهو كفر بواح . بينما أبو بكر رضي الله عنه ومن خَلَفَهُ من الحكام لم يكونوا طبقة معينة ، ولم يكن لهم حق التشريع من عند أنفسهم ، ولم تكن لهم قداسة ذاتية يتسلطون بها على رقاب الناس مستمدة من " الحكم الديني " تزعم لهم العصمة ، وتجعلهم وسطاء بين العباد وربهم ، رِضَى الله مرتبط برضاهم ، وغضبه مرتبط بغضبهم ، وبيدهم مفاتيح الجنة والنار ! إنما وقع الاستبداد السياسي - حين وقع - على محور آخر سنتحدث عنه بعد هنيهة ، لا علاقة له بحقٍ موروثٍ عن خليفة الرب ( نستغفر الله ) يحل به الحاكم ما يشاء ، ويحرّم ما يشاء ، ويدخل في رحمة الله من يشاء ، ويحرم منها ما يشاء ! وقد كان الذين يقع عليهم الظلم من قِبَل أولئك الحكام المستبدين يقاومونه أحيانا ويُقْهَرون عليه أحيانا ، وفي حسهم أنه ظلم لا يرضى الله عنه ولا يقره ، وأن الله سيحاسب أولئك الحكام الظلمة على ظلمهم يوم القيامة ويستخلص لهم حقهم منهم على رؤوس الأشهاد ، وأنهم مهما ادعوا لظلمهم من مبررات " المصلحة " فلن يحميهم من الله حام . وما أبعد الشقة بين ظلم مغضوب عليه من الله والناس ، وظلم مقدس مبارك يُزْعَم له الرضى من الله ، ويطلب من الناس الرضى به باسم الدين !
والمغالطة الثالثة أن الاستبداد باسم الدين لم يكن هو الاستبداد الوحيد الذي حدث في التاريخ الأوربي وغير الأوربي حتى يكون علاجه إقصاء الدين عن الهيمنة على واقع الحياة !
إن الأباطرة والملوك والأمراء الذين استبدوا بالناس في أوربا حتى جاءت الثورة الفرنسية فأقصتهم عن سلطانهم ، وأقصت رءوسهم عن أجسادهم لم يكونوا يَرْتَدُون زي الدين ! بل كانوا ثائرين على الكنيسة الممثلة للدين ، مناوئين لها ، عاملين على الخروج من سلطانها .. ووصل الأمر بالامبراطور الألماني هنري الرابع الشهير في التاريخ أن خلع البابا " هلد براند " من منصبه ، في حركة تحدٍّ محمومة ، انتهت به إلى التراجع والاعتذار وطلب المغفرة من البابا ، والوقوف ببابه عاري الرأس حافي القدمين في الجليد المتساقط ثلاثة أيام بلياليها ، حتىعفا عنه " قداسة البابا " وأعاده إلى " الحظيرة " .. حضيرة الرضى والغفران ! وإن كان قد كتب بعمليته الانتحارية هذه أول سطر في صفحة التمرد على سلطان الكنيسة ، التي انتهت بفصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية وحصر نفوذ البابا في السلطة الروحية وحدها ، وانتزاع السلطة الزمنية للأباطرة والملوك والأمراء ! (1) .
إنما قصة الأباطرة الذين حكموا " بالحق الإلهي المقدس " أنهم قالوا في أنفسهم : إذا كان البابوات قد زعموا لأنفسهم حقا إلهياً مقدساً استبدوا به علينا وأخضعونا له ، فلنزعم لأنفسنا حقا ممائلا ، ولنسنده لذات الجهة التي استندوا إليها ! ! ثم طلعوا على الناس بدعوى مفادها أن الله هو الذي عهد إليهم أن يحكموا الناس ، ومن ثم فإنهم يحكمونهم بذلك الحق الإلهي المقدس ، وعلى الناس أن يخضعوا لهم في شئون دنياهم كما يخضعون للبابوات في شئون آخرتهم سواء بسواء !
أفيعتبر هذا حكما " دينيا " واستبداداً باسم الدين ، وهو حكم يناوئ الدين ويستقل عنه بسلطانه ، ويسعى بكل الوسائل لتقليص نفوذه وحصره في نطاق محدد ؟ ! وهل تعالج هذه الحالة بفصل الدين عن الدولة ؟ أم قصارى ذلك أن يكون استبدال طغيان بطغيان ؟ ! .
( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (2) .
ولنترك التاريخ الأوربي ووقائعه ، ولننظر في تاريخنا نحن الحديث ..
هل هؤلاء " العسكر " الذين مارسوا أبشع ألوان الطغيان السياسي ، وارتكبوا من الفظائع في السجون والمعتقلات ما لا مثيل له حتى في عالم الوحوش .. هل هؤلاء كانوا يحكمون باسم الدين ؟ ! أم كانوا " علمانيين " يهدفون إلى محو الدين وإبادة أهله ، ويتتلمذون في حركتهم على الحكم الشيوعي الذي قام أساسا لتأسيس الإلحاد ومحو الدين من الأرض ؟ ! (3) .
__________
(1) راجع قصته الطريفة في أي مرجع من مراجع التاريخ الأوربي في العصور الوسطى .
(2) سورة محمد [ 24 ] .
(3) كان معظم هؤلاء العسكر عملاء لأمريكا وإن تظاهروا بأنهم أصدقاء لروسيا وأعداء لأمريكا ! فقد كانت هذه اللعبة ذاتها - لعبة التظاهر بعداء أمريكا - جزءاً من الخطة المتفق عليها للضحك على الجماهير ( انظر كتاب " لعبة الأمم " لمؤلفه " مابلز كويلاند " ) ثم إنهم كانوا كلهم - سواء تحيزوا لهذا المعسكر أو ذاك -عملاء للصهيونية العالمية التي كانت تحكم المعسكرين في آن واحد ، وتسخرهما لحرب الإسلام !(12/46)
أفبعد هذه النماذج الصارخة يزعم العلمانيون أن الدين هو سبب الطغيان السياسي ، وأنه لا علاج لذلك الطغيان إلا بفصل الدين عن الدولة ، وإقامة الحكومة العلمانية ؟ !
سيقول العلمانيون : ما لنا ولهذا الجدل كله ؟ لقد وقع الاستبداد السياسي في تاريخ المسلمين ، واستخدم الدين لإعطائه صبغة شرعية ، وتخذيل المعارضين عن مقاومته .. فلا بد لنا من إقصاء الدين عن السياسة ، ليرتاح الناس - أحرار الفكر - من الطغيان باسم الدين !
ونقول : نعم ! وقع الاستبداد السياسي في تاريخ المسلمين .. فكيف وقع ؟ وما دلالة وجوده ؟ وما طريقة علاجه ؟
ونسأل ابتداء : هل وقع الاستبداد بسبب الدين ؟ !
الدين الذي قال منزله سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (1) .
ويأمر بالعدل حتى مع الأعداء الشانئين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (2) . ويأمر بالعدل حتى مع اختلاف الدين : ( .. وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ .. ) (3) . ويقول سبحانه في الحديث القدسي : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا .. " (4) .
أيمكن أن يكون هذا الدين سببا في الظلم ؟ !
كان العلمانيون في مبدأ أمرهم يتهمون التطبيق الواقعي ولا يتهمون الدين ذاته .. ثم تجرءوا بعد ذلك فصار بعضهم يتهم الدين ذاته بإيقاع الظلم على الناس .. وسنناقش في الفصل القادم بعض دعاواهم التي يدّعونها في هذا الشأن . إنما نحن في هذا الفصل في حوار مع " المعتدلين ! " من العلمانيين الذي يكتفون بإلقاء اللوم على التطبيق !
ويصر العلمانيون جميعاً - معتدلين ومتطرفين - على إبعاد فترة الخلافة الراشدة من دائرة النقاش ، بدعوى أنها فترة فريدة لم تكرر في التاريخ ، فلا يؤخذ بها ، ولا تتخذ مقياسا للحكم الإسلامي . (5) .
ونحن نقرهم على أنها فترة فريدة لم تتكرر - بصورتها الكاملة - في التاريخ . ولكنا - من جهة أخرى - لن نكف عن الاستشهاد بها من أجل دلالتها ، لا من أجلها في ذاتها ..
إن المزية الكبرى لهذه الفترة أنها شهدت التطبيق الكامل لهذا الدين . ومن ثمّ فهي صورته الحقيقة مطبقة في عالم الواقع .
ولهذا الأمر دلالتان اثنتان على الأقل . الأولى أن هذا الدين ليس مثاليات معلقة في الفضاء غير قابلة للتطبيق في عالم الواقع ، ما دام قد أمكن تطبيقها بالفعل .. والثانية أنه ما دام الذين طبقوها كانوا بشرا - لا ملائكة - ففي طوق البشر إذن أن يطبقوها في أي فترة من فترات التاريخ إذا عزموا على ذلك وأجمعوا أمرهم عليه . وقد وجدت بالفعل نماذج غير قليلة من التطبيق الصحيح لهذا الدين على مدار التاريخ . فلا شيء يمنعنا اليوم من محاولة ذلك . ولن يكون " الدين " هو العائق لنا إذا حاولنا ، بل سيكون الدين - بأصوله المنزلة ، وصوره المشرقة حين طبق تطبيقاً صحيحاً - هو الدافع والحافز والمعين .
لم يكن الدين إذن هو سبب الطغيان ( وسنرجئ النقاش مع متطرفي العلمانيين إلى الفصل القادم ) إنما كان السبب سوء التطبيق .
__________
(1) سورة النساء [ 58 ] .
(2) سورة المائدة [ 8 ] .
(3) سورة الشورى [ 15 ] .
(4) أخرجه مسلم .
(5) يصل التبجح بببعض العلمانيين أن يتهموا عهد الخلافة الراشدة ذاته بالاستبداد السياسي ، مستشهدين بقول عثمان رضي الله عنه للذين طلبوا منه التنحي عن الحكم : " لا أنزع قميصا سربلنيه الله " فيقولون إن عثمان رضي الله عنه كان يحكم بالحق الإلهي المقدس الذي كان سند الطغيان السياسي في أوربا ! وعثمان رضي الله عنه لم يقصد بهذه الكلمة إلا أن الله قد منّ عليه بأن تولى الأمر عن رضا واختيارٍ حرٍّ من الأمة وأن الأمة لم تنزع ثقتها منه حتى يتنحى . وإنما المحتجون عليه ، المطالبون بتنحيته شرذمة قليلة لا يمثلون رأي الأمة ، وهذه كانت الحقيقة ، بدليل حماية الصحابة لداره أثناء الفتنة . ولو كانوا يرون عزله لتركوه للثائرين عليه ، وإنما هم أخذوا عليه أشياء لا تؤدي في نظرهم إلى عزله .(12/47)
ولكن سنسلم - توفيراً للجدل - بأن الدين استخدم في بعض العهود ستاراً للاستبداد السياسي . وأن " علماء السلطة " استخدموا الدين لمساندة الطغيان السياسي وإضفاء صفة القداسة عليه ، وتخذيل " الجماهير " عن الخروج عليه أو المطالبة بتغييره .. سنسلم بهذا على الرغم من النماذج البارزة التي وعاها التاريخ من قيام علماء أعلامٍ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي لظلم الحكام - وإن أوذوا في سبيل ذلك وسجنوا وعذبوا - وقيام قضاة بإصدار أحكام ضد الحكام أو ضد من يلوذون بهم ممن يستغلون جاههم في إيقاع الظلم بالناس .. ولعل من أروع تلك النماذج ما فعله العز بن عبد السلام من تهديد المماليك - الحكام - ببيعهم في الأسواق ، والإنفاق من ثمن بيعهم على الجهاد في سبيل الله إن لم يقوموا هم بالجهاد والإنفاق عليه من أموالهم !
فما الذي نستخلصه من أحداث ذلك التاريخ الذي وقع فيه الاستبداد السياسي ؟
نستخلص مجموعة من الحقائق ..
الحقيقة الأولى أن " الدين " لم يردع هؤلاء الحكام عن الظلم ، وكان ينبغي أن يردعهم عنه .. أما القول بأن هذا الظلم نشأ عن وضع ديني يشبه وضع " الحكومة الثيوقراطية " في تاريخ النصرانية فهو قول لا سند له من الواقع . فعصيان الحكام لأوامر الدين شيء - ولا ينشأ الظلم أساسا إلا من عصيان أوامر الدين - ووضع التشريعات الظالمة باسم الدين أمر آخر ، لا يتعلق بالتطبيق ولكن بحق التشريع . فأما المعاصي فهي التي وقعت من حكام المسلمين ، وهم يتحملون وزرها ولا شك ، وأما التشريعات الظالمة فهي التي وقعت من الحكومة الثيوقراطية التي أعطت نفسها حق الهيمنة الكاملة على أموال الناس وأرواحهم وأفكارهم وعقائدهم ومعلوماتهم وحصائد ألسنتهم ، بل خطرات نفوسهم التي لم ينطقوا بها وأكنّوها في صدورهم !
والحقيقة الثانية أن ذلك الاستبداد السياسي وجد سنداً من " علماء السلطة " وكان واجبهم أن يقفوا في وجهة ويقوموه بدلاً من أن يساندوه . وتلك معصية أخرى لأوامر الله ورسوله أنذر الله أصحابها في الكتاب المنزل بالعذاب الأليم :
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1)
والحقيقة الثالثة التي هي في نظرنا أهم هذه الحقائق جميعاً هي أن الأمة قد فرطت في دينها يوم استكانت للاستبداد السياسي ولم تقاومه ، وتركته حتى رسخ في أرض الواقع ، وأصبح كأنه أصل من الأصول !
لا الله أمر بذلك ، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم
صحيح أن رسول ا صلى الله عليه وسلم شدد على عدم الخروج المسلح على الحاكم الذي يلتزم بشريعة الله ، ولكنه يجور في التطبيق ، مخافة الوقوع في الفتنة التي يفوق ضررها جور الحاكم .. ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بالرضى بهذا الجور أو السكوت عليه :
" ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون . فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن . ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن . وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " (2) .
" إنه يستعمل عليكم أمراء ، فتعرفون وتنكرون . فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضى وتابع " (3) .
" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " (4) .
وقال عليه الصلاة والسلام : " الدين النصيحة " قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : " لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم " (5) .
ونستخلص من ذلك كله عبرة أخيرة هي لب الموضوع ..
إذا كانت هذه الأمة لسبب من الأسباب قد فرطت في الضمانات الربانية التي يكفلها لها دين الله المنزل ، الذي تدخل بطاعته الجنة ، ويعرّضها التفريط فيه لعذاب النار ، فضلا عما يصيبها في الحياة الدنيا من ذل وانكسار وبوار .. إذا كانت قد فرطت في تلك الضمانات الربانية لسبب من الأسباب ، فهل فصل الدين عن السياسة هو الذي سيجعلها تحرص على حقوقها وتمارسها في عالم الواقع ؟ !
وهذه تجربة الحكم العلماني الذي غرقت فيه الأمة خلال قرن من الزمان أو أكثر .. كم من المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ارتكبت فيه ؟ ! فأين ذهبت ضماناته ؟ ! ومتى حرصت الأمة على حقوقها بعد تنحية الحكم بشريعة الله ، والحكم " بالدساتير " المجلوبة من الغرب ؟ !
__________
(1) سورة البقرة [ 174 ] .
(2) أخرجه مسلم .
(3) أخرجه مسلم .
(4) أخرجه الشيخان .
(5) أخرجه الشيخان .(12/48)
إن العبرة التي تستخلص من تاريخ هذه الأمة أنه حدث نقص هائل في التربية السياسية للأمة ، ترتب عليه تفريطها في حقوقها التي كتبها الله لها في دينه المنزل ، بل جعلها واجباً عليها ، وجعلها من مقتضيات لا إله إلا الله ، وأن التربية السياسية على الأصول الإسلامية التي أقامتها الخلافة الراشدة لم تواكب التربية الروحية والفكرية والخلقية والجهادية التي ركز العلماء والمربون عليها أكثر من التربية السياسية حتى في فترات الازدهار ، فضلا عن فترات الانحسار !
وليس العلاج لذلك هو فصل الدين عن الدولة ، وإخراج السياسة من الدين !
فالأمة التي فرطت في دين الله وضماناته ، لن تحرص على الضمانات التي تحملها الديمقراطية أو غيرها من نظم الحكم البشرية ، ومن السذاجة المفرطة أن يظن أحد غير ذلك . فإنه لا يوجد نظام - بشري أو رباني - يحمل ضماناته بصورة آلية ، إنما تعمل الضمانات من خلال البشر الذين يؤمنون بها ، ويتربون على ممارستها في عالم الواقع ، وعلى عدم التفريط فيها ، حتى تصبح جزءاً من كيانهم الحيّ الذي يعيشون به ..
فإذا كان لا بد من التربية في كل حالة ، سواء كان النظام المطلوب تطبيقه بشرياً أو ربانيا ، وإذا كانت النظم - كل النظم - لا تؤتي ثمارها ولا تعطي ضماناتها إلا من خلال تلك التربية ، فما الذي يجعلنا نبذل الجهود المضنية - إن بذلناها حقا ! - في نظام لا يوافق عقيدتنا ، ولا يرضي ربنا ، ونخسر فيه آخرتنا ، حتى لو فرضنا جدلا أننا نكسب فيه دنيانا ، بينما نحن - لو قمنا بالتربية على النظام الحق - نملك خير الدنيا والآخرة .. والجهد المطلوب في التربية على النظام الحق هو ذات الجهد المطلوب للتربية على غيره ، بينما الثمرة خلاف الثمرة ، والمذاق غير المذاق ؟ !
إنها لحماقة لا يقدم عليها عاقل .. أن نتعب ونتعب ونتعب ، في تجارة خاسرة في نهاية المطاف :
( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (1)
بينما نحن نملك بذات الجهد أن نربح الكثير :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (2) .
الديمقراطية والإسلام
سنناقش بحول الله في هذا الفصل قضيتين أساسيتين ..
القضية الأولى هي أنه إذا كان هناك خلاف بين الديمقراطية والإسلام - وهو كائن بالفعل كما سوف نرى من البحث - فأي شيء يجب على المسلم ؟ يأخذ بالديمقراطية أم يطبق الإسلام ؟
بعبارة أخرى : هل يُعْرَض الإسلام على الديمقراطية لتقبل منه ما تقبل وترفض منه ما ترفض ؟ أم تعرض الديمقراطية عل الإسلام ليقبل منها ما يقبل ويرفض منها ما يرفض ؟
والقضية الثانية : هل يصلح النموذج الأوروبي - أي النموذج العلماني - ليكون منهجا لحياتنا ، ولحياة البشرية ؟ وإذا لم يكن يصلح فما البديل ؟ !
لعل القضية الأولى واضحة :
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (3).
ولكن لأن الجدل يدور حولها في غربة الإسلام الثانية فنحن نناقشها مع الذين يجادلون في أمرها ، كما كان القرآن يناقش غبش التصورات الفاسدة في العقيدة والعبادة والتشريع في الجاهلية الأولى .
إن كون الشريعة ملزمة للمسلم الذي ينطق بفمه شهادة " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ( ولو كان ينطقها نفاقا ! ) ، وكون التشريع بغير ما أنزل الله مخرجاً من الملة ، قضية مجمع عليها من علماء الأمة جميعا ، لم يشذ أحد عنها ، ولا يجرؤ أحد أن يشذ !
وهي قضية مختلفة في بعض جوانبها عن قضية الحكم بغير ما أنزل الله ، لذلك لزم التنويه إليها ..
ليس كل من يحكم بغير ما أنزل الله خارجا من الملة .. فقد يكون متأولا ، وقد يكون مخطئا في اجتهاده ، وقد يكون عاصيا آثما كالقاضي الذي يرتشي ويحكم في القضية التي بين يديه بغير ما أنزل الله .
ولكنه حين يشرع بغير ما أنزل الله ( أي يحل ويحرم بغير ما أنزل الله ) فهو خارج من الملة بإجماع ..
لقد جعل الله المحك الذي يكشف نفاق المنافق ويخرجه من الإيمان الإعراض عن شريعة الله ..
__________
(1) سورة البقرة [ 16 ] .
(2) سورة الصف [ 10 - 12 ] .
(3) سورة الأحزاب [ 36 ] .(12/49)
( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) (2) .. ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (3) .
ففي الآيات الأولى قوم يزعمون الإيمان بالله ورسوله ، ويزعمون فوق ذلك أنهم مطيعون لله ورسوله ( وورد في آيات أخرى في سورة النساء أنهم يؤدون الشعائر كذلك وإن كان على كسل وتراخ (4) ) ثم يُدْعَوْن إلى شريعة الله ليتحاكموا إليها فيعرضون عنها ويطلبون التحاكم إلى غيرها ، فينفي الله عنهم الإيمان نفيا باتا : " وما أولئك بالمؤمنين " ثم يبين الله موقف المؤمنين من هذا الأمر ، وهو أنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى شريعة الله يقولون " سمعنا وأطعنا " ويسارعون إلى التنفيذ .
وفي الآيات الثانية قوم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل على صلى الله عليه وسلم وهو الوحي المشتمل على شريعة الله في الكتاب والسنة ، وما أنزل من وحيٍ قبل ذلك ، ثم هم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به ( والطاغوت كما قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره : " كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عبده ، وإما بطاعة ممن عبده له ، إنساناً كان ذلك المعبود ، أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كائناً ما كان من شيء " (5) ويبين سبحانه وتعالى أنهم بذلك خارجون من الإيمان ، وأنهم لا يؤمنون حتى يحكموا شريعة الله راضية بها نفوسهم ، مطمئنة بها قلوبهم ، عالمين أنها هي الخير ، وهي الحق ، وهي الصراط المستقيم ..
ويلاحظ التشديد الواضح في عبارة الآية الكريمة بالقسم مع النفي " فلا وربك لا يؤمنون .. " والتوكيد الذي تتضمنه لفظة " ثم " " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت " والتوكيد بعد ذلك بالمفعول المطلق " ويسلموا تسليما " .. وكل ذلك لإظهار بشاعة الجريمة التي يرتكبها هؤلاء بإرادتهم التحاكم إلى غير شريعة الله .. وبيان أنها قضية تتصل بأصل العقيدة ، لأن الإيمان منفي بتاتاً عن مرتكب ذلك الجرم الشنيع . وقد سبق أن بينا في الفصل السابق أن التشريع بغير ما أنزل الله هو أحد جذور الشرك الثلاثة الكبرى ، يتساوى في جرمه مع اعتقاد آلهة أخرى مع الله ، وتوجيه شيء من العبادة لغير الله .
ولو أن هؤلاء استسلموا لشريعة الله على كره في دخيلة نفوسهم وريبة فإنهم لا يحققون " الإيمان " الذي يتطلبه الله من عباده ويدخلهم به جنته ، ولكنهم - في الدنيا - يعتبرون مسلمين بحسب الظاهر من أمرهم كما قال الله عن الأعراب : ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (6) ولكنهم وقد أظهروا إرادتهم التحاكم لغير شريعة الله فقد انتفى عنهم الإيمان والإسلام كلاهما ويطبق عليهم حد الردة في الدولة المسلمة التي تحكم بما أنزل الله . فإن أرادوا أن يتوبوا ويدخلوا في الإيمان الحق ، فقد وجب عليهم أن ينفذوا الشروط الواردة في الآية بحذافيرها ، وهي التحاكم إلى شريعة الله عن رضا وتسليم واقتناع .
__________
(1) سورة النور [ 47 - 51 ] .
(2) سورة النساء [ 60 ] .
(3) سورة النساء [ 65 ] .
(4) قال تعالى " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " [ سورة النساء : 42 ] .
(5) تفسير الطبري ، تحقيق محمود شاكر 5/419 الطبعة الثالثة ، دار المعارف بمصر .
(6) سورة الحجرات [ 14 ] .(12/50)
تلك هي القضية في وضوحها وبساطتها .. وقد كانت بهذا الوضوح وهذه البساطة طوال ثلاثة عشر قرنا من حياة المسلمين ، لم يجادلوا فيها ، ولم يتصوروا قط أن المسلم يمكن أن يُحْكَم بغير ما أنزل الله من ناحية التشريع ، وإن كانت المخالفات في التطبيق قد حدثت - في سياسة الحكم خاصة - وأنكرها المنكرون باليد أو اللسان أو القلب . أما التشريع بغير ما أنزل الله فلم يحدث في التاريخ الماضي سوى مرة واحدة حين حكم التتار - قبل أن يستقروا على الإسلام الصحيح - أي بدستور من صنع البشر ، فحكم عليهم العلماء بالكفر الصريح حتى يرجعوا عنه ، ويحكُموا بشريعة الله وحدها ، لا يحكِّمون سواها في قليل ولا كثير .
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) :
" ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم الياسق ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والإسلامية وغيرها ، وفيها كثير من الأحكام أخذها بمجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير " (1) .
ولكن الواقع المعاصر جاء بانحرافين خطيرين ، من أخطر ما مر بالمسلمين في حياتهم : تنحية الشريعة عن الحكم من ناحية ، ووجود " علمانيين " يتبجحون برفض شريعة الله ، ويناوئون الذين يطالبون بالعودة إلى تحكيم شريعة الله !
ولقد جاء هؤلاء العلمانيون ثمرة للغزو الفكري الذي اجتاح حياة المسلمين حين فرغت نفوسهم من حقيقة الإسلام ، وأصبح الدين في حياتهم " تقاليد " خاوية بغير روح ، فاكتسحها الغزو الفكري اكتساحا ، وأجلاها من مواقعها ، ووضع في مكانها فكراً دخيلاً ما أنزل الله به من سلطان .
قلت في أكثر من كتاب (2) إن الهزيمة العسكرية التي أصابت المسلمين أمام قوى الغرب الظافر الكاسح ، لم تكن وحدها التي أثرت في كيان المسلمين وجعلتهم يتقبلون الغزو الفكري ، ويتشككون - لأول مرة في حياتهم - في قيمهم الدينية ، وشريعتهم الربانية ، وأخلاقياتهم وأنماط سلوكهم ، ويستبدلون بها أفكار أوروبا وقيمها وتصوراتها . إنما المسئول الأول عن ذلك هو الخواء العقدي الذي آل إليه المسلمون في العهود الأخيرة بسبب ما أصاب عقيدتهم من أمراض وانحرافات خلال القرون ..
لقد علّم الله المسلمين في كتابه المنزل ألا يهنوا ولا يحزنوا ولو أصابتهم الهزيمة العسكرية أمام أعدائهم . ما داموا مؤمنين :
( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (3)
وقد وعوا الدرس فلم يهنوا ولم يحزنوا حين انهزموا أمام التتار وأمام الصليبيين هزائم ساحقة ، بل تجمعوا ، وجمعوا عزيمتهم ، وردوا الكرة عليهم ، وكانوا في أثناء ذلك كله يحتقرونهم ويشمئزون من كفرهم وشركهم وفساد أخلاقهم وأنماط سلوكهم ، لأن جذوة الإيمان كانت ما تزال حية في القلوب ..
أما في المرة الأخيرة فقد أثرت الهزيمة العسكرية هذا التأثير الهائل ، لأنها لم تكن وحدها ، بل صحبتها هزيمة روحية أمام " الحضارة الغربية " نشأت من الشعور بالإفلاس الحضاري من جانبهم .. وقد كان هذا الإفلاس حقيقة واقعة ، ولكن سببه لم يكن " الدين " كما ظن المنهزمون في وهلة الهزيمة ، إنما كان هو الخواء العقدي الذي جرّد العقيدة من نتاجها الحيّ : الحضاري والفكري والعلمي والسياسي والحربي ..
ولأول مرة في حياة المسلمين سعى " المثقفون " ، الذين يفترض فيهم أنهم قادة الأمة ، إلى محاولة إبعاد الأمة عن كل ما يتصل بدينها وتراثها وعقيدتها وشريعتها ، لينطلقوا في وهمهم إلى الحياة والقوة والتقدم والرقي ! وقام فيهم من يجادل لا في وجوب الالتزام بتطبيق الشريعة ، بل في حق الله سبحانه وتعالى في التفرد بالحاكمية والتشريع ، الذي هو - في زعمهم - حق خالص " للأمة " مصدر السلطات .. لا يشاركها فيه أحد .. حتى الله ! نستغفر الله ..
__________
(1) تفسير ابن كثير ، ج 2 ص 68 .
(2) انظر - إن شئت - على سبيل المثال كتاب " واقعنا المعاصر " فصل " خط الانحراف " وفصل " آثار الانحراف "
(3) سورة آل عمران [ 139 ] .(12/51)
في كتاب " حول تطبيق الشريعة " ناقشت بعض الدعاوى التي يثيرها العلمانيون في فصول تحمل هذه العناوين : " هل تنفصل العقيدة عن الشريعة في دين الله ؟ " " هل لولي الأمر أن يتصرف في أحكام الشريعة بحسب الأحوال " " شبهة التطور وعدم صلاحية الشريعة للأحوال المستجدة " " شبهة تعارض أحكام الشريعة مع مقتضيات الحضارة الحديثة ووجوب الأخذ بمعايير الحضارة دون الشريعة " " شبهة عدم إمكان تطبيق الشريعة بسبب وجود الأقليات غير المسلمة " " شبهة عدم إمكان تطبيق الشريعة بسبب الدول العظمى وضغطها على العالم الإسلامي " .
وفي الندوات الأخيرة التي أقيمت بين العلمانيين والإسلاميين أثار العلمانيون بعض الدعاوى التي لم يرد ذكرها في كتاب " حول تطبيق الشريعة " لا تقل سخفاً عنها وبعداً عن الموضوعية و " العلمية " ، نتعرض لأبرزها في هذا الفصل ، لا لأنها تستحق الرد في ذاتها ، ولكن لبيان عدم موضوعيتها ، وبيان جانب المغالطة فيها .. وإذا كان القرآن الكريم قد ورد فيه الرد على دعوى اليهود بأن يد الله مغلولة ، وأن الله فقير وهم أغنياء ، على كل ما في الدعوى من جهل وسخف وتوقح على مقام الألوهية ، فلا بأس علينا أن نبين مدى بُعد دعاوى العلمانيين عن الجدية اللازمة " للبحث العلمي ! " ومدى بعدها عن الصواب .
من تلك الدعاوى أنه لا شيء في الواقع يسمى " تطبيق الشريعة " ! فالذي يطبق بالفعل ليس هو الشريعة الربانية ، إنما هو فهم البشر للنص الوارد في الشريعة ، ومن ثم فهو تشريع بشري في الحقيقة ! ولكنه - رغم بشريته - يزعم لنفسه قداسة مستمدة من الوحي الرباني ! ويهدد بهذه القداسة من يعارضه فيتهمه بأنه خارج على الدين ! بينما التشريع البشري الخالص ، الذي يصنعه البشر بأنفسهم غير مستندين فيه إلى الدين ، لا قداسة له عند واضعيه ولا عند معارضيه . ومن ثم يناقش بحرية ، ويعدل أو يلغى إذا اقتضت الضرورة بغير تحرج ولا خوف ! وعلى ذلك فالأولى عدم تطبيق الشريعة ، وترك البشر يشرعون كما يحلو لهم ، ويعدلون ويبدلون ، دون خوف في صدورهم ، ولا اتهام لهم بالمروق من الدين !
وكأنهم حين يصنعون ذلك لم يمرقوا من الدين ! !
أي لعب بعقول الناس - بدعوى الموضوعية والعلمية - أشد من هذا اللعب وأسخف من هذا اللعب ؟
إن اختلاف الأفهام حقيقة .. واختلاف الاجتهادات حقيقة ، وخاصة فيما لم يتنزل فيه نص ..
ولكن من يقول - مهما اختلفت الأفهام واختلفت الاجتهادات - إنه لا فرق بين الاجتهاد المنضبط بالضوابط الشرعية والاجتهاد المنفلت من كل ضابط إلا أهواء الناس التي يسمونها " المصلحة " رياء وذرًّا للرماد في العيون ، وهي مصلحة فريق معين من البشر يعيثون في الأرض فسادا ، ويريدون أن يستحمروا " الأمميين " لحسابهم الخاص ؟ !
إن الاجتهاد المنفلت من كل ضابط إلا أهواء الناس ، والمتغلف بالمصلحة رياءً وذرًّا للرماد في العيون ، قد أباح الربا ، وأباح الزنا ، وأباح الفاحشة الشاذة ، وأباح الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله وإنكار التصورات الدينية على الإطلاق ، وأباح لخمس دول بأعيانها أن ترفض الإذعان للحق حين يحيط بها الحق من كل جانب ، برفع إصبع واحدة من يد مندوبها في مجلس الأمن ، فيخضع الجميع ويذعنون للظلم البيّن ، وأباح لدولة بعينها - باسم النظام العالمي الجديد - أن تنزل قواتها في أي بقعة في الأرض تزعم أن فيها ما يخالف " القيم والمبادئ ! ! " فتقتل أهلها وتخرب أرضهم وديارهم وتتلقى الشكر العالمي على ذلك .. وأباح .. وأباح .. وأباح .. وجعل ذلك كله شرعا مرعيا تحميه الدولة أو الدول ذات الشأن بسلطانها وجيوشها ! !
هل يمكن أن يحدث ذلك في الاجتهاد المنضبط بالضوابط الشرعية ؟ !
يختلف الفقهاء ما اختلفوا .. فهل يمكن أن يحلوا الربا (1) ؟!
يختلف الفقهاء ما اختلفوا .. فهل يمكن أن يحلوا الزنا ؟!
يختلف الفقهاء ما اختلفوا .. فهل يمكن أن يحلوا الفاحشة الشاذة ؟!
يختلف الفقهاء ما اختلفوا .. فهل يمكن أن يحلوا الخمر ؟!
يختلف الفقهاء ما اختلفوا .. فهل يمكن أن يحلوا تعري الرجال والنساء على شواطئ البحار ؟!
يختلف الفقهاء ما اختلفوا .. فهل يمكن أن يحلوا لوسائل الإعلام - أو لأيٍّ كان - أن يهاجم الدين ، أو ينكر معلوماً من الدين بالضرورة ، أو يحرض على معصية أوامر الله ؟
__________
(1) يكثر جدل " العصريين " المتأثرين بثقل الأمر الواقع في كون بعض المعاملات كالسندات التي تصدرها الدولة داخلة في الربا المحرم أم غير داخلة فيه ، ولكن أحدا من هؤلاء لا يجرؤ على تحليل الربا من حيث المبدأ .(12/52)
إن معاصي كثيرة يمكن أن تحدث حتى في المجتمع المسلم الملتزم بتطبيق الشريعة ، ولسنا عن هذا نتحدث .. إنما نتحدث عن التشريع الذي يحل هذه المعاصي ويعتبرها أمرا مباحا لا جناح على مرتكبيه .. وفرق كبير بين وقوع المعصية مخالَفَةً للشرع ، وتوقيع العقوبة المنصوص عليها حين تقع وبين أن تكون مباحة بنص القانون ، في الأولى يمكن أن يقوم مجتمع " إنساني " تقع فيه الخطيئة بين الحين والحين ، ولكنها لا تكون هي الأصل ، وفي الثانية يقوم مجتمع " حيواني " الخطيئة فيه هي الأصل ، والامتناع عنها هو الشذوذ !
ولسنا نقصد بالخطيئة جريمة الزنا وحدها كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من كلامنا .. فالربا خطيئة ، تؤدي - كما قال الخبير الألماني شاخت - إلى تزايد المال في طبقة يقل تعدادها على الدوام ، وتزايد الفقر في طبقة يزيد تعدادها على الدوام . ويُسْحَقُ جمع هائل من البشر تحت ضغطٍ هائل مخيف يسلطه بضعة نفر من آكلي أموال الناس بالباطل على جموع " الكادحين " .. والظلم السياسي الذي تمارسه الوحوش الكبرى التي تسمي نفسها الدول العظمى خطيئة تؤدي إلى إذلال الدول الصغيرة وإفقارها ونهب خيراتها وسحق كرامتها إرضاء لشهوة السلطان عند تلك الوحوش . وإباحة الإلحاد خطيئة تهبط بالإنسان من شفافيته التي خلقه الله عليها حين خلقه " في أحسن تقويم " ، وتحصره في محيط ما تدركه الحواس ، فيهبط " أسفل سافلين " ويصبح كما وصفه الله ( أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (1) .. الغافلون بكل معاني الغفلة ، السادرون في الوهم والجهالة وعمى البصيرة . وإيجاد العداوة بين الدين والعلم خطيئة .. فالدين نزعة فطرية لم تغادر النفس البشرية أبدا حتى حين عملت الشيوعية على قتلها بالحديد والنار والتجسس ، فبمجرد أن سقطت الشيوعية عاد الناس إلى مساجدهم وكنائسهم ، إلا من أكل الشيطان قلبه ، والرغبة في التعلم نزعة فطرية خلقها الله في الإنسان ليقوم بعمارة الأرض كما كلفه : ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (2) وإقامة الصراع بين نزعتين فطريتين متعاونتين في الأصل غير متعارضتين ، خطيئة في حق " الإنسان " تمزقه وتسلبه طمأنينته لحساب الشيطان ! وعشرات من الحظايا وعشرات تشرع لها الجاهلية أو تجعلها مباحة حين تنفلت من كل ضابط إلا الأهواء !
أَوَ كذلك يحدث في الاجتهاد المنضبط بضوابط الشريعة مهما اختلفت الأفهام واختلفت اجتهادات الفقهاء ؟ !
إنني - والله - أشك كثيرا فيمن يلغو مثل هذا اللغو أنه يصدق حقيقةً ما يقول ! ... إلا أن يكون قد قصد قصداً إلى اللعب بالعقول !
إن اختلاف الفقهاء هو من مزايا هذا الدين .. فقد ترك الله أمورا كثيرة للاجتهاد ، رحمة منه غير نسيان كما أخبرنا رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ويعلم الله - وقد أباح الاجتهاد فيما لم يتنزل فيه نص - أن أفهام البشر تختلف ، واجتهاداتهم تختلف " أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " (3) . فكأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أّذِنَ بهذا الاختلاف في تطبيق شريعته المنزلة ، توسعة على الناس ورفعاً للحرج عنهم ، ولو شاء لأعنتهم كما قال سبحانه في كتابه العزيز : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (4) .. أفتتخذ هذه التوسعة المنضبطة أولا وآخرا بألا تحل حراماً ولا تحرم حلالا ذريعة للتسوية بين حكم الشريعة وحكم القوانين الوضعية ، بل لتفضيل القوانين الوضعية على حكم الشريعة ، مع كل ما تحمله تلك القوانين من ألوان الفساد ؟ ! .
هذه النقطة ذاتها - نقطة اختلاف الفقهاء في اجتهاداتهم - يتخذها بعضهم ذريعة لإلغاء حكم الشريعة كله من زاوية أخرى ، فيتصايحون ، في بلاهة حقيقية أو بلاهة مفتعلة : قولوا لنا كيف نطبق الشريعة ! بأي الأقوال نأخذ ؟ ! بقول هذا الفقيه أم ذاك الفقيه ، وكل واحد منهم له رأي في المسألة يخالف رأي الآخر ؟ ! حددوا لنا أي الأقوال هوالشريعة التي تريدون تطبيقها ! !
ويحسبون أنهم بهذا التصايح الأبله يربكون الإسلاميين المطالبين بتحكيم الشريعة ، ويخذّلونهم عن تلك المطالبة الملحّة التي تفزع العلمانيين أي إفزاع !
وكأنما اختلاف الفقهاء قد نبت فجأة في هذه الأيام ، وليس عمره نيّفاً وأربعة عشر قرنا من الزمان !
وكأنما القوانين الوضعية من الجانب الآخر قول واحد ومدرسة واحدة واجتهاد واحد لا يأتيه الاختلاف من بين يديه ولا من خلفه !
كيف كانت تطبق الشريعة خلال ثلاثة عشر قرنا مع اختلاف المذاهب واختلاف الاجتهادات ؟ !
وكيف يختارون هم قوانينهم الوضعية من بين الآراء المختلفة والدساتير المختلفة والنظريات المختلفة ؟ !
أهذا نقاش " علمي " ؟ أهذه " موضوعية " ؟ !
" مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ " (5)
__________
(1) سورة الأعراف [ 179 ] .
(2) سورة هود [ 61 ] .
(3) سورة الملك [ 14 ] .
(4) سورة البقرة [ 220 ] .
(5) سورة الزخرف [ 58 ] .(12/53)
إنما تعتمد الدولة المسلمة اجتهاداً معيناً من هذه الاجتهادات - يرى فقهاء عصرها أنه الأكثر تحقيقا للمصلحة - فتجعله هو الشرع الملزم في لوائحها وتنظيماتها الإدارية ومحاكمها ، وتترك للقضاة حرية التحرك في حدود ذلك الاجتهاد الملزم ، كما يترك للقاضي في ظل القانون الوضعي أن يحكم بأدنى العقوبة أو أقصى العقوبة أو يسقط الدعوى لعدم كفاية الأدلة ..
أين المشكلة ؟ !
إنما هي الرغبة في وضع العراقيل في طريق تحكيم الشريعة ، وإيهام الناس أن الفوضى ستضرب أطنابها يوم تحكم الشريعة ، ويختلط الحابل بالنابل ، وتضيع الحقوق ، ويختل النظام ! !
ألا يستحي هؤلاء من صور الفوضى الاجتماعية والأخلاقية واضطراب الأمن وشيوع الجريمة وانفلات الناس من آدميتهم في ظل القوانين الوضعية التي يريدون التحاكم إليها بدلا من شرع الله ؟ !
صيحة أخرى يتصايح بها العلمانيون لمحاولة تخذيل المطالبين بتحكيم الشريعة ..
أرونا برامجكم ! نريد برامج عملية قابلة للتنفيذ ، لا مجرد التصايح بتحكيم الشريعة .. أرونا كيف تحل الشريعة التي تريدون تطبيقها مشاكل التخلف الاقتصادي والتضخم السكاني والديون المتراكمة والمعدات الخاوية والأيدي المتعطلة إلخ .. إلخ
وهذه الصيحة التي يرددها العلمانيون كلما علت أصوات المطالبين بتحكيم الشريعة ، يحسب أصحابها أنها القنبلة المدمرة التي ستعصف بكيان الإسلاميين وتكشف عجزهم وضعف موقفهم ، وتصرف الناس عن تأييدهم والالتفاف حولهم .. بينما هي في الحقيقة تكشف عن مدى تدني " الحس الإسلامي " في واقعنا المعاصر ، ومدى تغلغل الغزو الفكري في حياتنا ، وتأثيره في طريقة تناولنا لقضايانا الرئيسية .. حتى قضايا العقيدة !
إن القضية من وجهة النظر الغربية التي صرنا نتناول بها قضايانا أن هناك " جماعة " أو " حزبا " يرفع شعاراً معيناً يريد أن يجعله أساساً للحكم . وإذن فليقدم هذا الحزب برنامجه ، ليحكم الناس له أو عليه ، ويعطوه أصواتهم أو يحجبوها عنه ، بحسب اقتناعهم بالبرنامج أو عدم اقتناعهم به !
أما القضية من وجهة النظر الإسلامية فمختلفة تماماً ..
إن تحكيم الشريعة الإسلامية أمر لا يخص فرداً معيناً أو جماعة معينة حتى تكون هي المختصة بأمره ، المطالَبَةَ بوضع البرنامج لتنفيذه ! .. إنه أمر كل مسلم .. كل مسلم ينطق بفمه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، مطالب أمام ربه بتحكيم الشريعة الربانية . فإن كانت محكّمة بالفعل فبها ونعمت . وإن لم تكن قائمة فهو يخرج من دائرة الإسلام أصلا إن رضي بهذا الأمر وتابع ، كما نص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . فضلا عن أن يتبجح برفض تحكيم الشريعة ، أو يطالب بعدم تحكيمها !
أما البرامج التطبيقية فقد تختلف فيها وجهات النظر ، وقد تتناقش فيها الجماعات المختلفة ، وقد يعرض الأمر على أهل الاختصاص ليروا أي وجهات النظر أصوب .. ولكن هذا كله لا يتعلق بالأصل ، وهو تطبيق الشريعة التي يجب أن تكون هي المظلة التي يقف تحتها كل من ينطق بفمه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، والتي في ظلها تفكر الأمة المسلمة ، وفي ظلها تستعرض برامجها .
لقد جعل الله التحاكم إلى شريعة الله محكًّا للإيمان ، شأنه شأن الاعتقاد بوحدانية الله ، وتوجيه كل ألوان العبادة له وحده بلا شريك :
( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) (1)
( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) (2)
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (3)
وكما أن الإيمان بالله الواحد مسئولية كل مسلم على الإطلاق ، لا مسئولية بعض الناس دون بعض ، وكما أن توجيه العبادة لله وحده بلا شريك مسئولية كل مسلم على الإطلاق ، لا مسئولية بعض الناس دون بعض ، فكذلك التحاكم إلى شريعة الله هو مسئولية كل مسلم على الإطلاق ، وليس مسئولية بعض الناس دون بعض .
والأصل في حياة هذه الأمة أن تكون الشريعة الربانية هي الحاكمة فيها ، دونما حاجة لأن يطالِبَ بذلك فرد منها ولا جماعة ، لأنها إلزام رباني ، لا يتوقف على مطالبة أحد أو عدم مطالبته . إنما يقوم به المؤمنون تعبداً واحتساباً ، ولا يملكون ألا يقوموا به لأنهم إن رفضوه فإنهم يخرجون بذلك من أصل الإسلام ، وكذلك إن رضوا بتحكيم شريعة غير شريعة الله .
__________
(1) سورة محمد [ 19 ] .
(2) سورة النساء [ 36 ] .
(3) سورة النساء [ 65 ] .(12/54)
وإذا كان الأمر الواقع اليوم أن هناك دعاة وجماعات تطالب بتحكيم الشريعة فسبب ذلك أن الغزو الصليبي قد قام بتنحية الشريعة عن الحكم في البلاد الإسلامية التي دنستها قدماه ، واستكانت الأمة لما أحدثه الغزو الصليبي فترة من الوقت ، ثم قام دعاة وجماعات من الأمة بالدعوة إلى إعادة الأمور إلى أصلها الذي كانت عليه من قبل ذلك الغزو الغادر ، وتحملوا مسئولية الجهاد في هذا السبيل . ولكن ليس معنى هذا أن يكونوا هم المسئولين وحدهم عن هذا الأمر فيطالَبُوا وحدهم بإنجاز ما يجب على الأمة بأكملها أن تقوم به ، ولا معناه أن يعلق تحكيم الشريعة على تقديم هذه الجماعات برنامجا للتنفيذ ! فضلا عن أن يقوم في هذه الأمة من يعلن جهاراً أنه لا يوافق على تطبيق الشريعة ! وفضلا عن أن يؤخذ المطالبون بتحكيم الشريعة فيقتّلوا ويعذّبوا ، ويتهموا بالخروج على " الشرعية ! " كأنما توجد في الإسلام شرعية بغير شريعة ! !
كذلك فإن تحكيم الشريعة أمر لا يخيّر فيه الناس ولا يُسْتَفْتَوْن ، لأن الله يقول : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) . والتخيير إنما يكون في أمر يملك الناس فيه الخيار . فإذا قال الله إنه لا خيار في هذا الأمر بل
إلزام ، وإنه متصل بأصل الاعتقاد ، فكيف يكون التخيير ؟ !
أيخيّر المسلم في الدولة الإسلامية فيسأل : هل تريد أن تكون مسلما أم تريد الكفر .. والعياذ بالله ؟ !
ولكن الأمر قد وصل بهذه الأمة أن يكون تطبيق الشريعة الذي هو أصل ثابت من أصول الإيمان موضع استفتاء وتخيير ، ثم إذا اختارت أغلبية ساحقة من الناس تحكيم الشريعة اختياراً حراً لا شبهة فيه ولا مراء - كما حدث في الجزائر - قيل لهم : لا نسمح لكم بتنفيذ ما اختارته الأمة .. لأنكم غير ديمقراطيين ! ! !
وهذا يعيدنا إلى أصل القضية : بأي الأمرين يلتزم المسلم ؟ بالإسلام أم بالديمقراطية ؟ هل يُعْرَض الإسلام على الديمقراطية لتقبل منه ما تقبل وترفض منه ما ترفض ؟ أم تعرض الديمقراطية على الإسلام فيقبل منها ما يقبل ، ويرفض منها ما يرفض ؟ !
وجواب الإسلام معروف !
ونترك الآن قضية البرنامج التي يتصايح بها العلمانيون كلما ارتفعت أصوات الذين يطالبون بتحكيم الشريعة ، والتي ينخدع بها بعض الدعاة أحيانا ، فينصرفون عن مهمة الدعوة الحقيقية ، وهي تربية جيل من الناس على حقيقة الإسلام ، إلى محاولة وضع برنامج عملي ، للرد على العلمانيين وإبطال حجتهم ! بينما العلمانيون - ومَنْ وراءهم - لا يطلبون البرنامج العملي حقيقةً ! ولو قدم لهم البرنامج لازدادوا طغياناً في حرب الإسلام والمسلمين ! إنما يريدون التشويش والتعطيل ، وصرف الجهود عن الهدف المنشود !
نترك قضية البرنامج لمن يشغل نفسه بالوصول إلى الحكم ! إنما نحن لا نطلب الحكم ، لأننا نعلم أن دون ذلك جهداً ضخما يبذل أولا في تربية الأمة على الإسلام .. وإنما نطالب بأمر أقل من ذلك بكثير .. وهو حرية الدعوة .. حرية توصيل " الكلمة " إلى الناس ..
نترك قضية البرنامج لننتقل إلى القضية الثانية في هذا المبحث ، وهي : هل تصلح التجربة الأوربية منهجا لحياتنا ، وحياة البشرية .. وإذا لم تكن تصلح فما البديل ؟
إن العلمانيين يريدون أن يكون محك القبول أو الرفض هو الديمقراطية وليس الإسلام ..
وبصرف النظر عن إخلاص العلمانيين الحقيقي للديمقراطية ، وهم الذين كانوا يؤيدون أبشع ألوان البطش السياسي في تاريخ هذه الأمة - بطش العسكر - لمجرد أنه يضرب المسلمين ، والذين وقفوا ضد الديمقراطية جهاراً حين أوصلت الإسلاميين إلى الحكم في الجزائر .. بصرف النظر عن ذلك فسوف نناقش الأمر مع العلمانيين من الناحية الموضوعية ، كما ناقش يوسف عليه السلام صاحبيه في السجن :
( أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (2)
إن الديمقراطية - بيقين - ليست فكرا ذاتيا للعلمانيين أتوا به من عند أنفسهم ، إنما هو فكر مجلوب ، أتوا به من الغرب ، وهم لا ينكرون ذلك بل يفاخرون به ..
وأوربا - حسب تجربتها الخاصة - معذورة حين تنادي بالديمقراطية وتصر عليها ، لأنها لم تعرف في حياتها سوى نوعين اثنين من الحكم : الدكتاتورية والديمقراطية ، وقد ذاقت كل أنواع الويل في الدكتاتورية ، ولم تنل حقوقها وضماناتها إلا في الديمقراطية فهي حريصة عليها كل الحرص . وهي تقيس - حسب تجربتها الخاصة - كل أنواع الحكم على ميزانها الخاص ، فكل ما ليس ديمقراطية فهو دكتاتورية ، وهو معيب ومرذول ، والحكم الديني " الثيوقراطي " هو في ميزانها في خانة الدكتاتورية - وقد كان كذلك بالفعل في التجربة الأوربية - فهو معيب ومرذول .
__________
(1) سورة الأحزاب [ 36 ] .
(2) سورة يوسف [ 39 ] .(12/55)
أما المسلمون فلهم ميزانهم الخاص ، وهو ميزان لا يأتون به من عند أنفسهم ، لأن هذه القضايا ليست مما ترك للبشر ليحكموا فيه ، بل هي داخلة في عموم قوله تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) (1) وقوله تعالى : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) (2) أي أنه سبحانه هو صاحب الأمر ، بمقتضى كونه سبحانه هو الخالق . فهو الذي يحل ويحرم ، وهو الذي يضع للناس منهاج حياتهم ، وهو الذي يقول : هذا حسن وهذا قبيح . هذا مباح وهذا غير مباح ، وبمقتضى كونه سبحانه هو اللطيف الخبير ، الحكيم العليم ، الذي يعلم ما يصلح للإنسان وما لا يصلح له .
وفي الميزان الرباني يوجد نوعان اثنان من الحكم : إما حكم الله ، وإما حكم الجاهلية :
( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (3)
ومن ثم فكل حكم غير حكم الله فهو حكم جاهلية . والديمقراطية حيث إنها ليست حكم الله فهي في ميزان الله جاهلية ..
ونعلم أن كثيرا من الناس سيصيحون عجباً واستنكاراً أن توصف الديمقراطية بأنها حكم جاهلي ؛ وليس العلمانيون وحدهم هم الذين سيستنكرون في هذه المرة ، بل كثير من " الإسلاميين " كذلك !
ونسارع فنقول لهؤلاء إننا حين نضع الديمقراطية في ميزان الله الحق ، فنَصِفُها بأنها حكم جاهلي ، فليس البديل الذي ندعو إليه هو الدكتاتورية ، كما يتبادر إلى أذهان الذين تشبعوا بالغزو الفكري ، فلم يعد لهم ميزان يزنون به الأمور ، إنما صار ميزانهم هو ميزان أوربا ، بدعوى أنه ميزان عالمي لا يخص أوربا وحدها ، وإنما يشمل البشر جميعا !
إنما البديل الذي ندعو إليه هو الإسلام .. هو المنهج الرباني الذي أنزله الله ليصلح به الأرض ويصونها من الفساد :
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (4)
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (5)
وحين نقوّم الديمقراطية في الميزان الرباني فهناك معياران أساسيان . المعيار الأول من المعبود في هذا النظام ( ويدخل في هذه القضية بالضرورة : من المشرع ؟ ) والمعيار الثاني : مدى تحقق إنسانية الإنسان في ذلك النظام .
وللعلمانية دعوى عريضة في أنها لا تعارض الدين . إنما هي تحصره في دائرة الاعتقاد والعبادة ، وتمنعه من الهيمنة على عالم السياسة ، فتجعل " الأمة " هي مصدر السلطات ، وهي التي من حقها التشريع .
وهذا - في الإسلام - ليس له اسم إلا الجاهلية !
فالجذور الثلاثة الرئيسية للجاهلية هي اعتقاد وجود آلهة مع الله ( شرك الاعتقاد ) وتوجيه شيء من العبادة لغير الله ( شرك العبادة ) والتشريع - أي التحليل والتحريم - من دون الله ( شرك الاتباع ) .
وحين تجعل الديمقراطية حق التشريع - أي التحليل والتحريم - " للأمة " من دون الله ، فهي تقع في أحد أنواع الشرك الرئيسية ، ومن ثم فهي جاهلية في ميزان الله
والذين يهولهم أن توصف كل الحقوق والضمانات التي تحملها الديمقراطية للناس بأنها جاهلية نقول لهم : إن الإسلام لا يرفض تلك الحقوق والضمانات في عمومها ، ولا يرفض أن يكون للفرد كرامة تمنع " الدولة " أو " الحاكم " من اعتقاله أو سجنه أو إهانته أو تعذيبه أو التضييق عليه لمجرد أنه يخالف الحاكم أو يعارضه .. فهذه الضمانات والحقوق كلها من صميم الإسلام ، والإسلام هو الذي منحها للبشر قبل أن تمنحهم إياها الديمقراطية بأكثر من ألف عام .. إنما الذي يرفضه الإسلام ويصر على رفضه هو إعطاء البشر - أي بشر - حق التشريع ابتداء ، أي حق التحليل والتحريم من دون الله ، وبما يخالف أوامر الله (6) ، وهذا - بالذات - هو الذي تصر الديمقراطية عليه ، وهو هو الذي يضع الديمقراطية في خانة الجاهلية ، على الرغم من كل ما تحمله للناس من حقوق وضمانات لا يعارضها الإسلام ، بل كان هو أول من منحها للبشرية كما سيجيء بيانه .
وحين يحكم الإسلام فلن يلغي الحقوق والضمانات التي منحها الله للبشر يوم أكمل لهم دينهم وأتم عليهم نعمته ، إنما هو سيلغي فقط ألوان الفساد التي تعج بها الأرض في ظل الجاهلية المعاصرة ، وفي ظل كل جاهلية التاريخ .
المعيار الثاني في هذه القضية هو مدى تحقق إنسانية الإنسان .
والبحث في إنسانية الإنسان يستلزم تحديد غاية وجوده في هذا الكون ، فمن الذي يحدد له غاية وجوده ؟ !
إنها في الحقيقة ذات القضية !
فإذا كان رد حق التشريع لله مبينا على كونه سبحانه هو الخالق ، وهو اللطيف الخبير :
( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) (7)
__________
(1) سورة يوسف [ 40 ] .
(2) سورة الأعراف [ 54 ] .
(3) سورة المائدة [ 50 ] .
(4) سورة الروم [ 30 ] .
(5) سورة المائدة [ 3 ] .
(6) أما الاجتهاد في حدود مقاصد الشريعة فمباح بشروطه المعروفة .
(7) سورة الأعراف [ 54 ] .
( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1)(12/56)
فكذلك حق تحديد غاية الوجود .. هو للخالق الذي أوجد ، وللطيف الخبير الذي يعلم .
وحين يستنكف الإنسان عن عبادة الله ويستكبر ، ويزعم أنه أدرى بغاية وجوده من خالقه ! وأدرى بالمنهج الذي يحقق غاية وجوده من اللطيف الخبير ، العليم الحكيم ، يحدث ما يحدث من الفساد في الأرض ..
فإذا عرضنا الديمقراطية على ميزان الإسلام في قضية تحقيق إنسانية الإنسان فماذا نرى ؟
نرى صفحتين مختلفتين ، إحداهما مشرقة شديدة الإشراق ، تلك هي صفحة الحقوق والضمانات التي تعطيها الديمقراطية للفرد ضد طغيان الدولة ، والأخرى سوداء حالكة السواد ، هي إباحة الإلحاد بدعوى حرية العبادة ، وإباحة الفوضى الجنسية والأخلاقية بدعوى الحرية الشخصية ، وثمة صفحة ثالثة يختلط فيها السواد والبياض ، ظاهرها حقوق التمثيل السياسي وتشكيل الأحزاب وحرية الاجتماع والتعبير .. إلخ ، وباطنها سيطرة رأس المال ، ومن وراء ذلك سيطرة اليهود ..
ونضرب صفحا الآن عن الصفحة الثالثة ، وننظر إلى الصفحتين الأخريين ، ونسأل : إذا أنت منحت إنساناً ما ثوباً جميلاً نظيفاً رائع الجمال ، ثم دفعته إلى حفرة من الطين أو سمحت له بإلقاء نفسه في الحفرة ، وحرّمت على الآخرين أن يمنعوه من ذلك بدعوى أن هذه حريته الشخصية ( ! ) فماذا تجد في النهاية - وقد حُفت هذه الحفرة بالشهوات - إلا أن تجد الناس في النهاية غرقى في الطين ؟ !
هل يكون الإنسان يومئذ قد حقق غاية وجوده ؟ !
ولا يقولن أحد : نأخذ الصفحة المشرقة وحدها ، ونترك الصفحة الحالكة ، لأننا عندئذ لن نكون ديمقراطيين ! لأنك إذا منعت الإلحاد بسلطة القانون ، ومنعت قذارة الفوضى الجنسية بسلطة التشريع ، فقد اعتديت على " الحرية الشخصية " وأصبحت .. يا للهول ! .. أصبحت أصوليا ! أصبحت إرهابيا ! .. أصبحت عدواً للديمقراطية ! !
ونعود الآن إلى الحقوق والضمانات .
يشكك العلمانيون في وجود تلك الحقوق والضمانات في الإسلام ، ويزعمون أن " الإسلاميين " إنما تعلموا الحديث عنها من ديمقراطية الغرب ، ثم ألصقوها بالإسلام زورا وبهتانا ، ليزعموا أن الإسلام يغنينا عن استيراد المبادئ والنظم من الغرب ..
وحين نقول لهم تعالوا إلى فترة الخلافة الراشدة ننظر في أحوالها ، ونستنبط الفكر السياسي منها يقولون : كلا ! لا تستشهدوا بفترة الخلافة الراشدة ، لأن واقع المسلمين بعد ذلك قد امتلأ بالجور والاستبداد .
وقد رددنا على ذلك من قبل ..
ونؤكد هنا مرة أخرى أننا سنظل نستشهد بفترة الخلافة الراشدة من أجل الدلالة التي تحملها : دلالة أنها من صنع الإسلام لا من صنع أي عنصر آخر غير الإسلام ..
وإلا فمن أين جاءت ؟ !
ولنأخذ عمر رضي الله عنه على سبيل المثال .. كيف كان في الجاهلية ؟ وكيف صار في الإسلام ؟
كان في الجاهلية جبارا يفزع الناس بجبروته .. فصار ألين الناس في الإسلام مع شدته في الحق .
وخذ - فيما نحن بصدده - ذلك الحادث النموذج :
وقف عمر يخطب الناس في المسجد فقال : أيها الناس ! اسمعوا وأطيعوا ! فقال له سلمان الفارسي رضي الله عنه : لا سمع لك علينا اليوم ولا طاعة ! فلم يغضب ، ولم يحتقن قلبه غيظا من ذلك الذي يتحدى سلطانه - سلطان الخلافة - بل قال متسائلا : ولمه ؟ قال سلمان : حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به ، وقد نالك برد واحد كما نال بقية المسلمين ، وأنت رجل طوال لا يكفيك برد واحد ! فلم يغضب عمر مرة أخرى ، بل نادى في المسجد : يا عبد الله ! فلم يجب أحد لأن كل الناس عبادٌ لله وهو لم يحدد أيهم يريد ! فقال : يا عبد الله بن عمر ! قال : لبيك يا أمير المؤمنين . قال : نشدتك الله ! هذا البرد الذي ائتزرت به ، أهو بردك ؟ قال : نعم ! والتفت إلى المسلمين يقول : إن أبي رجل طوال لا يكفيه البرد الذي ناله كبقية المسلمين ، فأعطيته بردي ليأتزر به ! قال سلمان : الآن مر ! نسمع ونطع !
من أبن جاء هذا النموذج الفذ ؟ هل له مصدر غير الإسلام ؟
ولننظر في تاريخ الديمقراطية كله .. هل حوى نموذجا في روعة ذلك النموذج ؟
الإسلام إذن هو أبو " الحقوق السياسية للأمة " التي تمنح الأمة حق مساءلة الحاكم على الصغيرة والكبيرة ، وتعلق طاعة الحاكم على طاعته هو لله ورسوله ..
ولنأخذ من سيرة عمر رضي الله عنه ذلك النموذج الآخر :
قام عمر يوما يخطب الناس فقال : أيها الناس ! إن أحسنت فأعينوني ، وإن رأيتم فيّ اعوجاجا فقوّموني !
أرأيت ! إنه يحرض الناس على مراجعته وتقويمه ، ولا ينتظر حتى يقوموا هم بذلك فيذعن لهم ، وهو أقصى ما حققته الديمقراطية في عالم الواقع .. ولكن الحادث الفذ لا ينتهي هنا ، وهو في ذاته رائع .. إنما يمتد وراء ذلك ..
قال سلمان رضي الله عنه : والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف !
فيقول عمر رضي الله عنه : الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوّمه بحد سيفه ! !
سيقولون : حادث فذ لا يتكرر .. ولم يتكرر ..
نقول نعم ! ولكن من صنعه ؟ أثمة شيء غير الإسلام ؟
__________
(1) سورة الملك [ 14 ] .
وأنتم تقولون إن الديمقراطية تمنح الناس مثل هذه الحقوق ، ويمارسها الناس هناك(12/57)
ونتغاضى الآن عن جملة من الحقائق التي يدركها كل باحث في الديمقراطية الرأسمالية الغربية ، وهي أن هذه الحريات كلها تتلاشى حين تُمسُّ مصالح الرأسمالية أو تصطدم بالنفوذ اليهودي . ويكفي للدلالة على ذلك مقتل كنيدي عام 1963 حين اصطدمت سياسته بالمصالح اليهودية ، كما يكفي للدلالة سحب درجتين جامعيتين واحدة في فرنسا والثانية في أمريكا ، وتنزيل صاحبيهما في استدرار عطف العالم وجره إلى الموافقة بل الترحيب - بسلب حقوق العرب في فلسطين !
نتغاضى الآن عن ذلك ، ونقول للعلمانيين : أنتم تقولون إن الديمقراطية تمنح الناس هذه الحقوق وتربيهم عليها ، فما الذي يمنع إذن من تربية الناس عليها في الإسلام ، وهي نتاج إسلامي أصيل مارسه المسلمون قبل بزوغ الديمقراطية بأكثر من ألف عام ؟ !
هل يمنعنا الواقع الإسلامي التاريخي الذي فرط في الحقوق الربانية ؛ ووقع فيه الاستبداد ؟
ولماذا يمنعنا ؟
ألستم تنادون بدعوة جديدة وحياة جديدة ومثل جديدة في ظل الديمقراطية ؟
ونحن ندعو بدعوة ليست جديدة ! دعوة " رجعية " جدا .. تعود إلى عهد الخلافة الراشدة ! ونقول للناس : ارجعوا إليها !
فإذا أمكن تحقيق دعوتكم في ظل العلمانية ، فلماذا لا يمكن تحقيق دعوتنا في ظل الإسلام ؟ !
يقولون في دعاواهم إن الإسلام بطبيعته " أحادي النظرة " لا يقبل إلا وجهة نظر واحدة ، ولا يحترم وجود " الآخر " ولا " الرأي الآخر " ، ويتهم المعارضين بأنهم خارجون على الدين ، فيتعسف في معاملتهم !
وإنه نظام لا يسمح بقيام الأحزاب ولا يسمح بتداول الحكم ..
وإنه نظام " شمولي " يمهد بطبيعته للاستبداد السياسي !
أما الدعوى الأولى فليس أكذب منها على التاريخ !
إن علماء المسلمين هم الذين علموا العالم كيف يختلف الناس دون أن يقوم بينهم شجار ، ولا عداوة ، ولا بغضاء !
كان العالم منهم يقول : قولنا صواب يحتمل الخطأ ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب ! أي روح علمية ، وأية رحابة صدر أعظم من ذلك ؟ !
إن العالم منهم لا يلقي كلامه على عواهنه ، وإنما يستدل بالدليل ، ويكد ذهنه لينضبط كلامه بالضوابط الشرعية ، ومع ذلك يحتاط - لله - فيقول إنه يعتقد أنه على صواب ولكنه لا يقطع بذلك خشية أن يكون الحق مخالفاً لقوله فلا يكون قد أدى الأمانة لله :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ .. ) (1) .
وذلك تجرد للحقيقة وللبحث العلمي لا يتصور أروع منه .. فمن قال إن الإسلام لا يقبل إلا وجهة نظر واحدة ، ولا يحترم " الآخر " ولا الرأي " الرأي " ؟ !
وكيف نشأت المذاهب إذن ؟ وكيف اختلفت الاجتهادات ؟ وكيف نشأ في الفقه علم يسمى " علم الخلاف " ؟ !
ولكن العلمانيين يقصدون شيئا آخر ، سواء جهروا به أم لم يجهروا .. وبعضهم يجهر بالفعل!
إنهم يريدون أن يكون " الدين " وجهة نظر ! إحدى وجهات النظر المعروضة في الساحة ! وهناك - معه - وجهة نظر أخرى ، ورأي آخر .. والإنسان حر .. يأخذ " بوجهة نظر الدين " أو بوجهة النظر الأخرى .. وحبذا - لكي يكون حرّ الفكر - أن يأخذ بوجهة النظر الأخرى وينبذ وجهة نظر الدين .. بغير تحريج على عمله هذا ولا تأثيم !
هذه هي القضية في حقيقتها .. يجهر بها بعضهم أحيانا ، ويغلفها الآخرون بغلاف لا يخفى حقيقتها !
يا للغزو الفكري .. كم تمكن من تلك القلوب !
إن تجربة أوربا مع دينها هي التي أدت بها إلى هذا الوضع المقلوب .
فقد وثقت أوربا في دينها المزيف ثقة عمياء ، على أساس أنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. وكانت لذلك الدين قداسة في نفوسهم ، ولرجاله احترام وتوقير يصلان إلى حد التقديس بالنسبة " لقداسة البابا " وينزل سفلا حتى يصل جزء منه إلى " راعي الأبرشية " (2) وهو أصغر رجالهم قدراً وأصغرهم سناً !
ثم رويداً رويداً اكتشفت أوربا أنها كانت مخدوعة خديعة كبرى برجال الدين أولا ثم بالدين ذاته أخيرا !
وزاد الأمر سوءاً حين قامت الكنيسة تحرّق العلماء وتعذبهم لأنهم نادوا بأراء ونظريات علمية ثبتت صحتها بعد ذلك ، وثبت أن ما كانت تقوله الكنيسة في حقها غير صحيح ..
عندئذ بدأ الناس - الأحرار الفكر - يشكّون في كل ما تقوله الكنيسة ، وكل ما يأتي من قِبَل الدين ..
__________
(1) سورة النساء [ 135 ] .
(2) هو كاهن القرية الصغيرة ، وهو في أول السلم الكهنوتي ، وقد يبقى هناك حياته كلها ، أو يسعفه الحظ فيرقّى .
لم يعد الدين حقائق نهائية كما كان في حس الناس من قبل ، إنما أصبح وجهة نظر وأصبح معها وجهات نظر أخرى يؤكد العلم ، وتؤكد التجربة ، وتشير دلائل كثيرة أنها أولى بالاعتبار من وجهة النظر التي يدلي بها رجال الدين .. فعندئذ لم يقف الأمر عند أن يكون الدين وجهة نظر .. مجرد وجهة نظر .. إنما أصبح هو وجهة النظر الأخف وزنا والأضعف أدلة .. وانتهى به الأمر أن يكون هو وجهة النظر المنبوذة ، التي تذكر للتنديد بها ، والسخرية بقائليها ، وبيان ضعفها وفجاجتها ، ثم العدول عنها إلى " وجهة النظر الأخرى " !(12/58)
هذه الصورة التي لها ما يفسرها في التجربة الأوربية ، والتي سببها تزييف الدين الذي عرفته أوربا وتحريفه .. يحب العلمانيون ألا يفوتهم " شرفها " و " وجاهتها " ! فيطبقونها - ويدعون إلى تطبيقها - على الدين الحق الذي شهدت له السموات والأرض ومن فيهن !
يريدون - بحجة الديمقراطية ، أو بأي حجة أخرى - أن يحولوا كلام الله الحق إلى وجهة نظر ! ثم يحولوه - بالمواظبة - إلى وجهة نظر منبوذة لا يؤخذ بها ، بل يعدل عنها إلى " وجهة النظر الاخرى " !
وعندئذ يكونون قد بلغوا مرامهم من هدم هذا الدين ..
( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (1)
مرحبا بالرأي والرأي الآخر حين يكون بين بشر وبشر .. فليس من حق بشر أن يدعي العصمة لنفسه ولكلامه ، ويهمل كلام الآخرين لمجرد أنهم يخالفونه في الرأي .. إنما الدليل هو الذي يقرر أي الرأيين أقرب إلى الصواب .
أما حين يكون الأمر بين كلام الله وكلام البشر ، فمن ذا الذي يبلغ به التبجح أن يقول إنه أعلم من الله ، وإن كلام الله لا يلزمه لأنه مجرد وجهة نظر ؟ !
( مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (2)
وويح للذين يخنسون ويبتلعون آراءهم في جوفهم إذا تكلم رئيس دولة من طغاة الأرض ، فإذا ذكر كلام الله لَوَّوْا رءوسهم وقالوا : هذه وجهة نظر الدين .. أما نحن فلنا وجهة نظر مختلفة !
وهل فعل الشيطان غير ذلك حين استحق اللعنة الأبدية من الله ؟ !
( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (3)
( إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (4)
أما قضية قيام الأحزاب وتداول الحكم فهي صورة أخرى من صور تدني " الحس الإسلامي " في واقعنا المعاصر ، وتغلغل الغزو الفكري في حياتنا .. إن الحس الإسلامي يمنع " احتراف " التأييد واحتراف المعارضة ، اللذين تمارسهما الديمقراطية الحزبية في واقعها التطبيقي ، أياًّ كان الغطاء النظري أو " الأيديولوجي " الذي تتم هذه الممارسة تحته !
تتم الانتخابات ، فيتسلم الحكم الحزب الفائز ، فيجلس أعضاؤه في مقاعد التأييد ، وتجلس الأحزاب الأخرى في مقاعد المعارضة ! ويحترف الأولون التأييد للحكومة في قراراتها ولو كانوا غير مقتنعين بها ، ويحترف الآخرون المعارضة ولو كانوا مقتنعين بوجاهتها . ويحدث كثيرا أن يعارض قوم قرارا معينا وهم في مقاعد المعارضة ، فإذا جاءوا إلى الحكم أيدوا القرار ذاته إذا صدر عن حكومتهم ! أو العكس ! وأبرز الأمثلة على ذلك أن حزب العمال البريطاني يطالب - طالما كان في المعارضة - برفع أجور العمال وتخفيض ساعات العمل ، مما لا يوافق عليه حزب المحافظين الممثل لمصالح الرأسمالية .. فإذا جاء حزب العمال إلى الحكم رفض رفع الأجور وتخفيض ساعات العمل - أو عجز عن التنفيذ ! سيان ! - لأن ذلك يؤدي إلى التضخم من ناحية ، ويؤذي مصالح الرأسمالية من جهة أخرى ، وهي الحاكم الحقيقي من وراء لعبة تداول الحكم وتعدد الأحزاب ! !
أفيراد تمثيل هذه اللعبة في الإسلام لنكون حضاريين ، ونكون تقدميين ، ونكون عصريين ؟ !
__________
(1) سورة الصف [ 8 - 9 ] .
(2) سورة الأحزاب [ 36 ] .
(3) سورة ص [ 76 - 78 ] .
(4) سورة غافر [ 56 ] .
إن المسلم لا يحترف التأييد ولا يحترف المعارضة ، إنما يدور مع الحق حيث دار .. وقد يخطئ اجتهاده ، ويغيب عنه وجه المصلحة فيحسبه هنا وهو هناك .. ولا حرج في ذلك ، وله أن ينادي بما يعتقد أنه حق ، لا تعصباً لرأيه ، وله أن يغيّر رأيه - بلا حرج - إذا تبين له أن اجتهاد غيره أصوب ، كالخلاف الذي وقع بين عمر وبلال رضي الله عنهما في مسألة الفيء ، فرأى عمر رضي الله عنه رأيا فعارضه بلال رضي الله عنه ، وأصر زمناً على معارضته ، حتى صار عمر رضي الله عنه يدعو فيقول : اللهم اكفني بلالا وأصحابه ! وفي الأخير فاء بلال رضي الله عنه إلى رأي عمر ، فغيّر موقفه من المسألة بغير حرج حين اقتنع بأن اجتهاد عمر أصوب من اجتهاده ..
هكذا تجري الأمور في الشورى الأسلامية .. فهل يستلزم هذا قيام أحزاب ثابتة متعددة تحترف التأييد تارة والمعارضة تارة حسب موقعها من كراسي الحكم ؟ !(12/59)
إنني لا " أفتي " في هذه القضية ، وأترك أمر الفتوى للفقهاء .. وإن كنت أرى أنه من العبث مجادلة العلمانيين في هذا الأمر في الوقت الحاضر ، ولكني أبين فقط كم اجْتَرَفَنَا الغزو الفكري ، فأصبحنا لا نرى الأمور إلا بمنظار الغرب ، الذي تشكل في ظروف تاريخية معينة ، ليرى الأمور على صورة معينة ، قد لاتكون بالضرورة لازمة في ظروف أخرى وأوضاع مغايرة ..
أما تداول الحكم فما المقصود به ؟ !
إن من حق المسلمين أن يناقشوا حاكمهم ، ويردوه إلى الصواب إذا أخطأ ، ويغيروه إذا أصر على الخطأ ، بالطريقة التي اتفق عليها فقهاء السياسة الشرعية ..
أما أن يكون تداول الحكم أصلا من الأصول يطلب لذاته ، ويمارس فقط بغية " الوجاهة " و" العصرانية " فأمر لا تفسير له إلا الغزو الفكري الذي يلعب بالعقول !
والقضية على أي حال لها خبئ عند العلمانيين غير الظاهر الذي تناقش المسألة في إطاره ..
إن العلمانيين يريدون أن يقولوا للإسلاميين - وقد قالوا بالفعل - تعهدوا لنا أيها الإسلاميون أنكم إذا وصلتم إلى الحكم - رغم كل تضييقاتنا عليكم ، ومحاولتنا منعكم من الوصول إليه - تعهدوا لنا أن " تَسْقُطُوا " بعد فترة محددة ، وتسلمونا الحكم بعدكم ! وإلا فلن نوصلكم أبدا مهما حاولتم ، ولو استعملنا ضدكم الحديد والنار .. ولتذهب الديمقراطية يومئذ إلى الجحيم ! فإنما نحن لجأنا إلى الديمقراطية أملا في أنكم لن تصلوا عن طريقها أبداً إلى أغلبية شعبية توصلكم للحكم ، أما وقد ازداد خطركم بحيث يمكن أن تصلوا عن طريق صناديق الانتخاب كما حدث في الجزائر .. فلتحترق الديمقراطية ولتذهب إلى أبد الآبدين !
نقول للعلمانيين إنه - من الوجهة النظرية البحتة - ليس هناك مانع أن يتغير عهد ويأتي عهد آخر .. ولكن العهد الأول والعهد الآخر لا بد أن يحكما كلاهما بشريعة الله ! لأنه لا يتأتى لمسلم أن يحكم الناس بشريعة غير شريعة الله ، فيقع في الشرك المخرج من الملة ، ويقعون هم - إذا رضوا بذلك وتابعوه - في الشرك المخرج من الملة .
وقد لجأ العلمانيون في حواراتهم مع الإسلاميين إلى محاولة إحراجهم ، فقالوا لهم أتقبلون الديمقراطية أساسا للحكم ؟ قالوا : نعم ! والإسلام أبو الديمقراطية ! فقالوا لهم : أتقبلون التعددية ؟ قالوا : نعم ! ولها أصل في الإسلام ! فقالوا ، وتقبلون تداوال الحكم ؟ !
نقول للعلمانيين : إنه لا يوجد مسلم يملك أن يوافق على حكم يحكم بغير ما أنزل الله ، ولا أن يتعهد بالموافقة على ذلك ، لأنه يخرج بذلك من الإسلام .
إنما يخضع المسلمون اليوم لحكومات تحكمهم قهراً بغير ما أنزل الله لأنهم مستضعفون في الأرض ، في ظل السيطرة الصليبية الصهيونية على الأرض اليوم ..
أما أن يوافقوا .. أما أن يرضوا .. فدون ذلك نار جهنم والعياذ بالله ..
بقيت دعوى الشمولية ، والخوف من الاستبداد إذا وصلت إحدى الجماعات الإسلامية اليوم إلى الحكم .
وأنا شخصياً لا أحبذ أن تسعى أي جماعة من الجماعات الإسلامية القائمة اليوم إلى الحكم قبل أن تستكمل تربية ذاتها على الشورى الإسلامية الحقيقية ، التي ضرب لنا الخلفاء الراشدون نماذج منها .. حتى إذا وصلوا إلى الحكم ذات يوم كانوا صورة صادقة للحكومة الإسلامية الراشدة ، لا تكرارا لصور الاستبداد التي وقعت من قبل في حياة المسلمين .
ولكن ما قول العلمانيين في أن يتولوا هم الحكم - وقد تشبعوا بالروح الديمقراطية وتربوا على احترام الآخر ، وإفساح الصدر للرأي الآخر - بشريطة أن يحكموا بما أنزل الله .. وسنكون نحن يومئذ أول المؤيدين ، وأول المناصرين ؟ !
أم إن هذا - بالذات - هو المحظور ؟ ! !
من الوقائع المضحكة التي وقعت في السجن الحربي - وشر البلية ما يضحك كما يقو صلى الله عليه وسلم - أن التحقيق كان يجري مع أحد الإخوان ، وهو معلق من يديه ورجليه ، والسياط تهوي عليه من كل جانب ، فقال له المحقق الذي يتولى تعذيبه : " ... وعلى ذلك فقد رحت تقرأ كتب سيد قطب ، وتقول منها للناس ؟ ! " فظن المسكين في حرارة الضرب أن التهمة الموجهة إليه هي ترديد كلام سيد قطب ! فراح ينفي التهمة بشدة ! قال : " أنا لا أقول من كلام سيد قطب ! " فتوقف الرجل عن التعذيب لحظة وسأله : " من أين تقول إذن ؟ ! " قال : " أنا أقول من القرآن ! " عندئذ عاد الرجل يهوي بالسياط على بدنه أشد من الأول ، وقال له حانقا : " يا ابن ال .. ! ومن أين يقول سيد قطب ؟ أليس يقول من القرآن " ؟ ! !
وعلم المسكين أن التهمة الحقيقية لم تكن ترديد كلام سيد قطب .. إنما كانت ترديد كلام الله !
لحساب من يُحارَب الإسلام ؟ !
الحرب المحمومة التي تشن على الإسلام اليوم أوضح من أن يجادل فيها مجادل
حرب عالمية في كل مكان في الأرض .. في البوسنة والهرسك .. في طاجستان .. في الهند .. في كشمير .. في الفلبين .. في بورما .. في تركستان .. في فلسطين .. فضلا عما يجري في داخل العالم الإسلامي ذاته من ملاحقة للحركات الإسلامية وتشريد لأصحابها وسجن واعتقال وتعذيب ..(12/60)
ولن نتعرض هنا إلا لعنصر واحد من هذه الحرب الشاملة التي تستخدم فيها كل الوسائل ، ذلك هو الهجوم العلماني العنيف المتلاحق في وسائل الإعلام المختلفة من صحافة وإذاعة وتلفاز وندوات ومحاضرات وتصريحات ولقاءات ..
ونستثني من هذه الحملة الإعلامية ما كان موجها ضد " الإرهاب " فلا نتكلم عنه في هذا المجال ، فقد يجد القائمون بالحملة ستاراً لحملتهم ، فيقولون إنهم يحاربون الإرهاب ولا يحاربون الإسلام ..
إنما نتحدث فقط عن الحملات الموجهة ضد الإسلام ذاته ، وبالذات ضد تحكيم الشريعة .. ونتساءل : لحساب مَنْ تشن تلك الحملات ؟ !
حين جاء الغزو الصليبي للعالم الإسلامي كان أول همٍّ له بعد استيلائه على أي بلد من بلاد المسلمين هو تنحية الشريعة .
ولا عجب في ذلك إذا أدركنا أنه غزو صليبي ..
ويجب أن نفرق ابتداء بين ما سمي " استعماراً " (1) - أي الاحتلال العسكري لبلد من البلاد وإخضاعها للدولة الغازية - وبين ما جرى في البلاد الإسلامية خاصة ، وهو شيء مختلف تماما ، وإن أريدَ إيهامنا أنه كله من نوع واحد ، وأنه كله داخل تحت عنوان " الاستعمار " وأن الهدف منه جميعا كان الاستغلال الاقتصادي للبلاد المغلوبة على أمرها ، وليس وراء ذلك هدف آخر !
كلا .. ليسا نوعاً واحداً ، وإن كان الاستغلال الاقتصادي من الأهداف الرئيسية في كلا النوعين ..
ففي البلاد غير الإسلامية التي أغار عليها " الاستعمار " لم يتعرض الاستعمار لعقائد أهلها ولا عاداتهم . لم يتعرض للهندوكية في الهند ، ولا البوذية في جنوب شرق آسيا ، ولا للوثنية في أفريقيا ..
أما في البلاد الإسلامية فكان الأمر على خلاف ذلك .. كانت هناك حرب شرسة ضد الإسلام ، توجهت أول ما توجهت إلى تنحية الشريعة الإسلامية ، وفرض القانون الوضعي بالحديد والنار ، ثم توجهت إلى معاهد التعليم الإسلامي لإغلاقها او قهرها على تغيير برامجها الدينية ، ثم توجهت إلى محاولة تغيير عادات الناس وتقاليدهم بشتى الوسائل التي استخدمها " الغزو الفكري " في مناهج التعليم ووسائل الإعلام .. وقامت مدارس التنصير بدورها في تلك الحرب الشرسة على مبدئهم الشهير : " بطيء ولكنه أكيد المفعول " (2)
لماذا كان ذلك الفارق بين " الاستعمار " في البلاد غير الإسلامية ، وبين " الغزو الصليبي " في بلاد الإسلام ؟
الفارق أنه لا عداء بينهم وبين الوثنية بأشكالها المختلفة ، هندوكية أو بوذية أو إفريقية ، بينما العداء قائم بينهم وبين الإسلام : " وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ " (3)
والفارق أن العقائد الوثنية لا خوف منها على وجود المستعمر ، ولكن خطر الإسلام كامن في عقيدته التي تحث المسلمين على الجهاد ، وتمنعهم من الاستكانة إلى أعداء دينهم . وأن الإسلام ليس ديناً منفصلاً عن واقع الحياة يُمَارَسُ ساعة من النهار ثم تجري الحياة بعيدة عنه بقية اليوم .. إنما هو ضارب بجذوره في كل تفصيلات الحياة ودقائقها ، فهو ما يفتأ يذكّر المسلمين في كل لحظة ، وكل عمل ، وكل شعور ، وكل فكر ، أن هؤلاء الغزاة ليسوا منهم ، ولا يمكن أن يكونوا منهم في يوم من الأيام ، إنما هم غزاة كفار يجب أن يُجْلَوْا من أرض الإسلام ..
__________
(1) لا أدري من الذي بدأ استخدام كلمة " الاستعمار " ترجمة لكلمة Colonisation التي تعني الاحتلال ولكني أرجح أنهم ذات المترجمين الأرمن واللبنانيين الذين كان الغزو الصليبي يستخدمهم في البلاد الإسلامية ، والذين ترجموا لفظة Secula r ism بالعلمانية للإيهام بأن لها صلة بالعلم !
(2) سنتكلم بشيء من التفصيل عن هذه الوسائل فيما يلي من الفصل .
(3) سورة البقرة [ 120 ] .
والفارق أخيراً أن الوثنيين قد يتقبلون النصرانية لأنهم لا يملكون عقيدة حقيقية يمكن أن تقف في وجهها . أما المسلمون الذين يشعرون أن عقيدتهم أسمى وأشمل وأصح فإنهم لن يقبلوا النصرانية ، وسيقفون وقفة صلدة أمام محاولات التنصير ..
هل نعجب إذن من بدئهم حملتهم ضد الإسلام بتنحية الشريعة الإسلامية ؟
إن كانوا يريدون تنصير المسلمين - وقد حاولوا ذلك في مبدإ الأمر حتى يئسوا (1) - فهل يمكن ذلك في وجود الشريعة التي تطبق حد الردة على المرتد الذي يبدل دينه (2) ؟
وإن كانوا يريدون نشر الفاحشة - وقد أرادوا ذلك وفعلوه (3) - فهل يمكن ذلك في وجود الشريعة التي تطبق حد الزنا ؟
وإن كانوا يريدون نشر الخمر والتعالن بها - وقد أرادوا ذلك وفعلوه (4) - فهل يمكن ذلك في وجود الشريعة التي تطبق حد الخمر ؟
وإن كانوا يريدون إغراء المرأة بخلع حجابها ، وخروجها بعد ذلك سافرة ، كاسية عارية ، فضلا عن تجريدها من حيائها الفطري على الشواطئ التي تختلط فيها كتل اللحم العريان - وقد أرادوا ذلك وفعلوه - فهل يمكن أن يحدث ذلك في وجود الشريعة التي تعاقب على هذه الأمور كلها عقوبات رادعة ؟(12/61)
وإن كانوا يريدون إزالة الحاجز النفسي الذي يجعل المسلم يحس دائما بالاختلاف والتميز بينه وبين الغازي الصليبي ، بحيث لا ينسجمان ولا يندمجان ولا تزول العداوة بينهما - وقد أرادوا ذلك وفعلوه - فهل يمكن ذلك إذا بقي للمسلم نظامه الخاص في التحاكم وفي التعامل ، يفيء إليه مستعليا بإيمانه على من لا يدين بالدين الصحيح ؟
من كل الجوانب إذن كان لا بد للغازي الصليبي أن يبدأ عمله - بعد استتباب أوضاعه العسكرية - بتنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم ..
ولكن هذه الخطوة وحدها لم تكن لتكفي ..
فما الذي يمنع المسلمين من محاولة العودة إلى الشريعة ، بعد أن تزول عنهم وهلة الهزيمة العسكرية ، فيبدءوا الجهاد من جديد لإخراج الغازي الصليبي ، وإعادة الشريعة إلى مكانها من الحكم ، ومكانتها من القلوب ؟ !
لا بد من صرفهم - من داخل أنفسهم - عن تلك المحاولة الخطيرة .. التي يمكن أن تفسد كل مخطط الأعداء .
بل لا يكفي صرفهم فحسب .. فلربما يعودون !
لا بد من تنفيرهم من الشريعة بحيث لا يفكرون في العودة أبدا ، ويحمدون ربهم - أو يحمدون شيطانهم - أنهم تخلصوا من تلك الشريعة إلى غير عودة ..
وذلك الذي خطط له الغزو الصليبي عن طريق " الغزو الفكري " بدءاً بمناهج التعليم ، ومروراً بوسائل الإعلام .
وضعت مناهج تعليمية " علمانية " بدلا من المناهج الدينية التي كانت تعلم الناس أن الإسلام هو الأصل في حياة المسلمين ، وأنه من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ..
وحقيقة أن " التعليم الديني " الذي كان قائما يومئذ لم يكن هو الصورة الصحيحة للتعليم الديني كما ينبغي أن يكون ، ولم يكن يخرّج المسلم الحق الذي يعرف حقيقة دينه ويمارسه على وعي وبصيرة ، كما أنه كان خلوا من العلوم الكونية التي كانت تشكل جزءا أساسيا منه يوم كان المسلمون في الأندلس وغيرها من بلاد الإسلام هم المتعلمين حقاً في الأرض ، وهم سادة الأرض ..
صحيح ذلك .. ولكن الغزو الصليبي الذي أغلق المعاهد الدينية أو جفف منابعها أو تركها قائمة ولكن شبه مهجورة ، وحوّل مجرى التعليم بعيدا عنها كما فعل الاحتلال البريطاني في مصر تجاه الأزهر (5) ، لم يفعل ذلك من أجل تصحيح مسار التعليم وجعله أداة مفيدة للأمة تخرجها من تخلفها وضعفها إلى القوة والتقدم .. بل فعل ذلك بدافع من الحقد الصليبي ، للقضاء على الصبغة الدينية التي تميز المسلمين ، ودفع المسلمين دفعا في تيار التغريب الذي تَنْبَهِمُ فيه شخصيتهم ويؤدي بهم إلى الضياع وإن تعلموا من العلم بعض القشور ..
__________
(1) سيأتي كلام الأب زويمر في هذا الشأن .
(2) قال صلى الله عليه وسلم : " لايحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " أخرجه الشيخان .
(3) وصل الأمر إلى فتح بيوت للدعارة الرسمية ، وتنصيب الدولة " المسلمة ! " راعياً لها ، وحارساً عليها !
(4) أعطيت التصاريح الرسمية لفتح حانات الخمر ، وكتب عليها " مشروبات روحية ! " ترجمةً لكلمة Spi r itual بمعنى كحولية ! على نفس الطريقة التي أصبح الاحتلال بها " استعمارا " واللادينية " علمانية " ! ! .
(5) اقرأ إن شئت فصل الغزو الفكري من كتاب " واقعنا المعاصر " .
وفي تلك المناهج العلمانية لم يكن هناك مجال لللعلوم الشرعية ، ولكن هناك حصة دين بائسة توضع في آخر الجدول المدرسي ، والتلاميذ يتثاءبون من رغبة النعاس وإجهاد الدراسة اليوم بطوله ، وينتظرون دق الجرس لينفلتوا من القيد ، ويخرجوا إلى الطريق . ويندب لها من المدرسين أكبرهم سنا وأعجزهم عن النشاط والحركة وأدناهم إلى الفناء . والدرس ذاته عبارة عن نصوص تستظهر دون اهتمام بشرح معانيها وإحيائها في القلوب لتحريك الوجدان الديني في نفوس التلاميذ وربط قلوبهم بالله سبحانه وتعالى برباط متين .. ولن تكون نتيجة ذلك الدرس تعلق الضغار بدينهم ، بل الأحرى تنفيرهم منه وإبعادهم عنه ..(12/62)
وفي درس التاريخ الإسلامي بالذات جرعة أخرى من السم تبعد الدارسين عن الإسلام وتلوي أعناقهم إلى الغرب ثم تستعبدهم له .. فبعد دراسة البعثة المحمدية يختصر التاريخ الإسلامي إلى جانبه السياسي وحده - وهو الذي وقع فيه أشد الانحراف في حياة المسلمين - ويطمس على الجانب العقدي ، والجانب الحضاري ، والجانب العلمي ، والجانب الاجتماعي ، وكيف فتح المسلمون البلاد لا للاستغلال الاقتصادي أو شهوة الغلبة والفتح ولكن لنشر الدعوة وإزالة الجهالة وتحويل البلاد إلى الأخوّة الإيمانية والسماحة الدينية .. وكأن تاريخ المسلمين كله لم يكن إلا صراعات على الحكم وشهوة السلطان ! فإذا فُرِّغَ التاريخ الإسلامي من محتواه المشرق الحي ، وركز على انحرافات ذلك التاريخ وحدها ، وُجِّه الطلاب إلى تاريخ أوربا .. فركِّز على التقدم العلمي والحضاري وعلى الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وطمس على الاستعمار وجرائمه البشعة ، وإذلال الشعوب واستلاب خيراتها ، وطمس على التحلل الخلقي والروح المادية الصلدة والفساد العقدي وتقطع روابط الأسرة والمجتمع .. فتكون نتيجة تلك الدراسة بذر بذور النفور من التاريخ الإسلامي ، وعدم التعلق بأمجاده ، وعدم الاعتزاز به ، والتوجه في الوقت ذاته إلى الغرب والتعلق به ومحاولة اللحاق به ، أو بالأحرى اللهاث وراءه ..
وحقيقة أن واقع المسلمين في الفترة التي جاء فيها الغزو الصليبي كانت سيئة غاية السوء في جميع المجالات ، وأن حال أوربا الظاهر كان هو الغلبة والقوة والتقدم العلمي والمادي .. ولكن المنهج الذي كان يمكن أن يدرس به التاريخ - لو أن واضعه كان مسلماً معتداً بدينه ، ملتزماً بالحقيقة العلمية في الوقت ذاته أمانة لله - هو أن يعرض الحقيقة كاملة من جانبيها ، الجانب الإسلامي والجانب الغربي ، فيعرض صفحة الإسلام المشرقة وفي داخلها خط الانحراف في حجمه الحقيقي ، وشتان بين هذا وبين إخفاء الوجه المشرق كله وإبراز خط الانحراف وحده كأنه هو التاريخ ؛ ثم عرض الواقع الإسلامي المعاصر على حقيقته مع بيان أن السبب الأساسي في تدهور حال المسلمين هو بعدهم عن حقيقة الإسلام ، وتحول الإسلام في حياتهم إلى تقاليد خاوية من الروح ، وأداء آلي للشعائر التعبدية دون تطبيق للمعاني السامية للإسلام في كل المجالات ، مع الانصراف عما أمر به الإسلام من عمارة الأرض وامتلاك أسباب القوة والحرص على العلم .. أما بالنسبة لأوربا فتعرض جملة الحقائق التاريخية التالية : أن أوربا عاشت فترة عشرة قرون كاملة في ظلمات " القرون الوسطى المظلمة " عندها بسبب فساد دينها وطغيان كنيستها ، ثم لما احتكت بالمسلمين الذين كانوا في الفترة ذاتها في أوج تقدمهم وحضارتهم وتمكنهم في الأرض بسبب تمسكهم بدينهم الحق ، بدأت أوربا تخرج من الظلام ، وترجمت كتب العلوم الإسلامية فتعلمت ، ثم تابعت تقدمها ، فسيطرت وتمكنت بينما نسي المسلمون علومهم فتأخروا ، ولكن أوربا حين ملكت القوة استخدمتها في إذلال الشعوب الضعيفة وقهرها ونهب خيراتها ولم تستخدمها في رفع مستوى الشعوب وترقيتها كما فعل المسلمون في وقت قوتهم ، ولأنهم نبذوا الدين امتلأت حياتهم بالانحلال الخلقي والروح المادية الطاغية ..
ما أبعد تلك الصورة - التي كان يجب أن تكون محور تدريس التاريخ في المدارس - عن الصورة المقلوبة التي كان يدرس بها بالفعل ، مع أن تلك الصورة هي التي تحمل أكبر قدر من " الحقائق التاريخية " والتفسير الصحيح للتاريخ ، بينما الصورة التي كان يدرس بها بالفعل لم تشمل إلا بعض حقائق منتقاة بسوء قصد لإعطاء التأثير المسموم ، كما ينقصها التفسير الصحيح لوقائع التاريخ ، الذي يجعل للوقائع معنى تربويا يصحح بناء النفوس .
بل درّس في المدارس العلمانية ما هو أسوأ من ذلك !
درس للطلاب في درس الجغرافيا أن بلاد العالم الإسلامي متخلفة بسبب حرارة الجو التي تدعو إلى الكسل والخمول بينما الجو البارد في أوربا يبعث على النشاط والحركة . ومتخلفة لأنها زراعية لا يوجد فيها فحم ولا حديد ، بينما أوربا متقدمة لوجود الصناعة فيها بسبب وجود الفحم والحديد ! ومؤدى ذلك أن التخلف لعنة أبدية مكتوبة على العالم الإسلامي ، بسبب ظروف قاهرة لا يد للإنسان فيها مهما حاول ! جو حار ، ولا فحم ولا حديد ! بينما التقدم العلمي والصناعي والحضاري نصيب أزلي مقسوم لأوربا بسبب جوها البارد ووجود الفحم والحديد فيها ! وكأنما تلك البلاد الحارة لم تكن يوما من الأيام مهد حضارة ملأت أرجاء الأرض ، ولم يكن أهلها هم الناشطين الذين يتحركون لكشف مجاهل الأرض ونشر الهدى والنور في أرجائها ، بينما كانت أوربا بجوها البارد وفحمها وحديدها غارقة في الظلام !
ثم .. لما كبر التلاميذ ، وصاروا طلابا في المدارس الثانوية وفي التعليم العالي درّس لهم ما هو أسوأ من ذلك !(12/63)
درس لهم أن أوربا كانت تعيش في الظلمات بسبب سيطرة الدين على حياتها ، وأنها لم تتقدم ولم تتحضر إلا بعد أن نبذت دينها .. وأن الواقع السيىء الذي يعيشه المسلمون اليوم هو بسبب الدين الذي يتمثل فيه الجهل والخرافة ، وأنهم لن يتقدموا ويتحضروا إلا حين يفعلون كما فعلت أوربا ، فينبذون دينهم ، ويتحررون من أغلاله ..
وما أصدق المقولة الأولى ، وما أكذب الثانية !
أوربا كانت في ظلام بسبب دينها .. نعم . ولما نبذت " ذلك الدين " تقدمت وتحضرت .. نعم
أما المسلمون - على عكس ذلك تماما - فإن وقت تمسكهم بدينهم هو وقت عزتهم ووقت قوتهم ، ووقت عملهم وحضارتهم وتقدمهم . أما وقت انتكاسهم وانحسارهم وضعفهم وتخلفهم فهو وقت عدم تمسكهم بحقيقة دينهم ، وإن تمسكوا بأوهام ليست منه في حقيقة الأمر ، حسبوها هي الدين .
والفرق بين الحالين هو الفرق بين الدينين .. أحدهما زائف محرف ، والآخر هو الدين الحق كما أنزل من عند الله بلا تحريف . فمن تمسك بالأول ضل وتقهقر ، ومن تمسك بالآخر على حقيقته نال خير الدنيا والآخرة .
ولكن الذي درس للطلاب سواء بالإيحاء أو بالطريق المباشر لم يكن مقصوداً به وجه الحق .. إنما كان المقصود به هو التضليل ، وإبعاد المسلمين عن الإسلام من كل سبيل ..
ويجيء في هذا الصدد كلام الأب زويمر (1) في مؤتمر القدس التنصيري عام 1935 م ، حيث كان عدد من المنصرين قد شكا من الفشل الذريع في تنصير المسلمين على الرغم من كل الجهود المبذولة في ذلك ، فرد عليهم زويمر مبينا أن الهدف ليس تنصير المسلمين (2) ، وإنما هو صرف المسلمين عن التمسك بالإسلام ، وإن المنصرين نجحوا في ذلك نجاحاً باهراً ، بفضل المدارس التنصيرية ، ومناهج التعليم التي وضعها المنصرون للبلاد الإسلامية ! ! (3)
ولم يكتف الغزو الصليبي بكل السموم الي وضعها في مناهج التعليم ، وما كان له أن يكتفي ! فلا بد من إحكام التخطيط ، وإحكام التنفيذ ، حتى لا تترك ثغرة يعود المسلمون من طريقها إلى الإسلام !
كان المطلوب إحداث نمط حياة كامل مغاير للصورة الإسلامية ، وتحويله إلى " أمر واقع " يضغط بثقله على الأعصاب والأفكار والأرواح والعقول ، فيبعدها عن الإسلام ، ويصبح الإسلام إلى جانبها أشباحاً غامضة ، أو أحلاما هائمة ، غير قابلة للتطبيق في دنيا الواقع .. بل يصبح نمط الحياة الجديد في حس الناس هو الأصل ، ويصبح الإسلام إلى جانبه شيئاً مضاداً .. شيئا غير مرغوب فيه ، لأنه يتصادم مع الواقع الجديد ، ويفسد " رونقه " و "بهاءه " الوهميين اللذين لمعتهما وسائل الإعلام بكل وسائل التضليل ..
ولقد كان هذا أخطر ما صنعه الغزو الصليبي في الحقيقة ، وأبرع ما نجح فيه مستغلا غفلة المسلمين عن حقيقة دينهم ، والانبهار الذي أحسوه تجاه الغرب الظافر بسبب الخواء العقدي الذي كانوا يعيشون فيه .
قامت صحف ومجلات وكتاب يهاجمون " التقاليد " وينادون بضرورة تحطيمها وتخليص المجتمع من أغلالها .. ووضعوا في المطلوب تحطيمه حجاب المرأة ، والتزامها ببيتها ، وتحريم الخلوة بالأجنبية ، وتحريم العلاقات " الحرة ! " .. ووضعوا في المطلوب تطبيقه سفور المرأة وهجرها لبيتها ، ووجوب الاختلاط ، ووجوب التجربة قبل الزواج ، ووجوب إباحة العرى على الشواطئ ، وعشرات أخرى من تلك " الواجبات ! " ..
__________
(1) هو الدكتور صمويل زويمر من أخطر المنصرين الذين عملوا في الساحة الإسلامية ، مات في الخامسة والثمانين من عمره عام 1952 م ، وكان " بروتستانتيا " ولكنه أوصى أن يدفن في مدافن اليهود ! !
(2) كذب زويمر في هذه . ويشهد على كذبه كتاب " الغارة على العالم الإسلامي " تأليف أ . شاتلييه ( تعريب محب الدين الخطيب ) فقد دعا صراحة إلى وجوب تنصير العالم الإسلامي . فلما عجزوا قال زويمر إن الهدف لم يكن تنصير المسلمين ، وزعم أن هذا شرف لا يستحقونه ! وإنما الهدف صرف المسلمين عن الإسلام !
(3) راجع نص حديثه في كتاب الشيخ محمد محمود الصواف " المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام " طبع دار الاعتصام بالقاهرة ص 58 - 59
وخرجت المرأة من بيتها ، وخلعت حجابها وسفرت .. وأصبح هذا أمراً واقعاً ..
ووقع الاختلاط ، وقامت " الصداقات " بين الأولاد والبنات .. وأصبح هذا أمرا واقعا ..
وفشت العلاقات المحرمة بين الرجال والنساء .. وأصبح هذا أمراً واقعاً ..
وفي عالم السياسة قامت أحزاب تبعد الدين عن مجالاتها تماماً وتحرّم الخوض فيه .. وأصبح هذا أمراً واقعاً ..
وفي عالم الاقتصاد قامت بنوك ومؤسسات ربوية تتعامل بالربا جهارا .. وأصبح هذا أمراً واقعاً ..
وفي عالم الفكر قامت نظريات وآراء وأفكار تسخّف الدين ، وتنظر إليه على أنه خرافة وجهل وتأخر وأساطير .. وأصبح هذا أمراً واقعاً ..
ودرس لطلاب المعاهد التربوية الذين سيصبحون معلمي الأجيال التالية نظريات فرويد التي تقرر تعارض الدين مع الصحة النفسية ، وكون الدين هو سبب الاضطرابات النفسية والعصبية ، وكون الواجب رفع " الكبت " عن الغريزة الجنسية .. وأصبح هذا أمراً واقعاً ..(12/64)
ودرس لطلاب الاجتماع نظريات دوركايم التي تقرر أن الدين والزواج والأسرة ليست من الفطرة ، إنما هي من نتاج " العقل الجمعي " الذي يتقلب بلا ضابط ، ويحرم اليوم ما أحله بالأمس ، ويحرم غدا ما يحله اليوم .. وأصبح هذا أمراً واقعاً ..
ودرس لطلاب العلوم نظريات دارون ، والخلق الذاتي ، والتطور الخلاق ، والطبيعة الخالقة .. لا على أنها فروض علمية ولا حتى على أنها نظريات ، بل على أنها حقائق نهائية لا ينكرها إلا جاهل .. وأصبح هذا أمراً واقعاً ..
وقام في الجامعة " أساتذة " يقولون إن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم وإن ورود القصة فيه ليس على سبيل الحقيقة إنما على سبيل " الفن ! " .. وإنه لا يجوز أن يعتبر القرآن مرجعاً تاريخياً ، وإن ورود الأسماء والوقائع فيه لا يعطيها وجوداً تاريخياً ، إنما هي أقاصيص وأساطير على عادة الأقدميين .. وأصبح هذا أمراً واقعاً ..
وعشرات من تلك الأحداث ومئات .. غيرت كلها صورة " المجتمع الإسلامي " وحولته مجتمعا مختلفا تماما .. كأنه صار - كما قال الخديو إسماعيل - قطعة من أوربا .. الإسلام فيه غريب .. والمسلمون فيه غرباء ..
كان ذلك هو " الواقع " الذي أحدثه الغزو الصليبي ليبعد المسلمين عن الإسلام بالدرجة التي يستحيل عليهم - في تصوره - أن يعودوا إليه ..
ولكنهم عادوا ! عادوا على الرغم من هذا الكيد كله ، عادوا بقدر من الله . والله غالب على أمره . وهو الذي يدبر الأمر وليس البشر ، وهو الذي ينشئ الأحداث وليس العبيد ..
عادوا .. أو بدءوا طريق العودة على أقل تقدير ..
وفوجئ العلمانيون .. وذعروا كذلك مع المفاجأة ! وكان موقفهم " الطبيعي ! " ضد الصحوة الإسلامية ، وضد المطالبة بتحكيم شريعة الله ..
إن العلمانيين هم نتاج الكيد الصهيوني الذي وجه ضد الإسلام منذ أكثر من قرن من الزمان (1) ..
وقد لا يدركون هم ذلك ! قد لا يكونون على وعي بمقدار ما أُحْدِثَ في نفوسهم من مسخ وتشويه .. فقد ركّبوا في مصانع الغزو الصليبي بحيث يرون الإسلام عدواً لهم لا بد من محاربته .. لذلك فقد يعتقدون أنهم في مواقفهم ضد الإسلام ، وضد تحكيم الشريعة ، منطلقون من ذوات أنفسهم ، وبدوافعهم الخاصة ..
ولكن .. ألا يستوقفهم ذلك التوافق العجيب بين مواقفهم ومواقف الغرب تجاه الإسلام ؟ !
الغرب هو الذي نحَّى الشريعة الإسلامية من البلاد التي وطئتها أقدامه في أثناء الغزو الصليبي ، والغرب هو الذي جند طاقته كلها لمنع العودة إلى تطبيقها مرة أخرى في بلاد الإسلام ..
والعلمانيون ؟ ما موقفهم .. ؟
أليسوا يعارضون تحكيم الشريعة في بلاد الإسلام ؟ ! ويقيمون الندوات والمؤتمرات ليؤكدوا معارضتهم لذلك الأمر ؟ !
والغرب يقولون إن " الإسلام السياسي " هوالخطر الجديد الذي يهدد العالم .. والذي يجب أن تجند له قوات الغرب ، بل قوات العالم كله !
والعلمانيون ؟ ما موقفهم .. ؟
أليسوا يقولون إن الإسلام يجب أن يبعد عن السياسة ، وإن مزجه بالسياسة ، أو انطلاق السياسة من منطلقه خطر يهدد العالم ؟ !
والغرب وقف بشدة ضد وصول الإسلاميين إلى الحكم في الجزائر ، ونسي " ديمقراطيته " التي تقضي بأن ما تجمع عليه أغلبية الأمة يجب أن يكون هو دستورها النافذ وقانونها المطبق ، وقال : إن ذلك يصح مع أهل الأرض جميعا إلا المسلمين !
والعلمانيون .. ما موقفهم .. ؟
أليسوا قد وقفوا ضد الإسلاميين في الجزائر ، وقالوا إن " العالم الحر " يجب أن يتدخل ليحول دون هذا الخطر المخيف ؟ !
__________
(1) الأولى أن نقول " الكيد الصليبي الصهيوني " فقد كان اليهود شركاء في التخطيط والتنفيذ ، وكانوا يعملون طيلة الوقت لحسابهم الخاص ، فقد كانوا يخططون لإنشاء إسرائيل ، وكانوا يعلمون أن العقبة أمامهم هي الإسلام ، فكل جهد لإبعاد المسلمين عن الإسلام هو في صالحهم ، ومن أجل ذلك يشاركون فيه .
والغرب أطلق على الحركات الإسلامية لفظ " الأصولية " Fundamentalism وهي عندهم كلمة ذم لا يوجد لديهم أكثر منها ذما لصاحب فكر أو عقيدة . فهي عندهم علم على فئة من النصارى حرفية في تفكيرها ، ضيقة الأفق ، متعصبة ، لامرونة عندها ولا قدرة على التكيف بما يجدّ في الحياة من أمور .. وقد أطلقوا هذه الصفات كلها على الحركات الإسلامية يوم أطلقوا عليها هذا الوصف Fundamentalists ، ودلالتها عند الرجل الأوربي واضحة غاية الوضوح ..
والعلمانيون .. ما موقفهم .. ؟
ألم يتلقفوا تلك الصفة في الحال ويصفوا بها الحركات الإسلامية ، حتى لم يعد يجري على لسانهم عندما يتكلمون عن الحركات الإسلامية أو الاتجاه الإسلامي إلا لفظ " الأصولية " ؟ !(12/65)
والغرب يتحدث ليل نهار عن " الإرهاب الإسلامي " ويصوره على أنه الخطر الكاسح الذي سيقوض أمن العالم كله ، والذي يجب أن يكافح ، وأن يجتث من جذوره ، بينما لا يتحدث أبداً عن " الإرهاب النصراني " - وقد تمثل في أبشع صوره في البوسنة والهرسك - ولا " الإرهاب اليهودي " وهو يتمثل يوميا في قتل أصحاب البلاد الأصليين وتشريدهم وتعذيبهم في السجون ومنعهم من حقوقهم الطبيعية والاستيلاء على أرضهم وديارهم وطردهم منها ، ولا " الإرهاب الهندي " الذي يمارسه عبّاد البقر على المسلمين في الهند ، ويتمثل في حرق المسلمين أحياء في قراهم ، وتهديم مساجدهم وتعقيمهم إجباريا لكي لا يتكاثر نسلهم ، ولا " الإرهاب البوذي " الذي يفعل بالمسلمين ما يفعل في بورما ، ولا " الإرهاب الشيوعي " الذي قتل مائة ألف من المسلمين في طاجستان وطرد الباقين من بلادهم .. ولا غيرها ولا غيرها من صنوف الإرهاب ، كأن الدنيا كلها مستقيمة ملتزمة والمسلمون وحدهم هم الذين يمارسون الإرهاب .
والعلمانيون .. ما موقفهم .. ؟
أليسوا يرددون ذات النغمة فلا يكفون عن الحديث عن الإرهاب الإسلامي ، بينما يصمتون الصمت المريب عن كل ألوان الإرهاب الواقعة في الأرض ، والتي يقع أكثرها على المسلمين ؟ !
ألا يستوقفهم ذلك التوافق العجيب بين مواقفهم ومواقف الغرب تجاه الإسلام ؟ !
وكيف يتأتى أن يتطابق موقف " المسلم " من دينه وقومه مع موقف أعداء دينه وأعداء قومه ؟ !
أليس هذا عجيبا أيها العلمانيون ؟ !
ألا يوقظكم ذلك إلى مدى تغلغل " الغزو الفكري " في نفوسكم بحيث تطابقت أفكاركم ومواقفكم مع أفكار أعدائكم ومواقفهم .. ؟
بل أنتم لا تحسون أنهم أعداؤكم .. بل تعتبرونهم أصدقاءكم و رفقاءكم ..
فما قولكم في قوله تعالى ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) ؟ (1)
وقوله تعالى ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ) (2) .
وقوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (3) .
لقد آن للعلمانيين أن يكتشفوا حقيقة موقفهم .. وأن يسألوا أنفسهم : لحساب من يحاربون الإسلام ؟ !
والمستقبل .. لمن ؟ !
أثبت موقف الغرب - وموقف العلمانيين - من أحداث الجزائر ، أن عداءهم للإسلام أشد بكثير من ولائهم للديمقراطية ، وإيمانهم بمبادئها .
ونحن نؤمن من زمن بعيد أن الغرب لا أخلاق له ، وأن كل تظاهره بالقيم والمبادئ إنما هو رياء ، وتنفج بالباطل ، أو على أحسن تقدير وَهْمٌ يعيشونه في خيالهم ، ليستكملوا في داخل أنفسهم إحساسهم باستحقاقهم السيادة على الأرض ، لا بالحديد والنار فقط ، ولكن بالقيم والمبادئ أيضا ، فيما يسمونه " الحضارة المسيحية ! ! " ..
نؤمن بذلك منذ أمد بعيد . ولكن العلمانيين في بلادنا أصحاب دعوى عريضة - أو وَهْمٍ كبير - أننا نقول هذا الكلام تعصبا منا ضد الغرب ، وافتئاتا على حضارته ، وعلى قيمه ومبادئه .. التي يكفي منها إيمانه بالديمقراطية !
ثم أحداث الجزائر وتبدى لكل ذي عينين مدى إيمان الغرب بالديمقراطية ..
ثم جاء ما هو أسوأ ..
جاءت أحداث البوسنة والهرسك ، وتهرأت بشكل فاضح كل دعاوى القيم والمبادئ ، وسقط القناع .. وبدا العداء للإسلام في أقبح صورة يمكن أن تخطر على ذهن بشر .. وبدت المؤامرة العالمية ضد الإسلام والمسلمين مكشوفة بلا قناع .
والعلمانيون سادرون في وهمهم يتحدثون عن الديمقراطية ، وعن احترام " الآخر " ، ويحاكمون الإسلام إلى تلك المبادئ الزائفة التي لا رصيد لها من الواقع ..
ونترك العلمانيين ومواقفهم التي لا تستند إلى شيء من الحق . ونقول للدعاة الإسلاميين أن يتمثلوا بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف مشابه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ) (4) .
__________
(1) سورة البقرة [ 120 ] .
(2) سورة البقرة [217 ] .
(3) سورة المائدة [ 51 ] .
(4) سورة النساء [ 63 ] .
نترك العلمانيين ومواقفهم ونلقي نظرة إلى المستقبل .
على أي شيء تستند هذه " الحضارة " ؟
إنها - بلا شك - تستند إلى قوة مادية ضخمة ، لم تتوفر بهذه الصورة من قبل في التاريخ .
وهذه القوة المادية تشمل في أطوائها عبقرية تنظيمية هائلة ، وجلدا على العمل ومثابرة ، وجدية في تناول الأمور ، وتصميماً على الوصول إلى غايات مرسومة .. وتربية دقيقة دءوبة على هذه الخصال .
وكل هذه من أدوات التمكين في الأرض التي قال الله في كتابه العزيز إنه يمكّن أصحابها لفترة من الوقت :
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ) (1)
ولكنه - بغير قيم حقيقية - تمكين مؤقت ينتهي إلى البوار ..(12/66)
و "القيم الحقيقية " ليست شيئاً هلامياً يتشكل بحسب الأهواء ، فإن السنن الربانية لا تتعلق بالأهواء . ولو كان البشر هم الذين يدبرون ، وهم الذين يكتبون الأقدار ، لكان لأهوائهم ثقل في الميزان . أما وهم لا ينشئون ولا يدبرون ، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي بيده ملكوت كل شيء ، وهو الفعال لما يريد ، فإنا المعايير التي حددها الله سبحانه هي التي تجري بمقتضاها السنن الربانية التي تقرر مصاير الناس في الأرض ..
و " القيم الحقيقية " المعتبرة في ميزان الله ، والتي تجري بها السنن الربانية ، هي الإيمان بالله الحق ، والإيمان بالدين الحق ، والعمل الحقيقي بمقتضى المنهج الرباني ..
وأوربا قد " نسيت " ذلك كله منذ أمد بعيد ..
والله سبحانه وتعالى يقول : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (2)
فالتمكين الذي عليه الغرب اليوم يجري بمقتضى السنن الربانية . والبوار الذي ينتظر الغرب - ما لم يغيروا ما بأنفسهم - يجري كذلك بمقتضى السنن الربانية :
( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (3)
( .. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) (4)
والذين يستبعدون انهيار " الحضارة الغربية " ، ويوسوس لهم الشيطان أن الله لا يمكن أن يدمر عليهم ، وهم يملكون هذا القدر الهائل من أدوات التمكين ، نحيلهم إلى أكبر انهيار في التاريخ ، لأكبر قوة طاغية في التاريخ ، وهي قوة الشيوعية متمثلة في " الاتحاد السوفييتي " الذي انهار كأنما في لحظات ..
والغرب دوره في الطريق ..
لن تمنعه قوته المادية ولا الحربية ولا السياسية عن مصيره المقدر في سنة الله :
( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (5)
وحين تنهار هذه " الحضارة " الجاهلية فما البديل ؟
البديل هو الحضارة الإسلامية ..
والإسلام - وحده - هو الذي يملك أن يُخرج البشرية من ظلماتها الحالية إلى النور ..
ليس البديل مزيدا من القوة المادية ، ولا القوة العلمية ، ولا القوة الحربية ، ولا القوة السياسية ، وإن كان هذا كله من الأدوات اللازمة للتمكين في الأرض . ولكنه - وحده - لن يحل شيئا من مشاكل البشرية الحالية !
بل إنه إذا وجد - وحده - فسيؤدي إلى مزيد من الصراع ، دون حل جذري للفساد القائم في الأرض . والمتوقع أن يحدث هذا الصراع في الغد القريب بين أمريكا التي توشك على الانهيار - رغم مظهرها الفاره - وبين ألمانيا ، أو بينها وبين ألمانيا وفرنسا المتحالفتين ضدها ، أو بينها وبين الكتلة الأوربية المحتشدة في السوق الأوربية المشتركة أو بينها وبين اليابان ، أو بينها وبين الصين .. وشيء من ذلك كله محتمل في المستقبل القريب ، وحين يحدث فلن يزيد الناس إلا خبالا ، وإيغالا في الانحراف .. الغالب والمغلوب سواء !
البديل المطلوب هم " القيم " المفقودة في عالم اليوم ، والتي يؤدي فقدانها إلى الأحوال السيئة التي تسود عالم اليوم .
__________
(1) سورة هود [ 15 ] .
(2) سورة الأنعام [ 44 - 45 ] .
(3) سورة الأنعام [ 115 ] .
(4) سورة فاطر [ 43 ] .
(5) سورة يونس [ 14 ] .
الظلم السياسي الذي يسود عالم اليوم مبعثه وجود القوة في يد قوم قالوا منذ البدء إن الله لا علاقة له بواقع الحياة الدنيا ، وإن " الإله " المتصرف في واقع الأرض هو الإنسان . وحين رفض ذلك الإنسان أن يكون عبداً لله في شئون الدنيا كما هو في شئون الآخرة أصبح عبداً لهواه ، وعبداً لشهواته : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) (1) ، فاستبد وطغى ( كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) (2) ، وأصبح القانون الذي يحكم الأرض هو قانون الغاب : القوي يأكل الضعيف . وشكلت الوحوش " العظمى " هيئات دولية تضفي بها الشرعية على جرائمها ، وتمنع توقيع الجزاءات على ما ترتكبه من العدوان ، وفي الوقت ذاته تلهّى بها الضعفاء المأكولين ، فيظنون - وهم بين مخالب الوحش - أنهم يشاركون في صنع القرار ! !
والظلم الاقتصادي الذي يسود عالم اليوم مبعثه الرأسمالية الربوية التي رفضت أمر الله ابتداء بتحريم الربا ، فأنشأت نظاما يأكل فيه القوي الضعيف في عالم الاقتصاد كما يأكله في عالم السياسة . واستبد الأقوياء اقتصاديا بالضعفاء فامتصوا جهدهم ودماءهم ، وحولوهم خدماً لهم وتبعا ، يسخّرونهم " لمصالحهم " ويمنون عليهم أن تركوهم يحيون إلى جانبهم .. وإنها لحياة الهُون .(12/67)
والفساد الخلقي الذي يسود عالم اليوم مبعثه إنكار حق الله في وضع " الحدود " التي تضبط تصرفات البشر ، وإعطاء هذا الحق للبشر بدعوى أنهم أدرى بمصالحهم من خالقهم سبحانه ! ومبعثه كذلك أن الآخرة قد امّحت من حسهم فصارت الحياة الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم ، فانفلتت الشهوات من معقلها ، لأنه لا يعقلها إلا الإيمان بالله واليوم الآخر .
وكذلك كل ألوان الفساد الموجود في الأرض من التمييز العنصري ، إلى الحروب إلى الخمر إلى المخدرات إلى الجريمة إلى الزيغ العقدي إلى الزيغ الفكري إلى الزيغ " الفني ! " إلى ألوان الجنون المختلفة من جنون الكرة إلى جنون الجنس إلى جنون التليفزيون إلى جنون الفيديو إلى جنون " المودة " إلى جنون السرعة إلى جنون العظمة الذي يحتل رءوس الطغاة وكبار المجرمين ..
كله يرجع إلى سبب رئيسي واحد ، هو استكبار الإنسان المعاصر عن عبادة الله واتخاذه إلهه هواه ..
وليس هذا تبسيطا للأمور كما يحلو لبعضهم أن يفكر .. إنما هي الحقيقة التي أكدها كلام الله في الكتاب المنزل ، وأكدتها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والمنهج المقابل لذلك الفساد كله هو الإسلام .
وليس الإسلام - كما قلنا دائما - كلمة تنطق باللسان فحسب ، وليس وجدانا مستسرا في الضمير فحسب . بل هو منهج حياة كامل ، يشمل كل جوانب الحياة العقدية والأخلاقية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقولية والعملية ، ويضبط كل ذلك بالضوابط الربانية ، فيقوم الناس بالقسط ..
الإسلام هو المنهج الذي يصلح الفساد الذي أنشأه البعد عن الله ..
هو الدين الذي يغذي جوعة الروح . فللروح جوعة لا تستقر إلا بالإيمان بالله :
( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (3)
ويبارك نشاط الجسد ونشاط العقل ما داما منضبطين بالضوابط الربانية .
ويوازن بين مطالب الجسد ومطالب الروح . ومطالب الدنيا ومطالب الآخرة .
الدين الذي يحث على " العلم " وعلى عمارة الأرض ، ويجعل ذلك جزءا من عبادة الله ..
الدين الذي يمحو فوارق الجنس وفوارق اللغة وفوارق اللون ، ويتعامل مع الإنسان من حيث هو إنسان .
الدين الذي يكرّم الإنسان ، ويضعه في أحسن حالاته حين يعبد الله وحده فيتحرر من عبادة كل الآلهة المدعاة .
الدين الذي ينشر العدل في الأرض لأنه يحرم الظلم ويأباه ، ويحض المؤمنين على الجهاد لإزالة الظلم من الأرض وإقامة القسط بصرف النظر عن اختلاف الجنس أو اللغة أو اللون .. أو الدين ..
يكفي أن نقول : هو المنهج الرباني ، وما عداه هو المناهج الجاهلية .
* * *
ولكن المنهج الرباني لا يعمل وحده .. إنما يعمل من خلال البشر الذين يؤمنون به
كما أن البشرية لن تتعلمه ، ولن تحبه وتؤمن به بمجرد أن تقول لها : هذا هو المنهج الرباني ، وهو خير من مناهج الجاهلية !
إنما تؤمن به وتحبه حين تراه مطبقا في واقع يشهده الناس بالفعل ، ويرون ما فيه من " اعتدالات " واستقامت في مقابل انحرافات الجاهلية واعوجاجاتها ..
فمن يقوم بذلك اليوم .. فينقذ نفسه ، وينقذ البشرية ؟ !
من إلا المسلمون ؟
والمسلمون كما قلنا بدءوا يعودون إلى دينهم الذي كادت تنقطع صلتهم به تحت ضغط الغزو الصليبي والغزو الفكري ..
ولكن المشوار ما زال طويلا أمامهم لكي يحققوا الصورة الحقيقية للإسلام .. بمقدار البعد الذي كانوا قد بعدوه عن حقيقة الإسلام .
__________
(1) سورة الفرقان [ 43 ] .
(2) سورة العلق [ 6 - 7 ] .
(3) سورة الروم [ 30 ] .
ولن يتوقع أحد - و لا يحدث أبدا - أن تكون الأمة كلها ، بكل فرد فيها على المستوى المطلوب . فإن مجتمع الرسو صلى الله عليه وسلم ذاته لم يكن كله على المستوى ولم يكن كله أبا بكر وعمر رضي الله عنهما .. ولكن كانت فيه مع ذلك قاعدة صلبة من المؤمنين ذوي المستوى الرفيع الفائق ، هم الذين ربَّوا الأمة عن طريق القدوة ، وهم الذين قام عليهم البناء .
وهذه القاعدة هي المطلب العاجل للدعوة ، ولا نستطيع أن نقول بعد إنها تكونت على المنهج المطلوب .
ولننظر في بعض الصفات التي استحقت بها القاعدة الأولى النصر من عند الله ، كما وردت في سورة الأنفال :
( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ... ) (1)
فتلك صفات أربع ، تحققت في القاعدة التي بناها رسول ا صلى الله عليه وسلم فاستحقت بها النصر من عند الله : الإيمان ، وناهيك بذلك الإيمان الفذ . وتآلف القلوب . والتجرد لله . والاستعداد لخوض القتال حين تدعو الدواعي إليه ..(12/68)
فإلى أي حد حققنا تلك الصفات في العمل الإسلامي ، فضلا عن صفات أخرى وردت في سور أخرى من كتاب الله (2) ، وكانت كلها من المؤهلات التي استحقت بها الجماعة الأولى النصر من عند الله ، والتمكين في الأرض حسب وعده تعالى :
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) (3)
المشوار طويل .. ونحن لا نستبطئ المسيرة ، ولا نستعجل الوصول ، لأننا نعلم أن عقبات كثيرة تقف في الطريق .. وليس كيد الأعداء هو أكبر العقبات كما يجري على ألسنة كثير من الدعاة أنفسهم ، إنما الغربة التي حاقت بالإسلام هي العقبة الأولى والكبرى ، لأنها تحوجك أن تعرّف الناس بالإسلام من جديد ، كأنه بعد جديد ! وتحوجك أن تقنع الناس أن ما عليه أكثرهم - إلا من رحم ربك - ليس هو حقيقة الإسلام ، وأن ألوانا كثيرة من الشرك يقع الناس فيها وهم لا يشعرون ، سواء شرك الاعتقاد أو شرك العبادة أو شرك الاتباع .. وما لم يقتنع الناس فلن يغيروا ما هم عليه ، ولن يغير الله لهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم :
( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (4)
فإذا أضفنا إلى ذلك كيد الأعداء بكل أنواعه ، سواء جهود العلمانيين في مقاومة التيار الإسلامي وتشويه صورته وتنفير الناس منه ، أو ملاحقة الحركات الإسلامية داخل العالم الإسلامي بالسجن والتشريد والتعذيب والقتل ، أو الكيد العالمي ، الصليبي الصهيوني الوثني ضد الإسلام والمسلمين ، فقد زادت الشقة بعدا وزادت المشقة على الدعاة ..
ومع ذلك كله فالمستقبل للإسلام ..
المستقبل للإسلام لأن هذه إرادة الله ، والله هو الذي يقرر ، وهو الذي يقدّر ، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون :
( سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (5)
لقد غفا المسلمون قرنين أو ثلاثة .. واستغل الأعداء هذه الغفوة الطويلة فجاسوا خلال الديار ، ومزقوا العالم الإسلامي شر ممزق ، ودفعوه إلى التيه ، وإلى الضياع ..
ولو كان في قدر الله أن ينتهي الإسلام من الأرض فقد كانت الفرصة مواتية للأعداء ، وهم في أوج قوتهم ، والمسلمون في حضيض ضعفهم .
ولكن الله البرّ الرحيم لم يشأ ذلك ، وإنما بعث للناس من يجدد لهم أمر دينهم كما وعد سبحانه ، فكانت تلك الصحوة المباركة التي بدأت توقظ الناس .
وفي الوقت ذاته بدأ الغرب طريقه إلى الانهيار ، حسب السنة الربانية التي لا تتبدل ولا تتحول ..
بدأ ينهار لأن حضارته غير الإنسانية قد فقدت مبررات وجودها فضلا عن استمرارها .
__________
(1) سورة الأنفال [ 62 - 65 ] .
(2) راجع بصفة السور الأربع الطوال : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة .
(3) سورة النور [ 55 ] .
(4) سورة الرعد [ 11 ] .
(5) سورة مريم [ 35 ] .
" الحضارة " التي ترتكب كل هذه الخسة الجماعية في البوسنة والهرسك دون أن يهتز ضميرها بخالجة من حياء .. الحضارة التي لا يتحرك ضميرها لردع أي معتد يعتدي على المسلمين ، بل تشجعه إما بالسكوت على جرائمه وإما بإمداده سرا وعلانية بالمال والسلاح ، في الوقت الذي يفور غضبها ويحتدم لا نقول إذا اعتدى المسلمون ، بل إذا تمكنوا من رد العدوان ! .. الحضارة التي تبيح الفاحشة حتى تصبح أصلا من أصول الحياة ، ثم تبيح الفاحشة الشاذة وتمنحها " الشرعية ! " .. ثم تسكت على زنا المحارم ، أقذر ما يمكن أن يرتكبه بشر .. الحضارة التي تبيح التهجم على كل المقدسات حتى ذات الله سبحانه ، فضلا عن رسله ورسالاته وكتبه ودينه بحجة " حرية الفكر " ! الحضارة التي تُعبِّد الإنسان لشهواته ، وتعبّده للمادة ، وتعبّده للآلة ، وترفض في الوقت ذاته أن تعبّده لإلهه ، بحجة " حرية العبادة ! " أو " حرية الضمير ! " .. الحضارة التي تجعل بياض البشرة " قيمة " من القيم ، في الوقت الذي لا تعتبر بياض القلوب والمشاعر أمراً له وزن في حياة الناس ..
هذه الحضارة لا تملك مؤهلات الوجود فضلا عن الاستمرار ، ولو ملكت كل أسلحة الدمار ، وكل أسلحة العلم ، وكل فنون التقدم المادي .. فكل هذه لا تعيش بغير القيم الربانية إلا ريثما يحين قدرها المقدر عند الله .
( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ) (1)
نعم .. ولكن ..
هل الحركات الإسلامية القائمة في الأرض اليوم مؤهلة لأن تقوم برسالتها العظمى تجاه نفسها وتجاه البشرية ؟
هل تمكنت من تربية القاعدة المطلوبة على المستوى المطلوب ؟
هل تآلفت قلوبها واجتمعت كلمتها ؟
هل تجردت لله حتى نسيت ذاتها ؟
هل اكتسبت من البصيرة السياسية والحركية ما يمكنها من السير في الطريق الوعر الذي يحيط به الأعداء من كل جانب ، متربصين كالوحوش الكاسرة التي تنتظر الفريسة ؟(12/69)
هل اتضحت لها أهدافها ، ورتبت أولوياتها ، وعرفت حدود طاقتها ، فتحركت في حدودها ؟
أم ما زال ينقصها الكثير حتى تصبح على المستوى المطلوب ؟
وإذا بقيت على فرقتها وشتاتها ونقصٍ في تربيتها وغبشٍ في رؤيتها .. إلا من رحم ربك .. فهل تصلح أن تكون هي البديل الذي ينقذ البشرية من جاهليتها المعاصرة ؟ لا نقول نعم ، ولا نقول لا .. فذلك غيب موكول إلى الله ..
إنما نتحدث هنا عن السنن الربانية ، وعن وعد الله ووعيده ، فهذه هي " الثوابت " التي تحكم " المتغيرات " .
نقول إن البشر لا يعجزون الله .. ( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) (2)
فأما الغرب - بكل قوته المادية - فلن يعجز الله ، لأن الله أكبر .. أكبر من كل كيدهم ، ومن كل قوتهم .
وأما المسلمون - بكل سلبياتهم - فلن يعجزوا الله ، لأن القدرة قدرته جل وعلا ، والقوة قوته ، والأسباب أسبابه ، وهو الذي قال سبحانه : ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) (3)
وهو الذي وعد على لسان رسول صلى الله عليه وسلم بالجولة الممكّنة للإسلام بعد أن تقع المعركة الكبرى بين المسلمين وبين اليهود :
قال عليه الصلاة والسلام : " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر : يا مسلم يا عبد الله ! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله ... " (4)
وإرهاصات المعركة على الأبواب ، ويجيء بعدها النصر والتمكين لدين الله .
( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (5)
والذين يحاربون الله ورسوله خير لهم أن يكفوا عن هذه الحرب لو كانوا عقلاء ، فهي حرب خاسرة في النهاية مهما كسبت من جولات في مبدأ الأمر ، فإنما يملي الله لهم ليزدادوا إثما ، وليمحص الله الذين آمنوا :
( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (6)
( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) (7)
ولقد مر وقت على هذه الأمة كان الإسلاميون فيه يَسْبَحُون ضد التيار ، لأن تيار الغزو الفكري كان هو الكاسح الذي يجرف الناس أمامه بعد أن أصبحوا غثاء كغثاء السيل ..
__________
(1) سورة الكهف [ 59 ] .
(2) سورة الطلاق [ 3 ] .
(3) سورة محمد [ 38 ] .
(4) أخرجه مسلم .
(5) سورة الصف [ 9 ] .
(6) سورة آل عمران [ 118 ] .
(7) سورة آل عمران [ 141 ] .
واليوم يحس العلمانيون أنهم هم الذين يسبحون ضد التيار ! وأن التيار الجارف ، تيار الشباب ، متجه إلى الإسلام .. فيحاولون بكل جهدهم أن يغيروا الاتجاه ، ليعيدوه إلى الوضع الذي نشئوا وتربوا فيه ، وركّبوا في مصانع الغزو الصليبي ليستريحوا إليه ويجدوا أنفسهم فيه .. ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) (1)
==================(12/70)
(12/71)
العلمانيون وثورة الزنج
بقلم الاستاذ ؛ هاني السباعي
مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية
تقدمة:
كان لطه حسين السبق في إبراز أحداث النشاز في التاريخ الإسلامي ؛ ففي سنة 1946 نشر مقالة في مجلة (الكاتب المصري) (2) بعنوان (ثورتان) حث فيها طه حسين الأدباء والمثقفين العرب على استلهام ثورة الزنج كما استلهم الأوربيون ثورة (سبارتكوز) بغية الوصول إلى العدالة المنشودة على حد زعمه ومن ثم فقد فتح طه حسين شهية العلمانيين وخاصة الماركسيين والشيوعيين ومن يسمون أنفسهم اليسار الإسلامي!، وأرباب المدرسة الإعتزالية للنيل من الإسلام بحجة البحث والإبداع وإيصال الماضي بالحاضر!
وفي منتصف الخمسينات نشر فيصل السامر شيوعي عراقي كتابه (ثورة الزنج) وفي سنة 1961 نشر اللبناني اليساري أحمد علبي كتابه (ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد) .. ثم ألف د. محمد عمارة كتابه (مسلمون ثوار).. كتب فصلاً مطولاً عن صاحب الزنج وتعاطف معه وحسن صورته وبيض فتنته عكس من سبقه من الكتاب!!
فمثلاً: الكاتب أحمد علبي ذكر أن لصاحب الزنج وثورته سلبيات.. أما الدكتور عمارة فلم يثبت هذه السلبيات أقصد الجرائم التي ارتكبها صاحب الزنج في حق الإسلام ثم توالت الكتابات حيث نشر معين بسيسو مسرحيته الشعرية (ثورة الزنج) .. وكتب نور الدين فارس مسرحيته الشعرية (لتنهضوا أيها العبيد) .. ثم عاود أحمد علبي الكتابة عن صاحب الزنج فنشر سنة 1985 كتابه (ثوار وعبيد) .. وفي سنة 1995 صدر كتاب (شخصيات غير قلقة في الإسلام) لهادي العلوي وخصّ صاحب الزنج بفصل كامل وسار على درب من سبقه من يساريين وعلمانيين!!
وبعد.. فكل هذه المؤلفات تدندن حول التمجيد والإشادة بثورة علي بن محمد صاحب الزنج، والإنتصار له حيث كان في نظرهم كان ضحية لمؤامرة تاريخية كبرى!!
أما الكتاب الإسلاميون فلا تكاد تجد كتابة حيثة عن صاحب الزنج وفتنته تعالج هذه القضية من منظور إسلامي بحت؛ لا من وجهة نظر ماركسية أو علمانية أو قومية.. وقد يرجع ذلك إلى أن كتب التاريخ الإسلامي المعتمدة قد حسمت هذه القضية التاريخية بما فيه الكفاية.. بل إن علماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم قد اتفقوا على تضليل وتفسيق هذه الفتنة التي يطلق عليها العلمانيون (ثورة الزنج)!! ولكن لما دعت الحاجة إلى دحض شبهات المبطلين الطاعنين في الإسلام وعقيدته تحت ستار الدفاع عن صاحب الزنج والتعاطف معه .. قمنا بكتابة هذه المقالة مساهمة منا في وضع لبنة لبناء جبهة تاريخية ترد على شبه المرجفين.. ودعوة الغيورين على تاريخ الإسلام أن يساهموا في الذب عن تاريخ أمتنا التليد حتى يستبين الحق من الباطل.. ويظهر الغث من السمين..
بعد هذه التقدمة أشرع في النقاط التالية:
أولاً : أقوال بعض العلماننيين ومن على شاكلتهم في صاحب الزنج :
يقول أحمد علبي: "أما الدافع الذي حملنا على انتقاء ثورة الزنج بالذات؛ فهو أن هذه الثورة تلقي نوراً كاشفاً على طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية خلال القرن الثالث الهجري في الدولة العباسية؛ بالإضافة إلى أنها حلقة لاهبة من الثورات التي اجتاحت بلدان الخلافة في كل قطر من أقطارها، بحيث إن دراستها بعث لتراثنا الثوري، واحياء فكري لنضال العبيد الزنج في سبيل الخبز والحرية" (3).
ويتساءل علبي: "ولكن هل يعتقد القارئ أن الثورة انتهت إلى لا شئ؟ إن كل ثورة مهما أصابت من النجاح الضئيل أو الفشل الذريع، هي وقود لثورة قادمة ومعركة تحريرية تالية.. فالثورة المخفقة تنجح في تبيان أخطاء اخفاقها.. وتقود إلى ثورة أمضى.. وثورة الزنج كانت، على الأرجح، مهمازاً لثورة القرامطة وغيرها من الثورات التي شملت العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري" (4).
__________
(1) سورة النساء [ 66 ] .
(2) الكاتبب المصري مايو 1946 ص537 ، ص553 .. ونشر تلك المقالة في كتاب: ألوان لطه حسين /دار المعارف/ مصر/ص164 ، ص187.
(3) أحمد علبي: ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد /دار الفرابي بيروت/ط جديدة 1991/ص10.
(4) أحمد علبي: المرجع السابق/ص170 : ص171.
ويقول أدونيس: "يتضح مما تقدم أن ثورة الزنج هي من جهة؛ ثورة عبيد على أسياد، وأنها من جهة ثانية؛ وعد بحياة كريمة يملكون فيها ملك أسيادهم، وأنها من جهة ثالثة؛ ذات قيادة من طبيعة نبوية فهة لم يخرج لعرض من أعراض الدنيا كما أعلن وإنما خرج (غضباً لله)، ولما رأى عليه الناس من فساد في الدين... وقد استمرت حركة الزنج أربع عشرة سنة، بين سنة 255هـ وسنة 270 هـ السنة التي قتل فيها علي بن محمد، وكانت في أساسها ثورة فقراء مسحوقين على أسياد طغاة ظالمين" (1).(12/72)
ويقول هادي العلوي: "مهما يكن فصاحب الزنج عربي لا زنجي وقيادته لحركة الزنج تندرج في ظاهرة ملحوظة في تاريخ الحركات الاجتماعية وهي أن المسحوقين غالباً ما يقود ثوراتهم وانتفاضاتهم ناس من خارجهم. ويرجع ذلك إلى عدم توافر الفرص لظهور القيادات بين المسحوقين وتوفرها للفئات والطبقات المالكة للثروة والمصدرة في المجتمع والتي تنعم بإمكانات تأهيل وتوعية تساعد على تشكيل الكفاءات في مناحي الحياة المختلفة" (2).
أما د. محمد عمارة فيقول: "عندما أكتب اليوم عن ثورة الزنج، وقائدها علي بن محمد (270ه/883م) فإنني أحقق بذلك أمنية تمنيتها منذ ما يزيد على ربع قرن من الزمان. فلقد قرأت يومها صفحات كتبها المرحوم الدكتور طه حسين (1889م - 1973م) عن هذه الثورة، قارن بينها وبين ثورة سبارتكوس Spa r tacus (73 - 71 ق.م) لتحرير العبيد من مظالم الدولة الرومانية واستعبادها وتمنى في بحثه ذاك أن تحظى ثورة الزنج بما حظيت به ثورة سبارتكوس، في حقل الأدب والفن عندما استلهمهما عدد من عمالقة هذا الميدان في حضارة الغرب، فقدموا لشعوبهم تراثهم القديم في الثوب الذي يعين هذه الشعوب على تحقيق المزيد من الحرية والتقدم لحاضرها الذي تعيشه ولمستقبلها المأمول. فمنذ ذلك اليوم تمنيت أن أكتب عن ثورة الزنج هذه. وكبرت الأمنية ونمت مع السنوات، وخاصة بعد أن أصبح التراث العربي الإسلامي، وصفحاته المشرقة بالثورة، وبأحلام العدل الإجتماعي، وبإعلاء سلطان العقل كي يطارد الخرافة، هي الميدان الذي وقع عليه أغلب الجهد الذي قدمته وأقدمه في التأليف والتحقيق" (3).
ويقول د. عمارة في موضع آخر: "نعم انتهت ثورة الزنج وطافت الدولة العباسية برأس الثائر الشاعر العالم علي بن محمد في المدن والأمصار والآفاق، ولكن حلم الإنسان العربي المسلم بالعدل لم ينته بنهاية هذه الثورة" (4).
أقول: مما لا شك فيه أن د. محمد عمارة له جهد واضح في الرد على العلمانيين وخاصة في مناظرته لفرج فودة في معرض الكتاب الذي عقد بالقاهرة عام 1992 وكذلك كتابه في الرد على العلمانيين ودحض شبهاتهم، ومناظرته لنصر حامد أبي زيد التي عرضتها قناة الجزيرة الفضائية. وهذا كله جهد يعلمه المتتبع لكتابات د. عمارة ومقالاته في جريدة الشعب المعارضة بمصر.. لكن الحقيقة التي لم ينكرها د. عمارة أنه يسير في أفكاره على منظومة المعتزلة في تقديم العقل على النقل، واهدار سلطة النص القرآني والإستشهاد به وأحاديث الآحاد وحتى المتواترة على سبيل الإستئناس الذي يعضد ويوافق فكرته العقلية.. فالدكتور محمد عمارة رغم أنه ليس علمانياً بالمعنى الاصطلاحي إلا أنه ينطلق من نفس منطلقات العلمانيين في تقديم العقل على النقل.. حيث يعتبر الدكتور عمارة أن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية كان في عصر المأمون والمعتصم والواثق: "ولقد كان هؤلاء الخلفاء الثلاثة من أنصار التيار العقلاني في الفكر الإسلامي، إذ كانوا على مذهب المعتزلة؛ أهل العدل والتوحيد.. وفي ظل حكمهم استخدم التيار العقلاني جهاز الدولة في إشاعة مفاهيمه، وتدعيم القسمات التي تميزت بها حضارتنا في عصرها الذهبي" (5).
هكذا اختزل عمارة التاريخ الإسلامي في هؤلاء الخلفاء الثلاثة ناسياً من سبقهم من خلافة راشدة وأمويين أجداد هؤلاء الخلفاء حتى هارون الرشيد خرج من العصر الذهبي طبقاً لتحديد الدكتور عمارة!! أما عصر الإنحطاط والتخلف فيأتي من بعد هؤلاء الثلاثة!! فيتهم د. عمارة الخليفة المتوكل بالتخلف والجمود لأنه نصر أهل السنة وقضى على فتنة خلق القرآن: "وهكذا تحولت الإدارة التي أرادها المعتصم حصناً للحضارة العقلانية، ضد (العامة)، تحولت إلى حصن للفكر المتخلف، انطلقت منه (العامة) وفقهاؤها ليصيبوا ذلك المد الحضاري العقلاني، بالتوقف، فالجمود، فالتخلف، فالتراجع، وذلك بمجرد استيلاء الخليفة المتوكل (232 هـ - 247 هـ) على السلطة بعد موت الخليفة الواثق! .. ولقد رضيت العامة وفقهاؤها من النصوصيين، لقصر نظرها، عن هذا الإنقلاب" (6).
__________
(1) أدونيس: الثابت والمتحول/دار الساقي لندن/ص67.
(2) هادي العلوي: شخصيات غير قلقة في الإسلام /دار الكنوز الأدبية/ط أولى 1995/بيروت/ص214 ، ص215.
(3) محمد عمارة (الدكتور): مسلمون ثوار /دار الشروق/القاهرة ط ثالثة 1988/ص197.
(4) محمد عمارة: المرجع السابق /ص235.
(5) محمد عمارة: المرجع السابق /ص201.
(6) محمد عمارة: المرجع السابق/ ص203 ، ص204.
أقول: هكذا يصب د. عمارة في نفس قناة العلمانيين!! ففي نظره أن الخليفة المتوكل استولى على السلطة رغم علمه أن الحقيقة غير ذلك وأنه بويع بيعة صحيحة.. ولا ندري لماذا سكت عن كيفية وصول الخلفاء الثلاثة: المأمون، المعتصم، الواثق.. إلى الحكم!! ولماذا لم يتكلم عن الملك الوراثي وهل يوافق على ذلك؟! ألأنهم انتصروا لمذهب المعتزلة وسلموا عقولهم لابن أبي دؤاد الذي أثار هذه الفتن.. يغض الطرف عنهم؟!!(12/73)
والعجيب أن عمارة يشيد بالخليفة المعتصم في قضايا الفكر والحضارة رغم علمه أن الخليفة المتوكل يعتبر من الخلفاء الأدباء فقد كان يمتحن الفقهاء والشعراء ويناقشهم في مسائل شرعية ولغوية عويصة .. عكس الخليفة المعتصم الذي كان مشغولاً دائماً بالجهاد في سبيل الله ولم يكن يعبأ كثيراً بمذهب الإعتزال لولا وسوسة ابن أبي دؤاد له!!
ولكن لماذا تحامل د. عمارة على الخليفة المتوكل وفقهاء الأمة في ذلك الزمان وهم الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه والبخاري ومسلم وأبوزرعة الرازي وأصحاب السنن وغيرهم من العلماء الذين نتشرف بذكر أسمائهم والإنتساب لهم بل إن جل أحاديث الأحكام والعقيدة مأخوذة عنهم ومنهم.. لماذا تحامل عمارة على هؤلاء جميعاً؟! ألأنهم دافعوا عن منهج السلف الصالح وقدموا النص على العقل.. أم لأنهم دحضوا شبهات المعتزلة وأصولهم الخمسة: التوحيد، العدل، الوعد، الوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... أعتقد أن الأمر صار جلياً!!
عود إلى ثورة الزنج:
ثانياً: مؤامرة تاريخية كبرى على صاحب الزنج!!
لقد تحامل العلمانيون ومن على طريقتهم على علماء الإسلام وخاصة شيخ المؤرخين أبا جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310 هـ) .. لماذا؟ لأن ابن جرير عمدة الرواة وأهل الأخبار في سرد فتنة صاحب الزنج! العجيب أن الطبري في مواطن أخرى لدى هؤلاء اللادينيين: عالم مؤرخ ثقة لم يكن ممالئاً للسلطة!! أما إذا جاء بما لم يوافق هواهم فابن جرير بوق لمؤسسة اعلامية تابعة للسلطة!! فهو يتكلم باسمها.. هناك مؤامرة تاريخية من أصحاب المذهب التقليدي النصوصي!! وأصاب الطبري سهام التجريح والطعن والتفسير التآمري للتاريخ!! لأنه نطق بالحق!! مع العلم أن الطبري ولد سنة 224 هـ وتوفي سنة هـ310 وفتنة الزنج اندلعت سنة 255 هـ واستمرت حتى قضي عليها بمقتل صحاب الفتنة سنة 270هـ. معنى ذلك أن الطبري عاصر هذه الحركة منذ بداية دعوتها بالتحديد سنة 249ه أي قبل اعلان الحركة عن نفسها وقبل تأسيس عاصمة الزنج (المختارة) مروراً بسنة 255هـ حتى زوال فتنة الزنج سنة 270هـ. فابن جرير لقربه من مسرح الأحداث كان شاهد عيان، وكان يدونها بما يشبه عمل الصحف اليوم لدرجة أنه أفرد لهذه الفتنة أكثر من مائتي صفحة في كتابه الضخم (تاريخ الأمم والملوك) إذن ابن جرير شاهد على عصره وناقل أمين لفتنة الزنج التي كادت أن تقوض دعائم أرض الخلافة التي صارت مرتعاً لكل طامع.. ورغم هذه الحقيقة عن الطبري إلا أنهم أبوا إلا الطعن فيه ليسهل الطعن في كل علماء التاريخ الذين أخذوا عن الطبري، ومن ثم يتحقق لهؤلاء المبطلين مآربهم للنيل من الإسلام ومنهجه!!
فهذا هادي العلوي يسير على منهج المستشرق الفرنسي ماسنيون ويردد نفس مقولته عن الطبري: "وكان الطبري مقاطعاً للسلطة على طريقة فقهاء القرن الأول وكان يتمتع بقسط من حرية الرأي الإجتهاد مع الإتجاه إلى مطالعة كتب الفلسفة في السر لكن معالجته لثورة الزنج بدت كما لو أنها من فعل مؤسسة اعلامية وجهت لدعم حرب العباسيين ضد قائدها الذي يرجع تلقيبه بالخبيث إلى الطبري نفسه" (1).
ويقول هادي العلوي في موضع آخر: "وقف المجتمع الإسلامي بأسره ضد صاحب الزنج فسحب منه هويته كما منحه لقب (الخبيث) الذي صار علماً عليه في مصادر التاريخ بدءاً من الطبري... ولم يدافع عن الثورة أحد من الفرق والشخصيات الثقافية أو الاجتماعية" (2).
أما د. محمد عمارة فيقول متعجباً: "فالطبري يقدم أهم أخبارها، وأكثرها ينطلق في تأريخه لها من منطلق العداء، بل والعداء الشديد... فهو (الطبري) يطلق على قائدها: علي بن محمد، أوصافاً من مثل: (الخبيث)! و(اللعين)! و(الخائن)! و(الفاسق)! بل ويكتفي بصفة من هذه الصفات أو أكثر، عندما يريد الحديث عن صاحب الزنج، ولا يذكر اسمه إلا في القليل" (3).
__________
(1) هادي علوي: شخصيات غير قلقة في الإسلام/ص224.
(2) هادي علوي: المرجع السابق/ص222.
(3) محمد عمارة: مسلمون ثوار/ص198، ص199.
ويستنكر أحمد علبي وصف الطبري لصاحب الزنج قائلاً: "ولهذا فإن مقتل صاحب الزنج بعد جهاد جهيد كان بمثابة (البشير) كما ورد لدى الطبري (ت 310هـ) الذي هو بمنزلة المؤرخ الرسمي لثورة الزنج: (جاء البشير بقتل الفاجر) إلى الموفق، ثم وفاه أحدهم يحمل كفاً يزعم أنها كف صاحب الزنج. ثم (أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس الخبيث) وأمر الموفق برفع رأس الفاجر على قناة ونصبه بين يديه).. ولا يدهشن قارئ بأمثال هذين النعتين لقائد ثورة الزنج: الفاجر، الخبيث.. فكل متمرد وإن كان الحق ملء برديه والعدالة سرباله وفيض يديه.. هو في نظر السلطة القائمة قمين بكل النعوت ابتداء من الخيانة حتى الفجور والإلحاد، لأن الإيمان يغدو هنا حكراً على السلطة أو أمير المؤمنين، أياً كانت سيرته" (1).(12/74)
أقول: هكذا نخلص إلى استهجان العلمانيين وبعض الإعتزاليين ومن يسيرون على خطاهم وفي مقدمتهم المستشرق الفرنسي ماسنيون؛ من وصف الطبري لصاحب الزنج بالخبيث أو اللعين أو الفاسق.. فإنهم جميعاً يتميزون غيظاً وحنقاً لهذه النعوت التي يكررها ابن جرير لصاحب الزنج.. وكأنهم يريدون من الطبري أن ينعت صاحب الزنج بما ليس فيه!! كان لزاماً على الطبري أن ينعت من يسفك دماء الأبرياء وينتهك المحارم والحرمات ويستبيح بيضة الإسلام ويروع الآمنين ويقتل الأطفال.. كان لزاماً عليه حسب مزاجهم أن ينعت هذا السفاح السفاك الخارج عن الخليفة الشرعي ؛ بالبطل المغوار والثائر المجاهد، والمؤمن التقي!! لقد كان الطبري مهذباً في نعته لصاحب الزنج.. فهؤلاء اللادينيون ينعتون الشباب الذين يقومون بواجبهم الشرعي ضد السلطات القائمة بأقبح النعوت وبألفاظ ما أنزل الله بها من سلطان!! من أمثال: (بلطجية) .. (مجرمون) .. (ارهابيون) .. (متطرفون).. إلخ .. فهؤلاء العلمانيون يكيلون بمكيالين، بل لا يحترمون عقولهم ولا عقول غيرهم!!
العلمانيون .. وابن الرومي:
لقد أغضب الشاعر أبو الحسن بن علي بن العباس بن جريج الشهير بابن الرومي (ت284هـ) تيار اليسار الإسلامي وأصحاب العلمنة الغربية وغيرهم.. لماذا؟! لأن ابن الرومي رثا مدينة البصرة وبكاها في شعره بعدما خربها صاحب الزنج، وكانوا ينظرون إليه على أنه شاعر ساخط على الخلافة العباسية لأنه ليس عربياً خالصاً!! ولسيت هذه الدراسة لتقويم ابن الرومي أو الدفاع عنه، فابن الرومي له تصرفات شخصية لكن لا تصل إلى ما كان يتمناه العلمانيون .. فكما يصف لنا ابن رشيق القيرواني (ت 456هـ) : "كان ابن الرومي كثير الطيرة؛ ربما أقام المدة الطويلة لا يتصرف تطيراً بسوء ما يراه أو ما يسمعه، حتى إن بعض إخوانه من الأمراء افتقده فأعلم بحاله في الطيرة، فبعث إليه خادماً اسمه اقبال ليتفاءل به، فلما أخذ أهبته للركوب قال للخادم: انصرف إلى مولاك فأنت ناقص! ومنكوس: اسمك لا بقا.." (2).
لعل تشاءوم ابن الرومي وسخطه كان مفتاح شخصيته: لكن العلمانيين أساءهم صنيع ابن الرومي وهو يهجو صاحب الزنج لتسميه بلقب إمام:
وتسمَّى بغير حقٍ إماماً …… لا هدى اللهُ سعيَه من إمام
ولم يعجبهم وصف ابن الرومي دخول الزنج البصرة:
دخلوها كأنهم قطع الليـ …… ـل، إذا راح مُدلهمّ الظلام
ولم يعجبهم وصفه لأفاعيل وجرائم الزنج في أهل البصرة:
كم أب قد رأى عزيزَ بنيه…… وهو يعلو بصارم صمصام
كم رضيع هناك قد فطموه… بشبا السيف قبل حين الفطام
ولم يعجبهم وصف ابن الرومي لأطلال البصرة وما حل بها من خراب:
وخلت من حلولها فهي قفرٌ …… لا ترى العين بين تلك الأكام
غير أيدٍ وأرجلٍ لأناس بائنات … … نبذت بينهنّ أفلاقُ هام
ووجوه قد رملتها دماء …… بأبي تلكم الوجوهُ الدوامي
وطئت بالهوان والذل قسراً …… بعد طول التبجيل والإعظام
فتراها تسفي الرياح عليها …… جاريات بهبوةٍ وقتام
خاشعاتٍ كأنها باكياتٌ …… باديات الثغور، لا ، لابتسام
ولم يعجبهم حض ابن الرومي فقهاء المسلمين على الجهاد:
كم خذلنا من ناسك ذي اجتهادٍ … … وفقيه في دينه علام
ولم يعجبهم أيضاً في نهاية القصيدة حث ابن الرومي المسلمين على الأخذ بالثأر وتحرير السبايا ووصفه لصاحب الزنج باللعين:
إن قعدتم عن اللعين فأنتم …… شركاءُ اللعين في الآثام
ويهاجم هادي العلوي ابن الرومي بقوله: "وتكشف قصيدة ابن الرومي عن نقطة التقاء قاطعة بين الطرفين وبين ابن الرومي مؤيد للعلويين، مناوئ للعباسيين ولم يكن يحب تلك الدولة التي عاش في ظلها ينظر بعين الحسد إلى الشرطة إنه لم يجد في عصيان الزنج ما يلأم جروحه، بل بالعكس فقد نكأها بما أيقظه في روحه من عرقية بيضاء يعززها نسب يوناني صريح ومن حس السيادة لدى مالك العبيد، وهكذا وجد نفسه في صف مجوعيه العباسيين يبكي على جمال البصرة الذي دنسه التنين الأسود" (3).
