4 - ورابعها أن الغرب يبالغ في خوفه من الإسلام، ويزيد في هذا التخويف أناس يبالغون في خطر البعث الإسلامي الجديد متخذين من هذا التخويف وسيلة لتحقيق مآرب لهم لا تمت إلى مصلحة الغرب في شيء؛ وأكثر من يعينهم على هذا ويعطيهم أدلة يفرحون بها أناس لا عقل لهم ينتمون إلى حركة البعث هذه يكثرون من التهديد والوعيد للغرب من غير أن تكون لهم مقدرة على تحقيق أدنى شيء منه. وبسبب هذا الخوف المَرَضي من الإسلام ييالغ الغرب في ضغطه على الدول الإسلامية والتدخل في شؤونها ليقضي على كل بادرة نهضة إسلامية تطل برأسها فيها، {واللَّهٍ غّالٌبِ عّلّى أّمًرٌهٌ ولّكٌنَّ أّكًثّرّ النَّاسٌ لا يّعًلّمٍونّ} [يوسف: 21] .
5 - مع كل هذا الخطر الغربي فإن بعض الدعاة عندنا يتصرفون وكأنه لا وجود للغرب نفسه؛ فلا يتتبعون أخباره ولا يهتمون بمعرفة سياساته ومخططاته، ولا يفكرون في الرد على أفكاره، وكأنهم لم يسمعوا بمثل ما قال عالم الجزيرة الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن معرفة أحوال الكفار من أعظم أبواب الجهاد». وصار هؤلاء الدعاة ـ بسبب هذه الغفلة ـ مشغولين بمحاربة أناس هم معهم في صف البعث الإسلامي. إن نقد الخطأ ـ ولا سيما ما كان في مسائل العقيدة ـ أمر واجب وعمل عظيم؛ لكن نقد أخطاء المسلمين شيء، وجعلها الشغل الشاغل عن الخطر الداهم شيء آخر.
-===============(9/223)
(9/224)
المهمات الجديدة في منظومة العولمة
الأربعاء:09/01/2002
(الشبكة الإسلامية) عبد الرحمن الحاج إبراهيم
الفكر الإسلامي على مفترق طرق : المهمات الجديدة في منظومة العولمة
أدت ثورة المعلومات والاتصالات إلى إنشاء مفهوم جديد للعالم ، وعلاقات السيطرة فيه ، والتقدم والتأخر، ليس من خلال تحول مفهوم القوة والسلطة من إرسال الجيوش والتلاعب بالحكومات فحسب ، بل بالسيطرة على القطاعات والشبكات الاقتصادية والثقافية والإعلامية العولمية، واستخدامها لتوزيع رأس المال الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والرمزي، وبالتالي لإنتاج المواقع الطبيعية الجديدة ، ومركز هذه السيطرة الرئيسي هو قطاع الثورة التقنية المعلوماتية، وما يرتبط به من نخب معولمة .
المهم في الأمر والخطير فيه أن الهيمنة الجديدة لا تحتاج إلى جهد خاص لتعميم طريقة حياة وسلوك وتفكير يعمل تمثلها على إعادة التوزيع المتفاوت جداً للثروة العالمية المادية والمعنوية و - من ورائه - على تحقيق السيطرة العالمية، كما كان عليه الحال في الحقبة السابقة ( الرأسمالية ) . إنها تراهن الآن - بالعكس - على بناء نمط متميز لحياة النخب (السياسية والاجتماعية والثقافية) وتفكيرها، يسمح بفصلها عن الكتلة الرئيسية ودمجها مباشرة في دائرة ثقافة الاستهلاك الخاص بها، إنها تقوم على خلق رأسمال ثقافي ورمزي مستقل، وثقافة نوعية للنخبة العالمية الجديدة تربط بين أفرادها، لذلك أصبحت الجبهة الرئيسية في حرب السيطرة العالمية هي جبهة المواجهة الثقافية ، الهادفة إلى التخفيض من قيمة الثقافات المنافسة، وتسويد صفحتها، لدفع نخبها إلى « التنصل منها، والانضمام إلى ثقافة النخبة المعولمة كونياً» على حد تعبير المفكر العربي برهان غليون.
إن ذلك لا يعني إلاّ تخفيض الثقافات الوطنية إلى مستوى الثقافات الشعبية ، أي التواصلية ، وإبعادها عن حقول السلطة الناجعة ( السياسية والاقتصادية والعلمية ) ، ومن وراء ذلك نزع السلطة السياسية والاقتصادية والرمزية عن المجتمعات وإعدادها للدخول في فلك ما نسميه الإمبراطورية العالمية .
الواقع أن شيئاً من هذا التوحيد الثقافي أخذ مجراه بسرعة مذهلة في المجتمعات الشرقية والغربية من اليابان فالهند والصين وأوروبا... وبقي العالم الإسلامي متأثراً بشكل أخف ، وما يزال القول بالأمركة (التي هي إحدى ثمرات العولمة) في العالم الإسلامي قولاً يحتاج تحققه إلى زمن طويل ، وإذا كان العالم الإسلامي ما يزال يشكل الرقعة الجغرافية الأكثر استعصاء على الأمركة ثقافياً ، فإنه ليس بعيداً جداً عن تأثيراتها.
وفي كل الأحوال هذا الوضع يضع مسؤولية جديدة على مفكري العالم الإسلامي ( الإسلاميين بالدرجة الأولى ) تتمثل في إيجاد فلسفة/ طريقة تفكير تمكن الثقافة الإسلامية من الصمود والفعالية .
إن المسألة لا تتعلق بموقفنا تجاه العولمة ، معه أو ضده ؛ لأن العولمة في الواقع جزء من واقع موضوعي يجتاح العالم . إن المسألة هي قدرتنا على التعامل مع العولمة والانخراط فيها.
فإذا كانت العولمة هي - من جهة - تمثل الثورة التقنية ، ومن جهة ثانية نتائج السيطرة على هذه الثورة والتحكم بها فإنه ليس بإمكاننا أن نطرح سؤال إمكانية رفض العولمة أو القبول بها، لأنه ـ على حد تعبير برهان غليون ـ من المستحيل لمجتمعات منخرطة جدياً في السيرورة التقنية والعلمية أن تطرح على نفسها مثل هذا السؤال : إن المجتمعات التي تطرح مثله هي تلك التي تعيش على هامش منظومة الفعالية التقنية والعلمية ، ولا تشعر بالمنافسة ولا بالمباراة الدولية في حقل الاقتصاد والإنتاج المادي منه والمعنوي ، فما دمنا نعيش في إطار نظام الرأسمالية فإن اكتساب هذه التقنيات التي تسمح بالاندماج العالمي ، أعني تقنية المعلوماتية والاتصالات ، يشكل هدفاًلكل قوة اقتصادية متفاعلة مع المنظومة العالمية.
إن القوى التي تسيطر على وسائل هذه التقنيات هي - وحدها -المؤهلة للحفاظ على مواقعهاوضمان تطورهاوتقدمها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في الحقبة القادمة ، فمن دون السيطرة على تلك التقنيات لن يكون لها حظ في الحفاظ على نفسها في المنافسة الدولية.
وطرحنا للسؤال يعكس تماماً طبيعة الموقع الذي نحتله في نظام العولمة الجديد ، أي بوضوح موقف الهامشية الكاملة.
إن المهمة الجديدة للفكر الإسلامي هي تأسيس « فكر » وصياغة المنظومة الفكرية الإسلامية بما يؤهلها للخوض في العولمة، والانخراط فيها لمواجهة ثقافة الأمركة .
ولا يبدو أن فكراً مؤهلاً لهذا التحدي بقدر ما يبدو الفكر الإسلامي ، الذي يقف على أرضية اعتقادية قادرة على التعامل مع العلم بالرغم من غيبيتها، وهو أمر لم يتوفر في منظومات عقدية أخرى.(9/225)
إن قرارنا بعدم الانخراط في العولمة لا يعني أنه بإمكاننا تجنب آثارها، بل على العكس تماماً، سوف نكون في موقف التأثر وعدم القدرة مطلقاً على التأثير ، أي سيكون الفكر الإسلامي في موقع الدفاع والتحصن ، وليس فاعلاً في نظام الحياة ، تماماً كما أن النظام الرأسمالي وحركته كانت مؤثرة على شعوب العالم بمطلقها بالرغم من عدم انخراط الكثيرين فيها.
لكن هذا الانخراط في العولمة يجب أن يترافق مع «تسويات» في العالم الإسلامي نفسه _ وهي المهمة الثانية - وأقصد بها الأوضاع المزمنة في العالم الإسلامي فيما يتعلق بقضايا الديمقراطية والحريات العامة والتنمية وحقوق الإنسان، وهي مسائل تتعلق بمجموعها بشرعية الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي ، وهي مسائل عالقة قديماً ، وكانت شاغلاً للفكر الإسلامي والتي شقته إلى حركي وتجديدي ، والوضع الآن أكثر عتواً ؛ فمصالح الولايات المتحدة أصبحت مرتبطة أكثر فأكثر بهذه الأنظمة في مواجهة الشعوب الإسلامية !
وفرضت مقولة « الحرب ضد الإرهاب » التي تقودها الولايات المتحدة على الأنظمة هذه إعادة النظر في « صورة الإسلام » الذي يتربى عليه أبناء البلاد في العالم الإسلامي لتعقيمها لتحول دون توليد ما تسميه أميركا« الإرهاب » .
لا شك أن قضية تعديل المناهج كانت ضرورية من قبل لأنها كانت غالباً مسيّسة، أي أنها صيغت لتكون منسجمة مع الأنظمة القائمة، وفي كثير من البلدان كانت مفرغة من مضمونها، بحيث تتساوى في كتب التعليم الرسمي للتربية الإسلامية أقوال البشر مع أقوال الرسو صلى الله عليه وسلم التي تكون بمحاذاتها ، والآن المطلوب تسييسها مرّة جديدة لتتوافق مع سياسة الولايات المتحدة !!
المرحلة القادمة شديدة التعقيد ، والفكر الإسلامي يقف أمام مهمات جديدة أكثر صعوبة من قبل ، فهل يستطيع إنجازها في ظل التغيرات الدولية الجديدة ؟
=============(9/226)
(9/227)
متظاهرو العولمة يشيدون بموقف قطر
الأحد :11/11/2001
(الشبكة الإسلامية) الدوحة - ق0ن0أ
أثنى أحد ناشطى المنظمات غير الحكومية على الاجراءات التى اتخذتها السلطات الامنية فى قطر فى التعامل مع المظاهرة السلمية التى قامت بها المنظمات امس امام شيراتون الدوحة للتعبير عن رأيها بصورة سلمية تجاه برنامج عمل منظمة التجارة العالمية .
وقال والدن بيلو رئيس منظمة عولمة الجنوب غير الحكومية ومقرها تايلاند ان الحكومة القطرية تعاملت « بصورة مسؤولة جدا » مع مظاهرة امس .. معربا عن سروره بذلك.
واضاف فى تصريح خاص لوكالة الانباء القطرية ان رد فعل السلطات الامنية فى دولة قطر كان مختلفا جدا عن رد فعل سلطات الامن الامريكية فى سياتل او الايطالية فى جنوة حيث استخدم العنف الشديد ضد المتظاهرين هناك .. فقد كان تصدي السلطات الامنية فى دولة قطر للمظاهرة مناسبا ، وكان الرد هادئا ، ولم يتم استخدام العنف.
ووصف مظاهرة امس التى قام بها حوالى مائة شخص يمثلون مختلف المنظمات غير الحكومية بأنها سلمية.. وقال :لم يكن يساورنا شك فى اننا لن نتعرض لاى رد فعل عنيف من السلطات الامنية القطرية .
وقال بيلو ان دولة قطر رحبت بأية مظاهرات سلمية خلال المؤتمر.. مشيرا الى ان المظاهرة جرت بصورة تلقائية وبدون تخطيط سابق .
واوضح انه لاتوجد اية خطط اخرى للتظاهر لكنه اكد ان مثل هذه المظاهرات تأتى للتعبير عن الرأى فى مسألة معينة وان هذا هو ما يجمع بين هذه المنظمات.. وقال انه لا يوجد تنسيق معين تجاه ذلك بالنسبة لمؤتمر الدوحة كما كان فى المؤتمرات السابقة فقد كان هناك تنسيق لمظاهرات مثلما حدث فى سياتل .
وانتقد بيلو فى تصريحه اتهامات وجهها بعض المسؤولين فى منظمة التجارة العالمية بأن هذه المنظمات تنزع الى العنف وقال ان هذه المنظمات سلمية هدفها ايصال صوت العالم النامى الى المسؤولين فى المنظمة.
كما انتقد الطريقة التى يتم بها اتخاذ القرار فى منظمة التجارة العالمية قائلا ان اربعاً وعشرين او خمساً وعشرين دولة عادة ما تأخذ قراراتها فى مجموعة تسمى « جرين روم » وهذه معظمها من الدول الصناعية وتقوم بفرض سياستها وقراراتها على الدول الباقية الاخرى فى المنظمة.
واضاف بيلو ان المنظمة تفتقر الى الشفافية وان قرارها يخلو من الديمقراطية فهى منظمة « غير ديمقراطية » .
وضرب بيلو على ذلك مثالا بالقول ان مجموعة « جرين روم » اجتمعت فى سنغافورة فى منتصف اكتوبر الماضى بصورة منفردة للاعداد لمؤتمر الدوحة ولم تستطع الدول النامية المشاركة ولم يتمكنوا من التعرف على الجهات المنظمة لهذا الاجتماع.
وفى تصريحات مماثلة لوكالة الانباء القطرية قال جوشوا مات من اتحاد العمال التقدمى فى الفلبين « اننى مسرور لسعة صدر الحكومة القطرية فى التعامل مع المظاهرة امس » وان المظاهرة قد انتهت دون اية مشاكل .
وقال ان هذه المظاهرة لو كانت فى الفلبين لما كان ردة فعل السلطات الامنية نفس الشىء.
===============(9/228)
(9/229)
العولمة والعولمة المضادة
الاثنين :24/09/2001
(الشبكة الإسلامية) - دمشق
العولمة والعولمة المضادة
كتاب قيم لم يكتشف بعد
المؤلف د. عبد السلام المسدي - الناشر : مجلة سطور - كتاب سطور - القاهرة - مصر 1999 .
العولمة .. تلك اللفظة التي أصبحت تلوكها الألسنة صباح مساء في كل مكان من هذا العالم المترامي الأطراف .. الصغير إعلاميًا ، فما قصة ذلك ؟
العولمة هي نمط سياسي اقتصادي ثقافي لنموذج غربي متطور خرج تجربته عن حدوده لعولمة الآخر بهدف تحقيق أهداف وغايات فرضها التطور المعاصر . والعولمة ظاهرة قادمة من الغرب من مجتمعات متقدمة حضاريًا متجهة إلى مجتمعات نامية ومتخلفة والتعامل معها بنجاح يتطلب بناء الذات والارتقاء بها في المجالات المختلفة حتى يكون التعامل مع تلك الظاهرة إيجابيًا .
وتتمثل العولمة في مجموعة من التوجهات ذات البعد المستقبلي وتدور حول قضايا مثل الديمقراطية والليبرالية الغربية واقتصاد السوق الحر .. إلخ .
ويرى منظورها ومؤيدوها أنها إيجابية في العموم ، بيد أن آخرين يرون فيها مخاطر أساسية عديدة حيث تثير المسألة عددًا من الأسئلة الصعبة التي تنتظر الإجابة مثل:
هل ستؤدي العولمة إلى تحطيم الحدود بين الأقطار وإذابة الهوية القومية ؟
وهل سيسود الغرب المتقدم بنمطه الاقتصادي الرأسمالي ويعولم الاقتصاد والثقافة والوضع السياسي في العالم لحسابه لعدم قدرة الدول النامية على مواكبة تطور العالم الأول والتعامل معه نديًا على كل المستويات ؟
وهل في إمكان العرب - كجزء من العالم النامي - تطوير أوضاعهم في المستقبل المنظور للتعايش السلمي والإيجابي مع ظاهرة العولمة ؟
هل العولمة جريمة في المصطلحات والمفاهيم التي تظهر في قاموس السياسة والاقتصاد والثقافة بين الحين والآخر أم هي واقع حتمي معاش وقادم ؟
ولكن كتاب الدكتور عبد السلام المسدي "العولمة والعولمة المضادة" ليست السياسة مقصده والاقتصاد ، وإنما الغرض المنشود هو المسألة الثقافية بكل أعماقها وأبعادها وسطوتها الشاملة . فخطاب العولمة قد شاع وعمّ ويكاد يستفحل أما خطاب العولمة المضادة فإنه لم ير النور بعد وإن حملت به كل النفوس التي أخلصت إلى الإنسانية مهجتها على حد تعبير المؤلف .
ويرى المؤلف أنه بين العولمة والعولمة المضادة سيحاول أن يخترق الحجب ويمشي على الأشواك كي يميط الأقنعة عن الثقافة العربية في مواجهتها للنظام العالمي الجديد .
وينتهي المؤلف في حديثه حول الرابطة الثقافية إلى ضرورة مراجعة ثنائية الشرق والغرب تلك التي خللت أدبيات الخطاب العربي جغرافياً فسياسيًا فثقافيًا .
ثم يتجه المؤلف إلى وضع ثقافتنا في مقابلة المعادلة الحضارية مستمدًا من الثنائية التي شدد على ضرورة مراجعتها منطلقًا إلى هذا الوضع المقابل الذي تفرضه المعادلة الحضارية أو الوضع الحضاري الراهن الذي فتحت فيه آفاق الشخصية العربية للدرجة التي تأكدت فيها في السنوات الأخيرة رغبة للقارئ العربي - ولا سيما في المشرق - في متابعة ما يكتب في المغرب العربي في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية . وتحت عنوان "العرب ومصالحة التاريخ" يرى المؤلف أنه لم يتشكل للعرب مشروع ثقافي جامع وأن الواقع التاريخي قد انتهى بالفكر العربي إلى أن يعالج قضاياه الثقافية من ذات الموقع الذي ينظر فيه إلى حاله الحضارية وهو مركون إلى الزاوية الثقافية .
ويحدد المسدي الطرق التي يجد المثقف العربي نفسه وقد وجب عليه الخيار منها وهو يبحث عن الذات الجماعية ووضعها من النظام الكوني الجديد لأنها نشاط إنساني لا يتوقف ، ذلك النشاط الذي يأخذ في التشكل بصورة لا نستطيع إنكارها ، لذا يقف المسدي عند وضعية الثقافة في هذا النظام ، طارحًا الوضع القائم في الدول الكبرى والنامية على حد سواء ، وعارضًا للاهتزازات العالمية التي أدت إلى هذا الوضع القلق ، حيث نجد الثقافة نفسها في قلب الإعصار الكوني الجديد ؛ لأنها العنصر المتفجر في دواليب العولمة الاقتصادية ؛ ولأن المسدي قد توقف عند الكثير مما من شأنه أن يكشف النقاب عما هو غائب عنا أو مغيّب عن أزماننا فلا مجال أمام العرب اليوم للانخراط بكفاءة واقتدار في المنظومة الإنسانية بكل أبعادها إلا بجهة ثقافية عتيدة ، ولا فكر بدون مؤسسات علمية متينة ولا علم بدون حرية معرفة ولا تواصل ولا تأثير بغير معرفة قومية تضرب جذورها في التاريخ الشارف بشموخ حاجة العصر وضرورات المستقبل .
واستخدم المؤلف ، أو بتعبير المؤلف نفسه ، سيتوسل بمنهج يستحدث تطبيقه في هذا السياق لهذا الغرض هو المنهج السيميائي متخذًا من الظاهرة السياسية الاقتصادية منظومة من القرائن والعلامات والأمارات يفك شفرتها بواسطة المجهر الثقافي .. فالكتاب بحث في سيمياء الثقافة بين الفكر العربي والنظام العالمي .(9/230)
ومنذ مطالعة العنوان قد يبدو للقارئ الذي تعامل مع المسدي الناقد في أعمال نقدية - فالمسدي له أعمال نقدية كثيرة من أهمها : الأسلوبية والأسلوب ، النقد والحداثة ، قاموس اللسانيات (عربي فرنسي - فرنسي عربي) مع مقدمة في علم المصطلح ، اللسانيات وأسسها المعرفية ، قضية البنيوية ، فتنة الكلمات ، وغيرها من المؤلفات القيمة - أن المؤلف يقارب الحياة من منظور سيميائي وهو واحد من المفاهيم التي قد يجد المتلقي نفسه إزاءها ، ولكن المؤلف الذي مارس أعمالاً من شأنها أن تجعله لا يترك الأمور متماهية دون تحديد يعمد إلى توجيه رسالة إلى قارئه تأتي في موضوعها كاشفة عن كثير من مقاصر المؤلف .
ويعمد المؤلف إلى وضع مفهوم للرابطة الثقافية حيث يراها ثورة في العلاقات الإنسانية لأنها تصدر عن مراجعة جذرية لفلسفتها وإعادة ترتيب لمدارج سلم القيم الذي تقوم عليه ، ويكفي أنها تلغي من الجذور صورة التفاضل الذي ساد التفكير البشري ردحًا من الزمن .
وأخيرًا فإن كتاب المسدي "العولمة والعولمة المضادة" كتاب قيِّم ولكنه لم يكتشف بعد ، فلقد صدر الكتاب ولم يكتب عنه أحد .
============(9/231)
(9/232)
تحضيرات مكثفة لمناهضة العولمة في بيروت
الأربعاء:29/08/2001
(الشبكة الإسلامية) مراسل دمشق
بيروت ـ دعا المدير التنفيذي لشبكة المنظمات غير الحكومية العربية للتنمية ( وهي شبكة تضم 450 منظمة من 12 بلداً عربياً ) والمسؤول السابق للعلاقات الخارجية لجمعية النجدة الشعبية اللبنانية زياد عبد الصمد ، في نهاية شهر حزيران عدد من الهيئات اللبنانية لإجراء تحضيرات للمنتدى الدولي العربي الأول لمناهضة العولمة .
وشملت الدعوة مختلف الفئات والجمعيات الأهلية اللبنانية غير السياسية ، وخرجت الاجتماعات التحضيرية بإعلان مبادئ تتضمن اعتبار أن العولمة :
1- تمركز الاقتصاد العالمي في قبضة عدد من الشركات العالمية وتهميش كل شعوب العالم .
2- تخدم الاتفاقيات المعقودة في كل المجالات تحرير الأسواق ، وذلك لمصلحة الشركات العملاقة على حساب الاقتصاد الوطني للبلدان النامية .
3- ترفض الدول الغنية مناقشة الإشكاليات التي تعاني منها المنظمة على الرغم من الضغوطات التي تتعرض لها .
4- تجاهل القوى الأساسية في المنظمة مطالب البلدان النامية .
5- يعاني العالم العربي من تحدي العولمة .
6- يستعد لبنان للدخول في منظمة التجارة العالمية من دون اعتماد آلية تشاور وطنية .
وانطلاقاً مما سبق ، رفع اللقاء مطالبه على المستوى العالمي والتي شملت توقيف التوسُّع الذي يستهدف قطاعات تؤذي البلدان النامية ، كالاستثمار والمنافسة والمشتريات الحكومية والتقنيات البيولوجية وتسريع تحرير الرسوم الجمركية ، كما تضمنت مطالب اللقاء حماية الحقوق والخدمات الأساسية ، والنظر في اتفاقيات حماية حقوق الملكية الفكرية التي ستؤدي إلى حرمان البلدان النامية من نقل التكنولوجيا .
في حين أن مطالب اللقاء على الصعيد العربي اقتصرت على السعي لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي الذي يأخذ بالاعتبار خصوصية كل بلد .
أمّا لبنانياً ، فدعا اللقاء للقيام بمراجعة نقدية للسياسات الاقتصادية وأولوياتها ، وذلك في ما يتعلق بالخصخصة ، ودعم بعض السلع والسياسات الضريبية ، وحماية المنتجات والشركات الوطنية وسياسات الرعاية الاجتماعية والصحية .
الأنشطة والتحضيرات المقترحة :
بما أن ميزانية تلك الأنشطة والتحضيرات المقترحة لم توزع علناً ، فقد تم تداولها بواسطة بعض الجهات التي رفعت إليها الميزانية ، سعياً وراء الحصول على التمويل .
وكان اللقاء الاستراتيجي لمنظمة التجارة العالمية ، والذي عقدته المنظمات غير الحكومية في جنيف في آذار 2001م قد أقر ضرورة عقد منتدى دولي للمنظمات غير الحكومية بمؤازاة المؤتمر الوزاري الذي سيعقد في الدوحة .
وارتأت الشبكة العربية للمنظمات الأهلية - بعد عقد اجتماعها في القاهرة في نيسان الماضي ، وبعد التشاور مع المنظمات العالمية - أن بيروت هي الأنسب . وبعد تلخيص إعلان المبادئ وإعطاء لمحة عن اللقاء الوطني حول منظمة التجارة العالمية ، يذكر المشروع المقترح تشكيل خمس لجان هي اللجنة الإعلامية ، واللجنة المسؤولة عن العلاقة مع الحكومة اللبنانية ، واللجنة الإدارية ، واللجنة الخارجية ، ولجنة المعلومات .
أمّا الأنشطة المقترحة للمنتدى الدولي المزمع عقده في بيروت بين 6 و8 تشرين المقبل فتشمل :
1- خطة مطلبية فعلية تتضمن لقاءات مع المجموعات المختلفة من نقابات وشباب إلخ.. وورش عمل متخصصة ومظاهرات عامة كبيرة ، ومواد إعلامية تثقيفية .
2- استراتيجية إعلامية فعالة تستهدف الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب ، بالإضافة إلى نشر معلومات ووقائع حول منظمة التجارة العالمية .
3- حملات ضغط تستهدف الرسميين ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والنواب والمجموعات السياسية (أحزاباً ومنظمات) والمجلس الاقتصادي والاجتماعي .
4- التنسيق والتعاون والتشبيك محلياً وإقليمياً وعالمياً ، بهدف إطلاق حملة استراتيجية ضد التفاوت الناجم عن نظام التجارة العالمية .
وأخيراً تأتي ميزانية المشروع انطلاقاً من الحاجة إلى تغطية كلفة الأنشطة .
وشارك في الاجتماع التحضيري الدولي الأول للمنتدى ثلاث دول عربية ( فلسطين والأردن والمغرب ) ، وهو تمثيل يعتبر محدوداً ، وعدد من المنظمات الدولية .
ومن اللافت اشتراك ممثلة المعهد الوطني للديمقراطية National Democ r acy Insitute في المنطقة « هبة الشاذلي » ، ومن المعلوم أن هذا المعهد يمول مباشرة من قبل الكونغرس الأمريكي ! فيبدو أن منظمي المنتدى ، يطمعون بتمويل بعض الورش والندوات من قبل هذا المعهد ، وهو ما يفرض - بشكل فاضخ - مساومات سياسية !
هذا ويعتبر التمثيل اليساري قليلاً نسبةً إلى عدد من المشاركين الباقين الذين يمثلون هيئات خيرية وطوائف دينية وعرقية .
==============(9/233)
(9/234)
الحفاظ على الهوية العربية يستلزم التصدي للعولمة
الأربعاء:18/07/2001
(الشبكة الإسلامية) ميدل إيست
القاهرة - أكدت دراسة إعلامية متخصصة أنه على الرغم من الآثار الإيجابية للعولمة في المجالين الإعلامي والثقافي في المنطقة العربية إلا أن لها الكثير من الآثار السلبية التي ينبغي على المجتمعات العربية التصدي لها من اجل المحافظة على هويتها.
وذكرت الدراسة التي أعدتها الدكتورة ماجدة صالح الأستاذة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة أن الآثار الإيجابية للعولمة في المجالين الإعلامي والثقافي شملت إحداث تغييرات نوعية في أنماط ومستويات الخدمة الإخبارية التي تقدمها وسائل الاتصال وظهور ما يعرف بدبلوماسية الاقمار الصناعية والإعلام الالكتروني.
ورأت الدراسة التي جاءت تحت عنوان : الآثار الإعلامية والثقافية للعولمة على دول المنطقة العربية وإمكانية مواجهتها" إن العولمة مرادف "للأمركة" وهو مايعني سعى القطب الاوحد، اي الولايات المتحدة، إلى فرض سيطرتها على العالم في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية خاصة بعد سقوط نموذج الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد المعسكر الاشتراكي.
ولاحظت الدراسة انه من المثير للانتباه رواج الثقافة الاميركية في المنطقة العربية بالرغم من تدنى مستواها سواء بمقارنتها بالانشطة الثقافية داخل الولايات المتحدة او بما تصدره الدول الاوروبية للمنطقة العربية.
وارجعت رواج الثقافة الاميركية في الدول العربية لعدة اسباب من اهمها ادراك الولايات المتحدة مبكرا ان الثقافة المتدنية اكثر رواجا من الثقافة الراقية التي تنحصر بين الدوائر الفكرية والمثقفين ، فضلا عن ان طبيعة المجتمع الامريكي الذي يضم انتماءات عرقية متباينة وقادرة على استيعاب جميع الهجرات الوافدة اليها وبالتالي فهو مجتمع منفتح استطاع ان يضع ثقافة واسعة الانتشار.
وذكرت الدراسة الاعلامية ان من اسباب رواج الثقافة الامريكية في المنطقة العربية توافر الامكانيات المادية والعلمية التي دعمت المنتجات الثقافية الاميركية من سينما وتلفزيون وموسيقى، اضافة الى تفوق الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن الماضي في مجال التعليم العالي والبحث العلمي على اوروبا.
واوضحت الدراسة انه يوجد ما يقارب 120 الف جامعة ومعهد تفتح ابوابها امام جميع الدارسين من انحاء العالم وتقوم بتخريج الآلاف ليعودوا الى بلادهم حاملين معهم الثقافة الامريكية ويقوموا بنشرها بين مجتمعاتهم ، واصفة الثقافة الامريكية بـ "النمطية والسطحية" باعتبارها تساعد على انتشار ثقافة الاستهلاك وتقتل الابداع وتجعل المتلقي سلبيا.
ثقافات لا تقبل الخضوع لأميركا:
وذكرت الدراسة ان الدول الغربية واليابان وكندا واستراليا استشعرت "خطر الغزو الثقافي الاميركي " وتصدت له واخذت تشجع انتاجها المحلى وتنتقى الافضل فيما ظلت الدول النامية - وتحديدا المنطقة العربية - عاجزة عن اتخاذ القرار الحاسم للحد من هذه الظاهرة.
واستشهدت باحصائيات منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( يونيسكو) عن دول المنطقة العربية والتي بينت ان شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث اجمالي البث كما في مصر وسوريا، اونصف اجمالي البث كما في تونس والجزائر ، اما في لبنان فان مواد البث المستوردة تصل نسبتها الى58.2 بالمائة.
ولاحظت الدراسة ان وسائل الاعلام العربية لا تكتفي بهذا التدفق الاعلامي والثقافي الاجنبي بل تقدم اغلب البرامج الاجنبية بلا ترجمة الى اللغة العربية، وان اخطر ما في الامر ان ثلثي برامج الاطفال تبث بلغة اجنبية، مشيرة الى تراجع وسائل الترفيه الشعبية التقليدية كالحكايات والفرق الجوالة والغناء الشعبي.
ورأت ان التيار الاسلامي الذي يعد من اكثر التيارات تشددا بشأن الهوية والثقافة اتجه نحو الاستفادة من ايجابيات العولمة دون سلبياتها باستخدام التقنيات الحديثة وشبكات الانترنت في الدعاية لنفسه وترويج خطابه السياسي والتنسيق فيما بين اجنحته.
ولاحظت الدراسة ايضا ارتفاع العديد من الاصوات في الدول العربية كافة تنادى بالتمسك بالهوية القومية في مواجهة مشروع "الشرق اوسطية" الذي يهدف الى استبدال هوية المنطقة بهوية اخرى تضم اسرائيل ، مشيرة الى ان الدول العربية كانت من اوائل الدول التي طرحت على منظمة اليونيسكو فكرة الخصوصية والذاتية الثقافية.
واوضحت ان الخلافات السياسية بين الدول العربية عاقت خروج مشروع حضاري حول الخصوصية الثقافية العربية كان من الممكن ان ينجح في اجتذاب جميع النخب الثقافية.
واكدت الدراسة ان آليات مواجهة الغزو الثقافي الاميركى تتطلب انماء الذاتية الثقافية العربية اضافة الى بناء قاعدة تكنولوجية علمية عربية.
ودعت الى تبنى مفهوم صحيح للديمقراطية، مشيرة الى ان المشكلة التي تواجه الثقافة العربية لا تكمن فقط في مسالة حرية وسائل الاعلام او انفلاتها بقدر ماتكمن في مسألة حرية المواطن وتأهيله في مجال المشاركة الديمقراطية في مجتمع
==============(9/235)
(9/236)
شباب أوروبا ضد العولمة.. والأمركة
الاثنين :18/06/2001
(الشبكة الإسلامية) وكالات
لم يسبق للمملكة السويدية منذ عشرات العقود أن شهدت تظاهرات عارمة وصاخبة كتلك التظاهرات التي كانت مدينة غوتنبورغ مسرحا لها على هامش انعقاد القمة الأوروبيّة والتي شارك في جزء منها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن.
و قبل انعقاد هذه القمّة بيومين فقط ألقت مصالح الأمن السويدية القبض على خمسة دانماركيين معارضين للعولمة والاتحاد الأوروبي والقيّم الغربيّة كانوا يخططون لإفشال القمّة باستخدام الذخيرة الحيّة، وقد كمن هؤلاء الدانماركيون على مقربة من مكان انعقاد القمّة الأوروبية .
وتشاء الظروف أن يكون الشباب السويدي والأوروبي هو المتورّط في أكبر عملية تخريب ونهب وعنف في مدينة غوتنبورغ السويدية حيث لجأ الشباب الأوروبي الى التهجّم على الشرطة السويدية وتحطيم واجهات المطاعم الأمريكيّة ماكدونالدز ، بالإضافة إلى التهجّم على كبريات المحلات في المدينة .
ونظرا لهذه الوضعية الأمنيّة الخطيرة فإنّ الزعماء الأوروبيين اضطروا إلى إلغاء حفل عشاء بتاريخ 15/6/2001 ، وقد أستخدم المتظاهرون في مدينة غوتنبورغ الحجارة ضدّ رجال الأمن والمحلات و حطموا سيارات الشرطة السويدية الأمر الذي جعل الشرطة السويدية تطلق النار لتفريق المتظاهرين الذين جاؤوا من مختلف الدول الأوروبيّة وخصوصا في ظل سهولة تنقل الأوروبيين من دولة أوروبيّة والى أخرى ,
و تعتبر حركة هجوم الأوروبية atak الرافضة للغرب وقيّمه ولأمريكا والعولمة وراء الكثير من الأحداث التي عرفتها مدينة غوتنبورغ السويدية , وحسب المصادر السويدية فانّ مئات المتظاهرين تمّ نقلهم إلى المستشفيات فيما جرح العديد من رجال الشرطة . وكان المتظاهرون قد استمروا في حركة الاحتجاج الواسعة حيث تدخلت الشرطة السويدية ليل 15 - 06 - 2001 لتفريق المتظاهرين في الساحة المركزية لمدينة غوتنبورغ .
وقد كان القادة الأوروبيون منزعجين من هذه التظاهرات حيث وصف رئيس الوزراء السويدي يوران بيرشون هذه الجماعات المتظاهرة بأنّها جماعات إجرامية . ومهما كانت مواقف الزعماء الأوروبيين من هذه التظاهرات والمتظاهرين فإنّ كل المراقبين في السويد ودول الاتحاد الأوروبي يجمعون على أنّ هناك تيارا بدأ ينبلج بين الشباب الأوروبي ضدّ الأمركة والعولمة
==============(9/237)
(9/238)
تحديات العولمة
الأحد :17/06/2001
(الشبكة الإسلامية) طهران -وكالات
أشاد رئيس رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية في ايران بالنجاح الذي تحقق في مجال التقريب بين السنة والشيعة، مؤكدا ان المساحة المشتركة بين السنة والشيعة تصل الى 95% ولا تتجاوز نسبة الاختلاف 5% وقال ان رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية تبذل جهودا كبيرة لتحقيق التقارب بين المذاهب الاسلامية فقد انشئت مجمعا عالميا للتقريب بين المذاهب وجامعة عالمية لتدريس المذاهب في طهران. ودعا في حواره على هامش مشاركته في المؤتمر الاسلامي الدولي في القاهرة الى تفعيل دور منظمة المؤتمر الاسلامي والنهوض بها وتعميق العلاقات بين الدول الاسلامية لمواجهة التحديات الثقافية التي تحيط بالأمة.واكد ان المرأة الايرانية تتمتع بالحرية وتساهم في صنع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومختلف المجالات. وقال: انه لا يوجد صراع بين المحافظين والاصلاحيين في ايران، وانما هناك اختلاف في بعض القضايا لا يرقى الى درجة الصراع. * ما أهم الانشطة التي تقوم بها رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية؟ـ الرابطة تشرف على جميع الانشطة الثقافية الايرانية في الخارج وتصدر حوالي سبعين مجلة وتشرف على المستشارين الثقافيين ودور الثقافة الايرانية في دول العالم، وتتولى الرابطة اختيار الوفود التي تشارك في المؤتمرات الدولية وتعمل على ايجاد حلقات للحوار بين المذاهب الاسلامية والاديان الآخرى، وتختص الرابطة ايضا بإرسال العلماء ومسؤولي المراكز الاسلامية وقراء القرآن الى الخارج، فإيران لها اكثر من ثمانية مراكز ثقافية في مختلف انحاء العالم، والرابطة تقدم مساعدات ثقافية لكل المسلمين في العالم ومن ضمن انشطتها العمل على تحقيق التقارب والتفاهم بين المذاهب الاسلامية.* ما الذي استطاعت الرابطة تحقيقه في مجال التقريب بين المذاهب فقد تم انشاء مجمع عالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية على غرار دار التقريب بين المذاهب الاسلامية التي انشئت في الخمسينات بالقاهرة، وهذا المجمع انشأ جامعة عالمية في طهران لتدريس المذاهب الاسلامية وايجاد روح التقارب والتعاون بين المسلمين. وقد عقدت الرابطة عشرات المؤتمرات شارك فيها علماء من مختلف المذاهب. وقد شاركت ـ ممثلة لايران ـ في مجمع الفقه الاسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي، وهناك عشرات الكتب التي صدرت عن الرابطة لاشاعة روح التقريب بين المذاهب.* ما مدى النجاح الذي حققته هذه الجهود؟ـ اعتقد ان نجاحا كبيرا قد تحقق فلا يوجد مؤتمر دولي الا ويدعو الى نبذ الخلافات، وفي المؤتمرات التي يعقدها المجلس الاعلى للشؤون الاسلامية سنويا تكون هناك دعوات عديدة الى نبذ الخلافات وتبني مواقف محددة وموحدة بعيدا عن الاختلافات المذهبية وهو ما يؤكد ان التقريب بين المذاهب يتقدم بشكل طبيعي.* بعيدا عن الندوات والمؤتمرات وما يصدر عنها من توصيات، هل، على المستوى الفقهي، صدرت كتب تجمع الآراء الفقهية وتدرسها دراسة جيدة ثم تستخلص منها آراء تلائم كل المسلمين؟ـ هناك اتجاهات طيبة في الجامعات وهناك كتب كثيرة نشرت تحاول ان تتبين المساحات المشتركة بين المذاهب الاسلامية ومن ذلك انني توصلت الى أن 90% من الآراء الفقهية هي من المساحات المشتركة بين السنة والشيعة، اما نسبة الخلاف فلا تتجاوز 5% وهذا خلاف طبيعي ناتج عن حرية الاجتهاد واعتقد ان التقريب بين المذاهب تجاوز مجرد الحديث بين العلماء في الندوات والمؤتمرات وتحول الى اتجاه جماهيري فالمسلمون بدأوا يتناسون الخلافات الماضية والتركيز على المساحات المشتركة.* في الفترة الاخيرة شهدت العلاقات العربية ـ الايرانية تقاربا ملحوظا، هل هذا التقارب نتيجة لتلك الروح والجهود التي بذلت في مجال التقريب بين المذاهب؟ـ اعتقد ان مسألة التقارب في العلاقات العربية ـ الايرانية مبدأ اصيل تتبناه ايران منذ قيام الثورة الاسلامية والحمد لله شهدت هذه العلاقات تقدما كبيرا في الفترة الاخيرة، فعلاقات ايران بالجزائر وبالسعودية ومصر اصبحت جيدة لكن المشكلة ان اعداء الاسلام واعداء الوحدة الاسلامية يتحركون بنشاط لايجاد خلافات وتشنجات، لكن مع مرور الزمن ننتصر على هذه التشنجات والتوترات، وقد عمل الرئيس الايراني محمد خاتمي على جعل هذه الروح التقريبية سياسة عامة ظهر اثرها في انفتاح ايران على الدول العربية وعقدت ندوات ومؤتمرات عديدة تؤكد عمق العلاقات العربية ـ الايرانية. * كيف تستطيع الدول الاسلامية مواجهة التحديات خاصة في ظل العولمة ومحاولات الدول الغربية فرض هيمنتها علينا؟ـ اعتقد اننا نستطيع ـ اذا كنا جادين ـ مواجهة هذه التحديات من خلال تقوية منظمة المؤتمر الاسلامي ورفع مستوى فاعلية اجهزتها حتى يمكن ان تتحول قراراتها الى قرارات ملزمة للدول الاعضاء وبذلك تستطيع النهوض بامكاناتها الذاتية وتعميق العلاقات بين المسلمين ومواجهة كل انماط الهجوم الثقافي على الامة الاسلامية .
=============(9/239)
(9/240)
افتتاح مؤتمر تحديات العولمة للمصارف الإسلامية
السبت :19/05/2001
(الشبكة الإسلامية) عمان - قدس برس
قال وزير التخطيط الأردني جواد حديد إن المشاريع الاقتصادية في المنطقة يجب أن تمضي دون الالتفات كثيرا الى الأحداث السياسية الجارية على الأرض، وأوضح الحديد أنه لو تم الالتفات الى هذا الجانب ومنحه أكبر من حجمه "لما تم تقديم أي مشروع اقتصادي أو مبادرة منذ عام 1948" وهو العام الذي أعلن فيه قيام إسرائيل، حيث بدأت الاضطرابات في الشرق الأوسط.
وكان الوزير الأردني يشير في تصريحات لـ "قدس برس" الى إطلاق العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني لمشروع منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة الأسبوع الماضي، برغم الأحداث التي تشهدها المنطقة حاليا.
وافتتح الوزير الأردني يوم السبت في العاصمة عمان مؤتمر "تحديات العولمة للمصارف الإسلامية" الذي تنظمه الأكاديمية العربية للعلوم المصرفية بالتعاون مع المصرف الإسلامي الأردني والمصرف الإسلامي للتنمية في جدة خلال المدة من 19 - 21 أيار (مايو) الجاري.
وأكد الحديد أن المصارف الإسلامية تواجه تحديات كبيرة مع توسع نظم العولمة، ووقوفها وجها لوجه مع عمالقة العمل المصرفي في العالم، وقال إن على المصارف الإسلامية أن تنافس "بالتطوير المستمر لنظمها وأجهزتها المصرفية ومتابعة تطورات ثورة المعلومات ومقدرتها على الاتصال المستمر بعملائها".
وأوضح الحديد أن المصارف الإسلامية برغم كل هذه التحديات، تملك ميزات تنافسية لا تستطيع المصارف التقليدية المنافسة عليها، وهي العمل وفق ضوابط الشريعة الإسلامية "مما يساعدها على اجتذاب شريحة كبيرة من الجمهور الحريص على التعامل وفق تلك المبادئ". لكنه أكد مستدركا ان هذه الميزة الاحتكارية يجب ان تكون دافعا للمصارف نحو بذل المزيد من الجهد للوصول الى درجة رفيعة من التعامل.
وأشار الحديد إلى أن فشل المصارف الإسلامية في ظل العولمة يحمل في طياته أخطار كبيرة "أهمها الإساءة الى التشريعات الإسلامية التي ستبدو انها وقفت عاجزة عن تقديم شيء في ظل التطورات المتسارعة". ووصف المصارف الإسلامية حاليا بأنها "صناديق استثمار مرتبطة بشكل جوهري في العملية الاقتصادية والتنمية .. مما يعكس الدور المتنامي لهذه المصارف في اقتصاديات المنطقة".
وحول موقفه من عمليات الاندماج المصرفي، لم يخف الوزير الأردني تخوفه من عمليات الاندماج الضخمة، وذلك بسبب الآثار الكبيرة التي ستحدثها هذه المصارف حال تعرضها لأي إخفاق ناتج عن سوء إدارة أو تعثر اقتصادي، وقال إن فكرة الاندماج بين المصارف الإسلامية يجب ان تكون بحجم معقول ومناسب.
وكان وزير التخطيط الأردني قال في الكلمة الافتتاحية لمؤتمر "تحديات العولمة للمصارف الإسلامية" ان الإسلام وضع أسس العولمة وصاغ مبادئها ونواميسها "بل وأثبت تاريخيا إمكانية تنفيذها من خلال قيام الدولة العربية الإسلامية الكبرى التي أسهمت في بناء الحضارة العالمية".
وأوضح أنه بعد تعرض هذه الدولة الى الهجمات والكوارث "واستلاب حضارتها ومنجزاتها وصارت ملكا للآخرين" برزت عولمة جديدة مرتبطا بما حققته الإنسانية خلال القرون الماضية من مستويات اقتصادية وتقنية "واندفعت حركتها (العولمة الجديدة) ليس بالدوافع ذاتها التي أدت لنشوء الدولة العربية الإسلامية الكبرى بدل بدوافع الاستحواذ والهيمنة والسيطرة وفتح الحدود أمام اقتصاديات مازالت غير مكافئة" وفق تقديره.
وأكد ان الشريعة الإسلامية تملك من المرونة ما يجعلها قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان "غير ان قدرة الأمة الإسلامية على صياغة مكونات النظام الاقتصادي الإسلامي المتوافق مع الشريعة الإسلامية والمتفاعل مع التطورات الاقتصادية .. هي مثار الاهتمام نظرا لما تتطلبه من جهود كبيرة تعيد تصميم الحياة الاقتصادية في اطار شريعتنا السمحاء".
من جهة أخرى حذر الدكتور عبد العزيز الخياط رئيس قسم المصارف الإسلامية في الأكاديمية العربية، من مخاطر العولمة على الاقتصاد العربي والإسلامي. وقال في كلمة ألقاها في افتتاح المؤتمر إن العولمة "تعني سيطرة القوى الكبرى الغالبة سيطرة سياسية واقتصادية على الدول والشعوب .. فهي تمثل غزوا لا سيما في حرية الاقتصاد والتجارة الحرة" وفق تقدير الدكتور الخياط الذي يعتبر أحد أهم المنظرين في الاقتصاد الإسلامي على مستوى المنطقة.
وعدد الخياط بعض النتائج الخطيرة التي يمكن ان تحدث نتيجة تطبيق العولمة الاقتصادية والفكرية، منها ان العولمة أقرت حرية التنقل للبضائع إلا انها أغفلت حرية التنقل للأفراد، كما اعتبر ان للعولمة مخاطر بارزة على الزراعة في الدول النامية، حيث تسيطر أوروبا على الإنتاج الزراعي وتمنع الدول الفقيرة من تصدير منتجاتها الزراعية برغم خصوبة كثير من أراضيها وتوفر عناصر الإنتاج الزراعي بهذه الدول.
وأشار الخياط كذلك الى أن اتفاقات العولمة استثنت صناعة الملابس "لأن بعض الدول (النامية) فاقت الدول الغربية وأمريكا في صناعتها".(9/241)
وقال الخياط إن المصارف الإسلامية قادرة على مواجهة العولمة "والإفادة منها أحيانا"، إلا أنه استدرك بالقول ان ذلك مشروط بأن "تتسلح هذه المصارف بميراثها الحضاري والفكري والاقتصادي .. ولا تكون في صفوف المنكمشين والانطوائيين على الذات مع مقاومة الذوبان بالرغم من التحديات التي تواجهها".
يذكر أن مؤتمر "تحديات العولمة للمصارف الإسلامية" تم تقسيمه الى ثلاثة محاور أساسية، خصص لكل منها يوم واحد، يعالج الأول منها "مفاهيم العولمة" وكرس المحور الثاني لبحث "الاقتصاد الإسلامي وحل المشكلات الاقتصادية المعاصرة" في حين خصص المحور الثالث لـ "العولمة والمصارف الإسلامية". وستتم تغطية هذه المحاور من خلال 12 جلسة ستخرج بمجموعة من التوصيات الهادفة لبلورة أداء المصارف الإسلامية في ظل العولمة. وسوف يتحدث في الملتقى نخبة من كبار المسؤولين المصرفيين في المنطقة وأساتذة العلوم المصرفية، ومسؤولين أردنيين.
============(9/242)
(9/243)
عولمة إسلامية لمواجهة الغرب
الأربعاء:16/05/2001
(الشبكة الإسلامية) الشبكة الإسلامية -الدوحه-فريق الأخبار
أكد الدكتور أحمد كمال أبو المجد المفكر الإسلامي المعروف ووزير الإعلام المصري الأسبق أن على المسلمين والعرب أن يسألوا أنفسهم سؤالا صريحا، وأن يكونوا صرحاء في إجابتهم : هل نحن في معركة ضد التطورات المصاحبة للتحول نحو العولمة ؟ وهل لدينا بديل نعرفه يمكن أن يساعدنا في مواجهة العولمة؟ يقول الدكتور أبو المجد : إن المسلمين والعرب لن يدخلوا في معركة مع سنن الله ، فالتطور من سنن الله تعالى ، وأننا لسنا في معركة مع التطور ، ولا حاجة لنا في أن نلوي ذراع بعض نصوص منهجنا واطارنا المرجعي لنصل الى ادانة مسبقة لتطور لا نملك دفعه وهو العولمة . كما أننا لا نملك الدليل على تناقضه مع الثوابت، مشيراً إلى أن موضع العظمة أو الإنجاز في ديننا وثقافتنا يتمثل في هذا الجمع بين عدد من الثوابت التي تكون بنية أساسية لثقافتنا . وأشار إلى أن الحاجة أصبحت ماسة وملحة لتوافق الشركاء الجدد في النظام العالمي الجديد على أساس أخلاقي مشترك . وقال الدكتور أبو المجد لصحيفة الاتحاد الإماراتية : في الأزمة يندفع الناس إلى أطراف المواقف وأشدها غلوا . فمن المسلمين من تقهره روح الهزيمة، ويفتن فتونا بأمر الأقوياء المنتصرين، حتى ولو كانوا المعتدين عليه، وغاصبي حقوقه، فيلوذ بهم، ويسعى إليهم ، ويكاد ينحرف بالثقة إليهم وفيهم، والاعتماد عليهم، ولا يرى فضلا إلا فضلهم ، ولا مخرجا إلا باتباع أمرهم كله صغيره وكبيره .. صحيحه وسقيمه .. حلوه ومره . وفي الأزمة يندفع آخرون إلى هزيمة أخرى تتمثل في إنكار الواقع، أو المكابرة في شأن الحقائق ، واليأس من الحاضر، والخوف من المستقبل ، ونفض اليد من الدنيا، وسوء الظن بالناس، والفرار إلى الماضي وحده طلبا لقطرات من رحيق الأمل، أو ومضات من نور العزة، والثقة بالنفس . ويتحول الأمر كله إلى فرار كامل إلى تراث الأقدمين ، أو اجترار غير مشروع لعظمتهم، أو انتساب - لا فضل فيه - لأمجاد كانت، واصطناع لأمجاد أخرى لم تكن ، ولكنها - على أي حال- قد تدفع روح اليأس ، وقد تفتح بعض أبواب الأمل . وأحب أن أؤكد أنه لا يقبل من أحد، والحال على ما نعرف ونسمع ونرى، أن يشتغل بما كان عما يمكن أن يكون . كما لا يقبل من أحد أن يفر من تبعات الحاضر إلى رؤى الماضي وأهله، فتلك - بشهادة القرآن الكريم وتعليمه لنا - أمة قد خلت . وأشار أبو المجد إلى أن أزمتنا الأولى طال الحديث عنها والشكوى منها ، وهي تتمثل - كما سبق أن قلنا وقال أهل الاختصاص في مناسبات عديدة - في أمور منها : أولا : تراجع العطاء الحضاري، وتوقف دفعة العمل والإنتاج ، وتثاقل الخطى في بناء النهضة المادية والأخذ بأسبابها . ثانيا : انقسام الأمة على نفسها، وانشطار الشعوب المسلمة ثقافيا، بين حزب ينطلق من مبادئ الإسلام وأصوله، وتستولي عليه الرغبة الشديدة في بناء النهضة من جوف الحضارة الإسلامية . وهناك حزب آخر، أو جزء آخر من المسلمين ساء ظنه بنفسه، وحضارته، وتاريخه كله، فهو يتجه إلى طرح ذلك كله جانبا، وهو يقول : أنا مع الناس .. ويسعى في رغبة شديدة - كذلك - إلى بناء النهضة على أساس قوانين الحركة والتطور التي أخذ بها الغرب، وسار عليها ، وبنى نهضته على أساسها . وأوضح وزير الخارجية الأسبق أن أزمة المسلمين الخارجية أن العالم من حولنا يتجه الى بناء نسق حضاري جديد، ونظام للعلاقات بين الدول والشعوب جديد كذلك، او يزعمون انه جديد .. والحملة علينا في هذا الوقت ضارية لا تتوقف .. بالحق حينا، وبالكذب والظلم والافتراء ، أحيانا أخرى . وتم تصوير إسلامنا العظيم، الذي أنزل رحمة للناس من رب الناس، على أنه دعوة للجمود، وتعبد بظواهر النصوص، ومصادمة لنواميس الكون، ومصادرة لحقوق الناس، وأن انتشاره أذان بشر وفساد طويل، كما يزعمون كذبا، والعياذ بالله . ويقولون انه بسبب ذلك كله لا مكان لنا، ولا يجوز ان يكون لنا مكان في نظام العالم الجديد•• ولا دور لحضارتنا يمكن ان تؤديه لمعالجة ازمة الحضارة التي يعيشها الانسان• وهو يواجه هذه الايام الآثار الجانبية السيئة والمدمرة لتعاظم الثورات العلمية، والتقنية التي يقفو بعضها أثر بعض . وهي الآثار التي تمثلت في انتشار عبادة المادة، وذيوع روح الاثرة، والنرجسية والانحصار على الذات . كما تمثلت في إهدار كثير من مؤسسات المجتمع كالأسرة، ورابطة الجوار، وكذلك في ظهور موجات من العنف، ومن الصراع الوحشي لا سابقة له في تاريخ الانسان الطويل . وأكد الدكتور أبو المجد أن بين أيدينا نحن المسلمون عناصر أساسية، ومعالم جوهرية لهذا الإسهام في الإصلاح الانساني الحضاري العالمي، وهي تتمثل فيما يلي: اعتماد العقل والوحي مصدرين للمعرفة، وتقدير أنظمة السلوكك ، ذلك أن جزءاً من تراجع قطاع من الناس يرجع الى تعطيل العقل، وجزا اخر من شرود الناس وحيرتهم وما انتشر بهم من بلاء وضلال يرجع الى انتقاصهم لدور الوحي في المعرفة، وفي ضبط السلوك
=============(9/244)
(9/245)
الكنائس الأوروبية تقف ضد عولمة السياسيين والاقتصاديين
الأحد :29/04/2001
(الشبكة الإسلامية) لندن
نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مصدر كنسي أن اثنين من اتحادات الكنائس الأوروبية وقعتا ميثاقا عالميا لتطوير التعاون بين الكنائس المسيحية على نطاق القارة نقلت الأوروبية وتعهد الموقعون على الاتفاق بمحاربة كل أنواع العداء للسامية واليهودية في الكنيسة والمجتمع ، كما تعهدوا بتطوير الحوار مع بقية الأديان والمذاهب الأخرى.
ووقع الاتفاق رئيس مجلس اتحاد الأساقفة الأوروبيين الكاثوليك ورئيس اتحاد الكنائس الأوروبية التي تضم نحو 100 جماعة بروتستانتية وأنجليكانية وأرثوذكسية ، وجرت مراسم التوقيع على الميثاق في ستراسبورغ بفرنسا.
ويعترف الميثاق، وهو غير ملزم للموقعين عليه، بحرية الأديان ويعارض كل المحاولات الرامية لاستخدام الدين والكنيسة لأغراض عرقية أو قومية. وأعلن الاتحادان عن معارضتهما لكافة أشكال الدعوات القومية التي تؤدي لاضطهاد الآخرين والأقليات العرقية.
يذكر أن هناك خلافا عميقا بين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية ظل سائدا على مدى سنوات طويلة أدى في بعض الأحيان إلى مواجهات بين الطائفتين.
ويبدو أن هذا الاتفاق جاء على خلفية المادية التي تعيشها أوروبا وتهميش "الدين" الذي فرضته العولمة.
وأكد الكردينال روجيه إيتشيغاري في كلمته بعد توقيع الاتفاق على "واجب" المسيحيين الأوروبيين حيال
الشعوب الأخرى في القارات الأخرى، وقال: "إذا انكمشنا على أنفسنا ولم نهتم إلا برعايانا تاركين لكيانات علمانية ومالية وسياسية مسألة اتخاذ المبادرات وتحمل المسؤوليات في تيار العولمة، فقد يؤدي بنا المطاف إلى خيانة الإنجيل".
ويرتكز الاتفاق المسمى بـ"شارتا أوكومانيكا" على الاعتراف "بحرية الدين والمعتقد ومواجهة أي تهميش له في ظل العولمة"، والتعهد بمعارضة "أي محاولة لاستغلال الدين والكنيسة لغايات عرقية أو قومية".
==============(9/246)
(9/247)
إشكاليات الثقافة العربية في عصر العولمة : آليات وأزمات
الأحد :15/04/2001
(الشبكة الإسلامية) هشام أسامة منور *
- لا يزال مفهوم «العولمة» يثير جدلاً واسعاً ونقاشاً صاخباً بين المثقفين والمفكرين الاجتماعيين والاقتصاديين، بدءاً من تحديد المعنى، ومدى مشروعية الأطروحات في عالم اليوم المتسارع الخطى ، ومروراً بتحليل العولمة كظاهرة تحمل في طياتها أبعاداً متداخلة ذات تأثيرات متباينة على شتى بقاع العالم، وعلى الرغم من التناول الواسع النطاق الذي يجري في العالم وعلى كافة المستويات، إلا أن المفهوم ذاته ما زال يكتنفه الغموض عند البعض، والتشويش عند البعض الآخر، وربما يرجع ذلك في جانب كبير منه إلى التعامل مع تلك الظاهرة بقطع ويقين لا يتناسب وطبيعة تلك الظاهرة المدروسة، فإما أن نرفضها وننبذها بشكل كامل وإما أن يؤيدها ونهلل لها ونبشر بها في محافلنا ومجتمعاتنا، متناسين أن العولمة قد تحولت إلى قوة فاعلة في النظام الدولي المعاصر، بل أصبحت قوة فعلية مؤثرة في حياة البشر، وذلك على إثر التحولات الكبرى التي شهدها العالم أجمع منذ مطلع التسعينات، إذ حدث انقلاب هائل وثورة عارمة غيرت من ثوابت الفكر وتوجهاته واستراتيجيات التنمية والتخطيط على كافة المستويات، وأدى تفكك الاتحاد السوفيتي وإنهاء الحرب الباردة وظهور مقولات (نهاية التاريخ) و(صدام الحضارات) إلى تبلور شكل جديد لنظام دولي لم تتحدد ملامحه بعد، إلا أن ما لا شك فيه أنه «يمثل حركة متسارعة وقوة فاعلة ومؤثرة في العلاقات الدولية»، ولأجل تشخيص الواقع وأزماته كان لابد من تحليل ظاهرة العولمة، واكتناه ميكانزمات النظام الدولي الجديد، وهو ما حاول الكاتب النهوض بعبئه في هذا الكتاب فهو يصوغ الغاية من هذا الكتاب على صورة تساؤلات تطرح نفسها بقوة وخاصة في دول الجنوب الفقير «ما تأثير العولمة على أوضاع هذه الدول وعلى مستقبلها؟ أين التراث من عولمة الثقافة؟ ما أكثر تجليات العولمة وما هي تحدياتها التي تواجه الدول غير القادرة على المنافسة في ظل حضارة السوق؟ ما الدور الحقيقي الذي تقوم به الشركات العملاقة عابرة القوميات في عولمة اليوم؟ هل يبقى لفقراء العالم مكان على الخريطة الكوكبية الجديدة؟ أين الهوية الوطنية في ظل إعادة صياغة إنسان كوني؟ لماذا وكيف تصبح الثقافة الأمريكية هي الثقافة الكونية على مستوى العالم؟ ما مواطن القوة فيها وما مواطن الضعف في الثفافات الأخرى؟».
يضم الكتاب ست دراسات حول موضوع إشكاليات الثقافة العربية في زمن العولمة، ويبحث الكاتب في الدراسة الأولى ظاهرة العولمة وموقفها من الثقافة الوطنية انطلاقاً من رؤية نقدية فيعالج قضية معايشة الإنسان العربي المعاصر لعالمين متناقضين بحواملهما الثقافية غير المتكافئة «ثقافة تراثية مفعمة بالمواطنة الأصلية وأخرى عولمية تغريبية تسلبه الأولى وتدفعه نحو عصرنة فردية كوكبية مصطنعة». ولا يجد الكاتب بُداً من التساؤل حول ماهية العولمة في ظل نظام عالمي لم تتحدد ملامحه بعد، فيرى أن شعار «جيران في عالم واحد» هو شعار توثيقي لنظام جديد آخذ في التشكل ترتسم فيه معالم طريق يقود الدول إلى تخيل بنائي كقرية كونية صغيرة، فما العولمة إذن سوى نظام قديم في ثوب جديد أكثر إحكاماً «وبرغم أنه يبدو أن العولمة هي دعوة جديدة إلا أنها لا تختلف كثيراً من حيث سياستها وأهدافها وأيديولوجيات الداعين إليها عن السياسات التي ميزت البدايات الأولى للنظام الرأسمالي إبان مرحلة الثورة الصناعية». فالعولمة بهذا المعنى لا تعدو أن تكون عملية تاريخية تحكم تفاعلاتها مجموعة من القيم لدول عظمى في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى بشتى الطرق لتسويق نموذجها الحضاري في الاقتصاد والسياسة والثقافة بمفرداتها المعروفة.
وعلى الرغم من ذيوع مفهوم العولمة وانتشار تداوله بين المثقفين إلا أن الغموض لا يزال يكتنف هذا المفهوم في الخطابات المعاصرة بحيث تعجز تلك الأخيرة عن صياغة فهم دقيق لما يعنيه ذاك المفهوم كعملية ثلاثية الأبعاد والمستويات (اقتصادية وسياسية وثقافية).
بيد أن قراءة وتحليلاً متأنياً لأدبيات الفكر المعاصر سوف يقودنا إلى الاعتقاد بأن العولمة ما هي إلا تعبير عن «أزمات وتناقضات يمر بها النظام الرأسمالي ذاته (أزمة في الداخل) وأزمة الشعور بفقدان الذات المركزية داخل المركز الرأسمالي ذاته وبهذا المعنى فهي صياغة جديدة لإعادة المركزية الرأسمالية في ثوب جديد أو مستحدث، ومحاولة لنشر حضارة السوق المعولمة، وهي بذلك تعبر عن سيادة نمط التشيؤ حيث العمل على تحويل كل شيء إلى سلعة متداولة في السوق لصالح قوى حرة جديدة عابرة للقوميات».(9/248)
وفي سبيل تحقيق أهدافها لا تتوانى العولمة عن استخدام آليات (ميكانزمات) معينة لتعميق توجهاتها وتأثيراتها في العالم، كربط العولمة بحركة تداول راس المال الاقتصادي وإزاحة العملية السياسية في المجتمعات التقليدية لصالح الفئات الأقدر على توجيه مسارات الإنتاج والمال والتجارة والاستثمار لصالحها، وربط أجزاء العالم على الرغم من تباعدها وانفصالها بروابط عدة حتى تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة، وبلورة ثقافة عالمية تتسم بسمات خاصة تستفيد منها الفئات المسيطرة على العمليات الاقتصادية والسياسية والإعلامية، والعمل على تراجع دور الثقافة الوطنية التقليدية في مواجهة ثقافتها وذلك بالاعتماد على التقنيات الحديثة وبخاصة في مجال تدفق المعلومات، على طريق تشكيل قيادة عالمية تستحوذ النفوذ والقوة وتكون قادرة على توجيه عمليات التحول الاجتماعي المطلوبة.
وفي ظل صراعها مع الهوية الوطنية تسعى العولمة إلى تكريس الثقافة الاستهلاكية وترسيخها في ظل آليات الهيمنة العالمية إذ تحولت تلك الثقافة إلى آلية فاعلة لتشويه البنى التقليدية وتغريب الإنسان وعزله عن قضاياه وإدخال الضعف لديه والتشكيك في جميع قناعاته الوطنية والقومية والأيديولوجية والدينية وذلك بهدف إخضاعه نهائياً للقوى والنخب المسيطرة على القرية الكونية وإضعاف روح النقد والمقاومة عنده حتى يستسلم نهائياً إلى واقع الإحباط فيقبل الخضوع لهذه القوى أو التصالح معها».
فللعولمة تجليات متعددة متشابكة الأبعاد والمستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية وتأثيراتها الثقافية هي الأخطر حيث يتم فرض ثقافة خارجية ليست وليدة تفاعلات بين الحضارات والمذاهب المتباينة.
وتطرح الدراسة الثانية قضية أمية المثقف العربي: الإبداع وأزمة الفكر السوسيولوجي، وإذا كان من الصعوبة بمكان تحديد مصطلح الثقافة والمراد منه، فإن مرد ذلك يرجع إلى محاولة المثقفين وضع خصائص ورسم سمات أغلبها مثالية لخصائص ذواتهم في سياق تحديدهم لمفهوم الثقافة والمثقف والمفترض أن تتمحور إسهامات المثقفين والباحثين حول «تحديد الدور الذي يقوم به هذا المثقف في مجتمعه وإن السؤال الذي يجب أن يهتم به من يبحثون في هذا الشأن هو: هل كان إنسان يقوم بدور المثقف». فأزمة الفكر العربي هي «تعبير عن أزمة تشوه اجتماعي كانت لها آثار كبرى في تكديس التخلف في هذا الجزء المهمش من العالم والمجتمع العربي بلا جدال جزء منه» وعليه فإن الاهتمام المتزايد بقضايا الثقافة العربية المعاصرة والمثقف العربي هو أشبه ما يكون بعملية «استعادة للذات المفقودة في إطار الكل الاجتماعي».
وكي نستطيع فهم قضايا الثقافة والوقوف على خصائص المثقف الاجتماعي العربي وأميته المعاصرة، لابد من الربط بين البناء الاجتماعي والنسق المعرفي فنقوم بتحليل خصائص المجتمع العربي وإشكاليات البنى الاجتماعية والثقافية المتناقضة على مستوى الواقع البنائي للمجتمعات العربية، وهو ما صنفه الكاتب في ثلاث مجموعات، بالإضافة إلى مستوى الوعي بقضايا المجتمعات العربية وإشكالياتها، والتي من أهمها إشكالية العلاقة بين المثقف والجماهير وحالة الغياب والانفصال شبه التام بينهما، وإشكالية العلاقة بين الثقافة والسياسة أو المثقف والوالي حيث يلاحظ «تأرجح المواقف الأيديولوجية للمثقفين ورجال الفكر الاجتماعي العربي من النظم الاجتماعية السياسية في هذه المنطقة» في نزعة براغماتية فاضحة، وهناك إشكالية العلاقة بين الاستقلال الوطني والتبعية الاقتصادية، وتباين مواقف المثقفين تبعاً لتباين أدوارهم وهذا التأرجح في مواقفهم يشير إلى أن «هناك شيئاً أصاب الوعي اسمه التشوه الفكري الاجتماعي مما أدى إلى فقدان ما يسمى بالوعي الجمعي».
وفي كل تلك الحالات نجد الفكر العربي منعزلاً عن واقعه أو متقوقعاً داخل ذاته يجتر ثقافته الموروثة أو يترجم ثقافة غيره.
ويرى الكاتب أن أزمة العلم السوسيولوجي في المجتمع العربي تتلخص في عدم قدرة المتخصصين في هذا المجال على التخلص من تلك الرابطة التي تجمع بين الباحث والنشأة الأكاديمية للعلم الاجتماعي، فنشأة هذا العلم في الغرب مرتبطة بالظروف التاريخية والمصالح الطبقية والصراعات الأيديولوجية التي حكمت الغرب إبان نشوئه، ولعل من أبرز ملامح هذه الأزمة على «مستوى العلاقة الجدلية بين أزمة البناء وأزمة العقل العربي» تتمثل في إشكاليات نظرية، إذ يتعاطى الباحثون أطراً فكرية تقليدية إلى حد كبير، وأخرى أيديولوجية تتمثل في انتماء المتخصصين في هذا المجال إلى الاتجاهات المثالية المحافظة فضلاً عن إشكالية منهجية تكمن في «تبني المنهج التسطيحي في علم الاجتماع بدءاً من اختيار موضوعات تقليدية ومروراً بمداخل منهجية غير واقعية». وبالتالي فإن الدعوة إلى إنشاء مدرسة عربية في علم الاجتماع لا تعدو أن تكون ردة فعل تجاه الأزمات التي تواجهها الثقافة العربية، وبالذات أزمة الأمية في هذا العلم وذلك في سياق استعادة الذات العربية المفقودة.(9/249)
وتتناول الدراسة الثالثة سجالاً حول ماهية المثقف في المجتمعات العربية ودوره الطليعي، وأزمة التشوه البنائي والفكري الراهن وذلك من خلال استعراض أوضاع المجتمعات العربية والإشكاليات المطروحة، ومن أهمها التبعية الاقتصادية وتشوه الفكر وازدواجيته في النظام العالمي الراهن أو ماأسماه بالتعايش الفارق، وصولاً إلى إمكانية صياغة أيديولوجية واضحة واضعاً في اعتباره أبعاد التاريخ العربي وظروف تكونه وتأتي الدراسة الرابعة حول إشكالية الثقافة العربية ممثلة بأزمة النقد الذاتي لتنطلق من مسلمة مفادها تغافل المثقف العربي عن نقد ذاته وتوجيهه لسهام النقد نحو الآخر، وتحليل تلك الفرضية على أساس أنها تشكل خطوة على طريق فهم العلاقة بين الثابت والمتحول في بنية الفكر العربي ومنهجيته، فتحاول البحث في أعماق الذات للوصول إلى إجابات مقنعة حول العلاقة بين الأنا والآخر وأثرها في تكون الثنائيات المتداولة والاغتراب ومستقبل الثقافة في عصر الليبرالية الجديدة وتعالج الدراسة الخامسة إشكالية التناقض بين الباحث ومجتمعه من خلال بيان تناقضات الواقع واغتراب الفكر، ودور المثقف والمتخصص الاجتماعي في تكوين الفكر المنهجي وتدعيمه من أجل مواجهة تحديات العولمة.
ويختم الكاتب أبحاثه بدراسة ميدانية عن فقراء مصر في عصر العولمة متخذاً نماذج من الريف والحضر، إذ يناقش أزمة التفاوت المعيشي دولياً وبين الشرائح الاجتماعية على المستوى المحلي، ويطرح بعض الملاحظات المحورية حول ظاهرة الفقر في العالم وأبعاده ومظاهره من خلال استعراض الموجهات النظرية لدراسة الظاهرة، فهو يرأى وجود اتجاهين لتفسير ظاهرة الفقر، أحدهما ذاتي والآخر موضوعي، أما الاتجاه الذاتي فقد صنفه إلى ثلاثة مداخل، أحدها مدخل إعادة إنتاج الفقر وتبناه أوسكار لويس، وهو ما عبر عنه بثقافة الفقر، حيث يرجع تفسير هذه الظاهرة إلى عوامل فكرية ذاتية يتسم بها الفقراء أنفسهم فهم انعزاليون وغير راغبين بالمشاركة في الحياة العامة ويشعرون بالدونية، واللامبالاة، وتتواصل هذه الثقافة في رأي لويس بين الأجيال من خلال إعادة إنتاج الفقر، وثاني هذا المداخل مدخل التخفيف من حدة الفقر: استراتيجيات التعايش، إذ يقول بقدرة الفقراء على التخفيف من حدة الفقر من خلال بدائل ثقافية يفرزونها في محاولة للبقاء والمحافظة على حياتهم، وثالثها: مدخل قمة الفقراء والذي يدعو أصحابه من خلال مؤسسات ومنظمات دولية إلى معالجة مشاكل الفقراء وعولمة الاهتمام بهم، فيما يسقطون في فخ التمجيد للنظام الرأسمالي والدعوة إلى نشره في أنحاء العالم، أما الاتجاه الموضوعي فإنه يعاند الفكر المحافظ «وينطلق من فلسفة نقدية تطورت من الكلاسيكية على يد كارل ماركس ومرت بمراحل مختلفة منها الماركسية المحدثة ومدرسة فرانكفورت وصولاً إلى مدرسة التبعية المعاندة لمدرسة التحديث».
ولعلنا ختاماً نتفق مع الكاتب في النتيجة التي توصل إليها ألا وهي أن المخرج الحقيقي من الأزمة التي تعانيها الثقافة العربية والفكر الاجتماعي العربي يكمن في تخطي «الفجوة الحضارية المستمرة والمتزايدة بين إعادة التقدم في البؤر الرأسمالية وإعادة التخلف وتكريسه في المحيطات التابعة، وما لم نتخط محنة التخلف ستظل ثقافة المجتمع العربي تابعة منطوية تحت لواء الثقافة «الأم» وسيظل مستوى الوعي الثقافي في مراحله الأدنى من الأمية».
وذلك من خلال استعمال بعض الآليات التي تفيد في وضع الثقافة في خدمة التغيير نحو المشروع العربي والوحدة الفكرية وتعميق التيارات القائمة وإثراؤها بالمعرفة العلمية وبلورة القدرة على نقد الذات وبالتالي فهم أن الصراع الثقافي جزء لا يتجزأ من الابتكار والتجديد. فالعولمة هي عملية غسيل حقيقية للأدمغة كما يرى مارتن ولف، وكوكبنا يخضع لضغط عنيف تفرزه قوتان عظيمتان هما العولمة والتفكك على حد تعبير بطرس غالي.
الكتاب: الثقافة العربية في زمن العولمة
المؤلف: د. أحمد مجدي حجازي
دار النشر: دار قباء للطباعة والنشر ـ مصر ـ 2001م
عدد الصفحات: /186/ صفحة.
ـــــــــــــــ
كاتب وباحث فلسطي
=============(9/250)
(9/251)
ما هو أثر منتديات الدردشة والمواقع الإباحية
تاريخ الاستشارة : …2006-05-14 11:52:33
الموضوع : …استشارات ومشاكل الشباب
السائل : …حاتم محمد
السؤال
ما هو أثر منتديات الدردشة والمواقع الإباحية على شخصية الفرد والمجتمع؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ حاتم محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،،،
فإن الحياء خلق الإسلام، وإذا لم تستحي فاصنع ما شئت، وأحسن من قال:-
يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقي اللحاء
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
ولا شك أن أخطر آثار غرف الدردشة هو ذهاب الحياء، والذي أدى بدوره إلى اختراق حصون العفة والطهر، وذلك لأن الشيطان يستدرج ضحاياه خطوة خطوة، ولذلك نهت هذه الشريعة العظيمة عن اتباع خطوات الشيطان، فقال تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان ... } وكم من حوار ودردشة بدأت بريئة ثم انتهت إلى شرور عظيمة، بل وربما كان دافع بعضهن أو بعضهم إسداء النصائح للجنس الآخر، ثم يدخل الشيطان فيكون الخسران، وقد ساعدت هذه الغرف الخاصة بالدردشة ضعاف النفوس على إظهار أسوأ ما عندهم، وممارسة الخديعة والكذب تحت ستار الأسماء المستعارة، وبحجة الرغبة في المساعدة أو قضاء الوقت، وسرعان ما يتسلل الحب الشيطاني إلى القلوب الفارغة من حب الله، فتكون الآهات والحسرات، ويفقد الإنسان قلبه وأنسه بالله! - والعياذ بالله.
أما المواقع الإباحية والقنوات الفضائية فإن جريرتها أكبر وأخطر، لإننا بكل أسف في عصر عولمة الفساد والشر، وقد تضاعفت الشرور في ظل عدم قيام الأسر بدورها في التوجيه والمتابعة، ولوجود هذه الأجهزة في الغرف الخاصة، وخلف الأبواب الموصدة، وصادف كل ذلك وجود فراغ عاطفي كبير، الأمر الذي دفع ضعاف النفوس إلى البحث عن الإشباع العاطفي مع الأصدقاء الأشرار وفي غرف الدردشة، أو بالوقوع في شراك أهل الفساد.
وقد جلبت غرف الدردشة والمواقع الإباحية شرور لا يمكن حصرها، ومنها ما يلي:-
1- انتقال عادات وثقافات الآخرين السيئة إلى مجتمعاتنا.
2- ميل كثير من الشباب والفتيات إلى التبطل والانطواء.
3- ضياع الأوقات وتدمير مستقبل البنين والبنات.
4- انتشار السعار الجنسي وانصراف الأمة عن مهامها العظيمة.
5- زهد كثير من الشباب والفتيات في الحلال.
6- انتشار الخيانات الزوجية والفضائح الأسرية.
وبالله التوفيق والسداد.
المجيب : …د. أحمد الفرجابي
=============(9/252)
(9/253)
كيف يمكن مواجهة خطر العولمة الثقافية والفكرية
تاريخ الاستشارة : …2005-07-25 14:28:24
الموضوع : …استشارات ثقافية وفكرية
السائل : …الحسن
السؤال
مما لاشك فيه أن الغرب أدرك أن لا جدوى من الحروب لزعزعة إيمان هذه الأمة المسلمة وبالتالي نهج سياسة أخرى أكثر فعالية وبأقل تكلفة، أقصد هنا العولمة، فسؤالي هو كيف يمكن مواجهة هذا الخطر؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ الحسن حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فنسأل الله العظيم أن يحفظك ويسدد خطاك، وأن يرزقك العلم النافع والعمل الصالح، وأن يبلغك المنى والمناجح، وأن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا.
فحق لأمتنا أن تفخر بشباب يحمل همَّ أمته ويسعى لإبطال كيد عدوه؛ مستعينًا بالله ومتأسيًا برسولنا r الذي لم يهادن الباطل ولم يَقْبل بأنصاف الحلول، لكنه أعلنها مدويّة "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
ولا عجب فنحن أمةٌ قائدةٌ لا مقودة، أمة أخرجها الله لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وقد سعدت الدنيا قرونًا عديدة بحضارة الإسلام التي حفظت للإنسان حقه، وسعد في ظلالها حتى الحيوان، وشهد بكرمها وعدلها العدو قبل الصديق، ثم خلفت من بعد ذلك خلوفٌ نسيت رسالتها فتولى القيادة الأشرار، وكُنَّا أول من اكتوى بالنيران، ودفعت الدنيا ثمنًا باهظًا لتأخرنا، وعمَّ الشقاء رغم التطور المادي، وانعدم الأمن مع وجود السلاح.
ولقد أدرك أعداء أمتنا أنها لا تُواجه بالسلاح والقوة؛ لأن ذلك يذكرها بالجهاد ويردها إلى الصواب؛ فعمدوا إلى حرب خفية تسعى لتمييع الأمة قبل حربها، وشغلها بالشهوات وزرع الفتن والشبهات التي تزعزع الثوابت وتشكك في القطعيات، ثم عمدوا إلى زرع العداوة والبغضاء بين أبناء الأمة الواحدة، فسهل على العدو أن يتغدى بدولة ويتعشى بأخرى.
ولكن أمتنا ـ ولله الحمد ـ تملك عناصر الحياة والبقاء، فإن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، ووعد الله لا يتخلف، قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا)، وما هي المواصفات المطلوبة (يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)[النور:55].
ومما يعيننا على إبطال الكيد وبناء المجد ما يلي:
(1) العودة الصادقة للإسلام وترسيخ العقيدة في النفوس.
(2) تنظيم الجهود وتوزيع الأدوار ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
(3) فتح البصائر وإحياء الشعائر.
(4) العمل على وحدة الصف.
(5) فتح قنوات إسلامية على طراز قناة المجد.
(6) إعادة النظر في مناهج التربية والتعليم.
(7) التربية على العقيدة وترسيخ حب القرآن.
والله الموفق.
المجيب : …د. أحمد الفرجابي
================(9/254)
(9/255)
العولمة: الأخطار وكيفية المواجهة
د. غازي التوبة 6/11/1427
27/11/2006
لقد أصبح مصطلح العولمة متداولاً منذ بداية التسعينات، وأصبح علماً على الفترة الجديدة التي بدأت بتدمير جدار برلين عام 1989م وسقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه، وانتهت بتغلّب النظام الرأسمالي على النظام الشيوعي، والعولمة ككل ظاهرة إنسانية لها أبعاد متعددة، وسنتناول ثلاثة من أبعادها الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، ثم سنتحدث عن بعض أخطارها.
1- البعد الاقتصادي: ويتجلى في تعميم الرأسمالية على كل المجتمعات الأخرى، فأصبحت قيم السوق، والتجارة الحرة، والانفتاح الاقتصادي، والتبادل التجاري، وانتقال السلع ورؤوس الأموال، وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات هي القيم الرائجة، وتفرض أمريكا الرأسمالية على المجتمعات الأخرى عن طريق مؤسسات البنك الدولي، ومؤسسة النقد الدولي، وغيرها من المؤسسات العالمية التابعة للأمم المتحدة، وعن طريق الاتفاقات العالمية التي تقرها تلك المؤسسات كاتفاقية الجات وغيرها.
2- البعد السياسي: ويتجلى في انفراد أمريكا بقيادة العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكيك منظومته الدولية، ومن الجدير بالملاحظة أنه لم تبلغ إمبراطورية في التاريخ قوّة أمريكا العسكرية والاقتصادية، مما يجعل هذا التفرد خطيراً على الآخرين في كل المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية..الخ
3- البعد التكنولوجي: مرّت البشرية بعدّة ثورات علمية منها ثورة البخار والكهرباء والذرّة وكان آخرها الثورة العلمية والتكنولوجية والخاصة بالتطورات المدهشة في عالم الكمبيوتر، وتوصل الكمبيوتر الحالي إلى إجراء أكثر من ملياري عملية مختلفة في الثانية الواحدة، وهو الأمر الذي كان يستغرق ألف عام لإجرائه في السابق، أما المجال الآخر من هذه الثورة فهو التطورات المثيرة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتي تتيح للأفراد والدول والمجتمعات للارتباط بعدد لا يُحصى من الوسائل التي تتراوح بين الكبلات الضوئية والفاكسات ومحطات الإذاعة والقنوات التلفزيونية الأرضية والفضائية التي تبث برامجها المختلفة عبر حوالي (2000) مركبة فضائية، بالإضافة إلى أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني وشبكات الإنترنت التي تربط العالم بتكاليف أقل وبوضوح أكثر على مدار الساعة، لقد تحولت تكنولوجيا المعلومات إلى أهم مصدر من مصادر الثروة أو قوة من القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية الكاسحة في عالم اليوم.
ما هي أخطار العولمة؟
1- الخطر الأول: الفقر والتهميش:
ستؤدي العولمة إلى تشغيل خمس المجتمع وستستغني عن الأربعة الأخماس الآخرين نتيجة التقنيات الجديدة المرتبطة بالكمبيوتر؛ فخمس قوة العمل كافية لإنتاج جميع السلع، وسيدفع ذلك بأربعة أخماس المجتمع إلى حافة الفقر والجوع، ومن مخاطر العولمة أيضاً قضاؤها على حلم مجتمع الرفاه، وقضاؤها على الطبقة الوسطى التي هي الأصل في إحداث الاستقرار الاجتماعي، وفي إحداث النهضة والتطور الاجتماعي، ومن مخاطرها أيضاً دفعها بفئات اجتماعية متعددة إلى حافة الفقر والتهميش، وتشير الأرقام إلى أن (358) مليارديراً في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه (2.5) مليار من سكان العالم. وأن هناك 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج العالمي الإجمالي، وعلى 84% من التجارة العالمية، ويمتلك سكانها 85% من مجموع المدخرات العالمية. وهذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت آخر داخل كل دولة؛ إذ تستأثر قلّة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية، في حين تعيش أغلبية السكان على الهامش، وسيؤدي ذلك إلى نتائج اجتماعية خطيرة، ويمكن أن نمثل بالولايات المتحدة أبرز قلاع الرأسمالية، فالجريمة اتخذت هناك أبعاداً بحيث صارت وباء واسع الانتشار. ففي ولاية كاليفورنيا - التي تحتل بمفردها المرتبة السابعة في قائمة القوى الاقتصادية العالمية - فاق الإنفاق على السجون المجموع الكلي لميزانية التعليم. وهناك (28) مليون مواطن أمريكي، أي ما يزيد على عشر السكان، قد حصّنوا أنفسهم في أبنية وأحياء سكنية محروسة. ومن هنا فليس بالأمر الغريب أن ينفق المواطنون الأمريكيون على حراسهم المسلّحين ضعف ما تنفق الدولة على الشرطة.
ونلاحظ في هذا الصدد أن ظاهرة فتح الأبواب على مصراعيها أمام التجارة الحرة باسم حرية السوق قد رافقتها نسبة مهولة من ازدياد الجريمة، فقد ارتفع حجم المبيعات في السوق العالمية لمادة الهيروين إلى عشرين ضعفاً خلال العقدين الماضيين، أما المتاجرة بالكوكايين فقد ازدادت خمسين مرة.
2- الخطر الثاني: الأمركة الثقافية:(9/256)
الأمركة الثقافية أخطر جوانب العولمة، ومما يساعد على الأمركة الثقافية انفراد الولايات المتحدة بالعالم، واعتبارها القطب الواحد الذي انتهت إليه الأوضاع السياسية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وسيكون لهذه الأمركة أثر كبير في تكوين أو تعديل أو إلغاء الهويات الثقافية، ولكن أخطر ما في الأمركة نسبية الحقيقة التي تقوم عليها، وهي التي تتصادم تصادماً مباشراً مع ثوابت الدين الإسلامي المستمدة من النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة، لذلك نجد أن معظم الاجتهادات التي نادى بها بعض الكتّاب المعاصرين، وأثارت نقاشاً حاداً تستند إلى الإيمان بنسبية الحقيقة، وتتناول نصوصاً قطعية الثبوت قطعية الدلالة في مجالات: العقائد، والحدود، والميراث، وتشريعات الأسرة: كالزواج، والطلاق الخ…، وبالإضافة إلى ذلك فإن كثيراً من المعارك التي دارت أخيراً هي تجسيد للصراع بين نسبية الحقيقة التي تقوم عليها العولمة وبين ثوابت ديننا الإسلامي، ومن أبرز هذه المعارك ما ذكره نصر حامد أبو زيد عن النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة التي تتناول أموراً عقدية: كالكرسي والعرش والميزان والصراط والملائكة والجن والشياطين والسحر والحسد...الخ فقد اعتبرها ألفاظاً مرتبطة بواقع ثقافي معين، ويجب أن نفهمها على ضوء واقعها الثقافي، واعتبر أن وجودها الذهني السابق لا يعني وجودها العيني، وقد أصبحت ذات دلالات تاريخية، والدكتور نصر حامد أبو زيد في كل أحكامه السابقة ينطلق من أن النصوص الدينية نصوص لغوية تنتمي إلى بنية ثقافية محدودة، تم إنتاجها طبقاً لنواميس تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي، وهو يعتمد على نظرية عالم اللغة (دي سوسير) في كل ما يروّج له، وينتهي الدكتور أبو زيد إلى ضرورة إخضاع النصوص الدينية إلى المناهج اللغوية المشار إليها سابقاً.
ولا يتسع المقام الآن للردّ على كل ما قاله الدكتور نصر حامد أبو زيد بالتفصيل، لكن يمكن التساؤل: لماذا يعتبر الدكتور نصر حامد أبو زيد ألفاظ: الكرسي، والعرش، والملائكة، والجن، والشياطين، والحسد، السحر ألفاظاً ذات دلالات تاريخية؟ فهل نفى العلم بشكل قطعي وجود حقائق عينية لتلك الألفاظ حتى نُعفِي عليها، ونعتبرها ألفاظاً لا حقائق لها وذات وجود ذهني فقط؟ لم نسمع بذلك حتى الآن.
كيف نستطيع أن ندخل العولمة، ونستفيد من إيجابياتها، ونتجنب سلبياتها؟
هناك خطوتان مطلوبتان وملحتان من أجل مواجهة العولمة:
الأولى: تحصين الفرد وتجنيبه التهميش وغائلة الفقر القادمة، وذلك بتفعيل مؤسسات التأمين الاجتماعي والتعويضات والرعاية الاجتماعية من جهة، والتخطيط لإحياء مؤسسات الوقف والتوسع فيها من جهة ثانية، وبخاصة إذا علمنا أن أمتنا ذات تجربة غنية في مجال الوقف، فقد عرفت مؤسسات وقفية متنوعة من أمثال المدارس والجامعات والمستوصفات والمستشفيات والدور والبساتين والخانات...الخ، وساهمت تلك المؤسسات في نشر العلم والمحافظة على الصحة وإغناء المحتاجين ورعاية الحيوانات وتدعيم الاقتصاد وسد الثغرات الاجتماعية...الخ، وقد مثلت تلك الأوقاف ثلث ثروة العالم الإسلامي.
الثانية: تحصين هوية الأمة، وذلك بتدعيم وحدتها الثقافية، فالوحدة الثقافية هي المظهر الأخير الحي الفاعل الباقي من كيان أمتنا بعد التمزق السياسي والتشرذم الاقتصادي الذي تعرضت له خلال القرن الماضي، ولا شك أن هذه الوحدة الثقافية لبنة أساسية في مواجهة العولمة، لذلك يجب الحرص على إغنائها، ووعي ثوابتها، وأبرزها: أصول الدين الإسلامي وأحكامه المستمدة في النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة، واللغة العربية التي تعتبر أداة تواصل ووسيلة تفكير وتوحيد...الخ، كذلك يجب الحرص على الابتعاد عن كل ما يخلخل هذه الوحدة الثقافية ويضعف حيويتها.
===========(9/257)
(9/258)
نحو عولمة حركيّة وتنظيميّة للكيانات الإسلاميّة السلميّة
ضياء رشوان 15/10/1427
06/11/2006
لاشك أنه ليس هناك من اختلاف اليوم في أي مكان في العالم ولا بين أي فئة من النخب المختلفة من سياسيين وإعلاميين وباحثين وغيرهم، على أن العالم كله يشهد خلال السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في الوجود الإسلامي الحركي بصوره المختلفة. ويتسم ذلك الوجود الحركي الإسلامي المتصاعد بخاصيتين رئيسيتين من حيث الطبيعة والشكل، وأخرى ثالثة من حيث السياق الجغرافي.
الخاصية الأولى: أنه ينقسم من حيث الجوهر والطبيعة إلى ثلاثة أقسام كبرى:
الأول يشمل الكيانات السياسية - الاجتماعية السلمية التي تضع تطبيق الشريعة الإسلامية في قمة أولوياتها، وتسعى بنشاط فائق من أجل تحقيق ذلك الهدف في المجتمعات التي توجد بها، وهي تتخذ غالباً شكل جماعات وأحزاب سياسية. ويشمل القسم الثاني الكيانات الإسلامية ذات الطبيعة الدينية التي تركز على أولوية تصحيح ما تعتقد أنه خلل في عقائد المسلمين أفراداً ومجتمعات ودولاً، ومعظم تلك الكيانات التي تتخذ عادة شكل جماعات وتنظيمات ذات طابع سري تنحو أكثر باتجاه الممارسات العنيفة التي تضعها تحت لافتة "الجهاد". أما القسم الثالث فهو يشمل الكيانات الإسلامية الأكثر اهتماماً بتنظيم سلوك الأفراد المسلمين والعلاقات الاجتماعية التي تربط بعضهم ببعض، وفقاً لما تعتقد أنه النموذج الإسلامي المثالي المستمد من السلف الصالح، ويتخذ معظم تلك الكيانات شكل الجمعيات والجماعات الأهلية ذات الطبيعة العلنية.
أما الخاصية الثانية لذلك الوجود الإسلامي الحركي الموزع بين الفئات الثلاث السابقة فهي أنه يتخذ- كما سبقت الإشارة ضمناً- أشكالاً تنظيمية مختلفة تتغير حسب طبيعة الكيان الإسلامي ما بين أحزاب سياسية وجمعيات أهلية ونوادٍ ثقافية واجتماعية وجماعات أدبية كلها علنية، غير التنظيمات والجماعات ذات الطابع السري.
وفي ظل هاتين الخاصيتين الرئيسيتين للوجود الإسلامي الحركي المعاصر تظهر الخاصية الثالثة التي تتعلق بالسياق الجغرافي، وهي موضع تركيز السطور الحالية. فمن الملاحظ أنه على الرغم من تواتر القول وشيوع حقيقة اتساع وامتداد الوجود الإسلامي الحركي بصوره المختلفة السابق الحديث عنها خلال الأعوام الأخيرة، فإن هذا الوجود لا يتخذ أشكالاً تنظيمية أو آليات عمل ذات طابع عالمي مشترك أو موحد حتى بين الكيانات المنتمية لفئة واحدة من الفئات الثلاث السابق الحديث عنها. فالواضح هو أن مختلف الكيانات الإسلامية من الفئات الثلاث لا تتشكل في بلدانها الأصلية سوى بصور تتناسب مع الظروف الخاصة التي يمر بها هذا البلد، ولا تتصل أو تنسق مع الكيانات المماثلة لها في بلدان أخرى سوى في التوجهات شديدة العمومية. وربما يشذ عن تلك القاعدة نوعان من الكيانات الإسلامية، على الرغم من الاختلاف البيّن فيما بينهما.
أولهما هو الحركة العالمية للإخوان المسلمين الذين يمثلون أبرز الكيانات الإسلامية السياسية - الاجتماعية السلمية على مستوى العالم؛ إذ يتوافر لها هياكل قيادية موحدة وخطوط إستراتيجية عامة مشتركة تقوم بإقرارها تلك الهياكل، بينما تملك فروع الحركة الوطنية المختلفة كل الحق في تحديد ما تتبناه من سياسات وتوجهات دونها.
أما الكيان الثاني فهو المعروف اليوم باسم تنظيم أو شبكة القاعدة، وهو الممثل الأبرز لفئة الكيانات الإسلامية الدينية ذات الطابع الجهادي أو العنيف؛ إذ تشترك الفروع أو الجماعات المندرجة ضمنه في كثير من التوجهات العامة والأفكار والممارسات العملية، على الرغم من التباعد الجغرافي بين المناطق والبلدان التي تتواجد فيها. أما الكيانات الإسلامية ذات الطابع الاجتماعي فلا يكاد يوجد بينها أو لها على الصعيد العالمي أي شكل موحد أو آلية للتنسيق فيما بينها.
ويبدو واضحاً أن هذا الوضع لا يعد هو الطبيعي ولا الأمثل للكيانات الإسلامية على المستوى العالمي من حيث القدرة على التنسيق فيما بينها سواء في الأفكار أو الممارسات التي تفضي إلى وجود عالمي مؤثر لها متجاوز أي تناقض أو تعارض فيما بينها في هذا الجانب أو ذاك المحور. وتزداد استثنائية ذلك الوضع وخطورته عند النظر إلى الأوزان المختلفة للفئات الثلاث لتلك الكيانات؛ إذ يبدو واضحاً أن الغالبية الساحقة منها تنتمي للفئتين الأولى السياسية - الاجتماعية والثالثة الاجتماعية المركزة على الطابع السلوكي، في حين تظهر كيانات الفئة الثانية ذات الطابع العنيف والجهادي في وضع هامشي قليل العدد والتأثير بالمقارنة بها، ومع ذلك فهي تبدو أكثر تنسيقاً وتكاملاً على المستوى العالمي من الفئتين الأخريين. كذلك يبدو ذلك الوضع المفتت للفئتين الأكبر والأهم من الكيانات الإسلامية على الصعيد العالمي، متناقضاً مع ما تطرحه وتعتقده هي نفسها من دور "عالمي" للإسلام لا يبدو في واقع الممارسة العملي أنها تسعى إلى وضعه موضع التطبيق.(9/259)
من هنا، فلاشك أنه لا يكفي لهاتين الفئتين المهمتين من الكيانات الإسلامية أن تتواجد مؤسسات وكيانات دولية قليلة تعبر عنهما، مثل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أو مجمع الفقه الإسلامي الدولي، أو الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل، فهما تحتاجان لمزيد من تلك المؤسسات والكيانات ذات الطبيعة الدولية. وفي هذا السياق فلا شيء يمنع من تشكيل دولية إسلامية تضم الأحزاب والجماعات السياسية الإسلامية من مختلف بلدان العالم، وتسير على غرار الدوليات الأخرى القائمة بالفعل اليوم مثل دولية الأحزاب الاشتراكية وغيرها، الأمر الذي يضيف بدون شك قوة أكبر لكل تلك الأحزاب والجماعات في بلدانها، وقوة أخرى لها مجتمعة على الصعيد العالمي. كذلك فمن الممكن تطبيق نفس الفكرة على مستوى الجمعيات الأهلية الإسلامية بمختلف أنواعها الاجتماعية والثقافية والخيرية، بحيث تتشكل اتحادات دولية تضمها معاً، مما يوفر لها القدرة على التنسيق من ناحية، وإبراز الوجود الإسلامي العالمي على ذلك الصعيد من ناحية أخرى
==============(9/260)
(9/261)
الحركة النسويّة الغربيّة ومحاولات العولمة (1/2)
الحركة النسويّة الغربيّة في طور جديد
د. إبراهيم الناصر * 25/3/1426
04/05/2005
الحركة النسويّة: هي حركة غربيّة عُرفت سابقاً بحركة تحرير المرأة ثم انتقلت إلى عالمنا العربي و الإسلامي من خلال الغزو العسكري والثقافي فشقيت بها الأمة منذ عقود من الزمن، وما زالت هذه الأفكار تُستورد تباعاً، كلما حصل تطورات فكريّة لهذه الحركة في موطنها الأصلي.
وتعريفها باختصار عند أتباعها هي: الفلسفة الرافضة لربط الخبرة الإنسانية بخبرة الرجل، وإعطاء فلسفة وتصور عن الأشياء من خلال وجهة نظر المرأة.
والمتخصصون يفرقون بين النسويّة والنسائيّة، فالنسائيّة: هي الفعاليّات التي تقوم بها النساء دون اعتبار للبعد الفكري والفلسفي، وإنما بمجرد أنها فعاليات تقوم بها المرأة، بينما النسويّة تعبر عن مضمون فلسفي وفكري مقصود حسب التعريف السابق.
- موجبات وجود هذه الحركة في الغرب هي صورة المرأة في المصادر الثقافيّة الدينيّة الغربيّة أي في التراث اليهودي والمسيحي باعتبار أن الحركة هي نتاج المجتمع الغربي وثقافته، وليست نتاج المجتمعات الأخرى سواء كانت إسلاميّة أو غير إسلاميّة؛ فقد نشأت فيه وانبعثت منه، فمن أهم أسباب وجودها صورة المرأة في التراث اليهودي والمسيحي؛ فالمرأة في هذا التراث هي أصل الخطيئة؛ لأنها هي التي أغرت آدم بالخطيئة عندما أكلت من الشجرة كما هو منصوص عليه في كتبهم الدينية المحرّفة، فالرب عندما فعلت هذا الفعل حكم بسيادة الرجل عليها نهائياً، وقد ترتب على هذا الموقف - فيما بعد - أحكام وأوصاف أخرى للمرأة في هذا التراث، فهي شيطانة وملعونة، وليس لها روح تستحق من خلال هذه الروح أن تدخل الجنة بل الأغلب أنها تدخل النار، ولا توجد امرأة لديها فضيلة يمكن أن تدخلها إلى الجنة, هذا أحد موجبات وجود هذه الحركة وأسباب انتشار هذه الأفكار التي تجمّعت عليها هذه الحركة.
الموجب الآخر لهذه الحركة المتطرفة هو موقف العديد من المفكرين والفلاسفة الغربيين تجاه المرأة من (أفلاطون) الفيلسوف اليوناني المشهور الذي يصنف المرأة في عدد من كتبه ومحاوراته مع العبيد والأشرار ومع المخبولين والمرضى, إلى الفلاسفة المتأخرين مثل (ديكارت) من خلال فلسفته الثنائية التي تقوم على العقل والمادة: فيربط العقل بالذكر ويربط المادة بالمرأة، والفيلسوف (أوغست كنت) أحد أباء الفلسفة الغربية: يصف المرأة بأنها ضعيفة في كافة الاتجاهات بالذات في قدراتها العقلية, كذلك فيلسوف الثورة الفرنسية (جان جاك رسو) يقول: إن المرأة وُجدت من أجل الجنس، ومن أجل الإنجاب فقط إلى (فرويد) اليهودي رائد مدرسة التحليل النفسي وموقفه المعروف من المرأة الذي يتضمن أن المرأة جنس ناقص لا يمكن أن يصل إلى الرجل، أو أن تكون قريبة منه.
هذا الموقف التراثي الديني المنبعث من التحريف الموجود في العهدين القديم والجديد مع موقف هؤلاء المفكرين والفلاسفة هما الموجبان الرئيسان لهذه الحركة النسوية.
فدعاة النسوية يتخذون من هذه الأفكار منطلقاً لنشر الثقافة المضادة عن المرأة التي شكلت مفاهيم وقيم ومبادئ الحركة النسوية الغربية، ثم هم يهدفون أن تكون حركة نسوية عالمية.
ما هي النتائج التي عكسها الموقف التراثي الديني والموقف الفكري الفلسفي حسب رؤية النسويّين؟
قالوا: إن تهميش المرأة, وسيطرة الرجل عليها سبب نشوء جماعات ذكوريّة متطرفة في نظرتها إلى المرأة مسيطرة عليها لا تعطي لها فرصة إثبات وجودها مما تسبب في نشوء تمييز على أساس الجنس أي تمييز ضد المرأة، ولذلك أصبح الحل في نظر الحركة النسويّة الغربيّة: هو التخلي عن المنطلقات التي كوّنت هذه النظرة، وهي العقائد والأعراف الدينية والشرائع السماوية باعتبار أن هذا الوضع للمرأة هو إفراز لتلك النظرة في التراث الديني.
ثم برزت فكرة الصراع بين الرجل والمرأة من أجل أن تنتزع المرأة الحقوق التي سلبها الرجل منها، أي أن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صراع على الحقوق، لذا كان من أهم الحلول التي طرحتها الحركة النسويّة الغربيّة هو التخلي عن العقائد ورفض الدين؛ فالفكر النسوي قائم على أساس فكري علماني صرف، وهذه حقيقة لا بد أن ندركها؛ لأن هذا الفكر اللاديني تأثرت به معظم المجتمعات الإسلامية.
و في أثناء مسيرة هذا الفكر نشأ تياران داخل الفكر النسوي في المجتمعات الغربية:
التيار الأول:التيار النسوي الليبرالي المعروف بحركة تحرير المرأة، وهو الذي بدأ في العالم الغربي منذ قرن ونصف القرن، ويقوم على مبدأين أساسيين هما: المساواة و الحرية, مبدأ المساواة التماثلية بين الرجل والمرأة ومبدأ الحرية شبه المطلقة, وهذان المبدآن الرئيسان اللذان قامت على أساسهما الحداثة الغربية, كيف نشأ هذان المبدآن؟ هذه قصة فلسفية طويلة لا حاجة للوقوف عندها، لكن العبرة بآثارهما؛ فهما الأساسان اللذان قام عليهما الفكر النسوي كأحد منتجات الحضارة الغربية، وقد تم تكريس هذا الفكر على المراحل الآتية:(9/262)
1- قامت ثورتان في المجتمع الغربي ترفعان هذين المبدأين وهي الثورة الأمريكية عام 1779م والثورة الفرنسية عام 1789م، ومبادئ هاتين الثورتين ضمنتا في الدساتير التي قامت عليه الدولتان الأمريكية والفرنسية، ثم ترسّخت هذه المبادئ في الفكر الغربي المعاصر.
2- قام التنظيم الدولي المعاصر على هذا الأساس, فمبادئ الأمم المتحدة عندما نشأت عام 1945م ضمنت في وثيقتها رفض التمييز على أساس الجنس، وتحقيق المساواة التماثلية بالمفهوم الغربي الذي يقوم على فكرة الصراع بين الرجل والمرأة من أجل الحقوق التي يسيطر عليها الرجل.
3- صيغت الصكوك والاتفاقات الدولية على أساس هذه المبادئ، وأهم وثيقتين في هذا الصدد هما:
ا - الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(1948) وهو ينص على وجوب الالتزام بهذه المبادئ ويؤكد على عدم التمييز على أساس الجنس وعلى تحقيق المساواة التماثلية بين الرجل والمرأة وعلى حرية الزواج خاصة في المادة السابعة والمادة السادسة عشر.
ب - الوثيقة الثانية وهي الأهم والأخطر من بين هذه الاتفاقيات فيما يخص المرأة اتفاقية (سيداوcedaw) أو (اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة) عام ( 1979) . وهي اتفاقية مكونة من (30) مادة، وموادها الست عشرة الأولى تؤكد على عدم التمييز وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، وتشجيع الاختلاط بين الجنسين، والمساواة بين الزواج والطلاق.
4- مرحلة عولمة هذا الفكر من خلال الصكوك والوثائق الدولية، و ترويجها من خلال المؤتمرات الأممية التي تنعقد بين الفينة والأخرى في القضايا الاجتماعية مثل مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994م، ومؤتمر المرأة في بكين عام 1995م، وهذا الأخير هو أخطرها لأن وثيقته اعتبرت مرجعية في مصاف اتفاقية (سيداو) من حيث الأهمية والمتابعة مع أن وثائق المؤتمرات عبارة عن توصيات وليست اتفاقاً دولياً, لكن النشاط المحموم في متابعة تنفيذ مقررات هذه الوثيقة (وثيقة بكين) يدل على مرجعيتها، فانعقد عام 2000م في نيويورك اجتماع دولي سُمّي بِـ(بكين 5) لمتابعة تنفيذ ما في هذه الوثيقة، و في فبراير هذا العام 2005م انعقد في نيويورك مؤتمر (بكين10) لمتابعة تنفيذ توصيات نفس الوثيقة، وفي كل هذه الاجتماعات يُطلب من الدول تقديم تقارير توضح مدى التقدم في تنفيذ هذه التوصيات، وما هي العوائق التي تقف في وجه تنفيذ ما لم يُنفذ.
التيار الثاني: الذي أفرزه الفكر النسوي الغربي عبارة عن تيار نسوي متطرف يطالب بتغيير البنى الاجتماعية و الثقافية والعلمية واللغوية والتاريخية باعتبار أنها متحيزة للذكر، وفي داخل هذا التيار نشأت جيوب تدعو إلى دين جديد (الوثنيّة النسويّة).
(female paganism) أو دين المرأة الجديد الذي يقوم على أساس تأليه المرأة مقابل الأديان الذكورية التي فيها الإله ذكر، فلا بد للمرأة أن تكون آلهة في الدين الجديد.
أهم مبادئ هذا التيار: - التخلي عن الأفكار التي أخذت صفة القدسية، ويعنون بها نصوص الوحي والتراث الديني وهذا موقف يلتقون به مع التيار الأول فمحاربة الأديان قاسم مشترك بين التيارين.
- التخلي عن الأنوثة باعتبار أن الأنوثة هي سبب ضعف المرأة وسبب هيمنة الرجل عليها، فالأنوثة تقود إلى الزواج، والزواج يقود إلى الأمومة، والأمومة تقود إلى تكوين الأسرة، ففي كل هذه المراحل تكون المرأة الطرف الأضعف، والرجل يكون الطرف المهيمن.
كيف يمكن التخلي عن الأنوثة في نظرية هذا التيار؟
يتم ذلك عن طريق عدد من الإجراءات :
ا- تغيير النظام الأسري الذي يصنع نظاماً طبقياً ذكورياً يقهر المرأة, وهذا لا يتم إلا بتقويض مفهوم الأسرة المعروف وإحلال الأسرة الديمقراطية محلها.
ب- حق المرأة في الإجهاض بحرية حسب الطلب، وتسهيل ذلك.
ج- ممارسة الجنس المثلي (اللواط والسحاق) وهذا يعطي المرأة الحرية في أن تمارس حقها الجنسي بحرية، فلا تبقى بحاجة إلى ذكر في المسألة الجنسية.
د- صياغة نظرية نسويّة لتحقيق المساواة التماثلية بين الجنسين، ولا يتم ذلك إلا بخلخلة الثنائية السيكولوجيّة والاجتماعيّة التقليديّة بين الذكر والأنثى، وإيجاد بديل عنها، وهو مصطلح (الجندر) أو الجنوسة وهو النوع الاجتماعي بدلاً عن مصطلح الجنس.
ما هو مفهوم (الجندر)؟
يقوم هذا المفهوم على أساس تغيير الهوية البيولوجية والنفسية الكاملة للمرأة, و يقوم أيضاً على إزالة الحدود النفسية التي تفرق بين الجنسين على أساس بيلوجي أو نفسي أو عقلي, كذلك يزيل الهويّة الاجتماعيّة التي تحدد دوراً مختلفاً لكل واحد من الجنسين في الحياة وتمايزه عن الجنس الآخر.
سبب التمييز والاختلاف بين الرجل والمرأة حسب تفسير هذا التيار المتطرف للحركة النسوية: أن التنشئة الاجتماعية والأسرية تتم في مجتمع ذكوري، أي أن الأنظمة ذكوريّة والآلهة ذكوريّة حتى عقيدة التثليث المسيحية هي ذكورية فالأب والابن وروح القدس كلهم ذكور يرمز لهم بـ ( He ) ضمير المذكر وليس (She)ضمير المؤنث.(9/263)
هذه التنشئة الاجتماعية والأسرية والبيئية التي يتحكم فيها الذكر بالأنثى تحدّد دور المرأة في المجتمع فتنشئ تمييزاً جنسياً, فالأنثى اكتسبت خصائص الأنوثة بسبب التنشئة الاجتماعية و البيئية وبسبب المصطلحات اللغوية التي تميز بين الذكر والأنثى، التي أبرزتها كأنثى, بينما الذات الواحدة يمكن أن تكون مذكراً أو مؤنثاً حسب القواعد الاجتماعية السائدة, فلا توجد ذات مذكرة في جوهرها ولا ذات مؤنثة في جوهرها, هذا الاعتقاد هو الذي قاد إلى فكرة (الجندر) أي النوع الاجتماعي باعتبار أنه إذا بقي الوصف بالجنس (ذكر وأنثى) لا يمكن أن تتحقق المساواة مهما بُذل من محاولات لتحققها فلابد من إزالة صفة الأنوثة لتحقيق المساواة أو تخفيفها على الأقل؛ لتخفيف التمييز وبناء على ذلك لا يُقسم المجتمع على أساس الجنس ولا تقوم الحياة الاجتماعية، ولا تؤسس العلاقات الاجتماعية على أساس الذكر والأنثى، إنما يكون نوع إنساني (Gende r ), وبذا تتخلخل هذه الثنائيّة الاجتماعيّة المكونة من المذكر والمؤنث.
كيف يمكن إيجاد الأسرة الديمقراطيّة وتكريس مفهوم جديد للأسرة يتوافق مع مبادئ هذا التيار باعتبار أن الأسرة التقليديّة عائق في تحقيق المساواة الكاملة؟
يتم ذلك من خلال إجراءات تحقّق في النهاية خصائص الأسرة الديمقراطية، وأهم هذه الإجراءات:
- إلغاء مؤسسة الزواج لأنه معوق أساس في تحقيق المساواة، وهو في النهاية يوجد طبقية بين الزوجين، ويكرس السيادة للمذكر على المؤنث.
- تحرير المرأة من الحمل والإنجاب وإحلال الحمل، والإنجاب الصناعي لأن الحمل والإنجاب عمليتان استبداديّتان في حق المرأة؛ فلابد من تحرير المرأة منهما.
- إلغاء دور المرأة في تربية الأطفال، ومن القيام بالأعمال المنزلية وإقامة مراكز تربويّة لتربية الأطفال داخل المجتمع وليس بالبيت.
هذه المبادئ تأخذ عند بعض جيوب هذا التيار شكل إنشاء دين جديد وثني يسمونه دين المرأة الجديد أو الوثنيّة النسويّة ( (female paganism حسب مصطلحاتهم كما ذكرنا سابقاً, وقد اعتنق مبادئ الوثنيّة النسويّة الجديدة حسب آخر الإحصائيات المتاحة في السبعينيات الميلادية أكثر من مائتي ألف امرأة، ويتوقع أن تزداد هذه النسبة في مرحلة ما بعد الحداثة, لأن مبادئ هذا التيار تتوافق مع مبادئ وأفكار هذه المرحلة مثل التعددية النسبية, رفض المُطلقات والثوابت, ومن غرائب أفكار هذا التيار المتطرف (الوثنيّة النسويّة) أنهم يتهمون العلم الطبيعي المادي بأنه تسبب باغتراب الإنسان عن ذاته وعن الإيمان الروحي، ولذلك تضع هذه الحركة من أهدافها إعادة الروح للإنسان من خلال تأليه الطبيعة, الذي يساعد على إعادة العلاقة بين الطبيعة وبين الإنسان بعد أن دمرها الرجل المستبد المسيطر الذي صنع آلات الدمار فدمر بها الطبيعة؛ فلابد من إعادة العلاقة من جديد بين الطبيعة وبين الإنسان من خلال المرأة؛ لأن هناك علاقة مباشرة بين المرأة والطبيعة، فالطبيعة فيها الجمال والخصب وفيها النماء وتوحي بالسلام، وهكذا هي صفات المرأة، فالمرأة متوافقة مع الطبيعة، فإذا ألّهت الطبيعة ألّهت المرأة فتنشأ علاقة مقدسة بينهما، فالطبيعة هي وجه المرأة، والمرأة هي وجه الطبيعة. وبناء على هذه الأفكار نشأ مذهب داخل هذه الحركة في المجتمع الغربي يُسمّى المذهب النسوي البيئي ((Ecofeminism, يكون الربّ فيه مؤنثاً وأظهروا له تماثيل بشكل المرأة ذات الصدر العالي تُسمّى (الإلهة) (Godess) مؤنثة وليس (إله) ((God مذكر، واسترجعوا تاريخ الوثنيات القديمة التي ألّهت الطبيعة في مجتمعات آسيوية وأفريقية قديمة ليضعوه أحد مسوغات هذا الفكر الجديد بوجهه النسوي المتطرف في العالم الغربي.
ومجمل القول: إن هذا الفكر قائم على أساس تدمير الأديان؛ لأنها قامت على أساس ذكوري من الإله إلى الأنظمة السياسية، إلى المجتمع، إلى الرجل الذي يتحكم بالمجتمع الذكوري، ويستبد به، ويصنع هذه البيئة الذكوريّة على حساب المرأة، كما يقوم هذا الفكر على إزاحة البُنى التي قامت على أساس ذكوري، ونبذ القوالب الثابتة والأفكار الجامدة في إشارة إلى الأفكار المتأثرة بالفكر الديني.
ثم صياغة فكر نسوي يتمثل في الوثنيّة النسويّة أو دين المرأة الجديد يقوم على مفهوم (الجندر)، والأسرة الديمقراطية، ويقوم على عبادة الطبيعة من أجل التوازن البيئي، وربط ذلك بالمرأة لأنها تمثل الجمال والخير والخصب والنماء. والتركيز على المرأة كذات مستقلة عن الرجل وتستغني عنه حتى في الجنس بتشريع السحاق، وباختصار فإن "الفكر النسوي الغربي عبارة عن هجوم على طبيعة الإنسان الاجتماعي، و إلغاء الثنائية الإنسانيّة (الذكر والأنثى) التي يستند إليها العمران الإنساني" كما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري.(9/264)
هناك حركة محمومة في هذا الاتجاه في عدد من البلدان العربية والإسلامية كل مجتمع بحسبه، ولو أخذنا مثالين من المغرب ومصر؛ ففي المغرب حركة قوية جداًّ في الغارة على ما بقي من أحكام الشريعة الإسلامية في بعض جوانب الأحوال الشخصية تحت شعار إدماج المرأة في التنمية، وأما في مصر فهناك قوانين جديدة للأحوال الشخصية وجدل كبير حول مبادئ النسوية،والجمعيات النسوية الموجودة في مصر من كثرتها يسميها بعض الكتاب الدكاكين النسوية، وهي بالمئات وبعضها تمول تمويلاً أجنبياً للقيام بأنشطة مريبة هناك، فهناك أكثر من خمسين مؤسسة تمويل، أمريكية في الدرجة الأولى ثم كندية ثم أوروبية وأسترالية، ومنها مؤسسات تابعة للأمم المتحدة، وبعضها مؤسسات رسمية، أو شبه رسمية، ومنها مؤسسات طوعية أهلية ليست على علاقات بالحكومات.
ومن أبرز المشاريع التي مولتها بعض مؤسسات التمويل الغربية في مصر مشروعات لمتابعة تنفيذ مقررات وثيقة بكين في مصر، فهناك أكثر من مؤسسة تمويل دعمت أكثر من جمعية لنفس الهدف.
أما على مستوى التنظيم الرسمي فهناك عدد من المجالس واللجان المعنية بشؤون المرأة، مجالس ولجان عليا تخطيطية ولجان تنفيذية ، كذلك صدر عدد من التشريعات لتتوافق مع مقررات (سيداو: اتفاقية القضاء على كافة إشكال التمييز ضد المرأة) ولتتوافق مع مقررات بكين ومن أهمها موضوع الأحوال الشخصية، والجدل الذي دار في مجلس الشعب المصري لتغيير عدد من مواد قانون الأحوال الشخصية في مصر، وصدور عدد من التشريعات في هذا الاتجاه يحكي الحالة المصرية، كما أن التحفظات المصرية المعتادة على بعض الاتفاقيات الدولية في هذا الصدد بدأت تختفي أو زالت بحكم الواقع ، ولو انتقلنا إلى السعودية التي قاطعت رسمياً المؤتمرات هذه (مؤتمر السكان ومؤتمر بكين) وصدر بيانان من هيئة كبار العلماء مستنكراً أفكار وثيقتي المؤتمرين وحضورهما، لكن في المقابل وقعت المملكة على اتفاقية (سيداو) مع التحفظ المعتاد على ما يخالف الشريعة الإسلامية، لكن المشكلة أن القانون الدولي لا يقبل مثل هذه التحفظات لوجود اتفاقية دولية (اتفاقية جنيف) تنص على أن التحفظ على أي بند في أي اتفاقية دولية لا يكون مقبولاً إلا إذا كان يتعلق في جوهر هذه الاتفاقية، ومعلوم أن مخالفة اتفاقية ( سيداو) للشريعة الإسلامية هو في بنودها الموضوعية الجوهرية ، ومن الأشياء التي تُحمد لمجتمعنا في السعودية أن الجمعيات النسائية لم تتورط في هذه الفتنة المتمثلة في هذا الفكر النسوي المنحرف، كما هو الحال في كثير من الجمعيات النسوية في المجتمعات العربية والإسلامية. ومع الأسف أنك تجد أطروحات كثير من هذه الجمعيات في تلك المجتمعات تتوافق مع أطروحات جمعيات الحركة النسوية العالمية، ففي مؤتمر بكين كان من أسوأ الأطروحات ما جاء من بعض الجمعيات النسائية العربية، بينما كانت الجمعيات النصرانية الغربية خاصة الكاثوليكية أكثر محافظة من بعض الجمعيات العربية النسوية.
ومما يحمد للمجتمع السعودي أنه يمنع الاختلاط في أكثر المجالات ، والاختلاط بين الجنسين في فكر الحركة النسوية العالمية وفي اتفاقية ( سيداو) من مظاهر المساواة ومنعه يعتبر تمييزاً في حق المرأة، ولذا فإن هذه الاتفاقية تنص على ضرورة الاختلاط في التعليم وفي العمل، ولكن هذا المجتمع متمسك ومتماسك إلى حد كبير في هذه المسألة عدا بعض الخروقات في بعض مواقع التعليم والعمل مع أن الأنظمة والتعليمات تنص على منع الاختلاط، ونظام العمل والعمال المعمول به الآن ينص على عدم الاختلاط؛ فينبغي المحافظة على هذه القيمة الفاضلة في المجتمع حتى لا نِزل أو نِضل بتشرب هذه الفتن التي ابتليت بها مجتمعات إسلامية وعربية.
وأهم ما ينتقدونه على المجتمع السعودي في اللجان والمؤتمرات هو عدم تمكين المرأة - تمكين المرأة مصطلح نسوي يعني أن تمكن في المجتمع كالرجل تماماً- في تولي الوظائف القيادية والمشاركة في اتخاذ القرار وتولي القضاء، وقد تولت امرأة القضاء في مجلس الدولة في مصر هذه السنة لأول مرة، مع أن الفتوى الشرعية في مصر عدم جواز تولي المرأة للقضاء.
أيضاً ما ينتقدونه على المجتمع السعودي تمييز الرجل عن المرأة في الميراث، وكذلك الشهادة أمام المحاكم، وموقف هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المرأة، والتمييز ضد المرأة بمنع الاختلاط، ومنعها من قيادة السيارة، وعدم حرية التنقل والسفر دون محرم وخاصة السفر الخارجي، وعدم المشاركة في الوفود الرسمية الخارجية.. هذه أهم الانتقادات التي توجه إلى المملكة العربية السعودية، ومعظم هذه القضايا ذوات أبعاد شرعية واجتماعية، وهذه الاتفاقية وتوصيات المؤتمرات تطالب تطبيق بنودها دون اعتبار للأحكام الشرعية والمواقف الثقافية.
كيف نواجه ضغوط الموقف الخارجي:(9/265)
على المستوى الخارجي:المشاركة الفعالة في هذه اللجان والمؤتمرات ولا أرى أن المقام يتسع للمقاطعة؛ لأن الضعيف إذا قاطع لا يؤبه به - ونحن ضعفاء مادياً وسياسياً في هذه المرحلة - وإنما إذا شارك أثبت حضوره وقرر فكره ونشر مبادئه بخلاف القوي إذا قاطع فسيكون له أثر، فالولايات المتحدة الأمريكية عندما قاطعت اليونسكو ضعفت اليونسكو بسبب أن الذي قاطع دولة قوية كالولايات المتحدة الأمريكية، لكن إذا أتت بعض الدول الإسلامية وقاطعت مؤتمرات عالمية فإن هذا لا يؤثر كثيراً. فمن الحكمة -والله أعلم- أن نشارك ونطرح وجهة النظر الشرعية والرؤية الإسلامية بقوة ومن دون انهزامية حتى نزاحمهم ونكاثرهم ونثبت في وثائق هذه المؤتمرات وجهة النظر الإسلامية، ونمنع تفرد وجهة نظر النسوية العالمية التي تتبناها السياسة الغربية والأمم المتحدة، والحذر من أن نظهر وكأننا نريد أن نتوافق مع مواد اتفاقية (سيداو) أو مقررات بكين؛ لأننا لا نستطيع أن نستبدل مرجعيتنا الشرعية والثقافية بهذه المقررات، فالله سبحانه وتعالى يقول (فماذا بعد الحق إلا الضلال)، ولأن مجتمعنا سيرفض ذلك تماماً فهذا الخيار غير ممكن، ولذا سنستمر في جدل مع لجان المتابعة ومجاملات لهم توصلنا إلى حال مرتبك، لكن إذا أظهرنا ديننا ومبادئنا وأعلنا ثوابتنا وأن قيم مجتمعنا نشأت على أساس مبادئ وأحكام الشريعة التي قامت عليها شرعية الدولة ونشأ عليها المجتمع؛ فيمكن أن ننفذ بهذه الحجة التي قد لا يقتنعون بها في البداية لكن بعد الإصرار والثبات والعرض القوي الحكيم، ولذا يكون من المناسب أن يتضمن الموقف نقد مفهوم الحرية الغربي ومفهوم المساواة القائم على فكرة التماثل بين الجنسين وظيفياً، ونبين موقف الإسلام من هذه القضايا بحسن عرض وقوة منطق، فنتحدث عن العدل في مقابل المساواة، وأن المساواة ليست دائما تحقق العدل؛ بل تكون أحيانا ظلماً وهذا ما يحصل بالنسبة للمرأة الغربية، فهم يظنون أنهم يحققون لها المساواة وهذا ليس صحيحا لأن التسوية بين المختلفين تكون ظلماً في كثير من الأحيان وفي حالتنا هذه تكون المرأة هي المظلومة.
على المستوى الداخلي:هناك أطروحات ليبرالية داخلية تريدنا أن نبدأ بدرجات السلم الأولى للهبوط من خلال التوافق مع أجندة المؤتمرات أو بعضها مستثمرين ظروف المرحلة. ومواجهة هذه الأطروحات يكون بعمل إيجابي يقوم على حل مشكلات المرأة بالتزامن مع تطوير وتنمية أدائها لوظائفها ودورها الاجتماعي ، ويكون ذلك بالتالي:
أولاً : من خلال تحرير الموقف الشرعي من حقوق المرأة وواجباتها بوضوح، وبيان أن مقتضى كون الشريعة مرجعاً لنا هو قبول هذا الموقف والانقياد له في المجتمع المسلم.
ثانياً: من خلال بيان ما يواجه المرأة من مشكلات؛ فالمرأة تواجه مشكلات كثيرة في أي مجتمع من المجتمعات مثلها مثل غيرها من أفراد المجتمع، فالرجل له مشكلاته، والأطفال لهم مشكلاتهم ، والمعاقون لهم مشكلاتهم وهكذا.. ، ونظراً لأن المرأة لها اعتبار خاص وقضيتها مطروحة الآن وهي مدخل للفتنة في مجتمعنا كما هي فتنة للحضارة الغربية المعاصرة؛ فلا بد أن نواجه هذه القضية بما يكافئها علمياً وعملياً، ومنها أن ننظر في مشكلات المرأة التي تواجهها في المجتمع بنظر شرعي واقعي.
ما هي مشكلات المرأة مع الرجل؟ ما هي مشكلات المرأة في المجتمع؟ ما هي مشكلات المرأة مع الأنظمة؟ ما هي مشكلة المرأة مع المرأة؟ هناك مشكلات تواجهها المرأة مع المرأة يغفل عنها كثير من المهتمين بشأن المرأة ، المرأة كثيراً ما تظلم المرأة، كم تظلم الضرة ضرتها! وكم تظلم زوجة الابن أم الزوج والعكس! كم تظلم العميدة عضوات التدريس! كم تظلم المدرسة الطالبات! وكم تظلم المديرة المدرسات والموظفات! وهكذا...
ثالثاً: اقتراح البرامج العملية لحل هذه المشكلات بأن يبادر أهل العلم والمثقفون والدعاة والمصلحون وأصحاب الغيرة بالتصدي لهذه القضية، ولا تترك للناعقين والمتفيهقين ولمدعي العلم والثقافة ممن في قلوبهم مرض، المستنسخين لفصول من الثقافة النسوية الغربية، مستقوين بفكر العولمة الذي يدعم هذا الاتجاه، ومستغلين ظروف البلاد بعد أحداث سبتمبر عام 2001م.
من المبادرات الجيدة لبعض أهل العلم والدعوة صدور وثيقة تحمل تصوراً شرعياً لقضايا المرأة، سميت بـ (وثيقة حقوق المرأة وواجباتها في الإسلام) وقعها أكثر من ثلاث مئة عالم وداعية ومفكر ما بين رجل وامرأة، وهذه الوثيقة قسمت إلى أقسام:
أولاً: منطلقات أساسية ذكرت الوثيقة عدداً من المنطلقات التي يجب أن يبنى عليها أي مشروع للمرأة سواء في بيان الموقف الشرعي تجاه المرأة أو عند مناقشة المشكلات أو في مرحلة طرح البرامج والحلول، وأذكر فقرتين كنموذج لما ورد في باب المنطلقات من هذه الوثيقة المتميزة:(9/266)
الفقرة الأولى: تقرر الوثيقة أن دين الإسلام هو دين العدل، ومقتضى العدل التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين، ويخطئ على الإسلام من يطلق أنه دين المساواة دون قيد، حيث إن المساواة تقتضي أحياناً التسوية بين المختلفين وهذه حقيقة الظلم، ومن أراد بالمساواة العدل؛ فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ، ولم يأت حرف واحد من القرآن يأمر بالمساواة بإطلاق، وإنما جاء الأمر بالعدل قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) فأحكام الشريعة قائمة على أساس العدل؛ فتسوي حين تكون المساواة هي العدل، وتفرّق حين يكون التفريق هو العدل، قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)، أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام؛ لذا فإن الإسلام يقيم الحياة البشرية والعلائق الإنسانية على العدل كحد أدنى، فالعدل مطلوب من كل أحد مع كل أحد في كل حال، قال تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
الفقرة الثانية في هذا الباب: في مجال العلائق بين البشر. تعتبر الجاهلية الغربية المعاصرة الفردية قيمة أساسية، والنتيجة الطبيعية والمنطقية لذلك هو التسليم بأن الأصل في العلاقات بين البشر تقوم على الصراع والتغالب لا على التعاون والتعاضد، وعلى الأنانية والأثرة لا على البذل والإيثار، وهذه ثمرة الانحراف عن منهج الله، فصراع الحقوق السائد عالمياً بين الرجل والمرأة هو نتاج طبيعي للموروث التاريخي والثقافي الغربي بجذوره الميثولوجية (الدينية) الذي تقبل أن فكرة العداوة بين الجنسين أزلية وأن المرأة هي سبب الخطيئة الأولى، وهذا الموروث ربما التقى مع بعض الثقافات الأخرى، ولكنه بالتأكيد لا ينتمي إلى شريعة الإسلام ولا إلى ثقافة المسلمين؛ فالحقوق عند المسلمين لم يقرها الرجل ولا المرأة إنما قررها الله اللطيف الخبير.
وفي باب آخر من هذه الوثيقة: تحت عنوان "أصول شرعية في حقوق المرأة وواجباتها" تكلمت الوثيقة عن عدد من النقاط كان منها: التأكيد على موضوع الأسرة وعلى موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة وأنها علاقة تكاملية وليست تماثلية، وقالت في بند من بنودها: "حفظت الشريعة الإسلامية -المراعية للعدل- أن للمرأة حقوقاً في المجتمع تفوق في الأهمية الحقوق التي تضمنتها وثيقة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة القائمة على أساس المساواة التماثلية وتغفل الجاهلية المعاصرة هذه الحقوق ولا تبالي بانتهاكها، مثل: حق المرأة في الزواج حسب الشريعة الإسلامية وأيضاً حقها في الأمومة وحقها في أن يكون لها بيت تكون ربته ويعتبر مملكتها الصغيرة، حيث يتيح لها الفرصة الكاملة في ممارسة وظائفها الطبيعية الملائمة لفطرتها، ولذا فإن أي قانون أو مجتمع يحد من فرص المرأة في الزواج يعتبر منتهكاً لحقوقها ظالماً لها.
ومعلومٌ أن الفكر النسوي ينتهك هذه الحقوق (حق الزواج وحق الأمومة)، فاتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة تدعو الدولة الموقعة أن تدعم تعليم وعمل المرأة ولو على حساب الزواج، وتحارب الزواج المبكر، هذا فضلاً عن موقف التيار النسوي المتطرف المطالب بإلغاء قدسية الزواج!.
وتكلمت الوثيقة أيضاً في باب آخر تحت عنوان رؤى الوثيقة عن نقاط عدة، منها: أن الإسلام بعد تقرير المساواة بين الرجل والمرأة في معنى الإنسانية والكرامة البشرية والحقوق التي تتصل مباشرة بالكيان البشري المشترك والمساواة في عموم الدين و التشريع، يفرق بين الرجل والمرأة في بعض الحقوق والواجبات تبعاً للاختلاف الطبيعي الحاصل بينهما في المهام والأهداف والاختلاف في الطبائع التي جبل عليها كل منهما ليؤدي بها وظيفته الأساسية، وهنا تحدث الضجة الكبرى التي تثيرها المؤتمرات الكبرى الخاصة بالمرأة وروادها، و يثيرها المنتسبون للحركة النسوية العالمية ومقلدوها في العالم الإسلامي المروجون لفكرة المساواة التماثلية بين الجنسين.
إن المساواة في معنى الإنسانية ومقتضياتها أمر طبعي ومطلب عادل؛ فالمرأة والرجل هما شقا الإنسانية، والإسلام قرر ذلك بصورة قطعية لا لبس فيها، أما المساواة في وظائف الحياة وطرائقها فكيف يمكن تنفيذها؟ هل في وسع هذه المؤتمرات والحركات النسوية ومنتسبيها من الرجال والنساء بقراراتهم واجتماعاتهم أن يبدلوا طبائع الأشياء؟ وأن يغيروا طبيعة الفطرة البشرية؟
إن مزية الإسلام الكبرى أنه دين ونظام واقعي يحكم في مسألة الرجل والمرأة على طريقته الواقعية المدركة لفطرة البشر؛ فيسوي بينهما حين تكون التسوية هي منطق الفطرة الصحيحة، ويفرق بينهما حين يكون التفريق هو منطق الفطرة الصحيحة، قال تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).(9/267)
وفي فقرة أخرى عللت الوثيقة أسباب التمايز بين الرجل والمرأة في الميراث والشهادة والدية والعمل والتعليم والحجاب وغير ذلك من الرؤى التي تخص المرأة، وفي النهاية تذكر الوثيقة مطالب وتوصيات موجهة للحكام وللمجتمع وللمرأة وأيضاً للناشطين في مجال الحقوق من المسلمين ومن غير المسلمين وتختم الوثيقة مطالبها بالاهتمام بالبرامج العملية التي تقوم على أساسين:
الأول: الثوابت الشرعية من عقائد وأحكام ومقاصد.
والثاني: الملائمة الواقعية لمستجدات الحياة.
ثم تبشر الوثيقة بأن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً في العالم الغربي وأن أكثر من يسلم في الغرب من النساء... هذه أهم أفكار الوثيقة.
وأرجو أن يتبعها وثيقة أخرى تتكلم عن مشكلات المرأة في المجتمع، ثم ثالثة تطرح البرامج والحلول في المجتمع لتكون مبادرة من أهل العلم والمثقفين وأهل الغيرة والمصلحين لحماية مجتمعهم من هذه الفتنة العاصفة المتمثلة في فساد الفكر الوافد الذي تمثله الحركة النسوية العالمية وإسقاطاتها في المجتمع، وللعناية بالمرأة تربيةً وتنميةً لتقوم بدور فاعل برؤية شرعية واثقة.
============(9/268)
(9/269)
عولمة الوباء والتلوّث أيضاً
إبراهيم غرايبة 2/2/1426
12/03/2005
تظهر دراسات وتقارير دوليّة كثيرة جداً أن العولمة الرأسماليّة في حالتها القائمة والسائدة تهدّد على نحو خطير الدول والمجتمعات والبيئة والكون، ويصل حجم هذا التهديد إلى الكارثة والخطر، كما تكشف شبكات جماعات المناهضة للعولمة الرأسماليّة عن معلومات مذهلة حول ما تلحقه الأنشطة التابعة للعولمة الرأسماليّة من تدمير فظيع يلحق باقتصادات الدول والمجتمعات، وثقافتها ونمط حياتها ومواردها، وأنظمتها الاجتماعيّة والسياسية، والصحة والبيئة والهواء والأنهار والأرض والغابات والصحارى والبحار والمحيطات والجزر وجوف الأرض والموارد العالميّة.
فقد رافق العولمة الاقتصاديّة والإعلاميّة موجات من الأوبئة والمشكلات البيئيّة تسربت وانتشرت في العالم بنفس الآليات والأدوات التي فرضت لتسهيل مرور السلع والأموال، فقد كان للشركات الكبرى التي أُطلق لها العنان في أرجاء العالم دور كبير في تدمير البيئة في العالم ومن أمثلة ذلك: تدمير طبقة الأوزون من خلال إنتاج مبيد "بروميد الميثيل" الذي يساهم في تدمير طبقة الأوزون، ولا تزال هذه الشركات تقف حجرة عثرة أمام تطبيق بنود بروتوكول مونتريال الخاصة بمنع إنتاج هذه المواد.
وتساهم منتجات أخرى أيضا للشركات الكبرى مثل المواد الكيماوية شديدة الخطورة، والتي لا تتحلّل طبيعياً في البيئة، و تؤدي إلى تسمّم الكائنات الحيّة، والمخلفات المشعة، وتقوم كثير من الأنشطة التعدينيّة والصناعيّة على إزالة الغابات.
وتأثرت الزراعة كغيرها من النشاطات الأخرى، تأثرت بسياسات الرأسمالية التجارية والسوق المفتوح، فأصبح قطاع الزراعة مُطالباً بإنتاج مواد غذائية بتكاليف منخفضة، وأهم مظاهر هذه العولمة في الزراعة ظهور الهندسة الوراثيّة.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الهندسة الوراثيّة ستساعد في تقليل تكلفة الغذاء وإتاحته للفقراء، ومقاومة شحّ المياه والتصحّر في الزراعة، ولكنها أخضعت الدول الفقيرة والنامية لتبعيّة في إنتاج البذور، وقضت في الوقت نفسه على البذور التقليديّة التي كانت مستخدمة، حتى إن البعض سمّى هذه الحالة بِ" الاستعمار الجينيّ".
وعندما طرحت الشركات الأوروبية والأمريكية طعامها المعدل المعالج وراثياً قوبلت الفكرة باستياء كبير وهجوم وصل في بريطانيا لحد الهجوم على مزارع الطعام المعالج وإزالة النباتات من الأرض، ونفس المصير لاقته الشركات الأمريكية التي دفعت ملايين الدولارات لتطوير تلك الأبحاث، ورفض المستهلكون تناول ذلك الطعام، وأعلن الأطباء عن احتمالات إصابة الإنسان بالخلل الجيني، وألزمت إدارة الطعام و الدواء الأمريكية الشركات والمزارعين بعدة إجراءات توضيحيّة قبل بيع ذلك الطعام.
وعندما أرادت تلك الشركات تصديره رفضته أوروبا طبعاً، وكذلك آسيا، فكانت السوق المناسبة والملائمة لهذا النوع من الطعام هو أفريقيا الجائعة، ولكن أفريقيا لا تملك ثمناً لأي طعام، فلماذا لا يُقدّم لهم الطعام كمعونات إنسانية؟ وبذلك تضرب الشركات عصفورين بحجر واحد، فتطعم الجوعى وتختبر طعامها اختباراً مباشراً، و عن طريق غطاء شرعي هو الأمم المتحدة التي تبحث عن أي جهة تقدم عوناً لمئات الآلاف من الأفارقة الذي يعانون من المجاعة و أمراض سوء التغذية.
قدمت الولايات المتحدة الأمريكية للأمم المتحدة كميات من الذرة ومنتجاتها في شكل معونات بقيمة (111) مليون دولار أمريكي، وكان 30% منها عبارة عن ذرة مهجنة وراثياً، ووزّعتها الهيئة الدولية بالفعل على الجوعى في السودان والكونغو وإثيوبيا والصومال وعدة دول أفريقية أخرى، ولم يكن لدى برنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة التابع للأمم المتحدة علم بها، بل لم يناقش أحد الأمر.
وبنظرة على الوضع الصحي في العالم في زمن العولمة نكتشف الكثير من الحقائق المؤلمة:
حوالي (11) مليون طفل دون السن الخامسة يلقون حتفهم في البلدان النامية.
أكثر من 40 % من العبء العالمي الناتج عن الأمراض الذي يعود إلى مخاطر البيئة يقع عل كاهل الأطفال دون الخامسة.
يُتوّفى ما يتراوح بين (5-6) ملايين شخص في البلدان النامية سنوياً بسبب الأمراض المنقولة عن طريق المياه و تلّوث الهواء.
تساهم الأحوال البيئيّة المتدنيّة بنسبة 25 % من كافة الأمراض التي يمكن الوقاية منها في العالم اليوم.
أُصيب أكثر من (60) مليون شخص بفيروس نقص المناعة البشرية الإيدز.
يُصاب (8.8) مليون شخص بالسلّ سنوياً و يدفع (1.7) مليون شخص حياتهم ثمناً له.
خسائر الملاريا في أفريقيا تتجاوز (13) مليار دولار أمريكي.
وانتشرت أيضا الأمراض التي تصيب الحيوانات ولها تماسّ مباشر مع البشر.(9/270)
وتتسبب سبع دول صناعية في إطلاق أكثر من 70% من غاز ثاني أكسيد الكربون في العالم، والولايات المتحدة التي تشكل أقل من 4% من سكان العالم تطلق أكثر من 25% من الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، وهذا يحتاج إلى جهد عالمي لخفض إطلاق الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وكان بروتوكول (كيوتو) الذي رفضت الولايات المتحدة أن توقع عليه التزاماً دولياً عالمياً لمعالجة سخونة الأرض.
واستخدمت التقنية والإرادة السياسية لتحويل طبيعة الأراضي والشعوب في الإنتاج، كما حدث في الصين على سبيل المثال ودول أخرى كثيرة، فتوطّن جماعات الرّحل قسراً، أو تزرع الصحراء بمحاصيل لا تناسبها، أو يُعاد التنظيم الاجتماعي والسياسي لشعوب ومجتمعات درجت على إدارة نفسها بطريقة مختلفة، وفقد الناس تقريباً المعرفة بنظم الزراعة والإنتاج التقليدية، واستخدمت التقنية الحديثة بطريقة غير مناسبة مثل الإسراف في استخدام الأسمدة والمواد الكيماوية مما أدّى إلى مخاطر صحيّة وبيئيّة مكلفة، واعتبر الملايين الذين شُرّدوا أو فقدوا مواطنهم ومصادر رزقهم، بسبب السدود والمشروعات المختلفة مجرد أفراد تضاربت اهتماماتهم مع الاحتياجات التي حددتها الدولة للمجتمع القومي.
وفي جزيرة غينيا الجديدة، حيث يوجد أكبر تنوّع ثقافي وبيولوجي في العالم أدّت مشروعات استخراج النفط والمعادن إلى حرمان الناس من أراضيهم دون تعويض، وجرت صراعات مسلحة مدمرة، وحُوّل معظم السكان إلى حالة بؤس اجتماعي واقتصادي، ولم يستفيدوا شيئاً من مشروعات الذهب والنحاس والنفط، وتلوّثت الأنهار بالسموم والكيماويات، وكذلك السهول الزراعية والغابات، وقُضِي على الأسماك والحياة البريّة من حيوانات ونباتات مختلفة.
وقد دُفعت تعويضات نقدية للسكان أدّت إلى نتائج معقّدة في حياتهم؛ فقد تحوّلت إلى نمط استهلاكي، وازدادت المهور والهجرة إلى المدن واستهلاك الكحول.. وتجاهلت الشركة التي تدير المناجم النتائج البيئية المدمرة لمشروعاتها، واعتبرت أن التعويض النقدي يكفي لإخراجها من المسؤولية.
وأظهرت تقارير منظمة الأغذية والزراعة الدوليّة أن العولمة والتحرّر الاقتصادي تزيد من التصحّر والتلوّث، وبخاصة من الأنشطة القائمة على قطع الأشجار، كما يحدث على نطاق واسع في المناطق الاستوائية، والاعتداء على الأراضي الزراعيّة، ويمكن باتّباع سياسات عادلة أن تضبط عمليات تصنيع وتجارة الأخشاب دون الإضرار بالاقتصادات القائمة عليها.
وهذا غيض من فيض، فمتابعة الكتب والتقارير والدراسات حول أخطار العولمة الرأسمالية والاقتصادية تكاد تفوق قدرة الباحث المتخصص والمتفرغ.
==============(9/271)
(9/272)
في"العولمة": ملاحظات ضروريّة
أ. د. عماد الدين خليل 18/12/1425
29/01/2005
ابتداءً يجب التأكيد على أن (العولمة) بصفة عامة، تنطوي على طبقتين: التقنيات والخلفيّات الرُّؤيويّة أو الفكريّة.
فأما التقنيات فهي معطيات محايدة لا تشكّل أيّ تقاطع مع قيم التصوّر الإسلامي وثوابته العقديّة أو التشريعيّة أو السلوكيّة، إلاّ أن توظيفها في حمل الخلفيات الرّؤيويّة والفكريّة، وإرغام الآخر على قبولها والتسليم بها والانخراط في نسيجها هو الذي يتقاطع، وبكل
تأكيد...
ذلك أن العولمة بوضعها الراهن تستهدف اختراق العالم وفرض النموذج الغربي والمصلحة الغربية، المتمركزيْن في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانسحاب المركزية الأوربية إلى الساحة الأمريكية.
أما النموذج الغربي الذي تُسخّر له العولمة الثقافية والسياسية، فهو نموذج ماديّ علمانيّ يتقاطع ـ ابتداء ـ مع المنظور الإسلامي للكون والإنسان والحياة، ولوظيفة الإنسان في الأرض. وأما المصلحة الغربية التي تُسخّر لها العولمة الاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية والسياسية، فهي تستهدف تفكيك الدول، وابتزاز الأمم والشعوب، وتسمين "العجل الذهبي" الأمريكي.
ها هنا في السياقين الثقافي والاقتصادي، بآلياته العسكرية والسياسية، يكون التقاطع، ليس فقط مع العقيدة الإسلامية، وإنما مع عالم الإسلام الذي يتعرض الآن، لواحدة من أبشع عمليات التفكيك والتدمير والابتزاز في تاريخ البشرية.
إن العولمة، لو أتيح لها أن تتحقق في عالم تحكمه قطبيات شتى، لكان الحال غير الحال، ولربما استطاع عالم الإسلام أن يجد ممّرات ممكنة للتوظيف والإفادة من ظاهرة اختزال الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة، يُمارس فيها التناقل السريع المدهش على كل المستويات.
ولكن الذي يحدث هو أن النظام العالمي الجديد ذا القطبية الأُحاديّة، يقود بالضرورة إلى تحويل الظاهرة إلى أداة ناجزة لخدمة القطب الأُحادي الأمريكي، وجعل ضِرع العالم يدرّ في فمه؛ لكي يزيده غنى وتحكّماً وجبروتاً، بينما العالم الثالث -وليس عالم الإسلام وحده- يئن من الجوع والتخلّف والابتزاز، ويخضع لواحدة من أبشع عمليات إفراغ الأمم والشعوب والدول من حيثيّاتها وخصوصيّاتها، بل من الحدود الدنيا لمصالحها كذلك!
ومخطئ من يقول: "بامكان قبول الإسلام للعولمة وتسليمه بمقولاتها"، ذلك أنها -بوضعها الراهن- الذي تُوَظّف فيه لرؤية ومصلحة النظام الدولي الجديد القائم على القطبية الأُحاديّة، والذي تتحكم فيه - عبر المَدَيات الزمنية الراهنة على الأقل - الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه العولمة تريد أن تختزل العالم، تضغطه، تسحبه، بعد إعادة صياغته، ليكون ساحة طيّعة لمطالب الرؤية الثقافية والمصلحية للولايات المتحدة الأمريكية، وهذا واضح تماماً فيما يحدث على الأرض (في الميدان كما يقولون)، فلا يتطلب جدلاً أو نقاشاً لتأكيد حضوره.
أما الإسلام فهو نظام عالمي .. شريعة أُمميّة .. تمضي لخطابها التحريري إلى الإنسان في العالم كلّه: تحرّره من كل صيغ الاستلاب والصنميّة، وتمنحه حرية الاعتقاد دونما قسر أو إكراه .. هذا إلى أنها لا تصادر خصوصيات الشعوب وثقافاتها، بل تمنحها الفرصة للتحقق والعطاء.
إن حضارة الإسلام هي حضارة ( الوحدة والتنوع)، وقد قدّم التاريخ الإسلامي في نسيج فعالياته الحضارية نموذجاً حيوياً على التناغم بين هذين القطبين اللذين ارتطما وتناقضا في العديد من الحضارات الأخرى، ووجدا في الإطار الإسلامي فرصتهما للتلاؤم والانسجام.
فالحضارة الإسلاميّة هي - من ناحية - حضارة الوحدة التي تنبثق عن قاسم مشترك أعظم من الأسس والثوابت والخطوط العريضة بغض النظر عن موقع الفعالية في الزمن والمكان، وعن نمطها وتخّصصها. وهي - من ناحية أخرى- حضارة الوحدات المتنوعة بين بيئة ثقافية وأخرى في إطار عالم الإسلام نفسه، بحكم التراكمات التاريخية التي تنتج خصوصيات معينة لكل بيئة تجعلها تتغاير وتتنوع فيما بينها في حشود من الممارسات والمفردات.
إنها جدليّة التوافق بين الخاص والعام، تلك التي أكّدها القرآن الكريم في الآية ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ...)، وهو يتحدث عما يمكن تسميته بالأمميّة الإسلاميّة التي تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم، ولكنها تسعى لأن تجمعها في الوقت نفسه على صعيد الإنسانية. وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الشيوعية التي سعت ـ ابتداء ـ وبحكم قوانين التنظير الصارمة، إلى إلغاء التنوع ومصادرته، وإلى تحقيق وحدة قسريّة، ما لبِثت أنْ تأكّد زَيْفُها وعدم القدرة على تنفيذها تاريخياً بمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي ( المنحلّ ) حتى قبل حركة(9/273)
(البريسترويكا)، والرفض المتصاعد الذي جُوبهت به الأمميّة الشيوعيّة من قبل حشود الأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة، ومقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وأهدافها المشتركة، يتبين مدى مصداقية المعالجة الإسلامية لهذه الثنائية.
إن ما فعله الاتحاد السوفياتي في فرض أُمَميّته على الشعوب التي خضعت لمقولاته الماركسية، تفعله أمريكا اليوم، مع تغاير زاوية الرؤية .. ولكن المغزى هو نفسه .. والسؤال هو: هل بمقدور هذه الحالة (الاستثنائية) القائمة على الاحتواء القسريّ أن تدوم؟
على أية حال، فإن البنيان التحتيّ للعولمة الراهنة يقوم على الماديّة، ورفْض الغيب، والتنكر لمعطيات الوحي، وإقامة جدار عازل بين السماء والأرض، بينما في الإسلام يلتقي الوحي بالوجود، والله سبحانه بالإنسان، والروحي بالمادي، ويصير التعامل مع الكتلة، وتنميتها وتطويرها، مُهِماً وضرورياً كالصلاة والصيام.
إن عالمية الإسلام، كما يرى العديد من مفكري الغرب أنفسهم (مارسيل بوازار
وروم لاندو ورجاء جاردوي وموريس بوكاي وغيرهم) هي الجواب الوحيد لإعادة التوازن إلى الإنسان والعالم .. وربما إعادة بناء العولمة نفسها، بما يجعلها في خدمة البشرية على امتدادها، وليس حكراً على الإمبراطورية الأمريكية المتجبّرة وحدها.
إن المشكلة " كونيّة " كما يقول جارودي في (وعود الإسلام)، ولابدّ للجواب أن يكون كونياً.
أما تقنّيات العولمة فأمرها يختلف، وبخاصة في مجالي المعلوماتيّة والإعلاميّة، حيث الانفجار الأسطوري في آليات التواصل السريع وتناقل المعلومات، ورفع الخطاب الإعلامي إلى ملايين الناس عبر اللحظة الواحدة.
ونحن نشهد دقيقة بدقيقة، من خلال الزائر اليومي المتربّع في دورنا ومؤسساتنا ودوائرنا ومنتدياتنا ومقاهينا، ما يمكن للفضائيات والإنترنت أن يفعلاه.
إنهما يفعلان الكثير، ويقدمان الكثير، وهذا ـ بحدّ ذاته ـ يمثل تحدّياً لكلّ المعنيّين بالهمّ الإسلامي: وهو أن يُحسنوا التوظيف، وأن يبذلوا قُصارى جهدهم لتغطية ساعات
أكثر من الزمن التلفازي، لكي يطردوا بعملتهم الجيدة، العملات الرديئة التي تغطي معظم القنوات، والتي تنفث سرطانها المسموم، على كل المستويات وفي كل دار، وتدمّر بدقائق معدودات، ما يمكن أن يبنيه الجهد التربويّ في أشهر وسنوات.
نعم .. مرة أخرى .. فليس أمامنا خيار، وإن لم نُحسن التوظيف، خسرنا ما تبقّى من قيمنا وثوابتنا .. وبالعكس، فإن إدارة الصراع الثقافي بشكل جيد، وفي المساحة الواسعة المتاحة لنا- يمكن أن يحقّق الكثير.
=============(9/274)
(9/275)
الفكر الإسلامي في زمن العولمة 1/2
معالم الصراع الفكري في العالم العربي
محمد سليمان أبورمان 4/9/1424
29/10/2003
يعد سؤال الهوية من الأسئلة المحورية في الفكر العربي المعاصر، وقد شغل هذا السؤال كثيرًا من مداولات وسجالات المفكرين العرب، وأدخلهم إلى ميادين الصراع الفكري، وقسّمهم إلى فئات متنازعة حول الأصول الفكرية والمعرفية التي ينبغي أن تحكم مسيرة النهضة والتنمية، والخروج من كهف التخلف ومن ظلمات التيه.
وأخذ الصراع الفكري أشكالاً متعددة ، ومر بمراحل مختلفة في العالم العربي في فترة العصور الحديثة ، لكنه وصل اليوم مع العولمة إلى مرحلة متقدمة جدًا تمتاز بوجود أمريكي مهيمن على العالم، وحداثة غربية تنتقل وتسود بشكل كبير - مع تطور ثورة الانفوميديا -.
و يجد الفكر الإسلامي اليوم نفسه أمام تحديات كبيرة في عدة مستويات: مستوى نقد الحداثة الغربية، ومستوى مواجهة ظواهر التشدد والانغلاق والجمود الفكري في الداخل، ومستوى صوغ استراتيجية فكرية تدفع بالإنسان والمؤسسات في العالم العربي إلى المضي بفعالية و قوة في مشروع النهضة والتنمية وتجاوز مرحلة الانكشاف الحضاري السافر الذي وصلنا إليه أمام الآخر، والخروج من الفجوة الكبيرة بين حالتنا الحضارية ورصيدنا الحضاري الكبير..
المدرسة الإصلاحية:
بدأت أولى الجدالات حول مسألة الأصالة والمعاصرة ، ودور الفكر الإسلامي في مواجهة التحديات الكبرى مع الحملة الفرنسية على مصر ، وعودة الطلاب العرب الدارسين في الغرب ، وجاءت أبرز المساهمات الرائدة في هذا المجال مع رحلة رفاعة الطهطاوي والذي سجّل ملاحظاته ورؤيته و استنتاجاته حول الحضارة الغربية في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " .
ثمّ كانت أبرز المحاولات الفكرية في مواجهة التحدي الحضاري الغربي - و ما وصل إليه من فلسفة وعلوم ومعرفة وما صاحب ذلك من تقدم وتطور تكنولوجي - من قبل ما عرف بالمدرسة الإصلاحية ( جمال الدين الأفغاني، عبد الرحمن الكواكبي ، محمد عبده ، رشيد رضا ، علال الفاسي ، ابن عاشور ، ابن باديس ) ، وقد تمركزت مجهودات هذه المدرسة في :
- الإطلاع على المعرفة والثقافة الغربية، وهضم أصولها، ودراستها دراسة نقدية.
- رصد الجوانب الإيجابية في المعرفة والثقافة الغربية، والعمل على الإفادة منها في المشروع النهضوي الإسلامي.
- رصد جوانب الخلل في المفاهيم الحاكمة في هذه الحضارة، وتنبيه المسلمين إليها، وإلى خطورة الوقوع فيها، خاصة الفلسفة المادية في النظر إلى الوجود والحياة.
- إعادة تفسير الإسلام ومصادره المعرفية وفق أسس جديدة تتناسق مع الأصول الفكرية والمقاصد الشرعية للإسلام، وتكون قادرة على الدخول إلى العصر بروح إسلامية متقدمة ومتجددة.
- تجديد الفعالية الحضارية و النهضوية الإسلامية ، والعمل على استنهاض الشعوب للمساهمة والمشاركة في عملية التنمية والتحديث في العالم الإسلامي.
وكان للمفكر الجزائري مالك بن نبي مقاربة متميزة في فهم شروط النهضة و أسس التنمية المطلوبة، وكذلك في فقه الصراع الفكري في العالم العربي، خاصة في كتابه " الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، ولعل أبرز ما قدّمه ابن نبي -بالإضافة إلى نظريته في شروط النهضة - هو مفهوم " القابلية للاستعمار " ؛ والذي يقوم على فرضية أن الاستعمار هو محصلة ونتيجة منطقية للحالة الثقافية والفكرية وليس سببًا لها ، والمشكلة هي في جمودنا وكسلنا وغياب الفعالية الحضارية، وليس الاستعمار والغرب.
الفكر الإحيائي
وتلا المدرسة الإصلاحية والمحاولات المبكرة في هضم الثقافة الغربية، وتجديد الخطاب الإسلامي، مرحلة جديدة ظهر فيها الانقسام الفكري على أشده، وجاء أغلب النتاج الفكري والمعرفي لهذا الصراع الفكري قبيل الاستعمار، وفي المرحلة المبكرة من الاستقلال السياسي وظهور الأنظمة العلمانية في العالم العربي، وبدأ مع هذه المرحلة حالة الاستنزاف الشديد للفكر العربي في هذا الصراع والجدال الحاد حول هوية الدولة والمجتمع، وأثّر ذلك على مناهج الثقافة والتعليم والفن والأدب .
واجه الفكر الإسلامي هذا التحدي والصراع الجديد من خلال مجهودات ركزت على نقد الأسس الفكرية والمعرفية للحداثة الغربية وتصوراتها العامة في كافة مجالات الحياة، وبرزت في هذا السياق مساهمات أبي الأعلى المودودي في أغلب كتبه، وأيضًا الشهيد سيد قطب ، وأخيه الأستاذ محمد قطب خاصة كتبه : " مذاهب فكرية معاصرة " ، " الإنسان بين المادية والإسلام " ، " جاهلية القرن العشرين " ، وكُتب يوسف القرضاوي ومنها " الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا " ، وكُتب الشيخ محمد الغزالي .
وقد أكّد الفكر الإسلامي في هذا النتاج المعرفي والفكري على عدة قضايا:
- التمييز في الحضارة والفلسفة الغربية بين البعد الفلسفي والبعد التقني والعلمي المحض، والدعوة إلى تجاوز الفلسفة الإلحادية والإفادة من التطورات العلمية التطبيقية.(9/276)
- نقد الأسس المادية للحداثة الغربية، ولمناهجها العلمية والإنسانية، ومفاهيمها الحاكمة، ورصد آثارها المدمرة على الأمن الاجتماعي المبني على سيادة القيم والحفاظ على رأس المال الاجتماعي، الذي يستند على الدين الناظم لكل القيم الروحية والأخلاقية التي تحمي الإنسان من الفساد والانحطاط.
- عرض الفلسفة الإسلامية المقابلة للفلسفة الغربية، وبيان حالة التفوق الكبير للإسلام في تجاوز الخبرة الغربية أثناء التجربة المسيحية، وحالة الصدام بين العلم والدين والاستبداد الديني لرجال الكنيسة، وفساد التصورات المعرفية الكونية والاجتماعية للكنيسة.
وأغلب ما يميز المدرسة الإصلاحية / النهضوية السابقة عن المدرسة الإحيائية في مواجهة النظم العلمانية؛ أنّ المدرسة الإصلاحية لم تشهد صعود التيار العلماني بشكله الفض والرافض للقبول بالمنطلقات الإسلامية في السياسة والمجتمع و المعرفة والثقافة، وكذلك لم يشهد الفكر الإصلاحي الصراعات السياسية الحادة على هوية الدولة بين الحركات الإسلامية والنظم السياسية القائمة، الأمر الذي تطوّر إلى معارك دموية وحالة أمنية متعسرة واضطراب سياسي شديد، مما جعل الفكر الإحيائي أكثر تشددًا في مسألة الانفتاح، و أقل حرصًا على التجديد والتفاعل مع الحضارة الغربية، ودفع بالبعد الأيدلوجي ـ السياسي إلى الأمام، على حساب البعد المعرفي في محاولة الإجابة عن سؤال النهضة في الفكر و معضلة التخلف في الواقع العربي الحديث والمعاصر.
العولمة و الانكشاف الحضاري
مع انتهاء الحرب الباردة و أفول نجم الاتحاد السوفيتي و تضعضع مكانة ومصداقية المذهب الشيوعي؛ تأثر الفكر العربي بشكل كبير، وضعف بالتبعية الفكر الاشتراكي العربي، وأخذ عدد كبير من فلول المفكرين اليساريين يبحثون عن أيدلوجيا جديدة يتدثرون غطاءها بعد انكشاف عورتهم الفكرية و الفلسفية التي كانوا يجادلون عنها سنين طويلة، و لبس عدد كبير منهم ثوب الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان عندما وجدوه بضاعة رائجة في سوق المعونات والرشوة الأمريكية للمثقف العربي والمسلم، كما يرصد ذلك بموضوعية عزمي بشارة في كتابه " المجتمع المدني ".
كما صدرت قراءات مستقبلية حول المرحلة القادمة من الصراع الفكري العالمي ، كان أبرزها كتاب فوكوياما " نهاية التاريخ " والذي يزعم فيه أن التاريخ البشري قد وصل إلى نهاية كدحه الطويل؛ بحثًا عن الفلسفة الفكرية التي تحقق سعادة الإنسان و تكون القول الفصل في الجدال الإنساني الطويل في الفكر والفلسفة، وطبقًا لفوكوياما فإن الليبرالية والديمقراطية الغربية هي ذروة الفكر الإنساني ومحور خَلاصه وسعادته.
أما القراءة الثانية؛ فقد كانت للمفكر السياسي المعروف صموئيل هانتنجتون في كتابه "صدام الحضارات"، والذي يرى فيه أن المرحلة القادمة من الصراع العالمي ستكون مرحلة صراع ثقافي، وبالتحديد بين الثقافتين الإسلامية والغربية، وجوهر كل منهما المتركز حول الدين.
لقيت القراءتان السابقتان اهتمامًا كبيرًا في العالم، وكان لهما صدى واسع في العالم العربي، و أثارتا جدالاً كبيرًا، بيد أن المهم في الموضوع أن الفكر الإسلامي وجد نفسه أمام تحد واضح وكبير مرة أخرى، وهو مواجهة الحداثة الغربية، وقد جاءت هذه المرحلة بقوة وغزارة شديدة ترتدي ثوبًا جديدًا يطلق عليه "العولمة".
مفهوم " العولمة " - إذًا - ليس مفهومًا محايدًا؛ بل هو مفهوم محمّل ومثقل بالمضامين المعرفية والحضارية للحداثة الغربية، وخطورة العولمة أنها وسيلة قوية جدًا ومتطورة لنقل الحداثة والمشروع الغربي إلى أنحاء العالم، كما أنها تحمل قِناعًا تجميليًا فائقًا يقدمها في إطار من الإغراء الشديد للدخول والولوج إليها، وتصل محاولة تجنب التفاعل مع العولمة إلى درجة الاستحالة الحقيقية، إلاّ إذا اختارت أمة أو مجموعة أن تدخل كهفًا من الكهوف، وتعزل نفسها عن العالم وصولاً إلى الخلاص الروحي!.
ومما يزيد من صعوبة وخطورة تحدي العولمة أمام الفكر الإسلامي المواجهة العسكرية والسياسية بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة ، والتي تفجّرت بشكل كبير مع أحداث 11 أيلول وما تلاها من تحديات ، وظهور التيار الجهادي ، مما يجعل من مهام الفكر الإسلامي - بالإضافة إلى التحاور مع العولمة- مواجهة حالة الإحباط والتشدد الذي تنتاب كثيرًا من أبناء الأمة الإسلامية في غضبهم الشديد، وحنقهم على الحالة السياسية الحرجة التي آلت إليها الأمور من تسلط وهيمنة خارجية أمريكية وتدفعهم إلى الغلو في رفض الآخر، والميل إلى الانغلاق الفكري حرصًا على التأكيد على الهوية والذات أمام روح التبعية والهزيمة التي تنتاب فئات كبيرة من المفكرين والساسة.(9/277)
ومن دواعي استنفار الفكر الإسلامي - في هذه المرحلة - انكشاف الحالة الحضارية للعرب والمسلمين عن درجة عالية من الفشل في المشاريع التنموية، وعن فساد كبير في الممارسة السياسية العربية، وحالة متقدمة من خطورة الأوضاع الاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي، وما يرتبط بذلك من فقر شديد و بطالة ونسب مرتفعة من الحرمان، و الأمية وغياب الإنتاج العلمي ، وضعف تدفق المعلومات ، وإهدار كبير للثروات ، ناهيك عن الأوضاع السياسية البائسة المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة.
ويمكن الإشارة إلى جزء من هذه الحقائق المخيفة التي تكشف الحالة الحضارية في تقرير التنمية الإنسانية - بعيدًا عن تحفظات كبيرة حوله - ، وفكرة مبادرة الشراكة الأمريكية ـ الأوسطية ، وكل هذا وذاك من الأرقام والوقائع والإحصائيات يؤكد الفجوة الكبيرة بين الرصيد الحضاري الكبير و بين الحالة الحضارية الحالية.
إن الملاحظات السابقة تضع أمام الفكر الإسلامي العديد من المسؤوليات والمهام في هذه المرحلة، أبرزها:
- مجهود التعامل مع العولمة وما تستبطنه من قيم و معرفة، وبناء الخطاب الحضاري الإسلامي بما يستبطنه أيضًا من أسس ومفاهيم وقيم تميزه عن الخطاب الغربي، والتي تستند على الاعتراف بالوحي كأحد أبرز وأهم مصادر التنظير الإسلامي.
- مواجهة التفلت الفكري في الداخل سواء اتجاهات الغلو العلماني والانجراف الفكري أم جماعات الغلو الفكري والتشدد الديني، وبناء الرؤية الحضارية الإسلامية في الفقه العام للتدين، ودور الدين في الممارسة السياسية، و العلاقة بين الشعب والسلطة..إلخ.
- بناء الرؤية الاجتهادية الإسلامية في التعامل الواقعي مع المشاكل والقضايا الداخلية التي تعاني منها الشعوب العربية، ومنها: الفقر والبطالة والفساد السياسي والتخلف العلمي والأمية وفشل المشاريع التنموية وإهدار الثروات والمعضلات الاقتصادية ..إلخ
يأتي في إطار مهام الفكر الإسلامي اليوم تحدٍ رئيس، وهو مواجهة العولمة التي تستند إلى الحداثة الغربية وتقوم عليها، وتوظف ما وصلت إليه التقنيات البشرية خاصة ثورة الانفوميديا في هذا المجال بشكل فاعل وكبير.
ومواجهة الحداثة أو فرضية تفوق الحضارة والعلوم والقيم الغربية تتطلب قراءة معرفية عميقة للحداثة الغربية ورصد مساحات الخلل وكشف الفجوات الكبيرة في بنيتها المفاهيمية الحاكمة، وتقديم الأسس الفلسفية والفكرية للخطاب الحضاري الإسلامي في مواجهة ذلك، وبيان أدوات ومناهج التعامل مع العولمة ومعطياتها وفيضانها الكبير على العالم الذي وصل إلى درجة كما يصفها هوفمان "إن أزمة القيم الغربية تحظى حاليا بالقلق داخل بقية العالم؛ لأنّ الثقافة في وقتنا الحالي ليست ثقافة مكان بعينه، بل هي ثقافة وقت بعين ".
في هذا السياق من مهام الفكر الإسلامي يأتي كتاب مراد هوفمان المفكر الألماني المسلم، الذي كتب قبل هذا الكتاب عدة كتب تبين أسباب دخوله الإسلام وتحاول تقديم الأصول الفكرية للرؤية الإسلامية التي تتجاوز التناقضات والفراغات المعرفية الكبيرة في الفلسفة والثقافة الغربية الحديثة.
وليس كتاب هوفمان ببدع من الكتب التي تقدم نقدًا للفكر الغربي المستند على معطيات الحداثة، أو تتحدث عن الآفات المترتبة على النزعة المادية والمرتبطة أيضًا بالفلسفة الفردية الليبرالية الحديثة، فهناك على سبيل المثال كتاب الفوضى لأحد أبرز المنظرين الأمريكان بريجنسكي، لكن الجديد في كتاب هوفمان أنه ينقد الخبرة المعرفية والفلسفية الغربية الحديثة في شتى العلوم والمجالات الحيوية من خلال فكره الإسلامي الذي يصدر عن فهم يصل إلى قاع النظرية المعرفية الإسلامية التي تقوم على الاعتراف بمصادر المعرفة وحدود كل منها: الوحي و العقل والحس، أو الموائمة بين العقل المؤيد والعقل المسدد - على حد تعبير الإمام محمد عبده رحمه الله ـ.
يحمل كتاب هوفمان عنوان "خواء الذات: العقول المستعمرة" ( دار الشروق الدولية، القاهرة، 2002)، ويأخذ جزءًا من العنوان من عبارة للدكتورة نادية مصطفى - أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة - إذ تقول: "عملية الاختراق المسماة بالعولمة ، لا تتعلق باختراق حدود جغرافية ، ولكن بالسيطرة على العقول" ، فاستعمار العقول الذي تشير إليه مصطفى من أكبر التهديدات والحروب التي تشن على المسلمين اليوم وهي حروب من نوع جديد - كما يصفها محمد حسنين هيكل في كتابه "حرب من نوع جديد"-، وبما أنها تستهدف العقل والوعي و تدفع إلى الهزيمة الفكرية والنفسية؛ فهي إذًا أخطر من الحروب العسكرية والهيمنة السياسية. وهذه الملاحظة يشير لها الخبير الأمريكي جوزيف ناي في كتابه مفارقة القوة عندما يتحدّث عن القوة الناعمة والمرتبطة بالنموذج الثقافي الاستهلاكي الأمريكي الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تعميمه على العالم.(9/278)
ما يريد هوفمان إذًا قوله في هذا الكتاب هو: أن الحداثة الغربية - التي تستند عليها العولمة كمضمون فكري وثقافي ومعرفي يجري تسويقه وكأنه العلم بعينه، و أنه آخر ما وصل له العقل البشري من إبداع، وأنه الإنتاج المعرفي والثقافي الذي يحقق الخير والسعادة للإنسانية -، أنها - أي الحداثة - مليئة بالثغرات والتناقضات، وقد وصلت إلى أزمة حقيقية اليوم أنتجت ما يسمى بمدرسة " ما بعد الحداثة ".
وبالتالي على العقل المسلم أن يتحرر من التبعية الخطيرة للفكر الغربي، وأن يشق طريقه في المعرفة والعلم والتفكير انطلاقًا من الرؤية الإسلامية الناصعة التي تنظر إلى الكون والوجود والحياة بشكل شمولي متكامل ولا تختزل أي جزء لحساب الآخر، كما هو الحال في الفكر الغربي والذي يختزل الحياة في بعدها الفيزيقي المادي المحسوس، الأمر الذي يصيب الإنسان باضطراب شديد في مسيرته الحديثة، كما يوضح ذلك كتاب هوفمان وكما يشرح الأمر بشكل مفصل للغاية محمد مزريان في كتابه القيم " البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية".
وإذا كان كتاب هوفمان يتآلف بشكل رئيس من ثلاثة أجزاء، فإن الجزء المهم و المساهمة الفكرية الرئيسة في الكتاب هو ما يرتبط بنقد الحداثة الغربية، ويدل على هذه الملاحظة أيضًا تقسيم صفحات الكتاب؛ إذ يشمل الجزء المتعلق بنقد الحداثة تقريبا 60 صفحة من صفحات الكتاب البالغة 111 صفحة، بينما يقع الجزء الأول المرتبط بالشيوعية في 15 صفحة تقريبًا، أما الجزء الثالث حول الرؤية الإسلامية فيقع في 25 صفحة.
زيف الحداثة
يتتبع هوفمان المادية العلمية التي صبغت البحث العلمي في شتى حقول المعرفة الإنسانية في مدرسة الحداثة؛ ليصل إلى نتيجة أن العلم لم يصل إلى إرواء غليل الإنسان في القضايا الكبرى التي تشكل دومًا مصدر اهتمامه و محور تفكيره: الوجود و العدم، الله والكون، غائية الحياة..، بل صار العلم اليوم أكثر استعدادًا لتقبل فكرة صياغة أسئلة لا يستطيع الإنسان الإجابة عنها؛ لأنها تقع خارج قدرة المعارف الإنسانية.
وساهمت أزمة الحداثة الغربية في ظهور مدرسة ما بعد الحداثة التي تعبر عن ذروة التخبط في العلم الحديث، و تعيد نبش المطلقات الفلسفية والمعرفية التي انطلقت منها الخبرة العلمية المعاصرة، التي بنيت على فرضية التناقض مع الدين، وفرضية أن العقل البشري قادر على الوصول إلى المعرفة المطلقة بمفرده دون أية وصاية خارجية.
بدا واضحا اليوم أنّ هناك تطورًا دائمًا في العلوم، وأن النظريات العلمية تنقد بعضها، وأن ما يثبته العلم اليوم ينفيه غدًا، كما أن هناك فرضيات أساسية شكلت نموذجًا سائدًا في حقول علمية شتى ثبت اليوم عدم صحتها، الأمر الذي يصل ببول فييرانبد إلى القول - في كتابه ترجمتي - : "لقد وصلت إلى الاقتناع أن الأمر كله ليس إلاّ فوضى مجنونة"، وأصبح علماء الأنسنة أقرب إلى الشعراء منهم إلى العلماء إذ يقولون: " لماذا نتباحث اليوم فيما سوف يتغير غدًا على أي الأحوال؟!".
هذا القلق و الاضطراب في عدم القدرة على الوصول إلى الحقيقة من خلال مناهج البحث الحداثية أنتج محاولات عديدة للخروج من هذا النفق، وبات عدد كبير من العلماء يشعر بالحاجة إلى الحكمة الشرقية و فلسفة الروح لإنقاذ العلم من متاهته المعاصرة، الأمر الذي حدث فعلاً مع فريتوف كابرا - أحد أفراد مدرسة ما بعد الحداثة - الذي قام في كتابه بالدمج بين الفيزياء والتصوف الشرقي، وكما في التصوف يتوقع كابرا أن ترفع فيزياء العصر الحديث - ما بعد الحداثة - كل المتناقضات، وتصل إلى نقطة يندمج فيها الملاحِظ والملاحَظ في وحدة واحدة: وحدة صوفية تتجاوز الفيزياء الحديثة.
الله أو الدمار
يمكن استعارة عنوان كتاب المفكر الإسلامي سعد جمعة " الله أو الدمار" في قراءة نقاش هوفمان لأخطار وآفات الحداثة على الخبرة الغربية الحديثة والمعاصرة في شتى مجالات الحياة..
1- العلم والأخلاق: حاول العديد من المفكرين والعلماء وضع أساس جديد للأخلاق بدلاً ؛ إلاّ أنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعًا، وأدى العلم إلى مشكلة أخلاقية حقيقية في الغرب؛ إذ لم يتظاهر العلم فقط بوجود برنامج دون مبرمج، لكنه تصرف و كأن العلم وحده هو المعول عليه. وأصبح الغرب وفقا لفاسلاف هافيل أول حضارة ملحدة في التاريخ أي تنكر دور الدين ابتداءً.
2- العلم والحضارة: الميراث من العلم، والعلم الزائف في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بدأ يثمر مجتمعًا لا إداريًا، نفعيًا، استهلاكيًا، موغلاً في الفردية، وليبراليًا، بما يعني حضارة تنشد المتعة حتى النخاع.
3- اللذة كأسلوب للحياة: كان جينو - المفكر الفرنسي المسلم - ذا إدراك عظيم عندما حدد أن المفهوم الجوهري للحركة الإنسانية الذي صيغ خلال فترة النهضة الأوروبية، يلخص مقدمًا البرنامج الذي ستأتي به الحضارة المعاصرة، كل شيء سوف يختزل إلى المستوى البشري، وإلى المقاييس البشرية، لذلك كان من الممكن التنبؤ أن الحضارة المعاصرة سوف تصل في النهاية إلى الغوص مرحلة تلو الأخرى، إلى مستوى أدنى الرغبات البشرية.(9/279)
4- دين ما بعد الحداثة: أقام الغرب بنيانه الاجتماعي المعاصر بعيدًا عن الدين، وعلى الرغم من حضور الدين في المناسبات العامة، فهو لا يعدو أن يكون فلكلورًا أو تقليدًا عاريًا عن القوة.
لكن المشكلة هي أن الدين الذي خرج من الباب الأمامي في المجتمعات الغربية عاد من الباب الخلفي من خلال الإقبال الشديد للشباب ولفئات من المجتمع على أديان جديدة وغريبة؛ كجماعات العهد الجديد التي تتعبد داخل الأهرامات، والانبعاثيون الذين يعيدون عبادة إخناتون للشمس، وبالتساوي في مكان الصدارة إلى الآن أديان عبادة القمر، العلموية والتنجيم، والملائكة، والشيطان.
هذه الموجة الجديدة من التدين تستمد قوتها من الحنين إلى التوحد العضوي، والبحث عن المعنى، الغائبين بشدة في الحياة المعاصرة.
5- ثورة القيم: اعتبر الغربيون أن الخروج على الدين و على قيم العصور الوسطى التقليدية ثورة في القيم، واستبدلوها بالقيم الرأسمالية العملية. لكن طبقًا لتحليل عالم الاجتماع دانييل بيل في كتابه " التناقضات الثقافية للرأسمالية"؛ فإن المشكلة في العالم الغربي تكمن في أن نجاحه الاقتصادي يدفع إلى تدمير القيم الجوهرية التي قام عليها.
وداخل المسار الجديد للعلم والقيم العملية النفعية أصبح الناس غير معتادين على حقائق الحياة كالحوادث والمصائب الشخصية والمرض والكهولة والموت، إلى حد أنهم أصبحوا غير قادرين على التواؤم مع هذه الحوادث من غير مساعدة مستشاري الأحزان.
6- السلام الخيالي: لم يقدم عونًا لإحلال مدرسة ما بعد الحداثة محل الحداثة مثلما فعلت لا عقلانية الحروب المتواصلة داخل ما يفترض أنه العالم المستنير، وقد تنبأ بذلك تولستوي في رواية الحرب والسلام أن الحياة مستحيلة في اللحظة التي يظن فيها الإنسان أنه يستطيع أن يقودها ويمارسها وفقا لتوجيهات العقل الخالص.
ولم يعد المجتمع الغربي ينعم بالسلام حتى على المستوى الداخلي، فقد وصل مستوى العنف في المدارس الأمريكية الثانوية حدًا مرعبًا، وهذا لا يمثل سوى قمة جبل الجليد الغاطس؛ إذ يتغذى العنف كل يوم من كمية العنف غير المعقولة التي تشاهد يوميًا في التلفاز، وقد وصلت إلى ألعاب الكمبيوتر بشكل كبير.
7- حافز الربح: أعادت الفلسفة الرأسمالية السائدة في الغرب إنتاج جملة المفاهيم الحاكمة في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في الغرب، و تعدلت كثيرًا من المفاهيم لتلائم هذه الفلسفة، فالخير هو النافع والفعال في الحصول على أقصى درجات السعادة عن طريق إنتاج أقصى كمية من البضائع لأكبر عدد من الناس.
في الواقع، النفعية هي التي قادت إلى الغلو الذي أنجب الماركسية، وأدت كذلك إلى تفاوت كبير في دخول الأفراد والدول.
ويصل ريتشارد فولك إلى القول: لم يعد الغرب حيزًا جغرافيًا، بل ظاهرة كونية تدار العولمة بمؤسسات لا تحصى، بالغة الضخامة، ومتعددة الجنسيات، ووصل الأمر إلى الحد الذي تدار به السياسة برأس المال، الأمر الذي يهدد الديمقراطية الاجتماعية بصورتها المعروفة في ألمانيا والدول الاسكندنافية.
8- الإعلام والتسلية (المعلوتسلية): الإنسان الغربي يعاني اليوم من الكم الهائل من المخترعات والأجهزة التي تحرمه من الهدوء والاسترخاء والتأمل أو التفكير بعمق، أو الصلاة بخشوع. في الواقع يجب على الدوام إثارة غرائز الإنسان المعاصر، حتى عطلاته ينبغي تحويلها إلى مغامرات يشرف عليها محترفون بالتسلية.
وعلى الرغم من وجود برامج تلفازيه ذات مستوى رفيع، وأيضًا مجلات إلاّ أن العملة الرديئة تطرد الجيدة من السوق، والمنتجات الإعلامية الهابطة تستحوذ على النصيب الأوفر من المشاهدين، وكل هذا يعمل بشكل كبير على إفقار روحي للمجتمع وتنمية النرجسية والبعد عن العلاقات الاجتماعية.
في نفس الوقت تجاوزت وسائل الإعلام المعاصر كل الحواجز الموضوعة لحماية الدول ذات الأيدلوجية المغلقة من تأثيرات الأنباء والثقافات الأخرى، وهنا ينبغي على الدول الإسلامية أيضًا تغيير استراتيجيتها لحماية تراثها الإسلامي من خلال تحصين الناس بالعلم النافع لمواجهة الأفكار الضارة، وليس من خلال عزلهم المادي عن التعرض لها.
9- التعليم كأيدلوجيا: تلعب العلمانية دورًا حاسمًا في المعالم العامة للتعليم الغربي، من خلال إبعاد الدين عن المناهج الدراسية وعن صياغة أخلاق الطلاب، ويدرّس الإلحاد بشكل سافر في المدارس من خلال نظريات الحداثة أسسها اللادينية.
10- الثورة الجنسية: ضمن كثير من الثورات التي مرت بالإنسان الغربي في العقدين الماضيين؛ فإن أكثرها ثراءً وأطولها بقاءً هي على الأرجح الثورة الجنسية، وبدا الجنس للوهلة الأولى كأنه البديل الأقوى للدين مكتملاً بأنبيائه الذين يبشرون بالحرية الجنسية.(9/280)
الآن فإن العادة السرية، والجنس ما قبل الزواج ، تبادل الزوجات ، الجنس في الشرج ، والجنس المثلي ، ومشاهدة العري ، والدعارة ؛ أصبحت كلها مقبولة ، وتتكرر كموضوعات رئيسة من خلال تبادل الحديث ، كما تجتذب الإعلام ، الجنس مع الأطفال هو الوحيد الذي مازال محرمًا . ووصل الأمر إلى السماح لمحترفات البغاء بتكوين نقابات ببعض الدول على أنهن "عاملات جنس"، وفي ألمانيا منذ عام 2001؛ فإن الأزواج الشواذ يحصلون على التسجيل المدني.
11- انحطاط الأسرة: الضحية المباشرة للثورة الجنسية ، والتي هي الأكثر استحقاقًا للأسى هي الأسرة ، انهيار الأسرة الناتج عن الثورة الجنسية هو عنوان الشؤم على قرب انهيار الحضارة الغربية.
ويعرض التلفاز كل ليلة كم هي عالية درجة الجمال في الرجال الآخرين والنساء الأخريات، ويحض الزوجات داخل بيوتهم على الدخول في منافسة مع جميلات التلفاز، وهي منافسة صعبة جدًا، ولا يمكنهم ببساطة الفوز بها، فعندما يصبح الجنس بضاعة تعرض في السوق، فسوف تتحلل الأسرة، وذلك ما يحدث بمعدلات مخيفة، وأرقام الطلاق تتصاعد في كل مكان، والأسوأ من ذلك المزيد والمزيد من الشباب يقررون عدم الزواج مطلقًا منذ البداية.
12- العدوان على الحياة والإدمان البنيوي: ومن آفات الحداثة إباحة الإجهاض وقتل الجنين غير المرغوب فيه، ومن أثارها الإدمان والكحول و المخدرات، والإدمان ليس مرتبطًا بالمخدرات والخمر، وإنما يصل إلى الإدمان على التكنولوجيا والاستهلاك وشراء الحديث، بما يذكرنا بكتاب هربرت ماركوز المتميز " الإنسان ذو البعد الواحد".
يقول هوفمان: "يطغى ضجيج الإدمان على صوت الضمير الذي قد يذكر الإنسان المعاصر بمصيره الحق، وهو معرفة الله، والدخول تحت عباءة الخضوع له. تعطي أنواع الإدمان معنى زائفًا للحياة، وتبدو على هيئة حلول، بينما هي في الحقيقة تمثل المشكلة الجوهرية.. إنها تحرم الإنسان من الصمت الوجودي والتركيز الذي يحتاج إليه من أجل إقامة الروابط السامية".
الفكر الإسلامي و العولمة
في حوار سابق مع زكي ميلاد حول أحداث أيلول وأثارها على الفكر الإسلامي، قال: إن على الفكر الإسلامي اليوم أن يعيد بناء رؤيته الشمولية للكون وللمفاهيم الكبرى، ويصوغ من جديد استراتيجية الخروج من النفق الحضاري الذي وصلنا إليه.
و يرى الفضل شلق في مقالة له - في مجلة الاجتهاد - أن الهوية الحضارية ليست دورانًا حول الذات، وإنما عملية دؤوبة نحو تحقيق الذات من خلال النمو والتنمية، وعندها ستصبح الهوية الحضارية منجزاً وليس عائقًا.
وبالتالي؛ فإن الفكر الإسلامي في عصر العولمة مسؤول مسؤولية مباشرة عن طرح الرؤية الاجتهادية الإسلامية في التنمية والنهضة والتقدم، وإدارة الصراع الفكري ليكون جدلاً محركًا ومفعلاً لطاقات الأمة وليس كابحًا لها.
والسؤال الذي يجب على الفكر الإسلامي أن يجيب عنه: كيف نسير في مساق التنمية، وننهض انطلاقًا من روح الإسلام ومقاصده العامة؟، كيف نفقه المشروع الحضاري الإسلامي؛ ليكون طرحًا تنويريًا منفتحًا متقدمًا يمتلك أدوات الموائمة والتوفيق بين مصادر التنظير الإسلامي الوحي و العقل والحس؟ ..
===============(9/281)
(9/282)
الثقافة الإسلامية في عصرالعولمة(1-2)
سهيلة زين العابدين حمَّاد 3/9/1424
28/10/2003
إنَّ الموضوع الذي نحن بصدده جد خطير وهام؛ إذ لابد من هذه الوقفة مع واقع الثقافة في عالمنا الإسلامي الذي يواجه الآن كل تحديات أنواع العولمة (الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأدبية، واللغوية، والفكرية، والثقافية).
ومما لاشك فيه أنَّ هذه المجالات جميعها تكون عقيدة وفكر وثقافة الأمة التي من خلالها يتحدد سلوك أفرادها، وقرارات قاداتها.
وقراءة منا لواقع الثقافة في عالمنا الإسلامي، وحال مثقفيها نجد أنَّنا -للأسف الشديد- مهيئين تماماً لقبول العولمة، بل والذوبان في الآخر، وهذه ليست نظرة تشاؤمية، ولكن حاضرنا الثقافي هو الذي يشهد بهذا، فنحن منذ ظهور الإسلام حتى وقتنا الراهن كنا فريسة لمخططات الغرب التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة، ولابد لنا أن نكون صريحين وواقعين حتى لانخدع أنفسنا ونوهمها بحسن نية الآخر تجاهنا، وحتى لا نعطي للآخر حجماً أكبر من حجمه، أو نستهين بما يخططه ضدنا للتظاهر بأننا لسنا من ذوي نظرية التآمر التي نجح الغرب في أن يجعل عددًا كبيرًا من مثقفينا يعتنقها ليخطط ويحقق أهدافه دون أن توجه إليه أصابع الاتهام، ولنتقبل ما يخطط لنا دون إدراك أبعاد وخطورة هذه المخططات كما هو حاصل الآن، علينا أن نقرأ التاريخ، ونتعرف على حقيقة علاقة الشرق بالغرب، وأبعاد هذه العلاقة وأهدافها، ونتوقف عند علاقة الغرب بالإسلام وموقفه منه، ومخططاته لمواجهته، ونظرته للمسلمين عامة وللعرب بصورة خاصة، وما يفعله الآن معنا.
إنَّ ما يحدث ليس وليد التسعينيات من القرن العشرين ولكنه حصيلة قرون عديدة تصل إلى ما قبل عصور التاريخ، ومما ينبغي علينا أن نحذر من الغرب؛ لأنه يريد طمس هويتنا ومسخ شخصيتنا واقتلاعنا من جذورنا وإحلال ثقافته ودينه وعقيدته وأمراضه وانحلاله محل ديننا وثقافتنا وقيمنا وأخلاقياتنا، مع فرض هيمنته السياسية والاقتصادية والعسكرية علينا، وحرماننا من حق المعارضة وإبداء الرأي، والدفاع عن حقوقنا الشرعية. وجعلوا منا من أصبح يناهض كل ما هو إسلامي، ويطالب بإلغاء ثوابت الإسلام، وإسقاط الإسلام من دساتير الدول الإسلامية، وقصره على العبادات، ومنا من فقدوا ثقتهم في العقلية الإسلامية، وشككوا في قدرات المسلمين، ونسبة إنجازات المسلمين للغرب، ووصفوا الإسلاميين بسرقة أفكار الغربيين ونسبتها إليهم، بل نجد اللغة الإنجليزية قد أصبحت هي الأساسية في الدراسات الجامعية في جامعاتنا، ليس في العلوم التجريبية فقط، بل أصبحت لغة دراسة الاقتصاد والإدارة أيضاً.
كما نجد الغرب قد نجح في نسبة الإرهاب إلى الإسلام بشرائه لمجموعة من الأفاكين مستغلين حبهم للمال وحاجتهم إليه للقيام بأعمال إرهابية، ونسبتها إلى جماعات إسلامية، هم في الغالب وراء إيجادها وتكوينها، حتى أصبحت الحكومات الإسلامية تخشى من كل ما هو إسلامي.
أليس هذا هو واقعنا الآن؟
قد يقول قائل: الخطأ خطؤنا ونحن أوصلنا أنفسنا إلى ما نحن عليه الآن، وأنا أتفق مع هذا القائل، ولكن لكي نكون واقعيين لابد لنا أن نضع أيدينا على الأسباب التي أوصلتنا إلى الحال هذه، ومن وراءها؛ علَّنا نستطيع تلافيها. وهنا يتطلب منا أن نطرح هذه الأسئلة:
متى تعَّرف الغرب إلى الشرق؟ وماذا كانت طبيعة هذه العلاقة؟ وما أهدافها وغاياتها؟ وكيف كانت نظرة الغرب إلى الشرق؟ وما هو تأثيرها على الثقافة العربية والإسلامية؟
وسأبدأ بالإجابة عن السؤال الأول:
متى تعرَّف الغرب إلى الشرق:
لقد تعرَّف الغرب إلى الشرق عبر قرون طويلة، وعن طريق عدد كبير من الكتَّاب والرَّحالة والجغرافيين والمؤرخين، وقد اختلفت وسائل اتصال أوربا بالشرق باختلاف أهدافها وبواعثها من وراء هذا الاتصال، وقد بدأت بعلاقات تجارية ترجع إلى أيام الكنعانيين، ثمَّ تلتها علاقات حرب واحتلال في زمن الإسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد الذي وقف علماؤه لدراسة الشرق ليتمكن من غزوه. وهذه تعد البداية الحقيقية للاستشراق.
صورة الإسلام في أوربا من خلال الكنسية وكتابات المستشرقين:
وعندما ظهر الإسلام كثّفت الكنيسة جهودها لمهاجمة الإسلام والنبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ولقد ظهرت آراء ومواقف فظة ومشوبة بالعصبية في العقيدة الإسلامية، وقد أوضح المستشرق البريطاني ريتشارد سوذرن في كتابه "صورة الإسلام في أوربا في العصور الوسطى"، وكذلك نظيره نورمان دانيال في كتابه "العرب وأوربا في العصور الوسطى" تلك المواقف الفظة المشوبة بالعصبية ضد الإسلام ونبيه -محمّد r-، وإلحاق فعال وصفات به هو منزه عنها، ولا تمت إلى الحقيقة والواقع بصلة، فقط ليشوهوا صورته وليصرفوا الناس عن الإيمان برسالته وبنبوته، وليفرغوا حقدهم عليه، والمجال لا يتسع لذكر ما نسبوه إليه باطلاً، ولكن يبين لنا هذا أنهم في تعاملهم معنا يخرجون عن جميع مبادئ وأسس الحوار العلمي الموضوعي المنطقي الذي يتظاهر به الغرب في نقاشه وحواره معنا.(9/283)
قد يقول قائل إن طريقتهم اختلفت مع مشارف القرن العشرين، ولا سيما في العقود الأخيرة منه، وأقول هنا من خلال دراستي للاستشراق، ولبعض المدارس الاستشراقية -وأهمها المدرسة البريطانية والفرنسية والألمانية، وغيرها- وموقفها من السيرة النبوية؛ وجدتها لم تخرج عن الإطار الذي رسمه المستشرقون الأوائل الذين كان معظمهم من رجال الكنيسة، وعند دراستي لمصادرهم وجدت أن كتابات أولئك المستشرقين هي مصادرهم الأساسية، أمَّا المصادر الإسلامية فما هي إلاَّ مجرد إطار لوضع الصورة التي رسمها المستشرقون الأوائل مع تخفيف حدة الهجوم المباشر بتغليفه بغلاف يوحي بالمنهجية العلمية والموضوعية، ولكن عندما تتفحص في المحصلة والنتيجة تجد أنها لا تخرج عن الصورة التي رسمها أولئك المتعصبون الحاقدون على الإسلام ونبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتؤكد ما أقوله أهداف الدراسات الاستشراقية ونتائجها.
أهداف الاستشراق ونتائجه:
نتيجة لكشف بعض الباحثين العرب- في مقدمتهم الدكتور إدوارد سعيد، والأستاذ عبد النبي أصطيف، والدكتور أنور عبد الملك- أمام الرأي العام العالمي أهداف ومناهج المستشرقين مبينين مثالبه وعيوبه فلقد تخلى المستشرقون رسمياً عن مصطلح "مستشرق" في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عقد في باريس صيف عام 1973م، وقال المستشرق الصهيوني البريطاني الأمريكي برنارد لويس: "فلنلق بمصطلح مستشرق في مزبلة التَّاريخ"، لكنهم لم يتخلوا عن مناهجهم، وقد أعلنوا هذا في ذات المؤتمر، واتخذوا من مراكز المعلومات مصطلحاً جديداً للاستشراق الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية لتمارس من خلاله على الشرق ولاسيما الشرق الإسلامي ودول العالم الثالث نوعاً جديداً من الاستعمار، وهو أخطر أنواع الاستعمار ولم يسبق للبشرية أن رأت مثيلاً له، وهذا الاستعمار هو "العولمة".
هذا وللاستشراق أهداف دينية وتنصيرية، وأهداف سياسية، وأهداف استعمارية عسكرية، وأهداف علمية، والحديث عن هذه الأهداف طويلة جدًا، لذا سأوجز الحديث عنها في الحلقتين القادمتين إن شاء الله.
توقفتُ في الحلقة الأولى من هذه المقالة عند أهداف الاستشراق التي سوف أوجزها في الآتي:
أولاً: الأهداف الدينية والنتصيرية:
1- لقد أسهمت الدراسات الاستشراقية في إيجاد الأرضية في كثير من بلاد المسلمين للدعوة التنصيرية، وقد كتب بعض المستشرقين ونظَّروا لكيفية التَّنصير مع المسلمين، مثل ما قام به المستشرق المُنصِّر القس صموئيل زويمر في معهده الذي أنشأه باسمه من قبل المؤتمر التَّنفيذي ليكون مركزاً للأبحاث مهمته إعداد الأبحاث وتدريب العاملين في صفوف المسلمين لتعزيز قضية تنصير المسلمين، وكذلك المستشرق البريطاني وليم موير، ويشهد على ذلك كتابه " شهادة القرآن على الكتب اليهودية والمسيحية " فهو كتاب تنصيري في المقام الأول. ومسلسل التنصير لم ينته بعد فلقد أعلن البابا في المجمع المسكوني الثاني الذي عقد عام 1965م خطته لتنصير العالم واقتلاع الإسلام مع قدوم الألفية الثالثة بحيث يتم استقبالها بلا إسلام، ولعل حملات التنصير المكثفة التي شهدتها إندونيسيا تعطينا مؤشراً لذلك، بل الأخطر من هذا وجود بعض المدارس التنصيرية في بعض دول الخليج العربي، ولعل كتاب " الغزو التبشيري النصراني في الكويت" لأحمد النجدي الدوسري يكشف أبعاد هذا المخطط، أيضاً النشاط التنصيري المكثف في الجنوب السوداني لإيجاد دولة مسيحية سودانية تمهيداً لاقتلاع الإسلام من السودان، وقد شرعوا بالفعل لتنفيذ هذا المخطط، كما نجحوا في تفتيت وحدة إندونيسيا، وقسَّموا تيمور إلى شرقية وغربية، بينما نجدهم وحَّدوا برلين الشرقية والغربية.
إنَّ مخطط تجزئة الدول الإسلامية وشطرها إلى شطرين: مسيحي وإسلامي، أو تقسيمها على أساس مذهبي أو عرقي كما هو مخطط للعراق، وغيرها من دول المنطقة، كل هذا يؤكد أنَّ هدف الغرب القضاء على الإسلام، وأن أساس الصراع بيننا وبين الغرب هو الدين الإسلامي في المقام الأول ويظهر هذا بوضوح في الحروب الصليبية، إذ خشي الغرب من المد الإسلامي، وعندما فشلت هذه الحملات، ولم تحقق أهدافها نشأ الاستشراق الذي ركَّز هجومه على القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه الإسلامي والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، واللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم، وكذلك دراسة الأدب العربي، والعمل على إحياء الفرق المنحرفة في تاريخ المسلمين كالباطنية، وقضوا السنوات في إخراج كتب ليؤثروا في المفاهيم الأساسية للإسلام، وذلك بثنائهم على البهائية والقاديانية، وقد أوجد الاستعمار البريطاني القاديانية، إذ أشاد بها لأنها -كما زعم- جاءت بآراء حرة مستقلة ووصفها بالعقلانية، والاستنارة والتجديد ليخدع بها بعض المسلمين، وليشوه تعاليم الإسلام، وللأسف هناك أقلية من المسلمين تأثرت بفكر هذه الفرق المنحرفة واعتنقت عقائدها.(9/284)
كما أسهم المستشرقون بقدر كبير في إحياء القوميات في العالم العربي خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، فقد نبَّش المستشرقون في الحضارات الجاهلية القديمة؛ لإحياء معارفها من ذلك: بعث الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا، والآشورية في العراق، والفارسية في إيران، والطورانية في تركيا، أمَّا الجزيرة العربية فلقد بحثوا في آثار السَّابقين، وأسموا دراستهم " التاريخ الحضاري للعرب قبل الإسلام "، وتعمدوا بذلك إظهار الحضارات القديمة ليطفئوا نور الإسلام، وأنَّ الإسلام ليس وحده هو الذي قدَّم الحضارة الإنسانية، وترتب على مثل هذه الدراسات الآتي:
ا-تحسين سمعة الجاهلية القديمة، وتمجيد رجالها.
ب-بث النعرات الانفصالية في الأمة الإسلامية.
ج-محاولة قطع صلة الأمة الإسلامية بماضيها الحقيقي الذي بدء بظهور الإسلام.
د- تهيئة بعض المسلمين لتقبل قيام حضارة لهم غير مهتدية بهدي الإسلام، كما نشأت في تلك الحضارات القديمة.
- كما سعى المستشرقون في نشر بعض الأيدلوجيات الأجنبية في الأراضي الإسلامية كالشيوعية، فلقد أشاد المستشرق " بندلي جوزي" بالقرامطة، وأدعى أنَّهم والإسماعيلية الشيوعيين الأولون في الإسلام، وذلك في كتابه "من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام "، كما زعم المستشرق الفرنسي "جاك أوستري" أنَّ هناك بعض الشَّبه بين الإسلام والشيوعية من حيث عالميتها وتساميها على القوميات والعنصريات، وقد شبَّه كذلك نظام الدَّولة في الإسلام بنظام الدَّولة في النِّظام الشيوعي، وقد تأثر بهذه الكتابات بعض الكتاب المسلمين، وعملوا على نشرها مثل الكاتب الكبير "توفيق الحكيم" في سلسلة مقالاته التي نشرت في الأهرام "دفتر الجيب"، وذلك في الفترة من 21إبريل حتى 15سبتمبرعام 1981م، وقد قرَّر في هذه المقالات أنَّ الشيوعية تسير على مبدأ الإسلام في قوله تعالى (وفي أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم)، وأراد أن يثبت أنَّ المادة قد طغت على الإسلام عند تطبيقه لنظمه؛ ليجعل الإسلام لا يختلف عن الشيوعية من ناحية طغيان المادة، واتخذ من الإسلام وسيلة للدعوة لتطبيق الاشتراكية، والأخذ بالشيوعية، بل قال في كتابه شجرة الحكم السياسي صفحة 507: " أنَّ الرسول محمَّد r كان يسارياً هو وسائر الأنبياء " ، ونسمع الآن عن الإسلام اليساري الذي يتزعم دعوته الأستاذ حسن حنفي.
- كما شجَّع الاستشراق على نشر الليبرالية الغربية وتبعيتها في بلاد المسلمين، وقد حاول بعض المستشرقين أن يخدعوا بعض المسلمين، بأنهم إذا أرادوا التقدم واللحاق بركب الأمم الصناعية ما عليهم إلاَّ أن يتبنوا المنهج الأوربي الذي قام وفُرِض بعد نقض كتب العهد القديم والعهد الجديد " ، وهي أقدس كتب لديهم وهم بهذا يريدون من المسلمين التجرؤ على كتاب الله ونقده، وللأسف فقد تأثر بعض الأساتذة المسلمين بهذه الدعوة في مقدمتهم الأستاذ الدكتور طه حسين، إذ دعا طلبته في كلية الآداب إلى نقد القرآن الكريم بوصفه كتاباً أدبياً، وأثار الشبهات حول كلمة كتاب وقرآن، وقال إنَّ الكتاب غير القرآن، وأنَّه كان موجوداً قبل نزول القرآن، وإنَّ القرآن صورة عربية منه، وأنَّه أخذ صوراً من الكتب التي قبله، ويقول: "إنَّ هناك قرآناً مكياً له أسلوب، وقرآنا مدنياً له أسلوب آخر، وإنَّ القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة والخلو من المنطق، أمَّا القسم المدني فيمتاز بمناقشة الخصوم بالحجة الهادئة، وهذا القول هو ما يردده المستشرقون، وفي مقدمتهم المستشرق اليهودي البريطاني دافيد صموئيل مرجليوث في كتابه "مقدمة الشعر الجاهلي" الذي ترجمه الدكتور طه حسين ونسبه إلى نفسه، مسمياً كتابه " الشعر الجاهلي"، والذي قال فيه بخلق القرآن، ثمَّ تراجع عن ذلك عندما وجد اعتراضاً على ذلك.
- قيام بعض المستشرقين برصد الحركات الإسلامية المعاصرة، ودراسة أحوالها وأوضاعها ليمكنوا صناع القرار في البلاد الغربية من مكافحتها، وبذل كافة الوسائل لإطفاء نورها، وهناك عدد من المستشرقين مثل: "هاملتون جيب"، و"ميشيل ريتشارد"، و"ألفريد سميث" وغيرهم كتبوا عدة دراسات عن هذه الحركات، ومن أحدث الدراسات عن هذه الحركات أعدها المستشرق الأمريكي جون سبوزيتو عن ظاهرة الصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي، وهي على صلة وثيقة بالبيت الأبيض الأمريكي.(9/285)
إنَّ رجال الحكم الغربيين والإعلاميين حريصون على معرفة الحركات وزعمائها، وفي شهر مايو سنة 1992م صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية بولاية ماريلاند "بأنهم في هذا القرن أي القرن العشرين قد أخيفوا بثلاث تيارات: الشيوعية، والنَّازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنَّازية ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية"، فمن أخطر دراسات المستشرقين عن الإسلام وأهله الدراسات التي تحذر الغرب من قدرات الإسلام الكامنة، وتنبيه الغربيين إلى ثروات المسلمين الهائلة ليخطط الغرب مواصلة سيطرته على بلاد المسلمين، ومن أخطر الدراسات الاستشراقية تلك التي أعدها المستشرق الألماني "باول شمتز" باسم "الإسلام قوة الغد العالمية".
إنَّ مقولة نائب الرئيس الأمريكي عن الإسلام في التسعينيات من القرن العشرين تعيد إلى أذهاننا مقولة رئيس الوزراء البريطاني "جلاد ستون" في أواخر القرن التاسع عشر، أي قبل حوالي قرن من الزمان؛ إذ أعلن رئيس الوزراء البريطاني في مجلس العموم البريطاني وقد أمسك بيمينه كتاب الله عزَّ وجل، وصاح في أعضاء البرلمان وقال: "إنَّ العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولابد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر، أولهما هذا الكتاب، وسكت قليلاً، بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال: هذه الكعبة ".
أليس هذا أكبر دليل على أنَّ الغرب لم ولن يغير موقفه من الإسلام والمسلمين؟
إنَّ دور المستشرقين لم يتوقف عند هذا الحد، إذ نجدهم مهدوا وساعدوا على الاستعمار منذ عصر الإسكندر الأكبر، ونابليون بونابرت، حتى أواخر القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، سواء كانوا رحالة أو قناصل أو جواسيس، أو منصِّرين.
ثانياً: الأهداف السياسية والاستعمارية والعسكرية:
ممَّا ينبغي التوقف عنده والتأكيد عليه أنَّ نشاط المستشرقين والخبراء الأمريكيين بشؤون الشرق الأوسط يشكل جزءًا رئيساً من نظام التخطيط للعمل الإسرائيلي والأمريكي في المنطقة العربية، وهذا ينبهنا إلى حقيقة هامة، وهي أنَّ الاستشراق يقوم في عصرنا الراهن على مخطط تحدده المصالح الأمريكية والصهيونية في الشرق الأوسط، كما لعب الاستشراق الأوربي من قبل، والاستعمار الإنجليزي بدور في خدمة الأهداف الصهيونية بإنشاء صندوق اكتشاف فلسطين، وإعلاء شأن اليهود مع التقليل من شأن العرب المسلمين، والذي سهَّل للصهيونية تحقيق أهدافها من خلال الاستشراق وجود أكثر من أربعين يهودي في المدارس الاستشراقية الأوربية والأمريكية، ومن أكبر مستشرقيها مثل: جولد تسهير، وشاخت، وكارل بروكلمان، ولويس ماسينون، ومكسيم ردونسون، ومرجليوث، وبرنارد لويس.
ولا ننسى أنَّ بعض المستشرقين أوجدوا النظرية العرقية ليبرروا الاستعمار، ووصفوا العقلية العربية بأنَّها عقلية ذرية غير قادرة على التجميع والقيادة، وممن قالوا بهذا القول المستشرق البريطاني هاملتون جيب، وملف الاستشراق حافل بهذه المواقف التي تدين الحركة الاستشراقية، والتي بسببها أصبح مصطلح الاستشراق مشبوهاً، وأعلن المستشرقون تخلصهم منه ورميه في مزبلة التاريخ، واستبداله بمراكز المعلومات التي تقوم بنفس دور الاستشراق القديم، ولكن في ثوب جديد.
ثانياً: الأهداف العلمية والتمهيد للعولمة الثقافية:
ومما ينبغي لفت الانتباه إليه أن الاستشراق قام بدور كبير في التمهيد للعولمة الثقافية باحتواء كثير من المسلمين ثقافياً عن طريق خدمة المستشرقين للتراث وتحقيقه ونشره وفهرسته، وما إلى ذلك حيث أصبح كل باحث مسلم لا يستغني عن بعض جهودهم في أبحاثه ومكتباته، فيعتمد عليها أو يتناولها بالدراسة، وتأثر بها شعر أو لم يشعر، ويرجع هذا إلى نجاح الاستشراق في السيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، وعلى الرغم من أن بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد إلاَّ أنها في النهاية، وبكل المقاييس تبقى مظهراً من مظاهر الاحتواء الثَّقافي، وقد نجم عن هذا الاحتواء الآتي:
أ-شعور كثير من المسلمين بضعفهم، ونقص إمكاناتهم، وتأخرهم عن غيرهم في العصر الحديث، ونسبة كل الإيجابيات إلى الغرب.
ب-تبعية كثير من الكتَّاب والباحثين فكرياً لهم، ودفاعهم عن مبادئهم ومناهجهم.
ج- وضع أسس لمنهج البحث والتفكير المادي، فكتبوا وبحثوا ونقدوا في ضوء هذا المنهج، كما نجدهم قد طبَّقوا المناهج الفكرية المادية على كثير من علومنا الإسلامية سواءً في التفسير المادي للتاريخ، أو في كتاباتهم عن القرآن الكريم والرسولل - صلى الله عليه وسلم - فدَّعموا شهادتهم في هذه الجوانب الفكرية باسم المنهج العلمي، ممَّا أدى إلى رواجها واستسلام كثير من الكتاب لها ودفاع بعض المسلمين عنها.(9/286)
د- لقد رسَّخ المستشرقون مبدأ العلمانية وصدَّروه إلى عالمنا الإسلامي سواء في الجانب الفكري والسياسي، فأصبح من المسلمين من تبنوا مبدأ العلمانية، بل نجد هناك بعض الدول الإسلامية قد تبنت العلمانية، وأعلنت أنَّها دولة علمانية، أو هناك من المسلمين من ينادي بعلمانية السياسة، ونحن لو رجعنا إلى أصل نشأة هذه الدعوة نجد أنَّ المستشرقين ممن روَّجوا لها ودعوا إليها، ولا ننسى أثر ميكافلي في ترسيخ العلمانية السِّياسية، وتجريد السياسة من معاني الدِّين والأخلاق وتبرير الوسائل باسم الغايات.
ه-دعوة المستشرقين إلى الحرية الفكرية المزعومة التي دعوا إليها، ولم يلتزموا بها في بحوثهم وكتاباتهم؛ إذ نجدهم صوروا المفكرين الإسلاميين مجرد نقلة للتراث اليوناني الفلسفي بناءً على نظرتهم العنصرية المقسمة للشعوب إلى: ساميين، وآريين. فالساميون ومنهم العرب لا قدرة لهم على التفكير الفلسفي، وتناول الأمور المجردة بخلاف الشعوب الآرية، كما صرَّح بذلك رينان في كتابه " تاريخ اللغات السامية "، وكذلك "جوتيه" في كتابه " المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية ".
و-كان الاستشراق وراء طرح ونشر مصطلحات متعددة في الجانبين الأدبي والنقدي مثل "الحداثة" و " البنيوية" و "الأبستولوجيا المعرفية" و "والوجودية" و "النثرية" في مجالات الأدب، ولقد كشفت الباحثة البريطانية فرانسيس ستونور سوندرز في كتابها "بعنوان "التكاليف؟ -الصادر في يوليو عام 1999م- قيام الحكومة الأمريكية عبر وكالة المخابرات المركزية لإيجاد مدارس وتيارات ثقافية كاملة ومنها تيار الحداثة، ودعم مجلة الحوار العربية وغيرها، فتجرأ بعض الأدباء والشعراء على الذات الإلهية، فأدونيس كتب قصائد بعنوان " الإله الأعمى، و " الإله الميت "، ويقول في هذه القصيدة: " وبدلت إله الحجر الأعمى وإله الأيام السبعة بإله ميت "
(1) ، وأعلن كرهه لله، بل ادعى الألوهية في قصيدة " الخيانة "
وأنا ذاك الإله
الإله الذي سيبارك أرض الجريمة
وصلاح عبد الصبور قال في شعره " الشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم "
(2) ، وقال في قصيدة " الإله الصغير" :
ورقصنا وإلهي للضحى خداً…لخد
ثمَّ نمنا وإلهي بين أمواج وورد
ويقول ذات الشاعر في قصيدة " الناس في بلادي ":
كم أنت قاس موحش يا أيها الإله
(3)وأمل دنقل مجَّد الشيطان فقال في قصيدة له :
المجد للشيطان ……معبود الرياح
من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم "
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال " لا " فلم يمت
وظلَّ روحاً أبدية الألم.
والأمثلة كثيرة لا حصر لها، ولكن ما ذكرته يبين لنا سمة الشعر الحداثي، ومقومات الحداثة القائمة على فصل العقيدة عن الفكر والأدب آخذة بمذهب " الفن للفن، متبنية مذاهب فكرية لا تمت للدين الإسلامي بصلة، بل تدعو إلى الإلحاد وإلغاء العقل، وإحياء فكر الفرق الباطنية من دعاة الحلولية والتناسخ، كما أوجد المستشرقون في الساحة مصطلح "الأصولية " و " السلفية " لتغييب اسم الإسلام.
ز-لم يقتصر المستشرقون في بحوثهم على علم واحد، وإنَّما تناولوا مختلف العلوم، وللأسف لم يلتزموا بالحيدة والموضوعية في أغلب بحوثهم، إذ نجدهم سلكوا سبل التحريف والتشويه في دراساتهم عن القرآن الكريم والطعن في مصدره، وكذلك الطعن والتشكيك في السنة المطهرة وصحتها، وامتد التشويه إلى نبي الإسلام محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وحسبنا قول المستشرق البريطاني وليم موير: "إنَّ سيف محمَّد والقرآن هي أكثر الأعداء الذين عرفهم العالم حتى الآن عناداً ضد الحضارة والحرية الحقيقية " .
ح-تأليف الكتب والمراجع والموسوعات العلمية في موضوعات مختلفة عن الإسلام ونظمه مع التحريف الخفي، والتزييف المتعمد في الوقائع التاريخية، وفي نقل النصوص من القرآن والسنة، وبيان سيرة الرسو صلى الله عليه وسلم ، وإصدار النشرات الدورية والمجلات العلمية الخاصة ببحوثهم عن الإسلام والمسلمين، وإلقاء المحاضرات والخطب في الجمعيات العلمية، وفي كل مكان، ونشر مقالات وبحوث في الصحف والمجلات الواسعة الانتشار، وخاصة في أوساط المثقفين، وترجمة كتبهم ومراجعهم وموسوعاتهم إلى اللغة العربية، ويكفي أن نعرف أنَّ هناك وأقسام عديدة مستقلة للدراسات الشرقية في الجامعات العلمية في الغرب كله، وأنَّ في القارة الأمريكية وحدها حوالي تسعة آلاف مركز للبحوث والدراسات الشرقية عامة، ومنها حوالي خمسين مركزاً خاصاً بالعالم الإسلامي، وأنَّه منذ مئة وخمسين عاماً، وحتى الآن يصدر في أوربا بلغاتها المختلفة كتاب كل يوم عن الإسلام، فقد صدر ستون ألف كتاب بين سنة 1800-1950م.أي عبر قرن ونصف، ويصدر المستشرقون الآن ثلاثمائة مجلة متنوعة بمختلف اللغات في تراث الإسلام، وأنَّ المستشرقين عقدوا خلال قرن واحد ثلاثين مؤتمراً مثل: مؤتمر"أكسفورد" الذي ضمّ تسعمائة عالم.
وما هذا إلاَّ خطة لتهيئة الرأي العام لقبول الغزو العسكري والاقتصادي والثقافي الغربي لبلاد الإسلام من جهة، ولدراسة أحوال العالم الإسلامي، وكل ما يتعلق بشؤونه ليساعدهم ذلك على السيطرة وبسط النفوذ من جهة أخرى.(9/287)
كل هذا كان إعداداً وتمهيداً لتقبلنا لما هو آت، وهو " العولمة " ، بل لخضوعنا لما تفرضه علينا العولمة، وعدم إعطائنا فرصة للقبول أو الرفض، فنحن ما بين عشية وضحاها وجدنا أنفسنا أمام العولمة الدينية -من خلال فرض الحوار الإسلامي المسيحي- والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية في آن واحد، ووجدنا أنفسنا قد فقدنا القدرة حتى على شجب ما تتعرض له الأمة الإسلامية من عدوان ومحاولات إبادة، بعدما فقدنا القدرة عن المشاركة في القتال للدفاع عن ما يتعرض له المسلمون من غزو، فلقد شوهوا مفهوم الجهاد في الإسلام، فصوروا الجهاد في سبيل الله ومقاومة الاحتلال والعدوان إرهاباً، وقتلوا روح الجهاد في نفوس المسلمين بعد اتفاقية كامب ديفيد، وخداعنا بأسطورة السلام مع الذين لا يعرفون السلام، ولا يحترمون العهود والمواثيق، ولا يلتزمون بها.
أخطار العولمة السياسية
والطَّامة الكبرى أن "العولمة" السياسية سوف تلغي دور الدولة والحكومة، وأنَّ النظام الاقتصادي العالمي الجديد المفروض علينا سوف يجعل البلاد النامية التي نصنف نحن ضمنها مراكز للتلوث الصناعي، إذ يخطط الكبار نقل مصانعهم إلى بلادنا لحماية بيئاتهم من التلوث الصناعي، مع استغلال العمالة في هذه البلاد لرخصها، ولكن دون أن تنقل لنا تقنية الصناعة أو جعلها في أيدينا، وهذا ما تدرسه الآن بريطانيا لطلبتها وتعِدُّهم لتنفيذه، كما أنَّ النظام المالي الجديد سيتيح المجال أمام المضاربين لضرب اقتصادنا كما حصل في إندونيسيا وماليزيا، كما أنَّ النظام الاقتصادي الجديد سوف يفتح باب الاستثمار على مصراعيه، وهذا يعني أن الصهاينة سيدخلون أسواقنا ويتحكمون في اقتصادنا كما دخلوا بيوتنا من خلال التمويل الأجنبي للجمعيات النسائية الأهلية، والاتفاقيات الدولية -كاتفاقية إزالة أشكال التمييز ضد المرأة التي وقع عليها عدد من الدول الإسلامية-، ومؤتمرات المرأة العالمية، وأصبحوا يفرضوا علينا الخروج عن ثوابت الإسلام مع توعدهم لعلماء الدين إن اعترضوا على ما يفرض علينا من توصيات مؤتمرات المرأة العالمية بسن قوانين دولية تطبق على الجميع، وخاصة القوانين التي تسمح بالانفلات الجنسي تحت مسمى " الصحة الجسدية " أو " الصحة الجنسية"، والتي تتضمن إقرار الإجهاض كوسيلة من وسائل منع الحمل إلى جانب الحرية الجنسية الانفلاتية.
1- ديوان أدونيس : المجلد الأول،ص346 .
2- ديوان صلاح عبد الصبور:قصيدة الحزين، ص 38.
3- قصيدة كلمات سبارتكوس لأمل دنقل
===============(9/288)
(9/289)
الإعلام الإسلامي وخطر العولمة
سهيلة زين العابدين حمَّاد 8/6/1424
06/08/2003
للإعلام تأثير جد كبير وخطير على أنماط السلوك وطرائق التفكير، ولا سيما القنوات التلفازية الفضائية والإنترنت، وهذا التأثير قد يكون سلبياً فيسهم في ذوباننا في الآخر، وفي إعدادنا تمام الإعداد لقبول العولمة والتسليم بها كحقيقة مسلم بها، وهذا ما تعمل عليه للآسف أغلب وسائل الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي، من صحف ومجلات، وقنوات فضائية، ومواقع للإنترنت عربية وأجنبية، وأفلام سينمائية.
ومنها ما يكون إيجابياً في تصحيح كثير من المفاهيم، وأنماط السلوك وطرائق التفكير، للحفاظ على هويتنا الإسلامية، ولتكوين رأي عام سليم تجاه قضايا الأمة، والقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت التي تسعى لتحقيق هذه الأهداف قليلة قد لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين، في حين نجد الأخرى قد يصل عددها إلى المئة، إضافة إلى القنوات الأجنبية التي تبلغ المئات، وممَّا يؤسف له حقاً ما تقوم به بعض الشبكات التلفازية العربية المتخصصة من شراء مواد سينمائية من بعض القنوات الأمريكية والأوربية التي تبث أفلام الرعب أو الأفلام الإباحية التي تؤثر سلباً على سلوك وأخلاقيات أولادنا، وهذه الأفلام في الغالب يقوم على إنتاجها وتمويلها اليهود الصهاينة الذين يمتلكون معظم شركات إنتاج الأفلام الأمريكية؛ إذ تشير بعض الإحصائيات إلى أنَّ أكثر من 90% من العاملين في الحقل السينمائي الأمريكي إنتاجاً وإخراجاً وتمثيلاً وتصويراً ومونتاجاً هم من اليهود، وقالت صحيفة " الأخبار المسيحية الحرة " عام 1938م عن سيطرة الصهيونية على صناعة السينما الأمريكية : "إنَّ صناعة السينما في أمريكا يهودية بأكملها، يتحكم فيها اليهود دون أن ينازعهم فيها أحد، ويطردون منها كل من لا ينتمي إليهم أو لا يصانعهم، وجميع العاملين فيها إمَّا من اليهود أو من صنائعهم، ولقد أصبحت هوليود بسببهم سدود العصر الحديث حيث تنحر الفضيلة، وتنشر الرذيلة، وتسترخص الأعراض، وتنهب الأموال دون رادع أو وازع، وهم يرغمون كل من يعمل لديهم على تعميم ونشر مخططهم الإجرامي تحت ستائر خادعة كاذبة، وبهذه الأساليب القذرة أفسدوا الأخلاق في البلاد، وقضوا على مشاعر الرجولة والإحساس، وعلى المُثل للأجيال الأمريكية"، وختمت الصحيفة قولها: "أوقفوا هذه الصناعة المجرمة لأنَّها أضحت أعظم سلاح يملكه اليهود لنشر دعايتهم المضللة الفاسدة".
كما يمتلك اليهود الصهاينة كبرى شبكات التلفاز العالمية، فبشراء عروض القنوات الأجنبية، والتنافس فيما بينها على ذلك فيه ترويج للفكر الصهيوني وتحقيق أهدافه، وفيه دعم مادي لها.
وهم يسيطرون أيضاً على كثير من وكالات الأنباء العالمية، ومركز المعلومات، ويمتلكون أدوات متقدمة في صناعة الإعلام وفنونه؛ إذ يمتلك الصهاينة أربع وكالات أنباء عالمية من خمس، كوكالة رويتر البريطانية، والأسوشيتد برس واليونايتد برس الأمريكيتيْن، ووكالة هافاس الفرنسية، وهذا يعني أن الذي يتحكم في صياغة وصناعة الخبر هم اليهود الصهاينة، وإعلامنا في عالميْنا العربي والإسلامي للأسف الشديد يتلقى هذه الأخبار من هذه الوكالات.
أسلوب المواجهة
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يتسنى للإعلام في العالم الإسلامي أن يتغلب على إعلامٍ هذه قوته؟
للأسف الشديد؛ فإننا نفتقر إلى إعلام إسلامي بما تحمله هذه الكلمة من معنى، فنحن لا نستطيع أن نعتبر إعلامنا إسلامياً من خلال بعض القنوات الفضائية المحدودة، أو من خلال بعض المجلات الإسلامية، وبعض مواقع الإنترنت الإسلامية، فهذه لا تشكل شيئاً يذكر أمام مئات الصحف والمجلات وعشرات القنوات ومواقع الشبكة العنكبوتية التي تسير في فلك الصهيونية والغرب، وتسهم في تقديم كل ما من شأنه نشر الفساد والانحلال، والسير على نمط السلوك الغربي، وطرز الحياة الغربية، والتي تسلط الأضواء من خلال برامجها على من يتبنون الفكر الغربي بكل ما فيه من إباحية وإلحاد، وجعلت منهم رموزاً أدبية وفكرية لهذه الأمة، ومنحتهم الجوائز والأوسمة في حين نجدها همَّشت حملة الفكر الإسلامي، وعتَّمت عليهم، وأغلقت أبوابها في وجوههم. قد يقول البعض إنَّ هناك مفكرين إسلاميين تسلط عليهم الأضواء، وأقول هنا إنَّهم قلة قلية لا تشكل حقيقة عدد مفكري الأمة وعلمائها، وتسلط الأضواء على هؤلاء حتى لا يوجه إليها نقد بعدم تقديمها لعلماء ومفكرين إسلاميين، وللطلب الملح من القراء والمشاهدين والمستمعين لمعرفة موقف الدين من قضايا العصر، وممّا يواجههم من مشاكل، فللأسف الشديد أنَّ أغلب القائمين على الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي بجميع وسائله من ذوي الفكر العلماني، لذا فهم يروجون لمن يوافق أهواءاهم وتوجهاتهم الفكرية.(9/290)
فنحن لا نستطيع التغلب على الحملات الصهيونية والغربية الموجهة الآن بضراوة ضد الإسلام والمسلمين، ومحاربة كل ما هو إسلامي في أي مكان في العالم إلاَّ إذا جعلنا القيادات الإعلامية في عالمنا العربي والإسلامي من الوسطيين من حملة الفكر الإسلامي،عندئذ نستطيع القول إنَّ لدينا إعلاماً إسلامياً.
مقترحات إعلامية للمواجهة
عندما يكون لدينا إعلام إسلامي علينا أن ننشئ وكالة أنباء عالمية إسلامية تصيغ الخبر صياغة صحيحة تتوافق مع طبيعة الحدث وملابساته وخلفياته، وأن نقدم برامج تتفق مع قيم ومبادئ ديننا، ولا تخالف أسس العقيدة الإسلامية وأخلاقيات هذا الدين، وتسهم في تكوين رأي عام عالمي سليم تجاه قضايانا، وتعمل على الحفاظ على الهوية الإسلامية، وأن تصدر صحفاً ومجلاتٍ وكتباً بمختلف اللغات الأجنبية إلى جانب اللغة العربية، وأن تبث قنوات فضائية، ومواقع للإنترنت بمختلف اللغات تعرض قيم ومبادئ الإسلام وتاريخه وفكره وقضاياه، والسؤال الذي يطرح نفسه هو:
كيف يستطيع الإعلام في العالم الإسلامي ،وقد دخل فضاء العولمة عبر الأقمار الصناعية ومحطات البث التلفزيوني خارج الحدود أن ينهض بالأمة ويحافظ على هويتها واستقلاليتها؟
وأقول هنا جواباً عن هذا السؤال: إنَّ الإعلام في العالم الإسلامي لا يستطيع النهوض بهذا الدور مالم يكن إعلاماً إسلامياً؛ إذ كيف يستطيع القيام بهذا الدور، ومعظم القيادات الإعلامية فيه علمانية، ولن يكون الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي إعلاماً إسلامياً إلاَّ إذا تولت قيادته قيادات إعلامية ذات توجه إسلامي، والتزمت بميثاق "جاكرتا" للإعلام الإسلامي الذي وقَّعت عليه ما يقرب من 450 شخصية إعلامية إسلامية قبل حوالي 23 عاماً، ومن أهم بنود هذا الميثاق:
1- ترسيخ الإيمان بقيم الإسلام ومبادئه الخلقية.
2- العمل على تكامل الشخصية الإسلامية.
3- تقديم الحقيقة له خالصة في حدود الآداب الإسلامية.
4- توضيح واجباته تجاه الآخرين وبحقوقه وحرياته الأساسية.
5- العمل على جمع كلمة المسلمين، ودعوتهم إلى التحلي بالعقل والأخوة الإسلامية والتسامح في حل مشكلاتهم، مع الالتزام بمجاهدة الاستعمار والإلحاد في كل أشكاله والعدوان في شتى صوره والحركات الفاشية والعنصرية، وبمجاهدة الصهيونية واستعمارها الاستيطاني المدعم بأشكال القمع والقهر التي يمارسها العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
6- التدقيق فيما يذاع وينشر ويعرض حماية للأمة الإسلامية وبقيمها ومقدساتها ودرء الأخطار عنها.
7- أداء رسالتهم في أسلوب عف كريم حرصاً على شرف المهنة، وعلى الآداب الإسلامية، فلا يستخدمون ألفاظاً نابية، ولا ينشرون صوراً خليعة، ولا يتعاملون بالسخرية والطعن الشخصي والقذف والسب والشتم وإثارة الفتن، ونشر الشائعات وسائر المهاترات.
8- الامتناع عن نشر كل ما يمس الآداب العامة أو يوحي بالانحلال الخلقي، أو يرغب في الجريمة والعنف والانتحار، أو يبعث الرعب، أو يثير الغرائز سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، واليقظة الكاملة لمواجهة الأفكار والتيارات المعادية للإسلام.
9- الامتناع عن إذاعة ونشر الإعلان التجاري في حال تعارضه مع الأخلاق العامة والقيم الإسلامية.
10- الالتزام بنشر الدعوة الإسلامية والتعريف بالقضايا الإسلامية، والدفاع عنها، وتعريف الشعوب الإسلامية بعضها ببعض، والاهتمام بالتراث الإسلامي، والتاريخ والحضارة الإسلامية، ومزيد العناية باللغة العربية، والحرص على سلامتها ونشرها بين أبناء الأمة الإسلامية، وبالخصوص بين الأقليات الإسلامية.
11- إحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية لاسترجاع السيادة التشريعية للقرآن الكريم والسنة النبوية.
اعتقد أنّ هذا من أهم الوسائل التي تمكِّن إعلامنا من النهوض بالأمة الإسلامية، والمحافظة على هويتها واستقلالها، ولكن أين الإعلام العربي والإسلامي منه
=============(9/291)
(9/292)
القشة .. العولمة .. البعير !!
أنور علي العسيري 4/10/1423
19/12/2001
يتلبس العالم اليوم مفهوم جديد يشكل في ذهنه تنظيما مستحدثاًُ لأشكال التعاون بين الدول ، يحاول أصحاب هذا النظام إقناع المجتمعات البشرية بمستقبل يوحد ارثها الحضاري تحت عباءة تجربة حضارية عالمية واحدة تضع نفسها أنموذجاً للتطبيق على الآخرين! فمنتجات العالم الفكرية والتقنية خاصة وسائل الاتصال ستؤدي تلقائياً إلى توحد ثقافات الشعوب واندماجها فيما يحقق عالمية الأهداف والمصالح . هذا الطرح يقود إلى إلغاء خصوصية الضعيف الذي لا يملك ما يروج به منتجه الحضاري... نحو القبول بكونه متلقياً لمفردات الحضارة الجديدة لاصانعا لهاً ، وهنا سيكون متلقياً للتجربة الليبرالية الغربية الممثلة بمركز العالم الجديد ؛ الولايات المتحدة الأمريكية .
دعوات خبيثة تهدف لفصل ثقافات الشعوب وهدم حدودها ومسح هويتها باتجاه الذوبان الكلي في قلب منتج ثقافي لدولة واحدة لا يتذكر التاريخ لميلادها سوى سنين حبو أولية ! من هنا حاولنا وعبر نقاط مختصرة أن نلقي بأدواتنا على حدودها نقرأ واقعاً له مسبباته، مسترشدين بسنة الله في استحالة ثبات الدورة الحضارية للأمم ، لعلنا نستشف شيئاً ما خلف ضجة أبواق الشر الأبيض .
يبدو أن بوش الابن يحاول فرض العولمة التي أصدرها واثقا بوش الأب بعد انتهاء حرب الخليج الثانية وذلك عبر القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية يغلف هذه الحملة الضخمة إعلام أمريكي موجه بشكل جديد من الاستخراب ليس في خانة مواجهة الجيوش أو تصدير الأيديولوجيات ... إنما في تحقيق هدف خلاصته : القبض على زمام الوعي العالمي وتوجيهه بل واستنساخ عواصم غربية مشوهة في مناطق العالم تحمل نماذجها ولا تحمل قوتها!
ما نؤكده رغم آراء أساتذة السياسة الأمريكية وخبراء اقتصادها ومهندسو فكرها في شأن قدرة أمريكا على فرض نمط العولمة الشاذ على الشعوب أن صانع القرار السياسي الأمريكي لم يعر بالا لخصومه لأنه تكلم بلغة فوقية وهذه اللغة هي التي ستفتك بسرير العسل الذي تنام بين أحضانه أمريكا اليوم ولا أدل على هذه اللغة من تجاهلها لتزايد العداء الشعبي العالمي تجاه سياساتها في العالم بيئية كانت أو سياسية أو اقتصادية .
أهداف الأمركة العالمية :
هناك محاور رئيسة يقرأ المتابع من خلالها خريطة الأهداف الأمريكية الموعلمة :
ثقافية : بحيث يتم تذويب كل الثقافات تحت مظلة الثقافة الأمريكية، تلتقط الشعوب فتات نسقها الثقافي المستقبلي من قيم لا تنتمي لها ، ترتدي النساء السترة التي أعجبت بها فتاة أمريكا أولا ! ويشاهد أطفال العالم أفلام الكرتون التي أدهشت أطفال أمريكا أولا.
اقتصادية : بحيث تكون هي مركز العالم المنتج ويتحول العالم إلى غابة متشابكة لا تؤدي سوى دور الخدمة عبر إمداد السيد الأمريكي بحاجته من المواد الخام واستهلاك ما ينتجه بعد ذلك .
سياسية: وهنا تتضح معالم التحيز الأمريكي في العالم ففي حين نجد أمريكا تتدخل في دول بحجة الدفاع عن الديمقراطية فهي في المقابل لا تتحدث عن أبسط انتهاكات حقوق الإنسان في دول أخرى ، فسياسة أمريكا أن تكون هي قطب العالم السياسي وتحول الدول إلى أنظمة سياسية تحت سلطتها عبر دعم إقامة أصاف أو أرباع ديمقراطية في البلدان المختلفة بحسب المصلحة وعبرها تستطيع تمرير عبثها الانتهازي في السيطرة على الشعوب ومقدراتها .
لقد فرضت أمريكا على نفسها وعبر هذه الرؤية للعالم مواجهة من نوع آخر ؛ مواجهة تقف فيه أمام الشعوب . فهل تنتصر أمريكا على شعوب ترفضها ؟
نستطيع القول إن نجاح أمريكا في الضغط على كثير من الأنظمة السياسية في دول العالم البعيد والقريب من خلال التأثير المباشر أو غير المباشر في سلوك متخذ القرار السياسي ودفعه إلى تطبيق سياساتها ؛ لا يعني انتصارها في ميدان الشعوب ، فقد يكون نظام العولمة الجديد القشة التي تقصم ظهر البعير الأبيض ولا أدل على ذلك من مظاهرات المئتين ألف شخص في مدينة جنوة ضد استبداد سيدة الديمقراطية العالمية وأن كانت تلك مجرد خطوة شعبية مزية ألا أنها بداية قوية لرفض نمط من الاستبداد الجديد عبر تزايد التنظيمات الغير رسمية في التأثير، وهذا التطور لهذه التنظيمات مرتبط حتماً بتزايد مسلسل الاستبداد الأمريكي العالمي !
ما قبل سقوط العولمة :
تدور هذه الأيام محاولات جادة للخروج من قفص السيطرة الأمريكية على العالم شكلتها قوى ضغط شعبية في أوروبا أثرت في صانع القرار الأوروبي ، وأخرى شرقية ذات نظام طامح للسيطرة ؛ منها :
الاتحاد الأوروبي : بتكتل واندماج وتسارع وستغلال كل فرصة سنحت لكسب جولة تعينه على التفوق ولو المعنوي على أمريكا!(9/293)
الصين : تتخذ من ترسانتها العسكرية منافس غير سهل وتعد نفسها للخلافة على الكرسي العالمي من الآن، والتكتل الاقتصادي هو سيد الموقف اليوم فهل تنجح أوروبا في سحب البساط من الجميع ؟ أم تخلط الصين أوراق اللعبة بإيجاد معادلة تكامل مع روسيا الجديدة ذات النمط الغربي المشوه فتحقق لنفسها ضربة قد تغير خريطة القرار السياسي في العالم أو قد تهز نوافذه على اقل تقدير.
المسلمون والسباق الحضاري :
الوضع الذي تمر به الأمة لا يمكن لإنسان أن يقول فيه إننا قادرون على خطف نتيجة هذا السباق الحضاري حالياً وان كنا نملك مقوماته لكن عصور من التدهور أرهقت كاهل مفرداتنا الفكرية، وكبلتنا بقيود خارجة عن ديننا الحق فألجمت مسيرتنا الحضارية ... فهل يعني هذا الأمر أن ننتظر إلى من يؤول السباق؟
بالطبع لا.. إذا ما الحل ؟
الحل يدور في مجموعة دوائر رئيسة يغلفها الصبر حتى يحين موعد النصر :
* إعداد الأمة وتربيتها على العقيدة الصحيحة وتهيئة العقول الشابة لخوض مراحل الصراع التقني القادم .
*فتح مساحات الحرية في المجتمعات سيحفز قوى الإبداع للقبض على زمام القيادة والنهوض بالأمة من جديد.
*سد الفجوة بين متخذ القرار السياسي ومتخذ القرار الفكري وأصحاب العقول في الأمة للاستفادة من دورهم في ترشيد العمل الإنمائي عبر بحوثهم ودراساتهم وآرائهم .
* الانفتاح الداخلي بين الدول المسلمة وبعث مساحات للتحرك الاقتصادي والسياسي والثقافي بين الشعوب حتى تتشابك المصالح فيتولد وهج القوة الذي نريد .
* الاتجاه الحذر المنضبط نحو فتح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والصين ككتلتين مختلفتين لهما وضعهما في السياسة الدولية والاستفادة من هذه العلاقة في دعم نمونا الذاتي وترشيده .
أخيرا :
يجب أن نعلم أننا أمة أصحاب حضارة قال المفكر الإنجليزي (رو جر بيكون )في القرن الثالثة عشر: أعجب ممن يريد أن يبحث عن الفلسفة والعلم وهو لا يعرف اللغة العربية !!
لذا فان ما يسمى بالنظام العالمي الجديد وان كان في بداياته ومعالم أدواته لم تفرض بعد كامل سطوتها.... فهو يظل مرحلة عابرة ، لأن الاستبداد لا يدوم وما علينا إلا الإعداد ، فإذا ما بدأنا العمل فهذا يعني أحد أمرين : إما أن ينهار الشر الأمريكي قبل أن ننتهي من بناء ذاتنا وبالتالي سيصعد نجم غيره فنكون قد ضمنا بإذن الله لأنفسنا أخذ زمام الكرسي الثاني والاقتراب من خطف المقعد الحضاري الأول، أو أن تستمر أمريكا في سطوتها لفترة أطول نكون خلالها وصلنا لمرحلة المنافسة والتقدم إلى أن تبدأ الدورة الحضارية الجديدة للعالم ، يقبض فيها المسلمون من جديد على زمام الحضارات يغرسون فيها نور الحق والله اعلم
===============(9/294)
(9/295)
قضايا المرأة.. من وطنية المنطلقات إلى عولمة الأجندات
أ.د. نادية محمود مصطفى
…
04/08/2003
قضية المرأة والنهوض بأوضاعها لا تنفصل عن البرامج التنموية التي يتم من خلالها تحويل تلك الغاية لواقع ملموس، ولا تنفصل عن التشريعات التي تتغير لتوافق ذلك.
وهناك العديد من العوامل التي تتداخل مع عملية التغيير ومسارها واتجاهها: فهناك مسألة التشريع والدور الذي تلعبه جماعات المصلحة التي تضغط لتغييره، وتشكيل النخب الفاعلة داخل هذه الجماعات (والنخب والجماعات البديلة المحجوبة)، وهناك المصالح الخارجية والاتفاقات الدولية التي تفرض إعادة تشكيل القوانين الوطنية وما يتداخل معها من عملية التفاوض التي تتم عبر الأجهزة الرسمية من أجل المشاركة في صياغة المواثيق الدولية حال صناعتها، وهناك دور المجتمع المدني الأجنبي في دعم توجهات بعينها وبناء شبكات تحالفات دولية في ساحات المجتمع المدني العالمي، وغيرها من هموم صياغة الأنساق الاجتماعية والقانونية، المحلية والدولية.
القضية -بحق- أكبر من حدود مقال أو دراسة، بيد أن إثارة قضية التمويل الأجنبي للبرامج التنموية التي تعيد تشكيل الواقع على أرضية حياة الناس اليومية تستحق تحليلا أوليًا نجتهد في تلمس أبعاده.
ولعل أهم هذه الأبعاد تشابكات السياق العالمي والوطني الذي أفرز قضية التمويل الأجنبي في مجال قضايا المرأة، وعواقب هذا التمويل ودلالاته، وأبعاد المقارنة بين النموذج التغريبي الذي يحمله التمويل الأجنبي معه ويسعى لفرضه وبين النموذج الحضاري الإسلامي الذي ينبع من واقعنا ورؤيتنا الوجودية، والذي قلما يجد من يدعمه ماليًا، وإذا وجد فما تلبث حسابات التنافس السياسي والتحزب أن تُحجِّم دوره لتلقي السياسة بظلالها على الاجتماع الإنساني، ويصبح التساؤل: ما هي البدائل اللازم توفيرها لتقليص الاعتماد على التمويل الأجنبي وتحقيق تنمية مستديمة ووطنية، وأفق ذلك على أية حال في ظل تضاؤل الهامش الديمقراطي الراهن الذي هو شرط أي مشروع نهضوي مستقل؟.
التمويل وسياسات العولمة
ليس جديدًا القول بأن السياق الذي أفرز التمويل الأجنبي في مجال المرأة هو سياق العولمة، فنحن في مرحلة عولمة قضية المرأة منذ الربع الأخير من القرن العشرين، وذلك بعد أن شهدت القضية -منذ نهاية القرن الـ 19 وبداية القرن الـ 20- مرحلة عصر التحديث ثم عصر ما بعد الاستقلال الوطني، وأثرت طبيعة كل مرحلة على تنوع وتطور خطابات وأفكار تحرير المرأة، وعلى درجة التدخل الخارجي وشكل العلاقة بين الاتجاهات والقوى الاجتماعية والثقافية في عالمنا العربي والإسلامي، ثم صار لمرحلة العولمة أيضًا خطابها، وبرز التأثير الخارجي على قضية المرأة في ظل العولمة، فلقد كان اختراقًا من قبل الكتلة الرأسمالية العالمية التي قادتها الأمم المتحدة، والتي أرادت أن تقنن مذهبها لتلتزم به دول العالم فيما يتصل بتغيير أوضاع المرأة لتتوافق مع احتياجات السوق العالمية، وما ينشده من تفكيك للقيم وللوحدات الاجتماعية التي تدعم الفرد كي يقف وحيدًا أمام السوق، بل ولتصبح المرأة ذاتها سلعة في كثير من قطاعات هذه السوق الخدمية.
ولم يكن التمويل الأجنبي إلا إحدى أهم آليات وسبل هذا الاختراق الخارجي المقنن تحت راية الشرعية الدولية لإعادة رسم خرائط المجتمعات في شتى أنحاء العالم، بما استنفر قوى مناهضة العولمة سواء أستندت لأفكار أيدلوجية أم دينية أم قومية؟.
ولقد تعددت الأجهزة والمؤسسات والوكالات الدولية المانحة المرتبطة بسياسات الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، وبالمنظمات الإقليمية المتعاونة معها. وكان مجال عملها في هذه الحالة هو الثقافة والمجتمع من خلال مدخل المرأة و"جندرة" أجندتها إعلاءً للفردية وللسوق الرأسمالية على ما عداه من معايير التحرر. وفي المقابل، لم تعدم الساحة الوطنية - ظهور مراكز قوى ثقافية واجتماعية راغبة وقادرة على التعاون والتمرير لتلك الأجندات ودعمها والترويج لها، ناهيك عن الحكومات ذاتها التي تسعى لتأكيد اندماجها في النظام العالمي، من خلال قبول سياساته العولمية، سواء في التجارة أو حقوق الإنسان أو المرأة. وبذا، لحق بمجموعة مراكز القوى الاقتصادية والمالية التي ارتبطت بالنظام الرأسمالي العالمي منذ موجة سياسات الانفتاح والتحرير والليبرالية التي اجتاحت العالم الثالث منذ أواسط السبعينيات، لحق بها معها مجموعة أخرى من مراكز القوى الثقافية والاجتماعية التي تتحالف بدورها مع مؤسسات دولية تضع وتطبق برامج وسياسات دولية خاصة بتغير أوضاع المرأة.
ويتجلى عبر فهم وتحليل هذا الوضع أكثر من دلالة ومغزى وعاقبة.(9/296)
فالدلالة المعنوية والرمزية لما يتم تشير إلى العجز؛ حيث إنه ليس بمقدورنا أن نغير أوضاعنا الداخلية بدون مساعدة من الخارج، كما يظل لهذا التدخل الخارجي من خلال التمويل الأجنبي آثار أخرى متعددة الجوانب تتلخص وتتمحور في خيط أساسي وهو انطلاق البرامج والسياسات الممولة من الخارج، وتأسيسها على مرجعية وأجندة غربية تربط التنمية والتحديث بالاقتراب من الثقافة والنموذج المادي العلماني الحداثي الغربي والمنظومة المعرفية السائلة للنظام العولمي.
كيف؟
ببساطة نجد أهم خصائص النموذج الغربي الخاص بالمرأة في المظاهر التالية للخطاب النسوي الصاعد:
- الوضعية الفلسفية (فصل الدين عن المجال العام برمته)، تقديم المادي والاقتصادي والفرداني (ونقض المعنوي والقيمي والجمعي).
- الاختزالية الجزئية (الاقتطاع من السياق العمراني الحضاري وعدم اعتبار المرأة ظاهرة اجتماعية إنسانية مركبة).
- العولمة على المثال الغربي (بعيدًا عن خصائص البيئة والتقاليد الثقافية والاجتماعية)... وهذه الخصائص يعبر عنها مضمون مفهومي الحرية والمساواة في تعريف التجربة الغربية.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر يمكن تفكيك الخصائص السابقة في التعبيرات التالية التي يعرفها الخطاب العولمي عن المرأة:
- النظر إلى الدين كمعوق لنمو المرأة، فالحجاب بالضرورة تهميش وعزل.
- الفردية المطلقة والحرية الكاملة ورفض توصيف المرأة بنسبةً كونها أمًّا أو زوجةً أو أختًا أو ابنة.
- الحط من دور المرأة في الأسرة أو في "النشاط بدون مقابل مادي نقدي"؛ حيث أضحى العمل خارج المنزل وبأجر هو أساس تأكيد الاستقلالية وأساس المكانة؛ لأن الأبعاد المادية الاستهلاكية هي معيار الفاعلية والإنجاز، ذلك في ظل النسبية المفرطة تجاه القيم الأخلاقية والمعنوية، والوفاء بمسئولياتها عنف وانتهاك ومصادرة لـ"إنسانيتها" التي صارت أسطورة فردانية من غير المقبول مراجعتها.
- ومن ثم أيضًا وفي مقابل الاهتمام بالحلول القانونية لمشاكل المرأة، مثل حق الطلاق والخلع (مع اجتزائهما من الشريعة دون تطبيق أو تفعيل باقي النسق القيمي التي تنبني عليه)، فلا تؤخذ في الاعتبار عواقب الأزمات العائلية التي تتنامى في ظل عمليات التحديث المتسارعة على تماسك المجتمع، بل وتنامي معدلات الانحراف والعنف المجتمعي، كما لا تؤخذ في الاعتبار المسئولية المجتمعية والأسرية المحيطة بعقود الزواج؛ حيث تزايدت الاتجاهات نحو العقود المدنية التي تعكس فقدان الثقة وتراجع الجانب العاطفي المعنوي والأسري أمام الجوانب المادية والطابع الثنائي الضيق.
- المعنى الشكلي لشعار المساواة في المجتمعات الفقيرة، فكيف يمكن أن تتحقق المساواة ومع مَنْ في ظل التخلف وتدهور مستوى الحياة؟
- وبالمثل فإن المشاركة السياسية محل الاهتمام ليست إلا مفهومًا ضيقًا محدودًا، يقصر المشاركة المطلوبة للمرأة على حق الترشيح والانتحاب وتولي المناصب العليا، في حين أن مجتمعاتنا تعاني من أزمة مشاركة سياسية ليست قاصرة على المرأة، ولكن يعاني منها الرجل أيضًا وبالأساس. هذا فضلا عن أن المشاركة يمكن أن تتخذ معنى أكثر اتساعًا يمتد إلى المشاركة في المجتمع المدني والمجال العام بكل مساحاته، وليس في النظام الرسمي فقط.
- ظهور مفاهيم وخطابات جديدة مراوغة ولزجة لم يكن يعرفها الخطاب العربي والإسلامي، مثل الحقوق الإنجابية، الثقافة الجنسية، يتم كشف مغزاها رويدًا رويدًا لتعني حرية الجنس والجسد، ليس فقط للمرأة داخل الأسرة بل للمرأة كفرد، بل للمراهقين أيضًا.
وفضلا عن التعبيرات السابقة للخطاب العلماني وحركته التي تحيط ببرامج التمويل الأجنبي، والتي تعكس خصائص نموذجه المعرفي والقيمي، فإن خبرة هذا القطاع من المجتمع المدني، إنما تقدم دلالات ذات أبعاد سياسية أيضًا، فتشير هذه الأبعاد إلى قدر التحيز وعدم الديمقراطية التي صارت عليها ممارسات المجتمع المدني، وذلك في نفس الوقت الذي من المفترض فيه أن يكون هذا المجتمع المدني من دعائم التحول الديمقراطي المأمول في مجتمعاتنا. بعبارة أخرى فإن التفاعلات حول قضية المرأة وما تظهره من استقطاب حاد بين الاتجاهات والقوى المتنوعة تمثل ساحة هامة لبيان قدر تأثير السياسة على تجربة المجتمع المدني والمفهوم المنقوص عن التحول الديمقراطي والمجتمع المدني؛ حيث يظهر جليا التحيز الذي تعاني منه بعض القوى والاتجاهات، وهو الأمر الذي يمثل في حد ذاته البوصلة التي يتحرك بموجبها التمويل الأجنبي: فلمن يذهب؟ وعمن يعرض ويتحول؟
من ناحية: في مقابل علو الصوت الراديكالي النسوي الذي يلقى المساندة من الحكومات ومن المؤسسات الدولية، يغيب خطاب إسلامي فاعل لانشغاله بالدفاع ضد ما يتعرض له من انتهاكات حقوق الإنسان ولانشغاله بالبحث عن مصادر التمويل اللازمة.(9/297)
ومن ناحية أخرى: وفي حين يتدعم التحالف بين الرافد النسوي العلماني وبين الحكومات، يظل القطاع المدني من التيار الإسلامي محرومًا من الدعم نظرًا لربطه من قبل النظم الحاكمة بل وأجهزتها الأمنية مع المعارضة السياسية "المحجوبة عن الشرعية" والمتهمة بالعداء للغرب. فعلى سبيل المثال رفض صندوق مؤتمر بكين تمويل جمعيات إسلامية أرادت المشاركة في المؤتمر، ولم يتوافر لها الموارد التي توافرت للدوائر "النسوية"، وكلما تزايد الهجوم على الحركات الإسلامية وحظرها بصفة عامة قلت قدرة القطاع المدني من التيار الإسلامي على المشاركة. ومن ثم تظل الساحة مفتوحة أمام "النسويات" فقط اللاتي يتصدّرن المواقع، ويشاركن في المؤتمرات الدولية بلا منافس، باعتبارهن المدافعات بمفردهن عن حقوق المرأة في مواجهة "التيارات الظلامية"، ونظرًا لهجومهن الشديد على موقف الإسلاميين من المرأة تتم مكافأتهن بالمناصب السياسية وشبه الرسمية.
وفي المقابل، يتبلور ويتنامى -ولكن بهدوء وبعيدًا عن الأضواء والاهتمام- دور نشط لسيدات مسلمات نشطن على صعيد العمل الأهلي في مجال دعم المرأة وفقًا لمنظور حضاري إسلامي، هو دور لا يرى الحجاب رمزًا للضغط أو القهر أو العزلة أو التهميش، ولكن يمثل وسيلة للتمكين ولحرية الحركة ولتوسيع دائرة النشاط؛ لأن الإسلام في نظرهن إنما يؤكد تحرير المرأة وفعاليتها، كما أن الإسلام بأحكامه وقيمه وسننه وخبرات تاريخه إنما يقدم لهن نموذجًا معرفيًا وإطارًا مرجعيًا ينطلقن منه ويتبنين وفقًا له منظورا حضاريا إسلاميا.
وتتلخص أسس هذا المنظور فيما يلي:
*
الوعي بالمرجعية الإسلامية وخصوصيتها من حيث الثابت ومن حيث المتغير.
*
الهوية، والوعي بالذات المرتبط بالأمة دون انفصال عنها.
*
الانفتاح على التفاعل مع الخصوصيات الأخرى دون الاستلاب أو التبعية من ناحية وفي ظل استمرار التواصل مع التراث دون تقليد أعمى أو جمود أو ضغوط.
*
الجماعية كإطار لتوظيف الإبداعات الفردية والذاتية دون إفراط في الحرية الفردية ودون انسحاق في الجماعة.
*
الوسطية بين الإنتاجية المادية وبين القيمة المعنوية الأخلاقية.
وعلى ضوء هذه الخصائص للأصوات الإسلامية النسائية الصاعدة يمكننا:
أولا: أن نستقرئ 4 مستويات مترابطة وفق منظومة من القيم تعرف وتحدد وضع المرأة ككيان إنساني واجتماعي في علاقة حميمة مع: الأمة والمجتمع والأسرة ومع الآخر، تنفي هذه العلاقة المفهومَ التجزيئي الانسلاخي عند تشخيص مشاكل المرأة وتحديد سبل العلاج.
ثانيًا: تعكس هذه الخصائص وتستبطن قيم العدل، والحق المقترن بالواجب، أكثر مما تستبطن مفهومي الحرية والمساواة.
ثالثًا: تقود هذه الخصائص إلى مقاصد الشريعة النابعة من الإطار المرجعي التوحيدي.
رابعًا: يتبلور كل ما سبق في الرؤية الإسلامية التجديدية عن الحجاب، التعليم، المشاركة السياسية، العمل المهني، الأحوال الشخصية، الحرية الشخصية. ففضلا عن الجدال بين المنظور النسوي العلماني والمنظور الإسلامي حول هذه القضايا، وهو الجدال الذي يعكس اختلاف الأطر المرجعية ومنظومة القيم، فإن روافد التيار الإسلامي لا تتطابق في اجتهاداتها حول وضع المرأة. وهو الأمر الذي يستغله التيار العلماني ليضيفه إلى هجومه على مواقف الإسلاميين من المرأة رغم انقسامه هو ذاته بين مدارس أيدلوجية وأجنحة شتى متنازعة ومتنافسة.
إن الجمعيات أو المراكز التي تحمل بذور وثمرات فكر هذا المنظور الحضاري الإسلامي تقوم بدورها على ساحة المرأة دون تمويل أجنبي من المؤسسات الدولية، ودون دعم أو مساندة رسمية وطنية تداني ما تلقاه نظائرها "العلمانية"، ودون أن تقدر على التأثير إلا بصعوبة شديدة، وفي أضيق الحدود (كما حاولت في مؤتمرات القاهرة وبكين وبكين+5)، ودون أن تقدر على الائتلاف والتجمع خوفًا من الاتهامات السياسية، ودون أن تتوافر لها الخطط والكوادر والموارد اللازمة لتفعيل دورها، ودون أن تسلط عليها الأضواء الإعلامية.
من نماذج الريادة للمرأة المسلمة: د. زهيرة عابدين
في مايو 2002 فقد أطباء مصر أمهم الفخرية: أ.د. زهيرة عابدين أم الأطباء والرائدة في مجال العمل الطبي الأهلي والخيري التطوعي في مصر والعالم العربي والإسلامي.
- كانت العالمة المتخصصة البارزة "ذات الحجاب" منذ وقت مبكر لم يكن قد شاع فيه الحجاب بعدُ كما حدث منذ الثمانينيات.
- كانت العالمة التي امتد علمها إلى نطاق عملها الأهلي التطوعي، فحققت الجمع بين قيمتين عظيمتين: العمل الأكاديمي والعمل الأهلي.
- كانت المصرية الوطنية الصادقة دون أن تفقد الصلة مع الأمة، فلقد كان همُّ المسلمين في كل مكان شاغلها الأساسي، بقدر ما كان يشغلها همُّ المصريين.
- كانت المحافظة على تقاليد ثقافتها بقدر انفتاحها على أرجاء العالم، حيث ذهبت هنا وهناك مكرمّة أحيانًا، وخادمة للهدف الإنساني أحيانًا كثيرة.
- كانت الأمَّ لأبنائها وبناتها.. وكانت الأم والمقصد لكل الساعين لتجميع الجهود في مجال العمل الإسلامي المتنوع.(9/298)
- كانت الإنسانة الداعمة لأعمال الخير التي تلبي الاحتياجات الأساسية للفقراء، وكانت المربية الواعية لأهمية العقل والفكر أيضًا، فكانت المدارس الإسلامية إلى جانب الملاجئ والمستشفيات والمشاغل ثمرةَ سعيها.
- كانت الناشطة في تعبئة الموارد الوطنية والعربية والإسلامية اللازمة لأعمال الخير والفكر والعلم، وكانت الواقفة أموالها لهذه الأعمال داخل وخارج مصر.
- كانت كل هذا، ولم تكن تحت الأضواء التي سلطت على من هن أقل علمًا وفكرًا وحسًا ووطنية وإخلاصًا.
إنها خبرة النموذج الذي نحتته "أم الأطباء" بجدارة وإخلاص في مجال العمل الأهلي.
ولا يحضرني فقط رمز المرأة بل أيضًا ما نشهده من نشاط جماعي، مثل جمعية دراسات المرأة والحضارة بالقاهرة برئاسة أ.د. منى أبو الفضل أستاذة كرسي زهيرة عابدين للدراسات النسوية في جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بواشنطن.
ولعلي أصل للقول بأن خبرة حياة د. زهيرة عابدين تقدم النموذج لأمرين أساسيين:
الأول: إن المرأة المسلمة مدخل أساسي للتغيير في مجتمعاتها، سواء أكانت فاعلا أو مفعولا أو متفاعلا، ولقد كانت زهيرة عابدين فاعلا أساسيًا سعَى لتجديد طاقات النموذج الحضاري الذي نبت في ظل قيمه وتقاليده، فربطت بين العمل الخيري والعمل الفكري لتؤكد أهمية الربط بين القدرات المادية وغير المادية.
الثاني: إن هذا التجديد اعتمد على الجهود والموارد الوطنية المصرية والعربية والإسلامية. فأثبتت أن الزكاة والصدقة والوقف يجب ألا تتجه إلى الأعمال الخيرية "التقليدية"، ولكن يجب أن يتسع نطاقها ومداها لتمتد للأعمال الإنتاجية، وللأنشطة الفكرية والبحثية، كما أن الجهود يجب ألا تظل فردية، ولكن يجب أن تصبح جماعية، وتتخذ أطرًا مؤسسية.
هذه خواطر أردت منها أن تذكرنا بأن الواقع النسائي الإسلامي ليس راكدًا بل حي متفاعل، وما ضربت إلا نموذجا، والأمثلة كثيرة ومشرفة، لكننا نقصر في دراستها وتقديمها ودعمها بل والترويج والتسويق لها، كما يفعل الغرب ببضاعته وناسه، وليس ذلك عن عجز في الإمكانات أو الكفاءات، بل ربما -أساسا- عن عجز في الهمة، ووهن في التدبير.
===============(9/299)
(9/300)
المرأة في الرؤية الإسلامية.. واجبات لا حقوق
…
05/07/2001
في إطار الصراع الإسلامي-العلماني اجتهد الإسلاميون لإظهار الحقوق الكبيرة التي منحها الإسلام للمرأة، سابقًا بذلك أمم العالم المتحضر.
وفي إطار ذلك الصراع خرج المستشار البشري ليعلن رؤيته الخاصة التي ترى أن الإسلام لم يعطِ للمرأة حقوقا.. فليس في الإسلام حيالها سوى واجبات. فهل يرى المستشار البشري أن نظرة الإسلام للمرأة، وجملة الأوامر والنواهي المرتبطة بقضاياها ليست سوى تكليفات بفروض وواجبات تتحملها المرأة؟ أم أنها واجبات لصالحها؟
ويؤكد المستشار البشري أن تحميل قضية المرأة بالواجبات أمر يجعل المرأة في منأى عن الصراع مع الرجل، حيث لا محل لصراع جوهره التراضي الإيماني. فكيف ينشأ التراضي الذي يقصده المستشار البشري في إطار مثل هذه الرؤية؟ وكيف تتعامل المرأة مع هذا الطرح الجديد؟ وهل ترتضيه؟ وهل يرتضيه المجتهدون من العلماء والإسلاميين؟
المرأة في الرؤية الإسلامية.. واجبات لا حقوق
المستشار طارق البشري
تمهيد
موضوع هذه الورقة اشتد حوله الجدل في السنين الأخيرة، أو هو في مجال من أهم مجالات المعارك التي دارت خلال السنوات العشر الأخيرة بين الإسلاميين والعلمانيين، وهي موضوعات: المرأة، والربا، وغير المسلمين، والفنون.
أراد العلمانيون بإثارة هذه الموضوعات إثبات أن شريعة الإسلام متوقفة عن التطور، وأنها أفكار قديمة بالية، وأنها لا تصلح لأيامنا هذه: أيام التقدم والتحضر والنور (يقصدون أيام سيادة نماذج الحضارة الأوربية). وحشد الفكر الإسلامي جهوده للرد على هذه الدفوع، وقام رجال الفكر الإسلامي في هذا الشأن بين مدافع عن أحكام الشريعة مبين صلاحيتها، وبين مجتهد في الأحكام لبلوغ ثوابت التشريع الإسلامي في تفاعلها مع أوضاع الحاضر.
والخطاب الصادر عن الطرف الإسلامي صنفان: خطاب موجه لفصائل إسلامية أخرى يحاول معها ترجيح رأي مجدد، أو التنبيه للتمسك بالنظر التقليدي. والصنف الآخر خطاب موجه للطرف العلماني: مهاجمًا إياه، أو مدافعًا عن نفسه، أو شارحًا وعارضًا ما لديه من جديد، لعل الطرف العلماني يرضى، أو بالأقل يعترف بأن الآخرين لهم الحق في الوجود في هذا العصر الحاضر، "عهد التقدم والتحضر والنور".
أما الخطاب من الطرف العلماني فليس إلا صنفًا واحدًا موجهًا إلى الإسلاميين يريد التأكيد على أن فكر الإسلاميين من فكر الغابرين، وليس له جدارة البقاء.
ولم ألحظ أن حوارًا يجري بين العلمانيين بعضهم وبعض في بلادنا حول الصالح والجيد والرديء في الفكر الإسلامي.
ومن هنا يرجح لديَّ الظن أن الخطاب الإسلامي أكثر جدارة للبقاء، لا من حيث قياسه بمقاييس خارجة عنه بمعايير حضارية أخرى، ولكن من حيث إنه ينطوي على قدرة على التفاعل الذاتي. فالخطاب الإسلامي خطاب نهضة، يتضمن حوارًا داخليًا في إطار الفكر الإسلامي، وليس كخطاب العلمانيين خطابًا مصمتًا، وحيد الجانب، موجها للآخرين فقط، دون أن يتضمن تفاعلاً داخليًا أو حركة ذاتية.
فكرة الحق في الإسلام مقارنة بالفكر الغربي
التصور الإسلامي مبنيٌ في ظني على أساس التكوين الجماعي للمجتمع، وليس على أساس التكوين الفردي، وهو في الغالب الأعم ينظر للفرد في إطار وجوده الجماعي، ومن ثم على أساس التكوينات المؤسسية التي تنظم هذه الجماعات وتتحدث باسمها. ولأن هذا هو التصور فقد قام النسق الحقوقي للفرد في الإسلام مصاغًا في صورة واجبات؛ فحقوق الزوجة في الأسرة تحددها واجبات الزواج، وحق الولد في النفقة من أبيه يحددها واجب إنفاق الأب على ابنه، وحق الجار من واجب الجار الآخر إزاءه…
هذا الأسلوب في صياغة حق الفرد بأنه واجب على الغير إزاءه يتفق مع التكوين المؤسسي الذي يتكون بهذه الطريقة، طريقة بيان ما على أعضاء هذا التكوين من واجبات لغيرهم من الأفراد داخل الجماعة وللجماعة كلها. وهي صياغة توقظ في الفرد دائمًا مثيرات العطاء لا مثيرات الأخذ، كما يُعبَّر أحيانًا في النظرية القانونية الوضعية عن الحق بوصفه التزامًا.
إن الصياغة الليبرالية للفكرة الحقوقية في الغرب، تنظر إلى الفرد كما لو أنه مستقل عن الجماعة في تصوره الأصلي، أي أنه في البدء كان فردًا ثم دخل الجماعة متنازلاً عن بعض حقوقه لتحمي له الجماعة حقوقه الباقية، فظهرت فكرة الحق في تصور فردي. وهذا التصور غير صحيح؛ لأن الفرد لم يكن خارج جماعة قط منذ مولده وحتى وفاته، ولأن اندراجه مع الجماعة لا يفقده حقوقًا فردية له، بل يكسبه هذه الحقوق، والحق "علاقة"، ولا يمكن فهم حق الفرد دون آخرين تقوم معهم هذه العلاقة.
كما أن وضع الفكرة الحقوقية بهذا التصور الليبرالي، الذي يؤكد على الحق، إنما أقام الحق في مواجهة الغير، فصار حق الفرد ينتهي عندما يبدأ حق غيره، وحريته تقف عند بدء حرية غيره. وهكذا صار وجود الآخر يشكل قيدًا، وهو نوع من الانتقاص؛ لذلك يصعب فهم الفكرة الحقوقية الغربية بدون مفهوم الصراع.(9/301)
وقد انسبغ ذلك على وضع المرأة في الغرب، فصيغت حقوقها في مواجهة الرجل على أن كسبها يتأتى من صراعها معه، حتى في العلاقة الزوجية. وغابت عن هذا التصور فكرة المساكنة بين الزوجين التي أوردها القرآن الكريم، وفكرة البناء المشترك للأسرة كمؤسسة اجتماعية تتولد الحقوق فيها عن التكاتف والتآزر لا الانتقاص من حق الآخر.
وهنا نلمح جزءًا هامًا لخلاف جوهري بين التصور الإسلامي والتصور الغربي. فالخطاب الإسلامي موجه في الأساس للجماعات، والإنسان وسط الجماعة لم يتنازل عن حق، بل ينشأ عنه ذلك الحق وتنشأ معه حريته في إطار الاجتماع، والواجب عليه هو حق الآخرين. وهذا الأمر ينطبق على رؤية حق المرأة في إطار علاقتها بالرجل. فتلك العلاقة الأخيرة ليست صراعية، فلا ينتقص حق طرف من حق الطرف الآخر، بقدر ما إن حق كل طرف لا يتأتى إلا من خلال العلاقة مع الطرف الآخر.
تعليق على الموقف من نقص شهادة المرأة
تشهد قضية شهادة المرأة أهمية متزايدة من جانبين:
الجانب الأول يتعلق بالمصدر العلماني الذي يرى في قضية شهادة المرأة موطنًا لالتماس الطعون على التشريع المستمد من الأصول الإسلامية، من زاوية انطواء هذه الأصول على تمييز سلبي ضد المرأة يفضي بها إلى وضع تنعدم فيه مساواتها بالرجل. كما يشهد - من جانب ثان - تناول بعض الإسلاميين لهذه القضية من زاوية الدفاع عن الإسلام، مع تباين منطلقات فصائل الإسلاميين ومقولاتهم في هذا الصدد.
وعند التعرض لوضع المرأة المستفاد من نقص شهادتها يسارع البعض للتأكيد على أن مساواة شهادة الرجل لشهادة امرأتين، لم ترد إلا في سورة البقرة في آية "الدين"، وأن باقي الشهادات لم يرد في القرآن نص بشأن ارتباطها بشروط الرجولة لصحة الشهادة أو كمالها، إنما قام الشرط في حدود العدالة. وعندما عرضت المقولات التي أسلفنا الإشارة إليها لهذا الأمر، كنت أود أن يُستكمل عرض هذه المقولات بالتعرض لطبيعة الشهادة، فإن ما جرى عليه النظر لدى كثير من الفقهاء أن في الشهادة معنى الولاية، ومن هنا جرى القياس؛ قياس نقص ولاية المرأة بعامة على حكم نقص شهادتها. وهذه النقطة تحتاج إلى تحرير، فهل الشهادة ولاية أم إخبار؟
إن الولاية إذا أردنا أن نُعرِّفها في كلمات مُبسطة قليلة، هي إمضاء القول على الغير. وهي تكون ولاية خاصة إن كان إمضاء القول على محصورين معينين، وتكون ولاية عامة إن كان إمضاء القول على غير محصورين. هذا هو نوع الولاية بصفة مجملة. فالولاية قولٌ نافذٌ على الغير، أي أنها حسب المصطلحات الوضعية الحديثة، هي في صورتها العامة صلاحية إصدار قرارٍ ينشئ مركزًا قانونيًا للغير أو يعدله أو يلغيه.
والمركز القانوني مجموع حقوق والتزامات. والولاية في صورتها الخاصة - بالرؤية الوضعية - هي صلاحية التصرف عن الغير بإنشاء مجموعة من الآثار القانونية - حقوقًا أو التزامات في حق هذا الغير. هذا هو جوهر الولاية بالمعنى الفقهي المقصود هنا.
أما الإخبار فهو التحديث بأمر وقع أو ذكر حادث حدث. وهو ليس الوقوع ولا الحدوث ولكنه القول بذلك. وهو ليس إنشاء الأمر ولكنه إثبات نشوء الأمر. الإخبار هو نقل الوعي بوقوع الأمر من شخص عارف به إلى شخص آخر غير عارف به. والإخبار بهذا الوضع لا ينشئ بذاته مركزًا قانونيًا ولا يُعدِّل منه ولا يلغيه، إنما يقوم به ثبوت أمرٍ قد يُفضي إلى إنشاء مركز قانوني أو تعديله أو إلغائه.
والشهادة في حقيقتها هي إخبار بفعلٍ حدث أو بواقعةٍ نزلت أو بحقٍ لأحد على أحد، ولا يقوم بها بذاتها تقرير ما يترتب على شيء من ذلك من أثر يوجبه الحكم. والشهادة تكون بما وقع تحت بصر الشاهد أو سمعه من فعل أو قول. ومع كون الشهادة من قبيل الإخبار إلا أنها كانت قديمًا أقوى أدلة الثبوت الشرعية التي يُعترف بها أمام القضاء، ولذلك سُميت البينة بحسبانها دليل الثبوت الغالب، لا يقوى عليها إلا الإقرار على النفس، أو اليمين في بعض الأقوال في بعض الأحيان.
وقد قرر الفقهاء أن دليل ثبوت الحق هو ما عليه المعول في معرفة هذا الحق وترتيب آثار قيامه، وإذا لم تكن الكتابة منتشرة وكانت المعرفة بها محدودة، والحصول على وسائل من أدوات وأوراق ليس متوافرًا، وكانت الأمية غالبة، والترحال كثيرا، وحفظ الأوراق لا يجري مجرى العادة ولا تتوافر وسائل ضبطه، إذا كان كل ذلك، كانت الشهادة هي أقوى وسائل إثبات الحقوق، وكانت هي تقريبًا ما عليه المعول في الاعتراف بقيام الحق أو الاعتراف بحدوث النازلة التي تستوجب ترتيب الأثر الشرعي، سواء في مواد المعاملات أو مواد الحدود وغيرها.(9/302)
ولما كان للشهادة من الحسم في ترتيب ما حجم عن المشهود به من آثار شرعية، جهد الفقهاء في تفصيل أحكامها وتبيان شروطها من حيث التحمل ومن حيث الأداء، وشروط كل من ذلك، ومن حيث أنواع الشهادات وأنواع المشهود به، وشروط الشاهد من حيث عدالته وتجريحه ومراتب الشهود من العدل المبرز إلى غير المبرز إلى من تُتوسم فيه العدالة إلى من لا يُتوسم عدله ولا جرحه إلى من يُتوسم جرحه إلى المعروف بالجرح، ولكل منهم نوع أداء يصلح به بذاته أو بغيره وهكذا. وقد قيل في الأثر: "شاهداك قاتلاك" دلالة على ما ترتبه الشهادة من أثر، كما لو أنه يترتب عليها باللزوم دون فكاك.
ومن هنا قال الفقهاء: إن الشهادة ولاية، يريدون بذلك القول بأن من شهد فكأنما رتب بذاته الأثر المقرر على ثبوت المشهود به، أي أنَّ من شهد كمن قرر وكمن قضى، ويبغون بذلك التوصية بوجوب التشدد وبذل أقصى الجهد في تحقيق شروط الشهادة لما لثبوتها من أثر الترتيب المباشر للحكم، يبغون إقران الشهادة بالولاية من حيث التشديد في الاستيثاق من عدالتها. وشبيه بذلك ما يُقال عن الإقرار بالحق عن النفس.
فالإقرار إخبار بحق للغير على النفس، ولكنه من الحسم في إثبات الأمر المقر به بحيث يعتبر كما لو أنه هو عين التصرف، أو هو عين الفعل المُنشئ للحق على النفس، وهو بهذه المثابة يلزم فيه ما يلزم من أهلية للتصرف رغم كونه إخبارًا في أصل وظيفته. وشبيه بذلك أيضًا ما نعرفه اليوم بالعقد المسجل؛ إذ له من الحسن في ترتيب الحقوق ما وصل ببعض التشريعات إلى اعتباره ركن نشوء للحق. وشبيه به أيضًا ما نسميه اليوم في لغة القانون التجاري من اندماج الحق في الصك، أي أن الحق اندمج في وسيلة إثباته، كـ"الشيك" أو "السهم" أحيانًا.
إن القول بأن الشهادة ولاية هو محض تصور فقهي، وليس حكمًا من أحكام التشريع المنزل. وهو تصور يفيد أهمية الشهادة في ترتيب آثار الأحكام، دون أن يجردها من أصل وضعها الوظيفي، وهو أنها إخبار ووسيلة ثبوت. وأهمية هذا التمييز تظهر حاليًا في زماننا المعيش؛ إذ انتشرت الكتابة تعلمًا وممارسة ووسائل استخدام وعادات استخدام. وهي أثبت وأحفظ، فصارت وسيلة الإثبات الأقوى، وصار الدليل المستفاد منها آكد وأوثق. وتراجعت الشهادة إلى أن صارت وسيلة إثبات ثانوية، ومن ثم يزايلها وصف الولاية الذي كان مبنيًا لا على طبيعتها ولكن على أهميتها، وكان مستمدًا لا من حقيقة كنهها ولكن من تفردها في الدلالة والثبوت.
يُضاف إلى ذلك أن ظهرت أدلة وأدوات ثبوت جديدة، مثل: المعاينة، والخبرات الفنية لأهل التخصص في كل ميدان، ونتائج المعامل الكيميائية، وهذه كلها إن أدخلها فقهاء الشريعة المحدثون في المعنى العام الواسع للشهادة، فهي من جانب آخر أخص من الدلالة المستفادة من الشهادة قديمًا. وقد تكاثرت هذه الوسائل في الثبوت وتنوعت بحيث لم يعد أي منها وحده مما يلزم القاضي، ويرتب بذاته نزول الأحكام، أي أنها تكاثرت وتنوعت بحيث لم يعد لأي منها وحده من الأهمية ما يبوئه جدارة الاتصاف بأنه ولاية، إلا أن يكون الإقرار على النفس أو حكم القاضي بالثبوت.
ونخلص من ذلك كله إلى:
أولاً: أن القول بأن الشهادة ولاية، هذا القول محض تصور فقهي، وأنه تصور فقهي نتج لا عن كنه الشهادة وطبيعتها من حيث كونها إجراء للأمر على الغير، ولكنه نتج عن أهمية الشهادة كدليل إخبار، وهي الأهمية التي تعلق بها أصل الحق أو الوضع.
ثانيًا: أن المشاهدة فقدت مكانتها المنفردة في إثبات الحقوق والوقائع، وفقدت مكان الصدارة في ذلك كله، فزايلها ما كان لها من أهمية في ترتيب آثار الاعتراف بالحقوق والوقائع، وزايلها ما قامت به جدارتها في اكتساب وصف الولاية.
ثالثًا: أن نقص الشهادة لا يقوم به قياس صحيح من نقص الولاية، لا يقوم به هذا القياس قديمًا؛ لأن الولاية ليست من طبيعة الشهادة ولا يقوم به هذا القياس الآن من باب أولى.
المرأة بين الإفراط في المساواة والإسراف في التمييز
النظر في قضية مساواة المرأة بالرجل قد يشوبه بعض المبالغة من قبل الطرف العلماني، والتأويل أو التهميش في التعامل مع أوجه الاستدلال في نص من النصوص من ناحية الطرف الإسلامي. فالطرف العلماني في المجتمعات العربية والإسلامية يزايد على أنصار المرأة في الغرب، ليحمِّل المرأة ما لا تطيق من أوجه المساواة - على نحو ما سنرى لاحقاً. كما أن الجانب الإسلامي سعى إما للدفاع عن المثال الإسلامي من دون فحص شامل لتاريخ التعامل مع الظاهرة محل التناول، أو سارع إلى نفي وجود أي تمييز، وهو ما جعله مشاركًا الجانب العلماني - صوريًا - في مسلك تحميل المرأة ما لا تطيق من أوجه المساواة.
والنظر في جوانب النشاط السياسي للمرأة، يوجب النظر في مقتضيات هذا النشاط، وأهم هذه المقتضيات أمران أساسيان جرى الحديث عنهما في عشرات السنين الماضية ولا يزال يدور، وهما مجالا: التعليم، والعمل.(9/303)
وما دعاني إلى الإشارة إلى هذا الأمر أن مقولات بعض الإسلاميين المتداولة في هذا الإطار كررت حكمها الحاسم بأنه ليس ثمة تقسيم إسلامي للوظائف الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وهذه المقولات في هذه النقطة إنما أرادت أن تواجه قول القائلين بقصر وظيفة المرأة على المنزل وتربية الأولاد، وشمول وظيفة الرجل للسعي وراء الرزق وتولي الشئون العامة، وهناك كثيرون يصورون الأمر بهذه الصورة المبسطة.
وأنا أفهم اعتراض الإسلاميين على هذا التصور المبسط، وأتفهم إنكارهم لصحته، وأتفق معهم في أساس نظرهم. ولكني أجد أن إنكار أصل التقسيم الوظيفي كان من الحسم والإجمال والإطلاق بحيث مال بحكمهم إلى درجة من التبسيط. وقد يكون تحرير هذه المسألة وفهمها بغير تبسيط أصدق مع الواقع وأبلغ في تحقيق الأهداف.
وبداية، فإن من نافلة القول الحديث عن مساواة المرأة والرجل في كمال الصلاحية لتلقي الحقوق والالتزام بالواجبات، وفي كمال الشخصية القانونية، سواء في الموقف إزاء التكاليف الدينية أو في الموقف إزاء المعاملات الاجتماعية. ومن نافلة القول أيضًا الحديث عن استقلال شخصية المرأة عن الرجل أمام الله سبحانه وتعالى وأمام المجتمع.
وكل ذلك - حسب الأصل - يقيم منها شخصًا ذا استقلال مساوٍ للرجل في تولي الشئون العامة والخاصة. والتصور الإسلامي ناصع الوضوح فيما قرره للمرأة في كل ذلك. وقد أعطتها أحكام الشريعة الإسلامية من أوضاع المساواة والاستقلال ما لم تعرف تشريعات الغرب أكثره إلا في القرن التاسع عشر، وهو ما يجعل التشريع الإسلامي يباهي الأمم من حيث السبق والوضوح والتكامل.
وفي هذا الإطار لم يقم خلافٌ جذري فيما يتعلق بحق المرأة في التعلم وفي العمل، لا نجد خلافًا ذا شأن يتعلق بهذا الأمر لدى الفقهاء من حيث الحكم الشرعي، إنما قام المشكل بسبب نقطتين:
الأولى: التقسيم الاجتماعي للعمل بين المرأة والرجل.
الثانية: ما قد يُفضي إليه التعليم أو العمل من اختلاط بين المرأة والرجل.
ومن هنا تبدو أهمية مناقشة هاتين المسألتين، لا من حيث الجوانب النظرية الفقهية والاجتماعية التي عرضت لها المقولات محل النظر، ولكن من حيث الأوضاع التطبيقية للمسألتين. وأتصور أنه في هذا الجانب التطبيقي يمكن أن يتلاشى جزء كبير من الخلاف الدائر في صفوف مفكري الإسلام حول هذا الأمر.
أما بالنسبة للنقطة الأولى وهي تقسيم العمل، فنحن نعلم أن من الأعمال ما لا تطيقه المرأة، ومنها ما تطيقه، ومنها ما يسلس لها. ونحن نعلم أن المنادين بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة من غلاة العلمانيين هم أنفسهم ينكرون الصلاحية المطلقة لكل الأعمال لأي من الرجل والمرأة. ونعلم أن الحركات المهتمة بحقوق الإنسان وبحقوق العمال حسبما تفتقت عنها صراعات القرن التاسع عشر في أوروبا، كانت تجهد لتحقيق المساواة بين الجنسين بالأجر الواحد للعمل الواحد، والحقوق العامة كحق تولي الوظائف العامة وحق الانتخاب والترشيح للمجالس النيابية، ولكنها في الوقت والاهتمام ذاته كانت تجهد لأن تحقق للمرأة والطفل حماية خاصة بالنسبة لظروف العمل.
وجرى تمييز المرأة في إطار أوضاع العمل تمييزًا سببه وضعها الطبيعي الخاص، وذلك بمنع النساء من العمل في الأعمال العنيفة أو القاسية: كعمل المناجم أو حمل الأثقال، وإقالتها من العمل في المناطق النائية، وحمايتها من العمل في الأوقات المتأخرة، وكفالة حق المرأة في إجازات إضافية تمنح لها بسبب طبيعتها الخاصة نتيجة الحمل أو الرضاعة أو رعاية الوليد. ونحن نعلم أيضًا أن ثمة أنشطة حسُن عمل المرأة فيها كالتدريس والتمريض، ونوعًا من الصناعات كصناعة الأدوية وغير ذلك.