__________
(1) أحمد علبي: ثورة العبيد في الإسلام /دار الآداب بيروت/ ط1985/ص16.
(2) ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده/تحقيق/محمد محي الدين عبد الحميد/الرشاد الحديثة/ الدار البيضاء/ص69.
(3) هادي علوي: شخصيات غير قلقة في الإسلام/ص224.(12/75)
انظر إلى هذا التحليل! فقصيدة ابن الرومي حوالي 83 بيتاً لم نجد فيها البكاء على الخبز والجوع!! بل على العكس فكلها حض على الجهاد ورثاء لما حلّ بحريم المسلمين وما ارتكبه الزنج من مجازر بحق الشيوخ والأطفال والنساء وما آلت إليه حال تلك المدينة التي كانت آمنة من قبل أن يخربها الزنج.. هكذا يفسر العلمانيون حوادث التاريخ من خلال منظور مادي بحت! وكأن ابن الرومي لم يكن مسلماً أباً عن جد!! فقد جردوا الرجل حتى من مشاعره وعقيدته الإسلامية التي حركته ليحض المسلمين وفقهاءهم لنجدة السبايا والإنتصار لدين الله.. بالطبع لم يكن الطعن موجهاً لابن الرومي فقط فكل الشعراء الذين عاصروا هذه الفتنة مثل ابن الرومي، ويحيى بن محمد الأسلمي، ويحيى بن خالد بن مروان وغيرهم قد أصابهم سهام التجريح بتهمة التآمر مع السلطة.. فنجد أحمد علبي يقول: " ولا ننتظر أن ينهض بين الشعراء المتكسبين المرتزقة من يقف في صف صاحب الزنج، ويعاضد ثورته، فالشعر العربي كان في معظمه وقفاً على فئة ارستقراطية حاكمة أو نافذة فعكس مأربها ونظم حياتها الزاهية وظل يدور في دائرة مترفة ولم يتعدّ عتبة القصور إلا لمما، وابن الرومي الذي رثا يحيى بن عمر العلوي أجمل رثاء هذا الشاعر نفسه نظر إلى ثورة الزنج وصاحب الزنج نظرة تقليدية فقال:
أيّ نومٍ من بعد ما انتهك …… الزنج جهراً محارم الإسلام" (1).
أقوال بعض علماء الإسلام في صاحب الزنج وفتنته :
1) أبوجعفر بن جرير الطبري:
قال في أحداث 255هـ :"وللنصف من شوال في هذه السنة ظهر في فرات البصرة رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وجمع إليه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ ثم عبر دجلة فنزل الديناري" (2).
ويقول الطبري مكذباً ادعاء صاحب الزنج بأنه علوي النسب فيصحح نسبه: "وكان اسمه فيما ذكر: علي بن محمد بن عبد الرحيم ونسبه عبد القيس وأمه قرّة بنت علي بن رجب بن محمد بن حكيم من بني أسد بن خزيمة من ساكني قرية من قرى الري يقال لها (ورزنين) بها مولده ومنشؤه" (3) .. "ثم إنه (صاحب الزنج) شخص فيما ذكر من سامراء سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل بن حسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، ودعا الناس ب (هجر) مدينة كانت تابعة للبحرين إلى طاعته واتبعه جماعة كثيرة من أهلها .. فانتقل إلى الأحساء وضوى إلى حي من بني تميم ثم من بني سعد يقال لهم بنو الشماس.. فكان بيهم مقامه.. وقد كان أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي... وقاتلوا أسباب السلطان بسببه ووتر منهم جماعة كثيرة فتنكروا له، فتحول عنهم إلى البادية" (4).
وكان صاحب الزنج يتلون ويغير اسمه حسب القبيلة التي ينزل فيها.. يقول الطبري: "وذكر أنه عند مسيره إلى البادية أوهم أهلها أنه يحيى بن عمر أبا الحسين المقتول بناحية الكوفة، فانخدع بذلك قوم منهم، حتى اجتمع بها منهم جماعة كثيرة، فزحف بهم إلى موضع بالبحرين يقال له الردم، فكانت بينهم وقعة عظيمة، كانت الدائرة عليه وعلى أصحابه قتلوا فيها قتلاً ذريعاً.. فنفرت منه العرب وكرهته وتجنبت صحبته. فلما تفرقت عنه العرب ونبت به البادية شخص عنها إلى البصرة فنزل بها في بني ضبيعة فاتبعه بها جماعة منهم علي بن أبان المعروف بالمهلبي.. وكان قدومه البصرة سنة أربع وخمسين مائتين ومحمد بن رجاء الحضاري عامل السلطان بها، ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه، فأمر أربعة نفر من أصحابه فخرجوا بمسجد عبّاد.. وهم الذين كانوا صاحبوه بالبحرين فدعوا إليه فلم يجبهم من أهل البلد أحد، وثاب إليهم جند السلطان فتفرقوا ولم يظفر بأحد منهم.. فخرج من البصرة هارباً ..فسار إلى مدينة السلام (بغداد) فأقام فيها حولاً وانتسب فيها إلى أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه آيات وعرف ما في ضمائر أصحابه، وما يفعله كل واحد منهم؛ وأنه سأل ربه آية أن يعلم حقيقة أمره فرأى كتاباً يُكتب له وهو ينظر إليه على حائط، ولا يرى شيئاً" (5).
ويسترسل الطبري في حديثه: "وذكر بعض تُبَّاعه أنه بمقامه بمدينة السلام استمال جماعة منهم جعفر بن محمد الصوحاني، ومحمد بن القاسم، وغلاما يحيى بن عبد الرحيم بن خاقان: (مشرقاً ورفيقاً) فسمى مشرقاً حمزة وكناه أبا أحمد وسمى رفيقاً جعفر وكناه أبا الفضل.. ثم لم يزل عامه بمدينة السلام حتى عُزل محمد بن رجاء عن البصرة، فخرج منها، فوثب رؤساء الفتنة من البلالية والسعدية ففتحوا المحابس، وأطلقوا من كان فيها؛ فتخلصوا فيمن تخلص.. فلما بلغه خلاص أهله شخص إلى البصرة فكان رجوعه إليها في شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين" (6).
__________
(1) أحمد علبي: ثورة الزنج /ص134.
(2) الطبري: تاريخ الأمم والملوك/ /تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/دار المعارف القاهرة/ط4/ج9/ص410.
(3) الطبري: المرجع السابق/ج9/ص410.
(4) الطبري: المرجع السابق/ج9/ص410.
(5) المرجع السابق /ج9/ص411 ، ص412.
(6) المرجع السابق/ج9/ص412.(12/76)
أقول: نلاحظ أن صاحب الزنج كل هذه الفترة لم ينضم إليه أي زنجي، فعلى مدار سبع سنوات كان يدعو العرب فقط وكان كل قواده من الأعراب أو بالأحرى كان جل أتباعه من اللصوص وقطاع الطرق والهاربين من السجون والمطاريد!! ثم متى وكيف ضم إليه الزنج وهم جماعة من العبيد من السودان ومن بلاد الحبشة كانوا يشتغلون في استصلاح الأراضي الزراعية والبصرة وضواحيها؟!
ذكر ابن جرير أن أول من انضم إليه من العبيد غلام اسمه ريحان بن صالح: "وفي سنة 255هـ اتخذ صاحب الزنج لواء مكتوباً عليه بحمرة وخضرة الآية 111 من سورة براءة (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله) وكتب اسمه واسم أبيه على هذا اللواء وعلقه في خشبة وأخذ يعد العبيد ويحرضهم على عصيان مواليهم بل أمر هؤلاء الغلمان بضرب مواليهم يقول الطبري في ذلك: "فأمر غلمانهم فأحضروا شطبة (سعف أخضر من جريد النخل) ثم بطح كل قوم مواليهم ووكيلهم فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة" (1).
وهكذا انضم الزنج إلى دعوة هذا المتمرد الخبيث.. "فلما سار إلى القادسية والشيفيا (..) أمر غلمانه بانتهاك القريتين، فانتهب منهما مالاً عظيماً عينيياً وورقاً وجوهراً وأواني ذهب وفضة وسبى منهما يومئذ أربعة عشر غلاماً ونسوة وذلك أول سَبي سُبي" (2).
وفي أحداث 257 هـ يقول الطبري: ذكر خبر دخول الزنج البصرة هذا العام وفيها دخل أصحاب الخبيث البصرة فلما كان في شوال من هذه السنة أجمع الخبيث على جمع أصحابه للهجوم على أهل البصرة والجد في خرابها، وذلك لعلمه بضعف أهلها وتفرقهم، واضرار الحصار بهم، وخراب ما حولها من القرى" (3).
ادعاؤه أنه كان يوحى إليه:
"فذكر عن محمد بن سهل أنه قال سمعته يقول اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة وابتهلت إلى الله في تعجيل خرابها فخوطبت فقيل لي إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها؛ فإذا انكسر الرغيف خربت البصرة" (4).
غدر صاحب الزنج بأهل البصرة:
"ولم يكن في وجهه أحد يدافعه، ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلبي، فاستأمنه لأهل البصرة فأمنهم، ونادى مناد إبراهيم بن يحيى: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبة حتى ملأوا الرحاب. فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة في ذلك منهم، وأمر أصحابه بقتلهم، فقتل كل من شهد ذلك المشهد إلا الشاذ" (5).
الإعتداء على قوافل الحجاج:
يقول الطبري في أحداث 266هـ : "وفيها وثب الأعراب على كسوة الكعبة، فانتهبوها، وصار بعضها إلى صاحب الزنج، وأصاب الحاج فيها شدة" (6).
وفي أحداث 269هـ : "قطع الأعراب على قافلة من الحجاج بين تور وسميراء، فاستلبوهم واستاقوا نحواً من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناساً كثيرين" (7).
وفي أحداث 267هـ : "دخل صاحب الزنج رامهرمز فاستباحها" .. وفي أحداث 264هـ : "دخل الخبيث واسط واستباحها وخربها" .. وفي أحداث 267هـ يقول الطبري: "وظفر أبو العباس برئيسهم ثابت بن أبي دلف، فمنّ عليه واستبقاه، وضمه إلى بعض قواده ... واستنقذ يومئذ من النساء اللواتي كنّ في أيدي الزنج خلق كثير، فأمر أبو العباس بإطلاقهن وردهنّ إلى أهلهنّ، وأخذ كل ما كان الزنج جمعوه" (8).
وفي أحداث 267هـ : "استنقذ أبو أحمد (الموفق) من نساء أهل واسط وصبيانهم ومما اتصل بذلك من القرى ونواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف، فأمر أبو أحمد بحياطتهم وبالإنفاق عليهم، وحملوا إلى واسط ودُفعوا إلى أهليهم" (9).
اعذار وانذار من الموفق إلى صاحب الزنج:
ذكر ابن جرير في أحداث 267هـ : "ولما نزل أبو أحمد نهر المبارك .. كان أول ما عمل به في أمر الخبييث أن كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ارتكب من سفك الدماء وانتهاك المحارم واخراب البلدان والأمصار، واستحلال الفروج والأموال، وانتحال ما لم يجعله الله له أهلاً من النبوة والرسالة، ويعلمه أن التوبة له مبسوطة، والأمان له موجود، فإن هو نزع عما هو عليه من الأمور التي يسخطها الله، ودخل في جماعة المسلمين، محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه، وكان له به الحظ الجزيل في دنياه.. وأنفذ ذلك مع رسوله إلى الخبيث، فألقاه الرسول إليهم، فأخذوه وأتوا به إلى الخبيث، فقرأه فلم يزده ما كان فيه من الوعظ إلا نفوراً واصراراً، ولم يجب عن الكتاب بشئ وأقام على اغترار، ورجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره بما فعل، وترك الخبيث الإجابة على الكتاب" (10).
__________
(1) السابق/ج9/ص414.
(2) السابق/ج9/422.
(3) السابق/ج9/ص481.
(4) السابق/ج9/ص481.
(5) السابق/ج9/ص482.
(6) السابق/ج9/ص553.
(7) السابق/ج9/ص613.
(8) السابق/ج9/ص564.
(9) السابق/ج9/ص581.
(10) السابق/ج9/ص588.(12/77)
أقول: قد يقول قائل إن صاحب الزنج خشي أن يغدر به الموفق… هذا التصور غير صحيح لأن صاحب الزنج يعلم جيداً أن الموفق شخصية دَيّنة هو أخو الخليفة كما أنه الآمر الناهي في أرض الخلافة ولم يثبت من سيرته أنه غدر بأحد من قبل بدليل أن كثيراً من قواد صاحب الزنج لما أرسل لهم دعوته للأمان والرجوع والإنابة رجعوا ولم يفتك بهم بل على العكس صاروا في مقدمة الصفوف يقاتلون صاحب الزنج وأتباعه الذين غدروا بأهل البصرة وواسط والأبلة وعبادان ورامهرمز كما علمنا آنفاً، ونسنزيد من ذلك في الفقرات التالية.
بيع الحرائر وكشف عوراتهن:
يقول الطبري في مرثية باكية تتفتت لها لأكباد في معرض حديثه عن أحداث 267هـ حول خبر مقتل أحد قواد الخبيث ويدعى صندل: "وكان فيما ذكروا يكشف وجوه الحرائر المسلمات ورؤسهن ويقلبهن تقليب الإماء، فإن امتنعت منهن امرأة ضرب وجهها ودفعها إلى بعض علوج الزنج ببيعها بأوكس الثمن" (1).
وفي أحداث 268هـ : "واستنقذوا جماعة من النساء اللواتي كان الخبيث استرقهن، ودخل غلمان الموفق سائر دور الخبيث ودور ابنه انكلاي، فأضرموها ناراً، وعظم سرور الناس بما هيأ الله لهم في هذا اليوم" (2).
وفي أحداث 269هـ : "واستنقذوا من النساء والأطفال ما لا يحصى عدده" (3) ، "وهرب الخبيث في ذلك اليوم ولم يوقف في ذلك على مواضع أمواله. واستنقذوا في هذا اليوم نسوة علويات كنّ محتسبات في موضع قريب من داره التي كان يسكنها، فأمر الموفق بحملهنّ إلى عسكره وأحسن إليهنّ، ووصلهنّ" (4).
معاملة الموفق نساء وأولاد صاحب الزنج:
ذكر ابن جرير أن جند الموفق: "أخذوا حرمه وولده الذكور والإناث وكانوا أكثر من مائة بين امرأة وصبي، وتخلص الفاسق ومضى هارباً نحو دار المهلبي، لا يلوي على أهل ولا مال، وأحرقت داره وما بقي فيها من متاع وأثاث وأتى الموفق بنساء الخبيث وأولاده فأمر بحملهم إلى الموفقية مدينة بناها الموفق أمام مدينة الخبيث والتوكيل بهم والإحسان إليهم" (5).
أقول: هكذا كانت أخلاق أبي أحمد الموفق وابنه أبي العباس الذي صار خليفة فيما بعد.. وكان هذا دأب الموفق في خروجه ضد الأعداء.. ففي أحداث 269هـ : "فأمر جماعة من غلمانه السودان وعرفهم بأن يقصدوا المواضع التي اعتادها الزنج وأن يستميلوهم ويستدعوا طاعتهم فمن أبى الدخول منهم في ذلك قتلوه وحملوا رأسه وجعل لهم جعلاً فحرصوا وواظبوا على الغدو والرواح فكانوا لا يخلون في يوم من الأيام من جماعة يجلبونهم ورؤوس يأتون بها وأسرى يأسرونهم" (6).
حكم الموفق في أسرى الزنج ورحمته بهم:
أعتقد أن العلمانيين يحسنون القراءة لكنهم لا يحسنون الفهم (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
فهذا أنموذج لما كان يتعامل به الموفق وابنه مع أسرى الزنج ومن يأتيهم مستأمناً: ففي أحداث 269هـ ذكر الطبري: "ولما كثرت أسرى الزنج عند الموفق أمر باعتراضهم فمن كان منهم ذا قوة وجلد ونهوض بالسلاح منّ عليه وأحسن إليه وخالطه بغلمانه السودان وعرفهم مالهم عنده من البر والإحسان ومن كان منهم ضعيفاً لا حراك به أو شيخاً فانياً لا يطيق حمل السلاح أو مجروحاً قد أزمنته أمر أن يكسى ثوبين ويوصل بدراهم، ويزود ويحمل إلى عسكر الخبيث فيلقى هناك بعدما يؤمر بوصف ما عاين من إحسان الموفق إلى كل من يصير إليه وأن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمناً ويأسره منهم فتهيأ له من ذلك من استمالة أصحاب صاحب الزنج حتى استشعروا إلى ناحيته والدخول في سلمه وطاعته" (7) ).
"وانطلق الموفق ومعه أبو العباس وسائر قواده وجميع جيشه قد غنموا أموال الفاسق واستنقذوا جمعاً من النساء اللواتي كان غلب عليهن من حرم المسلمين كثيراً" (8).
أقول: هكذا كان الموفق قائد هذه الحروب.. فمن الذي يستحق أن يتغنى بأمجاده؟! الموفق هذا الرجل القوي الرحيم الشفوق صاحب الدين والمروءة أم ذاك الخبيث صاحب الزنج سفاك الدماء الغادر الخائن المخالف للعهود والوعود؟! لو أنصفوا لأشادوا بأبي أحمد الموفق ولصبوا اللعنات على صاحب الزنج السفاح الأفاك!! لكنهم لا يخجلون لمرض في قلوبهم!!
نهاية صاحب الزنج ودولته:
يقول ابن جرير الطبري: في سنة 270هـ : "وانتهى الموفق إلى نهر أبي الخصيب، فوافاه البشير بقتل الفاجر، ولم يلبث أن وافاه بشير آخر ومعه كف زعم أنها كفه، فقوي الخبر عنده بعض القوة. ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض على فرسه ومعه رأس الخبيث، فأدناه منه، فعرضه على جماعة ممن كان بحضرته من قواد المستأمنة، فعرفوه. فخر لله ساجداً على ما أولاه وأبلاه، وسجد أبو العباس وقواد موالي الموفق وغلمانه شكراً لله، فأكثروا حمد الله والثناء عليه، وأمر الموفق برفع رأس الفاجر على قناة ونصبه بين يديه، فتأمله الناس وعرفوا صحة الخبر بقتله فارتفعت أصواتهم بالحمد لله" (9).
__________
(1) السابق/ج9/625.
(2) السابق/ج9/ص641.
(3) السابق/ج9/ص641.
(4) السابق/ج9/ص648.
(5) السابق/ج9/ص608.
(6) السابق/ج9ص608.
(7) السابق/ج9ص649.
(8) الطبري/ج9ص660.
(9) الطبري: السابق ج9ص663.(12/78)
أقول: إنه منظر مهيب يحرك المشاعر ويلين القلوب قبل العيون .. أن ترى جيشاً بأسره ساجداً لله على ما أيدهم بنصره.. إنها صورة مهيبة بحق تهز كيان الإنسان وتزلزل مشاعره وأحاسيسه وهو يرى خليفة المسلمين وولي العهد وكبار القادة وسائر الجند وعوام المسلمين كبيرهم وصغيرهم يؤدون وظيفة العبودية لله وهم يمرغون وجوههم في التراب شكراً وحمداً لله رب العالمين قاصم الجبابرة.. الأمة كلها ساجدة لله رب العالمين؛ الذي أنقذهم وحررهم من هذا الورم الخبيث المسمى بصاحب الزنج الذي كاد أن يقضي على الأخضر واليابس.. وكادت شمس الخلافة أن تغيب!! إنه منظر يهيج القلوب المتعطشة إلى شفاء الصدور وذهاب الغيظ.. لقد كانت التسابيح والتهاليل تهز أركان الخلافة مغردة بالنصر المبين وشاكرة للرب العظيم.. لم نسمع طبلاً ولا زمراً ولم نر رقصاً ولا عربدة لانتصارات مزيفة ولأبطال من ورق!! بل ردت الأمة وقادتها الأمر كله لله وحده.. وهذه المعاني لا تلامس شغاف قلوب العلمانيين لذلك لا يفهمونها ولا يشعرون بها!!
ويلخص لنا الطبري تلكم الحقبة بقوله: "وكان خروج صاحب الزنج في يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فكانت أيامه منذ خروجه إلى اليوم الذي قتل فيه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وكان دخوله الأهواز لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين" (1).
2) يقول أبو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي في أحداث 255هـ:
"وللنصف من شوال هذه السنة : ظهر في نواحي البصرة رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان يقول أن جده لأمه خرج مع زيد بن علي على هشام بن عبد الملك وكان من أهل (ورزنين) وكان عبادًا يتكلم في علم النجوم فربما كتب العوذ فخرج في نفر من الزنج فأخذه محمد بن أبي عون فحبسه ثم أطلقه فخرج في قراب البصرة في مكان يقال له : (برنجل) وجمع الزنج الذين كانوا يكتسحون السباخ فاستغواهم ثم عبر دجلة ونزل (الديناري) وكان هذا الرجل متصلًا بقوم من أصحاب السلطان يمدحهم ويستميحهم بشعره ثم خرج من (سامراء) سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين وادعى أنه من ولد علي بن أبي طالب ودعا الناس إلى طاعته فتبعه جماعة وأباه جماعة فوقع بينهم قتال على ذلك فانتقل عنهم إلى الإحساء فضوى إلى حي من بني تميم وصحبه جماعة من أهل البحرين ثم كان ينتقل في البادية من حي إلى حي ولم يزل أمره يقوى إلى سنة سبعين" (2).
يوحى إلى صاحب الزنج بالاتجاه إلى البصرة!!:
" وكان يقول : أوتيت آيات من آيات القرآن إمامتي منها لقيت سورًا من القرآن لا أحفظها فجرى بها لساني في ساعة واحدة منها : سبحان والكهف وص وألقيت نفسي على فراشي فجعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له وأقيم فيه إذ نبت بي البادية فأظلتني سحابة فبرقت ورعدت وقيل لي : أقصد للبصرة فمضى إليها فقدمها في سنة أربع وخمسين. ونزل في بني ضبيعة فاتبعه جماعة منهم علي بن أبان المهلبي ووافق ذلك فتنة البصرة بالبلالية والسعدية فرجى أن يتبعه منهم أحد فلم يتبعه فهرب وطلبه محمد بن رجاء عامل السلطان بها فلم يقدر عليه فأتى بغداد فأقام بها فاستمال جماعة فلما عزل محمد بن رجاء عن البصرة وثب رؤوس الفتنة من البلالية والسعدية ففتحوا الحبوس وأطلقوا من كان فيها فبلغه ذلك فخرج إلى البصرة في رمضان سنة خمس وخمسين وأخذ حريرة وكتب عليها : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) .. وكتب اسمه واسم أبيه وعلقها على رأس مردي وخرج في السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان" (3).
يأمر الغلمان بضرب مواليهم:
" فلقيه غلمان فأمر بأخذهم وكانوا خمسين غلامًا ثم صار إلى مكان آخر فأخذ منه خمس مائة غلامٍ ثم صار إلى الموضع آخر فأخذ منه مائة وخمسين غلاما وجمع من الغلمان خلقًا كثيرًا وقام فيهم خطيبًا فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرأسهم ويملكهم ولا يدع من الإحسان شيئًا إلا فعله لهم ثم دعا قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم وحملتموهم ما لا يطيقون فكلمني أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم فقالوا : إن هؤلاء الغلمان أباق فهم يتهربون منك فخذ منا مالًا وأطلقهم لنا . فأمر بهم فبطح كل قوم مولاهم وضرب كل واحد منهم خمسين سوطًا أحلفهم بطلاق نسائهم أن لا يعلموا أحدًا بموضعه وأطلقهم" (4).
صاحب الزنج يحرض العبيد:
__________
(1) الطبري: السابق ج9 ص663.
(2) ابن الجوزي: المنتظم في أخبار الملوك والأمم دار الكتب العلمية بيروت ط أولى 1992م ج12 ص88 وما بعدها.
(3) ابن الجوزي: المنتظم ـ المرجع السابق.
(4) ابن الجوزي: المنتظم ـ المرجع السابق.(12/79)
"ثم خرج حتى عبر دجيلًا واجتمع إليه السودان فلما حضر العيد ركز المردي الذي عليه لواؤه وصلى بهم وخطب للعيد وذكر ما كانوا فيه من الشقاء وأن الله سبحانه استنقذهم من ذلك وأنه يريد أن يرفع أقدارهم ويملكهم العبيد والأموال والمنازل ويبلغ بهم أعلى الأمر ثم حلف لهم على ذلك وكانوا جمعًا كبيرًا وليس لهم إلا ثلاثة أسياف وأهدي له فرس فلم يجد له سرجًا ولا لجامًا فركبه بحبل وسنفه بليف. وما زال ينتقل من مكان إلى مكان ويأخذ ما يقدر عليه وينتهب السلاح وغيره حتى صار له قوة وخاف الموالي منه أن يردهم إلى مواليهم فحلف لهم يوثق من نفسه وقال : ليحط بي منكم جماعة فإن أحسوا مني غدرًا فليقتلوني . وأعلمهم أنه لم يخرج لعرض الدنيا بل غضبًا لله عز وجل ولما رأى من فساد الدين" (1).
أول سبي لصاحب الزنج:
"ومر على قرية فخالفوه فانتهب منها مالًا عظيمًا وجوهرًا كثيرًا وغلمانًا ونسوة وذلك أول سبي سباه وما زال يعيث وينتهب فجاءه رجل من أهل البصرة فسأله عن البلالية والسعدية فقال : إنما جئت إليك برسالتهم يسألونك شروطًا فإن أعطيتهم إياها سمعوا لك وأطاعوا . فأعطاهم ما سألوا (..) إلى أن اجتمع عليه خلق كثير من أهل البصرة فقال : اللهم إن هذه ساعة النصرة فأعني فزعموا أنه رأى طيورًا بيضاء فأظلتهم. وكان سبب هزيمة أعدائه وقتلهم فقوي عدو الله ودخل رعبه في قلوب أهل البصرة وكتبوا إلى السلطان يخبرونه خبره فوجه جعلان التركي ونزل الخبيث سبخة وأمر أصحابه باتخاذ الأكواخ وبثهم في القرى يغيرون" (2).
وفي أحداث سنة 270 هـ يقول ابن الجوزي: "فمن الحوادث فيها : وقعة كانت بين أبي أحمد وصاحب الزنج في المحرم أضعفت أركان صاحب الزنج واسمه) بهبوذ) وفي صفر قتل وشرح القصة : أن أبا أحمد ألح على حربه ورغب الناس في جهاد العدو وصار معه جماعة من المطوعة ورتب الناس وأمرهم أن يزحف جميعهم مرة واحدة وعبر يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم سنة سبعين فنصر ومنح أكتاف القوم فولوا منهزمين واتبعهم الناس يقتلون ويأسرون فقتل ما لا يحصى وخربت مدينة الخبيث بأسرها واستنقذوا ما كان فيها من الأسارى من الرجال والنساء والصبيان وهرب الخبيث وخواصه إلى موضع قد كان وطأه لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته فتبعه الناس فانهزم أصحابه وغدا أبو أحمد يوم السبت لليلتين خلتا من صفر فسار إلى الفاسق وكان قد عاد إلى المدينة بعد انصراف الناس فلقي الناس قواد الفسق فأسروهم وجاء البشير بقتل الفاسق ثم جاء رجل معه رأس الفاسق فسجد الناس شكرًا لله تعالى وأمر أحمد فرفع على قناة فارتفعت أصوات الناس بحمد الله تعالى وشكره وأمر أبو أحمد أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل البصرة والأبلة وكور دجلة والأهواز وكورها وأهل واسط وما حولها مما دخله الزنج بقتل الفاسق وأن يؤمروا بالرجوع إلى أوطانهم. وولي البصرة والأبلة وكور دجلة رجلًا من قواده ومواليه وولى قضاء هذه الأماكن محمد بن حماد وقدم ابنه العباس إلى بغداد ومعه رأس الخبيث ليراه الناس فيسروا فوافى بغداد يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى في هذه السنة والرأس بين يديه على قناة فأكثر الناس التكبير والشكر لله تعالى والمدح لابن الموفق وأبيه ودخل أحمد بن الموفق بغداد برأس الخبيث وركب في جيش لم ير مثله من سوق الثلاثاء إلى المخرم وباب الطاق وسوق يحيى حتى هبط إلى الجزيرة ثم انحدر في دجلة إلى قصر الخلافة في جمادى هذه السنة وضربت القباب وزينت الحيطان" (3).
3) قول العلامة ابن الأثير:
ذكر الحافظ عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري في أحداث 257ه وفيه أحرق الزنج مدينة البصرة وغدروا بأهلها:
"فلما كان في شوال أزمعا الخبيث على جمع أصحابه لدخول البصرة والجد في اخرابها لضعف أهلها وتفرقهم وخراب ما حولهم من القرى ثم أمر محمد ن يزيد الدارمي وهو أحد من صحبه بالبحرين أن يخرج إلى الأعراب ليجمعهم فأتاه منهم خلق كثير فأناخوا (بالقندل) ووجه إليهم العلوي سليمان بن موسى الشعراني وأمرهم بتطرق البصرة والإيقاع بها ليتمرن الأعراب على ذلك ثم أنهض علي بن أبان وضم إليه طائفة من الأعراب وأمره بإتيان البصرة من ناحية بني سعيد وأمر يحيى بن محمد البحراني بإتيانها مما يلي نهر عدي وضم إليه سائر الأعراب . فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان و(بفراج) يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند فأقام يقاتلهم يومين ومال الناس نحوه" (4).
الغدر بأهل البصرة:
__________
(1) ابن الجوزي: المنتظم ـ السابق.
(2) ابن الجوزي: المنتظم ـ السابق.
(3) ابن الجوزي: السابق ج12 ص288.
(4) ابن الأثير: الكامل في التاريخ دار صادر بيروت مج7ص245 ، 246.(12/80)
"وأقبل يحيى بن محمد فيمن معه نحو الجسر فدخل علي بن أبان وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة وليلة السبت وغادى يحيى البصرة يوم الأحد فتلقاه (بفراج) و (برية) في جمع فردوه فرجع يومه ذلك . ثم غاداهم اليوم الآخر فدخل وقد تفرق الجند وهرب برية وانحاز بفراج ومن معه ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلبي فاستأمنه لأهل البصرة فأمنهم فنادى منادي إبراهيم : من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم فحضر أهل البصرة قاطبة حتى ملأوا الرحاب فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة لئلا يتفرقوا فغدر بهم وأمر أصحابه بقتلهم فكان السيف يعمل فيهم وأصواتهم مرتفعة بالشهادة فقتل ذلك الجمع كله ولم يسلم إلا النادر منهم ثم انصرف يومه ذلك إلى الحربية . ودخل علي بن أبان الجامع فأحرقه وأحرقت البصرة في عدة مواضع منها المربد وزهران وغيرهما واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل وعظم الخطب وعمها القتل والنهب والإحراق وقتلوا كل من رأوا بها فمن كان من أهل اليسار أخذوا ماله وقتلوه ومن كان فقيرًا قتلوه لوقته وبقوا كذلك عدة أيام" (1).
أقول: هكذا كانت أمجاد صاحب الزنج؛ الغدر واحراق المساجد وقتل الأغنياء والفقراء.. فأين مبادئ ثورة الخبز ونصرة الفقراء كما يزعمون؟!!
وفي أحداث سنة 256هـ يقول ابن الأثير: "ثم رحل إلى المدينة التي سماها صاحب الزنج المنيعة من سوق الخميس يوم الثلاثاء لثمان خلون من ربيع الآخر من هذه السنة وسلك بالسفن في نهر مساور، وسارت الخيل بإزائه شرقي نهر مساور حتى جاوزوا براطق الذي يوصل إلى المنيعة وأمر بتعبير الخيل وتصييرها من الجانبين وأمر ابنه العباس بالتقدم بالشذا بعامة الجيش ففعل فلقيه الزنج فحاربوه حربًا شديدة ووافاهم أبو أحمد الموفق والخيل من جانبي النهر فلما رأوا ذلك انهزموا وتفرقوا وعلا أصحاب أبي العباس السور ووضعوا السيوف فيمن لقيهم ودخلوا المدينة فقتلوا فيها خلقًا كثيرأن وأسروا عالمًا عظيمأ وغنموا ما كان فيها وهرب الشعراني ومن معه وتبعه أصحاب الموفق إلى البطائح فغرق منهم خلق كثير ولجأ الباقون إلى الآجام .
ورجع أبو أحمد إلى معسكره من يومه وقد استنقذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأة سوى من ظفر به من الزنجيات وأمر أبو أحمد بحفظ النساء وحملهم إلى واسط ليدفعن إلى أهلهن ثم بكر إلى المدينة فأمر الناس بأخذ ما فيها فأخذ جميعه وأمر بهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما بقي بها من السفن وأخذوا من الطعام والشعير والأرز وغير ذلك ما لا حد عليه، فأمر ببيع ذلك وصرفه إلى الجند" (2).
4) يقول عنه الذهبي في أحداث سنة 270 هـ في كتابه العبر في اخبار من غبر:
"سنة سبعين ومائتين فيها التقى المسلمون والخبيث فاستظهروا ثم وقعة أخرى قتل فيها . وعجل الله بروحه إلى النار واسمه علي بن محمد العبقسي المدعي أنه علوي ولقد طال قتال المسلمين معه واجتمع مع الموفق نحو ثلاثمائة ألف مقاتل أجناد ومطوعة وفي آخر الأمر التجأ الخبيث إلى جبل ثم تراجع هو وأصحابه إلى مدينهم فحاربهم المسلمون . فانهزم الخبيث وتبعهم أصحاب الموفق يأسرون ويقتلون ثم استقبل هو وفرسانه وجملوا على الناس فأزالوهم فحمل عليه الموفق والتحم القتال وإذا بفارس قد أقبل ورأس الخبيث في يده فلم يصدقه فعرفه جماعة من الناس فحينئذ ترجل الموفق وابنه المعتضد والأمراء فخروا لله سجدًا وكبروا وسار الموفق فدخل بالرأس بغداد وعملت القباب وكان يوما مشهودًا وأمن الناس وشرعوا يتراجعون إلى الأمصار التي أخذها الخبيث وكانت أيامه خمس عشرة سنة . قال الصولي : قتل من المسلمين ألف ألف وخمسمائة ألف . قال : وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف وكان يصعد على المنبر فيسب عثمان وعليًا وعائشة ومعاوية . وهو اعتقادً الأزارقة وكان ينادي في عسكره على العلوية بدرهمين وثلاثة وكان عند الواحد من الزنج العشرة من العلويات يفترشهن وكان الخبيث خارجيًا يقول : لاحكم إلا لله . (على طريقة الخوارج طبعاً).. وقيل : كان زنديقًا يتستر بمذهب الخوارج وهو أشبه فان الموفق كتب إليه وهو يحاربه في سنة سبع وستين يدعوه إلى التوبة والإنابة إلى الله مما فعل من سفك الدماء وسبي الحريم وانتحال النبوة والوحي فما زاده الكتاب إلا تجبرًا وطغيانًا " (3).
وذكر الملك المؤيد إسماعيل بن أبي الفداء في تاريخه في أحداث سنة 270 هـ :" في هذه السنة قتل صاحب الزنج لعنه الله بعد قتل وغَرقِ غالب أصحابه وقُطع رأسه وطيف به على رمح وكثر ضجيج الناس بالتحميد ورجع الموقف إِلى موضعه والرأس بين يديه وأتاه من الزنج عالم كثير يطلبون الأمان فأمنهم ثم بعث برأس الخبيث إِلى بغداد وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء لأربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين فكانت أيامه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام" (4).
__________
(1) ابن الأثير: الكامل ـ السابق ـ مج7ص245 ، 246.
(2) ابن الأثير: السابق مج7 ص344.
(3) الذهبي: العبر في أخبار من غبر دار الفكر ج1 ص122.
(4) أبو الفداء: تاريخ أبي الفداء القاهرة ص(12/81)
5) أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن تغري بردي:
يقول في نجومه الزاهرة في أحداث 255هـ : "فيا كان ابتداء خروج الزنج، وخرج قائدهم بالبصرة، فلما خرج انتسب إلى زيد بن علي (..) بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ وهذا نسب غير صحيح، وانضم إليه معظم أهل البصرة وعظم أمره وفعل بالمسلمين الأفاعيل" (1).
أما في أحداث 270 هـ يقول ابن تغري بردي: "وفيها توفي علي بن محمد صاحب الزنج وكانت مدة اقامته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام. ولقي الناس منه في هذه المدة شدائد؛ قال الصولي: قتل من المسلمين ألف ألف وخمسمائة ألف مابين شيخ وشاب وذكر وأنثى، وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف. وكان له منبر في مدينته يصعد عليه ويسب فيه عثمان وعلياً ومعاوية وطحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم. وهذا رأي الخوارج الأزارقة لعنة الله عليهم واستراح المسلمون بموته كثيراً ولله الحمد والمنة" (2).
6) الحافظ جلال الدين السيوطي:
ذكر السيوطي في ترجمة الخليفة العباسي المعتمد على الله أبي العباس: "وفي أيامه دخلت الزنج البصرة وأعمالها وأخربوها، وبذلوا السيف وأحرقوا وخربوا وسبوا، وجرى بينهم وبين عسكره عدة وقعات، وأمير عسكره في أكثرها الموفق أخوه (..) واستمر القتال مع الزنج من سنة ستة وخمسين إلى سنة سبعين، فقتل فيها رأس الزنج لعنه الله واسمه بهبوذ، وكان ادعى أنه أرسل إلى الخلق فرد الرسالة وأنه مطلع على المغيبات (..) وكان ينادي على المرأة العلوية بدرهمين وثلاثة، وكان عند واحد من الزنج عشرة من العلويات يطؤهن ويستخدمهن" (3).
7) الفقيه المؤرخ أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي:
قال في أحداث 255هـ : "فيها فتنة الزنج وخروج العلوي القائد الزنج بالبصرة فعسكر ودعا إلى نفسه وزعم أنه علي بن محمد (..) بن الشهيد زيد بن الحسين بن علي. ولم يثبت نسبه فبادر إلى دعوة عبيد أهل البصرة والسودان، ومن ثم قيل الزنج، والتف إليه كل صاحب فتنة حتى استفحل أمره واستباح البصرة وغيرها وفعل الأفاعيل وامتدت أيامه إلى أن قتل إلى غير رحمة الله في سنة سبعين" (4).
وفي أحداث 259هـ يقول ابن العماد: "كان طاغية الزنج قد نزل بالبطيحة وشق حوله الأنهار وتحصن فهجم عليه الموفق فقتل من أصحابه خلقاً وحرق أكواخه واستنقذ منه النساء خلقاً كثيراً فصار الخبيث إلى الأهواز ووضع السيف في الأمة فقتل خمسين ألفاً، وسبى مثلهم" (5).
وفي أحداث 270هـ : "وكان يصعد المنبر فيسب عثمان وعلياً ومعاوية وعائشة وهو اعتقاد الأزارقة، وكان ينادي في عسكره على العلوية (أي القرشية) بدرهمين أو ثلاثة وكان عند واحد من الزنج العشرة من العلويات يفترشهن، وكان الخبيث خارجياً يقول لا حكم إلا لله! وقيل كان زنديقاً يتستر بمذهب الخوارج وهو أشبه، فإن الموفق كتب إليه وهو يحاربه في سنة سبعة وستين يدعوه إلى التوبة والإنابة إلى الله مما فعل من سفك الدماء وسبي الحريم وانتحال النبوة والوحي فما زاده إلا تكبراً وطغياناً" (6).
8) الحافظ ابن كثير:
يقول في أحداث 255هـ : "خارجي آخر ادعى أنه من أهل البيت بالبصرة (..) زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يكن صادقاً وإنما كان عسيفاً يعني أجيراً من عبد القيس واسمه علي بن محمد بن عبدالرحيم" (7).
في أحداث 270هـ : "انتهت أيام صاحب الزنج المدعي الكذاب قبحه الله" (8).
في أحداث 257هـ : "كانت الزنج تحيط بجماعة من أهل البصرة وكان يقول بعضهم لبعض (كيلوا) وهي إشارة القتل فيحملون عليهم بالسيوف فلا يسمع إلى قول أشهد ألا إله إلا الله، من أولئك المقتولين وضجيجهم عند القتل أي صراخ الزنج وضحكهم فإنا لله وإنا إليه راجعون. هكذا كانوا يفعلون في كل محال البصرة أيام نحسات، وهرب الناس منه كل مهرب، وحرقوا الكلأ من جبل إلى جبل، فكانت النار تحرق ما وجدت من شئ من انسان أو بهيمة أو آثار أو غير ذلك، وأحرقوا المسجد الجماع. وقتل هؤلاء جماعة كثيرة من الأعيان والأتباع والفضلاء والمحدثين والعلماء. فإنا لله وإنا إليه راجعون" (9).
أقول: هذه هي ثورة الزنج التي يدافع عنها العلمانيون ومن على شاكلتهم!! ثورة الخبز والفقر وتحرير العبيد!! إنها ثورة اللصوص وسفاكي الدماء.. إنهم يضحكون وهم يسمعون صراخ وعويل الضعفاء والشيوخ وهم يصرخون بكلمة التوحيد .. أي قلوب هذه؟! وأي ثورة هذه التي يدافع عنها العلمانيون ويتمسحون بالدين الإسلامي؟!
__________
(1) ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة ـ دارالكتب العلمية ـ بيروت ـ ط أولى 1992 ـ ج3 ـ ص27.
(2) ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة ـ السابق ـ ج3 ص60 و ص61.
(3) السيوطي: تاريخ الخلفاء ـ دارالكتبالعلمية ـ بيروت ـ ط أولى 1988 ـ ص291.
(4) ابن العماد: شذرات الذهب في أخبار من ذهب ـ دار الفكر ـ ج3 ـ ص129 ، 130.
(5) ابن العماد: السابق ـ ج3 ـ ص139.
(6) ابن العماد: السابق ـ ج3 ـ ص156.
(7) ابن كثير: البداية والنهاية ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط أولى 1958 ـ ج11 ص21.
(8) ابن كثير: السابق ـ ج11 ـ ص48.(12/82)
(9) ابن كثير: السابق ـ ج11 ـ ص32.
9) المؤرخ أبو الحسن علي بن الحسن بن علي المسعودي:
يقول في مروجه في أحداث 255هـ : "وكان خروج صاحب الزنج بالبصرة في خلافة المهتدي (..) وكان يزعم أنه علي بن محمد (..) بن الحسبن بن علي بن أبي طالب، وأكثر الناس يقول: إنه دعي لأبي طالب ينكرونه وكان من أهل قرية من أعمال الري يقال لها ورزنين، وظهر من فعله ما دلّ على تصديق ما رمي به من أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج؛ بأن أفعاله في قتل النساء والأطفال وغيرهم من الشيخ الفاني وغيرهم ممن لا يستحق القتل يشهد بذلك عليه، وله خطبة يقول في أولها: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله ، والله أكبر ألا لا حكم إلا لله.. وكان يرى الذنوب كلها شركاً" (1).
الناس يأكلون القطط والكلاب ويأكلون بعضهم:
يقول المسعودي: "ولما ركن من بقي من البصرة إلى هذا الفعل من المهلبي (أحد قواد صاحب الزنج بها) اجتمعوا في بعض الجمع، فوضع فيهم السيف، فمن ناج سالم، ومن مقتول، ومن غريق، واختفى كثير من الناس في الدور والآبار، فكانوا يظهرون بالليل فيأكلون الكلاب ويذبحونها ويأكلونها والفئران والسنانير، فأفنوها حتى لم يقدروا منهم على شئ، فكانوا إذا مات منهم الواحد أكلوه ويراعي بعضهم موت بعض، ومن قدر منهم على صاحبه قتله وأكله، وعدموا مع ذلك الماء العذب" (2).
ويصف لنا المسعودي هول ما لاقاه الناس من فتنة الزنج وذكر عن امرأة أنها "أحضرت امرأة تنازع ومعها أختها، وقد أحتوشوها ينتظرون أن تموت فيأكلون لحمها. قالت المرأة: فما ماتت حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها وأكلناها، ولقد حضرت أختها وقد جاءت على النهر ونحن على مشرعة عيسى بن أبي حرب وهي تبكي ومعها رأس أختها فقيل لها: ويحك مالك تبكين؟ قالت اجتمعوا على أختي ما تركوها تموت موتاً حسناً حتى قطعوها، فظلموني فلم يعطوني من لحمها شيئاً إلا رأسها هذا، وهي تشتكي ظلمهم لها في أختها مثل هذا كثير وأعظم مما وصفنا" (3).
أقول: هذه ثورة الزنج .. ثورة الجياع!! التي أوصلت الناس إلى هذا الهوان.. ثورة الفقراء التي جعلت الناس يأكلون الفئران والكلاب بل ويأكلون ذويهم ويتعجلون وفاتهم!! العجب العجاب أن هؤلاء العلمانيين لا يزالون يدافعون ويشيدون بصاحب الزنج وثورته رغم كل جرائمه البشعة.. ألا يستحون!!
نساء آل البيت يطؤهن عبد زنجي:
انظر إلى تحرير المرأة وحفظ كرامتها على أيدي الزنج وصاحبهم الملهم علي بن محمد! يقول المسعودي: "وبلغ من أمر عسكره أنه كان ينادي فيه على المرأة من ولد الحسن والحسين والعباس وغيرهم من ولد هاشم وقريش وغيرهم من سائر العرب وأبناء الناس، تباع الجارية منهم بالدرهمين والثلاثة، وينادى عليها بنسبها؛ هذه ابنة فلان الفلاني، لكل زنجي منهم العشرة والعشرون والثلاثون؛ يطؤهن الزنج، ويخدمن النساء الزنجيات كما تخدم الوصائف، ولقد استغاثت إلى علي بن محمد امرأ' من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب كانت عند بعض الزنج وسألته أن ينقلها منه إلى غيره من الزنج أو يعتقها مما هي فيه. فقال لها: هو مولاك وأولى بك من غيره" (4).
أهكذا يكون صاحب الزنج علوياً ينتسب إلى آل البيت وهو يمعن في إذلال نسائهم وهتك أعراض بناتهم واسترقاقهن وهو الحرائر العفيفات.. ثم يأتي علمانيو هذا الزمان ويدافعون عن فتنته العمياء!! لقد تعمدنا نقل كلام المسعودي لعلمنا بتشيعه وميوله إلى العلويين والطالبيين وبغضه للعباسيين ونظراً لاطراء كثير من المستشرقين بالمسعودي فيما يتعلق من هجومه على الولاة العباسيين!!
ورغم كل ما ذكرناه فماذا عسى دعاة تيار اليسار الإسلامي والعلمنة المتمحكة بالإسلام.. ماذا عسى العقلنة الاعتزالية أن تقول ازاء هذه الشهادات الدامغة من علماء الأمة على اختلاف مشارهم وتباين عصورهم؟! أعتقد أن جوابهم جاهز: إنها مؤامرة تاريخية كبرى!!
10) الحافظ شمس الدين الذهبي:
يقول الحافظ في كتابه (سير أعلام النبلاء) في ترجمة علي بن محمد تحت عنوان (الخبيث): "هو طاغية الزنج، علي بن محمد (..) افترى وزعم أنه من ولد زيد بن علي العلوي، كان من منجماً طرقياً ذكياً حرورياً ماكراً، داهية منتحلاً، على رأي فجرة الخوارج، يتستر بالإنتماء إليهم وإلا فالرجل دهري فيلسوف زنديق. ظهر بالبصرة واستغوى عبيد الناس وأوباشهم فتجمع له كل لص ومريب، وكثروا فشد بهم على أهل البصرة، وتم له ذلك واستباحوا البلد، واسترقوا الذرية، وملكوا، فانتدب لحربهم عسكر المتعمد، فالتقى الفريقان وانتصر الخبيث واستفحل بلواؤه، وطوى البلد وأباد العباد، وكاد أن يملك بغداد وجرت بينه وبين الجيش عدة مصافات، وأنشأ مدينة سماها (المختارة)، في غاية الحصانة، وزاد جيشه إلى مائة ألف، ولولا زندقته ومروقه لاستولى على الممالك" (5).
سبب خروجه ودعوته إلى فتنته:
__________
(1) المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر ـ المكتبة الإسلامية ـ بيروت ـ ج7 ـ ص194 وص195.
(2) المسعودي: السابق ـ ج7 ص307.
(3) المسعودي: السابق ـ ج7 ص307 وص308.
(4) المسعودي: ج7 ص308.(12/83)
(5) الذهبي: سير أعلام النبلاء ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط2 ـ 1984 ـ ج13 ـ ص129 ، ص130.
يقول الذهبي: "بعد مصرع المتوكل وابنه أولئك الخلفاء المستضعفين المقتولين، نقض أمر الخلفاء جداً وطمع كل شيطان في التوثب، وخرج الصفّار بخراسان، اتسعت ممالكه، وخرج هذا الخبيث بالبصرة وفعل ما فعل، وهاجت روم وعظم الخطب" (1).
عقيدة ومبادئ صاحب الزنج:
يقول الذهبي: "وادعى أنه هو عبد الله المذكور في (قل أوحي إلي) وزعم أن صلى الله عليه وسلم ما يمتاز عليه إلا بالنبوة" (2) ... "وزعم أنه تكلم في المهد؛ صيح به: يا علي! فقال لبيك" (3) ... "وكان يجمع اليهود والنصارى، يسألهم عما في التوراة والإنجيل من ذكره وهم يسخرون منه، ويقرأون له فصولاً فيدعي أنها فيه، وزاد من الإفك، فنفرت منه قلوب خالق من أتباعه ومقتوه" (4).
كان يدعي الزهد والتقشف وهو أبعد الناس من ذلك:
يقول الذهبي: "ولم يجد لجيشه لما كثروا من من بد من أرزاق، فقرر للجندي في الشهر عشرة دنانير، فحسده قواده الفرسان، وانشغل بإنشاء الأبنية وتفر عن الزنج فهموا بالفتك به" (5).
11) العلامة عبد الرحمن بن خلدون:
"كان أكثر دعاة العَلًوّية الخارجين بالعراق أيام المُعْتَصِم وما بعده أكثرهمِ من الزيْدِيَّةِ وكان من أئمتهم علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهير وكان نازلاً بالبصرة لما وقع البحث عليه من الخلفاء ظفروا بابن عمّه عليّ بن محمد بن الحسين فقتل بفدك ولأيام من قتله خرج رجل بالريّ يدّعي أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى المطلوب وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي . ولما ملك البصرة لقي عليّاً هذا حياً معروف النسب فرجع عن ذلك وانتسب إلى يحيى قتيل الجوزجان أخي عيسى المذكور . ونسبه المسعوديُّ إلى طاهر بن الحسين وأظنه الحسين بن طاهر بن يحيى المحدِّث بن الحسين بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن عليّ لأن ابن حزم قال في الحسين السبط إنه لا عقب له إلّا من عليّ بن الحسين وقال فيه عليّ بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر . وقال الطبري وابن حزم وغيرهم من المحقّقين إنه من عبد القيس واسمه عليّ بن عبد الرحيم من قرية من قرى الريّ ورأى كثرة خروج الزيديّةِ فحدّثته نفسه بالتوثّب فانتحل هذا النسب ويشهد لذلك أنه كان على رأي الأزارقة من الخوارج ولا يكون ذلك من أهل البيت" (6).
ويقول ابن خلدون: "واستنقذ العباس من نساء الكوفة وواسط وصبيانهم أكثر من عشرة آلاف وأعطى ما وجده في (المنصورة) من الذخائر والأموال للأجناد" (7).
11) الشيخ محمد الخضري:
يقول في محاضراته التاريخية: "ولم يكن يدري إلا الله ماذا تكون العاقبة لو انتصر هذا الرجل بزنوجه على آل العباس بأتراكهم كان الأمر ينتقل من أيدي الراك إلى أيدي الزنوج فتقع الأمة في الشر العظيم والوباء الوبيل لأن هؤلاء الزنوج ليس لهم أدب معروف بل لا يكادون يفقهون قولاً.. فانتصار العباسيين عليهم خلاص للأمة من شر مستطير" (8).
صفوة القول :
من خلال عرضنا االسابق نخلص إلى النقاط التالية:
إن صاحب الزنج دعي آل طالب كذاب ونسبه ليس بالصحيح.. وأن اسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم بن بني عبد القيس.
لو افترضنا صحة نسبه لآل البيت فإن هذا لا يغني في دين الله.. فماذا أغنت قرابة أبي لهب وأبي جهل من رسول ا صلى الله عليه وسلم .
إن صاحب الزنج لم يكن علوياً بل استغل ادعاء النسب لآل البيت لحب عامة الناس لرسول ا صلى الله عليه وسلم ولأحفاده. وليس كما ذهب أحمد علبي الذي يقول إن عقيدة الشيعة في ذلك الوقت هي عقيدة عامةالناس وهذا خطأ فعقيدة أهل السنة هلي التي كانت سائدة ولازالت إلى وقتنا الحاضر.
هب أن صاحب الزنج علوي صحبح النسب! فكيف يستقيم هذا مع رجل يسمح بإذلال نساء آل البيت وخاصة من أبناء الحسن بن علي رضي الله عنهم؟! كيف يسمح بانتهاك حرمة هؤلاء العفيفات.. كيف يسمح باسترقاق هؤلاء الحرائر من آل البيت وبيعهن بأوكس الأثمان؟!! كيف يكون علوياً صحيح النسب وهو الذي كان يلعن علي بن أبي طالب من على المنبر ويأمر بذلك؟!
كيف يستقيم ادعاؤه أنه من العلويين وهو الذي قتل علي بن زيد صاحب الكوفة سنة 260هـ.
أما عن اعتقاده فكان أشبه بمعتقد الخوارج الأزارقة من قتل النساء والأطفال والأشياخ، واستحلال الفروج وكان يرفع نفس شعار الخوارج أيام التحكيم (لا حكم إلا لله)!! وإن كنا نميل إلى رأي الحافظ الذهبي أنه كان زنديقاً لا خارجياً ولا علوياً بل كان يتستر بهذين المذهبين لارتكاب الأفاعيل والجرائم في حق المسلمين.
كان هذا الخبيث يزعم أنه نزل عليه الوحي وأنه خوطب من الملائكة: (إنما البصرة كانت خبزة لك تأكلها من جوانبها)!!
ادعى أنه رأى طيوراً بيضاء حاربت معه.
ادعى أنه عرضت عليه النبوة فأباها لأن لها أعباء: خفتُ ألا أطيقها!!
__________
(1) الذهبي: المرجع السابق ج13 ـ ص134.
(2) الذهبي: ج13 ـ ص134.
(3) الذهبي: ج13 ـ ص134.
(4) الذهبي: ج13 ـ ص135.
(5) الذهبي: ج13 ـ ص135.
(6) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون ـ مؤسسة الأعلى للمطبوعات بيروت ـ ج3 ص302.
(7) ابن خلدون: ج3 ـ ص321.(12/84)
(8) محمد الخضري بك: محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية) ـ دار المعارف بيروت ـ ص305.
إن صاحب الزنج شخص مغامر استغل حالة الفوضى التي حلت بأرض الخلافة بعد مقتل بعض الخلفاء وليس كما زعم فيصل السامر وعلبي ومحمد عمارة إذ لم يكن يدور في خلد هؤلاء الزنوج التقسيم الذي أفرزته الثورة البلشفية لمجتمعات بروليتارية: عمال وفلاحين، وبرجوازية: أصحاب رؤوس الأموال والأملاك والإقطاعيين وأهل الحكم.. لم تكن هناك أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية وجيوسياسية وغير ذلك من تحليلات لم يسمع عنها أصحاب الزنج ولا أتباعه، فما حدث ليس إلا حالة من الفوضى لرجل زنديق استغل أعجمية هؤلاء الزنوج وعدم فهمهم للغة العربية مع وجود عدد كبير من الأعراب وقطاع الطرق والهاربين من الأحكام .. فهؤلاء المطاريد هم جند أصحاب الزنج!! فلم يكن لدى صاحب الزنج معتقد واضح ولا برنامج محدد، بل كلها شعارات لتهييج هؤلاء العبيد بأن يملكهم أراضي مواليهم ويحررهم.. ولم يحدث وكذب عليهم واستمروا في الرق فترة حكمه بل زاد في الرق حيث استرق الحرائر والأحرار من المسلمين!!
نلاحظ أن عنصر الزنج لم يشترك في هذه الفتنة إلا بعد سبع سنوات من بدء دعوة صاحب الزنج علي بن محمد سنة 249هـ فأول زنجي انضم سنة 255هـ وكان كل أتباع هذا الدعي من الأعراب، الذين كانوا يهددون قوافل الحجاج ويأوون اللصوص والهاربين من الأحكام.. حتى بعد انضمام الزنج فإن معظم قواده من كانوا من هؤلاء الأعراب، وكان الزنج عبارة عن جيش من المرتزقة سرعان ما انقلبوا عليه وهربوا منه لما تيقنوا كذبه ودجله..
جيش الخلافة الذي كان يحارب الزنج كان به فرق زنجية كاملة وكانت تحارب بإخلاص وبسالة ضد جيش صاحب الزنج.. لم يلتف هؤلاء العبيد حول الثورة المنشودة! ثورة الخبز والفقر التي تخلصهم من رق العبودية!!
إذا كان هناك بطل لهذه الفتنة فإنه أبو أحمد الموفق أخو الخليفة العباسي المعتمد، وكذلك ابنه العباس الذي صار خليفة المسلمين وتلقب باسم المعتضد بالله..
هؤلاء هو أهل الثناء والإشادة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى.. هذا هو الأنموذج الذي يقدم لأمتنا؛ أخلاق أولاد النبي الأكرم.. أما الأنموذج الذي يقدمه لنا العلمانيون ويتباكى عليه اليسار الإسلامي ومن على شاكلتهم فهو الأنموذج الملفوظ، وهو الصورة القبيحة الدامية التي تعجب الماركسية الحمراء!!
هؤلاء العلمانيون خيالهم خصب ويسبحون في أوهام من الباطل صنعها لهم ماسنيون وبروكلمان ورغم أن التاريخ يكذبهم جميعاً إلا أنهم يصرون على الدفاع عن أكابر المجرمين وسفاكي الدماء ومنتهكي الأعراض وقتلة الأطفال والشيوخ.. ثم بعد كل ذلك يقولون إنها مؤامرة تاريخية كبرى ضد صاحب الزنج!!
(إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)..
================(12/85)
(12/86)
القواعد الأربع التي تفرق بين دين المسلمين ودين العلمانيين
تأليف
فضيلة الشيخ
علي بن خضير الخضير
عفى الله عنه وعن والديه وأهله ومشايخه وطلابه وجميع المسلمين
القصيم / بريدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد :
فهذه رسالة مختصرة في قواعد يعرف فيها المسلم الفرق بين دينه العظيم وبين الوثنية الجديدة والشرك المعاصر المسمى بالعلمانية بجميع أصنافها الكثيرة ، ليجتنبها ويبتعد عنها ويبرأ منها ومن أهلها المسمَين بالعلمانيين و يبرأ إلى الله منهم ويكفرهم ويعاديهم ويبغضهم ويجاهدهم ، سواء أكانوا مفكرين أو مثقفين أو سياسيين أو حكام أو صحفيين أو مغنين أو ممثلين أو نظريات أو حكومات أو أنظمة وغير ذلك .
وهذه القواعد الأربع هي :
القاعدة الأولى
أن المشركين الذين بُعث فيهم الرسو صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بالربوبية
قال تعالى : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } .
وقال تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون }.
وقال تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } .
ومع ذلك قاتلهم الرسو صلى الله عليه وسلم وكفرهم ولم يدخلهم ذلك في الإسلام .
والعلمانيون غير الغلاة يقرون بالربوبية كذلك وعندهم بعض العبادات فلم يدخلهم ذلك في الإسلام ، أما الغلاة فهم أشد فعندهم لا إله ولا رب والحياة مادة .
القاعدة الثانية
أن الرسو صلى الله عليه وسلم جاء في أناس لهم تشريعات وقوانين يفصلون فيها بينهم في الخصومات وغيرها ، ولهم عوائد جاهلية يسيرون عليها فلم يقبلوا حكم الله ولا هديه ، فكفرهم الله ورسوله وقاتلهم ، ولم يدخلهم في الإسلام .
فمن تشريعاتهم ما جاء في قوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } .
وقال تعالى عن قريش ومن تبعها : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }.
والعلمانيون لهم تشريعات وقوانين ومحاكم وضعية محلية أو إقليمية أو عالمية يفصلون فيها بينهم في الخصومات وغيرها ، ولهم عوائد جاهلية يسيرون عليه يسمونها حضارة وتنور وتطوير، فلم يقبلوا حكم الله ولا هديه فلابد من تكفيرهم والبراءة منهم .
القاعدة الثالثة
أن الرسو صلى الله عليه وسلم جاء إلى أناس يجعلون الدين في شئ دون شئ ، يعبدون الله في الشدة دون الرخاء فيشركون .
قال تعالى : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا اللَّه مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } .
وكذلك يجعلون لله شيئا ولأوثانهم شيئا مثل ما جاء في قوله تعالى : { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } .
والعلمانيون يعبدون الله في المسجد وفي رمضان وفي النكاح والطلاق والأحوال الشخصية فقط ، وفي غير ذلك يرجعون إلى تشريعاتهم وعوا ئدهم الضالة 0
القاعدة الرابعة
جاء الرسول إلى المشركين ولهم أرباب كثيرة ومختلفة فمنهم من يعبد الأصنام والأوثان ومنهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد الجن ومنهم من يعبد النجوم ومنهم من يعبد النار ومنهم من يعبد عيسى بن مريم ومنهم من يعبد الأنبياء ومنهم من يعبد الصالحين فلم يفرق بينهم في الحكم والكفر والقتال .
والعلمانيون كذلك لهم آلهة كثيرة وهم طوائف باعتبار معبوديهم منهم من يعبد الأمريكان ومنهم من يعبد الأوربيين ومنهم من يعبد الروس ومنهم من يعبد النظام العالمي الجديد ومنهم من يعبد الحكام ومنهم من يعبد النظريات ومنهم من يعبد الوطن ومنهم من يعبد القومية والجنس ويعبدون قيادييهم ومفكريهم فلا فرق بينهم في الكفر والردة.
مسألة
ويلحق بذلك نابتة وطائفة ضالة في هذا العصر، وهم جسر العلمانيين وأذنابهم وأفراخهم وهم طائفة العصرانيين .
فهم من غلاة المرجئة في باب الإيمان والتكفير .
وفي باب الفقه أهل أهواء وشهوة وإباحية وخضوع للواقع وترخص ينتهي بهم إلى الزندقة .
وفي الختام
نضيف كلاما للشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري رحمه الله فإنه ـ فيما أعلم ـ من أوائل من فضح هذه الوثنية الجديدة وهذا الشرك اللعين المعاصر آلا وهي العلمانية ، فقال في خاتمته على كتاب كشف الشبهات [الطبعة الأولى عام 1385 هـ ] حيث جعل خاتمة على كتاب كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، كشف فيه رحمه الله أستار الوثنية الجديدة ، والشرك المعاصر كما كشف الشيخ محمد بن عبد الوهاب الشرك المعاصر له .(12/87)
فقال الشيخ عبد الرحمن الدوسري : ( إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه كشف الشبهات عالج شرك التخريف بصورته المتمثلة في دعاء الأموات والغائبين وتقديس القبور ، ثم حدثت ضروب من الشرك برزت بأسماء وألقاب ينخدع بها الجهلة ويتعلق بها المغرضون والحاقدون ) .
ثم قال : ( إن الذي تولى كبره هم اليهود والمجوس ، لما خافوا من البعث الإسلامي الصحيح الذي ندب إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقام به مع أعوانه ، وفي هذا الوقت كسبوا أنصارا من بني جلدتنا فألهبوا حماس الجهلة بنعرات العصبيات القومية في كل أمة إسلامية ، فظهرت الوثنية الجديدة وعبادة المادة والشهوات وتقديس الأشخاص ،بحجة الجنسية والوطنية ، حتى تكونت في المحيط الإسلامي والعربي خاصة ردة جديدة بما انتحلوه من مبادئ وطنية ومذاهب مادية مزخرفة بألقاب ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب ) .
وبعد هذه المقدمة تكلم الشيخ عبد الرحمن الدوسري عن معنى الألوهية وأصولها .
وهما أصلان :
1 ـ الكفر بكل معبود .
2 ـ إفراد الله بالعبادة والاستسلام لحكمه .
ثم تكلم عن حقيقة العبادة والحب في الله وبغض أعداء الدين .
ثم تكلم عن حقيقة ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وقال : ( وبه تعرف مدى ما انغمس فيه غالب المحسوبين على الإسلام من الوثنية الجديدة وما استجلبوه من مبادئ الغرب ومذاهبه المادية فجعلوا حدود الوطن فوق حدود الله وجعلوا لأنفسهم الخيرة فيما يشرعون وينظمون خلافا لما قضى الله ورسوله ، واتبعوا ما يمليه رجال تألهوهم بالحب والتعظيم وجعلوهم أندادا من دون الله كالقومية والوطنية وما يستلزمها من المذاهب المادية ) .
ثم ذكر من جعل الوطن ندا لله في قول قائلهم :
بلادك قدمها على كل ملة * ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
وجلبوا موالاة أعداء الله بحجة الجنس والوطن ، وتعطيل الشريعة بحجة التطوير الفاسد ، وعبادة كل طاغوت في سبيل ذلك .
ومن مبادئهم الباطلة :
مثل مبدأ " الدين لله والوطن للجميع " .
ومبدأ " الدين علاقة بين العبد وربه فقط لا شأن له في الحياة " .
ومبدأ " إرادة الشعب من إرادة الله " .
وذكر أنه لا يزال خريجو المدارس الاستعمارية يركزون هذه المفاهيم في طبقات الأمة الإسلامية ، وقال إن المدارس هي أول ما فرض الاستعمار علينا ثقافته بواسطتها .
ثم قال : ( فعلى المسلمين شيبا وشبانا وحكومات وشعوبا أن يقاوموا هذا الشرك الجديد والوثنية الجديدة ) أهـ ملخصا .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
=====================
العلمانيةوثمارها الخبيثة
…الحمد لله رب العالمين قيوم السموات والأرضين مدبر الخلائق أجمعين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الملك الحق المبين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، الصادق الأمين ، r وعلى آله وصحبه أجمعين .
…وبعد .. فهذه مقالة مقتضبة ، كتبها بعض العلماء في طائفة وفرقة خرجت في هذه الأزمنة ، وتمكنت في الكثير من دول الإسلام ، ألا وهي فرقة ( العلمانية ) ، التي يظهر منها الحب ، والوئام لأفراد الأمة ، ولكنها تظهر أحيانًا خفايا تضمرها تنبئ عن حقد ، وشنآن للدين الإسلامي ، وتعاليمه ، وتتنكر للحدود الشرعية ، وللعبادات ، والمعاملات الدينية ، وتجعل جل هدفها المصالح ، والشهوات النفسية ، وترى عزل الدين عن الدولة ، وترمي المتمسكين به بالتخلف ، والجحود ، والتأخر ، ولاشك أن هذه الطائفة أخطر على الأمة من المنافقين الأولين ، ومن كل الطوائف المنحرفة .
…ولقد أبان الكاتب وفقه الله جُلَّ أهداف هذه الفرقة الضالة ، وأكبر خطرها .. فجدير بالمسلم أن يأخذ حذره ، وأن يعرف عدوه ، وأن يبعد بنفسه ، وبإخوانه عن أمثال هؤلاء العلمانيين ، ليسلك سبيل النجاة .. والله الموفق الهادي إلى سبيل الرشاد .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
المقدمة
…الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم .
…أما بعد :
…فإن أمتنا الإسلامية اليوم تمر بقترة من أسوأ فترات حياتها ، فهي الآن ضعيفة مستذلة ، قد تسلط عليها أشرار الناس من اليهود والنصارى ، وعبدة الأوثان ، وما لذلك من سبب إلا البُعد عن الالتزام بالدين الذي أنزله الله لنا ، هداية ورشادًا ، وإخراجًا لنا من الظلمات إلى النور .
…وقد كان هذا البُعد عن الدين في أول أمره مقصورًا على طائفة من المسلمين ، لكنه بدأ الآن ينساح حتى تغلغل في طائفة كبيرة من الأمة ، وقد كان لانتشار العلمانية على المستوى الرسمي والمستوى الفكري والإعلامي الأثر الأكبر ، في ترسيخ هذا البُعد وتثبيته ، والحيلولة دون الرجوع مرة أخرى إلى نبع الهداية ومعدن التقوى .(12/88)
…من هنا كانت هذه الرسالة الموجزة عن ( العلمانية وثمارها الخبيثة ) في بلاد المسلمين ، لعلها تُؤتي ثمارها في تبصير المسلمين بحقيقة هذه الدعوة ، ومصادرها ، وخطرها على ديننا ، وآثارها المميتة ، حتى نسارع في التحصن منها ، ومقاومتها ، وفضح دُعاتها ، والقضاء عليها - بإذن الله - حتى نعود إلى ديننا ، وتعود لنا العزة كما كانت ، { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } .
نسأل الله من فضله التوفيق والإرشاد والسداد .
محمد شاكر الشريف
مكة المكرمة……
ما هي العلمانية ؟!
…سؤال قصير ، لكنه في حاجة إلى جواب طويل ، واضح وصريح ، ومن الأهمية بمكان أن يعرف المسلمون جوابًا صحيحًا لهذا السؤال ، وقد كُتِبَتْ - بحمد الله - عدة كتب في هذا المجال ، وما علينا إلا أن نعلم فتعمل .
…نعود إلى جوانب سؤالنا ، ولن نتعب في العثور على الجواب الصحيح ، فقد كفتنا القواميس المؤلفة في البلاد الغربية ، التي نشأت فيها العلمانية مؤنة البحث والتنقيب ، فقد جاء في القاموس الإنجليزي ، أن كلمة ( علماني ) تعني :
1- دنيوي أو مادي .
2- ليس بديني أو ليس بروحاني .
3- ليس بمترهب (1) ، ليس برهباني .
…وجاء أيضًا في نفس القاموس ، بيان معنى كلمة العلمانية ، حيث يقول : العلمانية : هي النظرية التي تقول : إن الأخلاق والتعليم يجب أن لا يكونا مبنيين على أسس دينية .
…وفي دائر المعارف البريطانية ، نجدها تذكر عن العلمانية : أنها حركة اجتماعية ، تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب .
…ودائرة المعارف البريطانية حينما تحدثت عن العلمانية ، تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد ، وقد قسمت دائرة المعارف الإلحاد إلى قسمين :
* إلحاد نظري .
* إلحاد عملي ، وجعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي (2) .
…وما تقدم ذكره يعني أمرين :
…أولهما : أن العلمانية مذهب من المذاهب الكفرية ، التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في الدنيا ، فهو مذهب يعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها ، بعيدًا عن أوامر الدين ونواهيه .
__________
(1) الرهبانية عند النصارى نوع من العبادة التي ابتدعوها ، فقوله : ( ليس بمترهب ) يعني ليس بمتعبد ، وهي تقارب أو تناظر التعريفين الأول والثاني ، والنصارى لا ينظرون إلى الرهبانية على أنها بدعة كما ينظر إليها المسلمون ، بل يعتبرونها دينًا صحيحًا ، وعلى ذلك فقوله : ( ليس بمترهب ) ، ليس نفيًا للابتداع ، وإنما هو نفي للتعبد والتدين .
(2) ما ذكرنا هنا عن دائرة المعارف البريطانية ، والقاموس الإنجليزي ، استفيد من كتاب ( نشأة العلمانية ) للدكتور محمد زين الهادي .
…ثانيهما : أنه لا علاقة للعلمانية بالعلم ، كما يحاول بعض المراوغين أن يلبس على الناس ، بأن المراد بالعلمانية : هو الحرص على العلم التجريبي والاهتمام به ، فقد تبين كذب هذا الزعم وتلبيسه بما ذكر من معاني هذه الكلمة في البيئة التي نشأت فيها .
…ولهذا ، لو قيل عن هذه الكلمة ( العلمانية ) إنها : ( اللادينية ، لكان ذلك أدق تعبيرًا وأصدق ) ، وكان في الوقت نفسه أبعد عن التلبيس وأوضح في المدلول .
كيف ظهرت العلمانية
…كان الغرب النصراني في ظروفه الدينية المتردية هو البيئة الصالحة ، والتربة الخصبة ، التي نبتت فيها شجرة العلمانية وترعرعت ، وقد كانت فرنسا بعد ثورتها المشهورة هي أول دولة تُقيم نظامها على أسس الفكر العلماني ، ولم يكن هذا الذي حدث من ظهور الفكر العلماني والتقيد به - بما يتضمنه من إلحاد ، وإبعاد للدين عن كافة مجالات الحياة ، بالإضافة إلى بغض الدين ومعاداته ، ومعاداة أهله - أقول لم يكن هذا حدثًا غريبًا في بابه ، ذلك لأن الدين عندهم حينئذ لم يكن يمثل وحي الله الخالص الذي أوحاه إلى عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام - ، وإنما تدخلت فيه أيدي التحريف والتزييف ، فبدلت وغيرت وأضافت وحذفت ، فكان من نتيجة ذلك أن تعارض الدين المُبدَّل مع مصالح الناس في دنياهم ومعاملاتهم ، في الوقت نفسه الذي تعارض مع حقائق العلم الثابتة ، ولم تكتفِ الكنيسة - الممثلة للدين عندهم - بما عملته أيدي قسيسيها ورهبانها من التحريف والتبديل ، حتى جعلت ذلك دينًا يجب الالتزام والتقيد به ، وحاكمت إليه العلماء المكتشفين ، والمخترعين ، وعاقبتهم على اكتشافاتهم العلمية المناقضة للدين المبدل ، فاتهمت بالزندقة والإلحاد ، فقتلت من قتلت ، وحرَّقت من حرَّقت ، وسجنت من سجنت .
…ومن جانب آخر فإن الكنيسة - الممثلة للدين عند النصارى - أقامت تحالفًا غير شريف مع الحكام الظالمين ، وأسبغت عليهم هالاتٍ من التقديس ، والعصمة ، وسوَّغت لهم كل ما يأتون به من جرائم وفظائع في حق شعوبهم ، زاعمة أن هذا هو الدين الذي ينبغي على الجميع الرضوخ له والرضا به .(12/89)
…من هنا بدأ الناس هناك يبحثون عن مهرب لهم من سجن الكنيسة ومن طغيانها ، ولم يكن مخرجهم الذي اختاروه إذ ذاك ، إلا الخروج على ذلك الدين - الذي يحارب العلم ويناصر المجرمين - والتمر عليه ، وإبعاده وطرده ، من كافة جوانب الحياة السياسية ، والاقتصادية ، والعلمية ، والأخلاقية ، وغيرها .
…ويا ليتهم إذ خرجوا على هذا الدين المبدل اهتدوا إلى دين الإسلام ، ولكنهم أعلنوها حربًا على الدين عامة .
…وإذا كان هذا الذي حدث في بلاد الغرب النصراني ليس بغريب ، فإنه غير ممكن في الإسلام ، بل ولا متصور الوقوع ، فوحي الله في الإسلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلا هو ممكن التحريف والتبديل ، ولا هو ممكن أن يُزاد فيه أو يُنقص منه ، وهو في الوقت نفسه لا يحابي أحدًا ، سواء كان حاكمًا أو محكومًا ، فالكل أمام شريعته سواء ، وهو أيضًا يحافظ على مصالح الناس الحقيقية ، فليس فيه تشريع واحد يُعارض مصلحة البشرية ، وهو أيضًا يحرص على العلم ويحض عليه ، وليس فيه نص شرعي صحيح يُعارض حقيقة علمية ، فالإسلام حق كله ، خير كله ، عدل كله ، ومن هنا فإن كل الأفكار والمناهج التي ظهرت في الغرب بعد التنكر للدين والنفور منه ، ما كان لها أن تظهر ، بل ما كان لها أن تجد آذانًا تسمع في بلاد المسلمين ، لولا عمليات الغزو الفكري المنظمة ، والتي صادفت في الوقت نفسه قلوبًا من حقائق الإيمان خاوية ، وعقولاً عن التفكير الصحيح عاطلة ، ودينًا في مجال التمدن ضائعة متخلفة .
…ولقد كان للنصارى العرب المقيمين في بلاد المسلمين دورٌ كبيرٌ ، وأثرٌ خطيرٌ ، في نقل الفكر العلماني إلى ديار المسلمين ، والترويج له ، والمساهمة في نشره عن طريق وسائل الإعلام المختلفة ، كما كان أيضًا للبعثات التعليمية التي ذهب بموجبها طلاب مسلمون إلى بلاد الغرب لتلقي أنواع العلوم الحديثة أثرٌ كبيرٌ في نقل الفكر العلماني ومظاهره إلى بلاد المسلمين ، حيث افتتن الطلاب هناك بما رأوا من مظاهر التقدم العلمي وآثاره ، فرجعوا إلى بلادهم محملين بكل ما رأوا من عادات وتقاليد ، ونظم اجتماعية ، وسياسية ، واقتصادية ، عاملين على نشرها والدعوة إليها ، في الوقت نفسه الذي تلقاهم الناس فيه بالقبول الحسن ، توهمًا منهم أن هؤلاء المبعوثين هم حملة العلم النافع ، وأصحاب المعرفة الصحيحة ، ولم تكن تلك العادات والنظم والتقاليد التي تشبع بها هؤلاء المبعوثون وعظموا شأنها عند رجوعهم إلى بلادهم إلا عادات ، وتقاليد ونظم مجتمع رافض لكل ما له علاقة ، أو صلة بالدين .
…ومثل هذا السرد الموجز وإن كان يدلنا على كيفية دخول العلمانية إلى بلاد المسلمين ، ( فإنه أيضًا ينبهنا إلى أمرين هامين ) :
…أحدهما : خطورة أصحاب العقائد الأخرى ، من النصارى وغيرهم الذين يعيشون في بلاد المسلمين ، وكيف أنهم يكيدون للإسلام وأهله ؟ مما يوجب علينا الحذر كل الحذر من هؤلاء الناس ، وأن ننزلهم المنزلة التي أنزلهم الله إليها ، فلا نجعل لهم في بلاد المسلمين أدنى نوع من أنواع القيادة والتوجيه ، كما ينبغي أن تكون كل وسائل الإعلام والاتصال بالجماهير موصودة الأبواب في وجوههم ، حتى لا يبثوا سمومهم بين المسلمين .. لكن من يفعل ذلك ! وكثير من الأنظمة تجعل لهم مكانة سامية من أجل نشر هذه السموم .. حسبنا الله ونعم الوكيل .
…ثانيهما : خطورة الابتعاث الشديدة على أبناء المسلمين ، فكم من مسلم ذهب إلى هناك ثم رجع بوجه غير الوجه الذي ذهب به ، وقلب غير القلب الذي ذهب به ، وإذا كانت هناك دواعي لذهاب المسلمين للحصول على المعرفة في مجال العلوم التجريبية ، فكيف يمكننا القبول بذهاب بعض المسلمين للحصول على درجة علمية في علوم الشريعة بعامة ، واللغة العربية بخاصة ؟!!
…فهل اللغة العربية لغتهم أم لغتنا ؟! وهل القرآن الكريم أنزل بلغتهم أم بلغتنا ؟!
…وهل يُعقل أن المسلم يمكنه الحصول على المعرفة الصحيحة بعلوم الإسلام وشريعته من أناس هم أشدُّ الناس كفرًا وحقدًا على الإسلام وأهله ؟!
===============
صور العلمانية
…للعلمانية صورتان ، كل صورة منهما أقبح من الأخرى :
…الصورة الأولى : العلمانية الملحدة : وهي التي تنكر الدين كلية : وتنكر وجود الله الخالق البارئ المصور ، ولا تعترف بشيء من ذلك ، بل وتحارب وتعادي من يدعو إلى مجرد الإيمان بوجود الله ، وهذه العلمانية على فجورها ووقاحتها في التبجح بكفرها ، إلا أن الحكم بكفرها أمر ظاهر ميسور لكافة المسلمين ، فلا ينطلي - بحمد الله - أمرها على المسلمين ، ولا يُقبل عليها من المسلمين إلا رجل يريد أن يفارق دينه ، ( وخطر هذه الصورة من العلمانية من حيث التلبيس على عوام المسلمين خطر ضعيف ) ، وإن كان لها خطر عظيم من حيث محاربة الدين ، ومعاداة المؤمنين وحربهم وإيذائهم بالتعذيب ، أو السجن أو القتل .(12/90)
…الصورة الثانية : العلمانية غير الملحدة (1) وهي علمانية لا تنكر وجود الله ، وتؤمن به إيمانًا نظريًا : لكنها تنكر تدخل الدين في شؤون الدنيا ، وتنادي بعزل الدين عن الدنيا ، ( وهذه الصورة أشد خطرًا من الصورة السابقة ) من حيث الإضلال والتلبيس على عوام المسلمين ، فعدم إنكارها لوجود الله ، وعدم ظهور محاربتها للتدين (2) يغطي على أكثر عوام المسلمين حقيقة هذه الدعوة الكفرية ، فلا يتبينون ما فيها من الكفر لقلة علمهم ومعرفتهم الصحيحة بالدين ، ولذلك تجد أكثر الأنظمة الحاكمة اليوم في بلاد المسلمين أنظمة علمانية ، والكثرة الكاثرة والجمهور الأعظم من المسلمين لا يعرفون حقيقة ذلك .
…ومثل هذه الأنظمة العلمانية اليوم ، تحارب الدين حقيقة ، وتحارب الدعاة إلى الله ، وهي آمنة مطمئنة أن يصفها أحد بالكفر والمروق من الدين ؛ لأنها لم تظهر بالصورة الأولى ، وما ذلك إلا لجهل كثير من المسلمين ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا وسائر المسلمين ، وأن يفقه الأمة في دينها حتى تعرف حقيقة هذه الأنظمة المعادية للدين .
…ولهذا فليس من المستبعد أو الغريب عند المسلم الفاهم لدينه أن يجد في كلمات أو كتابات كثير من العلمانيين المعروفين بعلمانيتهم ذكر الله سبحانه وتعالى ، أو ذكر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو ذكر الإسلام ، وإنما تظهر الغرابة وتبدو الدهشة عند أولئك الذين لا يفهمون حقائق الأمور .
__________
(1) العلمانية في جميع صورها وأشكالها هي في الحقيقة ملحدة ، سواء منها ما ينكر وجود الله ، وما لا ينكر ؛ لأن أصل الإلحاد في لغة العرب معناه : العدول عن القصد ، والميل إلى الجور والانحراف .
…وإنما قلنا علمانية ملحدة ، وغير ملحدة ، جريًا على ما اشتهر عند الناس اليوم : أن الإلحاد يطلق على إنكار وجود الله فقط .
(2) كثير من الناس لا يظهر لهم محاربة العلمانية ( غير الملحدة ) للدين ؛ لأن الدين انحصر عندهم في نطاق بعض العبادات ، فإذا لم تمنع العلمانية مثلاً الصلاة في المساجد ، أو لم تمنع الحج إلى بيت الله الحرام ، ظنوا أن العلمانية لا تحارب الدين ، أما من فهم الدين بالفهم الصحيح ، فإنه يعلم علم اليقين محاربة العلمانية للدين ، فهل هناك محاربة أشد وأوضح من إقصاء شريعة الله عن الحكم في شتى المجالات ، لو كانوا يفقهون .
…والخلاصة : أن العلمانية بصورتيها السابقتين كفر بواح لاشك فيها ولا ارتياب ، وأن من آمن بأي صورة منها وقبلها فقد خرج من دين الإسلام والعياذ بالله ، وذلك أن الإسلام دين شامل كامل ، له في كل جانب من جوانب الإنسان الروحية ، والسياسية ، والاقتصادية ، والأخلاقية ، والاجتماعية ، منهج واضح وكامل ، ولا يقبل ولا يُجيز أن يشاركه فيه منهج آخر ، قال الله تعالى مبينًا وجوب الدخول في كل مناهج الإسلام وتشريعاته : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } . وقال تعالى مبينًا كفر من أخذ بعضًا من مناهج الإسلام ، ورفض البعض الآخر ، { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون } .
…والأدلة الشرعية كثيرة جدًا في بيان كفر وضلال من رفض شيئًا محققًا معلومًا أنه من دين الإسلام ، ولو كان هذا الشيء يسيرًا جدًا ، فكيف بمن رفض الأخذ بكل الأحكام الشرعية المتعلقة بسياسة الدنيا - مثل العلمانيين - من فعل ذلك فلاشك في كفره .
…والعلمانييون قد ارتكبوا ناقضًا من نواقض الإسلام ، يوم أن اعتقدوا أن هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه ، وأن حكم غيره أفضل من حكمه (1) .
…* قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - : ( ويدخل في القسم الرابع - أي من نواقض الإسلام - من اعتقد أن الأنظمة القوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام ، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين ، أو أنه كان سببًا في تخلف المسلمين ، أو أنه يُحصر في علاقة المرء بربه ، دون أن يتدخل في شؤون الحياة الأخرى ) (2) .
طبقات العلمانيين
…والعلمانيون في العالم العربي والإسلامي كثيرون - لا أكثر الله من أمثالهم - منهم كثير من الكتاب والأدباء والصحفيين ، ومنهم كثير ممن يسمونهم بالمفكرين ، ومنهم أساتذة في الجامعات ، ومنهم جمهرة غفيرة منشرة في وسائل الإعلام المختلفة ، وتسيطر عليها ، ومنهم غير ذلك .
…وكل هذه الطبقات تتعاون فيما بينها ، وتستغل أقصى ما لديها من إمكانات لنشر العلمانية بين الناس ، حتى غدت العلمانية متفشية في جل جوانب حياة المسلمين ، نسأل الله السلامة والعافية .
نتائج العلمانية في العالم العربي والإسلامي
…وقد كان لتسرب العلمانية إلى المجتمع الإسلامي أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم .
…وهاهي بعض الثمار الخبيثة للعلمانية :(12/91)
…1- رفض الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى ، وإقصاء الشريعة عن كافة مجالات الحياة ، والاستعاضة عن الوحي الإلهي المُنزَّل على سيد البشر محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - ، بالقوانين الوضعية التي اقتبسوها عن الكفار المحاربين لله ورسوله ، واعتبار الدعوة إلى العودة إلى الحكم بما أنزل الله وهجر القوانين الوضعية ، اعتبار ذلك تخلفًا ورجعية وردة عن التقدم والحضارة ، وسببًا في السخرية من أصحاب هذه الدعوة واحتقارهم ، وإبعادهم عن تولي الوظائف التي تستلزم الاحتكاك بالشعب والشباب ، حتى لا يؤثروا فيهم .
…2- تحريف التاريخ الإسلامي وتزييفه ، وتصوير العصور الذهبية لحركة الفتوح الإسلامية ، على أنها عصور همجية تسودها الفوضى ، والمطامع الشخصية .
…3- إفساد التعليم وجعله خادمًا لنشر الفكر العلماني وذلك عن طريق :
أ - بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية بالنسبة للتلاميذ ، والطلاب في مختلف مراحل التعليم .
ب - تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن .
جـ - منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم .
د - تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها ، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني ، أو على الأقل أنها لا تعارضه .
هـ - إبعاد الأساتذة المتمسكين بدينهم عن التدريس ، ومنعهم من الاختلاط بالطلاب ، وذلك عن طريق تحويلهم إلى وظائف إدارية أو عن طريق إحالتهم إلى المعاش .
و - جعل مادة الدين مادة هامشية ، حيث يكون موضعها في آخر اليوم الدراسي ، وهي في الوقت نفسه لا تؤثر في تقديرات الطلاب .
…4- إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة ، وهم المسلمون ، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد ، وصهر الجميع في إطار واحد ، وجعلهم جميعًا بمنزلة واحدة من حيث الظاهر ، وإن كان في الحقيقة يتم تفضيل أهل الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان على أهل التوحيد والطاعة والإيمان .
…فالمسلم والنصراني واليهودي والشيوعي والمجوسي والبرهمي كل هؤلاء وغيرهم ، في ظل هذا الفكر بمنزلة واحدة يتساوون أمام القانون ، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني .
__________
(1) انظر الناقض الرابع من نواقض الإسلام للشيخ محمد بن عبدالوهاب ، وكتاب العقيدة الصحيحة للشيخ عبدالعزيز بن باز ، ص28 .
…وإنما قلنا علمانية ملحدة ، وغير ملحدة ، جريًا على ما اشتهر عند الناس اليوم : أن الإلحاد يطلق على إنكار وجود الله فقط .
(2) المرجع السابق ، ص30 .
…وفي ظل هذا الفكر يكون زاج النصراني أو اليهودي أو البوذي أو الشيوعي بالمسلمة أمرًا لا غبار عليه ، ولا حرج فيه ، كذلك لا حرج عندهم أن يكون اليهودي أو النصراني أو غير ذلك من النحل الكافرة حاكمًا على بلاد المسلمين .
…وهم يحاولون ترويج ذلك في بلاد المسلمين تحت ما سموه بـ ( الوحدة الوطنية ) .
…بل جعلوا ( الوحدة الوطنية ) هي الأصل والعصام ، وكل ما خالفوها من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - طرحوه ورفضوه ، وقالوا : ( هذا يعرض الوحدة الوطنية للخطر !! ) .
…5- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية ، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية ، وتشجيع ذلك والحض عليه : وذلك عن طريق :
أ - القوانين التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها ، وتعتبر ممارسة الزنا والشذوذ من باب الحرية الشخصية التي يجب أن تكون مكفولة ومصونة .
ب - وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة ، ونشر الرذيلة بالتلميح مرة ، وبالتصريح مرة أخرى ليلاً ونهارًا .
جـ - محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات .
…6- محاربة الدعوة الإسلامية عن طريق :
أ - تضييق الخناق على نشر الكتاب الإسلامي ، مع إفساح المجال للكتب الضالة المنحرفة التي تشكك في العقيدة الإسلامية ، والشريعة الإسلامية .
ب - إفساح المجال في وسائل الإعلام المختلفة للعلمانيين المنحرفين لمخاطبة أكبر عدد من الناس لنشر الفكر الضال المنحرف ، ولتحريف معاني النصوص الشرعية ، مع إغلاق وسائل الإعلام في وجه علماء المسلمين الذين يُبصِّرون الناس بحقيقة الدين .
…7- مطاردة الدعاة إلى الله ، ومحاربتهم ، وإلصاق التهم الباطلة بهم ، ونعتهم بالأوصاف الذميمة ، وتصويرهم على أنهم جماعة متخلفة فكريًا ، ومتحجرة عقليًا ، وأنهم رجعيون ، يُحارون كل مخترعات العلم الحديث النافع ، وأنهم متطرفون متعصبون لا يفقهون حقيقة الأمور ، بل يتمسكون بالقشور ويَدعون الأصول .
…8- التخلص من المسلمين الذين لا يهادنون العلمانية ، وذلك عن طريق النفي أو السجن أو القتل .
…9- إنكار فريضة الجهاد في سبيل الله ، ومهاجمتها واعتبارها نوعًا من أنواع الهمجية وقطع الطريق .(12/92)
…وذلك أن الجهاد في سبيل الله معناه القتال لتكون كلمة الله هي العليا ، وحتى لا يكون في الأرض سلطان له القوة والغلبة والحكم إلا سلطان الإسلام ، والقوم - أي العلمانيين - قد عزلوا الدين عن التدخل في شؤون الدنيا ، وجعلوا الدين - في أحسن أقوالهم - علاقة خاصة بين الإنسان وما يعبد ، بحيث لا يكون لهذه العبادة تأثير في أقواله وأفعاله وسلوكه خارج مكان العبادة .
…فكيف يكون عندهم إذن جهاد في سبيل إعلاء كلمة الدين ؟!!
…والقتال المشروع عند العلمانيين وأذنابهم إنما هو القتال للدفاع عن المال أو الأرض ، أما الدفاع عن الدين والعمل على نشره والقتال في سبيله ، فهذا عندهم عمل من أعمال العدوان والهمجية التي تأباها الإنسانية المتمدنة !!
…10- الدعوة إلى القومية أو الوطنية ، وهي دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس أو اللغة أو المكان أو المصالح ، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل التجميع ، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعد عاملاً من أكبر عوامل التفرق والشقاق ، حتى قال قائل منهم : ( والتجربة الإنسانية عبر القرون الدامية ، دلَّت على أن الدين - وهو سبيل الناس لتأمين ما بعد الحياة - ذهب بأمن الحياة ذاتها ) .
…هذه هي بعض الثمار الخبيثة التي أنتجتها العلمانية في بلاد المسلمين ، وإلا فثمارها الخبيثة أكثر من ذلك بكثير .
…والمسلم يستطيع أن يلمس أو يدرك كل هذه الثمار أو جُلها في غالب بلاد المسلمين ، وهو في الوقت ذاته يستطيع أن يُدرك إلى أي مدى تغلغلت العلمانية في بلدٍ ما اعتمادًا على ما يجده من هذه الثمار الخبيثة فيها .
…والمسلم أينما تلفت يمينًا أو يسارًا في أي بلد من بلاد المسلمين يستطيع أن يدرك بسهولة ويسر ثمرة أو عدة ثمار من هذه الثمار الخبيثة ، بينما لا يستطيع أن يجد بالسهولة نفسها بلدًا خاليًا من جميع هذه الثمار الخبيثة .
وسائل العلمانية في تحريف الدين في نفوس المسلمين وتزييفه
…للعلمانية وسائل متعددة في تحريف الدين في نفوس المسلمين منها :
…1- إغراء بعض ذوي النفوس الضعيفة والإيمان المزعزع بمغريات الدنيا من المال والمناصب ، أو النساء لكي يرددوا دعاوى العلمانية على مسامع الناس ، لكنه قبل ذلك يُقام لهؤلاء الأشخاص دعاية مكثفة في وسائل الإعلام التي يسيطر عليها العلمانيون لكي يظهروهم في ثوب العلماء والمفكرين وأصحاب الخبرات الواسعة ، حتى يكون كلامهم مقبولاً لدى قطاع كبير من الناس ، وبذلك يتمكنون من التلبيس على كثير من الناس .
…2- القيام بتربية بعض الناس في محاضن العلمانية في البلاد الغربية ، وإعطائهم ألقابًا علمية مثل درجة ( الدكتوراه ) أو درجة ( الأستاذية ) ، ثم رجوعهم بعد ذلك ليكونوا أساتذة في الجامعات ، ليمارسوا تحريف الدين وتزييفه في نفوس الطبقة المثقفة على أوسع نطاق ، وإذا علمنا أن الطبقة المثقفة من خريجي الجامعات والمعاهد العلمية ، هم في الغالبية الذين بيدهم أزِمَّة الأمور في بلادهم ، علمنا مدى الفساد الذي يحدث من جراء وجود هؤلاء العلمانيين في المعاهد العلمية والجامعات .
…3- تجزئ الدين والإكثار من الكلام والحديث والكتابة عن بعض القضايا الفرعية ، وإشغال الناس بذلك ، والدخول في معارك وهمية حول هذه القضايا مع العلماء وطلاب العلم والدعاة لإشغالهم وصرفهم عن القيام بدورهم في التوجيه ، والتصدي لما هو أهم وأخطر من ذلك بكثير .
…4- تصوير العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله - في كثير من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية - على أنهم طبقة منحرفة خلقيًا ، وأنهم طلاب دنيا من مال ومناصب ونساء حتى لا يستمع الناس إليهم ، ولا يثقوا في كلامهم ، وبذلك تخلو الساحة للعلمانيين في بث دعواهم .
…5- الحديث بكثرة عن المسائل الخلافية ، واختلاف العلماء وتضخيم ذلك الأمر ، حتى يخيل للناس أن الدين كله اختلافات وأنه لا اتفاق على شيء حتى بين العلماء بالدين ، مما يوقع في النفس أن الدين لا شيء فيه يقيني مجزوم به ، وإلا لما وقع هذا الخلاف ، والعلمانيون كثيرًا ما يركزون على هذا الجانب ، ويضخمونه لإحداث ذلك الأثر في نفوس المسلمين ، مما يعني انصراف الناس عن الدين .
…6- إنشاء المدارس والجامعات والمراكز الثقافية الأجنبية ، والتي تكون خاضعة - في حقيقة الأمر - لإشراف الدول العلمانية التي أنشأت هذه المؤسسات في ديار المسلمين ، حيث تعمل جاهدة على توهين صلة المسلم بدينه إلى أقصى حدٍّ ممكن ، في نفس الوقت الذي تقوم فيه بنشر الفكر العلماني على أوسع نطاق ، وخاصة في الدراسات الاجتماعية ، والفلسفية ، والنفسية .
…7- الاتكاء على بعض القواعد الشرعية والمنضبطة بقواعد وضوابط الشريعة ، الاتكاء عليها بقوة في غير محلها وبغير مراعاة هذه الضوابط ، ومن خلال هذا الاتكاء الضال والمنحرف يحاولون تروج كل قضايا الفكر العلماني أو جُلها .(12/93)
…فمن ذلك مثلاً قاعدة ( المصالح المرسلة ) يفهمونها على غير حقيقتها ويطبقونها في غير موضعها ، ويجعلونها حجة في رفض كل ما لا يحبون من شرائع الإسلام ، وإثبات كل ما يرغبون من الأمور التي تقوي العلمانية وترسخ دعائمها في بلاد المسلمين .
…وكذلك قاعدة ( ارتكاب أخف الضررين واحتمال أدنى المفسدتين ) وقاعدة ( الضرورات تبيح المحظورات ) ، ( ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) ، ( وصلاحية الإسلام لكل زمان ) ، ( واختلاف الفتوى باختلاف الأحوال ) ، يتخذون من هذه القواعد وأشباهها تُكأة في تذويب الإسلام في النحل والملل الأخرى ، وتمييعه في نفوس المسلمين .
…كما يتخذون هذه القواعد أيضًا منطلقًا لنقل كل النظم الاقتصادية ، والسياسية السائدة في عالم الكفار إلى بلاد المسلمين ، من غير أن يتفطن أكثر الناس إلى حقيقة هذه الأمور .
…وفي تصوري أن هذا المسلك من أخطر المسالك وأشدها ضررًا لما فيه من شبهة وتلبيس على الناس أن هذه الأمور إنما هي مرتكزة على قواعد شرعية معترف بها ، وكشف هذا المسلك على وجه التفصيل ومناقشة كثير من هذه الأمور على وجه البسط والتوضيح في حاجة إلى كتابة مستقلة لكشف كل هذه الأمور وتوضيحها وإزالة ما فيها من لبس أو غموض .
…ونحن نحب أن نؤكد هنا أن اعتمادهم على هذه القواعد أو غيرها ليس لإيمانهم بها ، وليس لإيمانهم بعموم وشمول وكمال الدين الذي انبثقت منه هذه القواعد ، وإنما هي عندهم أداة يتوصلون بها إلى تحقيق غاياتهم الضالة المنحرفة .
واجب المسلمين
…في ظل هذه الأوضاع بالغة السوء التي يعيشها المسلمون ، فإن على المسلمين واجبًا كبيرًا وعظيمًا ألا وهو العمل على تغيير هذا الواقع الأليم الذي يكاد يُحرِّف الأمة كلها بعيدًا عن الإسلام .
…والمسلمون جميعهم اليوم مطالبون ببذل كل الجهد : من الوقت والمال والنفس والولد لتحقيق ذلك ، وإن كان العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله وأصحاب القوة والشوكة عليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم ، لأنهم في الحقيقة هم القادة وغيرهم من الناس تبع لهم .
…ولا خروج للمسلمين من هذا الواقع الأليم إلا بالعلم والعمل ، فالعلم الذي لا يتبعه عمل لا يغير من الواقع شيئًا ، والعمل على غير علم وبصيرة يُفسد أكثر مما يُصلح .
…ولا أقصد بالعلم العلم ببعض القضايا الفقهية الفرعية ولا ببعض الآداب ومحاسن العادات ، كما يحرص كثير من الناس على مثل هذه الأمور ، ويضعونها في مرتبة أكبر من مرتبتها في ميزان الإسلام ، ولكني أقصد بالعلم ، العلم الذي يورث إيمانًا صحيحًا صادقًا في القلب ، مؤثرًا حب الله ورسوله ودينه على كل ما سوى ذلك ، وباعثًا على العمل لدين الله والتمكين له في الأرض وإن كلفه ذلك ما كلفه من بذل النفس والنفيس ، ولن يتأتى ذلك إلا بالعلم الصحيح بحقيقة دين الإسلام ، واليقين الكامل التام الشامل بحقيقة التوحيد أساس البنيان في دين الإسلام ، ثم لابد مع ذلك من العلم بالمخاطر التي تتهدد الأمة الإسلامية ، والأعداء الذين يتربصون بها والدعوات الباطلة والهدامة التي يُروَّج لها ، وما يتبع ذلك من تحقيق البراءة من أعداء الدين ، وتحقيق الولاية للمؤمنين الصادقين .
…وإذا كان من الواجب على المسلمين طلب العلم والدأب في تحصيله وسؤال أهل الذكر ، ليكون المرء على بصيرة كاملة ووعي صحيح ، فإن من الواجب على أصحاب القلم - من الكُتَّاب والناشرين - العمل على الإكثار من نشر الكتاب الإسلامي الذي يربط المسلمين بالإسلام كله ، والذي يُعطي كل شرعة من شرائع الإسلام وكل حكم من أحكامه قدره ومنزلته في ميزان الإسلام ، بحيث لا يزيد به عن قدره ولا ينزل به عن مرتبته ، ولا يضخم جانبًا على حساب جوانب أخرى متعددة ، وفي هذا الصدد فإن الكُتَّاب والناشرين مدعُوُّون بقوة إلى الالتزام بذلك ، وخاصة في تلك الظروف العصيبة الحرجة التي تمر بها الأمة الإسلامية ، فلا يليق بهم ولا ينبغي لهم أن يُجَاروا رغبات العوام وغيرهم في الإكثار والتركيز على جانب معين من جوانب الدين مع إهمال جوانب أخرى هي في ميزان الإسلام أجلّ قدرًا وأخطر شأنًا .
…ونحن في هذا الصدد لا نريد أن نقع فيما وقع فيه غيرنا فندعو إلى إهمال الجانب الأقل في ميزان الإسلام لحساب الجانب الأكبر ، ولكنا ندعو إلى التوازن بحيث تكون الكتابات في الجوانب المختلفة متوازنة مع مرتبتها وثقلها في ميزان الإسلام ، فلا يُقبل أن تكون المكتبة الإسلامية مملوءة بالكتابات المختلفة المتنوعة عن الجن ، والسحر ، والشعوذة ، والورع ، والزهد ، والأذكار ، وفضائل الأعمال ، وفروع الفروع الفقهية ، وأشباه ذلك (1) ، بينما نجد المكتبة تكاد تكون خاوية من الكتاب الميسر الصالح للتناول لتناول العام في مجالات بالغة الأهمية .
…مثل : أحكام الفقه السياسي في الإسلام : أو بالتعبير القديم ( الأحكام السلطانية ) .
…ومثل : مناقشة النحل الكثيرة التي بدأت تنتشر في عالم المسلمين ( كالعلمانية ، والديمقراطية ، والقومية ، والاشتراكية ، والأحزاب ذات العقائد الكفرية كحزب البعث ، والأحزاب القومية ، وغير ذلك ) .(12/94)
…ومثل : الكتابات التي تتحدث عن الجهاد ، لا أقصد الجهاد بمعنى فرضيته ودوامه إلى قيام الساعة ، ولكن أقصد إلى جانب ذلك الكلام عن جهاد المرتدين اليوم في عالم الحكام ، وأصحاب السلطان الذين تبنوا المذاهب الاشتراكية ، والعلمانية ، والقومية ، والديمقراطية ، وغير ذلك ودعوا إليها وألزموا الناس بها .
…ومثل : الحديث عن كيفية العمل لإعادة الخلافة الضائعة ، إلى غير ذلك من المواضيع ذات الأهمية البالغة في حياة المسلمين ، وإذا نظر الإنسان إلى ما كُتب في هذه المواضيع ، وما كُتب في المواضيع الأخرى لهاله التباين الشديد في هذا الأمر ، وإذا نظر أيضًا إلى كمية المباع من ذاك ومن هذا لهاله الأمر أكثر وأكثر .
…قد يقول الكتاب والناشرون : إن الناس لديهم عزوف عن قراءة هذه المواضيع ، لكن منذ متى كان لصاحب الرسالة التي يريد لها الذيوع والانتشار أن يطاوع الأهواء والرغبات ، وإذا كان حقًّا ما يُقال عن هذا العزوف ، فأنتم مشتركون بنصيب وافر في ذلك ؛ لأنكم طاوعتموهم على ذلك ، ولم تبصروهم بأهمية التوازن وعدم تضخيم جانب وإهمال جوانب أخرى ؛ لأن هذا الأمر سيؤدي بالناس في النهاية إلى حصر الإسلام وتضييق نطاقه في إطار عبادة من العبادات أو أدب من الآداب أو عادة من العادات ، بل قد انحصر الإسلام فعلاً عند كثير من الناس في أداء الصلاة ، وصيام رمضان ، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في مجموعة من الأذكار ، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في حسن الخلق ، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في هيئة أو زي أو لباس ، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في العلم ببعض فروع الفقه ، أو العلم ببعض قضايا مصطلح الحديث ، وهكذا .
__________
(1) ونحن أكدنا وما زلنا نؤكد أنه لا يحق لأحد أن يظن مجرد الظن أننا نقلل من أي شيء - وإن كان صغيرًا - تناوله حكم الإسلام ، حتى ولو كان ما يتعلق بأدب قضاء الحاجة ، وما ندعو إليه فقط هو إعطاء كل جانب ما يستحقه في ميزان الإسلام ، وهذا الذي أكدناه وذكرناه إنما هو طريقة العلماء المنبثقة عن الفهم الصحيح للنصوص الشرعية .
…فإذا خاطبت الكثير منهم عن عموم الإسلام وشموله وحدثتهم عن بعض القضايا الهامة والملحة والمنبثقة من توحيد الله والإيمان باليوم الآخر مثل الحديث عن الحكم بما أنزل الله ، والالتزام بشرعه ووجوب السعي لإقامة دولة الإسلام وإعادة الخلافة ، وبيان بطلان المذاهب الكفرية كالعلمانية ، والديمقراطية ، وغير ذلك ، ظنوك تتحدث عن دين غير دين الإسلام ، وقالوا : هذا اشتغال بالسياسة ، ولا يجوز إدخال الدين في السياسة .
…ومثل هؤلاء لو تأكد عليهم الكلام في مثل هذه القضايا في خطب الجمعة ، وفي دروس وحلقات العلم في المساجد ، وفي الكتابات الميسرة التي يمكنهم قراءتها وفهمها بيسر ، لم يصدر عنهم مثل هذا الكلام الضال المنحرف .
…ونحن يجب علينا كتابًا وناشرين ألا نشارك في تزييف الدين وتجزئته عن طريق عرضه عرضًا ناقصًا مقصورًا على جانب من جوانبه استجابة لرغبة القراء ، ولحركة البيع والشراء ، فنكون بذلك محققين لهدف كبير من أهداف العلمانية في تضييق نطاق الدين وعزله عن الحياة .
…وقد يقول الكتاب والناشرون : نحن لا نكتب في هذه الأمور لأنها مسائل كبيرة والخطأ فيها ليس بالهين ، وهي تحتاج إلى علم كثير هو ليس في وسعنا ، وأنا معهم في هذا القول في أن كثيرين ممن يكتب هذه الأيام لا يصلح للكتابة في هذه الأمور .. إما لعدم فقههم لهذه الأمور ، وإما لأن فقههم لها قاصر ومبتور ، وإذا كان ذلك صحيحًا - وهو صحيح - في حق كثيرين ، فأين العلماء الكبار ، وأين الشيوخ الأجلاء ، وإذا لم يكن هذا هو دورهم ومهمتهم ، فما هو دورهم إذن في العمل على تغيير هذا الواقع الأليم ؟!
…وفي إطار الحديث عن العلم ونشره فإن فئة المعلمين من المدرسين والأساتذة من أدنى مراحل التعليم إلى أعلاها عليهم واجب من أهم الواجبات العامة في حقهم وآكدها وهذا الواجب يتمثل في :
…1- العمل على أسلمة المناهج بحيث تصب كل المناهج العلمية في إطار خدمة الإسلام ، وبحيث لا يكون الهدف العلمي البحت ، هو الهدف الوحيد من تدريس هذا العلم ، ونظرًا لأن ديننا من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن المكتشفات العلمية هي من خلق الله فلا تعارض إذن ولا تناقض بين العلم والدين ، وبالتالي فإن كثيرًا من الحقائق العلمية يمكن استخدامها كأدلة في مجال الإيمان ، وكثير من القوانين العلمية يمكن استخدامها كردود أو إبطال لنظريات إلحادية من وجهة نظر العلم التجريبي الذي يؤمن به الملحدون ولا يعولون على غيره ، وعلى ذلك فإن المناهج العلمية الموضوعة للتلاميذ والطلاب لابد أن يراعى فيها ذلك ، ولابد من توضيح ذلك الأمر بأوضح بيان ، ولا يكفي فيه الإشارة والتلميح ، وهذا الأمر واجب أكيد في حق أولئك الذين يضعون هذه المناهج ويقررون تدريسها .(12/95)
…2- تنقية المواد العلمية من الكفريات والضلالات المدسوسة بها ، فقد يحدث أن يضع هذه المواد ومناهجها أناس غرباء على الدين ، فالواجب على المدرس المسلم ألا يقوم بتدريس المادة العلمية كما هي ، بل لا يحق له ذلك ، وينبغي عليه كشف هذه الضلالات للطلاب وتحذيرهم منها ، وبيان الصواب فيها ، فلا يكتفي المعلم بدوره كمعلم للمادة فقط ، بل يربط هذه العلوم بالإسلام وينقيها مما فيها من الشوائب ويكون في الوقت نفسه داعية وواعظًا ومرشدًا إلى جانب كونه معلمًا ومثقفًا .
…3- أن ينتهز المعلم الفرصة كلما سنحت له لتوضيح مفهوم من مفاهيم الإسلام ، أو لتثبيت عقيدة من العقائد أو لبيان قضية من قضايا المسلمين أو لتعليم أدب من آداب الإسلام ، وهكذا .
…وكل هذه الأمور يستتبع بالضرورة تحقيقها أن يرتفع المعلمون بمستواهم العلمي والشرعي في كثير من الأمور حتى يكونوا أكفاء لهذه المهمة النبيلة التي شرفهم الله بحملها .
الخاتمة
…وفي ختام هذا البحث نأتي إلى العمل بعد العلم ، ولست أقصد بالعمل ذلك العمل الذي يعود نفعه وخيره على شخص العامل وحده ، فهذا مطلوب ، ولكن أين العمل الذي يعود نفعه وخيره على الأمة الإسلامية بالإضافة إلى شخص العامل ؟
…إنه مما يجب علينا أن نعتقد الحق ونعمل به في خاصة أنفسنا ، ومن نعول ، ثم لا نكتفي بذلك حتى ندعو الناس غيرنا ونبصرهم بحقيقة هذا الدين ، وبتكالب الأعداء علينا من داخلنا وخارجنا ، وبحجم المأساة التي تعيشها الأمة الإسلامية ، ولا يصدنا عن القيام بهذا الدور ما نلقى من عنت ومشقة ومن صدود من جانب الناس ، ومن تضييق وحرب من جانب الحكام أذناب العلمانية وعملائها .
…لابد إذن من العمل بهذا الدين ولهذا الدين ، ولابد من جمع الناس على ما يحبه الله ورسوله من الاعتقادات ، والأقوال ، والأفعال ، ولابد من تحمل التبعات في سبيل ذلك ، ولابد أيضًا من الجهاد في سبيل الله ، وإعلان الحرب على كل محارب لله ورسوله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
…ولا أحسب أني بذلك قد تحدثت عن واجب المسلمين كما ينبغي ، ولكن يكفي أن تكون تذكرة لنا جميعًا ، لعل الله ينفعنا بها .. اللهم آمين .
تم الفراغ منه في 3 من ربيع الآخر لعام 1411هـ
الأحد ليلاً
والحمد لله في الأولى والآخرة
============= =(12/96)
(12/97)
نقد التأسيس الأصولي للعلمانية (1-3)
أ. بلال التليدي
لم يعد مقبولاً في حقل الثقافة والتاريخ أن تستقدم مفهوماً معيناً دون أن يكون له إلى التراث الإسلامي انتساب، أو على الأقل أن تجد له نوعا من السند والمشروعية من داخل إسهامات العقل العربي الإسلامي، وهذا لا يجد تفسيراً له في محدودية الإمكان المعرفي داخل الثقافة الإسلامية كما يذهب بعض المفكرين، وإنما يجد تفسيره فيما أتصور في جدل الأنساق الثقافية، فالعلمانية كمفهوم باختلاف الدلالات المعرفية التي أعطيت له، وبالبحث في تاريخيته لم يكن بدعا من ذلك، فبانتماء هذا المفهوم إلى نسق ثقافي مغاير، وبتطوره داخل تجربة تاريخية محكومة بشروطها وملابساتها التاريخية والحضارية، صار من العسير أن يكون له وجود داخل النسق الثقافي الإسلامي إلا بتأسيس يعتمد حقل التاريخ وحقل الأصول وحقل المعرفة.
فالتاريخ باعتبار ثراء معطياته واختلاف التفسيرات التي تعطى لأحداثه يبقى هو الحقل الخصب لسحب هذا المفهوم على الثقافة الإسلامية، ولعل الدارس المتفحص يدرك لماذا يحظى حدث الفتنة بكتابات كثيرة يغلب على جلها التأكيد على العمق الدنيوي في السياسة كخطوة أولى في اتجاه نفي التدين عن حقل السياسة، بل ويدرك أيضا لماذا التركيز على بحث علاقة الفرق الكلامية بمسألة السلطة. ولا يغيب عن الناقد البصير الخلفية التي تؤطر مثل هذه الكتابات، فالتأسيس لمفهوم العلمانية داخل التجربة التاريخية الإسلامية بنفس خلفيات ودلالات التجربة الغربية ومقاييسها أمر لا يخلو من تعسف خصوصاً إذا تأملنا المنهج الدارس الذي في كثير من الأحيان ما يكون قائما على الانتقاء والتطويع والتأويل فضلا عن ضعف التوثيق وعدم الانضباط إلى منهجية البحث العلمي في التعامل مع المصادر التاريخية.
والواقع، إن تتبع التأسيس لمفهوم العلمانية من داخل حقل التاريخ قد حظي بنوع من الاهتمام لسهولة كشف تناقضاته، غير أن الأمر الذي لا نجد له كثير تتبع وتعقب هو التأسيس للعلمانية من داخل حقل الأصول أو حقل المعرفة عموماً، ولعل ذلك يرجع بالأساس إلى:
قلة مشاريع التأسيس للعلمانية من داخل الحقل الأصولي والمعرفي.
دقة المفاهيم الأصولية وعدم تيسر تحصيلها لكل دارس.
ضرورة خضوع التأسيس لنوع من النسقية كي يتجنب التناقض أو على الأقل الإيرادات التي تفقده تماسك المفهوم والمشروع.
لماذا التأسيس من داخل الحقل الأصولي المعرفي؟
لم يكن هناك مسوغ يدعو العلمانيين إلى بحث ونخل التراث الإسلامي للبحث عن تأسيس أصولي معرفي لمسألة العلمانية. فعالمية المفهوم وكونيته وجاذبيته كافية في نظر العلمانيين لجعل المفهوم مقبولا داخل البيئة الإسلامية. غير أن المفهوم في معركة الصراع الثقافي لا يكفي فيه العالمية والكونية، فهو يستلزم أن يصير عنصرا طبيعيا داخل الثقافة الإسلامية، وهذا لا ينال طبعا بالاستنبات القهري، وإنما ينال بالتجذير، وتجذير المفهوم معناه البحث عنه وعن أصوله، والتأسيس له من داخل الحقل الأصولي المعرفي.
ولهذا فالدارس لتطور مفهوم العلمانية في الوطن الإسلامي لا يستغرب كثيراً في الاضطرابات التي رافقت المقاربات الفكرية لمسألة العلمانية بحيث إنها وصلت إلى حد التناقض. فمن راديكالية المفهوم والهجوم على التراث باعتباره مادة التخلف والانحطاط، إلى محاولة تمثل هذا التراث والتأسيس من داخله لفكرة العلمانية. وهذا لا يجد تفسيره في فهم فكرة العلمانية ودلالتها، وإنما في تكييف المفهوم ومرونة تنزيله في الواقع. فالأمر بكلمة، ليس مراجعة معرفية لمفهوم العلمانية، ولكنه التكيف مع معطيات الواقع وموازين القوى الثقافية السائدة فيه أو بمعنى آخر: إنه العلمانية حين تأخذ معاني مختلفة وأشكالاً متنوعة بحسب اعتبارات الموقع والتكتيك السياسي.
والحاصل، إن تجذير فكرة العلمانية لم يكن ليتم في غياب استيعاب للتراث الإسلامي بمجمل إسهاماته، والبحث عن تأسيس معرفي لهذه الفكرة.
فالقصد من التعامل مع التراث الإسلامي لم يكن معرفيا، وإنما كان إيديولوجيا وسياسيا، ولهذا لا تخلو الكتابات العلمانية الدارسة لتراثنا الإسلامي من انتقاء مخل، أو تطويع متعسف، أو تأويل متكلف. وقلما تجد هذه الكتابات تهتم ببحث المنهجية المعرفية التي أنتجت هذا التراث. فالباحث الذي يتأثر بالثورة الكنطية، ويرى ضرورتها لتطوير التجربة الإسلامية، ولا يكون همه بحث جوانب المنهجية الإسلامية والإفادة منها، وإنما الذي يشغله بشكل أكبر هو البحث عن جوانب قصور العقل العربي الإسلامي عن تمثل التجربة الحضارية الغربية حتى تراه كثيراً ما يجنح إلى فترات من السياق الحضاري الإسلامي ليتخذ منها نموذجاً للحكم، وبهذا الخصوص يمكن أن نسجل بعض الملاحظات بخصوص بعض المقاربات العلمانية:
ولوع التفكير العلماني بالنماذج.
التركيز على مراحل معينة من تاريخ الإسلام.
التأكيد على تاريخية المفهوم، وعلاقته بساحة الصراع السياسي.(12/98)
فإذا اتضح كما رأينا المقصد العام الذي دفع العلمانيين للتأسيس لفكرة العلمانية من داخل الحقل الأصولي المعرفي زال الغموض عن الدوافع التي تجعلهم ملتزمين بما ذكرنا من ملاحظات.
فالولوع بالنماذج أمر يعطي للتأسيس مشروعية ويعطيه أيضاً مصداقية القانون العام، فالنموذج المدروس ببعض تفاصيله وحيثياته تعمم النتائج التي توصل الباحث إليها بخصوصه على كل الظواهر. ولهذا لا نستغرب كثيراً عندما ننتقل إلى الحقل الأصولي فنجد التركيز الكبير على نموذج " نجم الدين الطوفي" وجعله الأكثر عقلانية داخل التراث المعرفي الأصولي الإسلامي، أما إذا ما جئنا إلى حقل المناظرات العقدية والكلامية فكثيراً ما نجد نموذج " القرامطة" يتناول بكثير من البحث عند فئات من الباحثين العلمانيين، كما نجد نموذج " المعتزلة" عند طائفة أخرى من الباحثين، بينما لا تحظى نماذج أخرى بأدنى دراسة علمية كاشفة عن المنهجية المعرفية التي كانت تنتظم إسهاماتها. فإذا انتقلنا إلى الحقل العرفاني السلوكي نجد الوله بنموذج "ابن عربي" أو الولوع بتفصيل مذهب التصوف الغنوصي كما لو أن تراثنا الإسلامي يخلو من كل لون من ألوان التصوف السلوكي السني!!
هذه بعض الأمثلة التي تؤكد هذه الملاحظة، وكثيراً ما تقترن هذه الملاحظة بانتقاء فاضح يفقد النموذج جوهره، فنموذج "ابن خلدون " غالبا ما ينظر إليه كرائد للعقلانية الإسلامية وصاحب الرؤية التاريخية، وبالماركسي الذي سبق ماركس وبنعوت يطول ذكرها. فهذا النموذج مثلا يتعامل معه بانتقاء، فتتحول عباراته المبثوثة في مقدمته إلى عبارات فاقدة لمضمونها الحقيقي، وتنتزع الأفكار من سياقاتها الحقيقية، حتى إن الدارس حين يطلع على إسهامات ابن خلدون وحين ينظر إلى ما كتب حوله من طرف هؤلاء يتصور أنهما شخصيتين في تاريخ الإسلام، فالانتقاء والاجتزاء لازمان من لوازم المنهج العلماني في التعاطي مع تراثنا المعرفي. وهكذا فالاهتمام بالنموذج إلغاء للنماذج الأخرى، واختزال بعض المفاهيم واجتزاء بعض العبارات وإفراغها من مضمونها الحقيقي إلغاء للمنهجية التي أطرت تفكير هذا النموذج المتخذ موضوعا للدراسة ومعيارا للحكم على باقي الظواهر.
وإذا انتقلنا إلى الملاحظة الثانية، نجد العلمانيين لا يهتمون بالتاريخ الإسلامي في تطوره بجميع حيثياته وتفاصيله وسياقاته، فتراهم يشغبون أنفسهم بالبحث في مرحلة معينة من مراحله، وخصوصاً الإسهامات الأصولية والمعرفية التي كانت سائدة فيها، وهذا يجعلهم أكثر قدرة على تجذير مفهوم العلمانية انطلاقا من خلق التماثل بين السياق العربي والإسلامي أقصد مرحلة من مراحله والسياق الغربي، فإذا نجح العلماني في خلق هذا التماثل في وعي القارئ هان عليه بعد ذلك تجذير المفهوم بالإحالة على التجربة الحضارية الغربية الحالية وعوامل قيامها. والدارس اللبيب لا يعدم وجود مفارقات عميقة بين السياقين لا تكاد تخفيها الدراسات العلمانية المولعة بشحذ كل آليات المنهجية المعرفية لخلق عنصر التماثل بين التجربتين.
أما الملاحظة الثالثة فمأخذها عميق، فالتأكيد على تاريخية المفهوم وعلاقته بساحة الصراع السياسي أمر بقدر ما يحتاج إلى تدقيق فهو يحتاج أيضا إلى إعمال النظر في الخلفية العامة التي تؤطر هذا المنهج. فتاريخية المفهوم لا تعني سوى الظروف والحيثيات التي أنتجته، وعلاقته بساحة الصراع السياسي لا تعني سوى استخدام السلطة المصلحي لكل مفهوم، أو قل للدقة: الضرورة التي تدعو السلطة إلى إنتاج المفاهيم العامة لتأكيد سيطرتها. وهذا ما يمكن أن نصطلح عليه: " زمنية المفهوم" وفيه قدر كبير من الخطورة، ذلك أن كثيرا من المفاهيم نشأت بحكم قداسة النص ابتداء، أو من دقة الاجتهاد وانضباطه لأصول النظر المعتبر، فإذا أخذنا هذا المعطى بعين الاعتبار فإننا ندرك الخلفية الجاثمة وراء هذه المقاربة العلمانية، فالقصد هو نفي القداسة عن كل المفاهيم، وربطها بعنصر الزمن، وهذا ما يجعل القارئ المتشبع بهذه الكتابات يتجرأ على بعض المفاهيم العقدية القطعية باعتبارها مفاهيم زمنية منتجة داخل سياق حضاري مشروط بظرفيته الزمنية، وتكفي دعوى تطور الحيثيات والمعطيات التاريخية لإعمال هذه الجرأة وتعميمها على جميع إسهامات العقل المسلم..
هذه عموماً بعض الملاحظات عل كتابات العلمانيين، وهي مفيدة تجعل القارئ على بصيرة بالمنهجية التي يلتزمها العلماني في الكتابة، وعلى وعي بالخلفية العامة التي تؤطر تفكيره. وحتى لا نبقى في مجال التعميم، نحاور نموذجا نعتقد أنه أخصب نموذج وأكثر استيعابا وأقدر على شحذ المفاهيم وتحليل بنيات التفكير، والتأسيس الذكي لمفهوم العلمانية، وسنختار نموذج محمد عابد الجابري من خلال ما يلي:
مفهوم العقل.
وجهة نظر حول المعيارية.
نقد مقولة: الأعرابي صانع الحضارة العربية
النظم المعرفية والحظوظ الإيديولوجية: التهميش والإقصاء.
وهذه الأفكار سوف نناقشها في الحلقة القادمة بإذن الله من هذا المقال التحليلي.
13/1/1427
http://www.almoslim.net المصدر:
===========(12/99)
(12/100)
نقد التأسيس الأصولي للعلمانية (2-3)
مناقشة نموذج محمد عابد الجابري
أ. بلال التليدي
حاولنا في الحلقة الأولى من هذا البحث التحليلي، معرفة أهمية أن ينطلق التأسيس للعلمانية من داخل الحقل الأصولي والمعرفي، ونذكر هنا مثالاً عن محمد عابد الجابري، لنستعرض مجموعة من الأفكار حوله، منها:
حول مفهوم العقل:
يرى الجابري أن النهضة لا يمكن أن تتصور من دون نقد للعقل، النقد الذي يعني مراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته، وقبل أن نمضي في مقاربة مفهوم العقل، يجدر بنا أن نشير إلى ملاحظة نراها جد ضرورية. إن ربط مشروع النهضة بالعقل ونقد آليات اشتغاله ومفاهيمه وتصوراته يحيلنا على التجربة الغربية وتاريخ الثورات النقدية، ولعل الثورة (الكنطية) التي أشرنا إليها من قبل تأتي في هذا السياق. فالبحث عن عنصر التماثل بين السياقين الحضاريين الإسلامي والغربي حاضر بكل قوة في هذه المقدمة التي صدر بها الجابري مشروعه النقدي، ولعلنا نراها بوضوح أكبر في تفصيلنا لمفهوم العقل.
يستعين الجابري، بل ينطلق من التمييز المشهور الذي أقامه (لالاند) في معجمه الفلسفي بين العقل المكون بكسر الواو والعقل المكون بفتحها، أي بين العقل الفاعل والعقل السائد. والعقل العربي الذي يقصده الجابري هو العقل المكون أي جملة من القواعد والمبادئ التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، أو التي تعرضها عليهم كنظام معرفي.
ويستعين مرة أخرى بمنهجية المقاربة بين مفهوم العقل في الثقافة اليونانية والأوربية وبين مفهومه في الثقافة العربية ليخلص في نهاية العرض والتحليل إلى ثابتين يحددان بنية العقل الإغريقي والأوربي:
- اعتبار العلاقة بين العقل والطبيعة علاقة مباشرة.
- الإيمان بقدرة العقل على تفسيرها والكشف عليها.
فالثابت الأول يؤسس وجهة نظر في الوجود، والثابت الثاني يؤسس وجهة نظر في المعرفة.
أما مفهوم العقل العربي في الثقافة العربية فهو يرتبط أساسا بالسلوك والأخلاق، فهو بهذا الاعتبار تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء، وهي لا تعني سوى ذلك الاتجاه الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم التي يتخذها التفكير مرجعا له ومرتكزا.
والناظر إلى هذه الخلاصة يظهر له الميزة الموضوعية للعقل الإغريقي والأوربي الذي يبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية، ويحاول الكشف عما هو جوهري فيها، في حين تظهر الميزة الاختزالية المعيارية التي تختصر الشيء في قيمته. فالعقل الإغريقي والأوربي عقل موضوعي تحليلي تركيبي في حين إن العقل العربي عقل معياري أخلاقي قيمي اختزالي. والجابري حينما يقرر مثل هذه الخلاصة لا يعوزه أن يستأنس ببعض معاجم اللغة وببعض تحديدات العلماء القدامى، فقد التمس نصا للجاحظ وآخر للشهرستاني، وقد اعتذر عن إيراد نصوص أخرى حتى لا يسقط في تجميع وثائق عديدة فيسقط نفسه في النزعة المعيارية.
غير أن ما ذهب إليه الجابري لا يسلم من جهات متعددة نحب أن نفصلها في المآخذ التالية:
المأخذ الأول: يبدو أن هناك تسرعا يجانب إلى حد كبير قواعد المنهج العلمي خصوصا في إطلاق مثل هذه الأحكام التي تحتاج إلى دراسة علمية مدققة. ذلك أنه من التعسف أن نتحدث عن مفهوم العقل من داخل الثقافة الإسلامية دون أن نرصد دلالات هذا المفهوم من مصدر هذه الثقافة. فقواعد المنهج العلمي تلزم باستقراء مصطلح عقل بجميع مشتقاته وتصريفاته من داخل الثقافة العربية الإسلامية، تلك في ما أتصور أول خطوة ومنطلق للعلم والبحث المنهجي. ثم إننا لو سلكنا نفس المنهج الذي التزم به الجابري لما عدمنا وجود نصوص إغريقية أو أوربية عبر التاريخ الطويل يستعمل فيها العقل للدلالة على الجانب الأخلاقي القيمي، وذلك لا يكون بحال مسوغا للحكم عليه بالنزعة المعيارية.
المأخذ الثاني: إن الحديث عن الميزة الموضوعية للعقل الإغريقي والأوربي يستبطن منطلقا واختيارا حضاريا يفرض علينا نوعا من التمايز والاختلاف. فكون العلم في التصور الغربي لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع، يجعلنا في وضع يسمح لنا بالقول: إن الجابري يكاد يربط بشكل كبير بين الموضوعية التي تعني النزوع نحو التحليل والتركيب، وبين العقل كأداة وحيدة لفهم الواقع وتحليله. ومعلوم أن التصور الإسلامي يجعل الوحي والكون الذي يعني الواقع الموضوعي كعنصرين متلازمين مشكلين للمعرفة. وإذا كان القصد من نقد العقل العربي هو تخليصه من نزعته المعيارية وذلك بتمحور العلاقات على محور واحد قطباه: العقل والطبيعة، فإن هذا الطرح يستبطن اتهاما للوحي باعتباره مساهما ومحددا لمعيارية العقل العربي. وهذا طبعا غير ظاهر في كتابات الجابري، إلا أن المتفحص لهذه الكتابات يجد مثل هذه الإشارات الدقيقة والخطيرة والتي تحتاج إلى تعقب وتوقف.(12/101)
المأخذ الثالث: ونقصد به ما أكدناه في حلقة سابقة من مركزية التجربة الغربية ونموذجيتها. ولعل المقارنة التي استعان بها الجابري كانت قاصدة، وإن ألغت السياق التاريخي، فالمشروع نقدي، والعقل بآلياته وتصوراته يحتاج إلى مراجعة شاملة. فالميزة التحليلية والتركيبية للعقل لا تعني سوى تمثل نفس السياق الغربي وإعلان الثورة الكنطية من داخل الثقافة العربية الإسلامية بما يعني إقصاء كل من يساهم في إضفاء الطابع المعياري على العقل، ولا يتحقق ذلك سوى بإبعاد الوحي من ساحة تشكيل العقل وبناء قواعده ووسائل اشتغاله. من هنا تظهر خطورة التأسيس المعرفي للعلمانية الذي يسعى الجابري عبر الإيبستمولوجيا إلى إثباته.
المأخذ الرابع: إن مقاربة العقل العربي لا يمكن أن تتم بذكر النصوص الشارحة لمادة (ع. ق. ل). أتصور أن هناك منهجان لتحديد مفهوم العقل:
الأول: استقراء دلالات العقل من داخل مصادر المعرفة العربية الإسلامية ابتداء من القرآن والسنة...
الثاني: اشتغالية العقل العربي نفسه، ذلك أن مفهوم العقل العربي لا يمكن معرفته من خلال التحديدات المعجمية، وبعض السياقات الكلامية، وإنما من خلال صور اشتغال العقل وتجليات النشاط الذهني.
وبهذين المنهجين يمكن أن نخلص إلى ما يمكن من خلال رصده وتحليله إطلاق الأحكام عليه.
وجهة نظر حول المعيارية:
يبدو أن مسألة المعيارية تحتاج إلى نوع من التحديد، فكثيرا ما يكون الاختلاف في الدلالات باعثا على الاختلاف في الأحكام. فالجابري يرى أن النظرة المعيارية نظرة اختزالية تختصر الشيء في قيمته، وهي عنده ذلك الاتجاه في التفكير الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعا في منظومة القيم الذي يتخذها ذلك التفكير مرجعا له ومرتكزا. وإذا شئنا أن نعلق تعليقا بسيطا على هذا التحديد، لا ينبغي أن نلغي التحديد الآخر للنزعة الموضوعية التي وسم بها الجابري العقل اليوناني والعقل الأوربي. فقد استعان بهذا التقابل أو التضاد والتمايز كأداة منهجية لبيان مفارقات العقلين. وإذا كانت النزعة الموضوعية هي التي تبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية، وتحاول الكشف عما هو جوهري فيها، فالنزعة المعيارية لا تهتم بهذا الموضوع، بل كبير همها هو البحث في قيمة الشيء. وقبل أن نسجل بعض المآخذ على هذا المنهج وهذه الأحكام نضع أمام القارئ مقدمتين نستعين بهما:
المقدمة الأولى: قد يبدو للقارئ من خلال التدقيق في المقابلة الواردة في تحديد الجابري أنه لا تعالق ولا ارتباط البتة بين البحث في قيمة الشيء وبين البحث في مكوناته الذاتية للكشف عما هو جوهري فيه، كما أنه لا توافق البتة بين النزعة الموضوعية والنزعة المعيارية.
المقدمة الثانية: الفكر العربي في نظر الجابري ينطلق من الأخلاق إلى المعرفة، بينما العقل الإغريقي والأوربي ينطلق من المعرفة إلى الأخلاق. ففي حالة الفكر العربي لا ينصب التفكير حول اكتشاف العلاقات التي تربط بين ظواهر الطبيعة بعضها ببعض، وبالتالي اكتشاف نفسه من خلالها، وإنما مهمة التفكير ووظيفته وعلامة وجوده هي حمل صاحبه على السلوك الحسن ومنعه من إتيان القبيح.
والظاهر أن المسألة لا بد فيها من توضيح لطبيعة التصور الإسلامي. فخلق الإنسان ومعرفة الغاية من وجوده أمران محددان لطبيعة التفكير داخل التصور الإسلامي. فمن خلال العلاقة بين أصل الوجود وغاية الوجود تبرز صفة التسخير وقضية الاستخلاف. فالكون كله مسخر للإنسان، ولا استخلاف ولا عمارة دون معرفة هذا الكون بظواهره، ومعرفة العلاقات التي تحكمها ومحاولة تفسيرها لاستثمارها في اتجاه الغاية الاستخلافية، وبناء على هذا التصور، فالمعيارية لا تعني سوى غائية محفزة للتفكير في اتجاه عمارة الأرض والاستخلاف فيها، فهناك تعالق وارتباط كبير بين الوجود والمعرفة والقيم. فتفسير أصل الوجود وغايته يبعث على المعرفة، والقيم محفزة للتفكير ومحددة لأخلاقه وضوابطه.(12/102)
إن السياق الحضاري الغربي وخلفية الصراع التاريخي الذي تحكمت في تطور العقل الأوربي جعلت من مسألة الطبيعة منطلقا لاكتساب كل المعارف بما فيهل الأخلاق نفسها، والقيم لا يمكن تلمسها من بحث قوانين الطبيعة، ذلك أن الطعن في مصداقية الدين المسيحي لم يكن له من معنى سوى إعادة النظر في جميع مفاهيمه وتصوراته التي تشكل العقل الغربي وفقاً لها وعلى قاعدتها، وحيث إن أصل الوجود وغايته ومسألة القيم والأخلاق قضايا لا يمكن الاستغناء عن إعطاء أجوبة بصددها، فلم يعد هناك من مصدر لتلمسها في التجربة الغربية سوى الطبيعة نفسها ما دام الدين قد خرج من ساحة الصراع السياسي منهزما أمام المد التحرري اللائكي. أما في التصور الإسلامي، فالتفسير الذي يعتمده القرآن لمسألة أصل الوجود وغايته يبعث الإنسان على التأمل والتفكير في المسخرات لامتلاك معرفة بالكون تسمح بحسن الاستثمار والعمارة لأداء وظيفة الاستخلاف الرباني. والقيم الأخلاقية هي ذلك الباعث على التفكير أولا، المحدد لأدائه، الضابط لمساره واتجاهه. أما منهج التفكير فشيء ملتمس من المسخرات. أما النصوص فلا تقدم سوى المقدمات والمبادئ والتوجهات العامة المفروض الانضباط لها.
ولعل استقراء آيات القرآن ونصوص الحديث، ورصد صور اشتغال العقل العربي يؤكد هذا المعنى. ولهذا فالحكم الذي قرره الجابري، والمقابلة التي أجراها تعتبر غير ذات معنى في غياب التأكيد على سياق التطور التاريخي للعقل الغربي، وخلفية الصراع قبل عصر النهضة.
نعم هناك مجال واسع يشتغل فيه العقل العربي الإسلامي، ويكون فيه التفكير منصبا على حمل الإنسان على السلوك الحسن ومنعه من السلوك القبيح، وهذا المجال له موقعه داخل حقل التفكير الإسلامي، وداخل الرؤية الإسلامية وداخل التصور الإسلامي. فمهمة الاستخلاف بقدر ما تحتاج إلى إعمال العقل لاكتشاف الكون وظواهره ومعرفة العلاقات التي تربط بينها وتفسيرها بقدر ما تحتاج أيضا إلى تزكية الإنسان وحمله على الالتزام بقيم الدين. فنظام الحياة لا يستقيم فقط بالمعرفة، ولكنه أيضاً يتقوم بالأخلاق والقيم. والتصور الإسلامي لا ينفي وجود منهج أصيل ومؤصل يستعين بالكون لمعرفة أصل الوجود ولمعرفة القيم أيضا. غير أن هذا المنهج هو منهج واحد إلى جانب مناهج كثيرة ينبغي أن تكون كلها متضافرة تسهم كلها في بناء المعرفة. وهذه هي طريقة القرآن عند التأمل والنظر، إذ لا يقصر المعرفة على طريق واحد مادامت المسالك صحيحة، والبراهين داعمة.
والخلاصة التي انتهينا إليها بعد هذه المآخذ أنه لا يمكن بحال تحديد العقل العربي في غياب تحديد منطلقات التصور الإسلامي والرؤية العامة التي يشتغل داخل سقفها العقل العربي الإسلامي.
والجابري محكوم كما سبق الإشارة بمركزية التجربة الغربية، ونموذجية الاختيار الحضاري الغربي، ولهذا فقد غيب الإطار العام الذي يشتغل فيه العقل العربي الإسلامي، وهذا التغييب هو الذي دفعه إلى إلغاء مجال كبير لاشتغال العقل العربي الإسلامي: مجال النظر في الكون والكشف عن ظواهره والعلاقات التي تحكمها وتفسيرها، وأيضا مجال النظر في التجربة الإنسانية عبر التاريخ والنظر في النفس البشرية لاكتشاف قوانين التاريخ والاجتماع والنفس. أعتقد هذا مجال واسع، بل مجالات تم تغييبها، وهي عند النظر والتأمل والدراسة تكشف عن الطابع الموضوعي التركيبي للعقل العربي الإسلامي.
نتابع في الحلقة القادمة بإذن الله، الحديث عن مقولة "الأعرابي صانع الحضارة"، لنتناولها بشيء من النقد والتحليل، ونذكر ملاحظاتنا على التأسيس الأصولي للعلمانية.
21/1/1427
http://www.almoslim.net المصدر:
============
العلمانية وخطرها
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
الحمد لله القائل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرا ً [الفرقان: 31] وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك}.
وصلى الله وسلم وبارك على آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين...وبعد:(12/103)
فلا شك -أيها الإخوة- في الله أن العلمانية بتلك المنزلة من الخطورة، وأنكم جميعاً -والحمد لله- على علم بها، فالعلمانية هي أكثر المذاهب الفكرية وضوحاً وجلاءًَ في الواقع المشاهد المحسوس، وإن كانت ربما تبدو غامضة في الذهن، فهي منهج واقعي ضخم، تعيش الأرض جميعاً -إلا ما رحم ربك- هذا المبدأ، وهذا المنهج القائم على الشرك بالله - سبحانه وتعالى - وهو أعظم وأكبر ذنب عصي الله - عز وجل - به، القائم على أن الدين الذي أنزله الله- تبارك وتعالى -والكتاب والحق الذي شرعه لا شأن له في حياة الناس، بل ذلك الشأن للأرباب والمتفرقين والمتألهين من العباد والأنظمة والمناهج، وليس لله - عز وجل -في نظر أولئك المجرمين- من نصيب، إلا ما يُؤدَّى من شعائر تعبدية، أو ما يسمى بالصلة الروحية به - سبحانه وتعالى -، هذه قضية معروفة عن هذا المنهج في كل مكان وجد فيه؛ ولا سيما حيث نبتت بذوره الخبيثة في أوروبا المجرمة الشاردة عن دين الله - سبحانه وتعالى - شرقها وغربها، الشيوعي منها والرأسمالي.
ولا يهمنا الآن أن نتحدث عن العلمانية، بقدر ما يهمنا الحديث عن الطور الجديد الذي تعيشه، فإن الأفكار تنمو كما تنمو الأمم، وتتطور كما يتطور الأفراد أو الكائنات الحية، وإنه لا يليق بالأمة الإسلامية أن تقف عند تصور محدد لمجابهة فكرة خطيرة، بينما تلك الفكرة قد انتقلت إلى مرحلة أعلى من المجابهة، وإلى درجة أكثر من التنظير، فيجب علينا أن نعيش كل مرحلة وأن نجتهد في مواجهة كل مستوى من مستويات الانحراف، بحسب مقتضى الأحوال.
http://www.alhawali.com المصدر:
===========(12/104)
(12/105)
العلمانيون قنطرة الغرب إلى بلادنا
د. عبد الخبير عطا
حاورته/ د. ليلى بيومي
مفكرة الإسلام: الدكتور عبد الخبير عطا، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الإسلامية بماليزيا، أحد الباحثين الإسلاميين في مجال العلوم السياسية، يتبنى قضية هامة وهي محاولة إخراج المناهج السياسية من ظلمات الكهنوت الكنسي والمناهج الغربية لإعادة بنائها على أساس إسلامي خالص، وللوصول إلى هذه الغاية يتبنى د. عبد الخبير عطا مجموعة من المناهج يحاول تأصيلها في أبحاثه ودراساته، ويركز على فقه الواقع وفقه السنن وفقه التاريخ وفقه المستقبل..في إطار مؤسس على فقه شرعي يعصم هذه المناهج من النظريات السياسية الغربية المؤسسة على الرؤية الكنسية ثم الرؤية العلمانية.وهو يرى أن مجال العلوم السياسية قد غاب عنه المسلمون، وغابت عنه الصحوة الإسلامية، وينادى بأن يخترق الشباب المسلم هذا المجال ليغسل ما فيه من فساد ويهضمه، ثم يتخطاه برؤية إسلامية ليكون لدينا في النهاية أصول واضحة لعلم سياسة إسلامي. وعن هذه القضايا وغيرها كانت لنا معه هذه الوقفات وهذا الحوار أثناء زيارته للقاهرة.
** هناك انتقادات توجه للنظام السياسي في الإسلام من قبل خصومه من العلمانيين تقول: إنه لا يوجد في الإسلام تصور واضح عن ذلك، ولم يلتزم الحكام عبر التاريخ الإسلامي بنظم سياسية قاطعة.. كيف تردون على هذه الاتهامات؟
* الله - سبحانه وتعالى - بعد أن خلق الإنسان رزقه منهجاً ربانياً، وأمره أن يتبعه لكي يحيا حياة طيبة في الدنيا والآخرة، ومن يلتزم بهذا المنهج فهو من الفائزين، ومن لم يلتزم به فهو من الخاسرين. وإقامة الدولة الإسلامية فرض على المسلمين لأن لها وظائف يجب أن تقوم بها.. أهمها وظيفة تبليغ الدعوة للناس فيصبح لدينا ثلاث كلمات هي [دعوة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر جهاد] وهذه الأركان الثلاثة تعتبر فروضاً على الدولة الإسلامية.
والآمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني إقامة نظام أو منهج حياة تطبق فيه الأوامر الإلهية، ومن هذه الأوامر ما يتصف بالثبات كالقيم والمبادئ مثل مبدأ الشورى، ومبدأ السيادة للشرع، ومبدأ السلطان للأمة، ومنها ما يتصف بالتغير، وهى الوسائل التي تتبع لتطبيق المنهج كي يناسب الزمان والمكان، وهكذا فنحن وصلنا إلى النقطة الرئيسة في السؤال ويكون النقاش حول الوسائل والأساليب التي تتبع لتحقيق هذه المبادئ والقيم.
والإسلام أرسى المبادئ العامة التي لو اتبعها المسلمون وحافظوا عليها لحققوا العدل فيما بينهم وذلك باتباع مبدأ الشورى، ثم مبدأ السيادة للشرع، ثم مبدأ السلطان للأمة.
ووسائل تقويم السلطان موجودة، ثم إن الإسلام فرض على الأمة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي لو تم تنفيذها لنجت الأمة من الانحلال والانحطاط. أما فريضتا الدعوة والجهاد فهما لنصرة الإسلام ونشره خارج الحدود.
وكون المبادئ الإسلامية السياسية لم تناقش التفاصيل فهذا من أسباب قوتها وليس من أسباب ضعفها فهي قد تركت لكل عصر ترتيب أموره بما لا يتناقض مع أصول الشريعة.
** الحركة الإسلامية الآن، في محاولة منها لتحسين صورتها أمام الغرب في الخارج وأمام الحكومات في الداخل تقترب من المفهوم الغربي للديمقراطية.. هل ترى أنها على حق في ذلك؟
* الكلام يتصل بمحاولة البعض مخاطبة الغرب من خلال المفاهيم التي يدركونها خصوصاً مفهوم الديمقراطية التي تعني في جوهرها حق الأمة في اختيار من يحكمها وتعني أيضا أن الشعب هو مصدر التشريع.
فهناك جانب مشترك بين الشورى كمنهج إسلامي، والديمقراطية كمنهج غربي، ولكن الاختلاف هو أن المسلمين رزقوا بمنهج وهم مأمورون بتطبيقه وليس لهم أي عذر في عدم تطبيقه.. بينما في المجتمعات الغربية فإنهم يسعون إلى صياغة منهج من عقولهم.
وبعض رموز الحركات الإسلامية حاول أن يتفاهم مع الغرب ويوضح أن الحركات الإسلامية أفضل من كثير من التيارات والاتجاهات الأخرى إذا وصلت الحكم بالنسبة لعلاقاتها مع الغرب؛ لأن الأساس في تعايش المسلمين مع غيرهم هو السلم وليس الصراع والحرب.
ونعود للقضية مرة أخرى ونقول: إن هناك جانباً مشتركاً بين الشورى والديمقراطية.. ولكن هناك خلافاً جوهرياً في مرجعية كل منهما، والعبرة عندنا في الأهداف والمعاني وليست في الألفاظ والمباني، والأمر الأهم من ذلك هو ثقة المسلمين في دينهم وفي أنفسهم حينما يخاطبون الغرب وفي عدم هزيمتهم أمامه روحياً ونفسياً وحضارياً.
** الحركة الإسلامية في مجال طرح الأفكار وسحب البساط من تحت أقدام العلمانيين والشيوعيين تقدم تنازلات، مثل الاعتراف بالعلمانية كتيار، رغم أن هذا التيار لا يعترف بالحركة الإسلامية ومرجعيتها. هل يمكن أن يؤدي هذا المنهج إلى خسارة التيار الإسلامي؟(12/106)
* نفضل أن نميز بين فئتين من العلمانيين: فئة جاهلة بالحق فعلينا أن نحاورها كي تفهم الحق وتلتزم به، وفئة أخرى تعرف الحق ولكنها تعاند، وبعضهم رضي أن يكون طابوراً خامساً يوظف لخدمة أعداء الأمة، وأن يكونوا قنطرة لتمرير أفكار الغرب، والتشويش على المسلمين، وإثارة الشبهات حول المنهج الإسلامي من حيث إمكانية تطبيقه.
إلا إن المنهج الإسلامي ينبغي أن يكون من القوة والشمول بحيث يمكنه أن يستوعب مثل هؤلاء المرضى حتى وإن كانوا من الرافضين له. وأنا أؤيد الحوار معهم لكشفهم ولتوضيح زيف دعواهم وليس للتعاون معهم. فهم من ناحية غير مخلصين وكارهون للإسلام، ومن ناحية أخرى هم قلة منبوذة عن روح وضمير الشعب المسلم في كل مكان.
** أعداء الحركة الإسلامية في الداخل ومعهم أسيادهم في الغرب ينتقدون الإسلاميين لدخولهم حلبة العمل السياسي، في حين نراهم يسكتون عن تنامي تيار الأصولية المسيحية في الغرب.. كيف تفسرون ذلك؟
* الإجابة تكون في حقائق: الحقيقة الأولى هي أنهم أخذوا فكرة 'لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة' من الغرب، والغرب معذور في هذه الدعوى لما لاقاه على يد الكنيسة.. ولكن التغافل عن أننا مسلمون لدينا منهج أمرنا بإتباعه أمر غير مقبول.
فالإسلام دين ودولة لأنه لا يطبق هذا المنهج إلا دولة.
وبعد فترة طويلة من انحطاط المسلمين ظهرت الصحوة الإسلامية التي تسعى لإقامة الدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية. ولذلك فإن مختلف فصائل الحركة الإسلامية تتفق في الأهداف والغايات ولكنها تختلف في الوسائل.
والحقيقة الثانية هي أن العلمانيين ينكرون حقيقة تنامي الحركات الدينية في الغرب ويجعلون عنصر الدين في التحليل السياسي من العناصر الهامشية؛ وذلك لأنهم لا يريدون أن يكون لفصائل التيار الإسلامي مكانة بارزة على المسرح السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية، وهم يريدون الحفاظ على مكانتهم القيادية حتى لا يكونوا أتباعا، والعلمانيون لا يسلمون أن للمعركة بعداً دينياً حتى لا يسلموا للإسلاميين بقيادتها.
** ما هي أبرز انتقاداتك للحركة الإسلامية؟
* هناك عيوب عامة في بعض الحركات الإسلامية تتمثل في أن الأسلوب العملي في إطارها لا يلتزم بالقيم والمبادئ الإسلامية التي تتنادى بها، أي أننا أمام انفصال بين الأفكار التي تنادي بها والواقع الذي تعيشه وتمارسه.
الحركة الإسلامية تعاني أيضاً من مشاكل في تطبيق مبدأ الشورى واختيار القيادة وعلاقة القمة بالقاعدة.
فما تعيبه الحركات على النظم تنفذه هي داخلها.. وبالتالي نصبح أمام سيادة نوع من الديكتاتورية في التنظيم يؤدي إلى تأليه القادة فتقع هذه الحركات في المحظور وتفقد مصداقيتها.
ومن رحمة الله - تعالى -أنه يؤخر النصر حتى يتم استكمال متطلباته لكي لا تتمكن حركة من تقديم نموذج معوق يكون فتنة للناس، كما أن بعض الحركات الإسلامية لم تتقن الأدوار وهو الأمر الذي يقتضي التنسيق بين الحركة الإسلامية، وأن يقوم كل فصيل بدور معين تعرفه كل الفصائل وتقدره.
والملاحظ أيضاً أن فن التعامل مع الآخرين يغيب عن فصائل الحركة الإسلامية، وهذا الفن ينطلق من مبدأ [من لا تسعه العقيدة تسعة السياسة] وهو ما يمكن أن يتيح لهذه الحركات إقامة تحالفات سياسية تضيف إلى رصيدها وتكسب خبرة مضافة.
ونقطة أخرى، وهي ضرورة أن تتعامل الحركة الإسلامية مع القوى السياسية في المجتمع انطلاقا من مبدأ التجسير وليس التكسير في العلاقة، وهو المبدأ الذي ما تزال الحركات الإسلامية لا تتقنه.. ذلك لأن الحركة الإسلامية تحتاج إلى أن تنطلق في حركتها من مبدأ اختراق المجتمع بفئاته المختلفة وليس التقوقع على الذات. ومن عيوب عدد من الحركات الإسلامية التقوقع على الذات والذوبان الكامل في التراث وهذا يؤدي إلى الموت البطيء.
** من خلال خبرتكم الأكاديمية، ما أبرز الاتجاهات الموجودة على الساحة التي تنافس الحركة الإسلامية؟ وهل يمكن التنبؤ بمستقبلها السياسي؟
* هناك تيارات عديدة.. لكن المحك فيها.. هل هي وطنية أم لا؟
فالمعيار هو الوطن ما داموا رافضين للدين.. فإذا كانوا رافضين للدين فيجب ألا يكونوا عملاء ضد الوطن الذي يعيشون فيه. والخبرة والتاريخ والحقيقة تقول: إن الغرب يستخدم هذه التيارات ضد الإسلام، فالتيار القومي مثلا تم تضليله والتغرير به؛ لأن القومية اختراع غربي بديل للإسلام بعد سقوط الخلافة. وتم تخدير العرب به لفترة طويلة وثبت فشله وزيفه بعد احتلال العراق للكويت. وهنا يجب أن نعترف أن كثيراً من التيارات القومية تيارات وطنية، ولكن عيبها أنها قصيرة النظر وقصيرة النفس.
وبالتالي فهناك مساحة مشتركة بين الإسلاميين والقوميين.
أما العلمانيون فمعظمهم عملاء ولكنْ فيهم المضللّون، وهؤلاء أخوة لنا ويجب أن نأخذ بأيديهم.
والتيار اليساري بعد أن فقد البوصلة مع انهيار الشيوعية شعروا بالأزمة وبدءوا يتحولون.. فمنهم من يتحول ناحية الفكر القومي، ومنهم من يتحول ناحية الإسلام، ومعظمهم يتحولون ناحية الحكومات للتمتع بالمنافع والغنائم.(12/107)
** لاحظت أنكم تتحدثون عند تحليلكم للأحداث عن أكثر من منهج مثل فقه السنن وفقه الواقع وفقه التاريخ وفقه المستقبل. هل هذا منهج جديد؟ وما الذي يتيحه لرجل السياسة؟
* كلمة فقه، البعض يتصور أنها صعبة الفهم، ولكنها تعني في أبسط معانيها فهم الشيء المراد في ضوء الشرع. وإذا تحدثنا عن فقه السنن فنحن نتحدث عن كيفية فهم سنن الله في الكون في ضوء ما يسمى 'بالإرادة الكونية' وكذلك 'الإرادة الشرعية'.
ومن هذه السنن الوعد بنصر الله للمؤمنين بشروط، وأيضا الوعد بهزيمة الكافرين والظالمين مهما طال أمد تمكنهم، فتصبح هذه السنن مثل القوانين تسري على الحياة البشرية.
وفي ضوء فقه السنن يمكن فهم ثلاثة أنواع من الفقه، وهي فقه التاريخ، أو فهم التاريخ أو ما يسمى عند البعض 'التفسير الإسلامي للتاريخ' الذي يختلف عن التفسير الرأسمالي والتفسير الاشتراكي، ثم فقه الواقع الذي يعنى فهم الأحداث والوقائع في ضوء الضوابط الشرعية، وهو منهج يميز المسلمين عن غيرهم حيث إنهم مأمورون بالتفكير في مغزى الأحداث وإدراكها من خلال منهج متميز للتفكير يسمى 'التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة'، والذي نسميه ' فقه الوجود '، أي ذلك المنهج الذي يفسر أو يجيب على أربعة أسئلة: من أين وجدنا؟ وإلى أين نسير؟ ولماذا نسير؟ وكيف نسير؟.. هذه الأسئلة الأربعة لا يقدم إجابة صحيحة عنها إلا المفكر المسلم الذي ينطلق من الوحي.
فالعلاقة بين الإنسان وبين الله علاقة عبودية، والعلاقة بين الإنسان والكون علاقة تسخير وتفكير، والعلاقة بين الناس وبعضهم علاقة أخوة.. وفي هذه الأخوة هناك ولاء للمؤمنين وبراء من الكافرين، والعلاقة مع الحياة علاقة ابتلاء وفتنة. والشيوعيون والرأسماليون حاولوا أن يفهموا سبب وجودهم فتاهوا.. ولا يفهم ذلك إلا المسلمون.
ثم هناك فقه المستقبل وهو لا يعني التنبؤ، ولكن يعني فهم المستقبل القريب والبعيد في ضوء السنن وفي ضوء فقه التاريخ وفقه الواقع وفي ضوء فقه الوجود، وهنا يتميز المسلمون عن غيرهم.
http://www.islammemo.cc المصدر:
============(12/108)
(12/109)
العلمانية في العالم العربي
د. محمد يحيى
مع تصاعد وتيرة الهجوم على ما يسمى بالتطرف أو حتى الإرهاب الإسلامي في العالم العربي ـ وهو هجوم يطال الدين الإسلامي وحده ـ بدأت جهات رسمية تروّج من خلال الإعلام والمنابر الفكرية والثقافية لفكرة العلمانية باعتبارها المخرج الأكيد من أزمة التطرف الديني.