إن ذلك الموقف التمييزي لا يعني حجرًا على المرأة وحصرًا لها في مثل هذه الأعمال، ولكننا كباحثين في مجال النشاط الاجتماعي ينبغي ألا نغفل عن هذه الخصائص.
وخلاصة ذلك أن موجبات المساواة تفرض تمييزًا للمرأة في بعض الأعمال، وموجبات النظر الاجتماعي تمنع غض النظر عن الخصائص النوعية التي تتفتق عنها الحقائق الاجتماعية. كل هذه الأمور لا تمس الأصل العام الذي يقضي بالمساواة واكتمال الشخصية القانونية للمرأة، ولكنها أمور ينبغي عدم إغفالها في مجال الحرص على تكامل النظر، وفي مجال الحذر من إجمال الحكم وإطلاقه.
وأضيف إلى ذلك أن هذه الأوضاع التي قد تميز بين المرأة والرجل في مجال الأداء الاجتماعي قد تكون متغيرة بتغير الأزمان والأمكنة، ومن أمثلة ذلك ما ذكره الإسلاميون عن الوظيفة الجهادية للمرأة؛ إذ أوضحوا صورًا للجهاد هي من متغيرات الزمان، وكان حديثهم بشأنها صائبًا.(9/304)
وأهم ما أقصد بيانه في هذه العجالة، أن ثمة جوانب تطبيقية لا بد من إثارتها والنظر فيها عند الحديث عن الأوضاع النظرية. وأن التطبيق يفيد فيما يفيد جرد محتويات المفاهيم النظرية وعرض كشوف الحسابات الخاصة بها. وأن ما لا يحسمه الجدال النظري قد يحسمه النظر في مجالات التطبيق، وهو إن لم يحسم الخلاف حسمًا كاملاً، فهو بالأقل يحدد نطاق الاختلاف، ويعين بنوده، وهذا ما يفيد فائدة كبيرة عند حساب "اقتصاديات الاختلاف": أي الأهمية النسبية لكل وجه من وجوه الاختلاف، وترتيب أولويات الجدال والصراعات الفكرية من بعد.
أما النقطة الثانية فتتعلق بالموقف من تعليم المرأة وعملها من ناحية ارتباطها بموضوع اختلاط النساء بالرجال.
إن انسحاب المرأة من المجتمع وفرض العزلة عليها في المراحل المتأخرة من تاريخ الأمة الإسلامية، كان قد جرى من الناحية الفقهية استنادًا إلى باب سد الذرائع. وكانت مقولة الفقه في هذا الصدد تتأسس على أن العمل أو التعليم يفضي إلى الاختلاط، والاختلاط يفضي إلى المعصية، وما يفضي إلى المحرم فهو محرم، وما تنتج عنه المعصية فهو من المعاصي.
وسد الذرائع من مصادر التشريع الإسلامي، وهو باب لا نستغني عنه في ترتيب الأحكام، وهو باب يولد طاقة نمو للتشريع الإسلامي شأنه شأن القياس والاستصحاب وغيرهما. ونحن بلا شك ندين له فيما ندين بما اتسم به البناء الفقهي الإسلامي من رحابة وسعة وشمول، وبما استطاعه من ملاحقة الواقع المتغير ومن امتداد لمظلة الحكم الشرعي لمتغيرات الحياة المتجددة وثوابتها، ولهذا التنوع الهائل الذي شمل الأمصار الإسلامية على هذا المدى الجغرافي العريض، وعلى هذا المدى الزماني الطويل. وسد الذرائع يكمله - كما نعرف - فتح الذرائع بتقرير إن ما يفضي إلى الواجب فهو واجب. نحن نعرف فضل هذا الباب بمصراعيه (السد والفتح) ونفعه، ونعرف لزوم التمسك به.
ولكننا في إعمال هذا المصدر التشريعي، يتعين علينا أن ندقق في آليات إعماله. فالقول بأن ما يفضي إلى المعصية هو معصية، يوجب علينا تقرير أن ثمة فعلاً منصوصًا بأنه معصية. وثمة فعلاً غير منصوص على كونه معصية، ولكن الفعل الثاني يفضي إلى الفعل الأول من قبيل اللزوم أو حسب الغالب من الأحوال، ومن هنا فثمة علاقة بين الفعلين تقيم سببية لا تنفك بينهما أو سببية تجري مجرى الأحوال الغالبة. وبقيام هذه العلاقة بصورتها هذه يأخذ العمل الثاني حكم العمل الأول، وينسبغ حكم معصية الفعل الأول على الفعل الثاني. فثمة معصية منصوصة ومعصية مضافة وعلاقة رابطة بينهما.
وعلينا لإعمال مبدأ سد الذرائع، أن نقف كثيرًا عند تلك الرابطة بين الفعلين، ونتأمل في مدى صدقها ومدى قوتها. وأن نمعن النظر في مدى صواب قيام هذه الرابطة. فهل الفعل المضاف يفضي حتمًا أو غالبًا إلى الفعل المنصوص؟ ونحن هنا لسنا في إطار تفسير النصوص فقط، إننا أمام نظر في الواقع، وتقدير لتداعيات الأحداث ولروابط العلة والمعلول بين فعل هو مقدمة وسبب وفعل آخر هو أثر ونتيجة. نحن هنا نكون في مجال فهم الواقع ورؤية الأحداث، والخلاف بين بعضنا البعض هنا لا يكون في استنباط دلالات النصوص، وإنما هو يرجع أكثر ما يرجع إلى إدراكنا لتداعيات الأحداث، ومدى الصلة اللازمة أو الغالبة بين فعل سبب وفعل نتيجة، بحيث يأخذ الفعل السبب حكم الفعل النتيجة، وينسحب وصف المعصية من الفعل النتيجة (أي المعصية المنصوصة) إلى الفعل السبب (أي المعصية المضافة أو الملحقة)، وذلك في مجال سد الذرائع، أو ينسحب وصف الواجب من الفعل النتيجة إلى الفعل السبب، أي من الواجب المنصوص إلى الواجب المضاف، وذلك في مجال فتح الذرائع.
وعندما نقول بأن النظر في هذا "الإفضاء" أو هذه العلاقة السببية بين الفعلين المنصوص والمضاف، هو نظر في الواقع وروابط أحداثه وتداعيات نوازله، عندما نقول بذلك نكون قد دخلنا في صلب التحليل لأوضاع الزمان والمكان، ولأدركنا أن الروابط بين الأفعال هي روابط متغيرة بتغير أوضاع الزمان والمكان. وعلاقة الإفضاء هذه بين فعل سبب وفعل نتيجة لا تختلف فقط في تقديرها بالأنظار، ولكنها علاقة متغيرة؛ ومن ثم فإن سد الذرائع أو فتحها، إن قام بين فعلين في مجتمع ما فقد لا يقوم بين هذين الفعلين ذاتهما في مجتمع آخر، أو في زمان آخر، بحكم ما تتغير به أوضاع المجتمعات وعلائق للناس، وما تتغير به وسائط العيش وأساليب الحياة.(9/305)
وهنا أيضًا يتعين علينا، عند إثارة هذه النقطة المتعلقة بأوضاع الاختلاط الناجم عن العمل أو التعليم، أن نتنبه إلى الجوانب التطبيقية الواجب إثارتها والنظر فيها، عن تلك الصلات بين أفعال المعاصي المنصوصة وأفعال المعاصي المضافة. وأن القائلين قديمًا بصلة غالبة أو غير منفكة بين تعلم المرأة وعملها وبين الاختلاط وبين ما رأوه من معاص تترتب بالحتم أو بالغالب الأعم، إن القائلين بذلك قديمًا قد غالوا في الأمر غلوًا بعيدًا - فيما أرى، ولكن علينا أن نبحث في أوضاع مجتمعاتهم عن الدواعي الاجتماعية التي ألجأتهم لهذه المقالة، وهذا يستدعي القيام بدراسات تاريخية تطبيقية في أوضاع تلك المجتمعات، وتاريخنا الإسلامي العربي غني بالمواد التاريخية السياسية الاجتماعية الحضارية، وهي تنتظر من يعيد قراءة هذه الموسوعات ويلتقط منها مادته.
وعلى كل الأحوال، فإن روابط السببية تلك بين المعاصي المنصوصة والمعاصي المضافة، أيًا كان قيام تلك الروابط في الماضي، فلا شك أن صادفها الكثير من التغيير والتعديل في أوضاع مجتمعات الحاضر. وهذا مجال أيضًا من مجالات البحث التطبيقي يتعين علينا أن نوليه ما يستحق من اهتمام.
==============(9/306)
(9/307)
يوم المرأة "العالمية".. أم "الغربية"؟
2003/03/09
معتز الخطيب **
تحرير المرأة بمفهوم غربي
"يوم المرأة العالمي" الذي يراه كثيرون في العالم مناسبة للحديث عن "تحرير المرأة" ونضالها، نراه نحن مناسبة للكلام على مفهوم "التحيز" للنموذج الحضاري الغربي الحديث، من خلال استعراض تاريخ بدء الاحتفال وإلقاء الضوء على بعض تداعياته.
تعود جذور ما سمي بـ"يوم المرأة العالمي" إلى القرن الـ19، على خلفية "التصنيع السريع" الذي شهدته أمريكا وأوروبا؛ حيث نمت حركات عمالية ونقابية جماهيرية ردًّا على تعميق استغلال العمال. ولم يكن هدف هذه الحركات تحسين ظروف العمل فحسب، بل تحويل العمال والعاملات إلى قوة سياسية؛ لذلك كان التركيز في نضالاتها على "حق الاقتراع للطبقة العاملة". وكون الأغلبية الساحقة من العاملين في فرع النسيج (في أمريكا) من النساء جعل لهن دورًا مهمًا في تحديد ساعات العمل. وكان هذا المطلب الرئيسي الذي تصدّر شعارات الأول من أيار -مايو (عيد العمال الذي يوصف بـ"العالمي") الذي احتُفل به لأول مرة في الولايات المتحدة عام 1886.
وكان للمظاهرات دور مهم في طرح "مشكلة المرأة العاملة" على جدول الأعمال اليومية؛ فالمظاهرة الأولى للعاملات كانت في 1857 بنيويورك؛ حيث خرجت عاملات النسيج احتجاجًا على ظروف عملهن. وبعد 50 عامًا من المظاهرات خرج في 8 آذار/مارس 1908 ما يقارب 15 ألف عاملة بمسيرة في نيويورك، تطالب بخفض ساعات العمل ورفع المعاش، ووقف تشغيل الأطفال، وحق الاقتراع. وكان شعار المظاهرات "خبز وورود".
رافق ذلك نمو حركات نسائية (في الولايات المتحدة) من الطبقات الوسطى طالبت بحق المرأة في المشاركة بالحياة السياسية، وأولها حق الاقتراع. وكان اسم هذه الحركات "سوفراجيستس" (souff r agists)، وتعود جذورها للنضال ضد العبودية، ومن أجل انتزاع حق الأمريكيين الأفارقة بالمساواة. وحين منعت النساء اللواتي شاركن في هذه الحركات من الخطاب من أجل "حقوق السود"؛ لكونهن نساء.. قمن بتشكيل حركة نسائية للمطالبة بـ"حقوق المرأة" أيضًا.
غير أن فكرة "الاحتفال" ربما تحسب لائتلاف المنظمات النسائية الذي قرر عام 1908 الاحتفال بيوم المرأة في يوم الأحد الأخير من شهر شباط/فبراير، وكان أول يوم (وطني) للمرأة تم الاحتفال به في 23-2-1909.
لم تكن أوروبا بعيدة عن هذه التغييرات؛ ففي 1910 سافر وفد نسائي أمريكي للمؤتمر الثاني للنساء الديمقراطيات الاشتراكيات في كوبنهاجن (الدانمارك)؛ حيث اقترح تكريس يوم المرأة العالمي، وكان الجو مهيأ لإعلان "يوم المرأة العالمي" بعد نجاح يوم المرأة في الولايات المتحدة. لكن الاحتفال بيوم المرأة العالمي في 8 آذار تم في 1913، وبقي هذا التاريخ رمزًا لـ"نضال المرأة" بحسب المتبنين لهذا اليوم.
وكانت كلارا تسيتكين (رئيسة تحرير مجلة العاملات "مساواة" منذ عام 1892 التابعة للحزب الاشتراكي الديمقراطي) قالت: "إن هذا اليوم يجب أن يكون له مضمون أممي"، وكان المؤتمر النسائي الاشتراكي في ألمانيا عام 1906 قد وجه نداء للنساء الاشتراكيات في كل أنحاء العالم للاحتفال بـ"يوم المرأة العالمي" كل عام.
تحيُّز للنموذج الغربي المادي
بهذه الإطلالة التاريخية المكثفة نفهم السياق الاجتماعي والتاريخي لولادة هذا اليوم، ونفهم أيضًا لماذا يسمى أحيانًا بـ"يوم المرأة العاملة العالمي"، وقضية "عمل المرأة" تختزن كل تحولات الخارطة الاجتماعية الغربية التي استتبعت كل قضايا وحقوق المرأة السياسية وغيرها لتصل إلى "حق ملك الجسد وحرية التصرف فيه" التي نادت بها مؤتمرات الأمم المتحدة. ويعكس هذا الحق الأخير -بعمق- رؤيةَ النموذج الغربي المادي لمفهومي "حقوق" و"حرية" المرأة بما يخرج عن كل المسلّمات الدينية (الإسلامية والمسيحية واليهودية على السواء) ، ويتحدى معتقد الجماهير التي تنادي بحقوقها وحرياتها!!
ويمكن لنا قراءة التحيز للنموذج الغربي المادي من زاوية "عمل المرأة" الذي يتلخص في أن "العمل" هو ذلك الذي تقوم به المرأة خارج بيتها، وتتقاضى عليه مقابلاً ماديًّا، وبهذا تعود لدائرة "الإنتاج الاجتماعي" -كما عبرت إحدى الاشتراكيات- وهي تعني "الإنتاج الاقتصادي"؛ فهذه الرؤية تعتبر أن الإنسان الذي يستحق الاحترام هو ذلك الاقتصادي الذي ينتج ويستهلك؛ بمعنى أنه جزء من عالم السوق/المصنع. أما رقعة الحياة الخاصة فيتحرك فيها الإنسان، ويقوم بنشاطات إنسانية كثيرة (أبرزها: التربية والرعاية) لكن هذه ليس لها مقابل مادي، ومن ثم فهي لا تدخل في دائرة "الإنتاج الاجتماعي/الاقتصادي"!(9/308)
وضمن هذه الرؤية يمكن فهم إلحاح البعض على تفسير العلاقة بين الزوجين تفسيرًا اقتصاديًّا تكون فيه تبعية الزوجة للزوج اقتصاديًّا سببًا في خضوعها له وانصياعها لأوامره، ومن ثم تم اعتبار "تحرر المرأة الاقتصادي" المدخل الأساس لحريتها ونيل حقوقها. بل إن "جلال أمين" اتخذ من التفسير الاقتصادي مفتاحًا لقراءة التحولات التي طرأت على المرأة المصرية حتى في تفسير تغيرات الحالة العاطفية بين الزوجين أيضًا (كما يراها هو كاقتصادي)!
إن فكرة "عالمية" حقوق المرأة التي تستدعيها عالمية يوم المرأة، وفق الأجندة المطروحة للأمم المتحدة، تتصل بهذا التحيز، في محاولة لفرض النموذج الغربي المادي (تم إحصاء 40 فقرة تخالف الأديان في مؤتمر السكان والتنمية) من خلال مؤتمرات الأمم المتحدة، وتسخير سلطتها لإعطاء الشرعية للنموذج قانونيًا وسياسيًّا من خلال اتفاقيات تتعهد الدول الأعضاء بالإذعان لها، وتنفيذها عبر لجان ومؤسسات تراقب عملية التنفيذ.
ولعل أبرز تلك المؤتمرات والاتفاقيات: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979)، والمؤتمر الدولي للسكان والتنمية (1994)، ومؤتمر بكين (1994)، والتي ركزت على قضايا مركزية في النموذج الغربي، هي: الحرية الجنسية، والإجهاض، ومصطلح الجندر، وحقوق المرأة كفرد وليست كعضو في الأسرة، والمساواة/ المماثلة التامة بين الذكر والأنثى، وإلغاء مفهوم "تمايز" الأدوار، وازدراء "الأمومة"، واعتبار العمل المنزلي "بطالة"؛ لأنه دون مقابل مادي...
هذه المفاهيم كلها تركز على مفهوم "الفردية" (المرأة ككيان منفصل عن الأسرة والزوج) الحداثي لتلك المرأة التي تضحي بكل شيء مقابل ممارسة حريتها المطلقة وتأكيد وجودها، ولو كانت التضحية على حساب العائلة والأولاد؛ فالمرأة الإيطالية -مثلاً- بدأت "العزوف عن كثرة الإنجاب أو عن الإنجاب كلية أو حتى الزواج، وتطالب بتحول العلاقة بينها وبين الرجل إلى مفهوم المتعة التي يجب أن تتساوى فرصة الرجل والمرأة في الحصول عليها، وبالتالي تفضيل الوظيفة البيولوجية على الوظيفة الاجتماعية" (الحياة 25-5-2002).
العالمية والخصوصية
لكن إذا كنا نعتبر أن "يوم المرأة العالمي" من التحيزات الكثيرة للنموذج الغربي المادي الحديث.. فهل يعني هذا أننا كمسلمين بريئون من تهمة "التحيز"؟ لا ولكن هل يعني هذا شرعية أن تتقوقع كل حضارة داخل نفسها لتشكل بِنية مُصْمَتة بذاتها؟ هذا لا يصح تاريخيا؛ فكل حضارة كانت تتفاعل مع الأخرى، وهذا التفاعل من طبيعته أن يشتمل على تأثر وتأثير (أخذ وعطاء)، كما أن التقوقع لا يتفق مع "عالمية" رسالة الإسلام {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. وبهذا فنحن لا ندعو إلى خصوصية "صلبة" ترفض الآخر وكل ما يتعلق به كلية بحجة أنه "غير إسلامي" لتصبح "الخصوصية" ذريعة للانعزالية والانكفاء على الذات؛ فتساوي بهذا ذريعة "العالمية" التي تعني في بعض التطبيقات "الارتماء" في أحضان الآخر من دون وعي.
نحن لا نرفض منطق "العالمية" كليةً إذن، ولا ننكر أن هناك مشتركًا إنسانيًّا على مستوى القيم والتصورات يشترك فيه الجميع بوصف كل واحد منهم "إنسانًا"، وإنما تأتي خصوصيتنا من مرجعية "الوحي" التي تضبط القيم والتصورات. ولذلك نشكك في مشروعية القول بعالمية "النموذج الغربي" للمرأة الذي يخرج على ثوابت دينية باتت معروفة، ونرفض جعل تاريخها هو تاريخ العالم، كما نرفض القول: إن مطالب المرأة الغربية هي نفسها مطالب كل امرأة في العالم.
إن تجاهلنا لمشاكل المرأة وغيابها أو تغييبها (بفعل عادات وتقاليد واجتهادات فقهية غير واعية) يجعل من الأولويات صناعة النموذج الإسلامي للمرأة، وإنتاج خطاب نسوي يمكن أن نحاور به الآخر.
==============(9/309)
(9/310)
قراءة جديدة في يوم المرأة العالمي
نبيل شبيب
22/03/2001
مرة أخرى.. يحل ما يسمى بيوم المرأة العالمي، في إطار مختلف الجهود المبذولة تحت عنوان "تحرير المرأة"، والذي يعني في الدرجة الأولى- من وجهة نظري- تحرير المرأة في "العالم الثالث" من الإنجاب ومن الحياة الأسرية إذا صح التعبير، وهذا مقابل تشجيع المرأة في الشريط الشمالي من الكرة الأرضية على الإنجاب في حياة أسرية أو غير أسرية على السواء، والسبب الرئيسي من وراء ذلك كامن في الخوف من وقوع الخلل المنتظر على صعيد التأمينات الاجتماعية، والاضطرار إلى جلب مزيد من "الأجانب" إلى المجتمعات الغربية!.
فقبل أيام معدودة من حلول يوم المرأة العالمي (8/3/2001م) نشرت الأمم المتحدة (28/2/2001م) تقريرا جديدا حول التنبؤات المستقبلية لتطوّر عدد سكان العالم، وعدّلت فيه تنبؤاتها السابقة نحو الأعلى؛ فعدد سكان العالم في عام 2050 م، بناء على التقرير الجديد سيصل إلى 9 مليارات و300 مليون نسمة، أي أكثر ممّا كانت تقول به التوقعات السابقة بحوالي 431 مليون نسمة، بزيادة تعادل 50 في المائة من سكان العالم في الوقت الحاضر.
استهلاك طفل أمريكي= منع إنجاب 60 طفلا مصريا
ويبرز التقرير أن سكان الدول الصناعية في حدود مليار و200 مليون نسمة سيبقى على حاله أو يتناقص؛ فالزيادة المتوقعة ستكون في الدول النامية على وجه التخصيص، وهذا- كما ترى المنظمة الدولية- لا يتطلّب العمل خلال وقت طويل متوافر يبلغ خمسين سنة، من أجل تعديل بنية توزيع الثروات العالمية، وإزالة الخلل الكبير فيها، بل يتطلّب الحدّ من الإنجاب في الجنوب، ولو تطلب ذلك إنفاق أضعاف ما ينفق على مشاريع التنمية والتطوير جميعا.
ولو أجرينا عملية حسابية تقارن متوسط ما يستهلكه الإنسان الفرد في الدول الصناعية خلال فترة حياته، من الثروات المتوافرة في الكوكب الأرضي، وما يستهلكه الإنسان الفرد في الجنوب، لوجدنا أنّه من المفروض منع إنجاب ستين طفلاً مصريًّا أو مائة طفل بنجالي، من أجل بقاء ما يكفي من الثروات الطبيعية لاستهلاك طفل واحد أمريكي أو أوروبي!
وكان لهذه الإشارة الصادرة عن الأمم المتحدة، بشأن سكان العالم قبيل حلول يوم المرأة العالمي، صداها المباشر في المواقف التقليدية لزعماء الدول الصناعية والمنظمات غير الحكومية العديدة، المنبثقة بتصوراتها ومنطلقاتها عن المجتمع الصناعي، وإن حملت عناوين دولية أو أعلنت أهدافا تؤكّد في صياغتها عدم التمييز بين إنسان وآخر فيما تقدم من خدمات؛ فكان المحور الرئيسي لتلك المواقف يركّز على الحدّ من الإنجاب، ويعتبر ذلك هو الوسيلة الرئيسية للنهوض بالمرأة، والمقصود هنا المرأة في البلدان النامية؛ فميزانيات دعم إنجاب الأطفال والتشجيع عليه في الدول الغربية تعادل عشرات أضعاف ميزانيات ما يوصف بالمساعدات الإنمائية.
الزواج المبكر.. ما وراء الانحسار
المنظمة الدولية لرعاية الطفولة/ يونيسيف مثلا اختارت قضية "الزواج المبكر" للتركيز عليها في يوم المرأة العالمي، داعية إلى مكافحته عالميا، مع تعداد أمثلة صارخة من النيبال وبنجلادش وسواها، دون أن تتعرّض إلى حقيقة ما تقول به الدراسات الطبية، من أن الإنجاب في سن مبكرة، هو الكفيل برعاية أسرية أفضل للطفل، أو أن المرأة التي تنجب الأطفال بعد بلوغها الثلاثين عامًا، أشدّ عرضة أثناء الحمل والوضع للمشكلات الصحية والنفسانية والاجتماعية..
كذلك لم تتعرّض منظمة رعاية الطفولة لانحسار ظاهرة الزواج المبكر في الدول الغربية، والتي أدت- مع أسباب أخرى- إلى انحسار ظاهرة الزواج نفسها في نهاية المطاف، وإلى انتشار العلاقات الجنسية دون زواج على أوسع نطاق؛ مما هبط بنسبة الزواج إلى نصف ما كانت عليه قبل ثلاثين عاما، ورفع نسبة الطلاق من تلك الزيجات المحدودة العدد من حوالي 30 إلى ما يناهز50 في المائة حاليا.
ولا غرابة إذن أن يصبح عدد الأطفال غير الشرعيين أكثر من الثلث، وعدد الأطفال الذين يعيشون مع أحد الأبوين فقط أو في الملاجئ أكثر من الثلث، وأن تصل نسبة الجوع بين الأطفال الأمريكيين إلى أكثر من عشرة في المائة، وأن تنتشر ظاهرة "تشرد الأطفال في الشوارع" إلى بلد كألمانيا، هذا فضلا عن ارتفاع نسبة الجرائم ونوعياتها بين الأطفال والناشئة، وانخفاض متوسط أعمار مرتكبيها انخفاضًا مريعا، وانتشار المخدرات على أوسع نطاق..(9/311)
فكأن رعاية "الطفولة" لا ينبغي أن تضع في حسبانها ذلك كلّه، أو كأن ظاهرة التشريد والفقر والآلام وبيع الأطفال في البلدان النامية، لا يمكن مواجهتها بإنفاق مئات الملايين على التنمية، وفتح الأسواق الاستهلاكية الغربية، ومكافحة الفقر بصورة مباشرة، ولكن بإنفاق مئات الملايين على نشر موانع الحمل بين سكان الدول النامية- وقد وصل إلى أكثر من 600 مليون دولار خلال السنوات الخمس الماضية- جنبا إلى جنب مع تركيز حملات مكثفة، تبنتها معظم المؤتمرات الدولية العملاقة، كما تبنتها برامج "التعاون الاقتصادي" بين الشمال والجنوب؛ حتى أصبحت شروطا رئيسية في اتفاقات إلغاء الديون، وإعادة جدولتها، والاستثمارات الجديدة، والقروض الإنمائية، وغيرها..
حصيلة 150 عاما من "التحرير"
لا نحتاج للتأكيد على أنّ أوضاع المرأة في البلدان الإسلامية، وفي البلدان النامية عموما، أوضاع مرفوضة دينيا وإنسانيا وحضاريا وبمختلف المقاييس المعتبرة. ولقد تدهورت هذه الأوضاع في البلدان الإسلامية على وجه التخصيص جنبا إلى جنب مع تطوّرين تاريخيين حاسمين، أولهما البعد عن الإسلام وانتشار تصوّرات شاذّة سيطرت على كثير من العادات والتقاليد الاجتماعية وتسرّب بعضها تشددّا وتعنّتا أو تسييبا وتمييعا؛ حتى إلى مواقف الداعين للعودة إلى الإسلام من جديد، والتطور الثاني هو التخلف الحضاري بمختلف ميادينه، وبما يشمل سائر فئات المجتمع، فلم يقتصر على الذكور دون الإناث.
ولكنّ تصوير الحل الناجح على طريق النهوض، وكأنّه يكمن فيما تدعو إليه القوى الغربية والمستغربة عبر مناسبة من قبيل يوم المرأة العالمي، لهو منطق يتنافى مع الحقائق التاريخية المحضة؛ فإذا صحّ ما يقال بشأن عصر التنوير في أوروبا من أنه كان بداية الخروج من حقب الظلمات التاريخية في عصور سابقة، نحو بناء الحضارة المادية الحديثة؛ فلا يخفى على المؤرخين أنّ ذلك لم يبدأ بظاهرة "تحرير المرأة" ليقال الآن إنّ اتباع المنهج الغربي تحت هذا العنوان شرط من شروط النهضة الحضارية في البلدان الأخرى، إنّما قطعت مسيرة النهضة العلمية، فالتقنية، فالإنتاجية أشواطا بعيدة المدى، قبل أن تعرف الدول الغربية دعوات "تحرير المرأة" والتي انبثقت أولاً عن مساعي الفئة الرأسمالية المهيمنة على الثورة الصناعية لمضاعفة الضغوط على الحركة النقابية الناهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي؛ فبدأ آنذاك- ولأغراض مادية محضة- انتشار شعارات "حق العمل" كمدخل إلى "تحرير المرأة"..
ولقد مضى على أولى الإنجازات المتحققة لصالح المرأة في ميادين العمل والسياسة والتعليم زهاء مائة وخمسين عاما، ومع ذلك فالأمم المتحدة- التي تبنت هذا العام الدعوة إلى مشاركة النساء في البحث عن حلول للأزمات والنزاعات العالمية؛ لأنهن الأشد معاناة من نتائجها- لم تجد عبر أكثر من خمسين سنة مضت على نشأتها، ما يستدعي تخصيص صيغة من صيغ التكريم للمرأة، إلا في هذا العام بمنح جائزة الألفية لقاء "إنجازات نسائية متميزة".. كذلك فجائزة نوبل للسلام التي بدأ منحها عام 1901م، لم تجد من النساء أو من المنظمات النسائية من يستحق الجائزة تكريما أو تشجيعا إلا بمعدل 10 % أي عشر مرات خلال مائة عام.
وقد ذكرت منظمة العمل الدولية في يوم المرأة العالمي أن نسبة الأيدي العاملة النسائية في أنحاء العالم تصل إلى 40 % عالميا، ولكنها لم تبلغ أكثر من 8% في المناصب التوجيهية، ولا يوجد سوى 8 نساء في مناصب ملكية أو رئاسية أو في رئاسة الحكومات من أصل أكثر من 200 دولة، والمرأة موجودة في حدود 14% في المجالس النيابية، الديمقراطية والصورية؛ فهي نسب تشمل الدول الصناعية كما تشمل الدول النامية، بل ربما كان وجود المرأة في مناصب سياسية توجيهية في الدول النامية أكثر ظهورا للعيان، لا سيما في جنوب شرق آسيا، وكما تقول جرو هارلم رئيسة منظمة الصحة الدولية بمناسبة يوم المرأة العالمي إن تكافؤ الفرص بين الجنسين لا يتوافر في أي دولة في العالم إطلاقا.
للإباحية أيضًا ضريبتها
وفي المقابل؛ نجد حصيلة ثلاثين سنة مضت على ما بدأ بحركة "ثورة الطلبة" وانتشر باسم "الثورة الجنسية" في بلدان الغرب، كمظهر اعتبر في مقدمة مظاهر تحرير المرأة الغربية، كانت تشتمل على ارتفاع نسبة تعرّض النساء والفتيات إلى الضرب داخل البيوت، من معدّل امرأة كل سبع نساء إلى معدل امرأة كل ثلاث نساء، حتى أنّ بلدًا كألمانيا شهد في الفترة نفسها ازدياد عدد ما يُسمّى ببيوت إيواء ضحايا الضرب من النساء، إلى ثلاثين ضعفا لما كان عليه، وكان عدد من استقبلتهنّ تلك الدور في عام 2000 م فقط أكثر من 45 ألف امرأة وفتاة.(9/312)
وليس مجهولا أنّ التعليل الأول لما سمّي الثورة الجنسية كان يؤكّد أن "الكبت الجنسي" هو السبب الرئيسي لارتكاب جرائم الاغتصاب والاعتداء الجنسي، ولكن الإباحية الجنسية أدّت على أرض الواقع إلى ارتفاع نسبة جرائم الاغتصاب والاعتداء الجنسي، رغم سائر مظاهر التحلل، إلى أضعاف ما كانت عليه قبل جيل واحد، وباتت تشمل أكثر من ثلاثين في المائة من سائر الإناث في الدول الغربية، بدءا بسن الطفولة، ناهيك عن الأرقام المفزعة التي انتشرت في السنوات القليلة الماضية عن جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال والناشئة، مع ملاحظة أن 80% منها يقع في نطاق الأقارب، فيما لم يعد يمكن وصفه بالأسرة أو العائلة.
وليس غريبا أن تكون المشكلة الأكبر التي تشكو منها المنظمات النسائية في الدول الشيوعية سابقا، هي أن عدد الوفيات في فترة السنوات العشر التي مضت على انفتاحها أمام النظام الرأسمالي، قد ارتفع ارتفاعا كبيرا بين الفتيات ما بين التاسعة والخامسة عشرة من العمر، وأنّ النسبة الأعظم من أسباب هذه الوفيات المتزايدة كامنة في انتشار المخدرات والرقيق الأبيض، بعد أن أصبحت تلك البلدان مصدرا من المصادر الرئيسية لحركة "استيراد الأجساد" إلى دور الدعارة والحياة الليلية في بلدان الغرب.
نحن مطالبون- في يوم المرأة العالمي بل وفي سائر أيام السنة- بالعمل على نصرة المرأة، وعلى رفض فصل قضية المرأة عن قضية حقوق الإنسان وحرياته، وأن ندرك جميعا أن قيمة الإنسان لا ترتبط بكونه ذكرا أو أنثى، ولكنها تكمن- بعد مكونات شخصيته الذاتية- فيما ينجزه في الموقع الذي هو فيه، وتكمن في مدى قدرته على توظيف ما لديه من كفاءات؛ ليساهم في العطاء على أي صعيد.. ولئن تمايزت الأعمال فيما بينها من حيث "قيمتها الذاتية" لوجب أن تكون الأمومة في المرتبة الأولى، فهي التي جعلها الإسلام بابا إلى الجنة، وجعل الجنة نفسها تحت أقدام الأمهات.
=================(9/313)
(9/314)
صورة المرأة.. هل كشفت مأزق الإعلام العربي؟
2002/02/11
عبير صلاح الدين
المنتدى الرابع لمؤتمر قمة المرأة العربية من 2 إلى 3 فبراير 2002
صورة المرأة في الإعلام العربي كانت محورًا لكثير من الندوات واللقاءات في بلادنا العربية خلال الأعوام القليلة الماضية، لكنها أصبحت تأخذ بُعدا مختلفا خلال العامين الأخيرين، وتحديدًا منذ عقد أول قمة عربية للمرأة في نوفمبر 2000م، وما تبع هذه القمة من منتديات عُقدت في تونس والبحرين والأردن، وأخيرًا في الإمارات.
الجديد أن البحث في هذه الصورة لم يعد يتوقف على رصد أبعادها فقط، بل تعداه إلى الأسباب العميقة لهذه "الصورة" و"الصور"، التي تكشف بُعدين رئيسيين لمرتكزات هذه الصورة، هما: وضع المرأة في الواقع العربي من ناحية، ومشاكل إعلامنا العربي من جهة أخرى.
أما ضرورة تغيير هذه الصورة -أو الصور- فلم يعد أمرًا داخليًا -كما جاء في أوراق المشاركين- يمكن التجاوز عنه أو تسويفه أو المماطلة في تحقيقه، بل أصبحت تفرضه المصالح الدولية والعربية.
إعلام رسمي وآخر بديل
كشفت ورقة الدكتور "جابر عصفور" الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في مصر أمام المنتدى مدى تأثير وسائل الإعلام على المتلقين، وكيفية تأثر الإعلام العربي بإعلام الدول المهيمنة القوية؛ فلم تعد وسائل الإعلام هي وسائل الإعلام الرسمية للدولة، سواء كانت صحفًا ومجلات أم إذاعة أو "تليفزيون"، بل هناك وسائل اتصال جماهيري أخرى منها: خطباء المساجد، وصناع شرائط الكاسيت، والمنتديات غير الحكومية التي تضع رسائلها الإعلامية الخاصة عن طريق المشافهة أو الشرائط أو الإنترنت، وبلغ من قوة أدوات الاتصال الجماهيري هذه أن أسهمت بقوة في قلب نظام الشاه في إيران، وأصبح لهذه التقنيات تأثير يفوق تأثير أجهزة الإعلام الرسمية.
وتوضح الورقة أيضًا ذلك التناقض الواضح بين الصورة التي ترسمها وسائل الإعلام الرسمية (في بلد كمصر) للمرأة والتوجهات الرسمية للدولة تجاه المرأة، الذي تعود أسبابه إلى وجود تيارات متعارضة في النظر إلى المرأة داخل بناء الدولة نفسها، أو بسبب توجهات المسئولين عن أجهزة الإعلام التي تكون مخالفة للموقف الرسمي للدولة، وتكون النتيجة ظهور رسائل متناقضة -في رأيه- عن المرأة، فينتج التليفزيون المصري مسلسلاً دراميًا عن (أم كلثوم) السيدة التي تفوقت فنيًا وإنسانيًا على الكثير من الرجال، وفي نفس الوقت ينتج (عائلة الحاج متولي) الذي يظهر المرأة بصورة التابع المستسلم الخاضع.
والأمر لا يختلف بالنسبة لوسائل الاتصال الأخرى التي تتخذ من صورة المرأة التي تقدمها أداة لتثبيت توجهاتها، وتتحكم القدرة المالية التي تنتج أو تشتري المنتجات الإعلامية في الصور التي تريدها للمرأة باعتبارها جزءًا من الرسالة الإعلامية المطلوبة، انطلاقًا من مبدأ (من يدفع للعازف فهو الذي يختار الأغنية) بما يكشف العلاقة بين أجهزة الإنتاج والفضائيات العربية.
لم يعد مأزقا داخليا
الصورة التي نراها في إعلامنا للمرأة إذن -في أغلبها- صورة مصنوعة، ليست لها علاقة (الظل) بالواقع؛ فهي لا تتطابق مع الواقع العربي للمرأة ولا مع النماذج التي أفرزها المجتمع للمرأة، لكن المأزق الآن لم يعد مأزقَ إعلام داخليًّا، لكنه أصبح مأزق (صورة العرب والإسلام) أمام الغرب والعالم منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 الماضية، التي تهدف إلى الإساءة للإسلام، والتي تستخدم صورة المرأة (الطالبانية) -مع اختلاف التفسيرات بشأنها- بكل مشكلاتها وكأنها صورة المرأة العربية أو المسلمة بشكل عام في مجتمعاتنا، وتغيير الصورة في الخارج لن يكون إلا بتغييرها فيما يُبَث أولاً في داخل الوطن العربي؛ إحقاقًا للحق أولاً، ودفاعًا عن صورة الإسلام ثانيًا.
وتشير ورقة الدكتور "عبد الحفيظ الهرقام" -تونس- إلى ظاهرة صحية في تناولنا لما نتلقاه في وسائل الإعلام الآن؛ فقد انتقلنا -جميعًا- من مرحلة الانبهار في التلقي إلى مرحلة الوعي والنقد لما نتلقاه، وهو ما عكسته المناقشات التي دارت بعد إذاعة حلقات مسلسل (الحاج متولي) التي أذيعت على الكثير من القنوات الفضائية العربية خلال شهر رمضان الماضي؛ فلم تكن مناقشات عمل فني، بل امتدت إلى البيوت والأماكن العامة والنوادي، وخرج الحديث إلى مضامين الأعمال وأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية؛ الأمر الذي أصبح يفرض على كُتاب السيناريو ومُعدي البرامج التليفزيونية والإذاعية المزيد من الحذر عند تناول صورة المرأة -أو بمعنى أدق صورة المجتمع-، وعدم الاعتماد على تصوراتهم الموروثة عن المرأة التي كانوا يتبنونها لا شعوريًا في أعمالهم؛ فأصبحوا مدعوين إلى مراجعة سياستهم البرامجية، خاصة مع الدور القوي الذي تلعبه الآن الاتحادات والمؤسسات النسائية والتوجهات القطرية لرفع شأن المرأة، وكذلك المؤتمرات والاتفاقيات الدولية.(9/315)
وتوضح ورقة الدكتور الهرقام أنه رغم تباين الصور التي تبعثها وسائل الإعلام من قطر عربي لآخر، أو من بيئة لأخرى داخل القطر الواحد؛ فهناك قاسم مشترك بين هذه الصور جميعها ما زال مسيطرًا على إعلامنا، منها التركيز على الفئات الاجتماعية الميسورة في المدن وبعض المهن التي تمارسها المرأة كالبائعة في المحلات التجارية والموظفة والمعلمة والأستاذة والطبيبة، مقابل حضور محتشم للمرأة الريفية التي تقدم غالبًا في دور العاملة في المزارع أو الشغالة، وانعدام الاهتمام بواقع المرأة في الأحياء الشعبية، واستغلال جمال المرأة ومفاتنها كوسيلة لاستقطاب المشاهد في ظل المنافسة بين الفضائيات العربية، وتكريس لصورة المرأة التي لا يشغلها سوى بيتها وأبنائها، ولا نجد سوى صور قليلة للمرأة العاملة التي تستطيع التوفيق بين بيتها وعملها، وغالبًا ما تظهر وكأنها دُفعت للعمل بسبب اقتصادي أو فرار من روتين البيت، وليس اقتناعًا بقيمة العمل، وهي غالبًا كائن مسلوب الإرادة غير قادر على التفكير السليم.
الصورة أم الأصل؟
من أين نبدأ؛ من الصورة أم من الأصل؟. هذا هو السؤال: نجمل الصورة أم نحسن الأوضاع في الواقع؟
إن نقل صورة مشرقة للمرأة يقتضي السعي لصياغة هذه الصورة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي؛ فليس المطلوب إعطاء صورة مثالية، لكن صورة متوازنة تعكس نماذج للمرأة في سموِّها وانحدارها، نجاحها وإخفاقها؛ فمن الخطأ أن يتحدث الإعلام عن المرأة في برامج منفصلة، لكن من خلال كل المواد الإعلامية وبطريقة غير مباشرة، وتحسين الصورة لن يكون فقط بتولي المرأة المناصب القيادية في الإدارات الإعلامية أو بزيادة عددها كما تتطالب الكثير من الأصوات؛ فهذا وإن كان ضروريًا لكنه ليس كافيًا، كما تشير سعاد بكور بن سليم من سوريا.
وتشير ورقة الدكتورة "ماجدة أبو فاضل" -الإمارات- إلى أن البداية يجب أن تكون من النظر إلى طريقة إعلامنا التي تجعلنا نتجه إلى الـ CNN أو الجزيرة عندما تقع كارثة؛ لأن أجهزة إعلامنا تقصر في أداء مهمة توفير أنباء جيدة ودقيقة تركز على ما هو مهم، وقضية المرأة لا تختلف عن أية قضية أخرى؛ فإعلامنا يحتاج إلى تحقيق التوازن بين دقة المعلومات وفهم خلفية الموضوع، ولا يكون ذلك بردود الأفعال كما تعودنا، ولكن بالبدء بالفعل؛ فالنساء يمكن أن يسهمن في الرد على الصورة السيئة للعرب والمسلمين إذا شاركن بمثابرة ودون هجوم بالكشف عما هو غير منسق فيما يقال وما يفعل، ويوثقن كل شيء، ويظهرن تعمقًا فيما يتناولنه من موضوعات.
ولا بد من وجود النساء المتخصصات في الكثير من المجالات العلمية والاقتصادية، ويكن على استعداد للتحدث في البرامج الغربية المتخصصة عن همومهن في هذه المجالات والأرضية المشتركة بينهن وبين أناس من العالم وخاصة نظيراتهن في الغرب. فلكي نحسن صورتنا نحتاج أولاً لأن نحسن أفعالنا ونصلح مناهج تعليمنا، ونلتزم بأخلاقيات الإعلام والشفافية في علمنا، ونستغل ثرواتنا الإنسانية، وندعم دخول المزيد من النساء في الإعلام لتقديم قيادات متوازنة.
وكما تقول الدكتورة "كافية رمضان" من الكويت: ليس المهم في ذلك الفيض من المعلومات التي ينقلها الإعلام، لكن الأهم أن يعمل على تحفيز المتلقين للمشاركة الفعالة، بدلاً من أن يحولهم هذا الكم من المشاهدة إلى أفراد مخدرين، يعرفون الكثير عن القضايا لكن لا يسهمون في حلها، ولا يبدون اهتمامًا فاعلاً تجاهها.
وكما تبين مليكة مالك -المغرب- في ورقتها أمام المنتدى أن مناقشة قضية المرأة والإعلام تجرنا إلى مناقشة قضية الديمقراطية في إعلامنا، بل في مجتمعاتنا، وتكشف قصور إعلامنا الذي يتضح في الجدية في مواكبة اللحظة، لكن افتقاد الاستمرارية في متابعة القضايا، والنتيجة هي سقوط بعض أجهزة إعلامنا في التعامل المبتذل مع الصورة السلبية للمرأة. إن الإشكالية الأعمق هي: هل يمكن أن يتناول إعلامنا حقيقة أوضاع النساء بشكل ديمقراطي، بل وعن الأوضاع السياسية للمرأة والرجل؟ بمعنى آخر: هل يكون إعلامنا سلطة رابعة بالفعل أم خاضعًا للسلطة أو تمويل المنتجين؟!.
===============(9/316)
(9/317)
المرأة في مرآة الشعوب
أحمد عبيد
2/05/2001
ما من حديث كثر فيه الكلام وأطلقت فيه الألسن وسطرت فيه السطور مثل الحديث عن المرأة، ذلك المخلوق الضعيف القوي، وتلك الدنيا المليئة بالمتناقضات، فكم جلست على عروش وكم أثارت من فتن وكم ساهمت في بناء وتعمير أو هدم وتدمير، وكم سادت من حضارات أو بادت بسببها، كم نظمت فيها ملاحم، وما زالت مادة خصبة ونبعًا فياضًا لشتى ألوان الفن وضروبه. وتختلف النظرة للمرأة باختلاف زاوية الرؤية وطبيعة الناظر إليها؛ فالفنان يرى فيها ما لا يراه الفيلسوف والفيلسوف قد يرى فيها ما لا يراه غيره، ومن هنا تأتي الطرفة.
وقد كان للمرأة نصيب كبير ووجود فعال في الأمثال الشعبية في شتى شعوب العالم منذ القدم وحتى اليوم، وقد تعددت الآراء وتشعبت المواقف حولها على ضوء الحالات النفسية التي مر ويمر بها الإنسان زوجًا وأبًا وأخًا وعاشقًا. فجاءت الأمثال على ألسنة أربابها منقسمة إلى قسمين أحدهما أحبها وأكرمها ورفعها في أعلى عليين، وآخر أبغضها وظلمها وانهال عليها بوابل من الغضب حتى جعلها شيطانًا بل وجعل الشيطان تلميذًا لها. فلنتعرف على ذلك التناقض عن قرب.
سلاح المرأة
اختلفت الشعوب في أمثالها في تحديد سلاح المرأة؛ فالجورجي يرى أن "سلاح المرأة دموعها"، بينما الفرنسي يرى أن سلاح المرأة لسانها؛ فكيف تدعه يصدأ بعدم استعماله، وفي المثل إشارة ساخرة إلى أن المرأة ثرثارة بطبعها.
أما عن حارس المرأة، فيرى الفرعوني أن "أقوى حارس للمرأة عقلها"، ويرى العربي في أمثاله أن "القبح حارس المرأة"، أي أنها في مأمن من نظرات الأشرار ما دامت قبيحة المنظر.
هي والشيطان
من الغريب أن معظم الشعوب قد ربطت في أمثالها بين الشيطان والمرأة؛ فالألماني يرى "المرأة شيطان الرجل"، بينما نجد في الأمثال البولونية "ابتلع الشيطان امرأة فلم يستطع هضمها"، إشارة إلى ثقل طباع بعض النسوة. ويعود الألماني فيؤكد أن المرأة أقدر من الشيطان، فيقول: "ما لا يقدر عليه الشيطان تقدر عليه امرأة"، ويوافقه الأيرلندي قائلا: "المرأة تغلب الشيطان"، أما الياباني فيرى أنها لا تغلبه فحسب بل هو تلميذ صغير في مدرستها، فيقول: "الشيطان أستاذ الرجل وتلميذ المرأة"، وبعد هذا كله فليس من الغريب أن تقول أمثال لاتيفيا(الشيطان لا يعرف أين تشحذ النساء سكاكينهن).
المرأة في بيتها
أما عن المرأة كزوجة، فقد تعددت فيها الآراء في أمثال الشعوب، فأحدهم يقول: "من له بيت هادئ ليست له زوجة" مثل لاتيني. ويؤيده الألباني قائلا: "لا شجار بلا امرأة"، أما البلغاري فيرد عليهما قائلا: "لا بيت حيث لا امرأة".
وعند السلوفاني "المرأة شر لا بد منه "أما الأوكراني فيوصي قائلا: "لا تثن على زوجتك قبل سبع سنوات"، ولا أدري ما حكمة تحديد السنوات السبع في هذا المثل الغريب، أما الروسي فيبدو محتقرًا للمرأة جدًا؛ حيث يقول في مثل غريب: "اضرب زوجتك قبل الغداء وقبل العشاء"!!.
ومن ناحية أخرى يرى المصري أن بعض النساء ماهرات مدبرات فيقول: "المرة الطهاية تكفي الفرح بوزة"، ومعناه أن المرأة الحاذقة في الطهي تكفي من في العرس بأوزة واحدة، وهي مبالغة تضرب للشخص حسن التدبير.
أما الفرعوني، فهو ينظر للمرأة من وجهة أخرى فيرى أن "امرأة بلا حياء مثل طعام بلا ملح"، أما الهندي فيرى أن "المرأة نعمة، وإذا أرادت كانت نقمة"، إشارة لدورها في إسعاد أو إشقاء الرجل في بيته وحياته. بينما ينفي الصيني كل هذا الكلام الجميل بقوله: "للمرء فرحتان.. فرحة عند زواجه، وفرحة عند دفن زوجته".
أين الحب؟
يتميز قلب المرأة بأنه أقدر على الحب والعطاء من الرجل - غالبًا - ولكن هذا الحب لا يستوي في نظر الشعوب؛ ولذلك انعكس هذا على أمثالهم؛ فالأسباني يرى أن "حب الفتاة ماء في سلة"، أما الياباني فهو صريح وعملي فيركز على العامل الأساسي في حب المرأة قائلا: "إذا أردت أن تحبك النساء فابدأ ببذل المال"، إشارة إلى أن مقياس الحب عند المرأة هو بذل المال من أجلها وتحت قدميها، ويؤيده الهندي في ذلك فيقول: "يختبر الذهب بالنار، وتختبر المرأة بالذهب".
أما الفرعوني ، فيرد عليهما قائلا: "المرأة التي تشتريها بمالك تبيعك بمال غيرك"، ويرى السلوفاكي أن "المرأة الجميلة تحتاج إلى ثلاثة أزواج: واحد ليدفع ديونها، وواحد لتحبه، وواحد ليضربها".
أما الصيني فيرى أن "الحب الحقيقي وهْم، وأن النساء كالحكام قلما يجدن أصدقاء مخلصين"، إشارة إلى أن ما يجذب الرجل للمرأة في الغالب هي المصلحة البحتة تمامًا كعلاقة الحكام بالمحكومين، فإن ولت المصلحة ولى الحب والصداقة.
هي تنحني ولا تنكسر
إذا أردت التعرف على عقل المرأة وفكرها من خلال أمثال الشعوب فإنك ترى عجبًا.. فالمرأة عند الإنجليزي "ذات شعر طويل وعقل قصير"، ويرى الروسي أن "للمرأة سبعة وسبعين رأيا في آنٍ واحد"، تعبيرًا عن شدة ترددها، أما في المثل اللاتيني "عندما تفكر المرأة بعقلها، فإنها تفكر في الأذى"، أي أن من طبيعتها الشر إن هي خرجت عن طور الرحمة والعاطفة.(9/318)
ويبدو السويدي راضيًا عنها مقتنعًا بفطنتها وحدسها فيقول: "قلب المرأة يرى أكثر من عيون عشرة رجال"، أما الفرعوني فيرى أن "المرأة كالعشب الناعم تنحني أمام النسيم، ولا تنكسر أمام العاصفة"، وليس هذا بغريب على الفرعوني الذي قدّس المرأة إلى أن جعلها ملكة، وبالغ في تقديسها بجعل بعضهن آلهة.
هل أنصفت الأمثال المرأة؟
وأخيرًا فتلك صورة المرأة في أمثال الشعوب بين عذبها وعذابها، شوقها وشوكها وبطبيعة الحال فلن تكون هذه الأمثال حكمًا صائبًا وعادلاً دائمًا، ولا هي بالقانون الراسخ الذي لا يتغير. وإنما هي على كل الأحوال مرآة صافية تنعكس عليها نفسيات الشعوب ونظرياتهم تجاه المرأة على اختلاف مشاربهم وبيئاتهم.
وتبقى المرأة تقوم بدور البطولة إلى جانب الرجل في مسرحية كبرى هي الحياة، ويبقى الحديث عنها ما دام القلم يسطر والأفواه تنطق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
==============(9/319)
(9/320)
تغريب.. أم تهويد المرأة المسلمة
أحمد زين
ثلة من مثقفي وخبراء الكيان الصهيوني (ضابط مخابرات سابق، ومستشرق وعضوة في منظمة نسائية يهودية) في القناة الثامنة بالتليفزيون الإسرائيلي في ندوة عقدت مؤخرًا تحت عنوان "دور المرأة العربية في الصراع العربي الإسرائيلي"، نص فيها ضابط المخابرات على أنه: كلما توجهت المرأة العربية نحو الغرب شعرنا بالرضا..
وكان ملخص ما دار في الندوة أن المرأة العربية كلما كانت بعيدة عن تراث مجتمعها العربي (ما نسميه نحن مبادئ الإسلام!!) ومقبلة على النمط الغربي في الحياة كان من الأسهل على إسرائيل تفكيك خلايا المقاومة في الوطن العربي!!
أخيراً !! اعترفتم!!!
هكذا وجدتني أصيح وأنا أتنفس الصعداء.. وكأنني أزيح من على كاهلي أعباء سنين، وأنفض عن رأسي حمل البرهنة على البدهيات وما أثقله من حمل!!
كم نادى المنادون.. وبح صوت الإسلاميين وهم يصيحون: يا جماعة تطبيق الأجندة الغربية على المرأة المسلمة كي تنهض أمر فاشل حتماً، وحكم بفشله العقل والنقل معاً، وإذا طبقناها خسرنا قوة أمتنا العربية…
وكم بح صوت الإسلاميين وهم يقولون: لا إصلاح لأوضاع المرأة العربية خاصة والمسلمة عامة إلا بما صلح به الأوائل من النساء.. وإن الإسلام فقط هو الذي يعطي المرأة حقوقها كاملة غير منقوصة في ذات الوقت الذي يسبغ عليها احترامًا وقدسية ومكانة خاصة لا يمكن أن يعطيها لها الشرق أو الغرب بغير الإسلام، وكذا يضعها في مكانها المناسب في صراعنا ضد الأعداء المتربصين…
وحينما كان الإسلاميون يؤكدون أن المرأة هي المجتمع كله لا نصفه؛ لأنها هي التي تخرج النصف الآخر.. وهي التي تربِّيه كان البعض يضحك على هذا "الإنشاء"!! وهذه "الخطب"!!.
وحين كان الإسلاميون يخطون بأقلامهم وفعالياتهم وأنشطتهم أسطراً تقول:
المرأة مصنع الرجال… ووالدة الأبطال وهي صمام الأمان الإستراتيجي للأمة المسلمة… كان البعض يحلو له السخرية والتسامر على هذه المرأة المسلمة التي "تتعثر" في حجابها، وتتبعثر في "جلبابها"..! وكيف ستقود الأمم بهذه "الخيام" التي ترتديها؟! ويحلمون بامرأة على النمط الغربي، امرأة ترتدي الجينز، والسيجارة الشرهة لا تغادر فمها، وشعرها المنفوش الذي لا يمشط إلا نادرًا يصيب الجالسين حولها بالشفقة عليها دائماً..
هذا النموذج الغربي الذي طالما أعلن الإسلاميون عدم جدواه اكتُشف أخيرًا… أخيرًا أنه دائماً هو الأنسب والأمثل للأمة العربية.. نعم هو الأمثل والأنسب فقط إذا أرادت أن تخور قواها أمام العدو، وتنهزم دائماً داخليًّا وخارجيًّا، وعلى كافة الأصعدة.
أتراني أحتاج إلى كل هذه المقدمات والتعليقات على أمر بدهي كهذا.
المفروض ألا تعليق، ولكن ماذا نفعل والبعض ما زال متحمساً لقضية خاسرة من البداية وهو يزكي النموذج الغربي ولا يرى بديلا عنه ويحقرن ما عداه..!!
والآن بعد أن:
شهد الجميع بفضله حتى العدا والحق ما شهدت به الأعداء
هل يصمت هؤلاء وتسير القافلة..
أبداً والله سيستمرون …
حتى لو أكد لهم "باراك"، و"نتنياهو" معًا هذا الكلام.
وحلفَا لهم عند حائط المبكى أن النموذج الغربي هذا لا يصنع في بيوت المسلمين إلا أشباه الرجال وأشباه النساء.
ولا ندري هل يصبح تساؤلنا مكرورًا ومملاً حين نقول: مَن صنع جنود حزب الله؟ ومَن ربى أشبال حماس؟ ومَن تلكم التي تزغرد حين يأتيها ابنها مضرجاً في دمائه؟ ومن التي تنذر أولادها دفاعًا عن المقدسات ودحراً للأعداء؟..
ذات الخمار والجلباب التي "تتعثر" فيه؟ أم ذات الجينز والسيجارة والشعر المنفوش؟…
===============(9/321)
(9/322)
المرأة الفلسطينية .. من العولمة إلى النموذج الحضاري
غزة - الجيل للصحافة:
أوصي المؤتمر النسائي الثالث الذي ينظمه حزب الخلاص الإسلامي بغزة بضرورة ربط البُعْد الاجتماعي لقضية المرأة بالقضية الوطنية العامة، وطالب بعدم تجاهل حقوق المرأة، والعمل على اعتماد قانون الأحوال الشخصية على أسس الشريعة الإسلامية.
كما طالب المؤتمر الذي عقد في الفترة من 8 -9 أغسطس 2000م تحت عنوان: "المرأة الفلسطينية والتحولات الاجتماعية" بمشاركة العديد من المثقفين ورجال الدين وممثلي الوزارات والمؤسسات والفعاليات والقيادات النسوية المختلفة، بضرورة بلورة أجندة تساهم بالنهوض بواقع المرأة
الأسرة: وظائف ومهام
وتحدث في الجلسة الأولى من المؤتمر د. حمدان الصوفي -المحاضر بكلية التربية بالجامعه الإسلامية- حول وظائف الأسرة المعاصرة قائلاً: إن للأسرة دوراً مهمًّا في تنمية المشاعر الاجتماعية، معتبراً أن من واجب الأسرة إشاعة الأمن والطمأنينة والشورى داخل الأسرة، مشدداً على ضرورة اتفاق الوالدين على أسلوب معاملة الطفل لما لذلك من أهمية بالغة في تحقيق الانسجام في شخصية الطفل، وأكد د. الصوفي على ضرورة اهتمام الأسرة في تنمية الإحساس بالجمال لدى الأبناء، موضحاً أن الجمال مفهوم شامل يتضمن جمال الطبيعة والأصوات المسموعة وجمال اللغة إضافة إلى جمال الملبس والهيئة.
وأوضحت المحاضرة د. سناء أبو دقة -من الجامعة الإسلامية- أن التأثر بالغرب من شأنه أن يساهم في تفشي الفردية والمظاهر الاستهلاكية، ودعت إلى ضرورة العمل للحفاظ على تمسك الأسرة بأصالتها وقيمها وهي تتعامل مع قضايا العصر. وأضافت أن التأثر بالغرب تزايد من خلال تفشي الفردية والمظاهر الاستهلاكية؛ لتفقد الأسرة الكثير من مقوماتها وتصبح كياناً ماديًّا بدلاً من أن تكون محضناً للعائلة والأولاد ومدرسة أولى لهم، واعتبرت د. سناء أبو دقة أن صناعة السينما والموضة ومستحضرات التجميل نجحت في التأثير على المرأة من خلال تشكيل نموذج معين للمرأة العصرية يتناقض مع الهوية العربية والإسلامية للمرأة، موضحة أن متابعة هذا النموذج وبسبب التغير المستمر في الصناعة يجعل المرأة في هرولة وقلق مستمرين من أجل أن تصبح متجددة دائمًا ومقبولة، وهذا كله على حساب أمن واستقرار أسرتها. ودعت د. سناء أبو دقة إلى ضرورة العمل للحفاظ على تمسك الأسرة المسلمة بأصالتها وقيمها وهي تتعامل مع قضايا العصر.
وركز د. إحسان الآغا -عميد كلية التربية بالجامعة الإسلامية- في ورقته: "القيم والأمن الاجتماعي" على أهمية الجانب الأمني في عملية التربية، موضحاً أن التربية الأمنية تمثل عملية اجتماعية لإعداد الأفراد.
وتحدث في نفس الجلسة الأستاذ جميل الطهراوي -رئيس قسم علم النفس بالجامعة الإسلامية- حول المشكلات الأسرية المعاصرة، مؤكداً على أن مشكلات الأسرة تنعكس بشكل مباشر على مشكلات المجتمع، موضحاً أن هذه المشكلات تنعكس في صور متعددة سواء على الصعيد النفسي أو الاجتماعي.
المرأة والعولمة
وتمحورت الجلسة الثانية للمؤتمر حول عنوان: "المرأة الفلسطينية وتحديات العولمة"، أوضحت فيها الصحفية دنيا الأمل إسماعيل -خلال كلمتها عن المرأة والتحديات الإعلامية- أن الإعلام يشكل منهجاً تربويًّا متكاملاً ويلعب دوراً بارزاً في المجتمعات، حيث إن التأثير الإعلامي يمتد إلى التربية الاجتماعية والوطنية.
وقالت: "إن أغلب الخطاب الإعلامي موجه إلى نساء النخبة والعاملات في المؤسسات النسوية؛ الأمر الذي يتطلب إيجاد إستراتيجية وطنية للإعلام تلتزم بالثقافة الوطنية وتعمل على حمايتها، وشددت على أهمية الدور المنوط بالنساء العاملات في مجال الصحافة وخطورة افتقادهن للوعي الكافي الذي يقيهن في الوقوع في شبكة الترويج للنمط الاستهلاكي للمرأة".
الجندرة ومفاهيم أخرى
فيما اعتبرت الباحثة عفت الجعبري في ورقة عملها حول: "المرأة ومفهوم الجندرة" أن قضية النهوض بالمرأة لا يمكن أن تتم إلا بالعودة إلى الإطار الحضاري الذي يتلاءم مع طبيعتها واحتياجاتها، مشيرة إلى الأدوار التي تتحدد على أساس تكاملي بين الرجل والمرأة، ودعت إلى إعادة قراءة تاريخ المرأة من جديد؛ لتأسيس نهضتها على أصول ثابتة راسخة، وأوضحت أن المرأة ما زالت تعاني من مشاكل عديدة، وأنها بحاجة إلى حلول للتخلص من الموروثات والعادات الخاطئة التي تحكم سلوك المرأة.(9/323)
وتحت نفس العنوان تطرقت الكاتبة الصحفية مها عبد الهادي إلى النظرة التقليدية التي ينظرها المجتمع الغربي إلى المرأة المسلمة على أنها ضحية للقهر والاستعباد، موضحة أن النظرة الآن بدأت تتحول إلى أن المرأة أصبحت أكثر مشاركة وفعالية في المجتمع الذي يخطط ويصون لها حقوقها، وأكدت على ضرورة أن تتعامل المجتمعات الإسلامية بمزيد من الإنسانية والعدالة مع المرأة مما يكفل لها حريتها وآدميتها، وهو ما أكد عليه القرآن الكريم، وطالبت بضرورة تطبيق النصوص القرآنية المتعلقة بشؤون المرأة بشكلها الصحيح، إضافة إلى دراسة الفقه وسياقاته الاجتماعية ومراجعة الآراء الفقهية والفتاوى التي تأثرت بالثقافة المحلية وغلبت عليها.
وأضافت أن الخمسة عشر عامًا الأخيرة شهدت صحوة إسلامية وجهدًا كثيرًا من قبل باحثات إسلاميات للنهوض بمشروع المرأة وإعادة قراءة الأصول واستعراض التراث، مؤكدة أن هناك محاولات للاجتهاد والتجديد بضوابط الإسلام.
كما تحدث في نفس الجلسة الكاتب نهاد الشيخ خليل مستعرضاً مفهوم الجندرة الذي يعني الدور الاجتماعي والسياسي لكل من المرأة والرجل، موضحاً أن هذا الرأي ليس ثابتاً وإنما يتغير بتغير أوضاع المجتمع، وتعتبر الثقافة هي العامل الأساسي في ترتيب الأدوار وليس الجنس.
وفي الختام أكدت أميرة هارون -عضوة المكتب السياسي لحزب الخلاص- في ورقة عملها المتعلقة بالخطاب النسوي الفلسطيني، على أهمية البعد المعرفي عند تناول الخطاب النسوي بالدراسة والتحليل، مشيرة إلى أن هذا الخطاب يقوم على جملة من المفاهيم، أهمها: المساواة، والنسوية، والحقوق، والجندرة.
وأشارت إلى أن المنهج الإسلامي ينظر للحقوق على أنها ضرورات وواجبات، ودعت إلى الاهتمام بالدراسة المعرفية الإسلامية، مؤكدة أن مثل هذه الدراسات هي المؤهلة لتقديم الحلول المناسبة للتحدي الحضاري ومنها قضية المرأة.
==============(9/324)
(9/325)
تشكيل الرأي العام حول قضايا المرأة
هبة التهامي
قامت أ.د. راجية أحمد قنديل أستاذة الصحافة والرأي العام ومديرة مركز بحوث الرأي العام بكلية الإعلام - جامعة القاهرة ـ بحكم اهتماماتها العلمية بالرأي العام، وممارستها الأكاديمية والمهنية لبحوثه المختلفة ودراساته، لمدة تزيد على 25 عامًا ـ بالبحث في الموضوع تشكيل الرأي العام حول قضايا المرأة،ورغم أن عنوانه يتكون من ست كلمات، فإن كلاًّ منها يتسع ليتضمن مجموعة من القضايا الخلافية الجدلية التي لم تُحسم بعد، وما زالت تستلزم بذلك الجهد لتوفير الإجابة على عدد من التساؤلات الجوهرية التي تطرحها، وتثيرها، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - طبيعة وحدود الأدوار الوظيفية للاتصال، بشقَّيْها المواجهي الشخصي المباشر، والجماهيري المقروء والمسموع والمرئي في كل من المجالات التالية:
(أ) التنوير والتثقيف الجماهيري، وصياغة الوعي القومي في المجتمعات العربية المعاصرة.
(ب) تشكيل الرأي العام العربي، حول القضايا وعلى رأسها قضايا المرأة في عالمنا المعاصر.
2 - حقيقة التفاعل المتبادل، وعلاقات التأثير والتأثر بين كل من الرأي العام والصحافة المطبوعة المقروءة، والمسموعة والمرئية، ودورها في بناء الصور الذهنية والنمطية، وبناء الأجندة، وترتيب أولويات الاهتمام بالقضايا المحلية والقومية والعالمية، وتبنِّي الأفكار المستحدثة، وتعديل الاتجاهات.
وقامت الباحثة بإجراء دراسة مسحية استكشافية، من أجل رصد الاهتمامات الموضوعية لأعمال الإنتاج العلمي والفكري التي نشرت خلال سنوات العقد الأخير من القرن العشرين، والتعرف على ما سعت إلى تحقيقه من أهداف، وما أسفرت عنه من نتائج، وذلك باستخدام برنامج إحصائي متقدم، ومراجعة دليل المستخلصات للأدبيات الحديثة في مجالات الرأي العام، والصحافة النسائية، وقضايا المرأة في إطار التفاعل والتأثير المتبادل بين الرأي العام والاتصال وأدواره الوظيفية في تكوين الرأي العام وتغييره، وترتيب أولويات اهتمامه.
وقد أسفرت معالجة البيانات ونتائج التحليل الكمي والكيفي لعينة الدراسة الاستكشافية التي تكونت من 86 مفردة: (34 باللغة العربية و52 بالإنجليزية) عمَّا يلي:
أولاً: النتائج الخاصة بالرأي العام والإعلام:
- تبين من مراجعة عينة الدراسة الاستكشافية اعتماد معظم نماذج تحليل الرأي العام، ومحاولات تعريفه، بل وقياسه، على نتائج توصلت إليها نماذج ونظريات التأثير الإعلامي من جهة، وعلى الخبرة التاريخية، والأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية للمجتمعات الغربية الصناعية المتقدمة من جهة أخرى، وخاصة المجتمع الأمريكي مما يدعونا إلى المطالبة بمراجعة التراث العلمي والفكري في مجالات الإعلام والرأي العام، والعمل على بلورة ووضوح ملامح المدرسة المصرية والعربية في هذه المجالات الحيوية الهامة وتخليصها من هيمنة الطابع الأمريكي عليها.
ثانيًا: النتائج الخاصة بقضايا المرأة في الصحافة النسائية العربية:
أسفرت معالجة البيانات الخاصة بأعمال الإنتاج العلمي والفكري، التي شكَّلت عينة الدراسة الاستكشافية من الدراسات التي تناولت بالبحث البيئة الإعلامية للصحافة النسائية العربية وعناصرها الاتصالية، عن ضعف ملحوظ في مستوى الأداء المهني لعدد من الصحف والمجالات النسائية، بالإضافة إلى انخفاض معدلات الجودة، في بعضها الآخر، يصل أحيانًا إلى حد العجز عن تحمل أعباء القيام بالأدوار الوظيفية الحيوية للصحافة في تشكيل رأي عام نشط وفاعل وواعٍ بقضايا المرأة، وتقديم صور واقعية تعكس إنجازاتها وتناقش همومها ومشاكلها وتعبر عن ذاتيتها، وتقدم مضمونًا يشبع احتياجاتها المعرفية والثقافية والإعلامية ويربطها بقضايا المجتمع.
- فتركز كثير من الصحف النسائية والمجلات اهتمامها على قضايا لا تشكل أولوية للمرأة المعاصرة، ويقتصر الاهتمام في معظمها على المضمون الخفيف، بينما تغيب عن صفحاتها كثير من القضايا الحيوية الهامة.
- تغفل - في أحيان كثيرة - هذه الصحافة خصوصية قضايا المرأة العربية والمرأة المصرية، فتقع في فخ التبعية لأجندة الاهتمامات الغربية المغايرة تمامًا.
- الحيز الأكبر من صفحات الصحف والمجالات النسائية العربية يحوي مضمونًا استهلاكيًّا لا يواكب واقع المجتمع والمرأة والأسرة.
- يتراجع بشدة في الصحافة النسائية المضمون السياسي الجاد، ورسائل التوعية السياسية ونادرًا ما يتم تناول الحقوق السياسية للمرأة على صفحات المرأة في الصحف العامة والمجلات النسائية المتخصصة.
- لا تُولِي الصحافة النسائية اهتمامًا كافيًا بالمرأة الريفية وقضاياها رغم ما تمثله من نسبة النصف من الناحية العددية في المجتمعات العربية، وما تلعبه من دور صناعة القرار على المستوى المحلي وما يمكن أن يكون لها من تأثير وتوجيه، بل تحديد نتائج الاختيار السياسي والبرلماني.
- تهمل هذه المجلات المتخصصة الجوانب الثقافية، وتكاد تحصر المرأة وأنشطتها وأدوارها في نطاق المنزل والاهتمامات الهامشية.(9/326)
- هناك هُوَّة عميقة بين واقع المرأة وصورتها التي تعكسها الصحافة العربية بصفة عامة والمجلات النسائية بصفة خاصة.
- يتضح التحيز الشديد من جانب الصحافة النسائية إلى شريحة معينة من نساء المدن لا تمثل إلا قلة قليلة، تختلف مشكلاتها واهتماماتها عن الغالبية الواقعية في المجتمع المعاصر.
- كثيرًا ما تتوجه هذه الصحف والمجلات إلى الشرائح العليا اجتماعيًّا، والمستوى الاقتصادي المتميز الذي لا يتمتع به الكثيرون والكثيرات.
- ما زال مضمون الصحافة النسائية العربية يعكس النظرة للمرأة وأدوارها كأنثى وزوجة مع اهمال مشاركتها في المجال العام أو مشكلاته كامرأة عاملة، وكشريك في الإنتاج، أو في اتخاذ القرار السياسي، ومختلف جوانب الخلق والإبداع الفكري والفني، ومن ثَمَّ لا يعكس الرأي العام النسائي، مما يثير تساؤلاً هامًّا: ما دور هذه الصحافة في ترتيب أولويات المرأة العربية؟ وما دورها في بناء أجندة الصحافة النسائية المتخصصة؟
أوضحت المعلومات والبيانات التي تضمنتها كل من النتائج الخاصة بالتناول الصحفي لقضايا المرأة في الصحافة النسائية العربية، ودراسات الرأي العام والإعلام، عن أهمية سرعة اتخاذ خطوات إيجابية نحو مزيد من التفعيل للأدوار الوظيفية للاتصال الجماهيري بصفة عامة، والصحافة بصفة خاصة، وضرورة توفير ضمانات رفع كفاءة الأداء بالنسبة لوظيفة تنمية الوعي الاجتماعي، وربط الأفراد بقضايا المجتمع، وأهمية أن تتجاوز الصحافة إشباع الاحتياجات الإعلامية لجمهور القراء، إلى استهداف تشكيل رأي عام واعٍ مستنير، وتبني أفكار جديدة تسمح بتحسين نوعية الحياة، وإحداث تغييرات في المواقف التقليدية، وإعادة صياغة الصور الذهنية، وترتيب أولويات الاهتمام بالقضايا القومية، وعلى رأسها قضايا المرأة باعتبارها قضايا الرجل والأسرة والمجتمع بأسره،واتباع أساليب التخطيط العلمي في كافة الخطوات والمراحل، ويستلزم أن تكون البداية بحسن استثمار مستحدثات التكنولوجيا في مجال الإعلام والمواصلات والمعلومات والعمل على توفير قاعدة بيانات واقعية معاصرة منظمة؛ لتطوير نموذج مقترح لبرنامج الاتصال الإقناعي، يشكل الرأي العام نحو قضايا المرأة المصرية، يتبع الأساليب العلمية في كافة مراحل التخطيط والتصميم والخطوات التنفيذية كذلك. ويولي أهمية بالغة لضرورة الاعتماد على المعلومات الميدانية الواقعية، والبيانات الدقيقة الحديثة، والحرص على المتابعة المرحلية لاتخاذ القرارات التصحيحية في الوقت المناسب، وقياس رجع الصدى والتقويم المستمر والمنتظم والنهائي.
ويستهدف هذا النموذج المقترح إحداث تأثيرات محددة، على آراء وأفكار واتجاهات وقيم فئات مستهدفة من جماهير الرأي العام وقادته المؤثرين سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا وتعليميًّا
=============(9/327)
(9/328)
المرأة والإعلام في زمن العولمة
الرباط - حواء وآدم
نظمت منظمة تجديد الوعي النسائي السبت الماضي يومًا دراسيًّا بالمركز الثقافي "ثريا السقاط" بالدار البيضاء حول (المرأة والإعلام في زمن العولمة).
الجلسة الافتتاحية تميزت بكلمة الأستاذة بسيمة الحقاوي الأمينة العامة للمنظمة عبرت فيها عن الحاجة الماسة إلى تنظيم أيام دراسية من هذا النوع، باعتبارها مرحلة أساسية لتوسيع الوعي بالإشكالات وتعميقه، واستعرضت الأسباب التي دفعت المنظمة إلى تنظيم هذا اليوم الدراسي وفتحه للعموم، كالتالي:
فمن جهة فإن الجماهير العريضة هي المستهدفة بالإنتاج الإعلامي بصفة عامة، ومن جهة ثانية فالجمهور مَعْنِيٌّ بالدرجة الأولى؛ لأنه يدفع ضرائب غير مباشرة عن المادة الإعلامية التي يراها، ومن جهة أخرى فإن الإعلام والاتصال يعني أن هناك مُرسِلاً ومُرسَلاً إليه.
صورة المرأة ووعيها
عرضت الأستاذة الحقاوي برنامج اليوم الدراسي الذي تميز بتطور تقني هائل تجلى في الربورتاجات المصورة التي تسبق كل مداخلة، الشيء الذي أغنى البرنامج وساهم في ربط العروض والنقاش بأصل المادة الإعلامية، سواء أكانت مكتوبة أو في الإذاعة والتليفزيون والسينما.
الربورتاج الأول ارتبط حول صورة المرأة في التلفاز في القناتين الأولى والثانية.
وأشار في بدايته إلى ضرورة ارتباط المادة الإشهارية بالمنظومة القيمية لكل مجتمع، التي يجب أن تستحضر فيها وتتم الاستفادة منها في صياغة المادة الإشهارية.
الشيء الذي لا نجد له صدى في المواد المعروضة في التليفزيون المغربي التي يحكمها منطق "الغاية تبرر الوسيلة"، بل يتم أحيانًا استغلال قيم سلبية على حساب قيم إيجابية في المجتمع، ومن ذلك برامج الجوائز المالية الضخمة التي تشجع على القمار، وأشار الربورتاج إلى استغلال الفتاة مُغلِّبًا نماذج المرأة/ الشيء والمرأة، والجنس على حساب المرأة -الإنسان.
ومضت مداخلة الأستاذة رقية بو عبد السلام أستاذة مادة اللغة العربية (بني ملال) في نفس الاتجاه معتبرة أن المادة الإعلامية تستهدف إقناع المتلقي بالمادة المعروضة دونما إعطاء الاعتبار الكلي لطبيعة الوسائل المستغلة.
وقد جرت العادة في الدول الغربية أن يستثمر كل ما من شأنه تزيين صورة المادة المروج لها، ولو كان ذلك بعرض الأجسام البشرية، وخاصة جسم المرأة بشكل لا تبدو معه أي رابطة ظاهرة بين المرأة عارية مثلاً والإشهار أو الإعلان عن إطارات السيارات.
وقد ساهمت العولمة بشكل كبير في نقل هذه التقنيات إلى تليفزيونات العالم الثالث، والتليفزيون المغربي ليس استثناء، ونجد ذلك دون إعطاء أدنى اعتبار لقيم المجتمع وهوية أفراده، واستباحة كل المقدسات وكشف العورات من أجل الربح، فإن العولمة حولت القيم الغربية المشينة لجسم الإنسان إلى قيم عالمية تسيطر من خلالها على الشعوب؛ من أجل تكريس استعمار جديد تتم به استِحْمار شعوب العالم الثالث وركوبها.
التجارة تفسد الإعلام
المحور الثاني كان حول تخليق الإعلام من أجل تواصل متوازن للأستاذ محمد يتيم رئيس تحرير جريدة التجديد، الذي عاب على بعض وسائل الإعلام تغليبها منطق التجارة على حساب الأخلاق، وتغلب منطق الربح على حساب القيم في استغلال سيئ للحرية، ولو كان ذلك على حساب رسالتهم التربوية والثقافية.
كما أن المفهوم الذي أعطي للمقاولة الصحفية في الصحافة من أجل الربح، وكفى هو بمثابة "إعلان أو قبول بسيطة أو دولاب صغير في الآلة الكبيرة للنظام الإعلامي العالمي"، داعيًا إلى تغليب جانب الصحافة الملتزمة التي لها رصيدها الأخلاقي مضافًا إليه رصيدها الإنساني والإسلامي، وهذا يعني ألا تتبنى الصحافة الملتزمة إيجابيات الصحافة المقاولة في الحصول على أسباب القوة المادية والاقتصادية "فلا حرج أن تسعى صحافتنا إلى الربح، ولكن بشروط أن يكون ربحًا مشروعًا"، ودعا الأستاذ يتيم إلى إعادة الاعتبار للكلمة، التي هي من أعظم النعم الإلهية على الإنسان، وأن تغدو رسالة مصحوبة من أجل مصداقية هذه الكلمة التي لا تكون إلا بالتحري في نقل الأخبار والتحلي بالموضوعية والإنصاف، وتجنب تجريح الأشخاص والهيئات، والتوجه إلى نقد السياسات والسلوكيات والانفتاح على الرأي الآخر.(9/329)
كما تدخل الأستاذ عبد العزيز رباح رئيس مصلحة الإعلاميات في محور أبعاد استهلاك صورة المرأة في الإنترنت مستعرضًا أول الأمر التعريف بهذه الشبكة وبدورها في إنتاج المعلومات، وكيف أنها أحدثت عولمة تكنولوجية، حيث بات التحكم ببرامج المعلومات يتيح بالضرورة التحكم في استغلال صور الأشخاص بما فيها صورة المرأة باعتبارها عنصرًا مثيرًا وجذابًا للعري، كما أكد أن مُسْتَغِلِّي الإنترنت كمساهمات المرأة بمركز الفضاء وبالميادين العلمية الخاصة بها، وكذلك العيادة الطبية الخاصة بالنساء، وهذه كلها أمور إيجابية. لكن الربورتاج أوضح أيضًا المواقع السلبية التي تستغل جسد المرأة أبشع استغلال، فأبرز المواقع التي يستعملها الرجال في تنافسهم لاجتذاب النساء، إضافة إلى المواقع التي تَشِي صورة المرأة، سواء تعلق الأمر بتبيان معروضات الموضة أو بمنتجات التجميل، أو بالإشهار لوسائل منع الحمل.
المرأة في السينما والمسرح
وتناول بعد ذلك الكلمة السينمائي حميد باسكيت في محور واقع المرأة في السينما المغربية؛ حيث قدم قراءة لواقع المرأة بها وبدلالات بعض الأسماء ( بامو ) و( حادة ) و( ووشمة )، معتبرًا من جهته أن السينما الوطنية قد لامست قضايا المرأة.
واعتبر محمد أزهر - مهتم ومسرحي - أن فنون المشاهدة التي تناولت مواضيع المرأة في فترة الاستعمار وبعده، كانت تحمل قضايا مواجهة المستعمر، واليوم أصبحت المرأة تستغل صورها في السينما؛ لاستجذاب الجيوب واستمالة المشاهدين.
وأبرز الربورتاج المقدم في هذه الصدد جوانب استغلال صورة المرأة في بعض عناوين الأفلام المغربية كفيلم "حب في الدار البيضاء"، و"البحث عن زوج امرأتي"، إضافة إلى الملصقات الإشهارية الخاصة بمثل هذه الأفلام، حيث اعتبر الربورتاج أن اقتحام جسد المرأة المتخيل بات مباحًا، انطلاقًا من الملصق إلى اللقطات التي تحيل على الجسد، كما أشار إلى تصوير المرأة في حالة الجدبة مثلاً، وهي حالة تَنُمُّ عن البؤس والضعف، وترتبط عَنوة بشخصية المرأة.
وفي نهاية اليوم الدراسي تَمَّ تكريم المرأة الإعلامية الجادة في شخص السيدة إكرام بناني الرطل.
==============(9/330)
(9/331)
المواقف الرئيسية تجاه قضايا مؤتمر المرأة
المواقف الرئيسية تجاه قضايا مؤتمر المرأة
1 - موقع الدين في حياة الإنسان
2 - تحديد الجنس
3 - التثقيف الجنسي
4 - الحرية الجنسية
5 - الأسرة
6 - عمل المرأة
7 - المساواة والتماثل
8 - المشاركة السياسية
9 - مشكلة الفقر
10- العنف ضد المرأة
11- الزواج والمعاشرة الجنسية
12- الإجهاض
1 - موقع الدين في حياة الإنسان
وثائق المؤتمر
الموقف الإسلامي
موقف الفاتيكان
موقف تيار التحرر المطلق
* وردت في فقرة بين قوسين في مشروع الوثيقة إشارة إلى "أهمية الدين في حياة ملايين النساء، والحاجة إلى مناخ أخلاقي يحمي المجتمع من كل أشكال الفساد ومن استغلال المرأة" ووضع الوثيقة للفقرة بين قوسين يدل على كونها محل خلاف وعرضه للتعديل، وقد خلا البيان الختامي من التنويه إلى دور الدين.
…
* استحسان من قبل علماء ومفكرين إسلاميين مستقلين مع التنبيه إلى الحذر من وضع ذلك ضمن الأقواس والتأكيد على أن إطلاقها يعد نقطة إيجابية للمؤتمر.
* وجود مواقف أخرى تؤكد أن المؤتمر دعوة للانفلات من كل الأديان والتقاليد والقيم الإنسانية. (الأزهر، مجلس الإفتاء السعودي، ومواقف أخرى متفرقة).
…* ينوه بدور الدين المسيحي في حياة الإنسان "يدين كافة أشكال التطرف الديني والعلماني التي تترك أثرًا سلبيًّا على المرأة ". …
* يعتبر أن الأصولية الدينية صاحبة الدور الأكبر في قهر المرأة، وينبغي أن يعاد تفسير تعاليم الديان من قبل منظمات الحركة النسوية.
* يعتبر أن المرأة لم تنل حقوقها قط في ظل الدين والأدوار المنوطة بها هامشية في نصوصه.
* ينتقد وجود تحالف بين الكاثوليك والمسلمين.
2 - تحديد الجنس
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* أطلقت وثائق المؤتمر تسمية (Gende r ) "جندر" التي تعني "نوع" بدلاً من "جنس"، على اعتبار أن الأولى تعني النوع الإنساني بما يشمل المرأة والرجل معًا وغيرهما من الشواذ. …* يحذر من خطورة هذه الدعوة وما تتضمنه من أفكار وأهداف ترمي إلى إلغاء الفوارق البيولوجية بين الذكورة والأنوثة. …* الإعراب عن القلق من هذه الأفكار الحديثة باعتبارها تهدد العالم المسيحي، وانتقد بيان بابوي مصطلح "جندر" ووصفه بالإبهام. …* صاحب الدعوة إلى هذه الفكرة، فالناس يولدون محايدين والمجتمع يظلمهم بتصنيفهم إلى ذكور وإناث.
3 - التثقيف الجنسي
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* يدعو إلى إشاعة التثقيف الجنسي في المجتمعات لا سيما لمن هم في سن المراهقة وما قبلها عبر وسائل التعليم والإعلام. …* ينتقد عدم ربط هذه الدعوة بضوابط الدين والخلق، ويرفضها ويحذر منها ويجعلها محصورة في مرحلة عمرية مناسبة على أن يقوم بعملية التثقيف أفراد مؤهلون خلقيًا ودينيًا. …* يشير إلى حق الوالدين في اختيار نوعية التثقيف المناسب لأبنائهما. …* يرى ضرورة أن تتلقى الفتيات تعليمًا يقتلع من أعماقهن فكرة المرأة الزوجة أو الأم والأعباء والتقاليد التي حملها المجتمع للمرأة دون غيرها.
4 - الحرية الجنسية
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* تدعو الوثيقة إلى عدم التمييز بين الناس على أساس النوع أو الجنس بما يضفي المشروعية على جميع الأشكال الشاذة من بغاء، سحاق، لواط، وزواج مثيلي (رجل برجل وامرأة بامرأة).
* يعتبر أنها تقع في نطاق الحقوق الأساسية للإنسان.
* لم تشترط الوثيقة صيغة الزواج الشرعي كأساس للعلاقة بين المرأة والرجل، واعتبرت أن "للمرأة الحق في السيادة على جسدها". …
* يرفض هذه الدعوة ويعتبرها تتناقض مع الإسلام ومع كل القيم الاجتماعية والثقافية وسائر الأديان السماوية، وتهدد شكل الأسرة.
* ينتقد وجود أية علاقة لا تحكمها الصيغة الشرعية التي حددها الدين وهي الزواج. …* لم يتجاوب الفاتيكان مع المسلمين لاتخاذ موقف موحد تجاه علاقات الشذوذ وعدم اعتبارها شكلاً من أشكال الأسرة. وهو موقف مائع من القضية تحت ضغط الدول الغربية. …* يعتبر أن الأساس في أي علاقة جنسية مهما كانت هو وجود رغبة مشتركة، ويدعو إلى الاعتراف بالصيغ الشاذة في هذه العلاقات وتوفير الحماية والمشروعية والرعاية لها ومعاملتها معاملة الأسرة، وأن الدعارة مرفوضة في حالة واحدة هي إكراه المرأة عليها.
5 - الأسرة
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* أشار مشروع الوثيقة بين قوسين إلى أهمية الأسرة باعتبارها الوحدة الأساسية للمجتمع.
* إطلاق التسمية والمفهوم لا يمنع الشواذ من تكوين الأسرة التي أسمتها الوثيقة العائلة. وتعتبر أدوار الأمومة والأبوة أدوارًا نمطية يجب استبعاد الالتزام بها حتى يمكن إقامة مجتمع متحرر من القيود والروابط. …
* تنويه واستحسان للإشارة إلى أهمية الأسرة مع التنبيه إلى وضعها بين قوسين.(9/332)
* ينتقد إطلاق هذه الدعوة، ويؤكد على أن مفهوم الأسرة يسري فقط على الزوجين اللذين يجمعهما رابط شرعي. والدعوة إلى غير ذلك دعوة خبيثة تناقض ما يقرره الإسلام والأديان السماوية باعتبار الأسرة مصدر السكن. …
* ينتقد النظر إلى الأسرة بصورة سلبية، وينتقد ذكر الوثيقة لها بين قوسين على اعتبار أن هذا الوضع يقلل من قدرها ويجعلها فكرة قابلة للنقاش.
* وينتقد كذلك النظر إليها بصورة سلبية، لأن ذلك يجعلها فكرة قابلة للنقاش ويقلل من قدرها ويعطي انطباعًا مغايرًا عن المرأة في العائلة الغربية. …
* يعتبر فكرة الأسرة هي المصدر الأساسي لقهر المرأة.
* يدعو للخروج عن الأشكال النمطية واستحداث أشكال جديدة ليس شرطًا أن تكون قائمة على الزواج.
6 - عمل المرأة
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* خطاب الوثيقة موجه المرأة الفرد وليست المرأة كعضو في الأسرة أو كأم، ومن ثم فهو موجه بالأساس إلى المرأة الغربية العاملة دون اعتبار للمرأة الأم أو ربة المنزل. …* يعتقد بمساواة المرأة والرجل في العمل المهني خلال الخبرة الإسلامية، وينوه إلى حقيقة الاختلاف الفسيولوجي وما يمليه من أعباء تحدد طبيعة عمل كل منهما وضوابطه، ويمتدح عمل المرأة لبيتها وزوجها، ويؤكد على مسئولية الرجل في الإنفاق على الزوجة والأسرة ويعفي المرأة من أية مسؤوليات وأعباء مادية تجاه الأسرة. …
* ينوه بعمل المرأة في بيتها ويدعو إلى إعطائها راتبًا على ما تقوم به من أعباء الأسرة.
* يحذر من كون مشاركة المرأة في الحياة العامة وسيلة دعائية تستخدم في الحملات السياسية فقط.
…* يدعو إلى ضرورة اعتماد النساء على أنفسهن اقتصاديًا، وأن يمارسن أنشطتهن بصورة مستقلة عن الرجال، وينبغي أن تعمل جميع النساء خارج البيت، وأن تلزم الحكومات الأزواج باقتسام الأعمال المنزلية مع زوجاتهم.
7 - المساواة والتماثل
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* تدعو إلى المساواة المطلقة (التماثل) في كل شيء بين الرجل والمرأة، كما تدعو إلى تغيير القوانين لتناسب ذلك بما فيها الميراث. …* يميز بين المساواة والتماثل، ويرفض الأخيرة ويستنكرها على اعتبار أنها تتصادم مع شرع الله، مع الإقرار بمساواة المرأة والرجل في أصل النشأة وخطابات التكليف الإسلامية. …* لم يتعرض إلى قضية الميراث ونوه إلى مساواة الرجل والمرأة في الكرامة الآدمية. …* يدعو إلى المساواة المطلقة (التماثل) في كل شيء على اعتبار أنه لا يوجد أدنى فرق، ويطالب بالتشريعات التي تدعم ذلك.
8 - المشاركة السياسية
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* تدعو إلى زيادة قدرة المرأة على المشاركة في صنع القرار والقيادة، واتخاذ تدابير خاصة لضمان وصول المرأة على أساس المساواة إلى هياكل السلطة واتخاذ القرار ومشاركتها فيها مشاركة كاملة. …
* اعتبارها مشكلة مجتمع بأسره وليست قضية المرأة وحدها.
* التنويه إلى الدور الذي قامت به المرأة في الخبرة الإسلامية، وذكر الحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأة بصفة عامة والسياسية بصفة خاصة. …* تحفظ على استغلال هذه الدعوة في الحملات السياسية والانتخابية فقط. …* الدعوة إلى إطلاق هذا الحق وفرضه وكسر احتكار الرجل له.
9 - مشكلة الفقر
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* إعادة تنظيم النفقات العامة وتوجيهها، وإتاحة الفرصة الاقتصادية للمرأة بحيث تلبي احتياجاتها الاجتماعية والتعليمية والصحية، وتمكين المرأة من مسكن وتيسير نظام للضمان الاجتماعي.
* الدعوة إلى تخفيض نفقات السلاح وتوجيهها إلى المشاريع التنموية لا سيما مجال النهوض بالمرأة. …
* يعتبرها جزءاً من أزمة المجتمع ككل وليست خاصة بالمرأة وحدها.
* يدعو لحل المشكلة بكل صورها. …* استحسان لتنويه الوثيقة لهذا الأمر. …* تدعو إلى الاستقلال المادي الكلي للرجل عن المرأة، كما تدعو الحكومات إلى تيسير ذلك وحمايته.
10 - العنف ضد المرأة
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* ينتقد العنف المتفشي ضد المرأة بكل صوره الجنسية والنفسية والبدنية.
* انتقد تشويه صورة المرأة وإهانتها في وسائل الإعلام، ويستنكر الاغتصاب والتشريد والمتاجرة بالنساء. …
* ينتقد أي صورة من صور الإهانة للمرأة باعتباره مخلوقًا مكرمًا له حقوق، ويشير إلى أن الأعمال التي تحط من قيمة المرأة تعد جاهلية يرفضها الإسلام.
* يستحسن موقف المؤتمر ولكن يعتبر مظاهر العنف الجديدة ضد المرأة أحد إفرازات الحضارة الغربية. …
* ينتقد كل صور العنف الموجه ضد المرأة، ويعتبر عمليات التعقيم والإجهاض أحد صوره، وكذلك إرغام المرأة على تعاطي حبوب منع الحمل.
* تأكيد على خطورة هذه التحديات أو العقبات التي تعاني منها المرأة مثل الحروب، الاغتصاب، زج الشباب في المعتقلات، وتهجير النساء والأطفال. …(9/333)
* يستعدي النساء على الرجال، حيث يعتبر أن كل الرجال مهيؤون لممارسة العنف وكل النساء يعشن في خوف، ولا مخرج إلا بإعلان ثورة جنسية شاملة.
* يتوسع في تحديد أشكال العنف لتشمل إلى جانب الأمور المتفق عليها نظرات الدين والمجتمع وما يسميه بالأدوار النمطية التي يدعو للتحرر منها.
11 - الزواج والمعاشرة الجنسية
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* تنتقد الوثيقة زواج المراهقات المبكر، فيما تبيح الحرية الجنسية للمراهقات ولمن دونهن ولا تنتقدها.
* تنتقد الوثيقة ما تسميه بـ"الاغتصاب الزوجي"، أي معاشرة الزوج لزوجته دون رغبتها. …
* انتقاد للوثيقة وبيان لتناقضها، وتحذير من هذه الدعوة.
* يعتبر أن المعاشرة الجنسية بين الزوجين يحكمها تعاليم الإسلام وآدابه، ولا يعرف الاغتصاب الزوجي. …* لم يتعرض للزواج المبكر وإن كان أنثى على دور الأم -أية أم- دون أي اعتبار لكونها زوجة أم لا. …
* يدعو إلى التعرف المبكر على عالم الجنس.
* الأصل في أي علاقة جنسية هو رضا الطرفين.
12 - الإجهاض
وثائق المؤتمر …الموقف الإسلامي …موقف الفاتيكان …موقف تيار التحرر المطلق
* لا تعتبر الإجهاض وسيلة من وسائل تنظيم الأسرة، إلا أنها ترحب به طالما توفرت فيه شروط الأمانة.
* توصي بإعادة النظر في القوانين التي تفرض إجراءات عقابية ضد المرأة التي تجري إجهاضًا غير قانوني. …
* تقابل هذه التوصية بمعارضة علماء المسلمين، مع ترحيب بعدم اعتبار الوثيقة للإجهاض كوسيلة لتنظيم الحلم.
* الإسلام يبيح الإجهاض في حالة الخطر على حياة الأم. …
* تأكيد على عدم تراجع الكنيسة عن موقفها تجاه الإجهاض.
* يرى أن العقوبات على المرأة التي تلجأ إلى الإجهاض تضاعف من مأساتها، ويعتبر خيارًا مؤلمًا ومصيريًا.
* يؤكد أن الاغتصاب لا يبرر الإجهاض ويصفه بأنه خطيئة مميتة. …
* يعتبره خيارًا شخصيًا للمرأة الحامل بأي صورة، وللمرأة الحق في إجهاض نفسها متى شاءت كي تتحكم في حياتها كما يفعل الرجل.
* يجب أن تؤمن التشريعات هذا الحق، وأن ترفع أي قيود أو عقوبات على ممارسته.
===============(9/334)
(9/335)
من يحدد أجندة قضايا المرأة
ريهام محروس-إلينوي
اندلع جدل حاد بين أستاذة علم الأديان - بجامعة "آلينوي" وبين مجموعة من طلاب الجامعة المسلمين عبر الإنترنت، وذلك تعقيبًا على مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست" بتاريخ 8 مايو 2000م، حول قضية قتل الشرف في باكستان.
كاتبة المقالة "باميلا كونستابل" بدأت المقال بعرض قضية فتاة باكستانية - بيرفين - إحدى ضحايا قتل الشرف، حيث اتهمها زوجها بالزنا، وعقابًا لها قام بتشويه وجهها - صورتها، وبعد نجاتها تدلي بشهادتها في المحكمة ضد الزوج، وتُعَقِّب الكاتبة بأن هناك الآلاف من السيدات الباكستانيات شُوِّهْن أو حرقن بواسطة أزواجهن أو آبائهن أو إخوانهن بدعوى جلب العار للأسرة عن طريق الخيانة أو طلب الطلاق أو الفرار مع العشيق أو رفض الزواج من شخص تختاره الأسرة، وهو ما يطلق عليه "قتل الشرف"، وقد أثيرت تلك القضية دوليًّا منذ أبريل الماضي حيث قتلت - رميًا بالرصاص- سيدة باكستانية في مكتب محامٍ لحقوق الإنسان، بسبب طلبها للطلاق من زوجها. وتشير الكاتبة إلى أن القادة الباكستانيين السابقين قد وعدوا باتخاذ إجراءات بصدد "قتل الشرف" لكنه لم يحدث، وشن الجنرال "مشرَّف" حملة قومية لحقوق الإنسان، أشار فيها بشكل خاص إلى "قتل الشرف"، ويعقب أحد الباكستانيين "أن هذا السلوك لا وجود له في ديننا أو قوانيننا؛ لذلك فإن قتل الشرف هو قتل يجب أن يعاقب مقترفه"، وتعقِّب الكاتبة بأن مثل هذه الجرائم قد تحدث في كل أنحاء العالم بسبب الغيرة، لكن الفرق يكمن في تعامل الحكومات معه، حيث يحدث في العديد من الدول الإسلامية دون صيحات احتجاج عالية.
وقد أشارت المقالة إلى حدوث 850 حالة قتل 1998م - 1999م في البنجاب وحده، بالإضافة إلى 560 حالة حرق في نفس الفترة بنفس الإقليم. وتشير المقالة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية على مقترف الزنا بموجب القوانين الباكستانية، لكن صعوبة إثبات الزنا تجعل من الصعب تطبيق ذلك، مما يشجع الرجال على إيذاء زوجاتهن لمجرد الشك دون عقاب. وتتحدث الكاتبة عن إقامة السيدات اللاتي يُتَّهمن بالزنا أو يطلبن الطلاق في ملاجئ حكومية خوفًا من انحرافهن في الخارج، وبالمناسبة فإن إمكانية الزواج للمرة الثانية منهن مستحيلة تمامًا. وفي الختام تقدم المقالة إحصائيات عن مجموعة من الدول التي تنتهك حقوق المرأة باسم "قتل الشرف"، بنجلاديش 1996 - 1998 :هجوم بالحامض على 200 سيدة، مصر: 52 جريمة عام 1997م - بعضها بواسطة الأم. الأردن: 30 قتل شرف عام 1998م - وهناك مطالبة بإلغاء مادة تعفي قاتل الشرف من العقاب. لبنان: 36 قتل شرف معظمها في القرى بين 1996 - 1998، باكستان: قتل المئات، 300 في السنة، 278 في البنجاب العام الماضي، السلطة الفلسطينية: في قطاع غزة 177 قتل شرف 96 - 1998 من بين 239 جريمة قتل!!
وعقب نشر تلك المقالة اندلع نقاش حاد في المجتمع المسلم في أكبر جامعات ولاية آلينوي بمدينة شامبين، حيث قامت إحدى الطالبات بإرسال المقال بالبريد الإلكتروني إلى المشتركين في قائمة البريد الإلكتروني "لمسجد وسط إلينوي" والمركز الإسلامي ، مع تعقيب مفاده يشير إلى ارتفاع جرائم العنف الأسري في أمريكا حتى بين المسلمين.
وفي تعقيبها ردت "د. فاليري هوفمان" -وتطلق على نفسها زينب،وهي أستاذ مساعد علم الأديان بجامعة "إلينوي"، ومسلمة منذ عام تقريبًا، وأقامت في مصر فترة أثناء إعدادها لرسالة الدكتوراه عن الصوفية في مصر- أشارت في ذلك التعقيب على عدة نقاط:
- أولاً: رغم الإقرار بوجود العنف في الولايات المتحدة فإنه يتخذ ضده إجراءات شديدة، كما أنه لا يقارن بالعنف الموجود في الدول الإسلامية.
- ثانيًا: أن الثقافة و"الدين" معًا قد خلقا جوًّا مشجعًا لوجود العنف ضد المرأة، فعلى سبيل المثال اقرار الآية 34 من سورة النساء لضرب الزوج لزوجته هو تأصيل لذلك العنف(!)، رغم وجود مراحل لذلك، ورغم وجود بعض الاجتهادات التي تضع ضوابط شديد على الضرب بالإضافة لذلك، فبعض الثقافات الإسلامية تعتبر أن ضرب الزوج لزوجته من خصائص الرجولة.
ثالثًا: أنها لم تجد آية في الإنجيل تسمح بضرب الرجل لزوجته أو حتى مطالبة قادة الدين المسيحي بذلك، فهو أمر لا يوجد في المسيحية. وأشارت إلى أنه من غير العدل أن تلصق مشكلات العالم الإسلامي بالمسيحية أو دور الولايات المتحدة.
وتأسيسًا على ما سبق ذكره اشتعل الجدل، واتجه ليأخذ شكل ثلاثة محاور أساسية بين الطلاب المسلمين:
أولاً: اتجاه يدافع عن استمرار الحوار والتواصل مع المعترضين على بعض آيات القرآن مثل الدكتورة - هوفمان - باعتباره ضرورة لشرح العقيدة الصحيحة.
ثانيًا: اتجاه يفرق بين الإسلام كدين يُقِرُّ للمرأة حقوقها، وبين المسلمين الذين لا يطبقون ذلك.
ثالثًا: اتجاه يشرح حقائق عن تدريجية الآيات حتى الوصول لمرحلة الضرب ضمن مراحل عدة لتسوية الخلافات الزوجية.(9/336)
والواقع أن النقاش اتسم بالعصبية وضعف التواصل بين أستاذة تتحاور أكاديميًّا وتقتصر على التفسيرات التقليدية ولسبب -غير معلوم- تتجاهل ثراء الفقه الواسع (رغم إشارتها إليه) وبين طلاب مسلمين غلبتهم الحَمِيَّة للدين دون علم يكفي لمطارحة الحجة بالحجة. ويعضِّد ذلك كله مقالًا يملك إحصائيات مشبوهة عن دول محددة: السلطة الفلسطينية مثلاً. وتأتي هذه المناقشة في إطار إشكاليات أساسية يعاني منها المسلمون في الولايات المتحدة، أبرزها: النقاش في قضايا دون علم كافٍ وأحيانًا دون ضرورة ملحة، على سبيل المثال تطرح قضايا حجية السنة، وقضايا المرأة وتعالج بشكل مكثف وسطحي،وفرض الإعلام الأمريكي لأولوياته في القضايا المتعلقة بالمسلمين عليهم، وهذا ما أشارت إليه إحدى الطالبات بقولها: إن العديد من القضايا في العالم الإسلامي لم يتم الالتفات إليها إلا بعد طرحها إعلاميًّا في الإعلام الغربي ،فهل سيظل الغرب في فرض أجندته على المسلمين؟ وتبقى المشكلة أن هناك العديد من القضايا مثل التعامل مع المرأة تحتاج إلى اجتهادات تكون عامل جذب لغير المسلمين بدلاً من كونها ـ أحيانًا ـ عامل طرد.
==============(9/337)
(9/338)
حقل جديد ...ومنظور متميز
القاهرة - هبة محروس
ازداد الاهتمام عالميًا في الآونة الأخيرة بحقل الدراسات النسوية، كحقل ينفتح على مختلف العلوم الإنسانية من خلال رؤية نسوية، وإسهامًا في هذا الحقل تأسست العديد من مراكز الدراسات والأبحاث النسوية. وتقدم "جمعية دراسات المرأة والحضارة" نموذجًا فريدًا في هذا الصدد، فلقد تأسست الجمعية على يد أ.د. منى أبو الفضل -أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وأستاذ كرسي د. زهيرة عابدين للدراسات النسوية بجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية، فيرجينيا - الولايات المتحدة الأمريكية.
وتسهم الجمعية من خلال وحدتيها؛ الوحدة الثقافية ووحدة طب المجتمع في حقل الدراسات النسوية على مستويين: الأول تنظيري حيث يتعامل مع قضايا المرأة من خلال "المنظور الحضاري الإسلامي" الذي يضع المرأة في موقعها داخل الأمة الإسلامية المستخلفة، والثاني تطبيقي يتعلق بالتوعية الصحية والنفسية للمرأة والأسرة.
وحاولت حواء وآدم التعرّف على أبرز إسهامات الجمعية من خلال التحاور مع د. أماني صالح - سكرتير "جمعية دراسات المرأة والحضارة بالقاهرة"…
جمعية دراسات المرأة والحضارة ..ما أهم الأنشطة التي تقوم بها؟
* …جمعية دراسات المرأة والحضارة هي جمعية أهلية تطوعية؛ أُشهرت في مارس من عام 1999 بموجب القانون المصري الساري للجمعيات الأهلية، الجمعية هي مؤسسة أهلية مفتوحة لا تتوخى سوى الأعضاء المؤمنين بأهدافها، والذين يملكون من القدرة والمؤهلات ما يمكنهم من المشاركة بفاعلية في أنشطتها. والجمعية حسب أهداف نشأتها ليست جمعية للخدمات؛ وإنما تعنى بجانب يعاني نقصاً ملموساً في مجتمعنا؛ ألا وهو جانب البحث وإعمال الفكر إسهاماً في مواجهة المشكلات والإشكاليات الكبرى التي تواجهها الأمة -ومن بينها قضية المرأة- من خلال نشاط تطوعي لمجموعة من السيدات والفتيات المعنيات بهموم المجتمع من جانب، وبالبحث العلمي والأكاديمي من جانب آخر. وهى تمارس نشاطها هذا من خلال إجراء ونشر الدراسات والبحوث والندوات والأنشطة التدريبية. وقد انتظمت أنشطة الجمعية في فرعين؛ الأول هو: اللجنة الثقافية. والآخر هو: لجنة طب المجتمع. تُعنى اللجنة الثقافية بالأبعاد الفكرية والتاريخية لقضية المرأة على المدى البعيد والمجرد. أما وحدة طبّ المجتمع فهي تركِّز على الواقع الحالي والمشكلات الاجتماعية الآنية الراهنة والملحة التي تواجهها المرأة والأسرة؛ سواء في أبعادها الاجتماعية أو النفسية أو الصحية.
…تطرح الجمعية رؤية متميزة لدور المرأة في المجتمع المسلم. ما أبعاد هذه الرؤية؟ وما وسائل تفعيل هذا الدور؟
* …ترى الجمعية أن المرأة ركن أساسي من أركان المجتمع المسلم في مجاليه العام والخاص في حاضره ومستقبله. فالمرأة هي أداة رئيسية لإعادة إنتاج القيم والمبادئ الأساسية للمجتمع المسلم؛ سواء من خلال دورها كأم أو من خلال أدوارها العامة كدورها البارز في العملية التعليمية. والمرأة بحكم قيامها على عملية التنشئة الاجتماعية الأولى ودورها الكبير في البناء الأسرى والاجتماعي هي مدخل عظيم الأهمية للتغيير والإصلاح لا يزال مهدراً حتى اليوم، وطاقة عقلية وعملية هائلة وكامنة يمكن أن تسهم بدور عظيم في عملية البناء المادي والحضاري للمجتمعات المسلمة التي تواجه كلها دون استثناء في هذه اللحظة التاريخية مأزق التخلف المادي والحضاري.
إن تفعيل هذا الدور يتطلب عملية تطوير وإصلاح معقدة، ولهذا الإصلاح شقان: مادي ومعنوي أو فكري. فالمادي مرتبط بتوسيع قاعدة الإنتاج وتنمية الموارد البشرية، بحيث تتسع للمرأة كمكون أصيل وليس طارئاً أو متطفلاً. والبعد المعنوي -وهو لا يقل أهمية- يتطلب إزالة كل ما لحق بالمرأة من غبن تاريخي واجتماعي أُلصق ظلما بالدين، وتنقية ثقافة المجتمع من كل ما ألحق بهذا الجنس البشرى الذي كرّمه الله من الدونية والهوان.
…ما رأيك في المشكلات التي تواجه المرأة المسلمة في المجتمع المعاصر؟(9/339)
* …المرأة تواجه كل ما يواجهه مجتمعها من مشكلات اقتصادية واجتماعية وبيئية، بل هي تدفع ثمناً أكبر بحكم اهتماماتها العاطفية البالغة بأحوال أسرتها، فهي تسعى من خلال دورها في الأسرة إلى مواجهة مشكلات هيكلية لا قبل لها بها. يضاف لذلك نوعية أخرى من المشكلات الخاصة بالمرأة مثل مشكلات الأحوال الشخصية الناتجة عن إساءة تفسير أو تطبيق الشرع والانحياز فيه، وهناك الأشكال المختلفة من التمييز أو الأحكام بالدونية التي تلقاها المرأة والتي تتفاقم لدى الفئات والشرائح الاجتماعية الفقيرة والتي تصيب كرامتها الإنسانية في الصميم كبعض الأعراف والعادات الاجتماعية في الزواج وخلافه. وفي هذا الصدد فإن المساواة ليست الحل السحري لكل مشكلات المرأة المعقدة لكنها جزء ضروري وأساسي في الحل. ولا تعني بالضرورة الأجندة الغربية للمساواة، فالمساواة هي مبدأ من المبادئ الإسلامية الأساسية ، فقد ألزم الخالق-عز و جل- نفسه بألا يضيع عمل عامل منا من ذكر أو أنثى بعضنا أولياء بعض. وتظل المساواة في مبدأ التكليف والمسئولية والحساب ومبدأ الولاية (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) هي الأسس العامة التي ينبغي أن يُبنى عليها.
…تُعنى الجمعية بصورة أساسية بدراسات المرأة والحضارة، فماذا عن تصورها العام للتفاعل بين المرأة والرجل في إطار هذه الحضارة؟
* …هو تفاعل يستبطن فكرة الاستخلاف بكل ما تمنحه للإنسان بنوعَيْه من كرامة وما تلقيه على كاهله من مسئولية. تفاعل يقوم على الشراكة ويشترك في العوائد بجانبيها المعنوي والمادي على السواء. وهو يقوم في توزيع تلك الأعباء والعوائد ليس على أساس "الطبيعة" بكل ما يحويه هذا المفهوم من التباسات، وإنما سنن الخالق تعالى بمعناها الشامل بدءًا من مبادئه العليا كالحق والعدل وتكريم الإنسان، ومرورًا بما استنبطه الفقهاء من مقاصد للشارع، ومصالح ضرورية للشرع، ثم بالأحكام الشرعية وانتهاء بسنن الخالق الكونية التي أشار إليها في كتابه حين دعانا إلي النظر والتدبر في آياته في الآفاق وفى أنفسنا.
…ما تقييمكم لأنشطة المنظمات الدولية المعنية بالمرأة على مستوى تدعيم مشاركة المرأة الفعالة في المجتمع؟
* …أرى أن لهذه الأنشطة جانبين، أولهما إيجابي والآخر سلبي. أما الإيجابي فيتمثل في الأنشطة المقدمة في إطار المشترك الإنساني العام مثل دعم المساواة في الفرص المتاحة أمام المرأة في مجالات التعليم والعمل والصحة والمشاركة السياسية والاقتصادية. أما الجانب السلبي فيكمن في جنوح تلك المنظمات في فرض أجندات متكاملة في قضايا المرأة تشكلت عبر التأثير المتزايد للرؤى والقوى النسوية الغربية، والتي تعتمد على الأخذ بمبدأ المساواة الكمية المطلقة، وعلى تفكيك المجتمع والأسرة. وأرى أن مقاومة هذه الاتجاهات لا يكون برفض مشاركة المنظمات الدولية في دعم حركة المرأة، وإنما من خلال السعي إلى التأثير على توجهات تلك المنظمات والمطالبة بفرصة متساوية في تشكيل توجهاتها على قدم المساواة مع الاتجاهات النسوية الغربية ، وكشف الانحيازات المتضمنة في تلك الحزم من الحلول.
…هل تسعى الجمعية لتدعيم الروابط التعاون مع الجمعيات النسائية الأخرى المحلية والدولية؟
* …الجمعية لا ترفض ذلك من حيث المبدأ ولكنها لا تسعى إليه في الوقت الراهن حتى تستكمل بلورة قواعدها الفكرية والمادية بما يؤهلها للتعاون من منطلق القوة وعلى قدم المساواة وفيما يتفق مع أهداف الجمعية ومبادئها، ويتفق مع القوانين التي تعمل في إطارها.
…ما هي مصادر تمويل الجمعية؟ وما كيفية تفعيل هذه المصادر؟
* …جمعية دراسات المرأة والحضارة هي جمعية أهلية يمارس أعضاؤها نشاطهم بشكل طوعي، إلا أن الجمعية كمثيلاتها من المؤسسات الأهلية الطوعية تحتاج إلي مصادر تمويل تغطى ما تقوم به من ندوات وإصدارات وأبحاث، وترتكز مصادر تمويل أنشطة الجمعية حتى الآن على تبرعات الأعضاء. ويسعى أعضاء الجمعية لفتح مجالات أخرى لتمويل نشاطهم في إطار ما يسمح به القانون. وفى هذا الإطار وفى ضوء "الرؤية الحضارية" التي تتبناها الجمعية ينشط أعضاؤها لتفعيل بعض مصادر التمويل الأهلي الأصيلة في حضارتنا والتي طالما أسهمت في دعم النشاط الأهلي واستقلاله: وعلى رأسها إنشاء الأوقاف لصالح الجمعيات والأنشطة الأهلية. وفى هذا السبيل قامت عضوات الجمعية بعمل دراسة حول دور الأوقاف (خاصة أوقاف النساء) في العملية التنموية. وتسعى الجمعية إلى مواصلة نشاطها الداعي إلى إحياء الوقف الخيري بالتعاون مع المهتمين بذلك، حيث إن إنشاء الأوقاف لصالح الجمعيات الأهلية هو البديل الفاعل والإيجابي لمشكلة التمويل الأجنبي التي انزلقت إليها بعض الأنشطة الأهلية
===============(9/340)
(9/341)
المرأة في ظل الصحوة الإسلامية فاعلة ونشطة
الشائع في تحليل أدوار النساء في الصحوة الإسلامية المعاصرة الاستناد إلى نموذج ثابت تظهر فيه المرأة كضحية لقهر" ذكوري" وتحيز وقمع ضدها، ويحاول هذا الكتاب الجديد الذي يحوي مقالات و دراسات شتى صدر حديثاً في أكسفورد بانجلترا عن منشورات بيرج لكارين آسك وماريت تيجومسلاند (محررتين) تحت عنوان: "المرأة والأسلمة: أبعاد معاصرة في العلاقات بين الرجال والنساء" أن يفتح آفاق لتفسيرات حول المشاركة النساء الحالية في التحول للأسلمة والحركات الاجتماعية الإسلامية، بحيث تتجاوز التصنيفات الاستشراقية السائدة عن التحول لضحية للدين ورجاله وتزييف وعيها بحقوقها ،فيبحث الكتاب خلال فصوله المختلفة من خلال بحوث ميدانية محاولاً تحليل و فهم الظواهر التي تقدَّم في الخطاب الغربي -العام والأكاديمي- بشكل مشوه تحت شعار الأصولية الدينية، وتسعى المساهمات المختلفة من خلال بحث عدد متنوع من الممارسات الدينية و الاجتماعية الإيجابية في عدد البلدان الإسلامية إلى وصف و فهم الدين كممارسة تحدث في الحياة اليومية، ولهذا تظهر بفعالية في خبرة المرأة المؤمنة، ولا توجد به أوصاف نمطية للحركات الإسلامية مثل نعتها بالتخلف أو السلطوية أو غياب العقلانية، بل المصطلحات المستخدمة في الكتاب عادة هي الإسلامية والممارسات الإسلامية، وهنا محاولة جادة لتحليل السبل التي تطور بها النساء المسلمات أصواتاً مسموعة ومشاركة ملموسة في عملية الأسلمة.
ترتكز الفصول المختلفة على بحوث ميدانية و مشاركة بين النساء في المجتمعات المسلمة من السنغال في الغرب إلى إيران في الشرق، وتسعى المؤلفات إلى تحديد العلاقة المعقدة بين الإسلام و علاقات الرجال و النساء من خلال تحليل يبرز مكانة المرأة في الاجتهاد والفتوى الدينية في حياة النساء و اكتشاف بعض الروابط بين الممارسات الدينية للنساء وبين الخطاب الديني السائد،وتغطّي الحالات المدروسة في هذا الكتاب نطاقاً واسعاً من انخراط النساء في الحياة الإسلامية المعاصرة، فقد طرحت النساء أسئلة من خلال منظور جديد؛ فعلى سبيل المثال الخمار الشرعي الذي عادة ما يقدم كرمز للقهر لأنوثة المرأة و جسدها يتحول إلى تجسيد للقوة، فركزت النساء الإسلاميات على كيفية استخدامهن العمليّ للحجاب للحصول على مساحة للحركة وتوسيع مساحة مشاركتهن العامة وتعظيم تعبئتهن المستقلة في العمل الاجتماعي خارج الحدود المحلية؛ وهي إستراتيجية تكتسب شرعيتها من الخطاب الشرعي الديني.
في الفصل الأول تناقش "آنا صوفي روالد" انخراط النساء في تشكيل ما على مستوى فكري معقد "علم العقيدة النسوي الإسلامي" ، ورصدت الكاتبة المحاولات المختلفة لإعادة تفسير المصادر الإسلامية التي قامت بها نساء مميِّزة بين المسلمات ذوات المرجعية العلمانية، وبين ظهور أصوات إسلامية نساء و رجال تؤكد على الحرية الكامنة في الإسلام تجاه المرأة.
ولقد اهتمت الكاتبة بكتابات عائشة عبد الرحمن /بنت الشاطئ(من مصر) وأمينة ودود محسن(من أمريكا) وأخريات، محددةً محاور للمقارنة بين هذه المساهمات النسائية في تفسير القرآن ومشيرة للقارىء الغربي للتقاليد المسيحية الموازية في التفاسير النسوية للإنجيل.
في الفصل الثاني درست ثريا دوفال الدور النشط للنساء كزعيمات للجمعيات الدينية، حيث ظهرت إلى الوجود كتعبير محلي عن الأسلمة، ومُثلت مشاركة النساء في حركات دينية يسودها الرجال في الغالب. ولقد تناولت الباحثة في بحثها النساء الإسلاميات في مصر إلى أربع مجموعات مختلفة (السلفية- التبليغ- الإخوان المسلمون- الزهراء) مشيرة لاكتساب النساء مكانة على الساحة العامة لأنفسهن من خلال هذه الجماعات.
في الفصل الثالث كان المحور هو ثلاثة دوافع فردية للنساء تجاه تغيير نمط حياتهن وفقًا لتفسير جديد للإسلام، استعرضت ويلهيلمين جونسون تحت عنوان "هويات متضاربة: النساء والدين في الجزائر والأردن" محاولات النساء في هذين المجتمعين لصياغة مفاهيم جديدة لحقوق المرأة تأسيساً على هويتهن كمسلمات، وناقشت الباحثة في الشق النظري والشق التطبيقي -مستخدمة تحليل لمعلومات جمعت في بحث أنثربولوجي- كيفية التعارض المتواصل بين الهويات المتعددة للأفراد، وأن ذلك لا بد أن يؤخذ في الحسبان لدى نظرية تكوين الهوية.
و كذلك استخدمت مارجو بيتلر في الفصل الرابع مثال الحمامات العامة في المجتمع المغربي لمناقشة ظاهرة عدم اختلاط الجنسين مكانياً التي تسود في ثقافات دول شمال أفريقيا، واستعرضت الكاتبة في جزء كبير من مقالتها الملامح الرئيسية لتنظيم الأماكن العامة وعلاقتها بالمفاهيم المختلفة للخصوصية، فقد أظهرت الباحثة التناقض داخل الحمامات أكثر- الأماكن العامة خصوصية للنساء، وبحثت تأثير العلاقات الاجتماعية للنساء بعملية التحديث.(9/342)
في الفصل الخامس أظهرت كاترينا رودفير أنه إزاء تزايد الإسلاميين هناك مسلمون عاديون يتعارضون بقوة ظهور الإسلام في المجتمع، خاصة في الحقل السياسي ،وتركز على نموذج تركيا ،فعلى الرغم من المنع الجزئي لتنظيم العبادة العامة ، وتقييد الحركات الصوفية بشكل خاص، فرغم هذه الظروف المؤسسية غير المشجعة فإن هذا المجتمع يعبر عن فترة من الصحوة حتى داخل التيارات الغير سياسية،ويستند هذا الفصل إلى بحث استطلاعي بين نساء ضواحي إستنبول، مع التركيز على الإستراتيجيات المستخدمة من النساء المرتبطات بالجماعات الصوفية إزاء النهضة الإسلامية في المجتمع التركي المعاصر، وتستكشف الدراسة الآثار المتعددة للإستراتيجيات الدينية من قبل النساء وعديد من المنظمات التي تقدم أطراً مختلفة من الممارسات والشعائر والأزياء..إلخ.
في الفصل التالي ناقشت إيفا إيفانز كيفية أن مساهمة وتأسيس النساء لجمعيات تقليدية ذات أصول صوفية ما زالت مستمرة في ظل الممارسة الشائعة من العبادة، واستندت إلى دراسة النساء في الطريقة المريدية في السنغال. ولقد حللت الباحثة بعناية الممارسات الدينية النسوية في السنغال ، وهذه الممارسات لا تُرى فقط باعتبارها مرتبطة بالمفاهيم والأفكار الدينية السائدة، ولكن أيضا باعتبارها مفسرة لكيفية امتلاك النساء القدرة على مخالفة النظام القيمي بدون تحديه أو حتى الجهر بمحاولة تغييره.
ويستعرض الفصل الأخير كيفية تشجيع النظام الديني في إيران لمشاركة النساء في الجمعيات الدينية ذات الأصول التقليدية العامة، ويوفر لهن تعليماً دينياً رسمياً(في الحوزات) مؤهلاً لتوليهن مناصب قيادية دينية في هذه الجمعيات. فلقد درست زهرة كمالخاني النشاط الديني للنساء في إطار يجمع بين الإسلام التقليدي والتحديث في إيران، وافترضت الباحثة أن الأسلمة المعاصرة تقدم نموذجاً خاصاً من التفاعل مع الحداثة. واستعرضت بعض نتائج هذه العملية على تعبئة النساء سياسيًا واجتماعيًا في إيران حالياً.
لقد عرضت الفصول المختلفة كيف أن الحدود بين التراث والمعاصرة في حياة النساء المسلمات النشطات ترسم الآن بطرق جديدة و مركبة؛ مما يعضد دوراً نسوياً متزايداً، والعديد من الممارسات الإسلامية تبرز بشكل معاصر وتؤكد على مكانة و تفعيل المرأة والاستقلالية من خلال طرق تتحدى الأوضاع التقليدية السائدة و تستند للإسلام في أصوله.
ويبدو واضحًا في مختلف الدراسات كيف أن نتائج انخراط النساء في العمل الاجتماعي تعتبر جزءاً من تعديلهن الفعال لأنماط حياتهن لتلائم احتياجاتهن وتوقعاتهن في الحياة. ولقد أظهرت كل الدراسات اتجاهات متزايدة لدى النساء تجاه المشاركة في الحياة الدينية والثقافية والاجتماعية خارج نطاق الحياة الخاصة، وفي مجالات كانت غير متاحة لهن إما عن طريق الوجود المادي الملموس مثل المساجد والهيئات الاجتماعية، أو المجال الفكري مثل تعلم العلوم الشرعية و تدريسها، وأظهرت الفصول المختلفة انخراط النساء المسلمات بصورة فعالة في مجالات المشاركة العامة، وبطرق لم تكن متاحة لهن من قبل، وتحت ظروف يخترنها بأنفسهن بحرية و إرادة، ولقد وصفت العديد من الفصول مدى فعالية النساء في المعاملات؛ حيث يحصلن على قروض ويسعين لتحقيق منافع من أنشطة شرعية.
ويتراوح تأثير النساء الإسلاميات بين المستوى الفكري و السياسي المتميز كما في حالة مصر وإيران وحتى أصوات النساء في الأوساط العامة كما في حالة تركيا والسنغال.
وقد وصفت حالات الدراسة المقدمة في هذا الكتاب كيفية تطوير النساء لأوضاع تدفع نحو تغيير الأنماط التقليدية السائدة في مختلف المجالات باسم رؤية تجديدية إسلامية، وذلك باستثمار أنشطتهن الدينية. ويعد هذا الكتاب إسهاماً متميزاً لفهم ثقافة النساء المسلمات، فقد ركز على دراسة أقل الجماعات الاجتماعية تحليلاً وقابلية للدراسة والتعميم ووضع الصورة الذهنية المسبقة محل نقد ، وقد أضيفت أبعاد أخرى لدور النساء داخل إطار أوسع من عملية الأسلمة، وأظهر تنوعاً ضخماً وثراءً في الثقافة والطبقة والعرق بين المجتمعات الإسلامية، بالإضافة للتنويه لوجود اختلاف بين المجتمعات العربية و سائر الدول الإسلامية في تاريخ الاستعمار والتصنيع والتحضر والتحديث والعلمنة، وبالتالي رؤية المرأة ودورها وفهم وتفسير النص الديني بشأن قضاياها.
============(9/343)
(9/344)
ثالوث العولمة القاهر: العسكرة والاقتصاد والثقافة
تعرض د. منير شفيق في هذه الورقة لمفهوم العولمة المركب فقد تاهت حقيقة العولمة بين اختلاف المثقفين والخبراء في توصيفها. البعض يرى أن العولمة نتيجة سعي رأس المال نحو تعظيم قيمة هامش ربحه عبر إلغاء الحدود المقيدة لحركته داخل وخارج الدول القومية.
البعض الآخر يرى أنها نتيجة التطور الهائل الذي لف صناعة أجهزة الاتصال، وبخاصة أجهزة الاتصال الجماهيري، فيما سمي بثورة الاتصال، وهو ما أتاح لصاحب السطوة في هذا المجال أن يفرض قيمه ورموزه وأنماط حياته على الآخرين، سواء في ذلك مَن وافقه في الانتماء الحضاري أو من خالفه.
البعض الثالث يرى العولمة نوعاً من أنواع البرامج الحياتية المرتبطة بالهيمنة السياسية التي يسعى الغرب، ومن ضمنه الولايات المتحدة، بصورة قد تكون مستقلة بعض الشيء، إلى فرضها.
كيف يتعامل الأستاذ منير شفيق مع هذه التنويعة من الأفكار؟ وكيف يركب منها تصوره عن جوهر العولمة؟ هذا ما يجيبنا عليه المقال التالي.
الاقتصاد: المحرك الرئيسي للعولمة
الدولار يقهر العملات كما تقهر أمريكا الدول
العولمة ليست العالمية؛ ولهذا يخطئ من يعتبرها العالمية بالرغم من أنها ذات سمة عالمية. فليس كل من يحمل سمة عالمية يحمل المحتوى نفسه أو الشكل نفسه؛ فالعالمية الرأسمالية وهي سمة صاحبت الرأسمالية دائمًا غير العالمية الاشتراكية وغير العالمية الإسلامية وغير العالمية التي مثلتها حركة عدم الانحياز. والعولمة تختلف عن هذه جميعًا، كما أن كل عالمية مختلفة نوعيًا عن العالمية الأخرى.
فالخلط بين العولمة والعالميات آنفة الذكر يفتقر إلى الدقة العلمية. كما قد يحمل تمويهًا لحقيقة العولمة وتدليسًا من أجل تمريرها بدلاً من الغوص في دراسة سماتها، باعتبارها ظاهرة جديدة لا تزال تتشكل الآن على مستوى العالم بقدر ما أنها على درجة من القوة بحيث تسهم نفسها في تشكيل العالم والتأثير فيه.
العولمة هي نظام رأسمالي عالمي، ولكنها ذات سمات تختلف عن الأنظمة الرأسمالية العالمية السابقة، سواء أكانت تلك التي عُرفت مع بداية ما يُسمّى بعصر النهضة أو التنوير، أو تلك التي عرفها القرن التاسع عشر، أو تلك التي عرفها العالم ما بين الحربين العالميتين أو تلك التي سادت إبان ما سُمي مرحلة الحرب الباردة.
فالتشديد على الأصول والسمات الرأسمالية للعولمة - بالرغم من أهميته وضرورته وصحته- فإنه يجب ألا يطغى على البحث في خصوصية هذه العولمة الرأسمالية المالية التي تحاول الآن فرض سيطرتها على العالم.
يمكن أن يقال الكثير في إبراز السمة الإمبريالية (التوسعية ذات النزعة الاستغلالية) للعولمة، ويجب أن ُيقال هذا الكثير ولكن دون أن يقود إلى اعتبار أننا أمام الحالة الإمبريالية التي عرفتها الحرب الباردة، أو مرحلة الاستعمار المباشر والاستعمار الجديد، أو مرحلة الرأسمالية التجارية النهائية التي عجَّ بها القرن التاسع عشر.
ويكفي أن نلحظ أن الاستغلال الرأسمالي للطبقة العاملة في بلدان المتروبول (عواصم الدول الاستعمارية الرأسمالية)، والذي تحدث عنه ماركس في مؤلفه الشهير "رأس المال" -وعلى التحديد إشكالية التراكم الرأسمالي- لم يعد هو الذي يسود عالم التراكم الرأسمالي في عهد العولمة.. كما أن مرحلة الرأسمالية الاحتكارية -وهي مرحلة الترستات والكارتيلات وتصدير رؤوس الأموال واقتسام العالم وإعادة اقتسامه- اعتبرها لينين أعلى مراحل الرأسمالية وسماها مرحلة الإمبريالية؛ وهو ما أحدث قفزة في التراكم الرأسمالي، وفي السيطرة على العالم وتقسيمه إلى مناطق نفوذ فيما بين الدول الرأسمالية، وهي مرحلة تجاوزت رأسمالية فائض القيمة الناجمة عن العمل في المصنع، علمًا بأن التراكم الرأسمالي الآتي من النهب الخارجي صاحَب الرأسمالية في كل عهودها، بل كان سابقًا لها وسببًا في نشوئها.. والأمر كذلك في المرحلة المتأخرة، والتي أسهمت في ولادة رأسمالية العولمة، وعلى التحديد مرحلة الشركات متعدية الجنسية، خصوصًا مع وبعد مرحلة سيادة رأسمالية البورصة أو قل رأسمالية المضاربة المالية في البورصة.
ويكفي أن نلحظ التجارة العالمية الآن، والتي تحمل الإنتاج البضاعي الفعلي؛ حيث تشكل نسبة ضئيلة مقارنة بحركة انتقال رؤوس الأموال اليوم. فما يجري يوميًا في عالم رأس المال الورقي في المضاربات على العملة وفي الأسهم وما شابه يزيد على ثلاثين ضعف ما يتم في نطاق حركة البضائع. وهي نسبة تتزايد هوتها باستمرار بين التجارة الفعلية والتجارة الورقية.
ومن يقرأ ميثاق منظمة التجارة العالمية يمكنه أن يحدد مجموعة من السمات التي تتصف بها العولمة، ولو نظريًا، فيما يتعلق بالتجارة العالمية وانتقال رؤوس الأموال.(9/345)
فمثلاً نجد هنا أحكامًا لتكريس ما يُسمّى بالسوق العالمية التي تُزال منها الحدود الجمركية فيما بين الأسواق والدول، وتترك حرية التجارة على غاربها، وتطلق حركة رؤوس الأموال والاستثمارات لتعبر كل الحدود وتخرج منها بلا قيود، بل وتمتع رأس المال الأجنبي بكل الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها رأس المال الوطني.
وتجد أيضًا رفضًا لكل أنواع الحمايات التي تقدمها الدول لسلع معينة أو إنتاج معين، ورفض لأي دعم يقدم للصناعة والزراعة المحلية، أي إطلاق منافسة حرة تقوم على أساس قوة رأس المال الخاص، ونوعية المنتجات، والمقدرة على التسويق، الأمر الذي يعني أن كل تدخل من قبل الدولة في مصلحة رأسمالها الوطني الخاص أو صناعتها أو موادها الخام عمل مرفوض وغير شرعي.
هذا وتقضي أحكام معاهدة منظمة التجارة العالمية ومعاهدة الملكية الفكرية ومعاهدة الملكية الصناعية ـ أن تكون نصوصها مهيمنة على كل قانون محلي، فعندما تنضم إلى معاهدة منظمة التجارة العالمية تصبح ملزمًا بإخضاع قوانينك المحلية، وبلا مناقشة لأحكام المعاهدات المذكورة، وهذا يعني تدخلا سافرًا في الشؤون الداخلية، وإضعافًا لدور الدولة وانتهاكًا لسيادتها، كما يعني ضربة قاصمة لركن أساسي من أركان الديمقراطية التي قامت عليها الرأسمالية الغربية، فعندما لا يكون بمقدور البرلمانات سن القوانين المتعلقة بالتجارة والجمارك وانتقال رؤوس الأموال، أو مناقشة تلك المعاهدات وتقديم الاعتراضات وإحداث التغييرات، ولا يبقى لها غير الموافقة على المعاهدات المذكورة بالكامل أو رفضها بالكامل، فماذا يتبقى من السيادة؟.
ثم إذا كان الرفض يعني التهميش والحصار والتعرض لكل ألوان الضغوط التي سيمارسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، ناهيك عن الضغط الأمريكي المباشر فسيبقى الخيار الوحيد أمام البرلمان هو إقرار تلك المعاهدات بلا إدخال أي تعديل، ومن ثم حتى بلا قراءة للنص الذي يوافقون عليه، فماذا يبقي للديمقراطية؟ وإذا كان هذا الأمر مستباحا اقتصاديًا، فما معنى أن يطبق الأمر نفسه على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالعائلة والمرأة والطفولة والبيئة والقيم… إلخ.
على أن تطبيق هذه الأحكام التي تبدو من حيث الظاهر حيادية، بمعنى أنها تنطبق على الجميع إلا أنها في الواقع العملي تطبق بمنهج ازدواجية المعايير المحكومة بموازين القوى، فالولايات المتحدة مثلاً تستطيع أن تخرق مبدأ فتح الأسواق أمام التجارة الحرة تحت مختلف الذرائع التي تختارها، سواء أكان ذلك من خلال المقاطعة أو سن القوانين مثل القانون الذي يحرم "إغراق السوق بسلع رخيصة"، أو مثل قانون منع الاحتكار، ولكن الدول الأخرى لا تستطيع سن قوانين مماثلة أو موازية؛ لأنها ستتعرض للضغوط فورًا.
هذا جانب من جوانب الإشكاليات في التطبيق، أما الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية فهو عدم التكافؤ الهائل الذي ستبدأ منه المنافسة عندما يصبح العالم سوقًا حرة واحدة. فالعولمة بهذا المعنى جاءت لتفرض قوانين مثل رفع الحمايات بعد أن وصل الإنتاج الأمريكي بالخصوص، وكذلك التكنولوجيا إلى مستوى لم تعد الولايات المتحدة معه بحاجة إلى حماية من أجل نموها وتطورها، بينما لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد ثلاثمائة عام من الحماية المشددة، فالولايات المتحدة من أشهر النماذج التي بنت تطورها وصناعتها على الأنظمة حماية صارمة كأنظمة الدعم من قبل الدولة للزراعة والإنتاج الحيواني، والتي ليس لها من مثيل، وهي ما زالت تمارس ذلك كلما، وحينما، وجدته ضروريًا، وتحت شتى المسميات، فنحن هنا أمام "بلطجة" على المكشوف.
في كلمة، البداية في إطلاق المنافسة الحرة غير المتكافئة من حيث القدرات المالية والإنتاجية والتكنولوجية والعلمية، وغير متكافئة حين يسلب القوي الضعيف من كل إمكانات المقاومة، وحين يحرمه من الحد الأدنى من الحماية أو الدعم لصناعته وزراعته.
وثمة جانب لا يقل أهمية وهو إمكانات التوزيع والتسويق والاحتكار، فقد يكون لديك إمكان أن تغزو الدول المتقدمة بالبرتقال أو بالطماطم، ولكن ليس لديك إمكانات التوزيع في بلدانها خصوصًا إذا تدخل القرار السياسي في إغلاق الأبواب في وجهك، وهو قرار موجود دائمًا، فنظريًا يمكن أن تدخل إلى السوق المعنية بسلعتك الأفضل والأرخص، ولكن عمليًا لا يمكن أن تجد الموزع عندما تكون هنالك تدخلات من هذا النوع أو ذاك.
ولنقف قليلا لنقرأ في معاهدة باريس أو معاهدة تريبس، والمعاهدة التي نجمت عنها المنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية حول حقوق الملكية "الفكرية"، خصوصًا فيما يتعلق بالملكية الصناعية وملكية الاختراع أو التكنولوجيا.(9/346)
من خلال الفحص الدقيق لهذه المعاهدة سنجد أن هذه الحقوق ستخلق قيودًا هائلة أمام الوصول إلى التكنولوجيا والعلوم والاكتشافات بالنسبة إلى بلدان العالم الثالث، فما دام كل اختراع وكل تصميم ينجم عن ذلك الاختراع من أجل إنزاله إلى الصناعة أو إلى ميدان المعلوماتية سيسجل حكرًا لصاحبه، وسيصاحبه في الأغلب هنا شركات متعدية الحدود والجنسية، فأنت لا تستطيع أن تفيد منه إلا من خلال المرور بصاحب ملكية الانتفاع به، وهذا يقوم بدوره بفرض شروطه.
وأحسب أن الجميع لحظ ما حدث مثلا في مجال صناعة الأدوية من فضائح في هذا المجال، وآخرها احتكار إنتاج الأدوية المضادة للإيدز، وهو ما راح يتسبب بموت مئات الآلاف من الأطفال على الخصوص، وهذا ما أثار الاحتجاج من قبل الجامعات ومراكز البحوث ومؤسسات الخدمات، وقد وصل الأمر إلى أن تمتلك برامج المعلومات المتعلقة بالطقس كملكية فكرية، وهي البرامج التي قد تعرض الملاحة أو مناطق بأسرها إلى أخطار التقلبات الجوية، وهو ما أطلق صراعًا عنيفًا حول الحق بملكيتها لمن لم يفعل أكثر من تجميعها وتصنيفها. وقد تم التساهل جزئيًا في حالة انتقال المعلومات لأغراض الدراسة في الجامعات أو البحث العلمي فقط.
والخلاصة أننا هنا أمام احتكار خطير للتكنولوجيا وإنتاجها واستخدامها سيجعل الوصول إليها أصعب من ذي قبل عكس ما يروج له بعض الواهمين حول سهولة الوصول إلى المعلومات، أو ما يُسمّى بالثورة المعلوماتية، وهم لا يتحدثون إلا عما لا يصل إلى التكنولوجيا وإمكان الاقتناع بها، بمعنى إمكان التطور التكنولوجي والصناعي، وليس بمعنى ما يقدم من معلومات عامة أو استهلاكية.
لو بحثنا في الدوافع الفعلية، وفي النتائج الفعلية، لهذه السمات في المجال الاقتصادي للعولمة سنقول بأننا أمام مرحلة جديدة للسيطرة الإمبريالية على مقدرات العالم مما يزيد غنى البلدان الغنية ويزيد فقر البلدان الفقيرة. وعلى صعيد آخر، هناك ثروة تشكلت في البلدان متوسطة النمو وضعيفة النمو خلال الخمسين السنة الماضية يمكن للشركات متعدية الجنسية أن تأخذ ثمارها خلال العشرين السنة القادمة، وهي خبرة العقول، أي أننا أمام موجة جديدة من نهب الثروات العالمية في مصلحة قبضة صغيرة من الشركات والدول، وعلى التحديد في مصلحة الدول الأمريكية والشركات الأمريكية متعدية الجنسية أساسًا.
ولكن الأمر هنا لا يقتصر على بلدان العالم الثالث أو تلك التي يمكن اعتبارها بين العالم الثالث والثاني، مثل البرازيل أو النمور الآسيوية وروسيا والصين والهند، وإنما تتجه المرحلة الجديدة من الرأسمالية من خلال الشركات متعدية الجنسية ومتعدية الحدود، تحت القيادة الأمريكية إلى انتهاب ما تشكل من دسم أو شحم داخل المجتمعات الرأسمالية نفسها، فدولة الرفاهية في الغرب واليابان والتي حققت لمجتمعاتها وللطبقات العاملة والفقيرة مكاسب جمة خلال مرحلة الحرب الباردة أصبحت الآن معرضة للهجوم نفسه من قبل الشركات متعدية الجنسية في بلدها وعلى مستوى الدول الغنية ككل.
فضغوط العولمة الآن تتجه إلى الانقضاض على الضمانات الصحية والاجتماعية والتعليمية، وتلك المتعلقة بالبطالة التي كانت توفرها دولة الرفاهية في الغرب لشعوبها مما سيزيد من الأرباح الهائلة للشركات متعدية الجنسية. فأسلوب المطالبة والضغط للإعفاء من الضريبة التصاعدية على الاستثمارات تحت التهديد بالهجرة، حيث لا ضرائب على الاستثمارات والمضاربات المالية سيزيد من إفقار دولة الرفاهية ودفعها إلى تعويض ذلك بأشكال أخرى من الضرائب، أو سيقود إلى إلغاء أو إنقاص الالتزامات المتعلقة بالصحة والتعليم والتقاعد والعجز والبطالة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فقد برز اتجاه التخفيض من تكاليف الإنتاج والخدمات كمدخل أساسي الآن لزيادة الأرباح، وهو ما يعني ارتفاع منسوب البطالة حتى على مستوى النخب والكوادر. فمن أهم دوافع الاندماجات الكبرى التي نسمع عنها بالإضافة إلى امتلاك قدرة أكبر على المنافسة والاحتكار هو تخفيض التكاليف الأساسية وتحويلها إلى أرباح إضافية. فعندما تندمج شركتا طيران تغلق المكاتب الفائضة مثلاً وهكذا.
هذا يفسر القلق الذي راح يجتاح مجتمعات الدول الغنية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وهو ما عبّر به عن نفسه من تظاهرات واحتجاجات في شوارع سياتل وواشنطن ولندن التي شهدت اجتماعات الدورات الجديدة لاتفاقية منظمة التجارة العالمية، وغضب المزارعين والعمال في فرنسا وألمانيا وهولندا وإيطاليا، ولم يخطئ من شبّه ما حدث في سياتل وواشنطن بثورة الطلبة في باريس عام 1968 أو حركات الاحتجاج ضد الحرب الفيتنامية مع الفارق طبعًا.(9/347)
لقد برزت في تلك الانتفاضات شعارات، مثل "تجارة عادلة بدلا من تجار حرة"، ومطالبة بإلغاء ديون بلدان العالم الثالث وفرض ضريبة على المضاربات المالية في البورصة، وإدانة لوحشية الرأسمالية إزاء العالم الثالث في مرحلة العولمة، وهجوم مباشر على منظمة التجارة العالمية والبنك وصندوق النقد الدوليين: هذا الثالوت المدمر للشعوب الفقيرة، والذي يدمر حتى المجتمعات الغنية بل الإنسان والبيئة كذلك. ومن ثم يجب ألا تقرأ تلك التظاهرات بأنها تعاطف مع العالم الفقير فقط، وإنما أيضًا باعتبارها التعبير عن القلق الذي ينتاب مجتمعات الشركات متعدية الحدود من مخاطر العولمة وما تحمله في حقبتها من ويلات للعالم بأسره.
تبقى نقطة أخرى في هذا المجال تتمثل بالخراب الذي قد يقع على بعض البلدان الرأسمالية المتطورة نتيجة التنافس الذي تقترحه العولمة. فالسوق الحرة لا تدمر الضعاف فقط، بل قد تدمر عددًا من الأقوياء في صراع القوة ضمن قانون الغاب المقترح في معاهدة منظمة التجارة العالمية؛ ليتحقق من خلال العولمة ما كان يحتاج إلى حرب عالمية استعمارية ثالثة لتحقيقه، والذي كانت الحربان الاستعماريتان العالميتان الأولى والثانية تستهدفان مثله من قبيل إعادة اقتسام مناطق النفوذ والأسواق.
إلى هنا نكون قد تناولنا سمات العولمة في المجال الأكثر شهرة عند الحديث عنها، وهو المتعلق بالنظام العالمي الاقتصادي، والذي سينجم عنه المزيد من الخراب لاقتصاديات بلدان العالم الثالث، والمزيد من تخلفها في ميادين العلوم والتكنولوجيا، والمزيد من نهب ما تراكم من ثروات داخلها، وهو المصير الذي لن تجد بعض الدول المتقدمة نفسها فكاكًا منه، الأمر الذي سيفاقم ظواهر الفقر والبطالة والمرض والجريمة واللجوء إلى العنف الداخلي حتى داخل البلدان التي تتبناها، ناهيك عما أخذ يلوح في الأفق من حروب أهلية أو حروب بين دول مجاورة، وإثارة الانقسامات الداخلية على اختلافها.
العولمة وثقافة تحميها وتدشنها
كوكا كولا قهرت كل رموز الثقافة حتى ماء زمزم
المجال الذي كُتب عنه الكثير يتمثل بما تحمله العولمة من ثقافة تهدد ثقافات الشعوب الأخرى، وقد قيل: "من ضاعت ثقافته ضاعت هويته، أو ضاع استقلاله".
ما من نظام اقتصادي إلا ويجب أن يحمل ثقافة تدعمه وتعزِّزه، فهو لا يستطيع أن يعتمد على بندقية الشرطي الذي يحرسه فقط، ولا على النظام السياسي الذي يحميه فقط، وإنما يجب أن تعزَّز قيمه ومبادِئُه، وتصبح ذات شيوع وسطوة وقبول عام، وهنا تأتي الثقافة لتلعب دورها إلى جانب الشرطي والسياسي في تكريس النظام الاقتصادي المعني، وقد راحت تزداد أهمية التكنوقراط والمثقفين عديمي الضمير للترويج للبضاعة الفكرية، والثقافية، والسياسية للعولمة مقابل رواتب سخية أو "مساعدات" مالية هائلة لمراكز البحوث أو منظمات غير حكومية؛ ولهذا ضربت العولمة جذورها، وقد راحت تضرب تلك الجذور في أجهزة الإعلام ومراكز البحث والدراسات والمنظمات غير الحكومية، وفي الجامعات، وفي مجالات المسرح والإنتاج السينمائي، وبكل ما له صلة بالفكر أو بإعادة صياغة العقل أو النشاطات الاجتماعية.
وإذا كانت العولمة - اقتصاديًّا - امتدادًا للرأسمالية الاستعمارية العالمية ولرأسمالية الشركات متعدية الجنسية، فهي - ثقافيًّا - امتداد للثقافة التي صاحبت هذه المراحل، وإذا كانت العولمة تمثل مرحلة جديدة في الرأسمالية الإمبريالية العالمية، ويسمِّيها البعض ما بعد الإمبريالية، فإن الثقافة التي تنشرها وتنتشر معها وتُعقد لها السيادة على مستوى عالمي يجب أن تكون متناسبة مع المرحلة الجديدة؛ لتدافع عن سمات السيادة على مستوى عالمي يجب أن تكون مناسبة مع المرحلة الجديدة لتدافع عن سمات النظام العالمي الجديد الذي تحمله العولمة، بما في ذلك إيجاد المسوغات للحروب التي تشنها الولايات المتحدة، ولتؤيد انتهاك سيادة الدول والتدخل في شئونها الداخلية.(9/348)
فهي من جهة بحاجة إلى أن تشيع ثقافة تنتقل بالثقافة الرأسمالية الغربية إلى الثقافة الرأسمالية العولمية المؤمركة. ، فالعولمة بقيادة الولايات المتحدة تتجِّه إلى إخضاع البلدان الرأسمالية الأخرى لسيطرتهم بصورة أشد مما فعلت بعد الحرب الاستعمارية العالمية الثانية؛ ولهذا يشعر قادة غربيون أوروبيون كثيرون، وكذلك يابانيون، ومعهم فئات واسعة من المثقفين أن العولمة المؤمركة تهدِّد ثقافاتهم وهوياتهم، وكما قال الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتيران: إن من يفقد ثقافته وهويته يفقد سيادته أو استقلاله، أما السبيل إلى ذلك فيكمن في الاتجاه العولمي الأمريكي، كما تجلى في مفاوضات الجات، لمعاملة الثقافة ومؤسساتها كمعادلة السلع المادية من الكوكاكولا إلى السيارة إلى المنتجات الزراعية، وهذا ما أسماه البعض بتحويل الثقافة إلى سلعة، وبتحويل المؤسسات الثقافية (مثلاً مراكز الإنتاج السينمائي والتلفزيوني والمسارح وسائر دور النشر) إلى البيع والشراء في السوق لكل من شاء، سواء أكان مواطنًا أم كان من رعايا بلد آخر، وهذا يعني رفع الحماية المحلية عنها لكي يسهل بيعها للمؤسسات المالية العالمية التي تضعها في خدمة العولمة المؤمركة، أو حتى تخرجها من السوق ليبقى الميدان خاليًا تمامًا لألاعيبها.
إذن نحن أمام إشاعة الثقافة العولمية ذات الطابع المؤمرك والمتجهة إلى إقصاء الثقافات الأخرى، وتذويب الهويات تحت شعارات مثل: "المواطنية العالمية"، و"القرية العالمية"، و"القيم الكونية"، وذلك ليس من خلال قيمتها الثقافية أو منافستها الثقافية، وإنما من خلال قوتها المالية وقدرتها على التوزيع، وعلى إنتاج ثقافة الغرائز أو الثقافة المعلَّبة السطحية، كما على شراء ما في السوق أو إزاحته من المنافسة حين ترفع الحماية، ويصبح المعيار هو البقاء للأقوى والأغنى، ولمن يملك الطائرة، والدبَّابة، والصاروخ قبل كل شيء.
إذن نحن أمام خطر تحويل الثقافة نفسها ومؤسساتها إلى سلعة، أو كما يقول البعض "تسليعها"، فثقافة الجنس، والعنف، والإعلان، والتلاعب بالتاريخ، واللاقيمة، واللاأخلاقية واللامعنى، وثقافة تمجيد القوة والمصالح والسيطرة وازدواجية المعايير، وفي بلدنا على الخصوص ثقافة الصهينة هي التي يُراد لها أن تصبح ثقافة العالم وهوية الشعوب المختلفة.
ومن هنا فإن المعركة في المجال الثقافي سواء أكان من جانب العولمة وأبواقها أم من جانب معارضيها ستحتدم أكثر فأكثر مع تغلغل العولمة ومحاولتها السيطرة على المراكز الثقافية والإعلامية والتعليمية، ومن هنا نجد أولى طلائع هذه المعركة أخذت تبرز في مجال الهجمات الشعواء ضد الإسلام، وضد الهوية العربية، وضد شعارات الاستقلال، والتحرر، والوحدة، وضد كل القيم التي تحافظ على العائلة، والأخلاق، وتعارض دعوات الانحلال والتفسخ، فما معنى الصدق، وما معنى الاستقامة، وما معنى الكرامة أو الشرف، وما معنى الاستقلال والثوابت الوطنية، وما معنى الحفاظ على الخصوصية والهوية، وما معنى حقوقنا في فلسطين، وما معنى التضامن العربي أو الوحدة العربية؟ وما معنى الدين، وقيم الدين، وتعاليم الدين، وما معنى العائلة، والأخلاق، والالتزام، فكل ذلك بلا معنى، فهنالك فقط قانون المنافسة في السوق، قانون الغاب الذي يكرس مبدأ البقاء "للإصلاح" بمعنى الأقوى، وهنالك قانون المصلحة في أشد أشكالها فظاظة، مجردًا من أية مبادئ، فالكل "يسعى لمصلحته، وكل مصلحة مثل المصلحة الأخرى، الذئب يأكل الغنم وهذه مصلحته، وإذا كانت الغنم لا تستطيع أن تحافظ على مصلحتها فلتذهب إلى جوف الذئب".
إن الثقافة التي تحملها العولمة المؤمركة الآن قد أخذت تمتزج بصهينة، ضمن نسب أعلى بكثير مما كانت عليه الثقافة الإمبريالية قبل بضعة عقود من الزمن، وذلك بسبب تعاظم النفوذ الأمريكي الصهيوني داخل الإدارة الأمريكية والكونجرس الأمريكي، وهو ما سيضاعف أكثر النفوذ الصهيوني في مجالات الإعلام والسينما والثقافة.
ويخطئ من يظن أن ثقافة العولمة ستكون ثقافة تُعلي حقوق الإنسان أو الديمقراطية والمبادئ الليبرالية؛ لأن الاتجاه الذي أخذ يقلق منه أشد القلق كثير من المثقفين في أوروبا والولايات المتحدة نفسها يتمثل بإضعاف قوة البرلمانات لحساب اتفاقات تقرر "عالميًّا"، وتفرض لتصبح القوانين المهيمنة على البلد المعني، وما على برلمان البلد المعني إلا الموافقة عليها كلية، أو رفضها كلية، إن اتفاقات منظمة التجارة العالمية والمنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية وافقت عليها جلّ البرلمانات دون حق إدخال أي تعديل عليها، وأصبحت ملزمة للمشرِّع المحلي. وهذا النهج أخذ يتوسع ليشمل الكثير من الاتفاقات والمعاهدات التي تتجه العولمة إلى فرضها على شعوب العالم.(9/349)
إذن، فأسس المبادئ الديمقراطية التي قامت عليها الديمقراطيات الغربية أخذت تهتز أمام زحف العولمة. أما حقوق الإنسان فإن الولايات المتحدة التي تقود العولمة عاملتها دائمًا بازدواجية معايير، وسوف تعاملها بمثل هذا الازدواجية أكثر حين تتعرض العولمة إلى موجات الاحتجاج والمقاومة، خصوصًا مع ما تحمله من إشاعة للبطالة، والفقر، والجريمة، وضرب الصناعات المحلية، والهيمنة على اقتصاديات البلدان الأخرى، فالعولمة ستعطي، بالضرورة دورًا أكبر لأجهزة القمع في الولايات المتحدة نفسها كما في بقية بلدان العالم.
أية ديمقراطية وأي حق من حقوق الإنسان سيبقى إذا ألغيت قوانين العمل والحقوق المكتسبة للعمال، وأعيد النظر بالضرائب والجمارك بما يخدم الشركات متعدية الحدود؟ وأية ديمقراطية وأي حق من حقوق الإنسان سيبقى مع انتهاك سيادة الدول، وامتلاك حق التدخل، وإخضاع اقتصاديات العالم إلى قانون السوق الواحدة؟
وأية ديمقراطية وأي حق من حقوق الإنسان سيبقى إذا أصبحت الشركات متعدية الجنسية تمتلك أجهزة الإعلام على المستويين العالمي والمحلي، وتتحكم في الجامعات ومراكز البحوث، وفي المؤسسات الثقافية، وفي أغلب المنظمات غير الحكومية، وبالسوق عمومًا، ومن ثَم التمكن من شراء ذمم أعداد متزايدة من المثقفين والنخب والتكنوقراط، وذلك حين تصبح هذه الشركات المصدر الرئيسي للتشغيل، والشهرة، وتأمين الرفاهة لجحافل من المثقفين، ولمن سيتساقطون في الطريق، وكانوا في الأمس لا يبيعون أنفسهم ولا يخدعونها، ولا يسوغون ذلك بالاضطرار أمام صعوبة العيش وتأمين مستقبل الأطفال؟ فما معنى الديمقراطية إن لم تكن هنالك معارضة لا تُشترى، أو كانت هنالك معارضة، ولكن محرومة من كل وسائل الإعلام والتعبير؛ بسبب السيطرة الهائلة التي تمارسها الشركات الديناصورية متعدية الجنسية، ومن هنا يروق لكثيرين ممن يوافقون من حيث المبدأ أو من طرف اللسان على نقد العولمة، ولكن يقولون بأنها تشق طريقها لا محالة، ولا مجال لمقاومتها، أو لإيجاد بديل لها غير "التكيف".
ويحمل التكيف هنا معان كثيرة، ويمكن أن يذهب بصاحبه إلى آخر الشوط.
على أن السمة التي هي الأهم بين سمات العولمة، والتي تشكِّل القاعدة التي يقوم عليها البناء الاقتصادي والبناء الثقافي للعولمة، إنما هي المتعلقة بميزان القوى العسكري العالمي وميزان القوى السياسية العالمي.
العولمة تتأسس على ميزان القوى العسكرية
القهر العسكري كفل حماية القهر الاقتصادي
هنالك رأي قديم أصبح اليوم أكثر قوة يعتبر أن التطور الاقتصادي هو الذي قرَّر النظام العالمي أو النظام السياسي في هذا البلد أو ذاك، والبعض يسمِّيه قانون المصلحة الاقتصادية؛ ولهذا هنالك من يركِّزون على الثورات التي حدثت في السنوات العشرين الأخيرة في مجالات الاتصالات المعلوماتية والتقنيات، باعتبارها السبب الرئيس أو الأول الذي دفع إلى تشكل نظام العولمة أو حوَّل عالمنا إلى "قرية صغيرة"، وهنالك من يعتبرون أن القوة الاقتصادية لكل دولة هي التي تحدد موقعها في عالم العولمة الآتي.
ولكن لو أمعنَّا النظر في السنوات العشر الأخيرة سنجد أن ما حدث من تغير في ميزان القوى العالمي جاء بعد تفكك المعسكر الاشتراكي وانهيار الاتحاد السوفييتي، وبروز الولايات المتحدة الدولة الأقوى في ذلك الميزان، وهو ما استتبعه تلويحها بإقامة نظام عالمي جديد أحادي القطبية، يتحكم بدول العالم قاطبة، وهو الذي سيضع الأنظمة الحاكمة لتفاعلات هذه الدول ويحدِّد مصائرها، وقد رافق عملية انتهاء الحرب الباردة استعراض القوة الذي استخدمته الولايات المتحدة ضد العراق في حرب الخليج، الثانية ثم حرب إقليم كوسوفا، فضلاً عن سلسلة من استعراض للعضلات بأشكال متعدية في مناطق متعدية؛ من أجل تكريس نظرية القطب الواحد في المجالين العسكري والسياسي.
لنتذكر جيدًا أنه ما من نظام اقتصادي عالمي أو محلي يمكن أن يعمل يومًا واحدًا إذا لم يكن هنالك قوة عسكرية تحميه وقوة سياسية تقوده، أو على الأقل تدعمه وتعطيه الشرعية.
ولهذا فإن النظرية التي نطرحها هنا تقول بأولوية ما يحدث من تغيير في ميزان القوى العسكرية والسياسية، على ما حدث من تغييرات على المستوى التكنولوجي والمعلوماتي والاتصالاتي في عملية أو مشروع تشكل العولمة، بما في ذلك جانبها الاقتصادي نفسه.(9/350)
بل إن إطلاق ثورات الاتصالات والمعلوماتية والتكنولوجية في السنوات الأخيرة كان بسبب التطور الذي حدث في ميزان القوى العسكري والسياسي، فكل من لا يعرف عليه أن يعرف أن أهم الاكتشافات التكنولوجية، والمعلوماتية، والاتصالية ولدت وترعرت في أحضان المؤسسة العسكرية، أو كانت تحت مراقبتها، وبرهن إشارتها لعشر أو عشرين سنة سابقة قبل السماح بإنزالها إلى السوق التجاري المدني، بل إن ما بأيدينا الآن متخلف خمس أو عشر سنوات عما هو في أيدي المؤسسة العسكرية الأمريكية، فقد كان الأمر كذلك دائمًا في مرحلة الحرب الباردة وعلى ضفتيها وقبلها، وسيظل كذلك إلى أن يحسم الصراع الدولي، أو بالأحرى يتلاشى، وهو الأمر الذي من الصعب تصوره في الأمد المنظور.
المهم أن تسليط الأضواء على ما يحدث في المجال المعلوماتي والتكنولوجي أو ما يحدث في المجال الاقتصادي في فهم العولمة يظل قاصرًا وسطحيًّا ما لم تسلط الأضواء على حالة ميزاني القوى العسكري والسياسي باعتبارهما الأساس في المشروع العولمي الراهن، وباعتبارهما الأساس في تقرير مستقبل العولمة، وفي تحديد الأشكال والسمات التي ستأخذها في قابل السنوات القريبة، بما في ذلك الانتقال إلى مرحلة مختلفة في العلاقات الدولية، من حيث النظام الاقتصادي أو موازين القوى العسكرية والسياسية العالمية.
إن من تابع نقاشات "اتفاقية الجات"، ثم منظمة التجارة العالمية، ثم مختلف المعاهدات التي أخذت تطرح خلال السنوات العشر الماضية، سيجد أن الدول هي التي تدير تلك النقاشات، وأن الولايات المتحدة قد وضعت ثقلها العسكري والسياسي، وثقلها في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للوصول إلى اتفاقية منظمة التجارة العالمية والمعاهدات الأخرى، وإذا كان هنالك ما يعتبر قيد الإنجاز أو قيد المراجعة والتغيير، فيرجع إلى ما نشأ مؤخرًا من ميزان قوى سياسي لم يَعُد يسمح للولايات المتحدة أن تتصرف كما كانت تفعل قبل بضع سنوات، وهو الذي يفسِّر فشل مؤتمر وزراء منظمة التجارة العالمية في سياتل، وما واجه منتدى دافوس في سويسرا أو مؤتمر الأنكتاد في تايلاند، وما تبع وسيتبع ذلك من مؤتمرات؛ بسبب ما نشأ من صراعات بين الدول، ويجب أن نضيف هنا تعاظم أهمية الدور الشعبي العالمي في الاحتجاج على الثالوث (النكد) الذي يتشكل من: منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وهو الذي راح يدفع القيادة الأمريكية وبلسان كلينتون رئيس الجمهورية الأمريكية، وعدد من قادة الدول بما في ذلك قادة الثالوث المذكور، إلى الانحناء أمام العواصف التي راحت تهب ضد العولمة، وإن كان الانحناء لامتصاص النقمة وليس تراجعًا عن المضي بها حتى النهاية، الأمر الذي سيجعل السنوات القادمة حُبلى بالصراعات فيما بين الدول الكبرى، كما فيما بين الولايات المتحدة وشعوب العالم بما في ذلك فئات من شعبها، كما فيما بين الثالوث المذكور وغالبية الدول التي فرض عليها الدخول في منظمة التجارة العالمية أو خضعت - قسرًا - لتعليمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
بكلمات أخرى يجب ألا تُفهم العولمة بأنها ولادة طبيعية لتطور العلوم أو لثورات التكنولوجيا أو لتشكل الشركات متعدية الحدود، بالرغم من أن هذه جميعًا تشكل أركانًا من أركانها، وإنما هي في الأساس نتاج ميزان قوى عالمي تشكَّل بعد انتهاء الحرب الباردة متمثلاً بمحاولة الولايات المتحدة فرض نظام القطب الواحد على العالم، وهو ما يسمح بدورة جديدة من النهب العالمي. وهذا النهب هو ما سمح للاقتصاد الأمريكي أن يتعافى - ولو مؤقتًا - من الأزمة التي كانت تطحنه أواخر الثمانينيات، سواء أكانت ذلك بسبب الديون الخيالية الداخلية والخارجية أم كان بسبب المنافسة الاقتصادية اليابانية والألمانية، فحرب الخليج والانتقال إلى القطبية الأحادية، ثم حرب كوسوفا نقلت الاقتصاد الأمريكي إلى مرحلة النمو والازدهار، ولا ننسى هنا مئات البلايين التي نُهِبت جهارًا نهارًا من دول الخليج، ولا ننسى الضغوط التي مورست ضد الاقتصادين الياباني والألماني خلال هذه الفترة، ولعل ما أحدثته حرب كوسوفا بالنسبة إلى "اليورو" لشاهد بليغ على ما تقدم.
إذا كنا نريد قراءة مستقبل العولمة في المدى القريب، وإذا كان الموضوع آنف الذكر حول أولوية ميزان القوى العسكري والسياسي صحيح، فإن قراءة مستقبل العولمة في المدى القريب والمتوسط والبعيد سيتوقف على قراءتنا لتطورات ميزان القوى العسكري والسياسي حاليًا ومستقبلاً.(9/351)
وعلى الرغم من التغيير الذي حدث في ميزان القوى العسكري والسياسي بعد حرب الخليج الثانية، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وخروج الولايات المتحدة قوة كبرى متفوقة تحاول أن تقيم نظامًا عالميًّا جديدًا على أساس القطبية الأحادية. فقد واجهت الولايات المتحدة خلال الخمس سنوات الماضية ألوانًا من المقاومة والمعارضة من الدول الكبرى الأخرى، وما زالت سواء أكان من روسيا على المستويين العسكري والسياسي، أم من أوروبا، واليابان، والصين، على المستويين الاقتصادي والسياسي. كما واجهت معارضة راحت تتصاعد من قبل دول العالم الثالث. وكان الموقف من قضية العولمة التي تريدها الولايات المتحدة واحدًا من نقاط الخلاف، وما جرى في المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في سياتل، وفي قمة مجموعة الـ77 في هافانا، وفي قمة المجموعة الـ 15 في القاهرة، إلى جانب تصريحات أوروبية، خصوصًا فرنسية وأخرى روسية وصينية؛ لتصحيح أو تعديل شروط العولمة، إلا دليل على تعمق الخلافات مع الولايات المتحدة. كما يشكِّل ذلك دليلاً أيضًا على أن الولايات المتحدة ما زالت بعيدة عن إمكانية التفرد والانفراد في تقرير كل شيء، وهذا ما جعل العولمة لا تزال في مرحلة انتقالية وعرضها لعدد من الصدمات، وربما النكسات، ومن ثَم ضرورة إحداث التعديلات الضرورية عليها، والأهم أن بريقها قد خبا، وراحت سلبياتها تتضح أكثر فأكثر.
يمكن القول: إن العالم يعيش الآن في مرحلة صراع بين اتجاهين رئيسين: اتجاه يريد إقامة نظام القطب الواحد، واتجاه ثانٍ يسعى إلى نظام متعدد القطبية. وبالرغم من الفروق القائمة بين القوة الأمريكية من جهة، وكل قوى أخرى على حدة، فإن تجمع القوى بشكل موضوعي يفرض تضييق تلك الفروق بالضرورة، ولا يترك يد الولايات المتحدة تتحرك بلا حسيب أو رقيب، ومن ثَم يجعل العولمة حالة تحت (التعديل) إن لم يُدخلها في طريق مسدود في حالة نشوء ميزان قوى عسكري وسياسي يختلف عما هو قائم الآن، فالأوضاع العالمية حبلى بالتطورات والمتغيرات في الاتجاهين كما يُقال.
إذا لم تستطع الولايات المتحدة أن تبني الغطاء الصاروخي المضاد للصواريخ، فإن كل ما يقال عن تفردها وتحكمها سيظلُّ عرضة للانتكاسة والأزمة؛ ولهذا راح الروس والصينيون يعارضون بشدَّة مخططات التصعيد العسكري الذي طرحته إدارة كلينتون مجددًا لتطوير الغطاء أو الجدار الصاروخي، كما أظهر الأوروبيون انزعاجًا شديدًا من هذا المشروع. لاحظوا أين تدور المعركة الحقيقة للعولمة الآن؟ إن من لا يدرك خطورة أن تمتلك أو لا تمتلك، الولايات المتحدة هذا الغطاء لا يستطيع أن يتحدث في السياسية أو الاقتصاد.
بكلمة أخرى إن المعركة حول العولمة بطبعتها الأمريكية أو بطبعتها المعدلة تدور أساسًا في المجال العسكري والسياسي (السياسي أخذ يتعاظم دوره)؛ لأن حسم الموضوع هنا هو الذي يقرر مصير النظام الاقتصادي العالمي في الوقت نفسه.
ومن هنا يجب أن نرى جوهر العنف السافر وراء العولمة المؤمركة ومشروعها منذ عشر سنوات، وكذلك مشروعها المستقبلي. كما يجب أن نرى معادلة ميزان القوى العسكري وميزان القوى السياسي في فهم العملية العالمية المعقدة الجارية الآن في محاولة الانتقال إلى العولمة بمفهومها الأمريكي أو بمفهومها "المعدل" أو توقع الأزمات والصراعات الحادة.
نحو برنامج لمواجهة العولمة
البرنامج لابد وأن يكون شاملا
أ - الاهتمام بالبعدين السياسي والعسكري:
يجب الاعتراف بأن العولمة نظام راح يُفرض بالقوة وممارسة الضغوط المختلفة، سواء مباشرة من جانب الإدارة الأمريكية، أم من خلال البنك وصندوق النقد الدوليين، وليس نظامًا راحت تفرضه التطورات الاقتصادية أو الثورات العلمية والتقنية والمعلوماتية بطريقة الانسياب السهل.
وهي ليست نظامًا "ديمقراطيًا عالميًا" تقرره أغلبية الدول، أو يترك لها الخيار بشأنه.
فعلى سبيل المثال إن الذين يؤكدون أن الانغلاق في وجه العولمة يؤدي إلى التهميش لا يلحظون أنهم يلوحون بالتهديد ويجعلون دخول العولمة عملية قسرية بالضرورة، ولا يلحظون أن الأسباب والعوامل التي تجعل عدم الدخول في العولمة تؤدي إلى التهميش ستظل فاعلة بعد دخول العولمة: أي ستبقى فاعلة في إعادة صياغة بلدك ضمن ما تريده العولمة الأمريكية منك.
أما الذين يلطفون هذه العملية بالحديث عن التكيف الإيجابي، ويجعلون الكرة في "ملعبك"، ويقولون: انزل إلى الميدان، وستحصل على مكاسب بمقدار اجتهادك، فإنهم بضربة واحدة يحولونك إلى قوة فاعلة وهمية قادرة - بنظرهم - على تجاوز الضغوط التي كانت قبل حين أمرًا لا يقاوم.(9/352)
صحيح أن هنالك اقتراحًا قويًا بخصوص التفاعل الإيجابي مع العولمة أو التكيف الإيجابي، وهو التأكيد على السوق العربية المشتركة، ومن ثم مواجهة العولمة وضغوطها من خلال هذه السوق، وهو اقتراح يجب أن نتمسك به ونضغط باتجاهه، ولكن يجب أن ندرك محدودية إمكانات تنفيذه وعلى التحديد؛ بسبب موازين القوى العسكرية والسياسية التي قامت العولمة على قواعدها، وبسبب الأسباب والعوامل التي فرضت علينا الدخول في العولمة؛ لأن إمكان تحقيق السوق العربية المشتركة عليه أن يواجه ضغوط الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، سواء أكان كل دولة منفردة أم مجتمعة.
من هنا ليس من الممكن مواجهة العولمة أو التكيف مع العولمة أو المراهنة عليها أن يتحقق في الميدان الاقتصادي البحت ما لم ينظر إلى العولمة في بعدها العسكري ـ السياسي؛ ذلك لأن أي تكيف معها أو مواجهة أو مراهنة في بُعدها الاقتصادي فقط سيدخل بنا في الدائرة المفرغة وينتهي إلى الفشل الذريع.
يمكن القول بأن ما فعلته تظاهرات سياتل وواشنطن أو الاحتجاجات التي اندلعت في عدد من العواصم العالمية تؤشر إلى شكل هام وأساسي من أشكال مقاومة العولمة ومحاولات فرض التعديلات والتنازلات عليها، إن لم يكن إعادة النظر فيها من حيث الأساس، أما تركها تفعل ما تريد دون فضحها سياسيًا وثقافيًا وفكريًا ودون شن النضال الشعبي ضدها، فلن يساعد على وقف وحشية الشركات متعدية الجنسية متعدية الحدود ونهمها غير المحدود للأرباح وامتصاص الدماء.
إن الدفاع عن الإنسان والبيئة، وعن احترام إرادة الشعوب المهددة، وعن الديمقراطية والثقافة التي يراد تحويلها إلى سلعة، وعن القيم والمبادئ، وعن مراعاة مصالح الأمم وحقوقها والعدالة العالمية، كل هذه تدخل ضمن العمل السياسي الذي يجب أن تواجه به العولمة.
أما على مستوى الدول، وهي منخرطة في منظمة التجارة العالمية، وهي تحاول "التكيف"، فيجب أن تشكل جبهات ضغط لإحداث التغييرات الضرورية في اتفاقية منظمة التجارة العالمية، وفي اتفاقية حقوق الملكية الفكرية وفي سائر الاتفاقات المشابهة، الأمر الذي يتطلب استعادة دور مجموعة الـ 77، وتشجيع مجموعة الـ 15 وحركة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية، والمجالس الإقليمية، على ممارسة الضغوط السياسية والمعنوية والأدبية لكبح جماح العولمة بطبعتها الأمريكية.
وهذا كله يحمل مفهومًا غير مفهوم، هو مفهوم "التكيف الإيجابي" المدعو لأخذ مكان في المنافسة الاقتصادية. فإذا كان من الصعب رفض هذا المفهوم الشائع، أو إقناع الكثيرين بعبثيته فإن من الضروري مجابهته بما يحمله من أوهام، وانعدام واقعية، وتخدير للأوجاع، وخداع للنفس؛ لأنه انخراط في منافسة غير متكافئة من كل الأوجه، ولأن الدخول في قوانينها بمثابة الدخول للعبة عمياء يحدد قواعدها الآخر صاحب المصلحة المادية المستبدة، ويتحكم فيها بما في ذلك من تكبيل ليديك وقدميك لن يوصل إلى تحقيق الحد الأدنى من التنمية أو التطور، بل في الأغلب سيزيد التدهور الاقتصادي والاجتماعي والتبعية السياسية.
ب - مراقبة الصعيد الاقتصادي:
إن العلة الأساسية في عدم نجاح التنمية منذ خمسين عامًا تكمن في النظام الدولي الاقتصادي الظالم، الذي أقام الهوة الكبيرة بين أسعار التكنولوجيا والسلع المصنعة من جهة، والمواد الخام والمنتجات الزراعية من جهة أخرى. هذا فضلاً عن النظام السياسي الدولي الظالم الذي يسمح بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول وبالعدوان لمن هو قادر عليه. ولهذا، فإن مشكلات الفقر والتخلف الاقتصادي لا تحلها العولمة، وإنما تبدأ المعالجة بإحداث التغييرات الضرورية في النظام العالمي السائد عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا وثقافيًا.
فالمطلوب تضامن عالمي واسع النطاق لإقامة عالمية سياسية واقتصادية أكثر عدالة بديلاً للعولمة الأمريكية التي ورثت كل سيئات العالمية الإمبريالية السابقة، وأضافت إليها وحشية رأسمالية القرن التاسع عشر.
والمطلوب عند التركيز على إقامة السوق العربية المشتركة أن يركز على التضامن العربي والبعد السياسي للعلاقات العربية ـ العربية والخروج من التبعية، وإلا بقي مشروع السوق المشتركة بلا ظهير ولا سند.
جـ - البعدين: الثقافي والسياسي:
ثم يجب أن يعالج البعد الثقافي في العولمة وما يشكله من تهديد لهويتنا الثقافية، أو للبعد الإعلامي وما يشكله من خطر على شراء إعلامنا المحلي في قابل الأيام، حين يُفرض على الإعلام أن يخصخص بكل فروعه، ويصبح سلعة معروضة للشركات الخارجية، أو حين تفتح حدود البلاد لمن شاء من مؤسسات الإعلام العالمية، وهو ما سينطبق على مؤسسات التعليم والثقافة ومراكز البحوث والجامعات والمنظمات غير الحكومية كذلك.
د - مواجهة العولمة في بعدها الصهيوني:
وأخيرًا يجب التنبه بصورة خاصة إلى الجوانب المتعلقة بعلاقة العولمة بالمشروع الصهيوني في بلادنا العربية.(9/353)
فنحن نجد هنا توءمة بين العولمة المؤمركة، والمشروع الصهيوني، وهو أمر يظهر العلاقة العضوية بين العولمة في جانبيها الاقتصادي والتقني، والعولمة في بعدها العسكري والسياسي، واعتبار الثاني الأساس الذي تقوم عليه.
ومن هنا، فإن كل ما أشير إليه من إشكالات حول العولمة عمومًا، سواء أكان في أبعادها الاقتصادية أم أبعادها العسكرية والسياسية أم الاجتماعية والثقافية يجد ترجمة له هنا ضمن خصوصية العلاقة بينها وبين المشروع الصهيوني في المنطقة العربية، الأمر الذي سيعطي خصوصية مقابلة للصراع أو المواجهة أو "التكيف" بيننا وبين العولمة؛ إذ يدخل العنصر الصهيوني هنا سمة عضوية فيها قبولاً ورفضًا، تكيفًا أو مواجهة سياسية، الأمر الذي سيخلق بدوره صعوبات إضافية أشد أمام إقامة التضامن العربي والسوق العربية المشتركة باعتبارهما من وسائل مواجهة العولمة، والخروج من عبثية أي معالجة قطرية منفردة في التعامل وإياها.
فالولايات المتحدة والدولة العبرية ستجعلان الحيلولة دون إقامة سوق عربية مشتركة معركتها الكبرى، هذا مع ضرورة تولية عناية خاصة لمحاولات إثارة الانقسامات الداخلية حيثما كان هنالك اختراق يمكن إحداثه، الأمر الذي يتهدد أكثر من دولة قطرية عربية بمخاطر الحرب الأهلية أو الانقسامات التي تؤدي إلى المزيد من التفتيت.
=============(9/354)
(9/355)
العولمة من منظور إسلامي
د. محسن عبد الحميد
أستاذ التربية بجامعة بغداد - كاتب ومفكر إسلامي
…
22/7/2001
يقول الدكتور محسن عبد الحميد: إن العولمة أداة لهيمنة دول الشمال على دول الجنوب، وبخاصة الدول الإسلامية، وإنها توجه كل اهتمامها لمحاربة الإسلام ليس كعقيدة فقط، بل كدول واقتصاديات وقيم.
وإذا كان هنتنجتون صاحب مشروع صدام الحضارات قد أكد على أن الحرب القادمة ستكون بين الغرب من ناحية والإسلام والكونفوشيوسية من ناحية ثانية، فإن د. محسن ينضم إلى المفكرين الذين يؤكدون على أن الطابع المادي للديانات الشرقية غير الإسلامية والمتمثل في تشخيص الدين (بوذا وكونفوشيوس وتماثيلهما) وتمثيل رموزه بالحياة الحيوانية.. سيؤدي إلى سرعة تحول هذه الحضارات نحو الرؤى المادية الغربية، على نحو ما حدث بالفعل في اليابان الذي سقط في الفلسفة الليبرالية متمردا على خلفيته الكونفوشيوسية، ليبقى الإسلام وحيداً في ساحة المواجهة.
كيف تحارب العولمة العالم الإسلامي اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً؟ وكيف يتسنى للإسلام مقاومة تسلطها من خلال الفكر الاقتصادي والاجتماعي والتربوي؟ هذه الأسئلة تجيب عنها الصفحات التالية.
===============(9/356)
(9/357)
العالمية والعولمة: تعريف وتمييز
الفقر
هنالك فرق كبير بين المصطلحين العالمية والعولمة. فالمصطلح الأول يعني أن أبناء هذا العالم بمختلف قبائله وشعوبه ولغاته وملله ونحله، يعيشون على هذه الأرض، فلا بد أن يتفاهموا فيما بينهم، تمهيداً للتعاون الدائم على خير الجميع، ولا مانع من أن يأخذ بعضهم من بعض. ولا يجوز أن يفرض بعضهم على بعض لغته أو دينه أو مبادئه أو موازينه. فالاختلاف في هذا الإطار طبيعي جداً، والتعاون ضروري أبداً، لمنع الصدام والحروب والعدوان.
وهذه العملية العالمية قد تُسمى بالتثاقف الحضاري بين الشعوب والأمم، وهي واقع البشرية منذ أقدم العصور إلى اليوم، فاللغات تلاحقت والمجتمعات تعاونت والحضارات عبرت من مكان إلى مكان.
والحروب والمظالم التي قامت ويمكن أن تقوم بين أبناء البشرية، تستنكرها العقول السليمة، ومبادئ الأديان الحقة، والمصالح المشتركة. لأن سعادة البشرية مطلوبة لذاتها، والتعاون فيما بينها على الخير من أعظم الفضائل التي تقرها وتشجع عليها القيم الفاضلة، التي أجمع عليها البشر في هذه الحياة.
وأوضح مثال على ذلك الإسلام، فعندما جاء خاتمًا للأديان وهداية للعالمين، دعا الناس إلى عقيدته وشريعته وقيمه الأخلاقية، من خلال الدعوة الوادعة، والجدال الحسن، دون إكراه لأحد، ومعترفًا بواقع الخلاف الموجود في الأرض، منطلقًا من القرآن الذي يقول: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (1) وقوله تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} (2). وقوله: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} (3)، وقوله: { لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (4).
وقد بُنيت هذه التوجيهات الربانية على قوله تعالى: { الحمد لله رب العالمين} ولم يقل ربّ المسلمين فحسب. لماذا ؟ لأن هذه الدار دار عمل للجميع وليست دار جزاء، وإنما الجزاء يكون في الآخرة. قال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} (5).
وهذا تاريخ البشرية عامة، وتاريخ الإسلام خاصة، لم يرد فيه دليل على أن المسلمين رسموا للبشرية طريقًا واحدًا ووجهة واحدة وحكمًا واحدًا ونظامًا واحدًا وعالمًا واحدًا بقيادة واحدة بالإجبار والإكراه.
بل اعترفوا كما ذكرنا بواقع الأديان واللغات والقوميات، عاملوها معاملة كريمة، بلا خداع ولا سفه ولا طعن من الخلف؛ ولذلك عاش في المجتمع الإسلامي اليهودي والنصراني والصابئي والمجوسي وسائر أهل الشرك بأمان واطمئنان(6).
وأما الأمم التي كانت تعيش خارج العالم الإسلامي، فقد عقدت الدولة الإسلامية معها مواثيق ومعاهدات في قضايا الحياة المتنوعة. ومن الممكن مراجعة ذلك في الكتب التي تتحدث عن العلاقات الدولية في التشريع الإسلامي(7).
والتوجيه الأساس في بناء العلاقات الدولية في الإسلام قوله تعالى { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (8).
أما العولمة التي هي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية Globalization فهي مصطلح يعني جعل العالم عالمًا واحدًا، موجهًا توجيهًا واحدًا في إطار حضارة واحدة، ولذلك قد تسمى الكونية أو الكوكبة(9).
يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي عن العولمة: "نظام يُمكّن الأقوياء من فرض الدكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق"(10).
ويثبت هانس بيترمارتن وهارالد شومان، صاحبا كتاب فخ العولمة أن العولمة هي عملية الوصول بالبشرية إلى نمط واحد في التغيير والأكل والملبس والعادات والتقاليد(11).
ويقول جيمس روزانو، أحد علماء السياسة الأمريكيين عن العولمة: "إنها العلاقة بين مستويات متعددة لتحليل الاقتصاد والسياسة والثقافة والأيديولوجيا، وتشمل: إعادة الإنتاج، وتداخل الصناعات عبر الحدود، وانتشار أسواق التمويل، وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول نتيجة الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة"(12).(9/358)
ويقول أحد الكتاب الفرنسيين عن النظام الرأسمالي الأمريكي: فكلما ازداد هذا النظام الرأسمالي الجشع إمعانًا وانتشارًا بالعو لمة، ازدادت الانتفاضات والحروب العرقية والقبلية والعنصرية والدينية للتفتيش عن الهوية القومية في المستقبل. وكلما تَفَشَّت المعلوماتية والأجهزة التلفزيونية والسلكية واللاسلكية، تكبلت الأيدي بقيود العبودية، وازدادت مظاهر الوحدة والانعزال والخوف والهلع دون عائلة ولا قبيلة ولا وطن. وكلما ازداد معدل الحياة سوف تزداد وسائل القتل، وكلما ازدادت وسائل الرفاهية سوف تزداد أكثر فأكثر جرائم البربرية والعبودية(13).
وإذا رجعنا فألقينا نظرة على دراسات المفكرين العرب عن العولمة نجد أنهم جميعًا يعرفون العولمة في إطار المقولات الآتية التي تلتقي على بيان حقيقة واحدة.
يقول الدكتور حسن حنفي: "العولمة لصالح الآخر على حساب الأنا (أي الذات) وقوة الآخر في مقابل ضعف الأنا وتوحيد الآخر في مقابل تفتيت الأنا"(14). ويقول: "هي حضارة المركز (أي حضارة الدول الغربية التي لقوتها تقع في مركز العالم وبقية الدول هوامش تابعة) وتبعية الآخر (أي الدول غير الغربية غير الصناعية التي يصطلح على تسميتها دول الجنوب)، وهي مركزية دفينة في الوعي الأوربي تقدم على عنصرية عرقية، وعلى الرغبة في الهيمنة والسيطرة"(15).
ويقول الدكتور سيار الجميل: إنها عملية اختراق كبرى للإنسان وتفكيره، وللذهنيات وتراكيبها، وللمجتمعات وأنساقها، وللدول وكياناتها، وللجغرافيا ومجالاتها، وللاقتصاديات وحركاتها، وللثقافات وهوياتها، وللإعلاميات وتداعياتها(16).
ويشبه الدكتور نجيب غزاوي إمبراطورية العولمة بالإمبراطوريات التي سادت في العصر الأخير فيقول: الإمبراطورية التي عمدت على فرض مبادئها ونظمها في الحكم وأنماط حياتها السياسية والاجتماعية والثقافية بالقوة وكذلك حال الإمبراطوريات الحديثة، مثل: بريطانيا في مستعمراتها ثم في الكومنولث، وفرنسا في مستعمراتها ثم الفرانكفونية. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية برزت عولمة الشيوعية متمثلة بالاتحاد السوفيتي وعولمته(17).
وأما الدكتور مصطفى محمود فيقول: "العولمة مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ الوطن من وطنيته وقوميته وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي، بحيث لا يبقى منه إلاّ خادم للقوى الكبرى(18).
والعولمة عند الدكتور محمد عابد الجابري تستهدف ثلاثة كيانات، الدولة والأمة والوطن، ويسميها أيضاً بثقافة الاختراق، اختراق مقدسات الأمم والشعوب في لغاتها ودولها وأوطانها وأديانها(19).
وتنتهي الدكتورة نعيمة شومان إلى أنه في ظل العولمة "تسلم البلاد الفقيرة لا إلى فقدان الاستقلال السياسي وإنما إلى العبودية، فكأن البلدان مدينة وكافة البلدان متوقفة عن تسديد الديون ولا تملك الخيار أو الرفض للمشاريع المعروضة عليها(20).
ويُجمع أطراف الندوة التي كانت بعنوان: طوفان العولمة واقتصادياتنا المسلمة والتي نشرت في مجلة البيان على هذه المعاني التي مرت والخطورة الكبيرة للعولمة على اقتصاديات العالم الإسلامي خاصة(21).
وأخيرًا يعرف محمد فهيم يوسف العولمة بأنها "الغرض الانفرادي لفهم يستند إلى مرجعية تخص حضارة معينة، باعتباره المفهوم الأسمى لحقوق الإنسان الذي ينبغي أن يسود العالم"(22).
لقد سقت آراء مفكرين، غربيين وعربًا درسوا العولمة دراسة علمية شاملة، من أجل أن أقول للقارئ بأن قضية العولمة ليست مسألة آراء فردية مناهضة، وإنما اتفاق الرأي العام العلمي المنصف على حقيقة العولمة وآفاقها، لظهورها ووضوحها ونتائجها التي شملت الكرة الأرضية، من دون أن يكون هنالك أدنى شك في المقولات المقررة حول حقيقة العولمة وطبيعتها المستغِلة المهيمنة. والدليل على ذلك النتائج الرهيبة التي بدأت تظهر في العالم أجمع والتي يجمع عليها الباحثون أيضًا. ومن هذه النتائج:
أولاً: لقد قضى حوار الشمال والجنوب نحبه، كما قضى نحبه صراع الشرق والغرب. فقد أسلمت فكرة التطور الاقتصادي الروح، فلم تعد هنالك لغة مشتركة، بل لم يعد هناك قاموس مشترك لتسمية المشكلات. فالمصطلحات من قبيل الجنوب والشمال والعالم الثالث والتحرر لم يبق لها معنى(23).
ثانياً: من وجهة مُنظري العولمة: إن المجتمعات العاجزة عن إنتاج غذائها أو شرائها بعائد صادراتها الصناعية مثلاً، لا تستحق البقاء وهي عبء على البشرية أو على الاقتصاد العالمي يمكن أن يعرقل نموها الذي يحكمه قانون البقاء للأصلح. ولذلك يجب إسقاطها من الحساب. ولا ضرورة بالتالي لوقوف حروبها الأهلية أو مساعدتها أو نجدتها(24).
ثالثاً: عاد الاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي من جديد في صورة العولمة بالاقتصاد الحر واتفاقية الجات والمنافسة والربح، والعالم قرية واحدة، والتبعية السياسية، وتجاوز الدولة القومية، ونشر القيم الاستهلاكية، مع الجنس والعنف والجريمة المنظمة(25).(9/359)
رابعاً: غدا العالم الذي خضع للعولمة، بدون دولة، بدون أمة، بدون وطن، لأنه حوّل هذا العالم إلى عالم المؤسسات والشبكات، وعالم الفاعلين والمسيرين، وعالم آخر، هم المستهلكون للمأكولات والمعلبات والمشروبات والصور والمعلومات والحركات والسكنات التي تفرض عليهم. أما وطنهم فهو السيبرسبيس: أي الواقع الافتراضي الذي نشأ في رحاب الإنترنت وسائر وسائل الاتصال، ويحتوي الاقتصاد والسياسة والثقافة(26).
ودراسة كتاب: فخ العولمة تثبت النتائج الآتية:
1.
زيادة البطالة.
2.
انخفاض الأجور.
3.
تدهور مستوى المعيشة.
4.
تقلص الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة.
5.
إطلاق آليات السوق.
6.
ابتعاد الحكومات عن التدخل في النشاط الاقتصادي وقصر دورها في حراسة النظام.
7.
تفاقم التفاوت في توزيع الثروة بين المواطنين.
يقول رئيس وزراء ماليزيا: مهاتير محمد الذي عانت بلاده من آثار العولمة في السنوات الأخيرة: "إن العالم المعولم لن يكون أكثر عدلاً ومساواة، وإنما سيخضع للدول القوية المهيمنة. وكما أدى انهيار الحرب الباردة إلى موت وتدمير كثير من الناس، فإن العولمة يمكن أن تفعل الشيء نفسه، ربما أكثر من ذلك، في عالم معولم سيصبح بإمكان الدول الغنية المهيمنة فرض إرادتها على الباقين الذين لن تكون حالهم أفضل مما كانت عليه عندما كانوا مستعمرين من قبل أولئك الأغنياء"(27).
وقد تسأل قارئي الكريم عن مدى علمية وموضوعية الذين كتبوا في العولمة، سواء أكانوا أجانب أم عربًا؟
ويجيبنا على ذلك الدكتور نجيب غزاوي فيقول: "إن آراء دعاة العولمة فيها الكثير من التقريرية والتعميم والاستعجال والبعد عن الروح العلمية. أما آراء خصوم العولمة فيغلب عليها الطابع العلمي الموضوعي، فهي تستقرئ ملامح العولمة في مختلف مجالات الحياة وترصدها وتحللها إلى ما فيها من خطر على الهوية والكيان والسلاح والأمن العالميين(28).
تابع معنا بقية محاور المقال:
*
مقدمة
*
جذور العولمة
*
تفاصيل فلسفة العولمة ونتائجها
*
معارضة العولمة
*
الفكر الإسلامي في مواجهة العولمة
*
نحو ميثاق إسلامي لمواجهة العولمة
عودة
(1) المائدة: 48.
(2) البقرة: 256.
(3) آل عمران: 20.
(4) الممتحنة: 8.
(5) آل عمران: 85.
(6) يراجع في سبيل إثبات هذه الحقيقة كتاب ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)) لآدم متز، وكتاب الدعوة إلى الإسلام لأرنولد توينبي، وكتاب ((مذهبية الحضارة الإسلامية)) للمؤلف.
(7) راجع على سبيل المثال ((أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام)) للدكتور عبد الكريم زيدان، والإسلام والعلاقات الدولية لعلي علي منصور، والعلاقات الدولية في الإسلام للدكتور محمد عبد الله دراز.
(8) الحجرات: 13.
(9) مقاربتان عربيتان للعولمة، ياسر عبد الجواد، المستقبل العربي ص2 عدد 252 شباط 2000م.
(10) العولمة المزعومة - الواقع - الجذور - البدائل، روجيه جارودي ص17 تعريب الدكتور محمد السبيطلي، دار الشوكاني للنشر والتوزيع، صنعاء 1998م.
(11) فخ العولمة - هانس بيتر مارتين - هارالدشومان ص55-58، ت: عدنان عباس على مراجعة وتقديم أ.د. رمزي ركى، جمادى الآخرة 141 تشرين الأول 1998 عالم المعرفة ع238.
(12) العولمة بين النظم التكنولوجية الحديثة - نعيمة شومان، ص40، ط1، مؤسسة الرسالة ، بيروت 1418هـ - 1998م.
(13) ما العولمة - محمد جلال العظم - وحسن حنفي، ص20.
(14) المصدر نفسه: ص42.
(15) المصدر نفسه.
(16) العولمة والمستقبل - استراتيجية تفكير - سيار الجميل، ص32 - الأهلية للنشر والتوزيع، ط1، عمان.
(17) العولمة - الخطر على الهوية والكيان، د. نجيب غزاوي، مجلة المعرفة، سنة 38 عدد 432 تشرين الأول 1999م.
(18) إعلام العولمة وتأثيره في المستهلك، أحمد مصطفى عمر، المستقبل العربي، ص72، نقلاً عن مجلة (الإسلام وطن)، عدد 138، حزيران، 1998، ص12.
(19) قضايا في الفكر العربي المعاصر ، د. محمد عابد الجابري، ص147، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997م.
(20) العولمة بين النظم التكنولوجية الحديثة ، ص20، مرجع سابق.
(21) وهم الأستاذ يوسف كمال، أستاذ الاقتصاد الإسلامي غير المتفرغ بكلية التجارة جامعة عين شمس والدكتور عبد الرحمن يسري رئيس قسم الاقتصاد الإسلامي بجامعة الإسكندرية والدكتور عبد الحميد الغزالي أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة والدكتور رفعت العوضي أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر. أنظر: مجلة البيان في 15 ربيع الأول 1421 هـ - يونيو 2000م، ص60.
(22) حقوق الإنسان في ضوء التجليات السياسية للعولمة، محمد فهيم يوسف، مجلة البيان، السنة 13، عدد 132، شعبان 1419هـ ديسمبر 1999م.
(23) فخ العولمة، ص61، مرجع سابق.
(24) الصناعة العربية في مواجهة العولمة، د.زكي حنوش، ص13، عدد99، جمادى الأولى 1420هـ.
(25) ما العولمة، ص17، مرجع سابق.
(26) قضايا في الفكر العربي المعاصر، ص148، مرجع سابق.(9/360)
(27) من محاضرة ألقاها في كوالا لامبور، في 24 يوليو 1996، نقلاً عن ((الدين والعولمة)) للدكتورأحمد بن عثمان التويجري، ص19، من مجلة الإسلام اليوم، من عدد 16، 17، السنة 17، 1421هـ/2000م.
(28) العولمة - الخطر على الكيان والهوية، ص46، مرجع سابق.
==============(9/361)
(9/362)
جذور العولمة
يتساءل الباحثون: هل العولمة بنت هذا الزمان المتأخر أم لها جذور ضاربة في التاريخ الأوربي القديم؟ فيذهب البعض إلى أن العولمة ليست ظاهرة جديدة، بل بداياتها الأولى ترجع إلى القرن التاسع عشر، مع بدء الاستعمار الغربي لآسيا وأفريقيا والأمريكيتين، ثم اقترنت بتطور النظام التجاري الحديث في أوربا، الأمر الذي أدى إلى ولادة نظام عالمي متشابك ومعقد عرف بالعالمية ثم العولمة(1).
وآخرون يذهبون في هذا الإطار إلى أن مصطلح النظام العالمي كان مستخدمًا منذ مؤتمر فيينا عام 1815م الذي قاده مترنيخ رئيس وزراء النمسا، وجدده بسمارك الألماني في سبعينيات القرن التاسع عشر، ثم تجدد ثانية على يد كلمنصو الفرنسي في مؤتمر فرساي عام 1919م، ثم تجدد في يالطا على يد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية(2).
والحق أن الباحث الذي يدرس التاريخ منذ أقدم العصور التي ظهرت فيها الإمبراطوريات إلى اليوم، يلاحظ أن قوة عظمى تريد أن تنفرد دائمًا بحكم العالم، وإخضاعه إلى مبادئها، فاليونان والرومان والفرس والتتار والإمبراطوريات الحديثة، كلها كانت تتجه هذا الاتجاه في الهيمنة والسيطرة. وأوربا الحديثة ذات التاريخ الاستعماري هي النموذج الجلي. في محاولة السيطرة والهيمنة؛ لأن الحضارة الحديثة تعد نفسها حضارة عالمية مركزية؛ فهي عالمية في أفكارها ومنتجاتها، وهي مركزية لأنها تدور حول نفسها في قيمها المبعثرة. ولذلك فإنها حضارة لا تعترف بغيرها من الحضارات، ويصل الأمر بقادة هذه الحضارة إلى أن ينكروا أي حدث مهم وقع في العالم قبل عصر هذه الحضارة.
يقول الأستاذ مالك بن نبي: "هذه الأقوال هي التي خلقت ثقافة الإمبراطورية الغربية التي تقوم على أساس السيادة العنصرية والاستعمار"(3).
وأرى أن هيمنة العولمة على العالم اليوم بمواصفاتها الشاملة نتيجة لتطور الأوضاع السياسية والاقتصادية والعلمية، تمشي مع طبيعة الأشياء في تاريخ الغرب الحديث، وتمثل المرحلة الأخيرة في محاولة الحضارة الغربية للسيطرة على العالم ومحو الآخر.
ويعارض باحث آخر هذه النظرة ويذهب إلى أن العولمة ليست تطوراً عن الاستعمار الأوربي أو ظاهرة الثورة الصناعية، وإنما هي نظام كوني شامل جديد، مواصفاته لا تشبه مواصفات الإمبراطوريات السابقة(4).
وهناك باحثون يرجعون بدايات العولمة الحالية إلى السياسات التي ارتأت أمريكا أن تسيطر بها على العالم، غير أن الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفيتي، أجلّت تلك الهيمنة إلى سنة 1989م؛ حيث ضعف الاتحاد السوفيتي وظهرت فيها نتائج سياسة البيريسترويكا التي حمل لواءها السكرتير العام الأخير للحزب الشيوعي السوفيتي ميخائيل جورباتشوف.
ويرجع صاحبا كتاب فخ العولمة البداية الحقيقية للعولمة إلى عام 1995م؛ حيث وجّه الرئيس السوفيتي السابق جورباتشوف الدعوة إلى خمسمائة من قادة العالم في مجال السياسة والمال والاقتصاد في فندق فيرمونت المشهور في سان فرانسيسكو لكي يبنوا معالم الطريق إلى القرن الحادي والعشرين. وقد اشترك في هذا المؤتمر المغلق أقطاب العولمة في عالم الحاسوب والمال وكذلك كهنة الاقتصاد الكبار، وأساتذة الاقتصاد في جامعات ستانفورد وهارفرد وأكسفورد. واشترك فيها من السياسيين، الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، ووزير خارجيته شولتز، ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر ورئيس وزراء مقاطعة سكسونيا وغيرهم(5).
والمشروع السياسي للنظام العالمي الجديد الذي انتهى إلى العولمة هو تفتيت الوحدات والتكوينات السياسية إلى كانتونات ودويلات صغرى ضعيفة ومهزوزة، ومبتلاة بالكوارث والمجاعات والصراعات والأزمات(6)
تابع معنا بقية محاور المقال:
*
مقدمة
*
العالمية والعولمة: تعريف وتمييز
*
تفاصيل فلسفة العولمة ونتائجها
*
معارضة العولمة
*
الفكر الإسلامي في مواجهة العولمة
*
نحو ميثاق إسلامي لمواجهة العولمة
عودة
(1) إعلام العولمة، ص70، مرجع سابق.
(2) المصدر نفسه، ص72.
(3) وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ص27-28.
(4) العولمة واسترتيجية التفكير، ص34، مرجع سابق.
(5) فخ العولمة، ص22- 23، مرجع سابق.
(6) العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الأوسط - مفاهيم عصر قادم، سيار الجميل، ط1، بيروت، 1997، ص57.
===============(9/363)
(9/364)
تفاصيل فلسفة العولمة ونتائجها
1 - عولمة الاقتصاد:
يرى جمع من الباحثين أن عولمة الاقتصاد العالمي بدأت بقيادة أمريكا منذ عام 1944م، والتي انبثق منها الصندوق الدولي ليقوم حارساً على النظام النقدي الدولي والبنك الدولي ليعمل على تخطيط التدفقات المالية، طويلة المدى، وإنشاء منظمة التجارة العالمية التي أدت إلى اتفاقية الجات والتي حوّلت السياسة التجارية للدول المستقلة إلى شأن دولي وليس عملاً من أعمال السيادة الوطنية، من خلال النظام النقدي العالمي والتحكم في حركة رؤوس الأموال، ومن خلال الشركات المتعددة الجنسيات التي لأمريكا فيها نصيب الأسد.
ولقد أخذ البنك الدولي بتوجيه من الولايات المتحدة الأمريكية بإجبار كثير من الدول الإسلامية، باعتبارها إحدى مكونات مجموعة دول الجنوب، على إعادة هيكلة اقتصادياتها، وفقاً لهذه السياسة الإمبريالية، فاتجهت هذه الدول إلى الخارج لجذب رؤوس الأموال الأجنبية، وتبني مفهوم القطاع الخاص، من خلال استخدام آليات السوق الحرة، وما يتطلبه ذلك من التقليص الواضح للملكية العامة وزيادة الفوارق الاجتماعية، ورهن أجيال المستقبل بالديون الخارجية(1).
ولقد تقررت هذه السياسة الاقتصادية الأخيرة نهائياً عندما اجتمع طائفة من المُنظرين الأمريكيين وقدموا قضايا لتثبيت السيطرة الأمريكية على العالم، هذه القضايا هي:
1) استعمال السوق العالمية كأداة للإخلال بالتوازن في الدول القومية.
2) السوق مجال للمنافسة، أي فتح المجال لسيطرة الشركات المتعددة الجنسيات العملاقة، لغرض فرض نمط اقتصادي معين على البلدان الأخرى، دون أي اعتبار لمصالح الكادحين.
وتلك الشركات العملاقة تكونت بالدرجة الأولى من الشركات الأمريكية، ثم الأوربية ثم اليابانية متكاتفة متعاونة(2).
ويمكن هنا أن نعرض إحصائية أولية لقوة تلك الشركات المتعددة الجنسيات. فهناك 350 شركة كبرى لتلك الدول تستأثر بما نسبته 40% من التجارة الدولية. وقد بلغت الحصة المئوية لأكبر عشر شركات في قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية 86% من السوق العالمي، وبلغت هذه النسبة 85% من قطاع المبيدات وما يقرب من 70% من قطاع الحاسبات و60% في قطاع الأدوية البيطرية و35% من قطاع الأدوية الصيدلانية و34% في قطاع البذور التجارية(3).
ولا شك أن هذه الاحتكارات ستؤدي إلى إقامة الحواجز بين الشعوب، وسيصبح وسيلة للسيطرة والهيمنة على مصادرها.
وهذه الشركات العملاقة هي في حدود (15) شركة، هم السادة الفعليون الذين يطبقون نظرية: إنتاج أكثر ما يمكن من السلع والمصنوعات بأقل ما يمكن من العمال، من أجل تركيز الثروة العالمية في أيدي الرأسماليين الجشعين من أصحاب تلك الشركات الأمريكية وحلفائها(4).
ونتيجة لهذه السياسة، تنتهي العولمة الاقتصادية إلى فتح الأسواق العالمية أمام المنتجات الغربية بدون عائق أو ضوابط، وعليه فلن تستطيع المنتجات المحلية مواجهة المنتجات المستوردة ومنافستها، مما يعني تعثر العديد من الأنشطة الاقتصادية الوطنية. ويكون البديل المتاح هو إما الاقتصار على الاستيراد، وهذا البديل قصير الأمد؛ حيث ستنضب أرصدة السيولة المالية، ويزيد التضخم نتيجة للركود الاقتصادي، وبيع الأصول الاقتصادية إلى الشركات العالمية بحجة الإصلاح الاقتصادي. وهو المطلوب؛ لأنه سيؤدي إلى الاستسلام النهائي لسياسات الإمبريالية الأمريكية(5).
إن هذه الشركات تعد الأرض كلها سوقًا كبيرًا لها، بما فيها ومن فيها بحيث تتنافس في اقتسام هذه الأراضي دون أي اعتبار لقيم أو أخلاق(6).
وهي نادرًا ما تدخل في شكل استثمارات مباشرة طويلة الأمد، وإنما تدخل بما يعرف بالأموال الطائرة، في استثمارات قصيرة الأجل وسريعة الفوائد والتي تحقق لها عوائد هائلة، دون أن يكون لذلك مردود على التنمية المحلية. وإن حدث وقدمت استثمارات مباشرة، فإنها قبل ذلك تأخذ ما يكفيها من التسهيلات والضمانات السياسية والاقتصادية التي لا تحظى بها رؤوس الأموال المحلية، وهو ما يعرقل الاقتصاد المحلي، زيادة على ذلك، فإن معظم أنشطتها تقتصر على السلع الاستهلاكية ذات العائد الأسرع نتيجة للنمط الاستهلاكي السائد.
وخلاصة الأمر أن هذه الشركات تقوم بامتصاص الفوائض المالية لدى المستهلكين عن طريق الإغواء والإغراء الاستهلاكي(7).
ومن هنا فإن نسبة كبيرة من الفساد المنتشر في دول العالم الثالث هي من صنع الشركات المتعددة الجنسيات التي تتركز مقارها في الدول الصناعية، وتعمل على تقديم الرشاوى الكبيرة لمسؤولي الدول المختلفة من أجل الفوز بالصفات دائماً(8).
وبهذا يتحول العالم كله إلى سوق استهلاكية لمنتجات الدول الصناعية وعلى رأسها أمريكا، فهي تمثل عصا استعمارية بيد حكومة عالمية خفية لها مؤسساتها: كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، واتفاقية التجارة الحرة(9).
وعلى ذلك، فإن النتيجة المباشرة لفخ العولمة هي اللامساواة، وهذا يعني أن البؤس والشقاء وغياب الديمقراطية وضياع كل حلم بالرفاه ستكون بمثابة علامة فارقة لنظام العولمة في البلاد التي وقعت في فخها(10).(9/365)
والكارثة التي يمكن أن تحدث لأي بلد تغزوه العولمة، انتشار الفقر وفقدان العمل البشري لقيمته، وتوجيه هدام يقضي على فرص العمل، فتنتشر البطالة، وينقسم المجتمع إلى مجتمع أغنياء طفيليين خدام للشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، وأكثرية مسحوقة سرقت خيراتها كي تدخل في جيوب رأسمالي العولمة المتوحشين الذين يملك (358) منهم في الغرب ما يملكه (2.5) مليار من سكان المعمورة؛ لأن النظام المعولم سيخفض نسبة الحاجة إلى العمال إلى 20% أي سيظل 80% منهم عاطلون. وهذا هو الذي يسميه دعاة العولمة بمجتمع الخمس(11).
والنتيجة التي يستخلصها المختصون هي: إذا كان النمو الاقتصادي في الماضي يخلق مناصب الشغل، فإن النمو الاقتصادي في إطار العولمة يؤدي إلى تخفيض عدد مناصب الشغل، لأن بعض القطاعات في مجال الإلكترونيات والإعلاميات والاتصال وهي من القطاعات الأكثر رواجًا في العالم لا تحتاج إلاّ إلى عدد قليل من العمال. فالتقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمة إلى ارتفاع البطالة، وهو ما سيؤدي حتمًا إلى أزمات سياسية(12).
ومحصلة القول: إن العولمة الموجهة توجيهًا مباشرًا من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من اليهود والأوربيين، تريد عن طريق المخلب الاقتصادي أن تتمكن من الشعوب عن طريق استغلال حاجياتها الاستهلاكية وقتل المبادرات الوطنية، وتوجيه ثرواتها وهيكلة اقتصادها بتدخل مباشر من المؤسسات المالية والتجارية الخاضعة لها، والتي تغرقها بالديون وفوائد الديون التي لا تتخلص منها ومن ويلاتها، يساعد في ذلك مخططان آخران يمشيان جنبًا إلى جنب بجانب المخطط الاقتصادي، وهما مخطط إخضاع الدولة الوطنية واستلاب الفكر والثقافة عن طريق الفضائيات الكونية التي تبثها مئات الأقمار الصناعية.
2 - العولمة والدولة الوطنية:
يقول الفيلسوف الفرنسي جارودي: "والتيار المهيمن في صفوف الاقتصاديين الرسميين والسياسيين هو الدفاع عن الليبرالية بدون حدود، والداعي إلى اختفاء الدولة أمام السلطة المطلقة للسوق، وحتى لا يبقى أي عائق أمام الاحتلال الاقتصادي"(13). لأن العولمة تحتاج إلى السيطرة على الدولة الوطنية وإخضاع قوانينها لحركتها وحريتها في العمل. وبذلك تؤدي العولمة المعاصرة إلى حرمان الدول من حق السيادة المطلقة وصولاً إلى مفهوم جديد للسيادة يركز على العالم أجمع بصفة الوحدة السياسية التي تحل محل الدولة التقليدية المعتادة(14). ومن هنا فإن سيادة الدولة بمعناها الأساسي يتم إعادة تعريفها الآن في الأقل بوساطة قوى العولمة والتعاون الدولي.
والسيادة في هذا التعريف هي الإدارة الدولية التي ترسم خريطة جديدة للعالم تتوافق مع التصورات العالمية، وهذه الخريطة الجديدة، لن يكون فيها حدود خاصة بكل دولة، بل سيصبح العالم كتلة واحدة متعاونة متكافئة متراضية مسالمة آمنة! كما يقولون زورًا وبهتانًا تخالف الواقع الذي تسيطر عليه العولمة ومخالبها(15).
وقد يسأل باحث فيقول: وهل تبقى الدولة الوطنية في ظل العولمة؟ نقول: نعم تبقى الدولة في ظل العولمة، كأنها إدارة عامة جديدة، أي أنها تتحول إلى حكومة أعمال. وهو ما يترتب عليه وهن الدولة وشرعيتها. ومبعث ذلك يتمثل في أن هذه الدولة تسعى لنيل ثقة الأسواق العالمية على حساب مهامها الأخرى(16).
ولكن ما مهامها الأخرى؟!.
يجيبنا صاحبا كتاب فخ العولمة فيقولان: "إنهم يهددون بهروب رؤوس أموالهم: أي الشركات المتعددة الجنسيات، ما لم تستجب الحكومات لمطالبهم، وهي مطالب عديدة، مثل منحهم تنازلات ضريبية سخية، وتقديم مشروعات البنية التحتية لهم مجانًا، وإلغاء وتعديل التشريعات التي كانت تحقق بعض المكاسب للعمل والطبقة الوسطى، مثل: قوانين الحد الأدنى للأجور، ومشروعات الضمان الاجتماعي والصحي وإعانات البطالة، وبما يقلل مساهماتهم المالية في هذه الأمور وخصخصة المشروعات، وتحويل كثير من الخدمات العامة التي كانت تقوم بها الحكومات، لكي يضطلع بها القطاع الخاص، وإضفاء الطابع التجاري عليها(17).
ومجمل القول: إنه في ظل العولمة، تتحول الشركات المتعددة الجنسيات إلى دول حقيقية تقوم بتفكيك الدول وإعادة بنائها من جديد، وجعلها تتنازل تحت ضربات الرأسمالية الاحتكارية عن حقوقها وحدودها الجغرافية وواجباتها تجاه مجتمعاتها، كي تقيم دولة عالمية، قادتها ورؤساؤها رؤوس الاحتكارات العالمية الجشعة من اليهود وغيرهم من الأمريكان وخلفائهم الخاضعين لتوجيهاتهم، كي تمتص دماء الكادحين في المجتمعات الإنسانية، وتقضي على شعورهم الوطني الذي هو شعور بدائي عند الاقتصادي المعولم الشهير ليندبيرج، ولكل هذا اختار عبارة "نهاية الدولة القومية" عنوانًا لكتابه الذي ألفه عام 1995م(18).
3 - عولمة الفضاء الكوني:(9/366)
ويصح أن نسميها إمبراطورية الفضاء الكوني؛ لأن مجالها الكرة الأرضية كلها، وما حولها كما قيل إلى قرية واحدة عن طريق مئات الأقمار الصناعية التي تجوب الفضاء الأرضي، وترسل البرامج المنوعة في كل يوم إلى كل عائلة من عوائل بلدان العالم، لتستقبلها أجهزة التلفاز والإنترنت، لتشكل في النهاية سلطة تكنولوجية ذات منظومات معقدة لا تعترف بالحدود الوطنية أو الفضائية أو البحرية، تقودها شبكات اتصالية معلوماتية من خلال سياسة العولمة واقتصادها وثقافتها وأفكارها وأنظمتها الاجتماعية، كي تقيم عالمًا جديدًا تتسلل دون استئذان إلى عقول وقلوب ونفوس البشر جميعًا دون استثناء من دون رقيب من دولة أو أمة أو دين أو وطن.
وهذه الشبكات يعود معظمها إلى قادة العولمة من الرأسماليين الاحتكاريين الأمريكيين وغيرهم ممن يدورون حولهم، لكي يمحوا ذاكرة الشعوب ويفرغوها من انتماءاتهم وأصالتهم وثقافتهم وأنظمتهم الاجتماعية، كي يقعوا صرعى أمام مغريات الحياة الرأسمالية الأمريكية وأنماطها الاجتماعية والأخلاقية في التفكير واللبس والأكل والترفيه ودغدغة الأحلام والقيم والوعي، بحيث يسهل تكريس نوع معين من السلع والخدمات والأفكار، والذي يخضع إلى النظام المعولم الذي يُراد له أن يسود العالم أجمع(19).
ولأهمية هذا المجال الرهيب في عالم العولمة تم عقد أربع مؤتمرات دولية لبحث قضاياه (جنيف 1992، بوينس أيرس 1994، بروكسل 1995، جوهانسبرج 1996)، نجح خلالها الأمريكيون من تسويق فكرتهم حول مجتمع المعلومات العالمي والضغط لفتح حدود أكبر عدد ممكن من البلدان أمام تدفق المعلومات.
يقول العالم الأمريكي المعروف ناعوم تشومسكي: "إن العولمة الثقافية ليست سوى نقلة نوعية في تاريخ الإعلام، تعزز سيطرة المركز الأمريكي على الأطراف، أي على العالم كله"(20). إن هيمنة أمريكا ناتجة من أن 65% من مجمل المواد والمنتجات الإعلامية والإعلانية والثقافية والترفيهية تحت سيطرتها، ومن إنتاجها. هذا الأمر الذي أدى إلى توجس بعض الدول الغربية وخوفها على أجيالها.
وختامًا، فإن المجال الإعلامي أكثر أوجه العولمة سلبية؛ إذ يسيطر أصحاب المصالح التجارية والاقتصادية على الإعلام، عبر التوظيف المالي والسيطرة الإدارية والفنية، ويستخدمونه في تشويه معرفتنا بالعالم ووعينا بأنفسنا ومعرفة الآخرين ووعيهم بأنفسهم وقضاياهم(21).
وأخيرًا، فإن عولمة الفضاء الكوني بكل أبعاده، من أخطر القضايا التي تمس العالمين العربي والإسلامي معًا، بسبب سيطرة اليهود على أجهزة الإعلام والاتصالات، وما يرافق ذلك من تشويه الحقائق وطمس معالم الحضارة العربية الإسلامية، وصورة العربي المعاصر وتراثه لدى الرأي العام العالمي(22).
4 - العولمة الاجتماعية:
لما كان المبدأ الذي ينطلق منه عالم العولمة من جعل العالم قرية كونية واحدة تخضع للتوجيهات الأمريكية اليهودية، إذن فالوصول إلى مجتمع واحد، ذي ملامح واحدة، وأنظمة اجتماعية واحدة وأخلاق وعوائد واحدة سيكون من أولويات العولمة؛ لأن صياغة المجتمع صياغة واحدة، مما يسهل مهمة الأجنحة الهدامة الأخرى للعولمة في إفساد المجتمع وتفريغه من القيم الأصيلة، والأخلاق الحميدة النابعة من الأديان السماوية، والفطرة الإنسانية العقلية، حتى لا تقوم له قائمة من الرجولة والشهامة والكرامة أمام مخطط العولمة الرأسمالية الأمريكية اليهودية الجشعة.
لقد دفعت العولمة الأمم المتحدة التي تسيطر عليها وعلى مقرراتها، ولا سيما في عقد التسعينيات إلى عقد مؤتمرات بعناوين متعددة لتغيير النظام العام في المجتمعات، ولا سيما نظام الأسرة.
1 - في عام 1950 حاولت الأمم المتحدة عقد الدورة الأولى لمؤتمراتها حول الأسرة والمرأة بعنوان: تنظيم الأسرة في القاهرة، لكن الحكومة المصرية يومئذ لم توافق على ذلك.
2 - وفي عام 1975 عقدت الأمم المتحدة مؤتمر المكسيك دعت فيه إلى جريمة الإجهاض للمرأة والحرية الجنسية للمراهقين والمراهقات وتنظيم الأسرة لضبط السكان في العالم الثالث، وأخفق هذا المؤتمر أيضًا.
3 - عُقد في نيروبي عام 1985م مؤتمر بعنوان إستراتيجيات التطلع إلى الأمام من أجل تقديم المرأة.
4 - مؤتمر السكان والتنمية الذي عُقد في القاهرة عام 1994م، ودعا فيه إلى قضايا تغيير حياة المرأة والأسرة من الناحية الدينية.
5 - مؤتمر بكين عام 1995 تحت عنوان المساواة والتنمية والتنظيم.
6 - مؤتمر السكان والتنمية والتنظيم في إسطنبول عام 1996م.
وتتضمن القرارات المقترحة أمورًا، مثل: فرض حق الإنسان في تغيير هويته الجنسية وأدواره المترتبة عليها، ومن ثم الاعتراف رسميًا بالشواذ والمخنثين، والمطالبة بإدراج حقوقهم الانحرافية ضمن حقوق الإنسان، ومنها حقهم في الزواج وتكوين الأسر والحصول على أطفال بالتبني أو تأجير البطون، وتطالب وثيقة القرارات بحق الفتاة والمرأة في التمتع بحرية جنسية آمنة مع من تشاء. وتطالب بحق المراهقات الحوامل في مواصلة التعليم دون إدانة لهذا الحمل السفاح.(9/367)
وقد أفصح جارودي عن نوايا مقررات مؤتمر القاهرة في الرسالة التي وجهها للمؤتمر ونشرتها صحيفة الشعب في القاهرة بعددها 16/9/1994م(23).
والغريب أن رئيسة جمعية الأمهات الصغيرات في أمريكا تحذر المسلمين في مؤتمر القاهرة فتقول: "لقد دمّروا المجتمع الأمريكي وجاؤوا الآن بأفكارهم للمجتمعات الإسلامية حتى يدمروها ويدمروا المرأة المسلمة ودورها فيها"(24).
وقد عُقد في نيويورك مؤتمر المرأة لعام 2000م، وقدمت فيه الدول المعولمة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية المقررات السابقة وطلبت فرضها على العالم. والدول التي تُوقِّع على هذه المقررات ستكون ملزمة بتغيير قوانينها بما ينطبق على تلك القرارات الإباحية التي تؤدي إلى هدم الأسرة وإطلاق الحرية الجنسية وإقرار الشذوذ وشل سلطة الأبوين وحرية الإجهاض وإلغاء نظام الميراث(25).
وفي سبيل دفع تلك المقررات إلى الأمام دفعت حكومات العولمة الدوائر المالية العالمية المؤيدة إلى الدعم المالي من أجل الإسراع بتنفيذ تلك القرارات الإباحية والمحطمة للنظام الديني في رعاية الأسرة وتنشئتها(26).
ولتنفيذ مخططاتهم في هدم كيان المجتمع الإسلامي من خلال المرأة لأهمية دورها في بناء كيان الأسرة والمجتمع ساروا في ثلاثة مسارات في آن واحد، وهي:
1 - التمويل الأجنبي الأمريكي للجمعيات الأهلية النسائية، غير الإسلامية، من أجل تنفيذ مخططات إخراج المرأة المسلمة من الأخلاق الإسلامية.
2 - الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية حقوق الإنسان وإزالة آثار كافة أشكال التمييز ضد المرأة (كذا بالنص)، وإلزام الدول الإسلامية بالتوقيع عليها مقابل إعفائها من بعض الديون التي عليها.
وإذا قرأنا البحوث التي تُلَقى في المؤتمرات التي تُعقَد في بعض البلاد الإسلامية، وجدناها جميعها تريد إخراج المرأة المسلمة من النظام الاجتماعي الإسلامي الذي ينظر إلى المرأة من خلال فطرتها واستعداداتها وكرامتها.
وهنالك محاولات لتضليل الرأي العام وإيهام المرأة المسلمة أن القهر كله واقع عليها، وأن هذه الاتفاقية سترفع عنها الجور والظلم، وأن الأمم المتحدة ستحررها من سطوة مجتمعها مع أنها تريد هلاكها وهلاك مجتمعها(27).
3 - مؤتمرات المرأة التي تحدثنا عنها قبل قليل والتي يقصد بها هدم المجتمعات البشرية، ولا سيما المجتمعات الإسلامية.
وملخص القول: إن العولمة تعني نهاية التاريخ، وهو مفهوم يعني سيطرة النموذج الرأسمالي على العالم بعد انتهاء الشيوعية. كما تعني نهاية الجغرافية، وهي تعني اختراق الشركات المتعددة الجنسيات لحدود الدول. كما تعني نهاية الدول عن طريق التحرك تحت مظلة الشرعية الدولية للتدخل المباشر في شؤونها. وتعني أيضًا نهاية الهوية، أي القضاء على الخصوصية. كما أنها أخيرًا تعني نهاية الأيديولوجيا والتي تعني بدورها القضاء على الدين والأخلاق والقيم(28).
تابع معنا بقية محاور المقال:
*
مقدمة
*
العالمية والعولمة: تعريف وتمييز
*
جذور العولمة
*
تفاصيل فلسفة العولمة ونتائجها
*
معارضة العولمة
*
الفكر الإسلامي في مواجهة العولمة
*
نحو ميثاق إسلامي لمواجهة العولمة
عودة
(1) العولمة - السوق العربية المشتركة، سيف بن علي الجروان، المستقبل العربي، ص142-143، السنة 22 عدد 249، تشرين الثاني 1999.
(2) العولمة، نجيب غزاوي، مرجع سابق، ص43.
(3) نهاية الجغرافية، البيان، ص102، مرجع سابق.
(4) قضايا الفكر العربي، ص142، مرجع سابق.
(5) العولمة ـ حلقة في تطور آليات السيطرة، خالد أبو الفتوح، البيان السنة 13، عدد 136 في ذي الحجة 1419هـ، أبريل، نيسان 1999م.
(6) نهاية الجغرافية، ص103، مرجع سابق.
(7) المصدر نفسه. أنظر أيضاً: طوفان العولمة واقتصادياتنا المسلمة، البيان، عدد 151، ص72، والعولمة في النظم التكنولوجية الحديثة، مرجع سابق.
(8) العولمة بين منظورين، د. محمد امخرون، ص124، البيان، السنة 14، العدد 145، رمضان 1420، كانون 1/1999م.
(9) المصدر نفسه، ص122.
(10) تأملات في عصر العولمة، تركي علي الربيعو- نزوى، ص73، العدد 22، أبريل 2000م.
(11) فخ العولمة، ص28، مرجع سابق.
(12) قضايا في الفكر المعاصر، ص143، مرجع سابق.
(13) العولمة والمستقبل، ص46، مرجع سابق.
(14) السيادة في عصر العولمة، جريدة الشرق الأوسط، تركي محمد، عدد 7439 في 25/12/1419هـ.
(15) سيادة الدولة أم سيادة العولمة، البيان، ص94، مرجع سابق.
(16) نهاية الجغرافية، ص95، مرجع سابق، والعولمة - مشكلات الحاضر وتحديات المستقبل، مهيوب محمد، المستقبل العربي، ص65، عدد 256 في 6/2000م.
(17) فخ العولمة، المقدمة، ص10، 15، 16.
(18) العولمة - المفهوم - المظاهر، المسببات، أحمد عبد الغفور، مجلة العلوم الاجتماعية، مجلد 26، عدد1.
(19) إعلام العولمة، المستقبل العربي، ص 76، مرجع سابق، ومستقبل العولمة، 17، مرجع سابق.
(20) العولمة بين منظورين، البيان، ص125، مرجع سابق.
(21) العولمة والخطر على الهوية والكيان، مجلة المعرفة، ص43، مرجع سابق.
(22) المصدر نفسه.(9/368)
(23) أنظر: وثيقة مؤتمر السكان والتنمية، رؤية شرعية، د. عبد الحسين سلمان جاد، كتاب الأمة 53، ص55-70.
(24) سقوط الحضارة الغربية، رؤية من الداخل، أحمد منصور، دار القلم، دمشق، ط1، في 1418هـ/ 1998م.
(25) وثيقة برامج عمل المؤتمر الأول للسكان والتنمية بمصر، من 5-15/ 1994، الفصل السابع، الفقرات 1، 2، 3، 4، 5، والعولمة بين منظورين، ص127، والمرأة المسلمة ومواجهة تحديات العولمة، سهيلة زين العابدين حماد، المنهل، ص84، شوال، ذو القعدة، 1420 يناير، فبراير 2000م، والمجتمع الكويتية، عدد 1404 و1406، يونيو 2000م.
(26) المجتمع الكويتية، عدد 1406، في 25 ربيع الأول، 1421هـ.
(27) أنظر تفاصيل هذه المؤامرة العالمية في المرأة المسلمة ومواجهة تحديات العولمة، المنهل، ص84-87، مرجع سابق.
(28) طوفان العولمة، ص64، مرجع سابق.
===============(9/369)
(9/370)
معارضة العولمة
آلاف المتظاهرين الأوروبيين ضد العولمة
لن تمر العولمة في ترتيباتها الاقتصادية وسيطرتها الثقافية على أرض موطدة، وإنما ستصطدم بفطرة تكوين المجتمع الإنساني من لغات متعددة وأديان متباينة وثقافات متنوعة. وفي هذا الاختلاف قال الله تعالى في كتابه الكريم:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (1) وقال في آية أخرى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (2).
واستقراء التاريخ الإنساني يدل دلالة قاطعة على أن محاولة إخضاع البشرية لطريق واحد وحضارة واحدة أمر مستحيل في حدّ ذاته؛ لأن تلك المحاولة ستفجر المجتمعات الإنسانية من الداخل، ويبدأ الصراع ثم الحرب في ظل القانون الإلهي: { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (3).
وعلى الرغم من أن العولمة ظهرت منذ عهد قريب، فإن طلائع المعارضة لها بدأت تظهر في أنحاء العالم، وإن لم تكن اليوم قويةً كاسحةً؛ لأن القضية لا تزال في بدايتها.
إن طغيان الإعلام والثقافة الأمريكيتين في القنوات الفضائية دفع وزير العدل الفرنسي جاك كوبون أن يقول: "إن الإنترنت بالوضع الحالي شكل جديد من أشكال الاستعمار، وإذا لم نتحرك فأسلوب حياتنا في خطر، وهناك إجماع فرنسي على اتخاذ كل الإجراءات الكفيلة لحماية اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية من التأثير الأمريكي"(4).
بل إن الرئيس الفرنسي جاك شيراك عارض قيام مطعم ماكدونالدز الذي يقدم الوجبات الأمريكية، مسوغًا ذلك أن يبقى برج أيفل منفردًا بنمط العيش الفرنسي(5).
كما شن وزير الثقافة الفرنسي هجومًا قويًا على أمريكا في اجتماع اليونسكو بالمكسيك، وقال: "إني أستغرب أن تكون الدول التي علّمت الشعوب قدرًا كبيرًا من الحرية، ودعت إلى الثورة على الطغيان، هي التي تحاول أن تفرض ثقافة شمولية وحيدة على العالم أجمع. ثم قال: إن هذا شكل من أشكال الإمبريالية المالية والفكرية، لا يحتل الأراضي، ولكن يصادر الضمائر ومناهج التفكير واختلاف أنماط العيش"(6). وتبعًا لهذه السياسة قررت فرنسا أن تكون نسبة الأفلام الفرنسية المعروضة باللغة الفرنسية من التلفزيون 60%(7).
وفي المقاطعات الكندية بلغت الهيمنة الأمريكية في مجال تدفق البرامج الإعلامية والتلفاز إلى حد دعا جمعًا من الخبراء إلى التنبيه إلى أن الأطفال الكنديين، أصبحوا لا يدركون أنهم كنديون لكثرة ما يشاهدون من برامج أمريكية(8).
كما أن النرويج عارضت اتفاقية ماستريخت؛ لأنها ترفض الاندماج بالهوية الأوربية، وتحفظت سنغافورة على شبكة الإنترنت خشية على القيم الكونفوشيوسية(9).
ويقول جون جراي في كتابه: الفجر الكاذب - أوهام الرأسمالية العالمية: "إن الظروف الحالية في العالم تنذر بكارثة محققة، لأن فرض السوق الحرة الأنجلوسكسونية على العالم يمكن أن يؤدي إلى انهيار شبيه بانهيار الشيوعية العالمية، وأن الاتجاه نحو فرض الأسواق الحرة سيفجر الحروب ويعمق الصراعات العرقية ويفقر الملايين. وقد تحول بالفعل الملايين من الفلاحين الصينيين إلى لاجئين. كما سيؤدي إلى استبعاد عشرات الملايين من العمل والمشاركة في المجتمع حتى في الدول المتقدمة. وقد تفاقمت الأوضاع في بعض الدول الشيوعية السابقة لتصل إلى الفوضى العامة وشيوع الجريمة المنظمة، كما أدت إلى تزايد تدمير البيئة"(10).
وكتاب فخ العولمة السابق ذكره صرخة ألمانية ضد العولمة.
وفي سياتل حيث عُقد المؤتمر الوزاري الثالث لمنظمة التجارة العالمية، ثار المؤتمرون ضد انفراد أمريكا بزعامة العالم، حيث أصرت الدول النامية ودول الاتحاد الأوربي واليابان وكوريا الجنوبية على رفض الخضوع لقاعدة الرضا الأمريكي باعتبارها القاعدة الحاكمة - من الناحية الفعلية - لصدور القرارات في نطاق منظمة التجارة العالمية(11). والمظاهرات التي جرت في أثناء المؤتمر والتي هزت العالم، كان بين شعاراتها:
1 - العالم لن يتحول إلى سلعة يتداولها الأقوياء.
2 - الناس والشعوب قبل الأرباح.
3 - لا نريد تجارة حرة بل نريد تجارة عادلة(12).
وجُل المفكرين المختصين في مجالات الاقتصاد والاجتماع يعارضون بشدة طغيان العولمة، وقد لخصت الباحثة "ثناء عبد الله" وجوه هذه المعارضة بالنقاط الآتية:
1- اعتبار ما تملكه منظمة التجارة العالمية من سلطة تفوق سلطة الدولة متناقضًا مع متطلبات السيادة الوطنية. وهو ما يؤثر في قدرة الدول على سن التشريعات والقوانين والقواعد التي تلائم خططها وتوجيهاتها.
2- اتهام الشركات المتعددة الجنسيات باستغلال العمالة في الدول النامية عن طريق تشغيلهم بأجور زهيدة.
3- معارضة فتح الأسواق الأمريكية لما يمكن أن يترتب عليه من دخول سلع دون المواصفات البيئية والصحية السليمة.
4- معارضة تشغيل الأطفال.
5- اتهمت الجماعات الداعية للحفاظ على البيئة منظمة التجارة العالمية بأنها ستدمر البيئة(13).(9/371)
وهنالك حقيقة لا بد من ذكرها وهي أن الرأسمالية التي تعتمد عليها العولمة ليست منهجًا واحدًا في كل بلد، فالرأسمالية الأمريكية والبريطانية لا ترى أي دور للدولة، بينما الرأسمالية اليابانية والآسيوية تلعب السياسة الصناعية وتوجهات الدولة دوراً كبيراً فيها، أما الرأسمالية الفرنسية فتخطيط الدولة يضع مؤشرات للقطاع الخاص، بل تدخل بنفسها منتجاً. أما رأسمالية الدول الاشتراكية السابقة، فما زالت في طور التحول. وأما الاشتراكية الديمقراطية فقد تجمع قواها وتأتي بأفكار جديدة لمحاربة الرأسمالية أو لتقليل شرورها أو مساوئها(14). ولا شك في أن السبب في ذلك أن هذه الدكتاتورية الدولية تتناقض ومصالح الأغلبية العظمى من دول العالم، بما في ذلك الدول الكبيرة والمتوسطة، وهو ما يفرض صياغة الإجراءات المضادة للخروج من هذه الدكتاتورية(15).
ومجمل القول، فإن مقاومة العولمة بالصيغة الأمريكية الرأسمالية الصهيونية، ستقاومها البشرية شيئاً فشيئاً في ضوء قانون السيرورة الكونية: قانون التحدي والاستجابة. فروسيا ولغتها ودينها وعنجهيتها القيصرية وذكرياتها السوفيتية وقدراتها التدميرية، والصين وأعماقها الكونفوشيوسية، والهند وخلفياتها البوذية، واليابان ومصالحها الاقتصادية الهائلة وذكرياتها مع هيروشيما وناجازاكي وألمانيا وفلسفتها العرقية التي ما زالت كامنة في اللاشعور، كل هذه المقدمات ستحول دون وصول العولمة إلى أهدافها النهائية. وهكذا شعوب العالم التي تنتمي إلى تواريخ وحضارات لا يمكن أن تتحول إلى أموات بين يدي غاسل العولمة الأمريكية الصهيونية. فإذا كان هذا وضع العالم وشعوبه، فيا ترى.. ما هو موقفنا نحن في العالم الإسلامي حيال العولمة؟
هل نرفض العولمة؟
العولمة ليست فلسفة محدودة أو ثقافة ضيقة أو مذهباً اقتصادياً محصوراً، أو قناة تلفازية ذات اتجاه واحد. العولمة - من خلال ما شرحنا - ظاهرة عالمية كونية شاملة، تغمر كرتنا الأرضية، وهي أكبر حقيقة واقعية في عصرنا الراهن في ظل ثورة أحالت الكرة الأرضية إلى كرة من المعلومات تدور في الاتجاهات كلها(16). إن العولمة غزت الدنيا كلها، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والتعليم والثقافة والإعلام والآلات العسكرية. وهنالك ما يزيد على خمسمائة قمر صناعي تدور حول الأرض مرسلة إشارات لاسلكية تكرس العولمة، فبوساطة الصور المتحركة على شاشات أكثر من مليار جهاز تلفزيوني، تتشابه الصور وتتوحد الأفكار والأحلام والأماني والأفعال، بحيث قيل عن هذا الإعلام بأنه إعلام بلا وطن في فضاء بلا حدود(17).
إذن فلا يمكن أن يدَّعي عاقل أننا نستطيع أن نضع الأمة الإسلامية في علبة ونغلق عليها الباب(18). وحتى إذا استطعنا فإن هذا ليس في صالحنا، ولا صالح أجيالنا القادمة، ولا في صالح بناء حضارتنا الإسلامية الجديدة، ولا في صالح البشرية التائهة التي تنتظر منقذاً يقدم إليها القيم الفاضلة، والأخلاق النبيلة، والأخوة الإنسانية الحقيقية، التي تربط بين البشر جميعاً.
ولقد صدق أحد الباحثين من المسلمين عندما قال: "والخطر لا يكمن في العولمة ذاتها بقدر ما يكمن في سلبية المتلقي، وفي التوظيف الأيديولوجي للعولمة، ونجاح العولمة في الهيمنة والاختراق والتأثير لا يتعلق بإمكانيات وقدرات الدول المتقدمة الفاعلة المصدرة للعولمة بقدر ما يتعلق بقوة وضعف الدول الأخرى المتلقية"(19).
نعم.. فالأمم الضعيفة في مواجهة العولمة، هي التي تخسر كل شيء. وأما الأمم القوية التي تواجه العولمة وتندمج بها وتتفاعل معها، فهي التي تربح معركة المنافسة الحضارية مع العولمة.
إن التعامل مع دنيا العولمة لا يعني أن العولمة قدر مفروض يكسب الرهان دائماً، ولا يعني أنه استسلام ذليل، وإنما التعامل القوي يعني التعايش معها، وتوظيف بُعدها التكنولوجي والحضاري والاستفادة منه لمواجهة الهيمنة باسم العولمة.
ولا بد لنا أن نقرر هنا أنه ليست هنالك حضارة أو ثقافة أو قيم أو دين على وجه الأرض ستتأثر بالعولمة، كما سيتأثر بها الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية والعالم الإسلامي. وإن جاء باحث ودرس العولمة بأبعادها كلها دراسة متفحصة وادَّعى بأن تدمير المسلمين جميعاً هو المقصود الأهم والشاغل الأكبر للعولمة الأمريكية الرأسمالية الصهيونية، ما بالغ في رأي الكثيرين في ذلك(20).
ويتحدث المفكر الفرنسي المسلم رجاء جارودي عن هذه العولمة الأمريكية الصهيونية فيقول: "هذه الوحدة التي أسسها الحكام الأمريكان، واللوبي الصهيوني "الآيباك" AIPAC، وساسة دولة إسرائيل، تقوم اليوم - أكثر من أي وقت مضى - على وحدة الهدف الذي هو محاربة الإسلام وآسيا اللذين يعدان أهم عقبتين في وجه الهيمنة العالمية الأمريكية والصهيونية"(21).
ويقول باحث آخر: "ومن المؤكد أن المستهدف بهذا الغزو الثقافي هم المسلمون. وذلك لعاملين:
أ - ما تملكه بلادهم من مواد أولية هائلة يأتي على رأسها النفط والغاز وثروات طبيعية أخرى.(9/372)
ب - ما ثبت لهم عبر مراكزهم وبحوثهم وجامعاتهم ومستشرقيهم إن هذه الأمة مستعصية على الهزيمة، إذا حافظت على هويتها الإسلامية، ومن ثم فالطريق الوحيد لإخضاعها يتمثل في القضاء على تفرد شخصيتها وإلغاء دينها الذي يبعث فيها الثورة والرفض لكل أشكال الاحتلال والسيطرة(22).
وأزيد أنا على هذين العاملين مسألتين أخريين:
جـ - الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي، وهو من أهم أهداف العولمة في بلاد العرب والمسلمين.
د - الحضارة الإسلامية بعقيدتها وشريعتها ونظام أخلاقها وإنجازاتها التاريخية هي النقيض الوحيد الشامل لفلسفة العولمة ودينها وأنظمتها وقيمها الهابطة في هذه الدنيا التي نعيش فيها.
ماذا يمكن أن تفعل العولمة بالمسلمين؟
أولاً: العولمة تستند استناداً مباشراً إلى الحضارة الغربية المعاصرة التي توجهها المبادئ اللادينية الوضعية التي لا تؤمن بوجود الله أو لا تسأل عنه أساساً؛ ولا تعترف بالعقائد الدينية الأخرى من الإيمان بالنبوات العامة وبنبوة النبي محمد ، ولا باليوم الآخر ولا بالغيبيات الثابتة في النصوص القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله . ومن هنا تنشر الحياة المادية والإلحادية عبر شبكاتها الكونية بأساليب في غاية الإغراء والتأثير في النفس الإنسانية، فتؤثر في مئات الملايين من المسلمين مباشرة أو بصورة غير مباشرة، فتؤدي إلى الإنكار والتشكيك أو اللامبالاة بالعقيدة، أي أنها تفقد الإنسان المسلم كيانه عقلاً وقلباً وروحاً ونفساً وتفرغه من أصول الإيمان.
ثانياً: إن الأجهزة العولمية الكونية التي تلف حول العالم في كل لحظة، وتتسلل إلى البيوت على وجه الأرض كلها دون استئذان وتلعب بكيان الأفراد جميعاً، تثير في أنشطتها الشهوات الجنسية، وتزين عبادة الجسد وتشيع أنواع الشذوذ، وتحطم قيم الفطرة الإنسانية الرفيعة، فتتناقض بذلك مع النظام الإسلامي الاجتماعي والأخلاقي الذي أراد الإسلام في ظله أن يبني أُسراً مؤمنة عفيفة فاضلة ملتزمة.
ثالثاً: إن هذه الهجمة الإلحادية الإباحية الشرسة التي تلعب بالإنسانية الرفيعة وتحط بها من عليائها، وتقود أبناءها إلى الحياة البوهيمية اللامسؤولة، وتبذر في نفوسهم اليأس والحيرة، وتحدث فيها خواءً روحياً رهيباً لتلحق بالمسلمين أفدح الأضرار وتحولهم من أمة شاهدة مجاهدة حرة لا تيئس من رحمة الله إلى أمة خاوية، تكتفي بشهوات النفس في حيوانيتها الهابطة وتفتقد الأهداف النبيلة التي تسعى إليها.
رابعاً: إن نتيجة ذلك المخطط إلغاء شخصية المسلمين، وإلحاقهم بحضارة وثقافة غيرهم، وتفقدهم أصالتهم وتقعدهم عن طلب المعالي ومحاولة بناء حضارتهم الإسلامية الإنسانية المتوازنة، كي ينقذوا أنفسهم من السقوط ويرشدوا غيرهم لينتشلوهم مما هم فيه من الحياة الحيوانية.
خامساً: إن العولمة الأمريكية لا تكتفي بواقع التجزئة العربية والإسلامية الآن، بل تحاول إحداث تجزئة داخلية في كل بلد عربي أو إسلامي، حتى ينشغلوا بأنفسهم وينسوا تماماً أنهم أمة عربية واحدة، وينتمون إلى جامعة إسلامية واحدة.
سادساً: إنهم في هذه الحالة، لا يستيقظون من غفلتهم ولا يحققون مصالحهم المادية، ويتنازلون عن ثروات بلادهم لتمتصها تلك الشركات العولمية الرأسمالية الجشعة، فينتشر فيهم الفقر وتفتك بهم البطالة، لتظهر الأمراض الاجتماعية والجرائم المتنوعة التي تودي بحياتهم من حال البأس والقوة إلى حال الضعة والذلة والهوان. بينما أراد لهم الإسلام القوة والوحدة والعزة وعدم التفريط بأموال المسلمين وثرواتهم ومصالحهم.
سابعاً : إن العولمة الأمريكية الصهيونية تخطط للتدخل العسكري وإعلان الحرب في أية بقعة من العالم، تفكر بالخروج على سيطرتها وتحكمها، لأن العالم يراد له أن يقع تحت براثن الاستبداد الأمريكي والقانون الأمريكي والقوة العسكرية الأمريكية. وهو أمر يكشفه تقريران خطيران كانا سريين للغاية، ثم نُشرا بعد ذلك، وهما تقريرا جريميا وولفوفتيز(23). ولا شك في أن نصيب العالم الإسلامي سيكون كبيراً في ضوء تلك السياسة الغاشمة.
ثامناً: في ظل العولمة زاد التفرق بين الدول الإسلامية، وضرب العالم الإسلامي في السلع الاستراتيجية كالبترول وغيره(24)، بسبيل تكريس واقع الفقر في هذه الدول.
وأمام هذه الكارثة الكبرى، لا يمكن أن نتحرك لتقليل أضرارها أو الوقوف أمامها بأوضاعنا الحالية التي تعم العالم الإسلامي للأسباب الآتية:
- نمر بمرحلة ضعف الإيمان، ونفتقد إلى معرفة العقيدة الإسلامية الصحيحة، ونتمزق مذهبياً وطائفياً وعنصرياً، وتتمكن منا العقلية اللاسببية والنظرة التواكلية.
- غفلنا عن تسخير سنن الله في الكون والحياة، بل جهلناها، لعدم فهمنا كتاب الله وسنة رسوله( صلى الله عليه وسلم ) ، الأمر الذي أدى إلى تأخرنا الحضاري الذي أخرجنا من دائرة الصراع الحضاري والحوار الحضاري في الوقت نفسه، فتقدم علينا واستعمر بلادنا وحرف أجيالنا عبر المنهج الدنلوبي (25) المعروف، ونشر فينا المبادئ اللادينية، لتحدث أزمة كبيرة بين مثقفينا تجاه الإسلام(26).(9/373)
- نسينا بأن الله تعالى ربّ العالمين وليس ربّ المسلمين فحسب، فظننا أن مجرد كوننا مسلمين جغرافيين يكفى لإنجاز وعد الله لنا بالنصر، في حين أن الله سبحانه وتعالى يقول: } إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{ (27)، فهل نحن نصرنا الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه؟
- لم نتمسك بأعظم شريعة ارتضاها الله تعالى لنا، تنظم حياتنا، وتربي أجيالنا، وتبصرنا بحقائق الحياة، وتدخل السلام والأمن في دواخل نفوسنا وأعماق أسرنا، وجنبات مجتمعنا، وتنشئ أمة موحدة مؤمنة مجاهدة، تتحرك في اتجاهات الحياة كلها، تريد البناء والتغيير والتجديد دائماً.
- ولما ضعف إيماننا وانحسر التزامنا، انهارت أخلاقنا الفاضلة وقيمنا الرفيعة، فتخلخل سلوكنا وانتشرت بيننا السلبية والانهزامية والنفاق والأنانية.
- افتقدنا القدوات الصالحة، ونسينا أن نربي أجيالاً تقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته الطاهرين وصحابته الأكرمين والعلماء العاملين والدعاة الصادقين. فانحرفت أجيالنا إلى الاقتداء بصعاليك الشرق والغرب من التافهين والتافهات والساقطين والساقطات، فتخرج عليهم أجيالٌ تافهة تعبد الشهوات وتركن إلى حياة الدعة والمجالس الفارغة الخالية من الرجولة والشهامة والفضيلة والصدق.
- لم نستفد من إمكانات العالم الإسلامي المادية والمعنوية وثرواته المتنوعة الهائلة، كي نحدث تنمية حضارية واجتماعية شاملة، نستطيع أن نقاوم التآمر العالمي علينا ونحفظ شخصيتنا المعنوية وكياننا المادي.
- اعتمدنا في ضروريات حياتنا على أعدائنا، سواء في السلاح أم في التقنيات أم الغذاء، التي لا تتمشى مع خصائص عناصرنا الإنتاجية حتى نظل تابعين للغرب، وبذلك نبقى مهمشين في صناعات ناقصة غير ذات جدوى.
- لدينا فائض يتجاوز 800 مليار دولار في بنوك الغرب، ومع ذلك نقترض منهم قروضاً مجحفة تعيق التنمية؛ لأن الفوائد التي ندفعها تبلغ أضعاف أصل الدين بمرور الزمان.
- معظم حكوماتنا لمناهجها العلمانية ارتبطت بالاقتصادات الغربية، بلا ضوابط أو فهم دقيق لاتجاهاتها أو مضامينها، وبغير مطابقتها لمتطلبات التنمية الحقيقية التي تحتاج إليها مجتمعاتنا، ولما لم تصح المنطلقات كانت النتائج سيئة جداً.
- لم نستطع أن نبني المؤسسات الشورية، حتى تنتهي من حياتنا مظاهر الاستبداد، التي زرعت في أمتنا بعد معركة صفين الطغيان خلافاً لما أراده الإسلام لنا، من بناء الحُكم على أساس المشاورة، كي تبني الأمة حياتها، وتقرر القضايا الخطيرة التي تتصل بمستقبلها. ومن هنا فقد انفرد الحكام في تاريخنا دائماً ببناء حياتنا كما كانت تفرضه عليهم أهواؤهم ومصالحهم. لا سيما حكام المسلمين في العصر الحديث الذين بتفرقهم وخلافاتهم واستبدادهم بالرأي كله ضيعوا على الأمة فرصاً تاريخية كبيرة، ومكنوا الأعداء من حياة الأمة الواحدة، وأرضها وكرامتها، ولا سيما الصهاينة الطغاة الذين سلبوا أرض فلسطين مستغلين هذا الواقع الأليم.
ولذلك صدق من قال: "السياسة هي مركز العصب في الحياة الاجتماعية العربية العامة. وهي في الوقت نفسه مركز العطب في عموم الحركة الاجتماعية"(28).
- لقد سحق أمتنا الجهل والجوع والمرض، نتيجة للمخططات الظالمة التي طبقت في مجتمعاتنا الإسلامية. إن هم الإسلام الكبير كان تمكين أبناء الطبقات المسحوقة بالعيش الكريم الذي يحفظ إنسانيتهم وكرامتهم. وهذا معلوم بالضرورة لكل من يدرس تشريعات الإسلام للقضاء على الفقر والأمية والمرض.
- لم نستطع أن نقضي على البيروقراطية والروتين والاستهانة بالزمن في حياتنا. ومن هنا ارتفعت معدلات البطالة، ولم نستطع أن نطور نمو ثرواتنا فاحتجنا إلى الوقوع تحت المديونيات الثقيلة للمؤسسات المالية العولمية.
لقد كانت نتيجة العولمة خطيرة في حياتنا الاقتصادية، فضلاً عن الجوانب الأخرى حصرها بعض الاقتصاديين العرب بالنقاط الآتية:
1- إنهاء دور القطاع العام وإبعاد الدولة عن إدارة الاقتصاد الوطني.
2- عولمة الوحدات الاقتصادية وإلحاقها بالسوق الدولية لإدارتها مركزياً من الخارج.
3- العمل على اختراق السوق العربية من قبل السوق الأجنبي.
4- إدارة الاقتصادات الوطنية وفق اعتبارات السوق العالمية بعيداً عن متطلبات التنمية الوطنية.
5- العمل على إعادة هيكلة المنطقة العربية في ضوء التكتلات الدولية(29).
إن العولمة ليست ظاهرة مؤقتة، ولا هي قضية محدودة، وإنما هي مؤامرة عالمية كبرى على البشرية، تقف وراءها دول قوية، وأموال جبارة وخبرة علمية تقنية عالية ومخططات ذكية للسيطرة رهيبة. فلا يمكن والحالة هذه أن نحمي أنفسنا منها ونتعامل معها بقوة واستقلالية وذكاء إلاّ إذا غيرنا حياتنا منطلقين من قوله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ{ (30).
وتغيير حياتنا لا يتم إلاّ باتباع الحقائق الآتية:(9/374)
أولاً: نزل الإسلام دينا خاتماً كاملاً شاملاً على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فواجه الجاهليات العالمية، ونقل العباد من عبادة الأنداد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأنشأ لهم مجتمعاً إنسانياً عابداً عالماً عادلاً عاقلاً، قضى على الشرك والخرافة واللاسببية واللاعقلانية في المجتمع الإسلامي. وكان نظام المجتمع هو الشريعة الإسلامية التي أمرت بالمعروف والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهت عن الفحشاء والمنكر والبغي. وسببت قيام أعظم تنمية حضارية في المجتمع الوسيط(31)، قامت على التجربة والعلم، فأنشأت المدارس والجامعات والمستشفيات. وحكم القضاء الإسلامي بالقسطاس المستقيم بين الناس، وعرف الإنسان المسلم أن له نصيباً من كل اسم من أسماء الله الحسنى، فتمسك به، وأدب نوازع نفسه الأمارة بالسوء، فكانت حياته موازنة دقيقة بين تلك الأنصبة التي أدت إلى نشر القيم الإسلامية الرفيعة التي كانت تتحرك في دائرة الإسلام ودائرة الأديان ودائرة الإنسانية جميعاً.
ثانيًا: لقد غير الإسلام حياة الإنسان تغييراً شاملاً، فكانت سلسلة حركة وجهاد في مناحي الدنيا كلها. وانتشر الإسلام من الصين حتى الأندلس، ومن أواسط آسيا إلى مشارف جنوب أفريقيا، وهدى الله به أعيناً عميا وآذاناً صما وقلوباً غلفا. وقامت عليه مجتمعات ودول حققت انتصارات ساحقة على البغاة والطغاة والمعتدين، وتربت أجيال كانت تحب الموت في سبيل الله، كما كان المشركون يحبون الحياة في سبيل الشيطان.
وأوجد الإسلام أمة موحدة راحمة، تتكافأ دماء أبنائها ويقوم بذمتهم أدناهم وكانوا يداً على من سواهم، جنسيتهم الأولى كانت هي الإسلام. ذابت فيها فوارق القوميات واللغات والأوطان. ثم أصاب المسلمين ما أصابهم من الضعف الإيماني في القرون الأخيرة كما ذكرنا قبل صفحات.
تابع معنا بقية محاور المقال:
*
مقدمة
*
العالمية والعولمة: تعريف وتمييز
*
جذور العولمة
*
تفاصيل فلسفة العولمة ونتائجها
*
الفكر الإسلامي في مواجهة العولمة
*
نحو ميثاق إسلامي لمواجهة العولمة
عودة
(1) هود، آية 118- 119.
(2) الروم، آية 23.
(3) آل عمران، آية 140.
(4) مستقبل العولمة بين منظورين، المستقبل العربي، ص21.
(5) العولمة أمام عالمية الشريعة الإسلامية، د. عمر الحاجي، ص51، ط1، دار المكتبي ، دمشق، 1420هـ/ 1999م.
(6) المصدر نفسه، ص50.
(7) العولمة والهوية، نجيب غزاوي، ص46، مرجع سابق.
(8) مستقبل العوملة بين منظورين، ص21.
(9) العولمة والهوية، ص46، مرجع سابق.
(10) العولمة بين القبول والرفض، ثناء عبد الله، ص106، المستقبل العربي 256 في 6/2000م.
(11) المصدر نفسه، ص90.
(12) منتدى دافوس والعولمة وعالم ما بعد سياتل/ محمود أبو الفضل، جريدة الحياة، عدد 13473 في 24/10/1420هـ.
(13) قضايا العولمة بين القبول والرفض، ص101، المستقبل العربي، مرجع سابق.
(14) العولمة - المفهوم، المظاهر، المسببات، ص72، مرجع سابق.
(15) النظام العالمي الجديد - منير شفيق، ص16، الناشر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، ط1، 1420هـ - 1992م.
(16) إعلام العولمة، ص89، مرجع سابق.
(17) المصدر نفسه، ص75.
(18) العولمة في المستقبل، مجلة الإسلام اليوم، العدد 16-17، ص11، 1421هـ/2000م.
(19) العولمة بين منظورين، ص21، مرجع سابق.
(20) العولمة - استراتيجية تفكير، ص22، مرجع سابق.
(21) المصدر نفسه، ص214.
(22) العولمة بين منظورين، ص126-127، وأيضاً: العولمة في الإعلام، د. مالك بن إبراهيم بن أحمد، البيان، ص114، ذو الحجة 1420/ آذار 2000م، العدد 114.
(23) النظام العالمي الجديد، ص18-22، مرجع سابق.
(24) البيان، عدد 152، ص70، مرجع سابق.
(25) دنلوب هو القس الإنجليزي الذي جاء به المحتل الإنجليزي إلى مصر بعد الاحتلال البريطاني، ليقود نظام التربية والتعليم في مصر من عام 1899 إلى عام 1919م.
(26) راجع كتاب ((أزمة المثقفين تجاه الإسلام في العصر الحديث)) للمؤلف.
(27) سورة محمد، آية 7.
(28) العرب والعولمة - المستقبل العربي، ص68، مرجع سابق.
(29) الاقتصاد العربي في مواجهة تحديات النصف الثاني من عقد التسعينيات - مجلة آفاق عربية ، ص2، في 1/2/1995م، والسوق الشرق اوسطية - آفاق عربية، عدد11/12، 1995، ص4.
(30) الرعد، آية 10.
(31) راجع كتاب ((الإسلام والتنمية الاجتماعية)) للمؤلف.
==============(9/375)
(9/376)
الفكر الإسلامي في مواجهة العولمة
شرطة الغرب تخلت عن حقوق الإنسان الغربي
منذ أكثر من قرن ونحن نبتعد عن هذا الدين بقصد وتخطيط، سواء أكان التأثير في ذلك داخليًا أم خارجيًا، داخليًا في قابليتنا للسقوط وخارجيًا في هجمة التبشير والاستشراق والتغريب والاستعمار علينا.
عودتنا هذه المرة إلى إسلامنا، والانطلاق منه إلى عصرنا يقتضي منا إعادة النظر في الأمور الآتية:
الفكر الإسلامي:
- لا بد لنا أن نؤكد على أصول العقيدة الثابتة القاطعة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وفصلها من فروعها، والتأكيد على الأصول، وترك الفروع التي اختلف حولها العلماء حتى لا نتمزق من جديد.
- عد تيارات الفكر الإسلامي القديم تيارات اجتهادية جابهت الفلسفات والتيارات الفكرية في زمانها فأصابت وأخطأت، وليس من المصلحة إحياؤها اليوم وإدارة صراعات جديدة عليها.
- مواجهة الأفكار الجديدة بأسلوب جديد ومادة معرفية جديدة، منطلقين من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
- تبني المنهج الشمولي في فهم الإسلام الذي يجمع بين العقيدة والشريعة والسلوك والحركة والبناء الحضاري، من خلال منهج عقلي أصولي سليم.
- الإيمان بأن الفقه الإسلامي، فقه متجدد لا يقف عند زمن معين ولا مذهب معين ومواجهة مشكلات العصر من خلال مقاصد الشريعة وقاعدة الأيسر وليس الأحوط.
- دراسة الأنظمة العامة والمبادئ الكلية في الشريعة الإسلامية بمواجهة ما عند الغرب من مبادئ ونظريات قانونية كلية.
- دراسة السنن الكونية دراسة علمية موضوعية والاستفادة منها في الدخول إلى العصر الحضاري الإسلامي الجديد.
- محاربة مظاهر البدع والخرافة والتواكلية التي أخرت تقدم الأمة وقيامها عبر العصور الأخيرة.
- الرد على الغزو الثقافي العولمي الأمريكي الصهيوني من خلال المنهج السابق في الفكر الإسلامي، بجميع الوسائل التي يعتمد عليها، سواء من خلال الأنماط الفكرية أم الفنية أم الأدبية التي يعرضونها من خلال أفكارهم المناقضة للإسلام.
الفكر السياسي:
لا بد من القيام بنقد تاريخي شامل لنظام الحكم في المجتمعات الإسلامية من بعد معركة صفين وإلى اليوم، وإثبات أن الاستفراد بالحكم والاستبداد فيه الذي كان سائدًا في تاريخنا، سواء أكان في الدولة الأموية أم العباسية أم العثمانية أم في دول الأندلس، وغيرها من الدول والدويلات التي حكمت العالم الإسلامي عبر القرون، وكذلك في الدول الحديثة والمعاصرة على تنوع أنظمتها العلمانية أو ادعائها تبني الإسلام والتطبيق المزيف أو المنقطع المجزأ بالكتاب والسنة منهج استبدادي مخالف لنظام الحكم الشوري في الإسلام مخالفة أكيدة، وإنه جلب على الأمة الإسلامية عبر العصور مآس جمّة وخرابًا شاملاً، وإنه من أعظم أسباب سقوط المجتمع الإسلامي وأزماته قديمًا وحديثًا.
إن نظام الشورى في الإسلام كما طبّقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون y ، وكما يمكن أن يلجأ اليوم إلى الآليات والأساليب المعاصرة المنسجمة مع روح الإسلام لتحقيق مقاصد الشورى، هو الذي يحقق كرامة الإنسان المسلم، ويعيد إليه حقه في المعارضة والتعبير عن آرائه بحرية أخلاقية منضبطة.
إن بقاء النظام السياسي في المجتمع الإسلامي إلى لحظة كتابة هذه الكلمات نظامًا تسلطياً فرديًا استبداديًا، لن يكون إلاّ في مصلحة قادة العولمة، وأعداء هذه الأمة. إن الصدام بين الشعوب وحكامها لن يكون إلاّ في صالحهم. ولذلك نجد أن العولمة تشجع بقاء الأنظمة الظالمة في بلاد الإسلام، مع أنها تدعي أنها تريد الديمقراطية والحرية في العالم.
إن العقلاء جميعًا متفقون على أنه ما من مصيبة من مصائب هذا القرن، قد حلت بالإسلام والمسلمين إلاّ كانت نتيجة مباشرة لصراعات الحكام فيما بينهم واستبدادهم بالرأي، ومحاربتهم لأهل الرأي السديد وعدم سماعهم قول الحق وعدم رجوعهم إلى موازين الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا. فضلاً عن ارتباط كثيرين منهم بأعداء الأمة والدين.
إن معظم حكام المسلمين في القرن الأخير قد أحدثوا فرقة كبيرة بين المسلمين، أو لم يهيئوا صفوف الأمة للجهاد والحركة والتغيير والبناء، وضيعوا ثروات الأمة على مباذلهم وقصورهم، وعلى حياة البذخ والفخفخة الفارغة، أو على حروب خاسرة لم يخططوا لها ولم تكن لهم فيها إرادة للقتال أصلاً.
إن نتيجة تلك السياسات هي التي أدت إلى طغيان الصهيونية واستيلائها على أرض فلسطين، وهي التي تؤدي اليوم إلى خطر طغيان العولمة الشرسة علينا.
إنني أكاد أجزم مع الجازمين أن أي إصلاح لا يمكن أن يجري على أصوله الصحيحة في بلاد الإسلام، ما لم تتغير طبيعة النظام السياسي في بلاد الإسلام، من الاستبداد إلى الشورى، ومن مصادرة الرأي إلى الحرية في الرأي والمعارضة، ومن مصالح الأفراد والأسر إلى مصالح الأمة من حيث هي كل لا يتجزأ ومن حكم الحكام إلى حكم المؤسسات الدستورية.(9/377)
وهذا هو سر حرص أمريكا واليهودية العالمية ومن شاكلهما من دول الطغيان على إبقاء الوضع السياسي في العالم الإسلامي على ما هو عليه؛ لأنه يجلب لهم الأمن والأمان والسكوت على جرائمهم بحق الإسلام والمسلمين.
الفكر الاقتصادي:
لقد استنبط الاقتصاديون الإسلاميون النظام الاقتصادي الإسلامي المعاصر من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن معالجات الخلفاء الراشدين واجتهادات الفقهاء المجتهدين عبر العصور. وزادوا على ذلك ما استجد من قضايا الاقتصاديات المعاصرة والتي تتلاءم مع روح الإسلام. وأستطيع أن أزعم أن التوجه الإسلامي في بناء الاقتصاد هو الذي ينقذ الأمة من التخلخل الاقتصادي، ويقضي على التفاوت الظالم في الثروات، ويعيد التوازن إلى المجتمع الإسلامي، ويحدد وظيفة الدولة الاقتصادية من خلال ذلك التوازن.
لماذا؟!!.
- لأن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد مرن لا يعين معالجة واحدة في كل حالة زمانية أو مكانية، وإنما يقرر الأصول ويفتح حرية الحركة أمام الاقتصاديين، لحل المشكلات الاقتصادية حسب الظروف المختلفة.
- منع الاستغلال والاستلاب للقضاء على سوء توزيع الثروات والحيلولة دون قيام المجتمع الظالم.
- التملك مشروع ولكنه محاط بسياج من القيود حتى لا يؤدي إلى التعسف في استعمال حق الملكية، ويشرع الإسلام مع الملكية الفردية الملكية العامة وملكية الدولة.
- لا بد من وجود التكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي؛ لأنه هو الذي ينتهي إلى التوازن.
- تكافؤ الفرص أمام الجميع وعدم تعطيل الطاقات الإنسانية.
- تغليب الاتجاه الجماعي في الاقتصاد الإسلامي لتغليب مصالح الأكثرية الكادحة.
- حرمة الكنز وحبس الثروات، وتوظيفها لأداء وظيفتها الاجتماعية.
- الدولة لها الحق في التدخل في الحياة الاقتصادية، كلما رأت الضرورة في تحقيق مصالح العباد.
- العمل هو المعيار الأساسي، وهو نابع من فكرة الاستخلاف، ويلتزم المجتمع بإيجاد عمل لكل قادر.
- المحافظة على رأس المال وإنماؤه وعدم إضاعته، ولذلك شرع الإسلام مبدأ الحجر على أموال السفهاء.
- في ظل الاقتصاد الإسلامي تكفي الموارد؛ لأنه ليس اقتصاد ترف. كل تنظيم اقتصادي معاصر، يزيد في الثروة ويحقق مقاصد الإسلام في إسعاد الناس، هو من الاقتصاد الإسلامي، من منطلق القاعدة الشرعية، حيثما كانت مصالح العباد، فثمة شرع الله.
- من الواجب أن يتعاون الجهد الإنساني في أجنحته كافة في تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة.
هذه هي بعض الملامح العامة لمذهبية الاقتصاد الإسلامي المتميز عن باقي الأنظمة الاقتصادية المعروفة اليوم تمام التميز، لا بد أن يؤدي عند تطبيقه إلى طريق جديد للتنمية في المجتمع الإنساني، طريق ليس آلياً يبغي الربح وحده أو الكفاية الاقتصادية وحدها، إنما هو طريق إنتاج اقتصادي أخلاقي إنساني، يفي حاجة الإنسان وضروراته وشيئًا من كمالياته، إن أمكن ذلك(1).
يقول الاقتصادي الفرنسي جاك أوستروي: "إن طريق الإنماء الاقتصادي ليس مقصورًا على المذهبين المعروفين، الرأسمالي والاشتراكي، بل هنالك مذهب اقتصادي ثالث راجح، هو المذهب الاقتصادي الإسلامي، ويقول: "إن هذا المذهب سيسود عالم المستقبل؛ لأنه أسلوب كامل للحياة"(2).
فإذا انطلق المسلمون من مذهبية الاقتصاد الإسلامي التي تتفرع من مذهبية الإسلام العامة في الكون وخالقه والمجتمع والإنسان، فاستفادوا من إمكانية المسلمين الاقتصادية الضخمة المتنوعة، وكانوا أقوياء الأداء في جانب التشييد والمعادن والزراعة(3) وقابلوا العولمة المركزية الأمريكية الصهيونية، بعالمية عربية وإسلامية وشرقية(4)، وتعاملوا مع الاقتصاد العالمي من خلال تبادل المنافع، وخططوا للتنمية تخطيطاً ذاتيًا جيدًا، مستفيدين من خبرات وتنظيمات الحضارة الغربية وأقاموا سوقًا إسلامية مشتركة، ونقلوا أرصدتهم الضخمة إلى العالم بعد إعادة الثقة إلى وحدة الأمة وأخوة أبنائها، فإنهم يستطيعون في هذه الحالة أن يقللوا كثيرًا من أخطار العولمة عليهم؛ لأن العولمة كالذئب لا يأكل إلاَّ من الغنم القاصية.
الفكر الاجتماعي الإسلامي:
لا بد من التأكيد على النظام الاجتماعي الإسلامي في الأمور الآتية:
1- يقوم المجتمع الإسلامي على جهود الرجال والنساء، يكمل بعضهم بعضًا.
2- ليست هنالك مفاضلة في أصول الخلقة ولا مفاضلة لجنس على آخر في أصل الخلقة، بل كل جانب يفضل الآخر فيما كلف به من واجبات شرعية.
3- أقر الإسلام في تشريعاته بإنسانية المرأة واستقلال شخصيتها وعدها أهلاً للتدين والعبادة، وأقر حق المبايعة لها كالرجل ودعوتها إلى المشاركة في النشاط الاجتماعي المنضبط بضوابط الأخلاق، وقد سمح لها بالأعمال التي تتفق مع طبيعتها، وشرع لها نصيبها في الميراث وإشراكها في إدارة شؤون الأسرة وتربية الأولاد، وأوجب معاملتها بالمعروف واحترام آدميتها كما أنه ساوى بينها وبين الرجال في الولاية على المال والعقود، وأقر لها شخصيتها القضائية المستقلة(5).(9/378)
ومن هنا فإنه لا بد أن نجتاز بالمرأة المسلمة عصور التخلف والجهالة وسوء التأويل لتشريعات الإسلام لحياة المرأة، والاعتراف الكامل بكونها نصف المجتمع، ولا بد من إعادة النظر في مشكلاتها الاجتماعية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية العامة ومقاصدها الحكيمة وغاياتها في الحياة لتحديد مسؤوليتها الأسرية والاجتماعية والدعوة إلى ترك الاجتهادات الماضية التي تمثل عصورها وأعرافها، والتي قيدت المرأة في التربية والتعليم، والاشتراك في مضامير الحياة المتنوعة التي تتفق مع فطرتها وتكوينها ومصلحتها ومصلحة مجتمعها، دون الانجراف وراء مغريات الحياة الإباحية التي انتهت إليها الحضارة الغربية.
4- يقوم المجتمع الإسلامي على القاعدة الإيمانية التي تجمع بين المسلمين جميعًا دون الالتفات إلى اختلافات اللغة أو اللون أو العرق.
5- أهل الأديان جميعًا لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين إلاّ فيما يخص القضايا التشريعية الخاصة بكل طرف.
6- البشر جميعهم كرامتهم مصانة في إطار المجتمع الإنساني.
7- المجتمع الإسلامي يقوم على أساس نابع من قيم الإسلام والقيم العامة التي اجتمع عليها الإسلام.
8- لا بد أن تحقق العدالة المطلقة في المجتمع الإسلامي للجميع، ولا فرق في ذلك بين المسلمين وغير المسلمين.
9- الأسرة في المجتمع الإسلامي تقوم على القواعد الإسلامية في المحافظة على العفاف والفطرة والابتعاد عن الفوضى الجنسية، وخرق نظم الأخلاق التي يقرها الإسلام.
10- تكافؤ الفرص أمام الجميع لإظهار القدرة والاستعداد لبناء المجتمع والحضارة.
الفكر التربوي الإسلامي:
أمام هجمة الفضائيات العولمية وتخطيطها العلمي والفني الذكي في عرض أفكارها بطرق متنوعة مؤثرة، عبر الأنماط الفنية من المسلسلات والأفلام والتعليقات والتقارير التي تدخل يوميًا مئات الملايين من أجهزة التلفزيون والإذاعة والإنترنت على وجه الأرض، لا يمكن الحفاظ على الذات والأصالة والخصوصية الدينية والفكرية، إلاّ بتربية أبناء الأمة تربية مخططة تشعرهم بأنهم أبناء أمة التوحيد والإيمان وتنشئتهم نشأة إسلامية، وتحصنهم فكريًا وأخلاقيًا وسياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، بحيث يعلمون بيقين كامل أنهم متميزون عما يشاهدون. وبذلك يستطيعون أن يكتشفوا الباطل من الأقوال والأفعال والسلوك. وإن لم نفعل ذلك ونتعاون عليه في العالم الإسلامي كله، فسنجابه فتنة كبيرة وفسادًا عظيمًا وذوبانًا تدريجيًا مؤكدًا في طغيان إعلام العولمة الرهيب.
ويكون ذلك بما يأتي:
1- الاهتمام بتربية الأسرة المسلمة وتثقيف أفرادها وتوجيههم من خلال أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ومن خلال المساجد وخطب الجمعة والدورات التربوية القرآنية المستمرة أو المؤقتة والمواعظ والمحاضرات العلمية والتوجيهية.
2- ومن خلال المناهج الرصينة في التربية الدينية، وكتب اللغة العربية، وكتب التاريخ والجغرافية والثقافة العربية والوطنية العامة، وحتى الكتب العلمية الصرفة.
3- ومن خلال الكتب والمجلات والجرائد والدوريات الخاصة والعامة.
4- ومن خلال المخيمات الشبابية الصيفية في القطر الواحد أو الأقطار العربية أو الإسلامية.
5- ومن خلال المهرجانات العامة والمؤتمرات التي يجب أن تقام بين حين وآخر في القطر الواحد أو الأقطار المتنوعة.
6- ومن خلال العروض المسرحية والأفلام في المسارح ودور العرض السينمائية.
وغلى غير ذلك من الوسائل التي تشترك جميعًا في تكوين أجيال تشعر بانتمائها الإسلامي وانتسابها الحضاري للأمة العربية والإسلامية(6).
7- ومن خلال وحدة المعرفة التي قامت عليها التربية الإسلامية التي تبغي صياغة الفرد صياغة إسلامية حضارية، وإعداد شخصيته إعدادًا كاملاً من حيث العقيدة والذوق والفكر والمادة، حتى تتكون الأمة الواحدة المتحضرة التي لا تبقى فيها ثغرة تتسلل منها الإغراءات العولمية اللادينية الجنسية الإباحية.
إننا نحتاج في بلاد الإسلام كلها إلى أن نقوم بحملة إسلامية شاملة عبر مخطط حضاري معاصر، تشترك فيها الدول والمؤسسات الرسمية والشعبية والجمعيات والأحزاب جميعاً. لأن مواجهة العولمة من الخطورة بحيث يجب أن نتعامل معها من مواقع قوية تشهد على وحدة الأمة، وغاياتها النبيلة في هذه الحالة لخيرها ولخير البشرية جميعًا.
نحو وحدة الأمة
إن أوضاع البلاد الإسلامية المتأخرة في القرن الأخير شجعت المستعمرين على التقدم نحو احتلال بلاد الإسلام، ولم تفد المقاومة غير الموحدة وغير الحضارية في منع وقوع ذلك الاحتلال. فبذل هؤلاء الأعداء المحتلون جهودًا ثقافية إعلامية تربوية كبيرة في سبيل نشر مبادئهم في الوسط الإسلامي. فآمن البعض بالمبادئ الرأسمالية الفردية، وآخرون آمنوا بالشيوعية، وجماعة ثالثة آمنت بالقومية ورابعة بالوطنية الديمقراطية وأخرى بالاشتراكية الثورية، وهكذا دون رجوع إلى محور إلهي ثابت يتحاكم إليه الجميع.(9/379)
وتقبل الأفكار المفرقة للأمة في أسسها لم يأت فقط عن طريق الفرض الاستعماري فحسب، وإنما ظهر أيضًا نتيجة للاحتكاك الحضاري، بين أمة متأخرة جامدة غير منتجة للفكر والعلم والمدنية، وبين أمم استعمارية غربية قوية دخلت في العصر الحضاري الجديد، فأبدعت في التنظيم وبناء الحياة المادية أيما إبداع. فحصلت من هنا الكارثة الكبرى في بلاد الإسلام، حيث قانون تقليد المغلوب للغالب قد عمل عمله، وسقطت أجيالنا المتلاحقة أمام الأفكار المغرية التي أتتهم من الغرب، دون أن تكون لهم بها قوة في الوعي والتمييز والتمحيص والاختيار.
وقد ظهر ردّ الفعل الإسلامي المسالم أو العنيف على هذه الأوضاع المزرية في التشرذم والفرقة والصراع والصدام. فدعا الإسلاميون إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ومن هنا حدث صدام فكري ودموي بينهم وبين أصحاب تلك المبادئ اللادينية المناقضة لأسس الإسلام، والذين مكنتهم القوى الاستعمارية من حكم البلاد الإسلامية. واستمر الحال قرابة قرن كامل من الزمان، بحيث ألحق ذلك الصراع أضرارًا فادحة بمجمل حركة التطور الإسلامي إلى الأمام، لأن القوميين العلمانيين والوطنيين اللادينيين، والوجوديين الملاحدة، والشيوعيين الماديين، لم يكونوا على استعداد أن يلتفتوا إلى الإسلام أي التفات، بل عدّوا الإسلام ومن يؤمنون به وينادون بالاحتكام إليه أعداء حقيقيين لهم وللبلاد؛ فالصقوا بهم التهم الباطلة، واتهموهم بإعاقة تقدم الأمة وأدخلوهم في محن طويلة من السجون والتشريد والقتل، وانفردوا هم بحكم البلاد وتدبير أمور السياسة قرابة قرن كامل من أخصب زمان الأمة.
وبدا العقلاء شيئًا فشيئًا يتساءلون: يا تُرى ماذا فعل الحكام اللادينيون الذين كانوا يحكمون بلاد الإسلام، والذين كانوا ينتمون إلى القومية والوطنية والماركسية؟
هل قدّموا المجتمع إلى الأمام؟ هل وحّدوه؟ هل بنوا مجتمعًا متماسكًا؟ هل قادوا تنمية ناجحة؟ هل أسسوا فيها قضاءً عادلاً؟ هل بنوا فيها تعليمًا منسجمًا وتربية محصنة؟ هل حافظوا على كرامة الإنسان المسلم؟ هل كانوا يحكمون بشورى حقيقية؟ هل سخّروا المنافقين من الكتاب والأدباء والشعراء وأهل الصحافة لمصالح الجماهير المخدوعة أم لمصالحهم الطاغوتية؟ هل قضوا على الفقر؟ هل أوجدوا اقتصادًا قنوعًا في العالم الإسلامي؟ أم ضيّعوا ثروات الأمة في رغبات النفس الأمارة بالسوء، وبناء القصور وتزيينها، والمحافظة على استمرارهم في الحكم والسلطان والطغيان؟!.
ألم يأن لهؤلاء أن يعترفوا أنهم مسخوا الأمة بالتقليد، وصنعوا لها الكوارث تلو الكوارث، وأوقعوها راكعة ذليلة أمام الطغيان الأمريكي والصهيونية العالمية.
ألم يأن لهم أن يلتفتوا إلى إسلامهم، فيحاسبوا أنفسهم ماذا جنوا بحقه؟ ويتساءلوا بينهم: هل فهموا حقائقه؟ ألا يجب عليهم أن يجربوه تجربة أصولية عصرية ليعلموا كيف تكون النتيجة؟
- لو ربوا الأجيال على الإيمان والإخلاص والابتعاد عن الذنوب عامة وخاصة، ماذا سيحصدون؟
- لو عادوا إلى استشارة الأمة استشارة ملزمة، ماذا ستكون العاقبة؟
- لو طبّقوا الأنظمة العامة في الشريعة الإسلامية الثابتة بالوحي الإلهي من أجل إحداث تنمية شاملة، ماذا ستنتهي إليه الأمة؟
- لو رجعوا إلى نظام التربية والتعليم نصيب كل إنسان في أسماء الله الحسنى، كيف ستنمو القيم، ويتوحد الشعور ويبدع العقل المنتج وتنطلق الحركة المغيرة؟
ثم ألم يأن للإسلاميين أيضًا أن يقوموا بمساءلة أنفسهم ماذا يجب أن يفعلوا مع أنفسهم؟ هل أفادهم خلط الوحي الإلهي بآراء رجال استنبطوا لعصرهم وفكروا من خلال واقعهم؟
ألا يجب عليهم أن يفصلوا الوحي الإلهي عن التاريخ الذي هو صنع آبائهم وأجدادهم بكل ما فيه من حلو ومر.
- ألا يجب عليهم جميعًا أن يدخلوا في العصر الحديث ليبنوا مستقبل الأمة، فيقللوا الحديث عن الماضي المفرق أحيانًا.
- هل من الإخلاص لله ولرسوله أن نرجع إلى واقعنا الجديد صراعات السلفية والصوفية والأشعرية والمعتزلة والحنبلية والجهمية، والسنة والشيعة، تلك الأفكار التي ذهبت مع صراعات عصرها، ولنا اليوم عشرات المعضلات الحضارية الحديثة التي تنتظر الجواب السديد.
هل يفيدنا في مواجهتنا الحضارية الحديثة لبناء أمتنا الحلول الجزئية المرحلية الماضية التي أكل عليها الدهر وشرب؟.
ألا يجب على الإسلاميين حتى يقنعوا أهل الأفكار الغربية الممزقة بأحقية الحل الإسلامي، أن يعودوا إلى المنهج الشمولي في فهم الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكًا بأسلوب جديد ومنهج واع، يعتمد العلم والعقل لا غيرهما.
إن أمتنا تواجه اليوم العولمة الطاغية الباغية، وهي ساقطة متأخرة بينها وبين أهل الحضارة المسيطرة شأو بعيد.
فهل من المعقول أن نسمح بأن يستمر الانحدار، ويتمكن التأخر، وتزداد الهوة بيننا وبين العصر الحديث.(9/380)
ألا نحتاج في هذه المواجهة التاريخية الكبرى لتوحيد أمتنا وتقويتها، وبنائها على أصالتها وخصائصها الذاتية والإنسانية إلى محور ثابت أصيل متوازن، يعود الجميع إلى الاحتكام إليه وينسون صراعاتهم وخصوماتهم من أجل الانطلاق إلى بناء أمتنا المجيدة من جديد؟
وهل سنجد هذا المحور الثابت الأصيل المتوازن في غير ديننا الخالد، الإسلام الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟.
وهذا الإسلام يشكل المعادلة الأساسية الجوهرية في حياة الأمة، وأعداء الإسلام اليوم بوسائلهم الخبيثة كلها يريدون أن يضربوا هذا الأساس المتين، كي تضيع وحدة الأمة، فتستسلم إلى التبعية الذليلة وتتخلى عن العزة والوحدة والحقوق الأساسية(7).
إن تجربة قرن كامل في قيادة المجتمعات الإسلامية بمعزل عن النظام الإسلامي أثبتت للعلمانيين أنفسهم أنهم كانوا مخطئين في عزل الإسلام عن الحياة، فبدءوا يلتفتون شيئًا فشيئًا إلى دينهم الإسلامي بدرجات متفاوتة، ويدعون إلى عقد ندوات حوارية بينهم وبين الإسلاميين، وهذا في حدّ ذاته حالة صحية مطلوبة؛ لأن الأخطار التي تهدد الأمة من العولمة الصهيونية في بلاد الإسلام كلها لا سيما في فلسطين تستدعي اللقاء والحوار والتقارب، حتى يصل الجميع إلى صيغة تجمع الكل على القضايا الجوهرية الواحدة في مواجهة تلك الأخطار، وإلا فالعدو بالمرصاد، ويمكن أن يسد علينا نوافذ الضياء جميعًا.