وبعد أن كان الحديث عن العلمانية يدور على استحياء داخل دوائر ضيّقة من المثقفين والكُتّاب المرتبطين بالغرب وفي إطار مذاهب فكرية معينة يدعون لها، تحوّل هذا الحديث إلى المجال العام إعلامياً وثقافياً وحتى سياسياً كما أن الفكرة العلمانية طرحت الآن ومن خلال المنابر الرسمية بشكل مجرد من أي التباس مع مذاهب فكرية أو سياسية مثل الشيوعية أو القومية أو الاشتراكية كما كان يحدث حتى الماضي القريب.
ولم يعد الآن لدعوى العلمانية في غطاء سوى حديث مبهم حول الليبرالية والديموقراطية والمواطنة والتحديث مع تعريف كل هذه التوجهات في إطار لا ديني بحت بل وجعلها قرينة للعلمنة. وما يميز الطرح الجديد للعلمانية مع سفور الوجه هذا أنها أصبحت ببساطة تعني الاشتباك مع الإسلام بهدف حصاره ورده عن ساحة العمل العام وليس فقط عن السياسة كما يدعى بعض من يروّجون لها لأنه لا وجود للسياسة فعلاً في العالم العربي باستثناء تجارب فجة توصف بأنها حزبية وهي في الواقع لا تمت للديموقراطية بصلة.
ومع وضع العلمانية موضع الاشتباك المباشر مع الدين تقترن الدعوى بتيار التغريب والتبعية بشكل مباشر من خلال الحديث عن ضرورة اللحاق بالغرب الموصوف تعسفياً بالمتقدم وضرورة التحديث والعصرنة. ويصب هذا المسلك بعامة في إطار المواقف الرسمية للعديد من الحكومات في العالم العربي والتي أصبحت تنتهج سياسة سافرة في التبعية للغرب في شتى المجالات وعلى رأسها المجال السياسي والاقتصادي مما يشير بأن العلمانية في طرحها الجديد ليست بعيدة عن الإيعاز الرسمي الداخلي والتوجه الفكري الخارجي.
ومن هذه الزاوية تفتقر الدعوة العلمانية إلى أبسط ما تنادي هي به في دعايتها من استقلالية الرأي وإعمال الفكر النقدي. لكن هذه القيم موجهة فقط ضد الإسلام أو ما يسمونه بالنصوص المقدسة لكنها لا توجه أبداً ضد شتى الطروحات الغربية التي تكتسب في ظل هذا الطرح العلماني قداسة لا يزعمها لها دعاتها في مصدرها الأصلي في الغرب.
وهذه سمة كبرى أخرى من سمات الطرح العلماني الراهن ألا وهي تبني موقف النسبية المطلقة فيما يتعلق بالإسلام وتراثه وأفكاره وشريعته في وقت يسود فيه التقديس والتوقير وإطلاق الأبدية والعالمية والثبات على مذاهب الغرب المختلفة رغم إدراك الكل أن هذه المذاهب ذات نشأة بشرية وضعية محضة وهي أكثر ما تنطبق عليه النسبية التاريخية والتغير وعدم الشمولية أو العالمية.
والسمة الثالثة للطرح العلماني الراهن في العالم العربي ـ وهي كذلك تحمل طابع التناقض ـ هي اعتناقها الحاد للأحادية والاحتكارية في النظر والتصرف حتى وهي تزعم رفع شعارات يكثر أصحابها من ترديدها في شتى المنابر حتى كادوا يجعلونها من مميزات مذهبهم لوحده دون سائر الأفكار، وأعني بذلك شعارات التعددية والحرية وانفتاح الفكر والقبول بالآخر وما شابه.
فعند المحك تصطبغ الرؤية العلمانية بنزعة تسلطية إقصائية بل واستئصالية شديدة فيما يتصل بالإسلام وسائر جوانبه كالمكون الرئيسي لهوية الأمة العربية. والتعددية والقبول بالآخر عندهم تعني فقط أنه يجب على الإسلام والمسلمين أن يقبلوا بهم ويفسحوا لهم الطريق ويتنازلوا لهم عن الساحة العامة، لكن هذه الشعارات لا تعني في المقابل ولو من قبيل الدعاية والتظاهر أن تقبل العلمانية بوجود الإسلام وتعاليمه وحركاته ومظاهره كما لا تعني مطلقاً أن يسمح للإسلام ولو بوجود ما في المجال العام على قدم المساواة مع غيره من العقائد أو المذاهب.
وكلما تعالت أصوات العلمانيين بالحديث عن التعددية والحرية والقبول بالآخر كلما تصاعد القمع والإقصاء والإبعاد ضد الإسلام ودعاته. وللعلمانيين من منطلق الغطرسة والخداع مقولة لا يملون من تردادها في مثل هذا الصدد وهي أنه لا حرية ولا ديموقراطية لأعداء الحرية والديموقراطية وهم بالطبع الإسلاميون في نظر العلمانية. ومرة أخرى نجد أن هذا الموقف يصب في خانة دور العلمانية في طرحها الحديث كأداة قمع في أيدي جهات رسمية وأجنبية في العالم العربي وليست توجها فكرياً عادياً أو طبيعياً.
ومن سمات الطرح الجاري للعلمانية والتي تلفت النظر لمخالفتها الصارخة لما يتردد في منبرهم من طنطنة كثيرة حول الليبرالية هي أن العلمانيين يلتصقون أكثر ما يلتصقون بالدعوات والتوجهات والأحزاب والجهات شديدة الدكتاتورية والتسلط والتي تمارس شتى أنواع القمع السياسي والاقتصادي والتي لم يعرف عنها إلا النزعات الاحتكارية والاستئثار بكل المقدرات والسلطات والنفوذ والمنابر.(12/110)
ومما يشار إليه في هذا الصدد ما يحدث في مصر مثلاً حيث تلتقي الدعوة العلمانية بشكل واضح مع تيارات القمع السياسي والأمني وتباركها وتوجد لها الأعذار والمبررات بل وتشجعها بكل صلافة وتبجح.
كذلك نجد في مصر أن دعاة العلمانية من خلال شعار الليبرالية لا يجدون أي غرابة أو تناقض في التحالف مع دعاة الفكر الرأسمالي المتوحش والطاغي الذي يبشر باحتكار كبار رجال الأعمال كما يسمون لإمبراطوريات مالية هائلة قليلة العدد ومتحالفة مع أهل السلطة والحكم. يحدث ذلك بينما أهم ما يميز دعوى الليبرالية هي التبشير بفكرة الحرية الاقتصادية والتجارية تحت الشعار التاريخي 'دعه يعمل دعه يمر'. والضحية الرئيسية الوحيدة لهذا المسلك غير الليبرالي من جانب دعاة الليبرالية هو الإسلام وحركاته السياسية ودعاته وتجاربه ولاسيما في المجال الاقتصادي لأن الليبراليين المزعومين لا يسمحون بالليبرالية لأحد إلا لأنفسهم فقط.
إن دعوة العلمانية التي تنطلق الآن من أبواق عديدة وبتحريض وتشجيع رسمي واضح تحتوي على تناقضات جوهرية كانت كفيلة بالقضاء على أي دعوة أخرى لا تتمتع بالتشجيع الرسمي.
ولكن هذه التناقضات تغفر للعلمانية ولا يثيرها أحد في وجهها لأن الجميع يعلمون أن العلمانية في هذا الطرح الجديد تؤدي دور السلاح الموجه ضد الإسلام وليست مطروحة طرحاً عادياً كأي مذهب فكري آخر.
والواقع أن هذا الاستخدام غير الموضوعي للعلمانية يكشف أصحابها على أنهم مجرد أدوات وأبواق وليسوا أصحاب فكرة حقيقية.
ولكونهم أبواق وأدوات فإنهم يحظون بحماية وحصانة ولا يسمح لأحد بمناقشة أفكارهم ويمنحون احتكارات واسعة مقصورة عليهم لكل الإعلام والثقافة والفكر والعمل السياسي.
http://al-shaab.o r g المصدر:
===========(12/111)
(12/112)
العلمانية وثقافة السلام
أحمد إدريس الطعان
ولكن الأمر المستغرب في عصر الغرائب أن الضحية التي تُذبح وتُخنق هي التي توصم بالعنف والإرهاب والعدوان، أما الجاني فهو داعية الحرية والديمقراطية ورافع لواء التحضر، وراعي السلام! أرأيت لو أن شخصاً قام يخنق شخصاً آخر، وبالطبع فإن المخنوق سوف يدافع عن نفسه بأظافره وأسنانه، وربما يتسبب في بعض الخدوش التي تلحق خانقه، أرأيت لو أن الجاني قام بعد أن يفرغ من ضحيته وعقد مؤتمراً رام فيه أن يقنع الناس بأن الضحية كان إرهابياً عنيفاً عدوانياً ، لماذا؟ بسبب هذه الخدوش والجروح التي لحقت به!.
في الوقت الذي كان فيه الإنكليز يحتلون البلاد العربية والإسلامية، ويرتكبون الفظائع من قتل وتدمير وإبادة وتجويع وتجهيل في العراق، والهند، ومصر، كان سلامة موسى يتغزل بالإنجليز فهم "النظاف الأذكياء". وهم "أرقى أمة موجودة في العالم، والخلق الإنجليز يمتاز عن سائر الأخلاق، والإنسان الإنجليزي هو أرقى إنسان من حيث الجسم والعقل والخلق"، ثم دعا إلى التعاون معهم وهم يحتلون البلاد، ويقتلون العباد فقال: "فنحن إذا أخلصنا النية مع الإنجليز فقد نتفق معهم إذا ضمنا لهم مصالحهم، وهم في الوقت نفسه إذا أخلصوا النية لنا، فإننا نقضي على مراكز الرجعية في مصر، وننتهي منها، فلنول وجوهنا شطر أوربا".
هذا هو ثمن السلام بنظر سلامة موسى أن نتعاون مع الإنجليز، ونضمن لهم مصالحَهم، ومصالحُهم أن يظلوا جاثمين على صدر مصر، ينهبون خيراتها ويستذلون أهلها، ويدوسون كرامتها، ولكن هذا لا يشكل خطراً على سلامة موسى لأنه سيظل هو والنخبة الربيبة ينعمون بالرفاهية، ويتمتعون بالخيرات ما دام أسيادهم راضين عنهم، آمنين لجانبهم. والربح الذي يحققه سلامة موسى من التعاون مع الإنجليز هو القضاء على الرجعية، والرجعية المقصودة عنده والتي يحلم بالقضاء عليها هي الأزهر الذي يبث فينا ثقافة القرون المظلمة، وشيوخ الأزهر المأفونين، الذين لا يكفون عن التوضؤ على قوارع الطرق. أليس هذا هو "الفاشيست" الذي يتحدثون عنه؟!.
واليوم يدعونا طارق حجي إلى الإيمان بحتمية الوصول إلى السلام مع إسرائيل، وعلينا أن نكافح لترسيخ ثقافة السلام بدلاً من ثقافة العدوان وأن نسير على خطا السادات لكي تتجنب المنطقة السقوط في العنف والماضوية والتخلف والفقر، وعلينا أن نقبل قيام دولة ديمقراطية لا دينية على كامل تراب فلسطين يتساوى فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون.
ويعني هذا أن يتنازل الفلسطينيون عن مقدساتهم، وعن حق العودة للمشردين من أبنائهم ويرضخوا لما يفرضه منطق القوة الإسرائيلي والأمريكي. إنها دعوة للاستسلام تحت عنوان: "الإيمان بحتمية السلام".
أما مراد وهبة فالعلمانية بنظره هي الحل لمشكلة الشرق الأوسط في فلسطين ذلك أنه يعرف العلمانية بأنها "النظر إلى النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق"، ويعني بذلك سيادة النسبية على كافة المستويات، وإقصاء المطلقات من الوجود، لأنه لا وجود لحقيقة مطلقة، والقول بها مجرد خرافة، وسيادة المطلق يهدد السلام العالمي، لأنها ستدخل في صراع كما هو الحال بين المطلقات الثلاثة الإسلامي اليهودي والمسيحي، وليس من وسيلة لحل هذا الصراع إلا بالقضاء على المطلقات، ويتم ذلك بنفي "الدوجماطيقية"، أي نفي علم العقيدة، لأن مفهوم الحرب كامن في هذا العلم.
لأن هذا العلم قائم على اليقين "واليقين لا يمكن أن يكون إلا مغلقاً، ولهذا فهو يؤول في المنتهى إلى الدوغمائية التي تُترجَم تعصباً وتحزباً وربما عنفاً وإرهاباً"، ومع أن هذا الكلام لا يرضي الناطقين باسم الغائب والمدافعين عن العقائد وحراس النصوص كما يقول الخطاب العلماني، إلا أنه يقرر ذلك ليؤكد على أن الصراع العربي الإسرائيلي في النهاية هو صراع مطلقات، والحل الوحيد في العلمانية لأنها المضاد الحيوي للأصوليات الدينية التي تغذي المطلقات وتتغذى منها، وعلى ذلك بدلاً من شعار "الإسلام هو الحل" تصبح "العلمانية هي الحل".
ولكن تجاهل مراد وهبة هنا أن العلمانية تصالحت مع الصهيونية واليهودية وبررت لهم وجودهم في فلسطين، وشرّعت لاستمرارهم فيها على حساب العرب والمسلمين الذين لم يربحوا شيئاً، ولم يحصلوا على شيء من علمانية مراد وهبة، إلا إذا كان مراد وهبة وأمثاله سيجيبون بأن الربح العربي يتمثل في النجاة من القنابل النووية الإسرائيلية، وهذا ما لا يحسب الأصوليون المسلمون حسابه، لأن الخوف من الموت لا يردعهم عن المطالبة بحقوقهم ولديهم من الآليات والوسائل "الإرهابية" ما يجعل إسرائيل تفقد صوابها.(12/113)
بقي أن نتساءل: ألم تتحول علمانية مراد وهبة إلى مطلق هي أيضاً ينفي المطلقات الأخرى؟ فإذا قرر هو وشيعته أن "العلمانية هي الحل"، وقرر المسلمون بشكل مطلق أن "الإسلام هو الحل"، وقررت إسرائيل أن "التلمود هو الحل"، أفلا تدخل العلمانية هنا طرفاً جديداً فيما يسميه "صراع المطلقات"، وبالتالي فإن أية رؤية تُطرح على أنها الحل هي بنظر أصحابها مطلق على الآخرين أن يرضخوا لها، وهكذا فإنه لا خلاص من المطلق، ولا بد من مطلق واحد تذعن له كل الأطراف المعارضة.
ونتساءل مرة أخرى: هل حربنا مع إسرائيل هي حرب مطلقات؟ في الواقع لا، لأننا نحن لا نحارب إسرائيل لندخلها في مطلقنا الإسلامي، وإسرائيل لا تحاربنا لتدخلنا في مطلقها اليهودي، نحن نريد أن نستعيد أراضينا المغتصبة في إطار وعود ومؤامرات دبرت على مرأى ومسمع من كل العالم، ونريد أن يعود الشعب المشرد الطريد في كل بقاع العالم إلى أرضه ودياره، ويريد الشعب المضطهد المقموع أن يتخلص من الاضطهاد والقمع، ويتمتع بحريته وكرامته واستقلاله، فأين المطلقات في هذا الصراع؟ وإذا كانت حربنا مع إسرائيل حرب مطلقات، فإن هذا يعني أنه لا يوجد خلاف بين شخصين في محكمة إلا ويمكن تسميته أيضاً "صراع مطلقات"، وأن الإنسان الذي يأتي ليغتصب منزل مراد وهبة أو يعتدي على أسرته أو حتى على حياته، على مراد وهبة ألا يدافع عن نفسه -طبقاً لعلمانيته أو لنسبيته- حتى لا يدخل في صراع المطلقات.
ولكن الأمر المستغرب في هذا العصر عصر الغرائب أن الضحية التي تُذبح وتُخنق هي التي توصم بالعنف والإرهاب والعدوان، أما الجاني فهو داعية الحرية والديمقراطية ورافع لواء التحضر، وراعي السلام! أرأيت لو أن شخصاً قام يخنق شخصاً آخر، وبالطبع فإن المخنوق سوف يدافع عن نفسه بأظافره وأسنانه، وربما يتسبب في بعض الخدوش التي تلحق خانقه، أرأيت لو أن الجاني قام بعد أن يفرغ من ضحيته وعقد مؤتمراً رام فيه أن يقنع الناس بأن الضحية كان إرهابياً عنيفاً عدوانياً، لماذا؟ بسبب هذه الخدوش والجروح التي لحقت به!. أليست هذه مهزلة؟
إن هذا ما يحدث اليوم في غابة البشر، ولكن لا عليك فنحن في عصر المهازل!.نحن أمة تُذبح وتُباد وتُخنق وبدلاً من أن يتصايح أبناؤها للجهاد، وينفروا خفافاً وثقالاً بأموالهم وأنفسهم، تجد دور النشر ومؤتمرات الحوار ورهط كبير من الباحثين يدعون إلى اللاعنف، واللاإرهاب، واللاعدوان!!.
http://www.alas صلى الله عليه وسلم ws المصدر:
============(12/114)
(12/115)
العلمانية تصرع الكاثوليكية في أوروبا
28ربيع الثاني 1426هـ الموافق له 5 يونيو 2005م
هل يعيد التاريخ نفسه ولكن في الاتجاه المضاد؟
لعله، فالويلات التي عانتها العلمانية على يد الكنيسة الكاثوليكية في مطلع العصور الوسطى يبدو أنها تجرعها للكنيسة الآن بما في ذلك محاكم التفتيش نفسها، فقد اشتكى الكرسي الرسولي ممثل الكاثوليكية العالمية مما وصفه بـ'العلمانية المتشددة'، والتي قال: إنها صارت تطرد الكنيسة من الحياة العامة في أوروبا، وقد وصل الكرادلة إلى حد الشكوى مما وصفوه بأنه محاكم تفتيش جديدة تشهدها القارة الأوروبية، ولكن ضد الكاثوليكية هذه المرة.
ويشير رجال الدين المسيحيون إلى سياسات من قبيل الحظر الفرنسي على الرموز الدينية البارزة في المدارس، ورفض الاتحاد الأوروبي الإشارة إلى الله في الدستور الأوروبي المقترح، فضلاً عن مقترحات أسبانيا بتشريع الزواج المثلي، ويقول الكاردينال مارتينو الذي يرأس المجلس البابوي للعدل والسلام لبرنامج بهيئة الإذاعة الخارجية للبي بي سي: ' شهدت الكنيسة خلال ألفي عام من تاريخها توجهات من هذا القبيل صعوداً وهبوطاً، والآن صار هناك توجه لإقصاء الكاثوليك الذين يتم الدفع بهم فيما يشبه الجيتو'.
مسألة بوتيليوني:
وفي إنجلترا وويلز أصدرت الكنيسة الكاثوليكية منشوراً قبل الانتخابات الأوروبية قالت فيه: "إنه يجب على الناخبين أن يهتدوا بالتعليم الديني حينما يصوتون"، وقال الكاردينال مارتينو: 'هناك أمور متفق عليها من جانب السياسيين والمؤمنين، ويجب أن يكون للكنيسة صوت'.
وينظر البعض في الفاتيكان إلى حالة روكو بوتيليوني - وهو صديق مقرب للبابا السابق - على أنها من أبرز الحالات على تغلب الفكر العلماني فوق الاعتبارات المسيحية، فقد سمت إيطاليا بوتيليوني ليتولى منصب مفوض الاتحاد الأوروبي للعدل وللشؤون الداخلية، غير أن نواب الاتحاد الأوروبي رفضوا ترشيحه بعد أن وصف الجنسية المثلية بأنها 'خطيئة'، وقال بوتيليوني لبرنامج' أساينمنت بالبي بي سي' إنه شعر أنه تم إقصاؤه 'بسبب معتقداتي الدينية'، وقال: 'في ظل نظام حكم ليبرالي يتم تقييم الخط السياسي والفكر السياسي لمرشح ما، ولكن لا يتم فرض محكمة تفتيش أو شرطة تفرض على المرشح ما يخالف ضميره'، 'هذا هو ما فُعل ضدي في ساحة البرلمان الأوروبي'.
ووصف بوتيليوني موقف نواب البرلمان الأوروبي بأنه 'انتهاك للفصل الليبرالي التقليدي بين العام والخاص'، وليست هذه المرة الأولى التي يعرب فيها الفاتيكان عن قلقه إزاء تأثير العلمانية في أوروبا، ففي عام 1870 وبعد فقدان الدول البابوية صار لدى الفاتيكان - الذي انحسر سياسياً في المدينة الدولة الصغيرة - توجه متشكك إزاء الحكام العلمانيين، وقال البابا بيوس الخامس: إن 'الله ُطرد من الحياة العامة بالفصل بين الكنيسة والدولة'.
ولكن فرانكو بافونشيللو خبير العلوم السياسية بجامعة جون كابوت بروما يبدي اندهاشاً من مخاوف الفاتيكان بأن أوروبا العلمانية والكنيسة الكاثوليكية صارا على نهج تصادمي، إذ يقول: 'إذا كان من قاسم مشترك في أوروبا فهو الدين الواحد، فهذه قارة اصطبغت منذ وقت طويل بمسيحيتها'، غير أن بافونشيللو يعتقد أن بعض الأوروبيين ربما 'عادوا إلى قيم مسيحية أكثر تشدداً' بسبب تأثير الإسلام.
وقد حث البابا الأساقفة الأسبان على الدفاع عن القيم التقليدية، معارضين الإصلاحات التي يسعى الحزب الاشتراكي الحاكم لإدخالها، وهي التي تشمل تشريع الزواج المثلي الذي تشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية الأسبان يؤيدونه، فضلاً عن تدريس فكرة الدين بشكل عام في المدارس دون التركيز على المسيحية وحدها.
'التكيف دون اندثار':
ولكن الفاتيكان يقول: إن هذا البرنامج يهدف إلى 'تعزيز احتقار الدين أو الجهل به'، غير أن وزير العدل الأسباني خوان فرناندو لوبيز أجويلار يصر على 'إننا نقوم بوظيفتنا فحسب، فنحن محاسبون أمام المواطنين، وليس أمام الكنيسة الكاثوليكية'، ويضيف 'هذا مجتمع علماني، نحن مستعدون لاحترام كافة الحريات الدينية في أسبانيا، ولكننا مستعدون أيضاً لتعزيز مبادرتنا التشريعية، والقيام بواجباتنا'، ويقول أجويلار إن الكنيسة الكاثوليكية 'جاهرت وبقوة' بتصريحاتها بأن استخدام الواقي الذكري، وممارسة الجنس قبل الزواج 'خطيئة'، ويضيف 'وبالنظر إلى اعتبارات من هذا القبيل من الصعب جداً إتاحة الفرصة لحل وسط'.
ولكن الآب فيفاس سوتو من مجموعة منتدى الأسرة الأسبانية يقول: إن مقترحات الحكومة 'لا تؤثر في الكنيسة فحسب بل تؤثر في المجتمع بأكمله'، ويضيف 'حينما يتم تناسي كرامة الحياة البشرية، ويتم تشجيع الإجهاض، حينما يتم الحط من قدر الزواج وما يحمله من ثراء؛ فإن مكوناً أساسياً من المجتمع يتم تقويضه'.
وفي وسائل الإعلام الأسبانية جاءت ردود الأفعال على تصريحات الفاتيكان مختلطة، فقد اتهمت صحيفة إلبايس اليومية البابا بإثارة 'توترات سخيفة' غير أن الموندو حثت الجانبين على 'الهدوء'.(12/116)
وتقول الكاتبة كاياتانا ألفوريز ديتوليدو، وهي من الكتاب البارزين بالموندو 'إن فحوى الرسالة [الحكومية] هي أن الكنيسة الكاثوليكية مؤسسة عتيقة، ورجعية تماماً، وترتبط بحقبة فرانكو، وبالحقبة المظلمة لمحاكم التفتيش في تاريخ أسبانيا'، وتضيف 'غير أن هذا بالطبع ليس صحيحاً تماماً، فأمام الفاتيكان معضلة عويصة يتعين حلها وهي: كيفية مواكبة الحداثة، وفي الوقت ذاته عدم فقدان مبدأ أخلاقي أساسي، إذ عليه التكيف دون اندثار'.
انتقدت الكنيسة الكاثوليكية خطط الحكومة الأسبانية للموافقة على زواج المثليين، وقارنت ذلك بإطلاق فيروس في المجتمع، وتقول الحكومة إنها تتوقع أن يكون بوسع المثليين الزواج بشكل رسمي في العام القادم، ويؤكد مشروع القانون التراجع الكبير في نفوذ وسلطة الكنيسة في أوروبا الغربية، والوضع كذلك بالأخص في أسبانيا التي كانت حتى وقت قريب واحدة من أكثر الدول الأوروبية إخلاصاً لمبادئ الكنيسة الكاثوليكية.
'عملة مزيفة':
وأثار مشروع القانون الذي يتيح زواج المثليين المتوقع أن توافق عليه الحكومة الاسبانية هذا الأسبوع ردود فعل حادة من أساقفة الكنيسة الكاثوليكية، ووصف متحدث باسم الكنيسة زواج المثليين بأنه مثل العملة المزيفة.
وقال خوان انطونيو مارتينيز كامينو إن القانون 'سيفرض فيروساً على المجتمع، وشيئاً زائفاً ستكون له عواقب سلبية على الحياة الاجتماعية'، وكان رئيس الوزراء الاشتراكي خوسيه لويس رودريجيز ثاباتيرو قد تولى منصبه في إبريل نيسان الماضي، وعقد العزم على إلغاء ما وصفه بالمميزات التي تحظى بها الكنيسة، وخلق دولة علمانية عن طريق تخفيف القوانين الخاصة بالطلاق والإجهاض، وأثارت هذه التغييرات غضب الكنيسة التي تراجع تأثيرها على الأسبان بدرجة كبيرة منذ وفاة الجنرال الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو عام 1975، وكان نظام فرانكو تربطه علاقات قوية بالكنيسة، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن نحو نصف الأسبان لا يحضرون القداس والصلوات في الكنائس مطلقاً الآن.
والخلاصة أنه يمكن القول أن هذا الذي يحدث للكنيسة الكاثوليكية على يد العلمانية ليفسر إلى حد كبير حالة الترقب والحذر التي يليها الغربيون تجاه الإسلام، حيث يقر منظروهم أنه الدين الوحيد المستعصي على التراجع أمام العلمانية، بل ويتقدم بقوة كل يوم داخل الغرب نفسه برغم كل المؤثرات المضادة.
http://www.islammemo.cc:المصدر
============(12/117)
(12/118)
الأكذوبة العلمانية
د. محمد يحيى
تروّج الدعاية العلمانية لعملية الفصل التام بين الدين والدولة أو الدين والقانون أو الدين والحكم أو الدين والسياسة أو الدين وأي مجال آخر من مجالات المجتمع [العلم، التعليم، الثقافة، الفن، السلوكيات] وكأن هذا الفصل والإقصاء سوف يحل كل المشكلات التي تعاني منها المجتمعات [أياً كانت تلك المشكلات] وسوف يحقق النهضة والتقدم والرخاء. وهذا الشعار العلماني الموجز الذي رفع [العلمانية هي الحل] في مواجهة شعار الإسلام هو الحل يضم بين ثناياه أكاذيب عديدة لا يجرؤ العلمانيون على مناقشتها والسماح بفضحها تماماً كما يتهمون هم شعار الإسلام بالتهافت والغموض وانعدام المعنى. ولا يكاد المحلل يجد نهاية لأوجه التخبط في هذا الطرح العلماني. ولعل أبرزها هو الفصل المدعو إليه بين الدين والدولة. فأصل هذا الشعار في أوروبا، حيث مهد العلمانية، هو الفصل بين الكنيسة والدولة داخل الدولة القومية الأوروبية وهي في ذلك الوقت دولة مسيحية ليس فقط بحكم الأغلبية شبه التامة من السكان ولكن كذلك بحكم إيمان جزء كبير من تلك الغالبية بالعقيدة المسيحية وهو ما أخذ يتآكل إلى درجات بعيدة بعد تمكن العلمانية. ومفهوم الكنيسة كذلك في هذه المقولة العلمانية الأشهر يحتاج إلى توكيد عند مناقشة المقولة. فهي أولاً المؤسسة الدينية المسيحية الحقيقية التي لا يوجد لها نظير في الإسلام أو بالأصح في التاريخ والممارسة الإسلامية. وهي في التاريخ الأوروبي والغربي الحديث مؤسسة تعددت ما بين كاثوليكية بروتستانتية ثم عدة كنائس بروتستانتية ثم وفرة من الكنائس البروتستانتية في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية أو أرثوذكسية ذات عدة تنظيمات في شرق أوروبا.
والكنيسة والكهنوت ذات وضع أصيل في الدين والعقيدة المسيحية على تعدد مذاهبها. فلا غنى للمسيحي عنها إن أراد أن يقيم أركان دينه حتى لو كان من البروتستانت الذين يتعاملون مع الكتاب المقدّس تعاملاً مباشراً بدون وساطة تفسير الكاهن والكنيسة ذلك لأن إقامة الأسرار الدينية من تعميد وزواج واعتراف [وهو غير موجود في العديد من الكنائس البروتستانتية] ودفن تتطلب القس، والأهم من ذلك وبصرف النظر عن الأسرار والطقوس ووساطة الكاهن أو تفسيرات للكتب المقدسة والتعاليم الدينية فإن الكنيسة تعتبر بمثابة التجسيد الحي الذي لا بديل عنه للعقيدة والدين والأمة والمجتمع المسيحي أيا كان مذهبه. وهي التجسيد المادي المؤسس لهذا الواقع مدعومة بقاعدة مادية مؤسسية مجتمعية من الأبنية والهيئات والتنظيم الهرمي للكهنوت. وهذه النقطة الأخيرة من مادية ومؤسسية الوجود الكنسي حاسمة في الموضوع بأسره.(12/119)
فعندما قيل بالفصل بين الكنيسة والدولة كانت هناك ثلاثة عناصر متضمنة في هذه الفكرة. العنصر الأول وهو الأخف كان يعي حقيقة وجود عدة كنائس [كاثوليكية وبروتستانتية] تعمل على الساحة الأوروبية في وقت ظهور الفكرة العلمانية ورأى ضرورة أن لا تتحكم واحدة منها في صياغة القانون والنظم القانونية والتعليمية في داخل الدولة القوية الواحدة لا سيما وأنها كانت مشتبكة في صراعات دموية للحياة أو الموت على كل المستويات. وعند هذا المستوى لم يكن المطلوب هو إبعاد الدين عن الدولة بل إبعاد سيطرة مذهب ديني واحد أو معين على النشاطات الكبرى لتلك الدولة لاسيما في ظل وجود مذاهب مسيحية أخرى. ولم يمنع هذا من وجود الكنيسة مهيمنة على الدولة حيث وجدت وحدة المذهب لاسيما في الدول البروتستانتية [إنجلترا مثلاً أو المملكة المتحدة حيث فرضت وحدة المذهب بالقوة والتطهير الديني وقرار الدولة في ضحى عصر النهضة والحداثة الأوروبية على مدى القرنين السادس عشر والسابع عشر]. والعنصر الثاني، وهو الأشد نسبياً، فلم يكن يعني أيضاً وبالضرورة استبعاد وإقصاء الدين نفسه عن الحياة بل كان يعني فقط قراراً تنظيمياً لصالح مؤسسة الدولة القوية [الملكية أو البرجوازية] في مواجهة مؤسسة مجتمعية قوية أخرى هي الكنيسة [لاسيما الكاثوليكية] الأقوى تنظيماً والأعمق رسوخاً، وفي هذه الحالة كان العداء والدعوة للإقصاء ينطلقان من دافع السلطة القوية أو الدنيوية إلى الانفراد بالحكم بعيداً عن تأثيرات السلطة الكهنوتية الكاثوليكية أكثر من دافع العداء للدين في حد ذاته ومن رؤية تقول بأن التعصب الكنسي وعدم وجود أي شريعة أو قانون ديني مسيحي شامل [برنامج بلغة العصر] يفرض على الكنيسة أن تقبع داخل النطاق الديني الذي حدده الدين نفسه لها ولا تدخل إلى النطاق الزمني أو الدنيوي أو 'العلماني [بمعنى العالم الحالي وليس الأخروي]. ويمكن القول إن هذا العنصر من المقولة العلمانية هو دعوة لتطبيق المسيحية على الحياة وليس إقصاءاً لها لأن المسيحية نفسها تقيم هذا التوزيع للمتخصصات. أما العنصر الثالث لفصل الكنيسة عن الدولة فكان يستهدف بالفعل الدين نفسه ويتحدث عن الكنيسة باعتبارها الممثل الشرعي المعلن والوحيد للدين [المسيحي]، وبالطبع كان هذا التيار متأثراً بتراكم الفكر الناقد والمعادي للمسيحية بعقيدتها وكتابها المقدس وتعاليم كنيستها وممارساتها هي التي احتكرت حتى تمثيل المسيحية والتحدث باسمها كما كان متأثراً بأفكار عصر النهضة وإحياء الفلسفة اليونانية وأفكار عصر التنوير. ومفاهيم الفردية والعقل...الخ البرجوازية الصاعدة.لكن النقطة الحاسمة في هذا الصدد وهي التي تعيدنا إلى تضليل الدعاية العلمانية في العالم العربي هي أن تنحية الدين وإقصاءه عن الدولة أو حتى عن مجالات عديدة في المجتمع لم تؤد بالفعل إلى نهايته وانقراضه وموته وغيابه التام عن الحياة الاجتماعية لأن الكنيسة بحكم وجودها المادي والمؤسسي ظلت هي الكيان المادي الذي يحتويه ويحتضنه ويمهد لعودته عندما تتغير الأمور وتهدأ الموجة العلمانية العالية.
12 المحرم 1427هـ
11 فبراير 2006م
http://www.islammemo.cc المصدر:
=============(12/120)
(12/121)
لماذا نرفض العلمانية ؟
د. محمد محمد بدري
مجلة البيان - (ج 45 / ص 45)
لماذا نرفض العلمانية ؟
محمد محمد بدري
ظهر مصداق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" رواه مسلم ، وأصبح واقع الأمة الإسلامية يقرر أن غربة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسرة ياسر، وبلال وغيرهم، قد عادت للذين يقولون : ربنا الله ، لا قيصر ، والحاكمية لله ، لا للبشر،... وغابت راية الإسلام عن أرض الإسلام وحكمتها نظم علمانية لا دينية، حتى أصبحت الدعوة إلى أن يكون الإسلام بكتابه الكريم ، وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم أساس الحكم ، جريمة في أكثر دول العالم (الإسلامي) تحاكم عليها قوانين تلك البلاد بالإعدام بتهمة تغيير شكل النظام؟!.
ولقد كان مما ساعد على استقرار تلك الأوضاع غياب الكثير من حقائق الإسلام وبديهياته، ومن أظهرها أن وجوب الحكم بما أنزل الله عقيدة لا يكون المسلم مسلماً إذا تخلى عنها، وأن التشريع بغير ما أنزل الله ، والرضى بشرع غير شرع الله هو شرك مخرج من الملة .
ولما كان بيان الحق وإبلاغه للخلق أمانة في عنق كل من علم شيئاً من حقيقة هذا الدين ، فقد كتبت هذه المقالة :
بياناً لحقيقة العلمانية ، بكشف المخبوء من حقيقتها، وتعرية المستتر من أسرارها ، وإضاءة المناطق المعتمة في حركة العلمانيين ودعوة للنجاة في الدنيا والآخرة ، بقبول شرع الله، ونبذ كل شريعة يقوم عليها علمانيون يقفون في طريق الإسلام والتوحيد الخالص ، وكأنهم أرباب زائفون . وليكون ذلك ميلاداً جديداً للفرد المسلم والأمة المسلمة ، الأمة التي تحمل رسالتها إلى كل البشرية بالنجاة من الشرك... تلك الرسالة التي عبر عنها في بساطة ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس ، هذا يسأله ما الذي جاء بكم ؟ فيجيب للتو واللحظة:... الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
أولاً : العلمانية... وحكم الجاهلية :
حاول اعداء الإسلام القضاء على الإسلام عن طريق نشر الإلحاد... وفشلوا..وحاولوا صرف الناس عن الإسلام عن طريق الشيوعية.. وفشلوا .. وأحس الأعداء اليأس من هذا الدين..ولكنهم، بعد التفكر والتدبير، لجأوا إلى طريقة أخبث (لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع تتزيا بزي الإسلام ، وتتمسح في العقيدة ، ولا تنكر الدين جملة ، بل تعلن إيمانها به إيماناً نظرياً واحترامها له كعقيدة في الحنايا ، وشعائر تؤدى في المساجد،..أما ما وراء ذلك من شؤون الحياة فمرده - بزعمهم - إلى إرادة الأمة الحرة الطليقة التي لا تقبل
سلطاناً عليها من أحد!!!
ولما كانت حقيقة العلمانية قد تخفى على كثير من المسلمين ، فإنه من واجبنا أن نفضح هذه العلمانية عبر نظرة نلقيها عليها لنتبين من خلالها ما هي العلمانية ؟ وكيف نشأت ؟ لمن حق التشريع المطلق في نظمها ؟ وما هي الشريعة التي تحمل الأمة على التحاكم إليها ؟
1- العلمانية.. التعريف والنشأة :
لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة secula r ism في الإنجليزية ، أو secula r ite بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ العلم ومشتقاته على الإطلاق... والترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية أو الدنيوية، لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب بل بمعنى أخص هو ما لا صلة له بالدين ، أو ما كانت صلته بالدين علاقة تضاد ..
وفي دائرة المعارف البريطانية مادة secula r ism : هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها(1). ولذلك فإن المدلول الصحيح لكلمة (العلمانية) هو: فصل الدين عن الدولة أو هو: إقامة الحياة على غير الدين ، سواء بالنسبة للأمة أو الفرد ، ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود ، فبعضها تسمح به ،...وتسمى العلمانية المعتدلة، فهي - بزعمهم - لا دينية ولكنها غير معادية للدين ، وذلك في مقابل المجتمعات الأخرى المضادة للدين... وبدهيّ أنه لا فرق في الإسلام بين المسمين ، فكل ما ليس دينياً من المبادئ والتطبيقات فهو في حقيقته مضاد للدين ، فالإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان ولا واسطة بينهما(2). وإذن فالعلمانية دولة لا تقوم على الدين ، بل هي دولة لا دينية ، تعزل الدين عن التأثير في الدنيا ، وتحمل الأمة على قيادتها للدنيا في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها بعيداً عن أوامر الدين ونواهيه .
والعلمانية دولة لا تقبل الدين إلا إذا كان علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه ، بحيث لا يكون لهذه العلاقة أي تأثير في أقواله وأفعاله وشؤون حياته.(12/122)
"ولا شك أن هذا المفهوم الغربي العلماني للدين على أنه علاقة خاصة بين العبد والرب ، محلها القلب ، ولا علاقة لها بواقع الحياة... جاء من مفهوم كنسي محرّف شعاره "أدَّ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" ، من واقع عانته النصرانية خلال قرونها الثلاثة الأولى ، حين كانت مضطهدة مطاردة من قبل الامبراطورية الرومانية الوثنية فلم تتمكن من تطبيق شريعتها ، واكتفت بالعقيدة والشعائر التعبدية اضطراراً واعتبرت ذلك هو الدين ، وإن كانت لم تتجه إلى استكمال الدين حين صار للبابوية سلطان قاهر على الأباطرة والملوك، فظل دينها محرفاً لا يمثل الدين السماوي المنزل ، فلما جاءت العلمانية في العصر الحديث وجدت الطريق ممهداً ، ولم تجد كبير عناء في فصل الدين عن الدولة"(3)، وتثبيت الدين على صورته الهزيلة التي آل إليها في الغرب .
وإذن فالعلمانية : رد فعل خاطئ لدين محرّف وأوضاع خاطئة كذلك ، ونبات خرج من تربة خبيثة ونتاج سيئ لظروف غير طبيعية ، فلا شك أنه لم يكن حتماً على مجتمع ابتلي بدين محرف أن يخرج عنه ليكون مجتمعاً لا دينياً ، بل الافتراض الصحيح هو أن يبحث عن الدين الصحيح.. فإذا وجدنا مجتمعاً آخر يختلف في ظروفه عن المجتمع الذي تحدثنا عنه ، ومع ذلك يصر على أن ينتج اللادينية ويتصور أنها حتم وضرورة فماذا نحكم عليه؟(4) فقط نثبت السؤال ، ونترك - لا نقول لكل مسلم - بل لكل عاقل الإجابة عليه!
أما نحن فنكرر هنا أنه لا يوجد دين جاء من عند الله هو عقيدة فقط ، والدين الذي هو عقيدة فقط "أو عقيدة وشعائر تعبدية، دون شريعة تحكم تصرفات الناس في هذه الأرض ، هو دين جاهلي مزيف لم ينزل من عند الله"(5).
2- العلمانية..وحق التشريع المطلق :
في مسلسل نبذ الشريعة الإسلامية ، وفصل الدين عن الحياة في دار الإسلام ، كانت الحلقة الأخيرة هي النص في دساتير الدول في العالم الإسلامي على تقرير حق التشريع المطلق للأمة من دون ،الله ، ونصت بعض الدساتير على اعتبار رئيس الدولة جزءاً أصيلاً من السلطة التشريعية . واكتفى البعض الآخر بالنص على الحقوق التي يمارسها رئيس الدولة في مجال التشريع وهي حق الاقتراح ، وحق الاعتراض أو التصديق. فالأنظمة العلمانية تقر بالسيادة المطلقة للأمة، وتنص في دساتيرها على أن القانون هو التعبير عن إرادتها المطلقة... فالأمة - بزعمهم - هي التي تقرر الشرائع التي تحكم بها، وحقها في ذلك بلا حدود!!
ولا شك في أن هذا في حقيقته هو الإقرار بحق التشريع المطلق للأمة لا ينازعها فيه منازع ولا يشاركها فيه شريك.. فما تحله هو الحلال وإن اجتمعت على حرمته كافة الشرائع السماوية، وما تحرمه هو الحرام وإن اتفق على حله كل دين جاء من عند الله. ذلك أن الأمة في الأنظمة العلمانية هي مصدر التشريع ، وما يصدر عنها هو القانون. "والقانون ليس بنصيحة ولكنه أمر، وهو ليس أمراً من أي أحد، ولكنه أمر صادر ممن يدان له بالطاعة ، وموجه إلى من تجب عليه تلك الطاعة"(6).
وإذا كان سلطان الأمة يتجسد في السلطة التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية فإنه "لا يوجد قانون بالمعنى الصحيح إلا إذا صدر عن السلطة التشريعية في الحدود التي رسمها له الدستور ، وكلتا السلطتين التشريعية والقضائية بهذا الاعتبار مشتركتان في الخضوع لسيد الكل..ألا وهو الدستور..الذي يجب أن يحني الجميع أمامه رؤوسهم صاغرين.."(7).
وتأمل معنى هذه الكلمات ، وقل معي : رحم الله ابن تيمية... القائل : "إن الإنسان أمام طريقين لا ثالث لهما ، فإما أن يختار العبودية لله.. وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله".(8)
3- العلمانية.. والمصدر الرئيسي للتشريع :
هناك شبهة قد يشوش بها العلمانيون ، وهي أن بعض الدساتير العلمانية تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.. مثل دستور مصر الذي جاء في مادته الثانية: أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع... ونحن نقول في الرد على هذه الشبهة : - إننا لا نحكم إلا بما نعلم ، ولا نجزم إلا بما نرى المحاكم الوضعية تمارسه صباح مساء،.. فهذه المحاكم لا تزال ملزمة قانوناً بتطبيق القوانين الوضعية، ولا يزال القضاة في هذه المحاكم غير قادرين بأي حال من الأحوال على تطبيق الشريعة الإسلامية .
ففي قضية اغتيال السادات أسس الدفاع عمله على الدفع بعدم الدستورية لأن نصوص القوانين مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية التي تعتبر المصدر الرئيسي للتشريع وفقاً لأحكام المادة الثانية من الدستور الصادر عام 1971 ، والمعدلة عام 1980.. فماذا قالت المحاكمة في ردها على ذلك ؟
جاء في رد المحاكمة : ".. رداً على هذا الدفع ، فإن المحكمة تشير بادئ ذي بدء إلى ما هو مستقر من أن قواعد التفسير للنصوص تأبى تأويل النص أو تحميله أكثر مما يحتمل إذا كان واضحاً لغوياً فعبارة (المصدر الرئيسي للتشريع) لا تمنع لغوياً وجود مصادر أخرى للتشريع ، وهو نفس مفاد النص قبل تعديله"(9). أرأيتم..إن المحكمة تؤكد أن العبارة شركية ، وأنها تنص على وجود مصادر أخرى غير الشريعة الإسلامية .(12/123)
ولماذا نذهب بعيداً ؟ لقد حدث بالفعل أن حكم قاضٍ بالجلد في جريمة سكر، متأولاً هذه المادة من الدستور... فماذا كانت النتيجة ؟
لقد أُبِطل حكمه ، وأقصي عن القضاء . وكان مما ذكره رئيس محكمة الاستئناف في أسباب بطلان هذا الحكم ما يلي :
1- إن من قضى بذلك فقد حنث في يمينه القضائي الذي أقسم فيه على الحكم بالعدل واحترام القوانين،... والعدل كما يقول رئيس محكمة الاستئناف : يعني أن يقضي القاضي في الواقع المعروض بالعقوبة الملائمة في حدود القانون المطبق.. ثم يضيف قائلاً : فقضاء المحكمة بقانون آخر غير القوانين المطبقة في ذلك حنث باليمين ، فما بالك بمن طبق أو يخترع قانوناً يعلم أنه غير معمول به!!
2-...وجنائياً لا يجوز ، ولا يقبل من القاضي أن يجرم فعلاً لا ينص القانون على اعتباره جريمة، ولا يجوز له ولا يقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص القانون عليها .
3-إن مصدر هذا القانون لم يعرف شيئاً عن علم العقاب ، فقد (شدد) المشرّع الوضعي في العقوبة وجعلها ستة أشهر حماية للمجتمع، وهذا أحفظ من مجرد الجلد ثمانين جلدة. (10)
أرأيت - أخي المسلم - إن هذه العلمانية ترى أن التشريع الوضعي أحفظ لأمن المجتمع من الشريعة الإسلامية .. وأن القاضي الذي حكم بالجلد لم يعرف شيئاً عن علم العقاب.. وهكذا.. وكأن القوم يقولون إن الله - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً -لا يعرف شيئاً من علم العقاب عندما أكتفى بمجرد الجلد على السكر... سبحانك هذا بهتان عظيم .
ومن الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس ، ويحكم فيهم خيراً مما يشرع لهم ويحكم فيهم ربهم سبحانه؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض ؟.. أيستطيع أن يقول إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن يقول : إنه أرحم بالناس من رب الناس ؟ أيستطيع أن يقول : إنه أعرف بالناس ومصالح الناس من إله الناس ؟... أيستطيع أن يقول : إن الله سبحانه وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير، ويجعل رسوله خاتم النبيين ، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات ويجعل شريعته شريعة الأبد ، كأنه سبحانه يجهل أن أحوالاً ستطرأ، وأن حاجات ستجد وأن ملابسات ستقع، فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه ، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان!!! ما الذي يستطيع أن يقوله... وبخاصة إذا كان يدعي الإسلام؟
إنه مفرق الطريق ، الذي لا معدي عنه من الاختيار..
إما إسلام ، وإما جاهلية... إما حكم الله ، وإما حكم الجاهلية..
وهذه العلمانية التي وصفنا حالها ، ورأينا واقعها ليست يقيناً حكم الله القائم على الكتاب والسنة... فماذا تكون إلا حكم الجاهلية؟ قال تعالى:
((أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ))
فجعل الله الحكم حكمين لا ثالث لهما : حكم الله... وهو الحكم القائم على الكتاب والسنة،.. وحكم الجاهلية.. وهو ما خالف ذلك (11)
إذن فالعلمانية هي...حكم الجاهلية .
* يتبع *
المصادر :
1- وهل الدنيا والآخرة طريقان منفصلان؟ وهل هذه لإله وتلك لإله؟ وهل الإله الذي يحكم الدنيا غير الإله الذي يحاسب الناس يوم القيامة ؟
2- العلمانية - سفر بن عبد الرحمن الحوالي ص 21-24.
3- حول تطبيق الشريعة محمد قطب ص 112
4- العلمانية - سفر بن عبد الرحمن الحوالي ص 648-649
5- حول تطبيق الشريعة محمد قطب ص 107
6/7- راجع كتاب مدخل دستوري للدكتور سيد صبري
8- العبودية - ابن تيمية ص 6
9- صحيفة الأهرام - عدد الخميس 29 جمادي الأول 1402
10- مأخوذ من كتاب - أحكام إسلامية إدانة للقوانين الوضعية - محمود غراب
11- في ظلال القرآن - سيد قطب 2/905
-----------------
لا شك أن العلمانية - كما عرضنا - لا تستدعي في حقيقة الأمر كبير جهد لبيان تناقضها مع دين الله (الإسلام)..
فهي من ذلك النوع من الاتجاهات والأفكار التي قال عنها علماؤنا قديماً: إن تصوره وحده كاف في الرد عليه..[1].
والإسلام والعلمانية طريقان متباينان، ومنهجان متغايران..
طريقان لا يلتقيان ولا تقام بينهم قنطرة اتصال..
واختيار أحدهما هو رفض للآخر..
ومن اختار طريق الإسلام..
فلابد له من رفض العلمانية..
هذه بديهية من البديهيات التي يعد إدراكها - فيما نحسب - نقطة الانطلاق الصحيحة لتغيير واقع الأمة الإسلامية،..
ويعد غيابها السبب الأول لبقاء هذه الأمة ألعوبة في يد العلمانيين يجرُّونها إلى الهلاك بكل مهلكة من القول والعمل، ويزيدونها غياً كلما اتبعتهم في طريق الغيّ..
طريق العلمانية..
ولأن إدراك هذه البديهة على هذا القدر من الأهمية، فل بد من التفصيل فنقول: نحن نرفض العلمانية لأنها:
1 - تحِل ما حرّم الله:
(إذا كانت الشريعة مُلْزِمة من حيث المبدأ، فإن داخلها أحكاماً ثابتة لا تقبل التغيير، وأحكام عامة ثابتة في ذاتها، ولكنها تقبل أن تدخل تحتها متغيرات ومن بين الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا يدخل تحتها متغيرات..
أحكام العبادات كلها، والحدود وعلاقات الجنسين..) [2].(12/124)
فماذا فعلت العلمانية بهذه الثوابت؟ إن الأنظمة العلمانية تبيح الزنا برضا الطرفين، والمتشدد منها يشترط موافقة الزوج أو الزوجة.. والكثير منها يبيح اللواط للبالغين.. وكلها يبيح الخمر والخنزير.
فأما الزنا برضا الطرفين فنجد مثلاً أن قانون العقوبات في مصر والعراق يؤكد على أن الزنا إذا وقع برضا الطرفين وهما غير متزوجين وسنهما فوق الثامنة عشرة فلا شيء عليهما، وإن كانا متزوجين فلا عقوبة عليهما ما لم يرفع أحد الزوجين دعوى ضد الزوج الخائن.. [3].
والأفعال التي يحرّمها قانون العلمانية في جرائم العرض، إنما يحرمها لكونها تشكل اعتداء على الحرية الجنسية فحسب، وليس باعتبارها أمراً يغضب الله ويحرّمه الدين،..
ولذلك فإن الدعوى الجنائية في جريمة الزنا مثلاً لا تتحرك إلا بناء على شكوى الزوج، وللزوج الحق في التنازل عن الشكوى بعد تقديمها، وبالتالي تنقضي الدعوى الجنائية، وتوقف إجراءات التحقيق..
بل للزوج حق وقف تنفيذ العقوبة! ! وهكذا تبيح العلمانية الزنا، وتهيئ له الفرص، وتعد له المؤسسات، وتقيم له الحفلات في الملاهي والمسارح....
وأما الربا فهو عماد الاقتصاد العلماني، تؤسس عليه البنوك، وتقدم به القروض بل ويدخل الناس فيه كرهاً..
ومن شاء فليراجع المواد 226 - 233 من القانون المدني المصري، والتي تنص على الفوائد والقواعد المتعلقة بها، تلك المواد التي تحِل بها العلمانية ما حرّمه الله - سبحانه - بقوله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ورسوله..) [البقرة: 278-279] وهذه الآيات نزلت في أهل الطائف لما دخلوا الإسلام والتزموا الصلاة والصيام، وكانوا لا يمتنعون عن الربا فبين الله أنهم محاربون له ولرسوله إذا لم ينتهوا عن الربا..
فإذا كان هؤلاء محاربين لله ولرسوله فكيف بمن يقيمون للربا بنوكاً، ويعطون للتعامل به الشرعية الكاملة..
؟ … وأما الخمر فإن النظم العلمانية تبيح شربها، وتفتح المحلات لبيعها والتجارة بها، وتجعلها مالاً متقوماً يحرم إهداره، بل تنشئ لإنتاج الخمور المصانع وتعطي على الاجتهاد في إنتاجها جوائز للإنتاج! ! وهكذا فإن العلمانية تحل شرب الخمر وبيعها وعصرها.. فتحل ما حرم الله.. وتحرّم إهدارها والإنكار على شاربها.. فتحرم ما أحل الله..
فالعلمانية تحل ما حرّم الله، وتحرّم ما أحل الله..
وليس هذا في الزنا والربا والخمر فقط، أو في الحدود والتعزيرات فقط، أو في مادة أو أكثر من مواد القانون الوضعي العلماني..
بل إن قضية تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله هي قضية النظام العلماني بأكمله، وبجميع جوانبه المختلفة..
ولما كان تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله..
كفراً لمن فعله، ومَنَ قَبِله؛ فلا بد لنا لنبقَى مسلمين من رفض هذا الكفر..
ورفض العلمانية التي تقوم عليه.
ونحن نرفض العلمانية لأنها:
2 - كفر بَواح:
العلمانية كما قلنا هي قيام الحياة على غير الدين، أو فصل الدين عن الحياة، وهذا يعني بداهة الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعته - سبحانه -، وقبول الحكم والتشريع من غير الله..
ولذلك فإن العلمانية (هجر لأحكام الله بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في الشريعة.
بل لقد بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تعطيل حكم الله وتفضيل أحكام القانون الوضعي على أحكام الله المنزلة..
وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان وعلل وأسباب انقطعت فسقطت الأحكام كلها بانقضائها) [4].
وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت القوانين والأحكام التي تعلو أغلب ديار الإسلام هي قوانين (تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه،..
حتى لو كان في بعضها ما لا يخالف الإسلام فإن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوروبا ولمبادئها وقواعدها وجعلها هي الأصل الذي يرجع إليه) [5]....
وقد وضع الإمام الشافعي قاعدة جليلة دقيقة في نحو هذا، ولكنه لم يضعها في الذين يشرعون القوانين من مصادر غير إسلامية، فقد كانت بلاد المسلمين إذ ذاك بريئة من هذا العار، ولكنه وضعها في المجتهدين العلماء من المسلمين الذين يستنبطون الأحكام قبل أن يتثبتوا مما ورد في الكتاب والسنة، ويقيسون ويجتهدون برأيهم على غير أساس صحيح، حتى لو وافق الصواب حيث قال: (ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبت له معرفته، كانت موافقته للصواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة والله أعلم وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه) [6].
وإذا كان هذا هو حكم المجتهد في الفقه الإسلامي على غير أساس من معرفة، وعن غير تثبت من أدلة الكتاب والسنة حتى ولو وافق الصواب..(12/125)
فلا شك أن هؤلاء الذين يشرّعون من دون الله، مخطئون إذا أصابوا، مجرمون إذا أخطأوا، لأنهم أصابوا من غير طريق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنها ابتغاء مرضاة غير الله...
بل إن هؤلاء الذين يشرعون من دون الله قد وقعوا في نوع من أنواع الكفر الأكبر وهو كفر التشريع من دون الله، قال - تعالى -: (أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50] يقول ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: (ينكر - تعالى - على من خرج عن حكمه المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكِّم سواه في قليل ولا كثير) [7].
أرأيت - أخي المسلم - هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير في القرن الثامن لذلك القانون الوضعي الذي وضعه عدو الإسلام جنكيز خان؟ ألا ترى أن هذا الوصف ينطبق على القانون الوضعي الذي يضعه العلمانيون الذين يشرعون للناس من دون الله؟ إلا في وصف واحد، وهو أن الشريعة الإسلامية كانت عند جنكيز خان مصدراً مهماً لقانونه؛ بينما هي عند العلمانيين مصدراً احتياطياً من الدرجة الثالثة.
وإذا تبين هذا فإننا نقول بما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم - مفتي الديار السعودية - رحمه الله -: إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول الله - عز وجل -: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ؛ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء 59].
فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر...
فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار المسلمين مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه وتحتمه عليهم.
فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة [8]...
إن ما جد في حياة المسلمين من تنحية شريعة الله واستبدالها بالقوانين الوضعية البشرية القاصرة، ورمي شريعة الله بالرجعية والتخلف وعدم مواكبة التقدم الحضاري والعصر المتطور..
إن هذا في حقيقته ردة جديدة على حياة المسلمين..[9].
وهذا ما قاله الشيخ عبد العزيز بن باز في معرض رده على القوميين حيث قال:..
الوجه الرابع من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولابد إلى رفض حكم القرآن، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام، وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة [10].
وكيف لا وهذه الأحكام الوضعية تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، وتبيح انتهاك الأعراض وإفساد العقول، وتهلك الحرث والنسل حتى أصبحت المادة القانونية (إذا زنت البكر برضاها فلا شيء عليها) أحْفَظ لأمن المجتمع عند هؤلاء العلمانيين من قول الله - عز وجل -: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ..) [النور 2] وأصبحت تصاريح الخمارات والملاهي والبنوك الربوية أصلح للمجتمع - عند العلمانيين - من الأخذ بقول الله - سبحانه وتعالى -: (إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة 90].(12/126)
وقوله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ورسوله..) [البقرة 278 - 279] إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس (هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة.. ) [11]، وليس هذه رأياً لنا لنبديه، أو رأياً لعالم أو مفسر أو مجتهد من الفقهاء ننقل عنه، إنما هو النص الذي لا مجال فيه للتأويل، والحكم المعلوم من الدين بالضرورة..
قال - تعالى -: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ.. ) [المائدة 144] فالعلمانية التي تحكم بغير ما أنزل الله ليست معصية، بل هي كفر بواح...
وقبول الكفر والرضا به كفر...
ولذلك فلا بد من رفض العلمانية لنبقى في دين الله، ونحقق لأنفسنا صفة الإسلام....
ونحن نرفض العلمانية لأنها:
3 - تفتقد الشرعية:
إن أكثر البلاد الإسلامية لا تحكم بشريعة الله..
ولكن يحكمها أناس يحملون أسماء إسلامية، ويستعرضون أنفسهم بين الحين والحين في صلاة أو عمرة أو حج، فتتوهم الجماهير أن لهم (شرعية)، وهم لا يحكمون بما أنزل الله [12]..
فهل الحاكم إذا أبطل شريعة الله كاملة، واستعاض عنها بالشرائع الجاهلية..
هل تكون له شرعية؟ وهل يكون له على الرعية حق السمع والطاعة؟ ..
بادئ ذي بدء نقول أنه من المتفق عليه بين العلماء (أن الإمام ما دام قائماً بواجباته الملقاة على عاتقه، مالكاً القدرة على الاستمرار في تدبير شئون رعيته عادلاً بينهم، فإن له على الرعية حق السمع والطاعة.. ) [13].
ولكن هذا الحق في السمع والطاعة يكون في حدود طاعته هو لله ورسوله، فإن عطّل شرع الله، فقد خرج عن طاعة الله والرسولل ولم تصبح له طاعة على الرعية..
قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء 58 - 59] (وظاهر من البناء اللغوي للآية أن الطاعة لله مطلقة، وكذلك الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ..
ولكن ليست كذلك الطاعة لأولي الأمر..
ولو أن الله - تعالى -قال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم لوجبت طاعته مطلقاً كطاعة الله والرسولل، ولكن الله - جل شأنه - لم يقل ذلك، وإنما عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الله والرسولل بدون تكرار الأمر (أطيعوا)، لتظل طاعتهم مقرونة دائماً بحدود ما أنزل الله) [14].
فشرط الطاعة أن يكون ولي الأمر (منكم) أي من الذين امنوا، ولكي يكونوا كذلك فلابد أن يرد الأمر عند التنازع إلى الله (أي كتاب الله)، وإلى الرسول (أي سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -..) [15] وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: » اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله « رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم : » إن أمر عليكم عبد مجدع - أو قال أسود - يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا وأطيعوا « رواه مسلم.
فهذه الأحاديث واضحة الدلالة على أنه يشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام الرعية بكتاب الله، أما إذا لم يُحكّم فيهم شرع الله، فهذا لا سمع له ولا طاعة، وهذا يقتضي عزله، وهذا في صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة، أما المكفرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة.[16] (...فمن أجاز اتباع شريعة غير شريعة الإسلام وجب عزله، وانحلت بيعته، وحرمت طاعته، لأنه في هذه الحال يستحق وصف الكفر) [17].
والكفر هو أعظم الأسباب الموجبة للعزل، وبه يخلع الإمام عن تدبير أمور المسلمين وقد انعقد إجماع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه إذا طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته [18].
وبناء على ذلك فإن وليّ الأمر الذي يتصرف في شريعة الله بالإبطال أو التعديل أو الاستبدال...
لا تكون له شرعية، لأنه فقد شرط توليته الذي يعطيه شرعية تولي الأمر وهو تطبيق شريعة الله، أي سياسة الدنيا بالدين.
وإذن فالحكام الذين يسوسون الدنيا بغير الدين، ويقيمون منهاج الحكم على المبدأ العلماني - فصل الدين عن الدولة -..
هؤلاء الحكام ليس لهم شرعية، ولا تجب على الرعية طاعتهم، بل الواجب على المسلم معاداتهم وعدم مناصرتهم بقول أو فعل...
هذا من ناحية شرعية الحاكم..
أما من ناحية شرعية الوضع، أو ما يمكن أن نطلق عليه شرعية النظام فنقول: (..يعتقد كثير من الناس أن الأوضاع القائمة في معظم أرجاء العالم (الإسلامي) هي أوضاع إسلامية، ولكنها ينقصها تكملة هي تحكيم شريعة الله..
وفي الحقيقة إن هذا الفهم غير صحيح، فتحكيم الشريعة ليس تكملة لأصل إسلامي موجود بالفعل، ولكنه تأسيس لذلك الأصل - بمعنى أن الأوضاع لا تكون إسلامية إلا إذا قامت على شريعة الله،..(12/127)
قال - تعالى -: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً..) [النساء65] [19].
فأول صفات الدولة الإسلامية التي تجب طاعتها وتحرم معاداتها هو أن يكون الحكم الحقيقي فيها من حيث التشريع والتكوين لله وحده..
وأن لا يكون فيها قانون خاص أو عام يخالف الكتاب والسنة، وأن لا يصدر أي أمر إداري فيها يخالف التشريع الإلهي..
وأن لا ترتكز الدولة في قيامها على أساس إقليمي أو عرقي..
[20] ذلك أن الدولة الإسلامية تقوم على الاجتماع على الإسلام والانتساب للشرع، بمعنى أنها ترجع إلى أصول الإسلام وليس إلى أصول الكفر مثل فصل الدين عن الدولة، أو نعرات القومية..
فإذا قام نظام دولة على مبدأ إلغاء الشريعة الإسلامية والإقرار بحق التشريع المطلق لبشر من دون الله، والتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله، كان هذا النظام باطلاً، ولا تجب طاعته..
وهذا هو شأن العلمانية التي تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، ولذلك (فأنظمة الحكم القائمة الآن في العالم الإسلامي، أنظمة علمانية مقتبسة من النظم الغربية القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة..
وهذا المبدأ يعتبر خروجاً صريحاً على مبدأ معلوم من الدين بالضرورة، وبالنصوص القطعية في الكتاب والسنة وإجماع العلماء كافة، وهو عموم رسالة الإسلام لأمور الدين وشؤون الحياة، وأن الإسلام منهاج حياة كامل ينظم سائر شؤون المسلمين في دنياهم..) [21] ...
إن انعدام شرعية الأنظمة العلمانية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة، والتحاكم إلى إرادة الأمة بدلاً من الكتاب والسنة...
إن انعدام شرعية هذه الأنظمة هو بديهية من البديهيات..
وموقف المسلم منها يتحدد في عبارة واحدة...
إنه يرفض هذه الأنظمة...
ويرفض الاعتراف لها بأي شرعية.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) العلمانية - سفر الحوالي - ص 669.
(2) حول تطبيق الشريعة - محمد قطب - ص 62.
(3) راجع قانون العقوبات المصري - المواد 267 - 279، والعراقي - المواد 232 - 240.
(4) عمدة التفسير - أحمد شاكر - 4/ 157.
(5) مسند الإمام أحمد - تعليق أحمد محمد شاكر 6/ 303.
(6) المصدر السابق.
(7) تفسير ابن كثير.
(8) تحكيم القوانين - الشيخ محمد بن إبراهيم - ص 5، 6، 10.
(9) الولاء والبراء - محمد بن سعيد القحطاني - ص 79 بتصرف.
(10) نقد القومية العربية - عبد العزيز بن باز - ص 50.
(11) عمدة التفسير - أحمد محمد شاكر 4/ 172.
(12) الجهاد الأفغاني ودلالاته - محمد قطب - ص 34.
(13) حول تطبيق الشريعة - محمد قطب - ص 34.
(14) كما فسره بذلك مجاهد وغيره من السلف - انظر تفسير ابن كثير 2/ 304.
(15) حول تطبيق الشريعة - محمد قطب - ص 34.
(16) الإمامة العظمى - عبد الله بن عمر الدميجي - ص 473.
(17) مختصر الفتاوى المصرية - ابن تيمية - ص 507.
(18) صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 229.
(19) الجهاد الأفغاني ودلالاته - محمد قطب - ص 41.
(20) مؤتمر كراتشي المنعقد في الفترة من 12 - 15 ربيع الآخر 1370 هـ.
(21) الشهادة - الشيخ صلاح أبو إسماعيل - ص 26.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
============(12/128)
(12/129)
المثقف العلماني والصدق المعرفي
جواد الشقوري *
عندما أتابع ما ينتجه المثقف العلماني المتطرف في عالمنا العربي من كتابات تثار لدي جملة من التساؤلات والانطباعات حول المصير الذي آل إليه، وهو في رأيي مصير يبعث على الشفقة والحسرة في آن واحد.
ومأزق النخب العلمانية المتطرفة يمكن اختصاره في المقولة التالية: إن مجموعة من التطورات التي شهدها واقع عالمنا المعاصر، خاصة منذ أواخر الثمانينات إلى يومنا هذا، جعلت المنظومة الفكرية والأدوات المنهجية التي يعتمدها هذا المفكر من أجل مقاربة الظواهر التي أفرزتها هذه التطورات، عاجزة عن تفسير مآلات الوقائع ومسار الأفكار!
رغم أن الأبجديات الأولى لـ" الصدق المعرفي" تحتم على الباحث أن يغير جهازه المفاهيمي والمنهجي؛ أو على الأقل أن يعدل فيه، عندما يكتشف أن هذا الجهاز لا يسعفه في فهم وتفسير الحاضر ولا يمتلك مقدرة على التنبؤ والتوقع! وعندما لا يكون الصدق بمفهومه الأخلاقي والمعرفي هو المميز لتطور المسار الفكري لأي مفكر وباحث.. فإن النتيجة الحتمية هي زوال الجلال عن هذا المفكر والباحث، ويغدو صغيرا في عيون ضمائر الأمة.
إن الصدق المعرفي الشامل في رأينا هو الذي قاد مجموعة من المفكرين الذين كانوا يقفون على الأرضية الغربية بشقيها الماركسي والرأسمالي إلى مراجعة منظومتهم الفكرية وجهازهم المفاهيمي وأدواتهم المنهجية، وغياب هذا الصدق هو الذي جعل مجموعة أخرى من المفكرين جامدين على اختياراتهم المفهومية والفكرية والمنهجية، وإن كانت هذه الاختيارات غير قادرة على مسايرة التغيرات التي تطال أبنية الواقع المختلفة.
وفي الحالة الأخيرة، نجد هذا المفكر يحمل اختياراته الفكرية والإيديولوجية ما لا تحتمل بنيتها الذاتية، ويطالبها بدور لا تستطيع أن تقوم به؛ فهو بهذا السلوك يمارس نوعاً من الاضطهاد تجاه أفكاره ومفاهيمه وأدواته المنهجية.
ويمكن أن نتحدث هنا عن " رق" مفاهيمي وفكري ومنهجي جديد! فلا بد، إذن، من إطلاق سراح هذه المفاهيم والأفكار والمناهج كي تختار المحيط الذي يناسبها؛ إذ عندما يتم استنباتها - خاصة في محيطنا العربي والإسلامي فإنها تغدو غريبة ومقيدة ولا تتمتع بأي حرية.
إن مثل هذا الصنف من المفكرين في عالمنا العربي والإسلامي كمثل ذلكم الإنسان الذي، بعد أن فكر وقدر، أخرج سمكاً من الماء.. وقال له: أريدك أن تعيش في البر وأن تحدث قطيعة " وجودية" مع الماء، وعمل هذا الإنسان كل ما في استطاعته من أجل أن يتأقلم هذا السمك مع محيطه الجديد، وربما سخر علوماً ومعارف كثيرة من أجل أن ينجح في هذه المهمة، ويستغني عن الماء، وعندما يشير عليه الناس كل الناس بأن ما يفعله لن يستقيم أبداً، وأنه يمارس جريمة في حق هذا السمك.. يرد عليهم قائلاً: إن المشكلة ليست في السمك وإنما في المحيط البري !!
هذا الإنسان، منذ البداية، تبنى نموذجا إدراكياً مفاده أن السمك بإمكانه أن يعيش في الماء وبدون الماء على حد سواء، لكن لما تبين له بالاستقراء والمعاينة وبعد سلسلة من التجارب أن الماء هو المحيط الطبيعي للسمك، ولا يمكن استبدال المحيط البري بالمحيط المائي.. لما تبين له هذا وأدرك فشله في مهمته وجب عليه أن يغير من نموذجه الإدراكي، وهذا في رأينا أبرز مقتضيات الصدق المعرفي.
في تصورنا، ينبغي أن في البداية على أن الماء هو المكان الطبيعي للسمك، ثم بعد ذلك نبحث في الإجراءات التي تضمن للسمك مقاماً كريماً وهو في مائه؛ فهناك من السمك من يفضل العيش في الأنهار ومنه من يفضل البحار.. وهناك من له " موقف" من مسألة الملوحة، فيفضل أن تكون أقل.. وهناك من يختار عمق البحار وهناك أيضاً من يفضل أن يكون قريباً من سطح الماء.. هناك من السمك من يعيش قريباً من الشاطئ، وهناك آخر يهوى الابتعاد بعيداً عن الشاطئ.. وأيضاً ينبغي ألا نلوث مياه البحار بالنفايات، كما تفعل الحضارة الصناعية المعاصرة؛ لأن ذلك يؤذي السمك.. فكل هذه " الاختيارات" المختلفة والمتنوعة تتم كلها داخل " نسق" واحد وهو الماء.
إن الذي ينبغي أن يستوعبه العلمانيون المتطرفون، أن مجتمعنا العربي والإسلامي قد حدد المكان الطبيعي الذي يضمن له حياة كريمة وطيبة. إنه من المكابرة أن ننكر أن الإسلام هو ذلك النسق أو تلك المرجعية التي لا يمكن أن نختلف عليها.
إن أي باحث منصف سيقوده الاستقراء لتاريخ أمتنا العربية والإسلامية حتماً إلى نتيجة مؤداها أن مسألة المرجعية بالنسبة لأمتنا كانت محسومة لصالح المرجعية الإسلامية، وأن المجتمع العربي والإسلامي لا يمكن أن يتحرك بفعالية إلا في إطارها. نعم قد تكون هناك استثناءات في تاريخنا حاولت أن تشذ عن هذه القاعدة، إلا أنها ظلت هامشية ولا تشكل أي تأثير في مجريات الأمور والأحداث.(12/130)
فعندما نأخذ على سبيل المثال مسألة " التوحيد"(رؤية وتصوراً للعالم والحياة) كمكون أساسي من مكونات المرجعية الإسلامية؛ نجد أن هذا المكون لم يقع عليه اختلاف، بل كان هو الموجه لمختلف الإنتاجات والإبداعات في تاريخنا الذهبي(إلا في بعض الاستثناءات القليلة). حتى أن " المعتزلة" عندما دافعوا عن فكرة " خلق القرآن" كان دافعهم الأساسي هو التنزيه/التوحيد؛ إذ رأوا أن في قولنا إن القرآن كلام الله الأزلي بمعنى أنه قديم، وأن الله قديم.. رأوا أن في قولنا هذا نوعاً من الإشراك بالله؛ لأنه في رأيهم قد جعلنا مع الله شيئاً قديماً! طبعاً كان رد الأكثرية من العلماء مفحماً على هذا المنحى من التفكير، ولكن ما يهمنا هنا هو أن نعرف أن أعقد القضايا الكلامية في ذلك العصر كان الدافع إليها هو الانتصار لفكرة " التوحيد". هكذا كان حال الأمة طوال مسيرتها التاريخية والحضارية؛ كانت تنتج وتبدع وتختلف انطلاقاً من المرجعية الإسلامية، ولم تكن تعرف فوضى في المرجعيات.
فعندما يعلن المثقف العلماني المتطرف على الملأ بأن الاجتهاد والإبداع والإعمار، عندما يتعلق الأمر بمجتمعنا العربي والإسلامي، يمكن بل ينبغي أن يتم من خارج النسق الإسلامي فإنه يرتكب جريمتين على الأقل، وهما:
الأولى: جريمة في حق جهازه المفاهيمي ومنظمومته الفكرية وأدواته المنهجية، لأنه قد وظفها واستنبتها في بيئة مجتمعية لا تناسبها.
الثانية: جريمة في حق هذا المجتمع العربي والإسلامي؛ حيث أراد له هذا الصنف من المفكرين أن يتأقلم مع أدوات وأفكار ومفاهيم غريبة عنه.
وباستطاعتنا أن نتحدث عن فشل بعض التجارب الإسلامية في الوصول إلى الأهداف التي سطرتها، فهذا موضوع يحتاج إلى نقاش طويل وهادئ.. لكن ينبغي أن نعترف أن الإسلاميين والدعاة قد أصابوا عندما وصلوا إلى اعتبار المرجعية الإسلامية الأرضية التي لا يمكن أن تتحقق أي نهضة بدونها.
فكما أننا بعد أن اتفقنا على أن الماء هو المكان الطبيعي الذي يحتضن عالم السمك ثم بعد ذلك نظرنا في الشروط الموضوعية التي تضمن لهذا السمك الحياة الكريمة.. فكذلك بعد أن نتفق على أن الإسلام هو النسق الطبيعي الذي يحتضن عالم العرب والمسلمين، وجب علينا أن ننظر في الظروف الموضوعية التي تضمن للعرب والمسلمين الحياة الكريمة المبنية على العدل.
إذن لما يغيب الصدق مع النفس ومع الموضوع ومع الناس، فإن المفكر يفقد جلاله ويصبح صغيراً في عيون الشعوب العربية والإسلامية.. بل يتحول إلى عظم بدون عقل.. يكون جسداً بدون روح، ولعل من الملاحظات التي لاحظتها كما لاحظها غيري أيضاً أنه في كثير من المناسبات الثقافية والفكرية خاصة في الجامعات والكليات على طول عالمنا العربي والإسلامي، نجد أن أغلب الحضور يلتف بقوة على تلك الشخصيات الثقافية التي تتسم بالصدق المعرفي والجلال الأخلاقي..أما العناصر الأخرى فتجدها مهمشة ولا يلتفت إليها أحد؛ فهي عظام فقط بعد أن غاب الصدق وذهب الجلال.
http://www.almoslim.net المصدر:
===========(12/131)
(12/132)
ما هي هذه العلمانية ؟
مجدي هلال
من الأهمية بمكان أن نعرف جوابًا صحيحًا لهذا السؤال، فمن عرف الداء أمكنه أن يقاومه، و حيث إنها قد نشأت في الغرب فإن الجواب الصحيح يجب أن يأتي من هناك، و قد جاء في قاموس وبستر الأمريكي أن العلمانية هي النظام السياسي و الاجتماعي الذي ينبذ كل أشكال العقيدة الدينية أو العبادة، و في تعريف آخر فالعلمانية هي النظرة التي تقول بأن أمور التعليم و الأخلاق و المعاملات يجب أن تجري بدون أي اعتبارات أو تأثيرات دينية...هكذا بوضوح.
و في دائرة المعارف البريطانية، نجد أن العلمانية حركة اجتماعية، تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب، و دائرة المعارف البريطانية حينما تحدثت عن العلمانية، تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد، و قد قسمت دائرة المعارف الإلحاد إلى قسمين: إلحاد نظري، و إلحاد عملي، و جعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي.
و المعنى المباشر لهذا هو أنه لا علاقة للعلمانية بالعلم، و لو قيل عن هذه الكلمة إنها: اللادينية، لكان ذلك أدق تعبيرًا وأصدق.
فكيف نشأت العلمانية؟
لقد كانت تجربة أوربا مع " الدين " تجربة بئيسة إلى أقصى حد.. كان الدين بالنسبة إليها ظلاما و جهلا واستبداداً وغلظة و انصرافاً عن عمارة الأرض (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ.. )، و وقر في حس أوربا من خلال تجربتها الخاصة أن هذا هو " الدين ".. و لذلك نفرت منه، ثم هاجمته و أبعدته عن واقع الحياة، و حبسته في نطاق ضيق في ضمائر الناس، إن بقي للناس ضمائر بعد أن أبعدوا عن الدين في أمورهم اليومية!
لم تعرف أوربا دين الله الحقيقي الذي أنزل على عيسى ابن مريم - عليه السلام -، إنما عرفت صورة محرفة منه، هي التي أذاعها بولس و نشرها في ربوع الأرض، و بخاصة في أوربا، و قد كان بولس صاحب نظرية دينية و معلماً يعلم الناس قبل أن يسمع بيسوع الناصري بزمن طويل.. و من تأثره بالفلسفات السابقة على المسيحية فقد كان ذهنه مشبعا بفكرة الشخص الضحية الذي يقدم قربانا لله، كفارة عن الخطيئة. فما بشر به يسوع كان ميلادا جديدا للروح الإنسانية، أما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة، ديانة الكاهن و المذبح، و سفك الدماء لاسترضاء الإله، و هي العناصر التي أتى بها وخاصة الميثرائية التي أتى بها من ديانات فارس والديانة الهلنستية التي جاء بها من الإغريق و التثليت الذي استوحاه من الديانة المصرية القديمة...
و يقول الفيلسوف الفرنسي رينان " إنه ينبغي لفهم تعليم يسوع المسيح الحقيقي كما كان يفهمه هو أن نبحث في تلك التفاسير و الشروح الكاذبة التي شوهت وجه التعليم المسيحي حتى أخفته عن الأبصار تحت طبقة كثيفة من الظلام، و يرجع بحثنا إلى أيام بولس الذي لم يفهم تعليم المسيح بل حمله على محمل آخر، ثم مزجه بكثير من تقاليد الفريسيين و تعاليم العهد القديم"
و لم يكن التحريف في مجال العقيدة وحدها و هو خطير في ذاته و لكنه وقع في أمر آخر لا يقل خطرا عن العقيدة، و هو فصل العقيدة عن الشريعة، و تقديم الدين للناس كأنه عقيدة فقط بغير تشريع تحت شعار" أدِّ ما لقيصر لقيصر و ما لله لله! ".
إن الكنيسة ذاتها بمعناها السلطوي مبتدَعة لم يتنزل بها سلطان من عند الله، ففي الديانة اليهودية التي نزلت لبني إسرائيل قسّم الله كما تروي التوراة مهام أسباط بني إسرائيل، فعهد إلى أبناء لاوى بن يعقوب بمهمة تطبيق الشريعة، بوصفهم قضاة يحكمون بين الناس بما أنزل الله في التوراة و كان هذا أشبه بتنظيم إداري، لا يجعل لللاويين قداسة خاصة دون بقية بني إسرائيل، ثم أرسل عيسى - عليه السلام - لبني إسرائيل مصدقا لما بين يديه من التوراة، كما جاء على لسانه في القرآن الكريم في سورة آل عمران: (وَ رَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ لأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ)(12/133)
فكان المفروض أن يجري الأمر في عهد عيسى على ذات النسق الذي جرى به على عهد موسى - عليهما السلام -، بينما الذي جرى بعد عيسى أن تم ابتداع فكرة الكنيسة و التي لا سند لها إلا ذلك القول المنسوب إلى المسيح في إنجيل متى " أنت بطرس، و على هذه الصخرة ابن كنيستي و أبواب الجحيم لن تقوى عليها، و أعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه في الأرض يكون مربوطا في السموات، و كل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات!! "، و هي قولة يصعب قبول صدورها عن رسول لله - تعالى -، فعيسى نفسه لا يملك أن يربط شيئا أو يحله في الأرض إلا بإذن ربه، و ليس له أن يحل أو يحرم إلا بإذن الله، و لكن الكنيسة نشأت و استمدت سلطانها الزائف من تلك الأسطورة المنسوبة للمسيح.. و هي التي أعطت حق الحل و الربط لحواريّه بطرس، و هذا أعطاه بدوره لآباء الكنيسة من بعده، فما ربطه بطرس و خلفاؤه من بعده في الأرض لا يحل في السماء، و ما حله في الأرض لا يربط في السماء، أي إنهم زعموا أن الأرض تحكم السماء، و أن البشر يحكمون قدر الله و مشيئته..
و قد اكتفت الكنيسة الأوربية اكتفت بسلطانها الروحي على قلوب تابعيها، غير أن ذلك لم يستمر إلا في وقت استضعافها في القرون الثلاثة الأولى، حيث كان النصارى مضطهدين في عهد القياصرة الوثنيين، و لكنها استأسدت بعد ذلك في القرن الرابع حين دخل قسطنطين في النصرانية، و مكن للكنيسة و رجالها، بعد أن أفلح في مزج دينها بأساطير الوثنية، و أرضى بذلك النصارى و الوثنيين معا، و أمَّن سلطانه على الإمبراطورية التي كان النزاع الديني قد أوشك على القضاء عليها!
و يمكن الرجوع إلى أحاديث الشيخ يوسف استس في موقعه http://www.islamtomo r row.com/، و هو قس أمريكي سابق اعتنق الإسلام من سنين، و هو يحكي فيه كيف أن قسطنطين مزج المسيحية بالوثنية الرومانية، و منها مثلا أن يوم الأحد صار اليوم المقدس لدى المسيحيين، لأن قسطنطين أراد هذا..
و حين أصبح للكنيسة سلطان سياسي إلى جانب السلطان الروحي بدأ الطغيان.. و في بيان للبابا نقولا الأول ورد في كتاب قصة الحضارة للكاتب ول ديورانت، يقول " إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، و إن أساقفة روما قد ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، و لذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة و السلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين".
ثم فرضوا سلطاناً فكرياً رهيباً يحجر على العقول أن تفكر إلا بإذن الكنيسة، و في الحدود التي تسمح بها الكنيسة، و قد كان هذا ضرورة لازمة منطقية مع التحريف الذي حدث في الدين، خاصة فيما يتعلق بذات الإله و العشاء الرباني، و قدرات الكهنة المتمثلة في كراسي الاعتراف و صكوك الغفران التي تدخل الجنة و غير ذلك من أمثال تلك الأسرار.. كلها أمور لا يستطيع العقل أن يدركها و لا أن يتدبرها.. فماذا لو أعمل الناس عقولهم، فاكتشفوا أن يقال لهم باسم العقيدة كلام لا يثبت للتمحيص؟، ماذا يبقى للكنيسة عندئذ من سلطان على الناس؟، فالحل الأمثل لهذه الحال إذن أن تحجر الكنيسة على العقل، و أن يعتبر التفكير هرطقة تفضي إلى إهدار الدم في الدنيا، و الحرمان من الغفران.
و لما بدأت العلوم تتسرب إلى أوربا من العالم الإسلامي عن طريق الترجمة، و تحدث ما يمكن أن نسميه غزوا فكرياً إسلامياً خاصة بعد خسارة أوروبا الحروب الصليبية.. جن جنون الكنيسة ففرضت حجرا على العلم و أهدرت دم كل من يقول يومئذ بكروية الأرض، أو أنها ليست مركز الكون، و هو العلم الذي نقله علماء النصارى الأوائل من مؤلفات العلماء المسلمين.
تحولت المسيحية على يد الكنيسة و آبائها و مفكريها إلى أغلال تفسد الحياة و تقعد بها عن النمو السويّ، و تحولها إلى مستنقع آسن لا ينبض بالحياة و لا يسمح للحياة أن تنبض فيه، دين يهمل الحياة الدنيا بدعوى تفاهتها و حقارتها و عدم جدارتها بالاهتمام، و بدعوى أن الإنسان خاطئ بطبعه، و لا سبيل إلى إصلاحه في الحياة الدنيا و كفه عن الخطيئة إلا بكفه عن ممارسة الحياة ذاتها، دين يحتقر الجسد ويشمئز من نشاطه الفطري، لأن هذا النشاط هو الذي يوقع الناس في الخطيئة، وما دفع إلى الخطيئة فهو ذاته خطيئة! و علاجه الوحيد هو الكبت و القهر.. دين يحقّر الإنسان ليمجد الرب.. كأنما لا يتحقق تمجيد الرب إلا بتحقير الإنسان... و ذلك بدعوى ان الإنسان إذا اتجه لتحقيق وجوده تمرد على الرب، فلا بد من سحقه و إذلاله و تحقيره لكي يتمجد الرب في قلبه، فيحصل على الخلاص.. دين يصرف الناس عن عمارة الأرض، و عن ترقية الحياة و تنميتها، بدعوى أن ذلك سيصرف الناس عن التوجه إلى الآخرة، و سيحرك شهواتهم التي لا بد أن تكبت، و من ثم يوقعهم في الخطيئة الواقفة للإنسان بالمرصاد... دين يحارب العلم، بسبب جهل البابوات و رجال الدين، و عدم اهتمام غالبيتهم بتثقيف أنفسهم، و اكتفائهم بسلطانهم الروحي على الجماهير.(12/134)
ليس من العجيب إذن أن تنفر أوربا من ذلك الدين و تتمرد عليه.. إنما كان العجب أنها صبرت عليه كل تلك القرون التي صارت فيما بعد تمردها تسميها القرون الوسطى المظلمة.
و كان رد الفعل هو نبذ هذا الدين، و التحرر من سجنه، فكانت الأفكار و الفلسفات التي تهرول في الاتجه الآخر، بعيدا عن كل ما فيه أثر من ذلك السلطن الكنسي، و كانت العلمانية.
أين هذا من الإسلام، هل من المنطق أن نقارن بين أوروبا و العالم الإسلامي، هل كان لديهم حقا دين صحيح، حتى يقال إن البعد عنه كان مفتاح الازدهار الذي حققوه، و هل كان تاريخ الإسلام تاريخ سلطان ديني و طغيان كابت للحريات و الأفكار و حقر للإنسان، حتى نقول إن العلاج من الانحطاط الذي نحن فيه الآن يكون نفس العلاج الذي نجع في أوروبا؟.. إن الحقائق لا تقول ذلك، و بالتالي لا تقول إن العلمانية هي الحل.
إن العلمانية لا تصلح مع الإسلام، كما أنها لا تصلح مع اليهودية، و لكنها تصلح فقط مع المسيحية الحالية، و لننظر فيما يجري في إسرائيل كلما أرادوا أن يشكلوا حكومة، فإن عليهم أن يسترضوا تلك الاحزاب و الحركات الدينية، و لنقرأ فقط أخبار الأيام الماضية حينما اجتمعت الحكومة لتقرر هل يجوز ليهودي أن يهدم معبدا لليهود أم لا، و قرروا أنه لا يجوز... مرة أخرى أقول إن الحكومة اجتمعت لتقرر ذلك، و منذ شهور جاءت الأنباء بأن جماعات اسرائيلية اعترضت على إعلان في شوراع تل أبيب لأن فيه صورة الممثلة الأمريكية "سارة جيسيكا" عارية الظهر حتى تمت تغطية ظهرها، فعلام يدل هذا؟ ألا يدل على أن العلمانية لا تعمل مع اليهودية؟
أما مع المسيحية فهي عقيدة روحانية و حسب، بينما الشريعة هي اليهودية، و قد كان الأصل أن المسيحية جزء من اليهودية، و لكن من قالوا إنهم اتبعوا المسيح انفصلوا بها و أنشأوا دينهم الخاص و هو القائم حاليا، و كان لابد لمن يغير في دين أن يلقى العنت، و هو ما حدث لهم، فلم يكن هناك من خلاص إلا بالتخلص من هذا الدين الذي اقتطعوه اقتطاعا ما أصوله.
و الإسلام عقيدة و شريعة.. كيف يستطيع مسلم مثلا أن يقيم أحكام الإسلام في المعاملات التجارية أو الأحوال الشخصية أو الميراث، أو عقوبات الجرائم أو غيرها، إذا كان الدين محصورا في حجرة نومه، و في الزوايا هنا و هناك... لابد من سلطة حاكمة ترعى هذا... بمعنى آخر لا يمكن أن يجتمع الإسلام و العلمانية، كما أنه لا يجتمع الليل و النهار معا..
و هناك إشارة بالغة الدلالة و هي أن في القرآن التوجيهات و الأصول و القواعد التي يتعامل بها الإسلام مع غير المسلمين، فما الحاجة إلى ذلك إلا إذا كان الإسلام هو النظام الحاكم، و لو كانت العلمانية حاكمة لما احتجنا إلى القرآن و لكفتنا الوصايا العشر (أي بضع آيات من سورة الإسراء)، لأن الناس يخرجون من بيوتهم و يتركون ما يعتقدون في حجرات النوم، فلا يكون من داع لأي توجيهات أو أصول أو أحكام دينية...
يجب على صاحب الدين أن يتنازل عن بعض دينه من أجل العلمانية، فالدين هو أسلوب حياة يطلب من معتنقه أن يفعل أشياء و ألا يفعل أشياء، و هذه بالتعبير البسيط قيود، فإذا حاولت في مجتمع علماني أن تمارس هذه القيود ستواجهك جماعات اللادينين بالرفض، و هذه أمثلة أمريكية على هذا، فمنذ شهور دار النزاع في المحاكم بسبب أن إحدى المباني الحكومية أرادت وضع كتلة حجرية في مدخلها، و على هذه الكتلة نص الوصايا العشر، و تظاهرت الجماعات المسيحية مؤيدة، و الجماعات اللادينية معارضة، و كان الحكم أنه لا يجوز وضع هذا المجسم لأنه رمز ديني يجرح مشاعر اللادينيين، و دار نزاع آخر في المحاكم كذلك بشأن هل يجب أن "يُذكر لفظ الله" في تحية الصباح في المدارس يوميا، و هو نزاع مازالوا لم يحسموه بعد، و قد رفعه الأباء اللادينيون الذي يريدون أن يلا يبلبلوا أبناءهم بفكرة وجود إله، و هناك ثالث يجري فيه النزاع حول جواز تدريس فكرة آدم و حواء كبدء للخليقة في المدارس أم عدم الجواز، على أساس أن هناك من هم لا يؤمنون إلا بما قال به داروين، و نحن نسمع و سمعنا بقضايا الحجاب في فرنسا و حاليا في ألمانيا، و في، و تونس و في تركيا و في التليفزيون المصري... فحتى لو كانت العلمانية سائدة فهي لا تعني الحرية، بل تعني أنه لا يجوز لك أن تسلك أي مسلك تشوبه شائبة من الدين، لألا تنجرح مشاعر من الملحدون، و لا أقول أصحاب الديانات الأخرى، لأن من يؤمن بالله حقا، سيحب من الآخرين نفس الأمر، و قبل كل شيئ و بعده، فإن الدين عند الله الإسلام، و هذا هو أساس الفكر.(12/135)
إن الدين ليس مجرد الاعتقاد، إنه طريقة الحياة و نظامها، ففي سورة يوسف مثلا يقول - تعالى -إن يوسف قد "أخذ آخاه في دين الملك.. "، أي استفاد من نظام قانون الدولة المصرية آنذاك ليبقي أخاه معه، و في سورة الكافرون تقول الآية، و الخطاب فيها موجه "للكافرين" تقول لهم "لكم دينكم و لي دين" في حين أنه ليس للكافرين دين، إنما لهم أسلوب في ممارسة الحياة لا يرضى عنه الله، فالدين هو أسلوب ممارسة الحياة، و يجب بالتالي أن يظهر في سلوكيات الأفراد، و نظم ترتيب علاقاتهم و تعاملاتهم، و ما العقيدة إلا المرحلة الأولى فقط... فإذا اكتفينا بالعقيدة فنحن إذن لم نقم الدين الذي يجب أن يكون بحسب العقيدة، فالعقيدة ليست الهدف، بل الهدف هو العمل الصالح المرتبط بهذه العقيدة، و ذلك كما أمر به الله و أراده، لا على هوى البشر و ما يفضلون.. و حسب تعريف العلمانية فإنها تريد ان تكون سلوكيات و تعاملات الناس على أسس أخرى غير التي توحي بها أي عقيدة، أي أنها بشكل مباشر معاكسة للدين، و يستحيل أن يجتمع الدين مع العلمانية... و قد نجح هذا المزج فقط مع المسيحية، لأن المسيحية هي جزء العقيدة من الدين بينما الدين الكامل كان يجب أن يكون اليهودية ثم تلحق به المسيحية...
إن إزذهار أوروبا ليس سببه إبعاد الدين عن الحياة، لأن ما لديهم لم يكن الدين، إنما سببه العمل الدؤوب و السعي الجاد، و الله عادل و قد خلق هذه الدنيا بنظم و قوانين، فمن أخذ بالأسباب حقق ما يجب تحقيقه... ثم إن تأخر المسلمين ليس سببه الدين، بل سببه عوامل سياسية يسجلها التاريخ، و تحتاج منا الدراسة، لنرى كيف الخلاص منها... إن البحث عن حل بتقليد أوروبا هو قياس خاطئ... إن مشكلتنا هي فساد سياسي ملء السمع و الأبصار، إذا أردنا الأفضل فلتكن محاربة الفساد السياسي هي الحرب.. الدين عندنا عندما كان عاملا كنا في القمة، و هو ليس عاملا الآن، و لذا نحن في القاع.
من العجيب أن الفكرة في غاية الوضوح، و لكن كيف سيرى من يصر على إغلاق عينيه... إن كل التهم التي أدينت بها النصرانية المحرّفة، هي نفسها التي يريدون أن يلصقوها بالإسلام... و لا عجب، فإن عقلية هؤلاء هي العقلية المتأثرة بأوروبا النافرة من الدين، الذاكرة له بهلع، بسبب ما كان من شأنها معه كما سبق... و لا يلاحظ أولئك أن أوروبا إنما بدأت التمرد على الدين بعد احتكاكها بالمسلمين، عندما بدأت تدرك مقدار الظلام الذي عاشت فيه و تتوق للخلاص الحقيقي من الكنيسة و طغيانها، و هم مع ادعاء اتباع أساليب التفكير العلمي يخطئون عندما يقيسون الإسلام بمعايير التجربة الأوربية، و لا يدركون الفرق بين التجربة التي تمت في ظل الدين المزيف، و التجربة التي تمت في ظل الدين الصحيح، و لقد جرى شيئ مشابه في مصر عندما غزا الفرنسيون مصر، إذ أد الاحتكاك إلى اكتشاف الحاجة إلى إعادة النظر في الذات، و بدأت بالفعل نهضة في أنحاء مصر، على أن أوروبا لم تمهل أحدا، و في خلال عقود كان جميع بلدان العالم الإسلامي محتلة، و لا تزال حتى اليوم.(12/136)
إن المسلمين في أشد حالات الانحطاط، و أسباب هذا ترجع للاستبداد السياسي، الذي شوه عصورا طويلة من تاريخ الإسلام، و لكن التشخيص يخطئ عندما يقول إن الدين هو سبب الانحطاط أو أنه حتى سبب الاستبداد... تخيلوا إنسانا متكسرة أطرافه، و بدلا من أن يحاول الأطباء تجبيره و إصلاحها، فهم يصرون على تغيير العقل و القلب... إن المسلمين في حاجة إلى القوة و الاعتزاز بالذات و الثقة قبل أن يبدأوا التحرك إلى المقدمة، و لكن إذا تخلينا عن ماهيتنا بدلا من ذلك، فلن يكون لنا وجود، و ما سيحدث هو أن الله سوف يستبدل بنا قوما آخرين يؤمنون به حق الإيمان، و ينصرون دينه، فلقد كتب الله أن هذا الدين سينتصر، بنا أو بغيرنا... " كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا - رضي الله عنهم - وَ رَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ" المجادلة 21-22... و قال - تعالى -" إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً" النساء 133، و قد تعلمنا من القرآن أن شرط النصر هي أن نكون ممن يصفهم القرآن في سورة الحج بأنهم " الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوْا الزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ"، و هذه الآيات تتناقض و العلمانية، لأن إرضاء أحد من البشر على حساب رضا الله هو الشرك بعينه، فإذا آمنا أن لله عاقبة الأمور، فقد علمنا ما يجب علينا أن نعمله.
لقد كان الاستبداد عندما فرطتنا في ديننا و ستكنا و لم نقاوم، و نعم من الإسلام ألا نخرج على الحاكم لتجنب الفتنة و هي الأكبر خطرا، و لكننا مأمرون بعدم الرضى أو السكوت، فكما جاء في صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون و أصحاب، يأخذون بسنته و يقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، و يفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، و من جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، و من جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، و ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "، و قال صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة " قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله، و لكتابه، و لرسوله، و لأئمة المسلمين و عامتهم"
--------
[1] 10 يناير 2004
http://al-shaab.o r g المصدر:
============(12/137)
(12/138)
العلمانية الجاحدة .. ثم الآن العلمانية المستترة
د.سعيد بن ناصر الغامدي
العلمانية SECULA r ISM:
- ترجمتها الصحيحة = اللادينية، لا علاقة لها بمصطلح العلم، أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين.
- في الجانب السياسي، اللادينية في الحكم.
- تعريف العلمانيين للعلمانية. انظر: موسوعة السياسة 4/179.
تأسيسها وتطورها:
1 - طاغوتية رجال الدين النصارى واستبدادهم بالدين والسياسة (الرهبانية، الفساد....، صكوك الغفران).
2 - وقوف الكنيسة ضد العلم والفكر المتحرر، تشكيلها محاكم التفتيش لعلماء التجريب:
أ - كوبرنيكوس: نشر عام 1543 م كتاب الأجرام السماوية، فحرمت الكنيسة هذا الكتاب.
ب - جردانوا: صنع التلسكوب فعذب وعمره 70 وتوفي سنة 1642 م.
جـ - ديكارت: دعا إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة (فلسفة الشك).
د - بيكون: ظهر بمبدئه التجريبي وطلب تطبيقه على كل شيء.
هـ - سبنوزا: صاحب مدرسة النقد التاريخي، كان مصيره الحرق.
و - جون لوك: طالب بإخضاع الوحي للعقل.
ز - جاليلو: استخدم التلسكوب فقتلته الكنيسة.
3 - ظهر مبدأ العقل والطبيعة، أخذ العلمانيون يدعون إلى تحرير العقل وإضفاء صفات الإله على الطبيعة.
4 - نتيجة للصراع بين الكنيسة والحركات السالفة جاءت الثورة الفرنسية 1789 م، أول حكومة لا دينية علمانية.
مراحل الثورة وشخصياتها:
أ - عصر التنوير الذي مهد لإرهاصات الثورة:
[جان جاك روسو] سنة 1778 م، ألف كتاب (العقد الاجتماعي) يعتبر الجيل الثورة.
[منتسيكو] له (روح القوانين).
[سبينوزا] يهودي يعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجاً للحياة والسلوك، له (رسالة اللاهوت والسياسة).
[فولتير] مؤلف كتاب (القانون الطبيعي).
[كانت] مؤلف كتاب (الدين في حدود العقل وحده) عام 1804 م.
[وليم جودين] مؤلف كتاب (العدالة السياسة) 1793 م، وفيه دعوة للعلمانية بصراحة.
ب - [ميرابو] خطيب وزعيم فيلسوف الثورة الفرنسية.
جـ - تحرك الماسون واليهود مستغلين أخطاء الكنيسة والحكومة الفرنسية المعتمدة على الكنيسة وركبوا موجة الثورة لتحقيق أهدافهم.
د - سارت الجموع الغوغائية لهدم الباستيل وشعارها الخبز ثم تحول شعارها إلى [الحرية والمساواة والإخاء] ثم شعار [تسقط الرجعية] وهو شعار ملتوي يقصد به الدين.
نضوج العقل العلماني في تصوراته ومشاريعه المستقبلية إلى عقود قادمة بعيدة:
1 - الدفع بذوي النفوس المريضة والعقول الجاهلة لضرب الإسلاميين.
2 - استغلال الجهل الحاصل بين الإسلاميين في شؤون العلمانية لتمرير أعمالهم.
3 - المرأة والطفل.
4 - المقررات الدراسية، الدخول منها، مثلاً الفاء السيرة من منهج التاريخ، واستبداله بتاريخ العالم المعاصر: تاريخ أمريكا والثورة الفرنسية، التأكيد على القيم النبيلة في العصر الجاهلي.
5 - عداء الحركات الإسلامية والشخصيات المخلصة.
6 - عمل المرأة وتهيئتها لذلك من خلال التعليم مثل الهندسة والإحياء.
7 - تهوين المنكر لتمريره من خلال أن القضايا العميقة والمهمة هي التقدم المادي وأشباه ذلك.
8 - أن أمتنا أمة حضارة وذوق ووجدان = كالرسم والموسيقى والنحت.
9 - تشويه صورة الإسلام من خلال بدائل هزيلة وتشويه الشخصيات الإسلامية، من خلال المؤلفات والمسلسلات.
10 - العقلانية.
11 - المجيء بحجج لتبرير عزل الدين = السياسة نجسة، الاقتصاد الربوي ضرورة عالمية، الأدب جمال وذوق، الفكر العالمي، إنسانية الثقافة.
12 - تشويه التاريخ الإسلامي باسم الدراسة الموضوعية.
13 - التشكيك في ثبوت السنة وصحة المصطلح وأصول الفقه، والفقه.
هـ - تغلغل اليهود باسم العلمنة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه.
و - ظهرت نظرية التطور والارتقاء في أصل الأنواع لدارون عام 1859 م لتصبح هذه النظرية وسيلة لانهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد.
ز - ظهرت نظرية نيتشه (السوبرمان) وفلسفتهم على أن الإله مات وحل محله الإنسان الأعلى.
ح - ظهرت نظرية دوركايم اليهودي المسماة العقل الجمعي جمع فيها بين حيوانية الإنسان وماديته.
ط - ظهرت نظرية فرويد اليهودي التي تعتبر الإنسان حيواناً جنسياً، الجنس أساس كل الدوافع.
ي - ظهرت نظرية كارل ماركس اليهودي المادية الجدلية / التفسير المادي للتاريخ، الاشتراكية، أفيون الشعوب.
ك - ظهرت نظرية سارتر الوجودية.
ل - ظهرت نظرية كولن ولسن الوجودية الجديدة الداعية إلى الإلحاد.
الأفكار والمعتقدات:
1 - العلمانية العامة = فصل الدين عن الحياة الخاصة = فصل الدين عن بعض جوانب الحياة.
2 - بعضهم ينكر وجود الله، وبعضهم يؤمن بوجوده - سبحانه - ولكن لا علاقة بين الله وحياة الإنسان.
3 - الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل والتجريب، العقلانية.
4 - إقامة حاجز بين عالمي الروح والمادة، القيم الروحية لديهم قيم سلبية ضارة.
5 - إقامة الحياة على أساس مادي بحت.
6 - فصل الدين عن الحياة، فصل الدين عن السياسة.
7 - تطبيق مبدأ النفعية (البراجماتيزم) على كل شيء في الحياة.(12/139)
8 - تطبيق مبدأ الميكافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق والعلاقات.
9 - نشر الإباحية والفوضى الخلقية وتهديم كيان الأسرة تحت شعار حرية المرأة.
معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي:
1 - الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة.
2 - الزعم بأن الإسلام استنفذ أعراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية فردية.
3 - الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني.
4 - الزعم بأن الإسلام لايتلاءم مع الحضارة والتقدم لأنه يدعو للرجعية والتخلف.
5 - الدعوة إلى تحرير المرأة - عمل المرأة.
6 - تشويه الحضارة الإسلامية والتشكيك في التاريخ الإسلامي.
7 - الإشادة بالحركات الهدامة والفرق الضالة والزعم بأنها حركات إصلاح وتحرر.
http://www.olamaalsha r eah.net المصدر:
============(12/140)
(12/141)
العلمانييون وفكرهم وممارساتهم
سعيد بن ناصر الغامدي
العلمانيون هم كل من ينسب أو ينتسب للمذهب العلماني، وينتمي إلى العلمانية فكرا أو ممارسة0
وأصل العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية " secula r ism "، وهي من العلم فتكون بكسر العين، أو من العالم فتكون بفتح العين، وهي ترجمة غير أمينة ولا دقيقة ولا صحيحة، لأن الترجمة الحقيقية للكلمة الإنجليزية هي "لا دينية أولا غيبية أو الدنيوية أولا مقدس"
نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية ـ دينية واجتماعية وسياسية وعلمانية واقتصادية ـ خلال قرون من التدريج والنمو، والتجريب، حتى وصلت لصورتها التي هي عليها اليوم 0
ثم وفدت العلمانية إلى الشرق في ظلال الحرب العسكرية، وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية، ولئن كانت العلمانية في الغرب نتائج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر أزمنة متطاولة، فقد ظهرت في الشرق وافدا أجنبيا في الرؤى والإيديولوجيات والبرامج، يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه، لأن الظروف التي نشأت فيها العلمانية وتكامل مفهومها عبر السنين تختلف اختلافا جذريا عن ظروف البلدان التي جلبت إليها جاهزة متكاملة في الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والحضارية، فالشرط الحضاري الاجتماعي التاريخي الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب مفقود في البلاد الإسلامية بل فيها النقيض الكامل للعلمانية ولذلك كانت النتائج مختلفة تماماً كما، وحين نشأت الدولة العربية الحديثة كانت عاله على الغربيين الذين كانوا حاضرين خلال الهيمنة الغربية في المنطقة ومن خلال المستشارين الغربيين أو من درسوا في الغرب واعتنقوا العلمانية، فكانت العلمانية في أحسن الأحوال أحد المكونات الرئيسية للإدارة في مرحلة تأسيسها وهكذا بذرت بذور العلمانية على المستوى الرسمي قبل جلاء جيوش الاستعمار عن البلاد الإسلامية التي ابتليت بها.
ومن خلال البعثات التي ذهبت من الشرق إلى الغرب عاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية، بل وبدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في الجامعات الغربية، ولك أن تتصور حال شاب مراهق ذهب يحمل الشهادة الثانوية ويلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه، بعد أن يكون قد سقط إو أسقط في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي وما أوجد كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري، ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية، وفي أهم المراكز العلمانية بل والقيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء، وإلى تاريخها بريبة واحتقار، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها ـ في أحسن الأحوال ـ بشفقة ورثاء. إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلا تجاريا لمن علموه وثقفوه ومدنوه، وهو لا يملك غير ذلك
ثم أصبحت الحواضر العربية الكبرى مثل "القاهرة بغداد دمشق" بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني للبلاد العربية الأخرى، من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها وبالذات لدول الجزيرة العربية وقلّ من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية، حتى أصبح في داخل الأمة طابور خامس، وجهته غير وجهتها، وقبلته غير قبلتها، إنهم لأكبر مشكلة تواجه الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة.
ثم كان للبعثات التبشيرية دورها، فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلام شرقاً وغربا من شتى الفرق والمذاهب النصرانية، جعلت هدفها الأول زعزعت ثقة المسلمين في دينهم، وإخراجهم منه، وتشكيكهم فيه 0
ثم كان للمدارس والجامعات الأجنبية المقامة في البلاد الإسلامية دورها في نشر وترسيخ العلمانية
ثم كان الدور الأكبر للجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية التي انتشرت في الأقطار العربية والإسلامية، مابين يسارية وليبرالية وقومية وأممية وسياسية واجتماعية وثقافية وأدبية، بجميع الألوان والأطياف، وفي جميع البلدان حيث أن النخب الثقافية في غالب الأحيان كانوا إما من خريجي الجامعات الغربية أو الجامعات السائرة على النهج ذاته في الشرق، وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية، وجميعها تتفق في الطرح العلماني، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية، وقد تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية، والسعي لعلمنة الأمة كل من زاوية اهتمامه، والجانب الذي يعمل من خلاله.
ولا يمكن إغفال دور البعثات الدبلوماسية: سواء كانت بعثات للدول الغربية في الشرق، أو للدول الشرقية في الغرب، فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسورا تمر خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف، من خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي، والتواصل الاجتماعي، والمناسبات والحفلات، ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي، وليس بسر أن بعض الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي أو مجلس الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة.(12/142)
ولا يخفى على كل لبيب دور وسائل الإعلام المختلفة، مسموعة أو مرئية أو مقروءة، لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية-صحافة أو إذاعة أو تلفزة-فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها، وكان الرواد في تسويق هذه الرسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو من العلمانيين من أبناء المسلمين فكان لها الدور الأكبر في الوصول لجميع طبقات الأمة، ونشر مبادئ وأفكار وقيم العلمانية، وبالذات من خلال الفن، وفي الجانب الاجتماعي بصورة أكبر.
ثم كان هناك التأليف والنشر في فنون شتى من العلوم وبالأخص في الفكر والأدب والذي استعمل أداة لنشر الفكر والممارسة العلمانية0
فقد جاءت العلمانية وافدة في كثير من الأحيان تحت شعارات المدارس الأدبية المختلفة، متدثرة بدعوى رداء التجديد والحداثة، معلنة الإقصاء والإلغاء والنبذ والإبعاد لكل قديم في الشكل والمضمون وفي الأسلوب والمحتوى ومثل ذلك في الدراسات الفكرية المختلفة في علوم الاجتماع والنفس والعلوم الإنسانية المختلفة، حيث قدمت لنا نتائج كبار ملاحدة الغرب وعلمانييه على أنه الحق الطلق، بل العلم الأوحد و لا علم سواه في هذه الفنون، وتجاوز الأمر التأليف والنشر إلى الكثير من الكليات والجامعات والأقسام العلمية التي تنتسب لأمتنا اسما، ولغيرها حقيقة 0
ولا يستطيع أحد جحد دور الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة في الجانب الاقتصادي
هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان، ولو كانت الأمة حين تلقت هذا المنهج العصري تعيش في مرحلة قوة وشموخ وأصالة لوظفت هذه الوسائل توظيفا آخر يتفق مع رسالتها وقيمها وحضارتها وتاريخها وأصالتها.
بعض ملامح العلمانية
لقد أصبح حَمَلة العلمانية الوافدة في بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودهم تيارا واسعا نافذا متغلبا في الميادين المختلفة فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان:
أ-الاتجاه اليساري الراديكالي الثوري، ويمثله - في الجملة - أحزاب وحركات وثورات ابتليت بها المنطقة ردحا من الزمن، فشتت شمل الأمة ومزقت صفوفها، وجرت عليها الهزائم والدمار والفقر وكل بلاء، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، سواء كانوا شيوعيين أمميين، أو قوميين عنصريين.
ب-الاتجاه الليبرالي ذي الوجهة الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب، وهؤلاء يمثلهم أحزاب وشخصيات قد جنوا على الأمة بالإباحية والتحليل والتفسخ والسقوط الأخلاقي والعداء لدين الأمة وتاريخها.
وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها:
1- مواجهة التراث الإسلامي، إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط التخلف ـ كما عند غلاة العلمانية ـ، أو بإعادة قراءته قراءة عصرية ـ كما يزعمون ـ لتوظيفه توظيفا علمانيا من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، و أعراف اجتماعية، ولم ينج من غاراتهم تلك حتى القرآن و السنة، إمّا بدعوى بشرية الوحي، أو بدعوى أنه نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة، أو بدعوى أنة مبادئ أخلاقية عامة، أو مواعظ روحية لاشأن لها بتنظيم الحياة، ولا ببيان العلم و حقائقه، ولعل من الأمثلة الصارخة للرافضين للتراث، والمتجاوزين له "أدونيس " و "محمود درويش" و "البياتي " و " جابر عصفور ".
أما الذين يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم "حسن حنفي " و " محمد أركون "و "محمد عابد الجابري " و " حسين أمين " ومن على شاكلتهم، ولم ينج من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع جوانبه.
2- اتهام التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير حضاري، وتفسيره تفسيرا ماديا، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغريبة العلمانية على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائه غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ، وتجاهل مافية من صفحات مضيئة مشرقة، والخلط المعتمد بين الممارسة البشرية والنهج الإسلامي الرباني، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها، والإشادة بها، والثناء عليها، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة والثورة على الظلم مثل "ثورة الزنج"و"ثورة القرامطة" ومثل ذلك الحركات الفكرية الشاذة عن الإسلام الحق، وتكريس أنها من الإسلام بل هي الإسلام مثل القول بوحدة الوجود، والاعتزال وما شابه ذلك من أمور تؤدى في نهاية الأمر إلى تشويه الصور المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة، وأجياله المتعاقبة.(12/143)
3- السعي الدؤوب لإزالة أو زعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم، والمسيرة المؤطرة للفكر والفهم الإسلامي في تاريخه كله، من خلال استبعاد الوحي كمصدر للمعرفة والعلم، أو تهميشه ـ على الأقل ـ وجعله تابعاً لغيره من المصادر، كالعقل والحس، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب، والسخرية من الإيمان بالغيب، واعتبارها ـ في أحسن الأحوال ـ جزء من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية، والترويج لما يسمي بالعقلانية والواقعية والإنسانية، وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل، وكسر الحواجز النفسية بين الإيمان الكفر، ليعيش الجميع تحت مظلة العلمانية في عصر العولمة، وفي كتابات " محمد عابد الجابري " و" حسن حنفي " و" حسين مروة " و" العروي " وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر.
4- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي، والمسيرة للعلاقات الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار والطهر والعفاف وحفظ العهود وطلب الأجر وأحاسيس الجسد الواحد، واستبدال ذلك بقيم الصراع و الاستغلال والنفع وأحاسيس قانون الغاب والافتراس، والتحلل، والإباحية من خلال الدراسات الاجتماعية والنفسية، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية، مما هز المجتمع الشرقي من أساسه، ونشر فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه في تاريخه، ولعل رواية "وليمة عشاء لأعشاب البحر"-السيئة الذكر-من أحدث الأمثلة على ذلك، والقائمة الطويلة من إنتاج"محمد شكري"و"الطاهر بن جلون"و"الطاهر طار"و"تركي الحمد"وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي دورها في هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع، واستبداله بأسس أخرى.
5- رفع مصطلح الحداثة كلافتة فلسفية اصطلاحية بديلة لشعا ر التوحيد، والحداثة كمصطلح فكري ذي دلالات محددة تقوم على مادية الحياة، وهدم القيم والثوابت، ونشر الانحلال والإباحية، وأنسنة الإله وتلويث المقدسات، وجعل ذلك إطارا فكرياً للأعمال الأدبية، والدراسات الاجتماعية، مما أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري الثقافي.
6- استبعاد مقولة الغزو الفكري من ميادين الفكر والثقافة، واستبدالها بمقولة حوار الثقافات، مع أن الواقع يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية قائمة لا يمكن إنكارها كإحدى مظاهر سنة التدافع التي فطر الله عليها الحياة، وأن ذلك لا يمنع الحوار، لكنها سياسة التخدير والخدع والتضليل التي يتبعها التيار العلماني، ليسهل تحت ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني، بعد أن تفقد الأمة مناعتها وينام حراس ثغورها، وتتسلل في أجزائها جراثيم وفيروسات الغزو العلماني القاتل.
7- وصم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري، عبر غوغائية ديماغوجية إعلامية غير شريفة، ولا أخلاقية، لتخويف الناس من الالتزام بالإسلام، والاستماع لدعاته، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء ـ وأحياناً الفظيعة ـ من بعض المنتمين أو المدعين إلى الإسلام، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب العلماني الذي يمارس على شعوب بأكملها، وعبر عقود من السنين، لكنه عدم المصداقية والكيل بمكيالين، والتعامي عن الأصولية والنصرانية، واليهودية، والموغلة في الظلامية والعنصرية والتخلف.
8- تمييع قضية الحل والحرمة في المعاملات والأخلاق، والفكر والسياسة، وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها، واستخدام هذه المفاهيم في تحليل المواقف والأحداث، ودراسة المشاريع والبرامج، أي فك الارتباط بين الدنيا والآخرة في وجدان وفكر وعقل الإنسان، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير من جوانب الحياة الذي يعجب له من نور الله قلبه بالإيمان، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
9- دق طبول العولمة واعتبارها القدر المحتوم الذي لا مفر منه ولا خلاص إلا به، دون التمييز بين المقبول والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية، بل إنهم لَيصرخون بأن أي شيء في حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل دون التفريق بين الثوابت والمتغيرات مما يؤدي إلى تحويل بلاد الشرق إلى سوق استهلاكية لمنتجات الحضارة الغربية، والتوسل لذلك بذرائعيه نفعية محضة لا يسيرها غير أهواء الدنيا وشهواتها.
10- الاستهزاء والسخرية والتشكيك في وجه أي محاولة لأسلمة بعض جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد والإعلام والقوانين، وإن مرروا هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق الإنسان وحرياته، ونسوا أو تناسوا الشعوب التي تسحق وتدمر وتقتل وتغصب بعشرات الآلاف، دون أن نسمع صوتاً واحداً من هذه الأصوات النشاز يبكي لها ويدافع عنها، لا لشيء إلا أن الجهات التي تقوم بانتهاك تلك الحقوق، وتدمير تلك الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك المصالح الغربية.(12/144)
11- الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية، وبخاصة في الفن والرياضة وشركات الطيران والأزياء والعطور والحفلات الرسمية و الاتكاء القوي على قضية المرأة، ولكن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية، ومنطلقات عقائدية، وفلسفة خاصة للحياة، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضة المرأة، والسعي لنزع حجابها، وإخراجها للحياة العامة، وتعطيل دورها الذي لا يمكن أن يقوم به غيرها، في تربية الأسرة ورعاية الأطفال، وهكذا العلمانيون يفلسفون الحياة. يعطل مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة، ويستقدم مئات الآلاف من العاملات في المنازل لتسد مكان المرأة في رعاية الأطفال، والقيام بشؤون المنزل، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة، فما المبرر لمزاحمتها للرجل في كل موقع.
12- الاهتمام الشديد والترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية في الاجتماع والأدب، وتقديم أصحابها في وسائل الإعلام، بل وفي الكليات والجامعات على أنهم رواد العلم، وأساطين الفكر وعظماء الأدب، وما أسماء " دارون " و " فرويد " و " دوركايم " وأليوت وشتراوس وكانط " وغيرهم بخافية على المهتم بهذا الشأن، وحتى أن بعض هؤلاء قد تجاوزه علمانيو الغرب، ولكن صداه مازال يتردد في عالم الأتباع في البلاد الإسلامية.
http://www.olamaalsha r eah.net المصدر:
=============(12/145)
(12/146)
دعاة من جلدتنا
أحمد محمد الفضيل
أنزل الله الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى وفرقاناً ورحمة لقوم يوقنون، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ففتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وبدد بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، حتى أمسى شرك الجاهلية وضلالها أسطورة غابرة، وأضحت عبادة الأصنام في ميزان المسلم إفكاً قديماً، ويعجب المسلم - فيما يعجب - من سخف المشركين من قولهم في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك!)[1].
سبحان ربي! كيف سوغ الشيطان هذا السخف لأوليائه، وزين لهم ما كانوا يفترون؛ وصدق الله (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ ومَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ ولِياً مُّرْشِداً) [الكهف: 17].
غير أنه يجب أن نذكر دائماً أن الابتلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين الإنس والجن مشمرون في ترويج الضلال، حتى زخرفوه بكل حلة، وروجوا له بكل لسان: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً شَيَاطِينَ الإنسِ والْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام: 112].
ومن الواجب كذلك أن نتتبع طرق الغي بالتحذير منها، وكشف مراميها وأبعادها وسد السبل على دعاتها؛ حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم، وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين، أو كيد الحاقدين.
ولقد شاعت في دنيا المسلمين فلسفات وأنظمة؛ خدعت الكثير منا ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت العقول، واستحوذت على الأفكار، ووراء ذلك كله داء دوي، ونار - لو قُدر لها أن تنتشر - لم تأتِ على شيء إلا جعلته كالرميم.
وكان المسلمون قبلها يتلون كتاب الله، ويتدبرون آياته، ولا يخالج أحداً منهم شك في حق التشريع ولا ريب؛ فالتشريع كله - الحلال والحرام والسياسة ونظم المجتمع - كله لله، حقاً خالصاً من أخص خصائص الألوهية، كما أن الإقرار به أول طريق العبودية، وكان المسلمون يعلمون كذلك أن كل سلطان أو إمارة في دولتهم إنما يكتسب المشروعية، ويأخذ حق الطاعة من الله - سبحانه - فلا سلطان ولا طاعة ولا ولاء إلا لله وأمر الله ودين الله، وكل سلطة من غير هذا السبيل فإنما هي خروج عن التوحيد: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31].
وما كان اتخاذهم أرباباً، ولا كانت عبادتهم إلا طاعتهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء: 60].
وأعظم الناس منزلة عند الله أنبياؤه ورسله، إنما بلغوا هذه المنزلة السامية بتمام عبوديتهم، وكمال خضوعهم لله: (ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً - سبحانه - بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء: 25-27].
والنبي بريء من كل دعوى تخالف عبوديته، كما في قول عيسى - روح الله وكلمته - لربه: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ) [المائدة: 117].
إذن فالأمة كلها - حاكماً ومحكوماً وأميراً ومأموراً، وبشتى طبقاتها -ليست إلا مخلوقة لله، مربوبة مستعبَدة، والأمر كله لله: (ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة: 5].
ثم تسرب إلينا الفكر الصليبي اللاديني [2]، حاملاً معه خلفيات المعركة التي استعرت في أوربا بين كنيسة ضالة خانت الأمانة، وسخرت تعاليم السماء لأحط غرائز الأرض، وبين الشعب الذي لم يَرَ في هذه الكنيسة سوى عقبة تحول دون انطلاقه وتحرره، وتسومه سوء العذاب، ودخل عالم المسلمين تعبيرات جديدة: سيادة الأمة، حكم الشعب للشعب، الشعب مصدر السلطات، الدين لله والوطن للجميع، وتضاربت الأقوال حول هذه المستجدات المصدّرة، وتباينت كذلك المواقف، ووقف رجال لم تخنهم البصيرة، ولم ينقصهم الإخلاص وسط هذه الزلزلة، وجهروا بالحق لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بينما تحرك الكثيرون ممن كانوا يحتلون مواقف القيادة الفكرية؛ لينخرطوا في اللعبة الجديدة، ودون أن يتفوهوا بكلمة واحدة.(12/147)
ولم يكد رواد العلمانية (اللادينية) ودعاتها يطلقون الطلقة الإعلامية الأولى ضد الدولة الدينية، والحكومة الدينية، والحرب الدينية؛ حتى تحمس الكثير من الكُتاب، لا ليدفعوا عن أنفسهم الصبغة الدينية، بل ليقرروا للناس أن الإسلام برىء من كل دولة دينية وحكومة دينية، ومن كل ما هاجمه اللادينيون أو وصموه! وخرج من صفوف المسلمين بعد ذلك أناس حملهم الإخلاص وحفزتهم الغيرة، يدعون المسلمين للخروج من الأساليب التقليدية، والتحرر من القوقعة والجمود، وطلب هؤلاء من المسلمين أن يحافظوا على النظام الديمقراطي العلماني مادام يكفل لهم حرية الدعوة والحركة، بل رأوا أن من الواجب أن يساهم المسلمون في إقامة هذا النظام إذا لم يكن قائماً، وكان ذلك من دعاة غيورين، يتألمون لتقصير المسلمين، مع أنهم يعلمون أن حرية الأنظمة اللادينية إنما هي حرية مقنّنة مبرمجة، وأن الكل متفق على وجوب اتباع سياسة القهر والإذلال للدعاة، والوقوف في سبيل الدعوة، ولكن في الوقت المناسب، والشكل المناسب! ! ! لقد ثارت أوربا لتدفع اضطهاد الذين حكموها باسم الله، وزعموا للشعب أنهم ظل الله، وسلطانه على الأرض.
وحمل الإنسان الأوربي في أعماق شعوره حساسية مدمرة ضد كل ما هو ديني، أو يمُت للدين.
ثم انتقلت عدوى هذه الحساسية المدمرة إلى حس رواد وأتباع اللادين في عالمنا! وإنما يهمنا في الدرجة الأولى أن يستيقظ المسلم المخدوع بهذه الشعارات، والمنوم ببريقها، نريد أن يعلم المسلم حقيقة التناقض العقَدي بين التوحيد الذي يحمله في قلبه - ثم لا يمنعه ذلك أن يسير خطوات بعيدة في سبيل غير سبيله - وبين الفلسفة الكافرة التي أنشأها وصنعتها، ونحن مع الذين يستنكرون الاستغلال بكل أنواعه في استنكارهم دون أن يكون هذا الاستنكار وسيلة تحمل المسلم على التخلي عن إيمانه.
وأما الدساتير التي صُدّرت إلينا فهي نسخة عن دساتير أوربا التي تقول: ( دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)، قد يضاف إلى بعض الدساتير عبارة تناسب عواطف الشعوب المسلمة، حيث يقال لها إن الإسلام دين الدولة، أو أن الشريعة مصدر القوانين.
وستجد مَن يوضح لك أن الشعب مصدر السلطات التي ليس فيها حكم شرعي، فسلطانه خارج دائرة سلطة الشريعة! !، ومع أن كلمة (الشعب) تتسع لتشمل كل النوعيات الهابطة والرفيعة، من ذوي الاختصاص والعلم، وأهل الرعونة والطيش؛ فإنك تجد في نص الدستور أن من حق الأغلبية تغيير مواد الدستور، من خلال القنوات الرسمية؛ باعتبار الأغلبية تمثل رأي الشعب، إذن فعندما يقرر الشعب نظرياً - أو الذين يحكمون باسم الشعب - أن يغيروا المظاهر الإسلامية في الدستور يكون هذا التغيير دستورياً وصحيحاً، ولا معنى للاعتراض عليه.
وإذا لاحظنا أن عبارة (الإسلام دين الدولة) عبارة طارئة على النظام اللاديني (الديموقراطي) ودخيلة عليه، ومتناقضة معه، وأن المعاني التي تحملها هي أقل مواد الدستور قوة وتأثيراً ودواماً، بينما اعتبار الشعب مصدرا للسلطات، إنما هو جوهر الديموقراطية - علمنا من ذلك أن اعتبار الإسلام ديناً للدولة لم يأتِ استمداداً من أمر الله وسلطانه، بل هو مستند إلى سلطان الشعب ورأيه؛ وبذلك يجعلون سلطان الله - تعالى - محكوماً بسلطان الشعب ومستمداً منه، وبينما كانت تلبية الجاهلية تضع سلطة أصنامها - نظرياً - دون سلطة الله؛ إذا بالجاهلية الصليبية الحديثة تريد أن تخادعنا عن ديننا، وتقودنا إلى جاهلية أشد ضلالاً وانتكاساً من الجاهلية البائدة، فهل يتنبّه المسلمون لحقيقة الفتنة التي ذر قرنها في ديارهم، وهل يعيدون الوحدة المفقودة بين العقيدة الإسلامية، والأصول العلمية والسياسية، وبين المنهج الرباني في الحركة والتطبيق؛ ليعود الإيمان وحدة متكاملة في الاعتقاد والعلم والعمل؟ !
__________________
(1) وردت هذه التلبية حكاية في حديث متفق عليه.
(2) وهو ما يُدعى بالفكر العلماني!.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
===========(12/148)
(12/149)
المتصهينون العرب الجدد
طلعت رميح
30 ربيع الأول 1426هـ الموافق له 9 مايو 2005م
قبل أن أُدعى للمشاركة في برنامج الاتجاه المعاكس حول ظاهرة 'الليبراليين العرب الجدد'؛ لم أكن أدرك حجم الخطر الذي يمثله هؤلاء على الأمة، كنت من قبل أكتفي بمتابعة بعض ما يكتبونه بين الحين والآخر دون يقظة كافية بأنهم يتحولون إلى تيار في المنطقة العربية، وكان الأمر يبدو لي أن ما يجري ليس أكثر من أقلام تنفث سموماً - وكم من الأقلام التي تؤدي مثل هذا الدور -، كنت لا أعير الأمر كثير اهتمام، إذ في مثل هذه الفترة الحرجة التي تعيشها الأمة الإسلامية؛ من الطبيعي أن تظهر أقلام مرتبكة أو مهزوزة أو ضعيفة، أو نافثة للسم في أفئدة وعقول المواطنين بوعي أو بدون وعي.
لكن ما إن شرعت في البحث في هذه الحالة حتى وجدت أن الأمر جد خطير، ولكثرة ما قرأت وتابعت ودققت كان الهاجس الأخطر الذي وجدت نفسي مضطراً لمواجهته هو قضية التوصيف، كيف أصف هؤلاء؟ هم سموا أنفسهم الليبراليين الجدد، وقيل عنهم إنهم الليبراليون العرب الجدد - كما وصفهم الدكتور فيصل القاسم - لكني وجدت أن الأمر أخطر بل هو مرعب، وكان توصيفي لهم هو: المتصهينون العرب الجدد.
ومن هنا نبدأ، كيف يكون هناك عرب ومتصهينون؟ وكذا لم أضفت كلمة الجدد؟
متصهينون وعرب وجدد!
كما أن العربي يصنف بإسلامي أو قومي أو وطني في التوصيف العقدي أو السياسي فمن الممكن أيضاً أن يكون هناك عربي ومتصهين، مثلاً: كيف نسمي الشخص العربي الذي ينطق العربية أو من أب وأم عربيين، بينما هو عضو في حزب الليكود أو العمل؟ هو متصهين حتى وإن كان ناطقاً بالعربية أو من أصل عربي، وكذلك فكما هو معروف، فإن هناك لوبياً صهيونياً في أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا، بعضهم من غير اليهود أو هم من الأمريكيين أو البريطانيين والفرنسيين ومن ثم فمن الممكن أن يكون هناك عربي ومتصهين، وأيضاً تجوز التسمية نظراً لأن الصهيونية نمط من التفكير، وحركة عنصرية يمكنها أن تجذب أفراداً من كل جنسية من الذين يكرهون أمتهم.
أما لماذا سميتهم بالجدد فذلك لأن هناك من تصهينوا من قبل في المنطقة - مع اختلاف الدور والمهمة والوظيفة -، وهو ما تم كشفه في تلك المرحلة عندما لاقوا مقاومة عنيدة من إسلاميين، ومن أصحاب آراء أخرى قومية ووطنية، وصفوهم باللوبي الصهيوني في معارك سياسية، وبعدما وصلت الأمور إلى المحاكم في بعض الأقطار العربية... إلخ.
وتعبير 'جديد' هنا لا يمثل محاولة لتمييز جيل جديد عن الجيل القديم فقط، ولكنه يعود بالأساس إلى أن دور المتصهينين العرب الجدد دور جديد مقارنة بالقدامى، وأنهم بالفعل يطرحون مشروعاً جديداً.
فإذا كان المتصهينون العرب القدامى يلعبون دورهم بصورة 'متخفية'، ويمارسون التخريب المستتر من خلال طرح شعارات التعاون مع 'حركات سلام داخل الكيان الصهيوني'، أو من خلال تخريب المقدرات الأساسية الداخلية للمجتمعات العربية والإسلامية على المستويات الاقتصادية أو السياسية إلخ، فإن المتصهينين العرب الجدد صاروا يطرحون مشروعاً صهيونياً متكاملاً، كما صاروا يعملون جهاراً لخدمة الحركة الصهيونية وبلا مواربة، وكذا أن نشاطهم التخريبي لم يعد مقتصراً على العمل المستتر أو المموه في السياسة - كما كانوا في البداية حينما تبنوا مقولات تتحدث عن عدم موائمة العمليات الاستشهادية للمصلحة العربية، أو بالحديث عن عدم وجود توازن قوى يسمح بالعمل المسلح ..إلخ -، بل باتوا يسفرون عن وجههم في الحركة والنشاط والكتابة، كما باتوا بشكل سافر يهاجمون الإسلام، ويطعنون في العقيدة بشكل مباشر، وهي حالة جديدة وصلوا إليها بالعمل تحت الحماية المباشرة للجيش الأمريكي بعد احتلال العراق، وبسبب حالة ضعف أنظمة الحكم العربية والإسلامية.
كيف جرى وصفهم من قبل؟(12/150)
واقع الحال أن هؤلاء قد جرى وصفهم بأوصاف متعددة ومتنوعة، فهناك من وصفهم 'بأنهم الليبراليون المعدلون وراثياً الذين تم إنتاجهم وتعديل أدمغتهم في مختبرات وزارة الدفاع الأمريكية'، وقيل إنهم 'يقدمون نصائح مجانية لأمريكا، وأنهم مبشرون بالإصلاح على الطريقة الأمريكية'، وقيل إنهم 'أصحاب إيديولوجية تعتمد المخادعة، واتباع نهج المغالطات التاريخية المراد ترسيخها في ذاكرة المتلقي'، وقيل إنهم 'فئة نذرت نفسها لخدمة الشيطان، ووصل الحد ببعض منهم أن يرقصوا ويشربوا الأنخاب على مشاهدة صواريخ توما هوك تنزل على عاصمة الرشيد، ويشبهوا أصوات تلك الصواريخ بموسيقى بتهوفن'، وقيل إنهم 'عدميون جدد ليس لديهم إطلاقاً سوى الهدم والتخريب الفكري والأيديولوجي وجلد الذات'، وقيل إنهم 'مخبرون على كبر'، وإنهم 'حفنة من العملاء'، وقيل إنهم 'يشوشون ويشوهون جهود المثقفين العرب الوطنيين من ليبراليين وإسلاميين وديموقراطيين' وإنهم 'مثقفون أمريكيون من أصول عربية وإسلامية، تحولوا إلى متعهدين لتسويق أفكار هي في جوهرها من إفراز اليمين المحافظ في الولايات المتحدة'، وقيل إنهم بمثابة 'الواقي الذكري للاحتلال في العراق'، وإنهم 'قوم انسلخوا من دينهم وأمتهم وحتى عروبتهم وأصبحوا مجرد طابور خامس للغازي الأمريكي، يروجون لمشروعه، ويمهدون العقول له، ويدافعون عن جرائمه - خابوا وخسئوا -، وقيل إنهم 'يشبهون الإيدز الفكري الذي يدمر جميع الثوابت الفكرية المناعية الصلبة في الفكر العربي تمهيداً لإعادة تشكيلها في شكل ثقافة استسلام، أو وعي انهزامي بائس حسبما يروم به هوى السيد الأمريكي الصهيو - أمريكي'، وقيل عنهم 'أنهم أشد خطراً على الأمة من أعدائها'، وأنهم كالجنود المرتزقة الذين يعملون ضمن اتفاقيات وعقود مبرمة مع الطرف الأمريكي والإسرائيلي وبعض القوى الدولية - دولية وعربية وإقليمية - والتي تتماشى مع المشروع الأمريكي، لذا فإن همهم الأكبر هو الكسب المادي والوظيفي، وبمعنى آخر فالليبرالي الجديد والذي انغمس في المشروع الأمريكي والإسرائيلي هو كالأجير المؤقت لدى أي مؤسسة حكومية أو أهلية'.
ما هو دورهم تحديداً؟
من يتابع كتابات المتصهينين العرب الجدد يجدهم وبشكل مباشر يوجهون أقلامهم تجاه القضايا التالية:
أولاً: الطعن في الإسلام عقيدة وفقهاً، وحضارة وتاريخاً، سواء كان ذلك بشكل مباشر بالقول إن لا مقدس لا يمكن التفكير فيه بمنطق الصح والخطأ، وأن النص القرآني يجوز التعامل معه كنص تاريخي - والعياذ بالله-، أو كان ذلك بشكل غير مباشر عند بعضهم بالالتفاف حول التفسيرات، أو بالهجوم على كل تفسير صحيح للإسلام، وبشكل خاص للآيات القرآنية التي تتعلق بالجهاد، أو بالمواريث، أو بتعدد الزوجات، أو بقوامة الرجل على المرأة... إلخ.
ثانياً: الطعن في فكرة أننا أمة واحدة سواء على مستوى الفهم الإسلامي، أو حتى على مستوى الفهم القومي، واتهام كل مدافع عن فكرة الأمة بأنه عنصري وفاشي يحمل دعوة عنصرية ضد المجموعات البشرية الأخرى داخل الدول العربية - الأكراد، والبربر، أو الأفارقة - أو أنه يحمل دعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين... إلخ.
ثالثاً: التبشير بنهاية الوطن والوطنية، وأن الوطن لم يعد سوى مساحة جغرافية من الأرض، وأن المواطنين لم يعد يجمعهم سوى بعض الخصوصيات المتآكلة الآن بفعل العولمة، وترويج ما يسمونه الآن 'بالثقافة العالمية' التي يزعمون أنها باتت تحل تدريجياً محل الثقافة المحلية أو الوطنية، سواء كان ذلك انطلاقاً من فكرة زوال الحدود، وسيادة العولمة، أو كان ذلك حسب مفاهيم انتهاء الدولة القومية.
رابعاً: الدعوة بكثافة إلى كل ما يثير الاضطراب داخل المجتمعات الإسلامية والعربية - بتأليب الأعراق والأقليات ضد الأغلبية -، وداخل كيان الأسرة - حقوق المرأة من وجهة النظر العلمانية -، والدفع بالحوار الفكري إلى قضايا تغيير العقيدة - حرية الفكر بالمعنى اللاديني للتفكير -...إلخ.
هذا عن ما يطرحونه أما أهدافهم فالفكرة المبسطة والأولية هي أنهم يؤدون دوراً يعجز عنه الأعداء، أو هم بالدقة يقومون بالدور الذي يعجز عنه أعداء الأمة بقواتهم العسكرية، وبشكل أكثر دقة فهم يقومون بالدور الذي يكمل مهمة الغزو العسكري، حيث الحروب لا تنجح أبداً في تحقيق نتائجها إذا اقتصرت على العمل العسكري - بل حتى العمل العسكري لا يتم دون حرب نفسية -، إذ أن العمل العسكري في حد ذاته لا ينجم عنه إلا هزيمة القوة العسكرية للبلد الذي تجري مهاجمته أو يجري العدوان ضده، وهو أمر لا ينجم عنه هزيمة لإرادة المجتمع.(12/151)
ولذلك هم يركزون هجومهم على المقومات الصلبة لبناء الإنسان من عقيدة وفكر، وكذلك يوجهون هجومهم ضد كل الحركات الجهادية في الأمة، فمن يتابع كتابات هؤلاء المتصهينين العرب الجدد يلحظ أنهم دأبوا وباستمرار على الهجوم العنيف على المقاومة الجهادية المسلحة في فلسطين والعراق وأفغانستان حتى وصل الأمر بأحدهم - كمال غبريال - إلى القول بأن الشعب الفلسطيني سيهزم في النهاية 'الإرهابيين' في فلسطين، وأن الشعب الفلسطيني سينتصر على أمراء الموت، وسيمد أيديه بالسلام إلى جيرانه بدلاً من الأحزمة الناسفة'.
وهم كذلك يصفون المقاومة العراقية بالإرهاب، ويعتبرون أن المعركة الجارية في العراق ليست معركة ضد الاحتلال، وإنما معركة بين الشعب العراقي والإرهابيين، ومن ثم فهم يقومون بدور أخطر من هؤلاء الذين يقومون بدور الطابور الخامس خلف خطوط الدفاع في الأمة، أو بدور الحرب النفسية والتيئيس لعوامل النهوض والمقاومة، أو بدور المروجين للاستسلام للأعداء، حيث إنهم يضربون في صميم عقيدة الأمة وملامح هوية الأمة على جميع الصعد؛ لجعل الإنسان العربي المسلم مجرد إنسان بلا هوية، يسهل تشكيل عقله على هوى المحتل، وذلك هو ما دفع الكثيرين للربط بينهم وبين المحافظين الأمريكيين الجدد الذين يستهدفون فرض القيم الأمريكية على المجتمعات العربية والإسلامية.
كيف نشأ هذا التيار؟
الأصل في مثل هذه التيارات أنها أحد نواتج الغزو الثقافي، أو بالدقة أحد نواتج الحرب على عقيدة الأمة وهويتها وحضارتها، غير أن فكرة الغزو الثقافي الآن لم تعد كما كانت في السابق، مبنية في جانب منها على 'انبهار' بالحضارة الغربية - كما كان الحال في مطلع الغزو العسكري والحضاري الأوروبي لعالمنا الإسلامي -، وكذلك هي لم تعد تتوقف عند حدود العمالة التي تجري على أساس مقايضة المال بالمعلومات كما هو الحال لدى الجواسيس، بل أصبح هناك نمط جديد ظهر بالدرجة الحادة مع العدوان الأمريكي الصهيوني البريطاني على العراق ممثلاً في ارتباط فئات وجماعات بالغازي الاستعماري، يمدها الغازي بالمال أو السلاح أو بكليهما معاً، كجماعات مصالح تمثل مصالحه، أو تحقق له أهدافه الاستراتيجية، أو تعطيه مبررات للتدخل ...إلخ، ويستفيدون هم من وجوده ودوره ودعمه في تشكيل شبكة مصالح خاصة بهم.
ففي الحالة العراقية تشكل نمط خاص كبير من فرق العملاء، هؤلاء ومن أطياف محددة لعبوا الدور الأكبر في التغطية على الاحتلال وجرائمه، وحاولوا أن يعطوه سنداً شرعياً للوجود على أرض أمتنا، في مقابل الحصول على امتيازات في الحكم، وفي تنمية مصالحهم الخاصة، لكن الحال في البلدان الأخرى يأخذ أشكالاً متعددة ومتنوعة أخرى، حيث هناك جيوش من العملاء تجري عملية تربيتهم في المنظمات الممولة أمريكياً وأوروبياً تحت لافتات متعددة ومتنوعة مثل: منظمات الدفاع عن المرأة، ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان... إلخ، ومن هؤلاء المتصهينين العرب الجدد الذين هم أعلى أشكال الارتباط بالأعداء والعمل في خدمتهم حيث هم لا يخوضون معارك ضد أمتهم على مستويات قطاعية أو نوعية - المرأة أو حقوق الإنسان -، وإنما هم يدخلون معارك ضد صلب العقيدة والهوية، وقد كان تمويل مثل هذه الظواهر يجري من قبل في مصر - مثلاً - وفق أنماط من السرية، أو وفق حالات مقننة، حيث كانت الأموال تصل إلى هؤلاء عبر وزارة الشئون الاجتماعية، وخصماً من المعونة المقدمة للحكومة المصرية، إلى أن تطور الأمر بعد احتلال العراق وأخذ مدى أبعد، حيث أصبحت السفارة الأمريكية في القاهرة هي التي تتولى مباشرة عملية تسليم الأموال، وفي احتفالات تدعى إليها مختلف أجهزة الإعلام، ليجري توزيع مبلغ سنوي يتراوح بين 40 و50 مليون دولار سنوياً.
وهناك أشكال أخرى لدعم مثل هذه العناصر المخربة، وفي إطار تحويلهم إلى نخب بارزة إعلامياً، كأن تُدعى مثل هذه الشخصيات إلى مراكز الأبحاث الأمريكية والبريطانية، والفرنسية والصهيونية؛ لإلقاء محاضرات في رحلات تدوم لنحو 3 و6 أشهر مثلاً، يتم خلالها تكثيف الضوء الإعلامي عليهم خلالها، كما يعود كل منهم من رحلته بأموال لا حصر لها ولا حد، كما أن هناك إتاحة مساحات للكتابة لأفراد من هؤلاء مع دفع مقابل مالي كبير يفهم منه الممنوح للمال دوره ليكثر منه، وكلما أكثر وأجاد حصل على مال وشهرة أضخم وأكبر، وفي كل ذلك فالأهم أن كل هؤلاء باتوا يحظون بحماية أمريكية داخل البلاد العربية والإسلامية، بما يجعل الحكومات غير قادرة على المساس بهم مهما فعلوا أو قالوا، وهو نمط جديد مختلف عما عرفته المجتمعات العربية وهي تحت الاحتلال، حيث كان النمط السائد هو حماية الأجنبي ومحاكمته وفق قوانين بلده الأصلي، وأمام محاكم مشكله من أبناء جلدته - المحاكم المختلطة -، أما الآن مثل هؤلاء الأشخاص إما باتوا محميين بالجنسية الأمريكية، أو هم محميون بالضغوط الديبلوماسية والإعلامية الأمريكية.
الصهيونية وهؤلاء الفكرة واحدة!(12/152)
قامت الصهيونية من حيث الجوهر في الترويج لاحتلال الأرض الإسلامية في فلسطين على فكرة أن تلك الأرض بلا شعب، وأن الأصل فيها أنها عبر التاريخ هي أرض ذات هوية تاريخية 'يهودية'، أما هؤلاء فيقولون: إن بلاد العرب والمسلمين الأرض والشعوب بلا هوية لا دينية، ولا حضارية، ولا ثقافية، ولا قومية، ولا حتى وطنية، وهنا تأتي خطورة الطعن في الإسلام عقيدة وحضارة وتاريخاً، إذ كما يقال إنها ليست أكثر من إنهاء هوية وحقوق طرف أمام طرف آخر، حيث تترافق جهودهم مع تصاعد في تشدد وتطرف الكيان الصهيوني، ولذلك مثلاً هم يطالبون بمحاكمة د.يوسف القرضاوي والراحل الشيخ محمد الغزالي، وقدموا لذلك عريضة إلى مجلس الأمن الدولي جمعوا عليها تواقيع من أمثالهم، في الوقت الذي لم يحركوا ساكناً - ربما هم يدعمون - أقاويل حاخام يهودي آثم مثل عوفاديا يوسف الذي وصل العداء به للإسلام وللعرب أن وصفهم بنماذج همجية من البشرية، وأنهم 'صراصير وأفاعٍ يجب إبادتهم وقتلهم بالصواريخ'.
وكذلك إذا كان الأخطر على الحركة الصهيونية الآن هو المقاومة الجهادية المرتكنة إلى الإسلام عقيدة ومنهجاً، فإن هؤلاء وجهوا فوهات هجومهم ضد هذه الحركات الجهادية تحديداً، وأيضاً هم يدعون إلى مسالمة الأعداء في فلسطين والعراق، ويرون أن الاحتلال شرعي، وأن معركة الشعوب هي مع الحركات الجهادية لا مع الاحتلال.
المصدر : http://www.islammemo.cc/taq r e r /one_news.asp?IDnews=422
============(12/153)
(12/154)
موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية
محمد المصري
من أجل بيان موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية [1] هناك كلمة لا نحسب أنها تغيب عن ذهن القارئ الواعي بأمر هذا الدين، وإن كنا نخشى أن تكون قد تاهت -أو توارت- أثناء الصراع الدائر بين أهل السنة والجماعة والفرق المختلفة الضالة التي تنتسب لهذا الدين.
إن أحد التحديات الخطيرة -إن لم تكن أخطر هذه التحديات على الإطلاق- والتي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر لَهِي إسقاط اللافتات الزائفة وكشف المقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية الكافرة التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.
ولفضح العلمانية ومواجهتها لابد أولاً أن يصل أمر المواجهة إلى المستوى المطلوب من الوضوح في نفوس أهل السنة..
فإنه بدون هذا الوضوح تعجز تجمعات أهل السنة -ويعجز علماؤها- عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة، وتتأرجح هي أمام التجمعات الجاهلية -ومنها العلمانية-، حيث تحسبها تجمعات ليست بكافرة، وبالتالي تفقد تجمعات أهل السنة أهدافها الحقيقية بفقدانها لتحديد نقطة البدء في مواجهة هذه التجمعات الجاهلية من حيث تقف هذه التجمعات الجاهلية فعلاً، لا من حيث تزعم، والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع..
بعيدة جداً.
لابد من توضيح للحقائق وتحديد للمفاهيم: ونظراً لما أصاب كثيراً من التصورات الإسلامية من انحراف وغبش في أذهان الناس في هذا العصر، ولما يثيره أعداء الإسلام -الظاهرون منهم والمتسترون- من شبهات وأباطيل، فإن من الضروري أن يقوم أهل السنة والجماعة بتجلية تلك التصورات، وكشف هذه الشبهات في كلمة موجزة عن حقيقة العلمانية الكافرة، وبيان أن التوحيد الذي هو أعظم حقيقة في التصور الإسلامي - بل في الوجود كله- هو في الوقت ذاته أكبر نقيض للعلمانية.
ومن ثَم كان لابد من معرفته حق المعرفة والتأكيد عليه في جميع مراحل الدعوة إلى الله، مع بيان سبيل إحياء الأمة في التمسك واتباع مناهج وأصول أهل السنة والجماعة، وإذا كان معنى (لا إله إلا الله) الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وخير تعريف للطاغوت مما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله -: » الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله « [2].
فإننا نستطيع القول بأن الشرك -الذي ظل عبر التاريخ محور الصراع بين الأمم والرسل- هو عبادة الطاغوت مع الله أو من دونه في أمرين متلازمين:
أ - الإرادة والقصد. ب- الطاعة والاتباع.
أما شرك الإرادة والقصد:
فهو التوجه إلى غير الله - تعالى -بشيء من شعائر التعبد، كالصلاة والقرابين والنذور والدعاء والاستغاثة تبعاً للتبريرات الجاهلية المردودة القائلة: (مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر: 3]، وطاغوت هذا النوع قد يكون صنماً أو وثناً أو ميتاً أو جنيَّاً أو شيخاً..
الخ.
وأما شرك الطاعة والاتباع: فهو التمرد على شرع الله - تعالى -، وعدم قبول حكمه وتحكيمه في شؤون الحياة بعضها أو كلها.
وهو مفرق الطريق بين الإسلام والجاهلية، بين الإيمان والكفر، كما أنه السمة المشتركة بين الجاهليات كلها على مدار التاريخ، وبه استحقت أن تسمى جاهلية مهما بلغ شأنها في الحضارة والمعرفة، (أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة: 50].. (أَم لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) [الشورى: 21]، وطاغوت هذا النوع قد يكون زعيماً أو حاكماً أو كاهناً، أو قد يكون هيئة تشري عية أو أنظمة وأوضاع وتقاليد وأعراف، أو مجالس نيابية وبرلمانات وقوانين ودساتير وأهواء... الخ.
والواقع أن كلا النوعين من الشرك مردهما إلى أصل واحد وهو: تحكيم غير الله والتلقي عن غيره، فإن مقتضى تحكيمه وحده ألا تتوجه البشرية إلى غيره بأي نوع من أنواع العبادة والقربات، وألا تتوجه وتسير في حياتها كلها إلا وفق ما شرع لها في كتبه وعلى لسان رسله: (إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 40]، فرد الأمر كله إلى الله واتخاذه وحده حكماً في كل شيء هو بعينه العبادة التي أمر الله ألا يصرف شيء منها لغيره، وهذا هو ذات الدين القيم الذي لا يرضى الله - تعالى -سواه، وإن جهله أكثر الناس على مدار التاريخ.
إذا تقرر هذا، فكل ما يجابه هذه الحقيقة أو جزءاً منها فهو طاغوت في أي صورة كان، وفي أي عصر ظهر، ولا يكون الإنسان -فرداً أو مجتمعاً- شاهداً ألا إله إلا الله حقيقة إلا بالكفر بالطاغوت والبراءة منه وأهله.(12/155)
لابد من عبودية إما لله وإما لغيره: قال ابن تيمية - رحمه الله - في رسالة العبودية: » إن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما، فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله « [3] وكل عبودية لغير الله كبرت أو صغرت هي في نهايتها عبادة للشيطان، (أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [يس: 60، 61]، يشمل ذلك العرب الذين قال الله - تعالى -فيهم: (إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ إنَاثاً وإن يَدْعُونَ إلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً) [النساء: 117]، ويشمل كذلك كل عبادة لغير الله على مدار التاريخ.
لقد تغيرت ولاشك بعض مظاهر العبادة فلم يعد هناك تلك (الإناث) التي كان العرب في شركهم يعبدونها ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الإناث القديمة أوثان أخرى، الدولة والزعيم والمذهب والحزب والقومية والعلمانية والحرية الشخصية والجنس... الخ.
عشرات من الإناث الجديدة غير تلك الإناث الساذجة البسيطة التي كان يعبدها العرب في الجاهلية، تضفي عليها القداسات الزائفة، وتُعبد من دون الله، ويُطاع أمرها في مخالفة الله وفي تغيير خلق الله، وما تغيرت إلا مظاهر العبادة (تطورت)! ! ولكن الجوهر لم يتغير، إنه عبادة الشيطان.
وعلى ضوء هذا الفهم الإجمالي لمعنى الطاغوت والعبادة يتضح لنا المعنى الحقيقي لشهادة (لا إله إلا الله) الذي هو -كما سبق-: الكفر بالطاغوت، وإفراد الله - تعالى -وحده بالعبادة.
وانطلاقاً من هذا المفهوم -الذي يعتبر في حقيقة الأمر من المعلوم من الدين بالضرورة عند أهل السنة والجماعة-؛ نستطيع أن نرى حكم الإسلام في العلمانية بسهولة ووضوح ونستطيع أن نصل بالقضية إلى المستوى المطلوب من الحسم والوضوح في نفوس أهل السنة اللازمين لفضح العلمانية ومواجهتها..
إن العلمانية باختصار: نظام طاغوتي جاهلي كافر، يتنافى ويتعارض تماماً مع شهادة (لا إله إلا الله) من ناحيتين أساسيتين متلازمتين:
أولاً: من ناحية كونها حكماً بغير ما أنزل الله.
ثانياً: من ناحية كونها شركاً في عبادة الله.
إن العلمانية تعني -بداهة-: الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعة الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة والاتباع من طواغيت أخرى من دون الله، فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين، ومن ثم فهي -بالبديهة أيضاً- نظام جاهلي، لا مكان لمعتقده ولا لنظامه ولا لشرائعه في دائرة الإسلام، بل هو كافر بنص القرآن الكريم: (ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) [المائدة: 44]، فهل يبقى بعد هذا مجال للشك أو التردد في الحسم والوضوح اللازمين في نفوس أهل السنة اليوم تجاه العلمانية؟ الحق أنه لا مجال لشيء من ذلك، ولكن الغياب المذهل لحقائق الإسلام من العقول والقلوب، و الغبش الكثيف الذي أنتجته الأفكار المنحرفة؛ هذا وذاك هما اللذان يجعلان كثيراً من الناس يثيرون شبهات متهافتة لم تكن لتستحق أدنى نظر لولا هذا الواقع المؤلم.
فمن هذه الشبهات: استصعاب بعض الناس إطلاق لفظ الكفر أو الجاهلية على من أطلقهما الله - تعالى -عليه من الأنظمة والأوضاع والأفراد، بذريعة أن هذه الأنظمة -لاسيما العلمانية الديمقراطية- لا تنكر وجود الله، وبذريعة أن هذه الأنظمة العلمانية الديمقراطية لا تمانع في إقامة شعائر التعبد، وبحجة أن بعض أفراد الأنظمة العلمانية الديمقراطية يتلفظون بالشهادة، ويقيمون الشعائر من صلاة وصيام وحج وصدقة، ويحترمون من يسمونهم برجال الدين (! )، ويحترمون المؤسسات الدينية.. الخ.
وفي ظل هذه الشبهات المتهافتة المردودة يستصعب بعض الناس - ومنهم للأسف الشديد بعض من يرفع راية الدعوة الإسلامية اليوم- القول بأن الأنظمة العلمانية الديمقراطية أنظمة كافرة جاهلية، وأن المؤمنين بها المتبعون لها جاهليون؟ ومن الواضح أن الذين يلوكون هذه الشبهات لا يعرفون معنى (لا إله إلا الله)، ولا مدلول (الإسلام)، وهذا على فرض حسن الظن بهم، وهو ما لا يجوز في حق كثير من المثقفين، وبالذات بعض الذين يرفعون راية الدعوة الإسلامية اليوم ويتعللون بهذه العلل الواهية.
إن تاريخ الدعوة الإسلامية وصراع أهل السنة والجماعة المرير عبر القرو ن، وإن القرآن الكريم كله من أوله إلى آخره ومثله السنة المطهرة لتقطع الطريق على هذه الشبهة وقائليها.
هل تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه العنت والمشقة والحرب والجهاد ثلاثاً وعشرين سنة متوالية؟، وهل نزل القرآن الكريم موجهاً وآمراً وناهياً طوال هذه السنين من أجل أن يقول الجاهليون باللسان فقط..(12/156)
لا إله إلا الله، ويقيموا الشعائر التي يمن دعاة العلمانية على الله أنهم يسمحون بها؟ ! ! وما الفرق بين قول قريش: (يا محمد: اعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة)، وبين قول العلمانيين -لفظاً أو حالاً-: نعبد الله في المسجد، ونطيع غيره في المجالس التشريعية والبرلمان وفي القضاء والتجارة والسياسة؟ أهو شيء آخر غير أن قسمة أولئك زمنية، وقسمة هؤلاء مكانية أو موضوعية؟ يقول ابن كثير - رحمه الله -في تفسير قوله - تعالى -: (أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ): » ينكر الله - تعالى -على من خرج عن حكم الله المُحْكم، المشتمل على كل خيرٍ، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم (الياسق) - وهو عبارة عن: كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكِّم سواه في قليل ولا كثير « [4].