إن تعاون الجميع في إطار حكم شورى والاتفاق على قضايا مصيرية عليا سيعيد التوازن إلى كيان الأمة والأمل إلى الأجيال الجديدة، فيشعرون بلذة التعاون والوحدة، ويتحركون بمنتهى المسؤولية، وحينئذ يمكن أن يقود هذا إلى بداية قوية في أحداث تنمية حقيقية شاملة، تخرج الأمة من ظلمات القرون الأخيرة إلى نور الخطوط المخلصة من أجل القيام والنهوض والتقدم إلى الأمام.
وقد يسأل باحث: ما القضايا الجوهرية التي يمكن أن يتفق عليها الإسلاميون والقوميون والوطنيون في هذه الفترة الانتقالية التي تهدد بلادهم فيها أمريكا ومن ورائها اليهودية العالمية.
--------------
(1) الإسلام والتنمية الاجتماعية.
(2) النظام الاقتصادي الإسلامي - مبادؤه وأهدافه، لأحمد محمد العسال وفتحي عبد الكريم، ص13-14، ط2، مطبعة الاستقامة - القاهرة، 1977م.
(3) العولمة، مهيوب، ص66-67، المستقبل العربي، مرجع سابق.
(4) ما العولمة، د. حسن حنفي، ص241، مرجع سابق.
(5) راجع ((حقوق المرأة في الإسلام)) لمحمد رشيد رضا، و((حقوق المرأة في الإسلام)) للدكتور علي عبد الواحد وافي، و((المرأة بين الفقه والقانون)) للدكتور مصطفى السباعي، و((الإسلام والمرأة المعاصرة)) للأستاذ البهي الخولي، و((المرأة في القرآن)) للأستاذ عباس محمود العقاد.
(6) العولمة والمستقبل، ص99، مرجع سابق.
(7) النظام العالمي الجديد، ص51.
==============(9/381)
(9/382)
نحو ميثاق إسلامي لمواجهة العولمة
يمكن أن يتفق الجميع على ميثاق عام لمواجهة العولمة، وتفصيله على الوجه الآتي:
- المحافظة التامة على استقلال الأمة السياسي، وعدم السماح بتدخل القوى الأجنبية الغاشمة لإضعافه بشكل مباشر أو غير مباشر.
- المحافظة على ثروات الأمة من الضياع والهدر والسرقة، ووضع الخطوات الكفيلة بمنع ذلك.
- الوقوف الموحد أمام الحكام، ومحاولة منعهم من الانفراد والظلم والتجاوز، ونصحهم الدائم عبر الوسائل الإعلامية من دون عنف وثورة وسفك دماء؛ لأن ذلك لا يأتي بخير، ولا سيما في ظروف أمتنا الحاضرة.
إن الضغط الجماعي المستمر على الحكام من شأنه أن يعيدهم إلى صوابهم، وأن يقوي مواقفهم التفاوضية في قضايا العلاقات الخارجية.
- الوقوف مع الحكام مهما كانوا ظالمين، عندما يُداهم البلد غزو أجنبي، ونسيان كل خلاف معهم. فمصالح الأمة العليا والحفاظ على استقلالها وأرضها وشرفها مقدّم على كل اختلاف داخلي حتى لو وصل إلى درجة الصراع.
- الاتفاق على كل ما يعيد الروح في أي مظهر من مظاهر الوحدة العربية أو التضامن العربي أو التضامن الإسلامي، وعدّ ذلك من أهم الثوابت التي لا يجوز النقاش فيها.
- عدم الخروج على الثوابت القاطعة، التي ثبتت بالوحي الإلهي، والتي لا يكون المسلم مسلماً موحداً إلاّ بها، وعدم السماح بمخالفتها في الثقافة والتربية والإعلام.
- رفض مخططات الصهيونية، وعدم الاعتراف بأية تسوية معها على حساب أرض فلسطين المقدسة، واللجوء إلى إعداد الأمة للجهاد ضدها، والإيمان الكامل بأن ما أُخذ بالقوة في فلسطين بالذات، لا يمكن أن يسترد إلاّ بالقوة، ولو طال الأمر عشرات أخرى من السنين، باعتبارها قضية العرب والمسلمين الأولى.
- رفض كل جماعة أو هيئة أو حزب لا تنبع أفكارها من مقدسات الدين والوطن وأرضه وتاريخه وحضارته، وعدّ ذلك عمالة لقوى أجنبية سرية أو علنية.
- تداول السلطات سلميًّا بين التيارات السياسية المذكورة، لابد أن يكون قانوناً عاماً في المجتمع؛ حتى لا تهدم أركانه الصراعات السياسية، التي أضرت بمصالح الأمة في القرن الأخير ضرراً بالغاً، ولا سيما في النصف الأخير من القرن العشرين.
- الاتفاق على أسس عامة في إعمار البلاد عبر خطط متنوعة، يتفق عليها أهل الخبرة العلمية من الأطراف جميعاً، وهي خطط علمية محايدة.
- عدم فرض الرأي الواحد أو الاتجاه الواحد في القضايا الخطيرة التي تتعلق بها مصلحة البلاد والعباد، والإيمان بأن تنازل كل طرف عن شيء من رأيه أو خططه سيؤدي إلى وضع مشترك يريح الجميع.
- اتفاق الجميع على أن يبقى الجيش سوراً قوياً للوطن، ولا يستعمل أبداً في اللعبة السياسية، وإنما يتوجه به إلى حياة الجندية والتدريب والتسلح؛ استعداداً فورياً لقطع دابر المعتدين الباغين من الصهاينة ومَنْ وراءهم من المجرمين الاستعماريين.
- الاتفاق على قيم أخلاقية عُليا، نابعة من دين الأمة وأصالتها وحضارتها الشامخة؛ حتى تتربى الأجيال على الحد المشترك الذي يُرضي الجميع في هذه المرحلة الحرجة، التي نحتاج فيها إلى الأخلاق النبيلة لبذر بذور المحبة والتراحم والتواد بين أبناء الأمة الواحدة.
- إن هذا يستدعي الاتفاق على رفض النظام الاجتماعي الذي يبيح الشذوذ الجنسي والحرية الجنسية للرجال والنساء، وكذلك رفض الإلحاد والردة عن الدين.
- الاتفاق على وضع الخطط للقضاء على الجهل والجوع والمرض بين أبناء الأمة الواحدة، وهي خطط دنيوية عامة.
- الاتفاق على عدم اتباع اللاأخلاقيات التي يتبعها الديمقراطيون الغربيون في صراعات الأحزاب والانتخابات، وفضح بعضهم بعضا بالحق والباطل في سبيل المنافسة والتقدم في الانتخابات أو إسقاط الحكومات.
- الحوار الدائم بين الأطراف المذكورة من شأنه أن يقارب بين العقول والقلوب؛ تمهيداً لإذابة الجميع في مفهوم الأمة الواحدة، أخوة في الدين والقوم والوطن، وتأليف لجان دائمة مشتركة من الخبراء، تبحث القضايا الكبرى، وتعد الخطط والبيانات في أنشطة الحياة المتنوعة.
- زرع هذه المعاني العليا- كل من جهته- بين جماهير الأمة العربية والإسلامية؛ كي تتحول إلى اقتناع عميق لا يتزحزح، مهما تغيرت الظروف والأحوال، حتى تقوم بواجبها في الوقوف الجماعي الكاسح أمام هذه العولمة الأمريكية اليهودية. فعزل الجماهير في العقود الماضية وعدم السماح لها بصنع حاضرها ومستقبلها من لدن الحكام المستبدين، قد ألحق بحركة الأمة ووحدتها نكسات كبيرة.
ففرض الطريق الواحد على العلماء والمثقفين والسياسيين والأدباء والإعلاميين والفنانين وغيرهم عن سبيل الإرهاب والتعذيب والسجن والاغتيال والإعدام، كان طامة كبرى في حياة هذه الأمة المظلومة، بِيَد أولياء أمورها قبل أعدائها، فقد أدى إلى هدر طاقات الأمة وحسها الفطري في الوحدة؛ لأن الشعوب إذا أخذت المبادرة فلن تختلف، بينما الحكام الذين يقوم حكمهم على غير القواعد الشعبية يختلفون، واختلافهم دائماً في صالح الأعداء- لا سيما الصهيونية- وتدمير الأمة في مجالات الحياة كافة().(9/383)
إن الطريق الوحيد أمام العولمة الأمريكية الصهيونية، مواجهتها في إضعاف الإيمان بالانطلاق من عقيدة الأمة والتضامن بين العرب والمسلمين في مجالات الحياة كافة، والوقوف وقفة موحدة أمام السياسات العولمية الغاشمة.
أما التفرق والخضوع فلن يخدم أحداً، وسيؤدي إلى مزيد من النكسات والسقوط أمام الغطرسة الأمريكية والطغيان الصهيوني.
إن العولمة الأمريكية لن تركع إلاّ أمام إرادة أربع وخمسين دولة عربية وإسلامية، حين يتبعون سياسة واحدة في المواجهة السلمية وحتى الحربية.
إن أمريكا لها مصالحها الضخمة في العالم الإسلامي، وستضطر إلى التفاهم حين تجد نفسها أمام إرادة عربية واحدة أو إسلامية واحدة.
إن العرب والمسلمين، لابد أن يصبوا جهدهم في تحقيق الوحدة في العالم العربي والإسلامي. لا أقول وحدة الدولة، فهذا عسير جداً في عالمنا المعاصر، وإنما وحدة العقول والقلوب والمصالح والتضامن الكامل في إطار جامعة إسلامية واحدة أو في إطار المؤتمر الإسلامي الحالي، والذي تتولد منه سياسة واحدة، على أساس وحدة الأمة الواحدة.
والوحدة العاطفية لا تكفي أيضاً، إلاّ إذا عرفت هذه الوحدة: كيف تدخل في العصر الجديد، وكيف تستفيد من الفرص المتاحة، ومن خلال حسن الاختيار؛ كي تصل إلى أفضل النتائج.
إن الغرب الصليبي بدوافع الأحقاد التاريخية المتأصلة ضد الإسلام وأهله، لن يسمح بقيام المسلمين ونهضتهم ووحدتهم ودخولهم في عصر التقنيات العالية.
وإن اليهودية العالمية ستبذل المستحيل للحيلولة دون قوة ووحدة الأمة العربية خاصة والإسلامية عامة.
لكن إذا أخلصت الأمة مع ربها، وانطلقت إلى بناء الحياة من ذاتها، فإنها- بإذن الله- ستصل إلى ما تريد، دون مساعدة الأقوياء. وأمامنا اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد رفضتا المساعدة الخارجية المقيدة المشروطة، وواجهتا قدريهما بنفسيهما، ووصلتا اليوم إلى ما وصلتا إليه من القوة والحصانة.
يقول الاقتصادي المصري "رفعت العوضي": "مسألة التكامل الإسلامي، وكيف يمكن للدول الإسلامية اليوم أن تكمل في إطار هذا التكامل في ظل الظروف الراهنة، ليس بمقدور أي دولة إسلامية أن تخرج عن الإجماع العولمي الذي تمليه الدول السبع الكبار عبر المؤسسات والمنظمات الدولية، ومن ثم فإن المتنفس أمام الدول الإسلامية يبدأ عبر الساحة الإسلامية ذات الامتداد الجغرافي والإستراتيجي والسكاني والمادي، بدءاً بالتكامل، وانتهاءً بالتوحد عبر سياسات منضبطة.
العالم الإسلامي يمتلك مخزوناً جباراً من رؤوس الأموال ومن الثروات الحيوية والمعدنية، بالإضافة إلى التلاحم الجغرافيين، والتكامل في الموارد؛ ولهذا لو قامت تجارة فعلية بين العالم الإسلامي لأمكننا الاستغناء عن العالم الخارجي- على الأقل- في الاحتياجات الإستراتيجية.
وهنا يبرز دور مؤسسات التكامل؛ سواء على مستوى الإطار الإسلامي العام كمنظمة المؤتمر الإسلامي، أو حتى على المستوى الإقليمي كالاتحاد المغربي ومجلس التعاون الخليجي، أو اتحاد جمهوريات وسط آسيا الإسلامية، أو على المستوى الوظيفي كمجموعة الدول الثمانية الإسلامية. لكن المثير للعجب أن دور هذه المؤسسات لم يزل مقصوراً على الدور الاستشاري، ولا يحمل أي صورة من الإلزام"().
إننا بحاجة إلى بناء الإنسان المسلم بناء إيمانياً قوياً راشداً، معتزاً بذاته، مغيراً لظروف حياته، عارفاً بظروف الأمم الأخرى، قادراً على نهوض حقيقي في مواجهة أخطار العولمة.
والشرط الأساس أن نعيد إليه الاعتبار، ونخلصه من الاستلاب السياسي الذي تعرض له خلال القرون الأخيرة؛ كي يخطط لمشروعه الحضاري المتكامل، ليخدم نفسه ويخدم غيره.
إن الغرب الآن ليس بحاجة إلينا في التقنيات المتقدمة، بل نحن الأحوج إلى ذلك كثيراً، ولكن الغرب يحتاج إلى قيمنا كما نحتاج إليه. ولو أخذنا بوسائل العولمة الحديثة التي يستعملها للتدمير، ووجهناها من خلال قيمنا وأخلاقنا إلى التعمير، لخدمناه وخدمنا البشرية جميعاً، وخدمنا- قبل ذلك- أجيالنا، وحصنّاهم؛ كي لا يقعوا فريسة سهلة أمام مغريات العولمة الأمريكية الصهيونية اللادينية الإباحية.
يقول الدكتور "عبد الحميد الغزالي": "بعد سقوط الاشتراكية وتبني جورباتشوف البيريسترويكا، التي أراد من خلالها أن يبحث عن طريق غير الرأسمالية؛ لأنه أعلم بمشاكلها- أرسل وفداً ليدرس النظام الإسلامي للاستفادة منه، وشكلت لجان في مركز الاقتصاد الإسلامي التابع لجامعة الأزهر من المتخصصين، وعكفت هذه اللجان على صياغة برنامج متكامل للنظام الإسلامي في شكل بنود وفقرات، قدمنا فيه نظاماً اقتصادياً تشغيلياً، يبدأ بفلسفة النظام والعمل والأجور، ونظام الملكية المتعددة، والاستهلاك، والاستثمار، والادخار، والشركات، وصيغ الاستثمار، والسياسة النقدية، والسياسة المالية.... إلى آخر مكونات النظام الاقتصادي الفاعل.(9/384)
وعندما قدّمنا هذا النظام للوفد، تساءل رئيسه الوزير "بافلوف": "لديكم مثل هذا النظام، وأنتم على هذه المسألة من التخلف؟". وأسندت أمانة المؤتمر الردّ إليّ، فكان ردّي: "لأننا بعيدون تماماً عن هذا النظام".
ولكن توالت أحداث تفكك الاتحاد السوفيتي، ولم تُعِد القيادة الروسية الفرصة للاستفادة من هذا المشروع، الذي أصرَّ الوفد الروسي على مناقشته تفصيلاً في جولة ثانية في موسكو.. إلاّ أن الجولة المقترحة لم تتم بسبب هذه الأحداث
==============(9/385)
(9/386)
هل من رد إسلامي معاصر على العولمة؟!
ترجمة: عبدالله جاد
بقلم/ د. إبراهيم أبو ربيع
لم يحقق الفكر الإسلامي المعاصر كل إمكاناته الفكرية، فباستثناء انطباعات ودراسات فردية قليلة؛ لم يقدم هذا الفكر منظورًا شاملاً للعديد من القضايا والمسائل التي تواجه العالم الإسلامي، وهذه الثغرة أكثر وضوحًا في مسألة الحداثة والعولمة، ومن ثم يثير الكاتب بعض الملاحظات النقدية حول حالة الفكر الإسلامي المعاصر، منطلقًا من ثلاث مقدمات أساسية تتصل بطرق معالجة الفكر الإسلامي لقضية العولمة، ثم يحاول رصد عدد من التضمينات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية لمفهوم العولمة؛ خاصة فيما يتصل بوضعية العالم الثالث فيما بعد الحرب الباردة أو في ظل النظام العالمي الجديد وانعكاساتها على مفهوم الاستقلال الثقافي في ظل العولمة، كما يهتم برصد تداعيات العولمة على قضية المسلمين المركزية (القضية الفلسطينية)، من خلال استكشاف آفاق وأبعاد العلاقة بين الصهيونية والعولمة. ويرى الكاتب أن المجتمع المسلم في الغرب موقع مثالي لفهم طبيعة العولمة وما تنتجه وما تفرضه من تحديات على العالم الإسلامي بما يثير قضية عولمة الإسلام الأمريكي، وينتهي إلى أفكار ختامية حول طرق معالجة التحولات المعرفية والأخلاقية التي أحدثتها العولمة مؤخرًا، كما يحتوي البحث على عدد من الهوامش والإحالات المرجعية.
=============(9/387)
(9/388)
ملاحظات نقدية استهلالية
الليبرالية الجديدة، كنسق عالمي، حرب جديدة لغزو مناطق جديدة، فلا تعنى نهاية الحرب العالمية الثانية أن العالم قد تغلب على الثنائية القطبية، أو أنها أفضت مرة أخرى إلى الاستقرار تحت سيطرة المنتصر، فعلى حين كان ثمة جانب مهزوم، وهو المعسكر الاشتراكي، فإنه يصعب تحديد الجانب الفائز هل هو الولايات المتحدة ؟ أم الاتحاد السوفيتي؟ أم اليابان؟ أم الثلاثة معاً؟ فبفضل الكمبيوتر والأسواق المالية ومن منطلق تجارى، ووفقاً لرغباتها، تفرض الليبرالية الجديدة قوانينها ومبادئها على الكوكب، فلا تعدو العولمة أكثر من امتداد شمولي لمنطقها إلى كل جوانب الحياة، والولايات المتحدة التي كانت حاكمة الاقتصاد سابقًا، أصبحت الآن محكومة عن بُعد بحركية القوة المالية الفائقة "التجارة الحرة"، وقد استفاد هذا المنطق من خاصية النفاذ الناتجة عن تطور الاتصالات؛ ليتولى أمر كل جوانب النشاط في النطاق الاجتماعي، وكانت النتيجة أن أصبح الجميع بمنأى عن الحرب (1). لقد كانت الثقافة في الخمسينيات والستينيات ـ وهى إحدى مراحل تاريخ العالم الثالث التي يأمل مؤيدو العولمة في تهميشها واغتيالها - تتشكل من نوعين من الثقافة : الثقافة الاستعمارية المهيمنة والثقافة الوطنية التحررية، ويرغب أولئك المتأثرون بأيديولوجية العولمة في ابتداع ضرب جديد من الثقافة : ثقافة الانفتاح والتجدد وثقافة الانسحاب والركود (محمد عابد الجابرى) (2).
"أخبرونا أن العالم ينكمش، وتلاشت المسافات الشاسعة بالحاسبات الآلية والفاكس، وأن الأرض أصبحت الآن " قرية عالمية" أصبحنا فيها مترابطين على نحو غير مسبوق، ومع ذلك فثمة شعور بنقيض ذلك تماماً: شعور بأن التنائي والانفصال يشكلان الحياة الحديثة، وإن كان ثمة شئ تقلَّص فهو اكتمال الذات الذي عانته الذات الحديثة، ويقرر علماء النفس أن مستويات الإحباط والقلق عالية، وأن شبكة الأصدقاء وأفراد الأسرة المقرَّبين وعلاقات الجماعة انكمشت ـ بالنسبة لأغلب الناس ـ إلى جزء صغير مما عايشته الأجيال السابقة" (شارلين سبرتناك) (3).
إن المعرفة التي كانت مجانية ومفتوحة للراغبين فيها ولصالح المجتمع، أصبحت الآن متملَّكة وخصوصية ولصالح النشاط المادي، وبعد أن كان أهل العلم يحرصون على استقلالهم العلمي؛ ها هم الآن، يخططون المناهج العلمية وفقاً لما يتم الاتفاق عليه مع مؤسسات الأعمال الممولة، وأصبح الأساتذة الذين كانوا يدرسون مقيدين في قوائم رواتب الشركات التي يقومون لها - في مختبرات الجامعات- بأبحاث يمكن تسويقها بينما تدفع الجامعات رسوماً مخفضة لإحلال الأساتذة المساعدين، أما رؤساء الجامعات الذين كانوا قادة الفكر لمؤسسات المجتمع فقد أصبحوا الآن يتمثلون بالتجار المتجولين (جون هاريس) (4).
يستحيل تقريباً تقديم تعريف بسيط لمصطلح العولمة نظراً لأنه يحمل عدداً من التضمينات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية والفكرية، وتنصب اهتماماتي في هذا المقال على إثارة عدد من الأسئلة النقدية حول هذه التضمينات؛ خصوصاً في علاقتها بالعالم الإسلامي المعاصر، وتقديم بعض الملاحظات النقدية حول حالة الفكر الإسلامي المعاصر، واقتراح طرق معالجة التحولات المعرفية والأخلاقية التي أحدثتها العولمة مؤخراً، وبداية أودُّ القول: إن مؤيدي العولمة لم يأخذوا بجدية المنظور الإسلامي في الاقتصاد والمجتمع أساساً، لعدم وجود تقدير ونقد إسلامي نظامي لهذه الظاهرة. صحيح كانت ثمة حركات مفاجئة ضد الحداثة الغربية؛ كان أبرزها في إيران والسودان ومصر، إلا أن رد المثقفين المسلمين على الإشكاليات المتولدة عن العولمة قاصر وتجاوزه الزمن.
وبغض النظر عن الاتجاهات المعرفية المعقدة المستبطنة في الفكر الإسلامي المعاصر، فإن هذا الفكر لم يحقق كل إمكاناته الفكرية، لأنه أخفق في معالجة أكثر القضايا نقدية في زماننا؛ أين النقد والفهم الإسلاميان للقومية الحديثة والديمقراطية والحداثة والدول القومية، بل وحتى للاستعمار والاستعمار الجديد؟ فباستثناء دراسات وانطباعات فردية قليلة، لم يقدم الفكر الإسلامي المعاصر منظوراً شاملاً -ناهيك عن أن يكون مقنعاً- للعديد من القضايا والمسائل التي تكتنف العالم الإسلامي المعاصر. وهذه الثغرة أكثر وضوحاً في مسألة الحداثة والعولمة.
يجب لإلقاء الضوء على طبيعة الفكر الإسلامي الحديث، التمييز بين الفكر الإسلامي من ناحية والفكر العربي أو الباكستاني من ناحية أخرى؛ فقد يعني المرء بالفكر العربي الحديث الإنتاج الفكري للمفكرين الدينيين والعلمانيين العرب في المائة عام الأخيرة، بعبارة أخرى، يجب عدم تسوية الفكر العربي بالفكر الإسلامي؛ لأن الفكر العربي يشمل كل نزعات واتجاهات وأنماط الفكر التي تعكس الأسئلة والقضايا المحيرة التي تشغل الفكر العربي الحديث (5)، ومن ناحية أخرى، فإن للفكر الإسلامي مركزًا إلهيًّا، وإطارًا فكريًّا مرجعيًّا، يحدده الوضع المحوري للقرآن الكريم في الحياة والفكر الإسلاميين.(9/389)
تستدعي الملاحظات السابقة التساؤل حول طبيعة الحضور الإسلامي في الغرب بصورة عامة، فمن المغالطة المحاجة بأن العالم الإسلامي خارج منفصل عن الغرب، وأن الحضور الإسلامي في الغرب ليس مهماً للعالم الإسلامي؛ لأنه تنقصه الأصالة، فمع هجوم الحداثة وهجرة المثقفين المسلمين والمهندسين والأطباء والمهنيين للغرب منذ بداية القرن العشرين، أصبح من المهم إثارة الأسئلة حول طبيعة واتجاه الإسهامات الفكرية الإسلامية في الغرب، وإجمالاً لم يُنتج المجتمع الإسلامي في الغرب - باستثناء قلة من الجامعيين - مفكريه الذين يستطيعون مساعدة المجتمع الإسلامي في إدراك المشاكل التي تكتنف حضوره في بيئة غير إسلامية ـ وإن كانت متسامحة دينياً ـ بما يعكس المعاناة النفسية والاجتماعية للمسلمين في وسط غربي.
إن المجتمع الإسلامي موقع مثالي لإمعان النظر من الداخل ومن ثم للحديث عن طبيعة العولمة، وإرشاد العالم الإسلامي لفهم المخاطر الناشئة عن الليبرالية الجديدة، وقوى السوق الجديدة، ومن المستحيل التهرب من الاستنتاج بأن المجتمع الإسلامي في الغرب مضطر لتطبيق قيمه على وقائع العالم الجديدة التي لا تقر أية رؤية توحيدية للعالم بل رؤى العالم الاستهلاكية والتنافسية.
نتيجة للعوامل السابقة ثمة هاجس يتعلّق بقضية التراث وكيفية الحفاظ عليه في عالم قاسٍ سريع التغير، ولا يعني هذا أن قضية التراث لم تعد ملائمة ولا مهمة، إلا أنه يبدو لي أنه حان الآن وقت تجاوز الصياغات المفاهيمية لمفكري القرن التاسع عشر المسلمين من أمثال: محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والسيد أحمد خان، وذلك من خلال ابتكار أسلوب إسلامي جديد للتفكير، يستجيب بشكل مبدع للقواعد الصارمة للفكر الفلسفي والأخلاقي، فلا يمكن لأي فكر أن يسبر غور إشكاليات العولمة ما لم يتماش بصورة كاملة مع الاتجاهات الحديثة في النظرية النقدية والفكر الاجتماعي والاقتصادي وتضميناتها للفكر الديني في العالم الإسلامي والغربي، وكذا الرد الأخلاقي الذي يجب على الفكر الإسلامي المعاصر أن يقدمه لتأكيد حيويته وملاءمته.
يجب على الفكر الإسلامي أن يسعى للاستعانة بالأدوات النقدية، إلى جانب أدوات الوحي لتقديم إجابات شافية لمشاكل العالم الإسلامي المعاصر
=============(9/390)
(9/391)
ثلاث مقدمات ومناظرات عديدة
يجب على الفكر الإسلامي الحديث لكي يستعيد حيويته أن يعيد تفسير المبادئ المعيارية والدينية الأساسية للإسلام، بطريقة تعارض الطبيعة الشمولية للنظم السياسية والتربوية الحاكمة في العالم الإسلامي المعاصر، والدعم الذي تلقَّته مع انقضاض العولمة على السوق العالمي والنفس الإنسانية، فإذا ما قبل المرء بأن المساواة بين البشر هي صلب الرؤية الإسلامية ، توجب عليه أن يخلص إلى أنه يلزم لاتباع المثاليات الإسلامية معارضة أشكال القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري التي تبدو حالياً مسيطرة على العالم الإسلامي، بعبارة أخرى يجب علينا تعزيز رؤية إسلامية للعالم ذات طبيعة تحررية، وأن تكون ذات معنى للإنسان العادي وهذه هي المقدمة الأولى.
أما القاعدة الرئيسة الثانية: فهي تاريخية إلى حد ما وتتصل بالأساس، بالتغيرات الاجتماعية الاقتصادية الهائلة الجارية في الغرب الرأسمالي الحديث وتأثيراتها السياسية والفكرية على العالم والفكر الإسلامي المعاصر عموماً، ومن السذاجة افتراض أن الفكر الإسلامي يتبع حركيات داخلية معينة ليس لديها ما تقدمه إزاء الطفرات المعقدة في الفكر الغربي الحديث، أو أن الفكر الإسلامي الحديث يرفض الاستعارة من مصادر خارجية.
إن إدراك طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية والفلسفية في العالم الغربي الحديث يعنى التعامل بجدية مع مجمل تاريخ الفكر الغربي من الماركسيين وما بعد الماركسيين إلى الرأسماليين والعولمة وتجلياتها الأخيرة، وقد يحاجُّ البعض بأن تاريخ الغرب، وبالأخص الأمريكيّ والأوروبيّ، شهد تحوُّلات رئيسة في رؤيته للعالم وآخرها العولمة، ولا تزال الإشكاليات الناتجة من الحداثة تعجز الفكر الإسلامي عن التقدم.
تبدو العولمة لأغلب المفكرين في العالم الإسلامي، بدءاً من المنادين بالتغير الجذري إلى المحافظين، ظاهرة محتومة، ومن الصحيح بمعنى من المعاني أن مصير العالم الإسلامي متداخل أشد التداخل مع الرأسمالية الغربية المنتصرة بسبب الطفرات التاريخية والسياسية والفكرية في الغرب الحديث، ومع ذلك تبقى أسئلة عديدة تنتظر الإجابة : فماذا تعنى العولمة في سياق عالم ما بعد الاتحاد السوفيتيّ وما بعد الحرب الباردة والعالم ما بعد الحديث وفي سياق الرأسمالية الغربية المهيمنة والعدوانية ؟ ما مصير الدول القومية المنشأة خلال عصر الحرب الباردة في ظل العولمة؟ كيف تغيَّر المجتمع المدنيّ في العالم الإسلامي في العقد الماضي؟ وهل انهيار الاقتصاد والمجتمع الإندونيسيّ مؤخراً نتيجة مباشرة لتجاوزات العولمة؟ (6) وما دور المفكرين المسلمين في عصر التحوُّل الحاد ؟ كيف يمكن الحفاظ على الملامح الأساسية للهوية الإسلامية في السياق السالف، خاصة إذا كانت هذه الملامح قد تم الإعراب عنها في مرحلة ما قبل العولمة ؟ وإذا ترجمت المحافظة على أنها آلية دفاعية، فما الأدوات المفاهيمية التي يجب ابتداعها لإعادة الحيوية للفكر الإسلامي الحديث حول العولمة؟ وأخيراً لما كانت صناعة الإجماع في المجتمع المعاصر تقوم على الأفكار، ويجرى تعليم الأفكار الرأسمالية الموجهة في المدارس الخاصة والجامعات في أنحاء العالم الإسلامي فأين تكمن المصلحة العامة للشعب؟
القاعدة الثالثة مشتقة من السؤال الأخير: فالعالم الإسلامي يمر بعملية مثيرة من التغير في أنساقه التعليمية، والتعليم الأفضل هو تعليم خصوصي، وللمحافظة على أبناء النخبة، وهى النخبة نفسها التي شنت ثورة فكرية صامتة ضد الجماهير في العقود القريبة، ويظهر انتشار المؤسسات التعليمية الخاصة ومراكز التعليم عن بعد في تركيا ومصر والأردن وماليزيا، بشكل لا تخطئه العين، إن التعليم سلعة غالية الثمن تباع لمن يعرض أعلى سعر (7) ولم تعد ثمة حاجة للانزعاج من "ثورة الجماهير" أو التوليفات الليبرالية للتعليم.
وبينما استمرت قدماً خصخصة التعليم وإكسابه طابعاً نخبوياً وغربنته وأمركته أمور لها دلالتها في العديد من أقطار العالم الإسلامي كان الناس العاديون قد سُلبوا كبرياءهم التقليدي ، وعمَّ وعى جديد على أساس من الفارق الطبقي التعليمي والتمايز الاجتماعي الاقتصادي، ويصح تطبيق الملاحظة التالية عن رجال القبائل في شمال شرق الهند على العالم الإسلامي:
لا يمكن إنكار قيمة التعليم الحقيقي في اتساع وإثراء المعرفة، لكن التعليم أصبح اليوم في العالم الثالث أمراً مختلفاً تماماً، فهو يعزل الأطفال عن ثقافتهم وعن الطبيعة، ويدربهم عوضاً عن ذلك، على أن يصبحوا متخصصين بشكل دقيق في بيئة حضرية مغربنة، وهذه العملية لافتة على وجه الخصوص في "لاداخ" حيث يجرى التعليم بشكل عمياني مانعاً الأطفال من رؤية المحيط الذي يعيشون فيه، فيتركون المدرسة غير قادرين على استخدام مواردهم الخاصة أو العمل في عالمهم الخاص (8).
ففي العالم الثالث يتم التضحية بالقدرة الداخلية على الإبداع لحساب التخصص الدراسيّ العلميّ الذي يعد بمكاسب مالية (9)
===============(9/392)
(9/393)
العالم الثالث فيما بعد الحرب الباردة
أو النظام العالمي الجديد
العولمة ليست ظاهرة جديدة، فقد ظهرت مع انتصار رأسمالية "دعه يعمل" في عصر ما بعد الثورة الصناعية، والتوسع الاستعماري الأوربيّ، بعبارة أخرى، أنشأ الاستعمار الأوربيّ المنتصر تحوُّلات عميقة سياسية واقتصادية وثقافية ودينية في ما يدعى العالم الثالث، وأدت هذه التحولات إلى تفاعل دائم بين الشمال والجنوب (10)، وكانت السيطرة الاستعمارية ذات حدين : فأدت إلى تحديث بعض المؤسسات والقطاعات الرائدة في العالم المستعمَر كالجيش وقوات البوليس والنسق التعليمي، ولكنها خلقت أيضاً اختلالاً في التوازن الاجتماعي والاقتصادي، من قبيل الفجوات الأساسية بين الريف والحضر التي أدت إلى هجرة ريفية إلى المدينة، والنخبة الفكرية الداخلية القلقة ومزدوجة اللغة (11).
لقد كانت استجابة الدولة القومية لتغلغل رأسمالية الطبقة الوسطى والبرجوازية تؤكد على الاستقلال الوطني الاقتصادي والثقافي، وتسعى لإنشاء بنى وأسس جديدة للدولة الجديد لتجاوز الاستقلال التقليديّ عن الاستعمار، ومنح وجود الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة الدول القومية الجديدة حيزاً للمناورة، ومع ذلك فقد حوّل حدثان رئيسان التوازن في السبعينيات والثمانينيات لصالح الغرب الرأسمالي : فتح الرأسمالية الأمريكية السوق الصينية الضخم (12)، وانهيار النظام السوفيتي وما تلاه من انتهاء الحرب الباردة، التي كانت علامة بارزة على انتصار الغرب الرأسمالي على الشرق الاشتراكي (13) ، وترك هذان الحدثان الرئيسان -منقطعا النظير تاريخياً- الدول القومية عرضة لتحديات، وأخطار حقائق النظام العالمي الجديد الاقتصادية والجغرافية السياسية (14).
يدلل التغير السالف مرة أخرى على أهمية القرارات الاقتصادية في تحديد اتجاه السياسة العالمية والمستقبل، فبدأت الرأسمالية التنافسية المدفوعة بدافع الربح حملة جديدة : غزو الفضاء بعد غزو الأراضي (15)، وانضمت إليها الشركات متعددة الجنسية التي ترى مستقبل الرأسمالية في غزو فضاء جديد وأقاليم غير مادية جديدة، وتسعى ـ للنجاح في ذلك ـ لإنشاء مناخ عالمي يسمح بالتنافسية بدون اليد المتحكمة للدولة. إن اتجاه الرأسمالية العدوانية هذا اندفاع جنوني، أو لنقل أنه الأكثر خطورة بسبب غياب نظام سياسي واقتصادي دولي متعدد، ولاحظ أحد المؤلفين أنه في ظل نظام الليبرالية الجديدة الأحادي فإنه "في عصر اللبرلة واسعة الانتشار، فإن الشركات الخاصة، بالتنسيق مع الدول والهيئات الدولية المسئولة عن مساعدتها مفوَّضة في تعزيز الوفرة والرفاهة الإنسانية، وتنتج هذه المشروعات السلع، وبشكل متزايد الخدمات، ويُتجاهل أكثرها فعالية الحدود، والربح هو علة وجودها ومحركها الوحيد والحقيقة أنه ثمة فجوة كبيرة تفصلها عن القدرة على الوصول لأهدافها، وحتى لو لم نضع في خلفية تفكيرنا هذه الشركات التي أخفقت في الغرب، فإنه يجب التأكيد على أنه لا أمل للجنوب (16).
لقد كان لإنشاء مناخ معولم سهل الانقياد لنمط جديد من الربح الدولي آثار سلبية على الاقتصادات المحلية الداخلية ، فأنشأ مجموعة جديدة من قواعد الرشاد والقيم لا تأتلف مع تقاليد وثقافات وتواريخ شعوب البلاد الأصلية والدول القومية، إن منطق الرأسمالية ليس الحفاظ على إنماء نظم اجتماعية اقتصادية سليمة بل جنى الربح بأسرع ما يمكن (17).
تستدعي الفكرة الأخيرة التساؤل حول العلاقة الجديدة بين الشركات متعددة الجنسية والدولة القومية، من حيث دور الدولة في المجتمع، والتغيرات العميقة في علاقات القوة، ليس بين الشمال والجنوب فحسب ، بل بين دول الجنوب أيضاً، وطبيعة المجتمع المدني، وتضمينات هذا للديمقراطية في العالم الثالث (18).
تتحدى العولمة الدولة القومية لتفتح فضاءها وحدودها لنمط جديد من التنافس المتحرر من أية سيطرة (19)، ويتوقع من نخب الدولة القومية السياسية أن تتعاون بشكل كامل مع المشروعات الاقتصادية ، وغالبا ما تكون مراكمة رأسمال وطني مستحيلة، لأن العديد من دول العالم الثالث مثقل بديون كبيرة للمؤسسات المالية الدولية، وهنا تتغير قواعد اللعبة، فالتنمية الوطنية والنمو في العالم الثالث مقيدان بتراكم رأس مال على نطاق دولي.
كانت العولمة في الخمسينيات والستينيات -وفقاً لرؤية سمير أمين- محكومة إلى حد ما بثلاثة عوامل دولية : تدخل الدولة الرأسمالية في عملية التراكم، والمشروع السوفيتي لإقامة اقتصاد اشتراكي، ومشروع باندونج من أجل عالم غير منحاز يتشكل تحت رعاية سوكارنو ونهرو وناصر (20).(9/394)
ومع انتشار الخصخصة في بلاد هؤلاء القادة الراحلين، وصل المشروع الوطني الاشتراكي للاكتفاء الذاتي وتمكين الفقراء إلى حد التوقف المميت، ففي العالم العربي على سبيل المثال، اقتطع المركز منطقة الخليج جبراً من بقية العالم العربي، وكثّف هيمنته اقتصادياً وعسكرياً في أعقاب الهزيمة العسكرية للعراق في حرب الخليج الثانية، ويعنى ذلك -وفقاً لرؤية سمير أمين- أن دول الخليج "أصبحت الآن محميات مجردة من أية حرية للمناورة اقتصادياً أو سياسياً" (21) أو بتعبير والرشتين "كسب العالم الثالث المعركة السياسية في الخمسينيات والستينيات حيث تم التخلص من الاستعمار في كل مكان تقريباً ، وحان وقت الخطوة الثانية وهى التنمية الوطنية، ولم تنجز هذه الخطوة في أغلب المواطن (22) ، ففي عصر اللبرلة والاندماج لا تسمح العولمة للاقتصادات المحلية بأن تحيا مستقلة بنفسها" (23).
إن إخفاق الاقتصادات الوطنية في أقطار مثل: إندونيسيا والهند ومصر والجزائر دليل انتصار التكنولوجيا العقلانية في الغرب المتقدم، ومع ذلك، فكما أشار بعض الاقتصاديين لا يمكن أن يتحدد انتشار اللبرلة المالية والعولمة التكنولوجية بعوامل تكنولوجية فقط، فللسياسة عملها في انتشار العولمة والتكنولوجيا العقلانية، والرغبة السياسية للمركز وراء إخضاع كل الدول القومية - مع استثناء محتمل لإسرائيل - لمقتضيات السوق الرأسمالي (24).
يتصور مؤيدو العولمة نوعا من اقتصاد القرية العالمية يسهل انتشار التحديث والترشيد التكنولوجي في العالم، ويشيرون إلى العولمة أدت إلى إدماج المجتمعات التي جرى إفقارها وتهميشها حتى الآن في السوق العالمي، ولم تؤدِّ العولمة في رؤيتهم إلى خلق ملايين الوظائف العديدة وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية للفقراء فقط، بل وأدَّت أيضًا لانفتاح الحيز الثقافي والفكري للأمم الفقيرة (25)، وحتى لو قبل المرء مثل هذه الرؤى - وهو ما أصبح أمرًا لا يمكن تجنبه في العديد من أقطار العالم الثالث - فإن عليه أن يتحول ببصره إلى العمليات الأخرى المصاحبة لها والتي لا تقل دلالة عنها ، وهى أن النظم المتعولمة أشد رسوخاً مما كانت عليه النظم الشمولية في الأعوام الماضية (26)، فقد خلق قمع الدول القومية الشامل طرقاً جديدة تقمع بها الدولة القومية ـ المقموعة هي أيضاً ـ المجتمع المدني، وقوّض هذا القمع التماسك الاجتماعي في العالم الثالث، وقلَّص الحيز الديمقراطي في المجتمع، واختنق المجتمع المدني نتيجة للتحولات العديدة في حدود القوة في المجتمع، وأصبحت حرية التعبير سلعة نادرة (27)، وكما لاحظ مؤلف ألمعي فإنه "بينما كانت الدول المصنعة تظهر تدريجياً، كان النظام العالمي الجديد الذي فرضه الاقتصاد المعولم يعنى للجميع سباقاً نحو القاع، فتم خفض الوظائف باسم التنافس العالمي، واعتلت الشركات عابرة القوميات مستوى من القوة يعلو أية حكومة، وحتى في دولة مثل الهند حيث يؤلف عشرة في المائة من أصل تسعمائة وثمانين مليوناً من السكان طبقة وسطى جديدة ، تستفيد من الحضور العالمي للشركات عابرة القوميات فإن التسعين في المائة الأخرى ليسوا مدرجين في خطة المستقبل المبهر، ويشكل العشرة في المائة، بدخولهم المتاحة، سوقاً واسعة بدرجة تكفي لإسالة لعاب اللاعبين العالميين، وأصبحت الهند قصة نجاح عظيم (28).
استمر الحيز الديمقراطي في الدولة القومية العديدة في الثمانينات والتسعينيات عرضة لتحديات في الصميم ، فربما يتوقع المرء أن يقوم المركز المتقدم حامل لواء الديمقراطية لأمد طويل بتعزيز ديمقراطية حقيقية في الجنوب، إلا أن هذا بعيد عن الحقيقة، فقد تشكلت في ظل العولمة علاقة جديدة بين النخبة السياسية والقوى الاقتصادية، وبالأخص الشركات متعددة الجنسية (29)، ويعنى هذا في العالم الإسلامي أن الدولة القبلية شبه الدستورية، التي سيطرت عليها العائلة أو العشيرة نفسها كسبت قوة قمعية إضافية، وعانى المجتمع المدني من الخسارة الإضافية للحرية، وجرى استضعاف العمال والمرأة.
إن تغلغل الشركات متعددة الجنسية في اقتصاديات العالم الثالث - بعيداً عن أن يقضى على الفقر أو يخفف بؤس فقراء الريف - أدى إلى ثلاث ظواهر متضافرة : زيادة عدد الناس المتعطلين والفقراء ، وتركيز الثروة في أيدي النخبة السياسية، وزيادة قمع الدولة (30). وإندونيسيا مثال بارز على هذا، فمع قدوم التقنيات الحديثة في زي العولمة ، أُعيد التأكيد على الرسالة الغربية القديمة أو الرسالة الحضارية في ظل آلهة النفوذ والتكنولوجيا والاستثمارات والرخاء القديمة / الجديدة.(9/395)
لقد تحولت صورة نخبة الفكر في العالم الثالث جذرياً في عصر العولمة، ففي عصر الاستعمار قامت نخبة الفكر المحلية بدور قائد في كل من الاستقلال السياسي والثقافي على الرغم من أنها كانت وفق رؤية "بندكت أندرسون " نخبة فكرية وحيدة مزدوجة اللغة يركبها القلق" (31) إلا أنها عكست هموم ومعاناة شعبها، وحاربت من أجل الاستقلال عن سادتهم المستعمرين ومدارسهم التي درسوا فيها، أما نخبة فكر "عولمة العالم الثالث" فلا تشاركها هذا القلق" ، فالعلماء والفنيون والمهندسون والباحثون يجمعهم الانشغال بالأعمال والاستثمارات، وكلهم يعبرون عن أنفسهم بأسلوب جديد من اللغة الإنجليزية، وهو أسلوب مدرسة لندن للاقتصاد، أو مدرسة هارفارد للأعمال، وبتعبيربيير بورديو يميل هؤلاء الفنيون الجدد لتفضيل الربح الاقتصادي على حساب اختلال وضعهم الفكري والاجتماعي في مجتمعات العالم الثالث، ويدعم الفنيون ما يسميه بورديو " العنف الهيكلي " في هذه المجتمعات أي زيادة عدد المتعطلين والمهمشين في المجتمع (32).
تنهض اللغة الإنجليزية، وتحديداً الإنجليزية الأمريكية، بدور رائد في عصر العولمة فلا يمكن أن يكون الفني ناجحاً دون إتقان أسرار إنجليزية الأعمال الأمريكية، وإذا صح أن الإنجليزية الأمريكية تطورت من رحم الإنجليزية البريطانية خلال القرون السابع والثامن والتاسع عشر، فمن الصحيح بالدرجة نفسها أن الإنجليزية الأمريكية كانت تستجيب خلال هذه الفترة بشكل خلاق للظروف الاجتماعية والاقتصادية للعالم الجديد، فقد طور الأمريكيون في معركتهم ضد السيطرة البريطانية مرجعية لغوية لا تشترك في القواعد القديمة مع إنجليزية الملكة، فعزز "نوح وبستر" اللغوي الأمريكي البارز في القرن التاسع عشر الفهم بأنه "من المستحيل إيقاف تقدم اللغة فهي أشبه بمجرى الميسيسيبي الذي يتدفق وإن دقت أحيانا ملاحظة حركته"(33).
لقد أخفقت النخبة السياسية الأمريكية خلال الحرب الباردة 1945-1989 في نشر اللغة الإنجليزية في مواجهة أعدائها، أساساً ، لأن الإنجليزية الأكاديمية كانت حكرًا على المفكرين اليساريين الذين تخلوا عن وصاية الكتب العظيمة، والقيم التقليدية، وأفسدوا النظام الاجتماعي (34) ومع ذلك، فقد اتخذت إنجليزية الأعمال مع انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة وضعا هجومياً، وتبنى التكنوقراط الجدد في الشمال والجنوب نمطاً رسمياً من الإنجليزية أكثر مساعدة لعالم المال والأعمال منه لعالم الإنسانيات.
إن زيادة البؤس والفقر الاقتصادي ليست حكرًا على العالم الثالث وحده (35) فتنتشر هذه الظاهرة نفسها في المركز كما في فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة، فالتحلل الحضري بادٍ في مدن المراكز الرئيسة، وهو في معناه العميق عرض لنقص الرفاه الاجتماعي والتعليمي بين الفقراء، ويدل تعاطى المخدرات وانتشار الجريمة المحلية على أن نسبة لها دلالتها من المجتمع في المركز المتقدم تم تهميشها، بعبارة أخرى، كسبت الرأسمالية في سعيها لمراكمة رأس المال المزيد والمزيد من الربح،
ولكن على حساب نشر الدمار في القطاعات الضعيفة من المجتمع داخلياً وفيما وراء البحار، وكما يوضح أحد المؤلفين "تلد الرأسمالية الرخاء والفقر معا في الوقت نفسه" (36) .
وكما سلف لم يظهر النظام العالمي الجديد من فراغ، فقد أصبح العالم الثالث مع سقوط النظام السوفيتي في أوائل التسعينيات، بعد عقود من النضال الحاد، ضحية سهلة للهيمنة الأمريكية (37) وبغض النظر عما إذا كان العراق هدف بغزو الكويت سنة 1990 تحدي السيطرة الغربية عموما، وسيطرة الولايات المتحدة خصوصا، فقد بثَّ تجميع القواعد الغربية تحت لواء الأمم المتحدة موجات صادمة عبر العالم الإسلامي، وحافظت ـ إن لم تكن عززت ـ الهزيمة العسكرية للعراق على مصالح الغرب القومية التي قوَّت ـ في مفارقة تاريخية واضحة ـ نظم الخليج السياسية التسلطية، ومنعت أية فرصة حقيقية لتحقيق الديمقراطية لأعوام عديدة قادمة.
أثار هذان الحدثان - بالإضافة إلى إبراز التحولات الرئيسية في الأحلاف العالمية، وشهود ظهور الولايات المتحدة كقوى عظمى وحيدة - بشكل أكثر حدة قضية الهيمنة الثقافية الغربية مرة أخرى، وخصوصاً الأمريكية، وآثارها على ثقافات العالم الثالث، فمحدودية التأثير الأمريكي على العالم الإسلامي ، في عصر ما بعد الحرب الباردة ، بالمسائل الاقتصادية والسياسية أمر أبعد ما يكون عن الصحة؛ لأن هذا التأثير فكري ومفاهيمي في المقام الأول؛ ولأن النخب الإسلامية الحاكمة تبنت الأفكار الرأسمالية العملية كأنماط مثالية لها (38).(9/396)
ونظراً لتشابك الغرب مع العالم الإسلامي منذ أوائل القرن التاسع على الأقل، فإن الغرب كظاهرة لا يزال يحير الفكر الإسلامي الحديث، ومع ظهور الاستعمار في أوائل القرن التاسع عشر تساءل المفكرون المسلمون " ما الغرب ؟" وفرض الغرب تحدياً أساسياً على العقل العربي الإسلامي الحديث، وهذا التحدي هو الذي أرغم الفكر الإسلامي الحديث على نقد الماضي، ومحاولة انتحال روح الغرب العلمية الحديثة، ومع ذلك بقى الغرب مصطلحاً غير محدد في الفكر الإسلامي الحديث هل يمثل الاستعمار ؟ أم الليبرالية ؟ أم المسيحية ؟ أم الرأسمالية ؟ أم الاشتراكية ؟ وعادة ما اتخذ الغرب -ككيان علمي ثقافي اجتماعي- وضعاً هجومياً باستمرار.
لقد كان مفكرو النهضة في العالم العربي والمفكرون الليبراليون في الهند المسلمة في القرن التاسع عشر (39) تأسرهم الإمكانات المختلفة التي يقدمها العقل الغربي، والعلم الغربي، وكانوا واعين بالركود العميق لمجتمعاتهم، وأن هذا الركود ينتهك مبدأ إسلامياً رئيساً وهو "المصلحة العامة"، وسَعوْا لتحسين الأوضاع بإحياء هذا المبدأ وربطه بالحاجة للعلم الغربي ، بعبارة أخرى، فإن العلم الغربي ومبدأ المصلحة العامة لا يلتئمان في فكر نخبة الفكر في عصر النهضة، وعلى النقيض من ذلك ، يجب للوفاء بالمبدأ الإسلامي تبنى منطق الحداثة (مثلاً العلم) (40) وهكذا رأى رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وسيد أحمد خان وأقرانهم أنه يمكن حل هذا التوتر (الركود مقابل العلم) فقط، إذا ربطت نخبة الفكر في زمانهم فلسفتها المذهبية بمنطق الفلسفة والعلم الغربيين أي بتأييد التقدم، وهو المفهوم المحوري لحداثة القرن التاسع عشر الأوربية. ومع ذلك، فقد وضح أثناء محاولة حل هذا التناقض تناقض آخر: تناقض العلم والاستعمار وكلاهما من معطيات الغرب.
كان مفكرو القرن التاسع عشر المسلمون واعين بشكل جيد أن الغرب لا يعنى ببساطة العلم، بل والسيطرة العسكرية والسياسية أيضاً .
حددت التوترات المزدوجة بين الركود الإسلامي والعلم الغربي وبين العلم الغربي والهيمنة الغربية مُعلّمات التحديات الرئيسية التي واجهت العقل المسلم منذ القرن التاسع عشر، وأصبح هذا الاستقطاب المزدوج أكثر تعقيداً في منتصف الخمسينيات بعد نهاية الاستعمار الرسمي في أغلب الدول الإسلامية، وسعت الدولة القومية الجديدة للتحديث دون التضحية بالمصلحة العامة، سواء أكانت مشتقة من الفكر الإسلامي أو من الفكر القومي، وسعت للاستقلال الاقتصادي والاجتماعي عن الغرب الذي كانت لا تزال تعتمد عليه، وعندما بدأت العولمة تضع بذورها الاقتصادية في أوائل السبعينيات مع الغزو الاقتصادي للصين، ثم أثمرت مع انهيار النظام السوفيتي في التسعينيات، أصبح العالم الإسلامي واقعاً في شرك شبكة الغرب الرأسمالي ، وبدأت الفجوة في القوة بين العالم الإسلامي والغرب في الاتساع إلى درجة أن دولة مثل سوريا كانت تستخدم الاتحاد السوفيتي لدعم مركزها، استرضت الغرب بإرسال قواتها لمحاربة العراق، وتحققت النظم السياسية الإسلامية توًّا أنه من الانتحار تحدى السلطة الأمريكية، وكان لهذا التباين الأساسي في القوة آثاره العميقة على عمل المجتمعات الإسلامية داخلياً، وأدى إلى فجوات أوسع بين الأثرياء والفقراء داخل العالم الإسلامي، ووطَّد التحول الدولي المصاحب له في قوة النخب السياسية والعسكرية المسلمة
=============(9/397)
(9/398)
الاستقلال الثقافي في ظل العولمة
ورثت الدولة القومية الإسلامية الحديثة عالما من التناقضات، فعلى حين كانت تسعى للتحرر من الاستعمار الثقافي السياسي بعد الاستقلال، بدأ الاستعمار الجديد يتجلى بصورة مباشرة بصياغة علاقات اقتصادية وسياسية، تمنح المركز اليد العليا في التعامل مع الشئون الدولية والاقتصادية لتوابعه السابقة، وفي رأى العديد من المفكرين العرب، فإن العولمة هي المرحلة الأخيرة من الاستعمار الجديد "إنها ذروة نجاح المشروع الرأسمالي العالمي النطاق" (41).
فقد سمح الاستعمار الجديد للمركز بالحفاظ على أسواقه ونفوذه الثقافي وأحياناً قواته بأقل كلفة، وعلى حين يمكن قياس وتقدير كم العوامل الاقتصادية، يصعب قياس الثقافة بنفس الطريقة، فقد خلفت نهاية الاستعمار الرسمي ركاماً ثقافياً معقداً لا يمكن التغلب عليه بين عشية وضحاها، ووجدت نخبة الفكر في النظام القديم التي حاربت الاستعمار السياسي دون الثقافي نفسها في مركز مسيطر، واقعة بين الثقافة الغربية التي تبنتها وثقافة البلد الأصلية ودعم الذين آثروا التعريب ـ كما في شمال أفريقيا ـ التنوع الثقافي والاستقلال عن ثقافة الغرب المسيطرة.
إن ما بعد الاستعمار - توأم الاستعمار الجديد الذي ظهر منه - نتاج النظام العالمي الجديد (42). وغالباً ما يستتبع الاستعمار كحدث تاريخي ذي أهمية قصوى احتلال قطر (أوربي) لقطر آخر عسكرياً، والسيطرة المباشرة على الموارد الطبيعية، بما يخلق نوعاً من التمايز بين المصالح الاستراتيجية للمستعمر. لقد سعت النخبة السياسية للدول القومية العديدة لتحديث بلادها من خلال التقليد الأعمى للغرب، واستفادت من الحماية السياسية والعسكرية التي أسبغها الغرب عليها.
فعلى سبيل المثال لم يثر الغرب في هذه الأقطار قط مسألة حقوق الإنسان، ولا غياب الديمقراطية؛ لأن مجمل اهتمامه كان موجهاً للحفاظ على مصالحه، وتأسس الاستعمار الجديد على شكل جديد من السيطرة الاقتصادية يسمح بظهور الأشكال المتمايزة الأخرى من الهيمنة أي السياسية والفكرية والثقافية.
لقد شعرت أقطار العالم الثالث، إلى حد ما، بالتخفف خلال الحرب الباردة من ضغط الغرب السياسي والثقافي ؛ لأن توازن القوى العالمي سمح لها بالعمل بحرية، ومع ذلك تغير الوضع القائم بانهيار النظام السوفيتي والهزيمة العسكرية للعراق، وترك هذان الحدثان العالم العربي والثقافة العربية بلا دفاعات في وجه الهيمنة الأمريكية، وبظهور الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، اتهم المركز ـ ولا يزال ـ عددًا من الدول مثل كوبا وسوريا وليبيا بدعم الإرهاب.
لم يزل الهامش يعتمد على المركز منذ عصر الاستعمار، وأسس انتشار الأفكار عبر الأقمار الصناعية علاقة جديدة بين العالم الإسلامي والغرب، ويمارس الغرب ما يمكن دعوته بـ "ثقافة إمبريالية " مهيمنة (43)، ويلفت معظم المفكرين المسلمين الذين شبوا في ظل الاستعمار أنظارنا إلى الاستنتاجات الرئيسة للمفكرين الأوروبيين، وحتى الأمريكيين، حول صعود الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة ، وتأثيره الثقافي العالمي، حتى داخل أوربا، ويقولون: "إن"الإمبراطورية الأمريكية هي الوحيدة في العالم وهى المتقدمة بشكل مطلق، ولأول مرة في التاريخ الإنساني تظل هذه الظاهرة الغريبة باقية" (44).
إن الولايات المتحدة إمبراطورية فريدة، فهي المنتج الرئيس لكل أنواع السلع وهى أيضا مستهلك شره، وتاريخها مميز من بدايته الأولى بميل متطرف إلى التوسع: "إن التاريخ الأمريكي بكامله موسوم باتجاه دائم نحو التوسع، الظمأ للأراضي، الظمأ للقوة ، والظمأ للجدة شأنها شأن العديد من الحاجات التي يتوجب إشباعها " (45) ووفقا لرأي الناقد الأدبي الأمريكي ذائع الصيت "إدموند ويلسون" لم يكن التوسع الأمريكي فيما وراء البحار في أعقاب هزيمة ألمانيا النازية محض مصادفة: "كنا نعتقد أننا نحرر أوربا ونناضل استعمار اليابان الإقطاعية، ولكننا ظهرنا فجأة بعد الحرب (العالمية الثانية) محتلين أو مسيطرين على الأقطار الأجنبية في كل من أمريكا وأوربا وآسيا والشرق الأوسط دون ترحيب أحيانا، كما كان الفرنسيون في الجزائر، أو البريطانيون في قبرص، أو الروس في أوربا الوسطى، وبعد أن صدمنا استعمار الآخرين لسنوات طويلة طورنا نوعًا جديدًا خاصًا بنا، ووجدنا أنفسنا نعبس في وجه الاتحاد السوفيتي، وننفق المليارات على أسلحة موجهة ضده، وعلى أسلحة كان مجرد تجريبها خطرا على سكان بلدنا ودون أية استفزازات حقيقية لنا، ولكن لسبب محدود المعقولية وهو أن نتحدى الروس السوفيت للسيطرة على أجزاء واسعة من العالم" (46).
إن الأمركة المنتصرة -في رأى العديد من مفكري العالم الثالث- هي التجلي الحديث للعولمة، وتؤيد الأمركة نوعا جديدا من النماذج الاقتصادية والثقافية " فالعولمة إلى جانب كونها نسقا اقتصاديا فإنها أيديولوجية تخدم هذا النسق فالأمركة والعولمة متضافرتان بشكل بالغ" (47).(9/399)
يحتاج العالم الإسلامي في سعيه للتنمية العلم والتكنولوجيا الغربيين، ومع ذلك لا يمكن استيراد العلم الغربي دون القيم الأخلاقية التي أنتجته، وقد استخدم الغرب في طوره الاستعماري الثقافة والأفكار لاستعمار العالم الثالث، ولهذا ازدهر الاستشراق وبعثات التبشير والأنشطة المشابهة، وجرى استبقاء الاستعمار التقليدي بالحضور المادي لقوات البلد الأم في ما وراء البحار، فقد تعاون الغزو المادي والفكري آخذاً كل منهما بيد الآخر، إلا أن الموقف مختلف إلى حد ما في عصر الاستعمار الجديد بتقدمه السريع في التكنولوجيا، وتعرض التكامل الفكري والثقافي للأمم الصغيرة للخطر، فكان غرض الاستعمار إنشاء نخبة ثقافية داخلية بقيم غربية، وغرس نظم التعليم والفكر الغربية في العالم الثالث، وكانت ثقافة الاستعمار أيديولوجية بطبيعتها، واليوم أدى الغزو الثقافي من خلال التقنية المتقدمة إلى النتيجة التالية :
سعت الثقافة الغربية - إضافة إلى كونها أيديولوجية بطبيعتها - إلى قهر وسائل النقد والعقلانية في العالم الإسلامي، وفي حالتنا استهدفت العقل العربي والإسلامي محاولةً جعله ينسى ماضيه المتفرد والمجيد.
إن إحدى حقائق عالم اليوم التي يؤسف لها أنه ليس ثمة من يمكنه منافسة الهيمنة الاقتصادية والفكرية الأمريكية، فهذا البلد يمتلك موارد اقتصادية ضخمة وتقنية متقدمة، والمهارة العسكرية والإرادة لغزو العالم بكامله فكرياً (48)، ولذا أعيد صياغة السؤال الأول إلى: ماذا يجب عمله لتحقيق نهضة ثقافية وسياسية واجتماعية عقلانية في العالم الإسلامي المعاصر؟ إن الفكر الإسلامي لا يمكنه تجنب التضمينات الكاملة لتحدّي الغرب الثقافي المعاصر وبالأخص تحدى الولايات المتحدة في سياق النظام العالمي الجديد.
أصبح النظام العالمي الجديد الذي تدشن في أعقاب الهزيمة العسكرية للعراق ظاهرة سياسية شاملة، وعلى سبيل المثال سلم رد القوميين على الغرب بتكيف أساسي مع الأوضاع بعد نهاية الحرب الباردة، وفقد معظم الدول الاهتمام بالوحدة العربية، وما قاله عابد الجابري الأيديولوجي المغربي الرائد مناسب في هذا الصدد: إن الوجود العربي حي، وأظهرت الحرب القريبة التي شنها الحلفاء على العراق، بجلاء، حيوية العروبة ، وحضورها المصان في روح الجماهير العربية التي احتشدت لتأييد العراق وغالباً ضد رغبات حكوماتها، ومما له دلالته أيضاً في هذا الصدد الموقف العربي القومي الذي اتخذه مفكرو الفرانكفون المغاربة الذين حُرم العديد منهم من تعلم العربية في طفولتهم، وإضافةً لحشد تأييدهم وراء العراق فقد عبروا عن فزعهم وإحباطهم من الموقف الأوربي من العراق (49).
كان الغرض الأساسي للمشروع القومي العربي خلال عصر الاستعمار تحقيق استقلال العالم العربى، وساعد استقلال الجزائر على تحقيق هذا الهدف، ولكن حرب عام 1967 كانت نكسة رئيسة بمنعها الوحدة والتضامن العربيين من أن يمدا جذورهما الفكرية والتنظيمية في المجتمع.
إن ظهور الدولة الإقليمية كحقيقة سياسية دولية وكوضع نفسي اجتماعي / اقتصادي لا يمكن تجاوزه، وضع مزيداً من العقبات في طريق المشروع القومي العربي، فالعالم العربي منقسم الآن بشكل يفوق أي وقت مضى، وعلى العالم العربي أن يأخذ في الاعتبار ـ إضافة إلى التحدي الثقافي والانقسام السياسي ـ المشروع الصهيوني والتغيرات الحادة في طبيعته في سياق النظام العالمي الجديد.
ويمكن القول -تأسيسًا على الحجج السالفة- إن المهمة العاجلة للعالم الثالث هي السعي للتحرر الاقتصادي والسياسي من هذه الهيمنة الجديدة ، وأحد العوامل الحاسمة في ذلك التخلص من الاستعمار الثقافي؛ لأن الهدف الأساسي لما بعد الاستعمار هو الهيمنة الثقافية وبث القيم الغربية في العالم الثالث (50)، ويرفض الشمال إجراء نقاش شامل حول القيم الثقافية مع الجنوب، مفترضا أن قيمه الخاصة هي المعيار أي أنها قيم عالمية، وأن تبنيها سيحل مشكلات العالم الثالث الاقتصادية والاجتماعية (51)، وبغض النظر عن قدرات الغرب العسكرية والنووية الفائقة فإن ما بعد الاستعمار سلاح يهدف لتدمير التنوع الثقافي في عالم اليوم(52) وخلق ثقافة عالمية متجانسة واحدة هي " الثقافة التغريبية" (53).(9/400)
ليس مصادفة أن معظم المناطق الدولية الساخنة تقع في العالم الإسلامي، والسبب الرئيس في ذلك رفض الغرب التوصل إلى تفاهم مع أي نسق للقيم سوى نسقه، ومع ذلك فإن العوامل الخارجية ليست وحدها سبب المشكلة، فالعالم الإسلامي ـ شأنه شأن أغلب دول العالم الثالث ـ يعانى من غياب الديمقراطية، وأزمة في حقوق الإنسان، ونقص القنوات الديمقراطية التي يمكن للناس أن يعبروا عن آرائهم خلالها بحرية، و لم ينتج عن هذا الوضع أي احتجاج من الغرب، فإنتاج السلاح في ازدياد في ظل العولمة، ومستهلكوه الأساسيون في الجنوب، في إفريقيا والشرق الأوسط وأفغانستان، الحروب الأهلية في ازدياد، بصفة أساسية، في الجنوب ، فقد تعلم الغرب درساً هاماً بعد الحرب العالمية الثانية وهو ألا تنشب أية حروب في أوربا والشمال، وتسبب هذا كله في غياب حوار ثقافي جاد بين الشمال والجنوب، ومن ناحية أخرى جازف غياب الاتصال والتسامح الثقافي بتعريض السلام للخطر لأعوام قادمة.
إن المعضلة الرئيسة التي تواجه العالم الإسلامي المعاصر تتمثل في حماية التنوع الثقافي العالمي و التعددية في وجه الهيمنة الأمريكية المتصاعدة، وتكمن الإجابة في تحقيق تغير رئيس في تفكير كل من الشمال والجنوب، فعلى الشمال أن يعترف بالتنوع الثقافي، وعلى الجنوب تأكيد استقلاله الثقافي، ووفق رأي أحد إسلاميي شمال إفريقيا فإن" التحرر من الاستعمار الثقافي مهمة أجيال عديدة" (54).
بدأت الولايات المتحدة في تصعيد الحرب ضد أعدائها العالميين الجدد في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وجرى التعبير عن هذا بوضوح في مقولة "صمويل هنتجتون " (55) وأصبح الغرب مشغولا بخطر الإسلام أو الإرهاب الإسلامي أو الأصولية، وجرى اختزال العالم الإسلامي وتفتيته، بكل تركيبه الثقافي والعرقي ، إلى هذه الكلمات، وجرى تجاهل حقيقة أن أغلب المسلمين يعيشون في أقطار تحكمها نظم تسلطية يدعمها الغرب وديمقراطياته (56). إن التحرر من الاستعمار يبدأ في الواقع عندما تعتمد النخب الفكرية في العالم الثالث وفي الغرب جديا أطروحة أن التحديث لا يجب أن يعنى التغريب وأن ثمة طرق غير غربية للتحديث.
إن إحدى الظواهر الأخاذة التي تسم الحضارة الحديثة هي التحول العميق الذي حدث لدى تحول الحضارة من ثقافة الإنتاج إلى ثقافة المعلومات والمعرفة العلمية، وقد أمكن هذا بسبب الطفرات الجذرية في العلم والتقنية، وبسبب تفوق الغرب العلمي أصبحت فجوة المعلومات بين الشمال والجنوب لا يمكن تخطيها، بل واستمرت في الاتساع يوما بعد يوم. فعلى سبيل المثال كانت الولايات المتحدة تملك 56 % من إجمالي بنوك المعلومات في العالم، وخصوصا بنوك البحث والعلم بينما تمتلك الجماعة الأوربية 28 % منها، واليابان 12%، والعالم الثالث 1 % .
توافقت الفجوة المعلوماتية بين الشمال والجنوب في عصر العولمة هذه مع "القوة الرخوة" التي تعرف على أنها قوة التحكم والاتصال، وبداية الحرب التكنولوجية عن بعد ووفقا لرتشارد فولك من جامعة برنستون فإن اعتقاد النخبة الأمريكية والغربية الحالي هو أن إمكانات علم التحكم والاتصال غير محدودة.
إن بعض الاستراتيجيين في الولايات المتحدة يحلمون بأخذ قيادة شبكات التحكم والاتصال والثروة الأسطورية الناتجة عن الصناعات الفكرية للتعلم والمعرفة، ويريدون بناء إمبراطورية العصر الإلكتروني الجديدة التي سيصبح السوق العالمي واهنًا في مركزها بفضل تقنيات المستقبل (57).
إن بلدًا بقوة شباب الولايات المتحدة لا يزال مفتتنًا بغزو المهاجرين المروج الأمريكية الداخلية، وفي البداية كان كم الأراضي التي يجرى غزوها غير محدود، ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر توقف هذا التوسع الإقليمي، وكان على العقل الأمريكي أن يتمسك بحدود جديدة، وحدود النظام العالمي الجديد هي غزو الفضاء، الذي يعني النفاذ الكامل إلى موارد السيبرنت ، ومع استمرار نزيف العقول من الأفكار الصغيرة، وهجرة العديد من خبراء التقنية العالمية من الاتحاد السوفيتي، امتلكت الولايات المتحدة موارد تكنولوجية هائلة، وبدأت العولمة الأمريكية بشكل جاد (58) مع ملاحظة أن المركز المتقدم شجع هجرة الفنيين المهرة من العالم الثالث، وأنه بدأ سن القوانين التي تجعل الهجرة أصعب كثيرًا للمهاجرين من غير المهنيين (59).
لقد أدى هذا إلى تفوق الغرب السياسي والاقتصادي ، وانتشار الأفكار الغربية من خلال اكتساب التقنيات الغربية، ونزيف العقول من العالم الثالث إلى المركز، والتسرب التدريجي للقيم الفكرية والثقافية والعلمية للعالم الثالث، وتسبب هذا كله في غياب حوار ثقافي جاد بين الشمال والجنوب، ومن ناحية أخرى جازف غياب الاتصال والتسامح الثقافي بتعريض السلام للخطر لأعوام قادمة (60).(9/401)
وعلى الرغم من التفوق المعلوماتي الذي يبديه الغرب، فلا يزال شعبه لا يعلم إلا أقل القليل عن شعوب العالم الثالث والتحديات التي تواجهه، فالإعلام الجماهيري الحالي في المركز المنتصر لا يفضل نظيره منذ عشرين سنة ؛ إذ لا يزال يشن حربًا من التجاهل للمشاكل الحقيقية المؤثرة في الجنوب، ويصبح هذا الوجه المزدوج للعولمة (معلومات كثيرة عن العالم الثالث ومعرفة قليلة جدا عن مشاكله) أكثر خطورة عندما تتغلغل القوى الرأسمالية الجديدة في كل ركن من العالم، وتصوغه وفقا لمتطلبات الاقتصاد العالمي الجديد (61)، ويستخدم الغرب تقنياته البحثية المتفوقة لجنى أرباح أكثر على حساب العالم الثالث، وبالأخص مع استمرار الظروف غير المتكافئة بين الشمال والجنوب (62).
عجّلت العولمة أيضا نزيف العقول من العالم الثالث إلى المركز المتقدم، ويفضل العديد من مهنيي ومفكري العالم الثالث الإقامة في الولايات المتحدة، وأُطلق على هذه العملية عن حق، "النزف الفكري" لأنها تستنفد الخبراء من الأقطار الفقيرة التي تحتاجهم أشد الاحتياج في كل الحقول العلمية.
ولا يسعى العديد من المهاجرين لمستويات اقتصادية واجتماعية أفضل فقط، بل يهاجرون أيضًا لأن العملية الإنمائية في أقطارهم الأصلية ينقصها الرؤية السليمة لإدماجهم بشكل خلاق، ويكمل ذلك غالبا التقليد الأعمى للشمال الحديث بما يؤدي لنقل التكنولوجيا دون أي إسهام خلاق من الجنوب، بعبارة أخرى يمكن للجنوب أن يشترى التكنولوجيا، ولكن يجب عليه أن يبتدع أشكاله الخاصة من الحداثة والتحديث، ولا يمكن إبداع هذه الأشكال إذا ما استمر رحيل المهنيين المهرة، وكان من تداعيات هذا الوضع التعس معاناة العالم الإسلامي، وبقية العالم الثالث من المشاكل المتداخلة من أمية، وغياب البحث العلمي الصارم، ونقص القيم الديمقراطية.
إن نزيف الموارد الفكرية ظاهرة تنذر بالخطر، إلا أنها أدت إلى نتائج إيجابية، وبالأخص، في المركز المتقدم حيث يدور الحوار حول القيم الدينية والثقافية المتنافسة بين أناس من جماعات دينية وثقافية مختلفة (63) وإضافة إلى ذلك يحتاج الشمال عمال العالم الثالث، فتستورد أوربا العمالة الماهرة وغير الماهرة من العديد من أقطار العالم الثالث، وأبرزها المغرب والجزائر وتونس وتركيا وباكستان، وتكشف هذه الهجرة الجماعية المستمرة عن التخلف المستمر لهذه الأقطار، فالتخلف هو عدم القدرة على إبداع واستخدام الموارد الإنسانية الماهرة ببراعة وعقلانية (64) ، ولا يرحل المهاجرون المهرة عن أقطارهم للأسباب المالية وحدها، بل لأن البلد الذي يتبناهم يقدم فرصة أفضل للحصول على تعليم أعلى في مهنتهم وفرصاً أكبر للتقدم.
إن المعرفة العلمية معلم رئيس على التنمية والتقدم في المجتمع المعاصر، ونظراً للتقدم السريع في العلم والتكنولوجيا فإن عالم المعرفة سيضاعف معلوماته العلمية في العقد القديم أو قريبا من ذلك، وهذا قدر هائل بالنظر إلى حقيقة أننا نتعلم في عقد أكثر مما كان أسلافنا يتعلمونه في ألف عام إلا أن الغرب واليابان يتحكمان بأغلب هذه المعرفة، بينما تستمر أفضل عقول العالم الثالث في الهجرة إلى المركز، ويتسبب هذا في فجوات معرفية أساسية بين الشمال والجنوب تجعل ـ بتزاوجها مع إحساس الشمال بسموه الثقافي ـ من الصعب تأسيس اتصال ثقافي فعال بين الشمال والجنوب " فمسألة التمركز العرقي حول الذات هي التي تجعل من الصعب تأسيس اتصال ثقافي حقيقي" (65) . إن الغرب الذي يشكل الآن 22% من سكان العالم، 16% فقط بعد ثلاثين عاما يستهلك 70% من إجمالي موارد العالم وتسيطر عليه ثلاثة هواجس: الاتجاهات السكانية للعالم الثالث، والأخلاق المسيحية اليهودية، واليابان (66). يواجه العالم تحدي التعددية الثقافية، ويحمل المستقبل مشهدين مستقبليين (سيناريوهين) ممكنين: إما إعادة تعزيز نسق دولي أحادي، كما يبدو اليوم في النظام العالمي الجديد المتميز بالتفوق الأمريكي، أو الحفاظ على التنوع الثقافي، وهى القيمة التي يجب على العالم الدفاع عنها ، وبدون هذا الدفاع لن يحقق العالم الثالث تحرره الثقافي الكامل واستقلاله.
إن الغرب يعيد خلق التاريخ المنصرم في شكل جديد من إعادة الاستعمار، وهو ما بعد الاستعمار، و تنشئ العولمة نظاماً عالمياً جديداً سيبدو بعد عقود قليلة مختلفاً جداً، فقد بدأت التحولات الرئيسة تأخذ مجراها بالفعل من انهيار الاشتراكية، وانتشار الخصخصة في أقطار مثل: الصين والهند ومصر، وصعود القوى الإقليمية كالجماعة الأوربية على إثر التفوق الأمريكي، واتساع الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الفقراء والأثرياء داخل الأقطار وفيما بينها، وعولمة الاستغلال كتداعٍ طبيعي للخصخصة، والاستثمار متعدد الجنسية، وصعود القومية المغالية، والتطهير العرقي، ومشكلات اللاجئين الجديدة، وإضفاء الطابع الدولي على الجريمة، وخاصة ذات الصلة بالمافيا واختلال استقرار الدولة القومية، وخلق أعداء دوليين جدد (67)
=================(9/402)
(9/403)
الصهيونية والعولمة
اضطلع المشروع الصهيوني في ما بعد الاستعمار بدور جديد تموله وتدعمه معنوياً الولايات المتحدة، وساعدت الأقطار الاستعمارية السابقة في العبور من الاستعمار إلى ما بعد الاستعمار وأقرته الأمم المتحدة، وسعى المشروع الصهيوني - إزاء هذا السياق - لاعتراف الدول العربية الرئيسة به. أعاد المشروع الصهيوني ، الذي بدأ في الوقت نفسه مع المشروع القومي العربي ابتكار نفسه في ظل حكومة الليكود، بالتشبث العنيد بثنائيات التحضر ضد الهمجية، والرحمة مقابل الإرهاب، والديمقراطية مقابل الشمولية، وإسرائيل الديمقراطية مقابل العرب والمسلمين المتخلفين.
إن ما سيجرى للمشروع الصهيوني في المستقبل مسألة هامة، فعلى سبيل المثال، يستحيل تقريباً توقع ما ستكون عليه إسرائيل بعد خمسين عاماً بدقة تامة، ولكن مع بدء العولمة مد جذورها في الاقتصاد العالمي والثقافة، سيصبح الشرق الأوسط عموما وإسرائيل خصوصا أقل أهمية مما هو عليه الآن بالنسبة لاستراتيجيات المركز الرأسمالي العسكرية والسياسية فالبترول "العربي" والصهيونية ، أو أي شكل من أشكال القومية في الشرق الأوسط، سيتوجب عليهما تغيير سماتهما بشكل حاد في مقابلة التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية العميقة الناجمة عن العولمة، ويعنى هذا أنه يستحيل رؤية مصير إسرائيل بعد خمسين عاماً دون الأخذ في الحسبان أهمية الشرق الأوسط ككل في الفترة نفسها.
شهد عام 1948 ذروة انتصار المشروع الصهيوني بإنشاء دولة إسرائيلية قوية هدفها ـ كما هو مفترض ـ أن تقدم ملاذاً آمناً لمواطنيها، وبصورة محتملة للشعب اليهودي في العالم، وبعدها بنحو خمسين عاماً، ظهرت إسرائيل كأقوى دولة عسكرية في الشرق الأوسط بفضل الهزيمة الكاملة للناصرية عام 1967، وتدمير قدرات العراق العسكرية في حرب الخليج الثانية وما أعقبها، وعلى الرغم من اجتذاب إسرائيل سكاناً مختلفين من أركان العالم (على سبيل المثال العالم العربي وأوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق وأثيوبيا)، فإن أغلبية يهود المركز في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية لم يبدوا حتى الآن أي اهتمام حقيقي بالهجرة إلى إسرائيل أو العيش فيها، وترك ذلك المشروع الصهيوني، المبالغ في تقديره بمعنى من المعاني غير منجز، ومن ثم مبتوراً، على الرغم من التضحيات المالية الضخمة التي تكبدها يهود المهجر لصالح إسرائيل، و يكره يهود المركز الذين استمروا في طليعة العولمة ـ بطبيعتهم ـ الجوهر القومي والمحدود للصهيونية، وبرغم أنهم أكبر مؤيديها في هذه المرحلة من التاريخ فقد يعادونها في المستقبل، وقد منع العديد من العوامل الهجرة الجماهيرية ليهود المركز إلى إسرائيل منها : طبيعتها العسكرية، فقد دخلت إسرائيل عدة حروب رئيسية منذ عام 1948، وطبيعة المشكلة الفلسطينية التي ظهرت في أعقاب تأسيس إسرائيل، فعلى حين يجرى تفهم الفلسطينيين كأمة مجروحة بشكل عميق منذ 1948، يقل التأكد شيئاً فشيئاً في العالم الغربي حول المعتقدات المحورية للصهيونية، وبالأخص في ظل حكم الليكود.
وفي رأي ستكون الخمسون سنة القادمة في عمر إسرائيل مختلفة نوعاً عن الخمسين الماضية، فثمة استياء بين العديد من الإسرائيليين ويهود ما وراء البحر من الطبيعة العسكرية للدولة، وتقدير أكبر متزايد لمعاناة الفلسطينيين، وتفهم عميق -حتى من أكثر اليهود صهيونية- لعدم قدرة الاقتصاد الإسرائيلي البقاء بشكل دائم على المساعدات الأجنبية، سواء كانت أمريكية أو أوروبية أو حتى يهودية. إن مصير الفلسطينيين والإسرائيليين سيصبح أكثر تضافراً نظراً لعوامل ثقافية وسكانية: فعلى الجانب السكاني، يشير معدل مواليد السكان اليهود والفلسطينيين الحالي إلى أن الفلسطينيين، الذين يحملون المواطنة الإسرائيلية في إسرائيل، والذين يقدر عددهم الآن بثمانمائة وخمسين ألفاً سيصلون إلى حوالي اثنين ونصف مليون بعد خمسين عاماً، مع استبعاد أولئك الموجودين في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين يقدر عددهم بعد خمسين عاماً بحوالي 5 - 6 مليون ، ومن المشكوك فيه أن يزيد عدد السكان اليهود في إسرائيل بعد خمسين عاماً عن تسعة ملايين. ثانياً : وعلى المستوى الثقافي سيكون لليهود المهاجرين من العالم العربي كلمة أكبر في الشئون السياسية والثقافية في المجتمع الإسرائيلي ، وسيؤيدون ـ بغض النظر عن ميولهم السياسية المحافظة ـ تقارباً ثقافياً عربياً إسرائيلياً، وهذا أمر عادى بالنظر إلى أن العديد منهم يحاولون إعادة اكتشاف هويتهم الثقافية والدينية التي تم بناؤها خارج نطاق الحدود الإسرائيلية /الفلسطينية القائمة .
سيساعد كل ما سبق في إضعاف الطبيعة العسكرية القوية لإسرائيل، وسيخلق مجتمعاً إسرائيلياً أكثر إنسانية واتجاهاً نحو الشرق الأوسط، مجتمع يرى استمرار بقائه في التوافق مع بيئته شرق الأوسطية، والثقافة العربية الإسلامية على العموم
==============(9/404)
(9/405)
عولمة الإسلام الأمريكي
أود أن ألمس نقطة رئيسة أخيرة تتعلق بحياة المجتمع المسلم في الولايات المتحدة، فيعتقد الكثير من المسلمين الأمريكيين أن هذا البلد وحده هو الذي تتاح فيه للمسلمين فرصة حقيقية لتشكيل هوية إسلامية أصيلة، ووعى ورؤية إسلامية للعالم، وهذا الوضع مبنى على ما يلي:
يتسامح الحيز الثقافي والديني الأمريكي ، كما تطوّر عبر الزمن، مع تكوين هويات دينية وثقافية جديدة.
ولما كان التكوين الثقافي للمجتمع الأمريكي المسلم في غاية التنوع، فإن هذه البلد إحدى المناطق القليلة في العالم التي يمكِّن المسلمين الآتين من خلفيات ثقافية وعرقية متنوعة من الاختلاط والتمازج مع بعضهم بعضاً، وهكذا مهد الطريق لتكوين ثقافة إسلامية عالمية ـ ذات سمات أمريكية فريدة ـ ضمن حدود العلمانية، بعبارة أخرى يتمسك البعض بالرؤية القائلة بأن المسلمين في قلب الغرب المتعولم يملكون فرصة أفضل لبناء مجتمع إسلامي عالمي مما لو كانوا في أي قطر آخر، وهذه أطروحة جذابة تتطلب تفكيرًا عميقًا.
إن الأحداث الداخلية في حياة مجتمع المسلمين الأمريكيين والمهاجرين وأهل البلد معاً، والتغيرات الخارجية القريبة في النظام العالمي، وبالأخص انهيار الاتحاد السوفيتي والتورط الأمريكي في شئون العالم الإسلامي السياسية والاقتصادية، حولت المجتمع المسلم من مجموعة غريبة وأحياناً مروعة من الناس إلى مجتمع بارز ومتفتح، فلا يستطيع المسلمون الحفاظ على ابتعادهم عن الحياة الدينية الأمريكية، والتحديات الحقيقة التي تفرضها العلمانية على العقل الموحد (68) .
لا يزال المجتمع الأمريكي المسلم يضع أسسه الفكرية (أي الدين) والمؤسسية باللجوء إلى التراث الإسلامي المحوري الذي تطور في القلب الإسلامي في الشرق الأوسط عبر قرون عديدة ، وبالتفاوض ـ وإن كان بشكل واهن وبرؤية غير واقعية أحياناً ـ مع الحداثة الأمريكية على مكان للإسلام في هذه الثقافة، ويعلم المسلمون أنه لا بد للبقاء في هذا البلد، وللحفاظ على هويتهم من ظهور مجموعة من نخبة الفكر، لتعيد تفسير التراث الإسلامي العريض في موقف جديد، في الوقت الذي تقوم فيه بتحليل تعايش المجتمعات الدينية الأخرى مع النظام السياسي والاجتماعي الراهن.
على المسلمين أن يعترفوا بأنهم يعيشون في مجتمع تعدديّ الثقافات ومتنوع دينياً، وأن بعض الصياغات القانونية التقليدية كدار الحرب ودار السلام لا تناسب وضعهم في المجتمع الأمريكي، وأخيراً يجب على المسلمين صياغة مفاهيم قانونية ودينية جديدة للتعبير عن الطبيعة الفريدة لمجتمعهم، وتفاعله مع المجتمعات الدينية الأخرى، وتسامحه مع العديد من الرؤى والفلسفات المتنوعة، بعبارة أخرى يجب على المسلمين الرد على النقد التالي الذي يشترك فيه بعض مراقبي الإسلام في المشهد الأمريكي:
إن المسلمين الذين يأخذون دينهم بجدية لا يمكنهم الإيمان بالفصل بين الدين والدولة، والتعددية الدينية مفهوم غريب على المجتمع الإسلامي المثالي، ويجب إذن السماح للمسلمين في الولايات المتحدة بممارسة دينهم، ولكن ليس إلى الحد الذي يهدد أو يمنع حرية الآخرين الدينية، وتأكيداً ليس إلى درجة ممارسة الحرب المقدسة ضد غير المسلمين(69) .
تأتى هذه الصياغة من مراقب معادٍ ، ولكن الأسئلة الأهم هي كيف يمكن للمسلمين تفسير تهديدات العولمة الأمريكية الجديدة لكل من العالم الإسلامي والجماهير الفقيرة في الولايات المتحدة ، وهل استخدم المسلمون الأمريكيون كأدوات في أيدي العولمة لإفقار العالم الثالث؟ إن أحد طرق تشكيل إجماع إسلامي حول هذه الأسئلة تحقيق درجة من التفهم الحقيقي بين المجتمعين الكبيرين اللذين يشكلان الإسلام الأمريكي: المهاجرون وأبناء البلد الأصليين. ويواجه كلا المجموعتين تحدياً مشتركاً ألا وهو كيفية بيان وعى إسلامي يمكن إدراك المعتقدات المحورية لكل من الحداثة والعولمة، ويعي آثارهما على العالم الإسلامي المعاصر. يمكن علاوة على ذلك إثارة السؤال عن كيفية تقديم طبقة مفكرة أمريكية مسلمة أصيلة في انتمائها لتراثها الإسلامي الأوسع، ومنهمكة بشكل قوى في الأسئلة والقضايا التي تواجه قطاعات المجتمع المسلم المتنوعة، هذه القطاعات التي تمثل نطاقاً واسعاً من الطموحات والخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المختلفة. إن المسلمين الأمريكيين في وضع أفضل من غيرهم من المسلمين يمكنهم من تنوير العالم الإسلامي عن مدى ومخاطر العولمة وتحل بذلك بعض المسائل المحورية التي تواجه العالم الإسلامي المعاصر
=============(9/406)
(9/407)
أفكار ختامية
يتمحور العقل الغربي، الذي شكل أوضاع العالم منذ الثورة الصناعية، حول مفهوم التقدم (70) ويبدو للبعض أن إمكانات التقدم غير محدودة (71) ، فقد كانت ثمة مناطق في العالم الثالث، مادية وفكرية، لاحتلالها واستعمارها، ووفقاً لرأي أحد الكتاب فإنه في رؤية العالم الحديث "يضع معنى الخلاص في مفهوم التقدم والتوسع الاقتصادي والابتكار التكنولوجي في بؤرة الأهمية"(72) وفرضت ظاهرة التقدم تحدياً رئيساً على الثقافات التقليدية، وأسسها الاجتماعية الاقتصادية، ورؤاها الأخلاقية للعالم، ولم تتخل العولمة عن التقدم ولا حتى عن الأشكال الأشد تدميراً منه، كتلك التي تؤدى إلى شكل جديد من الاستعمار، فالمفهوم التقليدي للتقدم -وفقاً لرؤية حنا أرنت- أدى لعملية لا تنتهي من مراكمة القوة الضرورية لحماية المراكمة التي لا تنتهي لرأس المال التي حددت الأيدلوجية التقدمية لأواخر القرن التاسع عشر، وكانت إيذاناً بصعود الاستعمار(73) .
وتعود العولمة إلى نوع جديد من الاستعمار أكثر تدميراً وخفاءً من نظيره التقليدي، إضافة إلى ذلك خلقت العولمة ـ التجلي الأخير للعقل الحديث ـ تشويشًا حول "ما هم المهم في الحياة" وجرى استبدال المفاهيم الجديدة لما تعنيه الحياة بالمفاهيم التقليدية للترابط والرخاء وبناء المجتمع.
كانت نخبة الفكر الدينية في العالم الإسلامي ، قبل بزوغ القرن العشرين ، تعتبر التقدم الأوربي مجرداً من أي أساس أخلاقي، ومع ذلك حاجج البعض بأن الغرب كان لديه العزم على مدى قرون طويلة على بناء أسس أخلاقية لا تتفق مع أسس الوحي التوحيدي.
شجعت أخلاقيات العقل الغربي في ظل العولمة التراكم السريع للثروة وما يصحبها من قوة، فالنزعة الاستهلاكية المتطرفة هي القاعدة ، وفي رأى رتشارد فولك فإن تداعيات عولمة النفوذ الثقافي الغربي حالياً المتضمنة التزامها بالتحديث هي التي تسببت في أزمة النظام العالمي متعددة الأبعاد من نزعات التسلح النووي والتصنيع والمادية والاستهلاك(74)
لقد تطور وعي شعبي لفهم ومقاومة النزاعات السلبية للعولمة بسبب تداعياتها الهائلة، ويجب على العالم الإسلامي أن يكدَّ لإحياء أخلاقيات الإسلام الاجتماعية والمالية والاقتصادية كظاهرة توحيدية لمقاومة هذه الانحرافات الخطيرة، ومن المهم إحياء مفهوم المجتمع الذي يقاوم هجمات النزعة الفردية التي أصبحت القاعدة اليوم في المجتمعات الصناعية المتقدمة وتوابعها في العالم الثالث، ومع تزايد الفجوة بين الشمال والجنوب، والفجوات بين الريف والحضر داخل معظم أقطار الجنوب، ومع العدد المتزايد من المهمَّشين والفقراء في المدن لا مفر من إحياء الخلق الإسلامي الجماعي الذي "يأمر بالخير وينهى عن المنكر" (75) .
ومن المهم تذكُّر أنه لا بد لإبقاء رؤى العالم والفلسفات التقليدية حية من تقديم حلول على أساس رؤية تقليدية للعالم، ويجب أن تأخذ هذه الحلول في الحسبان الخراب النفسي والاجتماعي الذي أحدثته العولمة في العالم الإسلامي (76) ، بعبارة أخرى كيف يمكننا صياغة إجابات إسلامية على المشكلات الاقتصادية والثقافية والتشوش الناتج عن العولمة وحلفائها في العالم الإسلامي، ولا ننسى مثال إندونيسيا الملائم، هذا البلد الذي استهلّ برنامجاً جسوراً للتحديث مع أواخر الستينيات، وانهار اقتصاده فجأة أوائل 1998، وإن المرء ليعجب ما الخطأ الذي جرى في هذا البلد! ومن المدهش أن تساوي ثروة الرئيس السابق سوهارتو وعائلته القرض الذي وافق صندوق النقد الدولي على منحه لإندونيسيا تقريباً، لذا فإن السؤال هو كيف نجحت النخب السياسية والعسكرية في العالم الإسلامي في جمع هذه الثروة غير المعقولة تحت حماية العولمة؟
---------------
الهوامش والإحالات المرجعية
1 …- …Sub- commmandant Ma r cos,"La 4e gue r re mondiale a commence,"Le monde diplomatique (Augst1997),P1
2 …- …محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997)، ص 144
3 …- …Cha r lene Sp r etnac, The r esu r gence of the r eal: Body, natu r e,and place in a Hype r mode r n wo r ld (New yo r k:Addison -Wesley, 1997),P.11
4 …- …جون هارس صحفي كندى وهذا الاقتباس في :
Maude Ba r low and Heathe r -Jane r obe r tson," Homogenization of Education ," in "The case against the Global Economy : And fo r a Tu r n Towa r d the local, Edited by Je r ry Mande r and Edwa r d Goldsmith, (San F r ansisco :Sie r ra Club books, 1996), 62-63
5 …- …انظر الفصل الأول من
Ib r ahim M. Abu صلى الله عليه وسلمabi`,Intellectual O r igins of Islamic r esu r gence in the mode r n A r ab wo r ld (Albany: State Unive r sity of New Yo r k P r ess, 1996)
6 …- …لقيت إندونيسيا مؤخراً تغطية إعلامية كبيرة في الغرب ،راجع المقالات التالية:
V.S.Naipul."Indonesia: The man of the moment ,"Th New Yo r k r eviewof Books (11 June 1998), 40-45; Noam Chomsky," L`Indonesia atout mait r e du jeu Amé r cain, Le monde diplomatique (June 1998).
7 …- …انظر(9/408)
Ge r a r d De Selys, Tableau noi r , appel a la r esistance cont r e la p r ivatisation de l `enseignement (B r uxelles: EPO,1998)
8 …- …انظر
Theodo r e r oszak, The Cult of info r mation: The Folklo r e of compute r s and the T r ue A r t of Thinking (New Yo r k:Pantheon Books, 1986); Vandana Shiva, Mono - Cultu r es of Mind: Biodive r sity, Biotechnology and The Thi r d Wo r ld (Penang, Malaisia: Thi r d Wo r ld Netwo r k, 1993)
9 …- …في حالة الهند على سبيل المثال انظر
صلى الله عليه وسلم Mukh r jee,The r ise and Fall of The East India Company (Be r lin: Veb Duetsche r Ve r lag de r Wissenschaften,1958.)
10 …- …انظر
Edwa r d Shils, The Intellectuals and the Powe r s and Othe r Essays (Chicago: The Unive r sity of Chicago P r ess,1972 )
و بالأخص الفصل الثالث "Intellectuals in Unde r developed Count r ies"
11 …- …انظر:
H. Kissinge r , Yea r s of Upheaval (Boston: Little, B r own and Company,1982), and The White House yea r s (Boston: Little, B r own and Company, 1979).
12 …- …حول الآثار الداخلية للحرب الباردة على الولايات المتحدة انظر:
James T. Pate r son, G r and Expectatins: The United States, 1945 - 1974 (New Yo r k: Oxfo r d Unive r sity P r ess, 1996 )
13 …- …انظر
J. Deco r nyon, "Capital P r ive , Development du Sud et Solida r ite Mondiale: Les Multinationales, omnip r esentes et … impuissantes." Le Monde diplomatque (Novembe r 1988), 8-9
14 …- …انظر
Deco r noyn, " Capital P r ive," 9.
15 …- …أمين ، في مواجهة أزمة عصرنا، مرجع سابق، ص.ص.20 - 21.
16 …- …Z. Laidi and et al., L`o r de r mondial r elache (Pa r is: P r esses de la Fondation Nationales des Sciences, 1994).
17 …- …انظر:
S. St r ange, The r et r eat of the State: The Diffusion of powe r in the Wo r ld Economy (Camb r idge :Camb r idge Unive r sity P r ess, 1998)
18 …- …انظر
Sami r Amin , Les defis de la mondialisation (Pa r is : L` Ha r mattan / Fo r um du tie r s - monde, 1996).
19 …- …انظر: أمين، في مواجهة أزمة عصرنا، مرجع سابق ص.133
20 …- …انظر:
Immanuel Walle r stein, Afte r Libe r alism (New Yo r k : The New P r ess, 1995),15.
21 …- …انظر:
Daniel T. G r iswold, " Blessings and Bu r dens of Globalization," The Wo r ld and I (Ap r il 1998): 30-35.
22 …- …انظر:
P. Bai r och snd E. Hslleine r , States Against Ma r kets : The Limits of Globalization (London : صلى الله عليه وسلم outledge, 1996).
23 …- …انظر:
Pete r Ma r tin , " La mondialisation est -elle Inevitable? Une obiligation mo r ale" Le Monde Diplomatque (June 1997),14.".
24 …- …انظر:
Ignacio r amonet, " r égimes globalitai r es" le monde diplomatique (Janua r y 1997),1.
25 …- …انظر:
Paul Hi r st and G r aham Thompson, Globalization in Question : The Inte r national Economy and the Possibilities of Gove r nment (Camb r idge: Polity p r ess, 1996).
26 …- …Sp r etnak, r esu r gene of the r eal, 34.
27 …- …انظر:
C. de B r ie, " Le couple Etat-nation en instance de divo r ce" Le Monde Diplomatique (May 1989).
28 …- …انظر:
Nancy Bi r dsall, "Life is Unfai صلى الله عليه وسلم Inequlity in the Wo r ld" Fo r eign Policy (Summe r 1998): 95-113
29 …- …انظر:
Benedict Ande r son, Imagined communities: صلى الله عليه وسلم eflections on the O r igin and Sp r ead of Nationalism (London : صلى الله عليه وسلم outledge, 1991)140.
30 …- …انظر:
Pie r re Bou r dieu, "L` essence du ?eolib r ealisme," Le Diplomatique (Ma r ch 1998),3.
31 …- …انظر:
H.L.Mencken,Tge Ame r ican English: An Inque r y into the development of English in the United States(New Yo r k:Alf r ed A. Knopf,1955),25.
32 …- … r icha r d Ohman "English and the cold wa r ", in "The cold wa r and the Unive r sity:Towa r d an Intellectual Histo r y of the cold wa r yea r s, edited by noam chomsky etal, (New Yo r k: the New P r ess, 1997),73.
33 …- …انظر:
E. J. Pe r kins, The Wo r ld Economy the Twentieth Centu r y (Camb r idge : Schenkman, 1983).
34 …- …مزيد من التفصيل في هذا الموضوع انظر:
M. Beaud, "Jamais Tant de r ichesses, Jamais tant de Misè r e …Su r les causes de la Pauv r ete des nations et des hommes dans le monde contempo r ain." Le Monde Diplomatique (Novemb r e 1997),11.
35 …- …انظر:
Chal r es Wiliam Maynes, " the Pe r ils of an Impe r ial Ame r ica," Fo r eign policy ( Summe r 1998):36-49.
36 …- …انظر الفصل الثاني في:
Zbignew B r zezinski, The G r and Chess Boa r d: Ame r ican P r imacy And It's Geost r ategic Impe r atives (New Yo r k: Basic Books, 1997)
37 …- …انظر:
A. Ahmad, Islamic Mode r nism in India and Pakistan (London : Oxfo r d Unive r sity P r ess.1967).
38 …- …لمناقشة مفصلة لهذا الموضوع انظر:(9/409)
Ib r ahim M. Abu صلى الله عليه وسلمabi`,Intellectual O r igins of Islamic r esu r gence in the mode r n A r ab wo r ld(Albany : State Unive r sity of New Yo r k P r ess, 1996).
39 …- …عبد الإله بلقزيز،العولمة والهوية الثقافية ،المستقبل العربي (مارس 1998)،ص.92.
40 …- …لمزيد من التفاصيل انظر في:
Mahdi El Mandj r a, La Decolonization Cultu r elle: Defi Majeu r Du Ziéne Siecle (Mo r occo): Editions Walili, 1996, And Pa r is: Futu r ibles, 1996) 208.
41 …- …انظر على سبيل المثال:
محمد عابد الجابري، قراءة نقدية للفكر الغربي، (كازبلانكا 1995) وكذلك مشروع مركز دراسات الوحدة العربية حول النهضة العربية، 1996.
42 …- …Paul-Ma r ie de la Go r ce, le de r nie r empi r e (Pa r is: G r asset, 1996), 16.
43 …- …انظر:
Claude Julien, L`empi r e amé r icaine (Pa r is: G r asset, 1986), 25. The same ideas a r e p r esented by Jean-Jcqus Se r van- Sch r eibe r in, Le Défi ame r icain (Pa r is: Denoel, 1967).
44 …- …انظر:
Edmund Wilson, The Ame r ican Ea r thquake: A Ch r onicle of the r oa r ing Twenties The G r eat Dep r ession and the Dawn of the New Deal (New Yo r k: Da Capo P r ess, 1996),569.
45 …- …انظر، محمد عابد الجابري، العولمة نظام وأيديولوجيا، في المجلس القومي للثقافة العربية، العرب وتحديات العولمة، (الرباط: في المجلس القومي للثقافة العربية 1997) وعادل حسين، الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية (دار المستقبل العربي،1986).
46 …- …انظر:
Ignacio r amonet , " L`empi r e ame r icain" Le Monde Diplomatique (Feb r ua r y 1997) 1.
47 …- …محمد عابد الجابري، مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب (بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 1998) ص .16.
48 …- …Elmandj r a, La Decolonisation Cultu r elle , 214
49 …- …Mahdi. Elmandj r a, r et r ospective desfutu r s (casablanca: ouyoun, 1992), 164
50 …- …Elmandj r a ,La Decolonisation Cultu r elle , 215.
51 …- …المهدي المنجرة ،الحرب الحضارية الأولى (الدار البيضاء:عيون،1994)ص 21-22.
52 …- …Elmandj r a, La décolonisation cultu r elle, 15.
53 …- …انظر:
Samuel Huntingdon, The Clash of Civilizations.
54 …- …B r ian Coodwin, How the leopa r d Cahnged Its Spots: The Evolution of Complexity ( New Yo r k : Cha r les Sc r ibne r `s Sons , 1994); Mitchell M. Wald r op , Complexity : the Eme r ging Science at the Edge of O r de r and Chaos (New Yo r k : Simon and Schuste r , 1992).
55 …- … r icha r d Falk , " Ve r s une domination mondiale de nouveau type" Le Monde Diplomatique (May 1996), 16.
56 …- …انظر:
Joseph Nye et William Owens , " Ame r ica`s Info r mation Edge" Fo r eign Affai r s (Ma r ch -Ap r il 1996).
57 …- …انظر:
S. Sassen , Losing Cont r ol ? Sove r eignty in an Age of Globalization (New Yo r k : Columbia Unive r sity P r ess, 1996).
58 …- …انظر:
J. Nye and W. Owens "Ame r ica`s Info r mation Edge" 29-30.
59 …- …انظر:
William G r eide r , One Wo r ld , r eady o r Not : the Manic Logic of Global Capitalism (New Yo r k : simon and Schuste r , 1997); A. G r esh , " Les Aleas de l`inte r nationalisme" Le Monde Diplomatique (May 1998), 12.
60 …- …انظر:
r icha r d Banet and John Cavanagh, Global D r eams : Impe r ial Co r po r ations and the New Wo r ld O r de r (New Yo r k : Simon and schuste r , 1994): M. I. Bougue r ra , Le r eche r che cont r e le Tie r s - Monde (pa r is : PUF, 1993).
61 …- …لمناقشة مفصلة لهذا الموضوع راجع:
Claude liauzu, r ace et civilisation : L`Aut r e dans la cultu r e occidentale (pa r is: Sy r os, 1992).
62 …- …انظر:
Elmndj r a. La Decolonisation cultu r elle, 175
63 …- …المرجع السابق ص.188.
65 …- …المرجع نفسه.
66 …- …انظر في هذا مقالة طريفة :
Le Sous -Commandant Ma r cos, "La 4e gue r re mondiale a commence," Le Monde Diplomatique (August 1997).
67 …- …Zeev Ste r nhell, The Founding Myths of Is r eal: Nationalism, Socialism and the Macking of the Jewish state (P r inceton: P r inceton unive r sity p r ess, 1988)
68 …- …Dinesh D`Souza"Solving Ame r ica`s Multi-cultu r al dilemma,"The wo r ld and I (Janua r y 1996)p.35.
69 …- …Ib r ahim M.Abu r abi,"Beyond the post mode r n Mind" Ame r ican Jou r nal of Islamic social science (sept., 1990): 235-56.
70 …- …انظر:
Sp r etnak, r esu r gence of the r eal, 2.
71 …- …انظر:
Hannah A r endt, The O r igins of Totalita r ianism (cleveland : Me r idian Books, 1963), 143.
72 …- … r icha r d Falk, Expol r atons at the edge of time: The P r ospects fo r Wo r ld o r de r (Philadelphia: temple Unive r sity P r ess, 1992),48.
73 …- …انظر:
David صلى الله عليه وسلم Griffin and Huston Smith, P r imo r dial T r uth and Postmode r n Theology ( Alpany : State Unive r sity of New Yo r k P r ess, 1989).(9/410)
وانظر كذلك:
Hans Kung, A Global Ethic fo r Global Politics and Economics (New Yo r k : Oxfo r d Unive r sity P r ess, 1998), خاصة الفصل الثاني.
74 …- …انظر:
Akba r S. Ahmed, Postmode r nism and Islamic : P r edicament and P r omise (London: صلى الله عليه وسلم outledge, 1992); Akba r S. Ahmed and Donnan Hastings (eds.). Islam, Globalization and Postmode r nity (London : صلى الله عليه وسلم outledge , 1994); Walden Bello, New Thi r d Wo r ld : St r ategies fo r Su r vival in the Global Economy (London : Eathscan, 1990
=====================(9/411)
(9/412)
المجتمع الإسلامي
منظمة العفو: أمريكا حولت العالم إلى ساحة حرب بدعوى مقاومة الإرهاب
انتقد التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية الذي نشر يوم الأربعاء 23-5-2007م الولايات المتحدة لانتهاكها حقوق الإنسان والتعامل مع العالم على أنه "ساحة معركة كبيرة" في حربها على ما تسميه "الإرهاب"، معتبرة أن احتلال العراق، وجو الخوف الذي نشرته إدارة جورج بوش في العالم أجمع زاد من الانقسامات الدولية.
واتهمت المنظمة واشنطن بازدواجية خطابها حول حقوق الإنسان من خلال تصوير نفسها على أنها بطلة الدفاع عن هذه الحقوق ودولة القانون من جهة، وتطبيق سياسات تنسف أبسط مبادئ القانون الدولي في الوقت ذاته.
وقالت المنظمة إنه في أواخر 2006 المجتمع كانت الولايات المتحدة لا تزال تحتجز آلاف الأشخاص من دون إدانة أو محاكمة في العراق وأفغانستان وقاعدة جوانتانامو في كوبا.
وقالت الأمينة العامة للمنظمة "إيرين خان": إنه لا شيء يعبر عن عولمة انتهاكات حقوق الإنسان أكثر من برنامج الترحيل الخاص في إشارة إلى نقل "مئات الأشخاص" بصورة غير شرعية إلى دول مثل سورية والأردن ومصر.
وتابعت خان: خلال هذه الممارسة غير المحدودة لسلطة تنفيذية اعتباطية تتعامل الحكومة الأمريكية مع العالم باعتباره ساحة معركة كبيرة في حربها على الإرهاب، فهي تخطف أشخاصاً تشتبه بهم أو تعتقلهم أو تحتجزهم أو تعذبهم، إما مباشرة أو عبر دول بعيدة كل البعد عن بعضها البعض، مثل باكستان وغامبيا وأفغانستان والأردن.
وأوضحت أن واشنطن غير نادمة على إنشاء شبكة واسعة قائمة على انتهاك حقوق الإنسان باسم محاربة الإرهاب، معتبرة أن نتائج هذه السياسة هو تراجع السلطة المعنوية للولايات المتحدة إلى مستواها الأدنى في العالم أجمع في حين أن انعدام الأمن مستشر أكثر من أي وقت مضى.
===========(9/413)
(9/414)
"ائتلاف المنظمات الإسلامية" في مواجهة الأمم المتحدة
د.منال أبو الحسن
في الأسبوع الأول لاجتماع مركز لجنة المرأة (51) بالأمم المتحدة الذي عقد في فبراير مارس 2007م، استعرضت وفود الدول الإسلامية ضمن باقي الوفود الدولية إنجازاتها على مدار العام الماضي وما سبقه.. من مقررات مؤتمرات المرأة والسكان.. من قبيل تقوية خدمات الصحة الإنجابية، وتنفيذ منهاج عمل مؤتمر بكين، التسوية بين الجنسين في سن الزواج، التوسع في نشر بيوت الحماية (الإيواء)، السعي لتثبيت سن الزواج على 18 كحد أدنى للزواج... إلخ.
والملاحظ أن الخط الذي تسير عليه الدول لا ينطلق من الميراث الديني، ولا من ظروف كل دولة، ولا من احتياجات التنمية الحقيقية، ولا من خلال المشكلات الواقعية في الدول، وإنما تنطلق من الواقع الدولي للمشكلات المصنوعة والمفروضة من قبل الغرب، فيتم تفصيل النتائج والأبحاث بناءً على الخطط والبنود الدولية.. فيما تبقى المشكلات الأسرية والمجتمعية الحرجة، مثل العنوسة والطلاق دون حل، بل ينظر إليها كوسائل لحل المشكلات من وجهة النظر الدولية.
فالعنوسة مثلاً يتم تدعيمها من خلال البنود التي تتيح للمراهقين حرية الممارسات الجنسية، وتوفر للشواذ وسائل متعتهم، بدعوى الصحة الإنجابية.
كما يتم حل مشكلة الطلاق من خلال سرعة البت في قضايا الطلاق، وتدعيم الفردية، وتمحور المرأة حول نفسها، وإعطائها حقوقاً غير محدودة بحريات وحقوق الآخرين، والدفاع عن حقوقها من وجهة النظر الفردية البحتة، التي لا تسمح لها بالعيش في أمان واطمئنان في الأسرة.
وما تدمى له الأعين.. عدم الدفاع عن أي قيم دينية، وكأن هذه الوفود جاءت محملة بالمشكلات والقضايا التي لم تجد لها علاجاً في الدين، بل على العكس فإن الدين عندما يدخل ضمن الأسباب التي تنشئ هذه المشكلات لا تجد من يدافع عنه أو يشير إليه من قريب أو بعيد.
ائتلاف المنظمات الإسلامية: ولمواجهة انتكاسات الفطرة الإنسانية التي تتبناها الأمم المتحدة والقوى الغربية، تلعب اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل، منسق ائتلاف المنظمات الإسلامية دوراً أساسياً؛ من خلال إقناع الوفود الرسمية والأهلية بتبني رؤى نابعة من المرجعية الإسلامية، التي يقدمها العلماء والمختصون في قضايا المرأة والأسرة..
كما تقوم بتنقية كل البنود الحرجة، التي تخالف الدين والفطرة السليمة، وأثبت تطبيقها العديد من المشكلات على النطاق الدولي..
وأثناء انعقاد المؤتمرات يقوم "ائتلاف المنظمات الإسلامية" بمتابعة عمل الوفود واستجاباتهم لمثل هذه البنود الحرجة، ثم يقدم التقارير التوضيحية لبيان خطورتها، وتوزيع فتاوى دينية ونصائح طبية واجتماعية، لكي تتضح الرؤية ويسهل تعامل الدول الإسلامية مع هذه الأمور..
كما يتفاعل أعضاء الائتلاف مع وسائل الإعلام العالمية بشرح الرؤى الإسلامية لإصلاح الأسرة، من خلال العديد من الورش التي تتاح للمنظمات غير الحكومية، مما يدعم موقف الائتلاف على النطاق الدولي والشعبي والمنظمات غير الحكومية.
الوفود الرسمية: أما عملية إقناع الوفود الرسمية فإننا نجد العجب بهذا الشأن، فالبعض يفهم المصطلح من وجهة نظره، ويوقع عليه من وجهة النظر الدولية، فيتظاهر بأن الأمور أبسط مما نبرزها، وأن مصلحتنا كدول عربية ألا نظهر مخالفين للمجتمع الدولي، وأن نأخذ الأمور كما هي ثم نطبقها بأسلوبنا..
ونحن نرى أن هذه النظرة لا تؤدي إلى احترام أنفسنا أمام المجتمع الدولي، فينظر إلينا كأننا دول خاوية بلا هوية، بل الأدهى والأمر أن ديننا هو السبب في مشاكلنا!
خطيئة عولمة المشكلات الاجتماعية
ومع ذلك، يجب أن نعترف بوجود المشكلات، ولكن يجب أن تكون رؤيتنا لها من الواقع الفعلي لكل مجتمع ولكل دولة..
فعلى سبيل المثال فإن مشكلة الطلاق تختلف أسبابها في مصر من محافظة إلى أخرى، وكذلك تختلف في العالم العربي من دولة إلى أخرى، تبعاً لاختلاف الأسباب المؤدية لها.. فلا يجب على الإطلاق عولمة المشاكل الاجتماعية..، فقد تكون بسبب زيادة المهور في دولة ما، وقد تكون بسبب خروج المرأة للعمل في دولة أخرى، وقد تكون بسبب سوء استخدام تكنولوجيا الاتصال في مكان ما، وقد ترجع إلى أسباب اقتصادية..
ومن ثم فحلول المشكلات الاجتماعية لا تتأتى في شكل قوالب جاهزة، تعدها لنا الأمم المتحدة وتصر على حلها على النحو الذي تراه، وبنفس الآليات المطروحة.. ولكن لنا مشاكلنا ولدينا القدرة على إصلاح أحوالنا فنحن أصحاب الدين القيم.
==============(9/415)
(9/416)
تقنين الزنا والإجهاض وتقويض القيم الدينية بدعوى مكافحة التمييز
15 بنداً تهدم الأسرة المسلمة في وثيقة 16 مارس
القاهرة - محمد جمال عرفة
منظمة الأمم المتحدة
منظمة الأمم المتحدة
رغم أن "تقرير الخبراء" الذي طرحه "مركز المرأة" بالأمم المتحدة للنقاش والتوقيع في الجلسة 51 للجنة مركز المرأة بالأمم المتحدة في الفترة من 26 فبراير حتى 9 مارس 2007م، تحت عنوان "القضاء على جميع أشكال العنف والتمييز ضد الطفلة الأنثى". نقول: رغم أن هذا التقرير تضمن 15بنداً تشكل تهديداً صارخاً لمؤسسة الأسرة وتعاليم الإسلام.. مررته الأمم المتحدة تحت عنوان "وثيقة 16 مارس 2007"، ووافقت عليه الحكومات العربية والإسلامية بلا وعي!
ومع أن ائتلاف المنظمات الإسلامية الذي يضم عدداً من المنظمات الأهلية النسائية من عدد من الدول الإسلامية، والذي شارك في هذا المؤتمر من أجل التواصل مع الوفود العربية والإسلامية الرسمية للتصدي لهذه البنود الخطيرة، على غرار ما حدث في مؤتمرات وثيقة بكين السابقة، فقد جاءت النتيجة مخيبة للآمال، وفشل الوفد كما أكد بعض أعضائه ل"المجتمع" في تخفيف حدة هذه البنود الشيطانية، خصوصاً أن البعثات الدبلوماسية للدول العربية والإسلامية المشاركة في المؤتمر لم تبد حماسه تذكر في الاعتراض، بدعوى أن هذه وثيقة دولية لا يجوز رفضها!
15 بنداً مخالفاً للدين: فالوثيقة الأصلية التي قُدمت للمناقشة تضمنت 15 بنداً تتعارض مع الدين، وتدور حول قضايا الحرية الجنسية للفتيات والجنس الآمن والصحة الإنجابية ومحاربة الزواج المبكر، واعتبار المهر عنفاً ضد المرأة، كما تحارب قوامة الرجل داخل الأسرة، فضلاً عن السعي الحثيث لهدم الأسرة المسلمة والمساواة التامة في الميراث بينهما.
فعلى حد قول المهندسة (كاميليا حلمي) منسق ائتلاف المنظمات الإسلامية ورئيس اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل التابعة للأزهر: "تمت إضافة بنود إضافية لم تكن موجودة بالمسودة، مثل تقديم خدمات الصحة الإنجابية للمراهقين، وتعليمهم كيفية توقي الحمل غير المرغوب فيه، وكذلك الأيدز، والعمل على تقنين الإجهاض، وجعله عاماً ومباحاً قانوناً، بالإضافة إلى بند تحقيق استقلالية الفتيات المادية عن الأسرة، وإدماج الفتيات المصابات بالأيدز في المجتمع، بغض النظر عن سبب الإصابة الذي غالباً ما يكون بسبب ممارسة الزنا في هذه المرحلة العمرية".
وأرجعت "حلمي" سبب خروج الوثيقة النهائية (وثيقة 16 مارس) بهذه الصورة التي تزيد من البنود التي تتعارض مع قسم الأسرة المسلمة إلى ما أسمته: "تخاذل الدول العربية التي كان من الممكن أن تتكتل وتصر على فرض تحفظاتها"، فضلاً عن عدم اهتمام الدبلوماسيين العرب أصلاً بالحضور أو المشاركة وترك الأمر لغير المختصين، فضلاً عن حرص منظمي المؤتمر في أمريكا على إبعادهم كمنظمات أهلية عن جلسات المؤتمر لعدم تأثيرهم على آراء الأطراف المشاركة في المناقشات.
عولمة الانحلال: وقد أكدت المهندسة كاميليا حلمي أن جميع وثائق الأمم المتحدة التي أقرتها المؤتمرات الدولية، إنما هي سلسلة متصلة هدفها النهائي عولمة نمط الحياة الاجتماعية بالمفهوم الغربي، لذا فهي تبدو متشابهة في بنائها الفلسفي. وتبعاً لذلك فإن الإطار الفلسفي لهذه الوثيقة يعتبر محدداً مسبقاً. وبالرغم من إعطاء الدول الحق في المناقشة والتعليق على اللغة المتفق عليها، إلا أن الأساس الفلسفي للوثيقة غير مطروح للنقاش.
قوانين تمييزية ضد المسلمين
ويقول أعضاء في ائتلاف المنظمات الإسلامية إن خطورة تلك الاتفاقيات أنها تدعو إلى إلغاء القوانين وتغيير التقاليد والثقافات وحتى القيم الدينية التي تعتبر من منظورها قوانين تمييزية، بما يجعلها هي قوانين "تمييزية" ضد المسلمين أنفسهم.
حيث تفرض الاتفاقية رؤية واحدة، ومنهجاً واحداً في الحياة هو المنهج الغربي، بل وتفرض أيضاً مصطلحات ومفاهيم لا يمكن إدراك معانيها الحقيقية إلا من خلال سياقها الأصلي بالرجوع إلى الوثائق الصادرة باللغة الإنجليزية.
فتعبير "العنف"Violence على سبيل المثال، إنما يعني القسوة والوحشية والتعذيب والتصرفات السادية ضد الفتيات، بينما يستخدم هذا المصطلح للتعبير عن الكثير من السلوكيات التي لا تعد عنفاً كالمهر، والزواج قبل الثامنة عشرة، مما يصرف الانتباه عن السلوكيات التي تعد عنفاً حقيقياً ضدها.
وكذلك مصطلح "التمييزDisc r imination " الذي تدور حوله المسودة، صُك كمصطلح قانوني له تداعياته وآثاره الاجتماعية. ولفظة (التمييز) في لغتها الأصلية تعبر عن واقع الظلم والإجحاف أكثر مما تعبر عن واقع التفرقة، كما احتوت الوثيقة على مجموعة من المصطلحات التي تفتقر إلى تعريفات محددة، مع الإبقاء على نفس المنظور الفلسفي، مثل مصطلح "الجندر Gende r "، والذي لم يُعرف في فهارس الأمم المتحدة UN Glossa r y حتى هذه اللحظة، ومع ذلك تُطالَب الدول بمراعاة منظور الجندر Gende r Pe r spective في تناولها قضايا المرأة والطفلة.
أخطر البنود: وتعدد حلمي البنود الأخطر في تلك الوثيقة:(9/417)
1 ما ورد في الفقرة 115 من تقرير "خبراء الأمم المتحدة" النص على "حق الطفلة (أقل من 18 سنة) في تحديد متى وكيف تصبح "ناشطة جنسياً" sexually active على حد تعبير التقرير، كما أوصى في الفقرات 27، 82، 130 بتوفير "معلومات الصحة الجنسية sexual health للطفلة، وتوفير "احتياجات الصحة الإنجابية للمراهقين" r ep r oductive health لتعليمهم ما أسماه التقرير في الفقرة 124 "ممارسة الجنس الآمن"to p r omote safe sex ، مما يصب في صالح تشجيع الممارسات الجنسية خارج الإطار الشرعي "الزواج".
2 توصية تقرير خبراء الأمم المتحدة، بتوفير معلومات الصحة الجنسية للطفلة وتوفير احتياجات الصحة الإنجابية للمراهقين لتعليم الأطفال والمراهقين كيفية ممارسة العلاقة الجنسية مع توقي الحمل والأخطار المرضية أثناء ذلك، ويدعو لضرورة تعليمهم بتوزيع وسائل منع الحمل في المدارس خاصة للفتيات، لتكون ممارسة الجنس الحر عندهن أيسر؛ ومن ثم توفير خدمة الإجهاض بشكل معلن وقانوني باسم "الإجهاض الآمن"!
3 اعتبار "الزواج المبكرea r ly ma r riage أقل من 18 سنة) شكلاً من أشكال العنف ضد الفتاة، وشدد على المطالبة بسن قوانين صارمة لتجريمه، مما يعد نوعاً من حظر ما يتوافق مع الشريعة الإسلامية وإباحة ما حرمه الإسلام.
4 الفقرة 96 من التقرير تحت عنوان "الفتيات السحاقيات Lesbian gi r ls أكدت ضرورة الحفاظ على حق الشذوذ وما أسمته ب "حق تحديد الهوية الجنسية للفتيات" sexual identity، و"مراعاة حق الشاذات في التعبير عن آرائهن حول الشذوذ وحقهن في الحصول على شركاء مثليي الجنس لهن"!
5 هاجمت الفقرة 49 بشكل مباشر الدين وخاصة في الدول التي يعتبر فيها أساساً للتشريع والمقصود به دول العالم الإسلامية، حيث ذكرت أنه (الدين): "يقيد ويحد من فرص المساواة ويزيد من العنف".
6 طالب تقرير خبراء الأمم المتحدة "7 مرات" بضرورة نقد وتحدي وتغيير ما أسماه "القوالب الجندرية النمطية gende r ste r eotypes .." إشارة إلى قيام المرأة بدور الزوجة والأم، التي يراها التقرير من الأسباب الرئيسة للعنف والتمييز ضدها؛ سعياً وراء تعميم نموذج المرأة الغربية وفرضه على العالم العربي والإسلامي.
7 تحدثت الفقرة 50 من التقرير عما أسمته ب"الهياكل الطبقية في إدارة البيت hie r a r chies within households (إشارة إلى الفهم الخاطئ للقوامة)، زاعمة أنها تمنح الحقوق والقوة للرجل أكثر من المرأة، ما يجعل النساء والفتيات "ذليلات تابعات للرجال".
8 اعتبرت الفقرة 48 التركيز الشديد على عذرية الفتاة وخصوبتها "كبتاً جنسياً" r ep r ession of female sexuality وزعمت أنه شكل من أشكال التمييز ضد الطفلة الأنثى!
9 تحت عنوان "مساعدة الصبية boys) ) على "تحدي التقاليد الاجتماعية" قدم التقرير نموذجاً لحملات أقيمت لما سمي "توعية الصبية بحقوق الفتيات" ومن ضمنها "الحديث مع الصبية عن أسباب التخوف من الجنس المثلي Homophobia وتشجيعهم عليه وهو الشذوذ بعينه".
10 اعتبر التقرير في الفقرة 49 "مهر الزوجة dow r y شكلاً من أشكال العنف ضد الفتاة؛ وأسماه (ثمن العروس) b r ide p r ice، وقال إنه "يحول الفتاة إلى سلعة تباع وتشترى"، وطالب بسن قوانين تمنع المهر!
وفي السياق ذاته طالب التقرير في البنود 49 ،50،166 بإزالة ما أسماه ب"جميع أشكال التمييز ضد الفتاة حتى لو كانت نابعة من الدين أو العرف كمسائل المهر والميراث".
============(9/418)
(9/419)
كاميرا الموبايل و"يوتيوب" والمدوناتثورة إعلامية شعبية تخترق المحظورات
غلاف العدد 1737
عندما أعدم صدام حسين، كانت (كاميرا الموبايل) هي التي كشفت وفضحت بالصور والفيديو ما جرى خلال لحظات الإعدام الأخيرة فأحدثت دوياً كبيراً على كل المستويات.. وحينما وقعت أحداث تحرش أو ما سمي "سعاراً جنسياً" في وسط القاهرة ليلة عيد الفطر الماضي، كانت الفضائية الإعلامية (الشعبية) الأولى التي نقلت الحدث بالصوت والصورة، ونقلت عنها لاحقاً الصحف والفضائيات الرسمية، هي كاميرا موبايل لشاب مصري يمتلك مدونة صغيرة نشر عليها التفاصيل والصور التي التقطها بالموبايل!
أيضا قضايا التعذيب الكبرى التي تحقق في بعضها النيابة المصرية ضد ضباط متهمين بتعذيب مواطنين، وانتهاك آدميتهم، كل تفاصيلها لم تُعرف أو تُنشر ولم تتحرك وزارة الداخلية أو النيابة للتحقيق فيها سوى عبر كاميرات الموبايل والمدونات (البلوجرز) الشبابية ومنها انتقلت لصفحات الصحف.
أيضاً مظاهرات القضاة في مصر، واعتصامات طلاب الجامعات، والتعذيب في أقسام الشرطة، والانتهاكات العديدة التي وقعت ضد صحفيات وناشطات في مناسبات مختلفة للمطالبة بالحريات أو مناصرة قضاة مصر.. كلها تم تصويرها ونشرها والكشف عنها عبر كاميرات الموبايل والفيديو الشعبية ومنها نقلت للمدونات عبر مواقع الفيديو المجانية التي تمثل ثورة بدورها، خصوصاً موقع "يوتيوب" www.youtube.com على الإنترنت والذي بلغت أهميته حد اختيار مجلة (تايم) الأمريكية له كأهم "اختراع" لعام 2006م لدوره في إعطاء الفرصة لزواره مجاناً لإنتاج وعرض مواد فيلمية على الموقع الإلكتروني!
والحقيقية أن هذا الثلاثي الخطير (كاميرا الموبايل المدونات موقع يوتيوب) قد لعب أدواراً غير مسبوقة في الأشهر القليلة الماضية في إحداث ثورة إعلامية اخترقت ثوب العولمة ذاتها، بحيث لم تعد هناك أي قيود أو حدود من أي نوع على الكلمة أو الصورة أو الفيديو، وأصبح كل شيء مباحاً للنشر وبحرية بعيداً عن أي قيود اجتماعية أو حكومية أو سياسة أو أخلاقية، بحيث بات كل مواطن يحمل كاميرا موبايل يشكل بذاته وكالة أنباء خاصة بلا قيود، وأصبح هو الصحفي أو الإعلامي الذي يفضح أي تجاوزات حكومية، ويكشف أي خبايا أو أسرار تسعى وسائل الإعلام الحكومية أو الحكومات لإخفائها، ما سوف يشكل مستقبلاً انقلاباً في معايير الإعلام المتعارف عليها!
فقبل سنوات كان العديد من الانتهاكات أو السلبيات أو الأسرار يقع ويمر دون أن يجرؤ أحد على رصده إعلامياً في وسائل الإعلام الرسمية أو الفضائيات الخاضعة لضغوط الحكومات المختلفة، وكانت الانتهاكات ضد حقوق الإنسان أو التعذيب داخل السجون، أو الاحتجاجات ضد الحكومات أو الأحداث الساخنة التي تناهض حكومات أو مراكز نفوذ أو مسؤولين فاسدين، يجري وأدها بصورة فعلية، عبر تجاهل الإعلام الرسمي لها.. أما الثورة الجديدة التي أحدثتها كاميرا الموبايل في الجانب الإيجابي لاستعمالها فتمثلت في تحول كل شخص يحمل كاميرا موبايل لمخبر صحفي وإعلامي خطير قادر على اقتناص سبق صحفي وإعلامي غير مسبوق لا يمكن التشكيك في مصداقيته لأنه ببساطة بالصورة والصوت!
وحتى الزمن الذي كان يتعرض فيه هذا "السبق الصحفي الشعبي" أو "الخرق العولمي" لمحظورات الصحافة والإعلام يتعرض للإهمال، ولا يجد طريقه للنشر والوصول للجمهور.. هذا الزمن انتهى بعدما ظهرت المدونات الشعبية الشبابية كمنافذ إخبارية وإعلامية ومنتديات للتواصل الإعلامي (تضاعف عددها في مصر من ألف إلى خمسة آلاف في غضون عام واحد)، وأصبح بإمكان حامل كاميرا الموبايل بسهولة أن يضع الصور أو الفيديو الذي التقطه عبر الكاميرا على موقعه الخاص ويرسله لعشرات المواقع الخاصة مثله، ويخترق حجب الإعلام الرسمي وينفرد بفضح ما يراد إخفاؤه.
وجاء اكتمال منظومة هذا الثلاثي الإعلامي الشعبي الخطير في صورة مواقع إنترنت عالمية مجانية مثل موقع (يوتويب) تقدم خدمة إنتاج أو عرض أي أفلام فيديو مجاناً وبلا محظورات أو حدود أو قيود لنفاجأ بعرض صور لعمليات تعذيب داخل السجون أو صور إعدام صدام حسين بالكامل، وتفاصيل الحوارات والشتائم التي جرت بينه وبين جلاديه قبل إعدامه، وغيره الكثير والكثير، ليثير علامات استفهام حول كمّ الأسرار التي باتت من الماضي.
بل إن الغيرة التي انتابت العديد من الصحف العربية ووسائل الإعلام من هذه "الخبطات الصحفية الشعبية" دفعت بعض هذه الوسائل الرسمية في مصر لاستثمار هذا الإعلام الجديد الشعبي، بتخصيص زوايا تكنولوجية خاصة تطالب عبرها القراء بإرسال ما لديهم من صور أو فيديو ملتقطة عبر كاميرا الموبايل تصور مفارقات أو اعتداءات مخالفة لحقوق الإنسان أو مواقف نادرة وغيرها. وينتظر أن تثير هذه المساحات الجديدة للنشر قضايا أخرى لا تلقي الصحافة الرسمية أو الإعلام العام الضوء عليها.
الإعلام الجديد بلا قيود!(9/420)
هذه الثورة الإعلامية الجديدة التي تبيح المحظورات وتتخطى أي قيود أو تجاوزات، يطلق عليها خبراء دعاية وإعلام ومحللون اجتماعيون لفظة "المساحات الجديدة" أو"اللاعبون الإعلاميون الجدد" من غير الصحفيين الذين أصبحوا يشكلون تحدياً كبيراً للإعلام العام، إذ إن هؤلاء النشطاء على الإنترنت وحاملي الموبايلات ذات الكاميرا أو كاميرات الفيديو الخاصة من الشباب أصبحوا منافسين خطيرين وأكثر تأثيراً من الإعلام الرسمي؛ لأنهم يعملون "بدون رقابة" بعكس الوسائل الرسمية، ويمكنهم تصوير أي شيء وبثه "بلا ضوابط أو حساسيات أو محاذير".
فالدكتور خالد منتصر الإعلامي المصري يقول: إن الموبايل وكاميراته أحدث نوعاً من "عولمة الفضيحة"، ويقول إنه مع الموبايل اختفى شعار (اكفِ على الخبر ماجور) بمعنى استحالة نشره وتحول الشعار إلى (اكشف الجريمة بمحمول)!
ويضيف أن الموبايل كان هو بطل عام 2006م، حيث تم بدؤه بتصوير مظاهرات القضاة، وانتهى بتسجيل إعدام صدام، وفضح التعذيب في السجون، وصدمنا بحفلة التحرش الجنسي في وسط البلد، وأنه بضغطة زر على كاميرا الموبايل تحول الطاغية صدام حسين إلى ضحية وزرعت الفتنة الطائفية، وارتفعت نغمة التشفي والانتقام، وأن كاميرا الموبايل جعلت حتى القتل والإعدام "وجبة شهية" يتناولها الناس عبر الإنترنت!
ويقول إن بطل ما سمي (كليبات التعذيب) التي انتشرت في مصر وتصور عمليات تعذيب عبر انتهاكات جنسية، والتي تحقق النيابة في بعضها هو كاميرا المحمول التي فضحت هذه الكليبات، وحتى الأفلام السينمائية كانت تصور بالموبايل من داخل السينمات وتعرض في الأسواق قبل أن تباع "دي في دي" أو فيديو!
وأضاف: "الموبايل عولم الفضيحة وعلمنا أصول السرعة، وهو ليس مجرد تكنولوجيا متقدمة فقط، ولكنه أيضاً سلوك اجتماعى يستجيب ويتفاعل مع الواقع، ويسحب منه ويضيف إليه"، مشيراً إلى أن الموبايل علمنا أيضاً عادات سلبية.
ويؤكد د.أحمد عبد الله الخبير النفسي أن هناك اهتماماً كبيراً من قبل جماعات وهيئات ومؤسسات اجتماعية وبحثية غربية برصد وتفسير هذه "المساحات الإعلامية الجديدة" أو الظاهرة الشبابية الخاصة بالإبداع الشبابي واستخدامات الهاتف الخلوي والمدونات بين الشباب؛ بغرض التواصل الحضاري بين الشرق والغرب، واستشراف أشكال المستقبل العربي في ظل هذه المساحات الجديدة.
ويضيف أنه ضمن هذه الجهود الأوروبية عقد مؤتمر في الفترة من بين 1918 يناير 2007م في مدريد بإسبانيا نظمته مؤسسة "البيت العربي"، وهي مؤسسة ثقافية إسبانية، دعي إليه عدد من الفنانين والكتاب والأدباء ومحللي هذه الظاهرة من العرب، وأن هذا يأتي ضمن مبادرة من رئيس الوزراء الحالي "خوزيه لويس ثاباتيرو" للانفتاح والحوار مع الحضارات.
ويشير "عبد الله" إلى أن هذه الثورة المعلوماتية جعلت كل مواطن يحمل كاميرا محمول عادية، بمثابة مخبر صحفي لديه القدرة على فضح أي تجاوزات أمنية أو سياسية أو اجتماعية، بل وبثها عبر الإنترنت بالصوت والصورة، وأن الصورة هنا هي معيار المصداقية الجديد الذي يصعب تكذيبه، وأن هذا الأمر سوف يترتب عليه نتائج خطيرة مستقبلاً، مع توالي كشف تكنولوجيا اتصالات حديثة، وأنه أشبه ما يكون بثورة صناعية جديدة، مع ما يترتب على هذه الثورة الثانية مثل الثورة الأولى من تداعيات اجتماعية وسياسية.
الموبايل والمدونات كشفا التعذيب
ولعل من أهم تداعيات هذا الإعلام الجديد أن التصوير بالهاتف الخلوي (الموبايل) وعرض الفيديو عبر "المدونات" أو "البلوجرز" التي يدشنها نشطاء الإنترنت المصريون، هذا الثنائي التكنولوجي الإعلامي الحديث نجح في إثارة قضية ما أسمته الصحف "التنظيم السري للتعذيب" في مصر على يد ضباط بوزارة الداخلية، ما أدى إلى صدور قرار من النيابة بحبس ضابط وأمين شرطة متهمين بانتهاك عرض سائق.
ففي أعقاب بث العديد من المدونات الشبابية المصرية مؤخراً صوراً لما أسمته "فيديو التعذيب" التي يظهر فيها شاب متوسط العمر معلقاً من قدميه، ونصفه الأسفل عار، وصوراً أخرى لأقدام من يعتقد أنهم ضباط ومساعدو شرطة، وهم يضحكون ويهددون الضحية ببث هذا الفيديو المصور بالموبايل لعملية انتهاك عرضه بعصا غليظة، بغرض إهانته، فضلاً عن صور لفتاة معلقة بين كرسيين ومربوطة ويجري استجوابها لاتهامها في قضية قتل، نشرت صحيفة "الفجر" المستقلة تفاصيل الحدث، ما أدى لتدخل منظمات حقوقية عرضت قضية التعذيب على النيابة المصرية.
ومع أن الهدف الرئيس من تصوير المتهمين بالتعذيب للضحية بالموبايل حسبما قالوا في الصوت المصاحب للفيديو المنشور على مواقع البلوجرز هو إهانته وازدراؤه من جانب كل من يعرفه من زملائه السائقين وردع الآخرين، فقد تحول هذا الفيديو وال"CD المسجل عليه هذا الفيديو إلى "دليل إدانة قوي" ضد المتهمين؛ خصوصاً أن صوتهم مسجل عليه رغم إنكار الضابط وأمين الشرطة تورطهما في تعذيبه، وتأكيدهما أن الضحية تراجع عن أقواله التي يتهمهما فيها بتعذيبه؛ بحجة أنه لم يتعرف على وجوه من قاموا بهتك عرضه.(9/421)
ورغم أن هذه ليست المرة الأولى في مصر التي يتم فيها حبس مسؤولي شرطة بتهمة التعذيب، فقد أسهم الدور الذي لعبته الوسائل التكنولوجية الحديثة أو ما يسمى "المساحات الإعلامية الجديدة" غير الرسمية، وغير الخاضعة للرقابة الرسمية، في إثارة هذه القضية على نطاق واسع والتحقيق فيها.
اهتمام المنظمات الدولية
وحول الآثار العولمية السريعة لنشر صور الموبايل عن التعذيب كمثال، يقول مدونون تولوا نشر تفاصيل عملية التعذيب الجنسي الأخيرة للسائق المصري على مدوناتهم: إن الموضوع انتقل بفضل النشر من زاوية البث عبر مواقع فيديو لصور الموبايل على شبكة الإنترنت إلى الصحف فمسؤولي النيابة المصرية، وتطور ليصل إلى اهتمام المنظمات الدولية.
فلم يقتصر الأمر على إصدار منظمة "هيومان رايتس ووتش" ومنظمات أخرى تقارير تدين هذه الواقعة وغيرها، ولكن الأمر أثير وفق مدونة "الشرقاوي" في لقاء مندوبة منظمة العفو الدولية في شمال إفريقيا مع مسؤول إدارة حقوق الإنسان بوزارة الخارجية المصرية التي سألت عن ضمانات عدم التعذيب في قانون الإرهاب الجديد الذي تعده مصر بديلاً عن حالة الطوارئ.
العالم بين أناملك في التو واللحظة!
وما ساعد على انتشار صور الموبايل والفيديو.. ظهور مواقع فيديو على الإنترنت تسمح بالمجان بإنتاج وبث هذه الصور والفيديو المصورة ونقلها في التو واللحظة بدون أي عناء ليشاهدها الجميع.
وقد اختارت مجلة "تايم" الأمريكية موقع "يوتيوب" www.youtube.com على الإنترنت كأهم "اختراع" لعام 2006 لدوره في إعطاء الفرصة لزواره مجاناً لإنتاج وعرض مواد فيلمية على الموقع الإلكتروني. وقالت المجلة إن اختيار الموقع الإلكتروني "يعكس أهمية الدور الذي يلعبه الإنترنت في صياغة موازين القوى في الإعلام سواء عن طريق المدونات أو صور الفيديو أو منتديات الحوار عبر الإنترنت". وامتدحت المجلة جمهور الموقع لأنهم بادروا إلى تولي "دفة الإعلام الجديد الذي لا يعرف أي حواجز أو عوائق جغرافية، وتقديم المواد الضرورية لعرضها في الموقع".
ويقول تقرير كتبته (كارا بانتلي) في "تقرير واشنطن" Washington r epo r t - إنه بنقرة واحدة على فأرة (ماوس) الكمبيوتر، والضغط على لوحة المفاتيح مرات قليلة أصبح من الممكن أن يصبح العالم بين أناملك في التو واللحظة، بعدما أتاحت تكنولوجيا الإنترنت فرصاً لانهائية لنمو الأعمال، وانتشار الأفكار الإبداعية، والاتصال السهل المريح.
وتضيف أن موقع المشاركة بالفيديو (يوتيوب)، والتي يستطيع الكثيرون من خلاله التعبير عن أنفسهم بطريقة فريدة ومميزة، والاتصال بالعالم الخارجي، أصبح هذا الموقع والعديد من المواقع الأخرى جزءاً مؤثراً في الثقافة الشعبية المعاصرة بصورة متزايدة في الولايات المتحدة وعبر الكرة الأرضية.
و(يوتيوب) هي شركة إعلامية خاصة بجمهور الإنترنت تسمح لهم بمشاهدة مقاطع فيديو والمشاركة فيها، عبر شبكة المعلومات الدولية دون مقابل. وعن طريق هذا الموقع الشهير للمشاركة بالفيديو يستطيع الناس في جميع أنحاء العالم الدخول إلى مواقع الفيديو كل على حسب اهتماماته.
ويحمل الموقع يومياً العديد من تلك المقاطع التي تعرض صوراً لم تعرض من قبل للأحداث الجارية، وعروضاً حية، وشرائط الفيديو المنزلي الخاصة، وقد تحولت شركة يوتيوب، التي تأسست في العام 2005م كخدمة مشاركة بالفيديو إلى موقع ترفيهي واسع الشعبية يتم مشاهدة أكثر من 70 مليون شريط عليه يومياً، وقد اشترت شركة بحث الإنترنت الرائدة (جوجل) شركة يوتيوب الشهر الماضي بمبلغ 1.65 مليار دولار.
وتتمتع يوتيوب بأكبر جمهور من المهتمين بترفيه فيديو الأون لاين، حيث يستطيع المستخدمون: "تحميل، وتبادل مقاطع الفيديو وتسميتها في جميع أنحاء العالم، وتصفح ملايين المقاطع الأصلية التي قام بتحميلها المستخدمون الأعضاء، والعثور على جماعات فيديو والالتحاق بها وتسهيل الاتصال مع من لديهم نفس الاهتمامات، كذلك تخصيص التجربة عن طريق الاشتراك في خدمة تبادل مقاطع الفيديو المقصورة على الأعضاء، وحفظ المقاطع المفضلة، ووضع قوائم تشغيل المقاطع، ودمج مقاطع الفيديو الخاصة بيوتيوب مع مواقع الشبكة التي تستخدم تقنيات حديثة مثل أي بي آي.
وأيضاً جعل مقاطع الفيديو عامة أو خاصة حيث يستطيع المستخدمون اختيار عرض مقاطعهم بشكل عام أو بمشاركة أصدقائهم وعائلاتهم فيها بصورة خاصة عند التحميل.
وقد أثار عرض مشاهد لاعتداءات وأعمال عنف على موقع يوتيوب جدلاً. وبالرغم من اعتراض يوتيوب على تحميل مثل تلك المواد، إلا أنها لم تتخذ إجراءً صحيحاً للسيطرة عليها، ومنها مشاهد إعدام صدام بالكامل وتعذيب مقززة.
وبالرغم من عدم سماح يوتيوب بعرض المشاهد الإباحية أو الخطرة أو أعمال العنف أو غير القانونية على الموقع، يجد مراقبو الشبكة صعوبة كبيرة في تحديد وإزالة المواد غير الملائمة، خاصة مع إضافة ما يقرب من 70,000 مقطع فيديو إلى الموقع يوميا.(9/422)
وزاد من تحدي البث الإعلامي أن تم توقيع اتفاق بين شركتي (فاريزون) للتليفون المحمول و(يوتيوب) الشهر الماضي يسمح بإتاحة محتوى الفيديو المعروض على موقع يوتيوب عبر شبكة فاريزون للتليفون المحمول وخدمتها التلفزيونية، بحيث أصبح باستطاعة مستخدمي تليفون فاريزون المرئي مشاهدة مختارات من هذه المقاطع الفيلمية بشكل حصري من خلال هواتفهم المحمولة لمدة محددة، كما سيستطيع المستخدمون أيضاً إرسال مقاطع فيلمية من هواتفهم بطريقة أيسر.
أيضاً وقع اتفاق مشابه بين إن بي سي ويوتيوب العام الماضي يسمح بشراكة إستراتيجية بين الشركتين بإتاحة مشاهدة مقاطع من عروض إن بي سي على موقع يوتيوب. ومن خلال الاتفاق، سوف تنشأ قناة إن بي سي رسمية على موقع يوتيوب، يتم فيها الترويج لبرامج جديدة والبرامج الموجودة بالفعل.
ترى إلي أين يؤدي بنا هذا التحالف الإعلامي الشعبي الجديد (كاميرا الموبايل المدونات ويوتيوب)؟ وما الآثار الخطيرة التي تظهر كلها بعض لهذا التحالف الإعلامي سواء على الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي؟ الأمر المؤكد أننا دخلنا عصر المساحات الإعلامية الجديدة التي لا تعرف الأسرار أو الكتمان أو النسيان، وهو تطور ستكون آثاره المباشرة أكبر في البلدان العربية والنامية!
=============(9/423)
(9/424)
نبينا الحبيب وهجمة العولمة: لا يكفي الغضب الانفعالي
عبد الرحمن فرحانة
الرسوم الكاريكاتورية الأوروبية التي مست شخص الرسول الحبيب { ليست عملاً معزولاً، ولن تكون الأخيرة إذا لم يحدث ما يردعها. فضلاً عن أن بدايتها لم تكن قريبة زمنياً، فقد بدأت منذ عدة أشهر في أوروبا، وسبقتها تعديات في أمريكا على المقدس الديني للمسلمين تمثلت بإهانات وجهت للكتاب الخاتم مباشرة القرآن الكريم ووجهت كذلك إهانات وقحة للرسول { من قبل رموز أمريكية مهمة في الوسط الديني بل ومن شخصيات رسمية في دائرة القرار السياسي.
أكثر من ذلك جرى الحديث عن أن بعض الأوساط الأمريكية تعكف على إعداد "قرآن جديد" بمسمى "الفرقان الجديد"؛ تجري صياغته برؤية أمريكية!
المدهش أن الأمة أفاقت متأخرة، والأعجب أنها غضبت للإهانة الأوروبية؛ بينما ابتلعت الإهانة الأمريكية. ولعل مرد هذه الغضبة المضرية الانتقائية يعود إلى أن ذنب "الإمبراطورية المنفلتة" مغفور، ذلك لأن عصا الإمبراطور غليظة. ومع ذلك فإن فضيلة الإفاقة المتأخرة للنخوة أفضل، على كل حال، من سبات الكرامة.
ولكن لماذا هذا الهجوم على المقدس الديني للأمة؟
ثقافة التنميط
بعد الحادي عشر من سبتمبر تكرست إستراتيجية غربية أمريكية في جوهرها وهي من سياقات العولمة؛ مفادها أن ثقافة التنميط التي تفرضها العولمة لم تنجح في المشرق بسبب حصانة المقدس الديني ؛ لذا لابد من تعميم ثقافة الخوف وسيادة الرعب في ظل الحملة التي تسمى "محاربة الإرهاب" لتشكيل معتقدات جديدة ومنظورية مصالح حديثة متوافقه معها؛ بحجة أنها سباحة شرعية في الفضاء المعرفي ل"اللبرلة" المفرطة التي يقتضيها عصر ما بعد الحداثة الذي لا يحترم الثوابت بما فيها المقدس الديني. . معنى ذلك أنه على من يخضع للإرهاب الغربي المقنن بصوره المختلفة أن يخضع لسياقات العولمة الجديدة؛ وليس له أن يغضب إذا تعرض شخص نبيه للإهانة؛ لأن ذلك حق تكفله الحرية المنفلتة التي تسوقها عولمة الغرب العلماني سياسياً الصليبي ثقافياً.
الامبريالية والعولمة
يصف د. تيزيني العولمة بأنها "الإمبريالية في مرحلة سقوط التعددية القطبية القائمة على التناقض والتضاد في الأنماط الاقتصادية والاجتماعية أولاً، وهي ثانياً الإمبريالية في عصر المعلوماتية والتقنية وما بعد المعلوماتية، أي في عصر نواجه فيه تحولات جديدة في أشكال الاستغلال والاغتراب الرأسماليْين، من ذلك الموقع يبرز "السوق الكوني" بوصفه التجسيد العميق والشامل عالمياً ل"العولمة".
إن السوق الكوني يراد لها أن تبتلع كل الانتماءات والهويات والقيم، أو يراد لهذه الانتماءات والهويات والقيم أن تمر عبرها، وهنا سنواجه آلية واحدة وحيدة تحدد نمط ما يجب أن يكون وما لا يكون".
إذن الرداء الإمبريالي للعولمة واضح وفقما أسلف؛ وبالتالي هدفها مدرك وليس غامضاً. فهي هي بمفرداتها وآلياتها؛ "الحرب على الإرهاب" أو الضربة الاستباقية؛ أو الفوضى البناءة وأداتها الدمقرطة المبطنة، كلها تسبح في الفضاء "المعولم".
هذا الخطر العارم الذي يتهدد الهوية الثقافية للأمة بما فيها أقدس مقدساتها، ومن ضمنها الحملة الأوروبية الجديدة التي تستهدف شخص رسولنا الكريم {، لا يكافئها حملة غضب انفعالية؛ وإن كانت من متطلبات التعبير الوجداني عن محبته { باعتباره الشخص الذي ينبغي أن يحَب بعد الله عز وجل، وهو أحق من يغار عليه في هذه الدنيا، إنما المطلوب أن تنهض الأمة وفق خطة مدروسة للدفاع عن كرامة نبيها، من خلال فرض أصول مفردات المقدس الديني كأحد سياقات الأجندة السياسية العربية والإسلامية، وعليه فيجب على الدول العربية والإسلامية أن تنسق حملة سياسية دبلوماسية إعلامية كهجوم معاكس لهذه الحملة التي تتدثر بالحرية، بهدف المطالبة بضرورة الاعتذار الأوروبي عن هذه الخطيئة العظيمة، وإجبار الاتحاد الأوروبي ودوله على أن تسن قوانيناً لتجريم من يمس بمقدسات الغير لمنع تكرار مثل هذه الخطايا الكبيرة. وكذلك ينبغي أن تتحرك منظمة المؤتمر الإسلامية وجامعة الدول العربية بكل قوة لدعم هذه الخطة؛ وليس كتنفيس لثورة الجماهير المسلمة.
حجة الحرية
ولا يمكن القبول من المستوى الرسمي الأورووبي بالحجج التي تساق بأن قوانين الدول الأوروبية لا تخولها التدخل في شؤون صحفها بحجة الحرية، لأن ذلك نفاق بيِّن، إذ إن هنالك عشرات الأمثلة التي تدخلت فيها دول الغرب في الحد من حرية صحفها، ولعل من آخر أمثلتها منع الحكومة البريطانية صحيفة بريطانية من نشر الوثيقة التي تتضمن حديثاً بين بوش وبلير حول قصف مقر الجزيرة في الدوحة بحجة أنها تضر بالمصالح القومية لبريطانيا.
وعلى مؤسسات المجتمع المدني أن تشارك في صياغة حركة الجماهير في تحرك برامجي منظم ممتد زمنياً حتى تتحقق أهداف الحملة، حتى لا تنطفئ شحنة الغضب الجماهيري الانفعالية. ولا يحتقرن أحد جهده، فكلٌّ قدر طاقته.. إنه محمد الحبيب "الشفيع" الذي أول ما تنشق عنه الأرض يوم القيامة ينادي: أمتي يارب.. فهل نستحق شرف الانتماء إليه؟ إذا كنا كذلك فلندافع عن كرامته!!
=============(9/425)
(9/426)
السنوات القادمة .. تحمل تغيرات وتقلبات خطيرة
د: فتحي يكن
فتحى يكن
فتحى يكن
في زحمة القراءات الشخصية والرسمية والحزبية، المحلية والإقليمية والعالمية، للتطورات الراهنة، نحن مدعوون إلى قراءة ما يجري قراءة جيدة:
مدعوون إلى أن نقرأ بأنفسنا لا أن يُقرأ علينا.
والقراءة الصحيحة لا يمكن أن تكون من خلال مناظير الآخرين أمريكياً صهيونياً أوروبياً روسياً صينياً، ولا عبر الأبواق والمنابر الإعلامية التي تملكها وتتحكم فيها الأنظمة والحكام والحكومات والأحزاب والفئات والتيارات المختلفة. إن كل هؤلاء يؤخذ منهم ويرد عليهم، كما أن لهؤلاء حساباتهم ومصالحهم الخاصة.
(1)
ولكي تكون القراءة صحيحة يجب أن تكون بمنظور إسلامي، قبله هذا الفريق أو رفضه، لأن الخيا رهنا خيار رباني، دليله قول الله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى" يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)(النساء) وحجته قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر(النساء59).
القراءة من منظور إسلامي تقتضي إنزال المقروء على السنن الالهية: "سنة التدافع".
وأن تكون موضوعية لا سطحية أو مزاجية.
شاملة كلية بعينين اثنتين لا بواحدة.
أن تحقق المصلحة العليا لا المصالح الشخصية والفئوية.
(2)
يجب أن نفرق في قراءتنا بين ما هو وسيلة وما هو غاية، بين ما هو ظاهر وما هو خفي. مثال: "لماذا الحرب على أفغانستان"؟ "لماذا الحرب على العراق؟ لماذا اغتيال الرئيس الحريري"؟
إن معرفة الأداة لا تغني عن معرفة الهدف والغرض.
قد تكون الأداة مستأجرة من جهة لديها مشروعها وقضيتها وكشفها هو الأهم.
في عهد النبوة قام رجل اسمه "وحشي" بقتل حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، استأجرته هند بنت عتبة لتنتقم لزعامة قريش وآلهتها وتكسر شوكة الاسلام.
وفي خلافة عمر رضي الله عنه قام رجل اسمه "أبو لؤلؤة المجوسي" بطعن الفاروق عمرَ بن الخطاب حتى الموت وهو يصلي انتقاماً من الإسلام وانتصاراً للمجوسية.
وفي عصرنا هذا، العديد من المافيات المعدة لتنفيذ الانقلابات وعمليات الاغتيال "مثل كارلوس" لقاء مبالغ يتفق عليها. إن معرفة "لماذا"؟ أهم بكثير من معرفة "من"؟.
قد يكون جميل السيد وريمون عازار ورستم غزالة وغيرهم قام بتنفيذ جريمة اغتيال السيد رفيق الحريري، إضافة الى الجرائم الأخرى.. ويبقى كل هؤلاء منفذين إن ثبتت التهمة عليهم، لقاء ثروات ضخمة طمعوا بها.. من المهم أن نعرف من نفذ، ولكن الأهم من كل ذلك إن نعرف لماذا تمت العملية ونظمت الصفقة.. من دفع المال؟ ولماذا دفعت المليارات من الدولارات؟ أللخلاص من شخص على قدره وقيمته أم للإجهاز على بلد برمته؟؟
بعد الحادي عشر من أيلول- سبتمبر وتفجير مركز التجارة العالمي، شنت الولايات المتحدة الأمريكية حرباً مدمرة على أفغانستان. فهل كانت الحرب من أجل التخلص من بن لادن أم أن لها أغراضاً أكبر وأهم؟
بعد ذلك كانت الحرب الأمريكية على العراق، فهل رأس صدام حسن كان هو الهدف من هذه الحرب؟
إن علينا أن نقرأ وأن نقرأ..
(3)
ولقراءة صحيحة للمرحلة الحاضرة يتحتم قراءة ما سبقها:
في مطلع القرن الماضي وقعت مؤامرة إلغاء الخلافة الإسلامية.
تبع ذلك اقتسام العالم الاسلامي واحتلاله من قبل دول التحالف الغربي، عبر مؤتمر سايكس بيكو.
وفي مطلع هذا القرن بدأت المؤامرة الثانية التي تستهدف شخصية الأمة وهويتها العربية والإسلامية، في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول، وبذريعة منها.
(4)
من ملامح هذه المرحلة
قول الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي: "لم يبق لنا من عدو بعد سقوط الشيوعية الحمراء إلا الإسلام".
طرح بوش لمشروع: "الإسلام المعدل".
العمل على تغيير مناهج التعليم والمقررات الدراسية في المعاهد والكليات الشرعية.
تنفيذ الشرق أوسطية بزعامة الكيان الصهيوني وتفوقه العسكري والنووي. بإنشاء "شرق أوسط" تنخرط فيه الدولة العبرية ويرجع أساسها إلى آباء الصهيونية الأوائل: هرتزل (الذي دعا لضرورة قيام كومنولث شرق أوسطي يكون لدولة اليهود فيه شأن فاعل، ودور اقتصادي قائد)، وبن جوريون (الذي اقترح على الرئيس الأمريكي أيزنهاور إقامة سد منيع ضد التيار القومي العربي، يضم إسرائيل وتركيا وإيران وإثيوبيا، وذلك في الرسالة التي وجهها إليه عام 1958).
الحيلولة دون قيام جبهة عالمية معارضة أو موازية لأمريكا من "الصين والهند وايران وتركيا وسوريا وغيرها".
(5)
السيناريوهات المقترحة
وسط هذا العالم الهائج المتقلب، يمكننا تخيل أشكال عالمية عديدة على امتداد الخمسة عشر عاماً القادمة يتمحور معظمها حول تحدي نظام الدولة القومية من ناحية، وإرساء عولمة أكثر استفحالاً وتشعباً من ناحية ثانية.
وفي دراسة استراتيجية وثيقة الصلة بالقوى العالمية الفاعلة عنوانها "الخريطة المتوقعة للمستقبل Mapping the Global Futu r e- تقدم أربعة سيناريوهات، من شأنها أن تعكس المستقبل المتوقع للعالم الذي سنعيش فيه عبر العقدين القادمين؛ وهي تتضمن الآتي:(9/427)
عالم دافوسDavos Wo r ld يقدم تصوراً عن عالم تقوده الصين والهند؛ تحققان فيه نماءً اقتصادياً لا مثيل له من الضخامة والقوة؛ وهو ما يعيد تشكيل حركة العولمة، فيجعلها أكثر اتجاهاً لما هو غير غربي.
سلام أمريكاPax Ame r icana يقدم تصوراً عن مدى قدرة الولايات المتحدة على إثبات هيمنتها؛ بالرغم من كل التحديات العالمية، وقدرتها على تشكيل نظام عالمي جديد.
خلافة جديدةA New Caliphate يرشح ذلك العالم الذي سينقاد من قبل حركة إسلامية عالمية، تغذيها الهوية الدينية "الراديكالية" التي ستشكل تحديًا للمعايير والقيم الغربية التي يقوم عليها النظام العالمي.
حلقة من الخوفCycle of Fea r يتخيل ذلك العالم الذي ستسوده المخاوف من انتشار أسلحة الدمار الشامل؛ فتصير الاحتياطات الأمنية مكتسحة لجميع بقاع الأرض لمنع حدوث أي هجمات مدمرة.
ومن الجدير بالذكر، أن العقدين القادمين سيحملان في طياتهما تغيرات وتقلبات مستمرة، على عكس الوضع المستقر نوعاً ما الذي شهدته الساحة الدولية عبر عقود الحرب الباردة. وفي النهاية، فإن هذه السيناريوهات الأربعة تحمل البعض من التكهنات والتصورات لمستقبل العالم في ظل العقدين القادمين.
(6)
احتمالات عدة لمستقبل المنطقة: وتشير دراسة أمريكية موثقة مطلعة إلى الاحتمالات المستقبلية وهي:
الاحتمال الممتاز
في هذا السيناريو، تتحوّل المنطقة إلى الديموقراطيّة تنسحب أمريكا عسكريّا من المنطقة. تُحلّ القضيّة الفلسطينيّة، وقضيّة اللاجئين. تتحوّل المنطقة إلى منطقة آمنة على غرار الاتحاد الأوروبي. تُحلّ قضايا الحدود بين دول المنطقة وهي كثيرة. وتعتمد دول المنطقة شعار "الديموقراطيّات لا تقاتل بعضها البعض" ويصبح "الإرهاب" هو العدو المشترك لكلّ دول المنطقة. (بصرف النظر عن مفهوم الارهاب ومعناه لدى الادارة الامريكيين والاوروبيين).
الاحتمال الوسطي
يقوم على أساس استمرار الوضع على ما هو عليه. لا حلّ للمشكلة الفلسطينيّة. لا حلّ لمشكلة الإرهاب. استمرار صراع الدول الكبرى على المنطقة وثرواتها، مع تقدّم نوعي للولايات المتحدة على غيرها من الدول. تستمرّ إسرائيل كعدو لبعض الدول، وصديق للبعض الآخر. تتحوّل أمريكا لدعم الأنظمة الدكتاتوريّة، فقط لأن هذه الأنظمة تعتبر قادرة على التعاطي مع الإرهاب، والتراجع فيما يتعلق بحقوق الإنسان والحريّات. تواصل إيران سعيها للحصول على السلاح النووي. كما تستمرّ مشكلتها مع أمريكا وأوروبا. تحاول الدول الكبرى خاصة الصين وروسيا إزعاج أمريكا في المنطقة عبر دعم ومحاولة تبنّي بعض الدول العربيّة الممانعة للمشروع الأمريكي.
الاحتمال السيّئ
حيث تصبح كلفة البقاء الأمريكي في المنطقة كبيرة جدّاً. يتحوّل العراق إلى ساحة صراع في كلّ الأبعاد: الدينيّة، المذهبيّة، ومن ثمّ الإثنيّة. تحاول الدول المحيطة بالعراق التدخّل فيه لحماية أمنها ووحدتها الجغرافيّة. تتحوّل إسرائيل إلى تنفيذ عمليّة الترانسفير الأكبر عبر طرد الفلسطينيّين إلى الدول المجاورة وخاصة العراق.
إن هذه الاحتمالات وإن بدت بعيدة الحصول في المدى القصير، إلا أنها تستدعي التفكير والتأمل الجاد بغية التماس معالم الطريق للمرحلة القادمة.
(7)
وبالعودة الى لبنان
يتضح أن لبنان بعد تنفيذ القرار 1559 بدأ يسير تدريجياً نحو التغريب والتدويل..
أعاد إلى الأذهان مسلسل المحاولات الهادفة الى فك ارتباط لبنان بالواقع العربي: بيار إده وقولته إن العرب استعمروا لبنان ريمون إده ودعوته الدائمة إلى تدويل لبنان كميل شمعون ومحاولاته ربط لبنان بالأحلاف الأجنبية كالنقطة الرابعة وحلف بغداد أمين الجميل واتفاق السابع عشر من أيار الخِياني دعوات البعض اليوم إلى التدويل من زاوية التحقيق في جريمة اغتيال الحريري.
(8)
إن إصرارنا وحرصنا على دعم انتماء لبنان إلى محيطه العربي، وعلى رفض أي خيار آخر، لا يعني بالضرورة تقديم براءة ذمة إلى النظام الأمني اللبناني أو السوري، قبل الانتهاء من التحقيقات الجارية أو التي ستجري.. إنه قد يخطئ النظام، وقد تتورط الأجهزة إنما لا يجوز أن يدفع هذا إلى تبديل الانتماء الوطني والقومي، والارتماء في أحضان العدو الأمريكي والإسرائيلي.
ليس هنالك ما يشدنا ويربطنا بالمشروع الأمريكي الصهيوني، ولكن هنالك الكثير الذي يربطنا بالمشروع العربي والإسلامي إذ هو مشروعنا، وفيه تتشكل شخصيتنا وتتضح معالم هويتنا. إنه قد يخطئ أخي معي ويسيء إساءات بالغة، ولكن لا يصح أن يكون ذلك ذريعة لأن لأتعاون مع الشيطان أو العدو على أخي لأقتله.
(9)
ما المطلوب منا كلبنانيين أولاً، ثم كعرب ومسلمين، وما مشروعنا؟
أن نكون على وعي كامل ورؤية واضحة لما يجري.
ألا نبقى متفرجين، وأن يكون لنا دور في ساحة الصراع.
أن يكون دورنا كمسلمين أولاً، وكلبنانيين تالياً، موحداً مميزاً غير متفكك أو منقسم حيال فهمنا لمشاريع الآخرين وخططهم، وحيال معالجتنا للقضايا اللبنانية الداخلية وبخاصة الاقتصادية والسياسية والأمنية.
أن يتحرر مبدأ السيادة من أطروحات التدويل والتغريب والصهينة والأمركة.(9/428)
أن تكون المقاومة بكل أشكالها، وعلى امتداد التركيبة اللبنانية وتعدداتها الطائفية والمذهبية، كما على المستويين الرسمي والأهلي، الخيار المعتمد ما بقي لبنان وبقيت المنطقة في دائرة التجاذبات والصراعات الإقليمية والدولية.
مطلوب لبننة المقاومة وشرعنتها وتفعيلها وليس تفكيكها وإلغاءها، والذي أعتبره مشروعاً تفوح منه الرائحة الأمريكية والصهيوني
=============(9/429)
(9/430)
هل تحقق الأمة وحدة مرجعيتها في الحج؟
علاء سعد حسن
جبل عرفات
جبل عرفات
يتجدد موسم الحج في حياة الأمة الإسلامية كل عام منذ فرض الله تعالى فريضة الحج على المسلمين إلى قيام الساعة.. ومن قبل ذلك منذ أمر تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج..
وأمة الإسلام هي أمة الحج، فإذا كان الحج فريضة على المسلم المستطيع من استطاع إليه سبيلاً مرة في العمر، فإنه فريضة سنوية على الأمة في مجموعها العام، فهي أمة تحج كل عام.
وموسم الحج هو مؤتمر المسلمين الشعبي الأول، ولعله المؤتمر الشعبي العالمي الأوحد الذي يتكرر بنفس العدد وحجم التجمع وكيفية اللقاء وقدسيته، وهو مؤتمر شعبي حقيقي حاشد تُخرج فيه الشعوب سفراءها لتتلاقى وتجتمع وتتعارف وتتآخى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا (الحجرات:13)، فتُخرج له الشعوب من كل ألف نسمة فرداً واحداً على المستوى الرسمي المسموح به، بينما يتضاعف هذا الرقم مرة على الأقل عند الحصر الفعلي لعدد الحجاج السنوي.
وهو مؤتمر عالمي موسع لا يقتصر على إقليم جغرافي دون إقليم أو قارة دون قارة، يحضره سفراء الشعوب من كل قارات العالم ودوله ويمتد التمثيل الشعبي فيه ما امتدت رقعة الإسلام في كل بقاع الأرض.
فليس الحج عبادة فردية يخرج فيها كل مسلم متجردا إلى ربه يؤدي المناسك ثم يعود من حيث أتى.. ولكنه عبادة جماعية واجتماعية كبرى ومناسبة ضخمة للتجمع.
ولعل هذا الاجتماع الفريد المتجدد واحد من تلك المنافع الكبرى للحج التي ذكرها المولى عز وجل في قوله تعالى: ليشهدوا منافع لهم) (الحج 28)، لتشمل كل منفعة كبرى تعود على الأمة وعلى الحجاج فرادى وجماعات.
بين التوحيد والوحدة
موسم الحج ومؤتمره الحاشد الجامع مناسبة مركزة لإعلان التوحيد.. هو موسم التوحيد الخالص شعاره الخالد (.. لبيك لا شريك لك لبيك..)، موسم تلتقي فيه الأرض قاطبة على التوحيد عبر ممثليها المحتشدين بالمشاعر المقدسة وعبر ذويهم المعلقة قلوبهم بتلك المشاعر وبإخوانهم الذين سبقوهم إليها.
ما أروعه من موسم وما أجملها من أيام تلك التي تنطلق فيها الألسنة من كل حدب وصوب تعلن كلمة التوحيد، وترتبط فيها القلوب بإله واحد، وتتطلع فيها العيون إلى السماوات العلا.
ويجب أن يكون موسم التوحيد الخالص هذا موسم التوحد محققاً لمعادلة قرآنية ن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون 92 (الأنبياء)
لقد ربط الله تعالى بين وحدانيته وبين وحدة الأمة، فالأمة المسلمة أمة واحدة عمادها الأول توحيد الرب تعالى وإفراده بالعبادة.. والأمة التي تجتمع على أسمى معنى تلتقي عليه الإنسانية، بل يلتقي عليه أقطاب الكون جميعاً من ملائكة وجن وإنس ودواب وشجر وحجر.. وهو معنى توحيد الله وإفراده بالعبادة: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (الإسراء: 44)، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون 56 (الذاريات)، هي أمة يجب أن توحدها عظمة الغاية وشرفها امتثالاً لأمره تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (آل عمران: 103)، وأن تحقق معنى الأخوة الإنسانية الإسلامية تحقيقاً لقوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة (الحجرات:10).
والوحدة والأخوة الإسلامية العالمية تتجلى في أبرز صورها وأعظم مظاهرها في فريضة الحج.
وقد حققت الأمة وحدتها العاطفية فكيف تحقق وحدتها المرجعية؟
لقد تحققت لأمة الإسلام وحدتها العاطفية وأخوتها الإسلامية، حققها لها المولى عز وجل دون جهد منها ولا مشقة، فهل تستفيد الأمة من النعمة الربانية الكبرى وتنطلق من الوحدة العقائدية والوحدة العاطفية إلى وحدة المرجعية؟
وحدة المرجعية التي نقصدها أن تتوحد الأمة في أهدافها العليا وغاياتها الكبرى وإطارها العام بحيث يؤمن الناظر إلى الأمة المسلمة على اختلاف حدودها وامتداد جغرافيتها أنه أمام أمة واحدة القصد والهدف والتوجه والمصير والمصلحة، لا يمكن ضرب وحدتها ولا تضاد مصالحها ولا اختلاف منهج التلقي الأول لديها ولا تحويل أصولها وثوابتها ولا ضرب بعضها ببعض، لأنها تسير في مسار واحد نحو هدف واحد وإن تعددت السبل وكثرت المنافذ واختلفت الوسائل..
ووحدة المرجعية هي المقدمة الطبيعية للوحدة السياسية والخلافة العالمية. لقد ضعفت الدولة العباسية لما انتشرت فيها الدعوة الشعوبية فكانت من أسباب انهيارها وسقوطها.. ولا تستطيع الأمة الإسلامية أن تحقق وحدة الدولة والكيان تحت راية واحدة قبل أن تحقق وحدة الهدف ووحدة المصير ووحدة الشعور ووحدة الاقتصاد ووحدة الشعوب ووحدة المصالح.
ويوم تحقق الأمة وحدتها الفكرية ورباطها القائم بعد وحدة العقيدة والشعور على وحدة المصالح والمصير تستطيع أن تحقق بذلك عودة الخلافة الفكرية والاجتماعية للأمة وبالتالي أستاذية العالم وهي خلافة أهم وأعمق بكثير من الخلافة السياسية الرمزية التي ترمز في النهاية إلى وحدة الكيان الإسلامي.(9/431)
وهو دور تستطيع أن تنجزه الأمة من خلال شعوبها وعلمائها وكوادرها الفاعلة في مختلف المجالات وإن اختلفت أهواء الساسة ومشاربهم.. وليس هناك مناسبة أضخم من موسم الحج لتحقيق هذا الأمل، فالأمة باعتبارها الكيان المدني الذي يقابل السلطة أو ما يعرف في العصر الحديث بمصطلح مؤسسات المجتمع المدني هي وحدها المؤهلة للقيام بهذا الدور.
وليعذر بعضنا بعضا في الخلاف فيما دون الأصول.
هناك ملمح آخر مهم من ملامح فريضة الحج وهو أن يعذر بعضهم بعضاً فيما تباينوا فيه أو اختلفوا فيما دون الأصول والثوابت المقررة شرعاً.. كان هذا الأمر واضحاً جداً في فقه صلى الله عليه وسلم في الحج، فلقد كان فقه صلى الله عليه وسلم أن يوسع ضيقاً لا أن يضيق واسعاً، حتى يمكن أن نتخذ شعاراً فقهياً في الحج "التوسيع والتيسير على المسلمين" ومن دلائل ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم
1 ما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدم ولا أُخر إلا وقال: افعل ولا حرج .
2 لما وقف وظهره للصخرات بعرفة قال: وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف.
3 اختلاف أنواع الإحرام نفسها بين التمتع والقران والإفراد دلالة على هذه التوسعة وهذا التيسير.
والتماس العذر للناس بعضهم بعضاً هو أحد أعمدة وحدة المرجعية العامة مع ترك التفاصيل الدقيقة لظروف كل مجموعة وطبيعتها والمؤثرات التي تؤثر عليها..
التعددية والتنوع الثقافي واللغوي
مظهر بارز من مظاهر سفراء الشعوب المسلمة في الحج وهو إفراز طبيعي لامتداد دين الإسلام رقعة وانتشاراً، وقبول هذا التعدد والتنوع الثقافي ركيزة أساسية من ركائز تحقيق وحدة المرجعية، عندما يؤمن كل شعب إيماناً جازماً أنه غير مطالب بالتنازل عن تفاصيل حياته اليومية وعن خصوصيته الثقافية لتحقيق الانصهار في بوتقة وحدة الإسلام العالمية، وإنما يترك له الإسلام مساحة واسعة من الحفاظ على الإرث الثقافي فيترك له لغته ولسانه الذي ولد به ولهجته التي درج عليها، وطريقته في المأكل والمشرب والملبس، ووسائله وأدواته الخاصة في الحياة ما لم يتعارض كل ذلك مع المبادئ والآداب الإسلامية، ويبقى الإسلام الإطار العام الذي يؤطر حياته كلها..
إن أكبر معوقات الوحدة النفسية عند الشعوب هي شعور الشعوب بأنها خاضعة لثقافة الفئة المنتصرة أو الغالبة وأنها منصاعة لتلك الثقافة البيئية لا للدين، أي الخضوع لأعراف أرضية لا لقوانين سماوية، والإسلام لم يفرض على الناس لغة قريش ولا لهجتها ولا طرائق معيشتها لأنه نزل على نبي عربي قرشي.. لقد راعى الإسلام الفوارق الثقافية والتنوع البيئي بين الشعوب فتعددت قراءات القرآن الكريم أقدس كتاب في حياة البشر بتعدد اللهجات العربية الكبرى.. وعندما تحرك المسلمون الأوائل للفتح الإسلامي المبارك لم يصدروا ثقافاتهم البيئية ولم يفرضوها على الشعوب فرضا ولم يعمدوا إلى عولمة ثقافية يخضعون لها الشعوب ماحين إرث كل شعب وتراثه.. ومن هنا نرى الناطقين بالعربية لا يتجاوزون ربع تعداد المسلمين في عالم اليوم، رغم مكانة اللغة العربية وفضلها كونها لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والعلوم الإسلامية المرتبطة بهما.
لم يفرض الإسلام على الناس تغيير لغتهم وهي الوعاء الثقافي الأهم في حياة الناس، فهل يفرض على الناس ما دون ذلك من عادات وتقاليد بيئية في المأكل والمشرب والملبس!.
هذا التنوع وتلك التعددية الثقافية والبيئية هي التي تعطي لأمة الإسلام زخمها وقوتها وحيويتها، وهما صمام أمان لوحدة مرجعية إسلامية كبرى تتجاوز التفاصيل وتركز على الأصول الثابتة.
فهل تعي الأمة واحداً من أهم دروس فريضة الحج الكبرى، فتسعى لتوحيد مرجعيتها كما يحقق حجاج بيت الله أخوتهم الإسلامية في الحج؟
===============(9/432)
(9/433)
الحملة ضد التيار الإسلامي تزامنت مع إقرار البرلمان إياه
قانون جديد يكرس عولمة المرأة ويفتح الباب أمام الشواذ!
نواكشوط : سيد أحمد ولد باب
Sid89@maktoob.com
أثار القرار الأخير الذي اتخذه البرلمان الموريتاني بشأن المصادقة على الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بشأن حقوق المرأة في إفريقيا، انتقادات واسعة من طرف نواب المعارضة وبعض نواب الحزب الحاكم لمخالفته الصريحة للنصوص الشرعية المعمول بها في البلاد وضرره الواضح بمصلحة المجتمع.
إذا كان البرلمان قد أقر قانون المساجد في صيف 2003م إبان الحملة الشرسة التي شنتها أجهزة الأمن الموريتانية ضد التيار الإسلامي فقد تم إقرار البرلمان للقانون الجديد، في وقت ينشغل فيه الرأي العام الوطني بحملة الاعتقالات الأخيرة وما صاحبها من توتر أمنى تعيشه البلاد، وقد اعتبر وزير الشؤون الخارجية الموريتاني مخالفة البروتوكول للشريعة أمراً مبالغاً فيه ودعاية رخيصة من قبل بعض المتزمتين، رافضاً أي اقتراح بتعديل القانون. ولكن الاتفاقية المصادق عليها من قبل البرلمان تتجاوز خطورتها ما ورد فيها من مواد غامضة إلى إلزامها للدول بتعديل أنماطها الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة من خلال التعليم العام واستراتيجيات الإعلام والتعليم والاتصال بغية تحقيق هذه الاتفاقية لأهدافها المعلنة في البروتوكول (الفقرة 1 المادة 2) وإدخال مصطلح مساواة المرأة بالرجل في الدستور وإدخال منظور (الجندر) في قرارات الدول المتعلقة بسياساتها وتشريعاتها وخططها وبرامجها وأنشطتها الإنمائية وكذلك في جميع ميادين الحياة الأخرى (الفقرة 3 المادة 2).
بروتوكول مشبوه!
في الصفحة الخامسة (المادة الثانية) تقول الفقرة الثانية بالحرف: (تلزم الدول الأطراف بتعديل أنماطها الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة من خلال التعليم العام واستراتيجيات الإعلام..) هذه الفقرة تذكرنا بخطر المنظمات المتطرفة التي أصبحت تتسلل إلى الهيئات الرسمية مثل الأمم المتحدة ويبدو أنها تسللت إلى الاتحاد الإفريقي. هذا البروتوكول تشم فيه رائحة أهداف تلك المنظمات المتطرفة الشاذة التي لا تريد لأمة أن تبقى لها قيم ولا ثوابت ولا حضارة ولا دين ولا انتماء، وهذا صريح في الفقرة السابقة، فإلى أين نحن سائرون إذا ما قضينا على أنماطنا الاجتماعية والثقافية وما البديل عنها؟ سؤال طرحه أبرز نواب المعارضة (النائب محمد محمود ولد لمات) معترضاً على أهداف الحكومة من مثل هذه الاتفاقيات لكن وزير الخارجية الذي مثلها أختار التهجم عليه وعلى الإسلاميين بدل الجواب عليه.
وفي المادة الرابعة (الفقرة د ) تقول بالحرف الواحد: التعزيز الفعال لتعليم السلام من خلال المناهج الدراسية والاتصال الاجتماعي من أجل القضاء على عناصر المعتقدات والممارسات والأنماط الثابتة التقليدية. هذه الفقرة أكثر تفصيلاً من السابقة وأعم منها لأنها تتطرق للمعتقدات والممارسات الثقافية، وبالإضافة إلى خطرها وعدم دستوريتها لأنها تخالف الدستور الذي ينص صراحة على أن دين الشعب والدولة هو الإسلام فإنها تخالف صراحة المقتضيات القانونية التي تنص على أنه لا يجوز لأي موريتاني أن يبدل دينه، كما أنها متناقضة في ذاتها لأنها تقول "تقضي الشرعية"، فالأمر عندما يكون شرعياً فإنه شرعي وبالتالي فإن إلزام الدول بنزع الشرعية عن معتقدات أو ممارسات فإن تلك الدعوة صريحة وواضحة في دعوتها للفاحشة والتسيب والميوعة الدينية والدنيوية.
أما (الفقرة ه) من نفس المادة فتقول: "يختار الزوج والزوجة نظام زواجهما". وإذا كان للمصطلحات مكان ما فإن هذه العبارة توحي بأنه يمكن للزوجين أن يختارا نظام زواجهما هل يكون زواجاً مؤقتاً أم أبدياً أم زواجاً دينياً أم مدنياً.
كما أن المادة السابعة (الفقرة أ) تقول بأن الطلاق يكون بأمر قضائي فقط. وتقول الفقرة التالية بتساوي الحق في الطلب أمام القضاء من أجل استصدار ذلك الأمر وبالتالي فإنه طبقاً لهاتين الفقرتين لن يكون الطلاق بيد الرجل، وذلك مخالف للقوانين والشريعة، فالطلاق بيد الرجل لكن يجب على الرجل أن يراعي فيه كل المتطلبات التي تمليها الشريعة والتي دونتها مجلة الأحوال المدنية. كذلك (الفقرة ج) من نفس المادة تتناقض مع مبدأ أساسي وحق أساسي للمرأة وهو حق الحضانة ما لم تقدم على ما يزيل ذلك الحق، وبالتالي فإن هذه الفقرة تمس بحقوق المرأة مساساً بيناً.
مساواة المرأة!
وفي الصفحة 11 المادة التاسعة (الفقرة ب) تقول إنه يجب تمثيل المرأة على قدم المساواة وجوباً مع الرجل في قوائم الانتخابات والمرشحين، وهذا أمر قد يكون مجحفاً وقد يكون مستحيل التطبيق لأنه يرغم النساء على أمر قد يفقدهن حريتهن الاختيارية.(9/434)
أما الصفحة 12 المادة العاشرة (الفقرة 3) تقول بأنه يجب على دول الأطراف في هذا البروتوكول أن تخفض النفقات العسكرية لصالح المرأة. والسؤال المطروح: كيف يمكن تطبيق هذه الفقرة في ظل سياسات التخطيط المملاة على بلادنا من طرف صناديق وهيئات التمويل الأجنبية؟ وتنص المادة الثانية عشرة بالحرف الواحد على أنه (يجب القضاء على أنواع الإشارات الموجودة في الكتب المدرسية والمناهج الدراسية ووسائل الإعلام والأنماط الثابتة التي تؤدي إلى دوام مثل هذا التمييز) وهو تدخل في المناهج التربوية بطريقة صريحة، الهدف منها فتح الباب أمام هذه المنظمات المتطرفة الشاذة التي تريد التدخل في كل صغيرة وكبيرة وبالأخص في المناهج التربوية. وللأسف الشديد ها هي تجد اليوم غطاءً وأرضية صالحة من طرف القائمين على الاتحاد الإفريقي والذين يتولون إعداد مشاريعه القانونية وبروتوكولات الاتفاقية، وها هي الحكومة الموريتانية تتبنى هذا النهج وفي الوقت الذي تقدم فيه هذا النوع من البروتوكولات بمنهجه ومضامينه تقوم بحملة شرسة، قمعية، إعلامية، سياسية، ضد المصلحين والعلماء.
==============(9/435)
(9/436)
العولمة".. تجويع للشعوب وإفقار للدول
23% من سكان العالم ونصف العرب يعيشون تحت خط الفقر
في الوقت الذي تُشغل فيه أجهزة الإعلام الرأي العام العالمي بخطر "الإرهاب" والحرب عليه،، فإن هذه الأجهزة لا تكاد تلتفت إلى المشكلات الحقيقية التي تعاني منها البشرية مثل الفقر والجوع والأمراض وانتشار الأوبئة والحروب والتي يسقط بسببها ملايين الضحايا سنوياً، بل إن هناك تعتيماً إعلامياً مقصوداً على ضحايا هذه الأزمات ماداموا ينتمون إلى الدول النامية.
فعلى سبيل المثال وبحسب تقديرات الأمم المتحدة يموت نحو 13 مليون طفل دون سن الخامسة كل عام بسبب سوء التغذية، فيما يموت 52 مليون شخص على مستوى العالم بسبب الأمراض والحروب.
عولمة الفقر
يتوسع انتشار الفقر في العالم يوماً بعد آخر، ونتيجة طبيعية له يقع الناس في براثن الجوع والمرض، وتقول الإحصاءات إن نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر العالمي المحدد دولياً بأقل من دولار واحد في اليوم وصلت إلى 23% من سكان العالم، أي نحو 1.4 مليار شخص، فيما يعيش نصف السكان بأقل من دولارين في اليوم. كما ارتفع عدد الدول الأقل نمواً في العالم من 25 دولة عام 1971م إلى 48 دولة عام 1999 المجتمع ، ليصل عددها اليوم إلى نحو 86 دولة، كما أن 33 % من الأشخاص في الدول النامية يعتبرون من الفقراء، و50 % من سكان القارة الإفريقية يعيشون تحت خطر الفقر. هذا بالإضافة إلى أنّ انتشار الفقر يساهم في الإصابة بالأمراض وزيادة عدد الوفيات المبكرة، وخفض الإنتاجية، وضعف الاقتصاد، وانعدام الخدمات الضرورية.
إذاً، فالمعادلة العالمية مختلة وتسير باتجاه المزيد من الكوارث، حيث تؤكد البيانات أن 20% من سكان العالم يحصلون على 85% من الدخل العالمي، ويستهلكون ما مقداره 80% من الموارد. ولإدراك مدى هذا التراجع وخاصة في الدول النامية، فإن دخل الفرد فيها عندما تم تأسيس منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في الستينيات، كان يصل إلى 212 دولاراً سنوياً، وفي الدول الغنية إلى 11400 دولار. وبعد 40 عاماً، ورغم ما شهده العالم من تقدم وازدهار، لم يرتفع متوسط الدخل الفردي في الدول النامية إلا إلى 267 دولاراً، بينما ارتفع متوسط الدخل الفردي في الدول الغنية إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ليصل إلى 32400 دولار.
وأكدت دراسة صدرت عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) أنه بحلول عام 2005 ستضم المدن بين جنباتها أكثر من نصف سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر.
إرهاب الجوع
يعتبر الخبراء أن الجوع أحد إفرازات الفقر المدقع الذي ينتشر في أغلب الدول النامية، وهو يفتك بضحاياه بصمت ودون ضجيج؛ مادام لا يسبب ازعاجاً للدول الغنية أو لرعاياها. وفي العديد من الحالات وجدت الدول الغنية في المجاعات التي تضرب الدول النامية، وخاصة في إفريقيا، فرصة للتدخل وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية على حساب مأساة الشعوب، كما حدث حينما تدخلت الولايات المتحدة في الصومال لإنقاذ الجياع تحت عملية إعادة الأمل.
أما بالنسبة لحجم مشكلة الجوع، فلا توجد إحصاءات دقيقة ولا خريطة تفصيلية لها، وما تقدمه تقارير منظمة (الفاو) في هذا السياق لا يعبر عن الواقع بشكل دقيق.
لكن الظاهرة في تفاقم، حيث كشف آخر تقرير لمنظمة (الفاو) عن ارتفاع عدد الجياع في العالم من 800 مليون شخص عام 2002م إلى 864 مليون شخص عام 2003 المجتمع أي ما يقرب من 14.4 % من عدد سكان العالم، وأن أعداداً كبيرة من الأطفال يموتون بسبب الجوع.
أسباب تفاقم الأزمة
على الرغم من وجود مجموعة من الأسباب الموضوعية التي تقف وراء ظواهر الفقر والجوع وانتشار الأمراض في الدول النامية، إلا أن العديد من الخبراء والدارسين لهذه الظواهر يؤكدون أن الدول الغنية هي المسؤولة بشكل مباشر عن هذه المشكلات ووصولها في كثير من المناطق إلى حدود الكارثة الإنسانية، وأن المعالجات الدولية كانت وما تزال قاصرة في التعامل مع هذه الكوارث الإنسانية السائرة في طريق الانفجار، ويمكن تحديد الأسباب فيما يلي:
أولاً: الحروب: كانت الدول النامية والفقيرة ولفترات طويلة ساحات حرب أهلية وأحياناً خارجية مدمرة تغذيها الدول الغنية وأطماعها في ثروات هذه الدول.
ثانياً: تفاقم ظاهرة المديونية الخارجية في الدول النامية، والتي وصلت إلى مستويات خطيرة تهدد نموها الاقتصادي وتلتهم ثمار التنمية. فقد ارتفعت قيمتها أربعة أضعاف في 20 سنة، وتستنزف خدمات هذه الديون فقط القسم الأعظم من إنتاج الدول النامية السنوي.
ثالثاً: إهمال عمليات الإصلاح الاقتصادي التي رعاها وأشرف عليها كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للبعد الاجتماعي في العديد من الدول، مما فاقم من ظواهر الفقر والجوع والبطالة وغيرها.(9/437)
رابعاً: الفساد: تمثل ظاهرة الفساد في الدول النامية القوة الخفية التي تستنزف الموارد المالية بطريقة عجيبة، وتؤكد دراسة مختصة في هذا السياق أن كل عصابات الفساد السياسي في العالم الثالث والعالم الثاني (الدول الاشتراكية سابقاً) وجدت في عمليات الإصلاح الاقتصادي ملعباً واسعاً لتحقيق أعلى الأرباح، وكمثال على حجم الفساد قال أحد خبراء البنك الدولي إن أكثر من 100 مليار دولار تمثل خمس إجمالي القروض التي قدمها البنك الدولي في تاريخه ضاعت بسبب فساد الحكومات التي تحصل عليها.
خامساً: تدمير القطاع الزراعي في البلدان النامية، ومنعها من تصدير منتجاتها بسبب السياسات الحمائية التي تطبقها الدول المتقدمة، فعلى سبيل المثال بلغ الدعم المباشر المقدم للمزارعين في البلدان المتقدمة 235 مليار دولار في عام 2002 المجتمع ، وهو رقم يزيد بمقدار 30 ضعفاً عن المبالغ المقدمة لدعم التنمية الزراعية في البلدان النامية.
سادساً: تراجع إنتاج الغذاء وبالتالي انخفاض المخزون العالمي من الحبوب، فقد أفادت منظمة (الفاو) في نشرتها الدورية بعنوان "توقعات الأغذية في العالم" أن مخزونات العالم من الحبوب قد تتراجع في الفترة ما بين 2004 و2005 المجتمع من الموسم التسويقي وهو الانخفاض السنوي الخامس على التوالي.
سابعاً: تزايد مشكلة التصحر في العالم وفقدان الأراضي الزراعية، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على أصحاب هذه الأراضي وبالتالي على إنتاج وتوفير الغذاء لهم، وتقول البيانات الإحصائية إن 135 مليون شخص يواجهون خطر النزوح من أراضيهم بسبب هذه المشكلة.
ثامناً: ضعف المساعدات التنموية والإنسانية التي تقدمها الدول الغنية للبلدان النامية، فقيمتها لم تتجاوز 0.7 % من ناتجها القومي.
تاسعاً: زيادة الإنفاق العسكري في الدول النامية إذ تخصص هذه الدول ميزانيات كبيرة للدفاع وشراء الأسلحة والمعدات الحربية، وبلغ إنفاق الدول النامية على التسلح خلال العام الماضي نحو 125 مليار دولار.
تلك بعض بثور العولمة: الجوع والفقر والأمراض وانتشار الحروب، وطبعاً لم ينج العرب من هذه التداعيات، حيث تشير البيانات إلى أن هناك أكثر من 50% من العرب يعيشون تحت خط الفقر، وتوجد أربع دول عربية ضمن الدول ال25 الأشد فقراً في العالم، فيما تتفاقم المشكلات والأزمات الأخرى وفي مقدمتها مشكلة البطالة التي وصلت إلى 15% من مجموع الأيدي العاملة حسب التقديرات المتفائلة.. فأين خطر الإرهاب وضحاياه من هذه الكوارث الإنسانية الكبرى؟
وكالة قدس برس
==============(9/438)
(9/439)
الأمم المتحدة تتبنى ترويج الإباحية وتدمير الأسرة في مؤتمر:
"عولمة المرأة"
ماجد بن جعفر الغامدي
mmjaaf r *otmail.com
الشكل النهائي لوثيقة بكين الجديدة التي يراد فرضها على العالم
شهدت دهاليز الأمم المتحدة انعقاد المؤتمر الدولي، احتفالاً بمرور عشر سنوات على وثيقة بكين الخاصة بالمرأة، وهي الوثيقة التي تدعو إلى فتح الطريق على مصراعيه للإباحية الجنسية وإطلاق الحرية التامة للحمل خارج إطار الزواج والإجهاض وزواج المثليين، وهدم الأسرة بأركانها الفطرية.
وهذا المؤتمر يعد دعوة متبجحة للانحلال والفوضى ومؤامرة دنيئة على العفة والفضيلة، وهو إلى جانب ذلك يمثل حلقة متقدمة من حلقات التآمر على الإسلام وطعن القيم والأخلاق في مقتل، ويمثل البذرة الأولى لمرجعية أيديولوجية المرأة الجديدة التي طرحت موضوع الأسرة، وقضايا المرأة قضايا عالمية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن ضجيج القضايا السياسية والاقتصادية في دول العالم الثالث في هذا الوقت غطى على الجانب الاجتماعي والثقافي المتصل بالأسرة والمرأة والأحوال الشخصية؛ فمنذ عام 1950م حاولت الأمم المتحدة عقد الدورة الأولى لمؤتمراتها الدولية حول المرأة والأسرة بعنوان: "تنظيم الأسرة" لكن الحكومة المصرية في العهد الملكي قاومته بقوة، وأخفق المؤتمر الذي كان يترأسه ماركسيٌّ صهيوني، ثم عاودت الأمم المتحدة مرة ثانية تطلعها في بناء المرجعية النسوية الجديدة، فعقدت مؤتمراً في المكسيك عام 1975م، ودعت فيه إلى حرية الإجهاض للمرأة والحرية الجنسية للمراهقين والأطفال، وتنظيم الأسرة لضبط عدد السكان في العالم الثالث، وأخفق هذا المؤتمر أيضاً، ثم عقد مؤتمر في "نيروبي" عام 1985م بعنوان: "استراتيجيات التطلع إلى الأمام من أجل تقدم المرأة"، ثم كان مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية الذي عقد في سبتمبر 1994م، وأخيراً كان مؤتمر المرأة في بكين الذي عُقد عام 1995م تحت عنوان: "المساواة والتنمية والسلم"، وهو المؤتمر الذي ختمت به الأمم المتحدة القرن الماضي، وانتهت إلى الشكل النهائي للمرجعية الجديدة والبديلة التي يراد فرضها على العالم والتي تهدف بكلمة واحدة إلى "عولمة المرأة".
وتعتبر المؤتمرات السابقة كلها إرهاصات حقيقية لما يصبون إليه من رسم أيديولوجية موحدة للمرأة في جميع أنحاء العالم.. ثم كانت الولادة لطفلهم الأشقر (مؤتمر بكين) الذي طالما حلموا به، وها هم في طور الاعتناء البالغ به حتى يكبر ويترعرع ويفرضوا سيادته على العالم.
وبإطلالة سريعة على نص الوثيقة الختامية لمؤتمر بكين والوثيقة المعدّة لمؤتمر بكين والتي تقع في 177 صفحة و362 مادة نجد الوثيقة تدعو إلى نزعات متعددة، وتتضمن هذه النزعة فرض فكرة حق الإنسان في تغيير هويته الجنسية (من ذكر إلى أنثى ومن أنثى إلى ذكر أو أن يختار أن يكون بينهما لأن الوثيقة تقر الاعتراف بالشواذ). ولك أن تتخيل ما يتبع ذلك من تغيير في الأدوار المترتبة على الفرد.
وتطالب الوثيقة بحق المرأة والفتاة في التمتع بحرية جنسية آمنة مع من تشاء وفي أي سن تشاء وليس بالضرورة في إطار الزواج الشرعي، بتقرير متبجح للإباحية الجنسية وإلزام جميع الدول بالموافقة على ذلك، مع المطالبة بسن القوانين التي يعاقب بها كل من يعترض على هذه الحرية، حتى ولو كان المعترض أحد الوالدين، وهذا استدعى كذلك الدعوة إلى تقليص ولاية الوالدين وسلطتهما على أبنائهما، حتى لو كانت تلك الممارسات في داخل البيت الذي تعيش فيه الأسرة، فللفتاة والفتى أن يرفع الأمر إلى السلطات التي ستلزم بسن قوانين تعالج أمثال هذه الشكاوى، فالمهم هو تقديم المشورة والنصيحة لتكون هذه العلاقات (الآثمة) مأمونة العواقب سواء من ناحية الإنجاب أو من ناحية الإصابة بمرض الإيدز.
كما تطالب الوثيقة، الحكومات بالاهتمام بتلبية الحاجات التثقيفية والخدمية للمراهقين ليتمكنوا من معالجة الجانب الجنسي في حياتهم معالجة إيجابية ومسؤولة، وتطالب بحق المراهقات الحوامل في مواصلة التعليم دون إدانة لهذا الحمل السِّفَاح، فالوثيقة تدعو إلى سن قوانين للتعامل مع حمل السفاح، لتكون وثيقة دخول الحامل للمستشفى، كونها حاملاً دون أدنى مساءلة حول حملها بغير زوج، ثم تخيير الفتاة بين رغبتها في الإجهاض، أو إن شاءت أن تبقيه فتلزم سلطات الرعاية الاجتماعية برعايتها، وإن لم ترد تربيته فتدفع به لدور الرعاية.
وبالتأمل والتحليل لبعض ألفاظ الوثيقة نجد كلمة: "الأمومة" لم ترد سوى ست مرات، بينما كلمة: "جندر" والتي تعني "نوع" جاءت ستين مرة، وجاءت كلمة "جنس" في مواضع كثيراً جداً، وأما كلمة "الزَّوج" فلم تذكر بالمرة، لأن الوثيقة لا تعترف بالزواج وتعتبره (جناية)! على المرأة وتسمي العملية الجنسية بين الزوجين ب (الاغتصاب الزوجي)، وذُكر بدلاً من "الزوج" كلمة أوسع وأعم وهي "Pa r tne r " أي الزَّميل أو الشَّريك، فالعلاقة الجنسية علاقة بين طرفين تدين لكل منهما استقلاليته الجنسية، والحقوق الإنجابية حقوق ممنوحة للأفراد والمتزوجين على السواء.(9/440)
والمثير أن تستخدم الوثيقة كلمة (المساواة) للتعبير عن إزالة الاختلافات بين الرجل والمرأة حتى ولو كانت اختلافات بيولوجية، وتستخدم (التنمية) للتعبير عن الحرية الجنسية والانفلات الأخلاقي، وتستخدم كلمة (السلم) لمطالبة الحكومات بخفض نفقاتها العسكرية، وتحويل الإنفاق إلى خطط التخريب والتدمير للأيديولوجية النسوية الجديدة.
ومن المؤسف أن هذه المفردات الجديدة والمقررات التي يسعى النظام العالمي الجديد إلى فرضها أيديولوجية كونية على العالم، تستهدف ضرب مَواطن القوة في الحضارات المختلفة معه.
ومن العجيب أن المجتمعات الغربية التي شرعت مسبقاً في تنفيذ هذه القوانين الشاذة عاد ذلك بالنكبات المتتابعة عليها وزادها تمزقاً وفرقة، وهنا لغة الأرقام تتحدث، فالإحصاءات والبيانات التي تصدر تباعاً من داخل المجتمعات الغربية تؤكد ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر تقول بعض المصادر الأمريكية إن هناك حوالي مليون فتاة أمريكية من المراهقات يحملن كل عام (خارج الزواج) وأن حوالي 300 ألف منهن دون سن الخامسة عشرة، وأن 400 ألف منهن يقدمن على الإجهاض.
كما تؤكد الدراسات العديدة الصادرة عن أشهر ثلاثة باحثين أمريكيين في السلوك الجنسي وهم (كنزي وجونسون وماستر) أن 50% من الذكور الذين تمت دراسة حالتهم قد مارسوا الجنسية المثلية، كما تؤكد دراسات أخرى أن 1.5 مليون امرأة وفتاة يمارسن السحاق.
ولذلك فإن الأيديولوجية الجديدة تستمد جذورها الفكرية من "الماركسية الحديثة"، حيث تعتبر أن خطأ الماركسية القديمة هو اللجوء إلى الأساليب الاقتصادية لبناء مجتمع لا طبقي، بينما ترى الأيديولوجية الحديثة أن اللجوء إلى الأساليب الاجتماعية هو السبيل الوحيد لمجتمع خالٍ من الطبقات والميول الطبقية، ولذا فإن "الأسرة" والأمومة في نظر "الماركسية الحديثة" تمثل السبب وراء نظام طبقي جنسي يقهر المرأة لا يرجع إلا لدورها في الحمل والأمومة.
ومن يتأمل في تلك المقررات بعين العقل والبصيرة فإنه لا يكاد يصدق أنه يوجد شخصان من البشر يقرانها لشناعتها وخطرها، بل لو حُدثنا عن أنها في أمة سابقة لاعتبرناها أمراً عجباً، والمرء يعجب أعظم العجب عندما يتيقن أن تلك المقررات والدعوات تتداعى دول عدة لإقرارها، وتتفاقم الطامة عندما نعلم أن وثيقة بكين التي أصبحت "مقررات بكين" وقّعت عليها 183 دولة لتصبح أساس المرجعية الكونية البديلة، دولٌ نالت حظاً كبيراً من فهم السنن الكونية في هذه الحياة، وهاهم يشاهدون أعظم العبر وأبلغ النذر في خطئهم، وخطرهم في دعواتهم الإباحية، بما رأوه من الأرقام المتصاعدة لصرعى الأمراض الجنسية التي أُعيوا أن يجدوا لها طباً أو شفاءً، فكيف تعمى بصائرهم عن وهاد السفاح ومزالق مخالفة الفطرة!
ولكن ذلك العجب يتلاشى حين نتأمل قول أصدق القائلين وأحكم الحاكمين والخبير بما في صدور العالمين: إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا (44) (سورة الفرقان). وإنه لعارٌ على الإنسانية إلى قيام الساعة أن يكون فيهم من تُبجل إنجازاتهم وتعدد مخترعاتهم بما فتح الله به عليهم، ثم ينتكسون تلك الانتكاسة الكبرى في هدم الأخلاق وإلغاء الكرامة الإنسانية وإهدار معالمها.
-============(9/441)
(9/442)
د. رضا الخليفي في حوار صريح عن: ظاهرة أسلمة البنوك الربوية
الفكرة مستمدة من مبدأ التوبة والإقلاع عن الربا
أجرى الحوار:صادق عبدالله
برز في العصر الحديث "الاقتصاد الإسلامي" كنظام له أصوله ومبادئه وقواعده ومؤسساته التي تميزت عن غيرها بفلسفتها وأساليبها الاستثمارية وأدواتها المالية التي تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية السمحة، كما أصبحت المؤسسات المالية الإسلامية محل اهتمام العالم كله، إلى جانب النمو المتسارع لأعداد المؤسسات المالية الإسلامية بأنواعها محلياً وإقليمياً وعالمياً، ففي الإحصاء الصادر عن المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية (سبتمبر 2003م) بلغ عدد المؤسسات المالية الإسلامية (267) بنكاً ومؤسسة مالية إسلامية منتشرة في 48 دولة، بحجم أعمال يزيد على 250 مليار دولار.. طموحاً تسعى إليه عامة البنوك التقليدية، فما حقيقة هذه الظاهرة؟ وما أسباب برزوها، وهل الدوافع من وراء التحول دوافع دينية أم ربحية، وما الحكم الشرعي للتعامل معها، وما موقف البنوك المركزية من ظاهرة أسلمة البنوك.. وللإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها كان هذا الحوار مع الدكتور رياض منصور الخليفي مدير عام مكتب المستشار الشرعي الدولي في الكويت.
نريد توضيحاً لماهية ظاهرة أسلمة البنوك التقليدية "التحول المصرفي"؟
فكرة تحول البنك الربوي إلى المصرفية الإسلامية مستمدة من مبدأ التوبة والرجوع إلى الله والإقلاع عن كبيرة التعامل بالربا، أخذاً أو إعطاء، فهذا هو الأصل الشرعي في التحول، ويقصد بمصطلح التحول أو أسلمة البنك أن توجد لدى البنك التقليدي "الربوي" رغبة صادقة في التوبة إلى الله والإقلاع عن كبيرة الربا، وذلك من خلال إيقاف الخدمات المالية والمصرفية وكافة المخالفات الشرعية، وطرح البدائل الشرعية مكانها والمتمثلة في تقديم الخدمات المالية والمصرفية طبقاً لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية الغراء، والحقيقة أن ظاهرة أسلمة البنوك تعتبر إعلاناً صريحاً بنجاح المصرفية الإسلامية، وأن الأدوات المصرفية الإسلامية في مجالي التمويل والاستثمار باتت تمثل الأدوات الأكثر كفاءة ونمواً في الاقتصاديات الحديثة، الأمر الذي دفع البنوك التقليدية إلى أن تساير هذه النجاحات من خلال تبني الفكر المصرفي الإسلامي بصورة كلية أو على مستوى المنتجات وصيغ التمويل الإسلامية، ولذلك وجدنا أن ظاهرة تحول البنوك التقليدية وأسلمة عملياتها تأخذ أحد أسلوبين رئيسين:
الأول: أن يتحول البنك بشكل كلي بجميع أعماله وعملياته ويسمى "التحول الكلي" بحيث يبدأ البنك فعلياً بأسلمة جميع عملياته المالية على صعيد كل من الموارد والاستخدامات المصرفية، ويلتزم البنك في هذه الحالة بنمط هيكلي من الأعمال يختلف جذرياً عما كان عليه قبل الأسلمة، ويقوم بتشكيل هيئة رقابة شرعية تمارس دور الإفتاء الشرعي بشأن كل أعمال البنك وعملياته، وللهيئة الشرعية منع أي معاملة لا تجتاز الاختبار الشرعي وفق منهجية الفقه الإسلامي.
الثاني: التحول بشكل جزئي وخاص ويسمى "التحول الجزئي"، وقد يطلق على التحول الجزئي مصطلح "النوافذ الإسلامية في البنوك التقليدية" وصورته أن يكتفي البنك التقليدي بالإضافة إلى أعماله الربوية طرح بعض صيغ التمويل والاستثمار الإسلامية كالمَحافظ والصناديق الإسلامية، ومثله أيضاً أن يفتح البنك الربوي فرعاً خاصاً أو أكثر للمعاملات الإسلامية، والشرط الأساسي في كلا الأسلوبين أن يكونا مطابقين لمبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية الغراء.
ما الأسباب التي تدفع البنوك التقليدية "الربوية" إلى هذا التحول؟
في الواقع هناك العديد من الأسباب الفنية وهي:
1 أسباب قانونية فنحن نعلم أن البنوك التقليدية مقيدة وفق القوانين المنظمة لها في مختلف الدول بأن تلتزم مساراً واحداً فقط في العمل وهو الوساطة المالية، حيث تدير عملية انتقال الأموال بين كفتي الفائض والعجز وفق أداة استراتيجية هي الإقراض والاقتراض بالربا، في حين نجد أن قوانين البنوك الإسلامية قد اعترفت بالطبيعة الخاصة للعمليات المصرفية الإسلامية والتي تمارس نشاط الاستثمار المباشر إلى جانب الوساطة المالية، الأمر الذي يعد قيمة استراتيجية مضافة إلى أداء البنوك التقليدية، فالبنوك الإسلامية تستثمر بشتى أنواع الاستثمار المباشر لنفسها أو للغير فهي بنوك تاجرة أو بنوك شاملة، ولذا فإن البنوك التقليدية ترغب في الاستفادة من هذه الميزة الاستراتيجية وهي الاستثمار.
2 ارتفاع عوائد عمليات التمويل الإسلامي مقارنة بعوائد التمويل الربوي، حيث شهدت الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في معدلاتها بصورة متدنية شجعت البنوك التقليدية على طرق النوافذ الإسلامية، وربما التحول الكلي نحو المصرفية الإسلامية.(9/443)
3 الإقبال الكبير والرضا العملي من قبل الأفراد والمؤسسات والحكومات كنتيجة للنجاحات الملحوظة التي حققتها المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، سواء من حيث معدلات الربحية، أو على صعيد الاقتصاد القومي، أو على الصعيد الاجتماعي الوطني، وقد أدرك المسؤولون في الدول الإسلامية وفي العالم أجمع أثر إسهام المصرفية الإسلامية في دفع عجلة التنمية، ذلك أن البنك الإسلامي يملك العديد من المنتجات والأدوات الاستثمارية المتنوعة والفاعلة، الأمر الذي يفسر لنا تسارع الدول بإقرار قوانين البنوك الإسلامية، وذلك في مقابل أحادية الاستثمار في البنوك "الربوية" وفق عملية "الإقراض والاقتراض" أو ما يسمى "المتاجرة بالديون".
4 تنامي الوعي الديني لدى الجماهير المسلمة بتحريم التعامل بالربا وأنه من أكبر الكبائر في الشريعة الإسلامية، كأثر من آثار الصحوة الإسلامية في تصحيح المفاهيم، مما أدى إلى تحول شرائح كبيرة من العملاء في اتجاه البنوك الإسلامية، وهذا بدوره قد بات يشكل خطراً حقيقياً باتجاه تراجع الطلب على منتجات البنوك "الربوية".
5 تزايد أخطار عولمة الصناعة المصرفية والمتوقع أن يكون لها الأثر السلبي البالغ على أداء البنوك التقليدية.
لكن.. كيف سيكون للعولمة أثرها السلبي على البنوك التقليدية، وهل البنوك الإسلامية ستتضرر هي الأخرى بالعولمة؟
يرى خبراء المال والاقتصاد أن الاقتصاد الإسلامي بما يمتاز به من أدبيات ومبادئ رشيدة، بما في ذلك خاصية تحريم الربا يعد الملاذ الآمن والبديل الاستراتيجي لما هو متوقع من أخطار الاختراق العالمي لأسواق الائتمان المحلية والإقليمية، إذ إن مقتضى اتفاقيات تحرير التجارة العالمية أن يتم فتح الحدود للمنتجات الخارجية لتنافس المنتجات المحلية، ولا شك أن هذا الاختراق سيشمل القطاع المالي والمصرفي ومؤسساته المتمثلة في البنوك التقليدية المحلية والإقليمية القائمة على مبدأ الفائدة الربوية. وبطبيعة الحال فإنه في ظل هذه الاتفاقية ستجد البنوك التقليدية العالمية "الربوية" فرصة جيدة لمنافسة تلك البنوك المحلية الضعيفة نسبياً، لا سيما وأن البنوك العالمية تملك المراكز المالية القوية والخبرة الفنية والسمعة العالمية، كما تملك أفضل أنماط الخدمات المصرفية، كما يرى الخبراء أن هذه المنافسة غير العادلة وفقاً لسياسة الاقتصادات كبيرة الحجم ستؤثر سلباً على الحصة السوقية لشريحة عملاء البنوك التقليدية "الربوية"، حيث سيجد العملاء التباين الكبير في المزايا المقدمة ما بين البنوك المحلية والبنوك العالمية، مما سينعكس على انصرافهم وتخليهم عن تلك البنوك المحلية إلى البنوك العالمية، وحينئذ ستضطر البنوك المحلية إلى مواجهة أحد ثلاثة احتمالات.
الاحتمال الأول: الإغلاق تجنباً للخسائر الفادحة المتوقعة، أو الإفلاس.
الاحتمال الثاني: الاندماج مع بعض البنوك المحلية أو الإقليمية أو العالمية.
الاحتمال الثالث: التحول في اتجاه أسلمة معاملاتها والتزام أحكام قوانين البنوك الإسلامية.
ويرى الخبراء أيضاً أن المؤسسات المالية الإسلامية ممثلة في البنوك الإسلامية وشركات الاستثمار وشركات التأمين الإسلامية لن تتأثر بالمنافسة الأجنبية التقليدية "الربوية"، بل يتوقع الخبراء، على العكس من ذلك، أن الطلب على المعاملات الإسلامية سيزداد نتيجة تزايد معدلات التحول نحو أسلمة البنوك الربوية لمعاملاتها كاستراتيجية آمنة.. مقارنة بما يمكن أن تؤول إليه المؤسسات المالية التقليدية.
ما الفترة الزمنية اللازمة التي يستغرقها البنك التقليدي ليتحول إلى إسلامي؟
الحديث عن المدة الزمنية يقترن بالتحول الكلي وليس التحول الجزئي، والحقيقة أنه لا يمكن تحديد مدة زمنية محددة كأجل لأسلمة كامل عمليات البنك، ذلك أن تحديد الفترة الزمنية اللازمة للتحول تختلف بالنسبة لكل بنك، بحسب معطيات البنك وظروفه المالية وبيئته القانونية، إلا أن التجارب العملية للتحول تتفق على مبدأ المرحلية والتدرج في التحول كأساس استراتيجي، كما تتفق أيضاً على أن أسلمة أعمال البنك التقليدي بالكامل تستغرق في العادة مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، حتى يتسنى للبنك أن يطهر أعماله وأمواله ويلتزم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وعلى الرغم مما ذكرناه إلا أن الملاحظ من خلال تجارب التحول بمنطقة الخليج أن جميع البنوك الربوية التي تحولت نحو المصرفية الإسلامية، قد قفزت عوائدها بشكل كبير، كما تراجعت أخطارها التمويلية نتيجة تفوق آلية الضمانات وفق الصيغ الإسلامية، بل واستطاعت البنوك المتحولة بأدواتها التمويلية الجديدة والقائمة على مبدأ المشاركة في الربح والخسارة أن تلبي حاجات المستثمرين والمشروعات الجادة نظير أخطار متدنية مقارنة بأخطار التمويل الربوي الذي لا يراعي ظروف المستثمر فيما لو تعثر مشروعه لظروف خارجة عن إرادته، الأمر الذي عزز مصداقية البنوك الإسلامية والبنوك المتحولة نحو المصرفية الإسلامية.
كيف تمتد الفترة إلى هذا الوقت الطويل؟! أليس المفروض أن يتم التحول فوراً وبشكل مباشر؟(9/444)
هذا صحيح من حيث أصل فكرة التحول فهي كما ذكرنا أصلها التوبة إلى الله والإقلاع عن كبيرة الربا، فقرار التحول يجب أن يكون فوراً بلا شك لأنه توبة والتوبة من الربا لا يجوز معها التراخي، لكن الأمر من الناحية الواقعية والعملية يستغرق أجلاً طويلاً، وذلك نظراً لوجود عدد من الظروف والأحوال والإجراءات الفنية والقانونية التي لايمكن للبنك التقليدي أن يتخطاها إلا خلال عدة سنوات، بل إن محاولة تجاوزها فوراً قد يترتب عليه انهيار البنك بالكامل، ولذلك وجدنا المعيار الشرعي رقم (6) الصادر عن المجلس الشرعي بهيئة المحاسبة والمراجعة الإسلامية قد نص على "ضرورة الأخذ بمبادئ وقواعد السياسة الشرعية في التحول بما لا يؤدي إلى انهيار البنك بالكامل"، وبالتالي فإن تصور أن يتحول البنك الربوي إلى إسلامي بالكامل خلال شهر أو شهرين أو ثلاثة هو أمر غير واقعي ويتعذر تطبيقه عملياً.
ولنوضح ذلك فنقول: البنك الربوي مرتبط بالعديد من التعاملات مع الغير فيكون في بعضها دائناً بالربا ويكون في بعضها الآخر مديناً بالربا، وهو ما يعرف بالحقوق والالتزامات الربوية أو المتاجرة بالديون، وهي بطبيعة الحال علاقات قانونية مالية تخالف الشريعة الإسلامية، فإذا عرفنا أن البنك الربوي يعقد في اليوم الواحد آلاف العمليات ذات الصيغ والأشكال المتعددة، والتي تترتب عليها حقوق والتزامات وآثار قانونية ربوية بآجال مختلفة، فلا شك أن أسلمة هذا الكم الكبير من العمليات الربوية ذات الآجال والأشكال المختلفة سيستغرق وقتاً ومعالجة تمتد في بعض تطبيقاتها إلى ما يزيد على العشر سنوات، وذلك مثل التزامات البنك ومديونياته طويلة الأجل.
ماذا عن موقف الفقه الإسلامي المعاصر من قضية تحول البنوك الربوية وأسلمة أعمالها؟ وهل موقفه فيها واضح وصريح؟
بحمد الله تعالى، أثبتت الشريعة الإسلامية بثوابتها ومرونتها أنها قادرة على استيعاب كل متطلبات الحياة المالية والتجارية وبجدارة، والحقيقة أن هناك العديد من الأبحاث والدراسات الأكاديمية والحالات الميدانية التي عالجت قضية التحول نحو المصرفية الإسلامية، ولعل من أجودها وأشملها الرسالة العلمية بعنوان: "تحول البنوك الربوية إلى بنوك إسلامية" لسعادة أخي الدكتور سعود عبدالعزيز الربيعة... أستاذ الاقتصاد الإسلامي في جامعة الكويت، كما توجد بعض الأبحاث الموجزة التي رصدت بعض التجارب الميدانية مثل ورقة د.سعيد مرطان في تجربة التحول الجزئي للبنك الأهلي التجاري في المملكة العربية السعودية، هذا على الصعيد البحثي الفردي، وأما على صعيد الإسهامات المجمعية فقد أصدر المجلس الشرعي بهيئة المحاسبة والمراجعة الإسلامية في مملكة البحرين المعيار الشرعي رقم (6) والذي يختص بالتحول الكلي، وهو معيار جيد إلا أنه مختصر جداً وخاص بالتحول الكلي فقط ويحتاج إلى تطوير وتفصيل.
وأما على الصعيد المهني المصرفي فقد قام مكتب المستشار الشرعي الدولي في دولة الكويت مؤخراً بإعداد استراتيجية عامة لإدارة متطلبات التحول نحو المصرفية الإسلامية باستيعاب المتطلبات الشرعية والفنية، كما تم تسجيل حقوق هذالمنتج ضمن برنامج حقوق الملكية في دولة الكويت.
وماذا عن التحول الجزئي؟
التحول الجزئي، يعرف باسم "النوافذ الإسلامية في البنوك الربوية" wendos وأول ما عُرفت هذه النوافذ بجمهورية مصر العربية وعرفت آنذاك باسم: "الشبابيك الإسلامية" التي كان البنك يخصصها داخل الفرع لتلبية حاجة العملاء الراغبين في هذا النوع من التعامل المتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، حيث يقدم البنك التقليدي خطوط تمويل وخدمات مصرفية واستثمارية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، واليوم نجد أن النوافذ الإسلامية في البنوك الربوية قد أخذت صوراً متعددة، فمنها المحافظ والصناديق الإسلامية التي يطرحها البنك الربوي، ومنها أن يتفح البنك الربوي حسابات استثمارية وحسابات توفير تدار وفقاً لأحكام الشريعة، ومنها أن يخصص البنك فروعاً خاصة للمعاملات المصرفية الإسلامية.
لكن ما الحكم الشرعي لمثل هذه النوافذ الإسلامية، خاصة أنه في نهاية المطاف يمكن أن يختلط فيها الحلال مع الحرام؟
لا شك أن هذا التساؤل وجيه وفي محله، وفي نظري أن ممارسة العمل المصرفي الإسلامي في داخل البنك الربوي لا تخلو في كثير منها من التلاعب والتحايل والتضليل واستغلال الشعار الإسلامي، ولذلك ظهرت آراء فقهية معاصرة تحرم التعامل مع هذه النوافذ للأسباب التي أشرتم إليها، بل وجدنا بعض الفقهاء المعاصرين يطلق على هذه النوافذ اسم "نوافذ الضرار" قياساً على مسجد الضرار الذي بناه المنافقون تضليلاً وتحايلاً في زمن النبي {، في حين ذهب فقهاء آخرون إلى إباحة هذه النوافذ لأن فيها توسيعاً لدائرة المعاملات الحلال داخل البنك وتضيقاً لدائرة الربا والمعاملات المحرمة، ولأن تكاثر المعاملات الحلال داخل البنك التقليدي ستثبت كفاءتها في الأجل الطويل بما يحمل البنك على التحول الكلي نحو الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية بالكامل.
ولكن ما رأيكم الشخصي في حكم التعامل مع هذه النوافذ؟(9/445)
في الحقيقة أن الخبرة الاستشارية بمكتب المستشار الدولي قامت بدراسة هذه النازلة الفقهية المعاصرة دراسة فاحصة "وهي: حكم التعامل مع النوافذ الإسلامية بالبنوك التقليدية" وأخذت بعين الاعتبار كافة الجوانب القانونية والمالية والفنية إلى جانب النواحي الشرعية، وتوصلت إلى أن الحل الشرعي العملي لضبط هذه الممارسة ومنعها من الانحراف يكمن في تعزيز الجانب الرقابي الذي من شأنه جلب المصالح ودرء المفاسد تبعاً لسياسة الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية، وانتهت الخبرة الشرعية بمكتبنا إلى أنه لا يجوز التعامل مع هذه النوافذ إلا إذا توافرت فيها ثلاثة شروط:
1 وجود رقابة شرعية على النافذة الإسلامية تتحقق من سلامة تنفيذ الأعمال وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية.
2 وجود رقابة مالية وفصل محاسبي تام لئلا يختلط الحلال بالحرام.
3 وجود رقابة مصرفية من البنك المركزي تحول دون التلاعب والتضليل واستغلال الشعار الإسلامي.
هل هناك تجارب سابقة تحولت فيها بنوك ربوية إلى بنوك إسلامية؟
نعم هناك العديد من تجارب التحول بنوعيه الكلي والجزئي حدثت بمنطقة الخليج والمنطقة العربية عموماً، بل حتى على الصعيد المصرفي الدولي، فمن تجارب التحول الكلي في منطقة الخليج تحول بنك الشارقة الوطني إلى بنك الشارقة الإسلامي، وتحول بنك أبوظبي، وتحول بنك الشرق الأوسط في الإمارات أيضاً، وأما تجارب التحول الجزئي "النوافذ الإسلامية"، فهي بحمد الله كثيرة جداً، بل نلاحظ حالياً أن البنوك الربوية في العالم الإسلامي تتسابق في طرح خدمات إسلامية جزئية تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، ولست أبالغ حين أقول إنه لا يوجد بنك ربوي اليوم لا يفكر بجدية في طرح منتجات إسلامية،
وأما على الصعيد الدولي فقد رأينا كيف أن البنوك العالمية اليوم باتت تتسابق في مجال ممارسة العمل المصرفي الإسلامي، مثل "سيتي بنك جروب" الذي قام بتأسيس فرع إسلامي خاص في مملكة البحرين، ومؤخراً تم تأسيس البنك الإسلامي البريطاني وهو حالياً قيد الاكتتاب... وهناك تحضيرات لعمليات تحول ما زالت قيد الدراسة.
لكن ما الدوافع الحقيقية من وراء التحول نحو المصرفية الإسلامية؟ هل هي دينية أم تجارية ربحية؟
بطبيعة الحال فإن دوافع التحول ليست بالضرورة دينية بحتة في جميع تطبيقاتها، بمعنى أن البنك حين يتخذ قراره بالتحول ليس بالضرورة أن يكون ذلك مستمداً من استشعاره معنى التوبة إلى الله والإقلاع عن تعاطي كبيرة الربا امتثالاً للشريعة الإسلامية، وإن كنا لمسنا سلامة هذا التوجه في عدد من النماذج المشرقة في هذا المجال، إلا أن الغالب أن تكون هذه الدوافع ذات أبعاد ربحية وتجارية بحتة بغض النظر عن الأبعاد الشرعية، وعموماً فإننا نعتقد أن الاعتبار الأهم في هذه الحالة هو مشروعية التعامل في ذاته بغض النظر عن نية المتعاملين، لأن آثار هذا التعامل تنعكس مباشرة على الاقتصاد والمجتمع، ولذلك تعامل النبي { مع غير المسلمين ولم يمنع ذلك مادام التعامل يتم طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، بل مات رسول الله { ودرعه مرهونة عند يهودي، هذا مع توافر الصحابة الذين يفدونه بأنفسهم وأموالهم، مما يدل على أن المعاملة وافقت الشرع في ذاتها، فالأصل صحتها ولا عبرة بالمتعاملين بها.
تحدثت عن التحول على الصعيد الخليجي والعالمي، ولكن ماذا عن التحول في السوق المصرفي الكويتي؟
الحقيقة أن تجارب التحول في السوق المصرفي الكويتي محدودة وضيقة، وقد حاولت بعض البنوك الربوية المحلية طرح منتجات إسلامية في صورة صناديق إسلامية، ويبدو أن معظمها قد تعثر لأسباب فنية لم أقف عليها حتى الآن، كما توجد بنوك كويتية متخصصة طرحت خطوط تمويل إسلامية بالتعاون مع بنوك إسلامية، إلا أن تجارب التحول في السوق المصرفي الكويتي لا يمكن الاعتماد عليها في تقييم التجربة لسبب بسيط وهو عدم توافر البيئة القانونية الملائمة، حيث إن بنك الكويت المركزي قد اتخذ سياسة مصرفية حاسمة تقضي بمنع كافة أشكال الازدواجية في ممارسة العمل المصرفي إلا في حدود ضوابط وإجراءات مشددة تحافظ على مصداقية الخدمات الإسلامية وتمنع سوء استغلالها.
ولذلك فإن البنك العقاري سلك طريق التحول الكلي نحو المصرفية الإسلامية ما تقييمكم لهذا التحول؟
أحب أن أسجل تقديري الكامل للجهود الحالية المبذولة داخل البنك العقاري بهدف تحويله إلى بنك إسلامي، وأسأل الله أن يوفق القائمين على هذه التجربة الرائدة في دولة الكويت، فإننا نعتقد أن تنامي أعداد البنوك الإسلامية بمنزلة بوابة الأمن الاقتصادي والتنمية الحقيقية في أي اقتصاد يتطلع إلى مستقبل زاهر، وقد ثبت اليوم للحكومات الإسلامية والعربية أن الاقتصاد الإسلامي والمصرفية الإسلامية هما الملاذ الآمن من أخطار العولمة الاقتصادية.(9/446)
كما أنني أؤكد بأن الاقتصاديين التقليديين أنفسهم باتوا يشككون في جدية تحقيق البنوك الربوية للتنمية الاقتصادية المزعومة، بل على العكس من ذلك فإن العمل المصرفي التقليدي يعمل على تحقيق التخلف الاقتصادي الشامل كنتيجة حتمية ومباشرة لتعطيل التوظيف الأمثل لموارد الإنتاج، واحتباس المال عن الحركة الطبيعية في الاقتصاد.
وأما الحديث عن تقييم تحول البنك العقاري الكويتي، فإنه يجب التأكيد ابتداء على أن البنك رسمياً حتى الآن لم يتحول إلى بنك إسلامي، وإنما يقوم حالياً بالتحضير والاستعداد للتحول كمرحلة تمهيدية وفق خطة إجرائية معتمدة من قبل البنك المركزي، والمفترض أن تنتهي الخطة التحضيرية مع حلول أبريل 2005م.
=============(9/447)
(9/448)
هل العلمانية تتناقض مع الإسلام؟
محمد إبراهيم مبروك
هل العلمانية تتناقض مع الإسلام؟
هل من الممكن التوافق بين العلمانية والإسلام؟.
لو ذهبنا إلى أي فيلسوف من فلاسفة الغرب وقلنا له: هل من الممكن أن تتفق العلمانية التي تقتصر مرجعيتها على العقل وخبراته مع الإسلام الذي يجعل مرجعيته تبعاً للنصوص المقدسة لله والرسولل؟
ترى ماذا سيكون رأيه فينا؟
ألا يكون السؤال بالنسبة له مشابهاً عن مدى اتفاق الليل والنهار، والعسل والسم، والشيوعية والرأسمالية، والمسيحية واليهودية، وأفلاطون وأرسطو، وابن تيمية وابن عربي، ومن في الداخل ومن في الخارج، والشرق والغرب، والشمال والجنوب، والموجب والسالب، والجمع والطرح، وكل ما هو متناقض في هذا العالم.
وماذا لو كررنا عليه السؤال؟ ألا يشك حينذاك في قوانا العقلية؟
وهل يوجد مفكر غربي واحد يزعم أن الإسلام يتفق مع العلمانية؟
أم أن أعاظم مفكري الغرب من أمثال هنتجتون، وفوكوياما، وبرنارد لويس يتفقون جميعاً على أن مشكلة الإسلام الأساسية مع الغرب هي في تناقضه مع العلمانية.
وإذا كانت المسألة واضحة كل تلك الوضوح بالنسبة لهم فكيف من الممكن أن تحتاج إلى فقه، أو اجتهاد، أو إفتاء بالنسبة لنا؟ أليس الأمر أشبه ما يكون بأن الواحد والواحد مجموعهما اثنان، وأن النقيضين لا يجتمعان، فالعلمانية بأي معنى من المعاني التي توردها المعاجم الغربية مثل معجم أكسفورد (الذي يورد من بين تعريفاتها: ينتمي إلى هذا العالم الآني والمرئي، أو يهتم بهذا العالم فحسب) أليس فحواها الذي لا يختلف عليه أحد أنها تجعل من العقل وخبراته مرجعيتها الوحيدة.
فهل من الممكن أن تتفق مع الإسلام الذي يقرر بما لا يقبل الجدل أن مرجعيته الأساسية هي في "قال الله وقال الرسول"، أليس تناقض هذا مع ذاك بديهة من البديهييات، لكن هذه المعاني الواضحة التي يتم طرحها بكل صراحة في الغرب يتم الالتفاف حولها بكل الأشكال والصور في الشرق، حتى إنه يمكن القول: أن الجانب الأساسي من تاريخ الحياة الفكرية في عالمنا الإسلامي في القرنين الأخيرين هو في الحقيقة يمثل تاريخ الاحتيال الفكري في ادعاء عدم التناقض بين العلمانية والإسلام، وكل الحوارات المفتعلة بين المسميات المختلفة مثل التراث والتجديد، أو الأصالة والمعاصرة، أو الإسلام والحداثة؛ ما هي في حقيقتها سوى تخريجات احتيالية لتمييع الحدود الفارقة بين الإسلام والعلمانية، وهي تستهدف في الأساس تفكيك الإسلام من ثوابته ومقوماته وقواعده الأساسية، وإحالته لمجرد تراكم كمي من الأحكام يخضع للحذف والتعديل، والتأويل والتشكيل المتجدد بحسب المتغيرات العلمانية.
يا سادة إما أن يكون هناك منطق مشترك بين عقول الناس عليه يتفاهمون، أو لا يكون، فإذا كان هذا المنطق موجوداً وهو البديهة فإنه يقول أن الأساس دين شمولي لا يقبل التجزؤ أو التبعض على الإطلاق، وأي محاولة لفعل ذلك هي بمثابة الخروج منه تماماً، وذلك بحكم الآيات: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))، ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً))، ((أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تفعلون))، ((إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً)).
أي أن العلمانية التي يطرحها أهلها الآن سواء بمعنى فصل الدين عن الدنيا، أو حتى فصل الدين عن الدولة؛ هي بمثابة دعوة لتجزيء الإسلام أو تبعيضه، ومن ثم فهي خروج عن الإسلام تماماً، وهذا ما حدا بالمفكر الإسلامي الراحل محمد البهي إلى أن يكتب كتاباً عن العلمانية عنوانه (العلمانية وتطبيقها في الإسلام: إيمان ببعض الكتاب، وكفر بالبعض الأخر).
وللدكتور محمد البهي على وجه الخصوص أهمية حاسمة في هذا الموضوع (موضوع موقف الإسلام من العلمانية) لأن الرجل يجمع بين الصفات المثلى لما قد تتطلبه جوانبه المختلفة (هذا على الفرض الوهمي الذي يفرضه البعض أن الموضوع يتطلبها، وإن كنا من جهتنا نرى أن الموضوع أقرب إلى البديهة التي لا تحتاج إلى أدنى تفكير) فالدكتور محمد البهي من الجانب الفلسفي حاصل على الدكتوراه من ألمانيا التي تمثل قمة الفلسفة الغربية في القرون الأخيرة، ومن الجانب الإسلامي هو عالم من علماء الأزهر الذين تدرجوا في مناصبه العليا حتى عين وزيراً للأوقاف في عهد عبد الناصر، وهو من هذه الناحية أيضاً أحد رجال المؤسسة الرسمية الذين لا يمكن اتهامهم بالتطرف، ويضاف إلى ذلك أيضاً ما عرف عنه أيضاً من صلاح وحزم، ومن ثم فلا يمكن اتهامه بالموالاة لأحد، وأخطر صفاته التي تتعلق بالحديث الذي نحن بصدده أنه كان أحد أبناء مدرسة محمد عبده الفكرية التي يعول عليها العلمانيون كثيراً في تمييع العلاقة بين العلمانية والإسلام.(9/449)
يقول الدكتور محمد البهي في كتابه هذا بعد أن عرض لشمولية الإسلام في جميع جوانب الحياة، وعدم قابليته للتجزؤ أو التبعض: "وبما عرضناه هنا من مبادىء الإسلام كما تذكرها آيات القرآن الكريم نجد أن الإسلام نظام شامل لحياة الإنسان، ومترابط في مبادئه، وفي تطبيقه، لا يقبل التجزئة بحال، وقصر التطبيق على جانب مثلاً في حياة الإنسان، أو على جانبين فأكثر من جوانب هذه الحياة دون باقي الجوانب الأخرى، معناه إفساح مكان لهوى الإنسان بجانب ما يطبق من مبادىء القرآن"، وشتان بين هوى الإنسان ووحي الله، "إن إخلاء مكان لهوى الإنسان في حكم الإنسان المسلم في مجتمع الإسلامي بجانب تطبيقه مجموعة من مبادىء القران في جانب أو في عدة جوانب من حياة الإنسان هو كفر ببعض الكتاب وهو القرآن، فيما أفسح فيه المجال للهوى...، وإيمان ببعضه الآخر فيما يطبق فيه القرآن.
فلو قصر تطبيق القرآن على أداء العبادات أو كما يقال على حياة المسجد، وأبعد عن مجالات الشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية مثلاً كان إبعاد القرآن عن مجالات الشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية كفر بمبادىء القرآن في هذه المجالات.
وكان حكم الإنسان المسلم في المجتمع الإسلامي يخضع للهوى أو للشيطان في المجالات التي يبعد فيها عن القرآن"(ص 19: 20).
ويقول الدكتور عدنان النحوي في كتابه "الشورى لا الديمقراطية": "العلمانية فصلٌ للدين عن الدولة: كفر صريح"
ويقول الدكتور يحيى هاشم فرغل (رئيس قسم العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين بالأزهر سابقاً) في كتابه (حقيقة العلمانية بين التخريب الخرافة): "إن العلمانية بمفهومها (المتسامح) والذي يكتفي بالفصل بين الدين والحياة قد لا تعنى الإلحاد في العقيدة المسيحية، ولكنها تتطابق معه فيما يتصل بالعقيدة الإسلامية سواء أخذناها بمفهومها المتسامح أو بمفهومها المتشدد - الذي يصر على القضاء على الدين -، غاية ما في الأمر أننا لا نحكم به - الإلحاد - على معتنق العلمانية مطلقاً، ولكننا نحكم به على أولئك الذين يصرون عليها بعد تعريفهم بهذا التطابق.
وهذا أيضاً ما صرحت به رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، حيث جاء في بيان لها عن نواقض الإيمان في فقرة خاصة موجهة إلى العلمانيين:
من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو إن حكم غيره عنده أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر ومن ذلك:
* اعتقاد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الله.
* أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين.
* أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى.
* القول بأن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر.
* اعتقاد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله في المعاملات الشرعية أو الحدود أو غيرها، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله إجماعاً، وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالزنا والخمور، والربا والحكم بغير شريعة الله؛ فهو كافر بإجماع المسلمين.
ويقول الدكتور محمد بن سعيد بن سالم القحطاني في كتابه (القصيبي والمشروع العلماني):
لا شك أن الإسلام يعتبر العلمانية كفراً وشركاً بالله - سبحانه وتعالى -، والسبب في ذلك هو كما يلي:
1- إن الإسلام هو دين التوحيد بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وهو يرفض الشرك في كل صورة من صوره، بل يرفض ذرائعه ووسائله ومن ثم فمبدأ العلمانية: "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" مرفوض في الإسلام الذي ركنه الأساسي "لا إله إلا الله".
2- أن مفهوم العبادة في الدين الإسلامي أنها كل قول وعمل ظاهر أو باطن يتقرب به إلى الله - سبحانه وتعالى - كما قال - سبحانه -: ((قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)).
فالعبادة تشمل النشاط الإنساني بكل ما فيه، فلا يخلو شيء منه عن الأحكام الخمسة، حتى المباح يمكن أن يصبح قربة مأجور عليها بالنية الصالحة، أما العلمانية فتجعل أكثر شئون الحياة مما لا علاقة للدين به.
3- يجعل الإسلام العلمانية شركاً في الطاعة والاتباع، حيث أنها تعلن التمرد الكامل على تحكيم الشرع في شئون الحياة بعضها أو كلها، وهذا مفرق الطريق بينها وبين الإسلام قال - تعالى-: ((أفحكم الجاهلية يبغون))، وقال سبحانه: ((أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)).
4- يقول - سبحانه -: ((اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء)) فاتخاذ الأولياء شرك بالله - سبحانه وتعالى -.
ومع كل ما سبق فإنهم يبتدعون دائماً شبهات جديدة تثار حول الموضوع قد نناقش بعضها في مقالات قادمة.
من أهم كتب المؤلف:
- الإسلام الليبرالي.
- الصراع بين الإسلام والغرب الأمريكي.
- موقف الإسلام من الحب بين الرجل والمرأة.
http://www.islamicnews.net:المصدر
===========(9/450)
(9/451)
العلمانية والدولة اليهودية ... عناق وإتفاق
أسامه إبراهيم سعد الدين
osamas444@yahoo.com
توجد علاقة وطيدة بين دخول العلمانية بلادنا وبين الاستيطان اليهودي في أرضنا، ولعل لهذه العلاقة مظاهرها
(1) العلمانية فكرة غربية غريبة عن العقل والفكر الإسلامي والكيان اليهودي نبته غريبة عن تربة بلادنا فهما أشبه بمرض السرطان حيث العلمانية ورم سرطاني أصاب مخ الأمة فأضعف مناعتها ومهد للإصابة بورم سرطاني آخر أصاب جسم الأمة(الكيان الصهيوني)
(2)الإرتباط الوثيق لكل منهما مع القوى الصليبية الغربية.
(3) وجود مرحبين ومشجعين للفكرتين من العالم الإسلامي وهذه العلاقة قديمة قدم العلمانية في بلادنا، ولعل أسباب تلك العلاقة هي أن العلمانية هي المسئولة عن تغييب الوعي الإسلامي الصحيح وإبعاده تماما عن إدراك خطورة قبول اليهود كشريك شرعي في أرضنا (فلسطين)، ولتوضيح ذلك نوجز تاريخ العلمانية في العالم الإسلامي والذي إرتبط به تاريخ الدولة اليهودية ونشأتها فقد مرت العلمانية بثلاث مراحل:
(1) الولادة (منشأ الفكرة وبدايات التطبيق)
(2) الفتوة والشباب (الاستعمار في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الاستقلال في الدول الإسلامية) (3)الشيخوخة والاحتضار (الحملة الصليبية الأخيرة على العراق).
المرحلة الأولى الولادة (منشأ الفكرة وبدايات التطبيق): يرجع كثير من الباحثين بدايات فكرة العلمانية إلى الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا فهو من وضع الفكرة (فكرة الغزو الفكري)، ثم جاء لويس الرابع عشر بعد أربعة قرون من الزمان ليجعل من تلك الفكرة هدفا قابلا للتحقيق، فعمل هو ووزيره كولبير على تجنيد العديد من الجواسيس من رهبان وقساوسة وسفراء بهدف دراسة أحوال المجتمعات الإسلامية ودراسة الفكر الإسلامي وبخاصة (فكر الإرجاء وفكر التصوف)، وبعد ظهور الفكرة وتحديد الهدف وتعبيد الطريق لتنفيذه ومروره، نرى بدايات التطبيق على يد "نابليون بونابرت " في حملته الصليبية الغاشمة على مصر وبلاد الشام فيما عرف في كتب التاريخ "الحملة الفرنسية "وقد كانت تلك الحملة متعددة الأهداف والغايات:
(1) التوسع الإمبراطوري الفرنسي وإستغلال خيرات الشرق.
(2) نقل المدنية الغربية (العلمانية) إلى البلاد الإسلامية وكسر الطوق العثماني عن بلاد مصر والشام.
(3) إحداث صدمة نفسية لدى المسلمين من رهبة شديدة من العسكرية الغربية إلى رغبة عاتية في تلك المدنية التي كانت سببا في قوة الآلة العسكرية.
(4) توطين اليهود فلسطين وهو ما عمل لأجله نابليون، فقد أراد خدمة يهود أوروبا بتوطين يهود الشرق فلسطين. ثم جاء بعد ذلك "محمد على وأبناؤه" وواصلوا مسيرة التغريب والعلمانية بطريقة أكثر مما كانت في عقل نابليون، وجاء الاحتلال الإنجليزي لمصر سنة 1882م كنتيجة طبيعية لسياساتهم الخاطئة.
(2) الفتوة والشباب: كانت الحملات الصليبية (الإستعمار) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أكثر وعيا وأوفر حظا عن سابقتها:
(1) ضعف الحمية والغيرة في نفوس المسلمين وإحساسهم بالإنكسار والهزيمة النفسية.
(2) غياب قيادات ربانية تعمل لصلاح الأمة ونصرتها.
(3) إقصاء الشريعة من الحكم.
(4) القدرة على تغريب التعليم والثقافة ووجود طبقة من المثقفين والأدباء تدعو لذلك.(9/452)
(5) القدرة على إنهاء الخلافة الإسلامية نهائيا ذلك الرابط الذي يجمع المسلمين كوحدة واحدة من مشارق الأرض إلى مغاربها. وفى ظل هذا اللمعان والتوهج العلماني نرى "وعد بلفور" المشئوم والذي جعل من فلسطين موطنا لليهود، ومرة أخرى نرى القوى الغربية الصليبية الداعمة لتغريب وعلمانية بلادنا هي من تدعم الوجود اليهودي على أرضنا الإسلامية الطاهرة. ثم حاربت الجيوش العربية ذلك الوجود اليهودي المزعوم والمدعوم من القوى الغربية وذلك سنة 1948م وكانت الهزيمة المريرة للأمة لأنها حاربت بعيدة عن عقيدتها منتهجة نهجا علمانيا جاهليا هو "القومية العربية ". ثم رحل الإحتلال الصليبي العلماني عن بلادنا بعد أن وطد ومكن لليهود في فلسطين. وبعد أن تمكن من إعداد أتباعه وعملائه لقيادة البلاد فكان هذا التابع "وريث فى الحكم، شريك في العلمانية والتغريب" وسارت الأمة خطوات وخطوات وأوغلت في وحل العلمانية والتغريب وهذه المرة تحت شعار آخر "القومية العربية" ولم تستطع إزاحة هذا الوجود اليهودي اللعين وإخراجه من أرضها، وكيف لها ذلك وهى تحاربه بعلمانية هي في الأصل توأم هذا التواجد اليهودي فهما" صنوان لا يفترقان بل زاد الطين بله وأصبح هذا الوجود اليهودي دولة ذات سيادة وسط بلادنا وهرولت الدول العربية والإسلامية لهذا الكيان لتقيم معه علاقات وإتفاقيات تقوى من شأنه وتعلى من قدره كل ذلك والعلمانية تستشري في بلادنا تحت مسميات عديدة (ليبرالية قومية وطنية) وكلها مسميات جاهلية بالية لم تحرك ساكنا، وخلال تلك الفترة رأينا قسوة الكيان الصهيوني معنا وإستباحته المعهودة لأموالنا ودمائنا وأبنائنا وأعراضنا وإعراضه عن كل المواثيق التي عقدناها معه، ورأينا تلك العلمانية الخبيثة عجزت عن تقديم الحل لنا بعد أن غيبت عقلنا وحرفت فكرنا عن ديننا فظللنا نتقلب في ظلمات جهلها سنين وسنين.
(3) الشيخوخة والإحتضار: مرت علينا خمسون عاما منذ رحيل الحملات الصليبية ضللنا فيها الطريق عن ديننا والذي هو غاية أمرنا، فعجزنا عن النصر ووقفنا مدهوشين تائهين يتخبط بعضنا بعضا، ننظر لحصاد تلك السنين بحسرة وأسى، إلى أن جاءت الحملة الصليبية الأخيرة على أفغانستان والعراق، ووجدناها حرب دينية قبل كل شىء أعادت لنا ماضينا وذكرتنا بمآسيه كما ذكرتنا بأن خلاصنا ونهضتنا في ديننا والتمسك به والعمل لأجله، ولأن الحرب دينية فقد خرصت ألسن العلمانيين بعد أن كانوا يبررون للحرب بدعاوى واهية كنشر الديمقراطية وإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل.
15-05-2007
http://www.islamselect.com المصدر:
===========(9/453)
(9/454)
القاهرة تحاور أريك كاوفمان:العلمانية أنهكت نفسها ولم تعد قادرة على إلهام أنصارها
6 /2/ 2007 م
أثار المقال الذي نشره الدكتور أريك كاوفمان في مجلة "روسبيكت" البريطانية ثم في مجلة "نيوزويك" الأمريكية حول نهاية العلمانية في أوروبا؛ الكثير من الجدل حول تفسيره المبنى على علم الديمغرافيا، والذي يركز على الدور الذي ستلعبه الصحوة الدينية، وعواقبها الديمغرافية من ميل المتدينين لإنجاب عدد أكبر من الأطفال في انحسار العلمانية في منتصف القرن الحادي والعشرين.
أهمية هذا المقال تكمن في مواكبتها لأحداث تشير بالفعل إلى نشاط اليمين الديني في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، مما يثير العديد من التساؤلات حول ظاهرة تراجع العلمانية في هذه المجتمعات، والتي كانت تحديداً المهد الذي نشأ فيه الفكر الليبرالي العلماني، وسوف تنشر القاهرة ترجمة المقال في العدد القادم.
حول هذا المقال وهذه التساؤلات التي أثارها أجرت جريدة القاهرة هذا الحديث مع الدكتور أريك كاوفمان:
• أنت محاضر في العلوم السياسية وعلم الاجتماع لماذا اخترت حصرياً التفسير الديمغرافي لما تسميه بظاهرة انحسار العلمانية؟
ـ أغلب نظريات الدين والعلمنة لا تعطي الاهتمام الكافي لعلم وصف السكان أو الديمغرافيا، ولكنني أعتقد أنه في غاية الأهمية خاصة الآن، ونحن نرى أن العلمانية تفقد بعض ديناميكيتها في العديد من الدول الغربية عندما تتوقف عملية التغير الاجتماعي تصبح الديمغرافيا أكثر أهمية.
• مقالك الذي نشر في مجلة "بروسبيكت" بعنوان التناسل من أجل الله، وفي مجلة نيوزويك بعنوان عودة الإيمان، وفي حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية بعنوان نهاية العلمانية يتحدث عن صحوة التدين لأسباب ديمغرافية، ما هو تعريفك للتدين والدين؟
ـ التدين تعريفه هنا هو الإيمان الخاص والمعتقدات الشخصية أكثر منه التدين بمفهوم ممارسة الطقوس الدينية السؤال الذي طرح في استطلاع الرأي الذي قمت به كان بالتحديد هل أنت إنسان متدين؟ وحصرت الإجابات بين "نعم"، "لا" أو أنا ملحد.
• هل تنطبق أطروحتك على المجتمعات غير الغربية والتي ما زالت تعمل من أجل التحديث وبها شريحة من المثقفين والمفكرين الذين يدعون إلى العلمانية؟
ـ إذا كانت العلمانية هنا تشير إلى علمنة المعتقدات الخاصة وليس فصل الدين عن الدولة؛ ففي هذه الحالة أعتقد أن أطروحتي تنطبق على المجتمعات غير الغربية، وبشكل ما أعتقد أن أطروحتي تنطبق أكثر على هذه المجتمعات، فعلى مدار فترة طويلة من الزمن كان الناس الأكثر ثراء، والأكثر حداثة؛ يكونون أسراً كبيرة نظراً لقدرتهم المادية والتي تؤهلهم للزواج في سن مبكرة، ونظراً لانخفاض معدل الوفيات بين أطفالهم، يبدو أن هذا الاتجاه انعكس تماماً في القرن العشرين عندما ينجب هؤلاء الناس الأكثر حداثة عدداً أقل من الأطفال، فإن عملية الحداثة بالتالي تواجه مأزقاً، وسيكون عليها أن تعمل جاهدة على تعويض هذه الخسارة الديمغرافية، ولذلك نرى أن هذه الظاهرة تؤدي إلى نمو المجتمعات السكانية التقليدية، والأكثر تديناً، ونرى هذا بالفعل يحدث في تركيا وإسرائيل ومصر.
العلمانية أنهكت نفسها:
•تحدثت عن الردة الدينية بين أبناء الشرائح المتدينة، وتوقعت أن تصل العلمانية إلى قمة نموها بين عامي 2035 و2045, ولكنك توقعت أن تكسب الصحوة الدينية المعركة في النهاية: لماذا تحديداً منتصف القرن الحادي والعشرين؟
ـ هذه التوقعات خاصة بفرنسا ومجتمعات أوروبا البروتستانتية، وهما المركز الذي بدأت منه العلمانية، وهما أيضاً الأكثر تقدماً بين الدول الغربية، سبب توقف عملية العلمنة سيكون 25% ديمغرافي، بمعنى أن الشرائح المتدينة ستستمر في إنجاب عدد أكبر من الأطفال عن الشرائح العلمانية، ولكنه سيكون 75% اجتماعي بمعنى أن عدد أقل من الناس المتدينين المنتمين لأجيال ما بعد 1945م ستختار اتجاه العلمانية، وحتى إن كان تدينهم تديناً في إطار عام وليس في إطار الممارسة الفعلية للشعائر الدينية فإنهم سينقلون هذا التدين إلى أولادهم، هذا وينبغي أن نلاحظ أن الديمغرافيا ستزداد أهميتها عندما نضيف عامل الهجرة، فالواقع يشير إلى أن عدد السكان في أوروبا الغربية ينخفض بالفعل بدون أن تأخذ في الاعتبار أعداد المهاجرين، وانخفاض عدد السكان سيزداد، حيث أن معدل الإنجاب انخفض في الثلاثين عاماً الأخيرة 2.1 إلى 1.5 طفل لكل امرأة.
عدد سكان أوروبا الغربية حالياً يحوي 5% من ذوي الأصول غير الأوروبية، ولكن هذه النسبة ستصل إلى ما بين 15 إلى 25% نحو عام 2050، وهذه الزيادة ستنعكس بشكل سكان أكثر تديناً من السكان الأصليين لأوروبا، وهو بالتالي الأمر الذي سيرفع نسبة التدين في أوروبا بشكل عام.
• البعض انتقد أطروحتك اعتقاداً منهم بأن التفسير الديمغرافي وحده لا يكفي لشرح انحسار العلمانية أنه لا بد من مراعاة عوامل أخرى، ما تعليقك؟(9/455)
ـ أتفق على أن لديهم وجهة نظر جزء مما يحدث هو أن القوى الديمغرافية تغيرت في القرن العشرين لصالح الشرائح المتدينة، ولكن ما يحدث أيضاً هو أن العلمانية أنهكت نفسها، لقد أصبحت كفكرة قديمة يجب أن تبرر نفسها، ولا يبدو أنها لا تزال قادرة على إلهام متبعيها، إذا نظرنا إلى ما يكتبه المفكرون الليبراليون ستجد أن العديد منهم يوجهون النقد العلني للعلمانية لأنها أصبحت تمثل نسخة قديمة وعقيمة، وستجد أن هؤلاء يفضلون على سبيل المثال التعددية الثقافية والتي تتعامل بتسامح أكبر مع التنوع الديني، والتعدد الأخلاقي؛ لأن هذا التسامح أكثر حيوية.
قد يكون هناك أيضاً جزء خاص بوجود حدود سيكولوجية لدرجة العلمنة التي يمكن أن يتوصل إليها البشر، فالبشر في النهاية في حاجة إلى الاستمرارية والأمان الوجودي، والخلود وتحقيق معنى... إلخ.
• لقد أشرت إلى ظاهرة ازدياد عدد المورمون عن اليهود في الولايات المتحدة كمثال للخصوبة الدينية أو التناسل من أجل الله، هناك مثل مشابه في ازدياد عدد الفلسطينيين عن اليهود في الأراضي المحتلة، هل ترى أن هناك وجهاً للمقارنة بين الحالتين؟
ـ نعم ففي كلتا الحالتين تلعب القوى الديمغرافية دوراً سياسياً، حيث إن الأعداد لها وزنها وخاصة مع وجود الديمقراطية، هناك فرق واحد يجب أن أشير إليه وهو أن حافز الفلسطينيين لزيادة الخصوبة سياسي في المقام الأول، بينما أن حافز طائفة المورمون فهو حافز ديني.
الإسلام الأوروبي:
تلعب الهجرة دوراً مهماً في تفسيرك لانحسار العلمانية، ولكن يبدو لي أنها تلعب دوراً أقل أهمية من الصحوة الدينية لدى السكان البيض، ألا تخشى أن يساء فهم أطروحتك على أنها تدق ناقوس الخطر ضد نمو الإسلام الأوروبي؟
ـ التأثير الرئيسي على المدى البعيد سيكون للدور الذي سيلعبه السكان البيض، حيث سيعكس المسيحيون ارتفاعاً في معدلات إنجابهم لأسباب دينية، أعتقد أيضاً أن نمو الإسلام الأوروبي سيكون قوة لها وزنها وأهميتها، ما أريد أن أقوله هو أن القوتين معاً ستؤديان إلى زيادة تيار التدين، وأنه إذا انضم المسيحيون البيض إلى المسلمين المتدينين فإنه من الممكن أن يحدثوا تغيراً اجتماعياً مشابهاً لما حدث في الولايات المتحدة عندما انضم المسيحيون الإنجيليون البروتستانت مع الكاثوليك التقليديين، واليهود المحافظين، ووحدوا قواهم في الثمانينات والتسعينيات لزج أجندة دينية على طاولة الحزب الجمهوري لا يمكن أن ننسى أن هذه الطوائف كانت من القوى المعارضة السابقة، وبالتالي لم يكن عرضاً أن يشغل جون كينيدي منصب أول رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة عام 1960م بعد قرابة المائتي عام على تأسيسها.
• كيف ترى الدور الذي يلعبه الإسلام الأوروبي فيما يخص انحسار العلمانية؟ هل يمكن مقارنته بالدور الذي يقوم به المسيحيون الإنجيليون؟
ـ لا أعتقد أن الإسلام الأوروبي سيتزعم القوى المؤدية إلى انحسار العلمانية، ولكن المسلمين الأوروبيين من الممكن أن يكونوا حلفاء مؤثرين للمسيحيين المتدينين الذين يعملون لمجابهة المدى العلماني، وأتذكر أنني سمعت ذات مرة في مناظرة إسلامية في بريطانيا واحداً من المسيحيين الإنجيليين يطالب شباب بريطانيا المسلمين بالنهوض والإدلاء بأصواتهم لمن يعملون على مقاومة القوى العلمانية، لا ينبغي لنا أن نقلل من أهمية الحدة التي يرفض بها المسيحيون المتدينون العلمانيين إلى الدرجة التي تجعلهم مستعدين لضم قواهم السياسية مع الجماعات الإسلامية.
• هل ترى أن هناك صراعاً بين الدين والعلمانية أم أن انحسار العلمانية سيحدث تدريجياً بسبب التغيرات الديمغرافية؟
ـ أعتقد أن الديمغرافيا ستسبب أزمة للعلمانية الليبرالية، المجتمع الحالي الذي نعيشه والذي يجمع بين تسامح رسمي تجاه التنوع الديني والثقافي، وبين علمانية متضمنة سيظهر متناقضاته عما قريب، العلمانية ستضطر لإيجاد لغة مجتمع مشترك، ومعنى يمكن أن يلهم الناس بنفس الطريقة التي يلهمهم بها الدين، فيما مضى كانت الوطنية المنافس الرئيسي للدين، ولكن الليبرالية الآن تخلت عن مفهوم القومية، وتبنت التعددية الثقافية، لا أعتقد أن الأمور ستستمر كثيراً على هذا الحال.
فكر ثقافي محافظ:
• تحدثت عن التحالفات بين الطوائف المختلفة فيما يخص القيم والأفكار المحافظة هل ترى أي أمل لهذه التحالفات الآن في ظل الأزمات السياسية في الشرق الأوسط والحرب الشاملة على الإرهاب؟
ـ الإمكانية موجودة لأن المناخ العام اليوم يسمح بمناقشة الدين بشكل أوسع من مناقشة القوميات والعرقيات، الليبراليون لن يرحبوا بفكرة أن يقوم المحافظون ببناء تحالفات طائفية على أسس دينية، ولكنهم سيرون أنه هذه سياسة أكثر تقدمية من الحركات المحافظة المبنية على أسس قومية تعبئ المسيحيين والليبراليين ضد الآخر غير الأوروبي.(9/456)
ولذلك أعتقد أن الضغط الاجتماعي سيؤدي إلى فكر ثقافي محافظ من أجل تعبئة المجتمع على أسس دينية، لقد حدث هذا في السياسية الأمريكية عندما اتحد اللاتينيون، والبروتستانت البيض، والكاثوليك البيض، واليهود في ائتلاف ديني على الرغم من الفروقات الواضحة بينهم، جزء من السبب يرجع إلى أن الأمريكيين الليبراليين كانوا غاية في الفعالية في وصف الحركات العلمانية القومية التي تتمركز حول البروتستانت البيض بالعنصرية، نرى هذا يحدث الآن من خلال الحزب الجمهوري، حيث إن نخبة الحزب تحاول أن تحافظ على رؤيتها الدينية، وعلى رغبتها في اجتذاب الأمريكيين من الأصول اللاتينية عن طريق تجاهلها للدعوات المنادية إلى الحد من الهجرات اللاتينية إلى الولايات المتحدة.
• كيف ترى مستقبل نظريات العلمانية السائدة والتي لها ثقلها الأكاديمي على مدى حقبة طويلة من الزمن؟
ـ أعتقد أن العلمنة ستستمر في الدول الأكثر تديناً مثل الولايات المتحدة، توجد زيادة في عدد السكان العلمانيين في نفس الوقت الذي يحدث فيه ازدياد في نمو الشرائح المتدينة مما يؤدي إلى تضاؤل الشريحة الوسطية، بالإضافة إلى ذلك سينتهي الحال بالشرائح العلمانية بالتضاؤل التدريجي بسبب الانخفاض الديمغرافي، مما يرجح كفة المتدينين على المدى البعيد.
في أوروبا الكاثوليكية ستستمر العلمنة بشكل يفوق النمو الديمغرافي للمتدينين لبعض الوقت، لكن هذا الاتجاه سيصل إلى منحدر في وقت ما من القرن الحادي والعشرين، يبدأ بعده في التراجع، في العالم غير الغربي أتوقع أن تستمر محاولات التنمية والتحديث، والنمو الحضري والتعليم، ولكن هذا لن يستطيع مواكبة النمو المتزايد للمجتمعات السكانية المتدينة، أراهن على أن عدد العلمانيين سيزداد، ولكن في الوقت نفسه سيزداد عدد المتدينين المناهضين للعلمنة التي سيتم وصفها كأحد واردات المجتمعات الغربية، ولذلك سيتحول القرن الحادي والعشرين إلى قرن يهد صحوة دينية أكبر مما شهده القرن العشرين.
http://www.al r ased.net:المصدر
-============(9/457)
(9/458)
العلمانية
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:
العلمانية SECULA r ISM وترجمتها الصحيحة: اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل(*) ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين(*). وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر. أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية.
ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما.
تتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة حيث لقيصر سلطة الدولة ولله سلطة الكنيسة (*). وهذا واضح فيما يُنسب إلى السيد المسيح(*) من قوله: "إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما الإسلام فلا يعرف هذه الثنائية والمسلم كله لله وحياته كلها لله {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام: آية: 162].
التأسيس وأبرز الشخصيات:
• انتشرت هذه الدعوة في أوروبا وعمت أقطار العالم بحكم النفوذ الغربي والتغلغل الشيوعي. وقد أدت ظروف كثيرة قبل الثورة (*) الفرنسية سنة 1789م وبعدها إلى انتشارها الواسع وتبلور منهجها(*) وأفكارها وقد تطورت الأحداث وفق الترتيب التالي:
- تحول رجال الدين إلى طواغيت (*) ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الإكليروس(*) والرهبانية(*) والعشاء الرباني(*) وبيع صكوك الغفران.
- وقوف الكنيسة (*) ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها لمحاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة، مثل:
1- كوبرنيكوس: نشر سنة 1543م كتاب حركات الأجرام السماوية وقد حرمت الكنيسة هذا الكتاب.
2- جرادانو: صنع التلسكوب فعُذب عذاباً شديداً وعمره سبعون سنة وتوفي سنة 1642م.
3- سبينوزا: صاحب مدرسة النقد التاريخي وقد كان مصيره الموت مسلولاً.
4- جون لوك طالب بإخضاع الوحي(*) للعقل(*) عند التعارض.
ظهور مبدأ العقل والطبيعة(*):
فقد أخذ العلمانيون يدعون إلى تحرر العقل وإضفاء صفات الإله(*) على الطبيعة.
- الثورة(*) الفرنسية:
نتيجة لهذا الصراع بين الكنيسة(*) من جهة وبين الحركة الجديدة من جهة أخرى، كانت ولادة الحكومة الفرنسية سنة 1789م وهي أول حكومة لا دينية تحكم باسم الشعب. وهناك من يرى أن الماسون استغلوا أخطاء الكنيسة والحكومة الفرنسية وركبوا موجة الثورة لتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهدافهم.
- جان جاك روسو سنة 1778م له كتاب العقد الاجتماعي الذي يعد إنجيل الثورة، مونتسكيو له روح القوانين، سبينوزا (يهودي) يعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجاً(*) للحياة والسلوك وله رسالة في اللاهوت(*) والسياسة، فولتير صاحب القانون الطبيعي كانت له الدين(*) في حدود العقل وحده سنة 1804م، وليم جودين 1793م له العدالة السياسية ودعوته فيه دعوة علمانية صريحة.
- ميرابو الذي يعد خطيب وزعيم وفيلسوف الثورة الفرنسية.
- سارت الجموع الغوغائية لهدم الباستيل وشعارها الخبز ثم تحول شعارها إلى (الحرية(*) والمساواة والإخاء) وهو شعار ماسوني و"لتسقط الرجعية" وهي كلمة ملتوية تعني الدين وقد تغلغل اليهود بهذا الشعار لكسر الحواجز بينهم وبين أجهزة الدولة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت الثورة(*) من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه.
- نظرية التطور: ظهر كتاب أصل الأنواع سنة 1859م لتشارلز دارون الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب وقد جعلت الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها. وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد(*) وقد استغل اليهود هذه النظرية بدهاء وخبث.
- ظهور نيتشة: وفلسفته التي تزعم بأن الإله(*) قد مات وأن الإنسان الأعلى (السوبر مان) ينبغي أن يحل محله.
- دور كايم (اليهودي): جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظرية العقل الجمعي.
- فرويد (اليهودي): اعتمد الدافع الجنسي مفسراً لكل الظواهر. والإنسان في نظره حيوان جنسي.
- كارل ماركس (اليهودي): صاحب التفسير المادي للتاريخ(*) الذي يؤمن بالتطور الحتمي(*) وهو داعية الشيوعية ومؤسسها الأول الذي اعتبر الدين أفيون الشعوب.
- جان بول سارتر: في الوجودية وكولن ولسون في اللامنتمي: يدعوان إلى الوجودية والإلحاد.
- الاتجاهات العلمانية في العالم العربي والإسلامي نذكر نماذج منها:(9/459)
1- في مصر: دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون بونابرت. وقد أشار إليها الجبرتي في تاريخه الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر وأحداثها بعبارات تدور حول معنى العلمانية وإن لم تذكر اللفظة صراحة. أما أول من استخدم هذا المصطلح العلمانية فهو نصراني يُدعى إلياس بقطر في معجم عربي فرنسي من تأليفه سنة 1827م. وأدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م، وكان هذا الخديوي مفتوناً بالغرب، وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا.
2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الأحكام وفق الشريعة الإسلامية(*) ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة بتدبير الإنجليز وانتهت تماماً في أواسط القرن التاسع عشر.
3- الجزائر: إلغاء الشريعة الإسلامية(*) عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830م.
4- تونس: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906م.
5- المغرب: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.
6- تركيا: لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة(*) واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك، وإن كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة.
7- العراق والشام: ألغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيهما.
8- معظم أفريقيا: فيها حكومات نصرانية امتلكت السلطة بعد رحيل الاستعمار(*).
9- أندونيسيا ومعظم بلاد جنوب شرقي آسيا: دول علمانية.
10- انتشار الأحزاب(*) العلمانية والنزعات القومية: حزب البعث، الحزب القومي السوري، النزعة الفرعونية، النزعة الطورانية(*)، القومية العربية.
11- من أشهر دعاة العلمانية في العالم العربي والإسلامي: أحمد لطفي السيد، إسماعيل مظهر، قاسم أمين، طه حسين، عبد العزيز فهمي، ميشيل عفلق، أنطون سعادة، سوكارنو، سوهارتو، نهرو، مصطفى كمال أتاتورك، جمال عبد الناصر، أنور السادات صاحب شعار "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، د. فؤاد زكريا. د. فرج فودة وقد اغتيل بالقاهرة مؤخراً، وغيرهم.
الأفكار والمعتقدات:
• بعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلاً.
- وبعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون بعدم وجود أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان.
• الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل(*) والتجريب.
• إقامة حاجز سميك بين عالمي الروح والمادة(*)، والقيم الروحية لديهم قيم سلبية.
- فصل الدين(*) عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي.
- تطبيق مبدأ النفعية P r agmatism على كل شيء في الحياة.
- اعتماد مبدأ الميكيافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق(*).
- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الإجتماعية.
- أما معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي التي انتشرت بفضل الاستعمار(*) والتبشير فهي:
- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة(*).
- الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.
- الزعم بأن الفقه (*) الإسلامي مأخوذ عن القانون الروماني.
- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.
- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي.
- تشويه الحضارة الإسلامية وتضخيم حجم الحركات(*) الهدامة في التاريخ الإسلامي والزعم بأنها حركات إصلاح.
- إحياء الحضارات القديمة.
- اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.
- تربية الأجيال تربية لا دينية.
• إذا كان هناك عذر ما لوجود العلمانية في الغرب فليس هناك أي عذر لوجودها في بلاد المسلمين لأن النصراني إذا حكمه قانون مدني وضعي(*) لا ينزعج كثيراً ولا قليلاً لأنه لا يعطل قانوناً فرضه عليه دينه وليس في دينه ما يعتبر منهجاً للحياة، أما مع المسلم فالأمر مختلف حيث يوجب عليه إيمانه الاحتكام إلى شرع الله. ومن ناحية أخرى فإنه إذا انفصلت الدولة عن الدين بقى الدين النصراني قائماً في ظل سلطته القوية الفتية المتمكنة وبقيت جيوشها من الرهبان(*) والراهبات والمبشرين والمبشرات تعمل في مجالاتها المختلفة دون أن يكون للدولة عليهم سلطان بخلاف ما لو فعلت ذلك دولة إسلامية فإن النتيجة أن يبقى الدين(*) بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده حيث لا بابوية له ولا كهنوت(*) ولا أكليروس(*)، وصدق الخليفة الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حين قال: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
الجذور الفكرية والعقائدية:
• العداء المطلق للكنيسة(*) أولاً، وللدين ثانياً أيًّا كان، سواء وقف إلى جانب العلم أم عاداه.
• لليهود دور بارز في ترسيخ العلمانية من أجل إزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلاً بينهم وبين أمم الأرض.(9/460)
• يقول ألفرد هوايت هيو: "ما من مسألة ناقض العلم فيها الدين إلا وكان الصواب بجانب العلم والخطأ حليف الدين" وهذا القول إن صح بين العلم واللاهوت(*) في أوروبا فهو قول مردود ولا يصح بحال فيما يخص الإسلام حيث لا تعارض إطلاقاً بين الإسلام وبين حقائق العلم، ولم يقم بينهما أي صراع كما حدث في النصرانية. وقد نقل عن أحد الصحابة قوله عن الإسلام: "ما أمر بشيء، فقال العقل(*): ليته نهى عنه، ولانهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به". وهذا القول تصدقه الحقائق العلمية والموضوعية وقد أذعن لذلك صفوة من علماء الغرب وأفصحوا عن إعجابهم وتصديقهم لتلك الحقيقة في مئات النصوص الصادرة عنهم.
- تعميم نظرية (العداء بين العلم من جهة والدين من جهة) لتشمل الدين الإسلامي على الرغم من أن الدين الإسلامي لم يقف موقف الكنيسة ضد الحياة والعلم بل كان الإسلام سباقاً إلى تطبيق المنهج(*) التجريبي ونشر العلوم.
• إنكار الآخرة وعدم العمل لها واليقين بأن الحياة الدنيا هي المجال الوحيد للمتع والملذات.
• لماذا يرفض الإسلام العلمانية:
- لأنها تغفل طبيعة الإنسان البشرية باعتباره مكوناً من جسم وروح فتهتم بمطالب جسمه ولاتلقي اعتباراً لأشواق روحه.
- لأنها نبتت في البيئة الغربية وفقاً لظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية وتعتبر فكراً غريباً في بيئتنا الشرقية.
- لأنها تفصل الدين(*) عن الدولة فتفتح المجال للفردية والطبقية والعنصرية والمذهبية والقومية والحزبية والطائفية.
- لأنها تفسح المجال لانتشار الإلحاد(*) وعدم الإنتماء والاغتراب والتفسخ والفساد والانحلال.
- لأنها تجعلنا نفكر بعقلية الغرب، فلا ندين العلاقات الحرة بين الجنسين وندوس على أخلاقيات المجتمع ونفتح الأبواب على مصراعيها للممارسات الدنيئة، وتبيح التعامل بالربا وتعلي من قدر الفن للفن، ويسعى كل إنسان لإسعاد نفسه ولو على حساب غيره.
- لأنها تنقل إلينا أمراض المجتمع الغربي من إنكار الحساب في اليوم الآخر ومن ثم تسعى لأن يعيش الإنسان حياة متقلبة منطلقة من قيد الوازع الديني، مهيجة للغرائز الدنيوية كالطمع والمنفعة وتنازع البقاء ويصبح صوت الضمير عدماً.
- مع ظهور العلمانية يتم تكريس التعليم لدراسة ظواهر الحياة الخاضعة للتجريب والمشاهدة وتُهمل أمور الغيب من إيمان بالله والبعث والثواب والعقاب، وينشأ بذلك مجتمع غايته متاع الحياة وكل لهو رخيص.
الانتشار ومواقع النفوذ:
• بدأت العلمانية في أوروبا وصار لها وجود سياسي مع ميلاد الثورة(*) الفرنسية سنة 1789م. وقد عمت أوروبا في القرن التاسع عشر وانتقلت لتشمل معظم دول العالم في السياسة والحكم في القرن العشرين بتأثير الاستعمار(*) والتبشر.
يتضح مما سبق:
• أن العلمانية دعوة إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل(*) بعيداً عن الدين الذي يتم فصله عن الدولة وحياة المجتمع وحبسه في ضمير الفرد ولا يصرح بالتعبير عنه إلاَّ في أضيق الحدود. وعلى ذلك فإن الذي يؤمن بالعلمانية بديلاً عن الدين ولا يقبل تحكيم الشرعية الإسلامية(*) في كل جوانب الحياة ولا يحرم ما حرم الله يعتبر مرتداً ولا ينتمي إلى الإسلام. والواجب إقامة الحجة عليه واستتابته حتى يدخل في حظيرة الإسلام وإلا جرت عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة.
-----------------------------
مراجع للتوسع:
- جاهلية القرن العشرين، محمد قطب.
- المستقبل لهذا الدين، سيد قطب.
- تهافت العلمانية، عماد الدين خليل.
- الإسلام والحضارة الغربية، محمد محمد حسين.
- العلمانية، سفر بن عبد الرحمن الحوالي.
- تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة، محمد عبد الله عنان.
- الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد قطب.
- الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محب الدين الخطيب ومساعد اليافي.
- الفكر الإسلامي في مواجهة الأفكار الغربية، محمد المبارك.
- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، محمد البهي.
- الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه، د. يوسف القرضاوي.
- العلمانية: النشأة والأثر في الشرق والغرب، زكريا فايد.
- وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية للخروج من دائرة الكفر الاعتقادي، د. محمد شتا أبو سعد، القاهرة، 1413هـ.
- جذور العلمانية، د. السيد أحمد فرج دار الوفاء المنصورة 1990م.
-علماني وعلمانية، د.السيد أحمد فرج بحث ضمن المعجمية الدولية بتونس 1986م.
http://saaid.net المصدر:
-===========(9/461)
(9/462)
العلمانية وسيلة الغرب لتمكين الطائفية في العالم العربي
د. محمد يحيى
28جمادى الآخرة 1427هـ الموافق له 24 يوليو 2006م
تتزعم جهات مرتبطة بأوروبا وأمريكا حركة العلمانية والعلمنة في العالمين العربي والإسلامي، وتعمل هذه الجهات على نشر العلمانية، والترويج لها بأساليب يكاد يعجز المتابع عن ملاحقتها، مع تعددها وتشعبها.
فمراكز الأبحاث والدراسات تخرّج يومياً الكثير من الأوراق والأبحاث تحبّذ العلمانية كبديل عن الإسلام, والتي تحبذ علمنة الإسلام بإفراغ محتواه الديني أو المقدس - كما يسمى -، وتحويله إلى مجرد كم ثقافي وضعي هو بحاجة ماسة إلى نقل الفكر الليبرالي الغربي البراجماتي المسيطر في أشكاله الراهنة كي يستطيع مواكبة العصر، ومجرد البقاء، وتضخ أموال ما يسمى بالمعونات والمساعدات الغربية لتشجيع أصوات ونخب محلية على الترويج للعلمانية، كما يستخدم النفوذ الغربي - وبالذات الأمريكي - لتشجيع أو إجبار الحكومات والأنظمة القائمة على إرساء العلمانية في كل نواحي الحياة في بلادهم، والتحول إليها، مع التغريب في المجالات القانونية والدستورية كمدخل إلى سائر النشاطات الحياتية والاجتماعية على مستوياتها المختلفة، وتكثر الكتابات والمواد الإعلامية الموجهة لدعم العلمانية، وطرح الالتزام بها باعتبارها العلاج والحل السحري لشتى قضايا ومشكلات المجتمعات... إلخ.
ولكن في خضم هذا الطوفان القادم من الغرب - وعلى الأخص الأوروبي الذي يدعو إلى العلمانية - نجد مصاحباً له زخماً آخر لا يقل قوة يصب في اتجاه الطائفية, بمعنى تشجيع ودعم الهوية الدينية للأقليات غير المسلمة على امتداد العالم العربي والإسلامي, حيث أصبحت الجهات الغربية - وبالذات الأمريكية - تلح على قضية ما يسمى بالأقليات الدينية في العالم العربي، تصر على طرح هذه القضية دينية الطابع، والقائمة على توكيد الهوية والانتماء الديني على كل أجندات العمل في المنطقة, بل وفرضت هذه القضية على أجندات العمل الداخلية للأنظمة، والنخب المؤثرة والثقافية في العالم العربي.
ولما كان طرح هذه القضية يقوم بشكل بحت على التأسيس الديني المحض للهوية، ومفهوم الطائفة؛ فإننا نجد أنفسنا مواجَهين بتناقض جوهري لا يبدو أن الغرب أو أحداً في المنطقة العربية الإسلامية يهتم بمناقشته, ناهيك عن أن ينتقده ويكشفه.
الرسالة الموجهة من الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي إلى العالم الإسلامي الآن تقوم على أساس وجوهر هو تنحية الدين 'أي الإسلام' وإقصاؤه عن كافة نواحي الحياة تحت مسمى شامل هو العلمانية, ومن خلال عملية شاملة هي العلمنة بمراحلها ودرجاتها، ولكن في نفس الوقت يوجه رسالة أخرى إلى العالم الإسلامي - وعلى وجه الخصوص إلى الأقليات الدينية -, بل وبعض المذاهب داخل الدين الإسلامي الواحد مفادها توكيد الهوية الدينية، وإبرازها وإعلاؤها، واتخاذها عامل تأسيس للكيان الموحد وللقومية، وللوجود المدني والاجتماعي والسياسي في مقابلة الكيانات الأخرى.
وفي الحالتين يتم تبرير الرسالة الموجهة على أساس أن الطريق المنصوص عليه فيها هو السبيل الأوحد والأنجح والأضمن لتحقيق قيم جوهرية مثل: العدالة والمساواة والحرية، والديمقراطية والاستنارة والعقلانية، والتقدم والحداثة وما شابه، وهكذا فإن السبيل الأوحد للوصول إلى هذه الأهداف العليا وغيرها يمر في الواقع وحسب الرسالة أو الخطاب الغربي المزدوج عبر سبيلين في آن واحد؛ أولهما: هو إقصاء الدين عند الأغلبية, والآخر هو إعلاء الدين عند الأقلية، فعند الأولين يطلب تأسيس الكيان على غير الدين إن لم يكن على ضده، وعند الآخرين يطلب تأسيس الكيان على الدين.
والمشكلة هي أن النخب الخارجية والمحلية التي تقوم الآن على الترويج لهذا الخطاب الغربي المزدوج لا تشعر بوجود أية مشكلة فيه, بل ولا تقبل أي صوت يرتفع لكي ينتقد هذا الخطاب أو الإشارة إلى ذلك التناقض، ولعل أفدح نموذج لهذا الوضع برمته هو ما يحدث الآن في مصر 'وليست العراق ببعيد, ولكن ربما يتسع المجال لها في وقت آخر', حيث نجد أن قطاعاً مؤثراً أو بالأصح ذا نفوذ نتيجة للالتصاق بالسلطة يبشر بعلمنة المجتمع، وفرض العلمانية في كل شيء، بينما يزيد على الجانب الآخر التعامل مع ما أصبح يسمى بالمشكلة القبطية المسيحية على أساس طائفي ديني بحت.(9/463)
فمن ناحية تطلب هذه النخبة من المسلمين وهم غالبية المصريين أن يتخذوا العلمانية بمعنى إقصاء الدين عن الدولة، وعن القانون، وعن المجال العام الاجتماعي والثقافي والسياسي.. إلخ نبراساً لهم كهدف أسمى للإصلاح المزعوم، ومن الناحية الأخرى تتفاعل هذه النخبة مع الأقلية المسيحية في مصر على أنها كيان قوي منفصل أساس تكوينه هو العقيدة والدين, كما أن مفتاح التعامل معه يكون في الاعتراف بقيادة ممثّلة له ومجسّدة له ومعبرة عنه هي الكنيسة الأرثوذكسية القبطية, وإضافة إلى ذلك فإن النخبة ترى أن أساس تدشين ذلك الكيان ونهضته هو التمسك بكل أمور الدين وإحيائها، وبناء ثقافته وهويته، ومحددات نشاطه عليها، ولا يشعر أحد من هذه النخبة 'وهذا طبيعي فهم ينقلون عن الغرب، وهم يؤدون دوراً محدداً' بأي تناقض هنا.
والواقع أنه من وجهة نظر معينة فلا يوجد تناقض على الإطلاق, بل يوجد تناغم وانسجام، ووجهة النظر الوحيدة هذه هي المصلحة الغربية العليا التي تريد أن تقضي على الإسلام في بلاده، وتتخذ من العلمانية الأداة الكبرى في سبيل تحقيق ذلك، ونفس وجهة النظر أو المصلحة القريبة 'وهي كذلك مصلحة وكلاء الغرب وعملائه' تقضي بأن يجري تحفيز ودفع قوى داخل البلاد الإسلامية تعمل كقوى مواجهة مع الهوية الإسلامية.
وقد وقع الاختيار في بعض البلاد الإسلامية على الأقليات غير الإسلامية لأسباب تتراوح من الحجم إلى التاريخ والإمكانية، ولكن لكي تقوم هذه الأقليات بدور المواجهة مع الوطن الإسلامي كان لا بد من حدوث أمرين أساسيين؛ أولهما هو نزع هذه الأقليات من الاندماج والولاء الذي دخلت فيه في الوطن الإسلامي، وتحويل هذا الولاء إلى الغرب, والأمر الثاني المتصل به هو تحديد هوية وكيان قوي لهذه الأقليات يمكن الإشارة إليه لرفض الوطن الإسلامي ومواجهة هويته, وكان الشيء الذي طرح نفسه بسهوله لهذا الكيان هو تحديد الهوية على أسس دينية لاستغلال وجود كيانات مؤسسية قائمة بالفعل مثل الكنائس وهيئاتها ومنظماتها، وفي هذه الحالة يستخدم الكيان القوي الجديد المؤسس على الهوية الدينية العقيدية كأداة مواجهة ضد الأغلبيات الإسلامية, حيث يشار إليه كحجة لعدم رفع أية أسس أو هويات أو مكونات إسلامية داخل الوطن ذي الغالبية الإسلامية؛ لأن ذلك من شأنه أن يثير الكيانات الأخرى الموجودة داخل ذلك الوطن, والتي لا تجعله بالفعل إسلامياً. وفي هذه الحالة لا يتحدث أحد عن أن هذه إمكانيات خلقت خلقاً بمعنى إعلاء هويتها المدنية إلى مرتبة الهوية القومية، واتخاذها العامل الوحيد لتمديد الكينونة والوجود.
بهذا وحده يمكن القول: إن الغرب والنخب العميلة له لا يميزون تناقضاً في خطاب العلمانية والطائفية المزدوج الموجه للعالم العربي، فالسبب في رفع التناقض عندهم هو مصلحة ضرب الإسلام المهيمنة على فكر صانع القرار.
http://www.islammemo.cc:المصدر
============(9/464)
(9/465)
البناء العلماني وبداية السقوط
سعد بن عبد المجيد الغامدي
يتشكل البناء العَلْماني في البدء.. من أبنية عدة ترتبط فيما بينها بعلائق بنائية، وتشكل كل ذي فكر لا ديني كالماركسي الهالك أو الرأسمالي المتهالك، والحداثي الماسوني وما بعده من ضروب الفكر الفوضوي الآخذ في التداعي البطيء نحو حتمية النهاية المُريعة، نهاية كل فكر زائف مزيف.