وبناء على ما سبق يتضح أن تلك الشبهة، شبهة التلفظ بالشهادة وإقامة بعض الشعائر لا وزن لها ولا اعتبار، ذلك لأنه بعد أن نجحت الجاهلية -مؤقتاً- في تنحية شرع الله من أن يحكم حياة المسلمين في ديارهم، وحاول أعداء الإسلام إخراج المسلمين عن أصل دينهم إلى المذاهب الإلحادية والمادية، وبعد أن فشلوا في تنفيذ هذا المخطط وأصابهم اليأس من ذلك لجأوا -بعد التفكير والتدبير- إلى ما هو أخبث وأخطر؛ لجأوا إلى: اصطناع أنظمة تحكم بغير ما أنزل الله، وفي الوقت نفسه هي تدعي الإسلام وتظهر احترام العقيدة، فقتلوا إحساس الجماهير، وضمنوا ولاءها، وخدَّروا ضميرها، ثم انطلقوا يهدمون شريعة الله في مأمن من انتفاضتها.
ولذلك لا يجرؤ أرباب هذه الأنظمة العلمانية الديمقراطية على التصريح بأنهم ملحدون أو لا دينيون، أو أنهم ضد شريعة الله، بينما يصرحون -مفتخرين- بأنهم ديمقراطيون مثلاً.
وتبلورت مقالات العلمانيين وأفكارهم التي تعبر في جوهرها عن حقيقة الجاهلية، ولكنها وبخبث شديد وتدبير محكم تحاول أن تنتسب إلى الدين بتبجحٍ غريب ومكرٍ وضيع، وذلك حتى لا ينفر من هذه الأفكار جمهور المسلمين، فهم يريدون أن تسري العلمانية ببطء في عقول ونفوس جمهور المسلمين سريان السم البطيء الذي يودي بحياة صاحبه دون أن يتنبه له جسده.
أنواع من الجاهليات: وهذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقفنا، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك يجب أن نعلم أن الجاهلية بعضها يتمثل في إلحاد بالله - سبحانه - وإنكار لوجوده..
فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين، وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله - سبحانه - وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم..
وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله - سبحانه - وأداء للشعائر التعبدية، مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، ومع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم (مسلمين) من العلمانيين، ويظنون انهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية، مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين، ومع استسلامهم لغير الله من العبيد..
وكلها جاهلية.. وكلها كفر بالله كالأولين.. أو شرك بالله كالآخرين.
والعلمانية الديمقراطية تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمره، وتجعل الشريعة والتعامل لغير الله وفق أمر غيره.. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله.
لأن الدارس لعقائد الجاهلية العربية يجد -من أول وهلة- أنها لم تكن تنكر وجود الله أبداً، بل كانت توحده في معظم أفعاله - تعالى -، كالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة، (ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [لقمان: 25].
وكانوا يقرون بمشيئة الله النافذة في الكون وقدره الذي لا يرد؛ (سَيَقُولُ الَذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا ولا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ) [الأنعام: 148]، وأنه يدبر الأمر، (ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) [يونس: 20]..
وكانوا يؤمنون بالملائكة، (وَقَالَ الَذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ) [الفرقان: 31].(12/157)
وكان منهم من يؤمن بالبعث والحساب، كقول زهير: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم حساب، أو يعجل فينقم [5] وكذلك كان لدى الجاهليين العرب بعض الشعائر التعبدية، منها: تعظيم البيت الحرام، وطوافهم حوله، ووقوفهم بعرفات، وتعظيم الأشهر الحرام.
وكذلك ذبحهم ونذرهم لله كما في قصة نذر عبد المطلب، وإهدائهم للبيت الحرام، آ وتخصيص شيء من الحرث والأنعام لله، (وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيباً) [الأنعام: 136].
ومن الناحية التشريعية: كانت الجاهلية العربية تقيم بعض الحدود، كحد السرقة، فقد ذكر الكلبي، والقرطبي في (تفسيره): أن قريشاً كانت تقطع يد السارق [6]، وهو حد معروف في الشرائع السابقة- كما في حديث المخزومية وشفاعة زيد لها-، وشيء آخر سبقت -بل فاقت- به الجاهلية العربية الجاهليات اللادينية المعاصرة وهو: (حرية التدين)، فكان منهم الحنفاء الذين يتعبدون ببقايا دين إبراهيم - عليه السلام -، وكان منهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكان منهم عبدة الكواكب، وعباد الأوثان، وبعضهم كان يعبد الجن أو الملائكة.
موقف الإسلام من الجاهليات بأنواعها: ولكن -وهذا هو المهم-، بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟ إن الله - تعالى -حكم على هذه البيئة وعلى الواقع الأرضي حينئذ بأنها كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعهاً صفراً في ميزان الإسلام، ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد النزاع، معركة شرسة ونزاع حاد، حتى أن السيف كان الحكم الأخير.
والشيء المثير أيضاً: أن موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى كلمة واحدة، هي كلمة: (لا إله إلا الله)، كلمة يصر عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أقصى حدود الإصرار، وترفضها الجاهلية إلى أبعد مدى للإنكار والرفض.. لماذا ؟.. لأنه منذ اللحظة الأولى حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى شهادة (أن لا إله إلا الله)، كان الجواب الفوري: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً واحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص: 5]، فالقضية واضحة في أذهانهم: إن الالتزام بهذه الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل ماعدا الله من معبوداتهم وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان وطاغوت الزعامة وطاغوت القبيلة وطاغوت الكهانة وطاغوت التقاليد.. الخ، والاستسلام الكامل لله ورد الأمر كله؛ جليله وحقيره وكبيره وصغيره.. إلى الله - تعالى -وحده لا شريك له.
كذلك فإن بيننا اليوم -ممن يقولون: إنهم مسلمون- من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق وبخاصة أخلاق المعاملات المادية..
وبيننا اليوم حاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ وما للإسلام والعري على الشواطئ؟ وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ وما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ وما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج؟ وما للإسلام وهذا الذي يفعله (المتحضرون)؟، فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) [هود: 87].
وهم يتساءلون ثانياً، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد..
فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ وما للدين والسياسة والحكم؟، لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده! ! فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى؛ ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله والسلوك الشخصي في الحياة والمعاملات المادية في السوق والسياسة والحكم..(12/158)
تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ أضافت الجاهلية اليوم وصفهم بالتطرف! ! أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعو شعار (الدين لله والوطن للجميع) وشعار (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) من أدعياء الإسلام من العلمانيين أو غيرهم؟ إن من عادة المنافقين والزنادقة من المنتسبين لهذا الدين عدم الإنكار الصريح والواضح وعدم إظهار العداء السافر للإسلام، وهم يسعدون بسلاح التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة، من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين وأشباههم شعارات يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة نفوس القلة التي قد ساورتها الشكوك تجاه نوايا هؤلاء الذين يرفعون شعارات العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره ولكن رويداً رويداً! ! فارتفعت لذلك شعارات (المدرسة العقلانية)، وشعار (حكم الشعب للشعب)، وشعار (الحرية الشخصية)، وشعار (الأمة مصدر السلطات)، وشعار (حرية الثقافة والفكر)، وحاول البعض منهم تهدئة بعض مشاعر الإسلاميين فرفعوا شعار: (تطوير الشريعة)، (مرونة الشريعة لتلبية حاجات العصر)، وشعار (تقنين الشريعة)، وبعد أن نفد صبر بعضهم أعلنوها صريحة ورفعوا شعار (فصل الدين عن الدولة)، و (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين)، و(الدين لله والوطن للجميع)، و (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) أوَ ليس هذا أيضاً ما يطبقه الذين يجعلون للدين برامج تسمى برامج (روحية) ضمن أجهزة الإعلام الشيطانية والذين يجعلون أحكاماً للأحوال الشخصية ضمن قوانين الحكم الجاهلية، والذين يجعلون في كل صحفهم ومجلاتهم العلمانية الجاهلية صفحة يسمونها صفحة الفكر الديني؟ ! ويقولون: إن مكان الدين هو المسجد فقط، ويظهرون لعامة المسلمين أنهم يحجون لبيت الله في العمر مرة، ويتعمدون إبرازها في أجهزة إعلامهم، بينما هم يقصدون بيوت أعداء الله شرقاً وغرباً كل حين، يتلقفون منهم المناهج، ويتلقون التشريعات والأوامر والنواهي والحلال والحرام! ! سؤال يبحث عن جواب محدد: إننا نتوجه بالسؤال إلى هؤلاء العلمانيين.. إلى كل من يدعي الإسلام من هؤلاء، فنقول: إذا أخرجنا -على سبيل التحكم- جزءاً من النشاط الإنساني في الحياة -إما السياسة وإما غيرها- عن دائرة الإسلام..
فمن أين نتلقى منهج وقيم وموازين وتشريعات هذا الجزء؟ وأياً ما كان الجواب فإن نتيجته ومؤداه واحد لا ريب فيه؛ التلقي عن غير الله والطاعة والاتباع لغير الله.
والنتيجة هي الشرك بالله.
وهل هناك صورة من صور الاعتراف بالشرك أصرح من هذه؟ أعني شرك الطاعة والاتباع! ! إنه شرك في عبادة الله، وإن كان الذين يمارسونه قد يجهلون معنى عبادة الله وحده، وما ذلك بغريب على الجاهليين، » فإن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- في الجاهلية لم يكن يتصور أن ذلك عبادة، فإنه لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (تلا صلى الله عليه وسلم قوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ)، فقال عدي -وكان نصرانياً-: يا رسول الله: لسنا نعبدهم، قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : فتلك عبادتهم «.
[7] قال ابن تيمية - رحمه الله -تعليقاً على ذلك: » قد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم « [8].
نتائج لابد منها:
إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة ولا التباس، ولكن الخفاء والمداورة والالتباس إنما يحدث عمداً من دعاة العلمانية أنفسهم، لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا امتداد لجاهليتهم في بلاد المسلمين إلا من خلال هذا التخفي والمداورة والتلبيس على جماهير المسلمين، وذلك من خلال راياتهم الزائفة التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحفزهم ضد إخوانهم الصادقين الواعين بحقيقة هذا الصراع المنبهين إلى خطره الداهم على الدين وأهله.
إن المعارك والجبهات التي تفتحها الفرق الضالة والمنتسبة لهذا الدين ضد أهل السنة والجماعة، وأخطرها دائما جبهة الرفض الباطنية.
والتي تغذيها وتدعمها القوى والمعسكرات الجاهلية العالمية لتدمير أهل السنة والجماعة - باعتبارهم الخطر الحقيقي والفعال ضد هذه القوى-، أقول: إن هذه المعارك وهذه الجبهات يجب أن لا ينسى معها أهل السنة والجماعة أن حصونهم لازالت مهددة من داخلها، وأن القوى العلمانية المتكتلة ضدهم من الداخل والتي تصارعهم في معارك خافية - غالبا ً- وسافرة -أحياناً - هي التي تمثل الآن جوهر الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية في العصر الحديث.
وإن أخطر مراحل هذا الصراع هي: مرحلة تعرية هذه القوى العلمانية القبيحة وفضحها أمام المسلمين؛ ليستبين لكل مسلم سبيل المجرمين الذين يحاولون خداعهم وتلبيس أمر دينهم عليهم وهم لا يعلمون.(12/159)
أما آن لأهل السنة والجماعة أن يتنبهوا لهذه الأخطار الماحقة في الداخل والخارج، والتي تهددهم في دنياهم وآخرتهم؟ أما آن لهم أن يتكتلوا هم أيضاً دفاعاً عن وجودهم وعقيدتهم ضد تجمعات الجاهلية الشرسة؟.
أما آن لهم -أو لكثير منهم- أن يتخلوا عن معاركهم الوهمية وخلافاتهم الجانبية والشكلية ليفرغوا طاقاتهم، ويركزوا جهودهم المشتركة -المادية والمعنوية- لمواجهة هذه التحديات التاريخية والمعارك الفاصلة الحقيقية والجذرية؟ أما آن لهم هذا؟ ؛ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ومَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ) [الحد يد / 16].
نسأل الله الهدى والرشاد، فمنه وحده التوفيق والسداد وهو على كل شيء قدير.
--------------------------------------------
(1) لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة (secula r ism) في الإنكليزية أو (secula r ite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ (العلم) على الإطلاق، فالعلم بالإنكليزية والفرنسية معناه (science)، والمذهب العلمي يطلق عليه كلمة (scientism)، والترجمة الصحيحة لكلمة (secula r ism) هي: (اللادينية) أو (الدنيوية)، وتقول دائرة المعارف البريطانية مادة (secula r ism): هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو (إقامة الحياة على غير الدين) سواء بالنسبة للأمة أو للفرد.
(2) إعلام الموقعين 1 / 50.
(3) مقدمة رسالة العبودية / 6.
(4) تفسير القرآن العظيم 2 / 67.
(5) شرح ديوان زهير / 81.
(6) أضواء البيان للشنقيطي 3/392.
(7) انظر رواياته في الدر المنثور:3 / 230، وأصله في الترمذي: كتاب التفسير، وسنده صحيح.
(8) فتح المجيد: 86 نقلاً عن الإيمان.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
============(12/160)
(12/161)
إجتماع الجيوش الإسلامية على غزو العلمانية اللادينية
حامد بن عبد الله العلي
ينبوع العلمانية اللادينية وطواغيتها الكبار:
ميكافيللي، كالفن، توماس هوبز، جون لوك، جون ستيوارت، هولباخ، فولتير، ديكارت، مونتسكيو، جان جاك روسو، ثم الطبقة التي تليها هم: هيغل، كيجارد، كارلايل، داروين، انجلز، ماركس، نيتشه، فرويد، دركهايم، لينين، تروتسكي، جون ديوي، هيدجر، رسل، سارتر، وغيرهم كثير من المستشرقين والمفكرين والكتاب والفلاسفة.
هؤلاء كان لكتاباتهم الأثر الأكبر في تخريج هذه الطبقة في بلادنا العربية:
وهي: ألبرت حوراني، ماجد فخري، عبد الرحمن بدوي، عبد العزيز الدوري، ساطع الحصري، البستاني، عثمان أمين، محمد لطفي، زكريا إبراهيم، أنطون سعادة، شبلي شميل، فيليب حتى، سليم خياطة، ورئيف خوري، وجميل صليبا، وحسين مروة، جورج طرابيشي، مصطفى حجازي، لطفي السيد، عبد العزيز فهمي، إسماعيل مظهر، جورجي زيدان، طه حسين، سلامة موسى، وبين تواريخ وفياتهم بعض التقديم والتأخير، ومن النساء صفية زغلول، وهدى شعراوي.
وهنا تأتي طبقة تواكب وبعضها يسبق من تقدم، لكنها تنتسب إلى الدين نوع انتساب، أو تظهر شيئا من ذلك، مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، وتأثر به سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيد وان لم يكونوا منتسبين إلى الدين.
وكان كرومر يقول (أسميهم حبا في الاختصار أتباع المرحوم المفتي السابق الشيخ محمد عبده) وقد تأثر به قاسم أمين أيضا وكان يقول إنه استقى كتابه عن تحرير المرأة من توجيهات محمد عبده، وذكر لطفي السيد في كتابه قصة حياتي أن قاسم أمين قرأ عليه وعلى محمد عبده كتاب تحرير المرأة في جنيف قبل نشره، وعبد الله النديم يلحق بتلاميذ محمد عبده، ثم من المنتسبين إلى الدين الكواكبي، وطه حسين في بعض كتاباته، ويأتي في هذا الدور علي عبد الرازق، وقد ساهم هؤلاء بدور فعال في ترويج العلمنة بالقيام بدور خاص له طبيعة خاصة، سنشير إليه.
غير أن أشدهم في الدعوة إلي العلمنة والغارة على الإسلام لطفي السيد وعبد العزيز فهمي، وإسماعيل مظهر، وكان من أشد القائمين بهذا الدور بنوع من التلبيس والتخفي في بعض كتاباته، صديق إسماعيل مظهر الحميم طه حسين.
ثم جاءت طبقة أخرى أحدث: زكي نجيب محمود، فؤاد زكريا، غالي شكري، تيزيني، العروي، الجابري، مقالح، أركون، علي زيعور، سعد الدين ابراهيم، ناجي علوش، العروي، حسين قبيصي، نديم البيطار، خليل أحمد، صلاح قنصوه، عادل ظاهر، مطاع صفوري.
ويذكر أيضا محمود أمين العالم، أدونيس (على أحمد سعيد)، تيزيني، فرج فودة، نور فرحات، خلف الله.
وأما محمد عمارة، عادل حسين، وطارق البشري، وكمال أبو المجد، فهمي هويدي، فهم برزخ بين السلفية (بمعناها العام أي رفض الفصل بين الدين والحياة) والعلمنة.
مع أن الغالين في العلمنة يسمون هؤلاء (السلفيون الجدد) ويجعلون منهم حسن حنفي!! كما يفعل أمين العالم في كتابه (الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر)، ولهؤلاء دور يشبه إلى حد ما دور من أشرت إليهم من المتقدمين المنتسبين إلى الدين في تسهيل تغلغل العلمنة في المجتمعات الإسلامية، وتراهم معجبين بكتابات الكواكبي ومحمد عبده والأفغاني أيما إعجاب، ومنهم من يرى في أفكار هؤلاء هي سبيل الهدى والرشاد.
ومن العجائب أن الدكتور محمود إسماعيل في كتابه (الإسلام السياسي) يعتبر هؤلاء (السلفيون الجدد) أشد خطرا وأبعد تأثيرا في تزييف الوعي يقول (ويرجع ذلك إلى قدرتهم على تنظير الاتجاه الأصولي السلفي خاصة وأن بعضهم مثل حسن حنفي ذا باع طويل في الإلمام والإحاطة بالفكر الغربي) ص 24، وهم يقصدون بتزييف الوعي، تقديم نصوص الوحي على شبهات عقولهم التي يسمونها الوعي، ويجعلون هذا التقديم تزييفا للوعي كما دار عليه بحث (العالم) في كتابه المذكور آنفا.
والمقصود أن هؤلاء كلهم بغض النظر عن عدم الدقة في تواريخ الوفيات، هم منظروا العلمنة في بلادنا العربية، على اختلاف تياراتها بين ماركسية شرقية، التي ولت الآن بعد ما سقط صنمها، وليبرالية غربية، والقومية العربية كانت تتركب مع أحد التيارين، وقد تراجعت أيضا، مع تيار العولمة الجارف، وهيمنة الغرب على العالم، وسيطرته بنظام أحادي القطبية.
وعلى اختلاف أيضا داخل كل تيار من جهتين:
الأولى: نوع مدرسة المفكر (أو المفكرين) الغربيين أو الشرقيين الذين تأثر بهم المفكر العربي، سواء كان الخلاف داخل الليبرالية (الهيجلية والظاهراتية والبنيوية والفرويدية والوضعية المنطقية 00الخ) وهي داخل الليبرالية العلمانية كإطار عام، أو كان داخل الماركسية التي شأنها شأن الليبرالية كذلك في اختلافه الداخلي.
والثانية: درجة الحماسة أو الغلو في تبني العلمنة أو معاداة الدين والتراث.
ومن هذه السلسلة انحدرت العلمانية الخليجية على اختلاف توجهاتها، والتي لا تعتبر توجهات جماعية من الناحية الفكرية إن صح التعبير، بقدر ما هي توجهات فردية، ليس بينها رابط فلسفي ــ في وجهة نظري ــ يشكل مدرسة ذات أصول فكرية واحدة أو عقل جمعي بشكل ما.(12/162)
وهي كذلك ليست ذات عمق وتوغل في النواحي الفكرية والفلسفية في المدرسة التي تتأثر بها، وليس لأكثرهم إن لم يكن كلهم، إضافات أو حتى تحليل نقدي ذي قيمة فلسفية إن كانت الفلسفة لها قيمة حقيقية والحق عن هذا بمعزل، وهم كتاب صحفيون في الغالب أكثر من كونهم مفكرين إلا النفر اليسير جدا يعدون على أصابع اليد الواحدة، مع أنهم كذلك ليسوا مفكرين، لانهم لو كانوا يفكرون بطريقة صحيحة، لما عدلوا عن الحق الذي جاء به الإسلام.
هؤلاء كلهم (باستثناء من أشرنا إلى استثناءه) وتلك السلسلة من المفكرين بأسانيدها التي ترجع إلى أول من أعلن (العلمنة) صنم الجاهلية المعاصرة، وأول من استجاب لداعيها فسجد لهذا الصنم من دون الله - تعالى -متخذا ذلك الصنم ربا وشريكا مع الله في طاعته واتباع شريعته والتحاكم إليه وحده.
ثم تنحدر هذه السلسلة إلى من نعيش معهم الصراع اليوم على جميع الأصعدة، في صناعة العقل العربي، وفي التأثير في واقع العالم العربي، في الإعلام، والتعليم، والتشريع، والفكر، والثقافة، والحكم، والدولة، وحتى الفن، يعيش السلفيون (بالنسبة الشرعية الأصولية لا الحزبية) الصراع معهم على هذه المستويات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في بلادنا العربية.
هؤلاء يشكلون بقضهم وقضيضهم، جيش الجاهلية المعاصرة وسدنة صنمها (العلمانية اللادينية)، وكهنة معبدها الأعظم (الغرب) بعد سقوط المعبد الملحد الآخر في الشرق.
وهم المسؤولون بعد تأسيس دولنا وأغلب حكوماتنا العربية على هذا المبدأ (العلمانية)، هم المسؤولون واقعا، وعقلا، ومنطقا، عن كل أزماتنا التي نعيشها الآن، لانهم هم من يقبض على صولجان الدولة، ويأبى أن يتزحزح عنها، حتى ولو سخطته الشعوب واضطر إلى سحقها، فأمر الأمة بأيديهم، وهم أوردوها إلى ما آلت إليه أحوالها من الضعف والهوان، والذل، والتفكك.
الجيش الإسلامي في مقابل عصابة اللادينية:
ويقابل هذه الجيش اللاديني، الجيش الإسلامي العظيم بعلمائه ومفكريه، وقادته، ومجاهديه، وفصائل اليقظة الإسلامية المعاصرة، يحتشدون ليقاتلوا في سبيل الله، ويغزون جيش الجاهلية التي تقاتل حول صنمها، تقاتل في سبيل الطاغوت، والمعركة اليوم معركة الكلمة والقول والقلم، لكن لكل حرب ميدانها، ولكل ميدان زمانه.
وقد وقف في وجه مد اللادينية العارم على الأمة، ورثة الأنبياء من رجال العلم وقادة الإسلام ودعاة الهدى، وكانوا قسمين:
القسم الأول:
لم يصطدموا بهذا المد اصطداما مباشرا، غير أنهم قاموا بحماية دين الأمة بتجديده فيها والدعوة إليه، وتعليمه للناس، وتجنيد الأجيال لهذا الدين بغرس مبادئه في نفوسهم.
فهم بمنزلة خطوط الإمداد البشري، والدعم المعنوي للمقاتلة في الصفوف الأمامية، وكل من يدعوا الى هذا الدين ويسهم في الإصلاح، ويغرس مبادئ الإيمان في نفس منفوسة من أفراد الأمة، فهو أحد جنود هذا القسم، بحسب ما أوتي من علم، ووفق في الاصلاح، والدعوة، والتعليم، وفوق كل ذي علم عليم.
القسم الثاني:
من ابتلي بالصدام المباشر مع موجات (العلمنة) التي انتشرت في العالم العربي، بسبب تعرض المجتمع الذي يعيش فيه لشن غارة مباشرة من هذا المد، بسبب ثقل مجتمعه في الأمة، وأهميته الاستراتيجية، مثل ما حدث في مصر منذ (1800م)، ولهذا نجد أنها أكبر ميادين هذا الصراع في الوطن العربي، وأكثرها ازدخارا بالأحداث، وبأيام معارك الإسلام العظمي مع العلمنة، إلى يومنا هذا، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، فقد تعرضت أكثر البلاد الإسلامية لمحاولة فرض العلمنة بصورة أو بأخرى.
وهذان القسمان ومن يدخل تحتهما من العلماء، والدعاة، والمصلحون، هم سلسلة موكب الهدي، ولئن رجع إسناد اللادينية الى كفرة أوربا، وملاحدتها وضلال اليهود والنصارى، فان إسناد الجيش الإسلامي، الذي واجه العلمنة منذ غزوها لبلاد الإسلام إلى يومنا هذا، يرجع إسناده إلى آدم - عليه السلام - أول النبيين الكرام، ثم يتسلسل عبر تاريخ الرسل والأنبياء الى محمد - عليه الصلاة والسلام -، أفضلهم وقائدهم ثم أتباعه من بعده والرجال الذين صنعوا تاريخ هذا الدين العظيم.
ويدخل جميعهم في قوله (ومن يطع الله والرسولل فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)، فهؤلاء هم أهل طاعة الله المستسلمين لحكمه، وهم فريق واحد، وموكب واحد، يمتد عبر تاريخ البشرية بأسرها، وهم أولياء الله، (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) وأولئك العلمانيون اللادينيون أتباع الشيطان وأهل طاعته ومردهم إلى حكمه وشريعته، وهو وليهم من دون الله (إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) و(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت).
وإذا ذكروا مآثرهم المزيفة، ذكرنا بحق مآثر علماءنا في الحرب مع العلمنة في هذا العصر، فكان شأننا وشأنهم، كطلوع الشمس وانقشاع الظلمات.(12/163)
ونذكر حينئذ إمام الإسلام، وشيخه في زمنه محمد بن ابراهيم آل الشيخ، فقد قذف بقذيفة مدمرة على حصنهم وهي رسالته (تحكيم القوانين) في ناحية الحكم والتشريع من (اللادينية)، ولا عجب فانه من آل الشيخ(المجدد محمد بن عبد الوهاب) الذي جعل شرك الطاعة (وعليه يدور مبدأ العلمنة) أحد أنواع الشرك الأربعة الرئيسة التي يتخذ فيها شريك مع الله - تعالى -، وعد الطواغيت البشرية أربعة فجعل اثنين منها في شرك (الحكم بغير ما أنزل الله - تعالى -)، فأنجبت مدرسته السلفية مثل الإمام ابن إبراهيم - رحمه الله -.
وذكرنا تلميذه العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، فقد قذفهم برسالته في (نقد القومية العربية) في ناحية فكرية أخرى كانت في ذلك الزمن من أشد أركان العلمنة، وأعظمها ضررا على الدين لنقضها مبدأ الولاء فيه، ومن هذه المدرسة نذكر جبالا علا شرفاتها رجال عظام، ولهم مؤلفات كثيرة، ومواقف شجاعة، وفي مبارزة الإقران لهم صولات مذكورة مشهورة، و بعضهم يدخل في القسم الأول، وبعضهم في القسم الثاني.
وإذا دخلنا خطوط المعركة الأمامية، حيث يحمي الوطيس في جوف أرض الحرب، رأينا حينئذ أبطال الإسلام يقاتلون في سبيله كالليوث الحوارد، تخلع القلوب زمجرتها، وتذهب بالأبصار صولتها، وسنأتي على ذكرهم في حينه.
وشتان بين الفريقين، وما أبعد التفاوت بين الصفين، صف العلمانية الضالة، وصف أنصار الشريعة الإلهية:
شتان بين مذاهب أوصى بها *** بعض لبعض أول للثاني
وشريعة فطر الإله عباده *** حقا عليها ما هما عدلان
ولم تقذف اللادينية بكتاب يشوه الإسلام، و يشكك في مُحكماته العظام، إلا ورده دعاة الإسلام، وفندوا ما فيه وزيفوا باطلهم، وقذفوهم بالحق الذي يزهق الباطل، فيندحر صاغرا ذليلا:
خطة الحرب العلمانية اللادينية على الأمة الإسلامية:
وكانت حرب العلمانية على الإسلام على خمسة محاور:
* الأول: ضرب وحدة المسلمين، بالفكر القومي والانتماءات الوطنية.
* الثاني: ضرب الشريعة الإسلامية في الحكم بالقوانين الطاغوتية.
* الثالث: ضرب الثقافة الإسلامية، تراث الأمة الذي ينبني في الأصل على الوحي المحفوظ، وبه تتميز عن جميع الثقافات الأرضية، بالثقافات والفلسفات الملحدة المستورده.
* الرابع: ضرب البنية الاجتماعية الإسلامية بافساد المرأة فالأسرة فتقويض معالم المجتمع الإسلامي، وذلك بغرس أخلاق المجتمعات العلمانية في النسيج الاجتماعي للأمة.
*الخامس: ضرب مفهوم الجهاد، وتصويره بأنه إرهاب وتطرف وعداوة للإنسانية والسلام، وأنه ضد التعايش والتفاهم بين الحضارات
في الوقت الذي يستميت أعداء الأمة، لإبقاء المسلمين في حالة تخلف عسكري، ويعدون كل العدة لغصب حقوق الشعوب الإسلامية بالقوة العسكرية.
فإذا تفككت هذه الأركان الإسلامية عبر هذه المحاور، وتقوض البنيان، ابتلعت الحضارة التي ينتمي إليها العلماني المحارب، حضارة الإسلام وهيمنت عليها، وألحقت الهزيمة بالإسلام.
هذه هي خطة الحرب، وهذه أمنيتيهم
منّتك والله المحال النفس إن طمعت بذا وخدعت بالشيطان
وتحركت جيوشهم تقذف بالكتب والمجلات والرسائل والصحف والمؤلفات على حصون الإسلام، وتمدها مدفعية من الفنون والسينما والمجون، تزين الخلاعة وتقبح الطاعة، ويغطيها سلاح الجو من سلطة دول قامت على مبادئ العلمنة وفرضها بالقوة على شعوب الأمة، وغنى أدباؤهم وشعراؤهم أهازيج الحرب، العقاد والحكيم ومن معهما، فنجيب محفوظ وأنيس منصور ومن نحا نحوهما، وكانوا في حربهم شر مقاتلة، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يقيمون لذي عهد عهده، ولا يحترمون حرمات الدين، ولا يقدسون مقدساته.
نسخوا شريعة الله جهارا نهارا، وحكموا شريعة الطاغوت في كل شيء إلا قليلا، وقدموا في المناهج الثقافية، والتربوية، والتعليمية والإعلامية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والقضاء بين الناس، قدموا مناهج أكابر الكفر من فلاسفة وقادة وحكام، وسخروا من حدود الله - تعالى -، وشريعته، وتعدد الزوجات، والحجاب والعفة، وصار العهر تحررا، واختلاط المرأة بالأجانب، وارتكاب الفواحش مدنية وعصرنة، وصارت المرأة التي يكون عرضها وشرفها أهون مبذول، نجمة في السماء وحاملة رسالة الفن إلى العلياء.
وتطاول بعضهم على القرآن فشكك فيه، ومقام النبوة فلمز وغمز، لوّح، أو تجرأ فصرّح.
وصار المرتد مفكرا متحررا ورائدا إصلاحيا متنورا، وفي الوقت الذي حاربوا فيه حد الردة وسخروا منه، أقاموا القتل والتنكيل والتعذيب وسفكوا آلاف الدماء البريئة بشبهة الانتماء إلى جماعة للدعوة إلى الإسلام، أو لأسباب وآراء سياسية.
وأقاموا للناس أصناما بشرية ينفخون فيها، ويسخرون كل الطاقات، والقوى، والإعلام المزيف، ليضخمها لتشغل مكان ألوهية الله - تعالى -في قلوب الناس، يلهجون بحمد هذه الشخصيات البشرية الوثنية، ويرتلون بذكرها، ويحشدون لها الحشود المسبحه باسمها، لتموت في سبيلها.
وأخرجوا الناس من عبودية الله - تعالى -إلى عبودية شياطينهم، واستهزءوا بالمتبتل في دين الله - تعالى -، والمتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هديه، وسمته، وأخلاقه.(12/164)
وأحدثوا لهم بدل ذلك، شريعة العبودية للغرب أو الشرق بكل تفاصيلها الدقيقة في كل شيء، حتى تسريحة الشعر، وأزياء الموضة، فهذا للصباح، وهذا لبعد الظهر، وهذا للمساء، وهذا للسهرة، وهذه الأصباغ للوجه التي تحوله الى معرض للألوان، وينفقون في سبيل المحافظة على هذه الطقوس، الأموال الطائلة التي ترهق كاهل الناس، وتقذف مئات المجلات، بآخر أخبار الموضة كل يوم، وليس في هذا التقليد الأعمى، والانقياد التائه للأجنبي، والقيود المرهقة التي تشبه العبودية في أدق التفاصيل، ليس فيها عار ولا حرج، وأما العار كل العار، والحرج كل الحرج، إذا تعبد الإنسان لربه في الاقتداء بهدي النبوة في حياته كلها، فيصير متطرفا وإرهابيا ومتخلفا ورجعيا!!
إمداد الله المؤمنين بمدده:
وأمد الله المؤمنين بمدد من عنده، وربط على قلوبهم، وثبت الأقدام، فصبروا وصابروا، وقاتلوا وقتلوا، وأقاموا نحورهم سدا منيعا لهذا الدين، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.
هذه العساكر قد تلاقت جهرة *** ودنا القتال وصيح بالأقران
صفوا الجيوش وعبئوها وابرزوا *** للحرب واقتربوا من الفرسان
تبا لكم لو تعقلون لكنتم *** خلف الخدور كأضعف النسوان
من أين أنتم والحديث وأهله *** والوحي والمعقول بالبرهان
ما عندكم إلا دعاوى أو شكوك *** أو شهادات على البهتان
بجعجعة وفرقعة وغمغمة *** وقعقعة بكل لسان
جهلا وتجيهلا وتلديسا *** وتلبيسا وترويجا على العميان
تحمون ملك كبيركم وإلهكم *** كي تحصلوا فيه على سلطان
وبحقنا نحمي الهدى ونذب عن *** سنن الرسول ومقتضى القرآن
وقد كان من أوائل مهندسي موقع العدو في أوائل أيام المعركة، هو (كرومر) وقد تخرج على يده تلامذة على صنفين، صنف يقاتل الإسلام علنا، وصنف يلبس هذه الحرب لباس الدين ليزين العلمنة للمسلمين.
وأُلّفت كتب خطيرة في ترويج العلمنة وتلبيسها لباس الإسلام منها (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق في ناحية التشريع الإسلامي وحاصله أن الحكم بما أنزل لله - تعالى -ليس من مهمات الدين، ولا يجب الالتزام بها دينا وشرعا في كل شيء، وإنما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من باب السياسية التي ناسبت زمانه، لا من باب النبوة والوحي الملزم.
ومنها (في الشعر الجاهلي)(ومستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين، وحاصل ما كان يحوم حوله في هذين الكتابين، أن الثقافة الإسلامية وان استندت في ناحية منها إلى الوحي، حتى لو كان القرآن، فان شأنها شأن غيرها من الثقافات، يجب أن تخضع لمعايير العلوم الحديثة.
ومنها كتاب (تحرير المرأة) وحاصله تغريب حياة المرأة، وقد فتح الباب لهذا الشر فدخل منه العجب العجاب، ومنها كتاب (اليوم والغد) لسلامة موسى، وكان هذا المخذول، صريحا جريئا على الله ودينه، يشن غارته على الإسلام في وضح النهار جهارا.
وأبطلت هذه الكتب بكتاب جليل عظيم القدر جدا، وهو كتاب (النكير على منكري النعمة) لمصطفى صبري، وكتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) لمحمد رشيد رضا.
وكان هذا الأخير أهم كتاب ظهر في هذه الفترة، بين فيه أن الحكم بالشريعة في نظام حكم إسلامي (الخلافة) هو حجر الزاوية في انتظام شؤون المسلمين، وقيام شريعتهم، وسلامة دينهم، وتماسك بنيانهم واجتماع كلمتهم، وبين فيه أن نهضة المسلمين إنما تتوقف على القامة الخلافة الإسلامية، ذلك أن كتاب على عبد الرازق، بني على تهميش دور الإمامة الحاكمة بالشريعة، وإقصائها من أن تكون من مهمات الدين، فكان كتاب رشيد رضا مفندا لما فيه قبل صدوره، وغالب ما فيه مادة جيدة مبنية على أصول شرعية صحيحة، وان كان فيه ما يستدرك فالكمال عزيز.
وأما كتاب مصطفى صبري، فكان ردا على كتاب صدر بالتركية وترجم إلى العربية بعنوان (الخلافة وسلطة الأمة) ألفته لجنة من الترك بإشارة من الكماليين (وهم الذين دبروا سقوط الخلافة وعلمنة تركيا) ويهدف هذا الكتاب إلى مثل هدف كتاب على عبد الرازق، وهو إيجاد سند شرعي بالزور، والباطل، والكذب، واتباع المتشابهات، لما فعله مصطفى كمال من إقصاء الخلافة، وإقامة الحكم العلماني، وقد رد عليه مصطفى صبري ردا بليغا قويا محكما وكان لكتابه أثر عظيم في الدفاع عن منزلة الإمامة الشرعية في الإسلام (الخلافة) وأن الحكم والسياسية جزء مهم من الدين.
وحذر علماء المسلمين من مكائد الداعين إلى عزل علماء الإسلام عن السياسة بالخديعة والمكر، ومن أجزل ما فيه من القول البليغ قوله - رحمه الله -:(12/165)
(والذين جردوا الدين في ديارنا عن السياسة كانوا هم وإخوانهم لا يرون الاشتغال بالسياسة لعلماء الدين، بحجة أنه لا ينبغي لهم وينقص من كرامتهم، ومرادهم حكر السياسة وحصرها لأنفسهم، ومخادعة العلماء بتنزيلهم منزلة العجزة، فيقبلون أيديهم، ويخيلون لهم بذلك أنهم محترمون عندهم، ثم يفعلون ما يشاؤون بدين الناس ودنياهم، محررين عن احتمال أن يجيء من العلماء أمر بمعروف أو نهي عن منكر، إلا ما يعد من فضول اللسان، أو يكمن في القلب، وذلك أضعف الإيمان، فالعلماء المعتزلون عن السياسة، كأنهم تواطأوا مع كل الساسة، صالحيهم وظالميهم، على أن يكون الأمر بأيديهم ويكون لهم منهم رواتب الإنعام والاحترام، كالخليفة المتنازل عن السلطة وعن كل نفوذ سياسي)، هذا بعض قوله، فلله دره ما أجزل وصفه وأبلغه، وكأنه يعيش بيننا ويرى بعينيه حالنا 0
وألف مصطفى صادق الرافعي كتابه (بين القديم والجديد) وكان في جله غارة على كتاب طه حسين (مستقبل الثقافة) الذي سلك فيه مسلك الخداع والدهاء بعد الهجوم الذي تعرض له اثر كتابه (في الشعر الجاهلي).
وقد دمرت هذه الغارة الرافعية أيضا كتاب (اليوم والغد) لسلامة موسى الذي يدعو فيه صراحة إلى (أن يكون التعليم أوربيا لا سلطان للدين عليه) بل يدعوا إلى اقتلاع ما في ثقافتنا من (أثار العبودية والذل والتوكل على الآلهة) كما زعم، في هجوم صريح على الدين، غير أن كتاب طه حسين كان أشد منه، ودعى فيه إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها، وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلامها.
ومقابل ما كانت تدعو إليه مجلات العلمنة، والتغريب، كالمقتطف والسياسة، وغيرها من الارتماء في أحضان الغرب، كان العلماء والمفكرون والدعاة الإسلاميون يجابهون هذه الحرب الضروس بكل قوة، وكان من قادة المعارك الأبطال في ذلك الوقت شكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب، إضافة إلى من تقدم.
ودارت رحى المعركة سنين طويلة، كانت محورها هو الدفاع عن موقع الاستسلام لأحكام الله - تعالى -والوحي في هذا الدين، ضد من كان يريد أن يجتال الناس عن هذا الموقع، ويجعل في محله الانقياد لأحكام وشريعة وأفكار البشر من ملاحدة الكفار، الذين أشرت إلى أسماء شيوخهم من الأوربيين في صدر هذا المقال، جعلوهم أربابا من دون الله - تعالى -يقدمون قولهم على قول الله - تعالى -، وشريعتهم على حكمه - جل وعلا -.
وجاء بعد هذا الفوج من العلماء والدعاة الذين وقفوا في وجه العلمنة، أفواج وأفواج، منهم علماء الطريقة السلفية كأحمد شاكر وحامد الفقي وغيرهما كثير داخل مصر وخارجها وقد قدمتهم في مقال سابق، من أبرز الأبطال محمد محمد حسين - رحمه الله تعالى -، ومحمود شاكر، وأبو الحسن الندوي وغيره من القارة الهندية، ومنهم الكتاب والمفكرون والأدباء والشعراء الإسلاميون.
وفي خضم المعركة ألف سيد قطب - رحمه الله - كتاب الظلال، وغيره من الكتب وكانت غالب كتبه لاسيما المتأخرة منها، هجوما كاسحا على معاقل العلمنة، وقد ضرب القوم ضربات مدمرة إلا أن السيف نبا نبوات والله يغفر له، وقد جمع بين جهاد الكلمة وجهاد النفس، وشكر موقفه آنذاك أهل العلم ممن كان يعلم طبيعة الحرب التي كان يجابهها والعدو الذي كان يحاربه.
وقد انتشرت الحرب إلى جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي وتواجه الفريقان في كل قطر، فريق يدعوا إلى التحاكم إلى الله - تعالى -، وشريعته، وفريق يدعوا إلى العلمنة واللادينية.
وقد شارك في محاربة العلمنة من لا يحصيهم إلا الله - تعالى - من أعضاء الجماعات الإسلامية، كـ(الإخوان المسلمون)، وغيرهم من الدعاة المسلمين في جماعات الدعوة المعاصرة، إما بالرد عليهم مباشرة، وأما بالدعوة إلى هذا الدين، وإقامة شرائعه، وإظهار معالمه في نواحي الحياة كلها، وان كانت ناحية الأحكام والتشريع والقضاء قد حماها العدو وأحكم حصارها، لأنه يعلم عظم منزلتها وخطورة أمرها.
وقد استمرت المعركة تترى، وتناقلها الأجيال، يخلف الجيل الإسلامي جيل آخر، فيحمل اللواء ويقود المعركة، وأما العلمانية فخلف من بعدهم أيضا خلف أضاعوا الدين، واتبعوا نفس أساليب الحرب التي استعملها أشياخهم، ورؤوسهم، فهم يظهرون العداوة تارة، ويخفونها تارة، ويمكرون مكرهم الخفي تارة، ويعلنونه تارة، ويدسون الكفر في كتبهم وعباراتهم ويسلكونه بخبث في عقول المسلمين، وقد امتلأت عقولهم من الشبهات، وقلوبهم من الغل على الإسلام:
يا قوم شاهدنا رؤوسكم على *** هذا ولم نشهده من إنسان
إلا وحشو فؤاده غل على *** سنن الرسول وشيعة القرآن
وهو الذي في كتبهم لكن *** بلطف عبارة منهم وحسن بيان
يا من يظن بأننا حفنا عليهم *** كتبهم تنبيك عن ذا الشان
فانظر ترى لكن نرى لك تركها *** حذرا عليك مصايد الشيطان
فشباكها والله لم يعلق بها *** من ذي جناح قاصر الطيران
إلا رأيت الطير في قفص الردى *** يبكي له نوح على الأغصان
ويظل يخبط طالبا لخلاصه *** فيضيق عنه فرجة العيدان
والذنب ذنب الطير أخلى طيب *** الثمرات في عال من الأفنان
وأتى تلك المزابل يبتغي *** الفضلات كالحشرات والديدان(12/166)
ثم جاء جيلنا نحن، فنحن في نعيش حلقة من حلقات الصراع، ورأينا من أبناء العرب من ترك طيب الثمرات في عالي الأفنان، وأتى مزابل هؤلاء العلمانيين يبتغي فضلاتهم، وجندوا أنفسهم للانتصار للفكر العلماني، وصارت هذه القضية هي أكبر معارك الثقافة والسياسة والإعلام والتعليم 00الخ، نعيشها كل يوم بل كل ساعة.
وهي من أكبر قضايا العصر الذي نعيشه، وهي أكبر أزمات الأمة في الوقت الراهن، ومنها تتفرع كل الأزمات، من التحاكم إلى غير شريعة رب العالمين، وتقديم تصورات البشر وأفكارهم وفلسفاتهم على الوحي الهادي الذي جاءت به الأنبياء، قال - تعالى -(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه).
هذا هو تاريخ قضية الصحوة المعاصرة، ومنه انحدر واقعنا المعاصر الذي نعيشه اليوم، وإذا أردنا أن نفصل في طبيعة المعركة هذه الأيام، ورجالها سنحتاج إلى حلقات طويلة، ويغنينا عن ذلك أنها أحداث نعيشها، فمن يتابع صحفنا، وإعلامنا، ومؤسسات الثقافية، وما يجري في عالمنا العربي، والإسلامي على كل المستويات يرى بأم عينيه وقائع المعركة لا تخفى معالمها.
لا تزال الحرب تدور رحاها:
ولازالت الحرب دائرة رحاها، لم تضع أوزارها، ولن تضع أوزراها إلا إذا سقط أخر معاقل العلمنة، وقام صرح الحكم بما أنزل الله - تعالى -في الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والحياة.
ونحو هذا الهدف تتحرك الصحوة الإسلامية المعاصرة، واليه تزحف جيوشها، ومن أجله تنشط جماعاتها بالدعوة، وفي سبيل تحقيقه تنظم صفوفها، وتتلقى الضربة تلو الأخرى، وتسقط الضحايا، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا.
بل توالت الصفوف تنطلق إلى أرض المعركة، تحافظ على راية الجهاد مرفوعة، لا يضعفون، ولا يستكينون لكثرة الشهداء، فالنصر وعد أكيد والعاقبة للمتقين.
والحرب مع العلمنة في العالم الإسلامي، لم تضع أوزارها منذ أن هجمت جيوشها الغازية على بلادنا الإسلامية، و الصحوة الإسلامية هي التي وقفت سدا منيعا في وجهها، وخاضت معركة الإسلام ضد أعدائه.
وهي تتلقى الهجمات من جهتين:
جهة كاشفة عن مقصدها، تحارب الدين وترفضه، وتدعوا جهارا إلى عزله عن الحياة، وأهونهم شرا من يدعوا الى جعل الدين جزءا من تراث يقوم بدوره المحدد في الحياة.
وهم يزعمون أن قصدهم احترام الدين، بدعوتهم إلى حصره في دائرته، وعرف المتدينون حدودهم التي لا تتعدى المسجد، والمناسبات الدينية الرسمية، ومكتب المفتي الذي لا يتدخل في شئون الدولة وسياساتها في الحكم، والإعلام، والثقافة، والعلاقات الداخلية والخارجية، بل يكون كمنزلة البابا في دول الغرب يحترمونه ويعظمونه إذا بقي في اختصاصاته الطقوسية لا يتعداها.
وهم في الحقيقة لا يحترمون الدين بهذا الزعم، ولا يوقرونه، بل هم عازمون على قتله ومحوه، وعلى القضاء عليه بمكر، وخديعة، وخبث، لأنهم يعلمون أن دين الإسلام، دين الحياة، إن عزل عنها انقرض مع الزمان، فأحدثوا هذه الحيلة السخيفة.
وجهة أخرى تحارب الدين باسمه، ترفع رايته تضليلا، وتلبس العلمنة لباس الإسلام.
وهؤلاء كالذين يخرجون من حصن العدو، الفينة بعد الفينة، فيحملون المصاحف، ليخدعوا أهل الجهاد، ثم يندسون بين الصفوف داعين إلى إلقاء السلاح، معوقين عن الجهاد، فيشككون في الأهداف، ويثبطون المسيرة.
وما أشبه ما يفعله محدَثوهم بما فعله متقدموهم، فاقرءوا معي ما قاله الكاتب الإسلامي الجهبذ المجاهد محمد محمد حسين، عن الدور الذي كان يقوم به الكواكبي يقول (وكلام الكواكبي هنا متأثر بما كان يذيعه ساسة الدول الاستعمارية عن الجامعة الإسلامية، من تخيل الخطر الذي يهدد الغربيين في اجتماع كلمة المسلمين وارتباطهم برابطة الإسلام، الذي يدعو إلى مجاهدة غير المسلمين، والذي يعتبر هذا الجهاد ركنا من أهم أركان الدين.
على أن الناظر في كلام الكواكبي يجده متأثرا بفكره البابا الذي اتخذ مقره في روما، مهد المسيحية الأولى في أوربا، والذي يرأس المجمع الدين، ويتوج الملوك رعاية لسلطان الدين، كما أن الناظر في كلامه يريبه ما فيه من تودد الى الدول المستعمرة، ومن تهوين لوقوع الأمم الإسلامية تحت حكمهم، وإسقاط فريضة الجهاد بعد أن فسرها تفسيرا غريبا) انتهى من كتاب الاتجاهات الوطنية.
فهذا الكواكبي كان منتسبا إلى الدين، وهو مع ذلك يأتي من القول الخطل ما يوقع بين المسلمين الفتنة، ويحرض ضد اجتماعهم لأنه يدعو إلى عزل الدين، ويهون وقوع الأمة في حكم الكافر، ويضعف موقع الجهاد في الإسلام، فهو يمهد الطريق للعلمنة، ويعينها على بلوغ أهدافها في العالم الإسلامي، وهكذا يفعل الأشباه، عندما يهونون مقالة الكفر القائلة (الدين لله والحكم لقيصر).(12/167)
وعندما يدعون إلى عزل الدعوة عن السياسية والواقع، ويجعلون الجهاد الشرعي إفسادا، ويدعون إلى الحرب على دعاة الأمة والقضاء على الصحوة، لأنها فرق ضالة أخطر من جيش العلمنة بأسره، ويجعلون الحكم بغير ما أنزل الله (مجرد معصية)، والإمامة الحاكمة بالشريعة ما هي إلا فرع من فروع الدين لا تستحق كل هذا الاهتمام لإقامتها، فيقلبون دفة المعركة، بتهوين العلمنة ووقوع الأمة تحت حكم الكافر، وتوجيه الحرب إلى الصحوة نفسها، ثم يزعمون حربا شرعية وجهادا مقدسا، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، هؤلاء الأشباه إنما يمهدون بمثل تمهيد الكواكبي.
وما أحسن وصف الإمام ابن القيم لحرب الكفار للإسلام ومواطئه من بداخل حصن الإسلام لهم، في هذه الأبيات:
أرأيت هذا المنجنيق فإنهم *** نصبوه تحت معاقل الإيمان
بلغت حجارته الحصون فهدت *** الشرفات واستولت على الجدران
لله كم حصن عليه استولت *** الكفار من ذا المنجنيق الجاني
ومن البلية أن قوما بين أهل *** الحصن واطوهم على العدوان
ورموا به معهم وكان مصاب أهل *** الحصن منهم فوق ذي الكفران
فتركبت من كفرهم ووفاق من *** في الحصن أنواع من الطغيان
وجرت على الإسلام أعظم محنة *** من ذين تقديرا من الرحمن
والله لولا أن تدارك دينه *** الرحمن كان كسائر الأديان
لكن أقام له الإله بفضله *** جندا من الأنصار والأعوان
فرموا على ذا المنجنيق صواعقا *** وحجارة هدته للأركان
وقد علمت أيها القارئ العزيز من البيت الأخير أي منقلب سينقلب من يعادي هذا الدين، والى أي هزيمة نكراء سيصير حاله، عندما تهد أركانه جنود الإيمان، بصواعق السنة والقرآن، والله المستعان.
http://www.h-alali.net المصدر:
===========(12/168)
(12/169)
العلمانية .. وثمارها الخبيثة
محمد عبد الهادي المصري
الحمد لله رب العالمين قيوم السموات والأرضين مدبر الخلائق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد.. فهذه مقالة مقتضبة، كتبها بعض العلماء في طائفة وفرقة خرجت في هذه الأزمنة، وتمكنت في الكثير من دول الإسلام، ألا وهي فرقة (العلمانية)، التي يظهر منها الحب، والوئام لأفراد الأمة، ولكنها تظهر أحيانًا خفايا تضمرها تنبئ عن حقد، وشنآن للدين الإسلامي، وتعاليمه، وتتنكر للحدود الشرعية، وللعبادات، والمعاملات الدينية، وتجعل جل هدفها المصالح، والشهوات النفسية، وترى عزل الدين عن الدولة، وترمي المتمسكين به بالتخلف، والجحود، والتأخر، ولاشك أن هذه الطائفة أخطر على الأمة من المنافقين الأولين، ومن كل الطوائف المنحرفة.
ولقد أبان الكاتب وفقه الله جُلَّ أهداف هذه الفرقة الضالة، وأكبر خطرها.. فجدير بالمسلم أن يأخذ حذره، وأن يعرف عدوه، وأن يبعد بنفسه، وبإخوانه عن أمثال هؤلاء العلمانيين، ليسلك سبيل النجاة.. والله الموفق الهادي إلى سبيل الرشاد.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن أمتنا الإسلامية اليوم تمر بفترة من أسوأ فترات حياتها، فهي الآن ضعيفة مستذلة، قد تسلط عليها أشرار الناس من اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، وما لذلك من سبب إلا البُعد عن الالتزام بالدين الذي أنزله الله لنا، هداية ورشادًا، وإخراجًا لنا من الظلمات إلى النور.
وقد كان هذا البُعد عن الدين في أول أمره مقصورًا على طائفة من المسلمين، لكنه بدأ الآن ينساح حتى تغلغل في طائفة كبيرة من الأمة، وقد كان لانتشار العلمانية على المستوى الرسمي والمستوى الفكري والإعلامي الأثر الأكبر، في ترسيخ هذا البُعد وتثبيته، والحيلولة دون الرجوع مرة أخرى إلى نبع الهداية ومعدن التقوى.
من هنا كانت هذه الرسالة الموجزة عن (العلمانية وثمارها الخبيثة) في بلاد المسلمين، لعلها تُؤتي ثمارها في تبصير المسلمين بحقيقة هذه الدعوة، ومصادرها، وخطرها على ديننا، وآثارها المميتة، حتى نسارع في التحصن منها، ومقاومتها، وفضح دُعاتها، والقضاء عليها - بإذن الله - حتى نعود إلى ديننا، وتعود لنا العزة كما كانت، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
نسأل الله من فضله التوفيق والإرشاد والسداد.
محمد شاكر الشريف
مكة المكرمة
ما هي العلمانية؟!
سؤال قصير، لكنه في حاجة إلى جواب طويل، واضح وصريح، ومن الأهمية بمكان أن يعرف المسلمون جوابًا صحيحًا لهذا السؤال، وقد كُتِبَتْ - بحمد الله - عدة كتب في هذا المجال، وما علينا إلا أن نعلم فتعمل.
نعود إلى جوانب سؤالنا، ولن نتعب في العثور على الجواب الصحيح، فقد كفتنا القواميس المؤلفة في البلاد الغربية، التي نشأت فيها العلمانية مؤنة البحث والتنقيب، فقد جاء في القاموس الإنجليزي، أن كلمة (علماني) تعني:
1- دنيوي أو مادي.
2- ليس بديني أو ليس بروحاني.
3- ليس بمترهب (1)، ليس برهباني.
و جاء أيضًا في نفس القاموس، بيان معنى كلمة العلمانية، حيث يقول: العلمانية: هي النظرية التي تقول: إن الأخلاق والتعليم يجب أن لا يكونا مبنيين على أسس دينية.
وفي دائر المعارف البريطانية، نجدها تذكر عن العلمانية: أنها حركة اجتماعية، تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب.
ودائرة المعارف البريطانية حينما تحدثت عن العلمانية، تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد، وقد قسمت دائرة المعارف الإلحاد إلى قسمين:
* إلحاد نظري.
* إلحاد عملي، وجعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي (2).
وما تقدم ذكره يعني أمرين:
أولهما: أن العلمانية مذهب من المذاهب الكفرية، التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في الدنيا، فهو مذهب يعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها، بعيدًا عن أوامر الدين ونواهيه.
ثانيهما: أنه لا علاقة للعلمانية بالعلم، كما يحاول بعض المراوغين أن يلبس على الناس، بأن المراد بالعلمانية: هو الحرص على العلم التجريبي والاهتمام به، فقد تبين كذب هذا الزعم وتلبيسه بما ذكر من معاني هذه الكلمة في البيئة التي نشأت فيها.
ولهذا، لو قيل عن هذه الكلمة (العلمانية) إنها: (اللادينية، لكان ذلك أدق تعبيرًا وأصدق)، وكان في الوقت نفسه أبعد عن التلبيس وأوضح في المدلول.
كيف ظهرت العلمانية(12/170)
كان الغرب النصراني في ظروفه الدينية المتردية هو البيئة الصالحة، والتربة الخصبة، التي نبتت فيها شجرة العلمانية وترعرعت، وقد كانت فرنسا بعد ثورتها المشهورة هي أول دولة تُقيم نظامها على أسس الفكر العلماني، ولم يكن هذا الذي حدث من ظهور الفكر العلماني والتقيد به - بما يتضمنه من إلحاد، وإبعاد للدين عن كافة مجالات الحياة، بالإضافة إلى بغض الدين ومعاداته، ومعاداة أهله - أقول لم يكن هذا حدثًا غريبًا في بابه، ذلك لأن الدين عندهم حينئذ لم يكن يمثل وحي الله الخالص الذي أوحاه إلى عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام -، وإنما تدخلت فيه أيدي التحريف والتزييف، فبدلت وغيرت وأضافت وحذفت، فكان من نتيجة ذلك أن تعارض الدين المُبدَّل مع مصالح الناس في دنياهم ومعاملاتهم، في الوقت نفسه الذي تعارض مع حقائق العلم الثابتة، ولم تكتفِ الكنيسة - الممثلة للدين عندهم - بما عملته أيدي قسيسيها ورهبانها من التحريف والتبديل، حتى جعلت ذلك دينًا يجب الالتزام والتقيد به، وحاكمت إليه العلماء المكتشفين، والمخترعين، وعاقبتهم على اكتشافاتهم العلمية المناقضة للدين المبدل، فاتهمت بالزندقة والإلحاد، فقتلت من قتلت، وحرَّقت من حرَّقت، وسجنت من سجنت.
ومن جانب آخر فإن الكنيسة - الممثلة للدين عند النصارى - أقامت تحالفًا غير شريف مع الحكام الظالمين، وأسبغت عليهم هالاتٍ من التقديس، والعصمة، وسوَّغت لهم كل ما يأتون به من جرائم وفظائع في حق شعوبهم، زاعمة أن هذا هو الدين الذي ينبغي على الجميع الرضوخ له والرضا به.
من هنا بدأ الناس هناك يبحثون عن مهرب لهم من سجن الكنيسة ومن طغيانها، ولم يكن مخرجهم الذي اختاروه إذ ذاك، إلا الخروج على ذلك الدين - الذي يحارب العلم ويناصر المجرمين - والتمر عليه، وإبعاده وطرده، من كافة جوانب الحياة السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والأخلاقية، وغيرها.
ويا ليتهم إذ خرجوا على هذا الدين المبدل اهتدوا إلى دين الإسلام، ولكنهم أعلنوها حربًا على الدين عامة.
وإذا كان هذا الذي حدث في بلاد الغرب النصراني ليس بغريب، فإنه غير ممكن في الإسلام، بل ولا متصور الوقوع، فوحي الله في الإسلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا هو ممكن التحريف والتبديل، ولا هو ممكن أن يُزاد فيه أو يُنقص منه، وهو في الوقت نفسه لا يحابي أحدًا، سواء كان حاكمًا أو محكومًا، فالكل أمام شريعته سواء، وهو أيضًا يحافظ على مصالح الناس الحقيقية، فليس فيه تشريع واحد يُعارض مصلحة البشرية، وهو أيضًا يحرص على العلم ويحض عليه، وليس فيه نص شرعي صحيح يُعارض حقيقة علمية، فالإسلام حق كله، خير كله، عدل كله، ومن هنا فإن كل الأفكار والمناهج التي ظهرت في الغرب بعد التنكر للدين والنفور منه، ما كان لها أن تظهر، بل ما كان لها أن تجد آذانًا تسمع في بلاد المسلمين، لولا عمليات الغزو الفكري المنظمة، والتي صادفت في الوقت نفسه قلوبًا من حقائق الإيمان خاوية، وعقولاً عن التفكير الصحيح عاطلة، ودينًا في مجال التمدن ضائعة متخلفة.
ولقد كان للنصارى العرب المقيمين في بلاد المسلمين دورٌ كبيرٌ، وأثرٌ خطيرٌ، في نقل الفكر العلماني إلى ديار المسلمين، والترويج له، والمساهمة في نشره عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، كما كان أيضًا للبعثات التعليمية التي ذهب بموجبها طلاب مسلمون إلى بلاد الغرب لتلقي أنواع العلوم الحديثة أثرٌ كبيرٌ في نقل الفكر العلماني ومظاهره إلى بلاد المسلمين، حيث افتتن الطلاب هناك بما رأوا من مظاهر التقدم العلمي وآثاره، فرجعوا إلى بلادهم محملين بكل ما رأوا من عادات وتقاليد، ونظم اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، عاملين على نشرها والدعوة إليها، في الوقت نفسه الذي تلقاهم الناس فيه بالقبول الحسن، توهمًا منهم أن هؤلاء المبعوثين هم حملة العلم النافع، وأصحاب المعرفة الصحيحة، ولم تكن تلك العادات والنظم والتقاليد التي تشبع بها هؤلاء المبعوثون وعظموا شأنها عند رجوعهم إلى بلادهم إلا عادات، وتقاليد ونظم مجتمع رافض لكل ما له علاقة، أو صلة بالدين.
ومثل هذا السرد الموجز وإن كان يدلنا على كيفية دخول العلمانية إلى بلاد المسلمين، (فإنه أيضًا ينبهنا إلى أمرين هامين):
أحدهما: خطورة أصحاب العقائد الأخرى، من النصارى وغيرهم الذين يعيشون في بلاد المسلمين، وكيف أنهم يكيدون للإسلام وأهله؟ مما يوجب علينا الحذر كل الحذر من هؤلاء الناس، وأن ننزلهم المنزلة التي أنزلهم الله إليها، فلا نجعل لهم في بلاد المسلمين أدنى نوع من أنواع القيادة والتوجيه، كما ينبغي أن تكون كل وسائل الإعلام والاتصال بالجماهير موصودة الأبواب في وجوههم، حتى لا يبثوا سمومهم بين المسلمين.. لكن من يفعل ذلك! وكثير من الأنظمة تجعل لهم مكانة سامية من أجل نشر هذه السموم.. حسبنا الله ونعم الوكيل.(12/171)
ثانيهما: خطورة الابتعاث الشديدة على أبناء المسلمين، فكم من مسلم ذهب إلى هناك ثم رجع بوجه غير الوجه الذي ذهب به، وقلب غير القلب الذي ذهب به، وإذا كانت هناك دواعي لذهاب المسلمين للحصول على المعرفة في مجال العلوم التجريبية، فكيف يمكننا القبول بذهاب بعض المسلمين للحصول على درجة علمية في علوم الشريعة بعامة، واللغة العربية بخاصة؟!!
فهل اللغة العربية لغتهم أم لغتنا؟! وهل القرآن الكريم أنزل بلغتهم أم بلغتنا؟!
وهل يُعقل أن المسلم يمكنه الحصول على المعرفة الصحيحة بعلوم الإسلام وشريعته من أناس هم أشدُّ الناس كفرًا وحقدًا على الإسلام وأهله؟!
صور العلمانية
للعلمانية صورتان، كل صورة منهما أقبح من الأخرى:
الصورة الأولى: العلمانية الملحدة: وهي التي تنكر الدين كلية: وتنكر وجود الله الخالق البارئ المصور، ولا تعترف بشيء من ذلك، بل وتحارب وتعادي من يدعو إلى مجرد الإيمان بوجود الله، وهذه العلمانية على فجورها ووقاحتها في التبجح بكفرها، إلا أن الحكم بكفرها أمر ظاهر ميسور لكافة المسلمين، فلا ينطلي - بحمد الله - أمرها على المسلمين، ولا يُقبل عليها من المسلمين إلا رجل يريد أن يفارق دينه، (وخطر هذه الصورة من العلمانية من حيث التلبيس على عوام المسلمين خطر ضعيف)، وإن كان لها خطر عظيم من حيث محاربة الدين، ومعاداة المؤمنين وحربهم وإيذائهم بالتعذيب، أو السجن أو القتل.
الصورة الثانية: العلمانية غير الملحدة (3) وهي علمانية لا تنكر وجود الله، وتؤمن به إيمانًا نظريًا: لكنها تنكر تدخل الدين في شؤون الدنيا، وتنادي بعزل الدين عن الدنيا، (وهذه الصورة أشد خطرًا من الصورة السابقة) من حيث الإضلال والتلبيس على عوام المسلمين، فعدم إنكارها لوجود الله، وعدم ظهور محاربتها للتدين (4) يغطي على أكثر عوام المسلمين حقيقة هذه الدعوة الكفرية، فلا يتبينون ما فيها من الكفر لقلة علمهم ومعرفتهم الصحيحة بالدين، ولذلك تجد أكثر الأنظمة الحاكمة اليوم في بلاد المسلمين أنظمة علمانية، والكثرة الكاثرة والجمهور الأعظم من المسلمين لا يعرفون حقيقة ذلك.
ومثل هذه الأنظمة العلمانية اليوم، تحارب الدين حقيقة، وتحارب الدعاة إلى الله، وهي آمنة مطمئنة أن يصفها أحد بالكفر والمروق من الدين؛ لأنها لم تظهر بالصورة الأولى، وما ذلك إلا لجهل كثير من المسلمين، نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يعلمنا وسائر المسلمين، وأن يفقه الأمة في دينها حتى تعرف حقيقة هذه الأنظمة المعادية للدين.
ولهذا فليس من المستبعد أو الغريب عند المسلم الفاهم لدينه أن يجد في كلمات أو كتابات كثير من العلمانيين المعروفين بعلمانيتهم ذكر الله - سبحانه وتعالى -، أو ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم أو ذكر الإسلام، وإنما تظهر الغرابة وتبدو الدهشة عند أولئك الذين لا يفهمون حقائق الأمور.
والخلاصة: أن العلمانية بصورتيها السابقتين كفر بواح لاشك فيها ولا ارتياب، وأن من آمن بأي صورة منها وقبلها فقد خرج من دين الإسلام والعياذ بالله، وذلك أن الإسلام دين شامل كامل، له في كل جانب من جوانب الإنسان الروحية، والسياسية، والاقتصادية، والأخلاقية، والاجتماعية، منهج واضح وكامل، ولا يقبل ولا يُجيز أن يشاركه فيه منهج آخر، قال الله - تعالى -مبينًا وجوب الدخول في كل مناهج الإسلام وتشريعاته: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}. وقال - تعالى -مبينًا كفر من أخذ بعضًا من مناهج الإسلام، ورفض البعض الآخر، {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}.
والأدلة الشرعية كثيرة جدًا في بيان كفر وضلال من رفض شيئًا محققًا معلومًا أنه من دين الإسلام، ولو كان هذا الشيء يسيرًا جدًا، فكيف بمن رفض الأخذ بكل الأحكام الشرعية المتعلقة بسياسة الدنيا - مثل العلمانيين - من فعل ذلك فلاشك في كفره.
والعلمانييون قد ارتكبوا ناقضًا من نواقض الإسلام، يوم أن اعتقدوا أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، وأن حكم غيره أفضل من حكمه (5).
* قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: (ويدخل في القسم الرابع - أي من نواقض الإسلام - من اعتقد أن الأنظمة القوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سببًا في تخلف المسلمين، أو أنه يُحصر في علاقة المرء بربه، دون أن يتدخل في شؤون الحياة الأخرى) (6).
طبقات العلمانيين
والعلمانيون في العالم العربي والإسلامي كثيرون - لا أكثر الله من أمثالهم - منهم كثير من الكتاب والأدباء والصحفيين، ومنهم كثير ممن يسمونهم بالمفكرين، ومنهم أساتذة في الجامعات، ومنهم جمهرة غفيرة منشرة في وسائل الإعلام المختلفة، وتسيطر عليها، ومنهم غير ذلك.
وكل هذه الطبقات تتعاون فيما بينها، وتستغل أقصى ما لديها من إمكانات لنشر العلمانية بين الناس، حتى غدت العلمانية متفشية في جل جوانب حياة المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية.(12/172)
نتائج العلمانية في العالم العربي والإسلامي
وقد كان لتسرب العلمانية إلى المجتمع الإسلامي أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم.
وهاهي بعض الثمار الخبيثة للعلمانية:
1- رفض الحكم بما أنزل الله - سبحانه وتعالى -، وإقصاء الشريعة عن كافة مجالات الحياة، والاستعاضة عن الوحي الإلهي المُنزَّل على سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، بالقوانين الوضعية التي اقتبسوها عن الكفار المحاربين لله ورسوله، واعتبار الدعوة إلى العودة إلى الحكم بما أنزل الله وهجر القوانين الوضعية، اعتبار ذلك تخلفًا ورجعية وردة عن التقدم والحضارة، وسببًا في السخرية من أصحاب هذه الدعوة واحتقارهم، وإبعادهم عن تولي الوظائف التي تستلزم الاحتكاك بالشعب والشباب، حتى لا يؤثروا فيهم.
2- تحريف التاريخ الإسلامي وتزييفه، وتصوير العصور الذهبية لحركة الفتوح الإسلامية، على أنها عصور همجية تسودها الفوضى، والمطامع الشخصية.
3- إفساد التعليم وجعله خادمًا لنشر الفكر العلماني وذلك عن طريق:
أ- بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية بالنسبة للتلاميذ، والطلاب في مختلف مراحل التعليم.
ب - تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن.
جـ - منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم.
د - تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني، أو على الأقل أنها لا تعارضه.
هـ - إبعاد الأساتذة المتمسكين بدينهم عن التدريس، ومنعهم من الاختلاط بالطلاب، وذلك عن طريق تحويلهم إلى وظائف إدارية أو عن طريق إحالتهم إلى المعاش.
و - جعل مادة الدين مادة هامشية، حيث يكون موضعها في آخر اليوم الدراسي، وهي في الوقت نفسه لا تؤثر في تقديرات الطلاب.
4- إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة، وهم المسلمون، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد، وصهر الجميع في إطار واحد، وجعلهم جميعًا بمنزلة واحدة من حيث الظاهر، وإن كان في الحقيقة يتم تفضيل أهل الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان على أهل التوحيد والطاعة والإيمان.
فالمسلم والنصراني واليهودي والشيوعي والمجوسي والبرهمي كل هؤلاء وغيرهم، في ظل هذا الفكر بمنزلة واحدة يتساوون أمام القانون، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني.
وفي ظل هذا الفكر يكون زاج النصراني أو اليهودي أو البوذي أو الشيوعي بالمسلمة أمرًا لا غبار عليه، ولا حرج فيه، كذلك لا حرج عندهم أن يكون اليهودي أو النصراني أو غير ذلك من النحل الكافرة حاكمًا على بلاد المسلمين.
وهم يحاولون ترويج ذلك في بلاد المسلمين تحت ما سموه بـ (الوحدة الوطنية).
بل جعلوا (الوحدة الوطنية) هي الأصل والعصام، وكل ما خالفوها من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم طرحوه ورفضوه، وقالوا: (هذا يعرض الوحدة الوطنية للخطر!! ).
5- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية، وتشجيع ذلك والحض عليه: وذلك عن طريق:
أ - القوانين التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها، وتعتبر ممارسة الزنا والشذوذ من باب الحرية الشخصية التي يجب أن تكون مكفولة ومصونة.
ب - وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة، ونشر الرذيلة بالتلميح مرة، وبالتصريح مرة أخرى ليلاً ونهارًا.
جـ - محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات.
6- محاربة الدعوة الإسلامية عن طريق:
أ - تضييق الخناق على نشر الكتاب الإسلامي، مع إفساح المجال للكتب الضالة المنحرفة التي تشكك في العقيدة الإسلامية، والشريعة الإسلامية.
ب - إفساح المجال في وسائل الإعلام المختلفة للعلمانيين المنحرفين لمخاطبة أكبر عدد من الناس لنشر الفكر الضال المنحرف، ولتحريف معاني النصوص الشرعية، مع إغلاق وسائل الإعلام في وجه علماء المسلمين الذين يُبصِّرون الناس بحقيقة الدين.
7- مطاردة الدعاة إلى الله، ومحاربتهم، وإلصاق التهم الباطلة بهم، ونعتهم بالأوصاف الذميمة، وتصويرهم على أنهم جماعة متخلفة فكريًا، ومتحجرة عقليًا، وأنهم رجعيون، يُحارون كل مخترعات العلم الحديث النافع، وأنهم متطرفون متعصبون لا يفقهون حقيقة الأمور، بل يتمسكون بالقشور ويَدعون الأصول.
8- التخلص من المسلمين الذين لا يهادنون العلمانية، وذلك عن طريق النفي أو السجن أو القتل.
9- إنكار فريضة الجهاد في سبيل الله، ومهاجمتها واعتبارها نوعًا من أنواع الهمجية وقطع الطريق.
وذلك أن الجهاد في سبيل الله معناه القتال لتكون كلمة الله هي العليا، وحتى لا يكون في الأرض سلطان له القوة والغلبة والحكم إلا سلطان الإسلام، والقوم - أي العلمانيين - قد عزلوا الدين عن التدخل في شؤون الدنيا، وجعلوا الدين - في أحسن أقوالهم - علاقة خاصة بين الإنسان وما يعبد، بحيث لا يكون لهذه العبادة تأثير في أقواله وأفعاله وسلوكه خارج مكان العبادة.(12/173)
فكيف يكون عندهم إذن جهاد في سبيل إعلاء كلمة الدين؟!!
والقتال المشروع عند العلمانيين وأذنابهم إنما هو القتال للدفاع عن المال أو الأرض، أما الدفاع عن الدين والعمل على نشره والقتال في سبيله، فهذا عندهم عمل من أعمال العدوان والهمجية التي تأباها الإنسانية المتمدنة!!
10- الدعوة إلى القومية أو الوطنية، وهي دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس أو اللغة أو المكان أو المصالح، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل التجميع، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعد عاملاً من أكبر عوامل التفرق والشقاق، حتى قال قائل منهم: (والتجربة الإنسانية عبر القرون الدامية، دلَّت على أن الدين - وهو سبيل الناس لتأمين ما بعد الحياة - ذهب بأمن الحياة ذاتها).
هذه هي بعض الثمار الخبيثة التي أنتجتها العلمانية في بلاد المسلمين، وإلا فثمارها الخبيثة أكثر من ذلك بكثير.
والمسلم يستطيع أن يلمس أو يدرك كل هذه الثمار أو جُلها في غالب بلاد المسلمين، وهو في الوقت ذاته يستطيع أن يُدرك إلى أي مدى تغلغلت العلمانية في بلدٍ ما اعتمادًا على ما يجده من هذه الثمار الخبيثة فيها.
والمسلم أينما تلفت يمينًا أو يسارًا في أي بلد من بلاد المسلمين يستطيع أن يدرك بسهولة ويسر ثمرة أو عدة ثمار من هذه الثمار الخبيثة، بينما لا يستطيع أن يجد بالسهولة نفسها بلدًا خاليًا من جميع هذه الثمار الخبيثة.
وسائل العلمانية في تحريف الدين في نفوس المسلمين وتزييفه
للعلمانية وسائل متعددة في تحريف الدين في نفوس المسلمين منها:
1- إغراء بعض ذوي النفوس الضعيفة والإيمان المزعزع بمغريات الدنيا من المال والمناصب، أو النساء لكي يرددوا دعاوى العلمانية على مسامع الناس، لكنه قبل ذلك يُقام لهؤلاء الأشخاص دعاية مكثفة في وسائل الإعلام التي يسيطر عليها العلمانيون لكي يظهروهم في ثوب العلماء والمفكرين وأصحاب الخبرات الواسعة، حتى يكون كلامهم مقبولاً لدى قطاع كبير من الناس، وبذلك يتمكنون من التلبيس على كثير من الناس.
2- القيام بتربية بعض الناس في محاضن العلمانية في البلاد الغربية، وإعطائهم ألقابًا علمية مثل درجة (الدكتوراه) أو درجة (الأستاذية)، ثم رجوعهم بعد ذلك ليكونوا أساتذة في الجامعات، ليمارسوا تحريف الدين وتزييفه في نفوس الطبقة المثقفة على أوسع نطاق، وإذا علمنا أن الطبقة المثقفة من خريجي الجامعات والمعاهد العلمية، هم في الغالبية الذين بيدهم أزِمَّة الأمور في بلادهم، علمنا مدى الفساد الذي يحدث من جراء وجود هؤلاء العلمانيين في المعاهد العلمية والجامعات.
3- تجزيء الدين والإكثار من الكلام والحديث والكتابة عن بعض القضايا الفرعية، وإشغال الناس بذلك، والدخول في معارك وهمية حول هذه القضايا مع العلماء وطلاب العلم والدعاة لإشغالهم وصرفهم عن القيام بدورهم في التوجيه، والتصدي لما هو أهم وأخطر من ذلك بكثير.
4- تصوير العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله - في كثير من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية - على أنهم طبقة منحرفة خلقيًا، وأنهم طلاب دنيا من مال ومناصب ونساء حتى لا يستمع الناس إليهم، ولا يثقوا في كلامهم، وبذلك تخلو الساحة للعلمانيين في بث دعواهم.
5- الحديث بكثرة عن المسائل الخلافية، واختلاف العلماء وتضخيم ذلك الأمر، حتى يخيل للناس أن الدين كله اختلافات وأنه لا اتفاق على شيء حتى بين العلماء بالدين، مما يوقع في النفس أن الدين لا شيء فيه يقيني مجزوم به، وإلا لما وقع هذا الخلاف، والعلمانيون كثيرًا ما يركزون على هذا الجانب، ويضخمونه لإحداث ذلك الأثر في نفوس المسلمين، مما يعني انصراف الناس عن الدين.
6- إنشاء المدارس والجامعات والمراكز الثقافية الأجنبية، والتي تكون خاضعة - في حقيقة الأمر - لإشراف الدول العلمانية التي أنشأت هذه المؤسسات في ديار المسلمين، حيث تعمل جاهدة على توهين صلة المسلم بدينه إلى أقصى حدٍّ ممكن، في نفس الوقت الذي تقوم فيه بنشر الفكر العلماني على أوسع نطاق، وخاصة في الدراسات الاجتماعية، والفلسفية، والنفسية.
7- الإتكاء على بعض القواعد الشرعية والمنضبطة بقواعد وضوابط الشريعة، الاتكاء عليها بقوة في غير محلها وبغير مراعاة هذه الضوابط، ومن خلال هذا الاتكاء الضال والمنحرف يحاولون تروج كل قضايا الفكر العلماني أو جُلها.
فمن ذلك مثلاً قاعدة (المصالح المرسلة) يفهمونها على غير حقيقتها ويطبقونها في غير موضعها، ويجعلونها حجة في رفض كل ما لا يحبون من شرائع الإسلام، وإثبات كل ما يرغبون من الأمور التي تقوي العلمانية وترسخ دعائمها في بلاد المسلمين.
وكذلك قاعدة (ارتكاب أخف الضررين واحتمال أدنى المفسدتين) وقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، (ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، (وصلاحية الإسلام لكل زمان)، (واختلاف الفتوى باختلاف الأحوال)، يتخذون من هذه القواعد وأشباهها تُكأة في تذويب الإسلام في النحل والملل الأخرى، وتمييعه في نفوس المسلمين.(12/174)
كما يتخذون هذه القواعد أيضًا منطلقًا لنقل كل النظم الاقتصادية، والسياسية السائدة في عالم الكفار إلى بلاد المسلمين، من غير أن يتفطن أكثر الناس إلى حقيقة هذه الأمور.
وفي تصوري أن هذا المسلك من أخطر المسالك وأشدها ضررًا لما فيه من شبهة وتلبيس على الناس أن هذه الأمور إنما هي مرتكزة على قواعد شرعية معترف بها، وكشف هذا المسلك على وجه التفصيل ومناقشة كثير من هذه الأمور على وجه البسط والتوضيح في حاجة إلى كتابة مستقلة لكشف كل هذه الأمور وتوضيحها وإزالة ما فيها من لبس أو غموض.
ونحن نحب أن نؤكد هنا أن اعتمادهم على هذه القواعد أو غيرها ليس لإيمانهم بها، وليس لإيمانهم بعموم وشمول وكمال الدين الذي انبثقت منه هذه القواعد، وإنما هي عندهم أداة يتوصلون بها إلى تحقيق غاياتهم الضالة المنحرفة.
واجب المسلمين
في ظل هذه الأوضاع بالغة السوء التي يعيشها المسلمون، فإن على المسلمين واجبًا كبيرًا وعظيمًا ألا وهو العمل على تغيير هذا الواقع الأليم الذي يكاد يُحرِّف الأمة كلها بعيدًا عن الإسلام.
والمسلمون جميعهم اليوم مطالبون ببذل كل الجهد: من الوقت والمال والنفس والولد لتحقيق ذلك، وإن كان العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله وأصحاب القوة والشوكة عليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، لأنهم في الحقيقة هم القادة وغيرهم من الناس تبع لهم.
ولا خروج للمسلمين من هذا الواقع الأليم إلا بالعلم والعمل، فالعلم الذي لا يتبعه عمل لا يغير من الواقع شيئًا، والعمل على غير علم وبصيرة يُفسد أكثر مما يُصلح.
ولا أقصد بالعلم العلم ببعض القضايا الفقهية الفرعية ولا ببعض الآداب ومحاسن العادات، كما يحرص كثير من الناس على مثل هذه الأمور، ويضعونها في مرتبة أكبر من مرتبتها في ميزان الإسلام، ولكني أقصد بالعلم، العلم الذي يورث إيمانًا صحيحًا صادقًا في القلب، مؤثرًا حب الله ورسوله ودينه على كل ما سوى ذلك، وباعثًا على العمل لدين الله والتمكين له في الأرض وإن كلفه ذلك ما كلفه من بذل النفس والنفيس، ولن يتأتى ذلك إلا بالعلم الصحيح بحقيقة دين الإسلام، واليقين الكامل التام الشامل بحقيقة التوحيد أساس البنيان في دين الإسلام، ثم لابد مع ذلك من العلم بالمخاطر التي تتهدد الأمة الإسلامية، والأعداء الذين يتربصون بها والدعوات الباطلة والهدامة التي يُروَّج لها، وما يتبع ذلك من تحقيق البراءة من أعداء الدين، وتحقيق الولاية للمؤمنين الصادقين.
وإذا كان من الواجب على المسلمين طلب العلم والدأب في تحصيله وسؤال أهل الذكر، ليكون المرء على بصيرة كاملة ووعي صحيح، فإن من الواجب على أصحاب القلم - من الكُتَّاب والناشرين - العمل على الإكثار من نشر الكتاب الإسلامي الذي يربط المسلمين بالإسلام كله، والذي يُعطي كل شرعة من شرائع الإسلام وكل حكم من أحكامه قدره ومنزلته في ميزان الإسلام، بحيث لا يزيد به عن قدره ولا ينزل به عن مرتبته، ولا يضخم جانبًا على حساب جوانب أخرى متعددة، وفي هذا الصدد فإن الكُتَّاب والناشرين مدعُوُّون بقوة إلى الالتزام بذلك، وخاصة في تلك الظروف العصيبة الحرجة التي تمر بها الأمة الإسلامية، فلا يليق بهم ولا ينبغي لهم أن يُجَاروا رغبات العوام وغيرهم في الإكثار والتركيز على جانب معين من جوانب الدين مع إهمال جوانب أخرى هي في ميزان الإسلام أجلّ قدرًا وأخطر شأنًا.
ونحن في هذا الصدد لا نريد أن نقع فيما وقع فيه غيرنا فندعو إلى إهمال الجانب الأقل في ميزان الإسلام لحساب الجانب الأكبر، ولكنا ندعو إلى التوازن بحيث تكون الكتابات في الجوانب المختلفة متوازنة مع مرتبتها وثقلها في ميزان الإسلام، فلا يُقبل أن تكون المكتبة الإسلامية مملوءة بالكتابات المختلفة المتنوعة عن الجن، والسحر، والشعوذة، والورع، والزهد، والأذكار، وفضائل الأعمال، وفروع الفروع الفقهية، وأشباه ذلك (7)، بينما نجد المكتبة تكاد تكون خاوية من الكتاب الميسر الصالح للتناول لتناول العام في مجالات بالغة الأهمية.
مثل: أحكام الفقه السياسي في الإسلام: أو بالتعبير القديم (الأحكام السلطانية).
ومثل: مناقشة النحل الكثيرة التي بدأت تنتشر في عالم المسلمين (كالعلمانية، والديمقراطية، والقومية، والاشتراكية، والأحزاب ذات العقائد الكفرية كحزب البعث، والأحزاب القومية، وغير ذلك).
ومثل: الكتابات التي تتحدث عن الجهاد، لا أقصد الجهاد بمعنى فرضيته ودوامه إلى قيام الساعة، ولكن أقصد إلى جانب ذلك الكلام عن جهاد المرتدين اليوم في عالم الحكام، وأصحاب السلطان الذين تبنوا المذاهب الاشتراكية، والعلمانية، والقومية، والديمقراطية، وغير ذلك ودعوا إليها وألزموا الناس بها.
ومثل: الحديث عن كيفية العمل لإعادة الخلافة الضائعة، إلى غير ذلك من المواضيع ذات الأهمية البالغة في حياة المسلمين، وإذا نظر الإنسان إلى ما كُتب في هذه المواضيع، وما كُتب في المواضيع الأخرى لهاله التباين الشديد في هذا الأمر، وإذا نظر أيضًا إلى كمية المباع من ذاك ومن هذا لهاله الأمر أكثر وأكثر.(12/175)
قد يقول الكتاب والناشرون: إن الناس لديهم عزوف عن قراءة هذه المواضيع، لكن منذ متى كان لصاحب الرسالة التي يريد لها الذيوع والانتشار أن يطاوع الأهواء والرغبات، وإذا كان حقًّا ما يُقال عن هذا العزوف، فأنتم مشتركون بنصيب وافر في ذلك؛ لأنكم طاوعتموهم على ذلك، ولم تبصروهم بأهمية التوازن وعدم تضخيم جانب وإهمال جوانب أخرى؛ لأن هذا الأمر سيؤدي بالناس في النهاية إلى حصر الإسلام وتضييق نطاقه في إطار عبادة من العبادات أو أدب من الآداب أو عادة من العادات، بل قد انحصر الإسلام فعلاً عند كثير من الناس في أداء الصلاة، وصيام رمضان، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في مجموعة من الأذكار، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في حسن الخلق، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في هيئة أو زي أو لباس، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في العلم ببعض فروع الفقه، أو العلم ببعض قضايا مصطلح الحديث، وهكذا.
فإذا خاطبت الكثير منهم عن عموم الإسلام وشموله وحدثتهم عن بعض القضايا الهامة والملحة والمنبثقة من توحيد الله والإيمان باليوم الآخر مثل الحديث عن الحكم بما أنزل الله، والالتزام بشرعه ووجوب السعي لإقامة دولة الإسلام وإعادة الخلافة، وبيان بطلان المذاهب الكفرية كالعلمانية، والديمقراطية، وغير ذلك، ظنوك تتحدث عن دين غير دين الإسلام، وقالوا: هذا اشتغال بالسياسة، ولا يجوز إدخال الدين في السياسة.
ومثل هؤلاء لو تأكد عليهم الكلام في مثل هذه القضايا في خطب الجمعة، وفي دروس وحلقات العلم في المساجد، وفي الكتابات الميسرة التي يمكنهم قراءتها وفهمها بيسر، لم يصدر عنهم مثل هذا الكلام الضال المنحرف.
ونحن يجب علينا كتابًا وناشرين ألا نشارك في تزييف الدين وتجزئته عن طريق عرضه عرضًا ناقصًا مقصورًا على جانب من جوانبه استجابة لرغبة القراء، ولحركة البيع والشراء، فنكون بذلك محققين لهدف كبير من أهداف العلمانية في تضييق نطاق الدين وعزله عن الحياة.
وقد يقول الكتاب والناشرون: نحن لا نكتب في هذه الأمور لأنها مسائل كبيرة والخطأ فيها ليس بالهين، وهي تحتاج إلى علم كثير هو ليس في وسعنا، وأنا معهم في هذا القول في أن كثيرين ممن يكتب هذه الأيام لا يصلح للكتابة في هذه الأمور.. إما لعدم فقههم لهذه الأمور، وإما لأن فقههم لها قاصر ومبتور، وإذا كان ذلك صحيحًا - وهو صحيح - في حق كثيرين، فأين العلماء الكبار، وأين الشيوخ الأجلاء، وإذا لم يكن هذا هو دورهم ومهمتهم، فما هو دورهم إذن في العمل على تغيير هذا الواقع الأليم؟!
وفي إطار الحديث عن العلم ونشره فإن فئة المعلمين من المدرسين والأساتذة من أدنى مراحل التعليم إلى أعلاها عليهم واجب من أهم الواجبات العامة في حقهم وآكدها وهذا الواجب يتمثل في:
1- العمل على أسلمة المناهج بحيث تصب كل المناهج العلمية في إطار خدمة الإسلام، وبحيث لا يكون الهدف العلمي البحت، هو الهدف الوحيد من تدريس هذا العلم، ونظرًا لأن ديننا من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن المكتشفات العلمية هي من خلق الله فلا تعارض إذن ولا تناقض بين العلم والدين، وبالتالي فإن كثيرًا من الحقائق العلمية يمكن استخدامها كأدلة في مجال الإيمان، وكثير من القوانين العلمية يمكن استخدامها كردود أو إبطال لنظريات إلحادية من وجهة نظر العلم التجريبي الذي يؤمن به الملحدون ولا يعولون على غيره، وعلى ذلك فإن المناهج العلمية الموضوعة للتلاميذ والطلاب لابد أن يراعى فيها ذلك، ولابد من توضيح ذلك الأمر بأوضح بيان، ولا يكفي فيه الإشارة والتلميح، وهذا الأمر واجب أكيد في حق أولئك الذين يضعون هذه المناهج ويقررون تدريسها.
2- تنقية المواد العلمية من الكفريات والضلالات المدسوسة بها، فقد يحدث أن يضع هذه المواد ومناهجها أناس غرباء على الدين، فالواجب على المدرس المسلم ألا يقوم بتدريس المادة العلمية كما هي، بل لا يحق له ذلك، وينبغي عليه كشف هذه الضلالات للطلاب وتحذيرهم منها، وبيان الصواب فيها، فلا يكتفي المعلم بدوره كمعلم للمادة فقط، بل يربط هذه العلوم بالإسلام وينقيها مما فيها من الشوائب ويكون في الوقت نفسه داعية وواعظًا ومرشدًا إلى جانب كونه معلمًا ومثقفًا.
3- أن ينتهز المعلم الفرصة كلما سنحت له لتوضيح مفهوم من مفاهيم الإسلام، أو لتثبيت عقيدة من العقائد أو لبيان قضية من قضايا المسلمين أو لتعليم أدب من آداب الإسلام، وهكذا.
وكل هذه الأمور يستتبع بالضرورة تحقيقها أن يرتفع المعلمون بمستواهم العلمي والشرعي في كثير من الأمور حتى يكونوا أكفاء لهذه المهمة النبيلة التي شرفهم الله بحملها.
الخاتمة
وفي ختام هذا البحث نأتي إلى العمل بعد العلم، ولست أقصد بالعمل ذلك العمل الذي يعود نفعه وخيره على شخص العامل وحده، فهذا مطلوب، ولكن أين العمل الذي يعود نفعه وخيره على الأمة الإسلامية بالإضافة إلى شخص العامل؟(12/176)
إنه مما يجب علينا أن نعتقد الحق ونعمل به في خاصة أنفسنا، ومن نعول، ثم لا نكتفي بذلك حتى ندعو الناس غيرنا ونبصرهم بحقيقة هذا الدين، وبتكالب الأعداء علينا من داخلنا وخارجنا، وبحجم المأساة التي تعيشها الأمة الإسلامية، ولا يصدنا عن القيام بهذا الدور ما نلقى من عنت ومشقة ومن صدود من جانب الناس، ومن تضييق وحرب من جانب الحكام أذناب العلمانية وعملائها.
لابد إذن من العمل بهذا الدين ولهذا الدين، ولابد من جمع الناس على ما يحبه الله ورسوله من الاعتقادات، والأقوال، والأفعال، ولابد من تحمل التبعات في سبيل ذلك، ولابد أيضًا من الجهاد في سبيل الله، وإعلان الحرب على كل محارب لله ورسوله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ولا أحسب أني بذلك قد تحدثت عن واجب المسلمين كما ينبغي، ولكن يكفي أن تكون تذكرة لنا جميعًا، لعل الله ينفعنا بها.. اللهم آمين.
تم الفراغ منه في 3 من ربيع الآخر لعام 1411هـ
الأحد ليلاً
والحمد لله في الأولى والآخرة
هذا الكتاب
هذا الكتاب يخبرك بالخطر القادم، والخطر الدفين، في أسلوب سهل.. قريب.. يفهمه المبتدئ.. وينتفع به المنتهي.. إنه كتاب يُعرفك بعدوك القائم.. وأقترح أن ينشر هذا الكتاب بالألوف المؤلفة.. في الجامعات، والثانويات، والمؤسسات، ليكون الجميع على بصيرة من أمرهم {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}،
حفظ الله المؤلف وأثابه ورفع منزلته.
عائض القرني
-------------------------------------------
([1]) الرهبانية عند النصارى نوع من العبادة التي ابتدعوها، فقوله: (ليس بمترهب) يعني ليس بمتعبد، وهي تقارب أو تناظر التعريفين الأول والثاني، والنصارى لا ينظرون إلى الرهبانية على أنها بدعة كما ينظر إليها المسلمون، بل يعتبرونها دينًا صحيحًا، وعلى ذلك فقوله: (ليس بمترهب)، ليس نفيًا للابتداع، وإنما هو نفي للتعبد والتدين.
([2]) ما ذكرنا هنا عن دائرة المعارف البريطانية، والقاموس الإنجليزي، استفيد من كتاب (نشأة العلمانية) للدكتور محمد زين الهادي.
([3]) العلمانية في جميع صورها وأشكالها هي في الحقيقة ملحدة، سواء منها ما ينكر وجود الله، وما لا ينكر؛ لأن أصل الإلحاد في لغة العرب معناه: العدول عن القصد، والميل إلى الجور والانحراف.
وإنما قلنا علمانية ملحدة، وغير ملحدة، جريًا على ما اشتهر عند الناس اليوم: أن الإلحاد يطلق على إنكار وجود الله فقط.
([4]) كثير من الناس لا يظهر لهم محاربة العلمانية (غير الملحدة) للدين؛ لأن الدين انحصر عندهم في نطاق بعض العبادات، فإذا لم تمنع العلمانية مثلاً الصلاة في المساجد، أو لم تمنع الحج إلى بيت الله الحرام، ظنوا أن العلمانية لا تحارب الدين، أما من فهم الدين بالفهم الصحيح، فإنه يعلم علم اليقين محاربة العلمانية للدين، فهل هناك محاربة أشد وأوضح من إقصاء شريعة الله عن الحكم في شتى المجالات، لو كانوا يفقهون.
([5]) انظر الناقض الرابع من نواقض الإسلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتاب العقيدة الصحيحة للشيخ عبد العزيز بن باز، ص28.
وإنما قلنا علمانية ملحدة، وغير ملحدة، جريًا على ما اشتهر عند الناس اليوم: أن الإلحاد يطلق على إنكار وجود الله فقط.
([6]) المرجع السابق، ص30.
([7]) ونحن أكدنا وما زلنا نؤكد أنه لا يحق لأحد أن يظن مجرد الظن أننا نقلل من أي شيء - وإن كان صغيرًا - تناوله حكم الإسلام، حتى ولو كان ما يتعلق بأدب قضاء الحاجة، وما ندعو إليه فقط هو إعطاء كل جانب ما يستحقه في ميزان الإسلام، وهذا الذي أكدناه وذكرناه إنما هو طريقة العلماء المنبثقة عن الفهم الصحيح للنصوص الشرعية.
http://www.saaid.net المصدر:
=============(12/177)
(12/178)
العلمانيون وزلزال تسونامي
الوصيف علي حزة
إن المتابع لهذا الحدث الذي هز القلوب والأسماع وأودى بحياة الكثير على حين غرة، والذي تناولته وسائل الإسلام بتفسير مادي بحت يثير العجب، حيث إنه كان من المتوقع أن تكون النظرة إلى الحدث بعين المعتبر المتعظ ؛ ذلك أن المؤمن لا يمر على آية من آيات الله - تعالى - إلا مرور المعتبر، قال - تعالى -:) قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137) هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) {آل عمران: 137، 138}، وقال - تعالى -: فاعتبروا يا أولي الأبصار {الحشر: 2}.
ذلك أن من شيم أهل الغفلة والجهل والكفر الإعراض عن آيات الله - تعالى - مطلقًا سواء الآيات القرآنية أو الآيات الكونية، قال - تعالى -: ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون (2) لاهية قلوبهم ) {الأنبياء: 1- 3}، وذلك لأن انتفاعهم بالآيات معدوم، ( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) {يونس: 101}.
ومن طبيعة هؤلاء أن يفسروا الأحداث والتاريخ والوقائع تفسيرًا ماديًا:(وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ){الطور: 44}، وليس هناك مجال - عندهم - لمفهوم الإيمان المقترن بالآية الكونية، ( فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ){الأحقاف: 24، 25}.
ولما كانت نظرتهم إلى الحدث بهذه الصورة المادية البعيدة عن الإيمان كان علاجهم للمشكلة من هذه الزاوية أيضًا؛ إذ لَمَّا حدث الزلزال اتجهوا للبحث عن خبراء اليابان والمراصد وأحزمة الزلازل في العالم - ونحن لا نقلل من شأن العلم الحديث - لأن المؤمن يتخذ الأسباب التي أودعها الله في كونه، ولكنه - أي المؤمن - لا يكتفي بالأسباب فقط وإنما يتجه إلى خالق الأسباب مبدع الكون الذي إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، فيطلب منه العون والمدد حتى لا يتشبه بولد نوح، لما قال له أبوه: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، كان جوابه باحتياطات مادية أيضًا: قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) {هود: 43}.
فهل نسي العلمانيون - أو تناسوا - بأن القشرة الأرضية تأتمر بأمر الله؟ قال - تعالى -: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) {فصلت: 11}.
فكل ما في الكون طوع أمره - جل وعلا - خاضع لعظمته متذلل لجلاله: (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس) {الحج: 18}، أمرها فأطاعت وأسجدها فسجدت وأمسكها لتؤدي دورها: ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) {فاطر: 41}.
والعقلاء يعلمون أن الأرض بيد الله وحده يحركها كيف يشاء، وفي كتاب الله ذِكْرُ الخسف الذي لحق بقارون لما عتا وتكبر بسبب ما أعطاه الله - تعالى - فكان التذكير بنهاية طاغية وهو قارون الذي نسب الفضل لنفسه ولم ينسبه لصاحبه، فقال: (إنما أوتيته على علم عندي، فكان الجزاء: فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) {القصص: 81}.
وانظر إلى قوم لوط لما استباحوا الفاحشة وإتيان الرجال من دون النساء شهوة وترديًا في حمأة الرذيلة فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود) {هود: 82}.
إن ما أصاب ثماني دول في زلزال تسونامي أولى بنا أن نفسره على أن هذا جزاء ما اقترفت أيدي الناس من حل للربا والخمر و الزنى والحرب على كتاب الله واتخاذ آيات الله هزوًا فكان كما قال ربنا: (و كأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا (8) فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا ) {الطلاق: 8، 9}.
إن كثيرًا من المنكرات تُرتكب باسم الفنون والآداب والحداثة والعصرية من خلال وسائل الإعلام والسياحة والتي يتمكن فيها العلمانيون فيشوشون على أهل الإيمان إيمانهم، وما نجم عن هذا الزلزال المدمر من هلاك و إبادة لمدن بأسرها فيها الصالح والطالح هو من سنن الله - تعالى -كما روى البخاري في صحيحه أن السيدة زينب بنت جحش سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث".
قال ابن حجر: الخبث: هو الزنى وأولاد الزنى.
وقال صلى الله عليه وسلم : "إِن الله يغار من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"، ولعل انتشار سياحة الجنس في هذه البقاع و الاستعلان بالفاحشة أدى إلى هذا الدمار الهائل والذي لم يقف عند محل الزلزال وإنما تعداه إلى أماكن بعيدة.
قال - تعالى -: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ){الأنفال: 25}.(12/179)
وقال آخرون: إن بلادًا كثيرة كأمريكا وأوربا انتشرت فيها الفواحش أضعافا مضاعفة ولا يزالون في نعمة تتلوها نعمة!!
نقول: إن الله - جل وعلا - يستدرج أهل الباطل ويعطيهم على المعاصي ليس حبًا لهم ولا رضا عنهم ولكن استدراجًا، قال - تعالى -: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) {الأنعام: 44}.
وقال - تعالى -: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (44) وأملي لهم إن كيدي متين) {القلم: 44، 45}.
فأما المؤمنون إن قصروا وعصوا فإنما تصيبهم النوازل لتعيدهم إلى سواء السبيل، قال - تعالى -: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) {الروم: 41}.
وأخيرًا نقول لمن أراد معرفة الزلزال قبل وقوعه فلقد نبه رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فيما رواه البخاري: "لا تقوم الساعة حتى يقل العلم ويفشو الجهل وتكثر الزلازل ويفيض المال فلا يقبض".
وقد قل العلم الشرعي وإن زادت العلوم الدنيوية التي لا نقلل من أهميتها ولكن على حساب العلوم الإسلامية، وفشا الجهل بالتوحيد ومنهج أهل السنة والجماعة وكثرت الزلازل كما رأينا.
وهذه إرهاصات بين يدي الساعة تدل على قرب وقوعها ولكننا لا يمكن أن نحدد عددًا معينًا من السنين كما ذهب بعض الدجاجلة إلى ذلك، وإنما نقول: (علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة) {الأعراف: 187}.
ومن الجدير بالذكر أن المسلمين لهم نظرتهم الإيمانية إلى الأشياء والأحداث والتاريخ، إلا أن العلمانيين الذين أشربوا في قلوبهم حب الغرب الصليبي أو الإلحاد الشيوعي زلزلوا حياة الأمة وشككوا العامة في إيمانهم برب الأرض والسماوات بنظم التعليم والإعلام.
فهل من عودة صادقة إلى الله - جل وعلا - حتى يرفع عنا هذه الغمة كعودة قوم يونس: ( إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ){يونس: 98}.
هل من عودة إلى شريعة الإسلام وأحكامه لتدفع عنا الخزي والعنت؟ هل من مجيب، وهل من مدَّكر؟
والحمد لله رب العالمين
http://www.altawhed.com المصدر :
===========(12/180)
(12/181)
العلمانيون واحتراف البكاء على الحرية
شادي الأيوبي
من المضحك المبكي في هذه الأيام ما احترفه بعض العلمانيين من البكاء على أطلال الحرية المفقودة، والتضجر من بعض القيود التي يدعون وجودها على الجهر بآرائهم، سواء أكانت تلك قيوداً اجتماعية، أم كانت قيوداً من المشرفين على وسائل الإعلام، ولا يتورع البعض منهم عن الادعاء بوجود "اضطهاد فكري ونفسي" من فئات المجتمع المختلفة.
وتتنوع شكاوى هؤلاء من التضييق على الظهور، إلى إعطاء الفرص الأوفر لمخالفيهم- من الإسلاميين في معظم الأحيان- للإدلاء بآرائهم في مختلف القضايا، ولا يتورع بعض المغالين من مغموريهم بادعاء وجود تهديدات وأخطار تمس حياته، وهذه مسألة بالغة الخطورة؛ لأنها تمس قضية الأمن الوطني الذي يجب أن يشترك جميع أبناء الوطن في الحفاظ عليه بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية أو الدينية.
والحق أن الأجواء قد اختلفت كثيرا بالنسبة لهؤلاء، لكن هذا الاختلاف كان نتيجة طبيعية لزيادة الوعي لدى فئات المجتمع المختلفة، وليس بسبب رغبة الإعلاميين في اضطهاد العلمانيين كما يحاول بعض هؤلاء أن يوحوا لنا، حباً منهم في لعب دور الضحية المستحقة للشفقة.
فهؤلاء اعتادوا خلال سنوات الطويلة امتدت من الخمسينات والستينات وحتى منتصف الثمانينات تقريبا- مدة المد اليساري عالمياً- اعتادوا أن يكونوا فرسان الميدان الإعلامي دون منافس أو معترض، وكانت جميع الميادين الإعلامية مفتوحة لهم على مصراعيها، من مكتوبة ومسموعة ومقروءة، وكان من النادر سماع أصوات قوية معارضة لهم؛ لأن التيار السائد في ذلك الوقت كان مؤيداً بشدة لأفكارهم ومبادئهم، بحيث كانت أي أصوات معارضة تخنق في مهدها، أو ترسل إلى كواليس النسيان والإهمال، مما جعلهم يصولون ويجولون دون معارض أو محاسب لسنوات طويلة.
غير أنه في المدة الأخيرة، وبسبب أن الحالة الإسلامية بدأت تؤتي أكلها، وبسبب من إلحاح الجماهير التي عادت إلى مبادئ دينها ورفض ما يخالفه، فقد صارت هناك ضرورة لمراعاة الذوق العام المتجه نحو التدين الواعي، والرغبة بالاستزادة من المعلومات الدينية والثقافة الجادة، وهكذا اتجه العديد من المنتجين إلى برامج وأفلام ومسلسلات تراعي رغبة الجمهور.
وهنا يحق لمعترض لأن يقول: ألا تنظرون إلى ما يجري اليوم من برامج هابطة يجري وراءها الشباب بالآلاف، ولا ترون المسلسلات الخليعة التي تملأ الساحة؟
نقول: نعم هذا صحيح وموجود، لكنه لا يقارن بما كانت عليه الأحوال في السنوات الخالية، حيث كانت الشاشات المختلفة لا تعرض لذكر الدين إلا في الأعياد أو في شهر رمضان المبارك، وذلك ببعض المسلسلات الموجهة أصلاً لتضييع معنى الصيام، عبر ما تعرضه من فنون ورقصات وغناء مائع.
ونحن إذا عقدنا اليوم مقارنة بين تلك السنوات وبين السنوات التي نعيشها اليوم، نجد فرقاً كبيراً، فالجمهور المتدين الذي يقاطع البرامج التافهة، كان غير موجود تقريباً، أما أنه توجد اليوم جماهير تائهة تجري وراء كل هابط، فهؤلاء كانوا دائماً موجودين، وسيظلون موجودين، وذلك أن الغث يبقى دائماً ليتميز الصحيح.
فقبل عشرين سنة مثلاً، كنت ترى شيوخاً معممين يتكلمون في أمور الدين المبدئية، لكنك لن تجد من يعطي تحليلاً سياسياً أو اقتصادياً من وجهة نظر دينية، كما لن تجد من يتكلم عن حيوية الدين الإسلامي، والدعوة إلى النهضة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال مبادئ مستقاة من الدين ومبادئه.
واليوم لا يماري أحد في وجود تغير كبير وجذري، يسميه الإسلاميون صحوة، ويسميه خصومهم انتكاسة وتخلفاً، لكنه على كل حال فرض وجوده واحترامه على من يريده ومن لا يريده، ومن مظاهر ذلك التغير:
- الإقبال على التدين والالتزام بمبادئه، سواء على الصعيد الفردي، أو على صعيد الجماعات والمجتمعات، ويستطيع المراقب ملاحظة الفارق الواسع بين التدين قبل 30 عاماً والتدين في أيامنا هذه، فقبل كان التدين محصوراً في جماعات إسلامية معينة - ولا ينكر أحد ما قام به هؤلاء من خدمات للدين في مدة كان الدين فيها غريباً تماماً- أما اليوم فالتدين صار حالة عامة يشترك فيها ابن الشارع البسيط والأكاديمي المثقف، وابن الحركة الإسلامية ومن لا ينتسب إليها، ولك أن تنظر إلى عدد المجاهرين بالإفطار في رمضان قبل ثلاثين عاماً وأعدادهم اليوم لتعرف مدى التغير..
- البرامج الإسلامية التي انتشرت في القنوات المختلفة والإقبال المتزايد عليها، خاصة برامج الفتاوى وجلسات العلم والفقه، حيث تقبل عليها اليوم فئات كبيرة من المجتمع، ومما يجعل من هذه البرامج ومثيلاتها واعدة اهتمام فئتين من المجتمع كانتا تقليدياً في الجهة المقابلة وهما فئتا الشباب والنساء.(12/182)
- ظهور القنوات الفضائية ذات التوجه الإسلامي ونجاحها في دخول البيوت دون تحفظ، خاصة بعد ارتفاع صرخات التحذير من البرامج الهابطة التي ظهرت نتائجها الخطيرة على الكثير من الشباب، ثم نجاحها في تقديم الجديد الممتع، والذي يعتمد على العقل والنقل والعلم الحديث، مما رفع من سقف خطابها ليصل إلى المثقفين الكبار، مع محافظتها على مخاطبة رجل الشارع البسيط.
- طبقة العلماء المثقفين والمفكرين والإداريين الذين أثبتوا وجودهم خلال المدة الأخيرة، والذين قدموا الدين بطريقة عصرية قريبة للأفهام وآسرة للعقول، بعيدة عن التعقيدات، فبرامج الإعجاز القرآني المعتمدة على الآيات القرآنية والمستندة إلى أدلة من العلم الحديث، وبرامج تعليم الإدارة وفنون المهارات الذاتية، والتي جاء بها مثقفون مسلمون من بلاد الغرب وطعموها برجوعهم للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وغيرها من البرامج التي تتخذ من الدين مرجعية لها، أصبحت في غاية الجاذبية والرواج، حيث نبهت الجماهير إلى فكرة مهمة كانت غير واضحة المعالم لسنوات عديدة: إمكانية قيام نهضة حضرية على أساس من الالتزام بتعاليم الدين وشريعته..
- ظهور تطبيقات عملية ناجحة للفقه الإسلامي في مجالات كانت مهجورة منذ زمن بعيد خاصة المجال الاقتصادي، والذي كان من أول مجالات الشريعة الذي تسربت إليه التطبيقات الوضعية، حيث تشق البنوك الإسلامية وشركات المضاربة الشرعية طريقها بنجاح مضطرد يوما فيوما، ورغم الإخفاقات التي تعرضت لها في بداية مسيرتها، إلا أنها استطاعت إثبات وجودها على الساحة، بحيث صارت منافساً- ولو مبتدئاً- للبنوك التقليدية.
التغير الأخير لم يكن نتيجة مصادفة تاريخية أو اجتماعية لكنه كان نتيجة لجهود كبيرة بذلت ولا تزال تبذل، وإلى عوامل أخرى، منها:
- الجهود التربوية الجبارة التي قامت بها الحركات الإسلامية المعتدلة في سبيل نشر الوعي المرشد بين المجتمعات المسلمة، ولكي نكون منصفين في خضم الثورة الإعلامية الحالية، فإن تلك الجهود الخفية تلك كانت أساس الوعي الجماهيري الحالي، مع أن تلك الجهود لم تنل حقها من الدراسة والأضواء، فقد كانت ولا تزال جهوداً خفية بعيدة عن الظهور لأسباب عديدة.
- الجهود التي قام بها الدعاة الجماهيريون المثقفون، والذين استطاعوا إيصال الثقافة الإسلامية إلى الجماهير دون تحفظ حزبي أو فئوي، فهؤلاء بطريقة بسيطة ودون الانجرار إلى المواجهة مع أي طرف، جعلوا من الدين والشريعة أهم عامل تأمل الجماهير اليوم في قيام نهضتها على أساسه.
- الانفتاح الإعلامي الأخير الذي حمل في طياته الكثير من الغث والسمين، على أنه ساهم بشكل عام في خلق مناخ عام من الشعور بالوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية، خاصة في أوقات الأزمات، مما جعل القوى الاستعمارية تضيق بها ذرعاً، وتطالب بإقفالها أو التضييق عليها، وهي التي كانت أصلاً تطالب بإفساح المجال لها، عندما كانت تغطيتها توفر لها الحجة للتدخلات غير المنتهية في شؤوننا.
- مسارعة الإسلاميين إلى مجالات التقنية الحديثة لا سيما مواقع الإنترنت، فبعد الراديو والتلفزيون اللذان كان العلمانيون سباقين إليها ثم مسيطرين عليها، كان الإسلاميون من الذين لم يتأخروا في إنشاء مواقع على الإنترنت، وهذه ساهمت في نشر أفكارهم، والترويج لمبادئهم وتواصلهم مع الناس، ومواقع الإنترنت كما هو معلوم- من ناحية تقنية أسهل وأقل تكلفة من غيره من أدوات الإعلام..
- إعراض القنوات غير الملتزمة عن التصدي للقضايا المصيرية والقضايا المهمة، وانصرافها إلى برامج اللهو التي لا تنتهي، فلا تكاد ترى ذكر قضيتي العراق وفلسطين إلا في نشرات الأخبار، أما المشاكل الاجتماعية فليس لها معالجة جادة كذلك، بينما تئن المجتمعات العربية تحت وطأة مشاكل خطيرة، مثل: البطالة والغلاء وانتشار الأمراض الاجتماعية كالتدخين والمخدرات وانتشار فظيع للأمية والجهل..
على أن الدعاوى العلمانية تحتوي على الكثير من التعامي والتجاهل لكثير من المشاكل التي ساهم هؤلاء في إيجادها، ولمشاكل أخرى لا يزالون يتسببون بإيجادها، كما تحوي تناسياً وتجاهلاً لتاريخ عريض من التفرد مارسه هؤلاء بدعم من قوى كثيرة، جعلتهم- كما أسلفنا- يتفردون بالمجاهرة بآرائهم والترويج لمبادئهم علناً لسنوات طويلة..
ويستطيع المرء تعداد الكثير من التجاوزات والمضايقات التي تعدى فيها العلمانيون على الحريات العامة، في سبيل إقصاء منافسيهم عن المجالات العامة، تبدأ بالمضايقات والتحرش وتنتهي بالإقصاء والطرد، ومنها على سبيل المثال:
- تمسك العلمانيين غير المنتهي بالسلطة السياسية وإقصاء جميع معارضيهم بشتى الوسائل القمعية، وهذه النقطة هي قمة المأساة في عالمنا العربي والإسلامي، حيث تسخر إمكانات الدول والشعوب لخدمة طائفة أو جهة معينة جعلت من نفسها طبقة فوق سائر الناس، وتمتعت بالخيرات دون الخلق، دون أن تسمح لأي أحد بسؤال بسيط من نوع: من أين لك هذا؟؟(12/183)
- إقصاء الخصوم السياسيين من الوظائف العامة والتعليم، خاصة ما تتعرض له النساء المحجبات من مضايقات وطرد من جامعات ووظائف الدولة حتى الأماكن العامة، والقانون الوحيد الذي لم يسنه العلمانيون في هذا المجال هو منع الهواء والماء عن هؤلاء المحجبات وأسرهن..
- إبعاد الملتزمين بالدين حتى غير المنتمين منهم لأي تيار إسلامي - عن الظهور الإعلامي، فكثير من المذيعات اللواتي التزمن بالحجاب مثلاً، أُخرن إلى الصفوف الخلفية ومنعن من الظهور على الشاشات، إن لم توجه لهن إنذارات بالطرد من العمل إن لم يتراجعن عن قرارهن الجديد..
http://saaid.net المصدر:
============(12/184)
(12/185)
الجواب عن شبهات الداعون إلى علمانية العاصمة القومية
د.عبد الحي يوسف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فإن طرح الشبهات وإيراد المشكلات دأب أهل الضلالة من قديم، يفعلون ذلك صداً عن سبيل الله واستجابة لداعي الهوى في نفوسهم التي جبلت على الإعجاب بالرأي وإيثار العاجلة على الباقية، وفي القرآن الكريم نماذج لبعض تلك الشبهات التي طرحها المشركون الأولون على الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كقولهم: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)، وقولهم: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)، وقولهم: (أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر)، وقولهم: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وجماع ذلك قول الله في القرآن: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، قال أهل التفسير: نزلت الآية فيمن اعترضوا على تحريم الميتة بقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم : ما قتله الله حرام وما قتلته بيدك حلال؟ وقوله - سبحانه -: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، وهم في هذا كله يدّعون أنهم أهل استقامة وسداد وأنهم يرومون الخير للناس: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
وهاهنا نعرض لبعض هاتيك الشبهات التي يروِّج لها الداعون إلى علمانية العاصمة القومية:
[1] قولهم: إن في العاصمة ناساً يدينون بغير الإسلام وفي الحكم بالشريعة تضييق عليهم:
والجواب: أن وجود غير المسلمين في مجتمع يحكم بالإسلام ليس وليد اليوم، ولا هي مشكلة طارئة تحتاج إلى بحث، بل منذ أن بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وقامت للإسلام دولة في المدينة، وغير المسلمين ـ من اليهود وغيرهم ـ موجودون يعيشون بين ظهراني المسلمين ويمارسون شعائر دينهم؟ فما الجديد إذن؟ ومتى كان وجود الأقلية في أي مكان أو زمان يمنع الأغلبية من أن تطبق دينها؟ وهل عهد في تاريخ الإسلام كله إجبار غير المسلم على الدخول في الإسلام؟
يقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: "وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون ـ الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة ـ أن النظم والديانات ليست مما يفرض قسراً فعاملوا ـ كما رأينا ـ أهل سورية ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم نظمهم وقوانينهم ومعتقداتهم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم".
وغير المسلمين ـ تحت حكم الإسلام ـ في حمايةٍ من كل ظلم داخلي أو اعتداء خارجي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه كنت أنا خصمه يوم القيامة))، بل إن الثابت ـ واقعاً وتاريخاً ـ أن المسلمين كانوا هم المتضررين من تطبيق غيرهم ما يحسبونه ديناً، حيث عانوا في القديم من محاكم التفتيش في الأندلس ـ وقد اعترف بذلك مفكرو الغرب ومؤرخوه ـ وفي التاريخ الحديث ما أمر البوسنة وكوسوفا عنا ببعيد؟ ونقول أيضاً: إن الالتزام بالتشريع الإسلامي لا يمس حقوق غير المسلمين؛ لأن الإسلام كفل لهم حرية الاعتقاد وتطبيق تشريعهم في الأحوال الشخصية، ومن المعلوم للكافة أن الإنجيل ليس فيه أحكام تشريعية في المسائل المدنية والتجارية، ولهذا يأخذ النصارى في كل دولة بتشريعها في هذا المجال، فضلاً عن ذلك فالقوانين الدولية قد تواترت على إقليمية التشريع في جميع التشريعات إلا في مسائل الأحوال الشخصية، وبمقتضى ذلك يخضع الشخص لقانون الإقليم الذي يعيش فيه.
ثم ماذا يضير النصارى أن تمنع الخمور ويحظر الفجور ويلغى الربا ويحارب البغاء؟ هل يزعم أحدهم أن ديناً نزل من السماء يبيح شيئاً من ذلك؟ اللهم لا. لكن منطق الاستبداد الأرعن الذي تمارسه أمريكا على سائر الأمم هو الذي يحملها ـ ومن وراءها من الأذناب كحركة التمرد ـ على أن يحاولوا منع المسلمين من تطبيق شرائع دينهم تحت ذرائع شتى، والحال كما قال ربنا: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، لكن العجب العاجب هو أن يرضى بعض من ينتسب إلى الإسلام لنفسه أن يكون مروّجاً لمثل تلك الأباطيل، واضعاً في طريق سيادة الشريعة شتى العراقيل.
[2] قولهم: إن تطبيق الأحكام الشرعية يحرم العاصمة من مجيء السائحين، وترك الأحكام الشرعية يجعلها عاصمة جاذبة:(12/186)
والجواب: أن العقلاء وأهل المروءة متفقون على أن الغاية لا تبرر الوسيلة وأن ما عند الله لا يطلب بمعصيته، وقد قال العرب الأوّلون: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها". ثم من الذي يقول: إن العاصمة لا تكون جاذبة إلا إذا أبيح فيها الحرام؟ لو أنصفوا لقالوا: إن الواجب علينا أن نرعى الأخلاق، ونحفظ حدود الله من أن تضيّع فنحلّ الحلال ونحرّم الحرام؛ حتى يأتي إلينا السائحون الملتزمون وهم آمنون على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولو أنصفوا لقالوا: إن الواجب أن تتضافر الجهود لترقية الخدمات وتأمين الماء والكهرباء، وتعبيد الطرق وتوسعة المطارات وتجميل المسارات وإنارة الشوارع حتى تكون الخرطوم عاصمة جاذبة، بدلاً من الدعوة إلى العلمانية المنكرة التي تبيح ما حرم الله فنكون ممن لم يحفظ ديناً ولم يصلح دنيا، (وشر الناس من خسر الدنيا والآخرة)، ونذكّر أنفسنا وهؤلاء بقول الله - عز وجل -: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((ولا يحملنكم طلب الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله))، ومن التاريخ القريب يعلم المنصفون أن الخرطوم كانت يوماً ما ـ بوجهها الشائه وخدماتها المتردية ـ عاصمة الموبقات المهلكات فهل جذب ذلك السائحين إليها؟ أو فتح أبواب الرزق عليها؟ اللهم لا هذا ولا ذاك. لكن..
يقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
ثم ألا يعتبر هؤلاء بحال أمم سارت في ذات الدرب فلم تحصد إلا المرّ والعلقم، فلا أزماتها الاقتصادية حلّت، ولا وحدتها الوطنية حققت، ولا مشاكلها الأمنية زالت، بل زادت، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى).
[3] قولهم: إن الاستمساك بهذا الأمر ـــ أي تطبيق الشريعة في العاصمة ـــ يفوّت فرصة تحقيق السلام الذي بات وشيكاً بزعمهم:
والجواب: أن أهل الإسلام مجمعون على أن حفظ الدين مقدّم على حفظ النفوس والأعراض والأموال والعقول؛ وعليه فلو كان السلام في مقابل التنازل عن أحكام الله - عز وجل - فنقول: لا حيّاه الله ولا سقاه ولا مرحباً به ولا أهلاً، وحسبنا أن نذكّر أنفسنا؛ لتكف عن طاعة المبطلين، بتلك الدماء الزكية التي نزفت على أرض الجنوب والشرق لتكون كلمة الله هي العليا، فهل كان ذلك ليأتي آتٍ بعد زمان قريب ليقول: لا بأس بالتنازل عن الشريعة في العاصمة من أجل تحقيق السلام، ولو أن امرءاً رضي لنفسه أن يتنازل عن دينه لينال سلاماً متوهماً؛ فلن يبالي بعد ذلك بالتنازل عن عرضه، ومن تتبع تاريخ المتمردين وزعيمهم في نقض العهود ازداد يقيناً بقول الله في القرآن: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)، وبقوله - سبحانه -: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)، ومن أعطى الدنية في دينه فرضي بتغييب الشريعة في العاصمة اليوم فسيرضى بتغييبها في غيرها غداً.
[4] قولهم: إن علمانية العاصمة علاج للأوضاع وحماية لها من التعصب الديني:
والجواب: هو أن العلمانية ما كانت في يومٍ من الأيام علاجاً للتعصب الديني أو الطائفي أو العرقي، ومن كان في شك من ذلك فليرجع إلى تاريخ بلاد ارتضت العلمانية مبدأً ومنهجاً من قديم ـ كالهند ولبنان وتركيا ـ هل حالت العلمانية دون قيام مذابح الهندوس ضد المسلمين في الهند؟ أم حالت دون قيام الحرب الأهلية التي استمرت سنين عدداً في لبنان؟ أم حالت دون اضطهاد الأكراد في تركيا؟ والتاريخ شاهد بأن حرب الجنوب قامت قبل أن تطبق الشريعة سواء في ذلك التمرد الأول أو الثاني، بل إننا نقول إن المسلمين هم الخاسرون من تطبيق هذا المبدأ الفاسد حيث عهدنا في أكثر البلاد علمانية ـ كفرنسا مثلاً ـ أن تمنع الفتاة المسلمة من ارتداء حجابها في المدرسة، وفي تركيا تمنع نائبة في البرلمان من الدخول إليه إلا بعد خلع حجابها فأين العلمانية هنا؟ إن علاج التعصب لا يكون إلا بنشر الوعي وبث العلم وتربية الناس على فن الحوار مع الغير واحترام النظام وأدب الكلام، ولا أنفع ولا أطيب ولا أحسن من هدي القرآن في ذلك، (وجادلهم بالتي هي أحسن)، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (لا إكراه في الدين)، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولو أنصفوا لقالوا: إن العلاج يكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، ورفع الظلم وبسط العدل بتطبيق الشريعة.
[5] قولهم: إن العلمانية هي المبدأ السائد الذي يحكم العالم الإسلامي كله، وما ينبغي أن نكون نشازاً بين الناس:(12/187)
والجواب: أنه قد أجمع علماء المسلمين من قديم على أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، وأنها حجة عليهم لا العكس، وقد قال الله - عز وجل - في القرآن: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، وقال: (وإن كثيراً من الناس لفاسقون)، (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم)، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام ستنقض عراه عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة، وأخبرنا أن الكتاب والسلطان سيفترقان وأمرنا ألاّ نفارق الكتاب، ثم أي عقل هذا الذي يحكم على المكلّف بأن يدع تعاليم دينه ويهمل شريعة ربه ويكون إمعة لأن الناس أو أكثرهم فعلوا ذلك؟ وقد علم الناس أجمعون أن العلمانية ما حكمت العالم الإسلامي برضى المسلمين ولا مشورتهم، بل فرضت بقوة الحديد والنار عن طريق الانقلابات العسكرية التي قام بها أذناب المستعمر ومن ثم مارسوا التضييق على الدعوة وأهلها، وعمدوا إلى تغييب الدين عن حياة المسلمين، ومنذ أن طبقت ما عرف المسلمون تقدماً ولا رقياً بل إن أعرق البلاد المسلمة علمانية ـ وهي تركيا ـ صار همُّ ساستها اللهاث خلف أوروبا، والتوسل من أجل أن يمنحوا عضوية في الاتحاد الأوروبي، وفشلوا في ذلك رغم قول قائلهم من قديم: "لا بد أن نأخذ بحضارة الأوروبيين حتى النجاسات التي في أمعائهم والأوبئة التي في أكبادهم".
[6] قولهم: إن الدين لله والوطن للجميع، فلا بد أن يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات:
نقول: بل الدين لله، والوطن لله، والحكم لله، والخلق عباد الله، (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)، وماذا يضير غير المسلمين في أن تحكم الأغلبية بشريعتها وترجع إلى أحكام دينها في الأمر كله؟ ثم ماذا لو حدث العكس وكان المسلمون هم الأقلية هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟ وهاهم المسلمون يعيشون في البلاد الكافرة ـ في أوروبا وأمريكا ـ ويخضعون لأنظمة وتشريعات تتعارض مع بدهيات دينهم، ولا يجرؤون على المطالبة بتغييرها أو تعديلها، ولو فعلوا لقيل لهم: هذا هو حكم الأغلبية، إنه لا يقبل شرعاً ولا عرفاً بل ولا ديمقراطياً ـ وهم أكثر الناس تشدقاً بالدعوة إليها ـ أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لا سيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات. ثم لماذا يتخلى القوم عن علمانيتهم القاضية بأن القانون الحاكم يجب أن يكون نابعاً مما ترتضيه الأغلبية؟
[7] قولهم: إننا متدينون نصلي ونصوم ومع ذلك نعتقد أن العلمانية هي العلاج الناجع والدواء الشافي:
نقول: إن العبادات والتشريعات وأحكام المعاملات من عند الله ولا يد فيها للبشر، والإسلام كل لا يتجزأ، فليس مسلماً من قال: أصلي على نظام الإسلام وأتخذ منهجاً سياسياً على نظام ميكافيللي، ونظاماً اقتصادياً ماركسياً، كيف يكون الشخص متديناً وهو يرفض حكم الله وحكم رسوله، وصريح القرآن يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)، ويقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)، وهذا الفهم المغلوط للتدين هو الذي حمل بعضهم على أن يحج ويعتمر وينتسب إلى بيوتات دينية، ثم لا يبالي بالجلوس على مائدة يدار فيها الخمر أو يراقص الفتيات؛ لأن التدين في فهمه الكاذب الخاطئ قاصر على جانب الشعائر وحدها ولا علاقة له بمعتقد أو سلوك.
[8] قولهم: إن في تطبيق العلمانية ضماناً لعدم استغلال الدين في أغراض سياسية:
ولغرابة هذه الشبهة فإننا نستعمل معهم الدَّوْر فنقول: علينا ألا نطبق العلمانية لنضمن ألا تستغل في أغراض سياسية، وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. هل يعقل أن يمنع المسلمون من تطبيق أحكام دينهم بدعوى عدم استغلاله، ثم يجبرون على نظام مستورد يخالف دينهم وعقيدتهم بل يخالف رغبتهم واختيارهم؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون.
إن العلمانية ضد الدين لأنها لا تقبل التعايش معه كما أنزله الله بل تريد إقصاءه عن الحياة وحصره في زاوية ضيقة منها، إنها ضد الدين لأنها تريد أن تأخذ منه ما يوافق هواها وتعرض عما يخالفه، ولأنها تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)، إنها ضد الدين لأنها تتعالم على الله - عز وجل - وتقول له: نحن أعلم منك بما يصلح للناس والقوانين الوضعية أهدى سبيلاً من حكمك.(12/188)
إن العلمانية ضد إرادة الشعب في السودان كما أنها ضد إرادة المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والقاعدة العريضة من مثقفي الأمة ـ الذين هم أنضج وعياً وأزكى خلقاً وأقوى إرادة ـ لا يبغون غير الله حكماً ودينه شرعاً.
[9] قولهم: إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تستوعب ملايين القضايا والمشاكل الإنسانية المعقدة، أو أن تقدم حلولاً جاهزة لكل ما يستجد على مسرح الحياة:
والجواب: أن هذا التصور قائم على أساس أن الدين ثابت لا يتغير، وأن الحياة في تغير دائم، وأن الحكم بالأسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة، وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده، فقد شرع الله - تعالى - للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت الله عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حراماً. قال الله - تعالى -: (وقد فصّل لكم ما حرم عليكم)، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سكت عن أمور رحمة بنا غير نسيان، وقال صلى الله عليه وسلم : ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)).
فأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية منها ما هو ثابت محكم، ومنها ما هو متجدد مرن، فالأسس والقواعد الكلية التي تشكل الإطار العام تتسم بالثبات والإحكام، وهي تلك التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتاً ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات، والفروع الجزئية والتفاصيل المتعلقة بالكيفيات والإجراءات ونحوها تتسم في أغلبها بالمرونة والتجدد، ويكفينا قول الله - عز وجل -: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
إن المشكلة لا تكمن في وفاء الشريعة بحاجات الإنسان ومصالحه الحقيقة، ولكنها تكمن في كبحها لجماح الأهواء، ووقوف أحكامها عقبة في وجه دعاة العربدة والتحلل، إن أهل الفجور يتهمون الشريعة بالجمود لامحالة؛ لأنها لا تساير ما في نفوسهم من الشهوات والأهواء. فلا تبيح لهم الخمر ولا الرقص المختلط، ولا الردة ولا التبعية لكفار الأرض، ولا ترويج بضاعة المستشرقين باسم الفكر الإسلامي ولا تزييف التاريخ باسم حرية البحث، هذه هي المشكلة حقاً.
http://saaid.net المصدر:
=============(12/189)
(12/190)
العلمانية وانكشاف الأجندة الخفية
أنور بن علي العسيري
في حراكنا الإعلاميّ والثقافيّ المحليّ يلحظ المتابع المحايد روابط تكاد تشكّل حلقة واحدة متّصلة رغم تقطّع مراحل ظهورها، وتنوّع وسائل التعبير عن نفسها.. الأجندة الخفيّة التي تحالفت وتناغمت في معزوفة ذات رؤية مرحليّة واستراتيجيّة واحدة؛ تكشف عُريها عبر الأعمدة الصحفيّة الناريّة التي تقذف حمم مهاجمة الصالحين، ومحاولة تهديم بيوت الدّعاة، وَ وَصْم المخيّمات الدّعويّة الشبابيّة بتفريخ الإرهاب، وإلصاق تهم التكفير والتفجير بمراكز الشباب الصيفيّة، ودعوة المسؤولين إلى الأخذ بيد الحزم سلاحًا للوقوف ضد تنامي الدّعوة ومحاولة توجيه الناس للخير.. والعذر العلمانيّ لديهم هو أنّنا مجتمع مسلم مئة في المئة ولا نحتاج مزيدَ إسلام!
ويتوّج كل هذه الهجمة المفتعلة من تيار القلّة الشّاذة عقد ندوة هنا أو مؤتمر هناك؛ لتوجيه أصابع الاتهام (الخفيّ) إلى الدّعاة بتكريس وترسيخ منهجيّة أداء العنف في عقل شباب الصحوة التاريخي.
هي حملة شرسة قطفت من ثمار التفوّق المادي الأمريكيّ العالميّ تفوّقها الوهميّ تنكئ على معطى خارجيّ، وتنظر إلى أيّ تقدّم تناله دولة المركز الليبرالي متنفسًا لها لتدعيم وجود صوتها في مجتمعنا.
ومنذ أنْ حلّت كارثة العلمانية في عقول بعض أبنائنا الذين انتقلوا إلى الغرب لتعلّم التطوّر التقنيّ فانسلت ونتيجة لظروف غيابهم عن الدين منذ نشأة الكثير منهم وما كان يعيشه مجتمع النشأة من تخلّف ماديّ قياسًا بهول صدمة التفوق الحضاريَّة منذ حلول هذا الداء الإقصائيّ في هذه العقول وفكر تحطيم الدين في قلب المجتمع المسلم هو الفكر الرائج، والذي يراهن عليه هذا التيار لهزيمة فريق الاستمساك بالثوابت الأصيلة، والتي يُنظر إليها على أنّها بوابة الماضي الذي يجب إهماله للدخول في عالم الحداثة العالميّة.
هذه الرؤية شغلت في إطار الوضوح الرقم صفر.. لأنّها علمت يقينًا بقوّة الدين في تشكيل حياة المجتمع ما جعلها تهرول نحو منابر الإعلام تتسربل برداء حبّ الدين وتسعى زاحفة إلى هدمه من الخلف.. عاشت هذه الأقلام سنين تتدثر بهذا الأداء (الخفيّ)منهج حياة تؤسّس على قاعدته مزيدًا من تهيئة العقول الشّابة، واختراق الصف إلا أنّها فشلت فشلا ذريعًا في تكوين قاعدة مجتمعيّة، أو تجسيد نموذج حداثيّ علمانيّ صالح للحياة في وسط مجتمع إسلاميّ يمجّد القدوة الشرعيّة ويحتفي بها طريقًا للحياة.
ورغم انهزامها إلا أنّ ظروف التغيّر العالميّ فتح مسار التعبير الأكثر وضوحًا لهذه الفئة الضّالة للاستقواء بالأجنبيّ، واعتباره قادرًا على إحداث التغيير المستقبليّ المنشود وفق خططهم لعلمنة أرض الحرمين متى هجم هذا التصوّر الغربيّ بقوّة مادّته وسطوته العالميّة على وطننا الإسلاميّ الحرّ
وتعتبر الكتابات الصحافيّة التي انتشرت في أصقاع الصفحات هذه الأيام نموذجًا يسجل لحظة تاريخيّة في حياة مجتمعنا المسلم على مدى ارتباط هذا الفكر بالسيد الغربيّ! وعلى مدى التناسب الطّرديّ بين الشهرة وتخريب قيم المجتمع، فكلما نزع قلم إلى نزع حياء المجتمع وضرب قيمه كلما ازدادت شهرته، وبزغ نجمه في الإعلام المحتكر من قبل سلاطين الفكر الاقصائي المستغرب والأمثلة والشواهد كثيرة.
قلم: يبارك قرار تخفيض عدد المخيّمات الصيفيّة باعتبارها مراكز تفريخ الإرهاب والبديل الاحتفاء بنجوم الفنّ، وفتح أماكن للتطعيس وملاهي للرقص حتى ينجو المجتمع من تطرّف رجال الدّين!
قلم آخر: يقفز إلى الوراء بعيدًا وهو يخاطب المسؤولين من موقع مسؤوليته الصحافيّة، وخوفه على أبناء وطنه من التطرف بالحزم في وجه الدعاة المتجولين الذين يجوبون القرى والهجر يحملون بضاعة لا اله إلا الله محمد رسول الله.
يدعو هذا القلم إلى منع هؤلاء وتحديد أسماء رسميّة محدّدة للظهور في الإعلام بدل فتح المجال لكلّ داعية؛ فمجتمعنا مسلم عن بكرة أبيه ولا يحتاج مزيد إسلام!
قلم ثالث: يتوجّع من حال وطنه الذي استشرى في جسده نور الدين!! تنتشر مراكزه الصيفيّة في كل مكان، وتحلّق في أجوائه المخيّمات الصيفيّة، ويطالب بالتحديث وتغيير نظرة المجتمع للحياة، وزرع البسمة بدل اقتطافها، وذلك لا يتمّ إلا بمشروع مبارك لإحياء مزيد من الحفلات الموسيقيّة وفتح المجال أمام المرأة لمنافسة الرجل في عمليّة اختلاط لا تجد من ورائها أيّ فرصة حقيقيّة لبناء سوق عمل سعوديّ منتج بقدر ما هي دعوة لإحلال الفساد وتطبيع الانحراف في مجتمع آمن لم ير ولم يسمع من قبل شذوذًا بمباركة أبنائه!
أقلام تنحدر من أعلى قمم المسؤوليّة الأخلاقيّة تهوي بالأمة ألف خريف وهي لا تدري.. وأصوات تعالت حاسرة عبر الفضائيّات التي انتشرت انتشار النار في الهشيم لتفتح لهم (وبأموالنا) منافذ تأثير لم تحلم بها عقولهم القاصرة عن فهم أيّ شيء.(12/191)
هاهم يمتطون كراسي التقديم والإعداد ليعلنوا عن هجومهم الرامي إلى إلصاق تهمة التطرّف بفكرنا الديني، وتوزيع الجرائم على المجتمع كل وفق تخصصه؛ فهذه الفئة تقتل إبداع النساء، وأخرى تحرمها من الميراث، وثالثة تمنعها من العمل، ورابعة تعتبر التحدّث عن الاعتدال سلوك غير طبيعي ينتهزه رجال الدعوة لعبور نفق الإرهاب ناسية أو متناسية أنّ الإسلام دين الاعتدال، وأنّ علماءنا ودعاتنا أهل منهج الوسطيّة عقيدة لا تملّقًا وتقية!!
ومتجاوزين التاريخ الإسلاميّ العتيق الذي نزل وحيًا من السماء، وانتقل انطلاقًا من ارض الحرمين الشريفين مشكّلا أبناء هذه الجزيرة قدوات يتطلع إليهم الجميع منذ فجر التاريخ الإسلاميّ.
إنّ هذه الدعوات تهدف (إضافة إلى علمنة البلاد) إلى محاولة تحطيم القدوات الإسلاميّة التي يتقدمها أبناؤنا من علماء ودعاة إجلاء في صفوف المواجهة الحضاريّة الإسلاميّة مع الآخر إلى تقديم نماذج جديدة من القدوات المحليّة للعالم الإسلاميّ.. الرذيلة وطنها، والإسلام خصمها فتحلّ بارتفاع أسهم هذه النماذج نكبة كبرى في عالمنا الإسلاميّ عن بكرة أبيه؛ إذْ بانهيار المركز تتفتّت الأطراف.
دعوات خطرة وغايات هرمة وانتهازية مقيتة ومحاولات تصفية حسابات بالية في موطن يعيش أزمة وتربص شديدين ينبغي على من ملك فكرا نيرا أو قلما طيعا أن يدرك خطورة المرحلة وإسلامية هذه البلاد التي حباها الله بالحرمين الشريفين فذلك اعز وأنقى من الخضوع لولاية الغرب وحجز مقاعد التبعية الحداثية لمن يريد محاربة دين هذه البلاد والاعتداء على مقدساتها!
23/6/1425
09/08/2004
http://www.islamtoday.net المصدر:
============(12/192)
(12/193)
الإعلام الغربي في مواجهة العقيدة
عقيدة التوحيد هي جوهر الدين وأساسه، فالتأثير فيها سلباً أو إيجاباً هو أخطر التأثيرات على دين المسلم.
ولما كان الإعلام من أقوى المؤثرات - إن لم يكن أقواها - في عصرنا هذا على حياة الناس الفكرية والسلوكية، كان البحث في تأثير الإعلام الغربي على عقيدة المسلم المتعرض له؛ من أهم ما ينبغي أن ينشغل به الباحثون.
لذلك سرني أن يكون النظر فيه ضمن اهتمامات هذه المناسبة المباركة.
إن وسائل الإعلام ليست قاصرة - كما هو معروف - على الصحف والمجلات، والراديو والتلفاز، بل تشمل الكتب العامة والسينما، وربما المسرح، وتشمل الآن الشبكة العالمية (الانترنت).
لكنني أريد أن أضيف في هذا المقال إليها حتى الكتب المدرسية لعظم تأثيرها على الآلاف المؤلفة من أبناء المسلمين.
إذا استثنينا الإعلام الكنسي بكل وسائله - وهو إعلام لا يكاد يتعرض له المسلم - فربما استطعنا أن نقول إن الإعلام الغربي نادراً ما يتعرض للمسائل الدينية بطريقة مباشرة، فكيف يكون له إذن تأثير إيجابي أو سلبي على الدين؟
نعم إن له لتأثيراً أيما تأثير لأنه ليس من شرط التأثير أن يكون مباشراً، بل إن التأثير غير المباشر قد يكون أعظم من التأثير المباشر كما سنرى، وهو في غالبه تأثير سيء، وإن كان لا يخلو من بعض التأثيرات الحسنة، ونعني بالتأثير غير المباشر هنا تلك المعتقدات العلمانية الإلحادية المادية الشائعة في الغرب، والتي تفترض صحتها، والتي تكمن لذلك وراء تفسيراتهم للحوادث الطبيعية والاجتماعية والنفسية، وإن كان لا يصرح بها إلا نادراً.
التأثير السلبي:
تأثيرات الإعلام الغربي السلبية على عقيدة المسلم كثيرة، نذكر منها فيما يلي بعض ما يحضرنا ونراه مهما:
أولاً: من التأثيرات الشديدة الخفاء، البالغة الضرر؛ الاعتقاد السائد بين كثير من علماء الطبيعة والاجتماع - وبالتالي بين عامة المفكرين والصحفيين والمحللين في الغرب - أن التفسير العلمي للحوادث سواء كانت طبيعية أو اجتماعية هو ذلك التفسير القائم على افتراض أن هذا الكون مكتف بنفسه، وأن تفسير حوادثه ينبغي لذلك أن يكون من داخله، أعني أن الظواهر يجب أن تفسر بظواهر أخرى، وأن كل تفسير لشيء من حوادث الكون بإرجاعها إلى سبب خارج عنه هو تفسير خرافي غير علمي.
هذا هو المبدأ المفترض، لكنه لا يقرر بهذه الطريقة الصريحة التي ذكرتها، وإنما يفترض افتراضاً، وقد يفترضه ويلتزم به حتى من لم يفكر فيه من العلماء الطبيعيين، وسائر المفكرين، والصحافيين.
من مظاهر افتراضهم له أنهم يقفون في تفسيرهم للحوادث عند أسبابها الدنيوية - ظاهرة كانت أم خفية - ولا يتجاوزونها.
وما ذلك إلا للاعتقاد بأنها هي الأسباب الحقيقية الكافية، لكن المسلم مع اعتقاده بفاعلية الأسباب الطبيعية أو الاجتماعية أو النفسية لا يقف عند حدودها، بل يذكر نفسه بأنها إنما صارت أسباباً بجعل الله لها أسباباً، وأن الفاعل الحقيقي إنما هو الخالق سبحانه.
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : يارسول الله: أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله.[سنن الترمذي، كتاب الطب، باب ما جاء في الرقى والأدوية]، قلت: إن هذا المبدأ الإلحادي قليلاً ما يصرح به، وأقول إن التزامه في الواقع قد لا يبدو فيه ما يخالف عقيدة المسلم، ما دام المسلم معترفاً بتأثير الأسباب المخلوقة وفاعليتها، لكن الأمر في الحقيقة ليس كذلك، إن المتلقي إذا كان لا يسمع لله ذكراً أبداً في كل ما يخبر به من حوادث طبيعية واجتماعية يوشك أن يتأثر بذلك المبدأ فينسى هو الأخر ذكر الله - تعالى-، وينحو نحو أصحابه في تفسيره للحوادث، فلا تكون له فيها عبرة.
المبدأ الغربي الثاني الذي أراه أيضاً ذا أثر سيئ، والذي أراه قد بدأ ينتشر حتى بين المسلمين في العالم الإسلامي بسبب التأثر بالثقافة الغربية التي تنقل عن طريق وسائل الإعلام؛ هو مبدأ النسبية.
أعني نسبية الحقائق والقيم، لقد أصبح من المسلمات عند كثير من الناس في الغرب أنه لا توجد حقيقة مطلقة، ولا قيمة مطلقة، وإنما الحقائق والقيم نسبية، أي إنها منسوبة وتابعة لزمانها، أو مكانها، أو الحضارة والثقافة التي ظهرت فيها، وهكذا.
فما قاله الناس في العصر الفلاني، أو اعتقدوه في المكان الفلاني، أو رأوه حسناً في الحضارة الفلانية، كل هذا صحيح أو معقول بالنسبة لهم، وإن كنا نراه نحن في ظروفنا أو زماننا أو حضارتنا على غير ما رأوه، وما دام الأمر كذلك فليس من حق أحد أن يقول إن فهمه لنص من النصوص هو الفهم الصحيح، أو إن فهم خصمه خطأ، وأننا ينبغي لذلك أن لا نكون سلفيين في فهمنا للنصوص، فللسلف زمانهم، ولنا زماننا، ولهم ظروفهم، ولنا ظروفنا، بل قد رأيت بعضهم غلا في هذا الأمر حتى قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفسر القرآن لعصرنا لأنه لا يعرفه.
ثالثاً: الاعتقاد في المفهوم السلبي للحرية.(12/194)
وإذا كان الاعتقادان السابقان مما يفترض ولا يذكر، فإن هذا مما يكثر ترداده والتصريح به، والدعوة إليه، والتفاخر به في كل أجهزة الإعلام، وقد أثر ذلك في الناس تأثيراً بالغاً حتى صار من المسلمات حتى عند كثير من المسلمين إن الحرية بمعنى أن الله - تعالى- أعطى الإنسان المقدرة على الاختيار، كما أعطاه المقدرة على العمل، أمر لا شك فيه، بل ربما كان هو مما يتميز به الإنسان.
وقد شاء الله - تعالى- أن يجعل الإنسان شائياً، ومسؤولاً عن مشيئته (( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ))((إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ))، فالمنازعة ليست إذن في كون الإنسان ذا إرادة ومشيئة واختيار، وإنما هي في الطريقة التي تستعمل بها هذه المشيئة أو الحرية التي منحها الله - تعالى- للإنسان.
المفهوم السلبي للحرية يجعلها غاية في ذاتها، بمعنى أن كرامة الإنسان تزداد بازياد استقلاله في اتخاذ قراره، أياً كان ذلك القرار، أي إن العبرة في الاختيار لا فيما يختار، وعليه فكلما مكن الإنسان من أن يفعل ما يشاء كان هذا أكرم له، وأكثر تحقيقاً لإنسانيته.
هذا المفهوم السلبي للحرية مفهوم قديم وإن تزيى بزي حديث، إنه المفهوم المرتبط بالاستكبار والكفر، وهو المفهوم الذي لجأ إليه قوم شعيب في احتجاجهم على أمره لهم بعبادة الله، وعدم الظلم في المعاملات المالية (( قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ))، وهو المفهوم الذي ذمه الله - تعالى- في قوله: (( أيحسب الإنسان أن يترك سدى))[ٍالقيامة:36] أي لا يؤمر ولا ينهى، فالإسلام يعلمنا أن كرامة الإنسان لا تتحقق بمجرد الاختيار، لأن هلكة الإنسان قد تكون فيما يختار (( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ))[فصلت: 17]، وإنما تتحقق باختياره للحق وللخير، ولما يختار له ربه ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ))[الأحزاب:36].
رابعاً: في الإعلام الغربي هجوم على المسلمين ولا سيما العرب، هجوم قال عنه إدوارد سعيد: إنه من النوع الذي لم يعد مقبولاً في الغرب حين يوجه لليهود، أو السود، أو الآسيويين، أو الأفارقة، يتهم العرب بعدم الأصالة، وبالمحافظة، وبعدم المقدرة على التحضر، وبالإرهاب، بل وبالتواكل وبالقذارة، ثم يقال: إن سبب هذا كله هو الإسلام، هذا كلام يبدو لأمثالنا سخيفاً لا يستحق حتى أن يرد عليه، لكن ينبغي أن لا نقلل من تأثيره على شاب في مقتبل عمره، ولد في بلد غربي وترعرع فيه.
عندما ظهر كتاب الآيات الشيطانية طلب مني إخواننا في مجلة Impact أن أكتب نقداً له، فعندما قرأته قلت لهم كلاماً فحواه: " أنه كتاب سخيف ثقيل، ما أظن أحداً سيكمل قراءته، فأرى لذلك أن لا تهتموا به، بل اتركوه ليموت "، لا زلت أذكر ردهم قالوا: إن الكاتب معروف في أوساط الشباب ذوي الأصول الهندية الباكستانية، وأنهم قارئوه لا محالة.
خامساً: يكثر في الإعلام الغربي الحديث عن الدين بطريقة هازلة، ولإثارة الضحك، حتى فيما يتعلق بالخالق - سبحانه وتعالى -، ويكثر فيه وصف الخالق بكلمات لا احترام فيها، كما نرى ذلك مثلاً في عنوان الكتاب الذي دخل ضمن أكثر الكتب بيعاً في أمريكا إن اسمه: سيرة الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً -، إن كثيراً من المسلمين المعاصرين لا يدرون أن الكلام عن الخالق بمثل هذه الطريقة يخرج صاحبه عن ملة الإسلام، ألم يقل الله - تعالى- عن بعض أمثال هؤلاء: (( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )).
سادساً: ومما يتصل بهذا أنهم لم يعودوا يأخذون الدين مأخد الجد، لكنهم يصورون هذا بأنه تسامح، وسعة أفق، ويصمون كل من يبدو منه استمساكاً شديداً بالدين بالتطرف، أو ضيق الأفق، والتعصب، وعدم العقلانية، وهكذا.
لذلك تعجب كثير من الغربيين من الضجة التي أثارها المسلمون بسبب ما قاله مؤلف الآيات الشيطانية عن الله - تعالى-.
وقد تأثر الإعلام في البلاد العربية والإسلامية بهذا الانحراف، فعاد هو الآخر يطبقه على كل من يبدو منه شدة استمساك بنصوص الكتاب والسنة، وعاد يمدح كل منتسب للعلم يبدو منه هذا النوع من التحلل.
سابعاً: الإعلام الغربي - التلفاز، والمجلات، والقصص، والأفلام، والانترنت؛ مليء بإثارة الشهوات الجنسية بكل نوع من صور الإثارة، بالكلمة والصورة، بالشعر والقصة، بأخبار المنحرفين، وبنشر الفضائح.
قد يقال لكن ما علاقة هذا بالعقيدة التي هي موضوع بحثنا؟ وأقول: نعم، إن الإنسان قد يقع في المعاصي الجنسية ويظل مع ذلك محتفظاً بإيمانه، وصفاء عقيدته، لكن من هنالك صلة بين الشهوات والشبهات كما نبهنا إلى ذلك علماء السلف، فالذي يكثر يشتد ضعفه أمام الشهوات فيضعف قلبه، فيكون مهيأ للتأثر بالشبهات المتعلقة بالعقيدة، كتلك التي ذكرناها آنفاً.(12/195)
ثامناً: وهنالك شبهات مباشرة وجدت في الانترنت مرتعاً خصباً لها، شبهات يثيرها خصوم الإسلام المختصون بمحاربته على صعيد الفكر، ويثيرها أهل الأهواء من المنتسبين إلى الإسلام من مفكرى الفرق الضالة، كلاهما أصبح يتستر وراء هذه الشبكة، ويعلن فيها ما قد يتردد من التصريح به في وسائل الإعلام الأخرى، وقد رأيت بعض الشباب يتابعون ما ينشر في أمثال هذه الصفحات، ثم يأتون ليسألوا عن كيفية الرد عليها، لأن علمهم بالدين قليل، والشبهات قوية مضلة.
تاسعاً: وربما كان سبب هذا كله أن في الغرب عدم اطمئنان إلى الدينين الشائعين فيه، وعدم ثقة برجالهما، بل وشك في إمكانية الاستقامة، وهذا داء في الغرب قديم أكثر ما يظهر في الأدب، حتى لقد قال أحد نقادهم - أظنه الدوس هكسلي -: إنه لا يوجد في أبطال روايات شكسبير رجل خير، وأنت تلاحظ هذا في القصص التي يقرؤها الناس بشغف.
إن الشخصية المستقيمة أو المتدينة في القصة كثيراً ما تصور بأنها شخصية منافقة، تفعل في الخفاء ما يخالف مسلكها الظاهري، حتى لقد أصبحت المجاهرة بالسوء نوعاً من الصدق مع النفس والصراحة، وبما أن الغربيين لا يعرفون ديناً غير دينهم فإنهم لا يتحدثون عن اليهودية والنصرانية بخصوصهما، وإنما يتحدثون عن الدين بصفة عامة، ومن هنا يأتي خطر كلامهم على الطفل أو الشاب المسلم الذي يعيش بين ظهرانيهم، بل حتى الذي يتعرض في بلده الإسلامي لإعلامهم وثقافتهم.
الآثار الحسنة:
مع كل ما ذكرنا من مثالب الإعلام الغربي فيما يتعلق بالعقيدة، فإن له محاسن تتعلق بها ليس من الإنصاف تجاهلها، من ذلك:
أولاً: أن البلاد الغربية أضحت في زماننا هي موطن الكشوف العلمية والتقدم في العلوم الطبيعية، وأضحى إعلامها هو المختص بإذاعتها على المستوى العالمي، حتى لو حدث الاكتشاف في بلد غير غربي، فهنالك قنوات تلفازية كالقناة الأمريكية المساة Discove r y، وقناة وكالة Nasa، وهنالك مجلات أسبوعية كمجلة Scientific Ame r ican، ومجلة Discoved r y الأمريكية، ومجلة New Scientist الإنجليزية، وهنالك البرامج العلمية التي لا تكاد تخلو منها إذاعة غربية، وقد تطورت هذه الكشوف تطوراً هائلاً، فأظهرت من عجائب صنع الله - تعالى- في العالم الخارجي، وفي المخلوقات الأرضية الدقيقة ما يكاد يجعل من المستحيل على الملحد أن يستمر في الادعاء بأن كل هذا إنما حدث مصادفة، وبغير قوة مدبرة.
ولهذا فقد بدأ بعض هؤلاء الملحدين يتراجعون عن إلحادهم، وصار بعضهم يشك فيه، أما المؤمنون بوجود الخالق فقد زادتهم هذه الكشوف إيماناً، وأما المسلمون منهم فإنها لا تكون بالنسبة لهم تأكيداً لوجود الخالق فحسب، بل زيادة يقين بدينهم، وعودة إليه إن كان قد حدث عنه منهم بعد.
ثانياً: من الحقائق التي لا يزال العقلاء من المفكرين الغربيين يكررون التذكير بها، ويحذرون من مغبتها، والتي يراها المعايش لهم، والمتتبع لأخبارهم في إعلانهم، أنه قد صاحب بعدهم عن القيم الدينية تدهور في الحياة الخلقية؛ فالمخدرات، والإباحية الجنسية؛ تزداد انتشاراً حتى بين الصغار من طلاب المدارس، ويزداد معها اللجوء إلى العنف والقسوة، وقد اعتبر بعض المسلمين بهذا فرجعوا إلى دينهم بعد أن كانوا قد بعدوا عنه، سئل أحدهم: ما الذي أعادك إلى دينك؟ فأجاب: قلت في نفسي إذا كانت هذه هي نتيجة الطريق الذي أنا سالكه فإنها نهاية لا أريدها.
بل إن كثيراً من الآباء والأمهات في أمريكا صاروا يفرحون بإسلام أبنائهم وبناتهم حين يرون التغيير الذي طرأ عليهم، لقد صار الغرب في هذا المجال عبرة لكل عاقل معتبر.
نسأل الله تعالى أن يهديهم للدين الحق، ويقيهم من مصائر هذا الطريق الذي هم سالكوه.
ثالثاً: بالرغم مما في الشبكة العالمية من العيوب التي ذكرناها، إلا أنها أتاحت للمسلمين فرصة لم تتح لهم من قبل في وسائل الإعلام الأخرى لتعريف الغربيين بالإسلام، وللرد على الشبهات التي تثار حوله، ولتكون منبراً مفتوحاً للحوار بين المسلمين أنفسهم، وللرد على أسئلة السائلين منهم ومن غيرهم، ونحن وإن لم نكن قد استفدنا من هذه الوسيلة الجديدة الفائدة التي تبيحها لنا؛ إلا أن الشباب المتابعين لما ينشر في صفحاتها الإسلامية - وما أكثرهم - قد انتفعوا بها، وشغلوا بها عن المداومة على مشاهدة التلفاز، ولم يقتصر نفعها على المسلمين، بل إن بعض المشاركين من غير المسلمين يطلع عليها، ويبدي لأصحابها ويكتب لهم فيها مستفسراً أو طالباً لمزيد من المعرفة، بل لقد كانت سبباً لهداية بعضهم إلى الإسلام.