ويلوح ذلك البناء بأفكاره وطروحاته وأنظمته، لصاحب العقل المُستعْمَر - بتسكين العين وفتح الميم - والنفس الانهزامية، يلوح بناءً متماسكاً، وهاجساً حضارياً يبعث على التوثب والانعتاق.
وهو لذي عقل رباني متحرر من علائق التبعية لكل فكر لا إسلامي دنيوي، بناءٌ مادي موضوي - نسبة إلى الموضة - يتبدل تبدل الموضة وعروض الأزياء المرهونة بطقوس الفصول الأربعة وجلبة القطعان الُمغرمة ببريق المظهرية الجوفاء.
ويتبدى له أيضاً، عبر خطابه الفوسفوري، بناءً مشعاً..
بيد أن شعاعه زائف سرعان ما ينطفئ لأنه يستمد لمعته من شعاع الآخرين! وهو بناء يحمل في تجويفاته وأحشائه بذور التداعي والسقوط المتمثلة في (الجهل بحقيقة الألوهية واتباع غير ما أنزل الله)، واستعباد البشر والجناية على أدمغتهم..
يأخذ هذا البناء في النمو وتنمو في ذات الوقت تلك البذور، وتتجذر عروقها، وتمتد أغصانها في ثنايا البناء وتحل به لاحقاً سنّةّ الهلاك، ويسقط سقوطاً مدوياً..
ولنا في سقوط البناء الشيوعي - مُحَطَّم الإرادات ومعطَّل العقول، وهو أحد منظومات البناء العلماني - خير بشير ونذير.
وتباعاً..
فإن ثوابت هذا البناء الوضعي الجاهلي اللافطري ثوابت هزيلة ترتعد فرائصه وتتهاوى لبناته أمام ثوابت البناء الإسلامي الرباني الخالد، رغم الحصار الإبليسي المضروب حوله! والخطوة الأولى نحو تقزيم البناء العلماني على طريق الصراع الحضاري تكمن في تكثيف الخطاب الإسلامي الخالد وتوسيع دائرته ليشمل نواحي الحياة كلها، وذلك في ظل غياب الخطاب الشيوعي الماركسي.
ثم تعرية الخطاب العلماني وكشف زيفه وتناقضاته الفجة مع أبجديات الحرية وألف باء الحياة الكريمة التي تحفظ للإنسان إنسانيته وإرادته المستقلة.
وهذا منهج - شريطة الاستمرارية - قمين بأن يُعيد للبناء العلماني مكانته الطبيعية كما لا بد أن يكون قابعاً في مزابل التاريخ وأزقة الحضارة.
ويعود البناء الإسلامي الخالد، عبر عقيدة التوحيد وثورة فكرية ربانية تملآن الفراغات وتحلاّن بديلاً عن منظومات المنطق المادي الكسيح، يعود كما كان وكما لا بدّ أن يكون شامخاً في سماء الحضارة، ومناراً للأمم، وصانعاً للتاريخ، مصداقاً لقول الحق خالق الخلق (والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
أجل! تلك سنة الله التي خلت في الأولين، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، والحمد لله رب العالمين.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
============(9/466)
(9/467)
نقد التأسيس الأصولي للعلمانية (1-3)
أ. بلال التليدي
لم يعد مقبولاً في حقل الثقافة والتاريخ أن تستقدم مفهوماً معيناً دون أن يكون له إلى التراث الإسلامي انتساب، أو على الأقل أن تجد له نوعا من السند والمشروعية من داخل إسهامات العقل العربي الإسلامي، وهذا لا يجد تفسيراً له في محدودية الإمكان المعرفي داخل الثقافة الإسلامية كما يذهب بعض المفكرين، وإنما يجد تفسيره فيما أتصور في جدل الأنساق الثقافية، فالعلمانية كمفهوم باختلاف الدلالات المعرفية التي أعطيت له، وبالبحث في تاريخيته لم يكن بدعا من ذلك، فبانتماء هذا المفهوم إلى نسق ثقافي مغاير، وبتطوره داخل تجربة تاريخية محكومة بشروطها وملابساتها التاريخية والحضارية، صار من العسير أن يكون له وجود داخل النسق الثقافي الإسلامي إلا بتأسيس يعتمد حقل التاريخ وحقل الأصول وحقل المعرفة.
فالتاريخ باعتبار ثراء معطياته واختلاف التفسيرات التي تعطى لأحداثه يبقى هو الحقل الخصب لسحب هذا المفهوم على الثقافة الإسلامية، ولعل الدارس المتفحص يدرك لماذا يحظى حدث الفتنة بكتابات كثيرة يغلب على جلها التأكيد على العمق الدنيوي في السياسة كخطوة أولى في اتجاه نفي التدين عن حقل السياسة، بل ويدرك أيضا لماذا التركيز على بحث علاقة الفرق الكلامية بمسألة السلطة. ولا يغيب عن الناقد البصير الخلفية التي تؤطر مثل هذه الكتابات، فالتأسيس لمفهوم العلمانية داخل التجربة التاريخية الإسلامية بنفس خلفيات ودلالات التجربة الغربية ومقاييسها أمر لا يخلو من تعسف خصوصاً إذا تأملنا المنهج الدارس الذي في كثير من الأحيان ما يكون قائما على الانتقاء والتطويع والتأويل فضلا عن ضعف التوثيق وعدم الانضباط إلى منهجية البحث العلمي في التعامل مع المصادر التاريخية.
والواقع، إن تتبع التأسيس لمفهوم العلمانية من داخل حقل التاريخ قد حظي بنوع من الاهتمام لسهولة كشف تناقضاته، غير أن الأمر الذي لا نجد له كثير تتبع وتعقب هو التأسيس للعلمانية من داخل حقل الأصول أو حقل المعرفة عموماً، ولعل ذلك يرجع بالأساس إلى:
قلة مشاريع التأسيس للعلمانية من داخل الحقل الأصولي والمعرفي.
دقة المفاهيم الأصولية وعدم تيسر تحصيلها لكل دارس.
ضرورة خضوع التأسيس لنوع من النسقية كي يتجنب التناقض أو على الأقل الإيرادات التي تفقده تماسك المفهوم والمشروع.
لماذا التأسيس من داخل الحقل الأصولي المعرفي؟
لم يكن هناك مسوغ يدعو العلمانيين إلى بحث ونخل التراث الإسلامي للبحث عن تأسيس أصولي معرفي لمسألة العلمانية. فعالمية المفهوم وكونيته وجاذبيته كافية في نظر العلمانيين لجعل المفهوم مقبولا داخل البيئة الإسلامية. غير أن المفهوم في معركة الصراع الثقافي لا يكفي فيه العالمية والكونية، فهو يستلزم أن يصير عنصرا طبيعيا داخل الثقافة الإسلامية، وهذا لا ينال طبعا بالاستنبات القهري، وإنما ينال بالتجذير، وتجذير المفهوم معناه البحث عنه وعن أصوله، والتأسيس له من داخل الحقل الأصولي المعرفي.
ولهذا فالدارس لتطور مفهوم العلمانية في الوطن الإسلامي لا يستغرب كثيراً في الاضطرابات التي رافقت المقاربات الفكرية لمسألة العلمانية بحيث إنها وصلت إلى حد التناقض. فمن راديكالية المفهوم والهجوم على التراث باعتباره مادة التخلف والانحطاط، إلى محاولة تمثل هذا التراث والتأسيس من داخله لفكرة العلمانية. وهذا لا يجد تفسيره في فهم فكرة العلمانية ودلالتها، وإنما في تكييف المفهوم ومرونة تنزيله في الواقع. فالأمر بكلمة، ليس مراجعة معرفية لمفهوم العلمانية، ولكنه التكيف مع معطيات الواقع وموازين القوى الثقافية السائدة فيه أو بمعنى آخر: إنه العلمانية حين تأخذ معاني مختلفة وأشكالاً متنوعة بحسب اعتبارات الموقع والتكتيك السياسي.
والحاصل، إن تجذير فكرة العلمانية لم يكن ليتم في غياب استيعاب للتراث الإسلامي بمجمل إسهاماته، والبحث عن تأسيس معرفي لهذه الفكرة.
فالقصد من التعامل مع التراث الإسلامي لم يكن معرفيا، وإنما كان إيديولوجيا وسياسيا، ولهذا لا تخلو الكتابات العلمانية الدارسة لتراثنا الإسلامي من انتقاء مخل، أو تطويع متعسف، أو تأويل متكلف. وقلما تجد هذه الكتابات تهتم ببحث المنهجية المعرفية التي أنتجت هذا التراث. فالباحث الذي يتأثر بالثورة الكنطية، ويرى ضرورتها لتطوير التجربة الإسلامية، ولا يكون همه بحث جوانب المنهجية الإسلامية والإفادة منها، وإنما الذي يشغله بشكل أكبر هو البحث عن جوانب قصور العقل العربي الإسلامي عن تمثل التجربة الحضارية الغربية حتى تراه كثيراً ما يجنح إلى فترات من السياق الحضاري الإسلامي ليتخذ منها نموذجاً للحكم، وبهذا الخصوص يمكن أن نسجل بعض الملاحظات بخصوص بعض المقاربات العلمانية:
ولوع التفكير العلماني بالنماذج.
التركيز على مراحل معينة من تاريخ الإسلام.
التأكيد على تاريخية المفهوم، وعلاقته بساحة الصراع السياسي.(9/468)
فإذا اتضح كما رأينا المقصد العام الذي دفع العلمانيين للتأسيس لفكرة العلمانية من داخل الحقل الأصولي المعرفي زال الغموض عن الدوافع التي تجعلهم ملتزمين بما ذكرنا من ملاحظات.
فالولوع بالنماذج أمر يعطي للتأسيس مشروعية ويعطيه أيضاً مصداقية القانون العام، فالنموذج المدروس ببعض تفاصيله وحيثياته تعمم النتائج التي توصل الباحث إليها بخصوصه على كل الظواهر. ولهذا لا نستغرب كثيراً عندما ننتقل إلى الحقل الأصولي فنجد التركيز الكبير على نموذج " نجم الدين الطوفي" وجعله الأكثر عقلانية داخل التراث المعرفي الأصولي الإسلامي، أما إذا ما جئنا إلى حقل المناظرات العقدية والكلامية فكثيراً ما نجد نموذج " القرامطة" يتناول بكثير من البحث عند فئات من الباحثين العلمانيين، كما نجد نموذج " المعتزلة" عند طائفة أخرى من الباحثين، بينما لا تحظى نماذج أخرى بأدنى دراسة علمية كاشفة عن المنهجية المعرفية التي كانت تنتظم إسهاماتها. فإذا انتقلنا إلى الحقل العرفاني السلوكي نجد الوله بنموذج "ابن عربي" أو الولوع بتفصيل مذهب التصوف الغنوصي كما لو أن تراثنا الإسلامي يخلو من كل لون من ألوان التصوف السلوكي السني!!
هذه بعض الأمثلة التي تؤكد هذه الملاحظة، وكثيراً ما تقترن هذه الملاحظة بانتقاء فاضح يفقد النموذج جوهره، فنموذج "ابن خلدون " غالبا ما ينظر إليه كرائد للعقلانية الإسلامية وصاحب الرؤية التاريخية، وبالماركسي الذي سبق ماركس وبنعوت يطول ذكرها. فهذا النموذج مثلا يتعامل معه بانتقاء، فتتحول عباراته المبثوثة في مقدمته إلى عبارات فاقدة لمضمونها الحقيقي، وتنتزع الأفكار من سياقاتها الحقيقية، حتى إن الدارس حين يطلع على إسهامات ابن خلدون وحين ينظر إلى ما كتب حوله من طرف هؤلاء يتصور أنهما شخصيتين في تاريخ الإسلام، فالانتقاء والاجتزاء لازمان من لوازم المنهج العلماني في التعاطي مع تراثنا المعرفي. وهكذا فالاهتمام بالنموذج إلغاء للنماذج الأخرى، واختزال بعض المفاهيم واجتزاء بعض العبارات وإفراغها من مضمونها الحقيقي إلغاء للمنهجية التي أطرت تفكير هذا النموذج المتخذ موضوعا للدراسة ومعيارا للحكم على باقي الظواهر.
وإذا انتقلنا إلى الملاحظة الثانية، نجد العلمانيين لا يهتمون بالتاريخ الإسلامي في تطوره بجميع حيثياته وتفاصيله وسياقاته، فتراهم يشغبون أنفسهم بالبحث في مرحلة معينة من مراحله، وخصوصاً الإسهامات الأصولية والمعرفية التي كانت سائدة فيها، وهذا يجعلهم أكثر قدرة على تجذير مفهوم العلمانية انطلاقا من خلق التماثل بين السياق العربي والإسلامي أقصد مرحلة من مراحله والسياق الغربي، فإذا نجح العلماني في خلق هذا التماثل في وعي القارئ هان عليه بعد ذلك تجذير المفهوم بالإحالة على التجربة الحضارية الغربية الحالية وعوامل قيامها. والدارس اللبيب لا يعدم وجود مفارقات عميقة بين السياقين لا تكاد تخفيها الدراسات العلمانية المولعة بشحذ كل آليات المنهجية المعرفية لخلق عنصر التماثل بين التجربتين.
أما الملاحظة الثالثة فمأخذها عميق، فالتأكيد على تاريخية المفهوم وعلاقته بساحة الصراع السياسي أمر بقدر ما يحتاج إلى تدقيق فهو يحتاج أيضا إلى إعمال النظر في الخلفية العامة التي تؤطر هذا المنهج. فتاريخية المفهوم لا تعني سوى الظروف والحيثيات التي أنتجته، وعلاقته بساحة الصراع السياسي لا تعني سوى استخدام السلطة المصلحي لكل مفهوم، أو قل للدقة: الضرورة التي تدعو السلطة إلى إنتاج المفاهيم العامة لتأكيد سيطرتها. وهذا ما يمكن أن نصطلح عليه: " زمنية المفهوم" وفيه قدر كبير من الخطورة، ذلك أن كثيرا من المفاهيم نشأت بحكم قداسة النص ابتداء، أو من دقة الاجتهاد وانضباطه لأصول النظر المعتبر، فإذا أخذنا هذا المعطى بعين الاعتبار فإننا ندرك الخلفية الجاثمة وراء هذه المقاربة العلمانية، فالقصد هو نفي القداسة عن كل المفاهيم، وربطها بعنصر الزمن، وهذا ما يجعل القارئ المتشبع بهذه الكتابات يتجرأ على بعض المفاهيم العقدية القطعية باعتبارها مفاهيم زمنية منتجة داخل سياق حضاري مشروط بظرفيته الزمنية، وتكفي دعوى تطور الحيثيات والمعطيات التاريخية لإعمال هذه الجرأة وتعميمها على جميع إسهامات العقل المسلم..
هذه عموماً بعض الملاحظات عل كتابات العلمانيين، وهي مفيدة تجعل القارئ على بصيرة بالمنهجية التي يلتزمها العلماني في الكتابة، وعلى وعي بالخلفية العامة التي تؤطر تفكيره. وحتى لا نبقى في مجال التعميم، نحاور نموذجا نعتقد أنه أخصب نموذج وأكثر استيعابا وأقدر على شحذ المفاهيم وتحليل بنيات التفكير، والتأسيس الذكي لمفهوم العلمانية، وسنختار نموذج محمد عابد الجابري من خلال ما يلي:
مفهوم العقل.
وجهة نظر حول المعيارية.
نقد مقولة: الأعرابي صانع الحضارة العربية
النظم المعرفية والحظوظ الإيديولوجية: التهميش والإقصاء.
وهذه الأفكار سوف نناقشها في الحلقة القادمة بإذن الله من هذا المقال التحليلي.
13/1/1427
http://www.almoslim.net المصدر:
=============(9/469)
(9/470)
نقد التأسيس الأصولي للعلمانية (2-3)
مناقشة نموذج محمد عابد الجابري
أ. بلال التليدي
حاولنا في الحلقة الأولى من هذا البحث التحليلي، معرفة أهمية أن ينطلق التأسيس للعلمانية من داخل الحقل الأصولي والمعرفي، ونذكر هنا مثالاً عن محمد عابد الجابري، لنستعرض مجموعة من الأفكار حوله، منها:
حول مفهوم العقل:
يرى الجابري أن النهضة لا يمكن أن تتصور من دون نقد للعقل، النقد الذي يعني مراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته، وقبل أن نمضي في مقاربة مفهوم العقل، يجدر بنا أن نشير إلى ملاحظة نراها جد ضرورية. إن ربط مشروع النهضة بالعقل ونقد آليات اشتغاله ومفاهيمه وتصوراته يحيلنا على التجربة الغربية وتاريخ الثورات النقدية، ولعل الثورة (الكنطية) التي أشرنا إليها من قبل تأتي في هذا السياق. فالبحث عن عنصر التماثل بين السياقين الحضاريين الإسلامي والغربي حاضر بكل قوة في هذه المقدمة التي صدر بها الجابري مشروعه النقدي، ولعلنا نراها بوضوح أكبر في تفصيلنا لمفهوم العقل.
يستعين الجابري، بل ينطلق من التمييز المشهور الذي أقامه (لالاند) في معجمه الفلسفي بين العقل المكون بكسر الواو والعقل المكون بفتحها، أي بين العقل الفاعل والعقل السائد. والعقل العربي الذي يقصده الجابري هو العقل المكون أي جملة من القواعد والمبادئ التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، أو التي تعرضها عليهم كنظام معرفي.
ويستعين مرة أخرى بمنهجية المقاربة بين مفهوم العقل في الثقافة اليونانية والأوربية وبين مفهومه في الثقافة العربية ليخلص في نهاية العرض والتحليل إلى ثابتين يحددان بنية العقل الإغريقي والأوربي:
- اعتبار العلاقة بين العقل والطبيعة علاقة مباشرة.
- الإيمان بقدرة العقل على تفسيرها والكشف عليها.
فالثابت الأول يؤسس وجهة نظر في الوجود، والثابت الثاني يؤسس وجهة نظر في المعرفة.
أما مفهوم العقل العربي في الثقافة العربية فهو يرتبط أساسا بالسلوك والأخلاق، فهو بهذا الاعتبار تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء، وهي لا تعني سوى ذلك الاتجاه الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم التي يتخذها التفكير مرجعا له ومرتكزا.
والناظر إلى هذه الخلاصة يظهر له الميزة الموضوعية للعقل الإغريقي والأوربي الذي يبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية، ويحاول الكشف عما هو جوهري فيها، في حين تظهر الميزة الاختزالية المعيارية التي تختصر الشيء في قيمته. فالعقل الإغريقي والأوربي عقل موضوعي تحليلي تركيبي في حين إن العقل العربي عقل معياري أخلاقي قيمي اختزالي. والجابري حينما يقرر مثل هذه الخلاصة لا يعوزه أن يستأنس ببعض معاجم اللغة وببعض تحديدات العلماء القدامى، فقد التمس نصا للجاحظ وآخر للشهرستاني، وقد اعتذر عن إيراد نصوص أخرى حتى لا يسقط في تجميع وثائق عديدة فيسقط نفسه في النزعة المعيارية.
غير أن ما ذهب إليه الجابري لا يسلم من جهات متعددة نحب أن نفصلها في المآخذ التالية:
المأخذ الأول: يبدو أن هناك تسرعا يجانب إلى حد كبير قواعد المنهج العلمي خصوصا في إطلاق مثل هذه الأحكام التي تحتاج إلى دراسة علمية مدققة. ذلك أنه من التعسف أن نتحدث عن مفهوم العقل من داخل الثقافة الإسلامية دون أن نرصد دلالات هذا المفهوم من مصدر هذه الثقافة. فقواعد المنهج العلمي تلزم باستقراء مصطلح عقل بجميع مشتقاته وتصريفاته من داخل الثقافة العربية الإسلامية، تلك في ما أتصور أول خطوة ومنطلق للعلم والبحث المنهجي. ثم إننا لو سلكنا نفس المنهج الذي التزم به الجابري لما عدمنا وجود نصوص إغريقية أو أوربية عبر التاريخ الطويل يستعمل فيها العقل للدلالة على الجانب الأخلاقي القيمي، وذلك لا يكون بحال مسوغا للحكم عليه بالنزعة المعيارية.
المأخذ الثاني: إن الحديث عن الميزة الموضوعية للعقل الإغريقي والأوربي يستبطن منطلقا واختيارا حضاريا يفرض علينا نوعا من التمايز والاختلاف. فكون العلم في التصور الغربي لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع، يجعلنا في وضع يسمح لنا بالقول: إن الجابري يكاد يربط بشكل كبير بين الموضوعية التي تعني النزوع نحو التحليل والتركيب، وبين العقل كأداة وحيدة لفهم الواقع وتحليله. ومعلوم أن التصور الإسلامي يجعل الوحي والكون الذي يعني الواقع الموضوعي كعنصرين متلازمين مشكلين للمعرفة. وإذا كان القصد من نقد العقل العربي هو تخليصه من نزعته المعيارية وذلك بتمحور العلاقات على محور واحد قطباه: العقل والطبيعة، فإن هذا الطرح يستبطن اتهاما للوحي باعتباره مساهما ومحددا لمعيارية العقل العربي. وهذا طبعا غير ظاهر في كتابات الجابري، إلا أن المتفحص لهذه الكتابات يجد مثل هذه الإشارات الدقيقة والخطيرة والتي تحتاج إلى تعقب وتوقف.(9/471)
المأخذ الثالث: ونقصد به ما أكدناه في حلقة سابقة من مركزية التجربة الغربية ونموذجيتها. ولعل المقارنة التي استعان بها الجابري كانت قاصدة، وإن ألغت السياق التاريخي، فالمشروع نقدي، والعقل بآلياته وتصوراته يحتاج إلى مراجعة شاملة. فالميزة التحليلية والتركيبية للعقل لا تعني سوى تمثل نفس السياق الغربي وإعلان الثورة الكنطية من داخل الثقافة العربية الإسلامية بما يعني إقصاء كل من يساهم في إضفاء الطابع المعياري على العقل، ولا يتحقق ذلك سوى بإبعاد الوحي من ساحة تشكيل العقل وبناء قواعده ووسائل اشتغاله. من هنا تظهر خطورة التأسيس المعرفي للعلمانية الذي يسعى الجابري عبر الإيبستمولوجيا إلى إثباته.
المأخذ الرابع: إن مقاربة العقل العربي لا يمكن أن تتم بذكر النصوص الشارحة لمادة (ع. ق. ل). أتصور أن هناك منهجان لتحديد مفهوم العقل:
الأول: استقراء دلالات العقل من داخل مصادر المعرفة العربية الإسلامية ابتداء من القرآن والسنة...
الثاني: اشتغالية العقل العربي نفسه، ذلك أن مفهوم العقل العربي لا يمكن معرفته من خلال التحديدات المعجمية، وبعض السياقات الكلامية، وإنما من خلال صور اشتغال العقل وتجليات النشاط الذهني.
وبهذين المنهجين يمكن أن نخلص إلى ما يمكن من خلال رصده وتحليله إطلاق الأحكام عليه.
وجهة نظر حول المعيارية:
يبدو أن مسألة المعيارية تحتاج إلى نوع من التحديد، فكثيرا ما يكون الاختلاف في الدلالات باعثا على الاختلاف في الأحكام. فالجابري يرى أن النظرة المعيارية نظرة اختزالية تختصر الشيء في قيمته، وهي عنده ذلك الاتجاه في التفكير الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعا في منظومة القيم الذي يتخذها ذلك التفكير مرجعا له ومرتكزا. وإذا شئنا أن نعلق تعليقا بسيطا على هذا التحديد، لا ينبغي أن نلغي التحديد الآخر للنزعة الموضوعية التي وسم بها الجابري العقل اليوناني والعقل الأوربي. فقد استعان بهذا التقابل أو التضاد والتمايز كأداة منهجية لبيان مفارقات العقلين. وإذا كانت النزعة الموضوعية هي التي تبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية، وتحاول الكشف عما هو جوهري فيها، فالنزعة المعيارية لا تهتم بهذا الموضوع، بل كبير همها هو البحث في قيمة الشيء. وقبل أن نسجل بعض المآخذ على هذا المنهج وهذه الأحكام نضع أمام القارئ مقدمتين نستعين بهما:
المقدمة الأولى: قد يبدو للقارئ من خلال التدقيق في المقابلة الواردة في تحديد الجابري أنه لا تعالق ولا ارتباط البتة بين البحث في قيمة الشيء وبين البحث في مكوناته الذاتية للكشف عما هو جوهري فيه، كما أنه لا توافق البتة بين النزعة الموضوعية والنزعة المعيارية.
المقدمة الثانية: الفكر العربي في نظر الجابري ينطلق من الأخلاق إلى المعرفة، بينما العقل الإغريقي والأوربي ينطلق من المعرفة إلى الأخلاق. ففي حالة الفكر العربي لا ينصب التفكير حول اكتشاف العلاقات التي تربط بين ظواهر الطبيعة بعضها ببعض، وبالتالي اكتشاف نفسه من خلالها، وإنما مهمة التفكير ووظيفته وعلامة وجوده هي حمل صاحبه على السلوك الحسن ومنعه من إتيان القبيح.
والظاهر أن المسألة لا بد فيها من توضيح لطبيعة التصور الإسلامي. فخلق الإنسان ومعرفة الغاية من وجوده أمران محددان لطبيعة التفكير داخل التصور الإسلامي. فمن خلال العلاقة بين أصل الوجود وغاية الوجود تبرز صفة التسخير وقضية الاستخلاف. فالكون كله مسخر للإنسان، ولا استخلاف ولا عمارة دون معرفة هذا الكون بظواهره، ومعرفة العلاقات التي تحكمها ومحاولة تفسيرها لاستثمارها في اتجاه الغاية الاستخلافية، وبناء على هذا التصور، فالمعيارية لا تعني سوى غائية محفزة للتفكير في اتجاه عمارة الأرض والاستخلاف فيها، فهناك تعالق وارتباط كبير بين الوجود والمعرفة والقيم. فتفسير أصل الوجود وغايته يبعث على المعرفة، والقيم محفزة للتفكير ومحددة لأخلاقه وضوابطه.(9/472)
إن السياق الحضاري الغربي وخلفية الصراع التاريخي الذي تحكمت في تطور العقل الأوربي جعلت من مسألة الطبيعة منطلقا لاكتساب كل المعارف بما فيهل الأخلاق نفسها، والقيم لا يمكن تلمسها من بحث قوانين الطبيعة، ذلك أن الطعن في مصداقية الدين المسيحي لم يكن له من معنى سوى إعادة النظر في جميع مفاهيمه وتصوراته التي تشكل العقل الغربي وفقاً لها وعلى قاعدتها، وحيث إن أصل الوجود وغايته ومسألة القيم والأخلاق قضايا لا يمكن الاستغناء عن إعطاء أجوبة بصددها، فلم يعد هناك من مصدر لتلمسها في التجربة الغربية سوى الطبيعة نفسها ما دام الدين قد خرج من ساحة الصراع السياسي منهزما أمام المد التحرري اللائكي. أما في التصور الإسلامي، فالتفسير الذي يعتمده القرآن لمسألة أصل الوجود وغايته يبعث الإنسان على التأمل والتفكير في المسخرات لامتلاك معرفة بالكون تسمح بحسن الاستثمار والعمارة لأداء وظيفة الاستخلاف الرباني. والقيم الأخلاقية هي ذلك الباعث على التفكير أولا، المحدد لأدائه، الضابط لمساره واتجاهه. أما منهج التفكير فشيء ملتمس من المسخرات. أما النصوص فلا تقدم سوى المقدمات والمبادئ والتوجهات العامة المفروض الانضباط لها.
ولعل استقراء آيات القرآن ونصوص الحديث، ورصد صور اشتغال العقل العربي يؤكد هذا المعنى. ولهذا فالحكم الذي قرره الجابري، والمقابلة التي أجراها تعتبر غير ذات معنى في غياب التأكيد على سياق التطور التاريخي للعقل الغربي، وخلفية الصراع قبل عصر النهضة.
نعم هناك مجال واسع يشتغل فيه العقل العربي الإسلامي، ويكون فيه التفكير منصبا على حمل الإنسان على السلوك الحسن ومنعه من السلوك القبيح، وهذا المجال له موقعه داخل حقل التفكير الإسلامي، وداخل الرؤية الإسلامية وداخل التصور الإسلامي. فمهمة الاستخلاف بقدر ما تحتاج إلى إعمال العقل لاكتشاف الكون وظواهره ومعرفة العلاقات التي تربط بينها وتفسيرها بقدر ما تحتاج أيضا إلى تزكية الإنسان وحمله على الالتزام بقيم الدين. فنظام الحياة لا يستقيم فقط بالمعرفة، ولكنه أيضاً يتقوم بالأخلاق والقيم. والتصور الإسلامي لا ينفي وجود منهج أصيل ومؤصل يستعين بالكون لمعرفة أصل الوجود ولمعرفة القيم أيضا. غير أن هذا المنهج هو منهج واحد إلى جانب مناهج كثيرة ينبغي أن تكون كلها متضافرة تسهم كلها في بناء المعرفة. وهذه هي طريقة القرآن عند التأمل والنظر، إذ لا يقصر المعرفة على طريق واحد مادامت المسالك صحيحة، والبراهين داعمة.
والخلاصة التي انتهينا إليها بعد هذه المآخذ أنه لا يمكن بحال تحديد العقل العربي في غياب تحديد منطلقات التصور الإسلامي والرؤية العامة التي يشتغل داخل سقفها العقل العربي الإسلامي.
والجابري محكوم كما سبق الإشارة بمركزية التجربة الغربية، ونموذجية الاختيار الحضاري الغربي، ولهذا فقد غيب الإطار العام الذي يشتغل فيه العقل العربي الإسلامي، وهذا التغييب هو الذي دفعه إلى إلغاء مجال كبير لاشتغال العقل العربي الإسلامي: مجال النظر في الكون والكشف عن ظواهره والعلاقات التي تحكمها وتفسيرها، وأيضا مجال النظر في التجربة الإنسانية عبر التاريخ والنظر في النفس البشرية لاكتشاف قوانين التاريخ والاجتماع والنفس. أعتقد هذا مجال واسع، بل مجالات تم تغييبها، وهي عند النظر والتأمل والدراسة تكشف عن الطابع الموضوعي التركيبي للعقل العربي الإسلامي.
نتابع في الحلقة القادمة بإذن الله، الحديث عن مقولة "الأعرابي صانع الحضارة"، لنتناولها بشيء من النقد والتحليل، ونذكر ملاحظاتنا على التأسيس الأصولي للعلمانية.
21/1/1427
http://www.almoslim.net المصدر:
===============(9/473)
(9/474)
في مؤتمر "إعلام الشرق الأوسط وتحديات العمل الإنساني":
تتناول محاولات التدخل الدولي لاحتواء العمل الإنساني
شهدت العاصمة اللبنانية بيروت فعاليات مؤتمر "إعلام الشرق الأوسط وتحديات العمل الإنساني" الذي نظمته منظمة الصليب الأحمر وحضره أكثر من 34 من الصحفيين ومراسلي القنوات الفضائية والإذاعات وعدد من خبراء الصليب الأحمر. ناقش المؤتمر على مدى يومين عدداً من القضايا المشتركة بين الإعلام والأنشطة الإنسانية ومنها "القضايا والتحديات التي تواجه العمل الإنساني المستقل والمحايد، وعلاقة القانون الدولي الإنساني بالتغطيات الإعلامية وأسلوب عمل اللجنة الدولية للصليب".
وقد شاركت مجلة المجتمع في هذا المؤتمر بمداخلة للزميل شعبان عبدالرحمن مدير التحرير تحت عنوان "استغلال العمل الإنساني لأهداف سياسية" جاء فيها:
يمثل العمل الإغاثي واحدة من أرفع القيم الإنسانية لأنه يتوجه للإنسان في أحرج لحظات حياته لانتشاله من الكوارث والنكبات وإنقاذه من نيران الحروب. والقائمون عليه يجسدون قيمة إنسانية رفيعة عبر خوضهم غمار الأخطار باختلاف درجاتها لإغاثة الإنسان. ومن هنا فإن العاملين في هذا المضمار يستحقون التقدير بل وتبوؤ المكانة الرفيعة التي يستحقونها في المجتمع الدولي.
وحيث إن رسالة العمل الإغاثي على هذا القدر الرفيع من الأهمية فإنه يستحق الاهتمام والدعم من المجتمع الإنساني بكل مؤسساته الحكومية والمدنية، وينبغي أن يظل بعيداً عن الصراعات السياسية الدولية واستخدامه من بعض الدول كورقة للضغوط والمساومات وأحياناً الابتزاز. ينبغي أن يظل العمل الإغاثي إنسانياً أولا ًوأخيراً.. وأن تكون السياسة وكل الإمكانات في خدمة رسالته لا تطويعه لخدمة أغراضها..
التدخل السياسي
تتعدد صور التدخل السياسي في العمل الإغاثي. ويمكن الحديث عنها بشكل موجز في صورتين:
الأولى: الاستغلال السياسي غير المباشر :
1 المتاجرة بالعمل الإغاثة ومحاولة التربح منه.. ويعد ذلك من صور الاستغلال السياسي الفج؛ إذ تقوم بعض الدول تحت شعار "المساعدة الإنسانية" بشحن أغذية غير صالحة للمناطق المنكوبة، وقد حدث هذا عدة مرات..
يقول جراهام هانكوك في كتابه "سادة الفقر": "إن الغذاء المقدم من المجموعة الأوروبية كهدية عادة ما يصحبه كثير من الشكاوى من المنتفعين، وذلك بناء على عضو البرلمان الأوروبي ريتشارد بالف الذي قال إنه من غير المقبول تماماً أن نقوم بتصدير غذاء لا نأكله نحن أنفسنا".
في عام 1979 1980 إبان المجاعة الكبرى في كمبوتشيا قامت منظمة (الغذاء للجوعى) الأمريكية بشحن 91طناً من الغذاء والدواء.. وثبت بعد ذلك أن الغذاء الذي رفضوا تقديمه لحيواناتهم، والدواء كانت صلاحيته منتهية قبل خمس عشرة سنة ( نفس المصدر ).
شحنت منظمات الإغاثة 800 حقيبة من أغذية الأطفال الفاسدة إلى معسكرات اللاجئين في هندوراس و51 ألف طن من الأغذية الأوروبية إلى موزمبيق و62 ألف طن من الذرة الشامية للنيجر.. و بعد فحصها تبين أنها غير صالحة للحيوانات.
منظمة أطباء بلا حدود تؤكد أن 60% من الأدوية التي أرسلت للبوسنة والهرسك خلال الحرب لم تكن صالحة، والأخطر أن المتبرعين بها ربحوا 25مليون دولار هي نفقات التخلص منها في بلادهم، وكانت قيمتها في الكشوف الرسمية 17 مليار دولار (حسب تقديرات منظمة أطباء بلا حدود).
2 جاء في بيان للمفوض الأعلى للاجئين (ومنظمة: أنقذوا الأطفال) الخيرية البريطانية: (أن أطفالاً ولاجئين آخرين في غينيا وليبيريا وسيراليون شاهدوا 70 شخصاً من بينهم جنود لحفظ السلام بالأمم المتحدة وتابعين ل40 منظمة للمساعدات الإنسانية متورطين في عمليات استغلال جنسي للاجئين في المخيمات). وقالت المتحدثة باسم الأمم المتحدة ماري أوكابي : (إن عنان طلب اتخاذ المبادرات الملائمة بهدف تعزيز حماية النساء والأطفال كلما اقتضت الضرورة ذلك).
وليس بخافٍ ما جرى للاجئين في البوسنة من اعتداءات فاضحة على أيدي منظمات إغاثية إنسانية غربية في حماية جنود الأمم المتحدة، بل إنه ثبت تورط بعض جنود الأمم المتحدة في ذلك!
3 لسنا في حاجة لأن نسوق أمثلة على استخدام الإغاثة في تغيير المفاهيم والمعتقدات.. فالمسألة واضحة.
الثانية: التدخل السياسي المباشر :
قبل بيان التدخل السياسي المباشر في العمل الإغاثي الإنساني أتوقف قليلاً عند المناطق المنكوبة في العالم وهي ميدان التدخل الأول؛لنرى أن الدراسات تجمع على أن 90% من المناطق المنكوبة بالكوارث والحروب والفقر وانهيار المستوى الصحي في العالم هي مناطق إسلامية.
ويكون من الطبيعي أن تتوجه إلى مناطق الكوارث منظمات إنسانية إسلامية كغيرها من المنظمات. فمد يد الغوث للمنكوب فريضة إسلامية ومعلم رئيس من معالم الإسلام ليس للإنسان فحسب بل للحيوان والجماد.. نعم إغاثة الحيوان، من معالم الإسلام، والجور على ذلك الحيوان بقتله أو تعذيبه داخل في باب الحرام.
ففي الحديث "أن رجلاً وجد كلباً يلهث من شدة العطش فحمل خفه ونزل بئراً وملأه وسقى الكلب فشكر الله له".(9/475)
وفي الحديث المشهور "أن امرأة دخلت النار في هرة "قطة" حبستها لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
وفي الحديث أيضاً "إذا قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة فليغرسها" أي لا يتركها تذبل وتجف بل يجب أن ينتفع بها المجتمع...
وجل عمل المنظمات الإسلامية من الطبيعي أن يكون بين منكوبين مسلمين لأن معظم المنكوبين في العالم هم من المسلمين. ومن البدهي أن المؤسسات الإنسانية لا تدخل منطقة حرب أو كارثة إلا بإذن من السلطات.
وهنا نصل إلى صلب التدخل السياسي المباشر في العمل الإنساني، ونسجل أن العمل الإغاثي الإسلامي وحده دون بقية المؤسسات يتعرض للضغوط السياسية التي تسعي لشله عن رسالته أو تعويقه أو طرده من مناطق عمله، وسط حملات إعلامية تلقي عليه بتهم الارهاب وغيرها؛ مع أن المنظمات الإغاثية الإسلامية كغيرها تعمل في مناطق عملها تحت إشراف السلطات وتؤمّن موادها من أسواقها وتسيَّر حملاتها عبر وسائل مواصلات منها، بل وتصل إلى مناطق عملها تحت حماية قوات من الدول المعنية.. أي أن عمل هذه المنظمات يقوم على الشفافية وتحت سمع وبصر الدولة.
في بداية الحرب الصربية ضد البوسنة عام 1991م، كنت شاهداً من خلال وجودي في مناطق الحرب على وجود منظمات إنسانية إسلامية عديدة من مصر والسعودية والكويت، كان دخولها شرعياً بموافقة الحكومة الكرواتية، وكانت تتخذ من زغرب العاصمة الكرواتية مقراً لها، وكانت المواد الإغاثية التي تقدمها للمنكوبين المسلمين تُشترى من السوق الكرواتي ومن شركات كرواتية، وكان توزيعها يتم تحت حماية الجيش الكرواتي المتحالف مع المسلمين في البوسنة في ذلك الوقت، وقد قامت تلك المنظمات بدور كبير في تقديم الدعم للمنكوبين المسلمين في البوسنة بما لقي ثناء الحكومة البوسنية، ثم كانت المفاجأة.. وهي إخراج هذه المنظمات والتضييق عليها بفعل تدخل السياسة الدولية، بل ومطاردة رجالها، بينما بقيت المنظمات الأخرى تمارس نشاطها.
في حرب الشيشان الأولى (1994م 1996م)، والحرب الثانية (2000م حتى الآن) تحركت منظمات إغاثة إسلامية لإغاثة شعب الشيشان.
ودخلت هذه المنظمات تحت إشراف روسيا وبإذن منها لإغاثة اللاجئين والمهجَّرين، وكانت تشتري موادها الإغاثية من روسيا، وبإذن من أنجوشيا... لكننا فوجئنا بإغلاق معظم المنظمات الإغاثية على الأراضي الروسية ولم يسمح إلا لمنظمة الإغاثة الإسلامية فقط (مقرها لندن).
ومن يتقصَّ السبب يجد أن السياسة الدولية وراء ذلك... لماذا؟ لا ندري؟!
ويبقى السؤال مطروحاً: لماذا يتم التضييق فقط على المنظمات الإسلامية التي تقدم إغاثة لشعوب إسلامية وحدها التي يضيق عليها وتصادر وتمنع، بينما يسمح لآخرين من كل الملل والدول!!.
في هذا الجو المشحون ضد العمل الاغاثي الإسلامي نجد حملات تشويه لهذا العمل بغية إخراجه من الساحة تماماً.
ففي 19-2-2000م كتبت جوديث ميللر صاحبة كتاب "لله تسعة وتسعون اسماً" مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" تحذر فيه من مؤسسات العمل الإغاثي الإسلامي..
ولا ندري إن كان إغلاق المؤسسات الخيرية الإغاثية في الأراضي الفلسطينية بضغوط دولية يسير مع رسالة العمل الإغاثي الإنسانية.. بينما بلغت المساعدات الأمريكية لإسرائيل خلال 30 سنة، واحداً وستة من عشرة مليار دولار ( صحيفة الوطن السعودية 3-10-2002 وصحيفة ذي نيشن الأمريكية 7-10-2002).
عولمة العمل الإنساني
وأود هنا أن أشير إلى نقطة مهمة، وهي أن عملية إخراج العمل الإنساني الإسلامي من الساحة الإغاثية والتي تجري على قدم وساق هي مقدمة لعولمة العمل الإنساني ودمجه في مشروع العولمة الاستعماري، وحرمان هذا العمل الدولي الإنساني من الاستقلالية التي يتمتع بها وتحويله إلى أداة يتم تحريكها في الوقت والمكان المناسبين وليكون تحت سطوة الجيوش يخدِّم على مشاريعها الاستعمارية بدل التخديم على الرسالة الإنسانية. وذلك خطر يبدو في الأفق على الصليب الأحمر وغيره من المنظمات الإنسانية المستقلة.
الخاتمة :
نحن مع تطوير العمل الإغاثي بصفة عامة وتصحيح أخطائه إن وجدت، وأن يتم توجيهه إلى وجهته الإنسانية فقط ومنعه من الانحراف بها إلى أي وجهة أخرى.
ومع منع التدخل السياسي والضغوط الحكومية لتوجيه العمل الإنساني نحو وجهة معينة تستغل في منافع سياسية أو كأوراق للمساومة والضغوط.
ونحن مع رفع الجهات والحكومات أيديها عن العبث في العمل الإغاثي.
ومن هنا أطالب بأمرين:
أولاً: أن تنهض منظمة الصليب الأحمر بالتعاون مع المنظمات الإنسانية الإسلامية وغيرها بعقد مؤتمر جامع للهيئات والمنظمات الإغاثية بصرف النظر عن مسمياتها لوضع لائحة تضم مقاييس وبنوداً واضحة للعمل الإغاثي تذلل العراقيل أمامه بما يقوي من نشاط العمل الإنساني.(9/476)
ثانياً: يجب أن يتعدى دور المنظمات الإغاثية.. تقديم الإغاثة عند وقوع الكارثة إلى دور وقائي ينذر بوقوع الكوارث ويقدم أدوات الدعم للحيلولة دون وقوعها، أو على الأقل يقدم دعمه، وعونه قبل وقوع الكوارث أو الحروب المتوقعة، إن هذا الدور الإغاثي يخفف كثيراً من وقع الكوارث ويوفر الكثير من الجهد على المنظمات ويقلل من الخسائر.
============(9/477)
(9/478)
50 ألف مغربي تظاهروا ضد سياسات واشنطن
تبدأ اليوم السبت 11-12-2004م في المغرب فعاليات "منتدى المستقبل"، المقرر تنظيمه تحت الرئاسة الفعلية لوزير الخارجية الأمريكي المستقيل كولن باول ونظيره المغربي محمد بن عيسى، في الوقت الذي حشدت فيه العديد من القوى السياسية المغربية قواها، لإعلان رفضها لاحتضان المغرب هذا اللقاء، الذي رفضت عدة دول عربية احتضانه.
وتعتبر قطاعات واسعة من النخبة والرأي العام المغربي المنتدى خطوة مهمة لتحقيق المشروع الأمريكي المتعلق بما أصبح يعرف بمشروع "الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا". ويقول العديد من المعارضين السياسيين إنه يرمي لتمكين الكيان الصهيوني من المزيد من الهيمنة في المنطقة العربية، باعتبارها "البلد الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط"، حسب التصنيفات الأمريكية.
ورغم أن المغرب نجح في استبعاد حضور الوفد الصهيوني، حسب قول مصادر رسمية، فإن الرفض الشعبي مازال متواصلاً.
كان أكثر من 50 ألف متظاهر مغربي قد خرجوا إلى شوارع مدينة الرباط الأسبوع الماضي ومنذ 10 أيام تقريباً للتنديد بانعقاد المنتدى وبالمشاريع الأمريكية في المنطقة، مثلما هاجموا الاعتداءات الأمريكية والصهيونية على الشعبين العراقي والفلسطيني.
من جهتهم دافع المسؤولون المغاربة عن انعقاد "منتدى المستقبل"، مؤكدين أن المشاركين في هذا اللقاء، سيتدارسون طرق وسبل تقوية التزام بلدان المنطقة بالعمل على تحقيق تنمية مشتركة بناءة، وشراكة ترمي إلى تعزيز مسلسل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل متناسق.
وقال السفير يوسف العمراني مدير العلاقات الثنائية في وزارة الشؤون الخارجية: إن "منتدى المستقبل" يعتبر "فضاءً للحوار الهادئ المنفتح والمنتظم، الذي يروم تعزيز الديمقراطية، وإشراك المجتمع المدني، وترسيخ دولة القانون وحقوق الإنسان، وبناء اقتصاد عصري ومندمج في عولمة متحكم فيها".
وأشار العمراني إلى أن "منتدى المستقبل" سيكون مناسبة لتجديد التأكيد علناً على التزام بلدان المنطقة بمواصلة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية، أو المبرمجة، خصوصاً ضمن سياق تفعيل إعلان القمة العربية المنعقدة في تونس.
=============(9/479)
(9/480)
قطار عولمة المرأة وصل لجزائر
الجزائر : فاروق أبو سراج الذهب
si r aj11@maktoob.com
يبدو أن الحكومة الجزائرية أو بعض المتنفذين في النظام الجزائري من بقايا دعاة العلمنة والتغريب، جد مهتمين بموضوع التكيف الاختياري مع فقرات ومضامين مشروع الشرق الأوسط الكبير في بنده المتعلق بتمكين المرأة، طبقاً لمقررات وتوصيات مؤتمر بكين ومؤتمر التنمية والسكان، وقد ظل ملف تعديل بل إلغاء قانون الأسرة بلغة هؤلاء التغريبيين مفتوحاً منذ عقود لأن مرجعيته الأساسية هي الشريعة الإسلامية، وقد عملت الدوائر العلمانية من خلال الجمعيات النسوية باستمرار لإحداث القلاقل حول هذا القانون كلما سنحت الفرصة، ولكن يقظة القوى الوطنية والإسلامية وقفت لكل هذه العمليات بالمرصاد، حيث خرجت نساء الجزائر في مسيرة مليونية سنة 1989 رافضة تلك التعديلات المخالفة لشريعة الإسلامية.
وفي الآونة الأخيرة انتعش العلمانيون على وقع مضامين مشروع الشرق الأوسط الكبير المتعلقة بالمرأة وراحوا يطرحون الإلغاء ثم التعديل، وفي سياق تعديل المنظمات المتعلقة بالتربية والأسرة درس مجلس الوزراء في اجتماعه يوم الأربعاء 18 أغسطس 2004 المشروع التمهيدي لقانون يعدل ويتمم القانون رقم 11 لسنة 1984 الخاص بالأسرة.
بنود القانون
وقد كشفت بعض الصحف الجزائرية النسخة الأصلية لمشروع القانون قبل أن تصدر الحكومة بياناً جاء فيه: "أن المشروع التمهيدي لقانون الأسرة أعد وفقاً لتوجيهات رئيس الجمهورية السيد عبدالعزيز بوتفليقة، وفي ظل احترام أحكام الدستور ومبادئ الشريعة الإسلامية، مع اللجوء إلى الاجتهاد متوخياً في ذلك صون حقوق الزوجين، وضمان استقرار الخلية الأسرية ومصالح الأطفال ويدخل أحكاماً جديدة مهمة منها:
1 توضيح الوضع القانوني لعقد الزواج على أنه عقد رضائي يتم تجسيده بالضرورة بتحرير عقد.
2 إلغاء الزواج بالوكالة.
3 توحيد سن الزواج بالنسبة للرجل والمرأة وتحديده ب19 سنة، ويمكن للقاضي أن يرخص بتزويج القُصّر لضرورة أو لمصلحة مؤكدة.
4 إلغاء شرط الولي بالنسبة لزواج البنت البالغ عمرها 19 سنة، ويمكن للمرأة الراشدة أن تفوض طوعاً هذا الحق لوليها.
5 وجوب تقديم وثيقة طبية لكلا الزوجين لتحرير عقد الزواج.
6 إخضاع تعدد الزوجات للشروط التالية:
ترخيص القاضي بالزواج.
تأكد القاضي من موافقة الزوجة السابقة والمرأة التي ترغب به.
إثبات المبرر الشرعي وتأكد القاضي من قدرة الزوج على توفير العدل والشروط الضرورية للحياة الزوجية.
7 إقرار المساواة في الحقوق والواجبات بين الزوجين من خلال:
حق الزوجين أن يشترطا في عقد الزواج أو في عقد لاحق كل الشروط التي يريانها ضرورية لاسيما فيما يتعلق بتعدد الزوجات وعمل المرأة، على ألا تتنافى الشروط مع أحكام القانون.
إقرار حق الزوجة في رفع دعوى التطليق لجملة من الأسباب العشرة الوارد ذكرها في نص مشروع القانون.
إلزام الزوج في حالة الطلاق بأن يوفر للأم الحاضنة مع أولادها سكناً ملائماً وإن تعذر عليه ذلك دفع أجرته، ويحق للأم الحاضنة للأولاد البقاء في المسكن العائلي ما لم تتم الاستجابة لهذا الشرط.
تغيير ترتيب الحق في ممارسة حضانة الأطفال بتقديم الأب مباشرة بعد الأم.
منح الولاية للأم الحاضنة للأطفال من الزوجين المطلقين، وزيادة على ذلك وفي غياب الأب أو في حالة عجزه تسند للأم الولاية على الأطفال.
وأخيراً اعتبار النيابة العامة طرفاً أصلياً في الدعاوى التي ترمي إلى تطبيق قانون الأسرة من قبل الجهات القضائية، وكذا تعزيز صلاحيات رئيس المحكمة في مجال حق الحضانة وحق الزيارة والحق في المسكن، ودفع النفقة الغذائية.
رفض إسلامي
هذا وقد رفض ثمانية وزراء ينتمون إلى حركة مجتمع السلم وجبهة التحرير الوطني تبني المصادقة على المشروع التمهيدي لقانون الأسرة الذي أعدته لجنة "52عضواً"، وإن كان البيان الرسمي لم يشر إلى التحفظات والاقتراحات التي أبداها وزراء حركة مجتمع السلم الأربعة وبعض الوزراء من جبهة التحرير الوطني وعلى رأسهم وزير الخارجية عبد العزيز بلخادم، ونفت مصادر حكومية أن يكون أعضاء الحكومة قد صادقوا بالإجماع على هذا المشروع العلماني التغريبي، وأكدت المصادر ل المجتمع أن النقاش كان جد واسع، إلى درجة أن بلغ عدد المتدخلين 28 وزيراً في الاجتماع رغم أنه في العادة لا يتجاوز عدد المتدخلين سبعة أو ثمانية وزراء، كما تحفظ ثلث الجهاز التنفيذي أي حوالي ثمانية وزراء على المصادقة على المشروع الذي غاب عن جلسته ثلاثة وزراء.
الخلاف داخل الحكومة عكس الرفض الشعبي الواسع لإلغاء شرط الولي في عقد الزواج، وأظهر هذا الخلاف داخل الحكومة تيارين، تيار يرفض هذه التعديلات وتتزعمه حركة مجتمع السلم وبعض وزراء جبهة التحرير الوطني، وتيار يؤكد على التعديلات ويدعو إلى تبني مقررات اللجنة، ويمثل هذا التيار جزءاً من وزراء التجمع الوطني الديمقراطي وبعض الوزراء الذين لا يمثلون إلا أنفسهم والجهات التي اقترحتهم في الطاقم الحكومي.(9/481)
النقاش في مجلس الحكومة اقتصر على المادتين اللتين تنصان على "إلغاء شرط الولي بالنسبة لزواج البنت البالغ عمرها 19سنة"، وكذلك الشروط التي يخضع لها تعدد الزوجات، ولاسيما ضرورة ترخيص القاضي.
أما عن ردود الفعل الحزبية الشعبية، فقد اعتبرت حركة مجتمع السلم عن طريق تصريحات رئيسها الشيخ أبو جرة سلطاني والقيادات المركزية أن مشروع التعديلات استجاب لمطالب فئة لا صلة لها بالمجتمع الجزائري، وأنه لا يستجيب للغالبية الساحقة من المجتمع، كما أن قضية المرأة في الجزائر لايمكن أن تلخص في الولي وضبط تعدد الزوجات في مقابل معدلات الفقر الواسعة والعنوسة التي تقدر بالملايين، كما رفضت حركة مجتمع السلم الحجج المقدمة لإلغاء شرط الولي لاسيما تلك المتعلقة بفتوى أبي حنيفة رحمه الله ودعت إلى الاستفتاء إذا كان إلغاء شرط الولي مطلباً شعبياً.
وقالت الحركة في بيان رسمي لها: "إن الحركة تعتبر أن أي مساس بانسجام وتماسك الأسرة ووحدتها هو بداية انزلاق حقيقي لمستقبل المجتمع وقيمه المبنية على الإسلام وتسجل:
1 أن حركة مجتمع السلم ليست ضد التعديل.
2 ضبط التعديل بالمرجعية الإسلامية التي لا يتنكر لها أحد.
3 التعديل لا تمليه جهات خارجية ولا نساء الصالونات، إنما تمليه الجزائر العميقة ونساء القرى.
4 رفض استغلال القانون للوصول إلى علمنة المجتمع عبر علمنة الأسرة.
5 الحفاظ على كرامة المرأة، وكرامة الرجل وتماسك الأسرة.
6 عدم استناد التعديل لأي دراسات اجتماعية أو إحصائية تعبر عن توجه المجتمع أو مفاسد حقيقية تقتضي التعديل.
7 إن من أسباب اللبس الواقع في بعض المصطلحات من خلال فهمها باللغة الأجنبية مثل LE TUTUEL التي تعني: "مطلق الوصاية".
وأضاف البيان أن الحركة درست التعديلات المقترحة خاصة ما يتعلق بالولاية في الزواج وحق المرأة في طلب الخلع وقضايا تعدد الزوجات والطلاق والنفقة، مشيرة إلى أن الشريعة الإسلامية وضعت الضوابط الواضحة لهذه الأمور بما يضمن حقوق الطرفين وسلامة المجتمع، ودعت الحركة العلماء والفقهاء والأئمة لتوضيح مدى شرعية التعديلات المقترحة وانسجامها مع الشريعة الإسلامية نصاً ومقصداً، كما دعت النواب أن يولوا اهتماماً كبيراً لدراسة هذه التعديلات وأن يلتزموا بالقيم الأصيلة للمجتمع الجزائري الذي يمثلونه.
كما تشكلت جبهة واسعة للدفاع عن الأسرة الجزائرية تحمل مشروع "ميثاق العائلة الجزائرية"، فيما انتظم في المقر المركزي لحركة مجتمع السلم ندوة وطنية لمناقشة قانون الأسرة حضرها العلماء الفقهاء والنواب ورجال القانون والأئمة والإعلاميون وعبر الكل عن رفضه لهذه التعديلات، واقترحوا بنوداً بديلة وكشفوا المؤامرة على الأسرة الجزائرية والثوابت الوطنية، فيما دعا عالم الجزائر الشيخ عبدالرحمن شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، إلى ضرورة التعبئة الإسلامية والوطنية للوقوف ضد هذه التعديلات، فيما دعا آخرون إلى ضرورة تحريك فتوى المجلس الإسلامي الأعلى الذي يعمل تحت إشراف رئيس الجمهورية، إلى قول رأيه في عدم شرعية هذه التعديلات، ووصفوا بيان الحكومة بأنه دعوة إلى الزنا والفساد.
في الوقت نفسه أصدر أئمة العاصمة والزوايا الدينية بياناً اعتبروا فيه التعديلات الجديدة مناقضة لأحكام الشريعة الإسلامية.
وأضاف البيان أن الذين أسسوا لجنة تعديل قانون الأسرة وقعوا في خطأ كبير عندما أقصوا الأئمة من عضوية اللجنة باقتراح تعديلات تؤدي إلى منعهم من حضور عقد الزواج.
وطعن البيان في اختصاص أعضاء لجنة تعديل القانون، مشيراً إلى "أن الأمر أسند إلى جهات غير مختصة"، موضحاً أن رئيس اللجنة صرح بأن الولي مجرد عُرف وعادة، وليس ركناً من أركان الزواج.
كما أن التعديلات بحسب البيان "تستند إلى مرجعية غربية، ولهذا اصطدمت مع مبادئ الشريعة الإسلامية، والعرف الاجتماعي الجزائري الصحيح، خاصة عندما تجاوزت تلك التعديلات الإجماع في قضايا التعدد، وسن الزواج، وتجاوز النص الشرعي في قضية الولي".
واعتبر البيان أن تعديل قانون الأسرة جاء وفقاً ل"رؤية أحادية ذات توجهات تغريبية تمثل حلقة من المسلسل العلماني في مسخ هوية المرأة المسلمة الفكرية والأخلاقية".
وأكد أهمية شرط الولي في الزواج، قائلاً: "إن الزواج ليس ارتباطاً بين رجل وامرأة فقط، بل هو ارتباط بين الأسر والعائلات في الشرف والرفعة".
وجاء موقف الزوايا الدينية متوافقاً مع الأئمة؛ حيث رفضوا بدورهم تعديلات قانون الأسرة؛ باعتبارها مناقضة لمبادئ الشريعة الإسلامية.
ورفضت هيئات أخرى تعديلات قانون الأسرة وعلى رأسها نقابتا القضاة والمحامين، وجمعيات مدنية ذات توجه إسلامي، فضلاً عن بعض الأحزاب الإسلامية، مثل حركة الإصلاح الوطني التي دعا رئيسها الشيخ عبد الله جاب الله إلى تشكيل جبهة رفض التعديل.(9/482)
تفاعلات قانون الأسرة لا تزال في بداياتها خاصة أن المشر وع سيناقش في البرلمان وسيخضع لتوقيع رئيس الجمهورية في النهاية، وستعرف مع الوقت تفاعلات أكبر، وقد أسرت إلى المجتمع بعض المصادر من اللجنة الوطنية التي أشرفت على التعديلات أنها لم تنه أشغالها ولم تصادق على تقريرها النهائي لكن تم استعجال الأمر من قبل السلطات وتم عرض الموضوع على مجلس الحكومة.
فإلى أي اتجاه ستتطور الأحداث في الجزائر... هل ستأخذ المسار الذي أخذه القانون في كل من الأردن وتونس والمغرب أم أن الجزائر ستشذ عن هذا السياق؟ يبدو أن السياق الجزائري سيختلف جذرياً عن السياقات المجاورة. ومجرد المقارنة بداية الطريق الخطأ.
===========(9/483)
(9/484)
المغتصِبون المُقْتَلَعُونَ من غزة.. الجد والحفيد
د. نزار عبد القادر ريَّان(*
neza r 1959@hotmail.com
ثم تأتي السنة بعد؛ لتكمل الصور وتضفي عليها ألوان التطبيق البشري "ليهود"، فيغنيك اليهودي بشخصه عن اختباره، فيبرح الخفاء، ويحصحص الحق، ويبين اليقين.
والصهاينة المغتصبون في الدولة المسخ (إسرائيل)، كأنما قُدّوا من أديم جدودهم، قد سلكوا طريق آبائهم، فنزعوا نزعهم.
ونحن المسلمين؛ يعلم الله تعالى، أوسع الناس دارًا، وأكرم الناس مَحْتِدًا، قد اتسعت نفوسنا والبلاد، واقتسمنا اللقمة على حُبٍ وفاقة حتى مع اليهود، وبذلنا وَقْتَ بَخِلَ الناس، وَشَحُّوا، وصار سَمْتُ صدورنا استيعاباً، وقت قام الناس في كل البلاد والنجاد على اليهود، وما حديث الأذفونش السادس(1) بسِرٍ.
أما المغتصبون اليهود؛ فهذه شواهد المقال، تنبيك عن طباعهم العتيقة الدفينة المطمورة في التاريخ، وهذه شواهد الحال، تفضح لك الصورة حتى تقول: ما أشبه الغراب بالغراب.
وإن تعجب، فَمِمَّ العجب؟ وأنت تعلم أن ربنا سبحانه أحب لنا أن نرى الحقيقة بأصبارها، بهية جلية، لا تخفى منها خافية، والعاقل من أخذ الأمر بقوابله وهواديه، فكما كان الجَد، يكون الحفيد، فشاس الأول هو شارون الآخر، ويهود خيبر والنضير، هم يهود نتساريم أو إيلي سيناي، ولا اعتبار للزمن، فالدخائل عَيْنُها والدفائن، وكذا مُخَبَّآتُ الصدور، فَمِمَّ العجب إذن، والقوادم تَشِي بالذيول وتحكيها! بالأمس الغابر كان بنو النضير يتحصنون بحصونهم، ويمتنعون بدورهم وبيوتهم، فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت، يخربونها بأيديهم، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نِجَاف بابه يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين (الحشر:2) في صورة موحية، وحركة مصورة، فتسقط الحصون بفعلهم هم، ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم، وأيدي المؤمنين.
تلك صورة "يهود" أمس، يوم لم تكن الحضارة قد أخذت من الشعوب مأخذها، ولم تعرف الإنسانية المعاني التي عرفها الناس اليوم، فلا مساواة، ولا إخاء، ولا إيثار، أو عولمة، يزعمون!
وبعصرنا، يُخْرَجُ اليهود من مغتصبة "يميت" في سيناء، في سني الثمانينيات، فيدعونها قاعًا صفصفًا، أو كالصريم؛ لا دار ولا حجر، ولا ماء ولا شجر، ولا طريق سابلة، فكل ما تركوه شاهد أنه: من هنا مر اليهود.
من هنا مرت وجوه كالحة؛ من جنين، من رفح، من حي الزيتون، من بيروت، من صبرا وشاتيلا، فمن كل مكان مر "يهود"، تركوا أثرًا يشهد، وعلامة تشير، تنشر الموت وتبقي الأرض قحلاً، تنزع نخل سيناء من أرضه، وتزرعه زينة في طرقات فلسطين المغتصبة، ولا تجد من ينكر عليها.
هؤلاء هم اليهود، فهل ينشق الثوب عن غير صاحبه، وهل كان الحفيد غير جده، فإن كان أحد يُمني نفسه بأن يخرج الصهاينة تاركين وراءهم غنيمة يغنمها المسلمون، فهو واهم، سيبيدون كل أخضر وطائر، لن يبقوا حجراً أو شجراً، لن يتركوا أثراً غير دمار الأرض وحرق الكون، ودفن المخلفات الكيماوية والنووية في مغتصبات القطاع، أما آبار الماء التي استنزفت مياه غزة ثلاثين سنة، فأُراهن قبل الهدم يتم التلويث، إنه الكيان الصهيوني؛ واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط!
تقول يهود: "علينا ونحن نضع خططنا ألا نلتفت إلى ما هو خير وأخلاقي، بقدر ما نلتفت إلى ما هو ضروري"(2) للأمن المزعوم مثلاً، لإشباع غريزة سفك الدماء على فطير صهيون، للخضوع لرغبات إرهابيي المغتصبين، لئلا يفرح الفلسطينيون ساعة بنصر الله وتوفيقه المجاهدين، لئلا يقال: إن حجر "فارس عودة"(3) الطفل الشهيد، صار دارًا محررةً ووطنًا، وأنَّ المقاومة تقلع عين المحتل وتَجزُّ قلبه. فلتخربوا بيوتكم، ولتدمروا القرميد الأحمر المصبوغ بدماء "إيمان حجو"(4) ابنة الشهور الأربعة، فسنعيد القحل بعد البور زرعًا يانعًا، وسنحرث من الأرض بقاياكم المُتَبَّرة، ونغرس مكانكم أبناء الشهداء والأسرى؛ فسائل نصرنا الآتي، ونسمي مغتصبة "كفار داروم"(5) "مدينة الشهيد محمد سلطان"(6) من أهل الشرقية بمصر، الاستشهادي الذي فجر نفسه على أسلاك مغتصبة كفار داروم(7)، ونبني فيها مسجدًا باسم الشهيد "بهاء الدين أبو السعيد"(8) ونعلي مآذنه والمنارات؛ كي نرى في بئر السبع وعدًا قطعه على أنفسهم المجاهدون، أن يُسمعوا الفيافي والقفار صوت حدائنا: عائدون عائدون؛ إننا لعائدون.
عائدون كالغيث والندى، عائدون كالمطر، عائدون كالقمر، عائدون كالزَّهَر، كالبِشْرِ عائدون كالأمل.
عائدون برغم كيد العِدا؛ برغم دباباتهم، برغم طائراتهم، نحن الذين نبتنا من جراحات آبائنا، نحن الذين نبتنا من دماء أجدادنا، نحن الآمال المحبوسة في المآقي الدامعات، إننا لعائدون. نحن طلاب حق؛ دورنا في يافا والمرابع حالمات غانيات، تنتظرنا المساجد في بيسان وصفد وطبريا، أن نعلي فيها التكبير.(9/485)
نحن طلاب حق؛ مزارع أجدادنا الباسقات في روبين تنتظر، وسوافي الرمل في عسقلان تنتظر، والناس كل الناس للحق الذي قد ضيعوه تنتظر، فمن يجني الزَّنْبَقَ يا عسقلان، ومن يتنسم عبيره الفواح! نحن طلاب حق؛ والكيان الصهيوني رائد الباطل والشر، ورأس محوره المبتور، وهو يقول: "إن هذا الشر هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هدف الخير، ولذلك يتحتم ألا نتردد لحظة واحدة في أعمال الرشوة والخديعة والخيانة إذا كانت تخدمنا في تحقيق غاياتنا"(9). هذه دولة الصهاينة، فهل نحتاج بعد كتاب الله وصفًا يصفها، ليبين المعالم العظام للطريق، طريق الحق الذي ضيعه زنادقة العلمانية في تيه التجارب.
الهوامش
(1) في الأندلس حين ضاق الأمر بالمسلمين ولوحق اليهود، فاتسعت البلاد العربية لليهود أهل ذمتنا، رغم شدة الأسبان آنذاك.
(2) بروتوكولات حكماء صهيون ص:116 ترجمة محمد التونسي ط:4 .
(3) الشهيد الطفل فارس عودة، قتله يهود بدم بارد وهو يقف في وجه الدبابة يحمل حجرًا ليقاوم!
(4) قصفتها الدبابة بقذيفة واحدة فقط، فلم تمت؛ إذ "الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون".
(5) إحدى المغتصبات شرق دير البلح.
(6) ينبغي على أبناء فلسطين من الآن، أن يطلقوا هذا الاسم على مغتصبة كفار داروم، وأن تنادى في كل خطاباتنا وأدبياتنا بهذا الاسم الحبيب؛ مدينة الشهيد محمد سلطان.
(7) المجاهد الشهيد محمد سلطان؛ من مصر، من محافظة الشرقية ، زحف على بطنه حاملاً لغمًا هائلاً، وهدفه أحد مراكز الحراسة في المغتصبة، فانتبه له حارس وهو على بعد خطوات من هدفه، فأصابه في ذراعه، فتحامل وزحف حتى بلغ هدفه وفجره رحمه الله، فكان الاستشهادي الثاني في هذه المعركة المظفرة فجر14-4-1948م.
(8) كان المجاهد الشهيد بهاء الدين أبوالسعيد قد اقتحم مغتصبة كفار داروم، وقاتل فيها المغتصبين وقتلهم، واستشهد رحمه الله بداية انتفاضة الأقصى، فكان أول من غزا مغتصبة كفار داروم في هذه الانتفاضة.
(9) بروتوكولات حكماء صهيون ص:118 ترجمة محمد التونسي ط:4.
==============(9/486)
(9/487)
الصحافة المأجورة والكتاب العملاء
دأبت القوى الاستعمارية ومازالت على تجنيد طبقة من الكتاب في البلاد الإسلامية للقيام بالتشكيك في الإسلام ومحاولة ضرب ثوابته، وتشويه العاملين في الحقل الإسلامي وترويج الأكاذيب ضد الدعاة إلى الله.
وأصبح معلوماً في عالم الإعلام أن هناك مؤسسات إعلامية وكتاباً باعوا أنفسهم للاستعمار وارتضوا أن يكونوا خدماً لمشاريعه التغريبية، نظير ثمن بخس وعرض زائل من الدنيا فأصبحت كل مهمتهم الدس الرخيص على العمل الإسلامي والتحريض المتواصل على الصحوة الإسلامية وأبنائها.
وقد استغل أولئك العملاء والسماسرة تصاعد الحملة الأمريكية الغربية على الإسلام والمسلمين والعمل الإسلامي، فأوغلوا في العمالة وقدموا أنفسهم وأقلامهم وفكرهم بل وشرف مهنتهم بضاعة رخيصة وحولوا صحفهم ومؤسساتهم إلى سهام مسمومة ضد كل ما هو إسلامي، فانضموا إلى الحملة الغربية الصهيونية الرامية إلى تجفيف منابع التعليم الإسلامي وإغلاق العمل الخيري الإسلامي، ومحاولة تأميم المساجد وشل الدعوة الإسلامية والترويج في نفس الوقت إلى الإباحية الغربية تحت شعارات الحرية والدعوة إلى عولمة المرأة والإسهام في نشر الرذيلة، والعادات الهابطة على أوسع نطاق.
وينتهز أولئك العملاء والسماسرة كل حدث صغر أم كبر محاولين الصيد في الماء العكر... محرضين على العمل الإسلامي كله، ومطالبين بضربه والقضاء عليه.
والملاحظ أن أولئك العملاء يكشفون بين الحين والآخر عن حقد دفين يملأ قلوبهم حيال ما يحققه العمل الإسلامي والصحوة الإسلامية ورجالها من نجاحات كبرى بفضل الله في شتى الميادين الاجتماعية والخيرية والتعليمية والسياسية في مقابل الفشل المتواصل لدعاواهم، والإفلاس البين لأفكارهم، والعجز الصارخ لحركاتهم بين الناس حتى صاروا في حال مزرية، الأمر الذي طيّر عقولهم فصرفوا وقتهم وكرسوا أقلامهم تارة لإشعال الفتن بالتطاول على مقدسات الإسلام، وتارة بالاجتراء على علماء الإسلام وتارة أخرى بتحريض الحكومات وأجهزة الأمن ضد العمل الإسلامي.
وقد خيل لهم خيالهم المريض أنهم يمكن أن يحققوا ما يريدون.. ولكن هيهات..
وعلى أولئك أن يراجعوا التاريخ ليعتبروا..
فقد تعرض الإسلام وقادة الصحوة الإسلامية إلى حروب أشد ضرواة على أيدي الأنظمة الثورية العميلة، ولكن هذه الأنظمة تحللت وسقطت بزعاماتها وأيديولوجياتها وبقى الإسلام شامخاً، وظلت الصحوة الإسلامية تواصل انطلاقتها.
ألم يتذكروا بعد ما فعله النظام الناصري العميل بقوته البوليسية القمعية وآلته الدعائية بالدعاة إلى الله؟.. وهل تناسوا ما فعله الطاغية العميل صدام حسين ونظامه البعثي بالإسلام والمسلمين؟
وهل يتعامون عما تقوم به بقية الأنظمة الثورية العميلة التي مازالت متربعة على كراسي الحكم بدعم غربي في محاربة الإسلام ومطاردة الدعاة إلى الله وسجنهم وتعذيبهم وقتلهم؟
ألا يؤوب أولئك النفر من الكتّاب، وتلك الصحف والمؤسسات إلى رشدهم؟.. ألا يعلمون أن الكلمة أمانة ومسؤولية إما تضع قائلها في مصاف الشرفاء، أو تلقي به في خندق العملاء المأجورين؟
ألا يعملون ليوم يقول الله سبحانه وتعالى فيه: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24) (النور) وصدق رسول الله {: "إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً".
==============(9/488)
(9/489)
منتدى بيروت يقيِّم مدى التزام العرب بعولمة المرأة
بيروت: م
عندما عارض الكثيرون ومنهم الإسلاميون مؤتمر القاهرة الدولي للسكان عام 1994 ومن بعده "وثيقة بكين" باعتبارها مدخلاً لتغيير هوية الأمة عبر بوابة المرأة، وأكدوا خبث الأهداف من وراء تلك المؤتمرات، هاجمهم البعض حينئذ. لكن بمضي الوقت تكشفت المخططات الغربية لتغيير هوية الأمة، جاعلة المرأة إحدى أدوات ذلك التغيير بدعوى الدفاع عن حقوق المرأة أو مناقشة أوضاعها والنهوض بها، بل إن مبادرة الشرق الأوسط الكبير التي أطلقها الرئيس الأمريكي جورج بوش أواخر العام الماضي وتبنتها قمتا الثماني والناتو خلال الشهر الماضي، جعلت المرأة أحد بنودها الرئيسة.
منتدى بيروت: هذه المرة كانت العاصمة اللبنانية بيروت مقراً لأعمال منتدى إقليمي عربي بعنوان "عشر سنوات بعد مؤتمر بكين.."، وهو المؤتمر الذي نظمته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "إسكوا"، التابعة للأمم المتحدة لتقييم وضع المرأة العربية بعد عشر سنوات على انعقاد "مؤتمر المرأة الدولي في بكين" عام 1994 والذي جاءت مقرراته مخالفة، في كثير، منها للشريعة الإسلامية الغراء.
إسكوا أكدت أن "أهمية هذا الحدث تكمن في القرار الذي اتخذته الأمم المتحدة بعدم عقد مؤتمر للمرأة عام 2005، واستعاضت عنه بإعطاء أهمية قصوى للمؤتمرات التي سوف تنظمها لجان الأمم المتحدة الإقليمية الخمس، بما فيها "إسكوا"، تحضيراً للدورة التاسعة والأربعين ل"لجنة وضع المرأة" التي ستنعقد في نيويورك في شهر آذار (مارس) المقبل".
الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان أكد في كلمته الافتتاحية للمنتدى التي ألقتها نيابة عنه ميرفت التلاوي الأمين التنفيذي ل"إسكوا" أن هدف المؤتمر "تمكين المرأة"، وجعله شرطاً أساسياً لمكافحة الفقر والجوع والمرض ولتحقيق تنمية مستديمة، إضافة إلى حلّ النزاعات!!
بمعنى آخر، فإن عنان ربط بين أي تنمية في المنطقة والتمكين للمرأة وهو نفس ما قاله الرئيس بوش في مبادرته عن الشرق الأوسط الكبير، من اشتراط تقديم المساعدات الاقتصادية لدول الشرق الأوسط بالاستجابة للمطالب الأمريكية ومنها عولمة المرأة.
و"التمكين للمرأة" يعني طبقاً لأدبيات الأمم المتحدة ومقرراتها، خاصة وثيقة بكين، وغيرها: المساواة التامة بين المرأة والرجل في كل الحقوق والواجبات في الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ثم تسليم زمام القيادة لها في كل شئون الحياة.
ميرفت التلاوي.. رغم إشادتها بالإنجازات التي تحققت للمرأة العربية منذ بكين 94، إلا أنها ذكرت أنه مازالت هناك العديد من التحديات التي تقف أمام النهوض الفعلي بالمرأة في المنطقة ومنها التمييز في بعض القوانين مثل: قانون جرائم الشرف، والعنف ضدّ المرأة والبطالة والأمية، والعادات والتقاليد الخاطئة والتفسير الخاطئ للتعاليم الدينية"، ويلاحظ أن التلاوي خلطت بين بعض المطالب المشروعة للمرأة وتلك المرفوضة ووضعتها في سلة تحديات واحدة، كما غلفت رفضها للتعاليم الدينية التي تضبط حياة المرأة وفق شريعة الإسلام، بعبارة التفسير الخاطئ للتعاليم الدينية وكأن الأمم المتحدة والغرب هم المعنيون بتقديم التفسير الصحيح لتلك التعاليم، وفاقد الشيء لا يعطيه!
أهداف المنتدى
وقد تركز الهدف الأساسي في منتدى بيروت الإقليمي الأخير على إعداد تقارير وطنية لكل دولة عربية على حدة حول مدى الالتزام بتنفيذ وثيقة بكين 94 وما تم إنجازه المعوقات والمقترحات وذلك لإعداد تقرير إقليمي تقييمي للدول العربية يتم تقديمه ل"لجنة وضع المرأة" في هيئة الأمم المتحدة التي ستعقد اجتماعها في مارس 2005 لاستعراض تنفيذ وثيقة بكين.
وباستعراض وثيقة بكين التي وقعت عليها 180 دولة نجد أنها أكدت على عدد من المطالب على جميع الدول بما فيها الإسلامية والالتزام بها ومنها تمكين المرأة (empowe r ment of woman) تم ترجمتها بمعنى "تمكين" والترجمة الحرفية تعني "تسلط أو تسيُّد".
ووضعت الوثيقة قاعدة العمل على أساس الجندر النوع الاجتماعي وليس الجنس.
بمعنى المساواة الكاملة بين الذكر والأنثى وعدم مراعاة أي فروق بينهما، ومن ثم فإن مناط التكليفات والواجبات هنا هو النوع الاجتماعي وليس الجنس الإنساني وما يستتبعه من المساواة الكاملة في شئون الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وياحبذا طبقاً لترجمة المصطلح الأجنبي لو تم تسييد المرأة سياسياً واقتصادياً! وهذا ليس بمستبعد، ففي مؤتمر إقليمي آخر تم تنظيمه تحت رعاية الأمم المتحدة في إمارة دبي يوم 8 مارس 2004 كان عنوانه (المؤتمر السادس للسيدات: القيادة الطريق الوحيد لنجاح السيدات)، خرج المشاركون والخبراء بعدد من التوصيات من أبرزها:
تمكين المرأة في المؤسسات السياسية والعلمية والثقافية والاستفادة من طاقات الشابات وتوسيع فرص العمل في المستويات الإدارية والقيادية.(9/490)
واعتماد استراتيجية خليجية للنهوض بالمرأة ودعوة الحكومات والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات النسائية إلى وضع سياسة عامة، والدعوة إلى إنشاء مركز خليجي لإعداد القيادات النسائية.
ومن المقرر أن تتم محاسبة الدول العربية والإسلامية على مدى الالتزام ببنود وثيقة بكين التي لا تقتصر على جوانب تمكين تسيُّد المرأة فقط بل امتدت إلى قضايا أخلاقية واجتماعية تخالف أحكام الشريعة الإسلامية صراحة والنظام الاجتماعي الإسلامي، فكي يتم تغليب جانب الجندر أو النوع وفق ما تدعو إليه الوثيقة ينبغي: فتح الطريق أمام الحرية الجنسية، والإجهاض، وإلغاء مفهوم "تمايز" الأدوار، وازدراء "الأمومة"، واعتبار العمل المنزلي "بطالة"؛ لأنه دون مقابل مادي... أو كما تقول إحدى الناشطات الإسلاميات في مجال المرأة: إن الهدف من بعض بنود الوثيقة هو "رفع سن زواج الفتاة وخفض سن ممارسة الجنس" وضمان حق الإجهاض الآمن، وتدمير الأسرة كأساس يقوم عليه المجتمع الإنساني بالسماح بحرية الشواذ جنسياً والاعتراف بزواجهم وتكوين أسر لهم تقوم على التبني، وغيرها من البنود.
واستطاعت الأمم المتحدة بالفعل أن تجيش منظماتها المختلفة للوصول إلى تلك الأهداف كلاً في تخصصه، ففيما يتعلق بالأسرة مثلاً جعلت المنظمة الدولية لرعاية الطفولة "يونيسيف" محاربة "الزواج المبكر" قضيتها الرئيسة، داعية إلى مكافحته عالمياً ورفعت سن الطفولة إلى سن 18 سنة للذكر والأنثى.
التزام عربي
هذه البنود والمقررات الدولية التي تحولت من توصيات لم يكن أحد يتوقع أن تلتزم بها الدول العربية والإسلامية لمخالفتها الشريعة الإسلامية تحولت خلال السنوات القليلة الماضية إلى حقائق وقوانين تم تشريعها فعلياً في بعض الدول العربية والإسلامية العلمانية المارقة، وتم سحب تشريعات الإسلام من آخر حصونه وهو "الأحوال الشخصية" أو "قوانين الأسرة" التي كانت الدول العربية والإسلامية مازالت متمسكة به، بعد أن تم تغريب القوانين في جميع مجالات الحياة، إلا أن الضغوط الدولية وآخرها مبادرة الشرق الأوسط الكبير استطاعت تحويل تلك التوصيات إلى أوامر يجب تطبيقها وسيتم مراجعتها ومحاسبة الدول عليها في مارس2005 المقبل، ومن ثم سيتم معاملة الدول على أساس مدى التزامها بتطبيق تلك الأوامر، وسيتم الربط بين تقديم المعونات الاقتصادية ومدى التقدم في الالتزام بتطبيق تلك المقررات.
ومن ثم فإن الدعوات الأخيرة في بعض الدول العربية من قبل العلمانيين المارقين أو التغير في القوانين في بعض الدول الأخرى، يجب أن يفهم في هذا الإطار بل إن الهجوم الضاري على كل ما هو إسلامي وعلى رأسه الحركة الإسلامية ومناهج التعليم وقوانين الشريعة والقيم الإسلامية، يجب أن تفهم كلها في هذا الإطار باعتبارها تشكل العائق الأكبر أمام تنفيذ مقررات بكين.
ومن هنا فإن تغير قوانين الأحوال الشخصية في دول مثل مصر والمغرب والأردن والضغوط على دول أخرى، هو من قبيل التزام تلك الدول طوعاً أو كرها ًبوثيقة بكين وغيرها من القرارات الدولية في هذا الشأن. وعلى سبيل المثال تأسيس مجالس رسمية للمرأة مثل "المجلس القومي للمرأة" في مصر الذي أنشئ بموجب قرار جمهوري في شهر فبراير 2000م، والذي دعا مؤخراً بصورة رسمية إلى تجريم تعدد الزوجات، وطالب برفع سن زواج الفتاة إلى 16 سنة في مصر وهناك مطالب برفعه إلى 18 وشروع الحكومة المغربية فعلياً في تطبيق تلك المقررات تحت اسم "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية" وما يترتب عليها من رفع سن زواج الفتاة من 15 إلى 18 في المغرب وتقاسم الممتلكات في حالة الطلاق النموذج الأمريكي وإلغاء تعدد الزوجات، وإضفاء الاختيارية على وجوب حضور ولي أمر المرأة عند الزواج.
الأمر الآخر أن هذه المقررات تأتي في إطار منظومة متكاملة وصفقة شاملة بين بعض النظم العربية والإسلامية من جانب والغرب الذي سخر الأمم المتحدة لتحقيق ذلك، من جانب آخر تقوم على استثناء بند الإصلاح السياسي من مبادرة الشرق الأوسط الكبير مقابل الالتزام بتغيير ثقافة وهوية المجتمعات العربية والإسلامية عبر الانقلاب في مجالات ثلاثة وهي: التعليم والقضاء والمرأة، وعلى الدول العربية والإسلامية رفض هذا التوجه الخاطئ الذي يعد خروجاً عن تعاليم الإسلام الحنيف وما جاء به القرآن الكريم. وأن أي دولة إسلامية تطبق حصيلة تلك المؤتمرات المشبوهة التي يقف وراءها تخطيط صهيوني وصليبي حاقد تخرج نفسها من دائرة الإسلام.
===============(9/491)
(9/492)
نحو مشروع للنهضة في الوطن العربي
بدعوة من مركز دراسات الوحدة العربية اجتمعت لجنة صياغة "المشروع الحضاري النهضوي العربي" في لبنان لمدة يومين؛ بغرض مراجعة المخطط الأولى للمشروع المقترح ومناقشته وتوزيع أعباء العمل من أجل إعداد المسودة الأولى للمشروع. كانت أولى الملاحظات التى استجابت لها اللجنة اختيار عنوان آخر حيث تعددت الانتقادات للاسم المذكور في متن الموضوع أعلاه؛ فكان الاختيار هو "نحو مشروع للنهضة فى الوطن العربى".
كان مركز دراسات الوحدة العربية قد دعا لندوة كبرى عقدت فى فاس بالمغرب (نشرت مجلة المستقبل العربي كافة أوراقها فى عددها لشهر يوليو الماضي وليتها تنشر التعقيبات التى قدمها المشاركون حول الأبحاث، كما سيصدر إن شاء الله كتاب شامل لكل المناقشات والحوارات).
وقد تعددت الاستجابات بين المفكرين والباحثين والسياسيين لمبادرة إعداد مشروع للنهضة العربية، فهناك من رفض قيام مركز وحيد بمثل هذا العمل، بل هناك من رفض الفكرة من أصلها، بينما كان موقف البعض الآخر إيجابياً مع بعض الانتقادات، وهناك من اعتبر أن العرب خرجوا من التاريخ وأنه لا أمل فى نهضة عربية فى هذه الآونة.
وحرصاً على أن يدور حوار يثري الإعداد للمشروع المقترح، وحتى تتواصل الأفكار والمقترحات، وليشارك أكبر عدد ممكن من المهتمين، فإننى أضع حصيلة المناقشات حول مخطط المسودة المقترحة بين يدي القراء:
فى البداية لابد من التذكير بموقف مبدئي شخصي ينطلق من موقعي الفكري والسياسي كمسلم ينشط فى إطار حركة الإخوان المسلمين، فقد رحبت بدعوتي مع آخرين من نفس الموقع للمشاركة فى الندوة، ثم كنت الوحيد المنتمي للتيار الإسلامي في لجنة الصياغة التى ستوالي أعمالها بعد 5 شهور يستغرقها إعداد المسودة الأولى.
يلتبس على كثير من الناشطين الإسلاميين الموقف من الوحدة العربية ومن القومية العربية وعلاقة ذلك بالوحدة الإسلامية والخلافة الإسلامية.
ومنذ ظهور فكرة "الإخوان المسلمين" كان ذلك الموقف واضحاً محدداً، حيث قال الإمام حسن البنا فى "رسالة المؤتمر الخامس": إن الإسلام نشأ عربياً، ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه بلسان عربي مبين، واتحدت الأمم باسمه على هذا اللسان وقد جاء فى الأثر: "إذا ذل العرب ذل الإسلام"، فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه، وأحب هنا أن أنبه إلى أن الإخوان المسلمين يعتبرون العروبة كما عرفها النبى ص فيما يرويه ابن كثير عن معاذ ابن جبل رضى الله عنه: "ألا إن العربية اللسان..ألا إن العربية اللسان"، ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لابد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية".
إذن هنا موقف واضح محدد، جسده حسن البنا فى مشاركته النشيطة فى الإعداد لميثاق جامعة الدول العربية التى رحب بقيامها، وقدم لعبدالرحمن عزام باشا الأمين الأول للجامعة كل الدعم بدءاً من صياغة الميثاق، ثم تجسد التعاون فى اللجنة العليا لإنقاذ فلسطين ووجود غطاء سياسى لكتائب الفدائيين الذين جندهم الإخوان لمقاومة عصابات الصهاينة فى أرض فلسطين ورووها بدمائهم الزكية.
جرت بعد ذلك أحداث خطيرة باعدت بين الإخوان وبين دعاة القومية والوحدة العربية، وسالت فى الصدامات دماء غزيرة وسجن وشرد الآلاف فى معظم الأقطار العربية، ساهم ذلك كله فى الالتباس الذى مازال قائماً فى أذهان الشباب المسلم حول الموقف المبدئي الذي يجب ألاَّ يختلط بالمواقع السياسية والصراعات اليومية.
ولقد نجح التياران أو العقلاء منهما على الأقل والمتسامحون فى تقريب وجهات النظر ثم إنشاء المؤتمر القومى الإسلامى ثم المشاركة فى دعم الجهاد فى فلسطين والعمل على تحرير الإرادة العربية والدفاع عن حقوق الإنسان، ويأتى إعداد مشروع للنهضة فى الوطن العربى فى هذا السياق، رغم المشاركة المتواضعة للتيار الإسلامي.
وهناك نقطة فارقة فى توجه كل من التيارين، فبينما موقف التيار الإسلامي (الإخوان المسلمون تحديداً) واضح من الوحدة العربية، نجد أن موقف التيار القومى العروبي من الوحدة الإسلامية مازال غامضاًَ وملتبساً بل وأحياناً معارضاً بحدة أو بهدوء، وقد ظهر هذا عند إعداد ومناقشة أبحاث المشروع المقترح، حيث أصر البعض على أن هوية المشروع عربية رداً على اقتراح باعتماد هوية مفتوحة تسمح بعد ذلك بهوية إسلامية.
إن موقف الإخوان من الوحدة الإسلامية قاطع ومحدد، وواقعي فى الوقت نفسه حيث يعملون على ما سماه البنا "إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية: بتحرير أوطانها، وإحياء مجدها، وتقريب ثقافاتها، وجمع كلمتها، حتى يؤدى ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة"، وهم يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التى لابد منها فى خطوات:
لابد من تعاون ثقافي واجتماعي واقتصادي تام بين الشعوب الإسلامية كلها.(9/493)
يلى ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد (قديماً كان المؤتمر البرلماني الإسلامي لقضية فلسطين، ودعوة وفود الممالك الإسلامية إلى لندن للمناداة بحقوق العرب في الأرض المباركة ظاهرة طيبة وخطوتين واسعتين في هذا السبيل.وحديثاً كانت "منظمة المؤتمر الإسلامى" ثم "مجموعة الدول الثماني" التى دعا إليها وساهم فى إنشائها الزعيم التركى نجم الدين أربكان نموذجاً يمكن البناء عليه مع تواضع الأهداف والإنجازات.
والملاحظ أن فلسطين هى التى تجمع العرب والمسلمين حول قضية مركزية ثم جاء التخلف الاقتصادى والتفرق والتجزئة فى عالم التكتلات الكبيرة حافزاً للتعاون).
يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية أو هيئة الأمم الإسلامية أو الولايات المتحدة الإسلامية.
حتى إذا تم ذلك للمسلمين يمكن أن ينتج إجماع على إمام واحد.
وهذا كله يأخذ عقوداً من الزمن، ومن هنا ومن منطلق الإسلام كان العمل من أجل الوحدة العربية واجباً، ولكى تتحقق الوحدة العربية لابد من إحياء شامل ونهضة كبيرة تعم الأمة العربية، ولذلك كان العمل الدؤوب من أجل إعداد مشروع للنهضة في الوطن العربي.
يمكننا من منطلق العروبة نفسها بل والوطنية القطرية ذاتها بل ومن المصالح الخاصة للشعوب والأفراد العرب أن نلتمس ضرورة إعداد مشروع للنهضة، حيث إن الواقع يشهد أن هناك نزوعاً دائباً نحو تحقيق نهضة عربية؛ إلا أن هذه المشاريع ترصد مصير التجارب السابقة التى نجحت حيناً وفشلت أحياناً فقد تحطمت مشاريع محمد على باشا (فى معاهدة لندن 1840م) ومشاريع الخديوى إسماعيل بخلعه ونفيه خارج مصر (1879م) وتحطم مشروع عبد الناصر فى نكسة 1967م ومشاريع حزب البعث العربى التى تعثرت، وتنازع فرعان للحزب حكم سوريا والعراق، ومن المهم دراسة هذه التجارب لوضع اليد على العلل الكامنة وراء الإخفاق المتكرر منذ قرنين من الزمان، ولا يكفى أبداً أن نلقي التبعة على الرفض الخارجى والمؤامرات الواضحة لأننا نستطيع أن نتصدى لهذه المؤامرات إذا توفرت العزيمة وصحت الإرادة ووضحت السبيل.
ثم إن هناك الواقع العربى الراهن الذى يهدد استمراره هوية الأمة العربية بل وجودها نفسه خشية تمزقها إلى أشلاء متناثرة متناحرة، وتمثل الحاجة إلى تحقيق كيان اقتصادي عربي عبر تنمية مستقلة فى عالم لا يعترف الآن إلا بالكيانات الكبيرة والعرب كتلة سكانية (280 مليونا) وتزخر بلادهم بإمكانات هائلة متنوعة هذه الحاجة الملحة تمثل حافزاً آخر لإعداد مشروع لنهضة العرب.
عوائق في الطريق
هناك عوائق فى وجه هذا المشروع من داخل الأمة العربية نفسها مثل التخلف وقلة اكتساب المعرفة فضلاً عن إنتاجها، والبطالة المتفشية والفقر المدقع وسوء توزيع الثروات وغياب الديمقراطية الذى غيب الجماهير وأهمل الأمة، والأمن المهدد المكشوف، كما أن هناك عوائق خارجية أهمها المشاريع المضادة التي تهدف إلى منع حصول أي نهضة عربية وذلك فى سياق الصراع العربي الصهيوني ومشروع السوق الشرق أوسطية الذى روج له العدو الصهيونى فترة من الزمن ثم تأجل إلى حين تحقيق تسوية بأي وضع لكي ينطلق من جديد.
كما أن هناك أفكاراً مطروحة لإلحاق شمال إفريقيا كله بالمنظومة المتوسطية التي مازلت تراوح مكانها، وإلحاق عدد آخر ناطق بالفرنسية أو غيرها بالفرانكوفونية التي تتزعمها فرنسا، ومشروع العقيد القذافى لإنشاء اتحاد إفريقي بعد أن يئس من الوحدة العربية.
كل هذه مشاريع مضادة تهدف إلى تمزيق الأمة العربية، وأي مشروع للنهضة في الأمة العربية سيكون مهدداً لها، فلذلك تقف ضده كما أن السياق العالمي يتجه نحو عولمة تهدف إلى الهيمنة الأمريكية وتحطيم سيادة الدول القطرية فضلاً عن منع قيام كيانات إقليمية مناهضة لفكرة العولمة أو مناقضة لها، لأن نهضة عربية ستكون مقدمة لنهضة إسلامية وهذه عولمة أخرى ضد العولمة الأمريكية.
وفي ظل غياب أى مشروع عربي معاصر فعال لتحقيق النهضة العربية فإن إعداد مشروع كهذا في ضوء رؤية بديلة مضيئة آملة متفائلة بمستقبل أفضل تتجاوز الحال الراهن يمثل ضرورة ملحة.
وهذا المشروع لابد أن يتضمن محاور أساسية تطرح للنقاش: مبدءاً وفكرة، ضرورة وأهمية، وسيلة وأسباباً، ومن ذلك، على سبيل المثال ودون ترتيب:
1) الوحدة.
2) الديمقراطية.
3) التنمية.
4) العدالة الاجتماعية.
5) الاستقلال.
6) التجدد الحضارى.
مع ضرورة وضع آلية لتضافر هذه المحاور وضمانات لنجاح المشروع كما أنه يهمنا تحديد القوى الفاعلة فى الأمة التى يمكن أن تتبنى المشروع ثم كيف يمكن لنا أن نجسد هذا المشروع بعد الاتفاق عليه في الواقع الراهن، وهذا حديث آخر.
============(9/494)
(9/495)
استراتيجية التعامل مع ثقافة العولمة وإعلامها
د0أحمد بن راشد بن سعيد في حوار مع المجتمع
التطورات المثيرة التي تشهدها تكنولوجيا الاتصال أدت إلى بروز ظاهرة العولمة التي اعتبرها كثير من المثقفين في دول الجنوب امتداداً لهيمنة دول الشمال وتتويجاً لنفوذها الثقافي والسياسي. لكن هذه الآراء لم تضع في اعتبارها صلابة الهوية المحلية، والخصوصية الثقافية لدول الجنوب سيما العالم العربي والإسلامي، وأغفلت الدور الحيوي الذي تقوم به الشعوب في التعامل مع تكنولوجيا الاتصال تعرضاً واستخداماً وتفسيراً. فإرادة الشعوب، ومنظومتها الثقافية، وسياقاتها الاجتماعية، وتقاليدها المتجذرة في التاريخ تشكل موانع طبيعية ضد الاختراق. كما أن استخدام العولمة مفهوم القرية الكونية من أجل بسط هيمنتها الثقافية أدى إلى ارتفاع أسهم الخصوصية، والنزوع إلى المحلي.
لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع كان لنا هذا الحوار مع الدكتور أحمد بن راشد بن سعيد أستاذ الاتصال بجامعة الملك سعود بالرياض.
أثارت التطورات المتسارعة في ميدان تكنولوجيا الاتصال تفاؤلاً مشوباً بالحذر، وأحيت النقاش مجدداً حول (الهيمنة الثقافية)... في رأيك ما الجذور التاريخية لمفهوم الهيمنة الثقافية ومراحل تطوره؟
<< في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن سادت رؤية براجماتية مؤداها أن وسائل الاتصال الجماهيري يمكن تسخيرها لنقل أنماط التقدم التكنولوجي الغربي، وتحطيم البنى التقليدية التي تعوق التنمية في الدول حديثة الاستقلال. وقد فرضت هذه الرؤية نفسها على البحوث الأكاديمية والتعليم، وتم الأخذ بها في سياسات الاتصال والاقتصاد في الدول الغربية والعالم الثالث واليونسكو على حد سواء. ترتب على ذلك أن تدفقت صادرات تكنولوجيا الاتصال الغربية، والأمريكية على وجه الخصوص إلى دول العالم الثالث. ولم تقتصر هذه الصادرات على الأجهزة، بل شملت المضامين والخبرات.
ثم ظهر نموذج الهيمنة الثقافية الاتصالية وانتشرت أكثر الكتابات حول الهيمنة الثقافية من أواسط الستينيات إلى أواخر السبعينيات، وهي الفترة التي شهدت التوسع الاقتصادي الكبير للشركات متعددة الجنسيات. وكانت أمريكا اللاتينية المحضن الخصب لهذه الكتابات، حيث تم الربط بين التوسع الاقتصادي للرأسمالية الأمريكية والتصدير واسع النطاق للمنتجات الثقافية وتكنولوجيا الإتصال الأمريكية، و في أواخر السبعينيات خفت الحديث عن الهيمنة الثقافية الاتصالية لاصطدامها بعاملين: الإنتاج المحلي للبرامج الإعلامية الذي قلل الاعتماد على البرامج الأمريكية، ثم التفسيرات المحلية للرسائل الإعلامية الوافدة.
مع مطلع التسعينيات وتزايد عولمة الثقافة والاتصال عاد الحديث بقوة عن الهيمنة. أصبحت المنتجات الثقافية الغربية أكثر حضوراً من ذي قبل. تطورت تكنولوجيا الإتصال تطوراً مدهشاً، وخرجت الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة وحرب الخليج الثانية بانتصار دراماتيكي توجهاً القوى العظمى رقم 1. هذا الانتصار السياسي صاحبته طروحات وكتابات جعلت منه انتصاراً أخلاقياً وحضارياً. فاندثار الاتحاد السوفييتي، والتوجه الدراماتيكي نحو الديمقراطية واقتصاد السوق في أوروبا الشرقية خلقا جواً من النشوة والزهو، ودفعا بعض المفكرين إلى القول بنهاية التاريخ وانتصار القيم الليبرالية الغربية.
هنا أصبح حديث الهيمنة طاغياً وعالمياً أكثر من ذي قبل. لم يكن هناك خلاف في أي وقت من الأوقات حول وجود هيمنة غربية ثقافية على الشعوب الأخرى، لكن الخلاف كان حول حدود هذه الهيمنة ومدى تأثيرها. في السنوات الأخيرة إزداد الحضور الأمريكي في ميدان الثقافة والاتصال: أصبحت الثقافة الشعبية أكثر السلع الأمريكية تصديراً بعد الطائرات. الأفلام الأمريكية شكلت40% من سوق الأفلام الأوروبية وربع سوق التلفزيون. أكثر من نصف الأفلام التي تعرضها محطات التلفزيون الأوروبية تم إنتاجها في الولايات المتحدة. المسلسل الأمريكي باي ووتش تم عرضه في 114 بلداً وأخبار السي إن إن وأفلام ليون كنج وموسيقى مايكل جاكسون ومادونا إلى الوجبات السريعة ماكدونالدز وبيتزاهات، وهكذ يتبدى عصر العم سام ويحبس العالم أنفاسه أمام ظاهرة ثقافية متفجرة.
إذا كانت الهيمنة الثقافية الاتصالية تعني الاختراق وتهميش التقاليد المحلية وتعزيز القيم الرأسمالية، فماذا تعني العولمة؟ وهل هناك فرق بينها وبين مفهوم العالمية التي يدعو إليها الإسلام؟(9/496)
<< تعددت تعريفات العولمة، فهناك من يعرِّضها بأنها: تشكيل وبلورة للعالم كله بوصفه مكاناً واحداً، وظهور لحالة إنسانية عالمية واحدة. وهناك من قال إنها تعني في جوهرها: رفع الحواجز والحدود أمام الشركات والمؤسسات والشبكات الدولية الاقتصادية والإعلامية والثقافية كي تمارس أنشطتها بوسائلها الخاصة، وتحل محل الدولة في ميادين المال والاقتصاد والثقافة والإعلام. والهيمنة الثقافية هى إحدى آليات العولمة، حيث تعمل جنباً إلى جنب مع الشركات متعددة الجنسيات ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لنسج خيوط العولمة. بيد أنها تعتبر أخطر هذه الآليات لأنها تمهد الطريق أمام تيارات العولمة الأخرى عبر الترويج للنمط الاستهلاكي، وتفتيت القيم المحلية السائدة، وردع أو تثبيط أي محاولة للنهوض الاقتصادي أو التفرد الثقافي. وانطلاقاً من هذه الرؤية فإن العولمة هي تتويج للنظام الرأسمالي والقيم الليبرالية الغربية على مستوى الكون، ما يفسح المجال لهيمنة ثقافية وأشكال أخرى من الهيمنة.
أما عالمية الإسلام وإن اتفقت مع العولمة في بعض جوانبها من حيث أنها تهدف إلى تشكيل وبلورة العالم كله بوصفه مكاناً واحداً وظهور لحالة إنسانية عالمية واحدة إلا أنه يرفع راية التسامح ويشدد على مفهوم: لا إكراه في الدين (البقرة:256)، ولا يحاول سلب الخصوصيات القومية، بل ينفتح على كل ما هو كوني وجميل وصالح بغرض إثراء الحضارة الإنسانية تحت راية التوحيد وهذا ما جعل الشعوب والدول التي دخلت في الإسلام تتمسك به وتتبنى الدعوة إليه والجهاد في سبيله لا أن تقاومه وتعمل على محاصرته مثلما يحدث الآن مع دعوى العولمة التي هي:احتواء للعالم وفعل إرادي يستهدف اختراق الآخر.. وسلب خصوصيته الثقافية.
قلت إن الهيمنة الثقافية هي أخطر آليات العولمة.. كيف ؟
<< يمكن ملاحظة الهيمنة بجلاء في انتشار النعوت والمصطلحات التي تطلقها الدوائر السياسية والصحفية الغربية على الأشخاص والجماعات والأحداث. من أمثلة ذلك التمويه، أو تلطيف القبيح، أي استخدام عبارة ملطفة وغير مباشرة لوصف شيء بغيض ومنفر مثل وصف الإبادة الجماعية لمسلمي البوسنة وكوسوفا ب: التطهير العرقي، وغزو لبنان عام 1982م ب: سلام الجليل، وتسمية حدوث إصابات مدنية في الحروب ب: الضرر المصاحب، والهدف كما يقول أحد الباحثين هو جعل الحقيقة السيئة مقبولة لغوياً كما يطلق المركز الغربي أوصافاً تخدم مصالحه أو مصالح حلفائه، كإطلاق اسم: يوم الغفران على حرب رمضان 1973م، واسم: جبل المعبد على المسجد الأقصى، ووصف القدس الشرقية بأنها: متنازع عليها بدلاً من محتلة، ووصف الغارات الصهيونية على لبنان عبر السنين بأنها:انتقام أو دفاع عن النفس. ويدخل في ذلك أيضاً وصف الجزء الذي تحتله الهند في كشمير بأنه: الجزء الذي تديره الهند، وصف المقاتلين الشيشان بأنهم إرهابيون، أو جيش تحرير كوسوفا بأنهم انفصاليون. هذه النعوت ليست وصفية مجردة، بل أيديولوجية صادرة عن رؤية حضارية وموقف ثقافي معيَّن. فالشيشانيون إرهابيون ليس لأنهم كذلك فعلاً، بل لأن المركز الغربي يقول إنهم إرهابيون. والخطورة أن هذه التسميات لا تتوقف عند مجرد الكلام، بل تقود إلى عمل. فوصف (الإبادة الجماعية) لمسلمي البوسنة ب (حرب أهلية) يعني عدم التحرك، ورفض التدخل بين أطراف متناحرة أو جماعات يقتل بعضها بعضاً منذ مئات السنين. أما وصف الأمر بأنه إبادة أو اعتداء فيقتضي ذلك حسب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة التدخل لردع المعتدي وإنقاذ الضحية. ووصف شعب كوسوفا بأنه (انفصالي) يعني ضمناً رفض مطالبه بالاستقلال، فكيف ينفصل الطفل عن أمه، أو كيف ينفصل عضو من الأعضاء عن باقي الجسد. هذه المصطلحات تمثل شكلاً من أشكال الهيمنة التي فرضتها عولمة الثقافة والاتصال والنفوذ السياسي لدول المركز الغربي.
هل ترى أن هذه الهيمنة بلا حدود وتجعل شعوب عالمنا العربي والإسلامي مسلوبة الإرادة لا تملك سوى الاستجابة لمنبهات مركز العولمة؟
<< بالطبع لا. من الخطأ التسليم بقدرتها على إذابة التقاليد المحلية وصهرها في بوتقة واحدة. إن ذلك يتجاهل إرادة الجماهير وما تملكه من وعي ذاتي وقدرة على الاختيار أو التفادي والدور النشط الذي تقوم به في التعامل مع تكنولوجيا الاتصال تعرضاً واستخداماً وتفسيراً بناء على ما تحققه من إمتاع وإشباع.(9/497)
فكثيرا ًما تقوم الشعوب بتطويع تكنولوجيا الاتصال لخدمة الثقافة المحلية أو الاتجاهات السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات ويسخرها لأهداف لم ترد في فكر صانعيها ولم يصمموها لها أصلاً. إن تكنولوجيا الاتصال تسمح للجماعات المتوافقة فكرياً والمتباعدة جغرافياً بالاندماج في نشاطات مشتركة، وتشكيل جبهة ضاغطة على مستوى العالم مما يحقق لجهودها التكامل والتأثير. ثبتت فاعلية وسائل الاتصال الإلكترونية الشخصية في مجالات عديدة أبرزها مجال المعارضة السياسية، ومقاومة الاحتلال وطلب الاستقلال فصورة الشهيد محمد الدرة شكلت جبهة كونية ضاغطة لمصلحة الشعب الفلسطيني المطالب بحريته، كذلك استخدام فيلم عن مذبحة صبرا وشاتيلا وإعادة عرضه بعد انتخاب شارون رئيساً للوزراء ساهم في تذكير العالم بأن جزار وسفاح صبرا وشاتيلا لن يكون رجل سلام، ومن قبل استخدم آية الله الخميني الكاسيت الصوتي لإشعال لهيب المعارضة ثم الثورة ضد الشاه، والجمهور يقبل على هذه البدائل في ظل ضعف وسائل الإعلام الرسمية وغلبة السمة الدعائية عليها وافتقارها إلى التثقيف والمعالجة الشاملة والموضوعية للأحداث، فيلجأ الجمهور إلى التسهيلات التي تقدمها تكنولوجيا الاتصال الشخصية بحثاً عن طرح مختلف، أو نافذة للرأي الآخر.
ويمثل الإنترنت مع أنه ظاهرة جديدة ومتنامية دليلاً حيوياً على نشاط الجماهير وقدرتها على تطويع تكنولوجيا الاتصال. في العالم العربي ينمو الوعي بأهمية الشبكة العالمية وضرورة الاستفادة منها لتدعيم القيم، ونشر المعلومات، والإسهام الإيجابي في حركة العولمة.
هناك الآن آلاف المواقع الإسلامية والعربية على الشبكة أقامت معظمها الاتحادات والمنظمات الإسلامية في طول العالم وعرضه ويوجد تنسيق مستمر بين معظم هذه المواقع إزاء القضايا الحيوية مثل قضية فلسطين، والتمييز العنصري الذي يتعرض له المسلمون في الغرب (يشمل ذلك إعداد ملفات توثق الممارسات العدائية والجرائم وأشكال الإقصاء التي يتعرض لها المسلمون. وهناك مواقع عديدة للقرآن الكريم بلغات مختلفة، ومواقع تحتوي على أوقات الصلوات وعناوين المراكز الإسلامية ومعلومات عن الحج والعمرة وحساب المواريث وترجمات للحديث النبوي وخدمات إخبارية وترفيهية منوعة).
إن الإنترنت يفتح آفاقاً واسعة للجمهور النشط ليقوم بخدمة ثقافته المحلية وهويته الخاصة. ويشير بعض الدراسات عن استخدام تكنولوجيا المعلومات في الكويت إلى أن الشركات الكويتية لا تستخدم الإنترنت لالتماس صفقات تجارية عالمية، بل لتعزيز الهوية المحلية ونشر القيم الإسلامية المحافظة، وهو ما لا تدركه الآن خطابات الهيمنة في عصر المعلومات التي تشدد على الهيمنة. ولاحظت نمواً لثقافة إنترنت نشطة ونمط ثابتاً من المعرفة والممارسة المحلية شكل استجابة الكويت لعصر المعلومات. وتصف الدراسة عملية بناء ثقافة عالمية بأنها تشكيل لفرقة موسيقية غير متناغمة ثقافياً: الآلات ليست سواء، هناك أكثر من قائد، وليس كل الموسيقيين إذا وجد أحد أصلاً يريد أن يعزف اللحن نفسه. النتائج يمكن أن تكون موسيقى جميلة أو رديئة حسب الظروف.
حيوية الجماهير
ومما يدلل أيضاً على حيوية الجماهير هو أنها ليست متجانسة في قراءتها للرسائل الإعلامية، وأنه لا يوجد معنى كوني أو مطلق للنص حتى وإن كانت هناك أيديولوجية مهيمنة عليه. تصاغ الرسائل الإعلامية بحذر لتحمل معنى موجهاً، لكن ذلك قد يصطدم بالقدرة التفسيرية للجمهور الذي قد لا يتشرب المعنى المراد. فتحاول الجماهير استيعابه وقراءته بطريقة تفاوضية، أو مقاومته وقراءته بطريقة معارضة. الرسائل الإعلامية إذن حبلى بالمعاني، وعملية استخلاص المعنى تتأثر بعوامل ثقافية واجتماعية محلية. ولهذا يبدو من البساطة القول إن أفلام هوليودو ستقود مشاهديها في أنحاء العالم إلى اعتناق قيم الرأسمالية الاستهلاكية، والتحرر على الطريقة الأمريكية.
اختلاف التلقي والفهم للأفلام والبرامج ومواد التسلية الغربية لا يعني عدم شعبيتها، فالعواطف والدموع ومشاعر النصر والفرح والحزن، وقيام العلاقات وذبولها كل هذا الخليط الدرامي يشحذ الاهتمام ويغري بالمتابعة. لكنها متابعة تقود إلى استهلاك الصور لا المعاني بالضرورة، فالناس يستخدمون معايير ثقافية مختلفة لتفسير الرسائل بطريقة قد تتناقض مع ما يهدف إليه القائم بالاتصال. هذا السلوك يحد كثيراً من تأثير الهيمنة.
إذن نظريات الاستعمار الثقافي التي تقول إن الهيمنة تغلف في لوس أنجلس، وتشحن إلى القرية الكونية، ثم تفتح في العقول البريئة". نظريات غير صحيحة، فالنتيجة عكس ذلك: (عقول بريئة قليلة جداً، وتشكيلة من القرى) ؟!!(9/498)
<< بالضبط.. عندما ابتكر مكلوهان مفهوم القرية الكونية كان يتخيل عالماً بلا حواجز يمتلك فيه الناس فرصة إبداء آرائهم وإسماع أصواتهم على قدم المساواة. اعتبر مكلوهان وسائل الإتصال الإلكترونية نقطة تحول في التاريخ الإنساني تفرض علينا كما قال: الالتزام والمشاركة، إذ أصبحنا مشتبكين معاً، ومسؤولين عن بعضنا بطريقة يتعذر إلغاؤها. لكن هذه الرؤية لم تتحقق من حيث بقاء ملكية وسائل الاتصال الجماهيري والتحكم في مضامينها بأيدي الدول الغنية، وتحويل القرية العالمية إلى ساحة تتبارى فيها شبكات الإعلام العنقودية التي تحركها اعتبارات الكسب المادي لا الدوافع المعرفية والثقافية. لقد ربطت العولمة القرية الكونية بعجلتها لتنساب فيها المعلومات والمنتجات الثقافية بلا قيود، ويمطر الملايين من سكانها بحملات الإعلان للشركات متعددة الجنسيات. خذ مثلاً إن إعلان فندق إنتركونتننتال الذي يقول: عالم واحد، فندق واحد، إنتركونتننتال.. إنه إعلان لا يجسِّد واقع عالمنا الحقيقي، بل يهدف إلى تحقيق أعلى الأرباح من خلال ترويج أيديولوجية الهيمنة. كم من سكان القرية الكونية لديهم القدرة على استئجار غرفة في فندق إنتركونتننتال؟ الأمر نفسه ينطبق على استخدام تكنولوجيا الاتصال الذي يتطلب مالاً، سواء لشراء الأجهزة مثل: التلفزيون، الراديو، الحاسوب أو المنتجات:الكتب، التسجيلات، الأقراص المكتنزة..
الأطباق اللاقطة
وماذا عن الأمية والمرض والفقر الذي تعاني منه شعوب كثيرة؟ إن هناك أجزاء من العالم لا تعرف الأطباق اللاقطة ولا الإنترنت. إن الولايات المتحدة وأوروبا واليابان تنفق مثلاً تسعة أضعاف باقي دول العالم على الموسيقى، مع أن شعوب هذه الدول تشكل أقل من سبع سكان الأرض. وفي عام 1991م كان هناك جهاز تلفزيون واحد لكل 1.2 من الأمريكيين، بينما وجد جهاز واحد لكل 32 صينياً ولكل 56 باكستانياً. في الوقت نفسه يتزايد التشبث بالهوية المحلية، ويجري إحياؤها والدفاع عنها. في تركيا مثلا ًواجه أنصار حزب الفضيلة فنادق العولمة بإنشاء فنادق إسلامية تقدم خدمات (خمس نجوم) لكي تتفادى ما يخالف تعاليم الإسلام. عدد من المؤسسات الإعلامية العربية شرعت في إنتاج برامج للأطفال تحتوي على (رموز) بديلة وأسلوب مختلف للتسلية. ورغم أن هذه المحاولات تشق طريقها بصعوبة إلا أنها تمثل شكلاً من أشكال المقاومة يتم من خلالها توليد رموز خاصة بالجمهور ومستوحاة من ثقافته وكما يقول أحد الباحثين: قد تهيمن هوليوود وأوروبا بشكل أصغر على التدفق الدولي للأخبار وبرامج التسلية. لكن لا يوجد دليل قوي على اندفاع كوني لشعبية الأمم الغربية وقيمها. الهيمنة في المجال الاقتصادي قد لا تنتج بالضرورة الهيمنة المرادفة في الحقل الثقافي.
لكننا لسنا مخلوقات محصنة ضد التأثير الخارجي.. أليس كذلك؟
<< بالتأكيد.. لكن فوبيا العولمة أمر مبالغ فيه، ويذكرنا بالنزعة الإنسانية التي ترى في كل جديد خطراً، وفي كل وافد شراً مستطيراً. لسنا بالتأكيد مخلوقات محصنة ضد التأثير الخارجي، سيما وسائل الإعلام، لكننا أيضاً لا نقف فاغري الأفواه أمام بعبع يهم بالتهامنا وتذويبنا. إن القول بنشاط الجمهور لا يعني استقلاله الكامل ولا ينفي أن لتكنولوجيا الاتصال ووسائل الإعلام تأثيراً كونياً. كما أن الحذر من العولمة بوصفها نظاماً للاختراق والنفوذ لا يعني الوقوف منها موقف المصدوم الذي لا يفتح فمه، أو المصاب الذي يفتح فمه ولكن بالصراخ واللعن. في الحقيقة، ربما كان الاحتكاك بالعولمة مفيداً للتقاليد المحلية التي قد تنهض وتنتعش وتقوى باتصالها بأنماط أخرى للحياة. في هذا الإطار لابد من تفاعل خلاق يقدم برامج ورؤى ومصطلحات ورموزاً مستمدة من تجاربنا وثقافتنا الخاصة. يمكن لنا أن نبادر بطرح رؤيتنا لقضايا كونية ملحة: تدفق الاتصال والمعلومات، حقوق المرأة، الانفجار السكاني، انتهاك الأطفال، أوضاع الأقليات، التمييز العنصري.. إلخ. يمكن أن نحدد مفهوم الإرهاب وأنه لا يعني الكفاح من أجل تحرير الأوطان، ونوضح المقصود بحرية التعبير وأنها لا تشمل تجريح المقدسات. نستطيع أن نرفض ترديد عبارات مثل: سلام الجليل والحزام الأمني والتطهير العرقي والملاذات الآمنة وغيرها من العبارات الأيديولوجية، ونقدم تعريفاتنا المستقلة للأحداث. يمكن أن نستخدم بفاعلية أشمل تكنولوجيا الاتصال لا لتدعيم ثقافتنا المحلية فحسب، بل لمد جسور الحوار و تبادل المعلومات مع الثقافات الأخرى. إن الإنسان عدو ما يجهل ومراكز العولمة التي تتبنى خطاباً أحادياً فوقياً ربما تجهل الكثير عن حضارات الآخرين وثقافتهم وتاريخهم. يجب إذن أن نبدع خطاباً تبادلياً يتحدث عن خصوصيتنا الثقافية في الوقت الذي يتلمس فيه أرضية مشتركة، ويشيد بالتنوع كظاهرة حضارية جميلة تخدم الاستقرار والتعايش على مستوى الكون.
=============(9/499)
(9/500)
ديون الدول الفقيرة "سلة" السموم القاتلة
في أحدث تقريرين دوليين عن المخدرات :
مع تزايد معدلات انتشار الفساد المالي "المعولم" تبقى تجارة السموم أكثر إغراء لمافيا المال لكونها الأكثر ربحية بعد تجارة السلاح، والأقل خطراً وتكلفة من هذا الأخير.. هذا من جانب، ومن جانب آخر تظل هذه التجارة ملاذاً قذراً لبعض دول العالم الثالث لتسد من خلالها ديونها للدول الكبرى التي لا ترحم.
تقارير عديدة تصدر دورياً تكشف عن تفاصيل جديدة في هذا الشأن كان آخرها: تقريرين.. أحدهما صادر عن الوكالة الدولية لمحاربة المخدرات التابعة للأمم المتحدة، والآخر صادر عن المرصد الدولي الجيو سياسي.
بالرغم من أن تقرير الوكالة الدولية يسجل حصيلة إيجابية لبعض الدول في مجهوداتها للحد من إنتاج وزراعة النباتات المخدرة إلا أن التقرير يثبت أن هناك حوالي 180 مليون شخص من سكان العالم يدمنون اليوم على استهلاك هذه السموم القاتلة.
جغرافية المخدرات عبر العالم
يشير التقرير إلى البرنامج الذي قدمته الأمم المتحدة للمراقبة الدولية على المخدرات ووضح أن هناك استقراراً في الأسواق الرئيسة للمخدرات، ويؤكد حصول تقدم نسبي في آسيا لمساعدة الدول المنتجة للخشخاش والأفيون لإيقاف إنتاجها، فيما تبقى كولومبيا في أمريكا اللاتينية التي تعتبر المسؤولة عن ثلثي الإنتاج العالمي من أوراق الكوكا، وحوالي 20% من تصنيع الكوكايين. في المقابل، قامت البيرو بتخفيض إنتاجها من أوراق الكوكا إلى النصف، وبوليفيا بنسبة 78% من مساحات زراعة الكوكا، بعد تنفيذ برنامج "مخطط الكرامة" الذي انطلق سنة 1997م في إطار برنامج الحد من انتشار زراعة النباتات المخدرة. وفي جواتيمالا توقف إنتاج الأفيون بشكل شبه نهائي، أما لبنان فقد تمكن من تطهير سهل البقاع من إنتاج نبات الخشخاش، بينما تمكنت مصر من القضاء على مظاهر إنتاج هذه النبتة التي ازدهرت في منتصف التسعينيات.
ومن ضمن الدول التي تمكنت من إنجاز برنامج تصفية إنتاج المخدرات، يشير التقرير إلى تقلص نسبة المستهلكين للمخدرات في الولايات المتحدة وأوروبا، وبخاصة بريطانيا وإسبانيا، بينما سجلت جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وآسيا الوسطى ارتفاعاً في مستوى الطلب على المخدرات بجميع أنواعها.
هذه المعطيات التي أوردتها الوكالة الدولية لمحاربة المخدرات التابعة للأمم المتحدة تظل نسبية ومحدودة قياساً إلى التقرير الأخير الذي أعده المرصد الجيو سياسي للمخدرات وتضمن رصداً شاملاً لوضعية تجارة واستهلاك السموم البيضاء خلال العام 2000م، ونشر مؤخراً.
وبالمقارنة بين التقريرين، يتضح لنا أن تقرير برنامج الأمم المتحدة للمراقبة الدولية على المخدرات يشكو من الهواجس السياسية بشكل كبير، ويظل محدوداً فيما يتعلق بالرصد الدقيق لهذه الظاهرة الخطيرة، فتقارير هذه الهيئة الأممية التي تصدر سنوياً تعتمد بالأساس على مجمل التقارير الوطنية المقدمة من طرف البلدان الأعضاء، وواضح أن هذه الأخيرة يكون هدفها حجب الكثير من الحقائق، إذا علمنا أن بعض هذه الدول المسؤولة عن تجارة المخدرات على نطاق عالمي تتوزع السلطة فيها بين الحكم والمافيا، كما هو الشأن في بعض دول أمريكا اللاتينية، وبعضها يعتمد في ميزانيته الداخلية على ما تدره هذه التجارة الرابحة، وبعضها الآخر يسعى إلى تلطيف الأوضاع في الداخل لنيل وسام التهنئة، وكل هذه العوامل تجعل من الرصد الدقيق لظاهرة المخدرات قضية متشابكة ومعقدة، مضافاً إليها أن الدول الغربية تحرص على أن تكون هذه التقارير مخففة لإبعاد نفسها عن دائرة الإدانة والاتهام كسوق رئيس وأساسي للمخدرات، وبعض جوانب هذه القضية يبسطها تقرير المرصد الدولي للمخدرات بشكل صريح.
تقرير المرصد الدولي
تقرير المرصد الدولي الجيو سياسي للمخدرات يشير إلى أن تجارة المخدرات أفادت كثيراً من العولمة، فاستمر ترويج المخدرات وتبييض فوائدها في الازدهار، وخاصة خلال الفترة بين عامين 1998 1999م، موضحاً أن إنتاج هذه المادة ما فتئ في التزايد في البلدان المنتجة الكبرى، على الرغم من مخططات مكافحتها، والخطابات المتحمسة، ومن ضمن هذه البلدان التي ذكرها التقرير تأتي في المقدمة : كولومبيا (الكوكايين) والمغرب (القنب).
وفي السنوات الأخيرة، أصبح فضاء "شينجن" الأوروبي "أهم سوق للمخدرات في العالم"، ولعبت إسبانيا دور النقطة الأهم من أجل دخول الحشيش والكوكايين بسبب قربها من المناطق الشمالية للمغرب التي تشهد زراعة المخدرات، ومثلت تركيا القاعدة الخلفية لتحويل الهيروين القادم.. قبل توزيعه في أوروبا الغربية عبر البلقان.
وقد ارتفعت معدلات تبييض الأموال الناتجة عن المخدرات في السنوات الأخيرة بسبب عولمة التدفق المالي، كما ارتفع الاعتماد على الأموال الناتجة عن تجارة المخدرات في مختلف الأنشطة السياسية، وأصبحت المخدرات عنواناً ل"تجريم عالم السياسة".(10/1)
ويؤكد التقرير أن إسبانيا أصبحت من أهم مراكز غسل الأموال اعتماداً على النشاط السياحي كواجهة، وتحويلات البنوك الإسبانية إلى أمريكا اللاتينية، وتقول تقديرات "بنك إسبانيا" والبرنامج الوطني لمحاربة المخدرات إن الأموال التي يتم غسلها بإسبانيا تتراوح بين 6 مليارات و12 مليار دولار. كما يشير التقرير إلى أن منظمة "إيتا" الانفصالية في إقليم الباسك تعتمد بدورها على تجارة المخدرات لتمويل نشاطاتها، وقدر هذه المبالغ بحوالي 2,5 إلى 3 مليار بسيطة يتم تخصيص أغلبها لتمويل "أنشطتها القانونية" ومساعدة أعضائها على الهروب إلى فرنسا ودول أخرى بأمريكا اللاتينية.
وقد أصبحت ظاهرة غسل الأموال الناتجة عن المخدرات على رأس أجندة المؤسسات والأنظمة في السنوات الأخيرة، وشرعت أوروبا والولايات المتحدة في الآونة الأخيرة في البحث عن السبل الكفيلة لمحاربة هذه الظاهرة، كما انعقد في تونس في شهر يوليو من العام الماضي مؤتمر جمع مسؤولي محاربة المخدرات في العالم العربي للاتفاق على مشروع قانون موحد لمحاربة غسل الأموال الناتجة عن تجارة المخدرات في العالم العربي، وفي شهر مايو 2000م انعقد في أبو ظبي اجتماع حول الوقاية من الأموال القذرة.
عجز السياسات المضادة
إزاء هذه المعطيات الخطيرة الماضية في التفاعل، تكشف المقاييس التي وضعتها المنظمات الدولية بهدف تفعيل شفافية القنوات المستعملة عن قصورها وعدم فاعليتها جراء الانعدام التام للإرادة السياسية عند التطبيق، ويقدم المرصد الجيو سياسي للمخدرات نموذج الحكومة الروسية في قضية الأموال التي حصلت عليها من صندوق النقد الدولي وتم تحويلها إلى بنوك أمريكية، والتي اتهمت بأنها قامت بتغطية الترويج المحظور، وغسل الأموال.
وينتقد المرصد السياسات الأوروبية المتعلقة بمحاربة تجارة المخدرات، فهذه السياسات تخضع لمقاييس غير مستقرة وتتغير كلما تعلق الأمر بزبائن أو حلفاء جيو سياسيين، فقد أغمض الاتحاد الأوروبي عيونه على الممارسات الإجرامية المرتبطة بالمخدرات في تركيا التي أصبحت أول منتج للهرويين في أوروبا، أما الولايات المتحدة فقد تسترت على علاقات الحاكمين في أمريكا اللاتينية مع مافيا المخدرات لإراحة حلفائها السياسيين والاقتصاديين. ويؤكد المرصد باستمرار، سواء في تقاريره السابقة أو في تقريره الحالي، أن التقارير التي تصدرها الإدارة الأمريكية تعكس مصالح واشنطن بالأساس، وتتماشى مع "شواهد حسن السلوك" التي تمنحها الإدارة الأمريكية أو تمنعها عن مختلف الدول في ضوء تقارير خاصة، ويرتبط هذا بالمساعدات الاقتصادية الأمريكية.
إن تجارة المخدرات تظل مع كل ما تشكله من خطر على الاقتصاد العالمي، إحدى وسائل الابتزاز في يد أوروبا والولايات المتحدة، وهذا ما يكشف فشل السياسات المتبعة منذ الستينيات للقضاء على هذه المواد السامة، بل إن هذه السياسات ذاتها ما هي إلا وسيلة لإبقاء الظاهرة، لأنها تسعى إلى القضاء على زراعات تدر أرباحاً هائلة على دول فقيرة دون تقديم بدائل اقتصادية وزراعية حقيقية، بسبب التجاهل الغربي المقصود لمقومات هذه الدول، فعبارة "الزراعة البديلة" التي تتبناها المنظمات الدولية لمحاربة زراعة المخدرات كشفت باستمرار عن صعوبة في التطبيق العملي لها، بسبب افتقاد الدول المنتجة للبنيات التحتية الكفيلة بإنجاح زراعات تعوض زراعة المواد المخدرة، كما أن مشكلة الديون التي تثقل الدول النامية وبخاصة في القارة الإفريقية، والمستحقة للمؤسسات المالية الغربية الربوية، تجعل من زراعة هذه المواد المخرج الوحيد لأداء ما بذمتها وسداد الديون ذات الفوائد العالية.
من هنا فإن الدول الغربية مطالبة، إن هي أرادت الحصول على نتائج إيجابية في صراعها ضد المخدرات، بإسقاط ديونها المستحقة على الدول الفقيرة التي تعتبر سلة للسموم القاتلة بفعل التقسيم الدولي الاستعماري للعمل، والقبول بدفع أسعار تشجيعية للإنتاج الزراعي المحلي، ورفع القيود الاقتصادية والتجارية والفلاحية المفروضة على تلك الدول من قبل المؤسسات التمويلية الغربية وتوصياتها الاقتصادية الخادعة. وإذا أخذنا مثالاً واحداً فقط، فإن بوليفيا تعتمد على ورقة الكوكا المخدرة لتحسين ميزان مدفوعاتها وتجنب الكوارث الاقتصادية، فزراعة الكوكا تتيح لها دخلاً سنوياً يقدر بمليار دولار.
ومهما يكن شأن السياسات المضادة للمخدرات، فستظل مسؤولية أوروبا قائمة باعتبارها السوق الرئيس، وقد عبر الرئيس الكولومبي الأسبق عن هذه الحقيقة حين قال: "مادام هناك حكومات لا تعمد جدياً إلى مواجهة موجة الاستهلاك في دولها، فنحن أيضاً لا نستطيع بمفردنا حل هذه المشكلة".
=============(10/2)
(10/3)
العولمة.. تبشير بالرأسمالية الأمريكية
يثير مصطلح العولمة (1) Globalization ومفاهيم الشراكة وعروض التعاون والتبادل الدولي الجماعي والثنائي والمتعدد الأطراف وطروحات النظام العالمي الجديد كافة جدلاً واسع النطاق، وأسئلة لا أول لها، ولا آخر، ويعبِّر عن اختلافات نظرية وعملية عميقة تصل حد التناقض والتصادم بين مختلف الأطراف الدولية، كما يُثير إشكالات P r oblematiques لا حصر لها لا تتصل بأبعاد وأهداف الفكرة في حد ذاتها، بل بما تعكسه من نماذج هيمنة لا تبدو مقنعة خلف صراع المصالح المستعر، وبما تفرضه كذلك من تبعية مباشرة لقطب دولي قوي.
ولعل أكثر وأهم الإشكالات تلك التي تتجاوز غموض الفكرة وتعدد مصطلحات التعبير عن الظاهرة، والخلافات التفسيرية الناشئة عنها إلى حكم حاد مُسبق عليها نتيجة تصورات مُسبقة كذلك، تضع في اعتبارها نتائج وسياقات التطور التاريخي المؤلم للصراعات الناشئة في أكثر الأحيان عن خلافات أيديولوجية وتصادم مصالح، كما لا تهمل تعسفية الغرب الخاصة بمسألة القوة وبمسألة الاحتواء Containment في الاقتصاد والسياسة الدولية والتي في مقدمتها: شرط اقتصاد السوق.
إن أطروحة العولمة تشمل كل مجالات النشاط التبشيري، فرغم طابعها الاقتصادي، إلا أنها لم تتم بمعزل عن تحولات السياسة والثقافة واللغة والفن... إلخ، التي تشكل روافد تصب في الرأسمالية، بمعنى أنها تقوم على فكرة أساسية "رأسمالية" في الأصل، وفي صورة إمبريالية جديدة ذات صفات وأبعاد حضارية وإنسانية ترتكز على دعاوى "الحرية"، و"الديمقراطية"، و"حقوق الإنسان"، و"الأمن الدولي"، و"المشروعية"...إلخ لتحصيل مصالحها دون أدنى مصادمة حتى تقوّض أسباب رفض المشروع برمته، وتفوّت فرصة اصطدامه بالثقافات المحلية والتناشز المعرفي Cogintive Dissonance وكذلك بالثقافات القومية والمصالح المترتبة والناشئة عنها التي تشكل جهة الرفض حتى هذه اللحظة.
السيطرة تحت ستار السلام: والغرب هو الخاسر الوحيد إذا حدث هذا الصدام أو الرفض الدولي، باعتباره تربى على ترف اقتصادي وسلوك معيشي تميّز بالبحبوحة على حساب تعاسة وفقر واحتياج أغلبية سكان الأرض، وهو ترف حققته الآلة العسكرية في حُقبة تاريخية محددة بالاستعمار المباشر وحققته الشركات المتعددة الجنسية(2)، عقب انحسار ذلك الاستعمار وتشكيل الحكومات الوطنية ومشاريع التنمية الرأسمالية، وهو الآن مهدد بفعل تنامي الوعي الوطني والقومي الذي يجتاح الأرض، وبفعل زيادة معدلات النمو الاقتصادي بأنماط غير رأسمالية، وهو ما جعل الغرب يُقدّم فكرته في طبق السلام والتعاون والشراكة والمصالح المتبادلة والأمن الدولي... إلخ، حتى يحقق مصالحه ويحافظ على امتيازاته دون أدنى مصادمة تجعل سعر فاتورة المواد الخام أكثر مما هو قائم بحساب اقتصاد الربح الرأسمالي الذي يضع في اعتباره شبح حروب التحرير الشعبية في فيتنام وكوريا والجزائر... إلخ، وما يمكن أن تثيره صدامات المستقبل من أزمات للنظام الرأسمالي برمته تجعله يفقد أسواقاً قائمة، ويواجه أزمات خطيرة.
وليس من شك من أن تطور الاقتصاد البرجوازي الغربي ونشوء الرأسماليات التجارية والصناعية الحديثة في شكل رساميل ولوبيات وإمبراطوريات، قامت على أكتاف سكان الجنوب، وهذه الحقيقة لا يمكن أن تنكرها أوروبا محل ولادة ظاهرة الاستعمار، حتى وإن فقدت سيطرتها ووزنها السياسي وثقلها الدولي لمصلحة أمريكا كقوة منتصرة منذ الحرب العالمية الثانية وأنتج ثقلها البشري والاقتصادي والتقني، "فمشروع مارشال" مثلاً لإعادة إعمار أوروبا لم يقطف ثماره سوى الأمريكان الذين أعادوا الإعمار بوصفات التبعية والهيمنة، هذا التحليل يُفسر إلى حد بعيد مسألة الوحدة الأوروبية، فأوروبا اضطرت تحت ضغط مطالب المستقبل وضغط المصالح إلى إعلان الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة والعملة النقدية الموحدة "اليورو" وإزاحة كل الفواصل، رغم ما يفصل بينها من عوازل الطبيعة وفواصل الجغرافيا السياسية وما يُفرِّق بينها من لغات وأديان وأجناس وإرث نفسي وثقافي مليء بالمواجهات والمشكلات، أفرزتها الحروب والتطاحنات والثارات التي لا تخفى على أحد من المطلعين على تاريخ تحولات أوروبا، لكنها اختارت صيغة الوحدة والتقارب والتعاون "الأوروبي الأوروبي"، واستبدلتها بصيغة الحروب القومية "وفكرة المجال الحيوي"، والصراع على المستعمرات ومناطق النفوذ، حتى تفلت من طوق الكماشة الأمريكية الجديدة التي تمثلها فكرة العولمة، وحتى لا تكون ضحية مشروع مارشال أمريكي جديد.(10/4)
ورغم ما يُميِّز التحالف التقليدي "الأوروبي الأوروبي" على الصعيد الدولي من كونه أقوى التحالفات وأكثرها تأثيراً على الساحة الدولية، إلا أن الأوروبيين ينظرون إليه كأداة مشاركة دولية بمعنى أنه يجب أن يتم خارج ساحة أوروبا، واكتشفوا أنه لا حلف لأوروبا إلا مع نفسها، وحتى تبقى أوروبا للأوروبيين، فإن الاتحاد الأوروبي يعني بكل المقاييس قفل باب أوروبا أمام أطروحة العولمة وأمام الحليف الأمريكي بالتحديد، الذي عليه أن يرتع كما يشاء، وأينما يشاء، ولكن بعيداً عن المراعي الأوروبية.
الهوامش
(1) إن لفظة "العولمة" هي إحدى المقابلات العربية لكلمة Globalization الإنجليزية، ولمثيلاتها في اللغات الأوروبية، ومن الباحثين العرب من اختار لفظة "الكونية" في مقابل كلمة Mondialization أو "الكوكبية" في مقابل كلمة Plonetavixation، ولكن لفظة "العولمة" أصبحت الأشيع والأروج من غيرها، وهي كلمة لها مثيلات من حيث الصيغة الصرفية في اللغة العربية، فمن نظائر عولمة: حوقلة "بمعنى الضعف"، وعومرة: بمعنى الاختلاط والجلبة وجمع الناس وحبسهم في مكان، وكوكب وكوكبة: أيضاً بمعنى الجماعة، ونورج ونورجة، وكثر هذا الوزن في كلام المحدثين، فقالوا: قولبة وبلورة وحوسبة.
(2) تكوَّنت بعض هذه الشركات في القرن السادس عشر، واليوم أصبح بيدها الحلّ والربط بعد أن أصبحت ذات حجم أكبر من الحكومات نفسها، ولقد أوجدت من خلال نفوذها الهائل والمؤسسات المالية التي تدور معها في المدار نفسه نظاماً تستطيع من خلاله تغيير التشريعات لتتلاءم مع مصالحها حتى ولو اقتضت الإجراءات تفكيك وإلغاء وتقليص الخدمات الاجتماعية مثل العلاج الطبي، والمساعدات الطبية والمنافع الاجتماعية، واليوم نجد مائة شركة في الفضاء الاقتصادي العالمي وهي تتحكم ومنذ عام 1995م في عملية العولمة عبر وسائل الإنتاج والترويج السلعي.
==============(10/5)
(10/6)
بين الصدام والحوار
اختير عام 2001م عاماً لحوار الحضارات، تلك التي تقترب نحو الصدام كلما قلت المسافات الجغرافية بينها.. حيث الشعوب الضعيفة هى الضحية الأولى لهذا الصراع والمعرضة لذوبان الهوية، إلا إذا بادرت بالحصول على أداة دفع تضمن بها بقاءها، وتواكب عصره، وتتقن في الوقت نفسه لغة الحوار.
تعدد الحضارات : منذ أن انتشر الإنسان على وجه الأرض وذهب مذاهب شتى، أخذت تتعدد الحضارات، بل تنافرت بعد أن ضلت طريقها وخرجت عن منهج الله القويم.. وتلونت بطبيعة الحال الثقافات، تصادمت تارة نتيجة تضارب المصالح، وعاشت بعضها بجوار البعض بسلام في أحيان أخرى. وقد أشير إلى صدام الحضارتين الفارسية والرومية في القرآن الكريم. إلا أنه لم تكن التصادمات في قديم الزمن كثيرة كماً وكيفاً، لأسباب أهمها اتساع المسافات الجغرافية بين البلدان وندرة الاصطكاك بين الشعوب.
ثم تحول العالم إلى قرية صغيرة وتقاربت أكنافه منذ مطلع القرن العشرين بفضل اختراع وسائل اتصالات حديثة كالطائرة والهاتف والمذياع والتلفاز وغيرها. ومع ذلك بقي شيء كبير من الحواجز المصطنعة بين الشعوب، مما ضمن الاستقلال لكثير من الشعوب، فضلاً عن وجود معسكرات فكرية عالمية متضاربة كالشيوعية والرأسمالية خلقت أقطاباً استنجد بها شطر من الضعفاء للحفاظ على هويته.
بيد أن عصر الثورة المعلوماتية الذي حل في عقد الثمانينيات، غيّر كل هذه المعايير؛ حيث اتسعت دائرة الاتصال بين الشعوب المختلفة.. وذلك بظهور الفضائيات؛ لتفسح المجال للتأثير والتأثر إيجاباً وسلباً في أكثر من إطار، ثم انهار الاتحاد السوفييتي الذي أدى غيابه لافتقاد التوازن السياسي الدولي لصالح المعسكر الرأسمالي وإفساح المجال للغرب لفرض ثقافته عملياًَ على الشعوب الأخرى عنوة. وظهر دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليأخذا في التحكم على مصائر الدول المقترضة سياسياً واقتصادياً وحتى ثقافياً، ثم ظهرت منظمة التجارة الحرة؛ ما أتاح الفرصة للدول المستكبرة للهيمنة على الدول المستضعفة، وأخيراً ظهرت شبكة الإنترنت العالمية فاخترقت الحواجز الثقافية والأمنية والتجارية والمعلوماتية كافة، وحلت ظاهرة "العولمة" الشاملة، فحصل في آخر المطاف احتكاك غير مسبوق بين الحضارات المتضاربة.