المصدر : http://www.almuhayed.com/details.asp?num_of_issue=4137&pic=7&num=4196
============(12/196)
(12/197)
دعوات شيطانية
عباس الضالعي
من منا لا يعرف وجه الصراع القائم بين الحضارات، ومن منا لا يعلم مدى الغبن الذي يعيشه المسلمون، والشعور بالضعف الذي ينتابهم أمام غطرسة الأعداء، فجحافل الاستعمار قد حضرت مجتمعة: سياسية، اقتصادية، اجتماعية، بل وعسكرية، تجتاح بلاد المسلمين، وتجوبها شرقاً وغرباً، إذن ماذا ينتظر المسلم بعد ذلك؟! ماذا يمكنه أن يفعل ومع من يتعامل؟! غزو في كل مجالات الحياة، ولا نستطيع أن ننكر ما تمر به الأمة من كرب عصيب؟؟
إن الأهداف التي ينبغي على المسلم سلوكها هي التبصير بمكائد الغرب، والوعي بما يريد الغرب لنا من انحطاط الأخلاق والقيم، وتبعية الفكر والاقتصاد والسياسة؛ لكي ينتظر المسلمون ما يأيتهم من الغرب، ثم لا يكون لهم سوى التطبيق والاستهلاك.
لقد حاد الغرب عن فكرة أن يرتد المسلمون ليدخلوا في النصرانية إلى فكرة أخرى هي إخراج المسلمين من دينهم إلى اللا دين - أو ما يسمى بالعلمانية -، فقد ذكر المبشر المسيحي زويمر أن بريطانيا عندما أرسلت المبشرين النصارى إلى بلاد المسلمين قيل لهم: أن مهمتكم ليست إخراج المسلمين من دينهم إلى النصرانية، فإن ذلك إكرام لهم، ولكن مهمتكم إخراجهم من النصرانية إلا اللادين، ويعني ذلك أن يبقى المسلم بلا هوية، بلا طابع، بلا دين، وهذه هي الكارثة التي وقع فيها بعض المسلمين، حيث أنهم انحازوا إلى شعارات تخالف الدين سواء كان الشعار: قومياً، اشتراكياً، رأسمالياً، أو غيرها من المسميات، وهذا نتج عن التأثر بثقافة الغرب وأفكاره.
إن الشعارات التي تعصف بالأمة لتبعدها عن هويتها انحراف يجب الوقوف أمامه، ولو دققنا قليلاً في الأفكار المطروحة على الساحة اليوم لوجدنا معظمها بل جلها تسير وفق وجهة النظر الغربية، ولو تزيَّا بعضها بلباس إسلامي جميل، كالدعوة إلى الاشتراكية الإسلامية مع قيام التناقض الواضح بين الاشتراكية والإسلام، فكلاهما على النقيض من الآخر.
فهل يعي المسلمون ما يدور؟ وهل يدركون ما يحاك من وراء الكواليس؟ هل يتنبهون إلى ما تحققه هذه الدعوات من تشويه للدين وطمس له؟ ألم يأن للمسلم أن يصف هذه النظريات بأنها دعوات شيطانية؟؟
المصدر : http://www.islamselect.com
===========(12/198)
(12/199)
العلمانية : النبتة الغريبة عن الحضارة الإسلامية
د. محمد عمر دولة
مصطلح (العلمانية) يعني (اللادينية)؛ فهي دعوة إلى هجران التعاليم الدينية كلها، وفي الحياة السياسية تعني فصل الدين عن الدولة. ويلاحظ أنه لا علاقة لاسم العلمانية (SECULA r ISM) باصطلاح العلم (SCIENCE).
ما هو سبب ظهور العلمانية في الغرب؟
ظهرت هذه الفكرة في القرن السابع عشر في أوروبا نتيجة المعارك الكنسية مع العلم والعقل والحرية الفردية. فقد كانت محاولةً لحبس الدين في ضمائر الأفراد، وردّة فعل للسجن الطويل الذي مارسته الكنيسة على أهلها، فخنقت حريات الأفراد، وحبست ملكات العقل، وحاربت حقائق العلم. فهي دعوة إلى تقهقر الكنيسة إلى الشعائر والمشاعر الشكلية، وتقوقع الدين في المراسم والمواسم؛ ليعود الشعار "أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".
ما هي الجذور الفكرية للعلمانية؟
يضاف للمشكلة الكنسية، وانقلابها إلى "عاملٍ مُعوِّقٍ عن الحياة، مضادٍّ للعلم والحضارة والتقدم والرقي، محقّرٍ للإنسان ونزعاته الحيوية، مُهْمِلٍ للحياة الدنيا"[1]، يُضاف إليها الدور اليهودي؛ إذ ليس غريباً "أن يكون اليهود وراء فصل الدين عن الدولة"، كما صرح بذلك الكاتب الأمريكي وليام غاي كار في كتابه (أحجار الشطرنج)؛ "بغية القضاء على الدين الذي حرّفوه، بتعطيله عن المجتمع داخل جدران الكنيسة"[2]؛ لأنّ العلمانية تذيب الفوارق الدينية الهائلة بين اليهود وغيرهم من الشعوب والأمم [3]، ولا يخفى هاهنا دور أدبيات المفكرين اللادينيين من اليهود وغيرهم من (الليبراليين)، الذين يسحبون ذيل التجربة الغربية مع الكنيسة على ما سوى ذلك من الأديان؛ ولذلك نجد أنّ أُسُسَ العلمانية مستمدةٌ من كتاب (أصل الأنواع) لـ(دَارْوِن) 1859م القائل بنظرية التطوُّر، وكتابات (نيتشه) عن الإنسان الأعلى (السوبرمان)، وأدبيات (دور كايم) عن (العقل الجمعي)، وتحليل (فرويد) للسلوك الإنساني بـ (الغريزة الجنسية)، وكتابات (كارل ماركس) عن (المادية الجدلية والتاريخية)، وأدبيات سارتر عن (الوجودية)...
كيف انتقلت (اللادينية) إلى العالم الإسلامي؟
لابدّ للجواب على هذا السؤال الكبير من استدعاء جملة من الدعائم التي سوّغت لبعض النُّخَب في العالم الإسلامي تسويق هذه الفكرة، في زحمة استيراد عوامل النهضة على طريقة التحديث الغربي؛ إسقاطاً لتجربة الغرب، وتغييباً لذاتية الشرق ومقوماته الحضارية.
فأُولى هذه الدعائم: الإرساليات الأجنبية بمختلف أنشطتها التبشيرية، التي كان لها أضرار جسيمة؛ إذ "لم يتوانَ المُرْسَلُون في إطار التوسع وتكريس الهيمنة عن تدعيم خليط من رجال الأعمال والمغامرين السياسيين والمستعمرين والمستشرقين في عملياتهم التوسعية، التي تهدف إلى استطلاع المنطقة، وترسيخ دعائم السيطرة الأوروبية في أذهان الأهالي، ومحاولة احتواء الثوابت الدينية والمذهبية عندهم"[4].
وثانية هذه الدعائم: الاستشراق وأيديولوجية الهيمنة؛ إذ لم يكن القصد من الدراسات الاستشراقية تجريد الشرق من كل مزاياه الفكرية فحسب، وإنما تأسيس خطاب فكري للآخرين؛ يبرّر من خلاله للمركزية العرقية الأوروبية زعزعةَ ثقة الشعوب الشرقية بذاتها وبمعاييرها، وتدمير مجتمعاتها وعوامل الاستمرارية والثبات عندها.
وقد عملت في سبيل تحقيق هاتين الرغبتين على تسخير طائفة من الكُتّاب الحاقدين، الذين أسقطوا عداوتهم على دراسة الإسلام؛ بناءً على الصُّوَر المشوّهة في أذهانهم؛ فجاءت غالب بحوثهم في منتهى التعصب والإجحاف والتزوير، وكانت عبارة عن تبريرٍ لأطماع الغرب الباحث عن مستعمرات وراء البحار، واستلحاقٍ لأهل الشرق الباحثين عن طريق للخروج من الانحطاط.
وقد بثوا سمومهم الصليبية طعناً في القرآن وتشكيكاً في السنة، وإحياءً للخلافات والنعرات والعصبيات في التاريخ الإسلامي، وإبرازاً للصفحات السوداء ـ فقط! ـ من تراث الحضارة الإسلامية. فقد مثّلتِ الدراسات الاستشراقية جنايةً على الإسلام والإنسان وتنكّبتِ الموضوعيةَ العلمية، وكشفت الروح الصليبية التي تحكم كتابات (غولد زيهر)، و(شاخت)، و(مونتغمري وات)، و(نويل ج. كولسون)، و(مرجليوث)، و(يودوفيتش)، و(رينان)[5]..(12/200)
وثالثة هذه الدعائم: المسألة الاستعمارية القائمة على النّرجسية العرقية الغربية، كما يجده دارس أدبيات ما قبل الاستعمار من تكريس فكرة أحقية الغرب في استتباع العالم ببَلْوَرَة المفاهيم المركزية الغربية، وتظافرها مع التبشير باسم (العقل) و(العقلانية) و(الموضوعية العلمية). فالمتأمِّل في كتابات (هيجل) [6] مثلاً يرى نموذجاً من طغيان الفكرة الاستكبارية الغربية؛ التي كانت أساساً ومبرِّراً للحملات الاستعمارية الصليبية، حيث شحن كتبه بالافتراء على الحضارات الأخرى وتحقيرها؛ ليسوِّغ إلحاقها بالتبعية إلى المركزية الغربية كما في مقولاته المشهورة: "لا توجد فلسفة بالمعنى الحقيقي إلا في الغرب"، و"في الطبعِ الشرقيِّ الروحُ غارقةٌ في الطبيعة"، و"الفكر هنا غيبيٌّ تماماً"؛ وبناءً على ذلك تأسست أيديوجية الشعب المتحضر المسيطر على غيره من الشعوب المتوحّشة، كما عبّر (هيجل) عن ذلك بأنه "الحق الذي يملكه الشعب المسيطر على التاريخ العالمي؛ لأنه ممثل الدرجة الراهنة لروح العالم، أما بقية الشعوب فهي بلا حقوق ولا يحسب لها حساب في التاريخ العالمي"؛ لأنّ بقية الشعوب "برابرة لم يبلغوا ـ بَعْدُ ـ نفس اللحظة الجوهرية؛ لذلك نتعامل مع استقلالها كشيء شكلي".
فقد أصبح الاستعمار ـ إذن ـ عملاً (إنسانياً) يسوّغ غزو الشعوب المسماة بالمتوحشة، وفي ذلك يقول (فيري) بكل جرأة واستكبار: "لا بد من القول علنا أن الأعراق المتفوّقة لديها كامل الحق إزاء الأعراق الأدنى".
ورابعة هذه الدعائم: عقلية الاستتباع التي ارتضاها نخبة من ذوي الانبهار بقدرات الاستكبار الغربي ومن فيهم (قابلية الاستعمار) ـ بتعبير مالك بن نبي ـ ومن قَبْلِه علاّمة الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون - رحمه الله - القائل: "إنّ المغلوب مُولعٌ بتقليد الغالب". فقد عاش بعض (المُتَعَالِمين) من العالم الإسلامي اغتراباً كاملاً عن المقوّم الحضاري، واستجابةً عارمةً للنداء الاستكباري؛ حيث صدّق عليهم الاستعمار ظنه فاتبعوه، واستخفّهم ببُنَاه المعرفية وفلسفته المادية فأطاعوه؛ وصاروا معاولَ هدمٍ في صرح الثقافة الإسلامية ـ كما تراه في كتابات (طه حسين)، و(أحمد أمين)، و(علي عبد الرازق) ـ، وعواملَ نقضٍ لمقوّمات الهويّة والذاتيّة الحضاريّة. فقد صنع الاستعمار هذه النُخَب على عينه، وربّى عقولها ووجداناتها وتوجّهاتها ِوفق فلسفات مرجعيّته الفكرية؛ حتى غدَوْا متنكِّرين لِقيَمهم الدينية، مستكبرين على ثقافتهم الذاتيّة.
إذن، فقد كانت أخطر دعائم العلمانية في البلاد الإسلامية: استقطاب الخطاب الاستعماري فئاتٍ أصبحت تمثل منظومة الاستكبار الغربية، لكنها غريبةٌ معزولةٌ في ديار الإسلام، "جُزُرٌ في أوطانها" بتعبير (غريغوار)[7]. ويكفي في بيان استضعاف هذه النخبة وانهزامها واستتباعها ما كتبه أحد روادّها (د. طه حسين): "لقد التزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة، ونسلك طريقها في التشريع، التزمنا هذا كلّه أمام أوروبا، وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال ومعاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزاماً صريحاً قاطعاً أمام العالم المتحضر بأن نسير مسيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع؟ فلو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا، وأن نجبي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً و لوجدنا أن أمامنا عقاباً لا تُجاز ولا تُذلّل، عِقاباً نقيمها نحن، وعِقاباً تقيمها أوروبا؛ لأننا عاهدناها أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة الحديثة"[8]!
لماذا فشلت المناهج العلمانية في بلاد المسلمين؟
من أهم أسباب الفشل الذريع الذي وجدته العلمانية في العالم الإسلامي: أنها كانت مصادمةً للثوابت الدينية، وأنّ الذين استوردوها قد أغفلوا الفروق بين الواقع الغربي والواقع المسلم، فأسقطوا التجربة الكَنَسِيَّة البابويةَ المحاربةَ للعلم على واقعٍ مخالفٍ تماماً؛ فهي شجرةٌ قُطِعت من جذورها. ورحم الله مالك بن نبي حيث قال: "إن شيئاً ما قد يموت إذا قُطِع عن وسطه الثقافي المعتاد"[9]، وإنّ "الفرد إذا فقد صِلََته بالمجال الثقافي فإنه يموت ثقافياً"، وكما أنّ لكل مجتمع "مقبرة يستودعها موتاه، فإن لديه مقبرةً يستودعها أفكاره الميتة، الأفكار التي لم يعد لها دور اجتماعي"[10]، وإنّ من أخطر أشكال العدوى: "ذلك الذي ينقل الأمراض الاجتماعية من جيل إلى جيل"[11]، و"هذه الجراثيم الخاصة أفكار معدية، أفكارٌ تهدم كيان المجتمعات وتعوق نموها"[12].
وأخيرا نُسجّل ـ بناءً على انبتات العلمانية في ديارنا ـ أنّ تحضُّرَ الإنسان لا يكون إلا بتحدُّره من ثقافته كما يتحدَّر الجُمان، وأنّ الخروج من الانحطاط ليس بحثاً وراء المحيطات ولا استغراباً أو استيراداً للفلسفات، بل هو تحرير للذات، وانبعاث للثقافة من مكنونات الأمة، واستنهاض ما فيها من قدرات.
-------------
[1] العلمانيّون والإسلام، للشيخ محمد قطب: 16ـ17.
[2] أساليب الغزو الفكري، د. علي محمد جريشة: 60.
[3] راجع: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي: 2/690.(12/201)
[4] راجع: مقدّمات الاستتباع، غريغوار منصور مرشو: 52 53.
[5] راجع: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في مطلع الخامس عشر الهجري. وهو كتاب نافع يقع في مجلدين كبيرين.
[6] انظر: كتابين لـ(هيجل): دروس في تاريخ الفلسفة، وأساليب فلسفة الحقوق.
[7] مقدمات الاستتباع: 53.
[8] مستقبل الثقافة في مصر، طه حسين: 1/36 37.
[9] مشكلة الثقافة، مالك بن نبي: 55.
[10] المرجع السابق: 50.
[11] مشكلة الثقافة: 46.
[12] المرجع السابق: 14.
http://saaid.net المصدر:
===========(12/202)
(12/203)
العلمانيون من زاوية أخرى
صفاء الضوي العدوي[1]
المتابع لجرأة العلمانيين، واعتدائهم على أصول الإسلام وشرائعه في دياره في هذه الأيام يجد نفسه حيال هذه الظاهرة العجيبة مدفوعاً للتساؤل: كيف أمِن هؤلاء العلمانيون على أنفسهم من غضبة الشعب المسلم، وإنكار العلماء عليهم؟ وكيف اطمأنوا إلى أن الوالي لن يغضب لله، فيقوم بواجبه في حماية الدين وحفظ حرماته، وردع الزنادقة، وقطع دابر المفسدين، وهي المهام الأصلية للحاكم المسلم التي لو قام بها لما جاز لأحد أن يخرج عليه؟!.
إن المسلمين يتلقَّوْن هذه الإهانات صباح مساء، ويسمعون ويقرأون تلك الاعتداءات على أصول دينهم بحزن وأسى وغيظ، ويحبسون في صدورهم - حتى الآن - غضباً كبيراً، لا يعلم إلا الله متى ينفجر.
وإن العلماء والدعاة والصالحين يُنكرون هذه الأقوال الشنيعة، ويجأرون بالشكوى إلى الله من غربة الإسلام في دياره، بعدما يئسوا من جدوى الشكوى إلى الحكام.
إذ لم يعد كثير من حكام المسلمين يشعرون بالمسئولية أمام الله، كما أنهم أصبحوا لا يأبهون بسُخط شعوبهم، ولا يحفلون بدروس التاريخ وعِبَره إن كانوا قرؤوه. وهذه حقيقة لا تحتاج إلى مراء، بل يدركها المراقب المنصف دونما جهد أو عناء.
فبعد أن كان الحكام والعلماء والشعب المسلم صفاً واحداً، يعظِّمون الدين، ويلتزمون أحكامه، ويطَبقون شرعه، ويشيعون أخلاقه، ويحافظون جميعاً بعزم وصدق على وحدة الأمة، باتوا - وياللحسرة - صفَّين!: صفّ العلمانيين ومعهم معظم الحكام والمتنفذين، يشيعون المفاسد، ويجرئون الزنادقة، ويبعثرون جهود الأمة في صراعات داخلية لإلهائها عن أعدائها المتربصين بها من اليهود والنصارى. وصفُّ الشعب المسلم ومعهم العلماء والدعاة والصالحون، يدافعون في ذهول عن دينهم بجهد ضعيف، وتخطيط هزيل بسبب ما يمارس عليهم من مكر وكيد بل وكافة صنوف القهر والاضطهاد.
أما الشعوب فيدوخونها بالركض ليل نهار في طلب لقمة العيش، هذا فوق ما يمارسونه على الضعفاء من أبناء المسلمين من فتنتهم بالشهوات والإغواء عبر ألوان من وسائل الفتنة بالسينما والمسرح والتلفاز والصحف وغيرها.
ولا ريب أن هذه الحملات المسعورة من العلمانيين على الإسلام لم تكن لتظهر فضلاً عن أن تستمر وتُرفع لها الرايات إلا وهي مدعومة من بلاد الكفر في الغرب من خلال برامج الانفتاح، وحرية الرأي، وحقوق المرأة، وضرورة التجديد في الفكر الإسلامي، وغير ذلك من الشعارات الزائفة، والتي أخفوا تحتها كيدهم وحقدهم ومؤامراتهم على الإسلام وأهله.
وفوق دعم الغرب لابد أيضاً من مساندة الأنظمة العلمانية في بلاد المسلمين، وإعطاء الضوء الأخضر لهم. ولا عجب[بعضهم من بعض].
ويا لغباء العلمانيين، ويا لغفلة هؤلاء الحكام والمتنفذين عن سنن لله لم تتبدل ولم تتخلف على مدار التاريخ!، ومن هذه السنن أن الناس إذا نسوا الله خالقهم، وتركوا شرعه، وعصوا أوامره، استحالت حياتهم إلى شقاء كبير، وبؤس مرير.
ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين.
ثم نرى المباينة الهائلة والمناقضة التامة بين ما أوجعوا رؤوسنا به من ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية، ويعنون بها تماسك الجبهة الداخلية للمواطنين من الأغلبية المسلمة الساحقة، والقلة النصرانية كما هو الحال في مصر، وبين ما هو ضروري لازم من المحافظة على وحدة الأمة المسلمة، وتجنب كل ما يمس هذه الوحدة من مثل ما يفعله هؤلاء العلمانيون من شق للصف وتقطيع للمجتمع.
ولنعد مرة أخرى فنسأل: أليس في تعميق الهوة بين المسلمين بإشاعة هذه الأقوال والأفكار الصادرة عن العلمانيين، والسماح لهم بإظهار معاداتهم للإسلام وشرائعه وأخلاقه تمزيق لوحدة الأمة المسلمة، حيث أصبح الصراع محتدماً بين العلمانيين والإسلاميين؛ فالعلمانيون يتطاولون على الشريعة، ويمرقون من الالتزام بأحكامها، ويوجهون سهامهم المسمومة، وأفكارهم المنحرفة للقضاء على الخلق والفضيلة، ويثيرون البلبلة والتشكيك في أوساط الشعب المسلم بما امتلكوا من وسائل التأثير والتوجيه في الصحف والإذاعة والتلفاز وغيرها، حيث يعبثون فيها بجهل وخبث بقضايا إسلامية حسمها القرآن والسنة، وانتهت إليها قرارات المجامع الفقهية في العالم الإسلامي، بل إن بعضهم وصلت به الجرأة والزندقة والوقاحة أن يتطاولوا على شخص النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في حادثة ذلك الدكتور الكويتي الأثيم.
لقد أصبح في المجتمع إسلاميون وعلمانيون؛ إسلاميون يدافعون عن الإسلام وشرائعه وقيمه وأخلاقه، وعلمانيون كارهون للإسلام وشرائعه وقيمه وأخلاقه وثوابته.
خصمان اختصموا في ربهم، ومع الفريق الأول وقف الحكام يؤيدونهم ويناصرونهم.
ومع الفريق الثاني رب هذا الدين تبارك اسمه.
وها هي وحدة الأمة يضربها العلمانيون وحلفاؤهم في الصميم.(12/204)
إنهم يسعون جاهدين في جعل الأمة تتقبل باطلهم، إن هدفهم هو أن تفقد الأمة هويتها وذاتها، وذلك بالدعوة الدؤوبة إلى أن نتلقى من الغرب الكافر أسس الحياة، وأن نصبغ مجتمعاتنا المسلمة بما صبغ الغربيون به مجتمعاتهم من اللادينية وانعدام القيم، وإطلاق الشهوات دون رادع أو ضابط، والانفكاك من قيود الدين والأخلاق، ولهذا كان أشد ما أصابهم، وأحبطهم هو عودة الوعي إلى شباب الأمة، والذي تمثل في هذه الصحوة الإسلامية المباركة، والتي أبت إلا الرجوع بصدق ووعي وقوة إلى الإسلام وقيمه وأخلاقه.
إن هؤلاء العلمانيين في بلادنا هم فلول من التائهين، أخذوا شيئاً من الثقافة الغربية، وجهلوا حقيقة الإسلام، إنهم حصاد الهشيم لذلك الزرع المرّ الخبيث الذي زرعه أساتذتهم الذين خانوا أمتهم ودينهم وأوطانهم، من أمثال لطفي السيد، وسلامة موسى، وقاسم أمين، وباقي أفراد العصابة الآثمة التي طعنت أمتها، وقدمت للأعداء أعظم الخدمات.
لقد تربوا على كره الإسلام ومخاصمته، فلم ينظروا فيه ولم يتعرفوا على عظمته، ولم يهتدوا بنوره، فهم جهلة به، والمرء عدو ما يجهل، لقد استحضروا في أذهانهم حال النصرانية في أوروبا في عصورها المظلمة، وما كانت عليه الحال من فساد الكنيسة وطغيانها، واشتعال الصراع النكد مع العلم، واضطهادها للعلماء، وفشلها الذريع في مواكبة التقدم العلمي في العصر الحديث، ونبْذ الغربيين للكنيسة من حياتهم وإقامتها على أساس القيم المادية النفعية فحسب، حيث كانت الكنيسة تمثل كابوساً بغيضاً؛ مهيناً للإنسان، معطلاً لعقله. ثم ما حصل لهم بعد ذلك من التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي. فراح هؤلاء الجهلة يسقطون واقع الغربيين على واقعنا نحن المسلمين، وصورت لهم أذهانهم الضعيفة، وجهلهم بتاريخ المسلمين، أن بقاء الإسلام في ديار المسلمين هو العقبة أمام التقدم والازدهار، وعموا وصموا عن إنجازات المسلمين الأوائل في مجال العلوم الإنسانية في مجالاتها المختلفة، وأن سبب الركود والضعف والتأخر الذي أصاب المسلمين هو نتيجة طبيعية وحتمية لتخليهم عن دينهم، والسماح له بالغياب عن واقع حياتهم، وابتعادهم عن الفهم الصحيح للإسلام اعتقاداً وسلوكاً، فجاءوا بمعاولهم، وراحوا يهدمون.
فماذا كانت النتيجة، تنامت عقدة النقص عند هؤلاء فبالغوا في جرأتهم على قضايا الدين، وتقاعست الأمة في الأخذ على أيديهم، فباضوا وفرخوا، واستفحل خطرهم في المجتمعات الإسلامية، وساعدهم أسيادهم من اليهود والنصارى على الوصول إلى المناصب العالية والاستيلاء على مراكز التوجيه والتعليم والتأثير، وانطلقت مسيرتهم المشئومة تعصف بالأخلاق، وتهز أركان الإيمان، فلم تترك فضيلة إلا جهدت في توهينها في النفوس، ولم تترك رذيلة إلا سعت إلى تهيئة الناس لتقبلها، ليتحقق لهم ما أرادوا من تقليد الغرب، لنتقدم مثلما تقدم، ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، لم يبالوا بما وقع، حيث خرجت أجيال ممسوخة لديها قدر كبير من القابلية للذوبان في غيرها، سريعة الفقدان لهويتها وقيمها وأصالتها، وهو ما يسميه مالك بن نبي قابلية الاستعمار، ويسميه المودودي قابلية الاستعباد! أرأيت كيف انكشف هؤلاء وظهرت خيانتهم؟!.
إنها صورة عجيبة تدعو إلى الرثاء، أمة كريمة بدينها وتاريخها، استسلمت للنوم دهوراً فانتكست، وتخلفت، وسيطر عليها أعداؤها، استيقظ الآن نفر من أبنائها، وأبصروا الأهوال، وأدركوا الأخطار، فراحوا يوقظون أمتهم، فتصدى لهم هؤلاء، يعرقلون سعيهم، ويستعدون عليهم أعداء الأمة، ينبهونهم إلى خطر الأصولية الإسلامية في بلاد المسلمين. أرأيتم كيف فضحهم الله، وكشف لنا خيانتهم؟!
إنها أزمة بكل معنى الكلمة، ولا سبيل للخروج منها إلا بأحد أمرين: الأول، أن يقال للشعب وللعلماء: اتركوا دفاعكم عن الدين، واقبلوا أُطروحات العلمانيين المنحرفة، وعيشوا بلا دين ولا أخلاق، وهذا ضرب من المحال أكيد، ونوع من الانتحار خطير.
وإما أن يُكبت العلمانيون ويزجروا ويردعوا عن الزندقة والتجرؤ بجهل وخبث على أصول الدين وشرائعه وأخلاقه، وتترك الأمة لتكمل مسيرتها في العودة إلى دينها في ثبات وثقة، ويتولى أمرها عقلاؤها وصالحوها، ويُعطى لعلماء المسلمين مكانتهم اللائقة بهم، ويختار منهم للفتوى والتوجيه وقيادة المؤسسات العلمية الإسلامية خيرة الشيوخ، ويضرب على أيدي المفسدين في المجتمع، ويُقدم الصالحون؛ أنصار الحق والفضيلة، ويُؤخر الانتهازيون؛ أنصار الباطل والرذيلة.
وهذا - والله - سبيل النجاة الوحيد، إما هو، أو الطوفان، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون..
----------------------------------------
[1] - ماجستير في الشريعة الإسلامية من جامعة البنجاب، من أهم مؤلفاته؛ "إتحاف القاري في اختصار فتح الباري [5 مجلدات]"، "غبطة القاري بإحالات فتح الباري [مجلد واحد]"، "إهداء الديباجة شرح سنن ابن ماجة [5 مجلدات تحت الطبع]".
ذو القعدة 1420 / فبراير (شباط) 2000
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
============(12/205)
(12/206)
العلمانية
محمد إبراهيم مبروك
بداية أرجو من أخي القارئ ألا يضن بالجهد في متابعة هذه الدراسة؛ فبذل الجهد يُطلب بقدر خطورة الموضوع المطروح، ونحسب أن الجميع يسلّمون بأن قضية العلمانية هي أخطر قضية تواجه العالم الإسلامي منذ عقود طويلة؛ حيث إن أخطر القضايا المتعارف عليها مثل إقامة الحكم الإسلامي أو الصراع مع الغرب أو المشروع الحضاري ما هي إلا قضايا تتفرع عنها.
لكل ما سبق فليجعل أخي القارئ جهده في المتابعة قُربة إلى الله، ولا يطمئن لكفاية إدراكه للمفاهيم التقليدية الشائعة عن العلمانية، فسوف نثبت بإذن الله خطأ الكثير منها وخطورة الاعتماد عليها، وسوف نحاول أن نعرض ذلك بأبسط طريقة ممكنة؛ ولكن بشرط ألا تخل بعمق الموضوع.
* المفاهيم الخاطئة الشائعة عن العلمانية:
لن نقف كثيراً عند خطأ التعريف الشائع للعلمانية بأنها «فصل الدين عن الدولة» لأن هذا التعريف لا يتحدث عن العلمانية كرؤية مبدئية أو طريقة في التفكير، وإنما يتحدث عن تطبيق جزئي لها يتفرع عن تطبيقها الأساسي «فصل الدين عن الحياة». وما نراه أن الإسلاميين بوجه عام قد تجاوز وعيهم هذا التعريف القاصر للعلمانية.
وما نراه أن أهم المفاهيم الخاطئة الشائعة عن العلمانية تتحدد في التالي:
- أن العلمانية ما هي إلا مذهب من المذاهب.
- أن العلمانية نشأت كرد فعل لاستبداد الكنيسة الغربية، واضطهاد العلماء والمفكرين في العصور الوسطى.
- أن العلمانية صنيعة الصليبية الصهيونية العالمية.
وسيتم إبراز خطأ هذه المفاهيم الشائعة من خلال عرضنا العام للموضوع، ولا يتسع المجال هنا لإيراد المصادر الأساسية لتلك الكتابات الإسلامية ومناقشتها وإن كنا نرى أن ذلك يعود في الأساس لعدم دراسة تطور الفكر الفلسفي الغربي بشكل كاف، والتثاقل إلى الأرض في الجهاد الفكري بالركون إلى نقل المواقف والرؤى الفكرية عن السابقين.
* التعريف اللغوي والمصطلحي:
كلمة «علمانية» هي ترجمة لكلمة «سكيولاريزم secula r ism» الإنجليزية التي لها نظائرها في اللغات الأوروبية. والكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «سيكولوم saeculem» وتعني العصر أو الجيل أو القرن. أما في لاتينية العصور الوسطى فإن الكلمة تعني العالم أو الدنيا.
ويورد قاموس أكسفورد التعريفات التالية لمصطلح «علمانية: سكيولار: secula r
1 - ينتمي للحياة الدنيا وأمورها.
2 - مدني وعادي وزمني.
3 - ينتمي إلى هذا العالم الآلي والمرئي تمييزاً له عن العالم الأزلي والروحي.
4 - يهتم بهذا العالم وحسب.
5 - غير روحي.
أما كلمة العلمانية «سكيولاريزم secula r ism» فقد عرَّفها المعجم تعريفاً شاملاً هو: «العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة الدنيا، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى»(1).
ولقد استخدم المصطلح لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين عام (1648م) عند توقيع صلح (وستفاليا) وبداية ظهور الدولة القومية، وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة؛ إذ أشار إلى نقل ممتلكات الكنيسة إلى سلطات سياسية غير دينية.
وبحسب الدكتور عبد الوهاب المسيري فإن أول من نحت المصطلح بمعناه الحديث هو جون هوليوك (1817 ـ 1906م) فعرَّف العلمانية بأنها: «الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض»(2).
* تخلف مصطلح العلمانية عن واقعها الفكري:
يتضح مما سبق تخلف مصطلح العلمانية عن واقعها الفكري حتى لو أُخذ الأمر باعتبارها قد نشأت في عصر النهضة على حد قول من يذهبون إلى ذلك. وما نراه أنه لا بد أن نعود إلى قرون طويلة إلى الوراء لإدراك هذا الواقع الفكري، ولنستطيع على أساس تعريف العلمانية تعريفاً أكثر تحديداً مما ورد في القواميس الغربية خصوصاً من حيث علاقتها بالدين.
* الإنسان والأسئلة المصيرية:
نستطيع أن نقترب أكثر من فهم الموضوع إذا عدنا إلى الأسئلة المصيرية التي تواجه الإنسان في كل زمان ومكان مثل: من نحن؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نمضي؟ هل خلقنا خالق أم جئنا من غير شيء؟ وما الغاية من وجودنا؟ وما نفعل؟
وكانت هناك ثلاثة طرق اتخذتها البشرية في الإجابة عن ذلك:
- التقليد واتباع الآباء أو الوثنية: أي اعتقاد ما اعتقده الآباء بغير تفكير فيما يدور حول عبادة الوثنية أو الطوطم أو الطاغية الذي يحكم البلاد أو القبيلة ويدخل في ذلك.
- التسليم بكتب الأنبياء: أي التسليم بصدق ما جاء في كتب الأنبياء من وحي وأخذ التصورات والمفاهيم والتعاليم منها.
- الاعتماد على العقل الإنساني: أي محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال إعمال العقل الإنساني في الكون والتجارب البشرية وتاريخ الشعوب.
ولا نستطيع أن نقول هذه الطرق تمثل ثلاثة مسارات منفصلة، بل غالباً ما يتم الدمج أو الجمع بين هذا وذاك في مختلف الحضارات والمذاهب، بل نستطيع القول إن الإسلام يجمع في أطر محددة ما بين الطريقين الثاني والثالث.
* كيف كان يفكر الإغريق الآباء الأوائل للحضارة الغربية؟(12/207)
لم يعرف عن الحكماء الذين عرفتهم الحضارات القديمة في مختلف أرجاء العالم أنهم قد زعموا إدراك الحقائق واستخلاص التعاليم اعتماداً على إعمال العقل الإنساني فقط؛ فهم إما أرجعوا ذلك إلى حكمة الآباء وموروثاتهم الدينية والفلسفية، أو أن هناك وحي السماء قد أوحي لهم بذلك. فلم يزعم زرادشت (628 ـ 551 قبل الميلاد) في الحضارة الفارسية على سبيل المثال أنه قد أتى بحكمته كناتج عقلي له أو حتى لمن سبقوه، وإنما أعلن أنه «يلبي نداء ربه منذ البداية»(3).
و (جوتاما بوذا) الذي عاش في الهند في القرن السادس قبل الميلاد أعلن موقفه بأنه ليس سوى واحد من البوذات السابقين(4).
وعلى الرغم مما يقوله الرواة عن تجنيب كونفوشيوس للمواضيع الدينية فإن «هناك مقولات عديدة يتحدث فيها كونفوشيوس عن السماء الإله الأساسي عند الصينيين، ويبدو أنه قد أحسن في الحقيقة بأنه قد عهدت إليه السماء شفاؤه علل العالم الصيني، وكان أمله أن السماء لا ترضي له أن يخفف»(5).
وإذا رجعنا إلى الديانات الوثنية القديمة فإننا نجدها تصبغ بعض الصفات الجديرة بالاحترام البشري على آلهتها القديمة مثل (أوزوريس) الذي ارتبط بالخير في الديانة المصرية القديمة.
ولكن المشكلة الأساسية في الحضارة الإغريقية أنها حضارة تعد حضارة ناشئة إلى حد كبير مقارنةً بالحضارات القديمة التليدة، وقد نشأت على يد مجموعة من البرابرة عباد الطبيعة الذين استولوا على بلاد اليونان في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد (1104ق. م).
«وكان على الحضارة الهلينية (الإغريقية) أن تبدأ حياتها بأن تعيش على تراثين خلَّفهما البرابرة هما: الملاحم التي تنسب إلى (هوميروس) والتي أصبحت بالنسبة للمسلمين مجموعة من الآلهة التي لم تكن سوى رموز على تقلبات الطبيعة الغامضة، بل صنعت على صورة الإنسان وصورة الإنسان البربري من دون سائر البشر»(6).
وما تذكره الأساطير من أفعال غير محترمة لتلك الآلهة ما كان ليجعلها جديرة بالاحترام، بَلْهَ التقديس؛ فالسطو والخطف والاغتصاب والخيانة هي أمور لصيقة بها، وهو الأمر الذي كان له انعكاسه على الضمير الإنثرابولوجي (الضمير الإنساني التاريخي) الغربي، فاسم القارة نفسه (أوروبا) مأخوذ عن (إيروبا) ابنه ملك مدينة صور التي رآها زيوس (كبير الآلهة لديهم الذي لا تنتهي فضائحه) فهام بها حباً، ولكي يفوز بها تقمص شكل ثور وديع، وراح يقفز حولها حتى قفز في الماء حاملاً حبيبته إلى كيريت حيث أنجب منها ثلاثة ذكور. وبلوتو (إله العالم السفلي) يختطف الإلهة كوري ويغتصبها في مملكته تحت الأرض. وكما يقول بيريتراندراسل: «فإن مجمع الآلهة في جبل الأولمب هو حشد صاخب من السادة الذين يعيشون حياة خشنة قاسية. والعقيدة الدينية كما تبدو في ملحمة هوميروس تكاد تكون بلا فاعلية»(1)، ويتحدث الأستاذ يوسف كرم عن آلهة الأولمب فيقول: «نحن هنا في أحط دركات التشبيه، وبإزاء أوقح أشكال الاستهتار. نرى العاطفة الدينية ضعيفة إلى حد العدم، والمبادئ الخلقية مقلوبة رأساً على عقب»(2). وما نريد أن نقوله من كل ما سبق أن النتاقض بين الدين والعقلانية في الحضارة الغربية قديم قِدَم الحضارة الإغريقية ذاتها التي تعد الحضارة الغربية امتداداً طبيعياً لها.
«فلم يكن في الديانة القديمة المستمدة من الأساطير الإغريقية ما يغري العقول اليونانية الكبيرة بالإنصات إليها. وهكذا هاجم أكزينوفان (570 ـ 480 ق. م) النزعة التشبيهية (تشبية الآلهة بالبشر) زاعماً أن الثيران يمكن أن تصنع لنفسها أصناماً مماثلة من الثيران. وأنكر أنكساجوراس ألوهية الشمس، وذهب إلى أنها حجر أحمر ملتهب أكبر حجماً من جبل البليونيز»(3).
وكما يقول المؤرخ الغربي الكبير أرنولد توينبي: «كانت الطبيعة البشرية البربرية التي انعكست صورتها على مجموعة الآلهة الأوليمبية في واقعية مؤلمة، موضعاً للعبادة لا يليق على الإطلاق بمجتمع ما زال في طور التحضر، وهو الأمر الذي أدى بها إلى السقوط سريعاً في نظر العالم الهليني، وذهب الأمر إلى أن أصبحت الآلهة الأوليمبية في قصائد هوميروس ذاتها في صورتها المنقحة الأخيرة التي باتت فيها قانونية معتمدة موضعاً للتجريح والهزء. وما أن حل القرن السادس قبل الميلاد حتى حمل عليها الفيلسوف (كسينوفانيس) حملة شعواء. واضطر الهليونيون إلى البحث عن موضع للعبادة عوضاً عن الآلهة الأوليمبية، وظل هذا البحث جارياً حتى انمحت الحضارة الهلينية نفسها من الوجود»(4).(12/208)
وهذا ما نقوله تماماً: إن الإغريق ظلوا بيحثون عن مصدر آخر للحقيقة بعيداً عن هذا الجو الديني الأسطوري الدنس الذي اتسمت به الحضارة الإغريقية. ولم يكن من المعقول أن يذهب الفلاسفة الذين وضعوا أسس الحضارة في التفكير الغربي مثل ديمقريطس وأرسطو وأبيقور ـ أن يذهبوا إلى عرَّافة دلفي (أحد أهم المعابد الإغريقية) ليسألوها عن ماهية حقائق الكون أو حتى عن حقيقة الدين نفسه حتى تروح في غيبوبة وتجيب عن تساؤلات شتى. فالديانة اليونانية لم يكن بها أي قدر من المعقولية أو القداسة، وما كان للفلاسفة سوى أن يعتمدوا على عقولهم وخبراتهم الواقعية في العمل على إدراك حقائق الوجود، وإدراك حقيقة الدين نفسه. وسواء نتج عن ذلك فلاسفة ملحدون أو فلاسفة مؤمنون فإن طريق الإبستمولوجي (المعرفي) لإدراك ذلك كان مستقلاً عن الديانة اليونانية؛ فحتى الذين ذهبوا منهم إلى الإيمان بوجود إله فإنهم ذهبوا إلى ذلك من خلال تصوراتهم، بل ومن خلال هذه التصورات العقلية حددوا تصورهم للصفات الإلهية؛ بل إن التصور الأرسطي بالذات للإله الذي لا ينشغل بالعالم وإنما بتأمل ذاتي لا نهاية له هو الذي ترك بصماته في الفكر الديني الفلسفي لدى الغرب. ونحن نتحدث هنا عن التيار الأصيل في الفلسفة الإغريقية أي تيار الفلاسفة الذين نشؤوا بين أناس يعتقدون بالعقيدة الأوليمبية، ومن ثم كان رفضهم لها وهو تيار الأيونين والإيليين والسوفسطائيين والأرسطيين والأبيقوريين. بخلاف تيار ضئيل لم ينعكس تأثيره كبيراً على الفلسفة الغربية الحديثة، وهو التيار الصوفي الذي يمثله الفيثاغورثيون (نسبة إلى الفيلسوف والعالم الشهير فيثاغورث) الذين تأثروا كثيراً بالحضارة الهندية.
* العلمانية هي السمة الرئيسة التي تحكم الطريقة الإغريقية في التفكير:
وعلى ما سبق فإن السمة الرئيسية التي تحكم الطريقة الإغريقية في التفكير الاقتصار على العقل البشري وخبراته فقط في معرفة الحقيقة وتجريد الوعي البشري من أي معرفة دينية للحقيقة أو بقول آخر البحث عن ثمار الحقيقة في غير شجرة الدين تماماً إلى الأبد.
إن عقولهم غُلف عن الاقتناع بأنه من الممكن أن يكون هناك شيء يسمى وحي يتدخل من خلاله في شؤون العالم، ويصطفي أحداً من خلقه ليقوم بمهمة إبلاغ رسالته إليهم. إنهم لا يستطيعون أن يقبلوا بأن هناك شيئاً سيهبط من السماء إلى الأرض ليشق نسيج الحياة الرتيب الذي ينسج حياتهم، ويكشف لهم عن حقيقة الوجود، ويحدد لهم الدستور المعيشي الذي ينبغي أن تكون عليه حياتهم وعبادتهم.
وهذا هو المعنى الحقيقي للعلمانية الذي لا يسمح لشيء آخر غير العقل أن يتدخل أدنى تدخل في حياة الإنسان وتصوراته، ولا يترك حتى للدين نفسه أن يحدد موقعه من تلك الحياة، بل هي ـ لو أرادت ـ التي تسمح بهذا التدخل الذي تقوم بتحديد نطاقه الضيق للدين؛ بحيث يتحتم عليه عدم الخروج منه.
وهذا الذي نقوله عن كون الواقع الفكري للعلمانية هو في الأصل السمة الأساسية التي تحكم الطريقة الإغريقية في التفكير والتي هي الأصل في التفكير الغربي بوجه عام له شواهده الكثيرة لدى المفكرين الغربيين أنفسهم. فعلى سبيل المثال يذكر بريتراند راسل (أحد أهم فلاسفة الغرب في القرن العشرين) أن التمرد على الجمود الفكري للفيلسوف اللاهوتي توما الإكويني في العصور الوسطى أدى إلى «سير التيار الفلسفي الرئيسي مرة أخرى في القنوات العلمانية؛ بحيث عاد إلى روح الاستقلال التي كانت تسود فلسفة القدماء»(1).
ويقول ج. ج. كراوزر واصفاً ثالز (أحد علماء الإغريق) بأنه: «قد قام بتمحيص المعلومات القليلة التي بلغته عن العلوم الرياضية عند المصريين والبابليين بنفس الطريقة العلمانية التي استخدمها في التحري من مدى صدق الحكايات التي كانوا يقولون بها عن الخلق»(2).
وتقول الكاتبة المهتدية مريم جميلة (مارجريت ماركوس سابقاً) عن التحولات الفكرية في عصر النهضة: «وبشغف شديد تحول مفكرو عصر النهضة إلى الاستلهام من علوم اليونان والرومان القديمة، وبإحلال الإيمان بقدرة العقل البشري المجرد محل الإيمان بالله»(3).
كل ما سبق يؤكد أن العلمانية هي طريقة التفكير التي كان ينتهجها التيار الأساسي في الفكر الإغريقي الذي يعد الفكر الغربي بوجه عام امتداداً طبيعياً له، ولم تنشأ كما هو سائد رد فعل لجمود الكنيسة الغربية واضطهادها للعلماء والمفكرين في عصر النهضة. وإن غاية ما حدث في ذلك أن هؤلاء العلماء والمفكرين استعانوا بها مرة أخرى في مواجهة كهنوت الكنيسة واضطهادها حتى سادت تماماً واستمرت في الغرب حتى الآن.
* ما نراه في تعريف العلمانية:
وعلى هذا فإن ما نراه في تعريف العلمانية هو: «الاقتصار على العقل البشري وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة»(4)، وهو الأمر الذي يعني في الوجه المقابل له إقصاء أي مصادر أخرى وعلى رأسها الوحي المقدس في إدراك حقائق الوجود، والطريقة التي يجب انتهاجها في الحياة التي نعيشها.(12/209)
وما أقصده بإرداف كلمة (وخبراته) بعد قولي العقل البشري أن المسألة يدخل فيها ما يقبله العقل من الجهود العقلية للآخريين في التفكير، وكذلك التجارب الحسية والعلمية التي يحكمها العقل في النهاية، فيشمل كلامي هذا تياري الفكر الغربي معاً: العقلي، والتجريبي.
* تطور الفكر العلماني:
نشب الصراع بين المسيحية منذ ظهروها وبين العقائد اليونانية القديمة، وهو ما نتج عنه في النهاية بعد قرون طويلة من الحرب والمساومة مزيجٌ عقائدي مزدوج يتمثل في المسيحية الثالوثية وطقوسها وسلطاتها البابوية، وأجهصت الفرق الرافضة لهذا الهجين الثالوثي من المسيحيين الأوائل والذين كان أبرزهم فريق الإيروسيين الذين انضم أتباعهم إلى الإسلام فيما بعد. ومع ذلك فقد منح هذا المزيج الأوروبيين بُعداً مفيداً لهم يتمثل في الوحدة الروحية الدينية تحت سلطة الكنيسة والتي تحولت فيما بعد إلى وحدة سياسية تحت سلطاتها أيضاً؛ لأن الأباطرة والملوك كان لا بد لهم أن يلتمسوا من البابا التنازل عن السلطة الزمنية (السياسية) لهم.
ومن ناحية أخرى فقد فرض هذا المزيج تاريخاً طويلاً من التمرد على اللا معقولية، وما اتسم به كهنته من استبداد وفساد.
ومثَّل الإسلام منذ ظهوره الطرف المضاد لأوروبا في صراعها التقليدي مع الشرق، ومع ذلك فقد أمدها الإسلام من خلال صلاتها المتعددة بأوروبا في شرق المتوسط وإيطاليا وبلاد الأندلس بدعوته إلى العقل، وعقيدته البسيطة الخالية من الكهنوت التي تدور حول مبدأ التوحيد، وساعد ذلك على انطلاق خطواتها الأولى في اتجاه التقدم العلمي والتحرر السياسي والنقد العقلي لعقائد الكنيسة في نهاية العصور الوسطى وتم مواجهة ذلك بأقصى درجات البطش والتنكيل، وهو الأمر الذي فجَّر الثورات المتتالية على الكنيسة مع بداية عصر النهضة وما صاحب ذلك من ظهور المنهج التجريبي وبزوغ الفكر العليم في أوروبا.
ولكن في ظل استمرار اضطهاد الكنيسة للعلماء والمفكرين في عصر النهضة؛ فإن الحركة العقلية في أوروبا اتخذت منحى متطرفاً اتجه بها إلى العداء للدين، بل الإلحاد التام وليس مجرد التمرد على الكنيسة واضطهادها؛ وذلك لأن الاضطهاد المستمر لهؤلاء قرن التحرر العقلي عندهم باتخاذ الجانب المناوئ للدين عموماً. وبات مستقراً في الضمير الغربي منذ ذلك الحين تناقض الفكر والعلم مع الأديان بوجه عام وهكذا ورّثت المسيحية الثالوثية عداء العلماء والمفكرين لها إلى الإسلام أيضاً.
وبذلك تمت استعادة الفكر الإغريقي العلماني من جديد في عصر النهضة كسلاح في وجه الكنيسة الغربية خصوصاً في جانبه المادي الإلحادي (ديمقريطس ـ أبيقور) الذي وجد صداه بعد ذلك في كتابات رواد المذهب المادي الإنجليزي (هوبز ـ لوك ـ هيوم) في عصر التنوير المتمثل في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين. وانتشر وذاع من خلال رواده الفرنسيين (ديدرو ـ فولتير ـ دالمبير). ويتضح من ذلك استقلال العلمانية عن الأديان بوجه عام وإن لم ينف ذلك تلاقي مصالحها مع الصليبية والصهيونية في أحيان كثيرة.
ثم تطور الفكر العلماني إلى العديد من المذاهب الشهيرة في القرنين التاسع عشر والعشرين مثل الماركسية والوضعية المنطقية والعلمانية التحليلية والبرجماتية والوجودية الإلحادية حتى بلغ مرحلة الإجهاد التام في الفكر الحداثي وما بعد الحداثي من المذاهب الغربية؛ لأنها تمثل التيار العام الذي تولدت عنه مختلف هذه المذاهب. وسنحاول شرح ذلك تفصيلاً ـ بإذن الله ـ في مقال آخر.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
===========(12/210)
(12/211)
العلمانية
يعد مصطلح "العلمانية" من أهم المصطلحات في الخطاب التحليلي الاجتماعي والسياسي والفلسفي الحديث، لكنه ما يزال مصطلحاً غير محدد المعاني والمعالم والأبعاد.
كلمة "العلمانية" هي ترجمة لكلمة "سيكولاريزم Secula r ism" الإنجليزية، وهي مشتقة من كلمة لاتينية "سيكولوم Saeculum"، وتعني العالم أو الدنيا و توضع في مقابل الكنيسة، وقد استخدم مصطلح "سيكولارSecula r " لأول مرة مع توقيع صلح وستفاليا(عام 1648م)-الذي أنهى أتون الحروب الدينية المندلعة في أوربا- وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة (أي الدولة العلمانية) مشيرًا إلى "علمنة" ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية أي لسلطة الدولة المدنية. وقد اتسع المجال الدلالي للكلمة على يد جون هوليوك (1817-1906م) الذي عرف العلمانية بأنها: "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض".
و تميز بعض الكتابات بين نوعين: العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة
العلمانية الجزئية:
هي رؤية جزئية للواقع لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والمعرفية، ومن ثم لا تتسم بالشمول، وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد وهو ما يُعبر عنه بعبارة "فصل الدين عن الدولة"، ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت حيال المجالات الأخرى من الحياة، ولا تنكر وجود مطلقات أو كليات أخلاقية أو وجود ميتافيزيقا وما ورائيات، ويمكن تسميتها "العلمانية الأخلاقية" أو "العلمانية الإنسانية". العلمانية الشاملة:
رؤية شاملة للواقع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيات بكل مجالات الحياة، ويتفرع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون وأن المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي، ويطلق عليها أيضاً "العلمانية الطبيعية المادية"(نسبة للمادة و الطبيعة). ويعتبر الفرق بين ما يطلق عليه "العلمانية الجزئية" وما يسمى "العلمانية الشاملة" هو الفرق بين مراحل تاريخية لنفس الرؤية، حيث اتسمت العلمانية بمحدوديتها وانحصارها في المجالين الاقتصادي والسياسي حين كانت هناك بقايا قيم مسيحية إنسانية، ومع التغلغل الشديد للدولة ومؤسساتها في الحياة اليومية للفرد انفردت الدولة العلمانية بتشكيل رؤية شاملة لحياة الإنسان بعيدة عن الغيبيات، واعتبر بعض الباحثين "العلمانية الشاملة" هي تجلي لما يطلق عليه "هيمنة الدولة على الدين".
وقياسا على ذلك فلقد مرت العلمانية الشاملة بثلاث مراحل أساسية:
1 - مرحلة التحديث:
حيث اتسمت هذه المرحلة بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة بصورة عامة، فلقد كانت الزيادة المطردة من الإنتاج هي الهدف النهائي من الوجود في الكون، و لذلك ظهرت الدولة القومية العلمانية في الداخل و الاستعمار الأوروبي في الخارج لضمان تحقيق هذه الزيادة الإنتاجية، و استندت هذه المرحلة إلى رؤية فلسفية تؤمن بشكل مطلق بالمادية و تتبنى العلم و التكنولوجيا المنفصلين عن القيمة، و انعكس ذلك على توليد نظريات أخلاقية و مادية تدعو بشكل ما لتنميط الحياة، و تآكل المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة.
2 - مرحلة الحداثة:
وهي مرحلة انتقالية قصيرة استمرت فيها سيادة الفكر النفعي مع تزايد وتعمق أثاره على كافة أصعده الحياة، فلقد واجهت الدولة القومية تحديات بظهور النزعات الإثنية، وكذلك أصبحت حركيات السوق (الخالية من القيم) تهدد سيادة الدولة القومية، واستبدل الاستعمار العسكري بأشكال أخرى من الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي، واتجه السلوك العام نحو الاستهلاكية الشرهة.
3 - مرحلة ما بعد الحداثة:
حيث الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود ومحركه اللذة الخاصة، واتسعت معدلات العولمة لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرر إلى قضايا البيئة والإيدز وثورة المعلومات، وتضعف المؤسسات الاجتماعية الوسيطة مثل الاسرة، لتحل محلها تعريفات جديدة للأسرة: رجلان وأطفال- امرأة وطفل- امرأتان وأطفال…)، كل ذلك مستنداً على خلفية من غياب الثوابت المعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع والتطور التكنولوجي الذي يتيح بدائل لم تكن موجودة من قبل في مجال الهندسية الوراثية. ورغم خروج مصطلح "علمانية" من رحم التجربة الغربية، إلا أنه انتقل إلى القاموس العربي الإسلامي، مثيرًا للجدل حول دلالاته وأبعاده، والواقع أن الجدل حول مصطلح "العلمانية" في ترجمته العربية يعد إفرازاً طبيعياً لاختلاف الفكر والممارسة العربية الإسلامية عن السائد في البيئة التي انتجت هذا المفهوم، لكن ذلك لم يمنع المفكرين العرب من تقديم إسهاماتهم بشأن تعريف العلمانية.(12/212)
وتختلف إسهامات المفكرين العرب بشأن تعريف مصطلح "العلمانية"، على سبيل المثال يرفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويرى استبداله بفكرة الديموقراطية "حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية "الممارسة السياسية الرشيدة". في حين يرى د. وحيد عبد المجيد الباحث المصري أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية -منهج عمل- وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. ويميز د. وحيد بين "العلمانية اللادينية" -التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل- وبين "العلمانية" التي نحت منحى وسيطًا، حيث فصلت بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.
وفي المنتصف يجيء د. فؤاد زكريا-أستاذ الفلسفة- الذي يصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين و السياسة، ملتزماً الصمت إزاء مجالات الحياة الأخرى (الاقتصاد والأدب) وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع مقابل المادية "القيم الإنسانية والمعنوية"، حيث يعتبر أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية.
ويقف د. مراد وهبة - أستاذ الفلسفة- و كذلك الكاتب السوري هاشم صالح إلى جانب "العلمانية الشاملة" التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبي وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد، مرتكزًا على العلم والتجربة المادية.
ويتأرجح د. حسن حنفي-المكر البارز صاحب نظرية "اليسار الإسلامي"- بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ويرى أن العلمانية هي "فصل الكنيسة عن الدولة" كنتاج للتجربة التاريخية الغربية، ويعتبر د. حنفي العلمانية -في مناسبات أخرى- رؤية كاملة للكون تغطي كل مجالات الحياة وتزود الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، مما يعطيها قابلية للتطبيق على مستوى العالم.
من جانب آخر، يتحدث د. حسن حنفي عن الجوهر العلماني للإسلام -الذي يراه ديناً علمانياً للأسباب التالية:
النموذج الإسلامي قائم على العلمانية بمعنى غياب الكهنوت، أي بعبارة أخرى المؤسسات الدينية الوسيطة.
الأحكام الشرعية الخمسة [الواجب-المندوب-المحرم-المكروه-المباح] تعبر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وتصف أفعال الإنسان الطبيعية.
الفكر الإنساني العلماني الذي حول بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان وجد متخفٍ في تراثنا القديم عقلاً خالصًا في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف، وكسلوك عملي في علم أصول الفقه. و يمكن الرد على تصور علمانية الإسلام، بأنه ثمة فصلا ًحتمياً للدين و الكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الإنسانية تقريباً، إلا في المجتمعات الموغلة في البدائية، حيث لا يمكن أن تتوحد المؤسسة الدينية و السياسية في أي مجتمع حضاري مركب. و في الواقع، هذا التمايز مجرد تمايز المجال السياسي عن الديني، لكن تظل القيمة الحاكمة و المرجعية النهائية للمجتمع (و ضمن ذلك مؤسسات صنع القرار) هي القيمة المطلقة (أخلاقية-إنسانية-دينية) و هي مرجعية متجاوزة للدنيا و للرؤية النفعية.
هذا و قد تبلور مؤخراً مفهوم "ما بعد العلمانية" (بالإنجليزية: بوست سيكولاريزم-Post-secula r ism) و صاغه البروفسير جون كين، و"ما بعد" هنا تعني في واقع الأمر "نهاية"، و تشير إلى أن النموذج المهيمن قد فقد فعاليته، ولكن النموذج الجديد لم يحل محله بعد، حيث يرى أن العلمانية لم تف بوعودها بشأن الحرية و المساواة (حيث تنتشر العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية) وأخفقت في العالم الثالث (حيث تحالفت الأنظمة العلمانية مع الإستبداد والقوى العسكرية) ولم تؤد إلى الجنة العلمانية الموعودة، ذلك في حين ظلت المؤسسات الدينية والقيم المطلقة فاعلة على مستوى المجتمع وحياة الناس اليومية، في معظم بلدان العالم الثالث
والله أعلم.
http://www.elmessi r i.com المصدر:
==============(12/213)
(12/214)
جراحات الأُمَّة بين دور الأزهر وشراسة الأعداء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين... وبعد:
في ظل الظروف العصيبة التي تعصف بالأمة، وفي خضم المتغيرات المتسارعة والأحداث المتلاحقة التي يعيشها العالم اليوم نتطلع جميعًا إلى أزهرنا الشريف، منارة الهدى، ومشعل الضياء، الذي تعلم فيه وتخرج منه الأئمة الأعلام الذين دعوا إلى السنة، وحذروا من البدعة، وأقاموا الحجة، ودحضوا الشبهة، وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده. فإن الغيور ليعتصره الأسى وهو يرى الفرقة تضرب بأطنابها في بقاع الأرض في ظل تصفية حسابات أنانية، ونظرات مادية، بين عولمة كاسحة، وتبعيَّة فاضحة وجهل متفاقم، وفقر متعاظم، وظلم مستشرٍ، وإرهاب مستفحل، وحروب عرقيه، وانحياز دولي جائر، وهيمنة على مستقبل الأمم والشعوب.
وقد استيقظت الشعوب الإسلامية يومًا على أخبار المؤامرة الأمريكية الجديدة!! من شواطئ الأطلنطي الغربية تقول إن أمريكا استمرارًا لمؤامراتها على الإسلام والمسلمين سوف تطبع قرآنًا للمسلمين وهو نفس كتابهم المنزل بعد تعديله وحذف ما يرون حذفه، وإضافة ما يستهويهم واستبدال مصطلحات، وكلمات، وترتيب أولويات.
والقضاء على القرآن الكريم هو أمنية قديمة وهدف يسعى إليه الغرب، ولم يكن بوش الابن أول رئيس يهتم بشن الحرب بجميع أنواعها وأسلحتها المادية والمعنوية على الإسلام، فالتاريخ يذكر أن إمبراطور بيزنطة "جان كنتاكوزين 1292 1380" قد شن من قبل أوسع حملة على القرآن وجاء هجومه شرسًا مفصلا في كتابين بغرض النيل من القرآن.
ويذكر التاريخ دعوة "اللورد كرومر" الشهيرة للقضاء على القرآن. حتى يستطيعوا السيطرة على الشرق، وقال في كتابه المسمى "الكتاب الأسود" طبعة الأنجلو أمريكان ص271 إننا لا نستطيع أن نمتلك الشرق إلا إذا محونا القرآن من قلوب المسلمين... وسَلَّمْنَا المسجد الأقصى لليهود... وأبدنا الأزهر من مصر!!
وعندما سمعنا عن الخطة الأمريكية لكتاب الفرقان المزعوم، ظن الكثيرون أن اختيار كلمة "الفرقان" هو اختيار عشوائي أو مجرد اسم لمؤمراتهم هذه، ولكن الحقيقة غير ذلك، فالغرب قد جادلوا كثيرًا في كلمة "الفرقان" منذ بدايات القرن الماضي واعتبروا أن الكلمة التي سمي بها القرآن، هي كلمة اقتبسها محمد صلى الله عليه وسلم من اللغة العبرية أو اللغة السريانية، وقد طال جدلهم الكاذب، وعندما فكروا الآن في كتاب يحاربون به القرآن كان لابد لهم أن يسموه "الفرقان".
وقد ذكرت كلمة الفرقان في آيات القرآن الحكيم في أكثر من موضع ففي الآية {53} سورة البقرة قال - تعالى -: وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون، وقال - تعالى - أيضًا في سورة البقرة الآية {185}: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان... الخ.
وفي سورة آل عمران: نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان.. الخ.
وفي سورة الأنفال: وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير {41}.
وفي سورة الأنبياء: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين {48}.
وفي سورة الفرقان: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا {1}.
وقد اتفق علماء اللغة والمفسرون على أن فعل "فرق" هو مصدر كلمة الفرقان.. وأن معنى كلمة "الفرقان" هو كل ما يدل على التفريق بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، ويوم "الفرقان" يوم التمييز بين المؤمنين والكفار.
وبرغم أن تلك الكلمة عربية المصدر إلا أن بعض المستشرقين وبغباء واضح ومغالطة وقحة أرجعوا الكلمة إلى اليهودية والمسيحية، وزعموا أن كلمة الفرقان هي كلمة عبرية كانت في الأصل "ببركي أبت" وتم تعريبها إلى كلمة "فرقان" وتعني عند اليهود "الأحكام الدينية والأخلاقية التي نص عليها حكماء المعبد اليهودي في زمن سيمون العادل".
إن حقدهم وتحرشهم بالإسلام الآن ما هو إلا امتداد لحقدهم وتحرشهم به قديمًا، فهاهم الآن يطلقون "الفرقان" على مؤامراتهم الجديدة ليس بسبب أنها كلمة عربية اختاروها اختيارًا، إنما هم يطلقون عليها هذا الاسم لأن كلمة فرقان في عرفهم تعني أنها من اللغة العبرية أو السريانية!
ورغم صمت المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي فسيبقى القرآن الكريم كتاب الله الخالد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولن يستطيع أحد أن يغير منه حرفًا واحدًا مصداقًا لقوله - تعالى -: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.
منع بناء المعاهد الأزهرية والمساجد!!(12/215)
صدر قرار مجلس المحافظين في مصر قبل حوالي شهر تقريبًا والخاص بوقف بناء المعاهد الأزهرية الجديدة، ومنع بناء مساجد أهلية، وهدم المساجد المقامة بدون ترخيص، وإن قرار مجلس المحافظين بعدم الترخيص ببناء معاهد أزهرية جديدة يُعد خطوة في اتجاه إلغاء دور الأزهر، ولا يخدم إلا القوى الصهيونية والأمريكية، كما أن القرار بتفويض المحافظين في تحويل بعض المعاهد الأزهرية إلى مبان تابعة لوزارة التربية مخالف لقانون الوقف لأن مباني هذه المعاهد ليست مالا عامًا، ولكنه مال خاص أوقفه أهل الخير للتعليم الأزهري.
إن هذا القرار لا يتناسب مع ظروفنا في الوقت الحاضر، والتي تتطلب منا الحفاظ على صورة الإسلام والمسلمين، وتفعيل دور المؤسسات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي.
إن الولايات المتحدة تروج لأكاذيب تتهم من خلالها المناهج الأزهرية والدينية بأنها تساعد على تخريج إرهابيين لا دعاة، فضلا عن مطالبة الغرب بإعادة النظر في هذه المناهج وتقليص دور المعاهد الأزهرية والمساجد، ولهذا فإن هذا القرار يعد بمثابة اعتراف بأن التوسع في المؤسسات التعليمية ذات الطابع الديني يشجع على العنف والإرهاب!! فضلا عن أنه مجاراة للغرب وخدمة لأهدافه في الحرب على الإسلام والصورة المشوشة التي يريدون إلصاقها بالمسلمين.
الأزهر والدور المنشود
وإننا نطالب بتفعيل دور الأزهر، والتمسك بدوره التاريخي في إعداد الدعاة، وتخريج الأكاديميين في مختلف العلوم من خلال مناهج تواكب المتغيرات التكنولوجية، وتحافظ على الثوابت الإسلامية، وتقاليد المجتمعات المسلمة!!
والقرارات التي صدرت في هذا الشأن من مجلس المحافظين قرارات معيبة وخاطئة، فهم يتحركون من خلف قيادات الأزهر لتنفيذ المخططات الخارجية التي تريد هدم الأزهر، وإلغاء التعليم الديني في مصر، كما أن المعاهد الدينية ليست تابعة للإدارة المحلية، فكيف يتصرف محافظ في بناء معهد أو هدمه دون الرجوع إلى قيادة الأزهر المسئولة عن التعليم الديني وفقًا لقانون الأزهر؟!!
إن للأزهر دورًا عالميًا، وبهذه القرارات فهم يريدون إلغاء هذا الدور لأنه المرجعية لكل ما يتعلق بالأمور الشرعية والعقدية.
كما أنه لا ينبغي تقييد بناء المساجد لأن المسجد هو محور حياة الأمة، فهو بمثابة وزارة التربية والتعليم، ووزارة الثقافة، ووزارة الدفاع، وهو دليل على إسلام الأرض والبشر بدليل أن أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هو بناء المسجد، ومن بعده استوعب الصحابة الدرس، وشرعوا في بناء المساجد في كل أرض يفتحونها، وبالتالي فلا يجوز تحويل المساجد أو الزوايا إلى أي شيءٍ آخر لأن وقْفَهُ صار لله - سبحانه وتعالى-، وبالتالي لا يجوز تحويله لفصول لمحو الأمية ولا غيرها.
إننا نناشد فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر بالقيام بمسئولياته التاريخية. ونناشد مجمع البحوث الإسلامية، ووزارة الأوقاف وعلى رأسها معالي الأستاذ الدكتور وزير الأوقاف بالقيام بدورهم الريادي للمحافظة على التعليم الأزهري وحماية بناء المساجد في مواجهة من يكيدون للإسلام وأهله!!
غربة الدين
إن ما يحدث في بلادنا بأيدي أعدائنا هو نتاج لتقصيرنا، وانشغالنا عن ديننا وإن المصيبة العظمى أن تتوالى الفتن على القلوب ويزول خطر المعاصي في النفوس، فيقع الناس في حدود الله منتهكين لها، حتى أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأي قلب أُشربها نُكِتَتْ فيه نُكتَة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخِّيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه" {أخرجه مسلم}.
وسئل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: من مَيِّتُ الأحياء؟ فقال: "الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه".
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردلٍ".
لم يكف أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين ومن سار في ركابهم ومن ساندهم وأيدهم من فُسَّاق الملة المستغربين عن شن الحملات عبر وسائل ورسائل لا يخفى هدفها، ولا يُجْهَلُ محتواها، غرضها زعزعة عقيدة الأمة، وتدمير أخلاقياتها وطمس هوَّيتها وتغييبها عن رسالتها، فبماذا واجه المسلمون تلك الحملات؟! هل أوصدوا دونها الأبواب؟ هل جاهدوها حق الجهاد؟! هل قاموا بالواجبات اللازمة والكافية لمنع انتشار الشر والفساد؟!(12/216)
لقد فتح كثير من المسلمين بسبب الغفلة عن دين الله وقلة التحفُّظ، فتحوا بلادهم ومتاجرهم وبيوتهم وقلوبهم لتلك التيارات الوافدة وأسلموا مجتمعاتهم للأمة الكافرة المعاندة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لتتبعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبِّ لتبعتموهم" قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟! " {أخرجه البخاري}
ولا زال الإسلام ينتظر رجاله الذين سيشرفهم الله - سبحانه - بحمل الأمانة وأدائها حق الأداء، بعد أن يُفني بقدرته - سبحانه - مفاتيح الشر ودعاته قال - تعالى -:وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم {محمد: 38}.
والحمد لله رب العالمين
http://www.altawhed.com المصدر:
=============(12/217)
(12/218)
قراءة في كتاب العلمانية
عرض: صفاء الضوي أحمد العدوي
نادرة تلك الكتب التي تستوعب أجزاء البحث الذي تتناولهه، وأقل منها أن يكون مع الاستيعاب؛ العمق، والجُدة، والأصالة، والتحقيق، وأندر النادر أن تجمع مع كل ذلك الإمتاعَ والأسلوب الأدبي الرصين، من تلك الكتب التي تستولي على القارئ المثقف الجاد، وتحرك عقله، وتدفعه للنظر المتعمق في القضايا المعروضة كتاب العلمانية للدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي.
المقدمة:
قدم المؤلف للكتاب بمقدمة بين فيها أن الإسلام هو أعظم منن الله على البشرية عامة، وعلى أمة الإسلام خاصة، وأن كلمة لا إله إلا الله هي روح هذه الأمة، وسر وجودها، ومنبع حياتها، وأن الأمة بقيت ردحاً من عمرها تتبوأ منزلة عالية بين الأمم حين كانت تدرك معنى هذه الكلمة، وتعمل بمقتضاها.
ثم بدأ نور هذه الكلمة في الخفوت، فبدأ شأن الأمة في الهبوط، حيث ظلت تفقد من ذاتيتها وأصالتها بمقدار ما تفقد من نور هذه الكلمة، في علاقة مطردة تؤكد سنة من سنن الله لم تتبدل على مدار التاريخ.
وكان من أعراض هذا المرض المدمر ؛" فقدان الذات": الانبهارُ القاتل بالأمم الأخرى، والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها، وكان مما زاد هذا المرض خطورة؛ الجهل بحقيقته، وعدم إدراك أسبابه، فكان التشخيص الخاطئ سبباً في العلاج الخاطئ الذي أدى إلى مضاعفات جديدة.
لقد تصور البعض أن هذا الداء يمكن علاجه بترقيعات نتلقاها من الكفار الذين أسموهم العالم المتحضر!.
كانت قابليتنا للذوبان مبرراً للحرب الشرسة التي شنها الغزاة على أفكارنا وأخلاقنا، حيث طمعوا في القضاء على مقومات وجودنا قضاء تاماً، فأقبلت طلائع ذلك الغزو الفكري تحمل شعارات متباينة الاتجاهات؛ عليها من البهرجة والبريق ما يكفي لتضليل أمة منبهرة مهزوزة.
جاءت الاشتراكية والقومية والديمقراطية وفلسفة التطور واللادينية وغيرها من المسميات والشعارات، وتغلغلت هذه الأوبئة في العقول والقلوب التي فقدت رصيدها من " لا إله إلا الله " أو كادت، ونشأ على ذلك فلول ممسوخة أخذت على عاتقها إكمال عملية المسخ لباقي الأمة، وتعبيد الشعوب المسلمة للغرب، والإجهاز على منابع الحياة والقوة الكامنة في دينها، لكن الله - تعالى - تدارك الأمة برحمته، فأنبت من بين هذا الركام والظلام رجالاً صادقين، وأطلت من بين النيام والأموات صحوة جهادية أصيلة، طلبت الهداية والعلاج من كتاب الله - تعالى - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فعادت إلى صفاء العقيدة، وسلامة المنهج، ولمحت ما في المناهج الموجودة من انحراف وضلال، فلفظت سموم الغزو الفكري الذي كاد أن يقضي عليها، وانتبهت إلى ما يروج في ساحاتنا الفكرية من مذاهب هدامة، كان منها مذهب العلمانية الذي كانت سحابة كثيفة من الضبابية تغشاه وتعمي حقيقته عن المثقفين فضلاً عن العامة، مما جعل أسهمها لا تزال مرتفعة في أسواقنا سواء باسمها الصريح، أو تحت شعار الديمقراطية، أو شعار " الدين لله، والوطن للجميع، أو غير ذلك من الشعارات.
كان هذا أحد الأسباب التي حدت بالمؤلف أن يتناول العلمانية بتلك الدراسة الجادة العميقة الموسعة، وكان السبب الثاني هو أن موضوع العلمانية المتمثل في عزل الدين عن توجيه الحياة يصادم مفهوم لا إله إلا الله، ومع ذلك نجده موجوداً في كافة مناحي الحياة في مجتمعات المسلمين، مما يستلزم كشف الزيف الذي يلفه ويخفي حقيقته عن المسلمين.
ثم عرف المؤلف بالعلمانية، وبيّن الخطأ في ترجمة الكلمة الإنجليزية secula r ism بالعلمانية، وأن هذه الكلمة لا صلة لها بالعلم، وأن الترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية، ثم أيد ذلك بإيراد عدة تعريفات من دوائر المعارف الأجنبية للعلمانية، كلها تؤكد أن معنى ال (secula r ism ) في بيئتها التي نشأت فيها: الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، أو الحركة المضادة للديانة المسيحية، وأنها نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة، وأن الدين لا دخل له في شؤون الدولة، ولا سياسات الحكومة، وخاصة التربية العامة، وأنها دنيوية مادية لا تقبل المفاهيم التي تتعلق بالدين والروحانية، فالتربية التي تعتمدها لا دينية، فالدين في معنى هذا المذهب لا ينبغي أن يكون أساساً للأخلاق والتربية، ويقدم المستشرق " أربري " في كتابه (الدين في الشرق الأوسط) نموذجاً لأهم معاني العلمانية وهو فصل الدين عن الدولة بالجمهورية التركية، ثم يعلق المؤلف على العبارة المشهورة في وصف العلمانية " فصل الدين عن الدولة " بأنها تعريف غير دقيق، وأن مدلولها الصحيح هو " إقامة الحياة على غير الدين "، فالإسلام والعلمانية - أي اللادينية - نقيضان لا يجتمعان.
قسم المؤلف الموضوع إلى خمسة أبواب: الباب الأول دين أوروبا أو المسيحية بين التحريف والابتداع وفيه فصلان: الأول: التحريف: تكلم فيه أولاً عن تحريف العقيدة ( قضية الألوهية - تحريف الأناجيل )، وثانياً عن تحريف الشريعة، وفصل الدين عن الدولة.(12/219)
والفصل الثاني: البدع المستحدثة في الدين النصراني: تكلم في هذا الباب عن دين أوروبا النصرانية الذي انحرفت عنه إلى اللادينية، وأثبت ما اعترى النصرانية من تحريف وتبديل، وأنه لم يعد يمثل دين الله الحق لا في العقيدة، ولا في الشريعة، بل تحول إلى مجموعة من الخرافات والبدع تولت الكنيسة كِبَر تسويقها وترويجها، وإيهام الناس أن ذلك هو الدين النصراني، وكان هذا التحريف الذي أصاب الدين النصراني على يد القساوسة الكذبة هو السبب الممهد للعلمانية، حيث طغت الكنيسة ودوخت أتباعها في خرافات يرفضها العقل، وتمجها الفطرة، فقد وقع أولاً تحريف العقيدة، وتحريف الأناجيل التي بلغت سبعين إنجيلاً كلها شاهدة على أنها محرفة، يكذب بعضها بعضاً، هذا فوق مئة وعشرون رسولاً منهم من ألّف أناجيل، ومنهم من كتب رسائل، وفرق وطوائف تزيد على الحصر تختلف في قضايا أساسية بالغة الأهمية.
ولقد كان انعقاد مجمع نيقية الشهير في عام 325م يمثل معلماً من معالم التاريخ البارزة، وشاهداً على أن النصرانية قد حرفت وبدلت، وفقد الناس الثقة في حقيتها وقدسيتها، وبعد تحريف الأناجيل جاء تحريف الشريعة، وكان من أولى فصول هذا التحريف فصل الدين عن الدولة،
بين المؤلف أن الشريعة النصرانية لم يكتب لها التطبيق على المستوى العام، وذلك لسببين متلازمين: الأول أن الشريعة النصرانية لم تقم لها دولة تتبناها وتقيمها في الأرض، فقد توفى الله عيسى - عليه السلام - ورفعه إليه وهو لم يزل في مرحلة الدعوة التي تشبه حال الدين الإسلامي قبل الهجرة، والسبب الثاني: أن المسيح - عليه السلام - بعث إلى قوم قساة تسيطر عليهم إمبراطورية وثنية عاتية، اضطهدت المؤمنين من أتباع المسيح وعذبتهم، فانحسر تطبيق الشريعة في أضيق نطاق بسبب هذا العداء الشديد.
وكان لليهود اليد الطولى في إلحاق الأذى بالمؤمنين بتعاليم المسيح - عليه السلام -، فلا يخفى أمر شاؤل الطرسوسي أو بولس ( رسول الأمم)! وخداعه باعتناق المسيحية، وقيامه بغزوها من الداخل تماماً كما قصد عبد الله بن سبأ غزو الإسلام من الداخل.
فكان بولس المفسد الأول والأكبر بجدارة لتعاليم المسيح - عليه السلام -، قام شاؤل هذا بإصداره تعليمات مناقضة لتعليمات المسيح مما أحدث في الناس بلبلة وفتنة، فوقعوا بذلك في بلاء عظيم، كما أنه مزج الدين الذي جاء به المسيح - عليه السلام - بالوثنيات القائمة آنذاك، ثم ما كان من الاضطهاد الشديد الذي أوقعه أباطرة الرومان - وعلى رأسهم نيرون - بأتباع المسيح - عليه السلام -، حيث تقشعر الأبدان من ذكر فظائعهم وجرائمهم، ثم جاء عام 325م الذي يمثل عام النصر الحاسم على أعداء المسيح، حيث ظفرت الكنيسة بالإمبراطور، وأدخلته في الدين المسيحي، لكن الكنيسة لم تنتفع بهذا التزاوج بين القصر والكنيسة بما يعود بالخير على الناس في دينهم، بل كان ارتباطها بالإمبراطور ارتباط مصلحة لا يمت إلى الإيمان بصلة؛ فبقيت الوثنية متجذرة في نفوس الناس تغطيها غلالة رقيقة من الصبغة المسيحية، ولهذا عجزت الكنيسة عن إقامة الحياة على أسس متينة من الإيمان، وفتح الباب للخرافات والأساطير والتقاليد الوثنية، وامتزج كل ذلك بروايات الأناجيل وآراء المجامع المقدسة، وتلاقحت الشريعة والقانون الروماني فأصبحت المسيحية ديانة تركيبية أو بوتقة انصهر فيها عقائد وخرافات وآراء متباينة شكلت ديناً غير متسق ولا متناسق.
ثم بدأت الكنيسة في إصدار نصوص مكذوبة تبرر بها للناس ذلك المنحى الجديد الذي اتخذته بعد هذا التزاوج المقيت بين الكنيسة وقيصر، وكان من أهم هذه الأقوال القول المنسوب زوراً للمسيح: أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله ".
فلقد ظل هذا القول شعاراً ترفعه الكنيسة كلما عنّ لها أن تتمرد على شرع الله، ثم بين المؤلف أن هذه العبارة المنسوبة للمسيح في إنجيل متى تبين أن الأناجيل التي بأيديهم لا تثبت أمام البحث العلمي، وأنها لا قيمة علمية تاريخية لها، فكلها ظنية الثبوت، ظنية الدلالة، فكيف يحتج بهذه الظنيات على مسألة بالغة الخطورة كهذه، ويعني مسألة أن يوافق المسيح على أن يجعل قيصر شريكاً لله - تعالى - في التوجه إليه بالعمل، وإيقاع الناس في شرك الطاعة والاتباع.(12/220)
ثم يتنزل المؤلف جدلاً ويفترض أن المسيح - عليه السلام - تفوه بهذه الكلمة، ويتساءل: هل يعني ذلك أن نفهم من العبارة ما فهمته الكنيسة من ظاهرها؟، ونتخذ من فهمنا هذا قاعدة هي أعظم القواعد الكنسية العملية على الإطلاق؟ ثم يعرض المؤلف العبارة التي استلوها من إنجيل متى، ويتتبع السياق لفهمها في إطارها فهماً صحيحاً على افتراض صحة ثبوتها، ونص القصة: "ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم قائلين: يا معلم، إنك صادق، وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد، فقل لنا: أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم، وقال: لماذا تجربونني يا مراؤون، أروني معاملة الجزية، فقدموا له ديناراً، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر، فقال لهم أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فلما سمعوا تعجبوا وتركوه "اهـ، وهكذا شأن أعداء الرسل، وخصوم الإيمان في كل زمان، يسعون في الإيقاع بالمؤمنين، ويحاولون إثارة السلاطين عليهم بما يدركون من افتراق طريق الإيمان وطريق السلطان، يفعلون ذلك لحرمان أهل الإيمان من الاستفادة من هدوء الحال لتمضي الدعوة في خطة تكوين طلائع الإيمان، وتربيتهم لحمل الأمانة، وتبليغ الرسالة، ونشر هدايتها في الناس، ويعلق المؤلف على هذه القصة فيقول: كان المسيح - عليه السلام - وأتباعه قلة مضطهدة تتبنى دعوة جديدة ناشئة، فلم يكن في مقدورها أن تصطدم بالإمبراطورية الطاغية، وتواجهها بعداوة سافرة، ولم تكن هذه المواجهة مطلوبة منها وهي لا تزال في طور الدعوة - يقابل ذلك في الإسلام فترة ما قبل فرض الجهاد -، وهذا الطور يقتضي الالتزام بمبدأ " كفوا أيديكم " كيلا يستثار عدو باطش فيفتك بالدعوة في مهدها، ثم يقول: فالمسيح - عليه السلام - ( لو صحت العبارة ) وافق على إجراء مؤقت تقتضيه ضرورة الواقع، وطبيعة الدعوة المرحلية، ثم أشار إلى نظائر ذلك في مراحل الدعوة في السيرة النبوية.
ويمضي المؤلف في استعراض ما عمدت إليه الكنيسة الزائغة من عبارات موهمة تنسبها الأناجيل إلى المسيح، وهي عبارات قيلت مجازاً، أو رددت في ظروف مؤقتة، وملابسات خاصة، وإنما قصدت الكنيسة أن تقرر بهذه العبارات قواعد أصولية تؤسس عليها دينها المحرف دون مراعاة لمنطق الاستدلال، ومقتضى التحقيق العلمي.
وكان من هذه العبارات التي نسبوها إلى المسيح - عليه السلام - أيضاً: "مملكتي ليست من هذا العالم"، وأشاعت الكنيسة المفهوم الذي تريده لهذه العبارة وهو: الدنيا والآخرة ضرتان متناحرتان، وضدان لا يجتمعان، الدنيا مملكة الشيطان، ومحط الشرور والآثام، وأن سعي الإنسان فيها للسعادة والتمتع بخيراتها دنس يحرمه من ملكوت الله في الآخرة، وهو مفهوم يتيح للمفسدين من القساوسة والقياصرة الطغاة أن يعبثوا بالحياة ما شاءوا دون أن يعترض طريقهم أحد، وما كان للمسيح - عليه السلام - أن يتكلم بمثل هذه العبارة التي هي أقرب إلى النظرة البوذية الوثنية للحياة من نظرة رسول كلفه الله بدعوة الناس لعبادة الله، وتحذيرهم من اتباع الأهواء، وما كان هذا المفهوم الذي روجوه للعبارة أن يخطر ببال أحد رسل الله الذين جاءوا لتغيير الواقع الجاهلي المنحرف، وإقامة واقع جديد تحكمه الشريعة المنزلة.
ثم أفرد المؤلف فصلاً عن البدع المستحدثة في الدين النصراني، فعد منها رجال الدين ( الإكليروس )، ورفض التعليل الجاهلي لظهور طبقة رجال الدين بأنه مجرد تطور بشري ديني اجتماعي، وأنه مر بثلاث مراحل: مرحلة السحر والخرافة، ومرحلة الدين، ومرحلة العلم، وأن الإنسان حين انتقل إلى مرحلة الدين بقيت فيه رواسب موروثة عن المرحلة الأولى من أبرزها طبقة رجال الدين الذين ليسوا سوى امتداد للسحرة والكهان، فيبين المؤلف أن هذا التفسير مرفوض، وأن التصور الإسلامي للتاريخ ينظر إلى الحياة البشرية على أنها خطان متوازيان: خط مشرق يمثل البشرية حين تهتدي إلى الله، وتسلك طريق الأنبياء الذين يتعاقبون لردها إلى جادة الطريق، وخط آخر مظلم يمثل حزب الشيطان، وفترات الضلال الذي طرأ على البشرية بعد أن كانت أمة واحدة على الإيمان، والسمة العامة للتاريخ هي الصراع بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل.
ثم أوضح أننا لا ننكر التشابه الظاهر بين رجال الإكليروس في المسيحية وبين السحرة والكهان في العصور السابقة، لكننا نرجع ذلك إلى كون الطائفتين انحرفتا عن الأصل الصحيح.(12/221)
ثم تكلم عن خط الانحدار الذي يصف حالة الكنيسة وهي تتردى وتفقد صلتها بالدين، وتقطع أواصرها بالإيمان، فيقول بعد أن يشير إلى أحبار اليهود وفسادهم، وأن المسيح - عليه السلام - كان يسميهم أولاد الأفاعي، وبائعي العهد، وعباد الدنيا، قال: لكن القسيسين والرهبان لم يكونوا أفضل حالاً من الأحبار، فقد سلكوا الطريق نفسها، وانصاعوا إلى الدنيا مستعبدين أتباعهم المؤمنين، فكانت هيئة الدولة تمثل هرماً قمته الإمبراطور، وقاعدته الجنود، وكانت الهيئة الكنسية تمثل هرماً مقابلاً قمته الباب، وقاعدته الرهبان، ونتيجة لمبدأ فصل الدين عن الدولة رعت الإمبراطورية الهرم الكنسي، ولم تر فيه ما يعارض وجودها، فرسخ واستقر، وكان من البدع المستحدثة في الدين النصراني أيضاً الرهبانية: وقد بين المؤلف أن للوجود الإنساني في هذه الأرض غايةً أرادها الخالق سبحانه منذ أن استخلف الإنسان في الأرض، وأناط به مسئولية عمرانها بالخير والصلاح، وركز في فطرته الاستعداد لهذه المهمة وبعث الرسل لقيادة الإنسان لتحقيق هذه الغاية على أكمل نموذج، وأقوم مثال، لكن الناس كانوا يضلون فيسيرون في غير الاتجاه الذي تأخذهم إليه الفطرة، وتقودهم إليه الرسل، فتستهويهم الشياطين، وتضلهم الشهوات عن سواء السبيل، فينحرفون عن الجادة في صور من الضلال متعددة ومتنوعة، وكان من هذه الصور المنحرفة النظرة غير السوية إلى الحياة وغايتها وقيمتها، والغلو في تهذيب النفس إلى حد التضييق والتعذيب، مع الانصراف عن عمارة الأرض، التي هي جزء من الغاية العظمى، ومع أن الرهبانية بدعة بشرية مشتركة بين أديان عديدة؛ إلا أن للرهبانية النصرانية ظروفاً وأسباباً أبرزتها حتى غدت من أجلى مظاهر النصرانية على مر العصور.
أسباب الرهبانية: (1) عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة، وهي إحدى التعاليم الكبرى في المسيحية المحرفة، ومرجعها عندهم أن آدم - عليه السلام - لما أكل من الشجرة عوقب بالحرمان من الجنة، فظل بنوه يرسفون في أغلال تلك الخطيئة حتى جاء الخلاص على يد المسيح ليصلب فداء للنوع الإنساني، فأصبح لزاماً على الإنسان أن يقتل نفسه ليمنحها الخلاص كما يقول متى في إنجيله: " من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ".
(2) رد الفعل المتطرف للمادية اليهودية الجشعة، والأبيقورية الرومانية النهمة.
(3) الأثر الذي خلفته الفلسفات والوثنيات التهريبية القانطة.
(4) الأوضاع الاجتماعية القاسية.
نظام الرهبانية:
ثمة شروط يتضمنها نظام الرهبانية: أولها العزوبة، وما يلزمها من التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، وترذيل الصلة الجنسية وإن كانت حلالاً، فهذا " سان بونافنتور " أحد رجال الكنيسة يقول: إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً حياً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذي تسمعون هو صفير الثعبان ".
الثاني: التجرد الكامل عن الدنيا، ويعنون بها العزلة النهائية عن المجتمع، وقطع النظر عن كل أمل في الحياة.
الثالث: العبادة المتواصلة.
الرابع: التعذيب الجنوني.
صادمت هذه التعاليم المنحرفة الفطرة فكان لابد من الخسران والشقاء، وكان من تلك البدع المستحدثة كذلك الأسرار المقدسة: امتلأت الوثنيات القديمة بالأسرار والأساليب الخفية، والرموز الغامضة، وقد سجل التاريخ غلطة شنيعة على بعض أتباع الديانات باقتباسهم لأشياء من تلك الأسرار والرموز؛ وإدخالها في دينهم، وذلك ما حصل بعينه في المسيحية المحرفة.
تناول المؤلف واحداً من هذه الأسرار التي دأبت الكنيسة على استعمالها في ستر نقائصها ومخازيها، وقطع الطريق على كل محاولة تطلب تفسيراً يقبله العقل، وترفض أن تتصلت الكنيسة على عقول الناس بقولها ( سر إلهي )، وكان من هذه الأسرار الإلهية الكنيسية سر " العشاء الرباني " أو " القربان المقدس ".
ثم يبين المؤلف أن ذلك كان من دس شاؤل اليهودي الذي يؤكد جوستاف لوبون - أحد النقاد العقليين - أن شعائر النصرانية ومنها العشاء المقدس بدعة منقولة عن الوثنية المثرائية، وأن شاؤل كان متأثراً بالمثرائية التي كان من شعائرها التضحية بالعجل المقدس، ولهذا كان المسيحيون الأوائل يقيمون وليمة تذكارية في عيد الفصح قوامها الخبز والخمر يرمزان إلى جسد ودم المسيح، وهي التي تعرف بعقيدة الاستحالة أ أي استحالة الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح، فليس لأحد من أتباع الكنيسة أن يسأل أو يشكك في ذلك السر، وإلا عوقب بالحرمان والطرد من الملكوت، وكانت هذه العقيدة العجيبة من الثغرات الواسعة التي دخل منها النقد المرير للكنيسة، وسبب كثيراً من الإنشقاقات الدينية، والسخرية الشديدة التي انهال بها على الكنيسة النقاد العقليون من أمثال الفيلسوف الفرنسي فولتير.(12/222)
البدعة الرابعة: عبادة الصور والتماثيل: وهذه أيضاً كانت من البصمات الظاهرة التي تركتها الوثنية على الديانة النصرانية، على الرغم من أن التماثيل تعتبر من الأعمال المحرمة في شريعة التوراة، ولم يقف الحد عند كونها مظهراً من مظاهر المخالفة لشريعتهم، بل تعدى ذلك إلى أن صارت التماثيل والصور آثار مقدسة، ومعبودات يسجد الناس لها، ويوقدون لها الشموع، ويحرقون البخور، وينثرون فوقها الزهور التماساً لبركاتها، ورجاء تأثيرها الخفي، وكان للفتوحات الإسلامية التي امتدت حتى شملت معظم المعمورة أثرها في أن يعيد كثير من شعوب الدول النصرانية نظرتهم إلى ما أصاب دينهم من لوثات الوثنية، حيث اطلعوا على عقيدة التوحيد الخالص في دين الإسلام، فأحسوا بسخافة معتقداتهم، وضحالة تفكيرهم، ففتحوا أعينهم على تلك الحضارة الغازية الشامخة الناصعة، فقامت في الغرب حركات معادية لبدعة التماثيل والصور، وطالبت بإزالة تلك الوصمة الشنيعة التي كشفت الدين الذي ينتسبون إليه، وأظهرت ما فيه من النقص والعيوب والتشويه الذي يخجلهم أمام المسلمين، لكن الكنيسة رفضت ذلك، وظل الصراع بين المنادين بتحطيم التماثيل والصور وبين الكنيسة المعاندة، وعقد مجمع نيقية الثاني عام 787م وحضره 350 أسقفاً، وقرروا جميعاً بقاء الثماثيل والصور، بل ألزموا الناس بالإغراق في ذلك بوضع التماثيل والصور كذلك في البيوت والطرقات، لبقاء أثر المسيح وأمه والرسل وسائر القديسين في نفوسنا، وبذلك انتصرت الكنيسة الوثنية على حركات الإصلاح، ثم عادت الحركة المناهضة لعبادة الصور والتماثيل للظهور مرة أخرى بعد ثلاثة قرون، وذلك حينما اتصل الغرب الوثني بالشرق المسلم إبان الحروب الصليبية، وكان البروتستانت هم الذين يتولون الحركة الإصلاحية في هذا الجانب، بينما ظل الكاثوليك على تقديسها ولعن محطميها، وبلغ الهوس بهؤلاء المفتونين بصور المسيح - عليه السلام - وأمه أن قامت إحدى شركات السينما في السويد بإنتاج فيلم عن " حياة المسيح الجنسية "، في ابتذال وامتهان لم يحرك في الدول الغربية ساكناً، بينما احتجت بعض المنظمات الإسلامية، وطالبت بإيقاف عرض الفيلم، ولم يقتصر الأمر على المسيح وأمه بل إن الكنيسة تجرأت على الباري - جل شأنه - وصورته كما تصور المخلوقين - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -، معلنين أنهم لا يمكنهم أن يفهموا الله إلا عن طريق تصوره بالصورة البشرية، كما يقرر ذلك أحد علماء الكنيسة.
ويتابع المؤلف عرض البدع التي استحدثت في النصرانية؛ فيذكر منها المعجزات والخرافات، فكان من الطبيعي لدين مركب من تعاليم المسيح، وكم هائل من المعتقدات الوثنية؛ أن يجد صعوبة في الإقناع العقلي، والبرهان المنطقي، فذهب يعوض هذا النقص بادعاء الخوارق التي هي في حقيقتها أوهام وأخلاط، بقصد التمويه على العقول الضعيفة، والنفوس الساذجة، وساعد الإرث الوثني على تقبل جماهير الناس المتعلقة بالكنيسة بهذه السخافات، واتسع نطاق تلك الأوهام حتى أصبحت مكانة رجل الدين وقداسته مرهونة بما يظهر على يديه من الخوارق، وما يتعاطى من الشعوذات، وما يأتي به من ألاعيب تجهل العقول الساذجة علته الحقيقية، مدعياً أن ذلك هبة من الروح القدس له، ويسجل لنا التاريخ أمر " الساعة " التي أهداها هارون الرشيد إلى الإمبراطور ( شارلمان )، فأصابه الفزع هو وحاشيته ظانين أن بها جناً يحركها، فكيف بعامة الشعب من الفلاحين والرعاة؟!.
وكان لهذه الخرافات جذور عميقة في نفوس أتباع الكنيسة، ولهذا كانوا يتعلقون بالقساوسة، ويعتقدون فيهم قدرات خارقة في صد العواصف، وإنزال المطر، وكانوا ينزلون بهم أشد النكال إذا فشلت تراتيلهم في تحقيق آمال الناس، فكم من قديس أهانوه وضربوه، ونزعوا أجنحته الذهبية، وركبوا له أجنحة ورقية إهانة له على فشله، كما كانت صيحاتهم الغاضبة تعلو في الساحات الكبرى حيث يأتون بهؤلاء القديسين الكذبة، ويقيدونهم عراة، ويهتفون بهم: المطر أو حبل المشنقة.
وأشار المؤلف إلى عدد من تلك الخرافات التي كانوا يشيعونها في الناس، فذكر خرافة " تجلي العذراء " التي يثيرونها بين الحين والحين، وذكر أيضاً خرافة الرقم (13)، ويبين أن أصله أن يهوذا الذي دل على المسيح هو التلميذ الثالث عشر للمسيح، فكان ذلك مصدر شؤم للكنيسة وأتباعها.
ومن البدع المستحدثة في الديانة النصرانية بدعة: صكوك الغفران، وهي الصكوك التي كان القساوسة يمنحونها لأتباع الكنيسة ليتطهروا من الخطايا، ضامنين لهم المغفرة، مطلقين لهم العنان ليفعلوا ما شاءوا من المعاصي، طالما اشتروا هذا الصك، أما البؤساء ممن لا يملكون المال لشراء هذا الوهم فيظلون محرومين من هذه الموهبة مهما بلغ تقواهم وحبهم للمسيح، وتعلقهم بالعذراء.(12/223)
وكان الأساس الذي بنيت عليه هذه الأكذوبة هو فكرة القداسة التي ادعاها رجال الدين، والتي بني عليها فكرة الاستشفاع بهم لدى الله لمغفرة الخطايا، وظل الجهلة والسذج يتوسلون إلى القساوسة راجين الشفاعة، والتقرب إلى الله زلفى؛ فنتج عن ذلك مبدأ التوسط بين الله والخلق، حتى أصبحت وظيفة رجل الدين المسيحي القيام بهذه الوساطة، فعن طريقه تؤدى الصلاة، ويتناول العشاء الرباني، وهو الذي يقوم بالتعميد، وطقوس الزواج، والموت، ويتقبل الاعترافات بالمذنبين.
ثم يبين المؤلف أن هذه الصكوك إنما بدأت حين كانت الكنيسة تواجه ظروفاً عصيبة إبان الحروب الصليبية التي بلغ معها يأس النصارى من تحقيق النصر على المسلمين مبلغاً عظيماً، وأصاب الشعوب الأوروبية إحباط شديد؛ فاخترعت الكنيسة فكرة هذه الصكوك كتجسيد لأماني المشتركين في تلك المعارك بالمغفرة، ولشحذ هممهم للاندفاع في المشاركة في تلك الحروب، كما يقول ول ديورانت في قصة الحضارة.
ويخلص المؤلف من هذا العرض لهذه البدعة بقوله: وعليه فلم يكن يحظى بالحصول على صك الغفران إلا رجل ذو مال يقدر على شرائه حسب التسعيرة التي تحددها الكنيسة، أو رجل يحمل سيفه ليقاتل تحت راية الكنيسة، وغير هذين رجل ثالث فقير لا مال له، أو عاجز عن القتال، أو رجل غير مستعد للموت في سبيل الكنيسة، لكنه يظل أسير صراع نفسي مرير، وشعور بالحرمان قاتل.
وهكذا فالكل مضحون، والكل خاسرون، والكنيسة هي الرابح الوحيد، حيث أثرت ثراء فاحشاً من عملية بيع الصكوك، وإن كانت عند الله أذل مقاماً، وأخسر صفقة.
ومن الوجهة السياسية قويت الكنيسة، وتدعمت سلطتها، فكان الثراء والنفوذ بعض ثمار تلك البدعة التي دفعت الكنيسة إلى الطغيان والغطرسة الباغية، ولم ينتبه رجال الكنيسة الذين أعماهم الغرور بسبب ما وصلوا إليه من الغنى والسيطرة عن خطر هذا الطغيان عليهم، فكانت مهزلة صكوك الغفران مسماراً في نعش الكنيسة، وبداية لنهايتها، حيث هبط سوق الصكوك، وأصابه الكساد، وتجول القساوسة ببضاعتهم يبيعونها بأبخس الأثمان، فازداد إعراض الناس عنها، حيث تولد لديهم شعور بأن شراءها إن هو إلا إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو أنه غير مضمون العاقبة، وتبع ذلك الشعور ظهور الفضائح التي كشفت جانباً من سيرة رجال الكنيسة وفجورهم، فكان ذلك إيذاناً بالشك الكبير في قداسة هؤلاء القساوسة وصلاحهم، وتوحدت المشاعر من مختلف قطاعات الشعب بالعداوة والازدراء تجاه رجال الكنيسة، ورأى الأوربيون - حكاماً ومحكومين - الحياة الكريمة التي يعيشها الشرق الإسلامي، حيث لا كهنوت، ولا طغيان، ولا احتكار، فهزت هذه الرؤية أنفسهم، وبهرت عيونهم، فباتت صكوك الغفران في نظرهم هراء لا طائل تحته، وعبئاً يبعث على الاشمئزاز والاستخفاف.
ولما كانت الكنيسة هي الدين النصراني في نظر أتباعها كان لابد أن يهتز الدين كله في نظرهم باهتزاز صورة الكنيسة، وفقدان الثقة في قدسيتها وطهارة رجالها، وكان ذلك هو بداية السير في طريق الكفر، ونبذ الدين، واستغل أعداء الدين - لا سيما اليهود - تلك الأجواء فبذروا على الفور بذورهم بالمناداة بطرد الدين من حياتهم، ووضعوا أمامهم ذلك الخيار الصعب الذي مفاده: إما أن يؤمن بصكوك الغفران فيحكم على نفسه بالجمود، والغباء، والرجعية المتناهية، وإما أن يكفر بها فيلزمه الكفر بالإطار الذي يحويها بكامله؛ إطار الدين والغيبيات، لا سيما الآخرة، وهو الخيار الذي جسده الفيلسوف اليهودي الوجودي " جان بول سارتر" في إحدى رواياته المشهورة ( الشيطان والرحمن ).
هذا مع أن الكنيسة في عصرنا الحاضر لا تصدر تلك الصكوك المخزية، بل تستحي من ذكرها، وتخجل كلما دار الحديث عنها.
الباب الثاني: أسباب العلمانية: وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: الطغيان الكنسي: أسبابه، أنواعه ( الطغيان الديني - الطغيان السياسي - الطغيان المالي )، الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم، الفصل الثالث: الثورة الفرنسية: ( الفكر اللاديني - وقوف الكنيسة ضد مطالب الجماهير - القوى الشيطانية الخفية )، الفصل الرابع: نظرية التطور: ( آثار الداروينية - انهيار العقيدة الدينية - نفي فكرة الغاية والقصد - حيوانية الإنسان وماديته - فكرة التطور المطلق ).(12/224)
بدأ المؤلف في فصل الطغيان الكنسي إلى التعريف بداء الطغيان، وبيان أنه مرض يدمر النفس الإنسانية حين تصاب به، وأن من خصائصه أنه لا يصيب إلا ذا نفس هزيلة أتيح لها وسائل تفوق طاقتها، ولم يكن لديها ما تتحصن به من خلق أو إيمان يكبح جماحها، وأشار إلى أن ظهور هذا المرض على الحكام الوثنين، أو الطغاة من زعماء الدنيا؛ فإنه يكون معقولاً إلى حد ما، أما حين يصدر هذا السلوك الشائن ممن يراهم الناس قديسين ورسل سلام فهذا مما يشق على النفس تحمله، ويصعب على العقل تقبله، فهم الرجال الذين طالما سمعوا منهم عبارات التسامح والمحبة في مواعظهم الدينية. ويبحث المؤلف في أسباب ذلك الطغيان الذي كانت الكنيسة تمارسه، فأشار إلى الاضطهاد الذي أوقعه الوثنيون من الرومان على أتباع المسيح - عليه السلام -، والذي ألجأ هؤلاء الأتباع إلى التخفي بالدعوة، وإخفاء ما بأيديهم من نسخ الأناجيل، التي كانت تتعرض للمصادرة والحرق، مما أدى إلى انحصار المصادر الدينية للمسيحية على فئة قليلة من الناس كان لهم وحدهم حق شرحها وتأويلها، فلم يكن بأيدي الناس من المصادر التي يراجعون على أساسها ما يسمعون من رجال الكنيسة، فتكلم هؤلاء وحدهم، وكان على الناس جميعاً أن يسمعوا من هذه الفئة التي احتكرت حق الشرح والبيان، فكان على الناس أن يقدموا الطاعة العمياء، فشجع ذلك رجال الكنيسة على الطغيان، وفرض سلطانهم وتعميق هيبتهم لدى الناس، وكان من نماذج هذا الطغيان:
الطغيان الديني: فمنذ مجمع نيقية عام 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني، حيث فرضت عقيدة التثليث، ولعنت مخالفيها، وعذبت الموحدين، ومارست التحليل والتحريم، والنسخ والإضافة، فحرمت الختان، وأباحت الميتة، والتماثيل، والضرائب التي تجبيها الكنائس، وغير ذلك من المحرمات التي أحلتها المجامع الكنسية، كما أضافت الكنيسة ألواناً من المعتقدات الوثنية كقضية الاستحالة في العشاء الرباني، وعقيدة الخطيئة الموروثة، وعقيدة الصلب، والعذراء، والطقوس السبعة، وفرضت الكنيسة كل ذلك على أتباعها بحجة أنها أسرار عليا لا يجوز الشك فيها، بل لا يجوز الخوض فيها.
لم يقف الأمر عند هذا الحد من الطغيان الذي فرض على الناس الانصياع لتلك المعتقدات، بل تعدى ذلك إلى إنزال النكال البشع بكل من تسول له نفسه الاعتراض أو التبرم من أحوال الكنيسة، وفساد رجالها، وما خبر محاكم التفتيش بجديد، فقد كان المسلمون في الأندلس هم الضحية الأولى لتلك المحاكم البشعة، فقد أبيدوا إبادة تامة بأقسى وأشنع ما يتخيله الإنسان من الهمجية والوحشية، وكانت المحكمة الأم لهذه المحاكم الوحشية (المحكمة المقدسة!! في روما )، وإن المؤرخين ليصابون بالرعب عند ذكر هذه المحاكم، وسرد تاريخها الأسود، فكيف بالضحايا الذين وقع عليهم هذا العذاب الذي يفوق الخيال، وكان يكفي لوقوع الشخص في هذا العذاب الرهيب أن يوشي به جاره أنه سمعه يذكر الثالوث أو المعجزات بما يعد في نظر رجال الكنيسة جريمة يستحق صاحبها أن يقطع جسده، أو يفرم في مفارم اللحم، أو يشعل تحته النيران الخفيفة ليموت موتاً بطيئاً، أو تغرز الكلاليب في لسانه ويشد فيقطع، وعقدت الأهوال ألسنة كبار العلماء الأفذاذ مثل نيوتن، وبيكون، وديكارت، وكانت، وغيرهم، فلم يجرؤ أحد منهم على التلفظ بكلمة تثير عليهم غضب رجال الكنيسة القساة.
الطغيان السياسي: من الطبيعي أن يكون لرجال الدين في أي أمة أثرهم الطيب في المجتمع، وأن تكون أزمة الأمور في أيديهم، لتقويم المعوج، وتصحيح الخطأ، أما أن يتحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين، مع نبذ شريعة الله، ليحل محلها التسلط والاستبداد، فذلك العجب العجاب، لكن هذا هو الذي حدث من الكنيسة، حيث تناحر البابوات مع الأباطرة على النفوذ، والقبض على مقاليد الأمور في المجتمع، ولم يفتأ البابوات يعلنون أن الكنيسة - بوصفها نظاماً إلهياً - خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه أن يخلع الملوك غير الصالحين، أو يرفض اختيار البشر للحكام.(12/225)
ظلت الكنيسة على هذا الحال من السلطة الروحية البالغة، والهيكل التنظيمي الدقيق والاستبداد المطلق، فكان البابوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة، كما كان بإمكانهم خلع الملوك وعزلهم بإرادتهم المحضة، ومن رفض الرضوخ لأحكام البابوات أسقط البابوات عنه الشرعية، وأعلنوا الحرب عليه، ولعل خير مثال على ذلك يعرضه علينا المؤرخ البريطاني "ويلز"، وكذلك "ديورانت" في ( قصة الحضارة ) وهو حادثة الإمبراطور الألماني ( هنري الرابع ) المشهورة مع البابا جريجوري السابع، فقد جرى بينهما خلاف فظن الإمبراطور أن بوسعه أن يخلع البابا، فرد البابا بخلعه، وألب عليه أتباعه والأمراء، فعقد الأمراء مجمعاً وقرروا فيه أن الإمبراطور سيفقد عرشه إلى الأبد إذا لم يحصل على عفو البابا، وخضع الإمبراطور، وأذل نفسه، وسافر مجتازاً جبال الألب في برد الشتاء القارس، وظل واقفاً في فناء القلعة ثلاثة أيام وهو في لباس الرهبان، متدثراً بالخيش، حافي القدمين، عاري الرأس، مظهراً كل علامات المسكنة والتوبة حتى ظفر بالمغفرة، وحظي برضا البابا!
وأشار المؤلف إلى نماذج من التحديات التي كانت تصدر من بعض الملوك تجاه الكنيسة لكنها كانت تتحطم أمام نفوذ الكنيسة وطغيانها، وكان من أشهر هؤلاء الملوك الذين قاوموا هذا الطغيان الإمبراطور " فردريك الثاني " الذي عرف بصلابته التي عزاها المؤرخون إلى ثقافته العربية والإسلامية، حتى اتهمته الكنيسة بأنه اعتنق الإسلام، وسمته الزنديق الأعظم، فدافع هذا الإمبراطور عن نفسه برسالة عدت وثيقة هامة في وصف الصراع بين البابوات والملوك، أو الصراع بين الكنيسة والعلمانيين الذي كان يثور ويتأجج، فكان موقف فردريك ظاهرة فذة، لكنها لم تصمد أمام قرارات الحرمان، وسطوة الكنيسة الباغية.
الطغيان المالي: بيّن المؤلف أن الأناجيل على ما فيها من تحريف كانت قاطعة في الدعوة إلى الزهد، والتنفير من التهالك على ملذات الدنيا، لا سيما جمع المال والافتتان به، وأن المسيح - عليه السلام - كان أسوة حسنة في ذلك فقد عزف هو وحواريوه عن الدنيا عزوفاً صادقاً بينما كان القوم من اليهود ينظرون إلى الدنيا نظرة جشع لا ينتهي، وشره لا ينقطع. وجاءت القرون التالية فشهدت مفارقات عجيبة بين مفهوم الكنيسة في هذا الأمر وبين واقعها العملي، فبينما كانت تحرم ما أحل الله من الطيبات متأثرة بتلك النظرة التشاؤمية للحياة الدنيا؛ كانت سيرتها الذاتية مخزية، حيث تهالكت على الدنيا، وامتصت دماء أتباعها، وعاش رجالها في بذخ متناه، وكانت أملاك الكنيسة الإقطاعية من الأراضي تفوق كبار الإقطاعيين في أوروبا، حتى بلغت ممتلكاتها الإقطاعية ثلث أراضي إنجلترا، كما كانت تأخذ الضرائب الباهظة من الباقي من الأرض، كما فرضت الكنيسة العشور على غلات الأراضي الزراعية والمهنيين، ولم تكتف الكنيسة بالأوقاف والعشور بل فرضت الرسوم والضرائب، كما كانت تحظى بالكثير من الهدايا والهبات التي كان الأثرياء يقدمونها لها للتملق، أو الرياء، أو ما كان منها على سبيل الصدقة والإحسان، وفوق ذلك كانت هناك المواسم المقدسة، والمهرجانات الكنسية التي كانت تدر على الكنيسة أموالاً طائلة، كما كانت الكنيسة ترغم أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها لا سيما بناء الكنائس والأضرحة، كان كل ذلك يملأ نفوس الناس جميعاً بالسخط، إلا أن الظروف لم تكن مواتية لإعلان هذا السخط، أو التعبير عنه بشكل صريح.
الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم:
بين المؤلف في هذا الفصل أن الصراع الذي نشب بين العلم والدين كان من أعقد وأعمق المشكلات في التاريخ الفكري الأوروبي، ورغم كل الظواهر البارزة في الحياة الغربية التي تؤكد أن المعركة قد حسمت لصالح العلم، فإن هناك ما يدل على أن الدين أو بعض قضاياه الاعتقادية والسلوكية لا يزال موجوداً، وأن المعركة لم تحسم نهائياً، بل هي مستمرة، وأن كل طرف من الطرفين قد حقق في هذا الصراع ثباتاً وصموداً، أو تمكن من احتلال مساحات من مناطق نفوذ الآخر، فالمناطق التي احتلها العلم من مناطق نفوذ الدين هي في الحقيقة المواقع التي انتصر فيها العقل واليقين على الخرافة والوهم، كما أن المواقع التي صمد فيها الدين أمام الهجوم العلمي الكاسح هي المواقع التي انتصرت فيها الحقيقة الموحاة على التخرصات والأهواء.
ويلخص المؤلف هذه الفكرة في عبارة موجزة فيقول: إن الحق في كل من الطرفين هو الذي انتصر أو سينتصر على الباطل في كليهما، وأنه لو كان الدين الأوروبي يقيناً مجرداً، والعلم الأوروبي يقيناً مجرداً؛ لما حدثت معركة على الإطلاق، ويضيف: إن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، ولهذا فإن الأوفق أن نسمي ما حدث في الغرب صراعاً بين الكنيسة والعلم وليس بين الدين والعلم.(12/226)
ثم يبين أن جناية رجال الدين الأوربيين على الحقيقة كانت أشنع وأنكى من جناية أنصار العلم عليها، ذلك أن الكنيسة ارتكبت خطأين فادحين: أحدهما تحريف حقائق الوحي الإلهي، وخلطها بالفلسفة والأهواء، والآخر فرض الوصاية الطاغية على ما ليس داخلاً في نطاق اختصاصها.
كانت أوربا مستغرقة في دياجير الخرافة والجهل، فعرفت الطريق إلى النهضة العلمية التي كانت تشع من الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية، فاستيقظ العقل الأوروبي من سباته، وأخذ يقتبس عن المسلمين طرائق البحث، ومناهج التفكير، وهنا ثارت الكنيسة، وهاج هياجها على أولئك الذين يتلقون علوم الكفار ( المسلمين )!، ويلتفتون عن الكنيسة وتعاليمها، فأعلنت حالة الطوارئ، وشكلت محاكم التفتيش، فاشتعلت المعركة، وازداد أوارها بمرور الأيام.
ثم استعرض المؤلف مراحل ذلك الصراع فتحدث عن النظرية التي هزت الكنيسة، وأذهبت قدراً كبيراً من ثقة أتباعها فيها، وهي النظرية الفلكية التي قدمها كوبرنيق 1543م وخالف فيها ما كانت الكنيسة تعتقده من أن الأرض مركز الكون، وأن الأجرام السماوية كافة تدور حولها، ولم ينج من محاكم التفتيش لأنه كان قسيساً بل لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل، فأفلت من عقوبة الكنيسة، التي حرمت كتابه، واعتبرته من وساوس الشياطين، وجاء بعده " برونو" بتأكيد نفس النظرية، فسجنته الكنيسة فأصر على رأيه فأحرقته، ثم جاء جاليليو فأيد النظرية فلقي في السجن العذاب والمهانة، وكاد أن يلقى نفس مصير برونو لولا أنه خشي على حياته فأعلن ارتداده عن أفكاره، وركع ذليلاً أمام رئيس المحكمة، وراح يلعن ما توصل إليه، ويصفه بالإلحاد، وتعهد بالإبلاغ عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد مثل هذه الأبحاث المضللة!! وبعد مدة من الزمن راجت تلك النظرية الفلكية، وهبطت أسهم الكنيسة، وطالب العلماء ودعاة التجديد بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيداً عن الوحي، ثم ظهر ديكارت فدعا إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة، واستثنى الدين تحت الرهبة من الكنيسة التي لم يزل لها نفوذ وسطوة.
وهذه الازدواجية في الفلسفة والنظر العلمي، والفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي ظهرت أيضاً في منهج " بيكون " التجريبي، الذي كان يمثل مرحلة طبيعية في سلم التدرج من الإيمان المطلق بالوحي إلى الإنكار المطلق له، بيد أن بعض الفلاسفة آثر الدخول المباشر على آراء الكنيسة وإخضاعها للمنهج العلمي، ومن هؤلاء " سبينوزا " اليهودي الذي وضع أسس مدرسة النقد التاريخي، وقد أعمل سبينوزا منهجه بدراسة الكتب الدينية بنفس المنهج الذي تدرس به الروايات التاريخية، واستنتج أن أسفار التوراة لم يكتبها موسى، وإنما كتبت بعده، ثم جاء باسكال ووجه النقد لعقيدة الخطيئة، ثم جاء " جون لوك " فكان أبلغ من ديكارت في المطالبة بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض، ثم دعا إلى التسامح الديني، وإفساح الطريق أمام الناس ليعتنقوا ما شاءوا من الأديان، على أن كل ذلك كان يظهر بتلطف وحذر حيث كانت الكنيسة تتربص بأصحاب تلك الأفكار، وتخيفهم بمحاكم التفتيش، وقد تعرضت كتب هؤلاء العلماء للحرق والمصادرة، كما تعرضوا هم للإيذاء والمضايقة من قبل الكنيسة، ثم جاء " نيوتن " وظهرت نظريات علمية هزت الكنيسة وأثارتها، كان من هذه النظريات القول بأن من الممكن تفسير ظواهر الطبيعة بربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل قوى خارجية عنها، وكانت هذه النظرية بمثابة النواة للمذهب الطبيعي، والنظرية الميكانيكية.
حاربت الكنيسة هذه النظرية على أساس أنها أهملت الاعتقاد في أن الله هو الذي يسير كل حركة في الكون، ولم يتسع أفق الكنيسة لإدراك أن نسبة الأفعال إلى الأسباب والوسائط لا يلزم منه إنكار نسبتها إلى الله - تعالى - باعتباره الفاعل الحقيقي، لكن الكنيسة دأبت على محاربة كل جديد، فترتب على ذلك جنوح أصحاب النظرية برد فعل أهوج، فأنكروا عمل العناية الإلهية، وأعلنوا أن كل ما عرفت علته المباشرة فلا داعي لافتراض تدخل الله فيه - حسب تعبيرهم -.(12/227)
كان اندفاع الباحثين والعلماء في مواجهة الكنيسة، والانفكاك من ربقة رجالها المتغطرسين؛ يعبر بشكل صريح بكفرهم بالكنيسة وبرجال الدين، وساعدت نظرية نيوتن على إيجاد فكر لا ديني منظم، وربما كانت النظرية قد مهدت للثورة الفرنسية، وفتحت الطريق أمام نظرية دارون التي كانت إيذاناً بأفول نجم الكنيسة، وانتهاء وصايتها الفكرية على أوروبا، وولادة آلهة جديدة لا كنائس لها، ثم ظهر في القرن الثامن عشر روح جديدة عمت الباحثين والفلاسفة والعلماء، دار محورها حول العقل والطبيعة، وتعالت الأصوات بتضخيم دور العقل، وبأنه الحكم على كل شيء، وأن ما عداه فوهم وخرافة، فالوحي يخالف العقل، فهو أسطورة كاذبة، وصار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل فوجدوه في الطبيعة، فخلعوا على هذا المسمى كل صفات الله التي عرفوها في المسيحية مع فارق بين الإلهين في نظرهم، فإله الكنيسة يبطش ويعذب، ويفرض القيود، أما إله الطبيعة فجذاب ليس له كنيس، ولا يفرض طقوساً، ولا صلوات، ولا رجال دين يستعبدون الناس.
وسادت تلك العبادة الجديدة؛ عبادة العقل والطبيعة، فكانت سمة هذا العصر الذي سمي عصر التنوير، وتوالت انتقادات العلماء للكنيسة ترسم خط العداء الذي ظهر في أجلى صوره على يد فولتير الذي انتقد عقيدة التثليث، وتجسيم الإله، وأشار إلى أن " بولس " طمس المسيحية وحرفها، ونادى بأن الطاعة إنما هي طاعة البشر باسم قوانين الدولة، وأن على رجال الدين أن يخضعوا مع جميع الناس لنظم الدولة، فلعنته الكنيسة، وحرمت قراءة كتبه، ونتج عن المذهب العقلي الجديد بالإضافة إلى نظرية نيوتن مذهبان جديدان على العالم الإسلامي ينمان عن التخبط والضياع: الأول: مذهب المؤلهة أو المؤمنين بإله مع إنكار الوحي.
الثاني: المذهب الإلحادي المادي.
المصدر : http://www.islamselect.com/admin/fback.php
============(12/228)
(12/229)
العصرنة البراقة قنطرة العولمة الجائرة
الدكتور علاء الدين زعتري
المتأمل في حال المجتمعات الإسلامية وبخاصة في القرن الأخير، وكيف غزاها الانحراف والتغريب بواسطة أعداء الإسلام، يجد أنها لا تخلو من حالين:
الحال الأولى: حال المجتمعات التي يكون الغزو فيها مباشراً؛ وهي المجتمعات الإسلامية التي لم تكن لها مرجعية علمية، أو هيئة شرعية تذكر، تقف سدًا منيعاً أمام ذلك الغزو. فهذه سهل اقتحامها واستباحتها من العدو وعملائه اللادينيين.
الحال الثانية: حال المجتمعات التي يكون فيها الغزو من خلال (وسيط) أو (ناقل) يلبس لباس الإسلام. وهي المجتمعات الإسلامية التي تأوي إلى مرجعية علمية أو هيئة شرعية في معظم أمورها أو في النوازل التي تحل بها، مع ارتباط (شرعي) بولاة أمرها.
وعندما فشل الأعداء بالغزو العسكري ـ وقد أعادوا الكرة في العراق ـ لجأوا إلى الغزو الفكري في سبيل صرف الأمة عن دينها.
ويستخدم الأعداء مجموعة من أبناء الأمة من خلال تيار ما يسمى (بالعصرانيين) الذين ظنوا بجهلهم أنهم يوفقون بين أحكام الشريعة ومتطلبات العصر، ولكنهم أصبحوا كما قال ألبرت حوراني: "قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحداً تلو الآخر".
ومن ثم يكون مصير أفراد دعاة العصرانية مصير أي وسيلة استخدمت فاستنفذت أغراضها.
ومن المؤسف أن تتسلل الأفكار العصرانية إلى عقول بعض الإسلاميين الصالحين، فأخذوا يرددون مصطلحات التجديد والتطوير، ويصفون الآخرين بمصطلحات: التقليد والجمود، وطالبان والإرهاب، وذلك في مقالاتهم وكلماتهم، جهلاً أو غباءً منهم بخطورتها ومآلها على البلاد، وانخداعاً ببهرجها، وظناً منهم بأنها ستُبَلِّغهم أهدافهم.
مع أن القارئ للأفكار البراقة وللتاريخ الحديث يعلم أن مثل هذه الآراء لم تكن سوى أحبولة صنعتها يد المكر؛ لاستباحة ديار المسلمين وعقولهم واقتصادهم، وأنها لم تحقق للمسلمين إلا مزيداً من الذل والصغار والخضوع للأعداء، فضلاً عن التفريط بمهمات الدين وشرائعه.
ومن مظاهر تسلل هذه الأفكار:
القول: بأن كل موحد لله يدخل الجنة، دون اشتراط الإقرار بنبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم !.
الدعوة إلى إقامة (المجتمع المدني)!.
الحديث عن المرأة في الإسلام؛ على أنها المظلومة المسكينة، التي تجد كرامتها، والتفتيش عن أقوال شاذة تدعم إظهار جسدها، وصحة اختلاطها مع الرجال، وجعل الحجاب معللاً بالعفاف!.
الحديث عن الإسلام والعلوم الشرعية على أنها تراث، وليس ديناً، والفرق واضح بينهما، فالتراث من صنع البشر قابل للتغيير والتطويع.
ألا فليأخذ الدعاة حذرهم ويتبصروا أمرهم وما يكيده الأعداء لهم، فلا ينساقوا وراء الأفكار العصرانية مهما تزخرفت وتزينت كما انساق غيرهم، فيكون حالهم مع مجتمعهم كحال من:
رام نفعاً فضرَّ من غير قصدٍ *** ومن البر ما يكون عقوقًا
الأفكار التي كان الاحتلال يريد ترويجها بين المسلمين عن طريق (العصرانية):
1-التقريب بين المسلمين والكفار، وقد ابتدأت جهود محمد عبده في هذا الأمر عندما كان منفياً في بيروت حيث أسس جمعية للتقريب بين الأديان كما سبق- ومن أقواله: "نستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة، فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما على الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد، وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين"!.
2-إماتة روح الجهاد في الأمة الإسلامية، ولهذا كان محمد عبده يرى بأن الجهاد في الإسلام هو للدفاع فقط! ويقول: "القتال فيه أي الإسلام- لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله". وهكذا كان رأي تلاميذه من بعده.
3 - الدعوة إلى "تطوير الإسلام لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصرية؛ من خلال: فتح باب الاجتهاد على مصراعيه؛ حتى دخل منه القادر وغير القادر، وصاحب الورع وأصحاب الهوى؛ فظهرت الفتاوى الشاذة من جراء ذلك.
وللشيخ محمد عبده نصيب كبير من هذه الفتاوى (العصرية) التي طوعت أحكام الإسلام لما يريده الأجنبي أو ما يريده أهل العصر؛ كفتواه بإباحة ربا صناديق التوفير!.
4- الدعوة إلى تحرير المرأة المسلمة، وهو هدف أساس لدى أعداء الإسلام في كل حين وآن، وقد قام الشيخ! محمد عبده ومدرسته بتحقيقه أيما تحقيق.
فمخاطبة الرجل للمرأة ينبغي أن تكون بغرائزها، لا بعقلها وفكرها.
كيف صُنعت العصرانية؟!
لقد استخدم الإنجليز في مصر بقيادة كرومر خطة ماكرة في سبيل صناعة الطائفة العصرانية وتقديمها لأبناء المجتمع المصري المسلم كممثل للصوت الإسلامي.
ومن المهم جدًا معرفة نقاط هذه الخطة الماكرة؛ لأنها مما كرره ويكرره الغرب وأذنابه في مختلف بلاد المسلمين؛ ليحذرها أهل الإسلام لا سيما الدعاة -. فإليك ما تبين لي منها:(12/230)
1-الثناء والمديح من الغرب على الطائفة العصرانية: وأنها تمثل (وسطية) الإسلام! واعتداله! فمن ذلك: قول اللورد كرومر عن محمد عبده ومدرسته: "لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883م كان الشيخ محمد عبده من المغضوب عليهم لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له الخديوي السابق صفح عنه طبقاً لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق فعين الشيخ بعد ذلك قاضياً في المحاكم الأهلية حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق والاستقامة. وفي سنة 1899م رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن فأصبحت مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة لتضلعه من علوم الشرع الإسلامي مع ما به من سعة العقل واستنارة الذهن. وأذكر مثالاً على نفع عمله: الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق التوفير، فقد وجد لهم باباً به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع الإسلامي في شيء.
وقال أيضاً: "إن حزب الشيخ محمد عبده هو الحزب المعتدل في مصر"، ويقول أحد المستشرقين عن محمد عبده: "يعد من أشهر الشخصيات المحترمة في تاريخ الإسلام الحديث….. إن كتابات الشيخ محمد عبده تمتاز بشيء من الجدة في روحها …"،
ويقول الدكتور الإنجليزي ادوارد براون عنه: "ما رأيت في الشرق ولا في الغرب مثله"!!.
2- تسليط الأضواء عليهم وتلميعهم عبر وسائل الإعلام!
فقد أحيطوا بالأسباب التي تبني لهم مجداً وذكراً بين الناس، ولم يكن الغرض من ذلك هو خدمتهم، ولكن الغرض منه كان ولا يزال هو خدمة المذاهب والآراء التي نادوا بها، والتي وافقت أهداف الاستعمار ومصالحه.
فقد أصبح يكفي في ترويج أي مذهب فاسد في تأويل الإسلام كما لاحظ جب في كتابه (Mode r n T r ends in Islam) أن يقال: إنه يوافق رأي فلان أو فلان من هؤلاء الأعلام. ويكفي في التشهير بأي رأي سليم أن يُنسب إلى ضيق الأفق، الذي لا يلائم ما اتصف به هذا أو ذلك من سعة الأفق والسماحة وصحة الفهم لروح الإسلام، على ما تزعمه الدعايات. وليس مهماً أن يكون ذلك عن حسن قصد منهم أو عن سو قصد، وليس مهماً أن يكون الاستعمار هو الذي استخدمهم لذلك، ووضع على ألسنتهم وأقلامهم هذه المذاهب والآراء، أو أن تكون هذه الآراء قد نشأت بعيدة عن حضانته ورعايته، ثم رآها نافعةً له، فاستغلها وعمل على ترويجها.
المهم في الأمر هو أن المجد الذي ينسب لهؤلاء الأفراد ليس من صنعهم ولا هو من صنع الشعوب التي عاشوا فيها، ولكنه من صنع القوى التي استخدمتهم أو التي تريد أن تستغلهم، سواء كانت هذه القوى هي الاستعمار أو هي الصهيونية العالمية بمختلف وسائلها وأجهزتها.
وخطة الاستعمار والصهيونية العالمية في ذلك كانت تقوم ولا تزال- على السيطرة على أجهزة (الإعلام)، وإلقاء الأضواء من طريقها على كتاب ومفكرين من نوع خاص، يُبْنَون ويُنَشَّؤن بالطريقة التي يُبْنى بها نجوم التمثيل والرقص والغناء، بالمداومة على الإعلان عنهم، والإشادة بهم، وإسباغ الألقاب عليهم، ونشر أخبارهم وصورهم.
وذلك في الوقت الذي يُهمل فيه الكتاب والمفكرين الذين يصورون وجهات النظر المعارضة، أو تشوَّه آراؤهم وتُسفَّه، ويُشهَّر بهم. ثم هي تقوم على تكرار آرائهم آناً بعد آن لا يملون من التكرار؛ لأنهم يعلمون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً، أو هم يخاطبون الجيل نفسه، فيتعهدون بالسقي البذور التي ألقوها من قبل".
3- تشجيعهم ودعمهم في تولي المناصب المهمة:
يقول اللورد كرومر: "إنني قدمت لمحمد عبده كل تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة، ولكنه عمل شاق، فضلاً عن العداء الشديد الذي كان يلاقيه من المسلمين المحافظين، كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو، ولم يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء، لولا أن الإنكليز أيدوه بقوة"
العصرانية والعلمانية وجهان لعملة واحدة!
من تأمل جيدًا أهداف وأفكار (العصرانيين) وجدها نفسها أهداف وأفكار (العلمانيين)، وإنما الفارق شكلي: وهو أن (العصرانيين) قدموا أفكارهم بعد أن غلفوها وألبسوها اللباس (الشرعي)، وأما (العلمانيون) فلم يفعلوا هذا.
فالطائفتان تلتقيان في نهاية الأمر حول أهداف واحدة: كالتقارب بين الأديان، والدعوة للديمقراطية الغربية، والتهوين من شأن الحكم بما أنزل الله، والتحايل على إسقاط أحكام الشريعة؛ لاسيما الحدود، والدعوة إلى تحرير المرأة.. الخ.
لهذا: فإن عقلاء الباحثين ممن ينظرون إلى مآل الأفكار لا حاضرها؛ سواء كانوا من الإسلاميين أم من غيرهم لم يخفَهم هذا الالتقاء بين الطائفتين، ورأوا أن الطائفة العصرانية إنما هي بوابة وقنطرة للعلمانية، وأنه لا مكان في جميع الأفكار التي طرحوها للون الرمادي الذي يزعمون أنهم يتبنونه، وأنه وسط بين الأبيض والأسود، فهذا اللون في الحقيقة- لا يوجد إلا في الأذهان، أما في أرض الواقع فلا مجال إلا بالتزام أحكام الإسلام وهو اللون الأبيض، أو اللحاق بركب العلمانيين، وهو اللون الأسود.(12/231)
ومن ادعى أنه سيسير بينهما فهو واهم، وعن قريب هو صائر إلى أحدهما كما حدث لتلاميذ المدرسة العصرانية؛ حيث انضم أكثرهم إلى العلمانية (الخالصة)، وتراجع قلة منهم عندما عرفوا مصير السير وراء الأفكار التوفيقية الرمادية؛ كرشيد رضا.
يقول ألبرت حوراني عن محمد عبده: "كان يريد أن يقيم سدًا في وجه الاتجاه العلماني يحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد قد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى العلمانية".
ويقول الدكتور محمد كامل ضاهر: "أعطى الشيخ محمد عبده تشجيعاً كبيراً للعلمانيين ومنطلقاتهم الفكرية، بل إنهم اعتمدوا على الكثير من آرائه لدعم اتجاهاتهم وحركتهم في مجتمع مشبع بالقيم والتقاليد الدينية الراسخة. فماذا يطلب العلمانيون أكثر من رأيه في السلطتين الزمنية والدينية؟! ونظرته إلى العقل، ودوره في تنظيم شؤون الحياة والمجتمع؟ ورأيه في المرأة وفي كثير من المسائل المالية والاجتماعية التي اجتهد فيها لمصلحة الأمة والوطن والفقراء من الناس، وليس للمصالح الفردية؟.
ويقول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى في كتابه (تاريخ مصر السياسي) عن محمد عبده وتلاميذه بأنهم: "كانوا أكثر فعالية من كل العلمانيين الصرف"!
ويقول الأستاذ نعيم عطيه: "ولا شك في أن محمد عبده لعب دوراً رئيسياً في محاولة التوفيق بين المبدأ الديني والعلم، وبذلك أعطى العقل سندًا قوياً منتصراً له على التقليد. وفتح في الخط الديني الملتزم ثغرة كبرى أتيح بفضلها للتيار العلمي أن يدخل حلبة الصراع الفكري ويثبت أقدامه قوة قائمة بذاتها. وكان طبيعياً بالتالي أن يتحول التيار العلمي على صعيد العمل السياسي البحت إلى دعوة للعلمانية وفصل الدين عن الدولة".
ويقول الشيخ سفر الحوالي: "لم يكن محمد عبده علمانياً، ولكن أفكاره تمثل بلا شك حلقة وصل بين العلمانية الأوربية والعالم الإسلامي، ومن ثم فقد باركها المخطط اليهودي الصليبي، واتخذها جسرًا عبر عليه إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي، وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، واستيراد النظريات الاجتماعية الغربية.
وهو قائم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً.
أما الجماهير الإسلامية فقد اتخذت أفكار (الشيخ) الإصلاحية مبررًا نفسيًا لتقبلها للتغيير العلماني".
ويقول الأستاذ محمد حامد الناصر بعد دراسته لأفكار العصرانيين: "حقيقة العصرانية: دعوة إلى العلمانية".
ويقول الدكتور عبد الرحمن الزنيدي: "لقد كان من آثار خبو وهج العلمانية في البيئات الإسلامية أن تقمص بعض أتباعها رداء الإسلام؛ ليتحركوا تحت رايته بعلمانيتهم بأسماء مختلفة؛ كالإسلام التقدمي، وفكر الإستنارة الإسلامي، أو اليسار الإسلامي…"
العلمانيون يدعمون العصرانيين!!
لقد عرف العلمانيون حقيقة أفكار العصرانيين، وأنها نفس أفكارهم، ولكنها تجد القبول من سُذج المسلمين نظراً لواجهتها الإسلامية، وكونها تستتر خلف الشيخ!! فلان، والداعية!! علان، بخلاف أفكارهم العلمانية الصرفة، ولهذا فقد تترسوا بهم، ووجدوا فيهم خير مطية يمتطونها لاختراق المجتمعات الإسلامية التي لم تجد العلمانية فيها موطئ قدم، وجعلوهم طليعة لهم في غزو تلك المجتمعات وخلخلتها بطرح الأفكار المتنوعة المناسبة لهم، التي ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، وكسر هيبة كبار العلماء، وشق وحدة الصف فيها؛ ليسهل عليهم بعد ذلك التمكن منها.
ولهذا كله: فلا تعجب إن سمعت أو قرأت بأن فلاناً (العصراني) يُكال له المديح من جماعة العلمانيين، ويُصدر مجالسهم وندواتهم، وتُفتح له وسائلهم، ويكتب في صحفهم؛ لأن الجميع قد التقوا على أهداف واحدة؛ فانطبق عليهم قوله - تعالى - (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(الأنعام: من الآية128)).
ودعم العلمانيين للعصرانيين يكون بالآتي:
1-إفساح المجال لهم ليبثوا أفكارهم عبر الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في مقابل تهميشهم لأهل الإسلام من دعاة الكتاب والسنة، الثابتين على الحق، غير المتلونين أو المتذبذبين.
2-المبالغة في مدحهم ووصفهم بصفات الاعتدال والوسطية وسعة الصدر للآخرين…. الخ. مع لمز أهل الإسلام ودعاة الكتاب والسنة بضيق الأفق، والتحجر!، وعدم قبول الآخر!!.. الخ.
3-عدم السماح لأحد بنقدهم أو النيل منهم، بل إحاطتهم بهالة من القداسة المصطنعة.
نصيحة أخيرة لكلٍ من:(12/232)
1-علماء الإسلام ودعاته: بأن يحذروا تسلل الأفكار العصرانية إلى عقولهم ولو لم يكن ذلك عن تقصد منهم، وأن يثبتوا على الحق دون تنازلات أو مداهنة لأحد، وأن يكونوا ممن قال الله فيهم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23) قال ابن كثير: "استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه، كفعل المنافقين".
وأن تكون مواقفهم مشرفة وقت الملمات التي تمر بالأمة، مبرئة لذمتهم أمام الله؛ لكي لا يلجأ الشباب إلى غيرهم كما سبق-.
وأن يحذر بعض الدعاة بتستره على أهل العصرنة، ومجاملته لهم، والشد من أزرهم، أن يكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم : "لعن الله من آوى محدثًا".
2- شباب الإسلام: بأن يلزموا الراسخين في العلم ويلتفوا حولهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويَحْذروا ويُحَذّروا من المتلبسين بالفكر العصراني المفسد، مهما حاولوا التضليل عليهم أو مخادعتهم بترويجه بينهم.
http://www.attakwa.net المصدر:
===============(12/233)
(12/234)
بين العقيدة والسياسة
حسن عبد الحميد
المرجعية العليا في الإسلام لله - تعالى - - أي للقرآن الكريم ـ ولرسوله صلى الله عليه وسلم أي للسنة المطهرة ـ ثم تأتي بعد ذلك مرتبة العلماء الذين تقتصر مهمتهم على استنباط الأحكام الشرعية من هذين المصدرين وفق ضوابط الاجتهاد؛ والفتوى في النوازل التزاماً بقواعد أصول الفقه. وهذا الترتيب في سلم المرجعيات يتعلق بالنسبة للمسلم بعقيدته وصحة إيمانه؛ فمن يقلب هذا السلم؛ أو يجادل في حجيته، ليس له حظ من الإسلام ولا نصيب من الإيمان، أما بالنسبة لترتيب المرجعيات فقد قال الله - تعالى - في سورة النساء (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)، وفي من يتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله قال - تعالى - بعد هذه الآية مباشرة (ألم تر إلي الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً)، قال العلماء كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت، إلى أن قال - تعالى - في سياق الآيات نفسها (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).
هذه المقدمة البدهية لمن له أدنى معرفة بالإسلام؛ فضلاً عمن له ذرة من إيمان؛ تغيب عن الكثيرين في زحمة الأحداث ودهاليز السياسة، ويضغط على بعضهم توالي الأزمات حتى يظن أن المخرج في الخضوع للقانون الدولي والتزام ما يسمى بقرارات الشرعية الدولية حتى ليصدق عليهم قول المتنبي:
كفي بك داءً أن ترى الموت شافيا *** وحسب المنايا أن يكن أمانيا
والعدول عن شرع الله والاحتكام للقانون الدولي ومقررات الأمم المتحدة فيه الداء حقيقة لا مجازاً؛ وتكمن في ثناياه المنايا يقيناً لا ظناً.
وما يجري في نيفاشا هذه الأيام من مفاوضات بين الحكومة السودانية وحركة التمرد الجنوبية؛ يستهدف في غاياته النهائية ـ برعاية الولايات المتحدة ـ زعزعة هذه المرجعيات الإسلامية وترتيب درجات السلم بحيث تصبح العلمانية في نهاية الأمر هي السائدة في هذا البلد (الطيب) أهله، وما يتبقى من نصوص شرعية هنا وهناك في صلب الدستور أو بعض القوانين؛ تقاس بمقياس الشرعية الدولية ـ إياها ـ فتُلغى أو تُؤول لتُفرغ من مضامينها وتبقى مسخاً مشوهاً لا يأتي بدين ولا يردع عن معصية.
ويخطئ ـ بالتالي ـ من يظن أن زيادة نصيب الثروة للمتمردين أو مضاعفة نفوذ السلطة؛ يمكن أن ترضيهم فيكفوا عن تمردهم، فالمعركة التي تديرها حقيقة الولايات المتحدة تستهدف عقيدة الأمة قبل أن تطمع في ثرواتها وأراضيها؛ (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).
والمسلمون لا يقاتلون عدوهم ليحموا بئراً للبترول، أو يثبتوا حاكماً على كرسي السلطة؛ فإن كل ذلك لا قيمة له إذا ضاعت معالم الدين في واقع الناس أو زُيفت حقائقه في أذهانهم (فماذا بعد الحق إلا الضلال).
وعلى الذين يفاوضون على أمور تتعلق بعقائد المسلمين؛ أن يستبينوا مواطئ أقدامهم، وعلى جماهير الأمة أن تحمي عقيدتها وتصون دينها من التحريف أو التلاعب.
http://new.meshkat.net المصدر:
==============(12/235)
(12/236)
قراءة في كتاب العلمانية ( 1 )
صفاء الضوي العدوي
نادرة تلك الكتب التي تستوعب أجزاء البحث الذي تتناوله، وأقل منها أن يكون مع الاستيعاب العمق والجدة والأصالة والتحقيق، وأندر النادر أن تجمع مع كل ذلك الإمتاعَ والأسلوب الأدبي الرصين، من تلك الكتب التي تستولي على القارئ المثقف الجاد، وتحرك عقله، وتدفعه للنظر المتعمق في القضايا المعروضة كتاب العلمانية للدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي.
المقدمة:
قدم المؤلف للكتاب بمقدمة بين فيها أن الإسلام هو أعظم منن الله على البشرية عامة وعلى أمة الإسلام خاصة، وأن كلمة لا إله إلا الله هي روح هذه الأمة وسر وجودها ومنبع حياتها وأن الأمة بقيت ردحا من عمرها تتبوأ منزلة عالية بين الأمم حين كانت تدرك معنى هذه الكلمة وتعمل بمقتضاها.
ثم بدأ نور هذه الكلمة في الخفوت فبدأ شأن الأمة في الهبوط حيث ظلت تفقد من ذاتيتها وأصالتها بمقدار ما تفقد من نور هذه الكلمة في علاقة مطردة تؤكد سنة من سنن الله لم تتبدل على مدار التاريخ.
وكان من أعراض هذا المرض المدمر؛ " فقدان الذات": الانبهارُ القاتل بالأمم الأخرى والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها.
وكان مما زاد هذا المرض خطورة الجهل بحقيقته وعدم إدراك أسبابه فكان التشخيص الخاطئ سببا في العلاج الخاطئ الذي أدى إلى مضاعفات جديدة.
لقد تصور البعض أن هذا الداء يمكن علاجه بترقيعات نتلقاها من الكفار الذين أسموهم العالم المتحضر!.
كانت قابليتنا للذوبان مبرراً للحرب الشرسة التي شنها الغزاة على أفكارنا وأخلاقنا، حيث طمعوا في القضاء على مقومات وجودنا قضاء تاماً، فأقبلت طلائع ذلك الغزو الفكري تحمل شعارات متباينة الاتجاهات؛ عليها من البهرجة والبريق ما يكفي لتضليل أمة منبهرة مهزوزة.
جاءت الاشتراكية والقومية والديمقراطية وفلسفة التطور واللادينية وغيرها من المسميات والشعارات، وتغلغلت هذه الأوبئة في العقول والقلوب التي فقدت رصيدها من "لا إله إلا الله" أو كادت، ونشأ على ذلك فلول ممسوخة أخذت على عاتقها إكمال عملية المسخ لباقي الأمة، وتعبيد الشعوب المسلمة للغرب، والإجهاز على منابع الحياة والقوة الكامنة في دينها.
لكن الله - تعالى - تدارك الأمة برحمته، فأنبت من بين هذا الركام والظلام رجالاً صادقين، وأطلت من بين النيام والأموات صحوة جهادية أصيلة طلبت الهداية والعلاج من كتاب الله - تعالى - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فعادت إلى صفاء العقيدة، وسلامة المنهج، ولمحت ما في المناهج الموجودة من انحراف وضلال، فلفظت سموم الغزو الفكري الذي كاد أن يقضي عليها، وانتبهت إلى ما يروج في ساحاتنا الفكرية من مذاهب هدامة، كان منها مذهب العلمانية الذي كانت سحابة كثيفة من الضبابية تغشاه وتعمي حقيقته عن المثقفين فضلاً عن العامة، مما جعل أسهمها لا تزال مرتفعة في أسواقنا سواء باسمها الصريح، أو تحت شعار الديمقراطية أو شعار " الدين لله والوطن للجميع، أو غير ذلك من الشعارات.
كان هذا أحد الأسباب التي حدت بالمؤلف أن يتناول العلمانية بتلك الدراسة الجادة العميقة الموسعة، وكان السبب الثاني هو أن موضوع العلمانية المتمثل في عزل الدين عن توجيه الحياة يصادم مفهوم لا إله إلا الله، ومع ذلك نجده موجوداً في كافة مناحي الحياة في مجتمعات المسلمين مما يستلزم كشف الزيف الذي يلفه ويخفي حقيقته عن المسلمين.
ثم عرف المؤلف بالعلمانية وبين الخطأ في ترجمة الكلمة الإنجليزيةsecula r ism بالعلمانية، وأن هذه الكلمة لا صلة لها بالعلم، وأن الترجمة الصحيحة للكلمة هي اللادينية، ثم أيد ذلك بإيراد عدة تعريفات من دوائر المعارف الأجنبية للعلمانية، كلها تؤكد أن معنى ال (secula r ism) في بيئتها التي نشأت فيها: الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، أو الحركة المضادة للديانة المسيحية، وأنها نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة، وأن الدين لا دخل له في شئون الدولة، ولا سياسات الحكومة، وخاصة التربية العامة، وأنها دنيوية مادية لا تقبل المفاهيم التي تتعلق بالدين والروحانية، فالتربية التي تعتمدها لا دينية، فالدين في معنى هذا المذهب لا ينبغي أن يكون أساساً للأخلاق والتربية، ويقدم المستشرق " أربري " في كتابه (الدين في الشرق الأوسط) نموذجاً لأهم معاني العلمانية وهو فصل الدين عن الدولة بالجمهورية التركية، ثم يعلق المؤلف على العبارة المشهورة في وصف العلمانية " فصل الدين عن الدولة " بأنها تعريف غير دقيق وأن مدلولها الصحيح هو إقامة الحياة على غير الدين، فالإسلام والعلمانية - أي اللادينية - نقيضان لا يجتمعان.
قسم المؤلف الموضوع إلى خمسة أبواب:
الباب الأول دين أوربا أو المسيحية بين التحريف والابتداع:
وفيه فصلان: الأول: التحريف: تكلم فيه أولاً عن تحريف العقيدة (قضية الألوهية تحريف الأناجيل) - تحريف الأناجيل.
وثانياً عن تحريف الشريعة، وفصل الدين عن الدولة.
والفصل الثاني: البدع المستحدثة في الدين النصراني.(12/237)
تكلم في هذا الباب عن دين أوربا النصرانية الذي انحرفت عنه إلى اللادينية، وأثبت ما اعترى النصرانية من تحريف وتبديل، وأنه لم يعد يمثل دين الله الحق لا في العقيدة ولا في الشريعة، بل تحول إلى مجموعة من الخرافات والبدع تولت الكنيسة كبر تسويقها وترويجها وإيهام الناس أن ذلك هو الدين النصراني، وكان هذا التحريف الذي أصاب الدين النصراني على يد القساوسة الكذبة هو السبب الممهد للعلمانية، حيث طغت الكنيسة ودوخت أتباعها في خرافات يرفضها العقل وتمجها الفطرة، فقد وقع أولاً تحريف العقيدة، وتحريف الأناجيل التي بلغت سبعين إنجيلاً كلها شاهدة على أنها محرفة، يكذب بعضها بعضاً، هذا فوق مائة وعشرين رسولاً منهم من ألّف أناجيل ومنهم من كتب رسائل، وفرق وطوائف تزيد على الحصر تختلف في قضايا أساسية بالغة الأهمية.
ولقد كان انعقاد مجمع نيقية الشهير في عام 325م يمثل معلماً من معالم التاريخ البارزة، وشاهداً على أن النصرانية قد حرفت وبدلت وفقد الناس الثقة في حقيتها وقدسيتها.
وبعد تحريف الأناجيل، جاء تحريف الشريعة، وكان من أولى فصول هذا التحريف فصل الدين عن الدولة.
بين المؤلف أن الشريعة النصرانية لم يكتب لها التطبيق على المستوى العام، وذلك لسببين متلازمين:
الأول أن الشريعة النصرانية لم تقم لها دولة تتبناها وتقيمها في الأرض، فقد توفى الله عيسى - عليه السلام - ورفعه إليه وهو لم يزل في مرحلة الدعوة التي تشبه حال الدين الإسلامي قبل الهجرة.
والسبب الثاني: أن المسيح - عليه السلام - بعث إلى قوم قساة تسيطر عليهم إمبراطورية وثنية عاتية، اضطهدت المؤمنين من أتباع المسيح وعذبتهم، فانحسر تطبيق الشريعة في أضيق نطاق بسبب هذا العداء الشديد.
وكان لليهود اليد الطولى في إلحاق الأذى بالمؤمنين بتعاليم المسيح - عليه السلام -، فلا يخفى أمر شاؤل الطرسوسي أو بولس (رسول الأمم)! وخداعه باعتناق المسيحية وقيامه بغزوها من الداخل تماماً كما قصد عبد الله بن سبأ غزو الإسلام من الداخل. فكان بولس المفسد الأول والأكبر بجدارة لتعاليم المسيح - عليه السلام -.
قام شاول هذا بإصداره تعليمات مناقضة لتعليمات المسيح مما أحدث في الناس بلبلة وفتنة، فوقعوا بذلك في بلاء عظيم، كما أنه مزج الدين الذي جاء به المسيح - عليه السلام - بالوثنيات القائمة آنذاك.
ثم ما كان من الاضطهاد الشديد الذي أوقعه أباطرة الرومان - وعلى رأسهم نيرون - بأتباع المسيح - عليه السلام -، حيث تقشعر الأبدان من ذكر فظائعهم وجرائمهم.
ثم جاء عام 325 م الذي يمثل عام النصر الحاسم على أعداء المسيح حيث ظفرت الكنيسة بالإمبراطور وأدخلته في الدين المسيحي، لكن الكنيسة لم تنتفع بهذا التزاوج بين القصر والكنيسة بما يعود بالخير على الناس في دينهم، بل كان ارتباطها بالإمبراطور ارتباط مصلحة لا يمت إلى الإيمان بصلة؛ فبقيت الوثنية متجذرة في نفوس الناس تغطيها غلالة رقيقة من الصبغة المسيحية، ولهذا عجزت الكنيسة عن إقامة الحياة على أسس متينة من الإيمان.
وفتح الباب للخرافات والأساطير والتقاليد الوثنية، وامتزج كل ذلك بروايات الأناجيل وآراء المجامع المقدسة، وتلاقحت الشريعة والقانون الروماني فأصبحت المسيحية ديانة تركيبية أو بوتقة انصهرت فيها عقائد وخرافات وآراء متباينة شكلت ديناً غير متسق ولا متناسق.
ثم بدأت الكنيسة في إصدار نصوص مكذوبة تبرر بها للناس ذلك المنحى الجديد الذي اتخذته بعد هذا التزاوج المقيت بين الكنيسة وقيصر.
وكان من أهم هذه الأقوال القول المنسوب زوراً للمسيح: أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله ". فلقد ظل هذا القول شعاراً ترفعه الكنيسة كلما عنّ لها أن تتمرد على شرع الله.
ثم بين المؤلف أن هذه العبارة المنسوبة للمسيح في إنجيل متى تبين أن الأناجيل التي بأيديهم لا تثبت أمام البحث العلمي، وأنها لا قيمة علمية تاريخية لها، فكلها ظنية الثبوت ظنية الدلالة، فكيف يحتج بهذه الظنيات على مسألة بالغة الخطورة كهذه.
ويعني مسألة أن يوافق المسيح على أن يجعل قيصر شريكاً لله - تعالى - في التوجه إليه بالعمل، وإيقاع الناس في شرك الطاعة والاتباع.
ثم يتنزل المؤلف جدلاً ويفترض أن المسيح - عليه السلام - تفوه بهذه الكلمة، ويتساءل: هل يعني ذلك أن نفهم من العبارة ما فهمته الكنيسة من ظاهرها؟، ونتخذ من فهمنا هذا قاعدة هي أعظم القواعد الكنسية العملية على الإطلاق؟.
ثم يعرض المؤلف العبارة التي استلوها من إنجيل متى، ويتتبع السياق لفهمها في إطارها فهماً صحيحاً على افتراض صحة ثبوتها.
ونص القصة: "ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم قائلين: يا معلم، إنك صادق وتعلم طريق الله، بالحق ولا تبالي بأحد، فقل لنا: أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم وقال: لماذا تجربونني يا مراؤون، أروني معاملة الجزية، فقدموا له ديناراً، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر، فقال لهم أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فلما سمعوا تعجبوا وتركوه"اهـ(12/238)
وهكذا شأن أعداء الرسل وخصوم الإيمان في كل زمان، يسعون في الإيقاع بالمؤمنين، ويحاولون إثارة السلاطين عليهم بما يدركون من افتراق طريق الإيمان وطريق السلطان، يفعلون ذلك لحرمان أهل الإيمان من الاستفادة من هدوء الحال لتمضي الدعوة في خطة تكوين طلائع الإيمان وتربيتهم لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، ونشر هدايتها في الناس.
ويعلق المؤلف على هذه القصة فيقول: كان المسيح - عليه السلام - وأتباعه قلة مضطهدة تتبنى دعوة جديدة ناشئة، فلم يكن في مقدورها أن تصطدم بالامبراطورية الطاغية وتواجهها بعداوة سافرة، ولم تكن هذه المواجهة مطلوبة منها وهي لا تزال في طور الدعوة - يقابل ذلك في الإسلام فترة ما قبل فرض الجهاد - وهذا الطور يقتضي الالتزام بمبدأ " كفوا أيديكم " كيلا يستثار عدو باطش فيفتك بالدعوة في مهدها.
ثم يقول: فالمسيح - عليه السلام - لو صحت العبارة - وافق على إجراء مؤقت تقتضيه ضرورة الواقع وطبيعة الدعوة المرحلية.
ثم أشار إلى نظائر ذلك في مراحل الدعوة في السيرة النبوية.
ويمضي المؤلف في استعراض ما عمدت إليه الكنيسة الزائغة من عبارات موهمة تنسبها الأناجيل إلى المسيح، وهي عبارات قيلت مجازاً أو رددت في ظروف مؤقتة وملابسات خاصة، وإنما قصدت الكنيسة أن تقرر بهذه العبارات قواعد أصولية تؤسس عليها دينها المحرف دون مراعاة لمنطق الاستدلال ومقتضى التحقيق العلمي.
وكان من هذه العبارات التي نسبوها إلى المسيح - عليه السلام - أيضاً: "مملكتي ليست من هذا العالم"
وأشاعت الكنيسة المفهوم الذي تريده لهذه العبارة وهو: الدنيا والآخرة ضرتان متناحرتان وضدان لا يجتمعان، الدنيا مملكة الشيطان ومحط الشرور والآثام، وأن سعي الإنسان فيها للسعادة والتمتع بخيراتها دنس يحرمه من ملكوت الله في الآخرة، وهو مفهوم يتيح للمفسدين من القساوسة والقياصرة الطغاة أن يعبثوا بالحياة ما شاءوا دون أن يعترض طريقهم أحد، وما كان المسيح - عليه السلام - أن يتكلم بمثل هذه العبارة التي هي أقرب إلى النظرة البوذية الوثنية للحياة من نظرة رسول كلفه الله بدعوة الناس لعبادة الله وتحذيرهم من اتباع الأهواء، وما كان هذا المفهوم الذي روجوه للعبارة أن يخطر ببال أحد رسل الله الذين جاءوا لتغيير الواقع الجاهلي المنحرف، وإقامة واقع جديد تحكمه الشريعة المنزلة.
ثم أفرد المؤلف فصلاً عن البدع المستحدثة في الدين النصراني، فعد منها رجال الدين (الإكليروس)، ورفض التعليل الجاهلي لظهور طبقة رجال الدين بأنه مجرد تطور بشري ديني اجتماعي وأنه مر بثلاث مراحل: مرحلة السحر والخرافة - ومرحلة الدين - ومرحلة العلم. وأن الإنسان حين انتقل إلى مرحلة الدين بقيت فيه رواسب موروثة عن المرحلة الأولى من أبرزها طبقة رجال الدين الذين ليسوا سوى امتداد للسحرة والكهان، فيبين المؤلف أن هذا التفسير مرفوض، وأن التصور الإسلامي للتاريخ ينظر إلى الحياة البشرية على أنها خطان متوازيان: خط مشرق يمثل البشرية حين تهتدي إلى الله وتسلك طريق الأنبياء الذين يتعاقبون لردها إلى جادة الطريق، وخط آخر مظلم يمثل حزب الشيطان وفترات الضلال الذي طرأ على البشرية بعد أن كانت أمة واحدة على الإيمان، والسمة العامة للتاريخ هي الصراع بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل.
ثم أوضح أننا لا ننكر التشابه الظاهر بين رجال الإكليروس في المسيحية وبين السحرة والكهان في العصور السابقة، لكننا نرجع ذلك إلى كون الطائفتين انحرفتا عن الأصل الصحيح.
ثم تكلم عن خط الانحدار الذي يصف حالة الكنيسة وهي تتردى وتفقد صلتها بالدين وتقطع أواصرها بالإيمان، فيقول بعد أن يشير إلى أحبار اليهود وفسادهم وأن المسيح - عليه السلام - كان يسميهم أولاد الأفاعي، وبائعي العهد، وعباد الدنيا. قال: لكن القسيسين والرهبان لم يكونوا أفضل حالاً من الأحبار، فقد سلكوا الطريق نفسها وانصاعوا إلى الدنيا مستعبدين أتباعهم المؤمنين.
فكانت هيئة الدولة تمثل هرماً قمته الإمبراطور وقاعدته الجنود، وكانت الهيئة الكنسية تمثل هرماً مقابلاً قمته البابا وقاعدته الرهبان، ونتيجة لمبدأ فصل الدين عن الدولة رعت الامبراطورية الهرم الكنسي، ولم تر فيه ما يعارض وجودها، فرسخ واستقر.
وكان من البدع المستحدثة في الدين النصراني أيضاً الرهبانية: بين المؤلف أن للوجود الإنساني في هذه الأرض غايةً أرادها الخالق - سبحانه - منذ أن استخلف الإنسان في الأرض وأناط به مسئولية عمرانها بالخير والصلاح، وركز في فطرته الاستعداد لهذه المهمة وبعث الرسل لقيادة الإنسان لتحقيق هذه الغاية على أكمل نموذج وأقوم مثال.
لكن الناس كانوا يضلون فيسيرون في غير الاتجاه الذي تأخذهم إليه الفطرة، وتقودهم إليه الرسل، فتستهويهم الشياطين وتضلهم الشهوات عن سواء السبيل، فينحرفون عن الجادة في صور من الضلال متعددة ومتنوعة.
وكان من هذه الصور المنحرفة النظرة غير السوية إلى الحياة وغايتها وقيمتها، والغلو في تهذيب النفس إلى حد التضييق والتعذيب، مع الانصراف عن عمارة الأرض، التي هي جزء من الغاية العظمى.(12/239)
ومع أن الرهبانية بدعة بشرية مشتركة بين أديان عديدة إلا أن للرهبانية النصرانية ظروفاً وأسباباً أبرزتها حتى غدت من أجلى مظاهر النصرانية على مر العصور.
أسباب الرهبانية:
1- عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة. وهي إحدى التعاليم الكبرى في المسيحية المحرفة، ومرجعها عندهم أن آدم - عليه السلام - لما أكل من الشجرة فعوقب بالحرمان من الجنة، فظل بنوه يرسفون في أغلال تلك الخطيئة حتى جاء الخلاص على يد المسيح ليصلب فداء للنوع الإنساني، فأصبح لزاماً على الإنسان أن يقتل نفسه ليمنحها الخلاص كما يقول متى في إنجيله: " من أراد أن يخلص نفسه يهلكها".
2- رد الفعل المتطرف للمادية اليهودية الجشعة والأبيقورية الرومانية النهمة.
3 - الأثر الذي خلفته الفلسفات والوثنيات التهريبية القانطة.
4 - الأوضاع الاجتماعية القاسية.
نظام الرهبانية:
ثمة شروط يتضمنها نظام الرهبانية:
أولها: العزوبة، وما يلزمها من التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، وترذيل الصلة الجنسية وإن كانت حلالاً، فهذا " سان بونافنتور " أحد رجال الكنيسة يقول: إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً حياً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته والذي تسمعون هو صفير الثعبان ".
الثاني: التجرد الكامل عن الدنيا. ويعنون بها العزلة النهائية عن المجتمع، وقطع النظر عن كل أمل في الحياة.
الثالث: العبادة المتواصلة:
الرابع: التعذيب الجنوني:
صادمت هذه التعاليم المنحرفة الفطرة فكان لابد من الخسران والشقاء.
وكان من تلك البدع المستحدثة كذلك الأسرار المقدسة:
امتلأت الوثنيات القديمة بالأسرار والأساليب الخفية والرموز الغامضة، وقد سجل التاريخ غلطة شنيعة على بعض أتباع الديانات باقتباسهم لأشياء من تلك الأسرار والرموز وإدخالها في دينهم، وذلك ما حصل بعينه في المسيحية المحرفة.
تناول المؤلف واحداً من هذه الأسرار التي دأبت الكنيسة على استعمالها في ستر نقائصها ومخازيها وقطع الطريق على كل محاولة تطلب تفسيراً يقبله العقل، وترفض أن تتسلط الكنيسة على عقول الناس بقولها (سر إلهي). وكان من هذه الأسرار الإلهية الكنيسية سر " العشاء الرباني " أو " القربان المقدس ".
ثم يبين المؤلف أن ذلك كان من دس شاؤل اليهودي الذي يؤكد جوستاف لوبون - أحد النقاد العقليين - أن شعائر النصرانية ومنها العشاء المقدس بدعة منقولة عن الوثنية المثرائية، وأن شاؤل كان متأثراً بالمثرائية التي كان من شعائرها التضحية بالعجل المقدس.
ولهذا كان المسيحيون الأوائل يقيمون وليمة تذكارية في عيد الفصح قوامها الخبز والخمر يرمزان إلى جسد ودم المسيح، وهي التي تعرف بعقيدة الاستحالة أي استحالة الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح، فليس لأحد من أتباع الكنيسة أن يسأل أو يشكك في ذلك السر، وإلا عوقب بالحرمان والطرد من الملكوت.
وكانت هذه العقيدة العجيبة من الثغرات الواسعة التي دخل منها النقد المرير للكنيسة، وسبب كثيراً من الانشقاقات الدينية، والسخرية الشديدة التي انهال بها على الكنيسة النقاد العقليون من أمثال الفيلسوف الفرنسي فولتير.
البدعة الرابعة - عبادة الصور والتماثيل: وهذه أيضاً كانت من البصمات الظاهرة التي تركتها الوثنية على الديانة النصرانية على الرغم من أن التماثيل تعتبر من الأعمال المحرمة في شريعة التوراة. ولم يقف الحد عند كونها مظهراً من مظاهر المخالفة لشريعتهم، بل تعدى ذلك إلى أن صارت التماثيل والصور آثاراً مقدسة ومعبودات يسجد الناس لها ويوقدون لها الشموع ويحرقون البخور وينثرون فوقها الزهور التماساً لبركاتها، ورجاء تأثيرها الخفي.
وكان للفتوحات الإسلامية التي امتدت حتى شملت معظم المعمورة أثرها في أن يعيد كثير من شعوب الدول النصرانية نظرتهم إلى ما أصاب دينهم من لوثات الوثنية، حيث اطلعوا على عقيدة التوحيد الخالص في دين الإسلام، فأحسوا بسخافة معتقداتهم وضحالة تفكيرهم، ففتحوا أعينهم على تلك الحضارة الغازية الشامخة الناصعة.
فقامت في الغرب حركات معادية لبدعة التماثيل والصور، وطالبت بإزالة تلك الوصمة الشنيعة التي كشفت الدين الذي ينتسبون إليه وأظهرت ما فيه من النقص والعيوب والتشويه الذي يخجلهم أمام المسلمين، لكن الكنيسة رفضت ذلك، وظل الصراع بين المنادين بتحطيم التماثيل والصور وبين الكنيسة المعاندة، وعقد مجمع نيقية الثاني عام 787م وحضره 350 أسقفاً وقرروا جميعاً بقاء الثماثيل والصور، بل ألزموا الناس بالإغراق في ذلك، بوضع التماثيل والصور كذلك في البيوت والطرقات، لبقاء أثر المسيح وأمه والرسل وسائر القديسين في نفوسنا، وبذلك انتصرت الكنيسة الوثنية على حركات الإصلاح.
ثم عادت الحركة المناهضة لعبادة الصور والتماثيل للظهور مرة أخرى بعد ثلاثة قرون، وذلك حينما اتصل الغرب الوثني بالشرق المسلم إبان الحروب الصليبية، وكان البروتستانت هم الذين يتولون الحركة الإصلاحية في هذا الجانب، بينما ظل الكاثوليك على تقديسها ولعن محطميها.(12/240)
وبلغ الهوس بهؤلاء المفتونين بصور المسيح - عليه السلام - وأمه، أن قامت إحدى شركات السينما في السويد بإنتاج فيلم عن " حياة المسيح الجنسية " في ابتذال وامتهان لم يحرك في الدول الغربية ساكناً، بينما احتجت بعض المنظمات الإسلامية وطالبت بإيقاف عرض الفيلم، ولم يقتصر الأمر على المسيح وأمه بل إن الكنيسة تجرأت على الباري جل شأنه وصورته كما تصور المخلوقين - تعالى - الله عن ذلك علواً كبيراً، معلنين أنهم لا يمكنهم أن يفهموا الله إلا عن طريق تصوره بالصورة البشرية، كما يقرر ذلك أحد علماء الكنيسة.
ويتابع المؤلف عرض البدع التي استحدثت في النصرانية فيذكر منها المعجزات والخرافات، فكان من الطبيعي لدين مركب من تعاليم المسيح وكم هائل من المعتقدات الوثنية أن يجد صعوبة في الإقناع العقلي، والبرهان المنطقي، فذهب يعوض هذا النقص بادعاء الخوارق التي هي في حقيقتها أوهام وأخلاط، بقصد التمويه على العقول الضعيفة والنفوس الساذجة، وساعد الإرث الوثني على تقبل جماهير الناس المتعلقة بالكنيسة بهذه السخافات.
واتسع نطاق تلك الأوهام حتى أصبحت مكانة رجل الدين وقداسته مرهونة بما يظهر على يديه من الخوارق، وما يتعاطى من الشعوذات، وما يأتي به من ألاعيب تجهل العقول الساذجة علته الحقيقية مدعياً أن ذلك هبة من الروح القدس له، ويسجل لنا التاريخ أمر "الساعة" التي أهداها هارون الرشيد إلى الإمبراطور (شارلمان)، فأصابه الفزع هو وحاشيته ظانين أن بها جناً يحركها، فكيف بعامة الشعب من الفلاحين والرعاة؟!.
وكان لهذه الخرافات جذور عميقة في نفوس أتباع الكنيسة، ولهذا كانوا يتعلقون بالقساوسة ويعتقدون فيهم قدرات خارقة في صد العواصف وإنزال المطر، وكانوا ينزلون بهم أشد النكال إذا فشلت تراتيلهم في تحقيق آمال الناس، فكم من قديس أهانوه وضربوه ونزعوا أجنحته الذهبية وركبوا له أجنحة ورقية إهانة له على فشله، كما كانت صيحاتهم الغاضبة تعلو في الساحات الكبرى حيث يأتون بهؤلاء القديسين الكذبة، ويقيدونهم عراة ويهتفون بهم: المطر أو حبل المشنقة.
وأشار المؤلف إلى عدد من تلك الخرافات التي كانوا يشيعونها في الناس فذكر خرافة " تجلي العذراء " التي يثيرونها بين الحين والحين، وذكر أيضاً خرافة الرقم (13) ويبين أن أصله أن يهوذا الذي دل على المسيح هو التلميذ الثالث عشر للمسيح، فكان ذلك مصدر شؤم للكنيسة وأتباعها.
ومن البدع المستحدثة في الديانة النصرانية بدعة: صكوك الغفران
وهي الصكوك التي كان القساوسة يمنحونها لأتباع الكنيسة ليتطهروا من الخطايا، ضامنين لهم المغفرة، مطلقين لهم العنان ليفعلوا ما شاءوا من المعاصي، طالما اشتروا هذا الصك، أما البؤساء ممن لا يملكون المال لشراء هذا الوهم فيظلون محرومين من هذه الموهبة مهما بلغت تقواهم، وحبهم للمسيح وتعلقهم بالعذراء.
وكان الأساس الذي بنيت عليه هذه الأكذوبة هو فكرة القداسة التي ادعاها رجال الدين، والتي بنى عليها فكرة الاستشفاع بهم لدى الله لمغفرة الخطايا، وظل الجهلة والسذج يتوسلون إلى القساوسة راجين الشفاعة والتقرب إلى الله زلفى فنتج عن ذلك مبدأ التوسط بين الله والخلق، حتى أصبحت وظيفة رجل الدين المسيحي القيام بهذه الوساطة، فعن طريقه تؤدى الصلاة، ويتناول العشاء الرباني، وهو الذي يقوم بالتعميد وطقوس الزواج والموت ويتقبل الاعترافات بالمذنبين.
ثم يبين المؤلف أن هذه الصكوك إنما بدأت حين كانت الكنيسة تواجه ظروفاً عصيبة إبان الحروب الصليبية التي بلغ معها يأس النصارى من تحقيق النصر على المسلمين مبلغاً عظيماً، وأصاب الشعوب الأوربية إحباط شديد فاخترعت الكنيسة فكرة هذه الصكوك كتجسيد لأماني المشتركين في تلك المعارك بالمغفرة، ولشحذ هممهم للاندفاع في المشاركة في تلك الحروب، كما يقول ول ديورانت في قصة الحضارة.
ويخلص المؤلف من هذا العرض لهذه البدعة بقوله:
وعليه فلم يكن يحظى بالحصول على صك الغفران إلا رجل ذو مال يقدر على شرائه حسب التسعيرة التي تحددها الكنيسة، أو رجل يحمل سيفه ليقاتل تحت راية الكنيسة، وغير هذين رجل ثالث فقير لا مال له أو عاجز عن القتال، أو رجل غير مستعد للموت في سبيل الكنيسة، لكنه يظل أسير صراع نفسي مرير وشعور بالحرمان قاتل.
وهكذا فالكل مضحون، والكل خاسرون، والكنيسة هي الرابح الوحيد، حيث أثرت ثراء فاحشاً من عملية بيع الصكوك، وإن كانت عند الله أذل مقاماً وأخسر صفقة.
ومن الوجهة السياسية قويت الكنيسة وتدعمت سلطتها، فكان الثراء والنفوذ بعض ثمار تلك البدعة التي دفعت الكنيسة إلى الطغيان والغطرسة الباغية، ولم ينتبه رجال الكنيسة الذين أعماهم الغرور بسبب ما وصلوا إليه من الغنى والسيطرة عن خطر هذا الطغيان عليهم، فكانت مهزلة صكوك الغفران مسماراً في نعش الكنيسة وبداية لنهايتها.
حيث هبط سوق الصكوك وأصابه الكساد، وتجول القساوسة ببضاعتهم يبيعونها بأبخس الأثمان فازداد إعراض الناس عنها، حيث تولد لديهم شعور بأن شراءها إن هو إلا إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو أنه غير مضمون العاقبة.(12/241)
وتبع ذلك الشعور ظهور الفضائح التي كشفت جانباً من سيرة رجال الكنيسة وفجورهم، فكان ذلك إيذاناً بالشك الكبير في قداسة هؤلاء القساوسة وصلاحهم.
وتوحدت المشاعر من مختلف قطاعات الشعب بالعداوة والازدراء تجاه رجال الكنيسة، ورأى الأوربيون حكاماً ومحكومين الحياة الكريمة التي يعيشها الشرق الإسلامي حيث لا كهنوت ولا طغيان ولا احتكار، فهزت هذه الرؤية أنفسهم وبهرت عيونهم، فباتت صكوك الغفران في نظرهم هراء لا طائل تحته، وعبئاً يبعث على الاشمئزاز والاستخفاف.
ولما كانت الكنيسة هي الدين النصراني في نظر أتباعها كان لابد أن يهتز الدين كله في نظرهم باهتزاز صورة الكنيسة، وفقدان الثقة في قدسيتها وطهارة رجالها، وكان ذلك هو بداية السير في طريق الكفر ونبذ الدين، واستغل أعداء الدين - لا سيما اليهود - تلك الأجواء فبذروا على الفور بذورهم بالمناداة بطرد الدين من حياتهم، ووضعوا أمامهم ذلك الخيار الصعب الذي مفاده: إما أن يؤمن بصكوك الغفران فيحكم على نفسه بالجمود والغباء والرجعية المتناهية، وإما أن يكفر بها فيلزمه الكفر بالإطار الذي يحويها بكامله؛ إطار الدين والغيبيات، لا سيما الآخرة، وهو الخيار الذي جسده الفيلسوف اليهودي الوجودي "جان بول سارتر" في إحدى رواياته المشهورة (الشيطان والرحمن).
هذا مع أن الكنيسة في عصرنا الحاضر لا تصدر تلك الصكوك المخزية، بل تستحي من ذكرها وتخجل كلما دار الحديث عنها.
ربيع الثاني 1423 هـ - يوليو (تموز) 2002 م
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
===========(12/242)
(12/243)
قراءة في كتاب العلمانية ( 2 )
صفاء الضوي العدوي
الباب الثاني: أسباب العلمانية:
وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: الطغيان الكنسي: أسبابه. أنواعه (الطغيان الديني الطغيان السياسي الطغيان المالي).
الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم:
الفصل الثالث: الثورة الفرنسية: (الفكر اللاديني - وقوف الكنيسة ضد مطالب الجماهير - القوى الشيطانية الخفية).
الفصل الرابع: نظرية التطور: (آثار الداروينية - انهيار العقيدة الدينية - نفي فكرة الغاية والقصد - حيوانية الإنسان وماديته - فكرة التطور المطلق).
بدأ المؤلف في فصل الطغيان الكنسي إلى التعريف بداء الطغيان وبيان أنه مرض يدمر النفس الإنسانية حين تصاب به، وأن من خصائصه أنه لا يصيب إلا ذا نفس هزيلة أتيح لها وسائل تفوق طاقتها، ولم يكن لديها ما تتحصن به من خلق أو إيمان يكبح جماحها.
وأشار إلى أن ظهور هذا المرض على الحكام الوثنين أو الطغاة من زعماء الدنيا فإنه يكون معقولاً إلى حد ما، أما حين يصدر هذا السلوك الشائن ممن يراهم الناس قديسين ورسل سلام فهذا مما يشق على النفس تحمله، ويصعب على العقل تقبله، فهم الرجال الذين طالما سمعوا منهم عبارات التسامح والمحبة في مواعظهم الدينية.
ويبحث المؤلف في أسباب ذلك الطغيان الذي كانت الكنيسة تمارسه، فأشار إلى الاضطهاد الذي أوقعه الوثنيون من الرومان على أتباع المسيح - عليه السلام - والذي ألجأ هؤلاء الأتباع إلى التخفي بالدعوة، وإخفاء ما بأيديهم من نسخ الأناجيل، التي كانت تتعرض للمصادرة والحرق، مما أدى إلى انحصار المصادر الدينية للمسيحية في أيدي فئة قليلة من الناس كان لهم وحدهم حق شرحها وتأويلها، فلم يكن بأيدي الناس من المصادر التي يراجعون على أساسها ما يسمعون من رجال الكنيسة، فتكلم هؤلاء وحدهم وكان على الناس جميعاً أن يسمعوا من هذه الفئة التي احتكرت حق الشرح والبيان، فكان على الناس أن يقدموا الطاعة العمياء، فشجع ذلك رجال الكنيسة على الطغيان وفرض سلطانهم وتعميق هيبتهم لدى الناس، وكان من نماذج هذا الطغيان:
الطغيان الديني: فمنذ مجمع نيقية عام 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني، حيث فرضت عقيدة التثليث، ولعنت مخالفيها، وعذبت الموحدين، ومارست التحليل والتحريم والنسخ والإضافة، فحرمت الختان، وأباحت الميتة، والتماثيل والضرائب التي تجبيها الكنائس، وغير ذلك من المحرمات التي أحلتها المجامع الكنسية، كما أضافت الكنيسة ألواناً من المعتقدات الوثنية كقضية الاستحالة في العشاء الرباني، وعقيدة الخطيئة الموروثة وعقيدة الصلب والعذراء والطقوس السبعة، فرضت الكنيسة كل ذلك على أتباعها بحجة أنها أسرار عليا لا يجوز الشك فيها بل لا يجوز الخوض فيها.
لم يقف الأمر عند هذا الحد من الطغيان الذي فرض على الناس الانصياع لتلك المعتقدات، بل تعدى ذلك إلى إنزال النكال البشع بكل من تسول له نفسه الاعتراض أو التبرم من أحوال الكنيسة، وفساد رجالها، وما خبر محاكم التفتيش بجديد، فقد كان المسلمون في الأندلس هم الضحية الأولى لتلك المحاكم البشعة، فقد أبيدوا إبادة تامة بأقسى وأشنع ما يتخيله الإنسان من الهمجية والوحشية، وكانت المحكمة الأم لهذه المحاكم الوحشية (المحكمة المقدسة!! في روما)، وإن المؤرخين ليصابون بالرعب عند ذكر هذه المحاكم وسرد تاريخها الأسود فكيف بالضحايا الذين وقع عليهم هذا العذاب الذي يفوق الخيال، وكان يكفي لوقوع الشخص في هذا العذاب الرهيب أن يشي به جاره أنه سمعه يذكر الثالوث أو المعجزات بما يعد في نظر رجال الكنيسة جريمة يستحق صاحبها أن يقطع جسده أو يفرم في مفارم اللحم أم يشعل تحته النيران الخفيفة ليموت موتاً بطيئاً أو تغرز الكلاليب في لسانه ويشد فيقطع، وعقدت الأهوال ألسنة كبار العلماء الأفذاذ مثل نيوتن وبيكون وديكارت وكانت وغيرهم، فلم يجرؤ أحد منهم على التلفظ بكلمة تثير عليهم غضب رجال الكنيسة القساة.
الطغيان السياسي:
من الطبيعي أن يكون لرجال الدين في أي أمة أثرهم الطيب في المجتمع، وأن تكون أزمة الأمور في أيديهم، لتقويم المعوج وتصحيح الخطأ، أما أن يتحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين، مع نبذ شريعة الله، ليحل محلها التسلط والاستبداد، فذلك العجب العجاب، لكن هذا هو الذي حدث من الكنيسة، حيث تناحر البابوات مع الأباطرة على النفوذ، والقبض على مقاليد الأمور في المجتمع، ولم يفتأ البابوات يعلنون أن الكنيسة بوصفها نظاماً إلهياً خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه أن يخلع الملوك غير الصالحين، أو يرفض اختيار البشر للحكام.
ظلت الكنيسة على هذا الحال من السلطة الروحية البالغة، والهيكل التنظيمي الدقيق والاستبداد المطلق، فكان البابوات هم الذين يتولون تتويج الملوك والأباطرة، كما كان بإمكانهم خلع الملوك وعزلهم بإرادتهم المحضة، ومن رفض الرضوخ لأحكام البابوات أسقط البابوات عنه الشرعية وأعلنوا الحرب عليه.(12/244)
ولعل خير مثال على ذلك يعرضه علينا المؤرخ البريطاني "ويلز"، وكذلك "ديورانت" في (قصة الحضارة) وهو حادثة الإمبراطور الألماني (هنري الرابع) المشهورة مع البابا جريجوري السابع، فقد جرى بينهما خلاف فظن الإمبراطور أن بوسعه أن يخلع البابا فرد البابا بخلعه، وألب عليه أتباعه والأمراء، فعقد الأمراء مجمعاً وقرروا فيه أن الإمبراطور سيفقد عرشه إلى الأبد إذا لم يحصل على عفو البابا، وخضع الإمبراطور وأذل نفسه وسافر مجتازاً جبال الإلب في برد الشتاء القارس، وظل واقفاً في فناء القلعة ثلاثة أيام وهو في لباس الرهبان متدثراً بالخيش، حافي القدمين، عاري الرأس، مظهراً كل علامات المسكنة والتوبة حتى ظفر بالمغفرة، وحظي برضا البابا!.
وأشار المؤلف إلى نماذج من التحديات التي كانت تصدر من بعض الملوك تجاه الكنيسة لكنها كانت تتحطم أمام نفوذ الكنيسة وطغيانها، وكان من أشهر هؤلاء الملوك الذين قاوموا هذا الطغيان الإمبراطور "فردريك الثاني" الذي عرف بصلابته التي عزاها المؤرخون إلى ثقافته العربية والإسلامية حتى اتهمته الكنيسة بأنه اعتنق الإسلام وسمته الزنديق الأعظم، فدافع هذا الإمبراطور عن نفسه برسالة عدت وثيقة هامة في وصف الصراع بين البابوات والملوك، أو الصراع بين الكنيسة والعلمانيين الذي كان يثور ويتأجج، فكان موقف فردريك ظاهرة فذة، لكنها لم تصمد أمام قرارات الحرمان، وسطوة الكنيسة الباغية.
الطغيان المالي:
بين المؤلف أن الأناجيل على ما فيها من تحريف كانت قاطعة في الدعوة إلى الزهد، والتنفير من التهالك على ملذات الدنيا لا سيما جمع المال والافتتان به، وأن المسيح - عليه السلام - كان أسوة حسنة في ذلك فقد عزف هو وحواريوه عن الدنيا عزوفاً صادقاً بينما كان القوم من اليهود ينظرون إلى الدنيا نظرة جشع لا ينتهي وشره لا ينقطع.
وجاءت القرون التالية فشهدت مفارقات عجيبة بين مفهوم الكنيسة في هذا الأمر وبين واقعها العملي، فبينما كانت تحرم ما أحل الله من الطيبات متأثرة بتلك النظرة التشاؤمية للحياة الدنيا كانت سيرتها الذاتية مخزية، حيث تهالكت على الدنيا وامتصت دماء أتباعها وعاش رجالها في بذخ متناه، وكانت أملاك الكنيسة الإقطاعية من الأراضي تفوق كبار الإقطاعيين في أوربا، حتى بلغت ممتلكاتها الإقطاعية ثلث أراضي إنجلترا، كما كانت تأخذ الضرائب الباهظة من الباقي من الأرض، كما فرضت الكنيسة العشور على غلات الأراضي الزراعية والمهنيين، ولم تكتف الكنيسة بالأوقاف والعشور بل فرضت الرسوم والضرائب، كما كانت تحظى بالكثير من الهدايا والهبات التي كان الأثرياء يقدمونها لها للتملق أو الرياء أو ما كان منها على سبيل الصدقة والإحسان، وفوق ذلك كانت هناك المواسم المقدسة والمهرجانات الكنسية التي كانت تدر على الكنيسة أموالاً طائلة، كما كانت الكنيسة ترغم أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها لا سيما بناء الكنائس والأضرحة، كان كل ذلك يملأ نفوس الناس جميعاً بالسخط إلا أن الظروف لم تكن مواتية لإعلان هذا السخط أو التعبير عنه بشكل صريح.
الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم:
بين المؤلف في هذا الفصل أن الصراع الذي نشب بين العلم والدين كان من أعقد وأعمق المشكلات في التاريخ الفكري الأوربي، ورغم كل الظواهر البارزة في الحياة الغربية التي تؤكد أن المعركة قد حسمت لصالح العلم، فإن هناك ما يدل على أن الدين أو بعض قضاياه الاعتقادية والسلوكية لا يزال موجوداً، وأن المعركة لم تحسم نهائياً، بل هي مستمرة، وأن كل طرف من الطرفين قد حقق في هذا الصراع ثباتاً وصموداً، أو تمكن من احتلال مساحات من مناطق نفوذ الآخر، فالمناطق التي احتلها العلم من مناطق نفوذ الدين هي في الحقيقة المواقع التي انتصر فيها العقل واليقين على الخرافة والوهم، كما أن المواقع التي صمد فيها الدين أمام الهجوم العلمي الكاسح هي المواقع التي انتصرت فيها الحقيقة الموحاة على التخرصات والأهواء.
ويلخص المؤلف هذه الفكرة في عبارة موجزة فيقول: "إن الحق في كل من الطرفين هو الذي انتصر أو سينتصر على الباطل في كليهما، وأنه لو كان الدين الأوروبي يقيناً مجرداً والعلم الأوروبي يقيناً مجرداً لما حدثت معركة على الإطلاق". ويضيف: "إن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، ولهذا فإن الأوفق أن نسمي ما حدث في الغرب صراعاً بين الكنيسة والعلم وليس بين الدين والعلم".
ثم يبين أن جناية رجال الدين الأوربيين على الحقيقة كانت أشنع وأنكى من جناية أنصار العلم عليها، ذلك أن الكنيسة ارتكبت خطأين فادحين: أحدهما تحريف حقائق الوحي الإلهي وخلطها بالفلسفة والأهواء، والآخر فرض الوصاية الطاغية على ما ليس داخلاً في نطاق اختصاصها.(12/245)
كانت أوربا مستغرقة في دياجير الخرافة والجهل، فعرفت الطريق إلى النهضة العلمية التي كانت تشع من الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية، فاستيقظ العقل الأوروبي من سباته وأخذ يقتبس عن المسلمين طرائق البحث ومناهج التفكير، وهنا ثارت الكنيسة، وهاج هياجها على أولئك الذين يتلقون علوم "الكفار" - المسلمين! -، ويلتفتون عن الكنيسة وتعاليمها فأعلنت حالة الطوارئ وشكلت محاكم التفتيش، فاشتعلت المعركة، وازداد أوارها بمرور الأيام.
ثم استعرض المؤلف مراحل ذلك الصراع فتحدث عن النظرية التي هزت الكنيسة وأذهبت قدراً كبيراً من ثقة أتباعها فيها، وهي النظرية الفلكية التي قدمها "كوبرنيق" 1543م وخالف فيها ما كانت الكنيسة تعتقده من أن الأرض مركز الكون وأن الأجرام السماوية كافة تدور حولها، ولم ينج من محاكم التفتيش لأنه كان قسيساً بل لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل، فأفلت من عقوبة الكنيسة، التي حرمت كتابه، واعتبرته من وساوس الشياطين.
وجاء بعده " برونو" بتأكيد نفس النظرية، فسجنته الكنيسة فأصر على رأيه فأحرقته، ثم جاء "جاليليو" فأيد النظرية فلقي في السجن العذاب والمهانة، وكاد أن يلقى نفس مصير برونو لولا أنه خشي على حياته فأعلن ارتداده عن أفكاره وركع ذليلاً أمام رئيس المحكمة، وراح يلعن ما توصل إليه ويصفه بالإلحاد، وتعهد بالإبلاغ عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد مثل هذه الأبحاث المضلله!!
وبعد مدة من الزمن راجت تلك النظرية الفلكية، وهبطت أسهم الكنيسة، وطالب العلماء ودعاة التجديد بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيداً عن الوحي، ثم ظهر "ديكارت" فدعا إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة، واستثنى الدين تحت الرهبة من الكنيسة التي لم يزل لها نفوذ وسطوة.
وهذه الازدواجية في الفلسفة والنظر العلمي، والفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي ظهرت أيضاً في منهج " بيكون " التجريبي، الذي كان يمثل مرحلة طبيعية في سلم التدرج من الإيمان المطلق بالوحي إلى الإنكار المطلق له.
بيد أن بعض الفلاسفة آثر الدخول المباشر على آراء الكنيسة وإخضاعها، للمنهج العلمي، ومن هؤلاء " سبينوزا " اليهودي الذي وضع أسس مدرسة النقد التاريخي.
وقد أعمل سبينوزا منهجه بدراسة الكتب الدينية بنفس المنهج الذي تدرس به الروايات التاريخية، واستنتج أن أسفار التوراة لم يكتبها موسى، وإنما كتبت بعده، ثم جاء "باسكال" ووجه النقد لعقيدة الخطيئة، ثم جاء " جون لوك " فكان أبلغ من ديكارت في المطالبة بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض، ثم دعا إلى التسامح الديني، وإفساح الطريق أمام الناس ليعتنقوا ما شاءوا من الأديان.
على أن كل ذلك كان يظهر بتلطف وحذر حيث كانت الكنيسة تتربص بأصحاب تلك الأفكار، وتخيفهم بمحاكم التفتيش، وقد تعرضت كتب هؤلاء العلماء للحرق والمصادرة، كما تعرضوا هم للإيذاء والمضايقة من قبل الكنيسة.
ثم جاء " نيوتن " وظهرت نظريات علمية هزت الكنيسة وأثارتها، كان من هذه النظريات القول بأن من الممكن تفسير ظواهر الطبيعة بربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل قوى خارجية عنها، وكانت هذه النظرية بمثابة النواة للمذهب الطبيعي والنظرية الميكانيكية.
حاربت الكنيسة هذه النظرية على أساس أنها أهملت الاعتقاد في أن الله هو الذي يسير كل حركة في الكون، ولم يتسع أفق الكنيسة لإدراك أن نسبة الأفعال إلى الأسباب والوسائط لا يلزم منه إنكار نسبتها إلى الله - تعالى - باعتباره الفاعل الحقيقي، لكن الكنيسة دأبت على محاربة كل جديد، فترتب على ذلك جنوح أصحاب النظرية برد فعل أهوج، فأنكروا عمل العناية الإلهية، وأعلنوا أن كل ما عرفت علته المباشرة فلا داعي لافتراض تدخل الله فيه حسب تعبيرهم -.
كان اندفاع الباحثين والعلماء في مواجهة الكنيسة والانفكاك من ربقة رجالها المتغطرسين يعبر بشكل صريح بكفرهم بالكنيسة وبرجال الدين، وساعدت نظرية نيوتن على إيجاد فكر لا ديني منظم، وربما كانت النظرية قد مهدت للثورة الفرنسية، وفتحت الطريق أمام نظرية دارون التي كانت إيذاناً بأفول نجم الكنيسة، وانتهاء وصايتها الفكرية على أوربا، وولادة آلهة جديدة لا كنائس لها.
ثم ظهر في القرن الثامن عشر روح جديدة عمت الباحثين والفلاسفة والعلماء، دار محورها حول العقل والطبيعة، وتعالت الأصوات بتضخيم دور العقل، وبأنه الحكم على كل شيئ، وأن ما عداه فوهم وخرافة، فالوحي يخالف العقل، فهو أسطورة كاذبة، وصار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل فوجدوه في الطبيعة، فخلعوا على هذا المسمى كل صفات الله التي عرفوها في المسيحية مع فارق بين الإلهين في نظرهم.
فإله الكنيسة يبطش ويعذب ويفرض القيود، أما إله الطبيعة فجذاب ليس له كنيس ولا يفرض طقوساً ولا صلوات ولا رجال دين يستعبدون الناس.
وسادت تلك العبادة الجديدة؛ عبادة العقل والطبيعة، فكانت سمة هذا العصر الذي سمي عصر التنوير.(12/246)
وتوالت انتقادات العلماء للكنيسة ترسم خط العداء الذي ظهر في أجلى صوره على يد "فولتير" الذي انتقد عقيدة التثليث وتجسيم الإله وأشار إلى أن " بولس "، طمس المسيحية وحرفها، ونادى بأن الطاعة إنما هي طاعة البشر باسم قوانين الدولة، وأن على رجال الدين أن يخضعوا مع جميع الناس لنظم الدولة، فلعنته الكنيسة وحرمت قراءة كتبه.
ونتج عن المذهب العقلي الجديد بالإضافة إلى نظرية نيوتن مذهبان جديدان على العالم الإسلامي ينمان عن التخبط والضياع:
الأول: مذهب المؤلهة أو المؤمنين بإله مع إنكار الوحي.
الثاني: المذهب الإلحادي المادي.
الثورة الفرنسية:
بين المؤلف في هذا الفصل أن النظام الاجتماعي الذي هيمن على الحياة الأوربية طيلة القرون الوسطى هو نظام الإقطاع والذي كان أبشع وأظلم النظم الاجتماعية في التاريخ، وأشار إلى أن الشرق المسلم آنذاك كان ينعم بالحياة في ظل أفضل وأعدل مجتمع عرفه التاريخ، بينما كان الغرب يرزح تحت نير هذا النظام البغيض.
ويشير المؤرخون إلى أن أولى محاولات الإنسان الأوروبي الانفلات من المظالم الإقطاعية بدأت بالاحتكاك المباشر بالمسلمين عن طريق الفتوحات الإسلامية في أوروبا، وبلغ ذروته إبان الحروب الصليبية، وكان رواد هذا التمرد والثورة على الإقطاع أرقاء فرنسا لقربها من الأندلس، وبعدها النسبي عن مركز البابوية في روما، فكان أهلها أقرب إلى روح التحرر والانطلاق.
فقامت في فرنسا أول ثورة فلاحية "الجاكرية" في القرن الرابع عشر للميلاد، وهي وإن أجهضت إلا أنها مهدت لحركات مماثلة بالثورة على الكنيسة التي كانت في نظرهم مجرد مالك إقطاعي جشع.
بلغ الفساد السياسي والتدهور الاقتصادي أقصاه في السنوات السابقة للثورة الكبيرة في فرنسا، ونفد صبر الشعب الذي أنهكته المجاعة، بينما كانت هناك طبقتان منغمستان في التنعم والترف هما: طبقة رجال الدين، وطبقة الأشراف بالإضافة إلى الأسرة المالكة.
فكان المجتمع فريقين؛ فريق الشعب ممثلاً في الفلاحين والمهنيين وصغار القساوسة، وفريق يمثله رجال الدين والنبلاء. وانتصر الشعب، وحصدت المقصلة معظم الرؤوس المترفة الطاغية، وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الأهمية فقد ولدت لأول مرة في تاريخ أوربا دولة تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب " وليس باسم الله "، وعلى حرية التدين، بدلاً من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلاً من قرارات الكنيسة.
وتبدلت الأمور بشكل مثير، فقد حلت الثورة الجمعيات الدينية، وسرحت الرهبان والراهبات، وصادرت أموال الكنيسة، وألغت كل امتيازاتها، وحوربت العقائد الدينية هذه المرة علناً وبشدة، وأصبح رجل الدين موظفاً مدنياً لدى الحكومة.
كان لهذه النتائج أسباب تضافرت على تحقيقها، منها:
أولاً: الفكر اللاديني (الذي طبع عصر التنوير):
ازدهرت مدارس كان بعضها ذا طابع علمي وبعضها ذا طابع اجتماعي وبعضها فلسفي هدام، وبدأت الفكرة الفلسفية القديمة - بإقامة مجتمع يرفض القيم والأخلاق الدينية - تتبلور.
ثانياً: وقوف الكنيسة ضد مطالب الجماهير:
استفزت الكنيسة الجماهير إلى الحد الذي شجعهم على التخلي عن عقيدتهم، واعتناق أفكار الكتاب العلمانيين، وأصبح لزاماً على الكنيسة أن تسدد ديون قرون طويلة من الاستغلال البشع والطغيان الجائر.
ثالثاً: القوى الشيطانية الخفية:
يقول المؤلف: كان من الممكن أن تظل الجماهير الثائرة على الكنيسة وفية لدينها لولا أنه وجد عامل آخر قلب أهداف الثورة وحول خط سيرها، فعندما اندفعت الجماهير الهائجة لهدم "الباستيل"؛ رمز العبودية والاستبداد، لم تكن ترفع سوى شعار واحد هو الخبز، والخبز وحده.
ولُقنت الجماهير الثائرة شعارات أخرى لم تكن تعي أبعادها بشكل كامل، من هذه الشعارات: "الحرية والإخاء والمساواة"، وكان ثم شعار آخر هو: لتسقط الرجعية، ولم يكن يعني عند الذين صنعوه سوى الدين.
كان اليهود يرقبون الثورة وهي تندلع، مصممين على استغلالها في الإجهاز على الكنيسة والثأر منها ومن دينها وأخلاقها، وكانت أموال اليهود المرابين تمد الغوغاء الثائرين، وبهذا استطاع اليهود أن يتغلغلوا في منظمات الثورة وأن ينفثوا في الجماهير شعاراتهم التي رددتها الجماهير ببلاهة لا سيما شعار "الحرية والإخاء والمساواة"، والذي يعني عند اليهود تحطيم القيود الأخلاقية والتقاليد الموروثة التي تحول بينهم وبين إفساد الأمم وتدميرها، ويقصدون بالإخاء والمساواة كسر الحواجز النفسية والاجتماعية التي تحول بينهم وبين الانسلال إلى أجهزة الدولة وتنظيماتها وإذابة الفوارق الدينية بينهم وبين غيرهم كي تزول عنهم وصمة الاحتقار والمهانة.
وهكذا نجح اليهود في تحويل الثورة من ثورة على رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه.
كانت الثورة الفرنسية فاتحة عصر جديد في التاريخ الأوربي، وأمدت هذه الثورة الثورات الأخرى في تحقيق انهيار نظام الإقطاع وانهيار نفوذ الكنيسة، وكان من آثار ذلك أن حدث فراغ كبير في المعتقدات والقيم، فاستغله اليهود في تحطيم إنسانية الإنسان وتدمير قيمه …(12/247)
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
===========(12/248)
(12/249)
قراءة في كتاب العلمانية ( 3 )
صفاء الضوي العدوي
نظرية التطور:
جاءت هذه النظرية لتؤكد أن وصاية الكنيسة الفكرية على أوروبا انسحبت من الميدان وانتهى أمرها، وقد كان لهذه النظرية آثار مدمرة في الفكر والحياة، حيث استغل اليهود النظرية الداروينية لنشر الإلحاد والإباحية، كما استغلوا الثورة الصناعية للسيطرة على اقتصاد العالم، واستغلوا الديمقراطية في توجيه السياسة الدولية.
تلقى الإيمان المسيحي ضربات قاسية قبل أن تبصر نظرية دارون النور، فقد ثبت تهافت النظرية المسيحية عن الكون، وجاءت اتقادات سبينوزا وفولتير، فأحدثت هزة عنيفة، ثم الثورة الفرنسية، وما أصاب الكنيسة على يديها من نكبات، والنظريات العديدة التي مهدت لظهور المذهب العقلاني، والجمعيات السرية الهدامة وأفكارها الموبوءة، ومع كل ذلك بقيت المسيحية في عواطف الكثرة الكاثرة من الناس تساندها موروثات عميقة الجذور من القيم والمثل والتقاليد.
في عام 1859م نشر الباحث الإنجليزي تشارلز داروين كتابه (أصل الأنواع)، فأحدث ضجة لم يحدثها أي مؤلف في تاريخ أوربا قاطبة، وكان الغرض الذي قصد الكتاب الوصول إليه هو افتراض تطور الحياة في الكائنات العضوية من السهولة وعدم التعقيد إلى الدقة والتعقيد، وتدرجها من الأحط إلى الأعلى، وأن الفروق الخلقية داخل النوع الواحد تنتج أنواعاً جديدة مع مرور الأحقاب الطويلة، وخلص صاحب النظرية إلى أن أصل الكائنات العضوية ذات الملايين من الخلايا كائن حقير ذو خلية واحدة.
وحسب قانون الانتقاء وبقاء الأنسب" نمت الأنواع التي استطاعت التكيف مع البيئة الطبيعية ومصارعة الكوارث المفاجئة، وتدرجت في سلم الرقي، في حين هلكت الأنواع التي لم يحالفها الحظ في ذلك، ولم يكن فعل الطبيعة ذلك يجري على قاعدة منطقية مطردة، بل كانت تخبط خب عشواء.
هذا هو لب نظرية داروين بإيجاز، وقد وصفها العلماء بأنها مجرد فرضية بيولوجية أبعد شيء عن أن تكون نظرية فلسفية عامة، أو حقيقة علمية ثابتة.
وقد حكم اثنان من علماء الأحياء في القرن الماضي هما " أوين" في إنجلترا، و "أجاسيز" في أمريكا على تلك النظرية بأنها مجرد خرافة علمية، وأنها سوف تنسى بسرعة.
كما انتقدها العالم الفلكي الشهير "هرشل" بل وسائر أساتذة الجامعات.
لم يكن دارون يقصد بنظريته تلك الإيحاءات الفلسفية والتفسيرات المنبثقة عنها، أو التطبيقات التعسفية لها، لكن أعداء الدين هم الذين تلقفوا النظرية وصنعوا منها ذلك الضجيج الهائل والذي يدندن حول كون الدين خرافة يجب أن ينبذ من الحياة، هكذا أراد اليهود.
لقد قامت نظرية التطور على أصلين كل منهما مستقل عن الآخر وهما: أن المخلوقات الحية وجدت على الأرض في مراحل تاريخية متدرجة، ولم توجد دفعة واحدة.
الثاني: أن هذه المخلوقات متسلسلة وراثياً نتج بعضها عن بعض بطريق التعاقب خلال عملية التطور الطويلة البطيئة.
والذي عملته الداروينية أنها دمجت بين الأصلين، وحاولت تأييد الأصل الثاني بشواهد الأصل الأول، وهو خلط علمي أوجد لبساً على بعض العلماء، وأضفى على النظرية نوعاً من" العلمية" مع أن هذه المسحة العلمية قد يصح أن تضفى على الأصل الأول، لكن إضفاءها على الأصل الثاني خطأ محض.
وعلى الرغم من أن الداروينيين أدخلوا تعديلات كثيرة على تلك النظرية، إلا أنها بقيت في نظر العلماء نظرية متهافتة، لا تملك البراهين على صحتها.
ويبقى السؤال الحائر حائراً: إذا كانت النظرية بهذه المثابة من الادعاء الفاقد للبرهان، وأنها أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة العلمية، فما السر في تشبث بعض علماء الغرب بها، وإصرارهم عليها إصراراً أعمى؟!.
ويجيب المؤلف: إنه الفصام النكد، والعداوة الشرسة التي قامت بين العلم والدين في ظروف غير طبيعية.
يقول السير آثر كيت في (مذهب النشوء والارتقاء): إن نظرية النشوء لا زالت حتى الآن بدون براهين، وستظل كذلك، والسبب الوحيد في أننا نؤمن بها، هو أن البديل الوحيد الممكن لها هو الإيمان بالخلق المباشر، وهذا غير وارد على الإطلاق. اهـ
والخلاصة أن هناك ممن يسمون" علماء" لا يزالون يعيشون بتلك العقلية التي كان يعيش بها بابوات الكنيسة، فرجال الكنيسة كان لسان حالهم يقول: حقيقة علمية، لكنها مرفوضة لأنها ضد معتقدات الكنيسة، وهؤلاء المتعصبون من العلماء يقول لسان حالهم: ليست حقيقة علمية لكنها مقبولة لأن البديل هو الإيمان أو معتقدات الكنيسة، وهو عندهم مرفوض.
إن الذي أعطى الداروينية هذا الحجم الكبير هو تضافر عاملين خارجيين عنها هما:
1 الظروف التاريخية السيئة.
2 الاستغلال البشع للنظرية من قبل القوى الخفية.
وفي هذه النقطة الأخيرة عرض المؤلف لبعض صور هذا الاستغلال، فأشار إلى ما قام به المرابون من اليهود بفضل المركز المالي الذي هيأته لهم الثورة الصناعية - من التمجيد الأسطوري لصاحب النظرية، وصناعة الشهرة له بما لم يظفر به أحد من خدام البشرية أمثال باستير وأديسون وفلمنغ.
ومن صوره كذلك ما قاموا به من تهييج الجماهير لاستقبال تلك النظرية، وحملهم على تلقيها بوصفها ديناً جديداً.(12/250)
والحملات الصحفية المكثفة للتشهير بأعداء النظرية، وتحيز الصحف لداروين ضد الكنيسة، فكان من الطبيعي حيال هذه الظروف أن عمت موجة طاغية من الإلحاد في المجتمعات الغربية، ثم انتقلت منها فيما بعد إلى بقاع العالم الآخر.
وها هو الفيلسوف اليهودي " نيتشه" يقوم بنعي الإيمان بالله فيقول: إن الإله قد مات، وإن الإنسان الأعلى"سوبرمان" ينبغي أن يحل محله، ومن هنا قرنته البروتوكولات بداروين وماركس، وعلى خطاهم جاء في القرن العشرين جوليان هكسلي، الذي ألف كتابه (الإنسان في العالم الحديث)، وزعم فيه أن الإنسان اختلق فكرة الله إبان عصور عجزه وجهله، أما الآن فقد تعلم وسيطر على الطبيعة بنفسه، فلم يعد بحاجة إليه، فهو العابد والمعبود في آن واحد.
وكان من آثار الداروينية نفي فكرة الغاية والقصد، فقد تولد من التأثر بنظرية التطور فكرة المصادفة، وكان من المدهش أن يوجد ممن يسمون علماء من يعتقد أن الكون بدقته المذهلة وعظمته الهائلة وجد صدفة واعتباطاً ((ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار)).
وكان من آثار تلك الموجة العاتية من الإلحاد أن تزعزعت قيمة الحياة في نظر الناس، واستبد بالكثيرين شعور يائس قانط، وسيطر الإحساس بالضياع، وترك هذا الشعور آثاره على الأدب الأوروبي في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى بصفة خاصة.
وكان من آثارها أيضاً ذلك الإيحاء القوي بحيوانية الإنسان، وفقدانه الشعور بكرامته ومركزه في الوجود، كما كان من آثارها الإيحاء بمادية الإنسان أي خضوعه للقوانين المادية فحسب، وهي الإيحاءات التي استمد منها أساطين النظرية الشيوعية أصولهم كاليهودي كارل ماركس الذي استمد من حيوانية الإنسان ما نادى به من مطالب الإنسان الرئيسية وهي (الغذاء والسكن والجنس)، ثم جاء اليهودي دور كايم الذي جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظرية العقل الجمعي، الذي تقول: إن الإنسان حيوان خاضع "لجبرية اجتماعية"، ثم جاء فرويد بنظرية التحليل النفسي، حيث استمد من حيوانية الإنسان من الولادة حتى الوفاة تفسيراً حيوانياً بشعاً، فهو يرى أن الدافع الجنسي هو دافعه الوحيد، فالمولود يرضع ثدي أمه بدافع جنسي، ويتبرز بدافع جنسي، ويظل يتعامل مع الآخرين بناء على هذا الدافع وحده. بل الدين والأخلاق والمثل العليا كلها نابعة من هذا الدافع.
وكان من آثار الداروينية كذلك شيوع فكرة التطور الحتمي المطلق في أوربا، وحسب الناس أن كل تغير وإن كان انتكاسة وانحطاطاً تطوراً مطلقاً، ونجد أن الشيوعية استمدت تفسيرها المادي للتاريخ من فكرة التطور الحتمي، وأن التطور في المجتمع الإنساني يستلزم تطور الإنسان في نظرته للدين، وتولى علماء الاجتماع والنفس والأخلاق وسائر ميادين المعرفة الإنسانية التركيز على قضية واحدة هي أن الدين مر بمراحل انتهت بفعل التطور - إلى نفي فكرة الدين من أساسها.
الباب الثالث: العلمانية في الحياة الأوربية
علمانية الحكم: على الرغم من إقصاء الشريعة المسيحية عن واقع الحياة، فقد كان لها بعض التأثير في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك في جوانب من السلوك الشخصي للحكام المسيحيين، وكان للكنيسة آراؤها السياسية مع أنها لم تكن تعبر عن أحكام الدين كما أنزل من عند الله، بل كانت نظريتها أشبه بالنظريات الخيالية التي تتحدث عن مدن فاضلة وهمية، كجمهورية أفلاطون، وهي نظريات لا تجعل الدين هو المنهج الذي تقوم عليه الحياة، والأساس الذي تنبثق منه التصورات والقيم، بل إن الانسجام العقلي والمصلحة الدنيوية المجردة كافية لإقامة المجتمع الفاضل في نظر أصحاب هذه النظريات.
ومن هذه النظريات نظرية العقد الاجتماعي، وأصلها فلسفة" أرسطو" التي تقول إن الإنسان حيوان اجتماعي وكان" هوبز" يرى أن الإنسان متوحش على أخيه الإنسان بطبعه، فاحتاج الناس إلى ترويض هذه الطبيعة بعقد اجتماعي ملزم، يضمن سلامة الجميع، وهذا العقد هو الدولة أو الحكومة، ثم توالت الإضافات والتعديلات على هذه النظرية على يد "جون لوك"، ومن بعده" جان جاك روسو" ثم أوحت هذه النظرية بفكرة" الوطنية أو القومية".
وكان من هذه النظريات كذلك نظرية الحق الإلهي التي كانت سائدة قبل الإسلام، وخلاصتها أن الملوك كانوا يستعبدون الناس زاعمين أن لهم سلامة عرقية خاصة أسمى من العنصر البشري، وغلا بعض الطواغيت فادعى أنه إله، أو من نسل الآلهة كما فعل أباطرة الروم، فلما جاء الإسلام نسف هذه الفكرة، ورد العبودية كلها لله وحده، وظهر فلاسفة يؤيدون نظرية الحق الإلهي، أمثال "هوبز" وجروتس.
وفي القرن التاسع عشر تطورت هذه الفكرة على يد هيجل الذي وصل بين العقائد المسيحية وبين النظريات الفلسفية المجردة، فتحول الدين على أيديهم إلى فكر ومنطق، فتحول "الله" إلى مطلق، والوحي إلى معرفة مطلقة، والمسيح إلى توسط، والشريعة إلى قانون مجرد، ولعل هذه النظريات ساعدت على تكريس الطغيان، واستمرار إذلال الشعوب بمنح الحكام تلك الصفة التي شجعتهم على التسلط والظلم بدعوى أن الدين يحبذ الطغيان.
النظريات الحديثة والمعاصرة:(12/251)
رأى هؤلاء العلميين الجاهلين أن الدين هو العدو اللدود للباحثين، وحصروا مفهومه في أنه عاطفة وجدانية أو روحية تصل قلب الإنسان في فترات من حياته بالسماء ولا ينبغي إقحام الدين فيما لا علاقة له به وهو واقع الحياة اليومية.
فعلى الرغم من كثرة النظريات السياسية، كان الكتاب السياسيون يشعرون بأزمة وهم يحاولون معرفة القانون الأمثل الذي يجب أن يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وكان الكتاب قد تخلصوا من" أحلام الرومانتيكية" واتجهوا إلى" الواقعية".
ووجد علم السياسة بغيته المنشودة في "نيقولا ميكافيللي" صاحب كتاب الأمير، الذي يعد مصدر الإلهام للحكام والمفكرين السياسيين.
كانت هذه النظرية تقوم على ثلاثة أسس متلازمة مستمدة من تصور لاديني صرف هي:
* الاعتقاد بأن الإنسان شرير بطبعه، وأن رغبته في الخير مصطنعة يفتعلها لتحقيق غرض نفعي بحت - فمن الطبيعي أن ينساق بلا حرج ولا لوم وراءها[1].
* الفصل التام بين السياسة وبين الدين والأخلاق.
* إن الغاية تبرر الوسيلة: وهذه هي القاعدة التي وضعها ميكافيللي بديلاً عن القواعد الدينية والأخلاقية.
* وكان ميكافيللي يرى أن الدولة غاية بذاتها وأن القبض على زمام الأمور هدف برأسه، وللوصول إلى ذلك الهدف لا مانع عنده من سلوك أي سبيل وإن تنافى مع كل القيم الدينية والأخلاقية.
* وعارضت الكنيسة بشدة تلك النظرية بسبب نزعتها اللاأخلاقية الجامحة، وحرمت قراءة كتاب الأمير، وظلت كلمة ميكافيللي وصفاً شنيعاً يطلق على المتحللين من الخلق والدين.
كانت السياسة قد ارتبطت بالاقتصاد ارتباطاً قوياً، فازدادت بعداً عن الدين، وشهدت الحياة الأوروبية انهيار الإقطاع وقيام الرأسمالية.
كان نظام الإقطاع يمثل صورة بشعة لإهدار كرامة الإنسان الذي كان مستعبَداً لسلطتين غاشمتين سلطة السادة الإقطاعيين وسلطة رجال الكنيسة.
وحل سلطان الحكومة محل سلطان الملوك، وسادت إرادة الشعب، وتلاشى ما كان يعرف بالحق الإلهي أمام ثورة الديمقراطية.
ومع ظهور الآلات ازدادت البطالة، وتعالت الصيحات من جديد ترفض هذا الواقع الفردي وتطالب بأنظمة جماعية ديمقراطية، وظهر بقوة صوت الاشتراكيين الأوائل، ومال إليهم طوائف من المثقفين والعمال والفلاحين وشكلوا جبهة مضادة للرأسماليين العتاة.
يقول المؤلف: وفي معمعة الصراع بين أنصار الديمقراطية الرأسمالية الفردية ودعاة الديمقراطية الاشتراكية الجماعية ولدت نظرية التطور التي غيرت مجرى الفكر الغربي بأجمعه، فأبعدت المسيحية الرسمية، وأفسحت المجال لإبعاد الدين عامة بصفة نهائية من التأثير في أي منحى من مناحي الحياة.
نظرة إلى الواقع المعاصر:
الواقع السياسي في أوربا واقع جاهلي لا يؤمن بالله - تعالى - ولا يحتكم إلى شريعته، ولهذا فإن سنن الله تؤكد أن هذه المجتمعات تنحدر إلى الهاوية، وتنتظرها كوارث مروعة.
ثم يعرض المؤلف الوجه الآخر لتلك الجاهلية المعاصرة كما يراه المفكرن السياسيون في الغرب.
ينظر الناس في الغرب إلى الديمقراطية على أنها منطقة مقدسة لا ينبغي أن تكون موضع نقاش، وذلك لأن البديل لها عندهم ليس سوى الدكتاتورية البغيضة.
وعلى الرغم من تمسكهم بالديمقراطية إلا أن الكتاب الديمقراطيين قد وجهوا لها عدة انتقادات، أولها:
1- ميوعة هذا الاصطلاح وصعوبة تحديده بدقة علمية: فبينما كانت الديمقراطية تعني حكم الأغلبية وتعني الحرية الشخصية، فقد أصبحت تعني أهداف الحزب السياسي الذي يمثل مصلحة الفقراء على أساس أن الفقراء هم الأغلبية، ثم أصبحت تمثل أهداف زعماء الحزب كما يقول أرنولد توينبي.
2 الأحزاب المتشاحنة التي لا تعبر عن إرادة الأمة: بين المؤلف أن الدول الديمقراطية يوجد بها نوعان من الأنظمة: نظام الحزبين كما في بريطانيا (المحافظين والعمال)، ونظام المجموعة كما في فرنسا وألمانيا، ثم أورد شرحاً ل" هارولد لاسكي" عن عيوب كل من هذين النظامين، فبين أن من عيوب الأول أنه لا يتلاءم مع انقسام الرأي بصورة فاعلة، وأن من عيوب الثاني اعتماد أسلوب المناورات أكثر من تحمل المسئولية، كما أنه يميل إلى تجميع السلطة حول الأشخاص أكثر من تجميعها حول المبادئ.
3 إيجاد طبقة ثرية مسيطرة" دكتاتورية" وهو عيب خطير ملازم للأنظمة الديمقراطية الغربية، فالدافع الوحيد والمحرك الرئيسي للعمل السياسي هو المصالح المادية، ولهذا استطاعت امبراطوريات المال في هذه الدول التحكم في السياسة الخارجية والداخلية مباشرة أو بطريق الضغط على السلطة الحاكمة، كما أنه يكون بإمكانها رعاية مصالحها وتحقيق أغراضها النفعية الخاصة.
4 تزييف وتطويع الرأي العام، وهذا العيب مرتبط بالعيب الذي قبله في بيان سيطرة الطبقة الثرية على وسائل الإعلام، وتمكنها من خلالها من تشكيل الرأي العام.
5 الفتور في تجاوب المواطنين مع العملية الانتخابية وبيان أن متوسط نسبة الناخبين الفعليين في الولايات المتحدة على سبيل المثال حوالي 60%، وهي نسبة لا تشير إلى رأي كامل الشعب، فيكون الحزب أو الفرد الفائز قد حصل على أغلبية أصوات المشتركين في الاقتراع لا على أغلبية الشعب.(12/252)
6 القضاء على الميزات الفردية: يعرض المؤلف رأي" إليكسس كارل من كتابه (الإنسان ذلك المجهول) وهو ينتقد الديمقراطية لأنها ألغت الفروق الطبيعية بين الأفراد وتوهمت أنهم متساوون في الحقوق، واعتبر ذلك من خطل الرأي، وأنه مبدأ خطير يساعد على انهيار الحضارة بمعارضته نمو الشخص الممتاز، وأنه من المستحيل الارتفاع بالطبقات الدنيا (الأغبياء من الناس)، فكان السبيل الوحيد لتحقيق المساواة بين الناس على اختلاف استعداداتهم العقلية هو الديمقراطية، أي الانخفاض بالجميع إلى المستوى الأدنى وهكذا اختفت الشخصية.
7 تعارض المصلحة الذاتية للفرد والجماعة: وضرب مثالاً على ذلك بمسألة رفع الأجور التي قد تحقق مصلحة للعمال من جهة، لكنها تفوتها من جهة أخرى لأنه يكون مصحوباً بارتفاع الأسعار.
ثم ذكر تلخيصاً لما لاحظه الكتاب الديمقراطيون من عيوب على الديمقراطية فكان منها:
1. الصراعات الدائمة بين الأحزاب المنقسمة على بعضها.
2. المنافسات الحمقاء بين المواطنين.
3. عدم وجود سياسة متجانسة لمدى طويل.
4. البطء الشديد في تقدم مستوى حياة الجماهير.
ثم أضاف المؤلف أن كل هذه الانتقادات لم تنفذ إلى لب المشكلة وأساسها المتمثل في التمرد على شريعة الله استكباراً وغروراً.
ثانياً: النظام الشيوعي:
بين المؤلف أن الأفكار الديمقراطية تولدت من رد الفعل لمساوئ الإقطاع، وعليه فإن أقرب تفسير للشيوعية أنها جاءت رد فعل لمساوئ الرأسمالية.
عرض المؤلف النظرية الشيوعية، فذكر من مبادئها: سيادة الطبقة العاملة، أو ما تسميه" دكتاتورية البروليتاريا" مقابل دكتاتورية الرأسماليين في الديمقراطية الليبرالية". والنظرية الشيوعية في نظر أصحابها عقيدة شمولية تشمل التصور العام للوجود، وتقدم الحلول والتفسيرات لكل نشاطات الحياة ومجالاتها العامة، وذلك يربطها جميعاً بالعامل الوحيد المؤثر في الحياة، وهو العامل الاقتصادي وبصفة خاصة" ملكية وسائل الإنتاج"، ومن هنا ينبغي النظر إلى الدولة الشيوعية على أنها وجه اقتصادي يشمل السلطة التشريعية والجهاز التنفيذي وتقع سلطته المطلقة في يد الحزب الشيوعي، الذي يعتقد أنه هو الشعب على الحقيقة.
إن الواقع المشاهد يقطع بأن أنظمة الحكم الشيوعية الديمقراطية الشعبية هي أبشع أنواع الأنظمة الاستبدادية في التاريخ، وأن ألوان الشيوعية المعاصرة هي في الواقع أشبه شيء بمعتقلات فسيحة زبانيتها أعضاء الحزب الشيوعي ونزلاؤها الشعب بكامله.
ثم استعرض أقوال بعض المفكرين البارزين في التجربة الشيوعية، واتفاقهم على أنها أذلت الشعوب وسحقتها، وكبتت الحريات، ووأدت الرأي الحر، وأن الذين عاشوا في الدول الشيوعية قضوا أعمارهم في بؤس وجوع وحرمان، وأن هذه الحقيقة قد أصبحت واضحة كالشمس في رابعة النهار، وأن الذين كانوا مخدوعين بالديمقراطية الشيوعية من أمثال" برتراند راسل" قد عرفوا الحقيقة في النهاية وبينوا مساوئ الحزب الشيوعي ومآسي الشعوب على يديه...
----------------------------------------
[1] - وكأن أبا الطيب المتنبي كان ميكافيلياً حين قال: والظلمُ من شِيَمِ النفوسِ وإن تجدْ ذا عفةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلمُ
رمضان 1423هـ - نوفمبر (تشرين الثاني) 2002 م
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
=============(12/253)
(12/254)
قراءة في كتاب العلمانية ( 4 )
صفاء الضوي العدوي
الفصل الثاني: علمانية الاقتصاد:
الاقتصاد عند الجاهلية الأوربية المعاصرة هو الإله الأكبر، فقد انتقل الأوروبي من العبودية لرجال الكنيسة أو النبلاء إلى العبودية للرأسمالية أو الحزب الشيوعي.
نظرية الكنيسة ونظام الإقطاع: أقرت الكنيسة نظام الإقطاع السائد بل أصبحت مؤسسة من مؤسساته الثابتة، وأقرت الاضطهاد الذي كان واقعاً على أرقاء الأرض لكنها وقفت من الربا موقفاً متشدداً محرمته ومحاربته، لم تكتب الكنيسة احترام الناس بسبب سلوكها الذاتي وطغيانها المالي الفظيع، ولهذا فشلت في وضع سياسة اقتصادية عادلة تستمد أصولها من الدين.
كان المجتمع الأوربي ينقسم إلى طبقات:
الطبقة العليا: طبقة السادة الملاك وطبقة رجال الكيسة وهاتان الطبقتان كانتا تعيشان في ترف، والطبقة الدنيا: (العبيد ورقيق الأرض وصغار القادة والزهاد من رجال الكنيسة).
ومما يجدر الإشارة إليه هنا أن السادة الملاك كانوا يفرضون على رقيق القلب من الواجبات ما يثقل كاهلهم فعليهم أن يدفعوا للسيد الضرائب والأجزاء من محصوله وماشيته ويعمل سخرة للسيد بالإضافة إلى أنواع من الغرامات في مناسبات كثيرة بل إن بعض هذه الواجبات كان فيها الكثير من طعن الشرف والاعتداء على الكرامة مثل أن للسيد حق الليلة الأولى أي أن له أن يقضي الليلة الأولى مع عروس رقيقه كما أن للسيد أن يرث تركة رقيقه بعد موته.
هذا هو نظام الإقطاع الذي قامت على أنقاضه الحياة اللادينية المعاصرة و مع كثرة مساوئ نظام الإقطاع فإن أعظم مساوئه في الحياة والفكر أمران: ارتباطه بالدين، من الناحية التاريخية كان النظام الإقطاعي في عنفوانه في الفترة نفسها التي كانت الكنيسة في عز نفوذها ثم كان انهيارهما معا فاستنتجت الجاهلية من ذلك معادلة خاطئة خلاصتها أن المجتمع الإقطاعي طبقي لأنة متدين، ولأنه بشع فلا بد أن يذهب ويستلزم ذلك نبذ الدين كلية أو على الأقل عزله عن التأثير في مجريات الأحداث وكانت الشيوعية أكثر انحرافاً وتطرفاً حين نسبت للدين دوراً إيجابياً في قواعد الظلم الإقطاعي.
2- المذاهب الاقتصادية اللادينية:
1 - المذهب الطبيعي: لما دبت الجفوة العميقة بين العلم والدين انفصلت النظريات الاقتصادية عن المثل والقيم الدينية، ووُلِد عندهم إله جديد وهو الطبيعة حيث حلت هذه الكلمة محل لفظ (الجلالة)، وارتفعت أصوات كثير من العلماء في سائر ميادين العلم والفلسفة يعلنون أن المجتمع (الطبيعي) هو المجتمع المثالي الذي يجب أن تؤوب إليه البشرية ففي الأخلاق ظهرت فكرة الأخلاق" الطبيعية".
ومع ظهور عدد من الكشوفات العلمية مثل كون الأرض ليست مركز العالم بل تدور حول الشمس، والكشف الذي اهتدى إليه هارتس بشأن الدورة الدموية ونظريات نيوتن عن الجاذبية والحركة، تساءل الناس: إذا كانت المصادر القديمة (آراء الكنيسة) أخطأت في نظرتها للعالم الطبيعي، فلا يبعد أن تكون كذلك مخطئة في نظراتها إلى السلوك البشري، من هنا أصبح كل شيء موضع التساؤل والشك، وأصبح البحث ينصب على تفسير النتائج والأسباب بالنسبة إلى السلوك البشري عن طريق قوانين الطبيعة بدلاً من البحث عنها في إرادة الله، أما أثر هذا المذهب على الاقتصاد خاصة فقد تأكد لدى كثير من الفلاسفة القناعة بأن تطبيق العقل على الأساليب التي يستخدمها الناس جدير بأن يكفل لهم الحياة المثالية أو (اليوتوبيا)، فتعددت وجهات نظر الفلاسفة الطبيعيين بشأن تنظيم المجتمع لا سيما من ناحية توزيع الثروة بطريقة عادلة، إلا أن الجامع بينهم كان (حرية العمل).
2 - المذهب الرأسمالي الكلاسيكي: وهو في حقيقته تطوير للمذهب الطبيعي، فلم يكن هذا المذهب أقرب إلى السماحة والاعتدال في معاملة الطبقة الفقيرة كما كان يتوقع، بل جاء هذا المذهب بنزعة لا أخلاقية، فلم يكن إلحاح الرأسماليين على حرية الفرد وحقه في العمل لمصلحة الفرد الذاتية، بل كان ذلك تأكيداً لحرية المحتكرين من أرباب المصانع والتجار والصيارفة وكان من أشهر الرأسماليين الكلاسيكيين (آدم سميث - ومالتس - وريكاردو)، إذ على أكتافهم نهض المذهب الفردي الرأسمالي، وهاك خلاصة لمذهب كل منهم:
آدم سميث (1790م)(12/255)
عرف آدم سميث بأنه فيلسوف الاستعمار وكاهن الرأسمالية وأبو الاقتصاد العصري، كما عدّ كتابه (ثروة الأمم) أهم المؤلفات الاقتصادية في زمنه وأبعدها أثرا، ويشرح ذلك روبرت داونز فيقول: إن نظرية سميث في كتابه المذكور نظرية ذات نزعة ميكافيللية، وهي أن العامل الأول في نشاط الإنسان هو الأنانية والمصلحة الشخصية، ومن مظاهر تلك المصلحة العمل على جمع الثروة، بل إن سميث يرى أنها صفات محمودة لا مرذولة، والغريب أن كتابه هذا قد حظي بشهرة واسعة على الرغم مما يتضمنه من روح غير أخلاقية تتمثل في مراعاة مصالح الرأسماليين وتشجيعهم على الجشع والقسوة، والإعراض عن معاناة الجموع الغفيرة من العمال والفلاحين، ولم يقتصر سميث وكتابه على إنجلترا ولا أوربا وحدها بل كان كتابه المذكور (إنجيلاً) للمستعمرين الذين انقضوا على بلدان العالم الضعيفة ينهبون خيراتها ويستعبدون شعوبها.
على أن سميث لم يسلم من معارضة بعض ذوي الميول الدينية أو الإنسانية، فقد قال عنه (رسكن): إنه الإسكتلندي الغبي الهجين الذي يدعو الناس عمداً إلى التجديف في الدين بقوله: عليك أن تكره الرب إلهك، وتعصي وصاياه، وتشتهي مال قريبك.
مالتس (1834):
كان مالتس صورة مبالغ فيها من سميث، فقد كان أسوأ منه، حيث دافع عن نظرية سميث، ووقف بحدة أمام نظرية متفائلة ظهرت في القرن الثامن عشر تتلخص في أن الطبيعة قد وفرت للإنسان لوازم السعادة، فما على الإنسان إلا أن يحسن توزيعها، فرد على أصحاب تلك النظرية المتفائلة بنظريته الشاذة التي اشتهرت فيما بعد، وخلاصتها أن تزايد السكان يحصل وفق متوالية هندسية (2- 4 8 16 32 -..)، وأما الموارد الغذائية في العالم فتنمو وفق متوالية عددية (2 4 6 8 10 -)، وعليه فإن الموارد لن تكون كافية للسكان بعد زمن، ولابد من حصول مجاعات تقضي على نسبة كبيرة من سكان البسيطة.
ولم يكتف مالتس بتأييده لنظرية سميث، بل زاد عليها بأن اعترض على قوانين الفقراء في إنجلترا، ورفض بشدة أي رحمة لهذه الطبقة المعدمة غير المنتجة، ومنع كل صور الإحسان أو الإعانات إلى تلك الأسر العاجزة عن تدبير وسائل معيشتها.
وبين المؤلف أن مثل هذا الجنوح اللا أخلاقي في نظريتي سميث ومالتس يشير إلى أن الفكر الأوروبي يميل إلى اعتناق مثل تلك النظريات الشاذة والأفكار اللا أخلاقية المتطرفة، على الرغم من وفرة الأفكار الأقرب إلى الاعتدال والموضوعية، وألمح إلى أن تلك الظاهرة قد تبدت لنا عند الكلام على الميكافيللية والماركسية والفرويدية، وأن ذلك يعود إلى مرض متأصل في النفسية الجاهلية أكثر من كونه نتيجة طبيعية للأوضاع الفكرية والاجتماعية غير الطبيعية.
ريكاردو:
يرى ريكاردو" اليهودي" أن مسئولية التفاوت الاجتماعي والأزمات الاقتصادية تنصب على ما أسماه" الريع" وليس على" الربح"
والريع هو المكسب الذي يحصل عليه مالك الأرض، أما الربح فهو مكسب الصناعي الرأسمالي، ويعلل ذلك معتمداً على نظرية سميث في إعطاء القيمة للعمل، بأن الريع ليس ثمناً للعمل، ولكنه ناتج عن امتلاك مورد طبيعي للثروة.
ويرى أن ملاك الأرض إذا تقاضوا أثماناً عالية لوسائل العيش فهم لا يستغلون العامل، ولكنهم يستغلون صاحب العمل الذي يضطر إلى أداء أجور عالية لعماله، بينما هو لا يستطيع أن يرفع من أثمان منتجاته لأنها تتحدد في سوق قوامها التنافس.
وكان من ثمرات نظريته أن أقنع الرأسماليون الحكومة الإنجليزية بإلغاء قوانين الغلال فأفسحت المجال لاستيرادها من الخارج، فهبطت أرباح الملاك الزراعيين، وانخفضت تكاليف الصناعة، فخفض الرأسماليون أجور العمال، ثم تمادى ريكاردو فطالب بتأميم الأراضي وفرض الضرائب الباهظة عليها.
الأثر العام للمذهب الكلاسيكي:
كانت المنفعة المادية وتحقيق أكبر ربح بأية وسيلة هي هدف المذهب الكلاسيكي وقانونه فقد جرد الاقتصاد من أي مؤثر أو صبغة دينية أو أخلاقية، فأنتج هذا المذهب مشكلتين خطرتين:
الأولى: قيام اقتصاد عالمي يجعل الربا والاحتكار عموده الفقري.
والثانية: تعريض الشعوب التي طبق عليها المذهب للجوع والبطالة والأزمات الخانقة، وقد صور الروائيون من الإنجليز ما كان عليه حال العمال من النساء والأطفال، وما كان عليه حال الملاجئ والفقراء - ولم تكن أمريكا بأحسن حالا من بريطانيا - ولم تدم للرأسماليين فرحتهم بهذا الاستغلال البشع للعمال الكادحين، فقد أضرمت هذه المعاهدة النار في القلوب وأججت ضدهم نار العداوة، فانبعثت الشرارة للفكر الاقتصادي الماركسي.
3 - المذهب الاقتصادي الشيوعي: بينما بالغ الرأسماليون في تطبيق المذهب الفردي تطرف الفكر الشيوعي في تطبيق المذهب الجماعي الذي لا يقيم للفرد وزنا إلا من جهة كونه مسمارا في الآلة الاجتماعية، وفي الحقيقة فإن الفكر الجماعي له جذوره القديمة التي تصل إلى أفلاطون في جمهوريته المشهورة.(12/256)
وكان من طليعة المفكرين الاشتراكيين في الغرب" روبرت أوين" و" سان سيمون"" وفورييه" إلا أنها كانت اشتراكية نظرية خيالية أما اشتراكية ماركس فهي الاشتراكية العلمية الوحيدة في التاريخ والتي ساندتها الفلسفة المثالية الألمانية" فلسفة هيجل" كما ساندتها نظرية دارون.
وهكذا تبلور المذهب الاشتراكي بعد عمليات من التلفيق والترقيع استخدمت فيها أشتات فكرية منوعة، وكانت أوضح البصمات على الشيوعية هو التراث اليهودي والنفسية اليهودية، وهو ما يتجلى في العبودية الخانعة للمال وتأليه المادة وكذلك في الحقد على البشرية وقيمها ومقدساتها. وأوضح المؤلف أن دراسة الاقتصاد الشيوعي بمعزل عن الفلسفة الشيوعية في إطارها العام ليس إخلالا بالموضوعية العلمية فحسب، بل هو ضرب من إضاعة الجهد فيما لا طائل تحته، فمؤلفات الإلحاد الشيوعي هي كتب اقتصادية شيوعية، كما أن الكتب الاقتصادية الشيوعية هي كتب إلحاد بالدرجة الأولى.
فالفكر البشري في النظرية الشيوعية هو انعكاس للواقع المادي - فالمادة هي الأساس ومنها ينبثق الفكر والمشاعر ومن هذه المشاعر الدين نفسه، وكان ذلك الإلحاد جريا مع المادية الجدلية وتطبيقا للتفسير الاقتصادي للتاريخ الذي قام على مبادئ نظرية كان من أهمها:
1 - حتمية الصراع بين المتناقضات وهو يعني بالنسبة للمجتمع البشري الصراع بين الطبقات وبين المصالح المادية المتعارضة وكان من أخطر المبادئ الفلسفية الشيوعية مبدأ حتمية الانتقال عبر مراحل وإنه لا إرادة للإنسان في الانتقال وإن هذا الانتقال يصحبه تغير حتمي في الأفكار والمعتقدات والسلوك فالدين في نظر الشيوعية أوهام وخيالات انعكست عن الوضع الاقتصادي...
شوال 1423هـ - ديسمبر (كانون الأول) 2002 م
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
============(12/257)
(12/258)
الإعلام الإسلامي في تركيا
رغم انتماء تركيا في العصر الحاضر إلى منظومة دول العالم الثالث إلا أنها شذت عنها أمور كثيرة ومنها الإعلام، فالإعلام في تركيا حر بكل معنى الكلمة ولا يحتاج الأمر ترخيصًا من وزارة إعلام أو إدارة مطبوعات لإصدار دورية (جريدة أو مجلة) أو إنشاء قناة إذاعية أو تلفزيونية هذا الانفتاح الإعلامي والذي لا يتجاوز عمره عشر سنوات أثمر العشرات من الصحف اليومية ومئات المجلات الدورية أما في جانب الإعلام المرئي والمسموع فيوجد الآن 1500 إذاعة ومعظمها محلي على نطاق موجه (إف. إم) وقليل جدًا منها إقليمي يغطي منطقة معينة، وبالنسبة للتلفاز فهناك 300 قناة تلفزيونية منها ثلاثون قناة فضائية تغطي كافة الأراضي التركية من خلال القمر الصناعي ترك سات إضافة إلى أجزاء من آسيا وأوروبا، أما الباقي فهي قنوات محلية البث في نطاق المدينة أو المنطقة.
هذا الانتشار الواسع لوسائل الإعلام في تركيا وبتنوع لا مثيل له في البلدان النامية بل حتى البلدان الأوربية والذي أشبه ما يكون بالإعلام الأمريكي من حيث التعدد والانتشار مع فارق وحيد أن اللغة التركية محصورة في مناطق محدودة من العالم وليست لغة دولية كالإنجليزية.
هذا التنوع في أدوات الإعلام، مع الكثرة الفاحشة جعل للإعلام سلطة فاعلة وحركة أساسية في المجتمع. يختلف الباحثون والمراقبون للشأن التركي في القوة الأولى التي تحكم البلد، فالبعض يقول إن القوة الأولى الجيش والإعلام القوة الثانية أما الفريق الآخر فيرى العكس، والحقيقة أن الإعلام في كل الأحوال هو الذي يحرك الجيش ويستفزه لضرب أي توجهات إسلامية ولو كانت محدودة ومحصورة، بل لا يعبأ أن يحرّض في كثير من الأحيان الجيش على التدخل المباشر والقيام بانقلاب عندما يرى العلمانيون أن التوجه الإسلامي قد يهددهم أو أن الصحوة الإسلامية بدأت ترفع الرأس وتتنسم الهواء الطليق، لا يريدون وجودًا قويًا مؤثرًا في البلد خلاف العلمانيين فكيف يقبلون ببروز إسلامي صاعد؟ يكاد يتفق المتابعون للشأن التركي أن سقوط حكومة التحالف الإسلامي / العلماني أسقطها الإعلام وبشكل أخص الصحافة اليومية العلمانية ذات النفوذ والانتشار الواسع.
(هناك مجموعتان إعلاميتان علمانيتان صباح، دغوان تسيطران على 35% من الدوريات وكانوا من أسباب إسقاط حكومة أربكان).
من غرائب الإعلام التركي وحريته، أن وجدت محطات تلفزيونية وإذاعية تقدم خدمات خاصة لأصحابها وتقوم بحماية مصالحهم الشخصية الاقتصادية، وأحيانًا بطريقة فجة، فهناك قناة تلفزيونية مهتمه بالدفاع عن كازينوهات القمار تسوق لها وتقعد لفوائدها وآثارها الاقتصادية على المنطقة المحلية وأنها مصدر دخل قوي للعملة الصعبة - خصوصًا من إسرائيل ـ بدلاً من الدراهم القليلة من السياح العرب المتخلفين.
من جانب آخر يعتبر الكثير من الصحف اليومية العلمانية أن من مقومات الصحافة العري والتفسخ فيندر أن يخلو عدد من هذه الصحف من صور نسائية عارية أو شبه عارية وبشكل متكرر ومقزز تشبها بالصحف الشعبية الإنجليزية (التابلويد) ولكن بنساء تركيات (مسلمات على الأغلب)، هذا الأمر لا يوجد ـ على حد علمنا ـ في أي بلد مسلم، ويلاحظ وجود دعم غير مباشر من الحكومات العلمانية للصحف اليومية كي تغض النظر عن الأخطاء وتركز جهودها فقط لتتبع الإسلاميين وأنشطتهم وإثارة العامة والجيش عليهم. [يحصل رئيس تحرير إحدى الصحف اليومية واسعة الانتشار على 000. 1000 دولار شهريًا من الحكومة رشوة مقنعة].
الإعلام الإسلامي في تركيا:
نظرًا للجهد الضخم والإرث التراكمي للدولة العلمانية ومؤسساتها في محاربة الإسلام من جذوره، فإن أي جهد لمقابلة هذا المد أو حتى التخفيف من دوره وأثره يصب في خانة الجهد الإسلامي باعتبار أن القائمين عليه من أهل القبلة وذوي نيات حسنة وإن خالفوا أحيانًا المنهج الإسلامي الصحيح.
قبل الحديث عن النشاط الإعلامي فإنه يجب معرفة الفئات النشطة وهي:
* الحركات الصوفية النقشبندية وهي ذات انتشار واسع في أوساط عامة الناس وبخاصة القرويون وهي ذات عمق تاريخي بعيد من أيام الخلافة العثمانية.
* حركة النورسيين وهي حركة إسلامية منظمة واسعة الانتشار تهتم كثيرًا بالتعليم يتبعها آلاف المدارس داخل تركيا وأيضًا خارج تركيا، تعتمد على نفسها كليًا في الإنفاق على نشاطها وهي صوفية في الكثير من توجهاتها.
* حزب الفضيلة (الرفاه سابقًا) وهو حزب سياسي بالدرجة الأولى ولكن له أنشطة متنوعة اقتصادية وتعليمية وثقافية وله حضور واسع، ويستفيد ـ في الانتخابات ـ من الجماعات الصوفية.
* تجمعات أخرى:
بخلاف الجماعات السابقة فإنه يوجد في تركيا تجمعات محلية محدودة متنوعة الاتجاهات بعضها سلفي وبعضها إصلاحي عام لكن أثرها محدود وانتشارها ضيق وأتباعها قلة.
رغم هامش الحرية الإعلامية الواسع فإن الإعلام الإسلامي تحت المجهر وسيف الدستور العلماني في وجه التحركات الإسلامية الإعلامية رغم تعقلها واتزانها وقصورها أيضًا في جانب ما تقدمه من مواد إسلامية.(12/259)
بمعنى آخر الحرية قاصرة إلى حد كبير على الإعلام العلماني ليقدم ما يشاء من انحلال وتفسخ وحتى تشويه الإسلام أم خلاف ذلك فالأصل التتبع والمحاكمة وحتى السجن للمخالفين.
إذن عند تقديم النشاط الإعلامي الإسلامي لابد من أخذ الاعتبار للعديد من العوامل المحلية ومنها:
* قسوة النظام العلماني.
* الحرية العرجاء.
* الإرث العلماني (الكمالي).
* انتشار التصوف.
* حداثة الحركة الإسلامية نسبيًا.
* حداثة التجربة الإعلامية الإسلامية.
* التنوع الواسع الانتشار الكثيف لوسائل الإعلام.
* قوة الجيش وهيمنته ودوره (حماية الدور العلماني).
بدايات الإعلام الإسلامي:
كانت فترة الستينات هي فترة ظهور الإعلام الإسلامي في صيغته البسيطة والضعيفة، كانت البداية جريدة أسبوعية ثم يومية (الاتحاد، 1966) ثم آسيا الجديدة الأسبوعية ثم الهلال التي استمرت طويلاً ثم توقفت كذلك صدرت هذا اليوم والصباح (التي تحولت إلى علمانية فيما بعد).
وكانت هذه الفترة تتميز عمومًا بضعف هذه المطبوعات وتقطع صدورها وتوقف أغلبها.
بعد ذلك ظهرت جريدة تركيا (عن جماعة حسين حلمي الصوفية). ثم في عام (1973) ظهرت جريدة الوطنية عن حزب الرفاه.
بدأ النشاط الإعلامي الإسلامي القوى والواسع الانتشار في الثمانينات وترسخت أقدامه في بداية التسعينات حيث كانت الأوضاع مهيئة بعد الانقلاب العسكري (1987) حيث استفاد الإسلاميون كما استفاد غيرهم من الديمقراطية المعقولة في ذلك الحين (عند أوزال) وكان ـ وما يزال ـ جل الجهود مركزًا على تقديم إعلام هادئ متزن يهادن العلمانية في كثير من الأحيان كي لا يضطر إلى المصادمة معهم، وذي توجهات إسلامية بحسب الجهة المصدرة.
الأنشطة الإعلامية الإسلامية:
يمتلك الإسلاميون بمختلف ميولهم وتوجهاتهم العديد من وسائل الإعلام فلهم خمس قنوات فضائية تلفزيونية إضافة إلى بعض القنوات المحلية والعشرات من الإذاعات المحلية. إضافة إلى بعض الصحف اليومية والعشرات من المجلات المتنوعة.
أبرز الأنشطة الإعلامية الإسلامية:
أولاً: الصحافة اليومية:
صحيفة الزمان: أوسع صحيفة إسلامية يومية، توزع ما يقارب 000. 300 نسخة تدعمها وكالة أنباء خاصة بها (جيهان)، تصدر عن جماعة النورسيين، تهادن الدولة ولا تتصادم مع العلمانيين، تتبع النهج التبليغي في الدعوة، تعتبر جريدة سياسية دعوية عامة.
صحيفة الوطنية: جريدة يومية سياسية دعوية لسان حال حزب الفضيلة (الرفاه سابقًا).
صحيفة تركيا: ذات توجه صوفي يسايرون العلمانيين.
صحيفة العقد:
ثانيًا: الدوريات الإسلامية:
هناك العديد من الدوريات الإسلامية (أكثر من 250) من صحف يومية وأسبوعية ومجلات أسبوعية وشهرية، أغلبها محلي مرتبط بأحزاب أو جماعات أو تجمعات إسلامية.
ثالثًا: القنوات الفضائية الإسلامية:
1 ـ قناة تركيا: أبرز قناة وأوسعها انتشارًا، تصدر عن جماعة صوفية نقشيندية (جماعة الإخلاص) ولديهم الكثير من النشاط الإعلامي (جريدة تركيا، وكالة أنباء إخلاص إضافة إلى 18 دورية ومجلة).
إضافة إلي النشاط الثقافي والتجاري، لديهم ولاء للدولة ويهادانون العلمانية تسمى قناة إسلامية لأنها تقدم بعض التوجيهات والنصائح الدينية، وموادها الإعلامية محتشمة وليست إباحية.
2 ـ قناة 7: ثاني أوسع قناة إسلامية فضائية انتشارًا.
3 ـ الرسالة: ذات توجه صوفي لكن لديهم قرآن وبرامج تعليمية، أحسن من قناة تركيا.
4 ـ سمان: تتبع النورسيين وهي قوية في الجانب التقني، موادها الإعلامية محافظة في الجملة لكن تفتقد للمواد التربوية الهادفة.
أبرز الأنشطة الإعلامية الإسلامية:
1 ـ صحيفة العقد:
أكبر جريدة يومية إسلامية مستقلة، غير مرتبطة بأحزاب أو جماعات، تتعاون مع جميع الاتجاهات الإسلامية، ذات هدف واضح ومحدد وهو كشف العلمانية والعلمانيين وإظهار عوراتهم وفضحهم أمام الناس بالأدلة والبراهين معتمدين على الجرأة في الطرح والثقة بالنفس مع الاستعانة بالخبراء القانونيين لعدم الوقوع فيما يصادم القوانين ويعرض الصحيفة للتوقف أو القائمين عليها للسجن. منهجها ـ كما يوضحه مصطفي أوغلو الناشر ورئيس التحرير «أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين».
تأسست الجريدة قبل خمس سنوات بأهداف محددة وبإمكانات محدودة تطورًا من مجلة الجمعة الشهرية ثم الأسبوعية لاحقًا والتي أدت دورًا جيدًا في الجانب السياسي والدعوي الإسلامي حتى وصل توزيعها إلى 000. 35 نسخة أسبوعيًا. ثم انخفض بعد إصدار الجريدة التي أدت دورًا أكبر وأشمل.
توزع الجريدة الآن 000. 120 نسخة يوميًا، وهو معدل مرتفع مقارنة بأوسع الصحف العلمانية انتشارًا هي جريدة الحرية التي توزع 000. 500 نسخة من مجموع 5. 2 مليون نسخة توزيع كافة الجرائد اليومية.
يقول مصطفى أوغلو رئيس التحرير لدينا سلاح واحد وعدد قليل من الطلقات نحاول الاستفادة منها بأقصى ما يمكن دون أن نستجر لمعارك لم نخطط لها وغير قادرين على الانتصار فيها.
استقلالية الجريدة أعطى قبولاً واسعًا لدى طبقات الصحوة الإسلامية المثقفة سواء التي لها ارتباط بأحزاب أو جماعات أو المستقلين.(12/260)
رغم التحري الواسع في شأن ما تطرحه الجريدة من قضايا مع الاستعانة بالجهات القانونية إلا أنها لم تسلم من المواجهات مع الجهات العلمانية حتى وصل عدد القضايا التي رفعت ضدها في المحاكم إلى 1000 قضية منها ما خرجت منها بالبراءة ومنها ما حكم عليها بالغرامات المالية...
تعتمد الجريدة على نفسها في تغطية مصاريفها سواء من المبيعات أو الإعلانات رغم محدوديتها وامتناع أغنياء المسلمين عن الإعلان فيها (مجموعة أوكلر) خوفًا من متابعات الدولة بدعوى دعم هذه الجريدة الإسلامية.
أغلب مواد الجريدة معالجات محلية لقضايا ذات ارتباط بالجانب الإسلامي (الحجاب مثلاً) فضلاً عن متابعات سياسية دولية مع اهتمام بالشأن الإسلامي لها، تقل المواد الترفيهية وتكاد تقتصر على صفحة رياضية ذات جذب إعلاني وعدد صفحات الجريدة 20 منها 4 ملونة.
2 ـ قناة 7:
ثاني أوسع قناة إسلامية فضائية انتشارًا، تأسست عام 1994، لسان حال حزب الفضيلة (الرفاه سابقًا) تتميز بالاعتدال والموضوعية.
تركز على الأخبار والتحليلات والمقابلات السياسية، وتعطي هامشًا للمناورة مع الجهات المعادية وطرحها السياسي والفكري قوي وفعال وتستضيف الكثير من الشخصيات سواء الإسلامية أو أحيانًا العلمانية أو رموز الدولة لإحراجهم ولها قبول واسع لدى المثقفين بشكل خاص، ونشرتها الإخبارية الرئيسية اليومية قوية جدًا.
أهداف القناة تنحصر في تقديم خدمات إعلامية عامة تخلو من الابتذال والانحلال والتشويه للفكرة الإسلامية.
تقدم مجموعة من المواد الإعلامية العادية من مسلسلات وأفلام رياضية ومنوعات تخلو من المفاسد كما تستفيد أحيانًا من الإنتاج الإيراني.
هناك القليل من البرامج التربوية والاجتماعية الهادفة وتقدم القرآن وبعض البرامج الفقهية.
تحاول أن تعطي الفرصة للمجتمع التركي للإطلاع على مواد إعلامية محافظة بعيدة عن قنوات التفسخ والانحلال الأخرى والقناة ليست إسلامية بالمعنى الحرفي الخاص، لأن النظام العلماني مشهرًا سيفه تجاه أي توجه إسلامي قوي وبارز خصوصًا الإعلامي منه.
والقناة تلتزم بضوابط الهيئة العليا للإذاعة والتلفيزيون والتي تشرف على البث وهي مكونة من أعضاء من الحكومة والبرلمان وبعض الإعلاميين والمختصين وغالبيتها من العلمانيين وهي تقوم بمراقبة البث بما لا يصادم دستور البلاد (العلماني) ويراعي حاجات المجتمع (بزعمهم) كالرياضة والموسيقى والأفلام وغيرها وهي تؤكد متابعتها للقنوات الإسلامية، وتقوم بمحاسبتها بناء على المعطيات العلمانية.
كذلك تعالج بعض قضايا الناس اليومية واهتماماتهم الآنية لكنها تفتقد الكثير من البرامج التربوية الهامة. هذا الضعف في التوجه الإسلامي يعزي إلى أمرين:
الأول: الرقابة والمتابعة الرسمية ومحاولة عدم التصادم مع النظام العلماني المسيطر [أغلقت إحدى القنوات التلفزيونية لمدة شهر لأنها شرحت حديث دخول المرأة النار بسبب ترك الحجاب].
الثاني: طبيعة حزب الفضيلة (الرفاه سابقًا) وتكوينه المنهجي واعتماده التوجه السياسي في الغالب وضعف الجانب التربوي لديهم.
http://www.almuhayed.com المصدر:
============(12/261)
(12/262)
حقيقة العلمانيين العرب
مما يحير المرء في شأن معشر العلمانيين: جماعات الشغب الثقافي، والتفلت الأخلاقي في العالم العربي:
أن مشاغباتهم تأتي دائما في مغامرات من اللغو الذي لا طائل تحته، ويحاولون أن يصنعوا من أنفسهم أبطالا للحرية، من بطولات وهمية ليس من ورائها اختراع نافع ولا نقد بناء ولا كلمة حق أمام سلطان جائر ولا موقف شجاع ينصر فيه المظلوم من الظالم، فمن أين يريدون أن يصيروا أبطالا؟ لا أدري.
يقول محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي (وإنه لمما له دلالة خاصة في هذا الصدد أن تخلو الحضارة العربية الإسلامية مما يشبه تلك الملاحقات والمحاكمات التي تعرض لها العلماء، علماء الفلك والطبيعيات، في أوربا بسبب آرائهم العلمية، ويكفي التذكير بما تعرضت له مؤلفات كبلر من بتر ومنع من طرف لاهوتيي عصره بسبب تأييده لنظرية كوبرنيك الفلكية المبنية على القول بثبات الشمس ودوران الأرض حولها، عكس ما كان يعتقد قبل .. أما في الحضارة العربية الإسلامية فعلى الرغم من أن فكرة كروية الأرض ودورانها كانت شائعة كغيرها من الأفكار العلمية المماثلة فإنها لم تثر أية ردود فعل لا من طرف الفقهاء ولا من جانب الحكام) ص 345 مركز دراسات الوحدة.
وهذه ملحوظة مهمة جدا، وهي من الأدلة والبراهين القاطعة على أن صراع العلمانيين مع الشريعة الإسلامية في بلادنا العربية، ليس بسبب الجدل حول موقف الإسلام من التقدم الحضاري ولا العلوم العصرية النافعة، وهي العلوم التي تدور في فلك دراسة الطبيعة واكتشافها واختراع ما يفيد الإنسان، وتعتمد على المنهج التجريبي، لان الشريعة الإسلامية لا تفرض أي تعارض بين الدين وبين هذه العلوم النافعة ـ بعكس ما كانت الكنيسة تفعل في افتراضها هذا التعارض في أوربا قبل الثورة على سلطان الكنيسة ـ بل الشريعة الإسلامية تدعو إلى تلك العلوم وتحض عليها، وكلما كان العالم ملتزما بالإسلام كان أزكى عقلا فيها، وأعظم نفعا للناس.
ولهذا لا نكاد نجد أحدا في العالم العربي - مثلا ـ في مجال هذه العلوم النافعة نصب عداء للدين، والسبب ببساطة أنه لم ير في الإسلام ما يشكل عائقا أمامه البتة، وان وقع من أحد منهم مثل هذا العداء فانه بسبب انتماءاته السياسية أو الثقافية الأخرى لا بسبب الاكتشافات النافعة.
وإنما غالب المعادين للشريعة الإسلامية وللتيار الإسلامي في العالم العربي هم قلة من جماعة (تجار الكلام)، جل ما لديهم مجرد الكلام المستمر، الممل والمكرور، في الصحف في السخرية والاستهزاء بالدين وأحكام الشريعة والتباهي بأنهم أصحاب قلم يدافعون عن التقدم والعصرنة.
فإذا فتشت عن عصر نتهم وتقدميتهم وجدتها تدور حول الدفاع عن كاتب طعن في القرآن لا من أجل أنه اكتشف شيئا يحرم القرآن اكتشافه، بل لان المفكر الحر جدا!! الذي يدافعون عنه اكتشف فجأة أنه لم يرق له الإيمان بالبعث بعد الموت مثلا لأنه تربى وهو صغير في مدرسة أجنبية أو تلقى ثقافة ملحدة، فغرس في قلبه أن الأيمان بالغيبيات هو شيء سخيف لا يناسب الإنسان العصري.
كما تدور حول الدفاع عن حرية بيع كتب عن الجنس الرخيص، أو أفلام من هذا النوع، أو احترام رأي يدعو إلى اعتبار الرقص بين الجنسين اكتشاف عصري مذهل يعبر عن تقدم الدولة، ونحو ذلك من القضايا في هذا المستوى أو دونه، فلا جرم أن ينصبوا العداء للدين إذن.
وقد أهدروا أوقاتهم في اختلاق صراع مع الدين بلا فائدة، ويضيعون أوقاتنا معهم في قراءة ما يكتبون والرد عليهم خوفا على ضعفاء الأيمان من شبهاتهم.
أما الاكتشافات العلمية النافعة فلا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولا حتى يحسنون أن يضيفوا إليها شيئا مفيدا، أولا لان هذه ليست صنعتهم إذ لو كانت لهم صنعة مفيدة لحجزتهم عن مشكلة الفراغ التي جعلتهم من تجار الكلام.
وثانيا لأنهم انشغلوا بشيء آخر، انشغلوا بمعاداة دينهم متوهمين أنهم أبطال المعركة مع التخلف يقودون الشعب إلى النور والمستقبل، متخيلين أنهم سينقذون أمتنا من مثل قوى الظلام التي اضطهدت (جاليلو)00 مساكين!
قرأت لواحد منهم ذات مرة مقالا يبكي فيه على العلماء ـ كما زعمهم ـ الذين قتلوا لأنهم صرحوا بمعتقدا تهم في غابر التاريخ، وينادي من قلب يعتصر ألما لإنقاذ الأمة من اضطهاد العلماء والمفكرين، أتدرون أي علماء يقصد؟؟ مثل الحلاج والسهر وردي وابن عربي .. حفنة من الزنادقة والسحرة لم يحسنوا سوى الدعوة إلى الإلحاد، ويعدونهم طليعة التفكير الحر في التاريخ الإسلامي .. " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ".(12/263)
فقلت في نفسي لا تخف أيها المخترع الكبير المضطهد والبطل القومي!!! انك متى قررت أن تكون مثل العلماء من الخوارزمي إلي السموأل في علوم الجبر، وابن الهيثم في علوم البصريات، وكل من اشتغل بالنافع من علوم الطب والفلك والجغرافيا 00الخ فلن يمسك سوء، كما لم يمس أولئك سوء في تاريخ الإسلام كله، بل كانت الحضارة الإسلامية هي التي احتضنتهم ـ حتى غير المسلمين منهم ـ وهيئت لهم أجواء حرية البحث العلمي، لكن مصيبتنا معكم أنكم لا تحسنون سوى السخرية من الدين وحجاب المرأة ونحو ذلك وتعدون هذه علومكم الباهرة التي تخافون على أنفسكم من الاضطهاد بسبب اكتشافها؟؟
إنهم لا يزيدون على استنساخ التناقض الغربي نفسه الذي صفق لنجيب محفوظ لاكتشافه العظيم!! في رواية (أولاد حارتنا)، وصفق لنصر أبو زيد لاكتشافاته المذهلة في الاستهزاء باليوم الآخر!! وفعل مثل ذلك لسلمان رشدي، وسائر الأذناب، زاعما أنهم مفكرون أحرار، ثم هذا الغرب نفسه يقتل 6000 طفل عراقي كل شهر بسبب الحصار، ويسحق بدعمه للكيان الصهيوني شعبا بأكمله، وينفق على التسلح لإرهاب العالم آلاف المليارات، ويلقي بمليارات الأطنان من منتجاته الغذائية في المحيطات حفاظا على أسعارها، بينما تموت شعوب تحت الفقر والجوع والتخلف، ويدعي مع ذلك أنه العالم الحر المتحضر.
وخلاصة وصفهم أن الغرب أرادهم أحرارا عندما يطعنون في دينهم، وأرادهم عبيدا له في كل ما سوى ذلك، فكانوا كما أرادهم في كلا الأمرين، ثم يتفاخرون علينا متباهين أنهم أبطال الحرية!!
http: //www.islammessage.com المصدر:
=============(12/264)
(12/265)
تيار لا يتعلم من أخطائه
د . عادل الشدّي *
بين وقت وآخر تطفو على سطح المجتمع السعودي قضايا يسعى أصحابها إلى إحراز تقدم في الاتجاه الذي يريدون جرَّ المجتمع إليه؛ إلا أن عودة سريعة إلى الثوابت التي قام عليها بناء المجتمع تكفي لمعرفة الموقف الصحيح من هذه القضايا والمصير المتوقع لها.
وفي هذا السياق يمكن فهم الربط غير المنطقي بين منتدى اقتصادي يعقد في أكثر دول العالم عناية بالمحافظة على قيم الإسلام وثوابته، وبين نزع بعض المشاركات للحجاب الإسلامي، وخروجهن متبرجات يختلطن بالرجال على هذه الصورة مع تغطية إعلامية غير عادية تكاد تطغى أحياناً على المنتدى الذي دعيت المشاركات له في جدة.
إن الذي أمر المسلمات بالحجاب هو الله - تعالى-، وليس الحجاب عادة اجتماعية بل هو عبادة ألزم الله بها المؤمنات: (( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ...... الآية ))، والذي نهى عن التبرج وإبداء الزينة لغير المحارم هو الله - تعالى-، وليس تقاليد المجتمع قال تعالى: (( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى))، واختلاط النساء بالرجال على هذه الحالة التي سبق وصفها أمر ظاهر التحريم والبطلان؛ بل إن الله - تبارك وتعالى - أمر أطهر الأمة قلوباً وهم الصحابة إذا أرادوا سؤال أطهر المؤمنات قلوباً وهن زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ذلك من وراء حجاب؛ فقال تعالى: (( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ..... الآية)) ، وحين نرجع إلى البدهيات المسلَّم بها؛ فإننا نتساءل عن معنى الإسلام؟
أليس هو الاستسلام لله، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك؟ ألم يقل الله - تعالى-: (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)) فكيف يريد البعض من المجتمع أن يتقبل مخالفة ما قضى الله - عز وجل - به، وإباحة الاختيار حينئذ لمن شاءت الالتزام بالأمر ومن شاءت مخالفته؟
إن هذا البعض على قلته يمثل تياراً يتصف بالانتهازية، وخلط المفاهيم، والانتقائية، والتهويل، ومع ذلك فهو تيار لا يتعلم من أخطائه؛ فقد سبق له أن سجل تراجعاً كبيراً حين أقحم على أجندته قبل عقد ونصف تقريباً مسرحية قيادة المرأة للسيارات، وما تبعها من نزع للحجاب، وتصوير مرتب سلفاً، تم تسريبه إلى وسائل إعلامية في الخارج، لكن هذا الفعل أذكى مشاعر الغيرة الدينية؛ بل وكاد يؤثر على تلاحم المجتمع في فترة عصيبة، لولا الله ثم حكمة القيادة السياسية والدينية آنذاك في قصة لا تنسى قُدر لي حضور أحد أهم فصولها في اللقاء الحاشد الذي عقد في مقر الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ (عبد العزيز بن باز) - رحمه الله-.
واليوم يتكرر الخطأ بانتهازية تختار أوقات الشدائد والأزمات (احتلال العراق للكويت، وما تبعها من مجيء القوات الأجنبية للمنطقة في الحالة الأولى، والحملة المتواصلة خارجيّاً على السعودية لإلصاق التهم الباطلة بدعم الإرهاب ومناهجه، إضافة إلى أزمة التفجير ومحاولة ضرب الاستقرار داخليّاً، التي تقودها بعض التيارات المنحرفة فكريّاً في الحالة الثانية).
والسؤال هنا: لماذا لا ينشط دعاة تحرير المرأة على الطريقة الغربية إلا في أوقات الأزمات والشدائد؟ وسؤال آخر: أين دعواتهم المتكررة للوحدة الوطنية، واللحمة بين سائر شرائح المجتمع، والمحافظة على الاستقرار؟! وهي الدعوات التي أصموا آذاننا بها شهوراً متواصلة ثم خالفوا بفعلهم ما دعوا إليه بأقوالهم باستفزازهم لمشاعر الأغلبية ومصادمة الثوابت الدينية.
إن سلاح خلط المفاهيم واتهام المخالفين ليس حكراً على أهل الغلو والتكفير؛ بل وجدنا اليوم أهل الجفاء عن الدين والتفريط في ثوابته يحملون ذلك السلاح، فإذا استنكر أحد نزع الحجاب وتبرج النساء، واختلاطهن بالرجال على هذه الحالة اتهموه بأنه ضد إعطاء المرأة حقوقها، وبأنه يدعو إلى مقاومة مسيرة الإصلاح والحوار التي بدأت تنشط مؤخراً؛ مع أن الثابت أن الإصلاح الحقيقي لا يتعارض مع الثوابت الدينية، وبأن مصدر الحقوق للمرأة وغيرها داخل المجتمع هو شرع الله وليس أهواء البشر.
وتظهر الانتقائية واضحة حين يتم فرز فتاوى العلماء واختيار بعضها وإطراح البعض الآخر، فبينما يتم التأييد للفتاوى التي تبين خطورة التكفير والتفسيق والتبديع وتحذر من التسرع في ذلك؛ يتم تجاهل فتاوى هؤلاء العلماء ذاتهم إذا كان الأمر يتعلق بتحريم التبرج، ونزع الحجاب، أو حتى قيادة المرأة للسيارة ( لما يترتب على هذا الفعل من المفاسد)، وهذا التناقض يهدد بنسف نظرية المرجعية الدينية في مجال الفتوى باعتبارها صمام الأمان للأمن الفكري لمجتمع يعاني من تياري الغلو والإفراط من جهة، والجفاء والتفريط من جهة أخرى.(12/266)
وأخيراً فإن من أساليب هذا التيار التهويل، ومحاولة عكس الصورة ليظهر للناظر غير المدقق أن شريحة كبيرة من المجتمع بل ومن المسؤولين فيه تؤيد طروحاتهم، وما يريدون للمرأة السعودية أن تظهر به بدليل إقحام هذا الظهور المتبرج غير المسبوق لبعض السعوديات على منتدى دولي يمثل المملكة العربية السعودية ويعقد على أرضها، ثم تبين أن الأمر على عكس ما حاولوا تصويره؛ فقد أصدر مفتي البلاد بياناً يبين إنكاره لهذا العمل وأدلة تحريمه الظاهرة من الكتاب والسنة، ويتألم لحصوله على أرض هذه البلاد المباركة، ثم دعمت الدولة هذا البيان بإذاعته في نشراتها الإخبارية؛ بل إن جمعاً كبيراً من رجال الأعمال عبّروا عن استنكارهم لما حصل، ودهشتهم لوقوعه دون تنسيق مسبق مما يعني اختطاف هذا المنتدى بعيداً عن أهدافه، كما حاول البعض اختطاف نتائج الحوار الوطني الثاني الذي عقد مؤخراً بمكة، وإظهاره بمظهر الداعي إلى تغيير المناهج الدينية في المدارس السعودية، وهو ما تبين لاحقاً عدم صحته!.
مرة أخرى لم يتعلم البعض من أخطائه لأن باب المرأة في المجتمع المسلم عصّي على اقتحام المستغربين، ولو أتيحت الفرصة للسواد الأعظم من النساء للتعبير عن رأيهن فيما حدث لعرف الجميع حقّاً أن المرأة المسلمة ثابتة على دينها، متمسكة بحجابها مع حصولها على أعلى الشهادات العلمية، وقدرتها على الحوار والدفاع عن حقوقها الشرعية.
(( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ))
___________________________
* كلية التربية - جامعة الملك سعود
http://www.islamtoday.net/a r ticles/show_a r ticles_content.cfm? catid=40&a r tid=3421 : بتصرف يسير
=============(12/267)
(12/268)
يا ( بني علمان ) ما قولكم في اليابان؟!
سليمان بن صالح الخراشي
عندما يقدر لك أن تقرأ كتابات ( بني علمان ) أو تتحاور معهم تجد أنهم متشبعون بالنظرة الغربية للدين، وبتاريخهم المعاصر؛ حيث الصراع بين الدين النصراني ( المحرف ) ممثلاً في الكنيسة والعلم المادي.. مما أدى بهم إلى تنحية الدين واستبداله ( بالعلمنة ) ... فهذه النظرة مسيطرة بشكل طاغ على ( بني علمان ) في البلاد الإسلامية، مما أدى بهم إلى المطالبة بعزل الإسلام عن شؤن الدنيا؛ لعلهم يصلوا إلى ما وصل إليه الغربيون!
فهم كما قال الأستاذ محمد قطب في كتابه ( التطور والثبات .. ، ص 266 ): ( اختفت الحملة الأولى والثانية وظهرت في الأفق دعوة جديدة، هي التي ما تزال قائمة حتى اليوم على يد أولئك "التلاميذ" المخلصين من "المسلمين!" إن أوروبا اليوم متقدمة، وهي ليست متدينة! لقد طرحت الدين جانباً فتقدمت وتحضرت ووصلت إلى القوة والسلطان! ونحن متدينون (!) وفي الوقت ذاته متأخرون! فينبغي أن نسلك الطريق القويم، ننبذ ديننا - كما فعلت أوروبا - فنتقدم ونتحضر ونصل إلى القوة والسلطان! وليس من الضروري أن نكفر ونلحد! إنما يجب أن نسارع إلى فصل الدين عن كل ما له علاقة بواقع المجتمع وواقع الحياة)!!
وفات هؤلاء المخذولين أن التقدم التقني المادي لا علاقة له بالأديان ولا بالثقافات ولا بالمجتمعات.. إنما هو كلأ مباح للجميع، من بذل أسبابه حصله وظفر به؛ كما قال تعالى: (( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً )).
وما التجربة الغربية إلا أنموذج واحد من النماذج التي ظفرت بالتفوق الدنيوي حاول ( بنو علمان ) تضخيمه والترويج له؛ لحاجة في نفوسهم!
وتناسوا أو تغافلوا عن نماذج كثيرة غير غربية متفوقة.. لم تمر بحالة ( الفصام النكد ) الذي مر به الغرب بين الدين والعلم.
ومن هذه النماذج البارعة: نموذج ( اليابان ) الذي لا يتحدث عنه ( بنو علمان ) كثيراً!! لأنه يهدم نظرتهم القاصرة؛ حيث استطاعت هذه البلاد أن تبز الآخرين بمن فيهم الغرب في مجال التقنية، مع محافظتها على ( ثقافتها ) في مواجهة الغزو الفكري الغربي - كما سيأتي إن شاء الله -.
وقد أحببت في هذا المقال أن أنقل آراء بعض المطلعين ( العقلاء ) ممن تأملوا أسباب تفوق اليابان وأخذوا منها العبر؛ لعلها تساهم في نقض النظرة التي رسخها ( بنو علمان ) في أذهان المسلمين سنين عدداً، بل حاولوا تطبيقها عملياً على أرض الواقع فباؤوا بالفشل، وخسروا دينهم ودنياهم، فلا هم الذين سلم لهم دينهم، ولا هم الذين الذين نافسوا الآخرين في تفوقهم.
أقوال العقلاء في اليابان:
يقول الدكتور نعمان السامرائي في كتابه ( في أعماق التجربة اليابانية ، ص 10 ): ( حين أتأمل في التجربة اليابانية أجدها تطرح أكثر من قضية؛ لعل على رأسها: أولاً : لقد أثبتت اليابان بالدليل العملي أنه يمكن انتهاج سبل ووسائل مستقلة للتقدم والتنمية، بعيداً عن الغرب ووسائله وقيمه ونظمه).
ويقول أيضًا ( ص 99 ): ( ربما كان الجانب المهم بالنسبة لنا من التجربة اليابانية هو ذلك التطور الواسع مع المحافظة على التقاليد).
ويقول أيضاً ( ص 16 ): ( إن التجربة اليابانية في التنمية والتقدم فذة ومثيرة، وهي تهمنا في الشرق الإسلامي أكثر من غيرنا، فقد سجلت نجاحاً باهراً دون أن تدير ظهرها للتراث والدين والنظام الاجتماعي، وقد حافظت وما زالت على الهوية واللغة، وهي تستخدم أصعب لغة في العالم، بحيث يزيد عدد الحروف والصور والرموز على ثلاثة آلاف!، وأن الإملاء الياباني يشكل معضلة من المعضلات، ومع كل ذلك ومع شح الموارد تقدمت ومازالت تتقدم، على حين يطالبنا البعض بالتخلي عن الدين والتراث والهوية مقابل " شيك " بالتقدم رصيده مجرد " حلم " ليس أكثر)!.
إلى أن يقول ( ص 17 ): ( إن التجربة الغربية في التنمية تجربة إنسانية واحدة ليس أكثر، ويمكن أن يقوم إلى جانبها تجارب ناجحة؛ كتجربة اليابان والصين، دون أن تكون تقليداً حرفياً..).
ويقول الإداري الاقتصادي حمدي أبو زيد: ( إن اليابان لم يرفض الإصلاحات بصورة كلية، ولكن عمل على تبنيها بصورة تتناسب مع احتياجات العصر الجديد والتقاليد اليابانية الاجتماعية الموروثة ). ( اليابان : دروس ونماذج ، ص 31).
ويعترف الأمير طلال بن عبدالعزيز في كتابه ( حوار حول العولمة .. ، ص 35 ): أن اليابان ( حافظت على هويتها الثقافية في الوقت الذي استطاعت فيه أن تتواءم مع النظام العالمي ).
ويقول بول كنيدي في كتابه الاستعداد للقرن الحادي والعشرين: ( تتمثل نقاط القوة اليابانية في التماسك الاجتماعي والعرقي، والشعور العميق بالهوية القومية والتفرد الثقافي وخضوع الرغبات الفردية لصالح الجماعة ). ( نقلاً عن عرض للكتاب في مجلة الجديد، العدد الأول 1994م ).(12/269)
ويقول الدكتور حسين شريف في كتابه ( التحدي الياباني ، ص 16 - 17 ): ( إن تجربة ميجي - نسبة للإمبراطور ميجي ايشن الذي أطاح بالحكم العسكري في اليابان عام 1868م - وما اتسمت به من خبرة متميزة في عملية التوفيق بين القديم والحديث قد نجحت في تحقيق الاستمرارية لعملية التكيف بالسرعة الملائمة مع الغرب مع الحفاظ في الوقت ذاته على هويتها وقوميتها ).
ويقول ( ص 17 ): ( أصبحت اليابان بفضل إصرارها وعزيمتها من أسرع دول العالم تطوراً بالرغم من قيامها أساساً على تقاليدها العريقة ).
ويقول ( ص 20 ): ( أما عن المقومات التي أدت إلى نجاح نهضة اليابان الحديثة فإنها ترجع في الأساس إلى المواءمة بين الأصالة والتحديث، وبالتوفيق بين التقاليد اليابانية القديمة ومتطلبات العصر الحديث ).
ويقول السفير المصري في اليابان عبدالفتاح شبانه في كتابه ( اليابان: العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص 7 ): ( حافظ المجتمع الياباني على تقاليده العريقة، وأخلاقياته الشرقية... ).
ويقول ( ص 9 ): ( يلعب الدين دوراً رئيساً في حياة الإنسان الياباني، ونظراً لاتباعه تعاليم ديانته بصدق وتنفيذها بأمانة حتى في عمله فقد تمكن المجتمع الياباني من تحقيق التفوق الاقتصادي على كافة دول العالم ).
وماذا عن المرأة اليابانية؟
يقول السفير المصري في اليابان عبدالفتاح شبانه: ( ما يزال المجتمع الياباني حتى اليوم يرى أن الهدف من التعليم بالنسبة للفتاة هو جعلها أكثر استعداداً للقيام بأعباء الحياة الزوجية ). ( مرجع سابق ، ص 21-22).
ويقول أيضاً ( ص 23): ( لم تحقق حركات تحرير المرأة تقدماً كبيراً في اليابان رغم الدعاية التي تمارسها هذه الحركات في وسائل الإعلام، ورغم القانون الذي وضعه المحتل الأمريكي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ).
يقول الدكتور نعمان السامرائي: ( لقد جرى استطلاع للرأي العام عام 1986م حول الأسرة، وقد تبين أن أكثر من 90% من اليابانيين ممن شاركوا في الاستطلاع قالوا: إن تدبير أمور المنزل ورعاية الأطفال هي المجال الأول للمرأة حتى وإن كانت تعمل ). ( ص 73 مرجع سابق ).
ويقول السفير الأمريكي " أدوين " في كتابه ( اليابانيون ص303 مترجم ): ( ومن الأسباب الأخرى التي تفسر عدم استجابة المرأة اليابانية بصورة أكبر لحركة التحرير النسائية أن هذه الحركة ببساطة لا تناسب أسلوب حياتها ومن ثم يكون الارتباط بهذه الحركة بمثابة فخ وقعت فيه المرأة اليابانية.. ).
كيف صنع الإنجاز الياباني؟
في حديث لمسؤول كبير في إحدى المؤسسات الأمريكية تعمل في مجال التقنية المتقدمة يقول: ( لقد هزمتنا اليابان في أي حقل يختارونه: في صناعة الراديوهات، التلفزيونات، والسيارات وغيرها من الصناعات، لقد تغلبوا علينا في جودة المنتجات والأسعار المنخفضة، والآن يتغلبون علينا في مجال الإبداع.. لا يوجد دفاع ضدهم، وفي القريب العاجل ستصبح الولايات المتحدة مصدراً للغذاء والمواد الخام لليابان ومستورداً لمنتجاتها الصناعية.. إن اليابان تدفع الولايات المتحدة بسرعة هائلة إلى مجموعة العالم الثالث).
( تبدأ القصة بعد الحرب العالمية الثانية حيث خرجت اليابان منها مهزومة محطمة، وكانت سياسة السلطات الأمريكية لليابان تهدف إلى إقالة اليابان من عثرتها وإعادة تكوينها لتصبح ضمن المعسكر الغربي، ولكن تلك السياسة لم تكن تهدف ولا تتصور أن ما تقدمه من مساعدة لليابان يمكن أن تخرج هذا العملاق مرة أخرى من قمقمه... فتساهلت الولايات المتحدة في نقل التقنية الأمريكية لليابان بل شجعت على ذلك وكانت شركة سوني شركة يابانية مغمورة وناشئة، ولكنها كانت طموحة وذات بصيرة نافذة، فتولت زمام المبادرة في بدء رحلة نقل التقنية الالكترونية لليابان، وكان ذلك عندما تمكنت من شراء رخصة تصنيع جهاز الترانزستور في اليابان من شركة بل الأمريكية مقابل 25000 دولار.
وكان هذا شأن الشركات اليابانية الأخرى التي استخدمت نفس الاستراتيجية التي تتمثل في شراء رخص التصنيع لمنتج أمريكي ما، ثم تعمل على تقليد التصميم وتنتجه بعد أن تضيف إليه تحسينات تجعله أكثر جودة وبتكاليف أقل، وأسعار أقل، واستمر اليابانيون يسلكون هذا الطريق لعدة عقود من الزمن دون أن يتنبه الأمريكيون لخطورة هذا الوضع، ولم يدركوا ذلك إلا مؤخراً عندما اشتدت المنافسة اليابانية للمنتجات الأمريكية والأوروبية، فأخذت حكومات تلك الدول والشركات الخاصة فيها تضع القيود والأنظمة التي تحد من نقل التقنية لليابان أو تمنعها إن كان ذلك في مقدروها، ولكن ذلك التنبه جاء بعد فوات الأوان، لأن اليابان كانت قد بلغت مرحلة النضج، وتجاوزت مرحلة التقليد والتبني إلى مرحلة الأبحاث الذاتية، والإبداعات الذاتية التي جعلتها مصدراً غنياً للتقنية، وفي مركز قوي يفرض حتمية تبادل التقنيات المختلفة مع تلك الدول.(12/270)
لقد استطاعت الشركات اليابانية وغيرها من المنظمات اليابانية خلال الفترة من عام 1951م وحتى مارس 1984م الدخول في عقود بلغت حوالي 42.000 عقداً لاستيراد التقنية لليابان من الخارج، وكانت تلك التقنيات تمثل خلاصة وأفضل ما توصلت إليه الدول المتقدمة، وكان للأسلوب الياباني في اختيار هذه التقنيات دور كبير في نجاح نقل التقنية. فاليابانيون لم يكونوا مهتمين بنقل أي نوع من التقنية، ولكنهم كانوا حريصون على اختيار الأفضل، وكان سبيلهم إلى ذلك يتمثل في إرسال موجات من المتخصصين اليابانيين لدراسة التقنية المرغوب نقلها بدقة وعمق فيحققون بذلك أكثر من هدف:
الأول :هو التعرف عن كثب على نوعية التقنية وخصائصها من مصادرها، وفي نفس الوقت يحاولون الحصول على ما يتعلق بها من رسومات وتصاميم ومعلومات.
أما الهدف الثاني: فإنه يتمثل في استغلال مرحلة الدراسة هذه للتحضير لمرحلة التحسينات التي سوف يضيفونها على المنتج قبل إعادة إنتاجه، وبالتالي مفاجأة المنتجين الأصليين في وقت قصير عادة بالتعديلات والتحسينات التي يضيفونها إلى المنتج فتجعله أكثر جودة وأقل سعراً، ويمهد لهم الطريق لتعزيز منافستهم، وكسب الأسواق بصورة اقتحامية مذهلة... لقد كانت الكمية الضخمة من الرخص التقنية المتنوعة من أهم الأسباب التي ساعدت اليابانيين على بناء قاعدتهم الصناعية المتطورة، ومن المذهل أن ما دفعته اليابان مقابل كل هذه العقود وعلى مدى هذه السنوات القليلة لم يتجاوز مبلغ 17 بليون دولار أمريكي، والذي يمثل جزءاً بسيطاً جداً من الميزانية السنوية للأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية!
لقد أثبت اليابانيون في هذا المجال مثل العديد من مجالات التنمية الأخرى بأنهم ذوو بصيرة نافذة، فقد كان أمامهم طريقان لتنمية وتطوير التقنية اليابانية: إما صنعها بأنفسهم أو شرائها من الخارج، وكان قرارهم حاسماً وهو اختيار البديل الثاني أي شراء التقنية، أما بالنسبة لبائعي التقنية فقد كانت النتيجة مدمرة، فالتقنية التي يبيعونها لليابانين تعود إلى أسواقهم في شكل أجود محدثة لهم كابوساً ومنافسة مزعجة، ولكن البائعين كانوا ينظرون إلى عملية البيع باعتبارها صفقة تجارية ومصدراً للدخل ولم يخطر في بالهم ما يمكن أن يحدثه ذلك من تطورات ومنافسة تهدد مصالحهم ومراكزهم، وهي الحقيقة التي لم يكتشفوها إلا مؤخراً مما أحدث لديهم رد فعل ليس في مواجهة اليابان فقط، ولكن كمبدأ عام في نقل التقنية لجميع الدول، وبدأت تبرز عبارات مثل "نحن نريد الآن أن نبيع حليباً أكثر من أن نبيع بقراً "!!
إنه واقع يجب إدراكه من قبل الدول النامية التي تطمع وتحلم في نقل التقنية من الدول المتقدمة، فقد تعلمت تلك الدول درساً قاسياً من تجربتها مع اليابان ولن تسمح بتكرارها، بل إن اليابان نفسها أخذت تعض أصابع الندم على ما قدمته من مساعدة تقنية لكوريا الجنوبية والصين الوطنية والتي لن تكررها مع أية دولة أخرى، وما على الدول النامية إلا البحث عن الطرق الكفيلة لإرساء قواعد التقنية فيها سواء عن طريق المجهودات الذاتية أو باتباع وسائل مبدعة تخترق بها التحصينات المفروضة على التقنية في الدول المتقدمة ). ( انتهى النقل من كتاب الأستاذ حمدي أبو زيد، مرجع سابق، ص 312- 315).
قلت: فتبن من كل ما سبق أن الدول ( كلها ) مهما كانت ديانتها وثقافتها تستطيع أن تصل إلى التفوق الدنيوي إذا ما بذلت أسبابه المادية، وتخلصت من معوقاته ( الداخلية والخارجية )، وما تجربة اليابان ( الوثنية ) عنا ببعيد، وقل مثل ذلك في غيرها: الصين، كوريا، نووي باكستان، ...الخ.
خاتمة:
وإذا كانت اليابان قد اعتزت بتراثها الوثني وثقافتها.. أفلا يليق بأصحاب الدين الصحيح، خاتم الأديان، أن يعتزوا بما فضلهم الله به على العالم؟؟ وألم يأن للمسلمين أن يتخلصوا من ( الأكذوبة الكبرى ) التي طيرها ( بنو علمان ) في كل مكان من ديارهم؟؟!
وبلادنا - بلاد التوحيد - خير مؤهل لنقض هذه الأكذوبة العلمانية على أرض الواقع، حيث لم تتورط بعد في تلك النظرة المغلوطة، فتجمع رغم أنوف الجميع بين الدين الصحيح والدنيا اللائقة( بنقل التقنية كما سبق )، وتحافظ على أصالتها وأخلاقها وكرامة رجالها ونسائها... فتكون خير قائد لبلاد المسلمين يهديهم إلى طريق العزة والقوة، أسأل الله الكريم أن يهدي حكام المسلمين إلى الاعتزاز بدينهم، وتحكيم شرع الله في بلادهم، ومجانبة ( بني علمان ) ممن يريدون لهم أن يكونوا مجرد ( تابع ذليل ) لأعداء الإسلام.
المصدر : http://www.saaid.net/Wa r athah/Alkha r ashy/m/9.htm
============(12/271)
(12/272)
العلمانية الانحلالية ومنظومة القيم الإسلامية
الهيثم زعفان
قضية الصراع القيمي بين العلمانية والإسلام هي في الأساس صراع عقدي بين حق وباطل، وبين منهج صالح وفاسد، وليست مجرد اختلافات إيديولوجية كما يحلو لبعضهم تسميتها.
فعملية الدفع بين العلمانية والإسلام عملية مستمرة؛ وبدهي أن يكون هناك منتصر، وحتمًا سيكون الإسلام بإذن الله. لكن حتى يمكن الوصول إلى هذه النقطة الفاصلة ينبغي معرفة الكيفية التي تمكنت بها العلمانية من اختراق منظومة القيم الإسلامية؛ فالعلمانيون اجتهدوا في نشر ثقافة الانحلال بين فئات المجتمع مستثمرين في ذلك كافة الوسائل المتاحة. ومعظم القائمين على هذه اللعبة الانحلالية يحرصون على التظاهر بتمسكهم بالقيم الإسلامية التي هي عندهم لا تخرج عن دائرة الأذكار القولية التي ليست لها أية ثمرة تكليفية في حياتهم العملية.
فهذا أحد كبار المخرجين السينمائيين الذي اكتشف قطاعاً عريضاً من ممثلات الإغراء العربيات وصنفت بعض أفلامه في فئات البورنو يقول في مذكراته: «أنا واحد من الناس المؤمنين بشكل خطير وتام، ولا أزال وسأظل متمسكًا بالقيم والتقاليد، وأنا حتى الآن إذا أردت السفر إلى الإسكندرية وقلت ذلك لابنتيّ، فإنهما تقولان لي: لا إله إلا الله، فأرد عليهما: محمد رسول الله، وأما مساء كل يوم، وقبل أن أنام أقرأ فاتحة الكتاب ثم أتشهد بالشهادتين...!»
هذا في وقت سيطرت فيه السينما على الساحة الإعلامية وكان لمخرجيها اليد الطولى في توجيه الثقافة الإنحلالية؛ فما هو الواقع في ظل التقنية الحديثة والسماوات المفتوحة؟
دعونا نبدأ القضية من جذورها.
? القيم الإسلامية:
المدقق للدراسات التي تتناول موضوع القيم الإسلامية يلحظ أنها في تحديدها لماهية المفهوم ضمت شمول الدين الإسلامي كله.. لذلك فمن الموضوعية التيقن بأن القيم الإسلامية هي الدين الإسلامي نفسه.
يقول اللواء دكتور فوزي طايل ـ عليه رحمة الله ـ «يلحظ الباحث أن فقهاء المسلمين لم يفردوا أبوابًا خاصة بالقيم؛ لأن القيم الإسلامية هي الدين ذاته؛ فهي الجامع للعقيدة والشريعة والأخلاق، والعبادات والمعاملات، ولمنهاج الحياة والمبادئ العامة للشريعة، وهي العُمُد التي يقام عليها المجتمع الإسلامي؛ فهي ثابتة ثبات مصادرها، وهي معيار الصواب والخطأ، بها يميز المؤمن الخبيث من الطيب، ويرجع إليها عند صنع القرارات واتخاذها.. وهي التي تحدث الاتصال الذي لا انفصام له بين ما هو دنيوي وما هو أخروي في كل مناحي الحياة»(1).
ومن هنا.. فإن أية محاولات لخلخلة منظومة القيم الإسلامية الثابتة، أو طرح مبادرات من هنا أو هناك لجعل تلك المنظومة قابلة لاستيعاب قيم مستمدة من معطيات العقل البشري والخبرات المجتمعية ذات المرجعيات الإلحادية والفاسدة.. كل ذلك يعد محاربة صريحة للدين الإسلامي، ومن ثَمَّ فإن التصدي لهذه المحاربة هو فرض عين على كل من يدرك معالم هذه المشكلة.
وأبرز الفيروسات النشطة في ساحة المعركة ما يطلق عليه تسترًا «العلمانية». فما هي العلمانية؟
العلمانية «تقابلها في اللغة الإنجليزية كلمة (secula r ism) وأصلها اللاتيني هو (saecula r ) ويعني «الدهر» (Age) أو العالم (wo r ld) أو الزمن (The time). والعلماني عكس الديني ويستخدم اصطلاحًا للإشارة إلى مدخل للحياة ينفصل تمامًا عن الدين ويتشكل كلية باهتمامات «زمنية دنيوية»(2).
وتوضح موسوعة العلوم السياسية أن «العلمانية على المستوى الشخصي (هي رفض الفرد أن تتشكل معاملاته السياسية بمصادر لا يكون لإرادته الحرة المباشرة دخل في تشكيلها وصياغتها. وعلى المستوى العام تعني العلمانية المذهب الذي يؤمن بضرورة إبعاد المؤسسات الدينية والمناصب الدينية عن ممارسة أي تأثير أو لعب أي دور في أي من مجالات الحياة العامة بما في ذلك التعليم والتشريع والإدارة وشؤون السياسة والحكم)(3).
ويذهب عدد من الباحثين إلى أن العلمانية تُعد موقفًا (يفترض أن تكون المعايير التي يخضع لها الإنسان في تعامله مع الإنسان وفي تنظيمه لشؤون حياته السياسية والاقتصادية والقانونية هي معايير مستمدة من الدنيا لا الدين»(4).
لاحظ بعض رموز العلمانية في عالمنا الإسلامي أن الإسلاميين فطنوا إلى حقيقة الدعوة العلمانية وواجهوها ونجحوا في صناعة رأي عام مضاد لهذه الدعوة.. فقام هؤلاء الفقهاء بطرق مبادرات ذات غطاء شتوي يستر أكثر مما يستره الغطاء الصيفي، ومن ثم يكون في عالمنا الإسلامي فريقان علمانيان يستخدمان سلاحاً مزدوجاً في ساحة المعركة.
أ - فريق رافض للتراث ومتجاوز له «شبلي شميل» «يعقوب صروف»، «فرح أنطون» الذي دعا إلى اعتماد العلم في كافة شؤون الحياة، و «سلامة موسى الذي لعب دورًا هامًا في مجال تقديم الرؤى العلمانية في الثقافة المصرية والعربية وكان من أبرز المؤثرين في أفكار ما يطلق عليهم لقب «النخبة»، أدونيس، محمود درويش، البياتي، جابر عصفور، وغيرهم.(12/273)
ب - فريق آخر يسعى لإعادة قراءة التراث وتأويله ومن أبرزهم «محمد أركون، حسين أحمد أمين، محمد عابد الجابري، حسن حنفي الذي يقول «الشريعة الإسلامية وضعية، والإسلام دين علماني في جوهره، والفقه متغير بتغير الحاجات والمصالح، فلِمَ الخوف من التشريع والجرأة فيه؟ هم رجال ونحن رجال ـ يقصد فقهاء الأمة ـ نتعلم منهم ولا نقتدي بهم»(5).
?القيم من وجهة نظر العلمانيين:
القيم عند العلمانيين تقوم على مبدأ «الحرية"فكل فرد تكفل له الحرية القيام بأي شيء يحقق أهدافه بغض النظر عن الاعتراضات على ما يقوم به من أفعال.
أما الجائز وغير الجائز فيتم تحديده من خلال مبدأ «نسبية القيم» وهذا المبدأ له عدة ركائز أو خصائص:
أولاً: النسبية المكانية للقيم: «لما كان لكل ثقافة معاييرها الخاصة بها فإن «المرغوب فيه"يختلف تبعًا لذلك من ثقافة إلى ثقافة، ومن ثم تختلف القيم من ثقافة إلى ثقافة»(6).
معلوم أن العلمانية تطرح لنا الثقافة الغربية بكل ما فيها من مضامين، ومن ثم فإن الحلال والحرام عندهم بمنظور الثقافة الغربية؛ بمعنى لا قيمه له. فما هو الواقع؟ الإجابة يقدمها د. إبراهيم الخولي الذي يقول: «المجتمع العلماني نفض يده من الالتزام بحلال أو حرام نفضًا كاملاً من نقطة البدء الأولى على مستوى النظم والشعوب السابق في كتابه (الانهيار): «نحن أصبحنا مجتمع إباحة الاستباحة، الفرد في الولايات المتحدة استباح كل شيء ولم يعد في قاموسه كلمة حرام أو محرم، بهذا لا تستقيم حضارة ولا تستمر. السفينة كلها تغرق ولا يملك أحد إنقاذها! وإنقاذها مرهون بالعودة إلى الدين والأخلاق!(7).
ثانيًا: النسبية الزمانية للقيم: «أي أنها تختلف وتتغير في المجتمع الواحد بما يطرأ على نظمه من تطور وتغير، وهي في تطورها وتغيرها تخضع للمناسبات الاجتماعية في التاريخ كما تخضع لظروف الوسط الثقافي الذي توجد فيه»(8).
إطلاق خاصية النسبية الزمانية بهذه الصورة يوضح سبب تقدير الاتجاه العلماني للنظرية الداروينية. كما أن الخاصية تمكن أصحاب هذا الاتجاه من وصف القيم الإسلامية بأنها غير صالحة لمواكبة التطورات؛ وعليه ـ كما يرون ـ فإن مدة صلاحيتها انتهت ويجب استبدالها بقيم جديدة صالحة لملابسات الحقبة.
ثالثاً: صلاحية القيم: «إن كل ما تصطلح الثقافة على أنه خير يخضع دائمًا في اختياره إلى مبلغ فائدته الاجتماعية لهذه الثقافة بالذات؛ فالقيم تكون صالحة أو فاسدة تبعًا لدرجة قدرتها أو عدم قدرتها على إشباع الحاجات الأساسية، البيولوجية والاجتماعية للناس في الثقافة المعينة»(9).
قول «ديوي وهمبر»: إن الخير والشر والمرغوب فيه أو غير مرغوب فيه، هو ما تقرر الثقافة (والثقافة وحدها هي الحكم) أنه كذلك فالحر والأخذ بالثأر، وقتل أسرى الحرب، واحتكار الأقلية لأرض والدكتاتورية، كل هذه أمور تكون مرغوبًا فيها وذات قيمة إذا قررت الثقافة ذلك. فالقيم إذن نسبية إلى طبيعة الإنسان كما تتضح هذه الطبيعة في فعله وتفاعله الاجتماعي الثقافي»(10).
وكما ذكر فإن الثقافة التي يدعو إليها العلمانيون عندنا هي ثقافة غربية انحلالية، ومن ثم وفي ضوء خاصية «صلاحية القيم «تكون تلك الثقافة هي الحكم على تصرفات الإنسان في عالمنا الإسلامي علاوة على ذلك فإنه كلما زادت انحلالية الثقافة اتسعت دائرة المرغوب، وهو في هذه الحالة انحلالي بطبعه وسائل العلمانيين ذات التأثير المباشر في اهتزاز منظومة القيم نجح الاستمرار الأجنبي في صناعة فئة «أطلق عليها «نخبوية"تتبوأ مناصب قيادية داخل المجتمعات الإسلامية عقولهم في الغرب وأصابعهم على أزرار صنع القرار، وفي ذات الوقت تم سحب النشاط رويدًا رويدًا من تحت أقدام العلماء والمخلصين للأمة الإسلامية.
يقول «جون ل. إسبوزيتو «في كتابه: (التهديد الإسلامي.. خرافة أم حقيقة): «تمثلت النتيجة الرئيسية للتحديث في ظهور نخب جديدة وتشعب مطرد في المجتمع المسلم، تلخص في نظمها التعليمية والقانونية. فالتعايش بين المدارس الدينية التقليدية والمدارس العلمانية الحديثة - ولكل منها منهجها ومعلموها وأوساطها الخاصة - قد أنتج طبقتين برؤيتين عالميتين متنافرتين: أقلية نخبوية حديثة غربية الهوى، وأغلبية أكثر محافظة ذات توجه إسلامي، كما أن العملية فتتت الأسس التقليدية لسلطة الزعماء الدينيين وقوتهم؛ بينما ارتفعت طبقة جديدة من النخب الحديثة المدربة إلى المواقع المهمة في الحكم والتعليم والقضاء، وهي مواقع كانت على الدوام ملكًا للعلماء (مشايخ الإسلام)(11).
? أساليب العلمانيين في الهدم:
وكان من أبرز المجالات التي تم التركيز عليها منذ بداية اللعبة «التعليم والإعلام"لما لهما من تأثير مباشر في صناعة وبرمجة أجيال جديدة تردد وتطبق عملياً العلمانية الانحلالية.
ففي مجال التعليم تم اتباع عدة خطوات مدروسة وطبقت بمنتهى الدقة ومنها:
- حصر التعليم الديني وحصاره مادياً ومعنويًّا، ولعل واقع الأزهر في مصر والزيتونة في تونس خير دليل على ما آل إليه التعليم الديني في عالمنا الإسلامي.(12/274)
- الابتعاث إلى الخارج.. والذي أدى إلى صناعة قادة جدد أثروا في مسار الأمة وفي صناعة الأجيال، ولنا في رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وطه حسين وغيرهم أبلغ الأمثلة على تاثير نظام البعثات في العقول.
- انتشار المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية «وقد نجح التعليم الأجنبي في اختراق جميع مؤسسات الدول من القمة إلى القاع: مرة بالفكر الذي لقنه دائرة واسعة من الناس، ومرة أخرى حين نجح في دعم مجموعة ممن تبناهم بعد تخرجهم وعمل على إبرازهم من خلال وسائل الإعلام؛ لأنه نجح في اختراق الفكر الذي يحكم حركة هذه المؤسسات؛ وذلك حين نجح في زلزلة معاني العقيدة الراسخة داخل المجتمع عن طريق طائفة رباها، ثم نجح في تسليط الضوء عليها والسعي في التمكين لها داخل المؤسسات»(12).
- تمييع المناهج العلمية: وذلك من خلال إدخال النظريات الباطلة وطمس الحقائق وتزييف المناهج واللعب في المناهج الإسلامية باسم التطوير (13).
- نشر الاختلاط بين الجنسين والذي أدى إلى اختلال قيمة الغيرة، وأدى إلى تطور أنماط العلاقة بين الشباب مع وضعهم في حالة إثارة مستمرة مع القضاء شبه التام على مصطلح «الأجنبي» بين الشباب داخل أسوار الجامعة وخارجها في أحيان كثيرة.
- أما عن مجال الإعلام فيتضح بصورة جلية أثر العلمانية المباشر فيه؛ وذلك لاتساع دائرته ووصوله لأطراف لم تلتحق بالتعليم، أو أنهت علاقتها بالتعليم ومناهجه والقائمين عليه.
والعلمانية استطاعت من خلال وسائل الإعلام المتعددة سواء المقروءة أو المسموعة أو المرئية الوصول إلى أبعد النقاط المحرمة وبث السموم المميتة، وكان من أبرز ما اعتمدت عليه مخاطبة غرائز الإنسان؛ لأنها أيسر الطرق في شرخ جدار المنظومة القيمية، وكان من أحدث ما استثمرته العلمانية الانحلالية «الدش"و «والأنترنت».
?العلمانية بين الدش والانترنت:
نجح الدش في جعل الكرة الأرضية قرية واحدة ينقل عبر قنواته كافة الأحداث العالمية في حينها من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال حتى الجنوب، ولا ينكر أحد أهمية ذلك.
لكن في الوقت ذاته هناك العشرات من القنوات الإباحية، وكذلك القنوات التي تعرض الأفلام غير المراقبة والأغاني المصورة المقززة والتي نجحت في نشر ثقافة الغربي وجعلها واقعًا ملموسًا وسط شرائح غيبت عنها الضوابط الشرعية التي في ضوئها يتم إنبات الثمرة التكليفية.
لعلاج موضوع الدش ذهب فريق من المجتمع الإسلامي بمنع الدش بصورة كلية مثلما فعل سكان أحد الأحياء في مدينة عربية؛ حيث اتفقوا على عدم تركيب أجهزة «الدش"فوق منازلهم، ودعم سكان هذا الحي تلك الاتفاقية بالتعاون مع مكاتب العقار الموجودة داخل الحي السكني بوضع شرط إضافي هو عدم تركيب دش بالمنزل المؤجر لأي ساكن جديد(14).
فريق آخر يرى الاستفادة من المواد الجادة في الدش مع تشفير القنوات غير المرغوبة من خلال التحكم الشخصي.
أما قضية الإنترنت فهي قضية معقدة وشائكة، فالنت سبب ونتيجة لانهزام القيم في الوقت ذاته. فهو نتيجة؛ لأن التعامل معه بالمنطق السفلي الجنسي جاء رد فعل لتفريغ محتوى القلب المتعامل مع الحاسوب مسبقًا من خلال المناخ العلماني مما جعله مهيأً للغوص في أعماق المواد الانحلالية الهائلة على شاشة النت.
كما أنه سب؛ لأنه مجال خصب للعلمانيين يخاطبون من خلاله قطاعاً عريضاً من الشباب، فيبثون له ما يصبون إليه من سموم.
قضية الإنترنت مشكلتها أنها تضم ثقافة جيلين.. جيل تعامل مع وسائل الإعلام من خلال المقروء والمسموع والمرئى ويتمثل في جيل «الآباء"وجيل قدمت له كافة الوسائل في جهاز واحد وهو «جيل الأبناء».
فجيل الآباء معظمه ليست لديه القابلية النفسية للقيام بدور المتعلم كي يستطيع التعامل مع الحاسوب؛ لكنه يحرص على تطوير أداء جيل الأبناء مع حرص الغالبية من الآباء على توفير جهاز حاسوب في بيته للأبناء، ويعملون على توفير جو من الهدوء لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة... لكن هناك فجوة هامة ينبغي التنبيه عليها.. الجيل الجديد نشأ في جو تتوغل فيه العلمانية الانحلالية في كافة ذرات الهواء الذي يتنفسونه، ومن ثم تم خلخلة المنظومة القيمية لدى معظم هذا الجيل... وفجأة جلس أمام جهاز بضغطة زر واحد فقط تظهر أمامه قائمة بأكثر من ألف موقع إباحي يدخل أيها شاء، وبضغطة أخرى على نفس الزر. وهذا العدد من المواقع المخصصة للمراهقين فقط دون الكبار كما أوضح ذلك تقرير لشركة (netvalue) الأمريكية في الوقت ذاته إذا دخل الأب على الابن بصورة مفاجئة يستطيع الابن بضغطة زر واحد أن يحول الشاشة من منظر خلاعي إلى شكل معقد يوضح خريطة الجينيوم البشري، فيشفق الأب على حجم المجهود الذي يبذله الابن في التحصيل العلمي.
الإشكالية السابقة يمكن ضبطها من خلال عدة إجراءات منها:
1 - العمل دوماً على توضيح مخاطر العروض الإباحية على عقيدة الأبناء.
2 - تيسير وتشجيع الزواج المبكر حتى ولو في مراحل التعليم.
3 - مراقبة الأبناء جيداً أثناء تعاملهم مع الحاسوب مع وضع الجهاز في مكان واضح لكافة أفراد الأسرة.(12/275)
4 - أن يقوم الآباء بتعلم كيفية عمل المسح التاريخي للمواقع التي دخلها الأبناء لمعرفة توجهاتهم وليستشعروا أن هناك مراقبة فعلية.
5 - هناك برامج ماحية للبرامج غير المرغوب فيها يمكن برمجتها على الحاسوب والتي تعرف باسم «(WEB BLOKE r ) يمكن من خلالها حجب المواقع السيئة بقدر الإمكان.
القضية الأخطر في مجال الإنترنت والتي جاءت عن كسر جدار الحياء بين الذكر والأنثى مع ضرب مصطلح «الشخص الأجنبي» في العمق من خلال دعاوى الاختلاط وحقوق المرأة وعملها، والتي بذل فيها العلمانيون مجهودات كبيرة حتى وصلوا لهذه النتيجة التي تعرف بـ «المحادثة"أو «الدردشة» أو بمعنى أدق «الشات"وهو عبارة عن فتى يتحدث مع فتاة لعدة ساعات من خلال الحاسوب باستخدام وسائل ثلاث: البرقيات المكتوبة، والاتصال الصوتي، والكاميرا الحية. وليتخيل المرء ما هو الحديث المتوقع لأجنبيين هُيئت لهما مثل هذه الظروف! بل الأصعب من ذلك هناك مجموعات من العلمانيين الانحلاليين أنشؤوا مواقع للدردشة الإباحية لا تستخدم إلا في المحادثات الجنسية فقط، ونسبة الإقبال العربي عليها عالية جداً، ويا ليت الأمر يتوقف عند ذلك، بل يمتد إلى المقابلات الخارجية ليتم تصديق الفعل الانحرافي عملياً، وهناك الكثير من القصص الواقعية لفتيات وقعن ضحايا هذا الشات، ولعل ذلك يفسر ما ذكره د. إبراهيم جوير الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود في جريدة الوطن السعودية: «أنه خلال السنوات العشر الماضية ارتفعت نسبة اللقطاء بشكل لافت للنظر بالسعودية؛ ففي زيارته الأولى لدور رعاية الأيتام قبل 12 سنة كان 75% من سكان الدار من الأيتام الذين فقدوا أحد الوالدين، أما عند زيارته الأخيرة للدور وجد أن 96% منهم من فئة اللقطاء(15).
إن برنامج الشات يوفر ملايين الدولارات في التعاملات اليومية والاتصالات الشخصية النافعة؛ لكن الفكر العلماني نجح في تحويله إلى مسار يؤدي إلى السقوط في الهاوية، وفي أفضل أحوال السقوط يحدث ما صار يعرف بـ «إدمان الشات"وعلى الرغم من ذلك فإن هذا البرنامج يمكنه لعب دور كبير في مجال الدعوة الإسلامية؛ فأحد الشبان الإسلاميين وفقه الله من خلال برنامج الشات إلى هداية خمسة آلآف كافر إلى دين الإسلام - بارك الله في هذا الشاب وكلل خطواته المستمرة بالنجاح.
نقول: لماذا لا يقوم كل متقن للحاسوب من المحتسبين ذوي العقيدة الصحيحة بتخصيص ساعة يومية يدعو فيها غير المسلمين إلى الإسلام؟
إلى أصحاب ما يعرف بمقاهي الإنترنت لماذا تتحملون ذنوب مستأجري أجهزتكم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه يقول: «أتدرون من الخاسر؟ قالوا: هو من باع آخرته بدنياه. قال: كلا؛ الخاسر هو من باع آخرته بدنيا غيره» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يمكن تحويل المقاهي القائمة وكذا استحداث ما يمكن أن نطلق عليه مراكز الدعوة بالحاسوب، وتكون مخصصة لخدمة الإسلام ولا يرتادها إلا صنفان:
الأول: شباب إسلاميون يدعون غير المسلمين إلى الإسلام.
الثاني: شباب يخدمون الإسلام بحثياً وعلمياً.
من الممكن تطبيق فكرة المراكز الدعوية السابقة من خلال الجمعيات الخيرية الإسلامية بأن يكون الشباب صحيحي العقيدة، وتكون وظيفتهم فقط دعوة غير المسلمين إلى الإسلام من خلال برنامج الشات مع الدخول لمواقع الدردشة العلمانية ومحاولة تصحيح مسار الفتيات والفتيان المغيبين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فوزي محمد طايل: كيف نفكر استراتيجيًّا، مركز الإعلام العربي، القاهرة 1997، ص 30 ـ 31.
(2) محمد محمود ربيع (محرر) وآخرون «موسوعة العلوم السياسية «جامعة الكويت، 298.
(3) المرجع السابق، ص 298.
(4) نشأت عبد الفتاح: اليوتوبيا والجحيم، المركز القبطي للدراسات الاجتماعية، ص 79.
(5) حسن حنفي، محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب، دار توبقال للنشر، المغرب، 1990، ص 43 ـ 45.
(6) فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية، مكتبة الأسرة، القاهرة 2003، ص 61.
(7) ندوة العلمانية والفن: الحلقة الثانية. مجلة البيان العدد 162.
(8) فوزي دياب، القيم والعادات الاجتماعية، مرجع سابق، ص 65.
(9) فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية، المرجع السابق، ص 68.
(10) المرجع السابق ص 68 نقلاً عن: Dewe Humbe صلى الله عليه وسلم The Develo pment of Human Behavio صلى الله عليه وسلم p. 713- 729
(11) جون ل. إسبوزيتو: التهديد الإسلامي.. خرافة أم حقيقة، ترجمة د. قاسم عبده قاسم، دار الشروق القاهرة، ط 2، 2002، ص 81.
(12) مهيمن عبد الجبار: التعليم الأجنبي.. مخاطر لا تنتهي، مجلة البيان، عدد 175، ربيع أول 1423هـ.
(13) للاستعلام حول علاقة العلمانية بالتعليم يمكن الرجوع إلى: عبد المنعم صبح أبو دنيا: العلمانية في التعليم أهدافها وآثارها ومقاومتها 2001م.
(14) جريدة الجزيرة الأحد 27 ذو الحجة 1419هـ.
(15) الوطن السعودية: السبت 1 شعبان 1424 هـ العدد 1093.
http://www.albayan-magazine المصدر:
==============(12/276)
(12/277)
الحجاب الحريري والعلمانية
د. عائض الردادي
الصورة التي نشاهدها كثيراً من مكاء وتصدية في ملاعب الكرة إذا دخل الفريق المنافس أو إذا خسر هجمة من هجماته هذه الصورة بدت بشكل أوضح في مقاعد البرلمان التركي عندما دخلت النائبة المنتخبة من الشعب مروة قاوقجي لأداء اليمين الدستورية والسبب أنها غطت رأسها بالحجاب الحريري لا الحديدي، ولو دخلت كما تدخل السابحات على الشواطئ لعد ذلك نهضة حضارية.
وهذا المشهد الذي تحول فيه الرجال ذوو الشنبات الطويلة من هدوء إلى صريخ وضرب على الطاولات وزعيق بسبب امرأة متسترة لو لم يكن مؤكداً لاعتبر ضرباً من ضروب الخيال, لأن المخالفة في البرلمانات المتقدمة تقابل بالحوار بموجب النظام حتى في إسرائيل الدولة العنصرية عندما تجرأت نائبة بكلام تجاوز الحدود قبل سنوات على رئيس الوزراء طلب من رئيس البرلمان أن يحميه من النائبة بموجب القانون ولم يصرخ أو يتحول البرلمان إلى ما يشبه فحيح الجماهير في الملاعب ضد الفريق المنافس.
ظاهرة اخذ القشور من حضارة الغرب والبعد عن العمق للأسف هي ما أخذه العالم الثالث كما يسميه الغربيون تأدباً والعالم المتخلف كما هي الحقيقة، فهذه الصورة التي حدثت في تركيا لا توجد في الغرب إلا في حالة وجدت في فرنسا وحكمت قانونياً ولكنها كما حصلت في تركيا حدثت في إحدى الدول العربية حين منعت الطالبات المنقبات من دخول الامتحانات في إحدى الجامعات وحرمت أخريات من تسلم الشهادات في إحدى الدول الإسلامية الآسيوية بسبب الحجاب الحريري الناعم.
فهل أصبحت مروة قاوقجي بطلة دخلت التاريخ من حيث أرادت أو لم ترد أو هل ستكون أول مسمار يدق في نعش العلمانية التركية التي ليس لها من العلمانية الأوروبية إلا الاسم؟ فمروة درست في الولايات المتحدة الحاسب الآلي ولم تمنع يوماً من دخول الجامعة بسبب الحجاب لأن العلمانية هناك تعني الحرية الشخصية، ولا تتدخل في أمور سطحية كأن يطلب من المرأة السفور ومن الرجل عدم وضع الطربوش على الرأس كما هو في تركيا.
وللأسف أن يصل الأمر بمروة أن تقول: إنها ستكافح مثلما كافح زنوج أمريكا حتى نالوا حقوقهم وتحرروا وإلا ماذا سيضر إن جاءت المسلمة محتشمة بل إن هذا الوقار هو الأولى من التفسخ وكشف العورات ولكن الكماليين (الذين يسترهم رجل مات منذ سبعين عاماً وما زال يحكم من قبره) بالغوا في عداوة الإسلام وحسبك في هذا أنهم لم يدققوا كما تفعل الدول قبل الانتخابات في أوراق المرشحين حتى إذا ما فازت مروة ودخلت البرلمان بحجابها الحريري بدأ الطعن في أهليتها ومن ذلك حملها جنسية أخرى، ولو لم تغط رأسها لهان موضوع الجنسية الأخرى ولم يعامل نواب حزب اليسار مثل ذلك.
الكماليون يجدّفون ضد التيار وكل ما لحقتهم مذلة من أوروبا زادوا في الإصرار على التمسح بأعتابها من أجل استلحاقهم بالاتحاد الأوروبي ولو عادوا لانتمائهم الإسلامي لعلت رؤوسهم فوق النجوم ولكن لعل وعسى أن يستفيدوا من عبر التاريخ الحي لا الميت وعسى أن يدرك عقلاء الأتراك الأمور قبل فوات الأوان.
http://www.suhuf.net.sa المصدر :
==============(12/278)
(12/279)
كيف تتعامل العلمانية مع الأوقاف الإسلامية ؟
همام عبد الملك الشامي
لقد كانت الأوقاف الإسلامية ومازالت دليلاً على حيوية الإسلام واستعصائه على التغييب والاندثار، فأموال الوقف هي التي تحافظ على استمرار الإسلام: رابطاً ومثَقِّفاً، ودافعاً، ومحرضاً على النهوض والتخلص من أسباب الجهل والضعف والركود.
إن المحن والبلايا والتحديات التي واجهها الإسلام كافية لتحييد - إن لم نقل استئصال - أشد المبادىء مراساً، وأعصاها على المقاومة. وقد كانت الأوقاف هي التي تغذي المؤسسات الإسلامية والمعاهد والمدارس التي تسهر على نشر المعرفة الإسلامية، كل ذلك في ظل الظروف الصعبة؛ من ظلم الحكام، وتسلط المستعمرين، وتواكل وتقاعس الجماهير، وضعف إحساسها بالمسؤولية.
وقد ظلت الأوقاف الإسلامية مستقلة عن تدخل الحكام، تدار من قبل هيئات أهلية، أو من علماء وأوصياء، عليهم رقابة أهلية، ويخضعون لنظام الحسبة الشرعية. ومع ما كان يكتنف هذا النظام من عيوب، بسبب الطمع البشري المفهوم؛ إلا إنه كان له الفضل في الإنفاق على العلماء ومدارسهم، إلى أن اعتراه الهرم بكثرة العيوب الطارئة، فلم يشعر المسلمون إلا والقوى الاستعمارية قد طوقتهم، وبدأت تقتطع من بلادهم ما تعيده إلى سيطرة الصليبية أو القومية المعادية للإسلام. ثم غزتهم في عقر دارهم، وفرضت عليهم ما لا يريدون، وبدأت بتجريدهم من عناصر القوة والحيوية.
وقد آذنت سلطة العلماء بالتراجع السريع حين بدأ سلاطين آل عثمان المتأخرون ما سمي بحركة إصلاح الدولة و"تحديثها"، فوضعوا حداً لسلطة المشيخة الإسلامية، وازداد هذا التراجع الذي أصبح مقنناً منذ عصر التنظيمات في عهد عبد المجيد ومن بعده.
على أن الحاكم الذي كان له أبعد الآثار في الحد من سلطة العلماء وهيبتهم في أي مجتمع مسلم في العصر الحديث هو محمد علي حاكم مصر. وتكمن أهمية محمد علي في هذا المجال في أن كل من جاؤوا بعده كانوا عيالاً على الطرق التي اتبعها، وكان قدوتهم الذي ساروا على أثره. صحيح أن محمد علي كان أمياً، ولكنه كان يتمتع بذكاء فطري ويعرف ما يريد، وقد حدد وجهته تحديداً حاسماً، واستعان على تحقيق غاياته في الحكم والتسلط بقناصل الدول الأوروبية يستخدمهم لأغراضه القريبة، ويستخدمونه لأغراضهم البعيدة.
وتمثلت طريقة محمد علي بمصادرة أموال الأوقاف جميعها، وتملكها من قبله وقبل أولاده وأحفاده، ومعاقبة من يعترض على أساليبه الخبيثة من العلماء بالقتل أو بالسجن والتشريد، كما فعل مع كثير ممن عضده منهم وناصره ضد المماليك، حيث قلب لهم ظهر المجن، وتركهم إما طعمة للتحسر والندم؛ وإما أفراداً مجردين من كل قوة وتأثير، ينتظرون ما يجود به عليهم من فتات لا يكاد يقوم بالأوَد. ونستطيع أن نقول: إن محمد علي هو أنجح من نفذ سياسة"تجفيف المنابع"التي يكثر الحديث عنها في هذه الأيام.
يقول الشيخ محمد عبده واصفاً ما فعله محمد علي في هذا المجال:"... نعم، أخذ ما كان للمساجد من الرزق، وأبدلها بشيء من النقد يسمى"فائض رزنامة"لا يساوي جزءاً من الألف من إيرادها، وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة. وقصارى أمره في الدين أنه كان يستميل بعض العلماء بالخلع أو إجلاسهم على الموائد، لينفي من يريد منهم إذا اقتضت الحال ذلك. وأفاضل العلماء كانوا عليه في سخط ماتوا عليه."[آثار محمد علي في مصر/مجلة المنار: المجلد 5/ج 5/ص 175].
وقد سار على هذه السنة في العلماء أولاده وأحفاده حكام مصر من بعده دون شذوذ. وعمل هذا العهد الطويل (1905-1952) الذي امتد قريباً من قرن ونصف على صناعة أجيال من طراز معين من العلماء، يمكن أن نصفه بأنه يعتمد اعتماداً كلياً في عيشه على ما تنفحه به هذه الدولة ذات الحكم العسكري المتغوِّل، وينفذ ما تريده الدولة باستكانة وخضوع غريب عن سلوك العلماء العاملين في التاريخ الإسلامي[1]. ولذلك حينما قام جمال عبد الناصر وجماعته بانقلابهم على الحكم الملكي، وغيروا في مصر ما غيروا؛ ساروا على سنة محمد علي في العلماء والمؤسسات الإسلامية، وتلقت هذه المؤسسات وهؤلاء العلماء ما جادت به ماكينة عبد الناصر الإعلامية بالإذعان - إن لم نقل بالقبول - ولم يشذ عن هذا الإذعان إلا القليل النادر الذي لا يكاد يحس به.
يتكرر هذا المثال في كل بلد مسلم تقريباً: في الشام، والعراق، والمغرب العربي، على اختلاف في الأساليب لا يؤثر في النتيجة، وهي العمل على تجريد العلماء من الهيبة والقوة، وليس جعلهم طبقة فاقدة التأثير فقط؛ بل ومنبوذة.(12/280)
يجب أن لا نفصل بين دور هؤلاء الحكام تجاه العلماء؛ وبين الظرف الذي وجدوا فيه، فقد ينزلق كثير من الدارسين إلى جدل عقيم وهو: هل كان هؤلاء الحكام المبدوؤون بسيء الذكر: محمد علي، من الحنكة والدهاء وخبث الطوية بالقدر الذي يجعلهم ينجحون في مسعاهم هذا في ضرب دور العلماء في المجتمعات الإسلامية، وفي الإجماع الذي لا يشذ عنه أحد؟ وهل كانت ظروف العلماء من السوء بالقدر الذي يستدعي هذا الإجماع من هؤلاء الحكام الساعين إلى إصلاح وتحديث مجتمعاتهم على تحجيم دورهم؟ أم أن هؤلاء الحكام كانوا مجرد خدم وعملاء ومنفذين لرغبات القوى الاستعمارية؟ وهنا يكثر الكلام في تعداد مزايا هذا الحاكم أو ذاك، وفي إخلاصه وتحرقه على السير برعاياه نحو النهوض، وذلك للرد على من يأتي بالأدلة على عمالة هؤلاء الحكام وخدمتهم للأجانب، فتضيع المسألة الجوهرية التي انطلق منها الجدل، ونتيه في بُنَيَّاتِ الطرق يميناً ويساراً. هذه هي أجواء الجدل الدائر بين فئتين تؤلفان المجتمعات الإسلامية:
فئة تدعو لتحديث المجتمع، واللحاق بالأمم القوية، والخروج من حالة الضعف والفوضى التي تعيشها هذه المجتمعات.
وفئة أخرى تدعو إلى الخروج من هذا الواقع، لكن ليس بأي ثمن، ولا بأي وسيلة، بل تطلب التريث والنظر حول مواطىء الأقدام، حتى لا ننتقل من واقع سيء إلى واقع أسوأ - كما هو شأننا اليوم. وفي خضم هذه المعركة نرى من يدافع عن أمثال محمد علي، وكمال أتاتورك، وجمال عبد الناصر، وبو رقيبة بدون تحفظ، ومن يخونهم بدون توقف، وأنهم ما كانوا ليفعلوا ما فعلوا إلا خدمة للأجانب.
ليس من شأني هنا أن أنزلق إلى مسألة التخوين والتوثيق والتزكية المطلقة، أو الإسقاط الكامل من الحساب؛ بل أريد أن أتتبع أسباب ما آل إليه حال العلماء والمشايخ في المجتمع، فالثابت أن محمد علي ومن بعده - بعد أن تمكنوا وهيمنوا - لم يكونوا يقيمون للعلماء أي اعتبار، ولم يتوانوا في العمل على تهميشهم وجعلهم أداة لحكمهم الظالم، وكونهم فعلوا ذلك بمفردهم أو بمساعدة الغرب وقناصله وجواسيسه خارج عن دائرة النقاش والاهتمام الآن. ولماذا فعلوا ذلك، وما نياتهم من ورائه مسألة أخرى أيضاً. كل الذي يعنينا هنا هو أن هذا الوضع المزري الشاذ الذي نرى علماء المسلمين فيه لم يكن ليكون لولا جهود الحكام وخططهم التي لم تهدأ ولا تهدأ في هذا السبيل.
هناك ملحوظة جانبية نرى أن الإشارة إليها مهمة، وهي أن هيمنة أنظمة الحكم على أوقاف المسلمين التي كانت تغذي الجهاز الذي يعمل على استمرارية إحساس المسلمين بالإسلام وإبقائه حياً في نفوس أهله كانت من نصيب الأوقاف التي تخص السواد الأعظم من المسلمين، وهم أهل السنة. أما أوقاف غيرهم في المجتمعات الإسلامية فلم تمس. انظر مثلاً أملاك الكنائس، لا يجرؤ أحد على مجرد الحديث عنها فضلاً عن المساس بها. وأمامنا مثال صارخ وهو لبنان، فقد تحول النصارى فيه - بسبب الدعم الاستعماري الخارجي، وغفلة المسلمين - من طائفة فقيرة كانت تعمل في خدمة إقطاعيي الدروز وأهل السنة، إلى الطائفة الأولى هناك غنى ونفوذاً خلال قرنين أو ثلاثة، حيث أفاق أصحاب هذه الإقطاعات ليروا أن خدمهم الموارنة هؤلاء قد سحبوا البساط من تحت أرجلهم، وأصبح هذا البساط (أي الأرض) وقفاً باسم الكنيسة المارونية!
وانظر أيضاً إلى أوقاف الشيعة الإمامية في العراق وإيران، تراها مستقلة لا يستطيع أحد من جانب السلطات أن يتلاعب بها، كما هو حال أوقاف أهل السنة في كل مكان. إن كل (آية) من آياتهم! وكل مرجع من مراجعهم يعتبر وزارة أوقاف مستقلة بذاتها! ولا أحد يجرؤ على التعرض لما يملك، ويديرون مؤسساتهم ويصطنعون النفوذ والتأثير في العالم، ولا أحد يشتكي أو يشك فيما يفعلون، ولم نسمع أحداً قال: أمموا أو جمدوا أموال الخوئي، والقزويني، والكاشاني، والكرماني، والشيرازي، والسيستاني، والحائري، والحكيم، والصدر، وفضل الله، وغيرهم وغيرهم[2]. حتى أموال حزب الله التي طالبت أمريكا الحكومة اللبنانية بضبطها ومراقبتها، فإننا نعتقد أن هذه المطالبة مجرد ذر للرماد في العيون، وإلا فإن هذا الحزب ومنذ أوائل الثمانينيات يمارس أعماله ونشاطاته علناً وتحت الشمس، بما يعرفه الجاهل والعالم، وينفق النفقات التي تعجز عنها الدول الغنية، وبما لا يخفى على أمريكا وغيرها ممن هم معنيون بمراقبة نشاط المسلمين. لكن الدعاية السوداء والمبالغة وتخويف العالم لا يتجه إلا إلى أموال أهل السنة، سواء على مستوى الجمعيات والهيئات، أو الأفراد.(12/281)
حين سيطرت الأنظمة والحكومات على أوقاف المسلمين؛ تلاعبت هذه الأنظمة بالأوقاف وصاية وإنفاقاً، فمن جهة الوصاية عينت لذلك وزيراً، وهذا الوزير لا بد أن يكون خاضعاً لما يمليه النظام العلماني اللاديني، وهو مسؤول أمام رئيس الوزراء الذي يبعد أن يكون له دور فاعل في توجيه المجتمع، وإنما هو مجرد منفذ لرغبات الحاكم الفرد المتأله، وحتى لو كان هذا الوزير شخصاً معمماً، أو ذا زي إسلامي، أو منتقى من مؤسسة إسلامية؛ فهذا لا يغير من الحقيقة شيئاً، فهو منفذ لسياسة الدولة العلمانية ولا يكون وزيراً إلا إذا حاز ثقة هذا النظام اللاديني.
وأما الإنفاق؛ فإن أموال الأوقاف كثيراً ما تسخر لخدمة مؤسسات النظام العلماني أيضاً، وما ينفق على الدعوة الإسلامية والخدمات الشرعية قليل جداً إذا قورن بغيره، ولا يوفر حداً أدنى من الحياة الكريمة لمن يعمل في حقل الدعوة والوعظ والإرشاد، أعني الأئمة والخطباء ومدرسي العلوم الشرعية. وهذه الفئة واقعة بين حجري رحى اجتماعية غريبة جداً في المجتمعات الإسلامية، فمن جهة لا تسمح الدول لهذه الطبقة بأن تندرج تحت سلم الوظائف المدنية الذي تعامل به الموظفين في مختلف الوزارات والمؤسسات، فكأنهم لاجئون من كوكب آخر لا حق لهم مثل غيرهم، وكانوا يعاملون على حسب ما كان معروفاً بقانون العمل، أي ما يعرف (بالمياومة) مثلهم مثل أي شخص يعمل عملاً مؤقتاً، حتى إذا انتهى العمل انقطع الأجر، وجلس العامل بطالاً ينتظر أن تأتيه فرصة من قبل أحد يطلبه لتادية عمل بأجرة يومية تنقطع بانتهاء ذلك العمل وهكذا..وليس له حق في تقاعد أو امتيازات مهما كانت، بل يستمر قائماً بالإمامة أو الخطابة أو الأذان حتى يموت.
والذي يوكل إليه تنفيذ هذا النظام الغريب غير العادل على العلماء هو وزارة الأوقاف. فهذه الوزارة تتجلى فيها الازدواجية المقيتة بشكل صارخ. والغريب أن لا يحس به إلا القليل ممن يعنيهم أمره، فالجهاز الوظيفي الذي يسير دوائر الأوقاف جهاز مدني مثل أي وزارة أخرى، ويعامل وظيفياً ومالياً كذلك، إلا ما له علاقة بوظائف المشايخ والعلماء فيكون هناك حساب آخر، وهو التضييق والتقتير. وفي هذا الجو التضييقي التقتيري وعلى هامشه وحوافِّه ينشأ العلماء، ويعيشون، ويتنافسون، ويتحالفون، وتدور خصوماتهم وحروبهم، وتستنزف طاقاتهم، فتسوء سمعتهم، ويقل تأثيرهم، ويضعف ما ترجوه الأمة منهم.
إن واقع العلماء هو نتيجة لا بد منها لما يضطرون إليه في سبيل لقمة العيش، حيث نرى أن الحكومات في بلادنا قد اهتمت بكل فئات المجتمع، ونظمت أعمالها، وكفلت لها حداً أدنى من العيش الكريم، إلا طبقة العلماء، حيث لم تكتف بإهمالها والنظر إلى دورها باستصغار واستهانة؛ بل إنها جردتها من حقها الذي خصص أول ما خصص لها وحدها، لتقوم بمهمتها خير قيام، بعيداً عن ذل الحاجة، وإراقة ماء الوجه، واللجوء إلى النفاق والتملق، والتدخل من أي طامع أو ظالم، فوضعت يدها على مال الأوقاف، وأنفقته في الوجوه التي لم يخصص لها، وعبثت به عبثاً لا يزال ينتظر من يدرسه ويكشف أبعاده وأساليبه.
لقد تنوعت أساليب العبث بأموال الوقف حسب نظام الحكم السائد في كل قطر، كنصب غير ذوي الأمانة قيمين وأوصياء عليه، والإنفاق منه على المرافق المحرمة، وتلاعب الدولة بتأجيره أو استثماره من إدارات أخرى، ومنح عقاراته لشراء المحاسيب والأنصار، وإخضاعه للقوانين المستوردة وجعلها حاكمة عليه، كقوانين ما يسمى بالإصلاح الزراعي والتأميم، والتصرف به على غير شرط الواقف...إلخ. والعجيب أن هذا العبث لا يصيب إلا الأوقاف الإسلامية وأوقاف أهل السنة بالذات، كما قدمنا..
ـــــــــــــــ
[1] - قد يعترض معترض بذكر أمثلة لعلماء ومواقف في هذه الفترة قد تخالف هذا الذي نصف، ولئن صحت هذه الأمثلة فإنها تعتبر نادرة وشاذة ولا تخالف هذه القاعدة.
[2] - وها نحن اليوم نرى حلقة في مسلسل هذه المأساة، وهي سيطرة الشيعة على أوقاف أهل السنة في العراق برعاية وحماية المحتل الأمريكي.
http://www.alsunnah.o r gالمصدر:
==============(12/282)
(12/283)
الفقه العلماني للإسلام
عبد الرحمن الجميعان
الإشكالية للمنظومة العلمانية تستند إلى نمطية التفكير العلماني في عالمنا الإسلامي على المرجعية الأوروبية في كثير من القضايا والرؤى، بل إن هذه المرجعية توأطر الفكر النظري للمنظومة العلمانية، ولا غرو فالعلمانية في أصل اشتقاقها غربية المنشأ واللسان، وهي نبت خارج أرضه.
ولهذا فالعلمانية مع محاولة استزراعها في بلاد المسلمين جرت خلفها الكثير من الإشكاليات النظرية والصعوبات العملية التي اصطدمت في ارض الواقع الإسلامي نظراً لتباين الإطار النظري في أوطاننا الإسلامية مع الإطار النظري للعلمانية المستوردة.
بل إن علمانية العرب زادت على ذلك لأنها تريد ليّ أعناق النصوص كي تتسق مع فهمها للإسلام وواقعها السياسي والاجتماعي، وتلك إشكالية رئيسة في الفكر العلماني الوافد، وتبدو واضحة تلك المحاولة التي تريد استنساخ المفهوم الغربي وتجاربه تجاه الأديان، ومحاولة إسقاط هذا المفهوم على الدين الإسلامي.
إن مفهوم الدين عندنا يغاير المفهوم الغربي للدين لتباين الدينين واختلاف الملتين، فذاك دين محرف لم يجعله الله - تبارك وتعالى- للناس كافة وإنما هو محصور في زمن معين محدد ولأناس محددين كما قال المسيح -عليه السلام-: إنما بعثت لخراف بني إسرائيل الضالة.
فلهذا من الخطورة بمكان أن تتوحد النظرة تجاه كل الأديان، وهنا يكمن الخطر حيث يعامل الإسلام كما يعامل أي دين آخر، ولذلك جرت هذه النظرة الضيقة والظالمة فكراً خطيراً جداً على العالم الإسلامي وهي فكرة لم تعرفها الأجيال المسلمة قبل عهد الاستعمار بشتى أنواعه، تلك هي الفصل بين الدين والدنيا، مفهوماً وعملاً فالدين عندهم مجموعة من الطقوس غير المفهومة إلا لأناس محددين، فكانت النهضة الأوروبية نتيجة طبيعية للتحرر من الدين والتفلت من التزاماته القاسية، أما عندنا فلا توجد هذه الإشكالية التي يريد هؤلاء إلباسها الإسلام الحنيف، والذي جعله الله تعالى للناس كافة ويسر فهمه لمن أراد الفهم (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر).
ومن الإشكاليات الخطيرة التي يتعمد العلمانيون إثارتها: الدمج بين العروبة والإسلام، فالعربي عندهم يعني المسلم وتاريخ العروبة والعرب هو تاريخ الإسلام والمسلمين، ولهذا فهم يعدون الإسلام امتداداً طبيعياً لتاريخ العرب الجاهلي ويعتبرون محمد صلى الله عليه وسلم مجرد مصلح عربي كان له تصور راق لإصلاح الأمة، فيفصلون بين النبوة والنبي، وهذا تهوين لشأن النبوة في حياة الناس، إنها إشكاليات واضحة تعيشها العلمانية المستوردة على صعيد الواقع والمنهج والرؤية وكنموذج صارخ لهذه العلمانية سنعرض لإحدى المقالات التي تطرح هذا الفكر الغربي المبطن.
http://www.mishkat.com بتصرف من :
=============(12/284)
(12/285)
ولن ترضى عنك بنو عِلْمَان
محمد بن فهد الرشيد
سنة ربانية من سنن الله - تعالى - سنها منذ قام على هذه الأرض الحق والباطل، الشر والخير، أهل الإيمان وأهل الكفر، معسكر الهدى ومعسكر الضلال، فلا يزال أهل الكفر والنفاق يناوئون أهل الإيمان ويكيدون لهم ويحاربونهم في دينهم ما بقي على الأرض مسلم وما دعا إلى الله داع، بيد أن هذه الحرب سجال والأيام بين المعسكرين دول فيُنال من أهل الحق حيناً وينالون من عدوهم حيناً آخر ولكن العاقبة للمتقين، والنصر لأهل الإيمان واليقين كما أخبر بذلك رب العالمين.
وصور هذا الكيد والمكر تتلون وتتغير حسب قوة أهل الحق وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فتارة تكون الحرب عسكرية حربية وتارة تكون اقتصادية مادية وتارة تكون إعلامية وسياسية وغير ذلك من أساليب الحرب القذرة التي يشنها أعداء الله على أهل الإسلام وحَمَلَته، والتاريخ القديم والحديث يشهد لهذه الصور المتعددة كلها، غير أنَّ أعداء الله في هذا العصر تفتَّقت عقولهم المتشبعة ببغض هذا الدين وأهله عن حرب جديدة وأساليب ماكرة لمحاربة الدين حرباً تناسب العصر وتواكب العولمة الحديثة تلكم هي محاربة "المنهج".
إن أعداء الله لا يقلقهم مناهج عباد القبور ولا مناهج الرافضة ولا مناهج المعتزلة والعصرانية، إن الذي يقض مضاجعهم وينغص عيشهم هو المنهج الذي تربى عليه سلف هذه الأمة من الصحابة ومن جاء بعدهم، منهج الحنيفية السمحة الوسطية العدل، ملة إبراهيم حنيفاً كما جاء بها القرآن والسنة وكما فهمها سلف هذه الأمة. لقد مارس أعداء الله كل أساليب الحرب والإبادة لإطفاء هذا الدين وإخماد جذوته من حين بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته حيث قال الله عنهم: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30) فمكرهم ماضي وكيدهم مستمر حتى يردوا المسلمين عن دينهم وعقيدتهم.
لقد أدرك أعداء الله أن محاربة المنهج ليست من السهولة بمكان ومن الخطأ الاستراتيجي - حسب ظنهم - القضاء على المنهج بشكل سريع أو الدخول المباشر في هذه المواجهة التي ربما أفسدت عليهم خططهم، ولكن هناك من أذنابهم وأعوانهم مَن يستطيع أن يمارس هذا الدور بشكل فعال وبنتائج باهرة فكان توظيفهم لطابور العلمنة والنفاق في بلاد المسلمين لأجل التشكيك في ثوابت الأمة ومقومات دينها ولمز أئمتها وعلمائها وبدأ ذلك بشكل واضح بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وارتفعت وتيرة هذه الحرب بعد دخول قوات الصليب عاصمة الخلافة العباسية بغداد المسلمة.
إن التاريخ يشهد أن بني علمان مهما أصاغ المسلمون لهم السمع وحققوا بعض مطالبهم بحجة الإصلاح وجمع الكلمة وغير ذلك من الشعارات الزائفة لن يقفوا عند حد ولن يرضوا بذلك حتى يتحقق "ما لقيصر لقيصر وما لله لله" وحتى يروا علمانيتهم الكافرة تضرب بأطنابها في بلاد المسلمين ومجتمعاتهم، وقصة صراع العلمانية مع الإسلام في مصر خير شاهد على ذلك، فكيف يرضى أهل الدعوة وحماة المنهج أن يتحقق للعلمانيين ذلك وقد أمرهم ربهم - تعالى - بأن يكون الدين كله لله؟؟.
إن الواجب على المسلمين عموماً وعلى أهل الدعوة وأصحاب الرأي خصوصاً الوقوف صفاً واحداً وبحزم تجاه هذه الهجمة الشرسة على دين الأمة وثوابتها وألاَّ يتنازل أهل المنهج ولو قيد شعرة عن دينهم وثوابتهم، إن حماية هذا "المنهج"مسئولية الجميع كل فيما يخصه ويحسنه أفراداً ومؤسسات، حكاماً ومحكومين، مع أهمية أن تكون هذه المقاومة لهذه الهجمة ضمن خطط مدروسة وبرامج عمل جادة طويلة المدى وألاَّ تكون برامجنا ومواقفنا ردود أفعال مؤقتة قصيرة النفس، محددة العمر ما تلبث أن تضعف ثم تتلاشى.
إن بني علمان مهما كادوا ومكروا فإن كيدهم ضعيف ومكرهم واهٍ إذا واجههم أهل الحق بالحجة والبرهان وقاموا بما أوجب الله عليهم من بيان الحق وكشف عوار المفسدين والمنافقين وتبيين المنهج الصحيح والدعوة إليه، ومع ذلك ربما يبتلون ويؤذون ويتهمون وهذا كله ليس بمستغرب فهي سنة أخرى من سنن الله - تعالى - في ابتلاء المؤمنين وتمحيصهم وهي من قدر الله الغالب وسننه الماضية.
http://www.almoslim.net المصدر:
=============(12/286)
(12/287)
حتى لا نندم دعوة لمراجعة الموقف
د.عبد الله عبد العزيز الزايدي
" سعادة الكاتب:فلان...تحية طيبة وبعد.
نشكر لك جهدك في الدعوة للحد من نشاطات المؤسسات الإسلامية الإرهابية في بلادك، والتي تنشر الإرهاب والفكر المتخلف، ويسرنا دعوتك لزيارة الولايات المتحدة في زيارة مدفوعة التكاليف، وذلك تثميناً لموقفك الإيجابي، ويسرنا أن تلتقي بعدد من مسؤولي المنظمات العاملة في مجال العمل الإغاثي والتعليمي في الولايات المتحدة."
هذه رسالة كان يفترض أن توجه من قبل المنظمات التنصيرية الأمريكية إلى كل كاتب مسلم طالب بالحد من نشاط المؤسسات الإسلامية في الخارج كعربون لموقفه السلبي من المؤسسات الإغاثية الإسلامية التي قللت ولو بنسبة قليلة من نجاحات منظمات التنصير الغربية والأمريكية على وجه الخصوص في سعيها لتنصير المسلمين في أفريقيا وآسيا ومناطق أخرى، حيث دعا بعض الصحفيين إلى تقليص نشاطات المؤسسات الإسلامية في الخارج بعد الأحداث الأخيرة بحجة أن فقراء الداخل أولى، أو بحجة أن الباب الذي يأتي منه ريح الإثارة علينا من الولايات المتحدة يجب سده، وبعضهم ربما راج عليه أكاذيب أجهزة الاستخبارات والصحافة الغربية حول دعم تلك المؤسسات للإرهاب.
ونظراً لخطورة هذه المطالبة وإحداثها بعض الأثر المتمثل في السعي لتقليص نشاطات هذه المؤسسات في دولتين هما أكثر الدول العربية دعماً للقضايا الإسلامية، وهما: (السعودية) (والكويت )، و التي كانتا بعد الله عوناً لكثير من المسلمين الفقراء الذين كادت منظمات التنصير أن تحيط بهم وتصرفهم عن دينهم، فضلاً عن كون هذه الحملات الإعلامية الداخلية ضد المؤسسات الخيرية هي عون للمنظمات الصهيونية التي تستثمر مثل هذه الكتابات وتتخذها تكأة لحملاتها ووثائق تصديق لمزاعمها، وبالتالي فهذه الكتابات في الحقيقة نوع من الخيانة العظمى للدول التي تعمل فيها هذه المنظمات الخيرية، ولذا كان لابد من وقفة كبيرة لرجال العلم والدعوة والإصلاح تجاه هذه الحملات وما ترتب عليها، بل ومن كل حريص على انتشار الإسلام والتصدي للمد الصهيوني و للغزو التنصيري الرهيب الذي يغزو بلاد المسلمين مدعوماً بكل الإمكانات المادية والبشرية والإعلامية الغربية. إن السكوت على تقليص نشاطات المؤسسات الإسلامية، هو دعم غير منظور للمؤسسات التنصيرية التي تنتشر كالسرطان في بلاد الإسلام، ولذا كان التصدي لهذه الحملة الظالمة واجباً شرعياً؛ بكشف حقيقتها، وبيان آثارها، وتفنيد شبه أصحابها. ومشاركة في هذا الباب يجيب هذا المقال على بعض الشبه التي بها يدعم الداعون لتقليص نشاط المؤسسات الخيرية الإسلامية رأيهم.
من أبرز هذه الشبه التي صرح بها بعض المناوئين للعمل الخيري الإسلامي خصوصاً في الصحافة الكويتية تصديق الدعاوى الغربية بأن هذه المؤسسات يستفيد منها الإرهابيون، فأقول لهؤلاء: لنفترض جدلاً أن بعض التبرعات ذهب إلى دعم المقاتلين المسلمين في الشيشان مثلاً، أو لنفترض أن البعض استغل اسم إحدى هذه المؤسسات وجمع تبرعات لأغراض أخرى، فهل يعني ذلك أن نستجيب لتقليص نشاط الدعوة إلى الإسلام الذي تقوم به مؤسساتنا الخيرية ؟ أليس من الممكن أن نتحقق من صحة الأمر ونعالج الخطأ _ إن حدث_ دون المس بنشاطات مؤسساتنا الخيرية ؟ ألا يعلم هؤلاء أن بعض المنظمات التنصير الأمريكية تدعم بالسلاح منظمات إرهابية انفصالية تقاوم السلطات الشرعية في بلد عربي مسلم هو السودان، ومع ذلك لم يدع أحد من الأمريكيين والبريطانيين أو أي نصراني إلى إيقاف نشاطات هذه المنظمات أو تقليص أعمالها في الخارج، بل لا يزال الدعم الشعبي والرسمي لهذه المنظمات في زيادة واطراد، والحجة الثانية، هي: قولهم: إن الناس في الداخل أولى فأهل الداخل أقيمت لهم - ولله الحمد - جمعيات كثيرة تعنى بأمورهم، وفي الشريعة ما يدل على جواز إعطاء من هو أقل استحقاقاً تأليفاً لقلبه على الإسلام كما هو معلوم من سهم المؤلفة قلوبهم، وفعل النبي _ r_ حيث أعطى عدداً من أغنياء العرب تأليفاً لقلوبهم، وترك فقراء المهاجرين والأنصار في غزوة حنين، والمنظمات الإنسانية الغربية تجوب دول أفريقيا وآسيا تعطي فقراءها الغذاء والدواء، والمشردون الفقراء موجودون في كل المدن الغربية، ولم يؤد ذلك إلى تقييد عمل تلك المنظمات ومنعها من العمل الخارجي بحجة وجود فقراء في الداخل كما يطالب به بعض إخواننا الكتاب المؤسسات الإسلامية.(12/288)
إن المطالبة بقصر نشاط المؤسسات الإسلامية على الداخل أقل ما يقال فيه: إنه سذاجة ومساهمة في إضعاف مسيرة الدعوة الإسلامية، وترك الباب مفتوحاً لمنظمات التنصير تفسد على إخواننا المسلمين عقائدهم، ألا يعلم هؤلاء المؤيدون لتقليص العمل الخيري أن المنظمات التنصيرية تقوم في إندونيسيا بأنشطة تعد من أعمال السيادة داخل الدولة، ومع ذلك لم يطالب أحد من النصارى الغربيين بتقييد نشاط تلك المنظمات، وأن من أسباب قوة الانفصاليين المتنصرين في تيمور الشرقية في إندونيسيا هو دعم المنظمات التنصيرية لهم، ومع ذلك لم توقف هذه المنظمات من قبل الحكومة الإندونيسية، بل لو حاولت بعض الدول العربية والإسلامية تقييد نشاط بعض المنظمات التنصيرية الغربية بسبب أخطائها لما استطاعت بسبب ضغوط الدول التي تتبعها تلك المنظمات، إذ يقدم سفير الدولة التي تتبعها المنظمة احتجاجاً قوي اللهجة سرعان ما يلغي أي قرار بشأن تلك المنظمات. إن ثمة منظمات تنصيرية غربية عديدة تعمل في مجال التنصير تحت ستار العمل الإنساني والتطوعي في كثير من البلاد العربية والإسلامية، ولها تأثيرها السلبي، ومع ذلك فهي معفاة من الضرائب والجمارك وبإمكانها إدخال أكبر قدر من الأدوية والسلع الاستهلاكية والملبوسات والآليات داخل البلاد، ولها مطلق الحرية في التنقل، حتى إن عرباتها لا تخضع للتفتيش بالرغم من الملاحظات الكبيرة على أعمالها، وبالرغم من أن بعضها يمارس أعمالاً منافية لنظام تلك البلدان كما يحصل في الجزائر وبنغلاديش وغيرهما.
وهاك مثالاً واحداً يؤكد خطر المنظمات التنصيرية السياسي والديني في بلد عربي: قالت صحيفة (اليوم) الجزائرية الصادرة يوم الاثنين (9-4-2001): إن عدد الجزائريين الذين يرتدون يومياً عن الإسلام ويدخلون المسيحية بلغ 6 أشخاص كل يوم.
وذكرت الصحيفة التي نشرت تقريراً مفصلاً عن الظاهرة في صفحتها الأولى إن هذه الظاهرة أخذت في الانتشار بقوة في منطقة القبائل (البربر) وفي شرق الجزائر وغربها وجنوبها، وقالت الصحيفة: إن عدد الجمعيات المسيحية الناشطة في دفع المسلمين إلى الارتداد عن الإسلام وتغيير دينهم إلى المسيحية يقدر في منطقة القبائل وحدها بـ19 جمعية، ونقلت الصحيفة تصريحات لرئيس كنيسة "ميرابو" في منطقة القبائل، يقول فيها: "إذا تم الاعتداء علينا، وذهبنا ضحية من أجل اعتناقنا المسيحية وردّتنا عن الإسلام، فسنقوم بكل مسعى يسمح لنا بتدويل قضيتنا"، وذكرت (اليوم) أن مراجع صحافية أحصت 19 جماعة مسيحية في منطقة القبائل وحدها، تعززت في السنوات الأخيرة بجزائريين خالصين، وبمعدل ست حالات ارتداد عن الدين الإسلامي كل يوم، وقالت الصحيفة: إن جيوباً ثقافية ورسمية أجنبية مشكوك في هويتها تساعد هذه الجمعيات، التي استفادت من الانفتاح واقتصاد السوق، لتصدر أكثر من 30 ألف نسخة من الإنجيل إلى مدينة تيزي وزو القبائلية وحدها، دون أن تكترث لذلك الهيئات المشرفة على تجارة الكتاب، أو الجمعيات الدينية الجزائرية، وأرجعت الصحيفة انتشار موجة الارتداد عن الإسلام واتساع رقعة النشاط التبشيري إلى الاستقالة التامة للدولة عن مهمتها الثقافية، وارتفاع نسبة الانتحار بين الأوساط الشبابية والشعبية بفعل تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وانتشار مظاهر البؤس والفقر المدقع.
هذا مثال واحد فقط يدل على النشاط الدؤوب لمنظمات التنصير وأهدافها السياسية الرهيبة، ومع ذلك لم يحد من نشاطها بل تدعمها الحكومات والشعوب والصحافة في الغرب، ونحن لسذاجتنا نصدق الأمريكان فيما يقولون عن جمعياتنا ونغلق فروعها و نضعف نشاطها ليخلو الجو لجمعيات التنصير، فيا أمة ضحكت من جهلها الأمم، إننا إذا أردنا الصدق مع أنفسنا وشعوبنا، فلا ينبغي أن نشوه صورة جمعياتنا الخيرية، بل نقول في صراحة ووضوح: إن ثمة ضغوطاًَ قوية من الولايات المتحدة تجاه الجمعيات الخيرية الإسلامية، ونحن لا طاقة لنا بمواجهة هذه الضغوط، ولذلك نرى الحد من نشاط هذه الجمعيات مؤقتاً دفعاً لخطر هؤلاء الأمريكان، مع أن هذا الموقف لن يشفع لنا عندهم أيضاً، وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يقولها الكتاب والصحفيون، وينبغي أن تصارح بها الدول المعنية مواطنيها، ويجب أن يبقى الباب مفتوحاً نحو مزيد من العمل الخير ي الإسلامي، وأن يكون هذا التقييد مؤقتاً يزول بزوال هذه الضغوط الحاضرة.
http://www.almoslim.net المصدر:
===========(12/289)
(12/290)
العلمانية
الشيخ: عطية صقر
مما هو مقرر أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلابد من تحديد المفاهيم حتى يمكن الحكم عليها حكما صحيحا، والعلمانية لفظ وجد في كتبنا العربية حديثا عند ترجمة ما يقابلها في اللغات الأجنبية عن طريق الإدارة العامة للتشريع والفتوى بمجلس الأمة المصرى - آنذاك - كما هو ثابت في الموسوعة العربية للدساتير العالمية التي أَصدرها المجلس المذكور سنة 1966 م. وبعيدا عن صحة النطق بهذه الكلمة، الذي ذهب فيه الكاتبون مذاهب شتى، وكان فرصة استغلت للدعوة إلى وجهة نظر معينة كما هو شأن المتشابه من النصوص الذي جاء فيه قول اللّه تعالى: { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله... } آل عمران: 7،. بعيدا عن ذلك، فإن نسبة العلمانية إلى العلم أو العالم ليست على قياس لغوى، وهى ترجمة للكلمة الإفرنجية " لاييك " أو" سيكولا ريسم " وتعنى " لا دينية" على أي وجه تكون، وفي أي ميدان تطبق، وعلى أي شىء تطلق. وهى نزعة أو اتجاه أو مذهب اعتنقه جماعة في أوروبا في مقابل ما كان سائدا فيها في العصور المظلمة، التي تسلط فيها رجال الدين على كل نشاط في أي ميدان، مما تسبب عنه ركود وتخلف حضاري بالنسبة إلى ما كان موجودا بالذات عند المسلمين من تقدم في كل المجالات. وكان معتنقو هذا المذهب في أول الأمر في القرنين السابع عشر والثامن عشر قد وقفوا من الدين موقف عدم المبالاة به، وتركوا سلطانه يعيش في دائرة خاصة، واكتفوا بفصله عن الدولة. ومن أشهر هؤلاء "توماس هوبز " الإنجليزي المتوفى سنة 1679 م، " جون لوك " الإنجليزى المتوفى سنة 1704 م، " ليبنيتز" الألمانى المتوفى سنة 1716 م، " جان جاك روسو" المتوفى سنة 1778 م. وفي القرن التاسع عشر كانت المواجهة العنيفة بين العلمانية والدين، وذلك لتغلغل المادية في نفوس كثير ممن فتنوا بالعلم التجريبى، إلى حد أنكروا فيه الأديان وما جاءت به من أفكار، واتهموها بتهم كثيرة كرد فعل للمعاناة التي عانوها من رجال الدين وسلطانهم في زمن التخلف الذي نسبوه إلى الدين، ذلك الدين الذي كان من وضع من تولوا أمره، والدين الحق المنزل من عند اللّه بريء منه. ومن أشهر هؤلاء المهاجمين " كارل ما كس " الألماني المتوفى سنة 1883 م، " فريدريك أنجلز " الألماني المتوفي1895 م، " فلاديمير أوليانوف لينين " الروسى المتوفى سنة 1924 م. هؤلاء لم يقبلوا أن تكون هناك سلطة ثانية أبدا، حتى لو لم تتدخل في شئون الدولة، وإن كانت هذه العداوة للدين بدأت تخف، وتعاونت السلطات السياسية والاستعمارية على تحقيق أغراضها. لقد تأثر بهذا المذهب كثيرون من الدول الغربية، وقلدها في ذلك بعض الدول الشرقية، ووضعت دساتيرها على أساس الفصل بين السياسة والدين، مبهورة بالتقدم والحضارة المادية الغربية، اعتقادا أنها وليدة إقصاء الدين عن النشاط السياسي والاجتماعي.
إن العلمانية بهذا المفهوم، وهو عدم المبالاة بالدين، يأباها الإسلام، الذي هو من صنع اللّه وليس من صنع البشر، فهو منزه عن كل العيوب والمآخذ التي وجدت في الأديان الأخرى التي لعبت فيها الأصابع وحرفتها عن حقيقتها. ذلك لأنه دين الإصلاح الشامل، الذي ينظم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه، ويوفر له السعادة في الدنيا والآخرة على السواء، فهو كما يقال، دين ودنيا، أو دين ودولة، أو عبادة وقيادة... ومن مظاهر ذلك ما يأتي:
1 - عقائد الإسلام ليست فيها خرافات ولا أباطيل، فهو يقدس العقل ويأمر بتحكيمه إلى حد كبير.
2 - الإسلام ليس منغلقا على معلومات معينة يتلقاها بنصها من الوحي، بل هو كما يقال، دين منفتح على كل المعارف والعلوم ما دامت تقوم على حقائق وتستهدف الخير.
3 - الإسلام يمقت الرهبنة التي تعطل مصالح الدنيا، ويجعل النشاط الذي يبذل لتحقيق هذه المصالح في منزلة عالية، لأنه جهاد في سبيل اللّه، والتاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين، فهو دين يعمل للدنيا والآخرة معا.
4 - الإسلام يقرر أن السلوك الاجتماعي مقياس لقبول العبادة، فمن لم تثمر عبادته، بمفهومها الخاص من العلاقة بين العبد وربه، استقامة في السلوك فهي عبادة مرفوضة لا يقبلها اللَّه {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون} الماعون: 4 - 7.
ه - الإسلام ليس فيه كهنوت يتحكم فيه بعض من الناس في مصائر الناس بإدخالهم الجنة أو حرمانهم منها، بناء على اعتبارات خاصة، فمدار ذلك على العقيدة الخالصة والعمل الصالح، وليس المشتغلون بعلوم الدين إلا معلمين ومرشدين، والأمر متروك بعد ذلك لمن شاء أن يستفيد أو لا يستفيد بالتطبيق.
وقد يكون المتعلم أقرب إلى اللّه من معلمه، بالتزام الطريق المستقيم الذي رسمه اللّه لهم جميعا، فما دامت العبادة للَّه وحده فهو وحده الذي يقبل منها ما يشاء.(12/291)
6 -الإسلام ليس فيه سلطة مقدسة مستمدة من سلطة اللَّه، وليس في البشر من هو معصوم من الخطأ، إلا من اصطفاه اللّه لرسالاته، والحكم من ذوى السلطان ليس لذواتهم، بل الحكم للدين أولا وآخرا، فكل شىء فيه اختلاف رأي يرد إلى اللَّه وإلى الرسول، أي الكتاب والسنة.
7- مبادئ الشريعة تستهدف تحقيق المصلحة، فإذا لم يوجد نص واضح في أمر تعددت فيه وجهات النظر من أهل النظر وكان يحقق المصلحة العامة كان مشروعا، وبخاصة في أمور الدنيا، فالناس أعلم بشئونها.
8 - الإسلام دين تقدم وتطور وحضارة، ليس جامدا ولا متمسكا بالقديم على علاته فهو ينهى عن التبعية المطلقة في الفكر أو السلوك الذي يظهر بطلانه، بل يقرر أن اللّه يبعث مجددين على رأس كل قرن، يوضحون للناس ما أبهم، ويصححون لهم ما أخطأوا فيه ويوائمون بين الدين والحياة فيما تسمح به المواءمة، لأنه دين صالح لكل زمان ومكان، ومن مبادئ التربية المأثورة عن السلف:
لا تحملوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم. والمراد بالأخلاق العادات التي تقبل التغيير، أما أصول الأخلاق فثابتة.
بهذا وبغيره نرى الإِِسلام يرفض العلمانية، وأن المسلمين ليسوا في حاجة إليها، وإنما هم في حاجة إلى فهم دينهم فهما صحيحا، وتطبيقه تطبيقا سليما كاملا، كما فهمه الأولون وطبقوه، فكانوا أساتذة العالم في كل فنون الحضارة والمدنية الصحيحة، وضعف المسلمين وتأخرهم ناتجان عن الجهل بحقائق الدين وبالتالي عدم العمل بما جاء به من هدى، وبالجهل قلدوا غيرهم في مظاهر حضارتهم، وآمنوا بالمبادئ التي انطلقوا منها دون عرضها على مبادئ الإِِسلام، لأنهم لا يعرفون عنها إلا القليل. ولئن رأينا بعض دول المسلمين الآن قد نقلوا معارف غيرهم ممن يدينون بالعلمانية، فليس ذلك دليلا على أنهم آمنوا بما آمنوا به، وإنما هو للإطلاع على ما عندهم حتى يعاملوهم على أساسه، وإذا كانوا قد قبسوا من مظاهر حضارتهم فذلك للاستفادة من نتائج علمهم وخبرتهم فيما يقوى شوكة المسلمين ويدفع السوء عنهم، والتعاون في المصالح أمر تفرضه طبيعة الوجود، وهو مشاهد في كل العصور على الرغم من اختلاف العقائد والأديان. والمهم ألا يكون في ذلك مساس بالعقيدة أو الأصول المقررة وأن يستهدف الخير والمصلحة. هذا، والأدلة على ما قلناه مما جاء به الإِِسلام كثيرة تركتاها للاختصار، والمقصود هو إلقاء بعض الضوء على هذا المصطلح وموقف الدين منه.
http://a r dalsha r q.com المصدر:
===========(12/292)
(12/293)
أي علاقة بين الديمقراطية والعلمانية؟
شيروان الشميراني
الديمقراطية والعلمانية.. هل هما صنوان لا يفترقان، أم أنهما عدوان لدودان لا يصلح وجود أحدهما في وجود الآخر؟ وإذا كان ثمة ارتباط من نوع ما، فما طبيعة هذا الارتباط؟ وكيف يتم توظيفه لأهداف بعينها بعيداً عن القواعد الموضوعية لكل من المصطلحين "الديمقراطية" و"العلمانية"؟ ثمة نقطتان لا مفر من ذكرهما قبل الولوج في الموضوع:
أولاً: إن الديمقراطية من حيث المنشأ لم تكن فلسفة جاهزة الأسس، كاملة الآليات، حاضرة كخيار من بين خيارات فلسفية سياسية أخرى، للمرء أن يأخذ بها أو يرفضها ويأخذ بغيرها، بل إنها وليدة صراع مرير حقاً بين شعوب بجميع أطيافها، والقابضين على السلطة بمختلف محاورها، ولم تكن كما هي الآن بعد أن نشأت، بل كانت محصورة بين النبلاء من السياسيين وملاّك الأراضي، فلم يكن للعبيد، ولا الخدم، وللنساء، ولا للفقراء، الحق في الترشح، أو التصويت، فكل من كان لهم الحق في المشاركة السياسية في شؤون الدولة لم يكونوا يتجاوزون نسبة 20% من مجموع السكان، فالديمقراطية كانت مقصورة على أصحاب النفوذ، لكن بما أن الديمقراطية وليدة ظرف سياسي واجتماعي خاص، فهي من المفاهيم التي لا تقف على سلم ثابت، ولا تأخذ شكلاً محدداً لا يمكن التغيير فيه، بل هي مصطلح قابل للتطور من حيث الشكل والمضمون معاً، لأنّ العنصر الأبرز في تكوينها هو حاجة الناس للحرية، وقدرتهم الكاملة على تدبير شؤونهم عبر أجهزة الدولة ومؤسساتها، ومن هنا كانت المعركة المستمرّة التي لم تهدأ عبر العصور، والتي أسهمت في الدفع بالديمقراطية صوب وضع تكون فيه أفضل.
ثانياً: إن الديمقراطية بدأت في العصور الحديثة بمعركة بين الشعوب ومحاور ثلاثة للقوة والنفوذ وهي (الملك، وأصحاب الأراضي، والكنيسة)، هذه المحاور الثلاثة كثيراً ما كانت في وئام ضد الشعوب، إلا أنّ القوة الشعبية انتصرت في النهاية، وإن كان ذلك على حساب فكرة التدين عموماً في الغرب، إذ خرجت رؤى تقول بفصل الدين عن الحياة العامة بجميع مفاصلها، ومن هنا أخذت الديمقراطية خلفية لادينية في عالم الأفكار، وكان هذا طبيعياً بما للحضارة الغربية من موروث فكري مادي وأشكال متغيرة، لكن لما كانت الديمقراطية مفهوماً قابلاً للتطور، ولا يقف على أرضية جامدة، فقد ظل يأخذ صوراً وأشكالاً متغيرة عبر الزمن، وحتى النصف الأول من القرن الماضي كانت الديمقراطية مرتبطة بالعلمانية، والعلاقة بينهما كاللازم والملزوم، إلا أنّ روحها المرنة ساعدتها على التكيف مع مختلف الأوضاع والأحوال، وآخر محطة توقفت عندها هي أنها عبارة عن آليات مجردة محايدة لا تنتمي إلى أي فلسفة أو فكر، وقادرة على التأقلم مع كل الأديان، والفلسفات، والمذاهب الفكرية، وأول من عرفها بهذه الصورة هو جوزيف شوبيتر في بحثه المعنون ب"الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية"، الذي أصدره عام 1942م، حيث يرى أنها "ذلك الترتيب المؤسساتي للوصول إلى القرارات السياسية التي تحدد المصلحة العامة من خلال تمكين الشعب نفسه من اتخاذ القرارات عبر انتخاب أشخاص يقومون بتنفيذ إرادة الشعب"، فقد فصل بينها وبين خلفيتها الفكرية النابعة من طبيعة الصراع في التاريخ الغربي.
والآن عندما تطلق هذه المفردة في الأوساط الثقافية وعند الكتاب والباحثين، فإنه ينظر إليها من خلال هذا المفهوم الشوبيتري. يقول منير شفيق في كتابه "الإسلام في معركة الحضارة": "أصبح الكثير من المثقفين يرون في الديمقراطية حق تنظيم وتشكيل الأحزاب وحق الانتخاب والترشيح للانتخاب، وحق الأغلبية في الحكم، وحق الأقلية في المعارضة، بل حق الوصول إلى السلطة، وإحداث التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عن طريق ديمقراطي".. وقد أكد هنتنجتون في سنة 1997م هذا الاتجاه للديمقراطية، مصرحاً بأن جميع الباحثين بعد الحرب الثانية يؤيدون هذا المضمون الذي أعطاه شوبيتر، ومن ثمّ، فإن المفهوم الكلاسيكي الذي عبَّر عنه بركليس حول الديمقراطية في كلمات أربع وهي "حكم الشعب للشعب، وبالشعب"، لم يعد معتبراً. وهنا، نذكر الرؤى والتصورات المتباينة حول طبيعة العلاقة بينها وبين العلمانية، وهي كالآتي:
أولاً: تصور يُبنى على استحالة الفصل بينهما، ويجمع هذا الرأي بين تيارين على طرفي نقيض: بعض الإسلاميين من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى. وهم يذهبون إلى أن الديمقراطية خلقت في رحم الغرب ونمت وترعرعت في حضنه، وقد أشربت العلمانية فكراً، ومن ثمَّ ليس هناك بد من أخذها كما هي من غير فكّ للارتباط بينها وبين العلمانية، وبالتالي فإنها لا تتفق والمنهج الإسلامي.. كلتا المدرستين تريد إثبات أن الديمقراطية والفكر الإسلامي بينهما برزخ متسع، ومسافة فاصلة كبيرة.. وبالتالي من أراد أن يكون ديمقراطياً، فلا بد أن يكون علمانياً!!(12/294)
ونلاحظ أن العلمانيين يأبون الإقرار بالتحرك الديمقراطي للإسلاميين، مدركين أنهم سيخسرون ساحة واسعة من معركة مفتعلة، ويفقدون المبرر الوحيد لشحذ القوى على الإسلاميين، والدفع بالسلطات لقمعهم.. فصراع العلمانيين مع الإسلاميين لا ينبع من كون الإسلاميين غير ديمقراطيين، فالعلمانيون أنفسهم كانوا إلى الأمس القريب من مناضلي الحكم الشمولي، لكن لأن الإسلاميين مستسلمون لله، يعملون في إطار وحيه، ويركعون لذاته العالية.
ثانياً: تصور ينطلق من رؤية متقدمة ومستوعبة لتطور الفكر السياسي الإنساني، ويجمع في دائرته الكثير من أتباع المذاهب والأفكار المختلفة، وأصحاب هذا الاتجاه يقولون في فهم وتفسير هذه المفردة: إن الديمقراطية آليات إجرائية وليست عقيدة، بإمكان أصحاب الديانات والرؤى المتباينة تبنّيها، فهي لم تعد غصناً للجذر العلماني، وإنما أصبحت ثروة إنسانية، ومفصلاً فكرياً مهماً في التراث الإنساني.
منهج أم عقيدة؟: وقد سيطر هذا الاتجاه على الأدبيات التي تتحدث عن هذا المصطلح في العقود الأخيرة.
ويقول الباحث علي خليفة الكواري: إن الديمقراطية منهج وليست عقيدة، وهي ممارسات دستورية.
ويقول جان ريفيه: إنها عملية وليست برنامجاً، وهي لا تدَّعي أنها تقدم حلولاً.
ويوضح هنتنجتون أنها: آليات لإقامة المؤسسات الحاكمة ومحاسبتها.
وفي معرض الرد على الاتجاه الأول الذي يرى استحالة الفصل بين الديمقراطية ومرجعيتها الغربية، يمكن سرد الأدلة الآتية:
أولاً: ذهب جمهور المفكرين والفلاسفة صوب فك الارتباط بين المرجعية الحضارية للديمقراطية وآلياتها الإجرائية، ولم يشذ عنه إلا من يستعمل ذلك التوجه كسلاح لإقصاء الآخر، كون ممارساتهم الشخصية استبدادية، بمعنى أنهم مولعون بالوقيعة بين الأحزاب والجماعات المخالفة لهم في الفكر والتصورات وبين السلطات، وسهامهم أكثرها موجه إلى الإسلاميين بصورة خاصة.
ثانياً: إن الكثير من العلمانيين، حكومات وأحزاباً، أثبتت التجربة أن الممارسة السياسية لديهم استبدادية، وأن جل همهم رفض وقمع الآخر المخالف في الفكر والدين، والعلمانيون الشرقيون إن لم يكن جلهم فأغلبهم هكذا، فإذا اتخذنا الحكومة التركية مثلاً، نجد أن هذه الحكومة استعملت فوهات المدافع صوب الصناديق التي رشَّحت الحركة الإسلامية عبر التأريخ، ولمرات عديدة، وحتى الآن تمّ تجميد ما يقرب من أربعين حزباً، وسحب رخصة العمل منها.
نفس الحال أو شيء قريب منه، نجده في ممارسات حكومات بعض الدول العربية والإسلامية التي تتبنى النهج العلماني، فهي لا تقبل بوجود تعددية إذا كان الإسلاميون طرفاً فيها، بل هناك أحزاب علمانية لم تصل إلى السلطة بعد تدعو الى منع قيام أحزاب إسلامية، وعدم إعطاء الشرعية القانونية والمظلة الدستورية لها، فكيف إذا وصلوا للسلطة؟.
ثالثاً: توجد في الغرب أحزاب دينية لها هياكل ومؤسسات ديمقراطية واضحة من القمة إلى القاعدة في داخلها، وفي ممارسة السلطة خارج إطارها، فهناك الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني، الذي وصل إلى هرم الحكم، و هناك الحزب المسيحي الديمقراطي الإيطالي، بل هناك حزب "شاس" وهو حزب تلمودي متطرف في الكيان الصهيوني، فلو كان صحيحاً القول: إن المرجعية الدينية لا تتحمل الديمقراطية، لما كان لهذه الأحزاب وجود، لكنها موجودة، وبالتالي، فإن بإمكان السياسي المتدين أن يكون ديمقراطياً. ومن هنا اختار بعض الأحزاب الإسلامية الأسلوب الديمقراطي كطريق لممارسة العمل السياسي، باعتبار أنّ الديمقراطية لا تشكل إطاراً عقائدياً، بل هي آليات محايدة لا دين لها ولا مذهب، وفي وسع أصحاب مختلف الأديان والمذاهب أن يتبنوها وينبذوا سياسات القمع والإقصاء من خلالها.
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
=============(12/295)
(12/296)
العلمانية تحت المجهر
عبد الوهاب
تظل العلمانية واحدا من أكثر الموضوعات المثيرة للجدل في الفكر العربي المعاصر. وربما لم ينقطع النقاش حولها -ولا يتوقع له أن ينقطع- منذ وطئت أقدام الاستعمار الغربي أرض العرب, وبدأت تتشكل معالم "صدمة الحداثة والغرب" في الوجدان والفكر العربيين.
وبالتأكيد فإن تلازم العلمانية مع الغرب والاستعمار وإدراكها في المخيلة العربية بعامة كمكون منسوب إلى سياق حضاري وتاريخي ليس "خارجيا" فحسب بل ومعاد, قد نقل التفكير والنقاش حول العلمانية -بتعدد تعريفاتها ومركباتها المفهومية- إلى حيز السجال الإيديولوجي المسيس. وبهذا فهي لم ينظر إليها من زاوية محايدة بحتة, بل ظلت متهمة منذ بروز أول تمظهراتها العربية بأنها وليدة الغرب ومستنبت مستورد مفروض على المجتمعات العربية من قبل الغرب, ومن قبل النخب الحاكمة المتحالفة مع الغرب. ومن هنا فقدت العلمانية مصداقية كانت في أشد الحاجة إليها كي تشرع وجودها على ساحة النقاش الموضوعي على الأقل في الفكر العربي الذي قد ينقض أو يستصوب الفكرة استنادا إلى رؤية فكرية وعقلانية وليس سياسية تاريخية منتمية إلى مجتمعات طحنها تغلب القوى الغربية المبشرة بالنموذج العلماني.
يرى المسيري أن العلمانية متتالية تاريخية تطورت بشكل حصري في السياق الغربي، وعكست الأزمات والحلول والصراعات والمساومات السياسية والفكرية والنظرة الفلسفية المتكونة وتوترات علاقة السلطة الدينية بالزمنية
وفي هذا الإطار فإن ما يراه عزيز العظمة في مداخلته في هذا الكتاب حول العلمانية ونقاشاتها في العالم العربي يغدو صحيحا, فهذه النقاشات لم تتعد السجال الإيديولوجي ولم تمنح فرصة النظر المتروي الهادئ غير المشحون بالرؤى المسبقة. لكن ما لا يتم الموافقة مع العظمة عليه هو محاولته أنسنة المشروع العلماني ونسبته إلى البشرية بعامة وكسر حصرية التأثر بالمنشأ الغربي للمفهوم والنموذج، إذ لا يمكن القول بأن المكونات التأسيسية للنموذج العلماني قد جاءت من حضارات وسياقات ومفاهيم اجتماعية متنوعة المصدر وأن الغرب واحد من هذه المصادر رغم أنه المصدر الأهم بكل تأكيد. كما لا يمكن تصور انتشار النموذج العلماني في عالم اليوم كما هو عليه لو لم يكن الغرب بالقوة التي نراها. ومن هنا جاء إصرار عبد الوهاب المسيري على اشتراطه ضرورة الوصول إلى تعريف عميق وتاريخي من أجل الخوض في النقاش حول العلمانية. وهو يعني بذلك مشروطية النظر إلى العلمانية بكونها "متتالية تاريخية" تطورت بشكل حصري في السياق الغربي وعكست الأزمات والحلول والصراعات والمساومات السياسية والفكرية والنظرة الفلسفية المتكونة وتوترات علاقة السلطة الدينية بالزمنية وهكذا، وأن هذه المتتالية تأسست بالتدرج وشملت فكر الأنوار منذ بداية اندثار العصور الوسطى ثم عصور الثورة الفرنسية والأميركية والثورة الصناعية والحداثة، شاملا ذلك حركات الاستعمار والإمبريالية ووصولا إلى العولمة.
لا يفصل المسيري هذه الحركات والتحولات الكبرى بعضها عن بعض سواء في طريقة تطورها أو في علاقاتها التداخلية أو في اعتماداتها المتبادلة على التقدم الذي ينجزه أي منها وتستفيد منه الأطراف الباقية. لكن عدم فك الارتباط -على ما فيه من وجاهة فكرية وشمولية في النظرة- ينزلق إلى التعميم في بعض النواحي. وتتبدى النظرة التحليلية وكأنها تزج بالعناصر الخاضعة للتحليل في إطار تلك النظرة, لإثبات الصوابية. ومن أبرز ملامح "القسر" هو معادلة تلك الظواهر والتغيرات بعضها ببعض, إذ قد ينتهي القارئ غير المتخصص بعد قراءة نص المسيري إلى نتيجة مضللة وهي أن العلمانية, والحداثة, والاستعمار, والعلمانية, والعولمة, وما بعد الحداثة, ليست سوى مسميات لشيء واحد هو نمط التطور والسيطرة الغربية في العالم سياسيا وفكريا وعلميا.(12/297)
لكن ما يسجل للمسيري في مداخلته حول العلماينة هو الجهد المميز لتعريف المصطلح ووضعه في سياقه التاريخي, ومتابعة نشوئه من تاريخ صلح وستفاليا الذي أوقف الحروب الدينية في أوروبا عام 1648, ثم تطوره ليسم فصل الكنيسة عن الدولة, وتأصيله بتعريف مشهور واضح لجون هوليوك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على أن العلمانية هي "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية, دون التصدي للإيمان, سواء بالقبول أو الرفض" (ص 12). هذا التعريف وسواه قصد به إعلان العلمانية الحياد تجاه الدين, وهو الأمر الذي ينقضه المسيري ويرى فيه انحيازا ضد الإيمان وذلك عبر إضمار نموذج لإصلاح حال الإنسان بالطرق المادية يجب الوصول إليه من غير طريق الإيمان. ومن هنا فإن المسيري يرى في العلمانية ما هو أبعد من فصل الدين عن الدولة, الأمر الذي يعتبره الشيء الظاهر فيها والموجود في كل الحضارات والعوالم. لكن ما هو أهم بالنسبة إليه هو النموذج المادي الذي تنطوي عليه والذي يشكل "رؤية تفسيرية شاملة للعالم والكون" ترتكز على عناصر واضحة مادية وعقلانية صلبة وأداتية ترفض أي مرجعية متجاوزة. وهو يرى أن هذه العلمانية الشاملة متجسدة ليس فقط في المجال السياسي عبر فصل الدين عن الدولة, بل وفي كل مجالات الحياة الإنسانية الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والمعاملاتية والأخلاقية.
يرى العظمة أن الخطاب العربي المعاصر حول العلمانية تناولها تناولا سطحيا على صورة إيديولوجية مبتسرة يغلب فيها السجال على النظر المتروي وعلى الاعتبار التاريخي.
في المقابل يرى العظمة أن الخطاب العربي المعاصر حول العلمانية "قد تناولها تناولا سطحيا على وجه العموم على صورة إيديولوجية مبتسرة يغلب فيها السجال على النظر المتروي وعلى الاعتبار التاريخي, إذ إنه اعتبرها على شاكلة لائحة من المثالب والمكاسب والمحاسن تبعا لاستساغتها أو عدم استساغتها.." (ص 154).
وعن العلمانية نفسها فإن العظمة يراها عملية بالغة التعقيد وغير متعذر تعريفها لفظا، وهي تعكس صيرورة تاريخية أكثر منها رؤية للعالم كما يعرفها المسيري. وإذ يتفق العظمة مع المسيري على أن منشأ العلمانية ومهدها كان في أوروبا فإنه يراها متجاوزة لمنشئها الأوروبي ومؤدية إلى تحولات "بالغة السعة والعمق في جل أرجاء المعمورة", وبأنها -كما الحداثة- صارت شأنا من شؤون حياتنا التي لا مفر منها في سياق ترتيب علاقة الدين بالمجال العام. ومن هنا فإن العظمة ينكر على الخطاب العربي ربطه الوثيق للعلمانية بالاستعمار، ويرى أن تلك المرحلة انتهت وأن العلمانية هي نتاج تحولات عالمية قربت العالم بعضه من بعض من ناحية التاريخ والمسارات العامة في الاجتماع والتقدم.
وهكذا فإنه في الوقت الذي يرى فيه المسيري العلمانية "رؤية للعالم" "ما فتئت تتجه نحو درجات أشمل من التكامل والانغلاق, وشأنا لا يرد إلى نصابه من التاريخ الفعلي بل إلى مسيرة نوهها التحول من الكمون إلى العيان, فإن العظمة يرى أن مسيرة التاريخ هي "سلسلة متراكبة وليست بالضرورة متكاملة من العمليات الاجتماعية والسياسية والثقافية والمعرفية وخلاف ذلك من ميزات أي مركب تاريخي. وينقد العظمة نظرة المسيري للعلمانية كمفهوم غير محايد وكأن هذا المفهوم نظرة ومنظور ومعيار بدلا من كونه سلسلة عمليات موضوعية في التاريخ, كما يعي موضعيا هنا وهناك, دون أن يكون لهذا الوعي أثر يذكر على تركيب خطابه (ص 270).
يتبادل المسيري والعظمة الاتهامات نفسها, فالمسيري يتهم خطاب العظمة بالاختزال وتبني "الثنائيات الصلبة" مثل تضاد "الصيرورة التاريخية" و"الشعارات السياسية" و"حركة المجتمع والفكر" ضد "الخيار الإيديولوجي" و"العقلانية" ضد "الإيمان الديني" (ص 248). وينتقده أيضا بسبب ما يراه عدم ولوج إلى الأبعاد المركبة لظاهرة العلمانية والانحياز إلى تحليل أحادي, إلى جانب الوقوع في أسر "إيديولوجيا" العلمانية, رغم أن العظمة نفسه ينتقد المضمون الإيديولوجي في خطاب المسيري.
وكما يرى المسيري في خطاب العظمة وقوعا في أسر الثنائيات فإن العظمة يرى أيضا الشيء نفسه، حيث يقول إن خطاب المسيري يميل إلى تصنيف "الحسن والسوء للأصيل والدخيل, للمستمر والمنقطع.." (ص 264). والعظمة لا يتردد في نقد ما يراه "موقفا سياسيا" للمسيري هو في الواقع جوهر "المشروع الإسلامي" الذي يعمد إلى "جعل الاعتبار الديني الاعتبار الأساس في الحياة العامة", الأمر الذي ينطوي على نظرة للمجتمع "تضفي عليه تجانسا إيديولوجيا واجتماعيا وسياسيا ينافي طبائع الاجتماع البشري المعقدة والمركبة والمتحولة, وتجعل من المشروع الإسلامي" مشروعا لقسر المجتمع وترويضه, وتنميط أفراده تبعا لهوى سياسي معين بدلا منه مشروعا للإجماع الوطني" (ص 266).(12/298)
والمفارقة التي لا تخلو من طرافة أن اتهامات الجنوح نحو عدم استكناه الطبيعة المركبة للمجتمع وللظاهرة العلمانية, وكذا تهمة التنميط هي متبادلة عند المتناظرين. فبموازاة مقولات العظمة عن خطاب المسيري المشار إليها آنفا، فإن المسيري يصف خطاب العظمة بأنه انعكاس للاستسلام للتنميط الذي يريد الفكر الغربي فرضه على العالم. ويتساءل المسيري عما إن كان الموقف إزاء "عصر تشي وقائعه بالتشاكل" كما يقول العظمة, أي التنميط والأحادية كما يفهم المسيري, يجب أن يكون الاستكانة والإذعان أم الإفلات من قبضة التشاكل واستخدام العقل النقدي.
وينتقد العظمة ما يراه عدم انفكاك في خطاب المسيري من "الهوى التاريخي" للأمة العربية ولا يتحدث عن الدولة القومية (الدولة الأمة) إلا بنفور واضح. وهو يعتقد أن ذلك مرده مرة أخرى إلى التحوصل حول الذات. كما ينتقد ما يفهمه في خطاب المسيري من تصور لمسارات التاريخ والحضارات وكأنها مسارات منفصلة وليست متداخلة. وفي سياق آخر ينتقد التناقض الذي يصنعه المسيري بين رؤيتين للعالم, واحدة مادية خاصة بالغرب, والأخرى مادية مناقبية خاصة بالجماعة التاريخية التي يعد هذا الخطاب نفسه لسان حالها" (ص 268).
يبقى القول إن الكتاب يقدم قراءة ومناظرة هامة لأحد الموضوعات الحساسة في ساحة الفكر العربي, هذا وإن غلب على بعض أجزائه السجال الإيديولوجي على حساب التحليل الهادئ خاصة في النقد المتبادل بين المفكرين. والواقع أن نقد العظمة وكذا مداخلته قد ارتفعت فيها نبرة السجال والتسفيه وأحيانا التعميم الذي انتقده هو نفسه في الخطاب العربي حول العلمانية.
http://www.aljazee r a.net المصدر:
============(12/299)
(12/300)
العلمانية وخطرها على المسلمين
سليمان إبراهيم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين…..
أما بعد: فإني اخترت الكتابة في هذا الموضوع لما أرى من أهمية الكتابة فيه لانتشار هذه الفرقة في زماننا هذا، انتشر داؤها وفشى وبالها وإلى الله المشتكى ولا حولا ولا قوة إلا بالله.
تعريف العلمانية
قد كفتنا القواميس المؤلفة في البلاد الغربية التي نشأت فيها العلمانية، مؤنة البحث والتنقيب، فقد جاء في القاموس الإنجليزي أن كلمة (علماني ) تعني:
1- دنيوي أو مادي.
2- ليس بديني أو ليس بروحاني.
3- ليس بمترهب، ليس برهباني.
وجاء أيضاً في نفس القاموس بيان معنى كلمة العلمانية حيث يقول:
العلمانية: هي النظرية التي تقول: إن الأخلاق والتعليم يجب أن لا يكونا مبنيين على أسس دينية.
وفي دائرة المعارف البريطانية نجدها تذكر عن العلمانية: أنها حركة اجتماعية تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب.
ودائرة المعارف البريطانية حينما تحدثت عن العلمانية تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد، وقد قسمت دائرة المعارف الإلحاد إلى قسمين:
1- إلحاد نظري.
2- إلحاد عملي، وجعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي.
وما تقدم ذكره يعني أمرين:
أولهما: أن العلمانية مذهب من المذاهب الكفرية: التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في الدنيا فهو مذهب يعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية وغيرها بعيداً عن أوامر الدين ونواهيه.
ثانيهما: أنه لا علاقة للعلمانية بالعلم كما يحاول بعض المراوغين أن يلبس على الناس بأن المراد بالعلمانية: هو الحرص على العلم التجريبي والاهتمام به، فقد تبين كذب هذا الزعم وتلبيسه وبما ذكر من معاني هذه الكلمة في البيئة التي نشأت فيها. ولهذا لو قيل عن هذه الكلمة (العلمانية ) إنها: اللادينية لكان ذلك أدق تعبيراً وأصدق، وكان في الوقت نفسه أبعد عن التلبيس وأوضح في المدلول.
كيف ظهرت العلمانية
كان الغرب النصراني في ظروفه الدينية المتردية هو البيئة الصالحة والتربية الخصبة التي نبتت فيها شجرة العلمانية وترعرعت، وقد كانت فرنسا بعد ثورتها المشهورة هي أول دولة تقيم نظامها على أساس الفكر العلماني، ولم يكن هذا الذي حدث من ظهور الفكر العلماني والتقيد به بما يتضمنه من إلحاد وإبعاد للدين عن كافة مجالات الحياة بالإضافة إلى بغض الدين ومعاداته ومعاداة أهله، لم يكن هذا حدثاً غريباً في بابه ذلك لأن الدين عندهم حينئذٍ لم يكن يمثل وحي الله الخالص الذي أوحاه إلى عبده ورسوله عيسى ابن مريم - عليه السلام- وإنما تدخلت فيه أيدي التحريف والتزييف، ولم تكتف الكنيسة ـ الممثلة للدين عندهم ـ بما عملته أيدي قسيسيها ورهبانها من التحريف والتبديل حتى جعلت ذلك دينا يجب الالتزام والتقيد به.
ومن جانب آخر فإن الكنيسة أقامت تحالفاً غير شريف مع الحكام الظالمين وأسبغت عليهم هالات من التقديس والعصمة وسوغت لهم كل ما يأتون به من جرائم وفظائع في حق شعوبهم زاعمةً أن هذا هو الدين الذي ينبغي على الجميع الرضوخ له والرضا به. من هنا بدأ الناس هناك يبحثون عن مهرب لهم من سجن الكنيسة ومن طغيانها ومن ذلك أعلنوها حرباً على الدين عامة. فإن كل الأفكار والمناهج التي ظهرت في الغرب بعد التنكر للدين والنفور منه ما كان لها أن تجد آذاناً تسمع في بلاد المسلمين لولا عمليات الغزو الفكري المنظمة والتي صادفت في الوقت نفسه قلوباً من حقائق الإيمان خاوية وعقولاً عن التفكير الصحيح عاطلة ودنيا في مجال التمدن ضائعة متخلفة. ولقد كان للنصارى العرب المقيمين في بلاد المسلمين دور كبير وأثر خطير في نقل الفكر العلماني إلى ديار المسلمين والترويج له والمساهمة في نشره عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، كما كان أيضا للبعثات التعليمية التي ذهب بموجبها طلاب مسلمون إلى بلاد الغرب لتلقي أنواع العلوم الحديثة أثر كبير في نقل الفكر العلماني ومظاهره إلى بلاد المسلمين حيث افتتن الطلاب هناك بما رأوا من عادات وتقاليد ونظم اجتماعية وسياسية واقتصادية عاملين على نشرها والدعوة إليها في الوقت نفسه الذي تلقاهم الناس فيه بالقبول الحسن توهماً منهم أن هؤلاء المبعوثين هم حملة العلم النافع وأصحاب المعرفة الصحيحة ولم تكن تلك العادات والنظم والتقاليد التي تشبع بها هؤلاء المبعوثون وعظموا شأنها عند رجوعهم إلى بلادهم إلا عادات وتقاليد ونظم مجتمع رافض لكل ما له علاقة أو صلة بالدين.
صور العلمانية
للعلمانية صورتان كل صورة منهما أقبح من الأخرى:(12/301)
الصورة الأولى: العلمانية الملحدة: وهي التي تنكر الدين كلية وتنكر وجود الله الخالق البارئ المصور ولا تعترف بشيء من ذلك بل وتحارب وتعادي من يدعو إلى مجرد الإيمان بوجود الله وهذه العلمانية على فجورها ووقاحتها في التبجح بكفرها إلا أن الحكم بكفرها أمر ظاهر ميسور لكافة المسلمين فلا ينطلي بحمد الله أمرها على المسلمين ولا يقبل عليها من المسلمين إلا رجل يريد أن يخرج عن دينه، وخطر هذه الصورة من العلمانية من حيث التلبيس على عوام المسلمين ضعيف وإن كان لها خطر عظيم من حيث محاربة الدين ومعاداة المؤمنين وحربهم وإيذائهم بالتعذيب أو السجن أو القتل.
الصورة الثانية: العلمانية غير الملحدة: وهي علمانية لا تنكر وجود الله وتؤمن به إيماناً نظرياً لكنها تنكر تدخل الدين في شئون الدنيا وتنادي بعزل الدين عن الدنيا، وهذه الصورة أشد خطراً من الصورة السابقة من حيث الإضلال والتلبيس على عوام المسلمين فعدم إنكارها لوجود الله وعدم ظهور محاربتها للتدين يغطي على أكثر عوام المسلمين حقيقة هذه الدعوة الكفرية فلا يتبينون ما فيها من الكفر لقلة علمهم ومعرفتهم الصحيحة بالدين، ومثل هذه الأنظمة العلمانية اليوم تحارب الدين حقيقة وتحارب الدعاة إلى الله وهي آمنة مطمئنة أن يصفها أحد بالكفر والمروق من الدين لأنها لم تظهر بالصورة الأولى وما ذلك إلا لجهل كثير من المسلمين والله المستعان.
الخلاصة:
أن العلمانية بصورتيها السابقتين كفر بواح لاشك فيه ولا ريب وأن من آمن بأي صورة منها وقبلها فقد خرج من دين الإسلام والعياذ بالله وذلك لأن الإسلام دين شامل كامل فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} وقال تعالى مبيناً كفر من أخذ بعضاً من مناهج الإسلام ورفض البعض: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}…
نتائج العلمانية في العالم العربي والإسلامي
قد كان لتسرب العلمانية إلى المجتمع الإسلامي أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم. وها هي بعض الثمار الخبيثة للعلمانية:
1- رفض الحكم بما أنزل الله - سبحانه وتعالى-، وإقصاء الشريعة عن كافة مجالات الحياة، والاستعاضة عن الوحي الإلهي المنزل على سيد البشر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - بالقوانين الوضعية التي اقتبسوها عن الكفار المحاربين لله ورسوله واعتبار الدعوة إلى العودة إلى الحكم بما أنزل الله وهجر القوانين الوضعية اعتبار ذلك تخلفاً ورجعية وردة عن التقدم والحضارة وسبباً في السخرية من أصحاب هذه الدعوة واحتقارهم وإبعادهم عن تولي الوظائف التي تستلزم الاحتكاك بالشعب والشباب حتى لا يؤثروا فيهم.
2- تحريف التاريخ الإسلامي وتزيفه: وتصوير العصور الذهبية لحركة الفتوح الإسلامية على أنها عصور همجية تسودها الفوضى والمطامع الشخصية.
3- إفساد التعليم وجعله خادماً لنشر الفكر العلماني وذلك عن طريق:
ا - بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية بالنسبة للتلاميذ والطلاب في مختلف مراحل التعليم.
ب - تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن.
ج - منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم.
د - تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني أو على الأقل أنها لا تعارضه.
هـ - إبعاد الأساتذة المتمسكين بدينهم عن التدريس ومنعهم من الاختلاط بالطلاب، وذلك عن طريق تحويلهم إلى وظائف إدارية أو عن طريق إحالتهم إلى المعاش.
و - جعل مادة الدين مادة هامشية حيث يكون موضوعها في آخر اليوم الدراسي وهي في الوقت نفسه لا تؤثر في تقديرات الطلاب.
4- إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة، وهم المسلمون وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد، وصهر الجميع في إطار واحد وجعلهم جميعا بمنزلة واحدة من حيث الظاهر وإن كان في الحقيقة يتم تفضيل أهل الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان على أهل التوحيد والطاعة والإيمان. فالمسلم والنصراني واليهودي والشيوعي والمجوسي والبرهمي كل هؤلاء وغيرهم في ظل هذا الفكر في منزلة واحدة يتساوون أمام القانون، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني. وفي ظل هذا الفكر يكون زواج النصراني أو اليهودي أو البوذي أو الشيوعي بالمسلمة أمراً لا غبار عليه ولا حرج فيه، وكذلك لا حرج عندهم أن يكون اليهودي أو النصراني أو غير ذلك من نحل الكفر حاكماً على بلاد المسلمين. وهم يحاولون ترويج ذلك في بلاد المسلمين تحت ما أسموه بـ ((الوحدة الوطنية)).
5 - نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية، وتشجيع ذلك والحض عليه: وذلك عن طريق:
أ - القوانين التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها وتعتبر ممارسة الزنا والشذوذ من باب الحرية الشخصية التي يجب أن تكون مكفولة ومصونة.(12/302)
ب - وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة، ونشر الرذيلة بالتلميح مرة وبالتصريح أخرى ليلاً ونهاراً.
ج - محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات.
6 - محاربة الدعوة الإسلامية عن طريق:
أ - تضييق الخناق على نشر الكتاب الإسلامي، مع إفساح المجال للكتب الضالة المنحرفة التي تشكك في العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية.
ب - إفساح المجال في وسائل الإعلام المختلفة للعلمانيين المنحرفين لمخاطبة أكبر عدد من الناس لنشر الفكر الضال المنحرف، ولتحريف معاني النصوص الشرعية، مع إغلاق وسائل الإعلام في وجه علماء المسلمين الذين يبصرون الناس بحقيقة الدين.
7 - مطاردة الدعاة إلى الله، ومحاربتهم، وإلصاق التهم الباطلة بهم، ونعتهم بالأوصاف الذميمة، وتصويرهم على أنهم جماعة متخلفة فكرياً ومتحجرة عقلياً، وأنهم رجعيون يحاربون كل مخترعات العلم الحديثة النافعة وأنهم متطرفون متعصبون لا يفقهون حقيقة الأمور بل يتمسكون بالقشور ويدعون الأصول.
8 - التخلص من المسلمين الذين لا يهادنون العلمانية، وذلك عن طريق السجن أو النفي.
9 - إنكار فريضة الجهاد في سبيل الله، ومهاجمتها واعتبارها نوعاً من أنواع الهمجية وقطع الطريق. والقتال المشروع عندهم إنما هو القتال للدفاع عن المال أو الأرض.
10 - الدعوة إلى القومية أو الوطنية، وهي دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس أو اللغة أو المكان أو المصالح على أن لا يكون الدين عاملاً من عوامل التجميع، بل الدين من منظار هذا الدعوة يعد عاملاً من أكبر عوامل التفرق والشقاق.
http://www.saaid.net بتصرف من :
==============(12/303)
(12/304)
أي علمانية تناسب البلاد الإسلامية؟
عبد السلام بلاجي
إن هذا السؤال مهم ومحفز لأكثر من سبب: فهو تسليم - كما يظهر - بتعدد العلمانيات من جهة، كما أنه من جهة ثانية يبدو وكأنه يتساءل - ضمن تنوع العلمانيات - عن أيها يناسب البلدان الإسلامية، فهل العلمانية عقيدة عالمية ونظام كوني يحتم على كل الناس الالتزام به؟ أم أن العلمانية بتأويلاتها المختلفة تجربة خاصة أفرزتها سيرورة تاريخية معينة؟
لقد ظهرت العلمانية، بمختلف مدارسها، في بيئات نصرانية، فهل كان هذا مجرد صدفة؟ إن النصرانية، تم التبشير بها أول الأمر في فلسطين على يدي نبي الله عيسى - عليه السلام-، ثم قامت الدولة الرومانية بنقل مركز الكنيسة من فلسطين إلى بيزنطة، وبعد ذلك نقل هذا المركز إلى روما، علما بأن كلا من بيزنطة وروما لم تعرفا نزول أي نبي أو ديانة سماوية، ومع ذلك فقد اكتسبتا قداسة مركزية أضفتها عليهما الكنيسة وعامل. فهل هذا النقل كان تعسفاً؟ أم أنه يرجع إلى إرادة الكنيسة نفسها التي تدعو إلى إعطاء "ما لله لله وما لقيصر لقيصر"؟ وبالتالي قابليتها الذاتية للفصل بين ما هو روحي وما هو دنيوي؟ أم أن الأمر يرجع إلى هذين العاملين معا؟
وبعد انتقال الكنيسة إلى أوربا، واتخاذها من روما مركزاً لها، شهدت علاقة الكنيسة بالسلطة الحاكمة عدة تطورات، بداية من الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية إلى توازي السلطتين معا، إلى الفصل بينهما في مطلع القرن العشرين بعد كفاح مرير خاضه العلماء والمثقفون في عصور التنوير نظراً لأن المؤسسة الكنسية عرفت عدة ممارسات مستهجنة من قبيل مصادرة حرية التفكير والبحث العلمي، مما أدى إلى إعدام عدد من العلماء والمفكرين، وبيع "صكوك الغفران" أو حجبها عن الناس، وممارسة الدعارة بين الرهبان والراهبات مع دفن الولدان في أقبية الكنائس، أو التحالف مع الإقطاع والوقوف ضد دعوات التحرر والانعتاق...
أما في ربوع الإسلام، فقد كانت هناك تصورات وممارسات ومسارات أخرى مختلفة تماما، فالإسلام ذاته يتشكل من منظومة متماسكة وشاملة لا يمكن فصل مكوناتها: عقائد غيبية، وعبادات منتظمة، وتشريعات تنظم كل جوانب الحياة اليومية، وليس للفقهاء إلا دور اجتهادي واستنباطي لمواكبة مستجدات الحياة، علما بأن دائرة الفقهاء دائرة علمية مفتوحة، وليست مؤسسة دينية منغلقة المنافذ أو هرمية التنظيم، كما أن قبلة المسلمين لم تخضع لأية تنقلات تعسفية من قبل السلطات المتعاقبة في دمشق أو بغداد أو القاهرة أو مراكش أو قرطبة... ولم تكن هناك مؤسسة دينية تعدم العلماء والمثقفين، أو تتوسط بين العباد وربهم، أو ترتكب في دهاليزها فضائح جنسية أو أخلاقية, وحتى إذا وجدت بعض الانحرافات فإنها ترتبط بالسلطة أو بالأشخاص المرتكبين لها وليس بالدين نفسه أو بالأحرى بمؤسسة دينية لا وجود لها أصلا. وحتى في أسوأ الأحوال فإن بعض التأويلات أو الممارسات غير الملائمة قد ارتبطت بتيارات فكرية كالمعتزلة قديما، أو بعض الحركات الإسلامية حديثا. ولهذا السبب لم تجد حتى أكبر الحركات اللادينية راديكالية داخل الأمة الإسلامية مؤسسة دينية محددة تناطحها أو تصارعها، بل إنها تجد نفسها معزولة داخل مجتمعاتها كلما جادلت في قضايا مرتبطة بالدين الإسلامي بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فالأمة إذن هي التي احتضنت الدين، وسهرت على حمايته، فهل يتصور أن يطالب الحاضن أو يطلب منه الانفصال عن محضونه؟! أو يقف صامتاً أمام من يريد انتزاعه منه؟
وإذا عدنا إلى العلمانية ذاتها، وجدنا أن لها مدارس واتجاهات مختلفة نلمسها في مختلف التجارب والتصورات المطروحة، ويمكن على سبيل المثال لا الحصر إيراد التوجهات التالية:
1-العلمانية هي فصل للدين عن الدولة:
باعتبار أن الدين شأن فردي ينظم العلاقة بين الإنسان وخالقه، وأن الدولة مفهوم اجتماعي بشري ينظم علاقة الناس بالدولة، وعلاقة الناس ببعضهم البعض، وهذا التأويل قد ينسجم إلى حد بعيد مع التصور الكنسي نفسه، إلا أن السياسة والممارسات السياسية قد يكون لها اهتمام بالشأن الديني باعتبار جانبه البشري الاجتماعي.
2-العلمانية هي فصل للدين عن السياسة:
إن هذا التوجه أو التأويل أقل تساهلا تجاه الدين من التوجه الأول، فطبقاً لهذا التوجه لا ينبغي أن يكون للدين أي تأثير مهما كان صغيراً في برامج الدولة أو الأحزاب السياسية لا من قريب ولا من بعيد.
3- العلمانية هي فصل الدين عن الحياة:
هذا التوجه أكثر راديكالية ويبرز أكثر ما يبرز لدى بعض "الفرانكفونيين" سواء داخل فرنسا أو خارجها، وهو التوجه الذي أجج المعارك من أجل قضايا دينية شخصية مثل الحجاب، بل واعتبرها تهديدا للعلمانية والديمقراطية مع أنها قضايا فردية بحتة، و هذا التوجه يجعل من العلمانية عقيدة دينية وضعية متطرفة.
4- العلمانية هي القضاء على الدين:(12/305)
ويتمثل هذا التوجه أساسا في "الفكر الماركسي" الذي يرى في الدين مجرد "أفيون" للشعوب، ويطرح العقيدة الماركسية والإلحادية بديلا للدين والفكر الديني، وهو أقرب ما يكون للتوجه السابق، مع فارق هو أن التوجه السابق يبيح التعدد والديمقراطية للعلمانيين دون غيرهم (المؤمنين بالعقيدة أو الدين العلماني) بينما لا يؤمن التوجه الماركسي بالتعددية أصلا، أما الديمقراطية عنده فهي مركزية لا يسمح بها سوى "للبروليتارية" وحلفائها المنضوين في الأحزاب الماركسية.
أما على مستوى الممارسة، فلقد أفرزت العلمانية "الأنجلوسكسونية" أنظمة سياسية أكثر تساهلا تجاه الدين، ففي الولايات المتحدة الأمريكية -البروتستانتية- نجد نظاماً ديمقراطياً رئاسياً يفصل بين السلطات فصلا قاسياً، أما فيما يتعلق بالدين فإنه يسلك منهجا معتدلا، بحيث يسمح للمدارس بتعليم مبادئ الدين للأطفال، وعادة ما يجاهر رؤساء الدولة بالممارسة الدينية التي يعتبرها المواطنون ميزة إضافية للمرشحين للرئاسة، فضلا عن أن مختلف مناطق البلاد تشهد صحوة دينية قوية لا تلقى أية معارضة أو مصادمة من طرف الدولة ومؤسساتها، بل إنها تلقى كل القبول والترحيب.
وفي إنجلترا -الأنجليكانية- أفرزت الممارسة ديمقراطية برلمانية مع فصل مرن للسلطات في ظل نظام ديني غير علماني، وتعتبر هذه الديمقراطية عند علماء السياسة والقانون الدستوري أنضج وأعرق الديمقراطيات، وأكثرها سماحة واعتدالاً واستقراراً.
أما في فرنسا -الكاثوليكية- فقد أفرزت العلمانية، نظاماً ديمقراطياً شبه رئاسي، يتوسط بين النظامين الأمريكي والبريطاني سياسياً، وأقل سماحة منهما دينياً، وأكثر خصومات سياسية، وأشرس معارك حزبية وأيديولوجية.
إن هذه الفروقات السابقة هي التي جعلت البعض يستنتج أن التجربة الديمقراطية الغربية تكون أكثر مرونة وسماحة إذا ارتبطت دستوريا بالدين (أنجلترا نموذجاً)، وأقل مرونة إذا ارتبطت واقعياً بالدين ولم ترتبط به دستوريا (تجربة الولايات المتحدة الأمريكية)، ومنعدمة المرونة إذا انفصلت دستوريا وعمليا عن الدين (التجربة الفرنسية)، بينما يذهب البعض الآخر إلى أن درجة المرونة أو التصلب لهما ارتباط بالمذهب الديني، فهو منعدم المرونة في الوسط الكاثوليكي (فرنسا) ومتوسط المرونة في الوسط البروتيستانتي (ألمانيا وأمريكا)، ومرن جدا في الوسط الأنجليكاني (إنجلترا) وبغض النظر عن هذا التوجه أو ذاك, فإن التجارب الديمقراطية الغربية ذاتها تدل على أنه لا يوجد تلازم حتمي بين الديمقراطية والعلمانية أو الديمقراطية واللادينية، فالماركسية التي أبعدت الدين جملة وتفصيلا كانت أقل الأنظمة ديمقراطية وتسامحاً على الإطلاق.
أما في العالم الإسلامي المعاصر، فقد تعددت التجارب والمسارات، ففي تركيا ومنذ أكثر من سبعين عاما نهج أتاتورك أكثر التوجهات العلمانية تطرفاً، لكن هذا المسار لم يؤت أكله سواء على الصعيد الاجتماعي أو السياسي، فعلى الصعيد الاجتماعي تعرف تركيا صحوة دينية متنامية جوبهت بردات فعل رسمية عنيفة وتراجعات خطيرة على صعيد السياسة والتعليم والإعلام وغيرها، وعلى الصعيد السياسي استطاع التيار الديني اكتساح الانتخابات والوصول إلى سدة الحكم رغم كل العراقيل والمساطر المعقدة المعتمدة الأمر الذي أدى إلى عسكرة الديمقراطية وانسداد آفاقها اجتماعيا وسياسيا وحتى اقتصاديا.
وفي تونس حاول نظام بورقيبة اقتفاء آثار "أتاتورك" فعصفت به الصحوة الدينية دون أن يتمكن حتى من ترسيخ ديمقراطية عسكرية مماثلة للنموذج التركي، وحاول خلفه ترميم الواجهة الديمقراطية بالاستناد على القوى العلمانية المعزولة شعبياً، فنتج عن ذلك نظام ديكتاتوري معزول داخلياً وخارجياً، بل وقعت تناقضات حتى مع التيارات العلمانية التي ساندته في بداية الأمر لاقتلاع الحركة الإسلامية. فلما خلت له الساحة فتك بالجميع.
وفي أندونيسيا حاول "سوهارتو" بناء علمانية أقل تطرفا، لكنها لم تعمر إلا مؤقتا تحت سلطة الجيش والشرطة، لتسقط مؤخراً تحت ضغط الصحوة الإسلامية، لتستأنف الدولة مسارها في ظل نظام أكثر تسامحاً مع الدين وبتمثيل أكبر للأحزاب المستندة إلى المرجعية الدينية.
ويضيق بنا المجال لو أردنا استعراض كل التجارب في باكستان وماليزيا ومصر والسودان، والجزائر والمغرب ونيجيريا... وخلاصة القول أن العلمانية تجربة بشرية محدودة لا ينبغي إضفاء صفة الكونية عليها، وهي متعددة التوجهات والمشارب وليست توجهاً واحداً وموحداً، كما أنها فشلت في التطبيق خارج بلدانها وبيئتها وخصوصاً في البلدان الإسلامية، وهذا يحتم علينا ابتكار أساليب جديدة ملائمة لمسارنا التاريخي ولجذورنا الحضارية، ولبيئتنا الحاضرة، ففي كل أرجاء العالم، فإن الماضي يتحكم في بناء الحاضر، والحاضر يتحكم في بناء المستقبل، وأي إغفال لهذه القاعدة قد يترتب عليه انتحار حضاري أو انسداد وتوقف في مسار التنمية والتقدم.
http://www.islamtoday.net المصدر :
=============(12/306)
(12/307)
التعايش مع العلمانيين
د.عبد الرزاق الشايجي
أصبح التعايش اجتماعياً مع بني علمان مبعث خوف وقلق من قبل شرائح المجتمع من المسلمين وغيرهم، وهذا القلق ليس مبعثه وساوس لا تمت إلى الواقع بصلة، إنما هو قلق مشروع يتداوله العامة من الناس تستطيع أن تتلمسه في الحياة العامة.
أصبح المسلمون البسطاء قلقين على المستقبل في ظل إصرار بني علمان في أوطاننا على فرض المناهج والفلسفات والأفكار والممارسات العلمانية التي تتناقض مع طبيعة مجتمعاتنا، خاصة وقد رأى المسلمون ما فعلت هذه الأفكار العلمانية الغربية من ممارسات عبثت في تلك المجتمعات وفاحت رائحتها النتنة.
والمشكلة أن بني علمان يريدون فرض آرائهم وأفكارهم على مجتمعاتنا بشتى الوسائل،فهم يستغلون وسائل الإعلام ويسخرونها لهم، ويوهمون الناس أن أفكارهم تلقى رواجاً عند عامة الناس، بينما يعلم القاصي والداني أنهم فئة مقطوعة عن العمق الشعبي ولا تكاد تجد في منتدياتهم الثقافية إلا النزر القليل ولهذا فهم يلجأون إلى أسلوب إثارة الغرائز أو الطرب لجذب الباحثين عن المتعة واللذة لكي يوهمون الناس نجاح مشاريعهم.
كما يجب على هؤلاء العلمانيين أن يعلموا أنه ليس من حقهم إجبار الناس على تغيير قناعاتهم، فالناس لا يريدون تغيير ما يعتقدون أنه ملائم لفطرتهم مناسب لعاداتهم، فلا معنى لإصرار بني علمان على تغيير ما يرفض الناس تغييره من باب دعوى التقدم والتطور، إن على بني علمان أن يعلموا أنهم ليسوا أوصياء على الناس.
الإصرار على تطبيق بني علمان لأفكارهم الخاصة ورفضهم التعايش مع المجتمع الذي يرفض أفكارهم لأنه يعدها طارئة أجنبية عليه، واعتقاد بني علمان أن المعركة لابد أن تكون في النهاية الغلبة لهم فيها، يهدر وقت المجتمع في معارك لا داعي لها، وستكون على حساب تنمية هذه المجتمعات بالأمور النافعة.
وهؤلاء العلمانيون لهم معتقدات أجنبية غريبة على مجتمعاتنا وعاداتنا وتقاليدنا وقبل ذلك ديننا الحنيف، وعلى لحمة المجتمعات بشكل عام وعلى روح القيم الاجتماعية والأخلاقية التي كنا ولا زلنا نعيشها، فلبس المرأة (للاسترتش) والبنطال الضيق ورميها نفسها في أوساط الشباب لحجة الاختلاط الذي ينمي العلاقات بين الجنسين، والزج بالمرأة في ميادين الصراعات السياسية والجيش والرياضة وعرضها جسدها للإغراء في عروض الأزياء وتركها تتلقفها الأحضان بحجة الانفتاح والتحرر، كل هذه القيم غريبة ممجوجة في المجتمعات الأصيلة - نستثني الطارئين علينا - ومع ذلك يصر بنو علمان على هذه الرؤى الخاصة والمعتقدات الغربية الشاذة، ويدعون مكابرين للعقول أن هذه الأمور لازمة للتقدم التكنولوجي ومواكبة العصر وكأن التكنولوجيا لا تؤتي ثمارها إلا مع التفسخ والانحلال وقلة الحياء.
والغريب في أمر هؤلاء العلمانيين في مجتمعاتنا أنهم لا يستفيدون من الآثار المدمرة لما أحدثته المناهج العلمانية في الوطن العربي من قوميين واشتراكيين وماركسيين وبعثيين … الخ، وما حدث لشعوب هذه الأنظمة العلمانية من التعذيب والاضطهاد والاستبداد وإهدار الثروات والدخول في حروب مدمرة بسبب نزوات القيادات العلمانية المستبدة، ومصادرة الحريات وفرض قوانين الطوارئ والأحكام العرفية عشرات السنين، ونكتة انتخابات ( 99,99%) في هذه الأنظمة العلمانية التي رفضت أحكام الشريعة الإسلامية واستبدلتها بالمناهج العلمانية، نكتة تاريخية تضحك منها جميع شعوبنا، وهي وصمة التطبيق الفعلي والعملي للعلمانية في وطننا العربي.
وهؤلاء العلمانيون ينسون ذلك كله، ويبحثون عن أخطاء في تجارب غير مكتملة ومحاربة ومضيق عليها ومحاصرة من قبل الدول الكبرى مثل التجربة الإسلامية في الجزائر، فهي ضحية مؤامرة دولة ومافيا محلية أكثر من كونها فكرة إسلامية طبقت بالفعل في الأجواء الملائمة والفرص المتاحة.
وأعجب وأغرب من ذلك كله هو: أن بني علمان تيارات متضاربة متحاربة مختلفة، كلما دخلت أمة لعنت أختها، ومع ذلك يحاولون تغطية هذا العيب بإلقائه على الإسلاميين، عل حد قول المثل (رمتني بداءها وانسلت)، وكل تيار منها يحمل منهجاً أحادياً، ويأبى إلا فرضه على المجتمع، وكم لاقت الشعوب العربية الويلات بسبب الحروب المستعرة بين العلمانيين والشيوعيين والعلمانيين القوميين الاشتراكيين، وبين العلمانيين الليبراليين والعلمانيين الماركسيين … الخ.
وأما الحركات النسائية فحدث ولا حرج من الخلافات التي لا تنتهي بينها وتصل إلى حد شد (شعور) بعضهن بعض وللأسف الشديد.
هذه القاعدة المنهجية القائمة على رفض (الأول) والأصول والتراث والتاريخ والقيم الذاتية المنبثقة من روح الأمة نفسها، والانسلاخ من الهوية والكفر بالذات والتنكر للحضارة العربية والإسلامية، واللهث وراء الأجنبي وتسليم العقل إليه والانقياد له والارتماء في حضنه والرضا بالتنازل عن الاعتزاز بالنفس والفخر بالماضي والأمجاد.(12/308)
هذه القاعدة تناقض الفطرة والإسلام، ورغم إدراك بني علمان لذلك إلا أنهم يسيرون في هذا الاتجاه، ويخرجون من النور إلى الظلمات وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل: (ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)، والقائل: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً،الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
http://www.aldawah.net بتصرف من :
-===========(12/309)
(12/310)
كيف تعرف العلماني ؟ و ما هي معتقداته ؟
العلماني:
تجده يؤمن بوجود إله لكنه يعتقد بعدم وجود علاقة بين الدين وبين حياة الإنسان ( فكر بوذي) كما يعتقد بأن الحياة تقوم على أساس العلم التجريبي المطلق وهذا ( فكر ماركسي).
والعلماني:
تجده يعتبر القيم الروحية التي تنادي بها الأديان والقيم الأخلاقية بأنواعها هي قيم سلبية يجب أن يتم تطويرها أو إلغائها وهذا ( فكر ماركسي).
والعلماني:
تجده يطالب بالإباحية كالسفور، والاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة والخاصة ( أي الخلوة) ويحبذ عدم الترابط الأسري ( دعوة ماسونية).
والعلماني:
تجده يطالب بعدم تدخل الدين في الأمور السياسية وأنه يجب تطبيق الشرائع والأنظمة الوضعية كالقانون الفرنسي في الحكم. وأن الدين للعبادة فقط دون تدخل في شئون الخلق وتنظيمها - كما أراد الله سبحانه وتعالى-.
والعلماني:
تجده يردد دائماً بأن الإنسان هو الذي ينبغي أن يستشار في الأمور الدنيوية كلها وليس رجال الدين - وكأن رجال الدين هم الذين اخترعوا التعاليم السماوية- ويطالب بأن يكون العقل البشري صاحب القرار وليس الدين. ( مع تحفظنا على رجال الدين لان ليس عندنا رجال دين ولكن عندنا علماء)
والعلماني:
تجده يصرح باطلاً بأن الإسلام لا يتلائم مع الحضارة وأنه يدعوا إلى التخلف لأنه لم يقدم للبشرية ما ينفع ويتناسى عن قصد الأمجاد الإسلامية من فتوحات ومخترعات في مجال الهندسة والجبر والكيمياء والفيزياء والطب وأن علم الجبر الذي غير المفاهيم العلمية وكان السبب الرئيسي لكثرة من مخترعات اليوم وربما المستقبل ينسب لمبتدعه العبقري جابر بن حيان وهو مسلم عربي .
والعلماني:
تجده يعتقد بأن الأخلاق نسبية وليس لها وجود في حياة البشر إنما هي انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية وهي من صنع العقل الجماعي وأنها أي الأخلاق تتغير على الدوام وحسب الظروف ( فكر ماركسي).
والعلماني:
تجده يعتقد بأن التشريع الإسلامي والفقه وكافة تعاليم الأديان السماوية الأخرى ما هي إلا امتداد لشرائع قديمة أمثال القانون الروماني وأنها تعاليم عفى عليها الزمن وأنها تناقض العلم. وأن تعاليم الدين وشعائره لا يستفيد منها المجتمع. ( وهذا فكر ماركسي).
تنبيه:
العلماني تجده يصرح بهذه المقولة ويجعلها شعاراً له دون أن يكون له دراية أو علم أو إطلاع على التعاليم الفقهية الإسلامية أو على الإنجازات الحضارية الإسلامية.
والعلماني:
تجده حين يتحدث عن المتدينين فإنه يمزج حديثه بالسخرية منهم ويطالب بأن يقتصر توظيف خريجي المعاهد والكليات الدينية على الوعظ أو المأذونية أو الإمامة أو الأذان وخلافه من أمور الدين فقط.
والعلماني:
يعتبر أن مجرد ذكر اسم الله في البحث العلمي يعتبر إفساداً للروح العلمية ومبرراً لطرح النتائج العلمية واعتبارها غير ذات قيمة حتى ولو كانت صحيحة علمياً.
والعلماني:
تجده يعتبر أن قمة الواقعية هي التعامل بين البشر دون قيم أخلاقية أو دينية لأنها في اعتقاده غير ضرورية لبناء الإنسان بل أنها تساهم في تأخيره وأن القيم الإنسانية ما هي إلا مثالية لا حاجة للمجتمع بها.
والعلماني:
تجده يعترض اعتراضاً شديداً على تطبيق حدود الله في الخارجين على شرعه كالرجم للزاني أو قطع اليد للسارق أو القتل للقاتل وغيرها من أحكام الله ويعتبرها قسوة لا مبرر لها.
والعلماني:
تجده يطالب ويحبذ مساواة المرأة بالرجل ويدعو إلى تحررها وسفورها واختلاطها بالرجال دون تحديد العمل الذي يلائمها ويحفظ كرمتها كأنثى.
والعلماني:
تجده يحبذ أن لا يكون التعليم الديني في المدارس الحكومية إلزامياً بل إختيارياً.
والعلماني:
يتمنى تغيير القوانين الإسلامية بقوانين علمانية كالقانون المدني السويسري والقانون الجنائي المعمول به في إيطاليا والقانون التجاري الألماني والقانون الجنائي الفرنسي وهذا القانون يعمل به في بعض الدول العربية. ويعتبر أن تلك القوانين هي الأفيد في حياة الفرد والمجتمع من التنظيم الإسلامي.
المصدر كتاب : كيف تعرفهم؟ لخليفه بن إسماعيل الإسماعيل
http://www.islammessage.com المصدر :
===============(12/311)
(12/312)
خطأ في تعريف العلمانية
إبراهيم بوصندل
لا أدري ما هو السر في كثرة الكتابات التي تمجد العلمانية والليبرالية مؤخراً. فقد لاحظنا أن (بعض) أنصار العلمانية والليبرالية وكأنهم اكتفوا من المشاركة في العملية الإصلاحية بمهاجمة المتدينين، واستعراض العضلات، واستخدام أقسى الألفاظ في إثارة الرأي العام ضدهم، والتشكيك في إسلامهم (متأسلمين) ومرجعياتهم (موروثات الماضي) وذممهم (الطعن في توجيه التبرعات) واتجاهاتهم ونواياهم، بل لم يترك العلمانيون جزئية صغيرة أم كبيرة للإسلاميين إلا وأظهروها على أنها من مثالبهم، وأما بالنسبة للناخبين فهم أيضا لم يسلموا من غبار العلمنة فاتهموا بقلة الوعي السياسي.
ونلاحظ أيضا أن العلمانيين باتوا أكثر جرأة وأوضح لهجة من ذي قبل، فهم يصرحون اليوم بما كانوا به يُسرون، ويطالبون بما كانو به يحلمون. وقد بلغت الجرأة بهم أنهم يطعنون في نظام الحكم الإسلامي الذي أثبت صلاحيته في كل مكان وزمان طبق فيه تطبيقاً إيجابياً، بكل صراحة وعلانية وهو أمر خطير، ومع ذلك فسوف أرجأ الحديث عنه، وأتناول بالنقد جزئية صغيرة مما نشر مؤخرا عن العلمانية. وسأبدأ بالتعريف، وسوف لن أستشهد لذلك بما ورد في تعريفات علماء الإسلام والذي أخطأ بعضهم في التعريف كما سيأتي، ولكن بتعريفات أهل العلمانية الذين ابتدعوها وصدروها لبقية العالم.
إن لفظة العلمانية ذاتها إنما هي ترجمة خاطئة لكلمة ( Secula r ism ) في الإنجليزية، أو(Secula r ite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ "العلم" ومشتقاته على الإطلاق. فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه (Science) والمذهب العلمي (Scientism) والنسبة إلى العلم هي ( Scientific ) أو (Scientifique ) في الفرنسية. والترجمة الصحيحة لمفهوم العلمانية هي (اللادينية) أو (الدنيوية). تقول دائرة المعارف البريطانية مادة ( Secula r ism): (هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيهم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها). وكما يقول المختصون فقد ظل الاتجاه إلى الـ ( Secula r ism ) اللادينية يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية.
وقد جاء في قاموس "العالم الجديد" لو بستر، شرحاً للمادة نفسها:- بأنها الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، ونحو ذلك. وعلى الخصوص: نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال العبادة. ومن معانيها في ذات القاموس: الاعتقاد بأن الدين والشؤون الكنسية لا دخل لها في شئون الدولة وخاصة التربية العامة".
أما معجم أكسفورد فيشرح الكلمة بمعاني عدة منها:
"1- دنيوي، أو مادي، ليس دينيا ولا روحيا: مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
2- الرأي الذي يقول أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية"
وفي "المعجم الدولي الثالث الجديد" جاء شرح مادة: ( Secula r ism) على أنها: "اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادا مقصوداً، فهي تعنى مثلاً "السياسة اللادينية البحتة في الحكومة "
إذا العلمانية أو بمعنى أصح على مقاييس علماء الغرب اللادينية هي: "نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين "
ويقول المستشرق " أر برى " في كتابة " الدين في الشرق الأوسط " عن الكلمة نفسها : " إن المادية العلمية والإنسانية والمذهب الطبيعي والوضعية كلها أشكال اللادينية، واللادينية صفة مميزة لأوربا وأمريكا ... "
ويقول الشيخ سفر الحوالي: "والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو "فصل الدين عن الدولة"، ويرى الشيخ سفر بأن هذا التعبير قاصر ولا يعطى المدلول الكامل للعلمانية. والمدلول الصحيح لها هو "إقامة الحياة على غير الدين" سواء بالنسبة للأمة أو للفرد، ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود فبعضها تسمح به، كالجماعات الديمقراطية الليبرالية، وبعضا يرفض الدين تماما كجماعات (العلمانية المتطرفة-Anti r eligious )، المضادة للدين، ويعنون بها المجتمعات الشيوعية وما شاكلها.
هذه هي حقيقة العلمانية، وهذا هو وجهها الحقيقي الذي لا يزينه الماكياج ولا يخفي عيوبه التلاعب بالألفاظ، العلمانية تعني اللادينية ليس إلا.
http://www.saaid.net المصدر :
==============(12/313)
(12/314)
العلمانيه والليبراليه
أولا: العلمانية:
تعريف العلمانية: العلمانية هي ترجمة محرفة لكلمة إنجليزية تعني اللادينية، والمقصود بها فصل الدين عن توجيه الحياة العامة، وحصره في ضمير الإنسان وتعبداته الشخصية ودور العبادة فقط.
هدف العلمانية في العالم الإسلامي: هدف العلمانية الأكبر هو جعل الأمة الإسلامية تابعة للغرب سياسيا وثقافيا وأخلاقيا واقتصاديا، وعزل دين الإسلام عن توجيه حياة المسلمين.
أهم وسائلها:
أهم وسائل العلمانية ثلاث:
1ـ إقصاء الشريعة الإسلامية ليزول عن المسلمين الشعور بالتميز والاستقلالية، وتتحقق التبعية للغرب.
2ـ تفريق العالم الإسلامي ليتسنى للغرب الهيمنة السياسية عليه وذلك بربطه بمؤسساته السياسية وأحلافه العسكرية.
3ـ زرع العالم الإسلامي بصناع القرار ورجال الإعلام والثقافة من العلمانيين، ليسمحوا بالغزو الثقافي والأخلاقي أن يصل إلى الأمة الإسلامية برجال من بني جلدتها، ويتكلمون بلسانها.
ثالوث العلمانية المقدس:
يؤمن العلمانيون بثلاثة مبادئ تمثل أهم أفكارهم وهي:
1ـ فصل الدين عن الحياة ولا مانع من توظيفه أحيانا في نطاق ضيق.
2ـ قصر الاهتمام الإنساني على الحياة المادية الدنيوية.
3ـ إقامة دولة ذات مؤسسات سياسية لا دينية.
متى نشأت العلمانية:
نشأت العلمانية بصورة منظمة مع نجاح الثورة الفرنسية التي قامت على أسس علمانية.
متى وصلت العالم الإسلامي:
وصلت العلمانية إلى العالم الإسلامي مع الاستعمار الحديث، فقد نشر المستعمرون الفكر العلماني في البلاد الإسلامية التي احتلها، بإقصاء الشريعة الإسلامية ونشر الثقافة العلمانية ومحاربة العقيدة الإسلامية.
حكم العلمانية:
العلمانية تعني أن يعتقد الإنسان أنه غير ملزم بالخضوع لأحكام الله في كل نواحي الحياة، ومن اعتقد هذه العقيدة فهو كافر بإجماع العلماء، قال تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وقال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
هل للعلمانية مستقبل في العالم الإسلامي:
العلمانية محكوم عليها بالفشل والانقراض في العالم الإسلامي، لان الله تعالى تكفل بظهور دين الإسلام وبقاءه إلى يوم القيامة وتجديده، فلا يمكن لأحد أن يمحوه إلى الأبد، قال تعالى: ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
ثانيا: الليبرالية:
تعريف الليبرالية:
الليبراليَّة هي وجه آخر من وجوه العلمانيِّة، وهي تعني في الأصل الحريِّة، غير أن معتنقيها يقصدون بها أن يكون الإنسان حراً في أن يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء ويعتقد ما يشاء ويحكم بما يشاء، بدون التقيد بشريعة إلهية، فالإنسان عند الليبراليين إله نفسه، وعابد هواه، غير محكوم بشريعة من الله تعالى، ولا مأمور من خالقه باتباع منهج إلهيّ ينظم حياته كلها، كما قال تعالى: ( قُل إنَّ صَلاتي ونُسُكِي وَمَحيايَ وَمَماتي للهِ رَبَّ العالَمِينَ، لاشَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المِسلِمين) الأنعام 162، 163، وكما قال تعالى: ( ثمَُّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعها وَلا تتَّبِع أَهواءَ الذِينَ لا يَعلَمُون) الجاثية 18
هل تملك الليبرالية إجابات حاسمة لما يحتاجه الإنسان:
الليبراليَّة لا تُعطيك إجابات حاسمة على الأسئلة التالية مثلا: هل الله موجود؟ هل هناك حياة بعد الموت أم لا؟ وهل هناك أنبياء أم لا؟ وكيف نعبد الله كما يريد منّا أن نعبده؟ وما هو الهدف من الحياة؟ وهل النظام الإسلاميُّ حق أم لا؟ وهل الربا حرام أم حلال؟ وهل القمار حلال أم حرام؟ وهل نسمح بالخمر أم نمنعها، وهل للمرأة أن تتبرج أم تتحجب، وهل تساوي الرجل في كل شيء أم تختلف معه في بعض الأمور، وهل الزنى جريمة أم علاقة شخصية وإشباع لغريزة طبيعية إذا وقعت برضا الطرفين، وهل القرآن حق أم يشتمل على حق وباطل، أم كله باطل، أم كله من تأليف محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يصلح لهذا الزمان، وهل سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله تعالى فيحب أتباعه فيما يأمر به، أم مشكوك فيها، وهل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسول من الله تعالى أم مصلح اجتماعي، وما هي القيم التي تحكم المجتمع؟ هل هي تعاليم الإسلام أم الحرية المطلقة من كل قيد، أم حرية مقيدة بقيود من ثقافات غربية أو شرقية، وما هو نظام العقوبات الذي يكفل الأمن في المجتمع، هل الحدود الشرعية أم القوانين الجنائية الوضعية، وهل الإجهاض مسموح أم ممنوع، وهل الشذوذ الجنسي حق أم باطل، وهل نسمح بحرية نشر أي شيء أم نمنع نشر الإلحاد والإباحية، وهل نسمح بالبرامج الجنسية في قنوات الإعلام أم نمنعه، وهل نعلم الناس القرآن في المدارس على أنه منهج لحياتهم كلها، أم هو كتاب روحي لا علاقة له بالحياة ؟؟؟؟
المبدأ العام لليبرالية:(12/315)
فالليبراليّة ليس عندها جواب تعطيه للناس على هذه الأسئلة، ومبدؤها العام هو: دعوا الناس كلُّ إله لنفسه ومعبود لهواه، فهم أحرار في الإجابة على هذه الأسئلة كما يشتهون ويشاؤون، ولن يحاسبهم رب على شيء في الدنيا، وليس بعد الموت شيء، لا حساب ولا ثواب ولا عقاب.
ما الذي يجب أن يسود المجتمع في المذهب الليبرالي:
وأما ما يجب أن يسود المجتمع من القوانين والأحكام، فليس هناك سبيل إلا التصويت الديمقراطي، وبه وحده تعرف القوانين التي تحكم الحياة العامة، وهو شريعة الناس لا شريعة لهم سواها، وذلك بجمع أصوات ممثلي الشعب، فمتى وقعت الأصوات أكثر وجب الحكم بالنتيجة سواء وافقت حكم الله وخالفته.
السمة الأساسية للمذهب الليبرالي:
السمة الأساسية للمذهب الليبرالية أن كل شيء في المذهب الليبراليِّ متغيِّر، وقابل للجدل والأخذ والردِّ حتى أحكام القرآن المحكمة القطعيِّة، وإذا تغيَّرت أصوات الأغلبية تغيَّرت الأحكام والقيم، وتبدلت الثوابت بأخرى جديدة، وهكذا دواليك، لا يوجد حق مطلق في الحياة، وكل شيء متغير، ولا يوجد حقيقة مطلقة سوى التغيُّر.
إله الليبرالية:
فإذن إله الليبراليِّة الحاكم على كل شيء بالصواب أو الخطأ، حرية الإنسان وهواه وعقله وفكره، وحكم الأغلبيِّة من الأصوات هو القول الفصل في كل شئون حياة الناس العامة، سواءُُ عندهم عارض الشريعة الإلهيّة ووافقها، وليس لأحد أن يتقدَّم بين يدي هذا الحكم بشيء، ولا يعقِّب عليه إلا بمثله فقط.
تناقض الليبرالية:
ومن أقبح تناقضات الليبرالية، أنَّه لو صار حكمُ الأغلبيِّة هو الدين، واختار عامة الشعب الحكم بالإسلام، واتباع منهج الله تعالى، والسير على أحكامه العادلة الشاملة الهادية إلى كل خير، فإن الليبراليّة هنا تنزعج انزعاجاً شديداً، وتشن على هذا الاختيار الشعبي حرباً شعواء، وتندِّدُ بالشعب وتزدري اختياره إذا اختار الإسلام، وتطالب بنقض هذا الاختيار وتسميه إرهاباً وتطرفاً وتخلفاً وظلاميّة ورجعيّة .. الخ
كما قال تعالى: ( وإذا ذُكِر الله ُوَحدَهُ اشمَأَزَّت قلوبُ الذين لا يُؤمِنُونَ بِالآخرِةِ وَإِذا ذُكِرَ الذينَ مِنَ دونِهِ إذا هُم يَستَبشِروُن) الزمر 45.
فإذا ذُكر منهج الله تعالى، وأراد الناس شريعته اشمأزت قلوب الليبراليين، وإذا ذُكِر أيُّ منهجٍ آخر، أو شريعة أخرى، أو قانون آخر، إذا هم يستبشرون به، ويرحِّبون به أيَّما ترحيب، ولا يتردَّدون في تأيِّيده.
حكم الإسلام في الليبرالية:
فإذن الليبراليِّة ما هي إلاّ وجه آخر للعلمانيِّة التي بنيت أركانها على الإعراض عن شريعة الله تعالى، والكفر بما أنزل الله تعالى، والصد عن سبيله، ومحاربة المصلحين، وتشجيع المنكرات الأخلاقيِّة، والضلالات الفكريِّة، تحت ذريعة الحريِّة الزائفة، والتي هي في حقيقتها طاعة للشيطان وعبودية له.
هذه هي الليبراليّة، وحكمها في الإسلام هو نفس حكم العلمانيّة سواء بسواء، لأنها فرع من فروع تلك الشجرة، ووجه آخر من وجوهها.
http://www.montada.com المصدر :
==============(12/316)
(12/317)
علمانية الآباء والأزواج خطر يهدد المجتمع
حسن عبد الحميد إبراهيم
نشأت العلمانية في أوربا كما هو معلوم بعد صراع طويل بين الكنيسة - التي تحمل النصرانية المحرفة - وبين حركة تطور المجتمع العلمية السياسية، ولما رأى المجتمع -هناك- أن رجال الكنيسة بطغيانهم وضيق أفقهم يقفون حجر عثرة أمام نهضته وسعادته، ثار على الكنيسة ورجالها، بل على الدين كله، وحجّم دوره و وقلل مكانته حتى صار داخل المعابد والصوامع، وأضحى في نهاية الأمر شأن شخصي لا علاقة له بحركة المجتمع، ولا دور له في توجيهها.
فالعلمانية إذن فكرة أوربية واجهت أوضاعاَ شاذة لدين منحرف، وقد حاول الاستعمار الغربي وأذنابه تصدير هذه الفكرة للعالم الإسلامي فأنشأ أنظمة، وربى رجالاً، وبذل جهوداً وأموالاً، لتثبيت هذه الفكرة في أراضي المسلمين وديارهم، وقد تصدى لهذه الفكرة بحمد الله علماء المسلمين وقادة الرأي فيهم، فأبطلوها، وأسقطوا كل الحجج التي تقوم عليها، وفضحوها تماماً؛ فلم يصبح لها أي سند أو وجه حق - من الناحية النظرية-؛ ولولا أن بعض الأنظمة يحرسها أعداء الإسلام بمختلف الوسائل، لما أصبح لها وجود من الناحية السياسية والعلمية.
وقد تصدى بعض المسلمين للعلمانية من الناحية السياسية فقط؛ بناء على التعريف الخاطئ بأن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، والحقيقة أن العلمانية في تعريفها الحقيقي وآثارها العملية هي فصل الدين عن كل أنشطة الحياة و حركتها، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، وهذا هو الخطر الخفي الذي يهدد مجتمعاتنا، فقد تفشت أفكار علمانية في حياتنا الاجتماعية دون أن ينتبه لها أولياء الأمور، خصوصاَ الآباء والأزواج.
والمعلوم بداهة أن الإسلام قد نظم أوجه الحياة ووجّهها، وقد جعل لأولياء الأمور سلطاناً على ذويهم، يسألون عنه يوم القيامة، " كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، وأرشد أولياء الأمور إلى وقاية أنفسهم وأهليهم من النار بإتباع أوامر الله ـ تعالىـ، " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله شيئاً ويفعلون ما يؤمرون".[1]
وأمام هذه التوجهات وغيرها، لا مجال لمسؤول أن يتخلى عن مسؤوليته، ولا عذر له أمام الله ـ تعالى ـ إن قصر أو أهمل.
وأشد ما يتعجب له المرء، أن يجد كثيراً من الرجال الملتزمين المواظبين على صلواتهم - ربما بالمساجد - يفرِّطون في أهل بيتهم، ويغضون الطرف عن كثير من التجاوزات الشرعية دون تدخل أو ردع، فنجد بعضهم بعد أن يصلي العشاء، يدندن بما شاء من التسبيح والاستغفار، ثم يأوي إلى فراشه مطمئناً، وبعدها بقليل تخرج بناته أو زوجته إلى الحفلات الساهرة الصاخبة مستصحبات معهن أرتالاً من الذنوب والخطايا، ليس أقلها التبرج والاختلاط والاستماع لساقط الغناء، بل إن البعض يقوم بإيصالهن بعربته إلى مكان الحفل، ويذهب إلى أقرب مكان لينام فيه إلى حين انتهاء الحفل ليقوم بإرجاعهن إلى البيت!.
هذه الظواهر العلمانية في حياتنا الاجتماعية والتي اشرنا إليها إشارة سريعة هي خطر داهم، ونذير شؤم بمصائب عديدة، إن لم ننتبه لها قبل فوات الأوان، فلنحارب هذه الظواهر الغريبة لنبيدها، ولنرع حرمة الآيات التي تُتلى علينا لترشدنا وتوجهنا، وقد أحطنا بها علماً، فلماذا لا نعمل بها قبل أن يأتي يوم نسأل فيه، " حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أمّاذا كنتم تعملون). [2]
------------------------------------------------
[1] التحريم 6
[2] النمل 84
http://www.meshkat.net المصدر :
============(12/318)
(12/319)
العلمانية والجاهلية وجهان لعملة واحدة
د. جعفر شيخ إدريس
بما أن الحضارة أو الثقافة العلمانية حضارة تحل الهوى محل الإله الحق، فإن لها في كل أشكالها - القديمة أو الحديثة، اليونانية والأوربية أو العربية- سمات مشتركة، نابعة من ذلك الأصل الكفري المشترك، لأن قيم الناس وثقافاتهم هي ثمرة معتقداتهم وأحوال قلوبهم، فإذا تشابهت المعتقدات وتشابهت لشابهها القيم، تشابهت الأقوال والأعمال والتحليلات والتفسيرات:
"كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم" [البقرة 118]
"كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون" [الذاريات 52-53]
فالثقافات الجاهلية كلها ثقافات تطلق العنان للشهوات الجنسية فتبيح الزنا بكل أشكاله:
عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. [البخاري، النكاح:37]
هذه الإباحية الجنسية العربية أقل شراً من إباحيات أمم أخرى، لأنها كما ترى تحرص على أن يكون للمولود نسب ينتمي إليه وإن كان نسباً غير حقيقي.
وكما تبيح الحضارة الجاهلية الزنا فإنها تبيح كل مقدماته ومسبباته، فالنساء في المجتمع العربي الجاهلي، كأخواتهن في المجتمع الجاهلي الغربي، كن لا يتحرجن من إظهار محاسنهن الأنثوية لكل الرجال، فكن يكشفن شعورهن ونحورهن بل صدورهن، ولم يكن يدنين عليهن جلابيبهن، بل كن أحياناً لا يتحرجن حتى من التعري الكامل، وكن يختلطن بالرجال ويخلون بغير المحارم، وكن يتعطرن ويخرجن ويخضعن بالقول في خطابهن.
والحضارات الجاهلية حضارات لا تعرف التوسط ولا سيما في معاملة النساء.
فهي تذهب من طرف معاملتها معاملة الحيوان والعبيد (قال عمر - رضي الله عنه- كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً - البخاري، اللباس، 30-) إلى طرف مساواتها بالرجال في كل شيء بل تقديمها عليهم: (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) [النمل: 23]
"قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون. قالوا نحن ألو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين" [النمل 32-33]
وقد تغلو الحضارة الجاهلية في اتباع الشهوات الجنسية فتبيح الشذوذ، كما فعل قوم لوط وكما فعلت الحضارة اليونانية، وكما تفعل اليوم الحضارة الأوربية.
والحضارات الجاهلية كلها تبيح شرب الخمر، ولعب الميسر، وأكل الربا. وهي حضارات لا ينفك أهلها عن الفخر بالأنساب أو الألوان أو القوى المادية أو غير ذلك مما لا تعلق له القيم الفاضلة، ويتخذون مثل هذه الميزات ذريعة إلى الاعتداء على الضعفاء. هكذا كان العرب في جاهليتهم يفعلون، وهكذا فعلت الحضارة الغربية مع الأمم الضعيفة فاستعمرت بعضاً، واحتلت بعضاً، واسترقت بعضاً ثم عاملتهم أسوأ مما تعامل به الحيوان.
لكن الحضارات الجاهلية قد تفلح رغم كل هذه المثالب في بناء مدنيات باهرة، وتتفوق في العلوم الدنيوية وما يبني عليها من تقنية فتأتي بمنجزات كبيرة في مجال الزراعة والصناعة وسائر أنواع التفوق المدني العمراني. ولكن لما كان هذا الجانب المدني المادي قائماً على جرف ثقافي هار فإنه لا يلبث أن يتداعى.
"يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" [الروم: 7]
"أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها. وجائتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون." [الروم: 9]
"ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد." [الفجر:6-14]
http://www.jaafa r id r is.com المصدر :
============(12/320)
(12/321)
العلمانية
حامد العلي
أولا: العلمانية :
تعريف العلمانية : العلمانية هي ترجمة محرفة لكلمة إنجليزية تعني اللادينية ، والمقصود بها فصل الدين عن توجيه الحياة العامة ، وحصره في ضمير الإنسان وتعبداته الشخصية ودور العبادة فقط .
هدف العلمانية في العالم الإسلامي : هدف العلمانية الأكبر هو جعل الأمة الإسلامية تابعة للغرب سياسيا وثقافيا وأخلاقيا واقتصاديا ، وعزل دين الإسلام عن توجيه حياة المسلمين.
أهم وسائلها :
أهم وسائل العلمانية ثلاث :
1ـ إقصاء الشريعة الإسلامية ليزول عن المسلمين الشعور بالتميز والاستقلالية ، وتتحقق التبعية للغرب .
2ـ تفريق العالم الإسلامي ليتسنى للغرب الهيمنة السياسية عليه وذلك بربطه بمؤسساته السياسية وأحلافه العسكرية .
3ـ زرع العالم الإسلامي بصناع القرار ورجال الإعلام والثقافة من العلمانيين ، ليسمحوا بالغزو الثقافي والأخلاقي أن يصل إلى الأمة الإسلامية برجال من بني جلدتها ، ويتكلمون بلسانها .
ثالوث العلمانية المقدس :
يؤمن العلمانيون بثلاثة مبادئ تمثل أهم أفكارهم وهي :
1ـ فصل الدين عن الحياة ولامانع من توظيفه أحيانا في نطاق ضيق.
2ـ قصر الاهتمام الإنساني على الحياة المادية الدنيوية.
3ـ إقامة دولة ذات مؤسسات سياسية لادينية .
متى نشأت العلمانية :
نشأت العلمانية بصورة منظمة مع نجاح الثورة الفرنسية التي قامت على أسس علمانية .
متى وصلت العالم الإسلامي :
وصلت العلمانية إلى العالم الإسلامي مع الاستعمار الحديث ، فقد نشر المستعمرون الفكر العلماني في البلاد الإسلامية التي احتلها ، بإقصاء الشريعة الإسلامية ونشر الثقافة العلمانية ومحاربة العقيدة الإسلامية .
حكم العلمانية :
العلمانية تعني أن يعتقد الإنسان أنه غير ملزم بالخضوع لأحكام الله في كل نواحي الحياة ، ومن اعتقد هذه العقيدة فهو كافر بإجماع العلماء ، قال تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) وقال تعالى ( فلاوربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
هل للعلمانية مستقبل في العالم الإسلامي :
العلمانية محكوم عليها بالفشل والانقراض في العالم الإسلامي ، لان الله تعالى تكفل بظهور دين الإسلام وبقاءه إلى يوم القيامة وتجديده ، فلايمكن لأحد أن يمحوه إلى الأبد ، قال تعالى ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ).
ثانيا : الليبرالية :
تعريف الليبرالية :
الليبراليَّة هي وجه آخر من وجوه العلمانيِّة ، وهي تعني في الأصل الحريِّة ، غير أن معتنقيها يقصدون بها أن يكون الإنسان حراً في أن يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء ويعتقد ما يشاء ويحكم بما يشاء ، بدون التقيد بشريعة إلهية ، فالإنسان عند الليبراليين إله نفسه ، وعابد هواه ، غير محكوم بشريعة من الله تعالى ، ولا مأمور من خالقه باتباع منهج إلهيّ ينظم حياته كلها، كما قال تعالى ( قُل إنَّ صَلاتي ونُسُكِي وَمَحيايَ وَمَماتي للهِ رَبَّ العالَمِينَ ، لاشَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المِسلِمين) الانعام 162، 163 ، وكما قال تعالى ( ثمَُّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعها وَلاتتَّبِع أَهواءَ الذِينَ لايَعلَمُون ) الجاثية 18
هل تملك الليبرالية أجابات حاسمة لما يحتاجه الانسان :
الليبراليَّة لاتُعطيك إجابات حاسمة على الأسئلة التالية مثلا : هل الله موجود ؟ هل هناك حياة بعد الموت أم لا ؟ وهل هناك أنبياء أم لا ؟ وكيف نعبد الله كما يريد منّا أن نعبده ؟ وما هو الهدف من الحياة ؟ وهل النظام الإسلاميُّ حق أم لا ؟ وهل الربا حرام أم حلال ؟ وهل القمار حلال أم حرام ؟ وهل نسمح بالخمر أم نمنعها ، وهل للمرأة أن تتبرج أم تتحجب ، وهل تساوي الرجل في كل شيء أم تختلف معه في بعض الأمور ، وهل الزنى جريمة أم علاقة شخصية وإشباع لغريزة طبيعية إذا وقعت برضا الطرفين ، وهل القرآن حق أم يشتمل على حق وباطل ، أم كله باطل ، أم كله من تأليف صلى الله عليه وسلم ولايصلح لهذا الزمان ، وهل سنة الرسو صلى الله عليه وسلم وحي من الله تعالى فيحب أتباعه فيما يأمر به ، أم مشكوك فيها ، وهل الرسو صلى الله عليه وسلم رسول من الله تعالى أم مصلح اجتماعي ، وما هي القيم التي تحكم المجتمع ؟ هل هي تعاليم الاسلام أم الحرية المطلقة من كل قيد ، أم حرية مقيدة بقيود من ثقافات غربية أو شرقية ، وماهو نظام العقوبات الذي يكفل الأمن في المجتمع ، هل الحدود الشرعية أم القوانين الجنائية الوضعية ، وهل الإجهاض مسموح أم ممنوع ، وهل الشذوذ الجنسي حق أم باطل ، وهل نسمح بحرية نشر أي شيء أم نمنع نشر الإلحاد والإباحية ، وهل نسمح بالبرامج الجنسية في قنوات الإعلام أم نمنعه ، وهل نعلم الناس القرآن في المدارس على أنه منهج لحياتهم كلها ، أم هو كتاب روحي لاعلاقة له بالحياة ؟؟؟؟
المبدأ العام لليبرالية :(12/322)
فالليبراليّة ليس عندها جواب تعطيه للناس على هذه الأسئلة ، ومبدؤها العام هو : دعوا الناس كلُّ إله لنفسه ومعبود لهواه ، فهم أحرار في الإجابة على هذه الأسئلة كما يشتهون ويشاؤون ، ولن يحاسبهم رب على شيء في الدنيا ، وليس بعد الموت شيء ، لاحساب ولا ثواب ولاعقاب 0
ماالذي يجب أن يسود المجتمع في المذهب الليبرالي :
وأما ما يجب أن يسود المجتمع من القوانين والأحكام ، فليس هناك سبيل إلا التصويت الديمقراطي ، وبه وحده تعرف القوانين التي تحكم الحياة العامة ، وهو شريعة الناس لاشريعة لهم سواها ، وذلك بجمع أصوات ممثلي الشعب ، فمتى وقعت الأصوات أكثر وجب الحكم بالنتيجة سواء وافقت حكم الله وخالفته 0
السمة الاساسية للمذهب الليبرالي :
السمة الاساسية للمذهب الليبرالية أن كل شيء في المذهب الليبراليِّ متغيِّر ، وقابل للجدل والأخذ والردِّ حتى أحكام القرآن المحكمة القطعيِّة ، وإذا تغيَّرت أصوات الاغلبيَّة تغيَّرت الأحكام والقيم ، وتبدلت الثوابت بأخرى جديدة ، وهكذا دواليك ، لايوجد حق مطلق في الحياة ، وكل شيء متغير ، ولايوجد حقيقة مطلقة سوى التغيُّر 0
إله الليبرالية :
فإذن إله الليبراليِّة الحاكم على كل شيء بالصواب أو الخطأ ، حرية الإنسان وهواه وعقله وفكره ، وحكم الأغلبيِّة من الأصوات هو القول الفصل في كل شئون حياة الناس العامة ، سواءُُ عندهم عارض الشريعة الإلهيّة ووافقها ، وليس لأحد أن يتقدَّم بين يدي هذا الحكم بشيء ، ولايعقِّب عليه إلا بمثله فقط 0
تناقض الليبرالية :
ومن أقبح تناقضات الليبرالية ، أنَّه لو صار حكمُ الأغلبيِّة هو الدين ، واختار عامة الشعب الحكم بالإسلام ، واتباع منهج الله تعالى ، والسير على أحكامه العادلة الشاملة الهادية إلى كل خير ، فإن الليبراليّة هنا تنزعج انزعاجاً شديداً ، وتشن على هذا الاختيار الشعبي حرباً شعواء ، وتندِّدُ بالشعب وتزدري اختياره إذا اختار الإسلام ، وتطالب بنقض هذا الاختيار وتسميه إرهاباً وتطرفاً وتخلفاً وظلاميّة ورجعيّة 00الخ
كما قال تعالى ( وإذا ذُكِر الله ُوَحدَهُ اشمَأَزَّت قلوبُ الذين لايُؤمِنُونَ بِالآخرِةِ وَإِذا ذُكِرَ الذينَ مِنَ دونِهِ إذا هُم يَستَبشِروُن ) الزمر 45 0
فإذا ذُكر منهج الله تعالى ، وأراد الناس شريعته اشمأزت قلوب الليبراليين ، وإذا ذُكِر أيُّ منهجٍ آخر ، أو شريعة أخرى ، أو قانون آخر ، إذا هم يستبشرون به ، ويرحِّبون به أيَّما ترحيب ، ولايتردَّدون في تأيِّيده 0
حكم الاسلام في الليبرالية :
فإذن الليبراليِّة ماهي إلاّ وجه آخر للعلمانيِّة التي بنيت أركانها على الإعراض عن شريعة الله تعالى ، والكفر بما أنزل الله تعالى ، والصد عن سبيله ، ومحاربة المصلحين ، وتشجيع المنكرات الأخلاقيِّة ، والضلالات الفكريِّة ، تحت ذريعة الحريِّة الزائفة ، والتي هي في حقيقتها طاعة للشيطان وعبودية له0
هذه هي الليبراليّة ، وحكمها في الإسلام هو نفس حكم العلمانيّة سواء بسواء ، لأنها فرع من فروع تلك الشجرة ، ووجه آخر من وجوهها 0
موقع الشيخ حامد العلي
http://www.h-alali.net/thqafa3.php
==============(12/323)
(12/324)
فصل الدين عن الدولة
د. جعفر شيخ إدريس
مجلة البيان
أصبحت قضية فصل الدين عن الدولة، أو ما يسميه الغربيون فصل الدولة عن الكنيسة، من القضايا المسلم بها في الفكر الغربي السياسي، وبالتالي في الفكر السياسي العالمي الدائر في فلك الحضارة الغربية. ودعاة فصل الدين عن الدولة قد يعترفون بأن هذا أمر حدث لظروف تاريخية خاصة بالحضارة الغربية، وبالديانة النصرانية، لكنهم مع ذلك يرون أنه أصبح أمراً لازماً لكل دولة حديثة، ويسوغون هذا بأن الأساس في الدولة الحديثة هو المواطنة. وما دام المواطنون في الدولة الواحدة لا ينتمون في الغالب إلى دين واحد، بل تتقاسمهم أديان متعددة، وقد يكون بعضهم ملحداً لا يؤمن بدين، ففي التزام الدولة بدين واحد من هذه الأديان افتئاتاً على حقوق المواطنين المنتمين إلى الأديان الأخرى أو المنكرين لها كلها لأنه:
يفرض عليهم دينا لا يؤمنون به،
ويحرمهم من ممارسة الدين الذي اختاروه إما كله أو بعضه،
ويحرمهم من حقهم في شغل بعض الوظائف الكبيرة كرئاسة الدولة،
وقد يكون سببا لخلافات ونزاعات عميقة تفقد الدولة معها الاستقرار اللازم لتطورها.
ويرون لذلك أن تكون الدولة دولة علمانية محايدة لا تلتزم بالدين ولا تحاربه ولا تنكره، بل تترك أمره للمواطنين يختارون ما شاؤوا من عقائد، ويلتزمون بما يريدون من قيم، ويمارسون ما يروق لهم من عبادات.
هذه الصورة للعلمانية التي حرصت على أن أجعلها براقة كأشد ما يريد المدافعون عنها أن تكون، تنطوي على افتراضات هي أبعد ما تكون عن الحقيقة. من ذلك:
أولا: أنها تفترض أن العلمانية يمكن أن تكون محايدة بالنسبة لكل الأديان. لكنها لا تكون كذلك إلا إذا كان مجال الدين مختلفاً عن مجال الدولة، إلا إذا كان الدين والدولة يعيشان في منطقتين مستقلتين لا تماس بينهما، وأن دعاة الدولة الدينية يقحمون الدين في مجال غير مجاله، ولذلك يضرون به وبالدولة.
فهل هذا الافتراض صحيح؟ إنه لا يكون صحيحاً إلا إذا كان الدين محصوراً بطبعه في بعض المعتقدات وبعض الشعائر التعبدية، وبعض أنواع السلوك الشخصي الذي لا علاقة له بالجماعة، ولا يدخل لذلك في مجال الدولة. لكن الواقع أن هذا الوصف لا ينطبق على أي من الأديان الكبيرة المشهورة: اليهودية والنصرانية والإسلام. فما منها إلا وله حكم في العلاقات بين الجنسين، وفي العلاقات الأسرية، والاجتماعية، وفيما يحل أكله وشربه وما يحرم، وهكذا. وكلها أمور تدخل بالضرورة في مجال الدولة.
كيف حل الغربيون هذا الإشكال؟
حلوه بنوع من المساومة: فهم قد أخذوا بعض القيم النصرانية وجعلوها قوانين للدولة. وهم يجعلون اعتباراً كبيراً لقيمهم الدينية في سياستهم الخارجية، ولا سيما في معاملة الإسلام. لكنهم في الجانب الآخر تركوا أشياء من دينهم، وساعدهم على ذلك تاريخهم المليء بتحريف الدين إما في نصوصه أو في تأويله، ثم جاءت في العصور الأخيرة حركات فكرية تحررية أذاعت القول بأن ما يسمى بالكتاب المقدس ليس كلام الله تعالى، وأنه من كتابة بشر عاديين تأثروا بالجو الثقافي في المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها. ولذلك فإن ما قرره هذا الكتاب في مسائل مثل الشذوذ الجنسي ينبغي أن لا ينظر إلا على أنها قيم مجتمعات سابقة. هذا كلام لا يقوله السياسيون والحكام فحسب، وإنما يقوله كثير من رجال الدين، والمختصين بدراسته. لكن حتى هؤلاء المتحررون يشعر الكثيرون منهم الآن أن العلمانية لم تعد محايدة بين الأديان بل صارت هي نفسها دينا يدافع عنه أصحابه ويحاربون به النصرانية. وأذكر أن أحدهم قال لي في أحد المؤتمرات ناصحا: لا تخدعوا كما خدعنا، فتظنوا أن العلمانية موقف محايد، بل هي الآن دين. أو كما قال ذاك الناصح.
فكيف تحل هذه المشكلة بالنسبة لأناس كالمسلمين يرون أن القرآن كلام الله تعالى لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن ما صح من سنة رسول الله هو أيضا وحي الله؟
وكيف إذا كان دينهم لا يقتصر على ما ذكرنا من أمور تدخل في نطاق الدولة، بل يتعداها إلى أخرى هي من أخص خصائص الدولة؟
ما ذا يفعل هؤلاء؟ لا خيار لهم بين الحكم بما أنزل الله ورفض العلمانية، أو الحكم بالعلمانية والكفر بما أنزل الله تعالى.
إن أكثر ما يتعلل به دعاة العلمانية في بلادنا هو اختلاف الأديان في البلد الواحد. بأي حق يقولون ـ تفرض على أناس دينا غير دينهم، وقيما ليست قيما لهم؟ ماذا إذا لم يكن في البلد إلا مسلمون، أو كان غير المسلمين أفرادا قلائل؟ لماذا يفصل هؤلاء بين دينهم ودولتهم؟(12/325)
وحتى لو كان المنتسبون إلى غير الإسلام من أصحاب الديانات الأخرى يمثلون نسبا كثيرة، فإن العلمانية ليست هي الحل العادل. لأن أصحاب هذه الديانات إما أن يكونوا في السياسة علمانيين، وإما أن يكونوا ممن يريد للدولة أن تستمسك بعقائده وقيمه وتدافع عنها. فإذا كان من الفريق الأول يكون المسلمون قد تنازلوا عن دينهم بينهما هو لم يتنازل عن شيء، لأن العلمانية هي مبدؤه سواء كان هنالك مسلمون أو لم يكن. أذكر أنني قلت ذات مرة لبعض الجنوبيين المثقفين عندنا في السودان إنكم لا تعترضون على الحكم إذا كان اشتراكياً كما كان الحال في أوائل حكم الرئيس نميريى، ولا تعترضون عليه إذا أقر الرأسمالية أو الليبرالية، لأنكم تعتقدون أن الدين لا دخل له بهذه المسائل، فلماذا إذن تعترضون على الحكم الإسلامي. إن الإسلام لا يفرض عليكم دينا بالمعنى الذي حصرتم الدين فيه، أعنى العبادات والأحوال الشخصية. فلماذا لا تعاملون جانبه السياسي معاملتكم للإشتراكية والرأسمالية لأنه يعطيكم أكثر مما تعطيكم إياه العلمانية؟
يقول أنصار العلمانية في الغرب وفي البلاد الإسلامية، إن هذا قد يكون صحيحاً لكنكم في الحكم الإسلامي تفرقون بين الناس بسبب دينهم، فتمنعون غير المسلم من أن يكون رأس دولة. وأقول لهم دائما: ولكن العلمانية هي الأخرى تفعل ما نفعل. إنها تشترط على الإنسان أن يكون علمانياً لكي يكون رأس دولة، تشترط عليه أن يؤدي القسم للولاء لدستور يفصل الدين عن الدولة، أي أنها تشترط على المسلم أن يعلن كفره بجزء من دينه. وإذا فعل هذا عن اعتقاد كان كافراً خارجاً عن الإسلام. وإذن فكما أن الإسلام يشترط في رأس الدولة المسلمة أن يكون دائنا بدين الإسلام، فإن العلمانية تشترط في رئيس دولتها أن يكون دائنا بدينها. فما الفرق.
يقولون: لكن العلمانية ليست ديناً. ونقول هذا في مفهومكم أنتم. أما في لغتنا العربية، وديننا الإسلامي، فإن كل ما يلتزم به الإنسان من عادات وتقاليد، ومن باب أولى من قيم وعقائد، هو دينه، سواء كان مبنيا على إيمان بالله أو كفر به. أم لم تسمع قول الشاعر العربي عن ناقته:
إذا ما قمت أرحلها بليل *** تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا شدد لها وضيني *** أهذا دينه أبدا وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال؟ *** أما ... أما يقيني؟
فإذا كان دوام الحل والارتحال دينا فما بالك باعتياد معتقدات وقيم وسلوك؟ ألم يقل الله تعالى عن سيدنا يوسف (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) يعني ما نسميه نحن الآن بقانونه؟العلمانية ليست إذن حلاً لبلد يكون فيه المسلمون أغلبية، بل ولا حتى أقلية معتبرة، إذ أن ما تطلبه العلمانية من المسلمين إنما هو التخلي عن دينهم من أجل دين العلمانيين.
http://www.jaafa r id r is.com المصدر :
=============(12/326)
(12/327)
مسلمو السويد: العلمانية هي الحل!!
حاوره في الكويت: مسعود صبري**- 27/07/2005
الشيخ حسان موسى
في ظل الأزمات التي يعيشها المسلمون في الغرب، ومع الضغوط التي تمارسها بعض الجماعات على الأقلية المسلمة -وهي في غالبها جماعات دينية- يرى الشيخ حسان موسى رئيس المجلس السويدي للأئمة، إمام وخطيب مسجد الشيخ سلطان آل نهيان بأستكهولم.. أن الخير للمسلمين في أوربا عامة، وفي السويد خاصة ألا يبحثوا عن دولة دينية؛ بل الأصلح لهم أن يُحكَموا في ظل دولة علمانية ديمقراطية تحكم فيها الأغلبية، مع مراعاة الخصوصية الثقافية والدينية للأقلية المسلمة.
ويرفع الشيخ حسان موسى شعار "العلمانية هي الحل"، ويرى أنه من الخير للمسلمين كأقلية في الغرب أن يتبنوه، مع تغليب جانب المواطنة، وأن الاندماج الواعي في المجتمع الذي يعيشون فيه هو من أهم الأسباب التي تضمن بقاء المسلمين في الغرب.
* فضيلة الشيخ حسان، كيف ترى وضع المسلمين في المجتمع السويدي؟ وما مساحات النور ومساحات الظلام في وضع المسلمين هناك؟.
- لا بد أن نتفق على أن دول الاتحاد الأوربي "ليسوا سواء"؛ هناك الظالم، وهناك المتعسف في استخدام قوانين الهجرة، وهناك من تظهر فيهم العنصرية والميل إلى التشدد في المعاملة مع المسلمين، وهناك دول تتعامل مع الإسلام بتسامح، ومن بين هذه الدول المتسامحة مع المسلمين السويد. ولا يعني هذا أنه ليس هناك عنصرية أو تضييق على الإطلاق، ولكن مقارنة ببعض الدول كألمانيا وفرنسا وإيطاليا أعتقد أن السويد نموذج جيد للتعامل مع الآخر وقبول الأجنبي. ففي السويد ينعم الوجود الإسلامي بأمن وأمان واستقرار، وهناك العديد من المؤسسات الإسلامية، فلدينا أربعة مساجد، أحدها في العاصمة أستكهولم، بالإضافة إلى أكثر من 150 جمعية إسلامية لها نشاطها الخيري الذي يسعى لنشر الإسلام في السويد. وليس لدى السويد مشكلة في بناء المساجد، بل تسعى لتقديم الدعم المادي والمعنوي لبناء المساجد.
كما أن هناك العديد من المدارس الإسلامية التي تموَّل من قبل الدولة؛ حيث يدرَّس فيها المنهج السويدي، بالإضافة إلى تدريس مادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية.
كما أن الحكومة السويدية عرضت أن يكون في كل بلد يسكنها مسلمون مكاتب للدفن ومقبرة يدفنون فيها موتاهم على الطريقة الإسلامية.
ومن أهم ما ينعم به الوجود الإسلامي بالسويد قضية الدعم المادي من الدولة؛ حيث تتبع الجمعيات الإسلامية وزارة الثقافة السويدية، وهذا يعني أن السويد لا تتعامل مع الجمعيات من منطلق أمني كما هو موجود في بعض دول أوربا. فالدولة تقدم مساعدات تتراوح من 30 إلى 60% من ميزانية الجمعيات والمؤسسات.
كما أن هناك نشاطًا سياسيًّا للوجود الإسلامي بالسويد، وصل إلى تمثيل لا بأس به للمسلمين بالبرلمان السويدي والبلديات. ولعل الانتخابات القادمة ستشهد تطورًا ملحوظًا في وجود الإسلاميين والإسلاميات في البرلمان والبلديات بالسويد، وهذا الأمر يعود الفضل فيه لله أولا وآخرًا، ثم إلى الجهود التي تبذلها الجمعيات، بالإضافة إلى الميزانيات التي تقدمها الدولة.
* ما علاقة اللوبي اليهودي في السويد بالوجود الإسلامي؟
- أنا أقول: إننا كأقليات -مسلمة أو يهودية أو غيرها- تجمعنا المواطنة وما يتبعها من حقوق، وما يستلزم ذلك من واجبات، وإننا دائما نؤكد أن القانون السويدي إن كان يسمح بالتعاطف مع إسرائيل ومساعدتها، فإنه ليس من حق اللوبي اليهودي أن يضيق علينا أو أن يستغل نفوذه ضدنا لمنع وقوفنا مع إخواننا في فلسطين.
* هل يمكنكم أن ترسموا لنا خريطة الدعوة والدعاة في السويد؟ بمعنى تعريفنا بالمناهج والتيارات الدعوية الموجودة، وأثر ذلك على المسلمين؟.
- نحن نقول دائمًا: إن العمل المؤسسي يخفف من غلواء أي طائفة أو فكر أو جماعة، وإننا لا بد أن نحترم قوانين البلد الذي نعيش فيه في إطار ما يسمَّى بالمواطنة الإيجابية، وأنه لا مكان لتيار الغلو والعنف، الذي يريد أن يحولنا إلى ما يسمى فقه "الاستحلال"؛ فنحن نرفض هذا الفقه، ونرفض أن تتحول السويد إلى دار حرب؛ فنحن نعتقد أن السويد دار دعوة وقد دخلنا السويد بعقد أمان. ولكن مع ذلك فكل ألوان الطيف موجودة، ونحن سعينا إلى إيجاد ما يعرف بـ"الميثاق الإسلامي" الذي نحتكم إليه جميعًا دون تعصب أو تشنج، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}؛ فهذه دعوة للاندماج دون ذوبان، يعتمد الوحي ولا يغيِّب العقل.
* ذكرتم أنكم سعيتم لإيجاد ميثاق إسلامي، فهل هذا الميثاق تم الاتفاق عليه، أم ما يزال تحت الدراسة والإعداد والبحث؟.
- هناك ميثاق قام بإعداده اتحاد المنظمات الإسلامية بأوربا، فأخذنا منه ما يناسبنا، وأضفنا إليه بعض الأشياء، وعملنا عليه خلال سنة، ولكن الصياغة وبقية خطوات الإعداد تأخذ وقتًا، وأعتقد أن الرابطة الإسلامية سوف تلعب دورًا في إنجاز هذا الميثاق.
* ما أبرز المشكلات التي تواجه المسلمين في السويد؟(12/328)
- أعتقد أن أهم مشكلة تواجه المسلمين في السويد -والغرب عمومًا- هي مشكلة عدم الفهم الصحيح، فإذا أضفنا له الجهل، تكون المسألة أكثر تعقيدًا. فعدم الفهم يعطي صورة خاطئة عن الإسلام، فنحن نعاني من ازدواجية خطاب وازدواجية ممارسة، وازدواجية تصرف، انعكست على صورة الإسلام، وأعطت صورة غير جيدة عن الإسلام عند بعض السويديين.
المسألة الثانية وهي عدم قدرة بعض الأسر المسلمة على الانسجام مع المجتمع السويدي، والوضع الجديد؛ فالحياة في "السويد" تعطي المرأة كثيرًا من الحقوق، فتوفر لها السكن والمعاش، وتساندها في مواقفها بالحق وبالباطل؛ فبعض الأشخاص حين ينفتح على الوضع الجديد تحدث له هزات في الفكر والسلوك، فينعكس هذا في حدوث بعض المشكلات مع الأبناء، وقد يتم سجن بعضهم للانحراف السلوكي، أو حدوث حالات طلاق، تتراوح نسبتها ما بين 35 إلى 37 بالمائة بين المسلمين بالسويد، كذلك بعض التصرفات من بعض المسلمات أعطت صورة غير لائقة للمرأة المحجبة.
* هل من الممكن أن تعطي لنا نماذج من الانحراف السلوكي لبعض المسلمين مما يكون له أثر سيئ على الدعوة؟
- على سبيل المثال: القانون السويدي يعطي المرأة المطلقة راتبًا شهريًّا وسكنًا، فيقوم بعض الأزواج بإثبات الطلاق المدني مع استمرار الزواج لكي تحصل المرأة على هذه المنح!! وقد يُكتشف عدم الانفصال بين الزوجين من خلال رؤية المرأة حاملاً، أو من خلال رصد الشئون الاجتماعية، وحين تُسأل المرأة عن ذلك تقول: الإسلام يحل لي ذلك!! مما أدى إلى تضييق الدولة على المسلمين في هذا، وأخذ فكرة غير طيبة عن الإسلام والمسلمين ككل.
* ما علاقة مسلمي السويد بالمجتمع السويدي؟ وما علاقتهم بمسلمي أوربا بشكل عام؟
- بالنسبة لعلاقة المسلمين بالمجتمع السويدي فهي أنواع:
النوع الأول هو علاقة الذوبان، فتلك الطائفة رأت أن الاندماج هو المسايرة في كل شيء؛ في اللهو والمجون والتمرد على كل فضيلة وعلى كل قيمة، ولا يمكن معرفة إسلام الواحد منهم إلا من خلال الاطلاع على الهوية!!.
وهناك طائفة تحاول أن تجمع بين بعض العادات والتقاليد من هنا ومن هناك؛ فهي تريد أن تجعل لها "رِجلا في الجنة ورِجلا في النار" كما يقال، يعني تساير المجتمع في بعض المخالفات، وتحافظ في الوقت نفسه على بعض قيم الإسلام.
وهناك طائفة للأسف تناصب العداء للإسلام، وأقول -وكلي أسف-: إن هذه الطائفة هي أشد عداوة للإسلام والمسلمين من السويديين أنفسهم، وعلى سبيل المثال كان هناك لقاء مع وزيرة الهجرة السويدية بعد أحداث 11 سبتمبر، فارتدت الوزيرة الحجاب من باب التضامن مع المسلمين، فإذا ببعض المنتسبين للإسلام يعترضون عليها ويقولون: كيف تثبتين هذا التخلف ونحن نحاربه منذ فترة من الزمن؟!! فردت عليهم: إننا فعلنا هذا لنعلن للمسلمين أننا معهم، ولأن المرأة المحجبة قد تكون أكثر عرضة للخطر والتمييز، فأحببنا أن نشاركهم محنتهم.
وهناك طائفة أخيرة ترى الاندماج الإيجابي -أي دون ذوبان- من خلال فهم للإسلام يجمع بين النص والواقع، وهذا هو الفهم الذي يتبناه اتحاد المنظمات والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وغيرهما من المنظمات الإسلامية في الغرب.
* ما موقفكم من العلمانية في أوربا بشكل عام، وفي المجتمع السويدي بشكل خاص؟
- العلمانية نتاج فكر وممارسة وصلت إليها أوربا بعد صراع مرير مع الكنيسة، وهي في أيسر تعريفاتها تعني فصل الدين عن الدولة، وأن الكنيسة لا سلطة لها على الدولة، وأن الدولة لا تحكم لا بالإنجيل ولا بالتوراة، وإنما تحكم بمنظومة قانونية في إطار عملية ديمقراطية، وقناعات شعبية وصل إليها المجتمع من خلال الممارسة والحراك الفكري والسياسي. لهذا فإننا -كأقليات مسلمة- ونظرًا لوجود آليات ديمقراطية مع هذه العلمانية؛ لأن العلمانية في السويد ترى أنه على الأغلبية أن تراعي الخصوصية الثقافية للأقليات، كما تتضمن بعض القيم الإيجابية مثل: الحرية الشخصية وحرية التدين، والحرية السياسية. لذا أعتقد أننا كأقلية لسنا بحاجة إلى دولة دينية، بل إلى دولة ديمقراطية يحكمها حزب مسيحي. وإن كنا في دولنا العربية نقول: "الإسلام هو الحل"، بحكم أن الأغلبية للمسلمين، فإننا كأقلية نقول: "العلمانية هي الحل" لو كانت بهذه المفاهيم التي أشرنا إليها، فإننا من خلالها نستطيع أن نؤكد على مبدأ أننا في مجتمع متعدد الأعراف والثقافات والأديان، يحترم فيه الجميع بعضهم: "لكم دينكم ولي دين".
* ما نوعية البرامج الدعوية التي تقومون بها في السويد؟(12/329)
- نحن نركز في أنشطتنا الدعوية على الشباب؛ لهذا أنشأنا العديد من المؤسسات، مثل "مؤسسة الكشاف المسلم"، و"المؤسسة السويدية"، و"منتدى الشباب المسلم"، ومؤسسة "الهلال"، وهذه المؤسسات تنظم للشباب رحلات ومسابقات ومؤتمرات. كما أن عندنا "اتحاد الشباب المسلم"، و"الاتحاد الوطني"، وهو يمول من قبل الحكومة، ويتكون من أكثر من 27 جمعية شبابية، ويقوم بعقد دورات تربوية، ومؤتمرات سنوية، يشارك فيها مئات من الشباب، بالإضافة إلى "مدارس نهاية الأسبوع" التي تلعب دورا كبيرًا في إعداد النشء من خلال تعليمهم اللغة العربية والقرآن الكريم وبعض القيم الإسلامية، وخاصة في مسجدنا الكبير مسجد الشيخ زايد آل نهيان، بالإضافة إلى المدارس الإسلامية التابعة للرابطة الإسلامية التي تضم أكثر من 4 مدارس، تدرس المنهج السويدي، بالإضافة إلى بعض القيم باللغة العربية وبعض مبادئ التربية الإسلامية.
كما أن هناك عددًا كبيرًا من الأئمة في المجلس الذي أتشرف برئاسته، وهو يضم عددًا من الأئمة، ومعظمهم خريجو جامعة الإمام محمد بن سعود، أقلهم معه شهادة "الماجستير"، يقومون بعملية التوجيه والإرشاد والفتوى، والرد على الاستشارات، وغيرها من الأعمال التي يقوم بها المجلس؛ حيث يمثل هذا المجلس مرجعية كبيرة في كثير من قضايا المسلمين بالسويد. والمجلس رغم حداثة نشأته فإنه استطاع أن تكون له مكانة كبرى لدى الحكومة السويدية والشعب السويدي، وهو أحد المؤسسات التي تعول الرابطة الإسلامية على أن يكون له دور كبير مستقبلا، إن شاء الله.
===========(12/330)
(12/331)
مسلمو هولندا.. آمال تناطح صخرة العلمانية
حوار: نصر الدين الدجبي*- 23/02/2004
السيد إدريس البوجوفي
تنتهج هولندا -كسائر الدول الأوربية- النمط العلماني في إدارة شئون البلاد، وبموجب هذا فإن فكرة فصل الدين عن الدولة هي الإطار الذي تتعامل به في علاقتها بالمجتمع المدني، وحاولَتْ خلال الحقب التاريخية الماضية أن تتوخى هذا المنهج، دون أيّ تدخل في شئون أي مجموعة دينية، سواء كانت مسيحية بطوائفها المختلفة، أو يهودية، أو حتى الهندوسية، وكذلك الإسلامية.
غير أن علمانية الدولة لا تمنع من أن يكون لهذه المجموعات الدينية الحق في أن تحظى بدعم الدولة ذاته حسب قانون البلد نفسه، لذلك فإن التزامات الحكومة تجاه هذه المجموعات الدينية بما فيها المجموعة الإسلامية ليست بمنأى عن هذا الحق المكفول دستوريا. غير أن هذا الحق سبقنا إليه أصحاب الديانات الأخرى، فقد حصل عليه المسيحيون سنة 1948م، واليهود في فترة لاحقة، وأخيرا وفي سنة 2000 ناله الهندوس، ولا يزال المسلمون إلى اليوم مشتتين وغير عارفين كيف ينالون حقهم الطبيعي.
بهذه المقدمة استهل السيد إدريس البوجوفي نائب رئيس مجلس ممثلي المسلمين في هولندا حديثه، وهو الذي وقَّع الإعلان على تأسيسه يوم 7 فبراير من هذه السنة (2004)، وهو أحد النشطين في الحقل الإسلامي منذ أربعة عقود، حين قدم إلى هولندا سنة 1964م، في زمن كانت هولندا تستقطب المغاربة ليعملوا في وضع بنيتها التحتية.
ومعرفة السيد البوجوفي بالواقع، وخبرته بشئون الجالية، واحتكاكه بالهولنديين لا تجعلك تفرق بينه وبين الهولندي الأصلي، الذي يدافع عن وطنيته الهولندية، كما أن تمكنه من اللغة جعل الرجل مقصدًا للساسة والإعلاميين الهولنديين للتشاور وأخذ رأيه في القضايا الإسلامية.
وقد كان لنا معه هذا الحوار على إثر الإعلان عن مجلس تمثيل المسلمين لدى الحكومة الهولندية.
* السيد إدريس هل يمكنك أن تضعنا في إطار الخطوات المهمة التي خطاها المسلمون في هولندا على طريق إيجاد حوار بينهم وبين الحكومة؟ وأين يقفون الآن من هذا الاعتراف؟
- لقد كانت جُل دعاوى الاعتراف التي تمت إلى الآن بمثابة مبادرة من الحكومة، ولقد كانت أُولاها سنة 1988م بعد التقرير الذي أصدرته لجنة منبثقة عن وزارة العدل، دعت الحكومة فيه إلى ضرورة إيجاد خط تواصل وتمثيل رسمي للمسلمين لدى الحكومة، ليتم أخذ الرأي مع هذه الجهة في القضايا الإسلامية المطروحة أمامهم.
ثم كانت المبادرة الثانية من الحكومة الهولندية في 1989م على إثر الفتوى التي أصدرها الخميني بقتل سلمان رشدي لتهكمه على النبيمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبدا على إثر ذلك مزيد من الحرص، واستدُعي ممثلو المجموعات الإسلامية في هولندا للحديث معهم حول تنظيم الصف وتعيين من يمثل المسلمين. وكانت هذه الرغبة من الحكومة دعما كبيرا لتحرك أقطاب الجالية والدخول في حوار أسفر سنة 1992م عن تحديد ممثلين للمسلمين تحت اسم مجلس ممثلي مسلمي هولندا (I r N)، ويضم 80% من قيادات المنظمات الإسلامية. غير أن مجموعة صغيرة شككت في هذا المجلس، فاضطرت الحكومة إلى عدم الاعتراف بكليهما، وظلت الأمور على ما هي عليه إلى شهر مايو 2001م، عندما صرح الشيخ المؤمني إمام مسجد النصر في روتردام بما أثار حفيظة الشاذين جنسيا، فتدخلت الحكومة للمرة الثالثة لدعوة ممثلي 8 منظمات كبرى، وحثهم على جمع الشمل وتكوين مجلس يمثلهم؛ فيسهل التواصل مع المسلمين، ويحقق مزيدا من التفهم لقضاياهم، وكانت المبادرة من "فان بوكستل"(van Boxtel) وزير المدن الكبرى.
وفي 11 سبتمبر 2001 كلف الوزير هذه المجموعة بالإعداد لتكوين مجلس يمثلهم، ورصد لذلك مبلغا مساعدةً للجنة التحضيرية، إلا أن أحد الحاضرين قبل التسجيل بأيام بدا في وسائل الإعلام مشككًا ومتهمًا عمل اللجنة والمجلس الذي سينبثق عنها، وأنها ممثلة للسنة دون بقية الطوائف الأخرى.
وعلى الرغم من كل هذا لم يتخلَّ الإخوة في لجنة التحضير عن مسئوليتهم، وتابعوا الإعلان عن هذا المجلس لتمثيل المسلمين في هولندا CMO، والآن لم يبق من الحكومة إلا أن تعترف بنا؛ لأن الذي شكك اليوم هو نفسه الذي شكك بالأمس القريب، وادعائه استثناء المسلمين الليبراليين والشيعة الأحمدية هو محل هراء ولا أساس له من الصحة.
* السيد البوجوفي، لقد تم التأسيس والإعلان، وأنشئت الآن لجنة أو مجلس لتمثيل المسلمين، ولكن الحكومة لم تعترف بهذا المجلس.. كيف ترون الحل لهذه المشكلة التي ستكون عائقًا كبيرًا في طريق تحقيق أهدافكم؟
- الحكومة تطلب منّا تحقيق المستحيل قبل أن نبدأ، وأن نجمع المسلمين بمختلف مشاربهم وأطيافهم، وأن تكون نسبة التمثيل 100%، وهو الرقم المرفوض ديمقراطيا قبل أن يكون واقعيا؛ فالبعض من المسلمين لا يريد أن يكون له تمثيل ديني، وهو يعترف بأنه ينتمي إلى المجموعات الاجتماعية أقرب منها إلى الدينية، والبعض الآخر ليس له تمثيل؛ فكيف يمكن أن ندخلهم في شكل أفراد، والباب لم يغلق أمام أي طرف من المسلمين بجميع أطيافهم ومذاهبهم؟(12/332)
والحل -حسب رأيي- هو أن يتم الاعتراف وفي أقرب وقت، وهذا يخدم مصلحة الحكومة من ناحية أنه يسهل عليها التواصل مع هذه المجموعة الدينية التي لا يمكن تجاهلها، أو حتى غض الطرف عن شئونها، وفهم ما يدور حولها وداخلها، وهذا يجنبنا الدخول في مطبات الفعل ورد الفعل، ومن الناحية الأخرى المجموعة الإسلامية باعتبار أنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الهولندي، ولها الحق في التمتع بالرعاية.
* السيد البوجوفي، من الذين حضروا لقاءكم التأسيسي وزيرة شئون الأجانب الهولندية السيدة "فردنك" التي لم تَعِد بالاعتراف بكم على الرغم من اعترافها بأحقية المسلمين في أن يكون لهم كيان يمثلهم كما سبق أن ناله المسيحيون واليهود والهندوس، فكيف تقرأ خطاب الوزيرة؟
- خطاب الوزيرة كان في مجمله إيجابيا، وإن لم يكن بالمستوى الذي كنا نرجوه؛ فهو إيجابي؛ لأنها أكدت أحقية المسلمين في التمثيل، وهذا دليل على رغبتها في إيجاد حل لهذا الأمر. أما ما روجته وسائل الإعلام من أنها لن تدفع لنا مساعدات مالية فنحن لا نريد مساعدات؛ فوجود تمثيل بهذه القوة وهذا الزخم من كبرى المنظمات الإسلامية يجعلنا في غنى عن المساعدات المالية. المهم هو الاعتراف الكامل؛ لأن هذا يمكننا من أن نحقق أهدافنا، وكل ما في الأمر هو أن المساعدات التي كانت ستدفع تحفيزا للجنة التحضيرية لإنجاز هذا اللقاء التأسيسي لم تُدفع، وتكفّلت بها المجموعات المؤسسة أنفسها.
فما نرجوه من الوزيرة هو التسريع في الاعتراف؛ لأننا بهذا الاعتراف نجنب هولندا عددًا من المشكلات نحن في غنى عنها، ولا نقع في مثل ما وقعت فيه فرنسا، وتعود بالتالي على الطرفين بالسلب.
* هل من أهداف وضعها المجلس لنفسه؟ وما أولويات العمل عنده؟
- نحن أهدافنا محددة، وقد كفلتها لنا القوانين الهولندية نفسها، وكما تعمل تحتها باقي المجالس الدينية بصفة عامة، فنحفظ للمسلمين حقهم في العناية الروحية، وتقنين وضعية الأئمة، وتأهيلهم التأهيل الذي يناسب المكان الذي هم فيه، والدور الذي يلعبونه.
ولعل أهم قضية تعترض تواصل الأجيال هي عدم تمكن الإمام من لغة البلد التي هي لغة الجيل الثاني والثالث، وإذا لم نتدارك هذه النقيصة فإننا بذلك ننقطع عن أكثر من نصف المسلمين، ولذلك فإنها من أولوياتنا القصوى، بالإضافة إلى تصحيح نظرة عدد من الهولنديين حول الإسلام وما علق به من شبهات هو براء منها.
ومن ذلك أيضا تشتتنا واعتقاد كل طرف أو جهة أن الإسلام قد ساهم في تكريس هذا الانطباع، كما أننا مدعوون إلى التصدي للصورة السيئة التي تحاول وسائل الإعلام تكريسها حول الإسلام والمسلمين.
* يروج كثير من الناس لقضية الخوف من الإسلام كدين يمكن أن يهدد تركيبة المجتمع ويحدث فيه شروخا هم في غنى عنها.. فماذا تقول في ذلك؟
- أنا أرى أن هذا التخوف موهوم ولا محل له، وإن كانت تروج له بعض الجهات المغرضة، والأدلة على ذلك كثيرة، منها أن المسلم الذي ينتمي إلى الإسلام أصبح متشبعا بالإسلام ويدافع عن إسلامه كما يدافع عن وطنيته الهولندية.
كما أن الإسلام أصبح جزءًا من تركيبة المجتمع لا يمكن تغافله أو الاستغناء عنه. على الصعيد نفسه فإن الهولنديين بمختلف شرائحهم السياسية والاجتماعية والثقافية يتعاملون مع الإسلام كجزء من مكونات المجتمع، وغالبيتهم يعرف أن هذا التخوف موهوم؛ لأن تركيبة المسلمين بصفة عامة لم تعد مغاربة أو أتراك أو سرنام، وإنما هولنديون ممن اعتنقوا الإسلام، وأبناء ولدوا وتربوا وتشبعوا بثقافة البلد، ولذلك لا يمكن لشعب يتباهى بالحرية أن يلفظ أبناءه، أو يمنعهم حقا كفله الدستور لهم.
* أوردت وسائل الإعلام تصريحات لعدد من المسلمين وغير المسلمين؛ مفادها أن المجلس سيعترضه عدد من العراقيل.. فما هي هذه العراقيل التي يمكن أن تعطل مسيرتكم؟
- لعل أهم العراقيل التي يمكن أن تؤخر مسيرتنا قد تكون من المسلمين أنفسهم، بعدم تآزرهم وتوخي الحكمة والعلم في الحديث عن الإسلام؛ وهو ما يجعلهم لقمة سائغة لوسائل الإعلام التي لا ترحم، والمغرضين الذين يتبعون زلاتنا وهفواتنا؛ لذا فإن فهم المسلمين لدورهم وحسن التعامل مع قضاياهم العالقة في هولندا هو جزء من حل المشكلة.
النقطة الثانية التي قد تكون معيقة لنا هي إمكانية تأخر الحكومة في التعامل معنا كجهة رسمية يتحاور معها في القضايا الدينية المختلفة؛ لذا فإن الحكومة مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى الوقوف مع هذا المجلس ودعم مسيرته.
============(12/333)
(12/334)
مسلمو فرنسا لا يهددون العلمانية
مسجد باريس عنوان لمسلمي فرنسا
اعتبر عدد من الخبراء الفرنسيين والشخصيات الإسلامية أن الجدل المثار حاليا في فرنسا حول ما أسماه البعض بـ"الخطر الإسلامي" على علمانية البلاد بعيد تماما عن الواقع وليس له أساس من الصحة، مؤكدين أن وضع المسلمين في فرنسا لا يمكن أن يؤثر على العلمانية التي يؤيدها الغالبية العظمى من الفرنسيين.
وقال أكسفيان ترنسيسان الكاتب والصحفي المتخصص في الشؤون الإسلامية بجريدة "لوموند" الفرنسية في تصريحات خاصة لشبكة "إسلام أون لاين.نت" الأربعاء 16-7-2003: "إن الجدل الذي ثار مؤخرا حول إمكانية تعرض العلمانية للخطر ليس صحيحا كما يدعي البعض"، مشيرا إلى أن "فقدان مسلمي فرنسا للوحدة العرقية والمذهبية واللغوية إضافة إلى تمثيلهم العددي بالنسبة للمجتمع الفرنسي ينقص من قدرتهم على التحرك ككتلة متجانسة".
وأوضح ترنسيسان أن "استعمال كلمة جامعة مثل مسلمي فرنسا تظل قاصرة عن الكشف عن حقيقة التركيبة الثقافية والمذهبية والقومية لمسلمي فرنسا"، مضيفا أنه "يمكن أن نتحدث في فرنسا عن مفاهيم مختلفة للإسلام، وطرق لمعايشة الحياة الإسلامية تختلف باختلاف الأصول القومية والاختلافات اللغوية والتصورات المذهبية".
جماعات متفرقة
وأشار إلى أنه لا يوجد شيء يجمع -على سبيل المثال- بين جماعة الدعوة والتبليغ التي تتمركز في الدائرة الحادية عشرة من باريس وجماعة الأحباش التي تنشط في الضواحي، والتيار الشبابي الجديد الذي يقوده الداعية والباحث طارق رمضان.
وقال ترنسيسان: "إن ما يضعف من قوة هذه الكتلة أن الإسلام بالنسبة لأغلبها لا يعدو إلا أن يكون عنوانا ثقافيا عاما وضبابيا"، مضيفا أن "نسبة المطبقين للإسلام تتراوح بين 10و20%؛ أي حوالي 400 ألف من جملة حوالي 6 ملايين مسلم بفرنسا".
وأضاف: "صحيح أن المسلمين بفرنسا أكثر حرصا من غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى على تطبيق مبادئ دينهم، لكن منهم من يشربون الكحول، ومنهم من لا يترددون على المساجد.. أي أن هناك جزءا كبيرا من الجالية الإسلامية معلمن" بالفعل.
وعين الرئيس الفرنسي جاك شيراك الملحق الإعلامي لرئاسة الجمهورية "برنار ستاسي" في 1-7-2003 رئيسا للجنة "تكون مهمتها مراقبة تطبيق مبادئ العلمانية" في فرنسا.
وكانت دراسة صادرة عن المعهد الفرنسي للرأي العام في 2001 حول المطبقين للإسلام قد أشارت إلى أن 70% من مسلمي فرنسا يصومون شهر رمضان، ولكن 30% منهم فقط هم الذين يؤدون الصلاة، وأن 70% لا يترددون على المساجد.
عدد مسلمي فرنسا
أكسفيان ترنسسيان
وعلى الرغم من أن طبيعة الدولة العلمانية لا تأخذ في اعتبارها قضية الانتماء الديني للسكان في تعدادها للسكان؛ فإن ترنسيسان رأى أن عدد مسلمي فرنسا يشكل بعدا مهما للنظر إلى مسألة تأثيرهم على علمانية البلاد، مشيرا إلى أن عددهم يتراوح بين 4 و5 ملايين نسمة من إجمالي السكان الذي يقدر بنحو 70 مليون.
وكان المعهد الوطني للإحصاء والتقويم قد أشار مؤخرا إلى أن التعداد الرسمي للمهاجرين المسلمين من أصول مغربية وتركية ودول أفريقية وآسيوية مسلمة بلغ 5.8 ملايين نسمة.
وتشير الإحصاءات إلى أنه من جملة حوالي 6 ملايين من المسلمين في فرنسا هناك حوالي مليونين من المولودين بفرنسا أغلبهم ممن يسمون بالمصطلح الجزائري "الحركيين" أي أبناء المتعاونين مع فرنسا من الجزائريين خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر. أما البقية وهم 4 ملايين فهم مهاجرون جاءوا من بلدان إسلامية وعربية متعددة.
أغلبية جزائرية
وبشكل عام يمثل الجزائريون أغلبية الجالية المسلمة بفرنسا بتعداد يقدر بـ800 ألف نسمة، يليهم المغاربة 600 ألف، ثم التونسيون 500 ألف، والأتراك 200 ألف، ثم يأتي ترتيب الأفارقة جنوب الصحراء واللبنانيين المسلمين.
وبهذا المعنى لا يمثل الفرنسيون المسلمون وحدة قومية ولا لغوية، وهو ما يفسر وجود حوالي 2000 جمعية إسلامية مختلفة الجذور الثقافية والمذهبية والأصول الجغرافية؛ فهذا التعدد برز بشكل لافت أثناء تأسيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية؛ حيث حاول وزير الداخلية تمثيل 1500 مسجد إضافة إلى 6 جمعيات كبرى، هي:
- اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا الذي ينظم سنويا مؤتمره المعروف بالبورجي، وتأسس عام 1982 ويعتبر -أيديولوجيا- مقربا من تيار الإخوان المسلمين، ويتميز بقوة بنائه التنظيمي؛ حيث يبسط سيطرته على 300 جمعية، أبرزها الشبان المسلمين، وذراع طلابية في الجامعة تسمى "الطلبة المسلمون".
- مسجد باريس، ويعتبر تاريخيا من أقدم المؤسسات الإسلامية الممثلة للمسلمين في فرنسا حيث تأسس عام 1926، وارتبط منذ بدايته بالجالية الجزائرية بفرنسا؛ حيث يأتي تمويله من الجزائر، ويشرف عميد المسجد حاليا "دليل أبو بكر" على حوالي 70 مسجدا آخر، ويقدم مسجد باريس أيديولوجيا على أنه ممثل للإسلام العصري المندمج مع الحداثة.(12/335)
- الفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا: تمثل أيضا الإسلام العصري، وتتكون أساسا من المهاجرين المغاربة، وتتلقى دعما ماليا من ملك المغرب، وتسيطر على بعض المساجد في ضواحي باريس وشرق فرنسا.
- جماعة الدعوة والتبليغ: بدأ نشاط هذه الجماعة في أوساط المهاجرين الأوائل عام 1968، ولعبت دورا مهما في الاتصال بالجيل الأول من المهاجرين، ويتركز نشاطها حاليا في الدائرة الحادية عشرة من باريس وخاصة في منطقة "بالفيل".
- لجنة تنسيق للمسلمين الأتراك في فرنسا: تعتبر تابعة لإدارة المساجد بوزارة الشؤون الدينية التركية، وتسيطر حاليا على 150 مسجدا، وأيديولوجيا تعتبر من طائفة "الميلي قروش" التركية الصوفية.
- الاتحاد الفرنسي للجمعيات الإسلامية في أفريقيا وجزر القمر وجزر الأنتي: تمثل جالية مهمة عدديا، ولكنها غير منظمة باستثناء بعض الجمعيات التابعة لها فإنها لا تسيطر على مساجد مهمة.
وإضافة إلى هذه الجمعيات الستة الكبرى هناك 5 مساجد ممثلة في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وتتمتع بثقل واضح، وهي: مسجد "نانت-لا-جولي"، والمركز الثقافي الإسلامي في إيفري، ومسجد ليون الكبير، ومسجد جنوب فرنسا الكبير (الإصلاح)، ومسجد سان دونيه دو.لا ريونيون الكبير.
"إسلام الحياة الخاصة"
صورة أرشيفية لمسلمي فرنسا خلال لقاء مع جاك شيراك
من جانبه رأى الدكتور عبد المجيد النجار مدير مركز البحوث والدراسات بالمعهد الأوربي للعلوم الإنسانية بباريس في تصريحات لـ"إسلام أون لاين.نت" أن المسلمين في فرنسا أقلية داخل مجتمع غالبيته علمانيون، وبالتالي فمعنى "الإسلام الشمولي" الذي يتبناه مسلمو البلاد العربية والإسلامية لا مجال له في بلاد الغرب.
وأوضح النجار أن "إسلام الحياة الخاصة أصبح في الأعم بديلا عن الإسلام الشمولي لدى الأقلية المسلمة في فرنسا؛ فالهامش الأكبر لممارسة التدين بالنسبة لهذه الأقلية هو هامش الحياة الخاصة للفرد والأسرة، إلا أن هناك هامشا أقل بروزا للإسلام في الحياة الاجتماعية، ولهذا السبب بالذات طرح تطوير فقه الأقليات كأولوية في الدراسات الإسلامية".
وأضاف: "إذا أردنا الخروج بنتيجة محددة، فإننا نستطيع القول بأن تضخيم الخطر الذي يمثله حضور المسلمين في فرنسا، وبيان أن الأمر أصبح يتعلق بخطر على علمانية الدولة لا يعدو في الحقيقة إلا أن يصب في تيار الإسلامفوبيا (الخوف من الإسلام) الذي اجتاح الرأي العام الغربي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001".
مكانة كاملة
وخلافا لرؤية الكاتب الفرنسي ترنسيسان التي اعتبر فيها أن عدد المسلمين بالنسبة للمجتمع الفرنسي لا يشكل تأثيرا فيه، قال "التهامي إبريز" رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا في تصريحات لـ"إسلام أون لاين.نت": "عدد المسلمين في فرنسا يؤهلهم لأن يأخذوا مكانتهم كاملة غير منقوصة في الجمهورية".
وأوضح إبريز أن "المسلمين يمثلون الديانة الثانية بعد المسيحية الكاثوليكية التي يدين بها 43 مليونا؛ أي أنهم يسبقون البروتستانتيين البالغين 800 ألف واليهود (700 ألف) والبوذيين (400 ألف)".
وأضاف أن "ما يزيد من أهمية الفرنسيين المسلمين أنهم يمثلون في أوروبا القوة الديمجرافية الأولى مقارنة بمسلمي ألمانيا البالغ عددهم 3 ملايين نسمة، ومسلمي بريطانيا (مليونان)، ومسلمي أسبانيا (600 ألف)، وهولندا (400 ألف)، وبلجيكيا (200 ألف).
لكن إبريز قال: "إن حضور الفرنسيين المسلمين سياسيا واجتماعيا لا يعكس حجمهم عدديا؛ فهم على هامش الحياة السياسية، وبالتالي لا نتوقع أن يكون لهم تأثير في المدى القريب على القرار السياسي الفرنسي؛ حيث إنهم منقسمون مذهبيا وعرقيا بحيث لا يمكن أن يمثلوا كتلة متجانسة من شأنها مثلا أن تحدد خيارا انتخابيا على سبيل المثال".
وأضاف أن "المسلمين ما زالوا يبحثون عن مكان لهم داخل المؤسسات السياسية والاجتماعية الفرنسية، ولم يتسن لهم تكوين مجلس يمثلهم أمام السلطات الفرنسية إلا هذه العام فقط".
محاولات فاشلة
من ناحيته قال عمار الأصفر -إمام مسجد ليل بشمال فرنسا رئيس جمعية ابن رشد-: "إن محاولة تكوين حزب سياسي يمثل مسلمي فرنسا باءت بالفشل. ولم يفطنوا إلى ضرورة تكوين مؤسسات تعليمية ثانوية خاصة بهم على غرار المدارس الخاصة اليهودية إلا هذه السنة".
وأضاف الأصفر في تصريحات لـ"إسلام أون لاين.نت": "أمامنا عمل كبير وطويل لتحقيق وجود نوعي ينقل الفرنسيين المسلمين من وضعية ذلك المهاجر الأمي الذي يمتهن الأعمال الشاقة وصولا إلى تحقيق وجود كوادر في مؤسسات الدولة الثقافية والسياسية والاجتماعية".
=============(12/336)
(12/337)
الإسلام في عش العلمانية
هادي يحمد- 23/04/2003
طرح المؤتمر العشرون لاتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا الذي انعقد من 18 إلى 21 إبريل 2003 بقوة قضية ممارسة الإسلام في مجتمع علماني، واتضح بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر يتعلق باكتشاف وجه آخر من وجوه الإسلام، إسلام يندمج وينصهر، ولكنه يظل محافظًا على أعمدته وجوهره.
لم يختلف مشهد المتحجبات أو الشباب الملتحين الذين تجولوا في أروقة المؤتمر عن مشاهد كثيرة لمتحجبات وملتحين يتجولون في شوارع القاهرة أو دمشق أو مراكش... غير أن فَهْمًا للإسلام خاصا يبدو ملاصقا لخصوصيات الحياة في لندن أو باريس هنا يعيشه المتدينون يختلف باختلاف المجال الجغرافي والإطار السياسي الذي يعيشه المتدينون في بلاد المشرق أو المغرب الإسلاميين.
فالورقة التقديمية التي وزعت على كل الزائرين لمؤتمر البورجي بباريس تؤكد على معانٍ معينة يجب أخذها بعين الاعتبار، الورقة تقول: "المسلمون في فرنسا يعيشون في زخم ثقافي واجتماعي متميز"، إنه طبعا مجتمع حديث علماني، تبدو خيوط ترابطه مع النموذج الإسلامي ضعيفة جدا أو بالمعنى القرآني "أوهن من خيوط العنكبوت".
وتؤكد الورقة التقديمية للمؤتمر "أن المسلم كبقية الناس في هذه البلاد يجد عقبات في رسم خطى حياته بداية من التزامه الديني وتربية أولاده إلى تصور صحيح وجاد في كيفية تطبيق دينه".
وفي الحقيقة فإن طرح قضية معايشة الإسلام داخل مجتمع علماني ثقافة وتاريخا وخيارا سياسيا طرحت في مؤتمر البورجي من خلال ثلاث نقاط رئيسية، هي:
أولا: الاعتراف بحكم الغالبية العلمانية
ذلك أنه بحكم وجودهم في مجتمع علماني أغلبي؛ فإن الأقلية المسلمة في فرنسا -على سبيل المثال- مطالبة باحترام قانون الأغلبية، وهم لا يضعون محل نقاش مسألة هذا الاعتراف؛ إذ يقول التهامي إبريز رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا في كلمته الافتتاحية: "إن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي انتُخب مؤخرا لا يمكن أن يوجد إلا في الإطار المؤسساتي للجمهورية الفرنسية العلمانية التي تعتبر أن للإسلام حقوقا متساوية كبقية الديانات في فرنسا".
والناظر كذالك في كلمة نيكول ساركوزي أثناء المؤتمر يلاحظ أن عبارة وجوب احترام المبادئ العلمانية للدولة ترددت في خطابه حوالي 6 مرات أمام 15 ألف مسلم متدينين، نصفهم من المتحجبات .
والحقيقة أن كل التشكيلات والمنظمات الإسلامية في فرنسا على اختلافها لا تضع هذا المبدأ محل نقاش أو مساءلة؛ فهم مسلمون داخل مجتمع علماني يحتكم إلى قوانين وضعية هي قوانين الأغلبية، وهذا أحد مرتكزات ديننا، كما يقول فؤاد علوي أحد مسئولي الاتحاد بناء على احترام رغبة وخيار الأغلبية.
بل هناك من ذهب من المحاضرين في المؤتمر إلى أبعد من ذلك.. إلى البحث عن نقاط الالتقاء بين المعاني الإسلامية وأطر وثقافة الدولة العلمانية؛ حيث خصص الباحث المسلم "أساني فساسي" محاضرته للبحث عن قيم الإسلام في الشعارات التي قامت عليها الثورة الفرنسية؛ حيث قال: "أليست هذه الشعارات الثلاثة التي نجدها معلقة في كل مكان في فرنسا، وهي المساواة والحرية والأخوة.. أليست هذه الشعارات الثلاثة هي من قيم الإسلام الأساسية".
ثانيا: النظرة المخصوصة للأزمة العراقية
لا يختلف اثنان على أن تفاعل مسلمي أوروبا ضد العدوان الأمريكي البريطاني على العراق كان تفاعلا إيجابيا وحارا لم يشذ عن تفاعل المسلمين في بقية أنحاء العالم، ولم يشذ كذلك عن تفاعل الفرنسيين أو البريطانيين ذاتهم على سبيل المثال، غير أن خصوصية موقعهم والمجال الذي يعيشون فيه دفعت الدكتور أحمد الراوي -رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا- في محاضرته التي ألقاها في المؤتمر إلى القول صراحة بأن "الفتاوى التي صدرت من بعض علماء المسلمين في أماكن عديدة قبل وبعد الحرب لا تلزم مسلمي أوروبا"، ودون أن يفصح عن مضمون هذه الفتاوى؛ فإن الأمر يرتبط بالنسبة للمراقبين بالفتاوى الجهادية التي لا تبدو متناسبة مع واقع المواطنين المسلمين البريطانيين مثلا الذين شارك بعض أبنائهم في القتال على جبهة البصرة أو أم قصر أو غيرها من المدن العراقية.
وقد شدد الراوي بالقول: "نحن في حل من هذه الفتاوى التي لا تتناسب مع خصوصيات مجتمعاتنا التي نعيش فيها". أمر كهذا يطرح السؤال الفقهي: هل هناك فتاوى تبدو صالحة في مكان، ولا تبدو ضرورية في مكان آخر؟
بعض من الإجابة على هذا السؤال وردت في كلمة التهامي إبريز؛ حيث قال: "إن مسلمي فرنسا -على سبيل المثال- عليهم أن يبحثوا عن قراءة للإسلام موائمة لواقعهم الثقافي والسياسي، وهذه القراءة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار عنصرين مهمين، هما: المكان والزمان؛ فالمسلمون الفرنسيون يعيشون في مكان مخصوص، وهو فرنسا التي لها تاريخها وثقافتها وفهمها الخاص للديانة"، وهو ما يشير إلى أن فتاوى في غير مجالها الاجتماعي والثقافي والسياسي تصبح غير ذات جدوى.
ثالثا: طرح قضية الحجاب في دولة علمانية(12/338)
من المُسلَّم به القول بأن المسلمين في فرنسا لا يطرحون على أنفسهم إقامة دولة إسلامية، ولا هم يريدون أن يحكِّموا الإسلام في هذه البلاد؛ لأنهم أقلية تخضع ضرورة لحكم الأغلبية، ولكن عندما يتعلق الأمر بممارسة دينية تدخل تحت حيز الحريات الخاصة كالحجاب مثلا؛ فإن الأمر قد يؤدي إلى جدل قد لا يحسم بالسهولة المطلوبة. فما حدث في اليوم الثاني لمؤتمر البورجي أعاد الجدل الفرنسي حول ما إذا كان الحجاب في أماكن العمل وفي المعاهد ينتهك أحد مبادئ الدولة، وهو "الائكية" كما يؤكد بعض المسئولين لفرنسيين.
ولأن المسألة لا تتعلق بالنظام العام للمجتمع، ولا تمس الحريات العامة للمجتمع؛ فإن ردود الفعل كانت ساخطة من قبل المحجبات اللاتي استمعن إلى خطاب وزير داخلية فرنسا، لا سيما أن العشرات منهن -على الأقل- جئن إلى فرنسا هروبا من الاضطهاد الديني الذي مورس عليهن، وخاصة التونسيات مثلا اللاتي يُمنعن في بلادهن من لبس الحجاب بمقتضى قانون ردعي.
نستطيع القول بأن قضية الحجاب في فرنسا تمثل نقطة تماسّ حادة بين قوانين الدولة العلمانية والحريات الشخصية للأقلية المسلمة التي ارتضت أن تعيش في مجتمع علماني، ولأن المثال الفرنسي في خصوص قضية الحجاب غير معمم في العديد من البلدان الغربية الأخرى؛ فإن الحكم سيظل نسبيا .
الكثيرون يقولون: إن الأمر يتعلق بتمشي وتدرج طبيعي بالنسبة لأي أقلية تريد تحصيل حقوقها الاجتماعية والسياسية، والمسلمون في هذا الإطار الذين يعيشون في مجتمع علماني ثقافة وسياسة ليس لهم من مجال إلا العمل على المطالبة بتحقيق مطالبهم. والأمر هنا متروك لعامل الزمن؛ فقد كان مسئولو اتحاد المنظمات الإسلامية صرحاء لوزير الداخلية الفرنسي نيكول ساركوزي، عندما قالوا له: إن ديننا يعلمنا أن نحترم القانون طالما هو موجود، ولكننا سنطالب بتغيير هذا القانون إن كان جائرا. لقد صفق نيكول ساركوزي لذلك.
=============(12/339)
(12/340)
فرنسا والحجاب.. محاولة لفهم ما يحدث
انحياز لـ"الهوية الثقافية" وليس لـ"العلمانية السياسية"
2003/12/27
…
محمود سلطان*
كان للكاتب الراحل محمد جلال كشك - رحمه الله - في اشتباكه مع دعاة "حقوق المرأة"، في مصر، بعض الإضاءات التي لا نبالغ إن قلنا إنها أصابت كبد الحقيقة، فيما يتعلق بالجدل الدائر بشأن "الحجاب" سواء أكان - هذا الجدل - محتدما في العالم العربي، أو في غيره على نحو ما يحدث الآن في فرنسا.
أوضح كشك أن هناك ثمة علاقة مفترضة "بين الحجاب والدين" أو الانتساب الحضاري، بمعنى أن الحجاب إضافة إلى كونه فريضة دينية هو في واقع الحال رمز أو دلالة على الانتماء للإسلام ولثقافته القرآنية، ربما تكون هذه العلاقة، غير حاضرة في خاطر المحجبات، ولكنها حاضرة حضورا ملتهبا في تفكير المعارضين للحجاب. ومن ثم فإن الهدف ليس تعرية رأس الفتيات ولا تحرير المرأة من الحجاب بل "قطع رأس الإسلام"، على حسب قوله.
والحال أن ما يعطي هذه القراءة صدقها، أن النخب السياسية والثقافية، عادة ما تكون شديدة الوعي بمركزية "الرمز" ودلالاته الحضارية. صحيح أن الممارسات "الرمزية"، قد تبدو لعوام الناس عملا فنيا أو معماريا محضا، أو أنها خالية من أية دلالة سياسية أو ثقافية وهي في واقع الحال، اتجاهات تتقاطع فيها السياسة والثقافة والحضارة بشكل أو بآخر، غير أنها تتخذ من الرمز أو الفن أو من المعمار أدوات للتعبير عن نفسها؛ فلقد رفضت حكومة حزب الوفد المصري العلماني الليبرالي عام 1930، إقامة ضريح سعد زغلول في مسجد، وقررت بدلا من ذلك تشييده على شكل فرعوني وثني!! إذ أراد الوفد أن يخوض معركة سياسية مع دعاة "الجامعة الإسلامية"، ويعبر من خلال هذا المنحى -بناء القبر على الهيئة الفرعونية- عن انحيازه إلى فكرة "الوطنية المصرية" التي تستمد ثقافتها من "الفرعونية". وكانت الأخيرة قد دلفت إلى عقول بعض النخبة المصرية، بعد دخول الإنجليز مصر، وانتشار منهج التعليم "الدنلوبي"** الذي أعاد إحياء الثقافة الفرعونية، في إطار الاشتباك الثقافي بين الاستشراق الفرنسي من جهة، والاستشراق الإنجليزي من جهة أخرى، في محاولة من كليهما لفرض هيمنته الثقافية على المجتمع المصري. وبالمثل فإن رسم "أبي الهول" على أوراق العملة وعلى طوابع البريد -وهو منحى في ظاهره فني أو جمالي- كان يخفي بين تلابيبه دعوة سياسية إلى "الجامعة المصرية"، خاصة أن هذه الخطوة جاءت تقليدا لاتجاه مشابه اتخذه الكماليون بتركيا عقب سقوط الخلافة حين اتخذوا من "الذئب الأبيض" -وهو رمز أسلافهم من الوثنيين- شعارا لهم، وقرروا أن يرسم على طوابع البريد.
ونذكر في هذا الإطار أن قادة ثورة يوليو عام 1952، حظروا على الرجال ارتداء "الطربوش"، إذ اعتبر الانقلابيون -آنذاك- الطربوش رمزا لـ"الملكية"، وانتماء لثقافتها الاجتماعية.(12/341)
وفي هذا السياق فإنه قد تباينت الآراء بشأن القانون الفرنسي الأخير الذي حظر ارتداء المسلمات للحجاب في مؤسسات الدولة الرسمية، البعض يرى أنه لا يتضمن أي شبهة تحيز ضد المسلمين، على أساس أنه يحظر أيضا الشارات الدينية الأخرى لليهود والمسيحيين. والحال أن هذه الشارات كانت سائدة وبشكل علني في المجتمع الفرنسي منذ صدور قانون عام 1905 الذي فصل الدين عن الدولة. دون أن يثير حفيظة أو ريبة أحد، ولم تعتبر طوال المائة عام المنصرمة، تعديا أو تهديدا للعلمانية الفرنسية، ولم تكن موضوعا للخلاف والجدل بين القوى السياسية المختلفة، ولا استنفرت أجهزة الدولة، ولا سنت التشريعات والقوانين للحد منها. والحال أن هذا التعايش بين هذه الشارات والدولة، كان تعايشا طبيعيا وامتدادا رمزيا للأصول الثقافية للدولة، بيد أنه لم يكن في أصله دليلا -كما يعتقد البعض- على إعلاء العلمانية الفرنسية لقيمتي الاختلاف والحرية الشخصية، وإنما ظاهرة تحتضن ضمنيا، قدرا من التحيز للثقافة اليهودية - المسيحية. باعتبار أن أوروبا بما فيها فرنسا، هي في حقيقة الأمر، سليلة هذه الثقافة. وتكتسب الأخيرة أهميتها في الوعي الجمعي الغربي، من كونها المحدد الأساسي لهوية الغرب وخصوصيته الحضارية وتمايزه الثقافي لا سيما أنه ليس ثمة من يدعي أن العلمانية وفي أكثر صيغها نقاء ومثالية، تعتبر وعاء ثقافيا يعبر عن هوية أمة وانتسابها الحضاري. ولعل ذلك ما يفسر هذا الموقف الفرنسي الرسمي وغير الرسمي المتشدد إزاء الحجاب. فالأخير بما يتضمنه من حمولة رمزية لثقافة وحضارة مغايرة ومناضلة في الوقت ذاته، لا يمثل -كما يدعي بعض الفرنسيين- تهديدا للعلمانية الفرنسية، وإنما تهديدا لـ"ثقافتها" أو بالأحرى لـ"هويتها"، أي أن ظاهرة الحجاب، وضعت الدولة أمام خيارين: إما الانحياز لـ"العلمانية" والتخلي عن "الهوية" وإما العكس. فانحيازها للأولى يفرض عليها أن تتحلى بالحيدة التي أقرها قانون 1905، ولا تهتم لا بالسفور ولا بالحجاب، سواء في المؤسسات التعليمية أو في غيرها. غير أن قانون الحظر -وإن اتشح بمبررات تظهر عكس ما تبطن- كان إعلانا عن انحياز الجمهورية الفرنسية لهويتها، وليس لعلمانيتها كما تذهب حججهم في هذا الإطار.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه ليس ثمة صدقية للادعاءات التي تقول: إن القانون جاء استجابة لرغبة الدولة، في حماية الفتيات من أي شكل من أشكال الإكراه الذي يمكن أن تمارسه الأسرة أو ما يسمى بالتنظيمات الإسلامية المتشددة، إذ إن تصرف الدولة ذاتها يتناقض مع هذا الادعاء، ويأتي في هذا السياق نموذج الطالبتين (ليلى 18 سنة، وألما 16)، حيث قررت إدارة المدرسة فصلهما لارتدائهما الحجاب، رغم أنهما ينحدران من عائلة يهودية مشهورة في فرنسا وأوروبا عموما وهي عائلة "ليفي"، والدهما "لوران ليفي" محامٍ يهودي معروف في فرنسا بمواقفه اليسارية، وأمهما جزائرية مسيحية غير متدينة، أي أن الحجاب في هذه الحالة كان ممارسة مبرأة من أي شبهة إكراه. وتكتسب حالة "ليلى وألما" أهميتها من أنها كانت حالة غير ملتبسة، وغير قابلة لتعدد القراءات والتأويلات، وأضاءت حقيقة أن موقف المدرسة من الحجاب -ممثلة للدولة- كان موقفا "ثقافيا" لا "علمانيا".
أزمة الحجاب في فرنسا -إذن- كشفت عن أن العلمانية الفرنسية، لا تمارس حضورها كوعاء حاضن للاختلاف والتعدد -أي لا تمارس علمانيتها- إلا من خلال الأطر الثقافية والاجتماعية المهمشة، أو تلك المفرغة من أية مضمون أو بنية "عقائدية - نضالية"، والتي لا تمثل تهديدا لـ"هويتها الثقافية" وليس لـ"علمانيتها السياسية"، مثل الجماعات الداعية إلى "عبادة الشيطان" أو "البوذية" أو "الزواج المثلي" أو الحرية الجنسية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
ومن هنا فإن فرنسا لم تفشل في محاولتها دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، وإنما تعمدت تهميشهم، وحصارهم داخل المناطق والجماعات المهمشة، وحشرهم داخل الأطر المشابهة، غير المؤهلة بطبيعتها للتمدد والتأثير الثقافي، هنا وهنا فقط تظل العلمانية الفرنسية محتفظة بوظيفتها كمظلة يستظل بها التعدد والاختلاف. وهذا شرط أساسي من الشروط التي تستقي منه العلمانية الفرنسية حيويتها؛ ولذا فإن فكرة دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، ربما تكون "واقعا"، ولكن عندما يستسلم المسلمون لثقافة فرنسا وهويتها المسيحية، وليس الانصياع كما يُدعَى لمبادئ العلمانية، فليس ثمة مشكلة في الأخيرة، فهي في روحها وقوانينها تقبل هذا الاندماج، متى تحررت من القيود الحضارية (أو الثقافية)، وكذلك من أعباء الحفاظ على الجذور المسيحية للهوية الفرنسية.
تابع في الملف:
*
لماذا لا يجوز وضع تشريع ضد الحجاب؟ (رأي فرنسي)
*
فتش عن خصوصية العلمانية الفرنسية
*
الحجاب والقلادة: انهيار العلمانية في مفهومها كراعية للحريات
*
"أصولية علمانية" فرنسية في وجه الأصولية الإسلامية
*
الحجاب في فرنسا.. خطابات متعددة
* رئيس تحرير شبكة محيط الإخبارية(12/342)
** نسبة إلى مستر دنلوب المستشار الإنجليزي لوزارة التعليم المصرية خلال بداية القرن العشرين، والذي فرض سياسة تعليمية تقوم على تهميش اللغة العربية والتقليل من شأنها لصالح اللغة الإنجليزية، كما أنه جعل التعليم بمصروفات وذلك لحرمان غير القادرين من الالتحاق بالمدارس، وكان هدفه من تلك السياسة هو تخريج جيل مصري الجنسية إنجليزي الثقافة والتعليم والهوى.
=============(12/343)
(12/344)
الحجاب والقلادة:انهيار العلمانية في مفهومها كراعية للحريات*
2003/12/24
…
د. خالد الطراولي**
أزمة الحجاب ..إعلان نهاية العلمانية كمدافعة عن الحريات
عاشت فرنسا منذ نهاية الصيف حملة كبيرة وتجاذبا للأفكار وأخذا للمواقف تجاه ما اصطلح على تسميته بقضية الحجاب في المدارس، ورغم الإطار الجامع الذي وُضعت فيه هذه المسألة من حديث حول تحديد اللائكية (العلمانية) اصطلاحا وتعاملا، ورغم محاولة استبعاد حصر الحديث حول الحجاب الإسلامي أو الخمار وتوسعته ودفعه إلى الحديث عن غزو الرموز الدينية في المعاهد، فإن الدافع الأساسي ولعله الوحيد وراء كل هذا الزخم من المقالات والمواقف والرؤى والإحصاءات المتوالية في المقروءات والسمعيات والمرئيات، وراء كل هذا دون مواربة ولا إخفاء هو الحجاب الإسلامي.
لقد حملت هذه الظاهرة حوارا ونقاشا طال كل الأطراف والمواقع، بين قابل ورافض، وبين مساند ومعاند، بين متشدد وميسر، بين ظاهر وباطن، وظهرت المواقف والرؤى والأطروحات متناقضة ومختلفة اختلاف النسيج السكاني الفرنسي. أسئلة كثيرة وكبيرة طرحت وأصبحت الجمهورية نفسها في خطر، وأصبح الحجاب رمز رايات في معركة غاب فرسانها وكثر لغطها، وكان ضحاياها فرقة وطائفة وجنس.
وبعيدا عن النقاشات البيزنطية والجدال العقيم الذي حفل بعض ثنايا هذه الحملة، فإن مفارقات عجيبة ولحظات وعي ومحطات لا وعي، قد اصطحبتها والتي جعلت الأسئلة المطروحة تفتح على مزيد من الأسئلة، وتؤدي غالبا إلى أجوبة غير منتظرة، أو تزيد الأمر تعقيدا وغرابة، وتقلص مراحل الوعي والمعقول، وتزيد درجات اللاوعي والعاطفة والشعور.
المفارقة الأولي: لحظة الوعي المغشوشة
لما انطلقت الحملة، كان للمجتمع المدني بكل أصنافه ورواده مساهمة ودور أساسي في اندلاعها وتواصلها، وشهدت الصحف الفرنسية مقالات يصب أغلبها حول غزو الحجاب للمدارس والخوف والريبة من انتشاره، ولعل أطرافا وتجمعات سياسية وغيرها ساهمت في الدفع في هذا الاتجاه، بأغراض سياسوية أو انتخابية أو عقدية. كانت هذه المحطة هامة في المسار الذي سوف تأخذه القضية، ففي هذه المرحلة من المراكمة للأفكار والأطروحات، ظهر دور المجتمع المدني ولو في بعض الأحيان تحت ضغوطات مشبوهة وتوجيهات مبطونة كما عنيناه سابقا، إلا أنه مثل تكريسا لمكانة هذا الطرف في ولادة حوار وتزاوج للأفكار في داخله، وعدم استبطان كل ما يمسه عن قريب أو من بعيد في تاريخه أو في ثقافته أو في يومه وغده.
ظهر الحوار علنيا رغم حساسيته، وظهرت الجمهورية في أحلي زينتها. تلت هذه المحطة انتقال فوري لهذا النقاش إلى ميدان أكثر رسمية وعلته الصبغة الجدية والقانونية، إذ أخذت الدولة على عاتقها تحويل هذا الحوار من تجاذب بريء وشبه طبيعي، إلى حوار ضيق بين مختصين ومعنيين مباشرة بالحجاب في تنظيراتهم وأعمالهم الفكرية، أو من يمسهم من خلال تواجدهم على عين الواقع، وكانت لجنة ستازي للحكماء التعبير الرسمي والقانوني لهذا المسار في مرحلته الثانية. التقت هذه اللجنة حسب الساهرين عليها بما يقارب المائة من المدعوين واستمعت إلى مرافعاتهم وتشكل على إثرها رأي حملته الأغلبية الساحقة (19 من 20 حكيما ) حول ضرورة إصدار قانون ضد منع تواجد الرموز الدينية داخل المدارس العامة، وتم تسليم كتاب أبيض لرئيس الجمهورية حمل رؤى اللجنة وتوجيهاتها ونصائحها. انتهي دور المجتمع المدني في هذه المرحلة بكل إيجابياته وسلبياته، وكانت المرحلة الموالية إصباغ الرداء الرسمي والجمهوري للموقف في أعلى مستويات الدولة، فأخذ اقتراح التقنين مساره الطبيعي نحو مجلس النواب الذي سوف يؤكد هذا الاتجاه، نظرا لالتقاء الحكومة والمعارضة حول ضرورة منع الرموز الدينية الظاهرة أو البارزة في المدارس العمومية، وهي المحطة الأخيرة في هذا المسار الديمقراطي في أخذ القرار.
كانت هذه المراحل تأكيدا لجدوى وفعالية مشاركة الجمهور في أخذ قراراته، وهو رمز إيجابي لدور الديمقراطية، رغم بعض عللها، في إنشاء صرح وفاقي حول مواضيع ومواقف تهم الشعوب في ذاكرتها وفي معاشها. كان درسا موجها إلى كل مجتمعات الاحتضار والظلم، كان درسا لمن غيب المجتمع وأعلن جمهوريات الوراثة والتعيين والسكون، كان لفتة إلى من كبل المجتمع المدني أو احتواه أو قزمه أو همشه أو محاه، كان كل هذا درسا في الوعي والتحضر، وغلبة مسارات المشاركة الجماهيرية، وهيمنة دولة القانون والمؤسسات على من سواها...ولكن... كان هذا المسار الديمقراطي في دولة القانون وحقوق الإنسان لحظة وعي ولا شك، غير أن حقائق مفزعة، وألوان غير زاهية، ومنعطفات غير واضحة، ومنطلقات غير سليمة، ومرجعيات واهية، وأهداف غامضة، وأعمال جانبية مناقضة، خيمت على هذا اللبوس المثالي، وعلى هذه المسارات المغشوشة، وهنا بيت القصيد وهنا مربط الفرس. فغابت حقيقة الديمقراطية وظهرت قشورها، وغابت اللائكية وظهرت أنيابها، وغاب الوعي والعقل، وهيمنت العاطفة في بعض الثنايا والأوحال، وغابت جمهورية الجميع على حساب فرقة وأقلية وجماعة.(12/345)
فقبل أيام قليلة من هذا المشوار الحقوقي والديمقراطي الخلاب، وقبل لحظات الوعي الذي اصطحبته، أطل علينا الرئيس الفرنسي وهو في بلد غير بلده، وأمام جمهور غير جمهوره، ليعلن للجميع بأن حقوق الإنسان وأي إنسان، تتمثل في الأكل والشرب والسكن! ورغم التراجع الذي تلاه، ورغم الأصوات المنددة والمندهشة لدي الرأي العام الداخلي والخارجي، فإن زلة اللسان أو لذة اللسان هذه، تنبئ ولا شك عن التعامل بميزانين في مثل هذه القضايا الحساسة، وأن لغة المبادئ قد تندثر أمام المصلحة والمكسب، وأن للداخل خطابه وللخارج لهجته ومظاهره. لحظة اللاوعي هذه تجاه المجتمعات الأخرى تسحب البساط من جدية المواقف الداخلية وتجعلها غير مبدئية في حقيقتها، وأنها ترتبط أكثر بالأنا الثقافي أو الوجداني أو الديني، وتقوقع الموقف وتجعله وليد مصلحة القوم أو الفرقة أو القبيلة الجديدة، وترمي به في أحضان التبجيل والمحاباة لعنصر دون آخر. وهو ما يرج عديد القناعات في موضوعية هذه المواقف ونزاهتها، رغم الصيغة الديمقراطية لإصدارها.
المفارقة الثانية :الوعي المنقوص
لم تكن الصيغة التي عملت بها الجمهورية في صياغة هذا المسار سليمة إلى حد ما في محطة عمل لجنة الحكماء . فعديد التساؤلات تطرح في مستوي تمثيلية هذه اللجنة في تكونها أولا من أفراد قد يقترب بعضهم من ملامسة محتشمة للمعرفة الإسلامية الأكاديمية لمسألة الحجاب، غير أن الكثير منهم وخاصة أصحاب الجذور العربية أو الإسلامية لا تجتمع لديهم الثقافة الوافرة لبلورة رؤية قبلية ومسبقة، تجعلهم يحملون هذه المرآة العاكسة التي تلطف عديد المواقف، وتغلّب لغة العقل على لغة العاطفة، وتجعل من محك التفكير العقلاني والرصين آلية للتأثير وتجنب التأثر العاطفي، الذي غلب على أفراد اللجنة. هذه المصداقية المهزوزة بعض الشيء تظهر أيضا في المرجعيات الأيديولوجية التي كان عليها أصحاب الجذور الإسلامية، فلن تجد من بينها امرأة تلبس الحجاب، أو تتبني الدفاع عنه، فالجميع يحمل منذ البداية منطلقا رافضا وحتى عدائيا تجاه الرمز الديني عموما والحجاب خاصة.
كما تطرح التساؤلات لاحقا في مستوي الجمهور المستمع إليه. فمن بين مائة فرد تداولوا على المنصة، وقع الاستماع إلى امرأتين متحجبتين فقط، وكأن الأمر لا يعني هذه الطائفة، فكيف يمكن بلورة فكرة واضحة وتكوين رأي سليم إذا كان المعنيون مباشرة لا يمثلون أكثر من 2% من الجمهور المعني، وهذا حسب ظني إحدى المنزلقات التي وقعت فيها اللجنة عن وعي أو غير وعي. كان الأسلم أن يستمع أعضاؤها إلى العديد من الفتيات اللاتي يلبسن الحجاب ويتبينوا الأسباب الكامنة وراءه، عوض أن يكثر الجدل البيزنطي حوله ويغلب طابع الهمز واللمز والتشويه والرأي المسبق والحكم النهائي، في ظل غياب المتهم. كان الأجدى أن تعرف اللجنة وأن يعرف المجتمع من ورائها لماذا قررت فتيات فرنسيات المنشأ والمسقط وفي واقع متمدن ومتحضر وفي ظل علمانية مهيمنة على كل أوصال المجتمع، وأمام هيمنة الموضة واستفحال النموذج الأمريكي الزاحف على الأكل والشرب والملبس، وفي وسط إطار داخلي وخارجي ينظر بعين الريبة والشك والعداء لكل مظهر إسلامي، لماذا لم تستمع اللجنة إليهن حتى نعرف الأسباب فتكون الرؤية واضحة وأكثر صلابة، فلعل منهن من أرغمت على لباسه تحت وطأة أب أو أخ أو جماعة، وللقانون حقه وواجبه أن يتدخل لحماية حريتهن. ولعل منهن من لبسته كموضة تنتهي بانتهاء أجلها وتنحي رموزها، ولعل منهن من لبسته حشمة وحياء وهو موقف يبتعد عن السياسة والأيديولوجيا والإثنية ويلامس الأخلاق والسلوك المرهف، ولعل منهن من ارتدته حتى تتجنب المضايقات والهمز في أحياء مهمشة يغلب عليها التقوقع والانعزال ولغة القوة والعصابة، فيكون الحجاب تعبيرا عن أزمة مجتمع وتهميش مجموعات وطوائف وجهات وبقاع، وليس هو الأزمة، بل لعله يساهم في طرق الأبواب الحقيقية ووضع الإصبع على الموقع الجريح. ولعل منهن من اختارته عن وعي ولبسته عن علم، فكان خيارا لا اضطرارا وكان عقلا وليس نقلا، وهو بالتالي تعبير عن حرية مفقودة، ورمز للتحرر من براثن تقاليد بالية وتصورات واهية حملها الآباء والأمهات من بلدان الأصل وحسبوها دينا والدين منها براء.
المفارقة الثالثة :حجاب وقلادة(12/346)
هذا العلم النسبي بأبجديات الحجاب، تاريخا وحكما وشرعية، تجلي في محاولة التمييز بين الرموز الدينية الظاهرة مثل الحجاب الإسلامي أو القلنسوة اليهودية، أو الصليب الكبير الحجم (رغم أننا نستبعد أن نري أحدهم يجر صليبا معه داخل المدرسة أو خارجها) وبين الرموز الخفية مثل نجمة داوود أو الصليب الصغير أو قلادة فاطمة! فما هي هذه القلادة التي حشرت حشرا كرمز إسلامي يمكن قبوله وتجاوزه. الحديث عن هذه القلادة هو تعبير في الحقيقة بوعي أو غير وعي عن إفلاس في فهم الحجاب، عن وظيفته، عن دوره، هو إفلاس في فهم هذا الدين، وفهم تاريخه وقواعده، وأسسه. لقد ظن الكثير إلى يومنا هذا أن قرآن المسلمين هو تصوير لحياة الرسول الكريم (ص) كما هو الشأن للسيد المسيح (ص) والإنجيل. وهو إفلاس في فهم ثقافة هذه الأقلية وعلاقتها بدينها وبحضارتها، وعدم تفهم للعلاقة العضوية التي تربطها بأمتها، دون الإخلال بحبها وأمانتها لأوطانها الجديدة. هذا الخلط الواضح بين قلادة لا يعرف أصلها وفصلها، تعود إلى العادة والتقاليد عند بعض الأفراد من بلاد المغرب، حتى أن أهل الشرق الإسلامي لم يفقهوا معناها ولا عرفوا رسمها، والتجأ أحد المواقع على الإنترنت إلى نشر صورة لها لتقريب صورتها إلى أذهان المسلمين المشارقة. زيادة على أن مثل هذه الطلاسم والتعاويذ السحرية، هي أقرب للشعوذة من عالم الدين والعلم، والإسلام منها براء، وهذا ما خفي عن لجنة الحكماء والعارفين، وهو تأكيد على غياب مجحف لأصحاب الشأن في هذا المجال.
هذه النسبية في معرفة الإسلام لم تكن حبيسة اللجنة فقط بل عمّت الجميع، ولعل الغريب أن الكثير من المفكرين وأنصاف المثقفين والسياسيين دخلوا حلبة التناظر بمعرفة قاصرة، أو حتى جهل مدقع بالإسلام كدين، وبالحجاب كظاهرة ووظيفة، وأكثر هؤلاء غرابة رئيس بلدية مونبولي، الاشتراكي السيد فراش حين أعلن في اجتماع مجلس البلدية وبحضور الكاميرا عن علمه بأبجديات الإسلام ومنها أن زوجات الرسول محمد الثمانية (وليس تسعة) لم يلبسن الحجاب قط!.
المفارقة الرابعة : تكريس الطائفية
لما انتهي الرئيس الفرنسي من إلقاء خطابه الذي أعلن فيه دعوته إلى تقنين منع الحجاب في المدارس، كانت تعليقات ممثلي الأديان متضاربة، ورغم القبول المتلكئ والغالب عليه الرضا بالأمر الواقع لدي رئيس مجلس المسلمين في فرنسا، فإن الامتعاض والرفض قد غاب لدى الأطراف الأخرى، بل إن مجلس الطائفة اليهودية أبدي في بيان صدر في باريس الأربعاء 17-12-2003 قبوله للقانون وعلى كل من يريد أن يعيش في فرنسا أن يخضع لقوانينها وعاداتها وأيد المجلس قرار عدم منح طلبة المدارس إجازة في عيد الكيبور اليهودي وعيد الأضحى، معللا ذلك أن منح مثل هذه الإجازة سيؤدي إلى مشاكل أكثر مما يؤدي إلى حلول.
هذه الرؤية المختلفة والمتناقضة سهل فهمها وهي تعبر في الحقيقة عن أن المعنيين والضحايا في هذا الأمر هم المسلمون. فزيادة على أن مظاهر التدين الغالب عند الأطراف الأخرى ليس إلزاميا، فإن وجود مدارس حرة كاثوليكية ويهودية تمول من طرف الدولة وتكاد تماثل المدارس العمومية عددا وعدة، تجعل من القانون غير ذي اعتبار عند الطائفتين. فأكثر من مليوني وستمائة ألف تلميذ يرتادون المدارس الكاثوليكية، وأكثر من 26 ألفا يدرسون في المدارس اليهودية، في حين أن سبعين تلميذا مسلما يرتادون مدرستين مسلمتين بتمويل ذاتي، تأسستا منذ سنة أو سنتين. ولو أرجعنا هذه الكتل إلى نسبها المئوية في مقابل عدد المنتسبين إلى هذه الأديان لوجدنا الإجحاف أكبر وأخطر. المفارقة التي سوف يتعرض لها القرار لا محالة وهو إما أن يؤدي إلى طرد العشرات أو المئات من الفتيات اللاتي يرفضن نزع خمارهن، وهو ما سيدفع لاحقا إلى ضرورة إيجاد بدائل إسلامية، مما يعمق الانكفاء والتقوقع على الذات وعلى الطائفة، وهو عكس ما أراده المشرع الفرنسي.
وإما أن تبقي الفتيات سافرات الشعر داخل المدارس وهو ما سوف يعمق الإذلال لهذه الأقلية وشعورها بأنها مظلومة، وأن الوطن الذي حملها وحملته في قلوبها، قد هضم حقها في العزة والكرامة، وأن عليها أن تبحث عن ذلك الدفء المعنوي والحاسم عند بني طائفتها. إن سياسة الخوف كما عبرت عنها افتتاحية صحيفة لوموند في 17/12/03 تظهر أنه بعيدا على أنه سيكون وسيلة للاندماج والتهدئة كما يريده الرئيس الفرنسي، فإن القانون المرتقب سوف يكون إشارة عكسية إلى مزيد من الانكفاء على الذات والطائفية، فهذه اللائكية الخائفة والمنغلقة والمدافعة ستؤدي لاحقا إلى تهميش قطاع هام من سكان البلاد وتشويه صورته ورفت جانب منه.
المفارقة الخامسة: اللائكية المغشوشة(12/347)
ليست اللائكية مطروحة للنقاش هذه الكلمات التي رددها الرئيس الفرنسي مكررا، تنبئ بالمكانة التي حفرتها اللائكية في ثقافة هذا البلد وعقلية أفراده وتركت بصماتها في عقلها الجمعي والفردي، والتي بنت وجدان مجتمعه وأسست كيانه وحددت سلوكه، فاللائكية الفرنسية هي لغة وتاريخ وثقافة ومصير. إن القول بهذه المبدئية الصارمة والرافضة للغة الحوار والتجاذب، يحمل في حد ذاته تناقضا جوهريا مع ما حملته اللائكية في دعوتها من أنها تشكل إطارا سليما للقاء بين الأضداد وعدم الإقصاء والاستثناء، رغم أنها تأسست على أنقاض معركة شاحنة بين الجمهورية والكنيسة، بل إن علاقتها التي بنتها مع الأديان كان فيه من المرونة ولو كانت محتشمة ما جعلها تحدد أطر التفاعل رغم تضييق منابر العمل.
فالفصل بين الدين والدولة، وطرد الكنيسة من الفضاء العام، وخاصة القطاع التعليمي العمومي، تولد عنه نشأة قطاع تعليمي خاص ضخم، تسهر عليه الكنيسة وتموله الدولة بضرائب المواطنين. المفارقة الجديدة التي تطرحها هذه الكلمات الحازمة للرئيس الفرنسي وهو إذا كانت اللائكية غير قابلة للنقاش، فهل حرية المعتقد وحرية الملبس قابلتان للجدال؟ وهذا ما جعل عديد الأطراف الخارجية تعبر عن قلقها من هذا الموقف المناهض لحرية المعتقد، فالبيت الأبيض اعتبر عن طريق مسئول الحريات الدينية في الخارجية أن الحجاب وما سواه من المظاهر الدينية يجب أن يكون متاحا، كما عبر التقرير السنوي للوزارة حول الحريات الدينية عن قلقه وانشغاله بالعقبات التي تضعها فرنسا لحرية المعتقد. كما أشارت الوزيرة البريطانية القائمة على الشؤون العرقية، أن المرأة المسلمة في بريطانيا تستطيع ارتداء الحجاب بكل راحة، سواء في الأماكن العامة أو في المدارس.
فالسؤال المطروح إذا كانت أطراف تجمعها بفرنسا وحدة الثقافة وتقارب العقلية وتناسق المواقف والتصورات الفلسفية وأحادية النسق الحضاري، لم تفهم الموقف الفرنسي، فكيف سيفهمه أبناء البلد وبناته؟ كيف ستفهم الفتاة الفرنسية التي تربت في بلد حقوق الإنسان، والتي سمعت آباءها قبل أن تري بأم عينيها مدي انعدام الحرية والاعتداء على حقوق الإنسان في وطن الأجداد، كيف لها وهي التي تغنت وشكرت الأقدار التي جعلتها تري الدنيا بالألوان، في هذه البلاد المفعمة بأشعة الحرية ونسيمها وأشواقها، كيف لها أن تقبل مهما كانت المبررات والدوافع، فلسفية كانت أو حضارية أو سياسية ضيقة، أن يُعتدي على حق ظنته مكسبا لا رجعة فيه، ولا يقبل المزايدة، وليس مطروحا للنقاش؟ كيف لهذا الأقلية الجديدة أن تعقل أن هذه الحرية في المعتقد والملبس التي رعتها اللائكية يوما في مواجهة الكنيسة، تأتي اليوم هذه اللائكية نفسها لتنزعه عن فريق تربي في أحضانها، وشرب من ألبانها على مقاعد الدراسة وأمام شاشات التلفاز؟
المفارقة السادسة: الإسلام كتهمة
لقد أنتجت الحملة حول الحجاب، والقانون الذي سوف تثمره حالة ارتياب وتوجس داخل المجتمع الفرنسي تعبر عنها كلمة الإسلاموفوبيا وهي الخوف من الإسلام فكرا وممارسة، حتى أصبح الحجاب عنوانا لهذه الأقلية ولثقافتها ورمزا لدينها، وتحولت المعاداة والريبة من قطعة القماش إلى النسيج الاجتماعي نفسه، ومن الحجاب إلى الديانة الإسلامية. وأصبحت مناطق الحظر تتوسع وأخذ إطار الحرية لهذه الأقلية يتقلص شيئا فشيئا. فمن المدرسة أصبح الحديث عن المستشفيات، وطالب البعض بأن تحترم اللائكية من طرف الطبيب والمريض، حيث تبين أن البعض من الطاقم الطبي النسائي يلبسن الحجاب، فقبل أن تكون طبيبا أو مريضا عليك أن تكون لائكيا! ثم تم غلق مسبح كان يسمح فيه لسويعات معدودة في الأسبوع، للنساء المسلمات بالترفيه عن أنفسهن بعيدا عن أعين الغرباء، حتى لا يتناقض مع مياه اللائكية التي ترفض الفصل بين المواطنين! ثم قام رئيس بلدية إحدى الضواحي الباريسية (Nogent su r ma r ne) برفض الإشراف وقبول الزواج المدني لعروس لأنها رفضت نزع الخمار، بدعوى عدم احترام القيم العلمانية للدولة! لأن مقر البلدية رمز ومكان مبجل للجمهورية! ثم تلاه رفض أحد مديري المدارس دخول أولياء متحجبات إلى المدرسة لحضور حوار داخلي دعت إليه الدولة لمناقشة دور المدرسة، بدعوى لائكية المكان!(12/348)
هذه المظاهر الجديدة في المجتمع الفرنسي ليست شواذا، ولكنها تعبير خطير عن عقلية جديدة بدأت تُنسج خيوطها في البيت السياسي أولا، ثم تفشت في النسيج الاجتماعي، وهي الخوف والتوجس من هذا الدين ومن أصحابه، واعتبار أن جزء من هذا الوطن غير مرغوب فيه. وبالرغم من أن الرئيس الفرنسي قد حذر من هذا المنعطف ، فإننا لا نخال إلا أن هذه الحملة والمتبوعة بالقانون، ستؤدي إلى هذه النتيجة الخطيرة على علاقة الطوائف ببعضها، وإلى التدرجات الاجتماعية داخل الوطن الواحد، وسيشعر جزء منه أنه مضطهد، وأنه مواطن من الدرجة الثانية لاختلافه في المعتقد والدين. فهل هو عجز المجتمع الفرنسي عن استيعاب هذا الدين وتفهم ثقافة حامليه والقبول بالظاهرة الإسلامية؟ أم أن الخوف من الاحتواء الإسلامي للثقافة الأوروبية ولتاريخها يبرر مثل هذه القوانين ويبشر بالمزيد منها؟
الحالة الإسلامية على مفترق طرق
إن الحملة الفرنسية وما سوف ينجر عنها من قوانين وأحوال تؤكد على ثلاث استنتاجات هامة ومصيرية وفريدة تتجاوز الواقع الفرنسي، لتلمس حالة الأقليات المسلمة في الغرب فقها وممارسة، و دور المرأة كإنسان وكمسلمة، والعلمانية كإطار مستقبلي مهتز كان ينشد حلولا لأطر متخلفة :
- يحمل المظهر الإسلامي خاصية ذات بعدين، وظيفي ورمزي. وهي حالة يلتقي فيها مع بعض الأديان ولكن يفوقها حجما ودلالة، وهي توحي بفرادته وتجعله يعبر عن ثقافة وعقلية ومنهج حياة يتجاوز الحدود والثقافات.فهل تسبق قوانين الإطار الذي يتنزل فيه تصوراته أم يعلو عليها وينبذها؟ هل يعلو الحجاب على الجمهورية أم يتأقلم مع المعطيات الجديدة ويحترم قانون الأغلبية على مرارته؟ هذه اللحظة التي تعيشها الأقلية المسلمة في فرنسا خاصة وفي بلاد الغرب عامة، تظهر مدي ما يحمله هذا الواقع الجديد من خاصيات ومميزات تدفع إلى الإسراع بإنشاء فقه للأقليات لا يكتفي بدور النصيحة والإفتاء ودعها حتى تقع، ولكن يفرض الجرأة على خوض هذه التجربة المصيرية والهامة في مستوي الفروع، فإذا كان هذا الفقه جزء من الفقه العام، فإنه يجب أن يتميز عليه بواقعه الذي يتنزل فيه وبخصوصية أوضاع طالبيه. إن بروز فقه جديد بقواعد جديدة يعبر عن حالة جديدة لم يعرفها الإسلام سابقا، حيث أصبح قلة في كثير، يعتبر أمرا ضروريا وحاسما لاندماج هذه الأقليات في أوطانها الجديدة مع احترام قوانين بلدانها دون تفسخ أو اندثار أو انعزال.
- أصبحت المرأة رمزا للإسلام وهي حقيقة جديدة ومكسبا لم يكن يحلم به أصحاب المشروع نفسه، فحقوق المرأة ودورها الاجتماعي كان الثلمة التي يجب رتقها، وحلقة الضعف الرئيسية في الخطاب الإسلامي وممارساته. كانت دونية المرأة وحقوقها المهضومة عنوانا سلبيا للإسلام عند الضفة الأخرى، وببروز الحجاب ودخوله معترك المطالب النسوية والحقوق الشخصية، وتبنيه كوسيلة تحرير للمرأة من تقاليد العزلة والانسحاب، و من خطاب الإبعاد والإقصاء، وممارسات الدونية والاستخفاف، وتأويلات قرون الانحطاط والسقوط، لتصبح المرأة المتحجبة صورة حية للمرأة الحرة التي لها رأيها في الشأن الخاص والعام. وتصبح المرأة عنوانا إيجابيا للإسلام إذا روعيت القراءة الواعية والمتحضرة والسليمة للأقوال والأفعال. هذه الحالة الجديدة للمرأة لا تعتبر إفرازا فريدا وحالة لم يشهدها التاريخ الإسلامي، ولكن عودة على بدء وارتباطا طبيعيا بعد قوسين من ضلال التقاليد والجور الفقهي، بالروح التحريرية التي حملها النص الإسلامي وتجربته التاريخية أيام مجده الحضاري. ألم تُعرّف النساء المتحجبات بالحرائر وغيرهن من الإماء والعبيد اللاتي ليس لهن أدني دور في الحياة العامة!
- انهيار العلمانية في مفهومها العام كراعية للحريات ومدافعة عن حقوق الإنسان، وتلوثها بلغة المصالح الإثنية والقومية وبالمكاسب الانتخابية على حساب المبدأ والنموذج. هذه الرجات المتوالية التي ما فتئت تهز ديار العلمانية حينا واللبرالية حينا آخر، من مثل قوانين الهجرة في أميركا وانتهاكها لأبسط الحقوق والحريات العامة، إلى مسجونين بدون حساب ولا عقاب ولا يحملون أي صفة قانونية، ومن مثل ما يقع من مضايقات وتهديدات لوسائل إعلامية لا تمشي وراء الركب وفضلت التغريد خارج السرب. كل هذه النقاط السوداء التي بدأت تنهمر ويكثر وقعها على أرض متعطشة لزرع آخر وزارع جديد، جعلت من العلمانية والليبرالية قصور رمل واهية لأي موجة قادمة مهما ضعف زبدها. ولهذه الترهلات وقع شديد في البلدان العربية والإسلامية التي شهدت وما زالت تشهد تعاظم العودة للإسلام الفطري، وانهيار المقولات والشعارات العلمانية والليبرالية التي ساهم آباؤها في الضفة الأخرى في اهتزاز صورتها، مما جعلتها تفقد مصداقيتها وتستعد لمغادرة المشهد السياسي والاجتماعي وهي في حيرة من أمرها.
==============(12/349)
(12/350)
انحياز لـ"الهوية الثقافية" وليس لـ"العلمانية السياسية"
2003/12/27
…
محمود سلطان*
كان للكاتب الراحل محمد جلال كشك - رحمه الله - في اشتباكه مع دعاة "حقوق المرأة"، في مصر، بعض الإضاءات التي لا نبالغ إن قلنا إنها أصابت كبد الحقيقة، فيما يتعلق بالجدل الدائر بشأن "الحجاب" سواء أكان - هذا الجدل - محتدما في العالم العربي، أو في غيره على نحو ما يحدث الآن في فرنسا.
أوضح كشك أن هناك ثمة علاقة مفترضة "بين الحجاب والدين" أو الانتساب الحضاري، بمعنى أن الحجاب إضافة إلى كونه فريضة دينية هو في واقع الحال رمز أو دلالة على الانتماء للإسلام ولثقافته القرآنية، ربما تكون هذه العلاقة، غير حاضرة في خاطر المحجبات، ولكنها حاضرة حضورا ملتهبا في تفكير المعارضين للحجاب. ومن ثم فإن الهدف ليس تعرية رأس الفتيات ولا تحرير المرأة من الحجاب بل "قطع رأس الإسلام"، على حسب قوله.
والحال أن ما يعطي هذه القراءة صدقها، أن النخب السياسية والثقافية، عادة ما تكون شديدة الوعي بمركزية "الرمز" ودلالاته الحضارية. صحيح أن الممارسات "الرمزية"، قد تبدو لعوام الناس عملا فنيا أو معماريا محضا، أو أنها خالية من أية دلالة سياسية أو ثقافية وهي في واقع الحال، اتجاهات تتقاطع فيها السياسة والثقافة والحضارة بشكل أو بآخر، غير أنها تتخذ من الرمز أو الفن أو من المعمار أدوات للتعبير عن نفسها؛ فلقد رفضت حكومة حزب الوفد المصري العلماني الليبرالي عام 1930، إقامة ضريح سعد زغلول في مسجد، وقررت بدلا من ذلك تشييده على شكل فرعوني وثني!! إذ أراد الوفد أن يخوض معركة سياسية مع دعاة "الجامعة الإسلامية"، ويعبر من خلال هذا المنحى -بناء القبر على الهيئة الفرعونية- عن انحيازه إلى فكرة "الوطنية المصرية" التي تستمد ثقافتها من "الفرعونية". وكانت الأخيرة قد دلفت إلى عقول بعض النخبة المصرية، بعد دخول الإنجليز مصر، وانتشار منهج التعليم "الدنلوبي"** الذي أعاد إحياء الثقافة الفرعونية، في إطار الاشتباك الثقافي بين الاستشراق الفرنسي من جهة، والاستشراق الإنجليزي من جهة أخرى، في محاولة من كليهما لفرض هيمنته الثقافية على المجتمع المصري. وبالمثل فإن رسم "أبي الهول" على أوراق العملة وعلى طوابع البريد -وهو منحى في ظاهره فني أو جمالي- كان يخفي بين تلابيبه دعوة سياسية إلى "الجامعة المصرية"، خاصة أن هذه الخطوة جاءت تقليدا لاتجاه مشابه اتخذه الكماليون بتركيا عقب سقوط الخلافة حين اتخذوا من "الذئب الأبيض" -وهو رمز أسلافهم من الوثنيين- شعارا لهم، وقرروا أن يرسم على طوابع البريد.
ونذكر في هذا الإطار أن قادة ثورة يوليو عام 1952، حظروا على الرجال ارتداء "الطربوش"، إذ اعتبر الانقلابيون -آنذاك- الطربوش رمزا لـ"الملكية"، وانتماء لثقافتها الاجتماعية.
وفي هذا السياق فإنه قد تباينت الآراء بشأن القانون الفرنسي الأخير الذي حظر ارتداء المسلمات للحجاب في مؤسسات الدولة الرسمية، البعض يرى أنه لا يتضمن أي شبهة تحيز ضد المسلمين، على أساس أنه يحظر أيضا الشارات الدينية الأخرى لليهود والمسيحيين. والحال أن هذه الشارات كانت سائدة وبشكل علني في المجتمع الفرنسي منذ صدور قانون عام 1905 الذي فصل الدين عن الدولة. دون أن يثير حفيظة أو ريبة أحد، ولم تعتبر طوال المائة عام المنصرمة، تعديا أو تهديدا للعلمانية الفرنسية، ولم تكن موضوعا للخلاف والجدل بين القوى السياسية المختلفة، ولا استنفرت أجهزة الدولة، ولا سنت التشريعات والقوانين للحد منها. والحال أن هذا التعايش بين هذه الشارات والدولة، كان تعايشا طبيعيا وامتدادا رمزيا للأصول الثقافية للدولة، بيد أنه لم يكن في أصله دليلا -كما يعتقد البعض- على إعلاء العلمانية الفرنسية لقيمتي الاختلاف والحرية الشخصية، وإنما ظاهرة تحتضن ضمنيا، قدرا من التحيز للثقافة اليهودية - المسيحية. باعتبار أن أوروبا بما فيها فرنسا، هي في حقيقة الأمر، سليلة هذه الثقافة. وتكتسب الأخيرة أهميتها في الوعي الجمعي الغربي، من كونها المحدد الأساسي لهوية الغرب وخصوصيته الحضارية وتمايزه الثقافي لا سيما أنه ليس ثمة من يدعي أن العلمانية وفي أكثر صيغها نقاء ومثالية، تعتبر وعاء ثقافيا يعبر عن هوية أمة وانتسابها الحضاري. ولعل ذلك ما يفسر هذا الموقف الفرنسي الرسمي وغير الرسمي المتشدد إزاء الحجاب. فالأخير بما يتضمنه من حمولة رمزية لثقافة وحضارة مغايرة ومناضلة في الوقت ذاته، لا يمثل -كما يدعي بعض الفرنسيين- تهديدا للعلمانية الفرنسية، وإنما تهديدا لـ"ثقافتها" أو بالأحرى لـ"هويتها"، أي أن ظاهرة الحجاب، وضعت الدولة أمام خيارين: إما الانحياز لـ"العلمانية" والتخلي عن "الهوية" وإما العكس. فانحيازها للأولى يفرض عليها أن تتحلى بالحيدة التي أقرها قانون 1905، ولا تهتم لا بالسفور ولا بالحجاب، سواء في المؤسسات التعليمية أو في غيرها. غير أن قانون الحظر -وإن اتشح بمبررات تظهر عكس ما تبطن- كان إعلانا عن انحياز الجمهورية الفرنسية لهويتها، وليس لعلمانيتها كما تذهب حججهم في هذا الإطار.(12/351)
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه ليس ثمة صدقية للادعاءات التي تقول: إن القانون جاء استجابة لرغبة الدولة، في حماية الفتيات من أي شكل من أشكال الإكراه الذي يمكن أن تمارسه الأسرة أو ما يسمى بالتنظيمات الإسلامية المتشددة، إذ إن تصرف الدولة ذاتها يتناقض مع هذا الادعاء، ويأتي في هذا السياق نموذج الطالبتين (ليلى 18 سنة، وألما 16)، حيث قررت إدارة المدرسة فصلهما لارتدائهما الحجاب، رغم أنهما ينحدران من عائلة يهودية مشهورة في فرنسا وأوروبا عموما وهي عائلة "ليفي"، والدهما "لوران ليفي" محامٍ يهودي معروف في فرنسا بمواقفه اليسارية، وأمهما جزائرية مسيحية غير متدينة، أي أن الحجاب في هذه الحالة كان ممارسة مبرأة من أي شبهة إكراه. وتكتسب حالة "ليلى وألما" أهميتها من أنها كانت حالة غير ملتبسة، وغير قابلة لتعدد القراءات والتأويلات، وأضاءت حقيقة أن موقف المدرسة من الحجاب -ممثلة للدولة- كان موقفا "ثقافيا" لا "علمانيا".
أزمة الحجاب في فرنسا -إذن- كشفت عن أن العلمانية الفرنسية، لا تمارس حضورها كوعاء حاضن للاختلاف والتعدد -أي لا تمارس علمانيتها- إلا من خلال الأطر الثقافية والاجتماعية المهمشة، أو تلك المفرغة من أية مضمون أو بنية "عقائدية - نضالية"، والتي لا تمثل تهديدا لـ"هويتها الثقافية" وليس لـ"علمانيتها السياسية"، مثل الجماعات الداعية إلى "عبادة الشيطان" أو "البوذية" أو "الزواج المثلي" أو الحرية الجنسية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
ومن هنا فإن فرنسا لم تفشل في محاولتها دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، وإنما تعمدت تهميشهم، وحصارهم داخل المناطق والجماعات المهمشة، وحشرهم داخل الأطر المشابهة، غير المؤهلة بطبيعتها للتمدد والتأثير الثقافي، هنا وهنا فقط تظل العلمانية الفرنسية محتفظة بوظيفتها كمظلة يستظل بها التعدد والاختلاف. وهذا شرط أساسي من الشروط التي تستقي منه العلمانية الفرنسية حيويتها؛ ولذا فإن فكرة دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، ربما تكون "واقعا"، ولكن عندما يستسلم المسلمون لثقافة فرنسا وهويتها المسيحية، وليس الانصياع كما يُدعَى لمبادئ العلمانية، فليس ثمة مشكلة في الأخيرة، فهي في روحها وقوانينها تقبل هذا الاندماج، متى تحررت من القيود الحضارية (أو الثقافية)، وكذلك من أعباء الحفاظ على الجذور المسيحية للهوية الفرنسية.
============(12/352)
(12/353)
"أصولية علمانية" فرنسية في وجه الأصولية الإسلامية*
2003/12/20
…
محمد قواص**
الشقيقتان ليلى ولمعى اللتين أثار طردهما من المدرسة قضية الحجاب فى فرنسا
أدلى سيد الإليزيه بدلوه المنتظر في شأن الجدل الداخلي الفرنسي الذي أثارته ظاهرة ارتداء الحجاب في المدارس. وافق جاك شيراك على اقتراح لجنة شُكلت للنظر في قوانين العلمانية في فرنسا يدعو إلى إصدار قانون يعتمده برلمان البلاد يمنع حمل أو ارتداء كل ما يدل على الديانة في مدارس الجمهورية. إنه وجه من وجوه "صدام الحضارات" تشهده فرنسا من خلال نقاش على مستوى البلاد حول كيفية التعاطي مع ظاهرة الحجاب.
والمسألة ليست ظرفية تتعلق في شأن جهوي محلي، بل أضحت مفصلية تستدرج إعادة النظر في النظرية العلمانية وفي النموذج الذي خرج من الثورة الفرنسية وتقنن أوائل القرن الماضي تحت شعار العلمانية وفصل الدين (الكنيسة) عن الدولة. تحاول فرنسا منذ عقود التعايش مع الحال الإسلامية في البلاد. فالوجود التاريخي الاستعماري لفرنسا في الدول الإسلامية، لا سيما في منطقة المغرب العربي أثمر وجودا إسلاميا شكّل على مر عقود وعاء ديموغرافيا جعله في المرتبة الثانية بعد المسيحية. وكان لا بد لهذا الوجود الإسلامي من أن يظهر قصور النموذج العلماني عن استيعاب ديانة الآخر ضمن قوانين الجمهورية ونظامها الاجتماعي.
يعتمد النظام السياسي والاجتماعي والثقافي للنموذج الفرنسي الحديث على تقديس حرية الفرد ومساواته مجردا من انتمائه الإثني أو الديني. ويدور لبّ المنطق الفرنسي على حشد المواطنة خلف قيم الجمهورية على نحو يعيد ترتيب الفرد وفق نموذج الجمهورية الجماعي. وواضح أن نموذج فرنسا في مسألة الانصهار الاجتماعي يختلف عن ذلك الأنجلوسكسوني الذي يتأسس على فكرة تعايش المجموعات بالاحتفاظ بخصائصها (الإثنية والثقافية والدينية) في مقابل احترام الآخر ضمن الوطن الكبير وقواعده.
ففي بريطانيا والولايات المتحدة تنشط المجموعات الاجتماعية الإثنية في خلق ثقافتها الخاصة والالتفاف حول محركاتها (مدارس، إعلام، سوق...). وضمن هذا المنظور يندر النقاش الفرنسي من مسألة الحجاب في بريطانيا أو الولايات المتحدة أو حتى في ألمانيا. فالحجاب جزء من ثقافة الجماعة وضمن تفاصيل اندماج الجماعات في البناء الوطني الجامع.
الفرنسيون يدركون تميّز نظامهم عن ذلك الأنجلوسكسوني، ويعتبرون أن تراكما تاريخيا خاصا يقف وراء نموذجهم، ويفتخرون بأن تعامل النظام الفرنسي مع المواطن كفرد تصان حريته وتحترم حقوقه إنجاز فرنسي بالمطلق لا ينبغي التشكيك فيه أو النيل من أهليته. والعلمانية في فرنسا خرجت من رحم صراع مرير بين "الثوار" الفرنسيين وكاثوليكييهم وبين منطق الجمهورية وكنيسة روما. وما اللجوء إلى الخروج بـ"قوانين" العلمانية مطلع القرن الماضي إلا دليل شراسة المعركة التي انتهت إلى إقصاء الكنيسة عن الشأن السياسي العام. فالعلمانية لم تكن خطابا مثاليا يريد أن ينأى بالدين عن دوائر الشأن العام بل سيفا رفع سطوة الكنيسة الكاثوليكية على الحكم والحكومة والحكام.
لم يكن الإسلام إذن (ولا أية ديانة أخرى غير الكاثوليكية) مستهدفا من قوانين العلمانية الفرنسية، وما استجد في هذا السياق أن الكاثوليكية التي "دُجّنت" ضمن قوانين الجمهورية لم تعد منافسا للدولة ولا ندا لها، حتى تراجع الخطاب العلماني عن لعب دور الحجة الأساسية لدعم فلسفة الجمهورية.
بيد أن مذهب العلمانية عاد إلى وهجه كدستور وفلسفة وأيديولوجيا تدير النقاش الدائر حول الحجاب الإسلامي في المدارس. وانتقلت المسألة من بعدها المحلي التفصيلي في هذه المدرسة أو تلك إلى مستوى النقاش الوطني العام: الحكومة والمعارضة، السلطة التنفيذية والتشريعية، الأحزاب والنقابات... وكل فرنسا مشغولة بهمّها الرئيس: الحجاب في المدرسة.
سيل من التصريحات الرسمية مهّد للحملة "الوطنية" العامة ضد الحجاب. رئيس الوزراء الفرنسي جان بيار رافاران أعلن في نيسان (إبريل) الماضي معارضته للحجاب في الفضاءات العامة لا سيما في المدرسة. قبل ذلك كان وزير التربية لوك فيري جاهر برفضه وضع الحجاب في المدارس. لكن تورط الحكومة في هذا المسألة بدا أكثر وضوحا في تصريحات وزير الداخلية نيكولا ساركوزي أمام مهرجان للمنظمات التمثيلية للمسلمين في فرنسا منتصف نيسان المنصرم. وقوبل ساركوزي باستهجان الحاضرين حين ذكّر بمنع لبس الحجاب في الصور الفوتوغرافية التي تظهر على بطاقات الهوية.(12/354)
من نسيج هذا النقاش خرجت دعوات إلى سن قانون يمنع لبس الحجاب. وفي المقابل انبرت دعوات أخرى تذكّر بأن قوانين العلمانية واضحة لا تحتمل لبسا أو غموضا، وبالتالي فلا حاجة إلى رفدها بقوانين جديدة. وأعلن الرئيس الفرنسي أمام تصاعد حدة الجدل في تموز (يوليو) الماضي تشكيل "لجنة العلمانية في الجمهورية" وضع على رأسها صديقه الوزير السابق برنار ستازي، وهو من أقطاب الوسط. وانتهت لجنة ستازي بعد مداولات كثيفة إلى توصيات أهمها سن قانون لـ"منع ارتداء كل ما من شأنه أن يعتبر علامة تدل على الانتماء الديني". والمقصود من هذه الديباجة، بالطبع، منع ارتداء الحجاب في مدارس الدولة.
جدل كثير ما زال يدور حول ضرورة سن قانون لفرض خيار الجمهورية وفق خطاب أصولي علماني. حتى أن الرئيس شيراك ذهب في اتجاه لجنة ستازي حين أعلن من تونس مطلع الشهر الجاري أن ارتداء الحجاب مسلك عدواني من الصعب على الفرنسيين القبول به. غير أن المتمسكين بشرعة حقوق الإنسان يذكّرون بأن القانون المتوخى يتنافى مع المادة 18 من شرعة حقوق الإنسان التي تتحدث عن حق كل فرد في الفكر والعقيدة والدين. وهذا الحق يمنح الفرد حرية تغيير دينه أو معتقده أو حقه في الجهر بدينه أو بمعتقده كفرد أو كجماعة سواء كان ذلك في الفضاء العام أو الخاص من خلال التعليم والتطبيق وممارسة الطقوس والشعائر.
النقاش الفرنسي حول الحجاب يعكس عجز المجتمعات الغربية عن استيعاب الظاهرة الإسلامية، لا سيما بطبعتها الراهنة. و"الرعب" من الحجاب يمثل وجها من وجوه القلق الغربي عموما والفرنسي خصوصا من تنامي الإسلام داخل المجتمعات المحلية. وعندما يذهب برنار ستازي رئيس لجنة العلمانية في فرنسا إلى القول ان الحجاب يهدد الجمهورية، فإن ذلك ناتج من عدم قدرة النظام الجمهوري على التأقلم مع سياقات دينية أخرى تختلف عن تلك الكاثوليكية والتي تم للجمهورية لجمها ضمن قوانين العلمانية لعام 1905.
أمام المد الأصولي المزعوم للإسلام تنبري أصولية علمانية تشحذ سيوفها وتقذف حججها وتذهب إلى حد ممارسة الترهيب بالقوانين بدل الترغيب بالحوار. فصدور قانون يمنع ارتداء الحجاب سيؤدي آليا إلى إبعاد المحجبات عن مدارس الجمهورية. حتى أن المدافعين عن حقوق المرأة اعتبروا أن القانون يحرم المحجبات من "فرصة" الانضمام إلى الفلسفة التربوية العلمانية التي تضخها مدارس الجمهورية. على أن المطلوب من هذا القانون ليس إلغاء مشهد الحجاب في حد ذاته. فالحجاب ما هو إلا علامات وجود الإسلام في فرنسا. وقد يكون المطلوب أصلا إزالة ما يدل على تنامي الإسلام داخل مجتمع الجمهورية. ويذهب البعض إلى الاعتقاد بأن العلمانية الفرنسية لا تستطيع التعايش مع مظاهر الإسلام وعلاماته. وأنها (أي العلمانية) أرادت القبول بإسلام فرنسي غير مرئي وغير مسموع. فالجمهورية ومن اجل احترام حساسية الفرنسيين ومشاعرهم أمام الاحتمال "العدواني" الذي تحدث عنه شيراك، قبلت على مضض بإقامة قاعات صلاة بعيدة من مراكز المدن داخل الأقبية ووراء الجدران. على أن ما أرادته الجمهورية العلمانية أن يكون إبعادا وإقصاء تحوّل إلى جيتو يتغذى من ثقافة هذا الإقصاء ويؤسس لإسلام خاص ينفر من واقعه الفرنسي ويفتش عن مصادره ليس في إسلام الخارج فحسب، بل يستلهم حركته من إسلام أصولي ينهل من منابع الماضي وخيالاته.
=============(12/355)
(12/356)
لماذا لا يجوز وضع تشريع ضد الحجاب؟ (رأي فرنسي)*
2003/12/27
…
بقلم/ دانييل أمسون**
لقد نطق الرئيس الفرنسي أخيرا وأعلن قراره، لكنني أرى من وجهة نظري ضرورة عدم وضع تشريع يمنع الحجاب الإسلامي؛ لثلاثة أسباب على الأقل:
أولها: أن الإطار القانوني لمناقشة القرار الأخير كان يرتكز على أساس وجهة نظر مجلس الدولة التي تم إعلانها في 27 نوفمبر 1989، وتؤكد على منع أي علامة دينية مميزة في المؤسسات العامة للدولة، وهي وجهة نظر تستجيب تماما لقواعد علمانية الدولة الفرنسية. إلا أن هناك مبدأ آخر كان من الواجب أخذه في الحسبان؛ هو مبدأ حرية التعبير عن المعتقدات الدينية، وبسببه أضاف المجلس الأعلى للدولة جملة "على ألا تتسبب التشريعات التي تحد من هذه العلامات في أي ضغوط أو إثارة أو دعاية، ولا تنال من كرامة الطالب، ولا تعوق سير الأنشطة التعليمية، ولا تبلبل النظام في المؤسسة أو السير الطبيعي للخدمة العامة".
لكن هذا القانون الأخير يسمح باستبعاد الطالبات اللواتي يرتدين الحجاب أثناء دراستهن؛ مما سيسبب حتما عدة اضطرابات ستؤثر في نظام المؤسسة، وستعوق كذلك من سير أنشطة التعليم بالنسبة للطلبة.
وثاني هذه الأسباب أكثر أهمية؛ إذ هل يمكن تخيل مدى الجدل الذي سيثار حول أي مشروع لقانون عن الحجاب الإسلامي، حتى وإن كان مشروع القانون يقتصر على منع ارتداء الحجاب في المؤسسات العامة. فهل المرحلة التالية هي أن يناقش شكل الحجاب المسموح به وألوانه مثلا؟
إن لجنة ستاسي لم تطالب إلا بمنع العلامات الدينية الظاهرة من الصلبان الكبيرة والحجاب والطاقية اليهودية في المدارس، وركزت على الفصل بين مثل هذه العلامات "الواضحة" وغيرها من المظاهر التي لا تعد دليلا صارخا على الانتماء والتمييز الديني، مثل الميداليات والصلبان الصغيرة، ونجمة داود، والمصاحف الصغيرة. إلا أن الواقع هو أنه لا يوجد أي معيار موضوعي لتحديد "العلامة الدينية الظاهرة". معناها الحرفي في القاموس هو "علامة يتم إعلانها بوضوح لتمييز بعض الأفراد عن غيرهم"؛ لذلك فربما كان الحجاب والطاقية اليهودية والصلبان الكبيرة علامات ظاهرة، ولكن فقط لمن يهتمون بالأمر، وليس لأي شخص لا تعنيه المسألة برمتها.
إضافة إلى ذلك فإن لجنة ستاسي قد ذكرت الأمثلة الشائعة للعلامات الظاهرة فقط، لكنها لم تذكر شيئا مثلا عن الملابس التي يمكن لها أن تقوم بدور في التمييز، وتشير إلى الانتماء إلى أي طائفة دينية أو مذهبية في فرنسا.
لذلك فلا بد أولا من تحديد معيار موضوعي للعلامة الظاهرة، وهو أمر يصعب بشدة، بل ربما يجد المشرع نفسه في موقف حرج ومضحك، وهو يصر على تحديد مفهوم جامع شامل للعلامة الدينية المميزة؛ فيتخيل موضات الملابس التي يمكن أن يرتديها الطلبة والطالبات، ويحاول أن يفكر بعقولهم كي لا تفلت منه علامة واحدة قد يبتكرونها كي تميزهم ويعبرون بها عن معتقداتهم.
وثالث هذه الأسباب أنه حتى إذا سلمنا بنجاح البرلمان في وضع نص تشريعي أكثر تماسكا وأقل إثارة للانتقادات والجدل من التشريع الحالي؛ فستظل هناك مشكلة أخرى قائمة؛ هي متابعة تطبيق النص الذي سيتم التوصل إليه.
والواقع أن مشكلات تطبيق القانون من الأمور التي لا يمكن حلها. هل من الممكن مثلا إيجاد عقاب مثالي لمن يخالفون هذا التشريع لا يشعرهم بالظلم والاضطهاد؛ لأنهم يعبرون عن عقائدهم؟ والسؤال التالي هو: على مَنْ ينبغي توقيع العقاب؟ هل على أولئك اللائي يرتدين علامة دينية ظاهرة أثناء لحظة دخولهن إلى المؤسسة العامة؟ أم على اللائي يرتدينه على بابها أثناء خروجهن منها؟ أم على اللائي يخرجن من جيوبهم كي يرتدينها أثناء الدراسة؟ كل تلك الأمور ستحول المدرسين إلى حرس للمراقبة، بدلا من التركيز في مهمتهم الأساسية وهي التعليم. إلا إذا تم حل هذه المشكلة بتأسيس "حرس علماني" يكرهه الكل، ويتم نشر وتوزيع أفراده للمراقبة على كل الأماكن التي يتم إلقاء الدروس فيها؛ وهو ما يجعل الأمر شبه مستحيل.
فليفكر المشرعون إذن في المشاكل التي سيثيرها تطبيق القانون الجديد والتي ستضاف كذلك إلى المشاكل الموجودة أصلا فيه، ولم يمكن حلها حتى الآن.
=============(12/357)
(12/358)
ثورة الاعتدال الصامتة تهزم العلمانية الصاخبة في تركيا
عبد الحليم غزالي
Image
دينيز بايكال وتراجع مضطرد لحزب الشعب الجمهوري
تبدو نتائج الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة معبأة بالدلالات العميقة. وأول هذه الدلالات انتصار الثورة البيضاء أو الصامتة التي بدأها الإسلاميون الجدد المعتدلون في عام 2002 على العلمانية الإقصائية المتطرفة.. هذا الانتصار الذي يتكرر للمرة الثانية خلال أقل من خمس سنوات يعني أن تحول المزاج الشعبي تجاه الاعتدال والوسطية في مواجهة أقلية متسلطة لا تمتلك مشروعا قابلا للحياة في المستقبل هو أمر جدي وليس فورة احتجاجية عابرة.
ويصعب على المعارضة العلمانية بعد هذه الموقعة الحديث بلغة الجماهير والمظاهرات ما دام حزب العدالة والتنمية الحاكم قد نال هذا التفويض الشعبي الكاسح بحصوله على ما يعادل كل ما نالته أحزاب المعارضة مجتمعة، بل وحصل الحزب على أكثر من ضعف ما حازه حزب الشعب الجمهوري قائد المعارضة من أصوات رغم كل ما فعله في معركة الانتخابات الرئاسية من تحريض ضد حزب العدالة والتنمية بحجة أنه يحمل أجندة إسلامية خفية تهدد أسس الجمهورية الأتاتوركية.
انتصار تاريخي
إننا بكل المعايير أمام انتصار تاريخي، لكن لا يمكن القول بأنه حاسم لأن الطرف الآخر وهو المعارضة ومن ورائه المؤسسة العسكرية لم يعترفا بالهزيمة. ونظن أن المعارضة تبيت النية لمواجهات أخرى، ربما لمعركة رئاسة جديدة بعدما أعلن حزب العدالة والتنمية أن نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية عبد الله جول لا يزال مرشحه المفضل لمنصب الرئيس سواء أجريت الانتخابات الرئاسية وفقا للنظام القديم بواسطة البرلمان، أو بالاقتراع الحر المباشر بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي أقرها البرلمان المنقضية ولايته.
إنها المرة الأولى التي يزيد فيها حزب حاكم من شعبيته في تركيا منذ انتخابات عام 1969
حيث رفع غلته من أصوات الناخبين إلى 46.66% بما يزيد على 12% عن انتخابات عام 2002، وهي نسبة تعكس نجاحا كبيرا في إدارة المعركة الانتخابية التي كان الصراع الأيديولوجي والحضاري جوهرها رغم أنه لم يكن القضية الطافية على السطح في هذه المعركة، حيث كانت قضايا مثل الاقتصاد والمشكلة الكردية والمشروع الأوروبي والحجاب هي المهيمنة. ولابد من الإشارة إلى المجهود الذي بذله حزب العدالة والتنمية في الحملة الانتخابية والعمل المدروس الذي قام به، فقد طرح الاستقرار شعارا في مواجهة التغيير السلبي الهوجائي وفقا للصورة التي أشاعتها دعوات المعارضة للحلول مكانه في السلطة.
ومن المؤكد أن الحزب استفاد من صورة الضحية بتدخل الجيش وانحياز القضاء للمعارضة في معركة انتخابات الرئاسة التي أرغم فيها على سحب جول من السباق، رغم أهليته لمنصب الرئيس وفقا لقواعد لعبة الديمقراطية التي انقلب عليها العلمانيون بحكم قضائي غير عادل للمحكمة الدستورية، حسب آراء جل الخبراء القانونيين الموثوق بحيادهم في تركيا. كما استفاد أيضا من صورة المتعقل برفض الانجرار إلى حرب مظاهرات في الشارع ضد المعارضة التي سيرت مظاهرات شارك فيها مئات الآلاف. ويبدو أن هذه المعارضة بدت كمن كذب على نفسه وصدق الكذبة باعتبار هذه المظاهرات تعبيرا عن شعبية جارفة. وقد كان ملفتا توصيف السفير أونور أويمن نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري لنتيجة الانتخابات بأنها غير عقلانية أو غير منطقية، وهو تعبير عن الفشل حتى في تبرير العجز. ومن الطبيعي أن يمارس زعيم الحزب دينيز بايكال فعل الصمت بعد الهزيمة رغم الخطب التحريضية ضد حزب العدالة والتنمية منذ ما يقرب من عام ونصف العام.
وبالمقابل أثبت غريمه رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أنه الرجل الأكثر شعبية في البلاد، وهو أمر تحقق بالجهد الهائل الذي بذله الرجل بالذهاب إلى المواطنين في القرى والبلدات والمدن النائية سعيا للإقناع المباشر بمشروع حزبه الاعتدالي الوسطي الواقعي، فضلا عن كاريزميته الصارخة.
ومما لا يمكن تجاهله في تفسير فوز حزب العدالة الكاسح وقوف طبقة رجال الأعمال بكافة فئاتهم بجانب الحزب الذي حقق الاستقرار الاقتصادي في البلاد، ونجح في الوصول إلى إنجازات ملموسة في هذا المجال على الرغم من أن رجل الشارع لم يشعر بها كثيرا، لكنه أدرك ملامحها في تقييمات المؤسسات الاقتصادية الدولية. ويبدو أن عوام الأتراك اقتنعوا بمنهج الإثمار الأكثر المتأخر بدلا من المكاسب السريعة التي قد تقود إلى أزمات وكوارث.
استخلاصات هامة
وثمة استخلاصات مهمة من نتائج الانتخابات التركية تتمثل في الآتي:
أولا: أن شعبية حزب العدالة والتنمية توزع بين كافة المناطق الجغرافية وكل الفئات التعليمية والعمرية حيث حقق فوزه في 69 محافظة من محافظات تركيا الـ 81، في حين فاز حزب الشعب الجمهوري في خمس محافظات غربي البلاد، وحزب الحركة القومية في محافظتين والمرشحون المستقلون ومعظمهم من الأكراد في خمس محافظات.(12/359)
ثانيا: أن عودة الأكراد للبرلمان تزامنت مع عودة مماثلة لحزب الحركة القومية، مما يؤكد تصاعد المد والاستقطاب القومي في البلاد في ظل تفاقم المشكلة الكردية وتفجر مظاهرها من عنف مسلح وفقر وحرمان وتخلف في مناطق جنوب شرقي البلاد، وهذه العودة بشقيها التركي والكردي تجعل هذه المشكلة حاضرة بقوة في جدول أعمال البرلمان الجديد.
ثالثا: البرلمان الجديد أكثر تعددية في التوجهات بالقياس للبرلمان القديم، بدخول القوميين الأتراك والأكراد أروقته، مما يثري الحياة السياسية في البلاد ويضفي عليها أجواء من الإثارة. في حين كان البرلمان القديم ثنائيا، إلى أن تشكلت ثلاث مجموعات برلمانية كلها كانت تنتمي ليمين الوسط في نهاية عام 2005، وذلك نتيجة لانشقاقات عن حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري.
رابعا: قضت هذه الانتخابات تقريبا على أحزاب يمين الوسط التي ظلت لسنوات طويلة مهيمنة على الحياة السياسية في البلاد في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حيث تعرض الحزب الديمقراطي وريث حزب الطريق القويم لهزيمة مذلة بحصوله على 5.41% من أصوات الناخبين بالقياس لأكثر من 9.5% في انتخابات عام 2002، مما اضطر زعيم
الحزب "محمد أغار" للاستقالة ليلقى مصير سلفه تانسو تشيللر التي دفعت ثمن الهزيمة السابقة. وبالنسبة لحزب الوطن الأم فقد كشف امتناعه عن خوض الانتخابات اعترافه بالعجز عن عدم قدرته على تخطي حاجز الـ 10 % من أصوات الناخبين المطلوبة لنيل التمثيل البرلماني، وبالتالي فإن حزب العدالة قد قضم جزءا كبيرا من شعبية تيار يمين الوسط الذي أصبح بلا لون مميز وسط حالة الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي الحاد في البلاد بين حزب العدالة والتنمية من جهة والتيارين العلماني والقومي اللذين يتسمان بالتشدد من جهة أخرى. أما عودة رئيس الوزراء الأسبق والزعيم السابق لحزب لوطن الأم للبرلمان بعد فوزه مستقلا فلا تعكس أكثر من حالة فردية. وفي كل الأحوال يصعب عودة أحزاب يمين الوسط لمواقف مؤثرة في الحياة السياسية التركية على الأقل في المستقبل القريب.
خامسا: تراجع شعبية حزب السعادة ممثل التيار الإسلامي المحافظ في هذه الانتخابات يثبت فشل هذا التيار في إقناع الشعب التركي بمبادئ وأفكار تبدو غير مقبولة في المجتمع التركي مثل الفكرة القومية الإسلامية والأمم المتحدة الإسلامية وحلف الناتو الإسلامي. ويكفي أن الحزب لم يحصل سوى على 2.34% من أصوات الناخبين رغم الهجوم الحاد الذي شنه قادته على حزب العدالة واتهامه ببيع البلاد لأوروبا والولايات المتحدة والتبعية لإسرائيل.
سادسا: أن حزب العدالة والتنمية ذاته قد أظهر تغيرا في هذه الانتخابات بضخ دماء جديدة، حيث قام بتغيير ما يقرب من نصف نوابه في البرلمان، ورشح وجوها معروفة بتاريخها العلماني لتأكيد أنه حزب الجميع. وهذا يعكس ذكاءً سياسياً وثقةً في دور الحزب حيث كانت هوية الحزب تسبق شخصية المرشح، الأمر الذي لم ينطبق على الأحزاب الأخرى.
سابعا: أثبت حزب الشباب ذا الميول القومية أنه أكثر الأحزاب شخصنة في تركيا، فقد صعد في انتخابات عام 2002 على كتف زعيمه الملياردير "جيم أوزان" الذي كان وقتها يمتلك إمبراطورية إعلامية تشمل قنوات تليفزيونية وصحفا وإذاعات، وحصل الحزب وقتها على
ما يقرب من 7.5% من أصوات الناخبين رغم أنه لم يكن قد مضى على تأسيسه سوى شهور، فاقت شعبيته ما حققته أحزاب عريقة مثل اليسار الديمقراطي والوطن الأم، وكانت شخصية أوزان ووسائله الإعلامية وأمواله وراء هذه النتيجة المفاجئة، لكن أوزان الذي وصف في مرحلة ما بعد انتخابات 2002 بأنه أخطر شخص على أردوغان سياسيا تعرض لحملة تصفية طالت شركاته ومؤسساته وإمبراطوريته الإعلامية، بسبب ممارسات فساد ومخالفات نسبت له، في حين أنه ادعى أنه جرى استهدافه لأسباب سياسية، وكان هذا هو تفسير تراجع نسبة حزبه في الانتخابات الأخيرة إلى حوالي 3% فقط من أصوات الناخبين.
ثامنا: أظهرت هذه الانتخابات أن وسائل الإعلام الجماهيرية ليس بإمكانها تغيير توجهات ومزاج الجماهير، فقد انحاز أغلب هذه الوسائل للمعارضة العلمانية والجيش في معاركه مع حزب العدالة والتنمية، لكن الحزب حقق مزيدا من الشعبية، مما يثبت مقولة أن اللعب بالصورة قد يهزمه ثبات الأصل والجوهر، كما أن الاتصال المباشر وجها لوجه أكثر تأثيرا من وسائل الاتصال الجماهيري، حيث اعتمد حزب العدالة على اللقاءات والتجمعات الجماهيرية وزيارة الناخبين في منازلهم.
تاسعا: رغم أن الجيش يتمتع بشعبية كبيرة بين مؤسسات الدولة ويحتل المرتبة الأولي، إلا أن هذه الشعبية لم تمنع المعجبين به من التصويت لحزب العدالة والتنمية رغم الصراع الأيديولوجي بينهما ودخولهما في مواجهات مباشرة، وهذا يعكس نضج الناخب التركي الذي يميز بين تقدير الجيش الوطني للبلاد والتعبير عن موقفه السياسي والأيديولوجي حتى لو كان مخالفا للجيش.(12/360)
عاشرا: أثرت استطلاعات الرأي على نسبة لا بأس بها من الناخبين المترددين تزيد على 4% حيث يعتقد أنهم صوتوا لحزب العدالة والتنمية حسب المراقبين. وهنا لابد من الإشارة إلى اهتمام الحزب بالاستطلاعات وإجراء العديد منها سرا وعلنا لمعرفة موقعه من الناخبين حتى قبل بدء الحملة الانتخابية.
يبقى أن التفويض الشعبي الذي حصل عليه حزب العدالة والتنمية سيجعله أكثر قوة في معاركه المقبلة، ولكن احتشاد المهزومين ضده ليس مستبعدا، فالأمر يعتمد على أرضية الملعب واللعبة وقوة كل طرف في المنازلة المقبلة!!
كاتب متخصص في الشأن التركي.
============(12/361)
(12/362)
تجربة العلمانية والإسلام في تركيا تحت المجهر
نبيل شبيب
Image
هل تمثل تركيا نموذجا للعلاقة بين الإسلام والعلمانية؟
النموذج التركي نموذج قائم بذاته، يتردّد ذكره في نطاق الدعوة إلى العلمانية في البلدان الإسلامية الأخرى، وحديثا في نطاق التنويه بصورة "الحزب الإسلامي" الممكن قبوله في ظل مرجعية علمانية، مثلما أصبح يتردّد ذكره أيضا، في كثير من الكتابات الإسلامية، بصدد دعوات إلى التعامل مع واقع البلدان الإسلامية على غرار ما صنع "حزب العدالة والتنمية".
ومع أنّ لكل بلد ظروفا ومعطيات وشروطا ذاتية تختلف عنها في بلد آخر، يبقى أنّ القواسم المشتركة قائمة بوفرة بين تركيا والعدد الأكبر من البلدان الإسلامية، فيمكن اعتبار "التجربة التركية" أو "النموذج التركي" من منظور علماني أو منظور إسلامي، مصدرا لاستخلاص كثير من النتائج الصالحة، ليس للتقليد المحض فهو مستحيل، إنّما لتحديد معالم كبرى لأرضية الأسس والقواعد السارية المفعول في تلك البلدان أيضا، بغض النظر عن اختلاف الأشكال التطبيقية لتطوّر الأوضاع وفق خصوصيات كل بلد على حدة.
تجربة أجيال ثلاثة
إنّ التجربة التركية للعلاقة بين الإسلام والعلمانية تجربة غنية، حافلة بمختلف العناصر المتعلّقة بالجوانب العقدية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وشاملة للأوضاع الداخلية والعلاقات الخارجية، وذلك على امتداد ما يناهز ثلاثة أجيال متعاقبة، من جيل النقلة التاريخية الكبرى ما بين بقايا الدولة العثمانية تحت سيطرة حزب الاتحاد والترقي إلى دولة مصطفى كمال عقب الحرب العالمية الأولى، إلى جيل ترسيخ العلمانية على كلّ صعيد تحت سيطرة القوات العسكرية والأحزاب العلمانية اليمينية واليسارية حتى آخر انقلاب عسكري قبيل نهاية الحرب الباردة، ثم إلى جيل الصحوة الإسلامية التركية وتحوّلها إلى تيار سياسي لم يعد يمكن تصوّر الخارطة السياسية التركية ممكنا دون وجوده في الصدارة.
واختزال تجربة ثلاثة أجيال في مقالة أمر مستحيل، وليس مطلوبا من الأصل، إلاّ أنّ تحديد المعالم الكبرى المستخلصة من هذه التجربة ممكن وضروري، ولا ينبغي إغفاله في حقبة انتقالية حافلة بالأحداث الكبرى على امتداد المنطقة الإسلامية، مع بروز محورين فيها، أحدهما مستقبل العلاقة بين الإسلاميين وسواهم داخل الحدود، وثانيهما مستقبل العلاقة بين دول المنطقة ودول العالم الأخرى خارج الحدود. ومن هذه المعالم الكبرى دون تفصيل:
1- لا يمكن لأيّ نظام علماني في أي بلد إسلامي أن يصنع أكثر ممّا صنعه النظام العلماني في تركيا، لترسيخ دعائم العلمانية على كلّ صعيد، بدءا ببتر الجذور الثقافية التاريخية عبر تغيير حروف الكتابة مرورًا بتحريم ألبسة شعبية تقليدية (كالطربوش) ومحاربة اللباس الإسلامي (كالحجاب)، وانتهاء بعملية تغريب قيمية وثقافية واجتماعية وسياسية وعسكرية، مع محاولة قسرية لم تنقطع لتثبيت "النسب الغربي الأوروبي" بديلا عن النسب الإسلامي. برغم ذلك كلّه لا يزال السؤال المطروح من المنظور العلماني بعد ثلاثة أجيال: ما السبيل إلى تثبيت العلمانية في تركيا والحيلولة دون استرجاع هويتها الإسلامية، ليس على مستوى الحكم والأحزاب، وإنّما على المستوى الشعبي بعد أن أصبحت الانتخابات من وسائل التعبير عن توجّهات الغالبية الشعبية على هذا الصعيد. والسؤال المترتب تلقائيا على ذلك: ما الذي يمكن صنعه في أي بلد إسلامي آخر ولم يصنع في تركيا على طريق فرض العلمانية؟..
2- استغرقت النقلة من حكم عسكري مباشر يفرض العلمانية إلى حكم "ديمقراطي" يفسح المجال أمام التعددية الحزبية شرطَ التزامها بالمرجعية العلمانية جيلا كاملا، ثم كان على القوات العسكرية التي تحوّلت إلى "حارس للعلمانية التركية" أن تقوم بثلاثة انقلابات عسكرية على الديمقراطية، لتحمي العلمانية من أحزابها وممّا تغلغل فيها من فساد مكشوف، أو أوصلت إليه من إخفاق سياسي واقتصادي، أو للحيلولة دون عودة ظهور التيار الإسلامي سياسيا وإن بقي الالتزام بالمرجعية العلمانية مفروضًا عليه. ولم يعد منطقيا بعد هذه التجربة الطويلة لتسلّح العلمانية عسكريًّا، أن يُطرح السؤال عن حقيقة تعبير التوجّه العلماني عن الإرادة الشعبية وفق معايير الديمقراطية. وهذا ما يستتبع سؤالا آخر: متى يتحقق الرجوع إلى الإرادة الشعبية في اختيار المرجعية في الحياة والحكم، وليس في اختيار الأحزاب والسلطة وهياكل الحكم فحسب؟..(12/363)
3- خلال الجيل الثالث من التجربة التركية، التي يرمز إليها اسم أربكان ثم اسم أردوغان، لم تدع الدولة التركية تحت السيطرة العلمانية العسكرية سبيلا من السبل إلا وسلكته للحيلولة دون أن يصعد التوجّه الإسلامي عبر صناديق الانتخاب -مع الالتزام المفروض بالمرجعية العلمانية- إلى سدّة الغالبية، وشملت تلك السبل، الحظر، والاعتقال، والأحكام القضائية الجائرة، والحرمان من ممارسة العمل السياسي، والضغوط لإسقاط الحكومة، والضغوط على بقايا الأحزاب العلمانية الخالصة لتتوحّد في جبهة واحدة، ثمّ بعد ذلك كلّه تجد العلمانية التركية نفسها في انتخابات 2007م أمام السؤال: هل سينفرد حزب العدالة والتنمية بالسلطة مجدّدا أم سيضطر إلى تشكيل ائتلاف حكومي؟.. والسؤال بحدّ ذاته عنوان معبّر عن مدى ما يعنيه إخفاق تلك الوسائل، وإخفاقها في تركيا يوجب السؤال عن المنطق الكامن في محاولات قسرية مشابهة لا تنقطع لاستخدامها في العديد من البلدان الإسلامية الأخرى!..
4- إلى جانب تلك المعالم الكبرى لخطّ المسيرة التاريخية للمعركة التي فرضت فرضا على ثلاثة أجيال من حياة الشعب التركي ما بين العلمانية والإسلام، يوجد ما لا يحصى من المعالم الأخرى البالغة الأهمية أيضا في استكمال معالم الصورة، ولا يتسع المجال للتفصيل فيها، فالإخفاق على هذه الجبهة لم يكن اعتباطيا، والنجاح على تلك لم يكن اعتباطيا أيضا. إنّ كافّة ما شهدته تركيا من صيغ للحكم العلماني أخفق في تحقيق الأهداف الأساسية المعتمدة لتحديد معايير نجاح الحكم في أي دولة، على الأصعدة الاقتصادية والمالية وعلى طريق النهضة التقنية والصناعية، إضافة إلى تثبيت مكانة دولية لا تقتصر على "أداء دور إقليمي" يفرضه الانتماء إلى حلف شمال الأطلسي، أو المضيّ لمدة أربعة عقود متوالية في قرع أبواب الاتحاد الأوروبي دون جدوى.
وبالمقابل، وبشهادة الأرقام الثابتة في المصادر الغربية والمرئية في واقع تركيا، لم تعرف البلاد سياسات حكومية ناجحة للتخلّص من النسب الأسطورية للتضخم والديون الخارجية، وفي ضمان استقرار الأسواق المالية والاستثمارية، وفي تطوير الأوضاع الاقتصادية اعتمادا على الطاقات الذاتية، وفي مكافحة الفساد، سوى في فترتين، أولاهما أشبه بالمعجزة الاقتصادية، إذ لم تستغرق سوى عام واحد عندما كان نجم الدين أربكان رئيسا للوزراء، والثانية في عهد حكومة أردوغان وانفراد حزب العدالة والتنمية في تشكيلها.
تجربة تاريخية معاصرة
إن التجربة التركية كافية، أو ينبغي أن تكون كافية، لمختلف البلدان الإسلامية الأخرى، لاستخلاص العبرة التاريخية المعاصرة، والوصول إلى نتائج تفرض نفسها على أرض الواقع، وتستدعي أن تتحوّل إلى معايير لمصداقية أي دعوة تصدر عن التيارات والأحزاب، أو عن مختلف القوى الموجودة في السلطة وخارجها، إلى إقامة أوضاع مستقرّة على دعائم التعبير عن الإرادة الشعبية وسلوك طريق النهضة في مختلف الميادين. وهنا لا نتحدّث عن دروس من التاريخ القديم -ولا يستهان بأهميتها- ولا عن تصوّرات يسهل وصمها بالأوهام، وإن كانت منطقية في منطلقاتها ونتائجها، بل نتحدّث عن تجربة تاريخية معاصرة، تلقي دروسًا يعتبر الإغفال عنها ضربا من ضروب المكابرة، وفي مقدّمتها:
1- إن الانتماء الحضاري لا يمكن أن يصنع صنعًا، بل هو حصيلة التطوّرات التاريخية المديدة، وبه يرتبط الاستقرار الحقيقي في أي بلد من البلدان، وهو أيضا شرط استقرار العلاقات مع بلدان أخرى ذات انتماء حضاري مماثل أو مغاير. ومع رفض الانغلاق الحضاري ابتداء، يبقى من الضروري التأكيد أنّ الانفتاح المطلوب لا يتحقق بطريق الذوبان في الآخر حضاريًّا، بل في سلامة التعامل معه.
2- إنّ الفصل بين دور القوّات العسكرية في أي بلد، وبين ممارسة السلطة فيه، عنصر لا غنى عنه لأي حكم قويم، وإنّ كلّ تدخّل تفرضه القوّة العسكرية، أو شبه العسكرية، ويفرضه حزب من الأحزاب، أيا كان اتجاهه، لتحديد طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لا يفضي إلى استبداد مرفوض فحسب، بل يفضي أيضا إلى عرقلة طريق النهوض في مختلف الميادين.
3- لا جدوى من استمرار التمسّك بأسلوب الوصاية على الإرادة الشعبية تحت عناوين صراعات حزبية وسياسية واتهامات وافتراءات، ومع رفع شعارات مستهلكة قديمة من قبيل "لا حرية لأعداء الشعب" أو مبتكرة حديثة من قبيل "علمنة الإسلاميين"، ولا بدّ من التخلّي عن ذلك لصالح أرضية مشتركة تنطلق من تثبيت المصلحة العليا هدفًا، وتحكيم الإرادة الشعبية وسيلة، لعمل مشترك، وبناء مستقبلي مستقر.
4- إنّ الاحتكام إلى الإرادة الشعبية ليس شعارًا للمزايدات، بل مبدأ أساسي تنبثق عنه قواعد ما يسمّى "اللعبة السياسية"، ولا يمكن أن يستقرّ دون أن يشمل تطبيقه والالتزام بما ينبثق عن سريان مفعول قواعده، تثبيتَ المرجعية التي تختارها الغالبية وفق الاحتكام إلى الإرادة الشعبية لتوجيه الحياة والحكم.(12/364)
إنّ المعركة بين العلمانية والإسلام معركة تاريخية على امتداد القرن الميلادي العشرين، وقد بدأت في تركيا قبل إسقاط آخر أشكال الخلافة الإسلامية، وما تزال مستمرة، وربما شهدت تركيا قبل سواها نهايتها، ولا يوجد ما يستدعي من أي بلد آخر أن ينتظر استمرار المعركة لأجيال ثلاثة أو أكثر، قبل حسمها، وهذا في مقدّمة ما تستدعيه الاستفادة من التجربة التركية النموذجية.
كاتب ومحلل سياسي سوري مقيم في ألمانيا.
=============(12/365)
(12/366)
لماذا تبني أمريكا "شبكات مسلمة معتدلة" علمانية؟
محمد جمال عرفة
Image
غلاف تقرير بناء شبكات مسلمة معتدلة
انقلاب.. هي الكلمة الصحيحة التي يمكن أن نصف بها الموقف الأمريكي - حسبما قدمته مؤسسة "راند" r AND البحثية التابعة للقوات الجوية الأمريكية في تقريرها الأخير "بناء شبكات مسلمة معتدلة" Building Mode r ate Muslim Netwo r ks- بشأن التعامل مع "المسلمين"، وليس "الإسلاميين" فقط مستقبلاً!.
فالتقرير الذي أصدرته هذه المؤسسة البحثية التي تدعمها المؤسسة العسكرية الأمريكية -التي تبلغ ميزانيتها السنوية قرابة 150 مليون دولار- والذي يقع في 217 صفحة لا تنبع خطورته من جراءته في طرح أفكار جديدة للتعامل مع "المسلمين" وتغيير معتقداتهم وثقافتهم من الداخل فقط تحت دعاوى "الاعتدال" بالمفهوم الأمريكي، وإنما يطرح الخبرات السابقة في التعامل مع الشيوعية للاستفادة منها في محاربة الإسلام والمسلمين وإنشاء مسلمين معتدلين!.
بل إن التقرير يحدد بدقة مدهشة صفات هؤلاء "المعتدلين" المطلوب التعاون معهم -بالمواصفات الأمريكية- بأنهم هؤلاء الليبراليين والعلمانيين الموالين للغرب والذين لا يؤمنون بالشريعة الإسلامية ويطرح مقياسًا أمريكيًّا من عشرة نقاط ليحدد بمقتضاه كل شخص هل هو "معتدل" أم لا، ليطرح في النهاية -على الإدارة الأمريكية- خططًا لبناء هذه "الشبكات المعتدلة" التي تؤمن بالإسلام "التقليدي" أو "الصوفي" الذي لا يضر مصالح أمريكا، خصوصًا في أطراف العالم الإسلامي (آسيا وأوروبا).
أما "الانقلاب" المقصود في بداية هذا المقال فيقصد به أن تقارير "راند" ومؤسسات بحثية أمريكية أخرى عديدة ظلت تتحدث عن مساندة إسلاميين معتدلين في مواجهة المتطرفين، ولكن في تقرير 2007 الأخير تم وضع كل "المسلمين" في سلة واحدة.
إعادة ضبط الإسلام!
الأكثر خطورة في تقرير مؤسسة "راند" الأخير -الذي غالبًا ما تظهر آثار تقاريرها في السياسية الأمريكية مثل "إشعال الصراع بين السنة والشيعة" و"العداء للسعودية" ويتحدث باسم "أمريكا"- أنه يدعو لما يسميه "ضبط الإسلام" نفسه - وليس "الإسلاميين" ليكون متمشيًا مع "الواقع المعاصر". ويدعو للدخول في بنيته التحتية بهدف تكرار ما فعله الغرب مع التجربة الشيوعية، وبالتالي لم يَعُد يتحدث عن ضبط "الإسلاميين" أو التفريق بين مسلم معتدل ومسلم راديكالي، ولكن وضعهم في سلة واحدة!.
فتقارير "راند" الأخيرة -تقرير 2004- كانت تشجيع إدارة بوش على محاربة "الإسلاميين المتطرفين" عبر: خدمات علمانية (بديلة)، ويدعون لـ"الإسلام المدني"، بمعنى دعم جماعات المجتمع المسلم المدني التي تدافع عن "الاعتدال والحداثة"، وقطع الموارد عن المتطرفين، بمعنى التدخل في عمليتي التمويل وشبكة التمويل، بل وتربية كوادر مسلمة عسكرية علمانية في أمريكا تتفق مصالحها مع مصالح أمريكا للاستعانة بها في أوقات الحاجة.
ولكن في التقرير الحالي "بناء شبكات مسلمة معتدلة"، يبدو أن الهدف يتعلق بتغيير الإسلام نفسه والمسلمين ككل بعدما ظهر لهم في التجارب السابقة أنه لا فارق بين "معتدل" و"متطرف" وأن الجميع يؤمن بجدوى الشريعة في حياة المسلم، والأمر يتطلب "اللعب في الفكر والمعتقد ذاتهما".
من هو "المعتدل".. أمريكيًّا؟
من يقرأ التقرير سوف يلحظ بوضوح أنه يخلط بشكل مستمر وشبه متعمد ما بين "الإسلاميين" و"الراديكاليين" و"المتطرفين"، ولكنه يطالب بدعم أو خلق تيار "اعتدال" ليبرالي مسلم جديد أو Mode r ate and libe r al Muslims، ويضع تعريفات محددة لهذا "الاعتدال الأمريكي"، بل وشروط معينة من تنطبق عليه فهو "معتدل" - وفقًا للمفهوم الأمريكي للاعتدال، ومن لا تنطبق عليه فهو متطرف.
ووفقًا لما يذكره التقرير، فالتيار (الإسلامي) المعتدل المقصود هو ذلك التيار الذي:
1- يرى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.
2- يؤمن بحرية المرأة في اختيار "الرفيق"، وليس الزوج.
3- يؤمن بحق الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا في الدول ذات الغالبية المسلمة.
4- يدعم التيارات الليبرالية.
5- يؤمن بتيارين دينيين إسلاميين فقط هما: "التيار الديني التقليدي" أي تيار رجل الشارع الذي يصلي بصورة عادية وليست له اهتمامات أخرى، و"التيار الديني الصوفي" -يصفونه بأنه التيار الذي يقبل الصلاة في القبور (!)- وبشرط أن يعارض كل منها ما يطرحه "التيار الوهابي".
ويلاحظ هنا أن التقرير يستشهد بمقولة لدينس روس المبعوث الأمريكي السابق للشرق الأوسط يتحدث فيها عن ضرورة إنشاء ما يسميه (سيكولار - secula r - دعوة) أو (دعوة علمانية)! ، والمقصود هنا هو إنشاء مؤسسات علمانية تقدم نفس الخدمات التطوعية التي تقدمها المنظمات الإسلامية، سواء كانت قوافل طبية أو كفالة يتيم أو دعم أسري وغيرها.
أما الطريف هنا فهو أن الدراسة تضع 11 سؤالاً لمعرفة ما هو تعريف (المعتدل) -من وجهة النظر الأمريكية- وتكون بمثابة اختبار يعطي للشخص المعرفة إذا كان معتدلاً أم لا؟. وهذه المعايير هي:
1- أن الديمقراطية هي المضمون الغربي للديمقراطية.
2- أنها تعني معارضة "مبادئ دولة إسلامية".(12/367)
3- أن الخط الفاصل بين المسلم المعتدل والمسلم المتطرف هو تطبيق الشريعة.
4- أن المعتدل هو من يفسر واقع المرأة على أنه الواقع المعاصر، وليس ما كان عليه وضعها في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم .
5- هل تدعم وتوافق على العنف؟ وهل دعمته في حياتك من قبل أو وافقت عليه؟.
6- هل توافق على الديمقراطية بمعناها الواسع.. أي حقوق الإنسان الغربية (بما فيها الشذوذ وغيره)؟.
7- هل لديك أي استثناءات على هذه الديمقراطية (مثل حرية الفرد في تغيير دينه)؟
8- هل تؤمن بحق الإنسان في تغيير دينه؟.
9- هل تعتقد أن الدولة يجب أن تطبق الجانب الجنائي من الشريعة؟ وهل توافق على تطبيق الشريعة في جانبها المدني فقط (الأخلاق وغيره)؟، هل توافق على أن الشريعة يمكن أن تقبل تحت غطاء علماني (أي القبول بتشريعات أخرى من غير الشريعة)؟.
10- هل تعتقد أنه يمكن للأقليات أن تتولى المناصب العليا؟ وهل يمكن لغير المسلم أن يبني بحرية معابده في الدول الإسلامية؟.
وبحسب الإجابة على هذه الأسئلة سوف يتم تصنيفه هل هو معتدل (أمريكيًّا) أم متطرف؟!
ويذكر التقرير ثلاثة أنواع ممن يسميهم (المعتدلين) في العالم الإسلامي، وهم:
(أولاً): العلماني الليبرالي الذي لا يؤمن بدور للدين.
(ثانيًا): "أعداء المشايخ".. ويقصد بهم هنا من يسميهم التقرير "الأتاتوركيين" -أنصار العلمانية التركية- وبعض "التونسيين".
(ثالثًا): الإسلاميون الذين لا يرون مشكلة في تعارض الديمقراطية الغربية مع الإسلام.
ثم يقول بوضوح إن التيار المعتدل هم من: يزورون الأضرحة، والمتصوفون ومن لا يجتهدون.
الأطراف.. بدل المركز العربي للإسلام
وينفق التقرير جزءًا كبيرًا منه (فصلان من عشرة فصول) في التركيز على ضرورة أن يتم التركيز على "أطراف" العالم الإسلامي وتجاهل "المركز" -يقصد به المنطقة العربية- بغرض دعم ما يسمونه "الاعتدال في أطراف العالم الإسلامي" خصوصًا في آسيا وأوروبا وغيرها. أما الهدف فهو أن تخرج الأفكار الإسلامية المؤثرة على مجمل العالم الإسلامي من هذه الأطراف وليس من المركز (العربي) الذي أصبح ينتشر فيه "التطرف"، وبحيث تصبح هذه الأطراف هي المصدرة للفكر الإسلامي المعتدل الجديد، ولا تخرج الأفكار من المركز!.
بل إن التقرير يطرح هنا طريقة غريبة في الحوار مع المسلمين بهدف تغييرهم تتلخص في: تغيير من نحاوره، وتحجيمه عن القيام بأعماله، أو "انتظار الفرصة المناسبة" بدون أن يحدد ما يعني بالفرصة المناسبة.
وهنا يركز في فصليه السادس والسابع على تجربة الأطراف في آسيا وأوروبا على التوالي، ويطرح أسماء مؤسسات وأشخاص في آسيا وأوروبا "ينبغي" العمل معها ودعمها بالمال، ويضرب أمثلة بتجارب مشوّهة تشوِّه دور الإسلام بالفعل مطلوب التعاون معها ودعمها، مثل دعم موقع سعودي يرى مثلاً أن الأحاديث حول شهادة (ألا إله إلا الله.. وأن محمدًا رسول الله) ليست ثابتة!.
احذروا دور المسجد
والغريب أن التقرير يركز في فصله الأول (المقدمة) على ما يعتبره "خطورة دور المسجد" -ضمن هجومه على التيار الإسلامي- باعتبار أنه (المسجد) الساحة الوحيدة للمعارضة على أسس الشريعة؛ ولذلك يدعو لدعم "الدعاة الذين يعملون من خارج المسجد"(!)، ولا ينسى أن يحذر من سطوة المال -يقصد به المال السعودي الوهابي- الذي يدعم تنظيم التيار الإسلامي، مؤكدًا أنه لا بد من تقليل تقدم هذا التيار الديني لصالح التيار العلماني التقليدي الديني (وفق المفهوم الأمريكي للاعتدال)، بغرض "تسوية الملعب" كي يتقدم "التيار التقليدي"!.
بعبارة أخرى يركز التقرير هنا على أن الطريق الصحيح لمحاربة المسلمين هو بناء أرضية من المسلمين أنفسهم من أعداء التيار الإسلامي، مثلما حدث في أوروبا الشرقية وروسيا حينما تم بناء منظمات معادية للشيوعية من أبناء الدول الشيوعية نفسها.
وربما لهذا أفرد التقرير فصله الثاني للتركيز على فكرة الحرب البادرة والاستفادة من الخبرة الأمريكية في ضرب التيار الشيوعي من الداخل في تقديم نموذج مشابه لصانع القرار الأمريكي كي يستفيد منها في المواجهة المشابهة مع التيار الإسلامي، وركّز هنا على جانبين: (الأول) خاص بخبرة الاستعانة بالطابور الخامس من المهاجرين البولنديين والشيوعيين للغرب ومعهم المفكرين الأمريكيين لتمهيد أرض المعركة ونشر القيم الغربية، و(الثاني) خاص بالجانب الإعلامي مثل تجربة (راديو ليبرتي) الموجه لروسيا، فضلاً عن إنشاء قسم خاص في المخابرات الأمريكية دوره هو التغيير الفكري لمواقف وآراء طلاب ومفكري الدول الشيوعية وتقديم العالم لهم من وجهة نظر غربية محببة. بل يطرح التقرير هنا أفكارًا بشأن كيفية استخدام الدين ضد الشيوعية، كنوع من الإسقاط لبيان أنه يمكن -العكس- باستخدام العلمانية ضد الدين في الدول الإسلامية!.(12/368)
ومع أن الفصل الثالث من دراسة (راند) يركز على بحث أوجه التشابه أو الخلاف بين أسلحة الحرب البادرة في هدم الشيوعية، وأسلحة الحرب الحالية ضد الفكر الإسلامي، ويؤكد أن هناك أوجه تشابه أبرزها أن الصراع مع الشيوعية كان فكريًّا مثلما هو الحال مع العالم الإسلامي، فهو يعترف بأن عقبات هذه السياسة أعمق مع المسلمين.
ويذكر من أوجه الخلاف -عما حدث في الحرب البادرة- بأن أهداف الشيوعية كانت واضحة للغرب وكان من السهل محاربتها، بعكس أهداف التيار الإسلامي غير الواضحة للغرب، كما أن الشيوعية كانت هناك آليات للتفاوض معها (عبر أجهزة الأمم المتحدة وغيرها)، بعكس التيار الإسلامي غير المحدد في كتلة واحدة محددة كالشيوعية، أما الأهم فهو المخاوف -كما يعترف التقرير- من أن ينظر لمحاولات "تحرير" العالم الاسلامي أو اعتداله على الطريقة الغربية على أنه غزو واحتلال فكري، فضلاً عن صعوبة ضرب وتحجيم الدول التي تقف خلف الفكر الوهابي (السعودية)؛ لأنها في نفس الوقت دول ترتبط أمريكا بمصالح معها (البترول - مناطق النفوذ).
مرحبًا بالدول المتسلطة لا للديمقراطية
وربما لهذا يقول التقرير صراحة إن هناك مشكلة أمريكية في الضغط على حكومات وأنظمة الدول العربية والإسلامية المتسلطة للحصول على الديمقراطية، ما يعني ضمنًا التوقف عن دعم برامج الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي والتوقف عن الضغط للمجيء بالديمقراطية.
ويقول -في مقدمة الفصل الخامس- إن أمريكا دعمت في أوقات سابقة ما اعتبرته قوى معتدلة إسلامية في الأردن والمغرب (حزب العدالة والتنمية) و"فوجئنا أننا أخطأنا وأننا دعمنا غير المعتدلين"!، كما لا ينسى أن يشير لمشكلة في التأثير -بالمعونة الأمريكية- على التيار الإسلامي في دول غنية مثل دول الخليج (مثلما يحدث في دول فقيرة)، ومن ثَم صعوبة ضرب التيار الإسلامي الحقيقي في هذه الدول الإسلامية الغنية.
والملفت هنا أن التقرير يسرد قائمة بمن يعتبرهم من المعتدلين في العديد من الدول العربية ودول الخليج، ما يعني حرقهم أو ربما قطع خط الرجعة عليهم للعودة عن العمالة لأمريكا، ويطرح أفكارًا لمواجهة اتهام أنصاره بالعمالة، ويؤكد أهمية برامج التلفزيون التي تركز على فكرة (التعايش) مع الغرب.
الدراسة أو التقرير خطيرة كما هو واضح ومليئة بالأفكار السامة التي تركز على ما يسمونه "علمنة الإسلام"، ومناصرة العلمانيين ودعمهم في المرحلة المقبلة، ويصعب جمع ما فيها في تقرير واحد، ولكن الأمر المؤكد أن الدراسة تركز -كما يقول مؤلفها الرئيسي في حوار صحفي- على أن "الهدف ليس طرح الصراع بين العالم الإسلامي والغرب، وإنما بين العالم الإسلامي بعضه بعضًا"... أي ضرب الإسلام والمسلمين من الداخل على غرار تجربة ضرب الشيوعية.
المحلل السياسي بشبكة إسلام أون لاين.نت
============(12/369)
(12/370)
خيار أمريكا الانتخابي.. "خلطة" شيعية- علمانية
محمد جمال عرفة **
…
28/01/2005
إياد علاوي
لأنه بات في حكم المقرر أن يسيطر شيعة العراق على برلمان وحكومة العراق المقبلة، بعدما قرر الطرف الثاني القوي (السنة) عدم المشاركة فيها، ويتجه الطرف الثالث (الأكراد) للتركيز على مناطقهم الشمالية بشكل متزايد، فمن الطبيعي أن يثور السؤال: من سيحكم العراق مستقبلا من بين هؤلاء الشيعة، خاصة أن كل فريق من الأجنحة الكبيرة له قائمة مستقلة في الانتخابات؟.
هل هم العلمانيون من جماعة إياد علاوي وأنصاره الذين شكلوا قائمة موحدة تضم 6 أحزاب علمانية بالكامل، وقامت على أكتافهم حكومة الاحتلال المؤقتة، والمنتظر منهم دورا أكبر في ترسيخ تعاون إستراتيجي بين بغداد وواشنطن، أم الحوزة العلمية وجماعة السيستاني وحزب الدعوة الذين تقدموا بقائمة موحدة كبيرة غالبيتها من الأحزاب الدينية ليضمنوا السيطرة على برلمان وحكومة العراق؟ وكيف سيتعامل الاحتلال مع كلا الاحتمالين؟ ثم أين دور بقية الشيعة من الوطنيين المعارضين للاحتلال والمتحالفين مع السنة وباقي ألوان الطيف العراقي المطالبين برحيل المحتل؟.
لا شك أن قيادة الاحتلال تواجه -بالإضافة لمأزق رفض السنة المشاركة، وما قد يترتب على هذا من عدم شرعية الانتخابات- مأزقا آخر في التعامل مع الشيعة كمجموعات منفصلة ومتناقضة الأهداف، سيترتب عليه تحديد علاقتها بالعراق مستقبلا ؛ فهي تفضل البديل العلماني الشيعي وتضع الخطط للتمكين له في الحكم، ولكنها بالمقابل تخشي أن تُغضب تيار المراجع الدينية وعلى رأسها جماعة السيستاني؛ كي لا يتجه هذا التيار بدوره نحو المقاومة ليتكامل مع المقاومة السنية ويحيل حياة الاحتلال إلي جحيم.
فالاحتلال يدرك أن هذا التيار الديني الذي تمثله المراجع والحوزات العلمية يسعى لنوع من المهادنة مع الاحتلال بهدف تمرير الانتخابات والفوز بها وتشكيل كيان شيعي في نهاية الأمر يكون امتدادا لإيران، وليس بالضرورة تابعا لها بالنظر إلى للتضارب والتنافس في شئون المرجعيات الدينية بين طهران وبغداد.
ويدرك أيضا أن قسما كبيرا من الشيعة يمثل الأغلبية الصامتة يعادي الاحتلال، ولعب بالفعل دورا في ترتيب عمليات سرية ضده في جنوب العراق، وربما لم يظهر منه على السطح سوى جماعة مقتدى الصدر التي اصطدمت بالاحتلال عدة مرات، وأن هذه المجموعات والمراجع الدينية ربما تعطي أنصارها الإذن العام بالصدام مع الاحتلال في حالة إذا استشعرت خطرا أو عدم تحقيق رغباتها في دولة دينية ذات أغلبية شيعية.
ولكن الاحتلال لن يتخلى بدوره عن أهدافه لإطفاء نيران هذه المخاوف من التيار الديني الشيعي، خصوصا أنها تتقاطع مع أهداف قسم من السنة العرب في قيام دولة إسلامية التوجه لا علمانية، فأهدافه تتلخص في تشكيل حكومة عراقية علمانية في نهاية الأمر من غالبية من الوجوه الشيعية ذرا للرماد في العيون، بحيث تكون عونا للاحتلال في المستقبل ومنفذا لمصالحه في المنطقة، وربما لهذا خرجت تقارير أمريكية مؤخرا تؤكد أن رئيس الوزراء العراقي المؤقت إياد علاوي سيفوز في الانتخابات وسيظل رئيسا للوزراء لفترة مقبلة حتى نهاية عام 2005، حيث ستجرى انتخابات حاسمة أخرى في العراق في نوفمبر 2005 بعد أن يتم انتخاب الجمعية الوطنية المؤقتة التي ستقر دستور البلاد.
وزاد من اعتقاد العراقيين بفوز علاوي المكالمة الهاتفية الأخيرة للرئيس الأمريكي بوش مع علاوي قبل أيام، والتي فسرها الكثير من المراقبين بأنها إشارة الدعم والطمأنة له، وقيام علاوي خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة بالتعرف على الأفكار الأمريكية بخصوص العراق الجديد عبر سلسلة لقاءات مع مسئولي الاستخبارات الأمريكية والدفاع ولجان الكونجرس الأمنية والإستراتيجية.
خطة علمانية بأيادٍ شيعية
في 23 أبريل الماضي، قالت صحيفة "واشنطن بوست": إن المسئولين الأمريكيين الذين خططوا لمستقبل العراق أساءوا تقدير القوة التنظيمية للأغلبية الشيعية وإنهم غير قادرين على منع ظهور حكومة أصولية مناهضة للأمريكيين في العراق، ونقلت الصحيفة عن مسئولين في إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش قولهم: إن تقارير المخابرات التي نوقشت في اجتماع عقده جنرالات أمريكيون تحول إلى محاضرة عن الشيعة العراقيين والإستراتيجية الأمريكية لاحتواء الأصولية الإسلامية في العراق، وإن الإدارة انشغلت بالتخطيط للإطاحة بصدام ولم تعط الاهتمام الكافي لديناميكيات الدين والسياسة في المنطقة.
وذكروا أيضا أن إدارة بوش استهانت بقوة الشيعة وهي تشعر الآن بقلق من إمكانية أن تقود تلك المشاعر والطموحات لتشكيل حكومة أصولية، خصوصا أنهم يسمعون بأذنهم هتافات الشيعة التي تقول: "كلا كلا أمريكا" و"كلا كلا إسرائيل" و"كلا كلا للجلبي" و"الموت لأمريكا الموت لإسرائيل" و"نعم نعم للمرجعية" و"نعم نعم للحوزة العلمية"...(12/371)
ويبدو أن الإدارة الأمريكية سرعت خطط البحث عن مخرج من هذا المأزق مع قادة الشيعة باعتماد خيار الاستمرار في تنفيذ الخطط العلمانية للعراق ولكن بأيدٍ شيعية.. بمعنى أن تفرز نتائج الانتخابات فوزا للقائمتين العلمانية (قائمة علاوي) والدينية (قائمة السيستاني)، ويتم استرضاء القائمة الدينية (التي تضم بينها بعض العلمانيين مثل أحمد الجلبي) بمناصب برلمانية، وتظل الحكومة التنفيذية بأيدي جماعة العلمانيين الشيعة من أنصار علاوي.
فواشنطن تدرك جيدا أهداف الحوزة العلمية، ورغم علمها بأن العراق لن يصبح نسخة من إيران بسبب الصراع بين الملالي على مكان المرجعية في قم الإيرانية أم النجف العراقية، فهي تتصرف بمنطق المتخوف من تحول العراق في نهاية الأمر على يد الحوزة والمراجع الدينية الشيعية إلى دولة أصولية شيعية.
وسبق لموقع "ستراتفور" الاستخباري الأمريكي أن حذر من أن الغالبية الشيعية في العراق "تستعد لكي تلعب دورا أكثر أهمية من ذي قبل في تشكيل العراق الجديد".
ووفقا لهذه المعطيات يبدو أن واشنطن تواجه مأزقا أكبر مع الشيعة، خصوصا في ظل التقارير التي تقول: إن الحوزة الدينية تحشد الشيعة للتصويت خصوصا في المحافظات الجنوبية، وربما تلجأ واشنطن إلى أصوات الناخبين العراقيين في الخارج (علمانيين) في الدول الأوربية والعراقيين الموجودين في أمريكا ودول أخرى لحسم الانتخابات، خاصة فيما لو رأت أن أنصارها وأعوانها في الداخل أخفقوا في كسب الأصوات الكافية، وسيساعدها على هذا حالة الغموض التي تسود مجمل العملية الانتخابية وتصاعد أعمال المقاومة.
من يفوز : العلمانيون أم السيستاني؟
ملصق للقائمة الشيعية التي باركها السيستاني تتصدر أحد مساجد بغداد
وفي ضوء هذه الحقائق يثور السؤال : من ترشحه المعطيات المتوفرة على الأرض للفوز في انتخابات يناير 2005 والسيطرة على الأوضاع بشكل أكبر ؟ العلمانيون الشيعة أم أنصار السيستاني والحوزة الدينية ؟، وحتى نجيب على السؤال لا بد من سرد الحقائق التالية :
1- أسلوب الانتخابات الغامض (دائرة واحدة) وصعوبة إجرائها في ربع مناطق العراق تقريبا، فضلا عن فرزها في المنطقة الخضراء التابعة للاحتلال بما قد يفتح الباب لاحتمالات التزوير، يصب في نهاية الأمر في خانة رغبات الاحتلال وإمكانية التلاعب في النتائج.
2- مهما اختلفت التنظيمات السياسية الشيعية : المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وحزب الدعوة، ومنظمة العمل الإسلامي، وجماعة العلماء المجاهدين، وحركة المجاهدين وغيرها، فإن المرجعية في النهاية تمثل السقف أو الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه، وهو ما يلقي عبئا ثقيلا على سلطة الاحتلال الأمريكية ويدفعها لعدم تجاوز هذه المرجعية.
3- على حين يتعجل علاوي والتيار العلماني الفوز ويضع الخطط لهذا، يتصرف السيستاني وتيار الحوزة الدينية بهدوء ودون تعجل، وكأنه يضمن الفوز، ولا ينسى وسط هذا لعبة الشد والجذب عبر التصريحات التي تناهض الاحتلال.
4- من الواضح -كما يقول د. عبد الله النفيسي في دراسة له عن شيعة العراق - أن لدى السيستاني "حسبة إستراتيجية" تؤجل الاصطدام بالأمريكان، ربما لأن "الأزمة الثورية" التي توفر أجواء أفضل للصدام -حسب التعبير الماركسي- لم تنضج بعد في العراق، لكن فور أن تنضج (في حالة إجهاض الاحتلال فوز القائمة الدينية في رأينا) سيحين موسم القطاف الشيعي في العراق، ووفقا لهذا الرأي فالصدام قادم قادم بين الشيعة والاحتلال.
5- الاحتلال بدوره لديه "حسبة إستراتيجية" في العراق بدأت منذ التخطيط للغزو، تقوم على السيطرة على منابع النفط، وخلق قواعد عسكرية في المنطقة تعوض قواعد أخرى في الخليج، وجعل العراق منطقة انطلاق لضرب دول أخرى مثل سوريا وإيران، ومع الأخذ في الاعتبار حدوث إخفاق في تطبيق بعض جوانب هذه الإستراتيجية بفعل المعطيات الجديدة التي ظهرت، وأبرزها المقاومة السنية الشرسة، والاصطدام بالطموحات الشيعية، فسيكون من الصعب التخلي عن أبرز الأهداف الإستراتيجية الأمريكية في العراق.
وبناء على هذا يمكن القول: إن الخيار المرجح من الطرفين : الاحتلال والحوزة الدينية سيكون "خيارا توافقيا" بهدف تلبية مصالح الطرفين والموازنة بينها:
- فالطرفان لهما أولا مصلحة في عدم الصدام في هذه المرحلة التي يتعاظم فيها دور الجماعات المسلحة السنية في العراق والذي خلق تقريبا نوعا من التوازن في العراق مع الميليشيات الشيعية القادمة من إيران.
- والطرفان يدركان ثانيا أن الصدام معناه عدم تحقيق مصالح الشيعة في الوصول للحكم بصورة تبدو ديمقراطية، وعدم تحقيق مصالح الاحتلال في التهدئة والاستقرار للانتقال لمراحل أعلى في تنفيذ الإستراتيجية الأمريكية في العراق والمنطقة.
- والطرفان يدركان ثالثا أن صراعهما في صالح دول الجوار السنية ما قد يعرقل أهداف الشيعة في قيام دولة شيعية، وأهداف المحتل الأمريكي في ترهيب هذه الدول وقمعها.(12/372)
- والطرفان يدركان أخيرا أن صراعهما يتعارض مع هدف كل منهما تجاه إيران، فشيعة العراق يستقوون بإيران رغم خلاف المرجعيات، وضعفهم ضعف لإيران، وأمريكا تخشى في حالة الدخول في صراع مع شيعة العراق أن يقوي هذا إيران الشيعية ويجهض خطط حصار إيران.
الصورة المتوقعة تبدو بالتالي واضحة وعمادها سيكون : سعي واشنطن لتنفيذ أهدافها تدريجيا في عراق علماني عبر أيادٍ شيعية، وسعي كلا الطرفين لتبريد صراعهما والوصول لحلول وسط؛ خشية أن يأتي صراعهما لصالح مارد المقاومة السنية القوي، أو يجر عليهما المشاكل مع دول الجوار السنية وإيران.
=============(12/373)
(12/374)
بروتوكولات حكماء العلمانية
د.محمد أحمد الخضراوي**
*العلمانية وسياسة المركز
*العلمانية والازدواجية
*الحجاب: الأنماط الاجتماعية
*العلمانية وحقوق الإنسان المتعالي
كانت ميزة خطاب "جاك شيراك" السلبي الذي ألقى خلاله القنبلة الأخيرة للعام 2003 في 17 ديسمبر على العرب والمهاجرين، أنه أسقط رهان الليبرالية المطروح كشعار علماني محايد، وصار يقتحم الحريات الخاصة، ويتعقب السلوكيات الفردية. ولم يكن لخطاب الرئيس الفرنسي مدلول حضاري، أو قيمة إنسانية يدافع عنها، إنه سياق تصنيفي موجه، يحرض على التمييز الاجتماعي، والتفريق العنصري بين أبناء المجموعة الوطنية الواحدة، أو بينها وبين المهاجرين اللائذين بها؛ احتماء بقوانينها، وفرارا من الضيق الاقتصادي، والتضييق السياسي الذي صار حتمية من حتميات وجود العالم الثالث.
لقد كشف شيراك آنذاك البعد الحقيقي للعلمانية، وفضح منهجها الإقصائي الذي يلغي وجود المعتقدات الدينية، فأوقف بذلك الضجيج السائد حول الفكر البدائلي الذي كانت تجسده الأحلام العلمانية في زمان سقوط الإيديولوجيات، وهي بهذا الشكل التوتاليتاري المذكور، فقد طوق العقل العربي داخل جغرافيا المصطلح بشكل شمولي، فقرأ فيزيولوجيا مفردة العلمانية (إذا ما كانت عينها مفتوحة أم مكسورة)، وبحث في إيتيمولوجيا العبارة (هل هي من العلم بالمعنى الموضوعي، أم أنها معتقد ينافس كل معتقد)، وفحص أيديولوجيا الدلالة (إذا كانت مواقفية ترتطم بالدين، أم أنها مشروع ليبرالي ينتظم كل دين)، وقد غاب عن هذه التحريات والتحقيقات النظرية الإشكال الحيوي الذي تثيره المسألة العلمانية في العالم العربي من حيث علاقتها الالتباسية بالحقوق الاجتماعية وبالمعتقدات وبالمؤسسات. إنها تبدو من الأنساق الكبرى التي لا تقف على أرضية حيادية، ومواقف موضوعية تبرئها من الانحياز والانزياح الأيديولوجي.
فالعلمانية المتفرعة عن الأيديولوجيات اليسارية المنقرضة تظل حليفة دائمة للأنظمة القائمة تدفعها إلى ذلك عقلية انتفاعية خالصة، من أجل هذا لا تجيب عن القضايا المستعصية في البلاد العربية، والاستفهامات الملحة التي تفجر نفسها لتكشف التناقض بين الشعار والأداء، والخطابات الديماغوجية: هل الحرية الدينية المباحة والمفروضة تتماثل مع الحرية السياسية المفترضة؟ أم أن الليبرالية السياسية تبقى من التابوهات والممنوعات الأبدية؟ وهل يكون البرنامج السياسي ممارسة ديمقراطية واقعية تظل محايدة بإزاء الاختبارات الوطنية، ولو ناهضت السياسات العلمانية القائمة؟ أم أن البرنامج العلماني مجرد خفير وحارس لنظام دوغمائي منقفل يتمنى المصادرة والهيمنة على الزمان والمكان والإنسان؟.
واللافت أن السيد شيراك افتقد منطقه منطقية هذا السؤال، فمنع الحجاب باعتباره رمزًا دون أن يعرج على الرموز الفلسفية (الإلحاد مثلا)، والرموز السياسية (النازية والصهيونية) التي تعربد في المعاهد والجامعات والنقابات والإعلام، في حين أن قوانين عام 1936؛ نظرًا إلى العنف الذي ساد المؤسسات التعليمية بين اليمين واليسار، منعت إبداء كل رمز سياسي.
إننا وإن كنا لا نعبأ بالعلمانية العربية؛ لكونها مجرد مجاز سياسي (علمانوية) يتناظر مع ديمقراطية الأنظمة العربية الحاكمة التي تستتر بشعارات الموضة الكونية (الديمقراطية وحقوق الإنسان) لتخفي العجز والفراغ والفوضى، فإننا من قبيل الانتماء والمعايشة الميدانية، نقدر العلمانية الفرنسية حق قدرها، وإن نحن ناقشناها بعقل نقدي، لا هجاء فيه، فمن أجل هذه الراهنية المشبوهة التي فرضها نظام العنف العالمي الجديد، وانتهت إلى تضارب في الأفكار والمقولات والسلوكيات.
العلمانية وسياسة المركز
يستحوذ الالتباس على القرار الفرنسي بمنع الحجاب من جهة الترابط العضوي القائم بين العلمانية والمركزية الغربية باعتبارها مملكة الاستعمار، وورشة لصناعة الانحراف الأيديولوجي، وبؤرة تاريخية للقطيعة مع الآخر الدوني؛ فالعقل الأوروبي الأنواري الحديث لم يتوقف منذ هيغل (المتوفى 1831) على التفخيم من شأن الحضارة الغربية، وإقصاء ما سواها.
ذلك أن الغرب وحده هو النموذج الوحيد للحضارة الكونية ابتداء من اليونان، ثم الرومان، وانتهاء بالثورة الفرنسية؛ فألمانيا الجرمانية.
غير أن هذا الوجه الحضاري الفريد، لم يتأخر عن تفجير غاياته الصراعية وحقيقته المتوحشة، وممارسته ألعاب الارتقاء اللاطبيعي والانتقاء العسكري؛ فالنازية مثلا صناعة ألمانية محلية كان هدفها التصفية العرقية العالمية، ويروي اليهود أنها قتلت منهم 6 ملايين حرقا، والفاشية التي مارسها فرانكو وموسيليني، والإقطاعية القيصرية هي بدورها منتجات أوروبية صرفة، وكذلك الاستشراق والاستعمار، وقهر الشعوب المستضعفة، كانت كلها إفرازات الحضارة الأوروبية المحكومة بآليات الصراع التاريخي والثقافي.(12/375)