دواعي التصادم
أولاً: دوافع حضارية :
تنبأ "صموئيل هينتنجتون" السياسي الأمريكي المعروف وأستاذ العلاقات الدولية، وطارح نظرية "تصادم الحضارات" في مقاله في صيف (1993م) باندلاع صراعات مستقبلية سوف تتركز على معايير ودوافع ثقافية وحضارية، وأن الصراع على وجه التحديد سيكون بين الحضارة الغربية من ناحية، وتحالف إسلامي كونفوشي من ناحية أخرى؛ وأيضاً بين الحضارة الغربية، ومجموعة الحضارات الأخرى الهندوسية والبوذية واليابانية، وحضارة أمريكا اللاتينية؛ أي أن المستقبل سيشهد مواجهة بين الغرب وبقية العالم. وبذلك تكهن أن العالم سيتوجه نحو التقسيم إلى ثمانية أقطاب رئيسة: الصين، واليابان، وشبه القارة الهندية، والعالم الإسلامي، والغرب المتمثل في أوروبا وأمريكا الشمالية وروسيا، وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وأوضح هانتنجتون أن أحسن نموذج للتصادم بين الثقافات هو التصادم بين الإسلام والغرب.
وبعد ثلاث سنوات من مقالته الشهيرة أصدر هاينتنجتون كتاباً بعنوان "صراع الحضارات: إعادة صنع النظام الدولي" انتهى فيه إلى القول: إن صِدام الحضارات هو الخطر الأكثر تهديدًا للسلام العالمي، وأن الضمان الأكيد ضد حرب عالمية هو نظام عالمي يقوم على الحضارات. وأدخل في إطار "الحضارة" الآداب والتقاليد، والديانة والثقافة، وركز على دور المذهب بهذا الصدد.
ثانيا: دوافع اقتصادية :
ويرى هاينتنجتون أن العامل الثاني للتصادم هو: الدوافع الاقتصادية؛ نتيجة النقص في الموارد الغذائية، وكثرة السكان، والاضطراب السكاني، وتضارب المصالح الاقتصادية، وحول ملكية المعادن، ومصادر المياه والبحار؛ بصورة أشد فتكاً وشراسة.. وبالطبع تناسى أن يذكر ظلم الإنسان لأخيه كعنصر جوهري في النقص في الموارد الغذائية. وذكر أن زمام الاقتصاد سيفلت بمرور الوقت من أطر البلاد والقوميات، ليستقر بأيدي الشركات المتعدية الجنسية. وهكذا تفاقمت أسباب الصدام، في زمن تساعد التقنية المتطورة في تقليل المسافات بين الحضارات المتضاربة المتنافرة، في عصر العولمة..
ظاهرة العولمة(10/7)
وبرغم أن كثيراً من الشعوب لا يرحب بنظرية "العولمة" ويعتبرها لعنة الحضارة الحديثة، وهم على جانب كبير من الحق ولا سيما فيما يتعلق ب"عولمة الثقافة".. إلا أن خبراء الاقتصاد يرون أن "عولمة الاقتصاد" من متطلبات الاقتصاد الحديث، الأمر الذي لا مفر منه. إذ البقاء حسب أحدث النظريات الاقتصادية للشركات التي تخرج من الإطار الوطني لتمر بمرحلة الإطار الإقليمي ثم لتدخل الإطار الدولي. فتوسيع إطار السوق يعني تخفيض الأسعار، وجذب الاستثمارات، والتمكن من استخدام المبتكرين والموهوبين في مجال الاقتصاد. ولنا في الاتحاد الأوروبي، ومنظمة "آسيان" في جنوب شرق آسيا، و"إيكو" في بلاد جنوب ووسط آسيا ومنظمات اقتصادية أخرى في أمريكا اللاتينية.. أمثلة لشراكات إقليمية تعمل خارج نطاق البلد الواحد.
وقد أجريت دراسات على خمسة وعشرين ألف شركة عالمية في غضون (1996م) إلى (1999م) اختيرت من بينها (مائتا) شركة نالت وسام "أحسن الشركات"، على خلفية التطورات التي حصلت بها، وعلى أساس الزيادة في المكسب المادي بنسبة ثلاثة عشر ضعفاً أكثر من نظيراتها من بين سائر الشركات، وزيادة عشرة أضعاف في مجال إيجاد فرص الوظائف، وزيادة تسعة أضعاف في مجال ارتفاع أسعار الأسهم. وأوضحت الدراسات أن مبادرة هذه الشركات لشراء الشركات الصغيرة أو الاندماج معها، بهدف التمكن من التنافس، كانت أحد أهم عناصر نجاحها. وأوضحت الدراسات أيضاً أنه لا توجد شركة آسيوية بين هذه الشركات المائتين، وقد احتلت الشركات الأمريكية رأس القائمة، تليها الشركات الأوروبية، وكان أهم أسباب نجاح الشركات الأمريكية وجود قوانين وفرت مناخاً ثقافياً واقتصادياً ملائماً لهذا التطور الاقتصادي، بالإضافة إلى استخدامها بصورة موسعة جداً شبكة الإنترنت لتسهيل نشاطاتها التجارية.
الكفاءات: المستهدف الأول
ويرى خبراء الاقتصاد أن التجارة المستقبلية الدولية ستتركز على مجالات التقنية المعلوماتية، وتجارة الخدمات، وصناعة وتصدير البرمجيات، تلك التي تعتمد على العلم والتقنية أكثر مما تتكئ على رؤوس الأموال. ومن هذا المنطلق فالأدمغة وأصحاب الكفاءات العلمية التي تدير هذه التجارات تعتبر رؤوس أموال غالية.
وقد تنزح الأدمغة بالملايين من العالم الثالث لدوافع متعددة اقتصادية واجتماعية وسياسية، متجهة إلى البلاد الغربية.. لتكون بذلك ضحايا العولمة بصورة حادة. ويواكب ذلك قيام الدول الكبرى بجذب ذوي الكفاءات من العالم الثالث، وعلى رأس قائمة هذه الدول الولايات المتحدة. وقد قام الكونجرس الأمريكي مؤخراً بإعداد لائحة قانونية تسمح للشركات التي تعمل في مجال "التقنية المتطورة" بإحضار 600 ألف خبير في مجالات مختلفة إلى الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاث المقبلة. وقد صوَّت مجلس النواب الأمريكي لصالح هذه اللائحة بعد إبداء الدكتور "جري بيكر" الخبير الاقتصادي الأمريكي الحائز على شهادة نوبل في الاقتصاد وجهة نظره بخصوص منافع عملية اجتذاب الأدمغة.
وقد قال الدكتور بيكر في مقاله: "...لم يعد تطور البلد رهين الآليات وتوافر السيولة والأرض؛ وإنما وجود أكبر عدد ممكن من المختصين المهرة والخبراء، الذين هم أحسن رأس مال في هذا العصر، وهو أهم عوامل التطور في عصر تقنية المعلومات المتطورة، وإن أنفع وأحسن استثمار هو الاستثمار في قطاع تدريب الخبراء والكفاءات ذات الاهتمام والابتكار والتجربة".
وفي هذا الصدد.. أنشئت مؤسسات أمريكية لدراسة سبل الاستفادة من الأدمغة الهاربة من دول العالم الثالث. فقد كتب "ريتشارد بو" الخبير الأمريكي في شؤون روسيا كتاباً في 305 صفحة، بعنوان: "كيف نستفيد من الخبراء الروس القادمين" يستفيد منه رؤساء الشركات الأمريكية المعنية كخير دليل. وكتب "بو" في كتابه يقول: "إن الذي قدم "إستفان باتشيكوف" اللاجئ الروسي في مجال التقنية المتطورة للولايات المتحدة قدّم لنا خدمة كبيرة بالغة الأهمية، وإنه بعد عشرين عاماً من إنجازه عثرت الولايات المتحدة على تقنية عالية ومن جرائها حصلت على مليارات الدولارات.
أهمية الحوار
وهكذا يتضح أن صدامات من أجل المصالح قادمة من شتى الجهات، وإن مستقبل البشر حافل بالأخطار التي قد تكون على صورة حرب عالمية ثالثة مدمرة. وإنه يجب على المسلمين الذين لايشكلون تكتلاً سياسياً أو اقتصادياً قوياً، ويعانون من ظروف عسرة ويواجهون تداعيات من الهوان وانتهاكات لحقوقهم في أكثر من مكان عدم الإهمال في القيام بإعداد العدة من القوة العسكرية والثقافية والاقتصادية ما استطاعوا للمواجهة والدفاع عن كيانهم، وبجانب ذلك معرفة مبادئ الحوار كخيار بديل للصدام، ومن هذا المنطلق تتبلور أهمية الحوار.(10/8)
يقول أحمد أبو حسن زرد الباحث في الشؤون السياسية : يشكل حوار الحضارات أحد الاهتمامات الإنسانية في عصر العولمة؛ حيث تعقد الندوات والمؤتمرات على المستويات المحلية والإقليمية والدولية كافة لاستشراف المستقبل بشأن هذه المسألة، والبحث بصفة أساسية عن القواسم المشتركة بين الحضارات الإنسانية؛ وذلك من أجل احتواء كل العوامل التي قد تفضي إلى حدوث صراع حضاري قد تكون له عواقبه الوخيمة على مسيرة التقدم الإنساني".
ويرى خبراء العلاقات الدولية الإسلامية أن التعاون والتفاهم والتعايش هي سمات أساسية للعلاقات الخارجية الإسلامية ليس هذا فحسب، بل إنَّه لا توجد صعوبات في العمل مع الأطراف الدولية كافة لتطوير قواعد القانون الدولي ووضع أسس نظام دولي جديد أكثر عدلاً واستقراراً يحظى بالقبول من الجميع.
اختيار خيار لغة الحوار لا يعني بالضرورة الشعور بالخذلان والضعف فتاريخ المسلمين وهم في قمة الهيمنة السياسية حافل بالحوارات مع غيرهم. ففي ذروة الفتوحات الإسلامية (632-750م) كانت هناك علاقات سلمية بين الدولة العباسية وبيزنطة، وحدثت صلات وثيقة بين "أكس لاشابيل" عاصمة "شارلمان" ملك الفرنج وبين بغداد عاصمة الرشيد.
وبعد انتهاء الحروب الصليبية أبرِمت معاهدات الصداقة والتحالف بين السلطان المملوكي "الأشرف خليل" سلطان مصر وسورية و"دون جيم" ملك الأرجون، والتي نصت على أن يكون الأخير صديقاً للأشرف خليل وعدواً لأعدائه، ثم توثقت العلاقات الدبلوماسية بين السلطان المملوكي وعدد من الدول الأوروبية.
موقف العالم من الحوار
حين طرح الرئيس الإيراني محمد خاتمي نظرية حوار الحضارات في سبتمبر عام 1997م خلال كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لقيت الفكرة إقبالاً، وعليه حدد عام 2001م عام حوار الحضارات ليكون الحوار معياراً للعلاقات الدولية.
يقول خاتمي عن وجهة نظره: "..إن نظرية حوار الثقافات ليست مجرد شعار فارغ عن المضمون، وإنما حاجة البشر الملحة.. يدل على ذلك إقبال الشعوب عليها، وإن الحوار يجب أن يحتل منعطفاً جديداً في العلاقات الدولية.."
وقال "كوفي عنان" الأمين العام للأمم المتحدة في كلمته خلال افتتاح قمة الألفية بهذا الصدد" من الممكن أن يحل الحوار محل الصدام والنزاع. وإنه الحوار لأحسن أداة أخلاقية ودينية" وعين كوفي عنان "جياندو دومينكو بيكو" مندوباً خاصاً لمتابعة موضوع الحوار، وكلفه بأن يتصل بالمثقفين من البلاد المختلفة لتحديد إطار يجب أن يحدث الحوار فيه ليقدم لائحة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وقد بذلت إيران جهداً كبيراً في تكريس هذه الفكرة، منها على سبيل المثال انعقاد المؤتمر الثاني لحوار الحضارات الذي تم في طهران في نوفمبر الماضى بحضور ممثلين للحضارات الأربع القديمة: مصر، وإيران، واليونان، وإيطاليا (روما القديمة) التي بإمكانها لعب دور مهم في حل قضايا يعاني منها البشر، على رأسها قضية الفقر المدقع، والظلم الاجتماعي، وتهريب وإدمان المخدرات، والأزمات الأسرية والأخلاقية، والجرائم المنظمة وغير المنظمة، وتلوث البيئة، وعشرات من القضايا الأخرى ذات الصفة الدولية خارج إطار الحدود الجغرافية والعرقية والدينية، وضرورة استمرار حوار الحضارات، وقبول مبدأ تنوع واختلاف العادات والحضارات.
وكذلك أبدت منظمة المؤتمر الإسلامي اهتماماً بهذا الشأن. فمنذ عام (1997م) تدعو المنظمة إلى إجراء حوار بين الإسلام والغرب. ونصت في ميثاقها على أن أحد أهدافها الأساسية هو إيجاد المناخ الملائم لتعزيز التعاون والتفاهم الدوليين"، وأكدت "أن الحضارة الإسلامية تقوم بشكل ثابت عبر التاريخ على التعايش السلمي والتعاون والتفاهم المتبادل بين الحضارات، وكذلك على التحاور البنَّاء مع الديانات والأفكار الأخرى.
أهداف الحوار
ولعل الرئيس الإيراني أراد بطرح نظرية الحوار إنجاز أهداف أهمها:
أولا: إجراء الحوار بين المسلمين بمختلف حضاراتهم قبل انعقاده مع غيرهم بهدف التقريب بينهم. ونلاحظ أن فكرة تشكيل "سوق إسلامي مشترك"، وتعزيز السياحة بين الدول الإسلامية من أجل التقريب بين الأمة الإسلامية من حصيلة هذه المحاولة. وقد تبنت إيران شعار "السياحة ذريعة لإبلاغ رسالة السلام والتعرف على الثقافات" في مجلس وزراء السياحة لأعضاء المؤتمر الإسلامي في شهر أكتوبر الماضى، حيث يرى الخبراء أن السياح خير سفراء لبلادهم لحل المآزق الثقافية العالقة بين الشعوب المختلفة.
ثانياً: فتح باب الحوار مع الغرب ومواجهة العولمة الثقافية والحضارية، بصورة إيجابية فاعلة وبناءة، ذلك تحاشياً لضغوط وابتزازات يمارسها الغرب على غيرهم من الشعوب بصورة مباشرة وغير مباشرة وبشتى الوسائل.(10/9)
ثالثاً: الاعتراف بما أسماه خاتمى ب"الديموقراطية العالمية"، تلك التي ترسخ مبدأ السيادة والإرادة الحرة لكل الشعوب. فمن ثمرات الحوار المرجوة الاعتقاد أن لكل شعب حقه في الاحتفاظ بثقافته المحلية، ذلك الذي يعتبر من صميم الديموقراطية، وهو ما تحبذه الشعوب. ويتساءل خاتمي: "إن الثقافات هي أداة التعارف والتفاهم، فكيف يحاول الغرب محوها ؟" ويضيف: "لماذا يركز على أبعاد التصادم ويجري تكبيرها بينما بوسعنا الحوار مستعينين بثقافاتنا.. وإن تعدد الثقافات لا يؤدي بالضرورة إلى التخاصم والتصادم..
ويعتقد خاتمي أن نظرية الحوار سوف تؤدي إلى تحسين العلاقات السائدة بين الشعوب، إذ..في غياب ثقافة حوار الثقافات، تعطي البلاد التي تتمتع بقوة اقتصادية وتفوق في مجال التقنية العسكرية لنفسها الحق في فرض إرادتها على الشعوب الأخرى. وإن نظرية الحوار تريد تعديل هذه القاعدة الجائرة، وهذا الأمر يخلف ديموقراطية دولية على غرار الديموقراطيات الموجودة على مستوى الشعوب والدول. فكما أن للأفراد في المجتمع حقوقاً متساوية، فهكذا الشعوب، وهذه الديموقراطية الدولية تتضمن رسالة السلام الدولي للعالم. وإذا ما اعترفنا بهذه القاعدة يكون الحوار لا الصدام أداة العلاقات بيننا. وعندئذ يستقر السلام الدائم. ويجب أن تساهم الشعوب والأمم كافة في ذلك.. وهنالك يمكن أن يسود السلام..".
من يحاور ؟
أولاً: صناع القرار من السياسيين الذين لهم دور كبير في تكليل فكرة الحوار بالنجاح.
ثانياً: علماء الدين وبرغم أن العالم المعاصر يتأثر بنوع ما بالنظام المادي الغربي، إلا أن الغرب نفسه يعترف أنه لايزال للدين مكانته في قلوب الشعوب في حسم النزاعات الدولية. ومن هذا المنطلق فقد قامت الأمم المتحدة بإنشاء مجلس استشاري للأديان لإعطاء النصح والكلمة حول دور الدين في تحقيق رسالة السلام.
ثالثاً: المثقفون إن حوار الحضارات أو الثقافات يعني حوار المثقفين قبل غيرهم. وتقوم نظرية الحوار على أرضية عدم حصر الشؤون العالمية بأيدي السياسيين، وإنما هناك دور للمثقفين والجامعيين والصحفيين وأصحاب الفنون الأخرى يجب أن يلعبوه وأن يشاركوا في تشييد جسر العلاقات بين الشعوب.
لكن هل أفسح المجال عملياً للمثقفين ليقوموا بلعب أدوارهم ؟
نلاحظ ترحيب الكتاب والمثقفين بالحوار، بيد أنهم يعجزون عملياً عن شق طريقهم إلى لعب دور، نظراً لأن ما أفسدته السياسة ليس باليسير، من ذلك إبعاد المثقفين من ساحة صناعة القرار. ويعتقد المثقفون أن الجانب السياسي لا البعد الثقافي له دور اكبر في منع الحوار. ومن هذا المنطلق، ولكي يتمكن المثقفون من القيام بمهمتهم يجب توفير إمكانات معنية لهم. ويكاد يتفق السياسيون أنفسهم ألا معنى لحوار الحضارات والثقافات دون مشاركة المثقفين.
رابعاً: أصحاب الفنون الأخرى، وتشير الدراسات إلى أن أصحاب الفنون الأخرى لا يزالون بمعزل عن لعب دور في حقل تبادل الثقافات.
ويقول "محسن دامادي" كاتب الأفلام الإيراني: "إن الفنون تقارب بين الشعوب، حيث إن الثقافة والفن هما اللذان يهيئان مناخ السلام بين الشعوب. بيد أن بحث حوار الحضارات يصطبغ بصبغة سياسية أكثر منها ثقافية. ومن هذا المنطلق يمكن أن تتكلل نشاطات الحوار بالنجاح إذا ما خرجت من صبغتها السياسية".
ويبقى التساؤل بشأن ما مدى جدوى التحاور؟
يرى الخبراء أن من مبادئ التحاور التفاهم السلمي، لا فرض القيم أو غزو المعتقدات، وأنه لن ينفع الحوار بين الطرفين الشرق والغرب إلا في وضع يكون فيه كلا الجانبين المتحاورين متساويين. في ظل هذا المناخ يصبح تبادل قيم الحضارات بين الشعوب ممكناً. فلكي يستطيع المسلمون أن يقوموا بحوار إيجابي، يجب أن يكونوا متساوين مع منافسيهم، ويشكلوا تكتلاً إسلامياً موحداً. وبعبارة أخرى يجب أن تتحقق مكملات الحوار. فليس معنى قبول مبدأ الحوار، التقليل من أهمية الإعداد الشامل عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وإهمال أخطار الأعداء. إذ يجب أن تستعد الأمة الإسلامية لمواجهة ظاهرة العولمة الثقافية التي تفرض تأثيرها على الشعوب، كما يجب تربية الأجيال لتكون مستعدة لمواجهة الثقافات الغربية ولا سيما الأمريكية بصورة فاعلة وإيجابية.
وما لم يدرك المسلمون أن عليهم أن يسلكوا سبيل الوحدة الإسلامية، فلن يكون لديهم أي أمل بالاستقلال السياسي، وسيكونون أيضاً تابعين اقتصادياً، وسيبقون تحت سيف هيمنة القوى الخارجية الكبرى.(10/10)
وعلى صعيد آخر، لا يجب التهويل من الهيمنة العسكرية الأمريكية وقوتها الاقتصادية، بالشكل الذي يثبط عزيمة المسلمين. يقول أسعد صقر أستاذ الفلسفة السوري: ".. التاريخ يعلمنا أن الهيمنة لا تستطيع أن تستمر؛ لأنها تخلق دائماً القلق والثورات والتمرد. ذلك إن الاقتصاد الأمريكي يجد صعوبة كبيرة في التناسب مع هذه القوة العسكرية الهائلة للسيطرة على العالم، فضلاً عن وجود مشكلات كثيرة داخل المجتمع الأمريكي، ومنها مشكلة الصراع العرقي الذي لا يبدو الآن ظاهرًا بشكل كبير، ولكنه بين الحين والآخر يعبر عن نفسه بأشكال شديدة العنف والقسوة. فلن يمكن القول إن هذا النظام يحمل في طياته تحديات كبيرة سوف تعيد إلى العالم نوعاً من توازن القوى، وإن المستقبل سيكشف هذا.. قد يكون تحالفاً أوروبياً - آسيوياً، أو تحالفاً أوروبياً متوسطياً.
العولمة تشهد تحديات كبيرة في أوروبا وفي اليابان وفي قلب الولايات المتحدة نفسها، علاوة على العالم الثالث الذي يشكل الجزء الأكبر من البشرية، فلا نستطع أن نهمل أو نتجاهل هذه الدول التي لن تبقى خائفة أو مجرد كم مهمل أمام الهيمنة الأمريكية.
وإذا ما آمن المسلمون بأن المستقبل للإسلام، وأخذوا حذرهم وأعدوا عدتهم الأمر الذي يعتبر بمثابة عنصر مكمل للحوار عندئذ يثمر التحاور، وتحتل الأمة الإسلامية مكانة سامية بين الأمم في عصر العولمة بإذن الله تعالى.
==============(10/11)
(10/12)
تقسيم العالم العربي بين مشروعي الشرق أوسطية الأمريكية والبحر متوسطية الأوروبي
حتى تضمن الأمة عنصر وحدتها وإرادتها في الاختيار والقرار
على الرغم من مظاهر الاتفاق والتعاون المكثفة بين الولايات المتحدة وأوروبا في المجالات السياسية والاقتصادية، إلاّ أن حدة التنافس بين الطرفين تظهر بشكل حاد في السباق الاقتصادي والتجاري وامتلاك النفوذ الأوسع في حركة الاقتصاد العالمي.
ويظهر الوطن العربي من بين أبرز مناطق التنافس.. فأوروبا كمجموعة تحاول جذب الوطن العربي إلى مشروع تعاوني في إطار سياسة عولمة الاقتصاد، يسمى مشروع "البحر متوسطية"، حيث عقد لهذا المشروع مؤتمر في "برشلونة" بقصد تأسيس مشاريع تعاونية أوروبية متوسطية مع الدول العربية الواقعة على البحر المتوسط في مقابل كل دول أوروبا، وفي ذلك تسعى أوروبا لإبعاد الولايات المتحدة عن الدخول في هذه المشاريع.
بالمقابل تسعى الولايات المتحدة لإقامة "السوق الشرق أوسطية" لتتأكد من خلالها السيطرة والحضور الأمريكيين لما لهذه السوق من تأثيرات على التكتلات الدولية أو الإقليمية الأخرى.
ولا تريد الولايات المتحدة وفقاً لمنطق مصالحها وأهدافها المرغوبة التفريط بالمنطقة التي ورثتها وفق منطق الهيمنة عن الاستعمار البريطاني والأوروبي في آسيا وإفريقيا منذ نهاية الخمسينيات.
على هذا الأساس، فإن دول المجموعة الأوروبية تدرك أبعاد الاستراتيجية الأمريكية فلم تكن متحمسة لقمة عمَّان في إطار "مشروع الشرق أوسطية" ذلك لأنها ستضع إمكاناتها المالية في خدمة المصالح الأمريكية دون منافع، فجاء رد الفعل الأوروبي لأجل مواجهة التنافس الأمريكي بعد أقل من شهرين من عقد مؤتمر "عمّان".
ويبدو الموقف الأمريكي مصمماً على تحقيق السبق بالاستفادة من المشكلات الاقتصادية والسياسية التي لا يزال الاتحاد الأوروبي يواجهها.. ذلك لأن التفكير الأمريكي رغم التظاهر بالتأييد للاندماج الأوروبي، إلا أنه يسعى في إطار الشرق أوسطية إلى احتواء أوروبا ومنعها من التحول إلى قوة عالمية قادرة على إعادة الحركة لمبدأ توازن المصالح والقوى الذي أصابه الجمود بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.
ورُبَّ سائل يسأل : ما المظاهر والسياسات التي يُقاس فيها على قضية السعي الأمريكي لاحتواء الاندماج الأوروبي؟
إن هذه المظاهر تبرز بشكل جلي في تعمد الولايات المتحدة تهميش الدور الأوروبي في عملية التسوية، وفي الطريقة التي تعاملت بها مع قضية البوسنة والهرسك، وإيرلندا بناء على مبادرات أمريكية، والتوصل إلى اتفاقات تحت الإشراف الأمريكي علماً بأن الأخيرتين أزمتان في القارة الأوروبية.
إذن فالهدف من الوجود العالمي الأمريكي وخصوصاً في أوروبا إنما هو رسالة للأوروبيين بأن الولايات المتحدة هي القوة العالمية القادرة على ضمان الأمن والسلام العالميين : ليس في منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط فحسب ولكن في أوروبا أيضاً.
وبشكل عام، فإن الأنظار الأوروبية الطامحة نحو الجنوب في كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا تحاول جعل النشاط الأوروبي مع العالم الخارجي يتجه نحو الجنوب وليس شرق أوروبا، فالتفكير الأوروبي يتجه نحو تشكيل سوق لدول البحر المتوسط مع الاتحاد الأوروبي تشمل كل دول أوروبا بالانفتاح على الأقطار العربية "لبنان، سورية، فلسطين، مصر، تونس، ليبيا، الجزائر، المغرب، موريتانيا، والأردن".
وقد عبَّر عن الشعور بحدة التنافس الأوروبي الأمريكي وزير الخارجية الفرنسي في قمة "برشلونة" حيث قال: إن ثقل الولايات المتحدة جعل المتوسط بحراً خاضعاً للنفوذ الخارجي وللمرة الأولى.
لذلك تسعى أوروبا جاهدة لإقناع مجموعة من الأقطار العربية لتشكيل مؤسسات السوق تحت المظلة الأوروبية التي تضم بلدان الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة بلداً ومعها شركاء المتوسط الاثنا عشر بلداً، والعولمة الاقتصادية لإمكانات الدول الداخلة في المشروع "البحر متوسطية"، حسب المنطق الأوروبي، فهي منطقة تجارة حرة لأربعين دولة ب(800) مليون نسمة، إضافة إلى معالجة شؤون الأمن والهجرة و"الإرهاب"، وانتشار أسلحة الدمار الشامل وتنظيم شؤون التجارة ومشاريع النفط والغاز ودعم "الديمقراطية"، ودعم "حقوق الإنسان" بحيث ينتظم ذلك كُلُه في ميثاق ومؤسسات على شاكلة "مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي".
وعموماً فإن الرغبة الأوروبية مازالت تصطدم ببعض العراقيل التي من شأنها أن تجعل المشروع مجرد دعاية ودعوة إعلانية، وذلك بسبب صعوبة تحديد الإطار الجغرافي الذي يشمل الأطراف المعنية بالمشروع، فأحياناً يُفهم أن المشروع موجّه إلى دول الاتحاد المغاربي "المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، وموريتانيا"، في مقابل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا ومالطا والبرتغال من أوروبا، وأحياناً يشمل المشروع كل الأقطار العربية فضلاً عن كون المشروع لم يبلغ من التفاعل والاتصالات سوى تبادل الآراء، كما لا توجد أي من القوى الأوروبية الكبرى تدعمه بعكس المشروع الشرق أوسطي المدعوم من قبل الولايات المتحدة وعدد مهم من دول المنطقة.
خفايا مشروعات الشراكة الدائمة(10/13)
وتحاول أوروبا إقناع الأقطار العربية لتحويل التعاون الثنائي المشتت إلى شراكة ثابتة ومنظَّمة في إطار هيكلي يقوم على التبادل الحر، ورغم أن تأثيرات هذا التبادل سلبية على الأقطار العربية في المرحلة الأولى، ولكن حسب الرؤية الأوروبية وعلى المدى البعيد سيسمح هذا التبادل بتخفيف أسعار وكلفة المواد المستوردة، خصوصاً في مجال التصنيع، وتُرغِّب أوروبا الأقطار العربية بفتح الباب أمام الاستثمارات الأوروبية التي تؤدي إلى النمو الاقتصادي، وتحاول تبعاً لذلك إغراء الأقطار العربية بتقديم مبلغ بالعملة الأوروبية، يوازي سبعة بلايين دولار كمساعدات مجدولة على خمس سنوات ل(12) دولة تضم (تركيا، الكيان الصهيوني، قبرص، ومالطا، إضافة إلى الأقطار العربية)، ومبلغ آخر يوازي المبلغ المذكور كقروض يحددها البنك الأوروبي، وهذه العملية تهيئ لأوروبا استعادة دورها المفقود في المنطقة وتحويل الشراكة الاقتصادية لاحقاً إلى شراكة سياسية وأمنية.
ومن خلال التمعن والمقارنة بين "الشرق أوسطية" و"البحر متوسطية" نجد بوضوح حدة التنافس القائمة بين الولايات المتحدة وأوروبا.. وفي نتيجتها النهائية وأهدافها بعيدة المدى فإن تلك المشاريع تؤدي إلى تشكيل وضع جديد في خريطة الوطن العربي، بحيث ينفصل المغرب العربي عن عمقه في أقطار المشرق العربي.
وسواء كانت صيغة العَوْلَمة الاقتصادية للمنطقة بتأسيس التكتلات العالمية الاقتصادية نوعاً من التنافس أو نوعاً من الاقتسام، فإنها تستهدف بلا أدنى شك النظام العربي الإسلامي وتحويله من نظام قائم على الركائز الحضارية والثقافية والدينية إلى مجرد نظام يتحور وفق النظريات الاقتصادية، وبالتالي تحويل شعبه إلى مجرد ناطقين باللغة العربية.
إن سياسة "العولمة" الاقتصادية في المنطقة تظهر بوسائلها التشطيرية التي تجزئ الوطن العربي بأشكال جديدة "فوق ما هو عليه الآن!" بحيث يصعب على المدى البعيد إعادتها في إطار التوحد والاندماج على المستوى العربي والإسلامي، وبذلك فإن فلسفة المشاريع هذه تؤدي إلى انقسام العرب بين مركزين متنافسين هما: المركز الأوروبي الذي يضع تحت جناحيه الأقطار في المغرب العربي، والمركز الأمريكي الذي يسيطر على أقطاب المشرق العربي، وبذلك تصبح الأقطار العربية في الجزء الغربي منافسة للأقطار العربية في الجزء الشرقي.. في إطار التنافس الدولي الأوروبي الأمريكي.. مما يعني وعلى المدى البعيد استهداف كل ما تبقى من عناصر قوة هذه الأمة وتشتيت طاقاتها وإمكاناتها.
حاجتنا إلى استراتيجية إسلامية جديدة
إننا بحاجة إلى المشروع العربي الإسلامي النهضوي الذي يعتمد المصالح الشاملة العليا، وينطلق من أرضية الحد الأدنى للمرونة الواقعية التي تؤكد على الثوابت العقائدية، وتتمسك بمتطلبات الحد الأدنى من الحضور والنهوض العربي الإسلامي المشترك.
إننا بحاجة إلى استراتيجية جديدة قوية نستطيع بفضلها أن نصل إلى مستوى جديد من القدرة على أن نسوس التغيير.. وفق عقيدة تؤمن بأن الصعوبات "والتحديات" يجب أن تحفزنا على التحدي لا أن تصيبنا الشلل والفتور!.
إننا بحاجة إلى تخطي حالة الإحباط وتفجير عناصر القوة في مجتمعنا العربي المسلم، وفي عقلنا المركب لتجاوز المعوقات "الذاتية والموضوعية" من غير انضواء تحت هذه الخيمة أو تلك "لا شرقية ولا غربية" ولنصمِّم مشروعنا الريادي الآن في سويعات الأيام المتبقية أمامنا.. للعمل الموحد بعد ما نؤمن تماماً بأهمية الابتعاد المطلق عن دوائر التنافس الدولي المتسارعة اليوم، وبأهمية انبثاق التعاون العربي الإسلامي وبأسرع ما يمكن، ذلك لأن عملية التكافؤ في المصالح لا يمكن ضمانها إلا في إطار ذلك التعاون والذي يمكن أن يظهر بصيغة "سوق عربية إسلامية" قادرة على المنافسة وفرض المطالب التنافسية في المجالات الخارجية والتكتلات الاقتصادية.
وبذلك تضمن الأمة عنصر وحدتها وإرادتها في الاختيار والقرار.
=============(10/14)
(10/15)
في دراسة علمية البروفيسور عبد القدير خان يرسم
قضى البروفيسور عبدالقدير خان جل حياته في معامل الأبحاث، وقد وضع لنفسه هدفاً.. هو الوصول إلى أخطر التقنيات العلمية وأكثرها سرية.. وهي تقنيات التفجير النووي.. وقد نجح بعد سنوات من البحث والاجتهاد في أن يصبح أبو القنبلة النووية الإسلامية التي أنتجتها بلاده.. باكستان.
د.خان أسس مركزاً علمياً باسم "معامل الدكتور عبدالقدير خان البحثية" في روالبندي في باكستان، كما وضع خطة لبناء معهد للتكنولوجيا الحيوية في جامعة كراتشي الباكستانية.
الدراسة التالية أعدها د.عبدالقدير خان للاجتماع الأول للجنة الاستشارية للبنك الإسلامي للتنمية حول العلوم والتكنولوجيا التي انعقدت في شهر أكتوبر الماضي، وهي دراسة تتناول الواقع الإسلامي المتعثر كما ترسم معالم النهضة الحضارية المنشودة .
في ظل استراتيجية النهضة تستطيع البلاد الإسلامية تطوير الأفكار الجديدة وأن تراعي احتياجات مواطنيها مع الحفاظ على القدرة التنافسية
الألفية الجديدة هي بداية التقدم من الكيمياء الحيوية.. ولذا فإن تطوير التكنولوجيا سيؤدي حتى لرخاء العالم الإسلامي
تعتبر الانطلاقة الدولية نحو العولمة وتحرير التجارة قوة دافعة لظهور إطار اقتصادي جديد، وقد نشأ هذا الإطار ـ الذي أصبح وجوده أكثر سهولة بسبب التقدم في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ـ من الحاجة إلى وجود قدرة تنافسية لكسب حصة كبيرة في السوق الدولي، ويتحدى هذا الإطار الاقتصادي الجديد نموذج النمو الاقتصادي في الماضي الذي اعتمد فيه التوسع الاقتصادي على زيادة مقومات العملية الإنتاجية وبخاصة الموارد الطبيعية والأيدي العاملة، كما كانت الإنتاجية في نموذج النمو الاقتصادي في الماضي تعتمد غالباً على التوسع في استثمار رأس المال.
وقد ازداد النمو الاقتصادي في العالم الإسلامي من خلال النسبة العالية للاستثمار في رأس المال الذي تم تمويله بصفة أساسية من خارج المنطقة، وبسبب استمرار الزيادة في تكلفة الإنتاج وهبوط نسبة العائد تدريجياً فقد تلاشت حوافز الاستثمار في المنطقة بسرعة مما نتج عنه خروج رأس المال من العالم الإسلامي عام 1995م، مما أزال المحرك الرئيس للتوسع الاقتصادي.
والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها دول العالم الإسلامي ـ إلا القليل منها ـ جعلتها تدرك فجأة أهمية التركيز على استراتيجية النمو وتولي اهتماماً كبيراً بدعم المحتوى التكنولوجي في اقتصادها، فيجب علينا أن نضع استراتيجية لزيادة الإنتاجية والانتقال إلى أنشطة اقتصادية لها قيمة مضافة أعلى، ومن خلال الدعم الفني ستزيد العودة إلى رأس المال ومن ثم سيتم جذب الاستثمارات مرة أخرى إلى العالم الإسلامي. وقد ذكرت التقارير في الولايات المتحدة أن نصف نموها الاقتصادي في الخمسين عاماً الماضية يعود إلى التقدم التكنولوجي، والأمر نفسه ينسحب على أوروبا حيث ساهمت التكنولوجيا بنسبة كبيرة في نموها الاقتصادي، فعلى سبيل المثال إن 76% من النمو الاقتصادي في فرنسا يعود إلى التكنولوجيا، وهذه النسبة تصل إلى 78% في ألمانيا الغربية و73% في المملكة المتحدة، أما في آسيا فإن 55% من النمو الاقتصادي لليابان يرجع إلى التكنولوجيا.
أما في هذه الألفية (الجديدة) فإن الإمكانات والقدرات التكنولوجية هي التي ستحدد قدرة الأمم على التنافس، ويعتمد التطور التكنولوجي واكتساب مهارات تكنولوجية جديدة بدرجة متزايدة على المعرفة العلمية والهندسية والتكنولوجية وهي سياسة يجب أن نتبناها في الحال، فيجب أن تتخذ القرارات من قبل الخبراء الفنيين وليس من قبل البيروقراطيين، ويجب أن يشرف هؤلاء الخبراء على البيروقراطيين في العالم الإسلامي لأن نظام الإدارة الحالي قد فشل فشلاً ذريعاً، ويجب إعادة ترتيب الفوضى الحالية الموجودة في مستويات الحكم في العالم الإسلامي في الحال بواسطة الخبراء والسياسيين.
يهيئ كل من العلم والهندسة والتكنولوجيا أجواء للتنمية الاقتصادية الوطنية ترفع من شأن البلد الذي يستخدمها في العالم الحديث، ولذلك فإن أهم أهداف سياسة العلم والهندسة والتكنولوجيا هو تحقيق نتائج تدعم في المستقبل القريب عملية التحول الاجتماعي والاقتصادي، وعلى المدى البعيد تحقق هذه السياسة النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي المطلوبين للبلد من خلال تخصيص أكثر الموارد للبحث العلمي والتنمية.
لقد ظلت المعرفة لفترة طويلة تُعرَّف بأنها تؤدي دوراً مركزياً في تكوين الثروة وتحسين مستوى الحياة، وطبقاً لبيتر دراكر فإن ظهور النظام الاقتصادي الرأسمالي الغربي في القرن الثامن عشر والذي كان يعتمد على المصانع والآلات قد كون المرحلة الأولى من التطور المعرفي إذ تم تطبيقه على الأدوات وسير العمل والمنتجات، أما المرحلة الثانية من التطور المعرفي فهي تشير إلى تطبيق المعرفة على العمل الإنساني مما نتج عنه تنظيم خط الإنتاج والميكنة وإدخال النظم الآلية.(10/16)
إن الرغبة في تدعيم القدرة الإنتاجية للاقتصاد هي التي أدت بدرجة كبيرة إلى تطبيق التطور المعرفي في النظام الاقتصادي، كما أن التطور المعرفي قد تأثر بدوره بالبيئة الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
منذ أواسط الثمانينيات تعاظم الاتجاه نحو عولمة الاقتصاد العالمي بدرجة كبيرة، فقد زاد حجم التجارة العالمية إلى أربعة تريليونات دولار أمريكي، وهناك ثلاث عمليات تقود الاتجاه إلى العولمة هي تحرير التجارة وإزالة الحواجز من أمام تنقل رأس المال عبر الحدود وخفض تكلفة العمليات الاقتصادية بسبب التقدم في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وخطوط المواصلات.
عوامل مهمة
في ظل الاقتصاد العالمي ـ عندما يكون رأس المال متحركاً ـ تتوافر المواد الخام والطاقة، وتصبح الخبرة الفنية للأيدي العاملة الماهرة ومستوى التكنولوجيا عوامل مهمة في تحديد حالة الاقتصاد الوطني، ومن المعروف أن المعرفة تزيد من الإنتاجية الهامشية النسبية لرأس المال من خلال التعليم وتدريب العمالة والتقدم التكنولوجي الذي يتم عن طريق البحث والتطوير، كما أن المعرفة أيضاً تزيد من خلال الهياكل الجديدة للتنظيم والإدارة، ومن ثم فإن المعرفة هي المحرك الذي يقود الاقتصاد القومي نحو الرخاء في المستقبل.
أوجد الإعلان الذي صدر في ختام الاجتماع الوزاري لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي في شهر يونيو من عام 1990م رغبة ملحة ومفاجئة لدى الدول لتحسين إدراكها بالدلالات الاقتصادية للتغير التكنولوجي، وقد اتفق الوزراء المجتمعون على أن التغير التكنولوجي هو مصدر أساسي للنمو الاقتصادي في الدول الأعضاء بمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، إن التسليم بأن التغير التكنولوجي يسهم في النمو الاقتصادي يعد ركيزة لمحاولات كثير من الدول الصناعية تطوير أطر سياساتها للتحديث كبداية للقيام بعمليات مستمرة للتغيير الفني في اقتصاداتها، والمعرفة هي العنصر الرئيس في قيادة التحول في كثير من الاقتصادات الصناعية.
خصائص الاقتصاد القائم على المعرفة
هناك دلالة واضحة على أن المعرفة موجودة بكثافة في جميع قطاعات الاقتصاد القائم على المعرفة، وتشير الدراسات إلى وجود علاقة مباشرة بين المعرفة الفنية وأداء المؤسسات.
فعلى مستوى المؤسسات يوجد اتجاه متنام نحو العولمة، مما يعرض هذه المؤسسات باستمرار إلى المنافسة الشديدة، ومن ثم تقوم بتعديل أوضاعها من خلال تحسين الإنتاجية، وفي هذا الصدد تستثمر أموالاً طائلة في مجال المعرفة الفنية والمهارات بما فيها تبني تكنولوجيا جديدة وتطبيقها حتى تصبح أكثر استعداداً للتحديث.
إن القدرة على إيجاد المعرفة الفنية واستخدامها ليست هي العنصر المحدد للثروة فحسب وإنما هي أساس الميزة المقارنة، فالمعرفة عامل أساسي لتحسين كفاءة الإنتاج والتوزيع وتحسين المنتجات كماً ونوعاً وزيادة عدد المنتجات والخدمات.
والمعرفة هي العنصر الرئيس في قيادة التحول في كثير من الاقتصادات الصناعية.
وقد أحدث التطور في تكنولوجيا الاتصالات العالمية ثورة في أسلوب حياتنا وأعمالنا بل ولعبنا أيضاً، كما أنه نظم مجتمعاتنا بشكل أثر فينا.
وبخلاف الثورات السابقة التي تركزت حول الطاقة والمادة فقد تضمن هذا التغيير الرئيس خبراتنا المتعلقة بالوقت والفضاء والمسافات والمعرفة، وعلى الرغم من أن طبيعة ثورة المعلومات هذه لم تحدد بعد فإننا نشعر بقوة بدلالاتها العالمية التي لا يمكن الهروب منها، وتعد القدرة على استخدام المعلومات أقصى استخدام أهم العوامل في تحديد مدى القدرة التنافسية للدول وقدراتها على تمكين مواطنيها من استخدام المعلومات.
مواجهة تحديات الاتجاه نحو تطبيق العلم
والهندسة والتكنولوجيا في عالمنا الإسلامي(10/17)
لأن الدول تسعى إلى تعبئة أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية للاستفادة من إسهامات العلم والهندسة والتكنولوجيا فإن الحاجة ملحة إلى التأكد من أن نظام نقل العلم والهندسة والتكنولوجيا قادر على تحقيق ذلك، ويجب أن يكون هناك إطار يمكّن العلم والهندسة والتكنولوجيا من دعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، وفي هذا الصدد يجب أن ينشأ "نظام التحديث القومي" في إطار نظام العلم والهندسة والتكنولوجيا الحالي، ففي ظل نظام التحديث القومي تستطيع البلاد من خلال تطوير الأفكار الجديدة والمنتجات وترتيب المؤسسات وسير العمل أن تراعي بصورة أفضل احتياجات مواطنيها مع محافظتها على القدرة التنافسية، ويجب أن يكون لنظام التحديث القومي مقياس حساس للتفاعل الاستراتيجي الخلاق بين مقوماتها، فتطوير نظام تحديث قومي كإطار للسياسة الاجتماعية والاقتصادية يزيد من احتمالات تفاعل جميع أجزاء النظام مع بعضها البعض مما يفيد أولئك الذين ينتفعون بالتكنولوجيا ويساعد في رقي الأهداف القومية، ولأن التحديث أصبح قضية حيوية مهمة فإن الدولة التي تريد تحقيق الرخاء لمواطنيها ينبغي ألا تتعامل معه على أنه مجرد اختيار، فالتحدي الذي يواجه الساسة الآن هو ايجاد بيئة ينمو فيها هذا التحديث، ولقد اتضح أن التحديث لا يبزغ تلقائياً ولكنه يجب أن يولد ويُنمى من خلال مجهودات الناس، فهو نابع من الأشخاص ومن المجتمعات التي تتفاعل مع بعضها البعض، ولذلك فعلى حكومات العالم الإسلامي أن تعمل بجد لإيجاد بيئة تساعد على هذا التحديث.
ويتطلب ذلك أيضاً من المنتفعين بالتكنولوجيا أن يدركوا أنهم شركاء يتعاونون نحو تحقيق هدف عام ومن ثم يوجدون نظاماً يكون فيه التعاون والمشاركة النشطة من خصائص المجتمع، وتلك هي بادرة ظهور نظام التحديث القومي والمجتمع الخلاق.
الطريق نحو التقدم .. مبادرة العالم الإسلامي
لأن العالم الإسلامي أمة نامية فهو يعيد توجيه اقتصاده بطريقة تدريجية من كونه اقتصاداً يعاني من مستوى معرفي منخفض وقلة رأس المال وزيادة عدد الأيدي العاملة في الصناعات المختلفة إلى كونه اقتصاداً يعتمد على وفرة رأس المال وزيادة المستوى المعرفي كي يقود المرحلة التالية من النمو الاقتصادي، فمقومات العلم والهندسة والتكنولوجيا ستبرز بدرجة كبيرة في مرحلة النمو الاقتصادي هذه، وإنه لمن الضروري مراجعة سياسة العلم والتكنولوجيا القومية في إطار خطة تنعش الاقتصاد القومي ويزيد فيها استخدام المعرفة في الاقتصاد.
فعلى سبيل المثال يكون التعاون الوثيق بين المؤسسات الحكومية والصناعية والبحثية مطلباً أساسياً للمشروعات المخطط لها أن تسهم في النمو والتطور طبقاً للأهداف القومية، وسوف يمتد التنسيق بين استراتيجيات التجديد داخل نظام التحديث القومي إلى ما وراء الحدود لأن الضرورات الإقليمية تتنامى بصورة كبيرة.
إن تطوير النظام القومي للتحديث في العالم الإسلامي يجب أن يأخذ في الاعتبار التطورات الاقتصادية والاجتماعية في الدول الإسلامية بهدف تطوير نظام إقليمي للتحديث يضمن ولفترة طويلة استقرار المنطقة.
في هذه البيئة الاقتصادية الجديدة يجب أن تتحول الحكومات إلى نموذج جديد، والدور الأساسي للحكومات هو التأكد من أن البلاد لديها القدرة والإمكانات على استخدام المعرفة في مجالات الإنتاج لتحقيق أهداف التنمية.
يجب على الحكومات أن تلعب دوراً أساسياً في إيجاد بيئة يزدهر فيها العلم والهندسة والتكنولوجيا لدعم القدرة التنافسية للبلاد والأهداف التنموية القومية الكبرى.
وفي هذا الصدد فإن استراتيجية تطبيق العلم والهندسة والتكنولوجيا التي تستمد قوتها من المقومات المختلفة للمجتمع الإسلامي سيتم بناؤها بما يتماشى مع التحديات المعقدة الناتجة عن التغيرات الدولية والاجتماعية والاقتصادية، ومن هذه المقومات ما يلي:
1 ـ ضخ أعلى مستوى من المعرفة إلى الصناعات التقليدية والناشئة.
2 ـ تكثيف توليد المعرفة واكتسابها ونشرها:
ـ بيئة خلق المعلومات واكتسابها.
ـ دعم القاعدة العلمية.
ـ تطوير نظام العلم والهندسة والتكنولوجيا إلى ما يسمى نظام التحديث القومي.
3 ـ تحديث القطاع الخاص وقدرته التنافسية:
في مستوى الصناعة- مؤسسة ـ يجب البحث عن الصناعة ـ تحسين التكنولوجيا، اكتساب- خلق التكنولوجيا.
4 ـ تحديث نظام التعليم والتدريب:(10/18)
توجد قضية أخرى يجب أن نتناولها وهي تعليم الأيدي العاملة تعليماً فنياً وتدريبها مدى الحياة في البلاد الإسلامية، فعملية التعلم هي نتيجة جوهرية للتغيرات الديناميكية في الاقتصاد العالمي، وهذه النتيجة ضرورية لتمكن العمالة التي أصبحت زائدة في ظروف معينة خلقتها هذه التغيرات من الاستمرار في الإسهام إسهاماً فعالاً وخلاقاً في الاقتصاد الوطني وفي حياتها الخاصة ومجتمعها، ومن ثم نحتاج إلى تطوير مداخل جديدة للتعليم والتدريب تمكن الباحثين من العمل بطريقة أكثر فاعلية في مجتمع خلاق، ويتطلب ذلك مناهج جديدة وبرامج تدريب شاملة جامعة مرنة وليست ضيقة النطاق، ويجب ألا يحصر التعليم والتدريب ـ في مجتمع خلاق ـ الناس في تخصصات ضيقة وإنما يجب أن يمكنهم من المشاركة في القضايا الاجتماعية والاقتصادية وطرق حل المشكلات التي تواجهها داخل التخصص الواحد وفيما بين التخصصات المختلفة.
5 ـ نشر المشاركة والممارسات الذكية:
في هذه البيئة التنافسية يجب خلق شكل جديد من أشكال المشاركة يساهم فيه القطاع العام والصناعة والأكاديميون، وتضمن هذه المشاركة القيام بأنشطة البحث والتطوير لتفي بمتطلبات السوق، ويتطلب الأمر أيضاً خلق أطر لربط الجامعات بالمؤسسات العلمية والهندسية والتكنولوجية والقطاع الخاص بقصد المشاركة في الأخطار والموارد فيما يتعلق بالبحث الأساسي.
6 ـ التنسيق والتعاون الدوليان :
التكنولوجيا هي أهم محرك للاقتصاد العالمي الحر، ولكي تكون للعالم الإسلامي قدرة تنافسية على المستوى الدولي يجب عليه أن يطور البرامج القومية لاستمرار تدفق المعرفة العلمية والهندسية والتكنولوجية، وعلى البيروقراطيين في العالم الإسلامي أن يتدربوا على اتباع السياسات التي يرسمها العلماء والخبراء الفنيون.
مشروعات مقترحة للتمويل في العالم الإسلامي
1 ـ تعاون الدول الإسلامية لحماية البيئة:
في هذه الألفية يجب أن ندرس كيفية القيام بجهود مكثفة للتعاون بين الدول الإسلامية في مجال حماية البيئة، وفي ظل مبدأ التطوير الذي يوازي بين حماية البيئة والتحكم في التلوث الصناعي يجب على الدول الإسلامية أن تتعاون تعاوناً وثيقاً للسيطرة على ما يدمر البيئة.
ومن أكبر التحديات في القرن الحادي والعشرين تطوير أدوات الإنتاج الصناعي بصورة فعالة ومستمرة لتلبية احتياجات المجتمع الإنساني بطريقة أفضل مع التقليل في الوقت نفسه من التأثير البيئي السلبي لهذا الإنتاج على السكان وكوكب الأرض. ولا تعتمد طبيعة التلوث البيئي وجسامته ومن يتعرض له على عوامل علمية وتكنولوجية فحسب وإنما تعكس أيضاً تأثيرات اقتصادية وسياسية واجتماعية أخرى كثيرة، وأثناء القيام بما يفيد المجتمع اجتماعياً واقتصادياً يتسبب الإنتاج الصناعي في وجود فاقد خطر وملوثات كيميائية تؤثر سلبياً على الحياة، وفي العقد الماضي أعطيت أولوية كبيرة لقضية العدالة البيئية على المستوى الدولي ولكنها لم تكتسب أقصى تأييد في العالم الإسلامي بعد.
إن ميزانية البنك الإسلامي للتنمية لهذا المشروع المهم سوف تسهل هذه العملية، كما أن الخبرات والموارد المطلوبة للقيام بمراحل مختلفة خاصة بحماية البيئة في الدول الإسلامية متاحة في هذه البلاد غير أنها تتطلب تكريساً للجهود، وعلى الدول الإسلامية أن تكافح من أجل إبرام اتفاقيات ثنائية تتعلق بحماية البيئة أو الوصول إلى مذكرات تفاهم في هذا الصدد، وفي مجال التعاون متعدد الأطراف يجب على الدول الإسلامية أن تتبع سياسة المشاركة الفعالة وأن تحسن سياستها الداخلية وأن تفي بالتزاماتها التي وقعت عليها في إعلان ريو دي جينيرو وأن تدعم مسئوليات هيئات حماية البيئة على المستويات كافة من خلال المشاركة النشطة، وعند التعاون حول التكنولوجيا المتعلقة بالبيئة يجب على الدول الإسلامية أن تقوم بجهود لتوفير الأموال والتكنولوجيا المطلوبة لذلك من خلال تطوير علاقات التعاون مع البنك الإسلامي للتنمية والحكومات في المنطقة، ولتسهيل هذه العملية يجب زيادة قنوات التبرع غير الحكومية لتحقيق تقدم كبير في الحد من التلوث وبناء بنية تحتية بيئية.
ويجب أن نولي اهتماماً كبيراً للتعاون بين دول العالم الإسلامي في مجالات التحكم في تلوث المياه والتحكم في ثاني أكسيد الكبريت والتحكم في انبعاث الغازات من عادم المركبات في المدن ونظام المعلومات البيئية وتطوير قاعدة بيانات المعلومات البيئية لإعطاء أولوية للبرامج وتحقيق نتائج ملموسة من خلال التعاون الوثيق لتوفير رؤوس الأموال والتكنولوجيا، والبداية تكون من رصد نوعية الهواء في المدن ودراسات المطر الحمضي.(10/19)
ويمكن القول إنه إذا لم نكن على علم بالنظام الإيكولوجي فإن تغيير أحد المتغيرات أو تقديم عامل جديد قد يؤدي إلى نتائج لم تكن في الحسبان، وهذه هي النتيجة اللازمة للقانون المركزي للبيئة حيث تكون جميع المعاملات في النظام البيئي مرتبطة بعضها ببعض فيكون تغيير عامل واحد فقط كافياً لحدوث التغيير في بقية العوامل، أي يكون تغيير بقية العوامل تابعاً لتغيير العامل الأول، وإذا تم تحديد نظام جيد يطابق المعايير الموضوعة فإنه يمكننا التنبؤ بالتغيرات التابعة، أما إذا لم يتم تحديد النظام جيداً فلن نتمكن من التنبؤ بالتغيير.
كيف يمكننا تحقيق هذا الهدف في العالم الإسلامي؟
على الرغم من أن المعلومات وقواعد البيانات غير كافية إلى الآن فإنه من الملاحظ أن الجور والظلم المتعلقين بالخطر البيئي قائمان ويجب أن نتعامل معهما، ومن المنظور البيئي ينبغي دراسة أهم توصيات إعلان ريو دي جينيرو دراسة جادة لوضع حد لتدمير البيئة، وهذا الأمر يتطلب تعبئة الجهود والموارد والخبرات للتدخل بشكل مؤثر وفي وقت مناسب لإنقاذ أنظمتنا البيئية والقضاء على التلوث، ويجب أن نتبنى بالإجماع مداخل للبحث والبرامج التعليمية، كما يجب تطوير المشاركات بين المجتمعات وفي الصناعة وبحوث العلوم الأساسية وبين القائمين على الشؤون الصحية، وأعتقد أن استخدام المعرفة المحلية بين أبناء المجتمع الواحد في تكوين المشروعات البحثية سوف يحسن من نوعية العلوم البيئية في الدول الإسلامية.
إن الجهود التي تتعامل مع أي تدمير أساسي للنظم الأيكولوجية نتيجة لعوامل بيئية وما يسبب الأمراض يجب أن ترتكز على بيانات صحيحة وعلى فهم صحيح للتفاعل بين البيئة والإنسان، ولايمكن التغلب على التعقيدات المصاحبة للتفاعل بين الإنسان وبيئته باستخدام المعرفة في مجالات علم الأحياء الحديث وعلم الأوبئة.
وعند دراسة احتياجات البحث وفرصه يجب أن نركز على مجالات المعرفة الأساسية والقضايا العملية المتعلقة بفهم دور البيئة في تحديد أسباب الأمراض، فما الذي يسبب ـ على سبيل المثال ـ الربو أو الالتهاب الكبدي الوبائي في كثير من المجتمعات؟ إن التقدم الملحوظ في فهمنا لعلم الوراثة في الإنسان يقدم لنا فرصة غير مسبوقة لتحديد أسباب هذه الأمراض في العالم الإسلامي، أما في المجال الاجتماعي فإن العمل في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان ودور المرأة في المجتمع يقف على الدرجة نفسها من الأهمية، كما أن الفشل في الدخول إلى مجالات واعدة للبحث سيؤدي إلى ضياع فرصة الحد من الأمراض الخطرة في العالم الإسلامي وتدمير النسيج الاجتماعي.
ويشتمل بعض مجالات البحث والمشاورات المستقبلية على ما يلي:
ـ دراسة التفاعل الوراثي مع الأخطار البيئية.
ـ دراسة المجموعات الحساسة والأكثر عرضة لملوثات البيئة (الأطفال وكبار السن والحوامل).
ـ تطوير مداخل جديدة لاختبار خصائص السموم.
ـ تطوير استراتيجيات لمنع التعرض للمواد الخطرة.
ـ دراسة مدى تأثير خلط المواد الكيمائية على الصحة.
ـ القيام بدراسات طبية واختبارات عن التعرض للمواد الخطرة والسميات.
تتحدد سلامة القرارات بمدى سلامة الأسس التي ترتكز عليها، وهذه الأسس تشمل: البيانات والنموذج المستخدم في تقدير الأخطار والافتراضات التي تتم في غياب الحقائق، والمبدأ الذي ينبغي أن نسير عليه هو وجود علم جيد كي نتخذ قرارات جيدة، ويجب أن يتم تطوير ورقة عمل لتتناول حالة البيئة في الدول الإسلامية.
2 ـ تقنيات التحكم في التصحر:
التصحر هو أحد أهم المشكلات التي تعاني منها الدول الإسلامية، ويجب أن نطور تقنيات التحكم في التصحر مثل زرع نباتات تثبيت الرمال وحواجز من الغابات في مناطق التيارات الهوائية وحواجز الغابات في المناطق الجرداء وشبه الجرداء وزرع أشجار في مناطق الرمال المتحركة وتقنيات مقاومة الرمال على خطوط السكك الحديدية والطرق السريعة، ويجب تعبئة الجهود للتحكم في الرمال بدرجة كبيرة في منطقة الشرق الأوسط.
إن تقنيات الصين في التحكم في التصحر ومقاومته أثبتت فاعليتها، فقد استضافت الصين ورش عمل دولية عدة للمعلومات والتدريب، ولذلك فإن التعاون مع الصين في هذا المجال سيكون مفيداً جداً.
3 ـ موقع على الإنترنت للإسهامات التاريخية لعلماء المسلمين :
يجب تدريس إسهامات علماء المسلمين في جميع مناحي العلوم في المناهج التعليمية بالعالم الإسلامي، وقد تجاهل كثير من المؤرخين الغربيين هذه الحقيقة، غير أن التطورات الحديثة في العلم والتكنولوجيا أدت إلى الاعتراف بأهمية الإسهامات الإسلامية.
كما يجب أن نقوم بجهود نشطة ومكثفة لتدريس وجهات النظر العلمية لعلماء المسلمين في المدارس والكليات والجامعات، ويمكن أن نؤسس موقعاً على شبكة الإنترنت تحت اسم "الإسهامات الإسلامية في العلم" يتضمن تفاصيل كافة إسهامات هؤلاء العلماء، فهناك حاجة ملحة كي نسترد هذه الإنجازات ويجب على ورثة هؤلاء العلماء أن يرفعوا راية العلم عالية في المستقبل.
إنني أؤيد تخصيص ميزانية كبيرة لهذا المشروع.
4 ـ التصنيع من خلال المشاركة:(10/20)
إذا ما نظرنا حولنا فسوف نلحظ أن الأموال التي نكتسبها بشق الأنفس تذهب إلى البلاد الأجنبية من خلال شراء سيارات النقل وسيارات الركوب وأجهزة الكمبيوتر وبرامجه والأدوات المنزلية والبضائع الهندسية وغير ذلك، إذ إننا نستورد كل هذه الأشياء مما ينتج عنه تحويل أموال طائلة من الدول الإسلامية إلى الدول المنتجة، كما أن الأجهزة الكهربائية التي تستخدم في الرفاهية والتسلية والأجهزة التي يتم استخدامها في المطبخ قد تم استيرادها أيضاً، وإذا ما تجولنا في المحلات الكبيرة فسنجد أن البضائع والمنتجات الأجنبية تملأ الأرفف مما يدل على عدم اهتمامنا بأننا نستورد كل هذه المنتجات وبأننا أصبحنا مستهلكين للبضائع التي تنتجها الدول المتقدمة، ويجب علينا أن نغير هذا الاتجاه وأن نخطط جدياً لتصنيع المنتجات والمواد التي نريدها على أرضنا، فنحن يمكننا القيام بذلك إذا ما وحدنا مواردنا وخبراتنا في العالم الإسلامي، والجودة هي معيار تسويق المنتجات والبضائع التي نصنعها في أوطاننا، ومن ثم يجب أن يكون البحث والتطوير جزءاً من التخطيط الصناعي.
وأعتقد بمنتهى التواضع أننا يجب أن نشمر عن سواعدنا ونستعد للقيام بالثورة الصناعية في العالم الإسلامي، ومن أجل الحصول على الإمكانات الصناعية المثلى يجب أن نضع سياسة واستراتيجية طويلة المدى للقيام بمشاريع مشتركة واتفاقيات مشاركة مع الدول المتقدمة، وإن أي استيراد في المستقبل من الدول المتقدمة يجب أن يتصل بنقل التكنولوجيا كي ننتج البضائع محلياً بالاشتراك مع المورد، والبنك الإسلامي للتنمية سيقدم تمويلاً للموارد الفنية والأيدي العاملة لتأسيس صناعة خفيفة وثقيلة في البلاد، ومن ناحية أخرى يمكننا تقديم قروض لبعض الدول الإسلامية لاستهلاك أو شراء مثل هذه البضائع والمنتجات من الدول الصناعية الناشئة في الأمة الإسلامية، ومن ثم عند استهلاكنا المنتجات النهائية وشرائها داخل العالم الإسلامي يمكننا ملء الفجوة بين البحث والتطوير ودعم نمونا الاقتصادي.
5 ـ البحث والتطوير:
يجب أن نعي أن العلم قوة والتكنولوجيا نمو اقتصادي، والأمة التي تتخلف عن ركب العلم والتكنولوجيا لن تتمكن من تحقيق الاستقرار الاقتصادي في هذا العصر، فيجب إعطاء أولوية للعلم والتكنولوجيا مع وجود سياسة قومية قائمة على البحث والتطوير، فهذا هو الاستثمار المطلوب للتنمية والنمو في المستقبل في العالم الإسلامي.
يجب أن يتم إعداد الأجيال القادمة من خلال نظام تعليمي قادر على التحدي ويمكنها من مجابهة المشكلات الوطنية، والبحث والتطوير يعدان عاملاً مهماً في التقدم والنمو الاقتصاديين، ومن أجل تحقيق ذلك الهدف يجب أن نمول مشروعات البحث في المجالين الأساسي والتطبيقي، كما يجب عدم إغفال البحث الأساسي على حساب البحث التطبيقي إذ إن البحث التطبيقي يتطلب تطويراً تكنولوجياً وهذا يقتضي وجود مرافق تجريبية على مستوى المصانع لتحديد الجدوى الاقتصادية لعمليات عدة، ومن الواضح أن هذا أيضاً يقتضي التفاعل بين علماء التكنولوجيا والاقتصاديين لتحقيق الحد الأمثل من عملية الإنتاج، ويمكننا أيضاً تطوير الأيدي العاملة إذا أردنا النجاح، فالنمو المرتكز على المعرفة يجب أن يكون هو القوة الدافعة للتطور.
ويجب أن نطور جامعاتنا ومعاهدنا البحثية لنصل إلى قمة التقدم المعرفي والتكنولوجي والبحثي من خلال تأسيس هيئة تمويلية ووضع سياسة ثابتة للبحث والتطوير في العالم الإسلامي.
والوجه الآخر للبحث والتطوير يتطلب سياسات حكومية وآليات لتشجيع أصحاب المشروعات على الاستثمار في المنتجات المصنعة محلياً.
وباتباع سياسة البحث والتطوير أولاً في العالم الإسلامي يمكننا وضع حجر أساس للعلم والتكنولوجيا كي نعتمد عليهما ذاتياً في المستقبل، ومن المثير للسخرية أن أكثر من مليار مسلم في العالم يعتمدون بدرجة كبيرة على استيراد التكنولوجيا والمنتجات النهائية من الدول الصناعية.
6 ـ تكنولوجيا المعلومات:
لقد ازدهرت ثورة تكنولوجيا المعلومات في جميع أنحاء الكرة الأرضية، ولأننا نعيش في عالم باهر من التقدم العلمي والطفرات التكنولوجية فقد أصبح الإنسان يشعر أن العلم يتقدم بخطوات متسارعة وأن العالم قد انضغط سريعاً ليصبح قرية كبيرة يمكن الاتصال بأبعد أطرافها في التو واللحظة، فهناك انفجار في دنيا المعلومات في جميع أنحاء العالم، ولكي نواجه هذا التطور السريع في التكنولوجيا فإن على العالم الإسلامي أن يقر سياسات مؤثرة لتعزيز وتسهيل نمو صناعة تكنولوجيا المعلومات في أقطاره المختلفة.(10/21)
إن عدد أجهزة الكمبيوتر في الولايات المتحدة في الوقت الحالي أكبر من عدد السيارات، وإذا نظرنا إلى شبكات الكمبيوتر في الولايات المتحدة ـ التي سبقت مثيلاتها في العالم في هذا المجال ـ سنجد أن عدد أجهزة الكمبيوتر المتصل بالشبكة قد ارتفع من نسبة 10% إلى 90% في السنوات العشر الأخيرة، وأن عدد مستخدمي شبكة الإنترنت قد ارتفع ارتفاعاً كبيراً من 3 ملايين مستخدم عام 1984م إلى 300 مليون عام 2000م، وعدد الصفحات التي يمكن الدخول إليها وصل إلى مليار صفحة، كما أنه تضاف 3 ملايين صفحة جديدة كل شهر للشبكة، أما الاستثمارات والفوائد الاقتصادية من تكنولوجيا المعلومات فقد ارتفعت قيمتها من 250 مليار دولار أمريكي عام 1975م إلى 500 مليار دولار عام 1999م، وعدد المليارديرات في هذه الصناعة أكبر من عددهم في أي صناعة أخرى.
أما المشكلة الكبرى التي تواجه هذه الصناعة في جميع أنحاء العالم فهي نقص الأيدي العاملة المدربة تدريباً جيداً، فطبقاً للتقديرات سوف تحتاج هذه الصناعة في العقد القادم إلى مزيد من الأيدي العاملة المدربة تدريباً جيداً من مهندسين وعلماء ومحللين، ومن ثم يجب على العالم الإسلامي أن يبدأ في تدريب الأيدي العاملة في هذا المجال، فيجب أن نبدأ في عملية تدريب جماعية للشباب في الجامعات والمعاهد التعليمية، ومن أجل تحقيق أهدافنا علينا أن نوفر الاشتراكات على شبكة الإنترنت وأن نشجع أصحاب المشروعات على الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات.
فعلى البنك الإسلامي للتنمية أن يتبنى سياسة لتأسيس روابط تجارية مع الشركات التي تستخدم برامج الكمبيوتر الموجودة داخل العالم الإسلامي وخارجه حتى يمكننا تصدير ما يتم تطويره من البرامج واستخدامه بطريقة مناسبة.
7 ـ التكنولوجيا الحيوية:
ستعرف هذه الألفية بأنها بداية التقدم في الكيمياء الحيوية والتكنولوجيا الحيوية إذ بدأ العالم في الاستفادة من الجينوم الوراثي، وهذا التطور فتح الباب لأوجه كثيرة من البحث والتطوير في مجالات أخرى كثيرة مثل المنتجات الزراعية والدوائية، فالتطوير في التكنولوجيا الدوائية وتكنولوجيا زراعة أنسجة النباتات اعتماداً على الجينات سوف يؤدي بالتأكيد إلى رخاء اقتصادي في العالم الإسلامي.
عند وضع سياسة "للبحث والتطوير في مجال التكنولوجيا الحيوية" في العالم الإسلامي يجب أن تتشاور الجامعات والمعاهد التي تعمل في هذا المجال مع بعضها البعض للقيام بالأبحاث التي تخدم الاحتياجات القومية، ولقد قمت بوضع خطة لبناء معهد للتكنولوجيا الحيوية في جامعة كاراتشي، وقد بدأ البناء بالفعل وسيتم خلال سنتين، وأدعو جميع الدول الإسلامية إلى الاشتراك في هذا المشروع لتدريب العلماء.
علينا أن نسعى بقوة لنقف على قدم المساواة مع العالم في التطور العلمي والتكنولوجي، ويجب أن نقوم بدراسة استراتيجية للاستثمار بجدية في هذا المجال حتى يمكننا أن نسعى للمعرفة، فقد دخلنا طي النسيان بسبب الإهمال وحالة اللامبالاة التي نعيشها، إنني أدعو العالم الإسلامي إلى أن يبحث بكل فخار وعظمة عن العلم والتكنولوجيا، وعلى البنك الإسلامي للتنمية أن يشجع التطوير في مجال العلم والبحث والمشروعات التنموية من خلال تمويل هذه المشروعات، وإنني أختم توصياتي هذه بكلمات تنبأ بها البروفيسور ألفرد نورث وايتهيد من أكثر من نصف قرن مضت وأرجو ألا يهمل العالم الإسلامي هذه الكلمات أو يتجاهلها هذه الأيام: "في ظل الحياة الحديثة التي نعيشها تكون القاعدة التالية مطلقة، فالجنس الذي لن يقدر الذكاء المدرب حق التقدير سوف يلقى مصيره، فاليوم نحن نتحكم في أنفسنا، أما غداً فإن العلم هو الذي سيتحكم فينا ولن يكون هناك استئناف ضد ذلك الحكم الذي سيصدر على الجهلاء".=>
==============(10/22)
(10/23)
الصراع الاستراتيجي في آسيا الوسطى والقوقاز
اللعبة الكبرى..
صراع دولي كبير تدور رحاه حول آسيا الوسطى، ورهانات متنوعة وخطيرة تتداخل لتشكيل محور ذلك الصراع. وبما أن المنطقة لا تزال تعاني من الهشاشة، ولكونها تمر بفترة انتقالية تاريخية، فإن دولها حديثة العهد بالاستقلال تعيش في وضع حرج بين تثبيت بيتها الداخلي وإعادة ترتيبه، ومواجهة تحديات وطموحات القوى المعنية بالمنطقة، تلك الطموحات التي يحركها الموقع الجيوبولتيكي، والارتباطات التاريخية والحضارية وأيضاًً الحسابات الجيواستراتيجية الشاملة.
موقف الأطراف المتصارعة:
ثمة كتلة من الدول تعتبر أن منطقة آسيا الوسطى منطقة مهمة أو حيوية بالنسبة لها على الصعد الجيواستراتيجية.. الجيواقتصادية والحضارية، الثقافية. تأتي في مقدمة هذه الدول: روسيا ـ الخارجة من تحت عباءتها السوفييتية ـ الدول المكونة لمنطقة آسيا الوسطى والقوقاز، تليها الولايات المتحدة بناء على نفوذها الدولي ومكانتها الجيواستراتيجية والجيواقتصادية في العالم. والتي يهمها أن تزاحم روسيا على خيرات المنطقة وتحجم دورها التوسعي في المنطقة. كما يهمها صد الدور الإيراني والحيلولة دون اكتمال صورة "أممية أصولية" بزعامة إيران في المنطقة.
وعلى صعيد القوى الإقليمية تتوزع إيران وتركيا وباكستان الأدوار، الأولى بفعل موقعها الجيوبولتيكي وامتداداتها الثقافية الحضارية، والثانية للأسباب نفسها فضلاً عن لعب دور الصراع بالوكالة لصالح الحلف الأمريكي الأطلسي، والأخيرة (باكستان) تشكل آسيا الوسطى بالنسبة لها حلماً طالما انتظرت تحقيقه وهي تعتقد أنها قريبة من الهدف في حال استمرار طالبان في الزحف على كامل التراب الأفغاني.
ونتناول دور كل دولة من هذه الدول بالتفصيل..
أولاً روسيا:
1 ـ مفهوم "الجوار القريب" :
ظهر التوجه الروسي إلى إعادة هيمنة موسكو على جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق في وقت مبكر جداً ولإضفاء شرعية على هذا التوجه قدم المسؤولون الروس مبررات عدة، في مقدمتها الأمن القومي الروسي والصراعات الإثنية في دول الجوار القريب وخطر امتدادها إلى داخل روسيا والدفاع عن مصالح الأقليات الروسية هناك. لكن ما لم يقله المسؤولون الروس ويرفضون الاعتراف به، هو أن موسكو كان لها دور كبير في تأجيج الصراعات في أطراف الاتحاد السوفييتي السابق تمهيداً لتدخلها دبلوماسياً وعسكرياًً، وبالتالي لإعادة هذه الدول إلى دائرة نفوذها. ففي جورجيا على سبيل المثال، دعمت روسيا على التوالي الأبخاز ضد حكومة تبلسي، والرئيس الجورجي إدوارد شيفرنادزة ضد خصمه زياد غامسا غورديا، الأمر الذي أتاح لها فرض وصايتها على جورجيا والتي تجسَّدت أولاً من خلال انضمام هذه الأخيرة مكرهة إلى كومنولث الدول المستقلة التي تتزعمها روسيا، ثم من خلال اتفاق الصداقة والتعاون الموقع بين البلدين مطلع شهر فبراير 1994 والذي حصلت روسيا بموجبه على ثلاث قواعد عسكرية في جورجيا. أما فيما يتعلق بالصراع الأرميني ـ الأذري، فقد ساعدت روسيا أرمينيا، مسرعة بذلك إطاحة الرئيس الأذري السابق أبي الفضل التشيبي، ذي الميول التركية، ثم اقترحت أخيراً، خطة لحل الأزمة بين البلدين تنص على إقامة خمس قواعد عسكرية روسية على طول الحدود بين أذربيجان وأرمينيا وقد حصلت على الموافقة على ذلك.
ولم تقتصر الضغوط الروسية على دول "الجوار القريب" على المجال العسكري، إذ إن روسيا مارست ضغوطاً سياسية واقتصادية على كل من أوكرانيا (فيما يخص جزيرة القرم) وكازاخستان ودول البلطيق الثلاث وروسيا البيضاء، وضغوطاً دبلوماسية على الجميع لإعادة هذه الدول إلى الحظيرة الروسية، وإذا كانت روسيا قد نجحت إلى حد كبير في تحقيق أهدافها، على الرغم من الممانعة الهشة التي تبديها دول البلطيق الثلاث وأوكرانيا وأذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان، فإن هذا النجاح يعود في جزء كبير منه إلى لامبالاة الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاًً، وكذلك إلى غياب طرف إقليمي قادر على الوقوف في وجه روسيا. فالغربيون لا يريدون التورط بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراعات الدائرة في أطراف الاتحاد السوفييتي، ويقرون لروسيا بدور إقليمي مهيمن في المنطقة، ربما باستثناء دول البلطيق الثلاث.(10/24)
ويجدر التنبيه هنا إلى أن المساعي الروسية الرامية إلى تأكيد الهيمنة على دول الجوار، اتسمت بالحزم والصلابة، وذلك لأن جميع التيارات السياسية تتفق على اعتبار "الجوار القريب" دائرة نفوذ روسية. وفي هذا الصدد، نشرت صحيفة "إزفستيا" الروسية وثيقة صادرة عن هيئة الشؤون الدولية لمجلس السوفييت الأعلى جاء فيها "بصفته وصياً معترفاً به دولياًً على الاتحاد السوفييتي السابق، ينبغي على الاتحاد الروسي أن يستند إلى مبدأ يقوم على أساس إعلان المجال الجيوسياسي للاتحاد السوفييتي بأسره دائرة نفوذ حيوية، وينبغي على روسيا أن تحصل من المجتمع الدولي على الاعتراف بدورها الضامن للاستقرار السياسي والعسكري في أراضي الاتحاد السوفييتي السابق. ومن المناسب الحصول من بلدان "مجموعة السبع" على المساعدة للقيام بهذه المهمة، وحتى لتمويل قوات التدخل الروسية"(1)
2 ـ تجليات ووسائل "التوسع الروسي":
اعتماداًً على وسائل شرعية في مقدمتها الدستور المعدل على إثر قنبلة البرلمان المتمرد في أكتوبر 1993م، ووسائل قهرية مؤسساتية في مقدمتها الجيش الآخذ نفوذه في التصاعد، ووسائل ثقافية في مقدمتها المزاج النفسي ـ الثقافي الروسي الذي يرفض أنصاف الحلول في حل المشكلات، ووسائل اجتماعية ـ اقتصادية ضد الجمهوريات العنيدة، تطبق روسيا منذ 1993م استراتيجية توسعية عنيفة وشاملة قوامها التدخلات العسكرية والسياسية والاقتصادية في دول "الجوار القريب" داخل فدرالية روسيا (الشيشان، داغستان..) وخارجها (جورجيا، أرمينيا، طاجيكستان..).
كما استخدمت روسيا ذريعة "الأقليات الروسية" في الجمهوريات المستقلة، كسيف مصلت على رقاب حكامها. وكان العنوان الكبير لهذه التدخلات هو صد أي خطر أو تهديد على الأمن الاستراتيجي الروسي وهذا الأمن الاستراتيجي يتكون من مفردتين (المصالح الروسية والاستقرار الإقليمي).(2)
لقد اتبعت الخطة الروسية محورين المحور الأول يتمثل في الكبح التدريجي لمحاولات التحرر الاقتصادي للجمهوريات من القبضة الروسية، والثاني يتمثل في وضع اليد على أي محاولة من محاولات البناء الذاتي للقوة العسكرية المستقلة، المحور الأول يقوم على بث قناعة مفادها أنه لا مناص من الاندماج الاقتصادي بالشروط الروسية في منظومة كومنولث الدول المستقلة في سبيل أي تطلع نحو العافية الاقتصادية؛ والمحور الثاني يقوم على قناعة مفادها؛ ضرورة الخضوع للقيادة الروسية والاكتفاء بقوات عسكرية وطنية اسماً ورمزاً؛ ولم تسلم من المحور الثاني للخطة سوى أوكرانيا التي استطاعت أن تقف عسكرياً على قدميها بالاستقلال عن روسيا.
الإجراءات المعتمدة يمكن تلخيصها في الآتي:(3)
ـ إقامة ميثاق أمن جماعي أعطى روسيا سلطة الرقابة على الحدود الدولية لكومنولث الدول المستقلة.
ـ اتفاقية حفظ السلام (استخدمت كآلية للتدخل في الأزمة الطاجيكية).
ـ منطقة روبل جديدة كإطار نقدي إقليمي (الغاية منه تخويل البنك المركزي الروسي دوراً حاسماً في الشؤون النقدية والمالية).
وقد آتت الخطة الروسية أكلها في كل من روسيا البيضاء التي أصبحت في حالة شبه إلحاق وجورجيا وطاجيكستان اللتين تحولتا عملياً إلى محميتين روسيتين، وذلك تحت غطاء تقديم الوساطة السياسية بين المتنازعين.
3 ـ الموقف الرسمي الروسي:
سنعتمد في قراءة الموقف الروسي من المنطقة، ومن خلاله التصور السياسي الدولي لروسيا، على ثلاثة مصادر أندريه كوزيف وزير خارجية روسيا السابق(4). يفجيني بريماكوف مدير المخابرات آنذاك 1994م(5)، وقسطنطين شوفالو(6) سفير روسيا لدى الأمم المتحدة 99 ـ 2000م.
يعتقد الأول أن روسيا بتدخلاتها السابقة الذكر إنما "تنهض بدور (مشروع) كشريك حقيقي في تدبير الشؤون الدولية" وأنها تريد من خلال عرض عضلاتها على جيرانها الأقربين ـ أن تبعث برسالة إلى شركائها الأبعدين بأنها، أي روسيا، "ترفض فكرة أنها أصبحت رجل أوروبا أو آسيا المريض". ويفهم من هذا القول إذا وضعناه في سياقه الدولي آنذاك أنها تضطلع بدورها كشرطي إقليمي، في الوقت الذي بلغت فيه العربدة الأمريكية والغربية أوجها في كل من الصومال وهاييتي.
أما يفجيني بريماكوف، وهو أكاديمي معروف بثقافته الشرقية الواسعة، فيؤكد من خلال التقرير الاستراتيجي الروسي لسنة 1994، الذي أشرف على إعداده أن روسيا إنما تقوم بواجب مشروع من الوجهة الاستراتيجية في وقت تتهددها فيه مهددات أمنية جيواستراتيجية ثلاثة
1 ـ عدم الاستقرار الناتج عن الأزمة الأفغانية وتبعاته على استقرار آسيا الوسطى (استمرار هاجس الأفغنة).
2 ـ التدخل الإيراني التركي والتخوف من تأسيس دولة فارسية أو تركية كبرى.
3 ـ "الأصولية" الإسلامية.
وينتهي التقرير بالتوصية بضرورة إقامة مجال دفاعي مشترك في المنطقة موضوع البحث تتولى روسيا تزعم رعايته وحمايته.(10/25)
أما الرؤية التي يؤسسها السفير شوفالو فتقوم على رفض عولمة الدور العسكري للناتو كآلية للتدخل بعيداً عن شرعية الأمم المتحدة، ومن هنا فإن روسيا لا يمكن أن تقبل عدم الاستقرار في جوارها حتى لا يستخدم كذريعة لتمدد واتساع أنشطة الناتو المرفوضة في البلقان؛ إلى مجال يعتبر في العقيدة الجيواستراتيجة الروسية مجالاً حيوياً غير قابل للاختراق؛ وتزداد المخاوف الروسية عندما يتنادى بعض النخب الحاكمة في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز طالبة مزيداً من الالتزام الغربي بأمن واستقرار المنطقة.
مخاوف روسيا وأهدافها
تتخوف روسيا أساساً من إمكان وجود خطة يمينية متطرفة في الإدارة الأمريكية قوامها احتواء روسيا عسكرياًً من خلال مد ولاية الناتو العسكرية إلى المنطقة؛ واقتصادياًً من خلال تحجيم النفوذ الاقتصادي الروسي على دول المنطقة وتجاهل المصالح الروسية في موضوع إبرام العقود والصفقات الكبرى المتعلقة بالطاقة، خصوصاً طاقة أذربيجان الضخمة؛ كما تتخوف روسيا من وجود مخطط أممي أصولي إسلامي من شأنه تهديد الأمر الواقع الحدودي، وكذا بث الكراهية "والروسيافوبيا" في المنطقة في أوساط السكان اعتماداً على وقائع الحرب في الشيشان.
وقد تدعمت هذه المخاوف عندما أعلنت الإدارة الأمريكية عن عزمها إرسال قواتها إلى المنطقة تحت غطاء قوات حفظ السلام في شريط ناجورنو قارباخ وتحت إشراف منظمة الأمن والتعاون الأوروبي وبمشاركة قوات روسية.(7)
ولذا تسعى روسيا إلى القيام بكل ما من شأنه جعل دورها لا غنى عنه، بدءاً برعاية الحلول السلمية الإقليمية في جورجيا مع أبخاريا؛ وحل المشكلات الثنائية العالقة مع جورجيا فيما يتعلق بتقسيم أسطول البحر الأوسط التي أثارت مشكلة تجاهلها والاكتفاء بالحصة الأوكرانية في الأسطول وقد تم حل المشكلة في أكتوبر 97 بمنح جورجيا أربع سفن حربية(8) كما نجحت روسيا بمشاركة أمريكية وغربية في الحفاظ على السلام فيما يخص مشكلة ناجورنو كاراباخ.
مع ذلك تظل الشكوك والاتهامات قائمة بين روسيا وكل من أمريكا والغرب فيما يتعلق بالرغبة في الهيمنة على المنطقة على حساب مصالح الطرف الآخر، ولذا ما فتئت روسيا تتحمل مالياً وعسكرياً النصيب الأوفر في التكاليف الناجمة عن عمليات حفظ السلام في المنطقة (طاجيكستان، جورجيا، ناجورنو كاراباخ) إلا أن المجموعة العسكرية المشتركة بين كازاخستان وقرغيزستان وأوزبكستان المستقلة عن روسيا وبمشاركة قوات أمريكية التي حطت بالقرب من الحدود الروسية لم تكن لتروق للمسؤولين الروس خصوصاً عندما يصرح قائد القوات الأمريكية المشاركة في التدريبات العسكرية مع المجموعة المذكورة سابقاً "لا يوجد أي بلد فوق أرض البسيطة لا يمكن أن نذهب إليه".(9)
ولذلك تبذل روسيا جهوداً مضنية بالاعتماد على مظلة الكومنولث في سبيل إحراز نجاحات مماثلة لنجاحاتها في حفظ السلام في البؤر المتوترة المذكورة سالفاً، ولكن استمرار وتقدم النجاحات رهين بإرادة الأطراف المتنازعة نفسها كما هو رهين إلى حد ما بتعاون القوى الدولية والإقليمية المنافسة لروسيا.
الرهانات الروسية في المنطقة : تأسيساً على كل ما سبق يمكن إجمالاً تلخيص الرهانات الروسية في العناصر الآتية
1 ـ تأمين الأمن والاستقرار في المنطقة نظراً لحساسية الجوار الجيوبولتيكي.
2 ـ خلق مناخ ملائم للتجارة والأنشطة والمبادلات الاقتصادية.
3 ـ خلق مناخ غير عدائي، بل صديق ومتعاون.
4 ـ الحيلولة دون وقوع أي بلد من بلدان كومنولث الدول المستقلة في حظيرة الهيمنة التابعة لأي قوة دولية أو إقليمية ثالثة.
5 ـ منع أي تحرك أو عمل عدائي موجه ضد روسيا من داخل أي دولة من دول الكومنولث.
6 ـ توفير وضمان القدرة اللازمة والسريعة للتدخل بهدف الحفاظ على سلامة حدود دول الكومنولث.
7 ـ حماية الأقليات الروسية المنتشرة في الدول المعنية.
8 ـ الحيلولة دون تصاعد أنشطة تهريب المخدرات والأسلحة والهجرة غير المضبوطة للأفراد.
9 ـ مقاومة المد الأصولي الإسلامي، ومحاصرته إعلامياً وأيديولوجياً واستراتيجياً بالتعاون مع الدول المعنية ومن خلال تحييد العامل الإيراني.
ثانياً أمريكا:
1 ـ الأصول النظرية :
لفهم أبعاد السياسة الأمريكية في المنطقة من المناسب التذكير بالأصول النظرية للسياسة الخارجية الأمريكية على نحو مختصر. وذلك لربط الجوانب المبدئية الأساسية في التصور الدولي للولايات المتحدة بسلوكها السياسي والاستراتيجي في منطقة كانت إلى عهد قريب جزءاً من التراب الوطني لخصمها التاريخي الاتحاد السوفييتي السابق.
"تقوم السياسة الخارجية الأمريكية على مبادئ أساسية متعارف عليها وأخرى خاصة بطبيعة المجتمع السياسي والاقتصادي الأمريكي؛ وهذه المبادئ هي
أولاً المحافظة على الاستقلال والأمن.
ثانياً السعي نحو التأمين والمحافظة على المصالح الاقتصادية (خصوصاً مصالح المجموعات الاقتصادية ذات النفوذ داخل الولايات المتحدة).(10/26)
ثالثاً سياسة المساعدات الاقتصادية ذات الأهداف المتعلقة بالمصالح السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. أي المصالح المرتبطة بإشاعة وتوسيع الدعاية السياسية والأيديولوجية الوطنية داخل الدول الأجنبية من خلال تدعيم وسائل وأشكال التبادلات الثقافية والعلمية التي من شأنها الإسهام في بلوغ الأهداف ذات العلاقة"(10).
وهكذا فإن هذا البعد الثالث هو البعد الأبرز في السلوك السياسي الأمريكي إزاء المنطقة على الأقل، هذا ما يؤكده نائب وزير الخارجية الأمريكي في خطاب هو الأشمل حول الموضوع حسبما نبَّه إلى ذلك مركز آسيا الوسطى والقوقاز الذي ألقى في إطار أنشطته ذلك الخطاب(11)، يقول ستروب تالبوت "منذ اعتلى فريق كلينتون سدة الحكم في الولايات المتحدة كان خطابه واضحاً إزاء دول المنطقة بقدر تقدم تلك الدول في اتجاه الحريات السياسية والاقتصادية، وفي اتجاه المصالحة الوطنية والدولية ستكون الولايات المتحدة إلى جانبها".(12)
2 ـ أبعاد الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة :
وحسب تحليل تالبوت فإن للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة أربعة أبعاد:
أ ـ تطوير الديمقراطية.
ب ـ خلق اقتصادات السوق الحرة.
ج ـ احتضان السلم والتعاون داخل وبين دول المنطقة.
د ـ إدماج دول المنطقة في منظومة المجتمع الدولي.
أ ـ تطوير الديمقراطية :
بخصوص البعد الأول فإن المصطلح والمفهوم يبدوان جديدين تمام الجدة على دول ظلت عقوداً تحت نير نظام شمولي في كل شيء، ثم إن فجائية الاستقلال والحاجة إلى مرحلة انتقالية لتثبيت أسس الدولة الوطنية وضعت تلك الدول أمام تحديات كبرى بفعل ضحالة الثقافة السياسية الديمقراطية من جهة، وحساسية التكوينات الديمو ـ إثنوجرافية للمجتمعات من جهة ثانية.
إن تلك الدول لم تكن مستعدة أو كانت استعداداتها سيئة على الأصح لتقبل فضائل العملية الديمقراطية، بل إن الديمقراطية نفسها أصبحت حسب تالبوت "عقبة أمام الانتقال الديمقراطي".
وإن كان نموذج انتخابات جورجيا على عهد شيفرنادزة كذبت تلك التوقعات. غير أن الصورة في الدول الأخرى "مختلطة" بتعبير "تالبوت" فعلى الرغم من تنظيم قرغيزستان لانتخابات تعددية فإنها شنت متابعات جنائية ضد نقادها ومعارضيها بينما جرت خروقات كثيرة لحقوق الإنسان في الدول الأخرى. وقد قامت الولايات المتحدة في سبيل تطوير الديمقراطية وحقوق الإنسان بالتوجه نحو مؤسسات المجتمع المدني والسياسي من منظمات حقوق إنسان ومنظمات محامين..وكذا نحو الأحزاب لإبرام عقود شراكة وتعاون بهدف تقديم الخبرة والمشورة والتدريب، وأعلنت أنها تعتبر الديمقراطية والسوق الحرة "شرطين" للتطور الاقتصادي، أي أن إقامة حكم القانون هو الذي من شأنه جذب الاستثمار الأجنبي.
ب ـ البعد الاقتصادي :
بخصوص هذا البعد، فإن الولايات المتحدة اتجهت إلى أرمينيا وجورجيا (الدولتين المسيحيتين ضمن مجموعة دول آسيا الوسطى والقوقاز) والحجة أنهما تقدمتا أكثر من غيرهما في جهود الإصلاح الاقتصادي والضريبي والتخصيص. وتأتي بعدهما قرغيزستان وكازاخستان، أما الدول الأخرى فإنها تواجه صعوبات في الطريق نحو اقتصادات السوق الحرة.
"وقد أنفقت الولايات المتحدة بين 1992م و1997م حوالي 2.2 مليار دولار من المساعدات لدول القوقاز وآسيا الوسطى خصصت معظمها لسد الحاجات الإنسانية، وكذا دعم استيعاب ومساعدة اللاجئين في المنطقة".
كما تعمل الولايات في إطار منظمات سياسية ومالية مختلفة كمنظمة أوروبا للأمن والتعاون وصندوق النقد الدولي في سبيل ما تسميه تطوير ودعم الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية، وذلك من خلال دعم سياسات الإصلاحات الضريبية وبرط اقتصادات دول المنطقة ضمن برامج واستراتيجيات البنك الدولي. ومجلس أوروبا والاتحاد الأوروبي؛ وقد تجسَّد ذلك أيضاًً في تشجيع انخراط كل من أرمينيا وجورجيا وقرغيزستان وكازاخستان في حظيرة منظمة التجارة العالمية نهاية 1998م.
وقد قدمت أمريكا ـ حسب تالبوت ـ مساعدات تقنية ومالية لتمكين دول آسيا الوسطى والقوقاز من تجاوز الآثار الكارثية الناجمة عن مشكلة بحر الآورال البيئية. وتستهدف السياسة الأمريكية إزاء المنطقة محاربة انتشار الأسلحة وتهريب المخدرات والجريمة المنظمة وذلك ضمن إطار مقاربات إقليمية لمقاومة تلك الآفات العابرة للحدود. وهو ما يقودنا إلى البعد الثالث للسياسة الأمريكية.
ج ـ البعد الأمني الاستراتيجي :(10/27)
تسمى الإدارة الأمريكية تدخلها في المجال الأمني الاستراتيجي في منطقتي آسيا الوسطى، والقوقاز "التزاماً" وقد تجلى هذا الالتزام في مشاركة القوات الأمريكية ضمن المجموعة العسكرية المتعددة الجنسيات من المنطقة. وتتلخص المساعدة الأمريكية في تقديم خبرات مسح الألغام وتوزيع المساعدات الإنسانية وحفظ السلام. وتنفي الولايات المتحدة خوض أي منافسة مع القوى الإقليمية فيما يتعلق بالرهانات الجيواقتصادية المتمثلة أساساً بالبترول والموارد الطبيعية الأخرى التي تزخر بها المنطقة وعلى رأسها أذربيجان؛ ولئن حاول تالبوت نفي هذه الحقيقة من خلال تركيزه على المستقبل (القرن 21) بدل الماضي (القرن 19.. مفهوم اللعبة الكبرى ظهر في نهاية القرن19 وهناك عدد من الباحثين يطلق هذا الوصف على الصراع الجيواستراتيجي حول ثروات المنطقة) وقد عززت تلك الحقيقة سلوكات الولايات المتحدة إزاء إيران وإلى حد ما روسيا .
وقد تدخلت الولايات المتحدة فيما يتعلق ببؤر النزاع في ثلاثة نزاعات :
النزاع الأرميني الآذري حول ناجورنو كاراباخ من خلال منظمة الأمن والتعاون الأوروبية وعبر مؤتمر مينسك ومن خلال أيضاً إرسال مبعوث أمريكي هو لين باسكو.
إلا أن التدخل الأمريكي كان لصالح أرمينيا التي لها جماعة ضغط في أوساط الكونجرس نجحت في سن قانون رقم 907 عنوانه قانون دعم الحرية؛ يمنع بموجبه على الإدارة الأمريكية تقديم أي دعم لحكومة أذربيجان مع العلم أن هذه الأخيرة هي المتضررة من الصراع وهي التي فقدت 15% من أراضيها وهجر حوالي 11% من سكانها أي ما يعادل 800 ألف أذري.
وقد اعترف تالبوت في خطابه بمساوئ القانون الذي حد من قدرة أمريكا على التأثير في صياغة القرار الأذري في أواسط التسعينيات (القانون صدر سنة 1992م إثر الحصار الأذري لأرمينيا ورداً على غزو هذه الأخيرة لأراضيها (إلا أننا نستدرك هنا أن أذربيجان برئاسة حيدر علييف عاودت الاتصال والتنسيق مع الولايات المتحدة؛ معتمدة على ثرواتها كوسيلة جذب.
النزاع الجورجي ـ الأبخاري دعمت أمريكا التسوية التي رعتها الأمم المتحدة وشجعت ـ حسب تالبوت ـ الرئيس شيفرنادزة على التشبث بالطرق الدبلوماسية في حل النزاع.
النزاع الطاجيكي ساهمت الولايات المتحدة بشكل غير مباشر في رعاية الأمم المتحدة للتسوية التي أثمرت عدة اتفاقيات وتفاهمات انعقدت في كل من كابل وطهران وموسكو.
وفي مجال التعاون الإقليمي تدعم الولايات المتحدة التوجهات التركية المتمثلة في الاستثمارات الاقتصادية في كل من أذربيجان وتركمانستان وفي ربط صلات شاملة ثقافية وسياسية وثيقة تحت لواء النموذج العلماني ضد النموذج العقدي الذي تحمله طهران وتناضل من أجله الحركات الإسلامية الموجودة في جميع دول المنطقة بما فيها القوقاز الشمالي الخاضع للولاية الجغرافية لروسيا.
غير أن الملاحظ يستنتج أن هذا التحالف التركي الأمريكي أنتج تحالفاً مقابلاً هو التحالف الروسي ـ الإيراني بسبب حذر روسيا من تغلغل تركيا في المنطقة وهو ما توافقها عليه إيران.
وبخصوص السياسة الأمريكية إزاء روسيا وتخوفاتها فإن الولايات المتحدة تعتقد أن التخوفات الروسية مردها لروسيا ذاتها نظراً لهويتها التاريخية وللحالة النفسية الانتقالية التي تمر بها؛ ولعقيدتها الجيواستراتيجية التي تحدد قوتها وسلطانها الإقليمي مع ضعف واهتزاز ودونية الدول الأخرى الإقليمية إزاءها.
وفي هذا الاتجاه تنحو السياسة الأمريكية نحو ترسيخ وتعميق النزعات الاستقلالية والاعتماد الذاتي لدول مجموعة كومنولث الدول المستقلة وتعتقد أمريكا أن على روسيا أن تعيد تحديد مكانتها ودورها كقوة عظمى بالنظر إلى المستقبل وليس بالنظر إلى ما كانت عليه في الماضي؛ وذلك بالتمييز والمقارنة الإيجابية بين ثنائيات "الوطنية والتوسعية ـ الاعتزاز الوطني بالذات والإضرار الوطني بالآخرين ـ الجار الكبير والجار الحسن".
هـ ـ الاندماج في المجتمع الدولي:
إن سياسة الولايات المتحدة مع دول المنطقة بما فيها روسيا تستهدف الإدماج في المجتمع الدولي، لكن ليس أي إدماج؟ إنه الإدماج وفق تصور الإدارة الأمريكية، إدماج دول مسؤولة عالمياً وإقليمياً ووطنياً، وهذه المسؤولية تتحدد وفق التوصيف الأمريكي في المصالحة والإصلاح والاستقرار الإقليمي؛ بما فيها العلاقات في إطار كومنولث الدول المستقلة. فأمريكا ضد استخدام الكومنولث حصان طروادة للاستقواء على الآخرين وبالأخص أمريكا نفسها.(10/28)
وتعتبر الولايات المتحدة وجودها ونفوذها في المنطقة ضمانة الإدماج الإيجابي لدول المنطقة في حظيرة المجموعة الدولية. وفي هذا الاتجاه فإن الولايات المتحدة تفضل التدخلات الاقتصادية والحقوقية والإغراءات المالية في إطار منظمات غير حكومية ومجموعات رجال الأعمال والمستثمرين. ومن جهتنا نلاحظ أن الولايات المتحدة اتخذت مساراً متغايراً ومتدرجاً في التزامها إزاء المنطقة فقد التزمت الصمت على سياسات روسيا في جوارها القريب بموجب تفاهم جيواستراتيجي (الشراكة من أجل السلام) ثم أخذت في النصف الثاني من التسعينيات تتدخل بشكل أكبر يدل على ذلك حضورها العسكري وكذا تصاعد ضغوطها السياسية والإعلامية على بعض دول المنطقة، كما أنها نهجت نهجاً متناقضاً في بعض الحالات فهي ضد الدكتاتورية وفي الوقت نفسه لم تفعل شيئاً ضد حكومة أوزبكستان السلطوية، وفي الوقت نفسه تقول إنها ترعى المصالحة والاستقرار والاندماج وحرية التجارة مع أنها تحاصر إيران وتضغط على شركاتها من أجل رفض خيار أنبوب النفط الذي يمر عبر الطريق الإيرانية رغم أنه الأمثل اقتصادياً والأفضل أمنياً ومالياً..
ثالثاً القوى الإقليمية الأخرى :
كما تعلمنا الصورة الأفغانية التي تتسم بكون مواقف الدول الإقليمية (باكستان، إيران، روسيا) جزءاً لا يتجزء من المشهد الأفغاني بالنظر للرهانات الكامنة وراء مسألة "من يحكم أفغانستان؟" وهي رهانات تتراوح بين الأمني والاستراتيجي والاقتصادي، فإن دول آسيا الوسطى المستقلة ومعها دول القوقاز الثلاث تشكل موضوعاً لتنافسات ومناورات القوى الأقليمية الأخرى المتمثلة أساساً في إيران وتركيا وباكستان.
1 ـ إيران وتركيا :
بسبب العوامل الجغرافية والتاريخية والثقافية توجد إيران في موقع متميز إزاء آسيا الوسطى، فهي متاخمة لأذربيجان وتركمانستان. كما أن لإيران صلات ثقافية ضاربة في التاريخ خلال ما يقرب من ألفي عام، بحيث كان لإيران "الدور الثقافي الرئيس في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، وكان بعض أنحاء هذه المنطقة موضع نزاع بين الفرس والأتراك (القرن 16) ثم بين الفرس والروس (القرن 18 و 19) كما كانت شعوب المنطقة تتحدث اللغة الفارسية قبل أن يتم تتريكها، لكن بقي التراث الفارسي عميقاً في المنطقة، كما تشترك إيران ديموجرافياً في إحدى القوميات، حيث يوجد بإيران نحو تسعة ملايين إيراني أذري لا يمكن تمييزهم عن ستة ملايين يمثلون القومية السائدة في جمهورية أذربيجان. وكذلك فإن قطاعاً من شعب أفغانستان كان قد فصل عن روابطه الطبيعية مع آسيا الوسطى السوفييتية (سابقاً) عبر نهر آموراديا، الذي يكون معظم الحدود بين أفغانستان والاتحاد السوفييتي (السابق).(13)
ورغم أن تركيا لاتملك حدوداً مباشرة مع الشعوب المنحدرة من أصل تركي الواسعة الانتشار في آسيا الوسطى والقوقاز، فقد عوضتها أوزبكستان الجمهورية الاكثر نمواً من حيث العامل الديموجرافي (ما يزيد على 20 مليون) والتي تشكل نوعاً من "الجامع التركي" بين شعوب المنطقة. ولئن كان لإيران مصالح جيوسياسية وثقافية مفهومة وهي تعمل جاهدة لترسيخها برغم العداء الأمريكي التركي، والحذر من بعض النخب العلمانية القومية، فإن تعاونها مع روسيا من جهة أكسبها موطئ قدم في طاجيكستان، كما أن تحولها السياسي الأيديولوجي التدريجي يعطيها من جهة ثانية موقع جذب جديد للنخب التواقة إلى التوفيق بين الأصالة التاريخية والثقافية من جهة والمعاصرة المتمثلة في التجديد السياسي الديمقراطي وإشاعة مفاهيم المجتمع المدني وحكم القانون من جهة أخرى. ناهيك عن كون إيران تتوافر على مقومات مد أنابيب النفط والغاز من بحر قزوين إلى الشرق الأوسط وأوروبا.
ومع أن طبيعة السياسة الإيرانية السابقة مضافاً إليها الحملة الإعلامية والأيديولوجية المنسقة بين أمريكا وتركيا والكيان الصهيوني عرقلت إلى حد ما استراتيجيات إيران في المنطقة فإن حتميات الجغرافيا والثقة المتصاعدة في النظام الإيراني يضعها في موقع الممر الضروري ضمن رهانات المنطقة الجيواستراتيجية والجيواقتصادية.
أجل إن إيران تواجه عوائق مذهبية (جل المسلمين في المنطقة موضوع البحث سنيون) وعوائق القدرة المالية على الاستجابة لتطلعات دول المنطقة في التنمية وتدفق الاستثمارات والخبرة التقنية. وهناك أيضاً مخاوف من عدم الاستقرار العرقي في أفغانستان ومضاعفاته الأمنية على التوازنات الإيرانية كما أن هناك خشية من تطلع القوميين الأذريين إلى أذربيجان كبرى تجمع جمهورية أذربيجان باشقائهم في العرق في محافظة أذربيجان الإيرانية.(14)
أما تركيا فإنها تقدم نفسها كنموذج حداثي متجه نحو أوروبا ومتحالف مع أمريكا التي تتطلع إليها دول المنطقة كقوة حماية ومساعدة من الناحيتين الاقتصادية والسياسية؛ إلا أن لتركيا قيداً من جنس عنصر الجذب الذي تتمتع به إنه العامل العرقي التركي الذي يثير حذر الجمهوريات من سيطرة وتمدد تركيين في المنطقة تحت عباءة "الجامعة التركية".(10/29)
إن القرب الجغرافي والتماثل العرقي كما هو عنصر تفضيلي فإنه أيضاً عنصر تنفيري أو أقله تهديدي، وتتمتع إيران بعلاقات قوية مع كل من روسيا وطاجيكستان وأرمينيا (التي دعمتها مع أنها مسيحية لفك حصار أذربيجان المسلمة عليها) وتركمانيا (قامت بعقد اتفاقيات تعاون اقتصادي بما فيها عقد مد أنابيب النفط التركماني عبر إيران) حرصت إيران منذ البداية على تأمين حصتها في بحر قزوين.
وأبرمت إيران تحالفاً قوياً مع روسيا ودعت الجمهوريات السوفييتية إلى الإبقاء على روابط الاتحاد السوفييتي والتنسيق مع روسيا(15). كما أن إيران لا تؤيد انفصال الشيشان عن روسيا؛ ولا تقوم بأي عمل من شأنه تهديد مصالح روسيا في المنطقة وخاصة لجهة الامتناع عن تدعيم الحركات الإسلامية المقاتلة؛ وهو ما تقابله روسيا باستمرار بمواصلة تعاونها العسكري مع إيران من جهة، وإبداء التحفظات على التورط التركي في المنطقة من جهة ثانية. وهو ما عبر عنه السفير الروسي في تركيا بقوله: "إننا نود أن تكون علاقة تركيا مع الجمهوريات علاقة الشقيق، وليس المثير لنزعات عنصرية"(16).
إلا أن إيران بدورها تواجه الضغط الأمريكي المتجه إزاء روسيا من جهة وإزاء الجمهوريات من جهة أخرى، فهي (أي أمريكا) تخيفهم مما تسميه النموذج الثيوقراطي، وتستخدم الوعيد والتهديد ضد الدول التي ترغب في التقرب مع دولة "خارجة عن القانون، تدعم الإرهاب وتصدر الأصولية المتطرفة وتسعى للتزود بالأسلحة المحرَّمة عن طريق التهريب والإغراء الموجه للجمهوريات وخصوصاً تجاه المهندسين النوويين المنتمين إلى المنطقة".
وللرد على ذلك فإن إيران تعتمد استراتيجية(17) تقوم على صيانة المثلث الاستراتيجي الأمن، الطاقة، القوة التسليحية؛ وتقديم صورة مغايرة للدعاية التركية الغربية والأمريكية أولاً من خلال عرض التطور السياسي الذي تشهده إيران بكونه يمثل نموذجاً للديمقراطية والمشاركة بعيداً عن الإملاءات الغربية وفي الوقت نفسه تقديم دورها في حل نزاعات آسيا الوسطى عربون حُسن نية، كما تعتمد إيران خطاً سياسياً يستند إلى الجيوبولتيك وليس دائماً إلى الأسبقيات العقائدية كما يدل على ذلك موقفها المدهش من حصار أذربيجان المسلمة لأرمينيا المسيحية حيث ساهمت في فك الحصار عن الثانية وهو عمل قدم دعاية مضادة للدعاية الغربية عن الطابع الأصولي المتطرف للسياسات الإيرانية.
كما أن إيران تدافع على وضعية البحر المشترك بالنسبة لقضية قزوين الذي تشاطئه دول أخرى؛ وهي موزعة بفعل موقعها الجغرافي المتميز بين أمن آسيا الوسطى والقوقاز وأمن الخليج، "لأن لإيران أيضاً منافع حيوية في الخليج، وبالتالي يتمتع بأهمية فائقة بالنسبة إليها، وإن أي نزاع يجري يبعث القلق في نفسها وتكمن أفضل صورة للخليج في نظر إيران، في جعله ممراً مائياً دولياًً لجميع البلدان"(18).
ولعل هذا ما سيفتح الطريق جنباً إلى جنب مع دور إيران في آسيا الوسطى لبحث إمكانات ومحاولات استكشاف آفاق التطبيع بين أمريكا وإيران وهو ما تحاوله إدارة كلينتون منذ 1999م من خلال جملة من الإشارات قاعدتها "لقاء المصالح" بين الدولتين في كل من آسيا الوسطى والقوقاز من جهة وفي الخليج من جهة ثانية
ويمكن القول إن إيران فرضت وجودها كوسيط ولاعب أساسي في المنطقة، فهي لا تتدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول ولم تقدم مساعدات مادية أو لوجستيكية للحركات الإسلامية المقاتلة، يقول أحد زعماء حركة النهضة الإسلامية الطاجيكية: "سمعت كثيراً عن تورط إيران في حركة الإسلام السياسي في آسيا الوسطى ولكنني لم أعثر على أي علامة أو أثر مع الأسف، إن إيران ترفض عموماً التدخل في شؤون آسيا الوسطى"(19) وقد استفادت إيران من سلوكها هذا في تكثيف علاقاتها مع تركمانستان التي تجمعها بها علاقات إثنية وتاريخية فقد كانت أول سفارة فتحت لإيران في آسيا الوسطى في تركمانستان في حين لعبت إيران دوراً نشيطاً في أذربيجان لصد أي توجه طوراني.
إن الحديث عن خطر إسلامي أصولي تسانده إيران وينطلق من طاجيكستان هو عبارة عن "أسطورة تروجها أقلام غير قليلة من الكتاب والصحفيين على الرغم من الحقائق"(20).
2 ـ باكستان :
إن الحلم الذي ظل يداعب أذهان ومخيلات صناع القرار في إسلام أباد ردحاً من الزمن دون تحقيقه يتمثل في "طريق الحرير بين الصين وآسيا الوسطى" ولعل هذا الحلم هو الذي يشكل قاعدة فهم التشبث المستميت بالدور الأساسي في الساحة الأفغانية ومن ثم كسب مفتاح الطريق ـ الحلم، لكن الفشل في حل الأزمة الأفغانية يعطل تحقيق هذا الحلم.
ويمكننا بعد هذا العرض أن نلخص مواقف الأطراف المعنية في النقاط التالية:(10/30)
1 ـ بالنسبة لروسيا فإن من الواضح أنها لا تريد أن تعطي انطباعاً بكونها "رجل أوروبا أو آسيا المريض"، وهي تحاول بكل الوسائل أن تبقي على مكانتها الدولية إزاء الولايات المتحدة والحلف الأطلسي من خلال إبداء الممانعة إزاء تمدد هذا الأخير، وفي الوقت نفسه فإنها تستميت في محاولاتها منع تحول الاستقلال الحديث للدول التي تعتبرها داخلة في منطقة نفوذ حيوية بالنسبة لها، إلى استقلال فعلي حقيقي، وتحرر واسع قد تعتبره مقدمة لفتح باب التغلغل الأطلسي للاقتراب من حدودها في الوقت الذي تعمل فيه جاهدة لمواجهة "عربدة" الحلف الأطلسي في البلقان وتوسعه المتواصل في أوروبا الشرقية.
2 ـ بالنسبة للولايات المتحدة، فإنها اتبعت استراتيجية متدرجة ومرنة، هي مهمومة بمشكلة "من يحكم روسيا؟" أولاً، وهذا محدد أساسي بالنسبة لاستراتيجيتها، وهي ثانياً أخذت تتغلغل تدريجياً ودون إثارة غضب روسيا في المنطقة، وهي ثالثاً حاربت الدور الإيراني وتعمل على فك الارتباط الاستراتيجي بينه وبين الدور الروسي، أقله على مستوى التسليح العسكري الاستراتيجي.
إن الولايات المتحدة تريد تحويل تغلغلها الاقتصادي ومساعداتها "الأمنية" إلى وجود استراتيجي "مرضي عنه" من قبل الجميع بمن فيهم روسيا. ولكنها تواجه تحدياً إيرانياً قوياً، تحاول تحييده ولاتزال بالترهيب والترغيب.
3 ـ بالنسبة لتركيا وإيران فقد لاحظنا أن المراهنة الأمريكية الأطلسية على تركيا لم تحقق نجاحاً كبيراً ليس فقط بسبب عدم قدرة الأولى على لعب الدور الموكول لها، الذي لايخدم بالضرورة مصالحها القومية بل لأن إيران نفسها ساعدت على إحراج ذلك التحالف وإفراغه من مضمونه الجيواستراتيجي.
4 ـ أما بالنسبة لباكستان فإن طموحاتها في المنطقة مرتبطة إلى حد بعيد بالطريقة والنهاية التي ستنتهي إليها الأزمة الأفغانية؛ ففي الوقت الذي تعتبر فيه أفغانستان معبراً باكستانياً إلى آسيا الوسطى والقوقاز فإن تسوية الأزمة شرط ضروري، ولكن هذه التسوية تتأخر بفعل عدم تعاون أو رفض الأطراف الأخرى المعنية (روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى المجاورة ـ إيران)، القبول بهيمنة باكستانية على القرار الأفغاني.=>
الهوامش
(1) جوني (علي) "اتجاهات"؛ نشرة "شؤون الأوسط"، عدد 27، مارس 1994، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت، لبنان. ص105 ـ 111.
(2) B r zezinski Zbigniew the p r ematu r e pa r tne r ship Fo r eign affai r s, Ma r ch ap r il 1994. p 73.
(3) Ibid pp 73 - 74.
(4) Kozey r ev (And r ei) r ossyskaya Gazeta, Decembe r 7, 1993.
(5) r ussian St r ayegic r epo r t, Moscow, 1994.
(6) Shuvalou (Konstantin) the r ole of r ussia in a changin wo r ld, Inte r national instituta fo r caspian studies, septembe r , 1 1999. Causasus www vi r tual lib r a r y. Aust r alian national unive r sity.
(7) Nezvisimaya gazeta octobe r 21, 1997.
(8) postfactum octobe r 22, 1997.
(9) وكالات الأنباء الدولية، 14-16 سبتمبر 1997.
(10) Sapin (Bu r ton M) The Making of united states fo r gein policy, New yo r k p r aego r fo r the b r ookkings institution, 1966. p48,
(11) Talbot (St r obe) Ame r ican policy in the Caucasus and cent r al Asia Ad r ess delive r ed at the cent r al asian institue the johns hopkins unive r sity, july 21. 1997.
(12) Ibid
(13) Fulle r (G r aham E) the eme r egence of cent r al Asia. fo r eign Policy, N 78, Sp r ing 1990, pp 42 - -51.
(14) مجلة مستقبل العالم الإسلامي، الملف، مرجع سابق، ص 227-231.
(15) صرح نائب وزير الخارجية الإيراني سنة 1991 بما مفاده "كنا نهتف بالموت للاتحاد السوفييتي، واليوم بعد سقوط الشيوعية لانطلب له الموت، بل نحن حريصون على وحدته إلى أقصى حد"، جريدة "السفير"، بيروت 26-10-1991م.
(16)The cono r mist septembe r 27. 1991.
(17) Les Cahie r s de LصO r ient. زLa st r ategie I r aninne en Asie cent r aleس 30/ 12/ 1998.
(18) حول سياسة إيران الإقليمية في الخليج تراجع الدراسة المتميزة للأكاديمي الأمريكي البارز من أصل إيراني هوشنك أمير أحمدي "سياسة إيران الإقليمية" مجلة اطلاعات الإيرانية سبتمبر 1993م، مترجم إلى العربية في "شؤون الشرق الأوسط"، عدد 27. مارس 1994م، ص 6 ـ 20.
(19) Ka r am (pat r ick) Li r an en Asie cent r ale r eal Politique cont r e Messianisme islamique les cahie r s de lo r ient.
(20)Ibidem.
===========(10/31)
(10/32)
خطر صرف المرأة عن دورها داخل بيتها
أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة ترتيب أوراق المرأة المسلمة لتحديد الأولويات فيما يُراد منها.
إن طاقات المرأة يجب أن تفرغ كاملة للدور العام المنوط بها في إعداد أجيال النصر المنشودة، بلا تشتيت أو تعطيل، فإذا كان للمرأة قدرات خاصة، وملكات تتميز بها عن غيرها فيمكن هنا أن نوجه للمرأة خطاباً خاصاً للقيام بعبء خاص ومسؤولية خاصة دون عموم النسوة، وبالمتابعة والمخالطة يمكن توجيه هذا الصنف من النساء لمهمات أكثر بحيث يمكنه الاضطلاع بها دون عناء، أما أن نتعسف في إكبارنا لدور المرأة، ونظرتنا إليها فنفتح أمامها مجالات وميادين للمشاركة في مسيرة الأمة، وتكون كل امرأة معنية بها، فهذا من الخلط الذي يأتي نتيجة طبيعية للتعميم عند التوجيه.
ليس معنى ما ذهبت إليه أنني أحجم المرأة أو أستصغر شأنها، ولكني أستشعر خطر صرف المرأة عن دورها داخل بيتها، وإشغالها عنه بأدوار ثانوية قد لا تتطلبه المرحلة التي تعيشها الأمة، وتعيشها المرأة.
ولماذا نهوِّن من شأن البيت بما فيه من زوج وولد؟ وقد أصبح هذا البيت هدف عولمة تريد تقويضه أولاً ثم تأهيل النفوس على إلغائه فلا تقوم له قائمة من الأساس؟ وإذا كانت كل مؤتمرات المرأة في عالم اليوم تحاول إثناءها عن الاستجابة الفاضلة عزيزة الأنوثة، والنزوع إلى زوج وولد في بيت له تقديره وتقديسه، كما تحاول التهوين المستمر من شأن هذا البيت، وإمكان التحلل منه وتصويره أو إلغاء تصوره مكاناً طبيعياً لممارسة الأمومة والزوجية.
أليست كل هذه المحاولات الخبيثة جديرة بأن نعيد المسلمة إلى تصور صحيح منضبط بضوابط الشرع لما يجب أن تقوم به من دور عظيم تستفرغ له طاقاتها وقدراتها؟ بعيداً عن التعسف في إيجاد أدوار لها خارج بيتها، تجنح بها عن فطرة سوية وغريزة طبيعية يجب مراعاتها؟.=>
ماجدة شحاته
============(10/33)
(10/34)
المرأة في فكر مالك بن نبي
يعتبر المفكرالإسلامي الجزائري مالك بن نبي واحداً من رجالات القرن العشرين العالم الذين شغلوا أنفسهم بقضايا أمتهم، وسعوا إلى بلورة الحلول والاقتراحات الكفيلة بإخراج الأمة المسلمة من تخلفها الشامل المركب، ودفعها إلى معانقة العصر بفاعلية. فقد قدم مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ مشروعاً فكرياً متكاملاً في وقت كان فيه العالم الإسلامي يعارك فلول الاستعمار أو يعيش مخلفاته التي كبلت حركته وسممت أجواءه الثقافية والفكرية بإفراز نخبة منه حاولت إفهام الرأي العام المسلم بأن القوة في اتباع سبل الغرب وتقليد نموذجه الحضاري، وقد وقف مالك بن نبي ضد هذه الدعوات اليائسة والمضللة وصاغ مقولة "القابلية للاستعمار"، مقتنعاً بأن الهزيمة الحقيقية للجيل المسلم الذي جايله، وكل جيل استوفى شروطه نفسها، هي هزيمة نفسية لا تزول إلا بتغيير ما بالنفس مصداقاً لقوله تعالى: >> إنَّ اللَّهّ لا يٍغّيٌَرٍ مّا بٌقّوًمُ حّتَّى"يٍغّيٌَرٍوا مّا بٌأّنفٍسٌهٌمً << (الرعد: 11).
و في إطار مشروعه الفكري العام وتحديد نوعية وطبيعة المشكلات التي يواجهها المجتمع الإسلامي، وقف مالك بن نبي عند قضية المرأة التي تعرضت لكثير من التشويه، خصوصاً مع اتساع دائرة التأثر بالنموذج الحضاري الغربي وموقع المرأة الأوروبية فيه.
تحديد طبيعة المشكلة
ينبغي القول بادئ ذي بدء إن قضية المرأة عند مالك بن نبي تندرج ضمن منظومته الفكرية العامة التي حددها في مشكلة الحضارة، بأبعادها الشاملة، السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. فمشكلة الحضارة عنده قضية لا تتجزأ، وأي تجزيء لها يقود حتماً إلى طرح المشكلات طرحاً خاطئاً ومن ثم تحديد وسائل خاطئة للعلاج. إن مالكاً يعتبر أن العالم الإسلامي أضاع وقتاً طويلاً، وجهداً كبيراً بسبب عدم التحديد المنهجي الصحيح للمرض الذي يتألم منه منذ قرون عدة، وذلك عائد إلى التجزيئية التي عزلت القضايا عن بعضها ونظرت إلى كل واحدة على حدة.
من هنا وقف مالك من قضية المرأة موقفه من القضايا الأخرى، وقد أطلق على هذه القضية تسمية "مشكلة المرأة" في كتابه "شروط النهضة"، وذلك انسجاما مع منظومته الفكرية التي تدور حول مشكلة الحضارة عموماً من ناحية، وللتدليل على مقدار التضخيم الذي كان من نصيب موضوع المرأة في العالم الإسلامي سواء من أنصار التحرر الذي يصل بالمرأة إلى درجة التحلل، أو من أنصار التزمت الذي يغلق بصره أمام حقائق الإسلام.
اعتبر مالك بن نبي أن ليست هناك مشكلة للمرأة معزولة عن مشكلة الرجل، فالمشكلة واحدة، هي مشكلة الفرد في المجتمع، فقد حاول الكثيرون، بوحي من الفكر العربي التجزيئي، النظر إلى قضية المرأة كقضية مستقلة، ومن ثم خلقوا معركة مفتعلة بين أفراد المجتمع الواحد ووضعوا المرأة في مواجهة الرجل، وهذه قمة التجزيئية وتشويه حقيقة الصراع الحضاري، لأنه يضع الزوجة في مواجهة الزوج، والبنت في مواجهة الأب والأخت في مواجهة الأخ وهلم جرا، فيتحول الصراع من صراع المجتمع ضد التخلف الحضاري والاغتراب إلى صراع داخل المجتمع نفسه، مما يلهيه عن التصدي للتحديات في بناء متماسك.
وتقود هذه الطريقة في تشخيص المشكلات وتحديد معالمها إلى منظور كمي، ذلك أن وضع جدار فاصل بين المرأة والرجل يؤدي ضرورة إلى البحث عما يفرق ويجمع بينهما وبعد ذلك إلى إيجاد ما ينقص المرأة إزاء الرجل، وهل هي أكبر أو أصغر منه، أو تساويه في القيمة. ويعتبر مالك أن هذه الأحكام ما هي إلا افتئات على حقيقة الأمر ومحض افتراء(1).
موقفان ودافع مشترك
ميز مالك بن نبي بين موقفين متقابلين من قضية المرأة : موقف المتمسكين بإبعاد المرأة عن المجتمع وإبقائها في وضعها التقليدي الذي كرسته التقاليد، وموقف الداعين إلى أن تخرج المرأة في صورة تلفت إليها الغرائز، ويرى أن موقفي هذين الفريقين يصدران عن دافع واحد هو الغريزة.
وهذان الموقفان لا يساهمان في حل المشكلة، بل ربما زادا الطين بلة. وإذا كان موقف الداعين إلى التحرر على النمط الغربي واضح الأخطار على المجتمع الإسلامي بسبب ما يؤدي إليه من ترسيخ للتبعية وتبليد للحس الإسلامي وضرب للهوية الخاصة للأمة، فإن الموقف الثاني قد يكون أشد خطراً لأنه يعطي لأعداء الأمة المبررات للخوض في سمعة الإسلام والتشكيك فيه، ويجعل المرأة حين تفكر في الحرية لا تجد أمامها إلا النموذج الغربي الحاضر أمامها.
من أجل ذلك يستبعد مالك هذين الموقفين لأنه "لا أمل لنا أن نجد في آرائهما حلاً لمشكلة المرأة"(2)، ويقول: "إن إعطاء حقوق المرأة على حساب المجتمع معناه تدهور المجتمع وبالتالي تدهورها، أليست هي عضواً فيه؟ فالقضية ليست قضية فرد، وإنما هي قضية مجتمع"(3).
موقفه من تقليد المرأة الأوروبية(10/35)
إن تقليد المرأة الشرقية المسلمة للمرأة الأوروبية لا يحل المشكلة عند مالك، وإنما يزيد من تعقيدها بعد أن كانت بسيطة، لأن انتقال المرأة من امرأة محجبة إلى امرأة سافرة لم يحل المشكلة، فهي لاتزال قائمة، وكل الذي فعلناه أننا نقلنا المرأة من حالة إلى حالة، وسنرى عما قريب أن انتقالها هذا عقد المشكلة بعد أن كانت بسيطة"(4)، فحال المرأة الأوروبية ليست بالتي تحسد عليها، فقد رتب خروجها في صورة تخاطب غريزة الفرد الحيوانية أخطاء جديدة، حيث وصلت مشكلة النسل إلى حالة تدعو إلى الرثاء، وفقد المجتمع تنظيمه الاجتماعي المتماسك الصلب، وامحت المعاني الحقيقية التي تحترم العلاقات الجنسية، وأصبحت هذه العلاقات تسلية للنفوس المتعطلة، وبذلك فقدت هذه العلاقات وظيفتها من حيث هي وسيلة لحفظ الأسرة وبقاء المجتمع.
فالمطلوب إذن عند مالك هو التخلص من نظرة الإعجاب التي ينظر بها أنصار تحرر المرأة في العالم الإسلامي إلى المرأة الأوروبية، لأن هذه هي الخطوة الأولى نحو التشخيص الصحيح للمشكل ومكامن الخلل. ومالك لا يضع أيضاً أزمة المرأة الأوروبية في معزل عن أزمة الحضارة الغربية عامة لأن المنظور الحضاري عنده هو إطار كلي للتفسير يتم رد جميع المستويات والجزئيات إليه في سياق كلي شامل، تأتي بعدها الخطوة الثانية وهي ضرورة التخلص من النظرة الجامدة إلى التقاليد التي علقت بالممارسة والوعي الديني لدى الفرد المسلم.
وإذا كانت التغييرات الاجتماعية والاقتصادية قد دفعت بالمرأة إلى عالم الشغل والمصنع والخروج من البيت، فينبغي في رأي مالك بن نبي أن توضع أزمة العاملة الأوروبية في نظر الاعتبار. فقد كانت المرأة في أوروبا ضحية هذا الخروج لأن المجتمع الذي حررها قذف بها إلى المصنع وإلى المكتب وقال لها: "عليك أن تأكلي من عرق جبينك" في بيئة مليئة بالأخطار على أخلاقها، وتركها في حرية مشؤومة، ليس لها ولا للمجتمع فيها نفع، ففقدت ـ وهي مخزن العواطف الإنسانية ـ الشعور بالعاطفة نحو الأسرة، وأصبحت بما ألقي عليها من متاعب العمل صورة مشوهة للرجل دون أن تبقى امرأة".
وعلى هذا الأساس يدعو مالك بن نبي إلى أن توضع قضية تحرر المرأة المسلمة في إطارها الحضاري الإسلامي الطبيعي، وفي إطار الخصوصيات الحضارية والثقافية للأمة: "ينبغي أن تطبع حركتنا النسائية بطابعنا لا بطابع ما يصنع في الخارج"(5).
مشكلة الزي
من اللافت للانتباه أن يخصص مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ فصلاً خاصاً في كتابه "شروط النهضة" لقضية الزي بعد الفصل الذي خصصه لقضية المرأة، وقد جعل عنوان هذا الفصل في صيغة إشكالية تحت عنوان "مشكلة الزي" وبعد الفصل الخاص بالمرأة مباشرة، ليدل على الترابط بين القضيتين.
لقد ركزت الدعوات الأولى لتحرر المرأة أهدافها على الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة قبل أي جانب آخر، مما يدل على أن مسألة الزي أو اللباس ليست مسألة جانبية أو شكلية كما يريد الكثيرون تصويرها، بل مسألة لصيقة بالنموذج الحضاري والاختيار الثقافي للفرد والمجتمع.
إن مالكاً يرى أن الزي أحد عوامل التوازن الأخلاقي الرئيسة، بل اكثر من ذلك يعتبره ذا روح خاصة: (ليس اللباس من العوامل المادية التي تقر التوازن الأخلاقي في المجتمع فحسب، بل إن له روحه الخاصة به، وإذا كانوا يقولون: "القميص لا يصنع القسيس" فإني أرى العكس من ذلك، فإن القميص يسهم في تكوين القسيس إلى حد ما، لأن اللباس يضفي على صاحبه روحه)(6). فلم يكن مصطفى كمال الذي قضى على الخلافة العثمانية حين نزع الطربوش واستعاض عنه بالقبعة يريد فقط تغييراً شكلياً واستبدال زي بآخر، بل لأنه كان يدرك أنه يرمز إلى تاريخ قائم بذاته، وحضارة وسلوك اجتماعي معين، لذلك جاءت القبعة بمثابة القنبلة التي انفجرت في ذلك المجتمع.
فالزي ليس مجرد ديكور خارجي خال من المعاني والمضامين الكبرى في حياة الأمة، بل تعبير عن هوية، فهو يسهم في تمييز المجتمعات عن بعضها ويعطيها خصوصيتها المتفردة، ويجعل الفرد يشعر بانتمائه إلى ثقافته وحضارتة الخاصة، ويعطيه الشعور بالتكاليف الاجتماعية التي يضعها عليه لباسه المميز. أما بالنسبة للمرأة فإن الزي يمثل حقيقتها التي تميزها عن حقيقة نساء المجتمعات الأخرى، ويضفي عليها معاني الحضارة التي تعيش في قوالبها وأشكالها وطقوسها، فلباس المرأة الأوروبية مثلاً الذي كشفها وفضح جسدها يدل على تسخير المرأة لأغراض هي غير الأغراض الحقيقية المعلن عنها، أغراض التحرر والاختيار والحضور الفاعل في المجتمع، وهو يعبر عن طبيعة الحضارة الغربية المادية وثقافتها الساعية إلى تقديس مبدأ اللذة، يقول مالك بن نبي: "غير أنها أصبحت اليوم ـ أي المرأة الأوروبية ـ تلبس اللباس الفتان المثير، الذي لا يكشف عن معنى الأنثى، فهو يؤكد المعنى الجسدي الذي يتمسك به مجتمع ساده الغرام باللذة العاجلة".(10/36)
ويسوق مالك نموذجاً حياً لتكييف المرأة مع الاختيار الثقافي والحضاري والسياسي عن طريق الزي، وهو نموذج المرأة اليهودية في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي لهذا البلد، والتي كانت تتهيأ للهجرة من الجزائر نحو فلسطين لتندمج في حياة دولة "الصهاينة" الجديدة. فقد كانت هذه المرأة تأتي من أطراف الواحات الصحراوية الجزائرية بأزيائها البلدية لتتحول إلى "مواطنة يهودية" منذ أن تصعد الباخرة، حيث تترك المفلحة والكحل وترتدي الأزياء التي تناسب طبيعة المجتمع الجديد. ويرى مالك أن هذا التغيير الشكلي في حقيقته هو مجرد خطوة أولى في سلسلة تطورية تصل إلى حد التغيير النفسي والفكري بعد أن تكون المرأة اليهودية قد ألقت عن جسدها اللباس القديم الذي كان يربطها بالمجتمع منذ قرون، واستعدت لإعادة بناء شخصيتها وتشكيل وعيها في المحيط الجديد(7).
دور المرأة في إعادة البناء الحضاري
إن دور المرأة المسلمة عند مالك بن نبي يكتسي أهمية خاصة في إعادة البناء الحضاري للأمة من جديد، فهي عماد الأسرة التي تقوم بتشكيل الأفراد وتنشئتهم على معاني الحضارة وإعداد الأجيال لحمل الرسالة، ولذلك يضع مالك علاقة متينة بين شخصية المرأة التي يريدها المجتمع وبين قضية بناء حضارة المجتمع.
يقول ابن نبي: "الواجب أن توضع المرأة هنا وهناك حيث تؤدي دورها خادمة للحضارة، وملهمة لذوق الجمال وروح الأخلاق، ذلك الدور الذي بعثها الله فيه أماً وزوجة للرجل".
ونظراً لخطورة المهمة الحضارية وتشعب مسالكها وتعدد المداخل إليها وتوزع الاختصاصات، فإن حل مشكلة المرأة هو الآخر كجزء من هذه المهمة لا يمكن أن ينهض به ـ في نظر مالك ـ قلم كاتب في مقال أو كتاب لأن "هذه المشكلة متعددة الجوانب ولها في كل ناحية من نواحي المجتمع نصيب"، لذلك يقترح عقد مؤتمر عام تحدد فيه مهمة المرأة بالنسبة لصالح المجتمع يشارك فيه إلى جانب علماء الشريعة الأطباء وعلماء النفس والاجتماع وعلماء التربية، حينئذٍ يمكن القول ـ بحسب مالك ـ إننا وضعنا المنهج الأسلم لحياة المرأة "ولسوف يكون هذا التخطيط حتماً في صالح المجتمع، لأن علماءه والمفكرين فيه هم الذين وضعوه"، وينبغي أن تكون مقررات هذا المؤتمر العام "دستوراً لتطور المرأة في العالم الإسلامي".
وإذا كان اقتراح مالك بن نبي بعقد مثل هذا المؤتمر يبدو بمقياس الفترة التي كتب فيها غريباً رغم الحاجة إليه، فإنه يظهر اليوم ضرورة منطقية بعد أن أصبحت المؤتمرات الدولية الساعية إلى عولمة النموذج الغربي للمرأة الأوروبية وهدم الأسرة في العالم الإسلامي تعقد باستمرار، ويقوم الإعلام الغربي والعلماني التابع له في ديارنا بالنفخ في قراراتها وتوصياتها، وتقوم المؤسسات الدولية النافذة بالضغط على الشعوب المسلمة لتنفيذ تلك المقررات وتطبيقها في تشريعاتها الداخلية.
وما يملي عقد مؤتمر للمرأة المسلمة عند مالك بن نبي هو أن المرأة في العالم الإسلامي تتطور أوضاعها بطريقة غير مرسومة الأهداف وبدون غاية محددة، أي بعيداً عن أهداف البناء الحضاري للأمة، مما يقتضي ضرورة التخطيط لهذا التطور لتحديد الأهداف المتوخاة منه، بشكل لا تتعارض فيه مع الأهداف العليا للأمة الإسلامية.
وبسبب هذا الوعي الحضاري لدى مالك بن نبي، فإنه لا يتحدث عن تحرر المرأة أو عن حريتها، ربما لكي لا يقلب المفاهيم ويسقط في شراك المصطلح الغربي، بل يتحدث عن "الحضور"، ليربط قضية المرأة بالقضية الشاملة للأمة، وهذا الحضور ـ المشتق من معاني الحضارة، والذي يعني الفاعلية ـ يرتبط في مدلوله العام بمصطلح الشهود الحضاري للأمة، حتى تظل الأمة المسلمة خير أمة أخرجت للناس، شاهدة عليهم، وهو شهود باق إلى يوم القيامة.=>
الهوامش
(1) مالك بن نبي: شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين. دار الفكر ـ بيروت، الطبعة الثالثة 1969 ص 174 .
(2) نفسه ص 176 .
(3) نفسه ص ص: 177 ـ 178 .
(4) نفسه ص 179 .
(5) مالك بن نبي: بين التيه والرشاد، ص 58 .
(6) شروط النهضة ص 188 .
(7) مالك بن نبي: في مهب المعركة، إرهاصات الثورة، ص:137 ـ 138 .
=============(10/37)
(10/38)
سينما هوليوود في خدمة "البيت الأبيض"
دعوات المقاطعة الشعبية للسلع والخدمات الأمريكية ليست مجرّد دعوة لدعم الانتفاضة، بل هي وسيلة أصبحت ملحّة ولا ينبغي الاستهانة بأهميتها للتحرر من الهيمنة الأمريكية. وإنّ العرب والمسلمين، لاسيما الجيل الشاب، الناشئ في ظلّ هيمنة العولمة بهوية أمريكية أو عولمة الهيمنة الأمريكية بحملات جديدة، إنّما يدينون بهذا المنظور لحدث الانتفاضة، وللوعي الشعبي الذي عبّرت عنه، والذي يحقق التضامن المطلوب من وراء سائر الحدود والحواجز، ولا ريب في أنّ المقاطعة شكل من الأشكال الحاسمة والفعّالة للوعي الشعبي والتضامن العربي والإسلامي، ومن أسباب تفعليها بيان الأضرار الكبرى التي ينشرها الارتباط التبعي بالولايات المتحدة في مختلف الميادين، العسكرية والسياسية والاقتصادية وكذلك الفكرية والاجتماعية التي قد تكون أخطر من سواها، نظراً لما تساهم فيه من صياغة الأفكار والأذواق والأحاسيس، وهذا ممّا تلعب الصناعة السينمائية الأمريكية فيه دوراً رئيساً.
يتصاعد البخار في مطابخ أفلام هوليوود من كثرة الطبخات التي تعَدّ فيه، فالتشكيلة واسعة ومتنوّعة: من قصة الحب السماوي إلى المعركة الزوجية الجهنمية.. ومن فيلم الرعب المفزع إلى الكوميديا الفكاهية الممتعة.. من أفلام الكاوبوي المغبّرة إلى أفلام الفضاء المستقبلية.. تقدَّم لجماهير السينما والتلفاز حسب الأذواق كأطباق خفيفة ذات روائح شهية، أو كأطباق مُبهّرة حادّة من الأفلام الأمريكية. أما العرض المغري على لائحة الطعام الذي يطلبه المشاهد الشاب فهو فيلم المشاهد السريعة الحركة، والذي يدعى action movie وهو في العاده مليء بالعمليات الإجرامية والاقتتال.
يتم إخراج هذا النوع من الأفلام من قِبَل كبار طبّاخي الأفلام الأمريكية مثل رولاند إمّريخ وولفجانج بيترسون وجيمس كامرون باستمرار. وتحصل أفلام (الأكشن) على طابعها الخاص باستخدام أدوات فنية مثيرة وأصوات غريبة ومشاهد مُبالغ فيها وتتميَّز بقصة رهيبة تجذب الانتباه التام خلال مشاهدة الفيلم حتى النهاية، وهذه القصص يجب النظر فيها للكشف عن السر الموجود خلف الوصفة الإنتاجية لهذه الأفلام.
حين ننظر لمنتجات سينما هوليوود في السنوات الماضية نلاحظ أن قصصها في الكثير من الأحيان ليست مأخوذة من الخيال فحسب، وإنما هي مستوحاة من أرض الواقع القائم، وهي أكثر من مجرد أفلام للتسلية، وتكون السياسة مِحور القصة والحدَث في أكثر الأحيان. ولكن أي نظرية تُقدَّم للمشاهدين في كل أنحاء العالم، بالصوت المجسّم وعلى الشاشة الكبيرة؟
القائمة طويلة والاختيار واسع
هناك تشكيلة رهيبة من المقبلات، ومنها مثلاً فيلم بموضوع كلاسيكي، يتحدث عن اختطاف طائرة من قبل إرهابيّين إسلاميّين متعصّبين (كالمعتاد).. يختطفون طائرة جامبو مليئة بالركاب ويهدّدون من موقعهم هذا واشنطن بقنبلة غازية مدمرة للأعصاب.(Executive Decision, USA 1996)
ونتناول في الوجبة الرئيسة فيلماً موضوعه قضية تهريب أسلحة حيث تُسرَق قنبلة نووية من مخزن نووي روسي ويتم بيعها مع ثمان أخر للعراق، فيتمكن مجرم صربي من تهريب واحدة منها إلى نيويورك، كي يفجّر بها مركز الأمم المتحدة (The Peacemake r , USA 1997).
ونختم الوجبة بتحلية فنختار فيلماً جاسوسياً خفيفاً، وقصته أن قنابل روسية (كالعادة) تقع بأيدي إرهابيين عرب (كالعادة) يهدّدون بتفجيرها لتخليص المعتقلين من جماعتهم من السجون الأمريكية (T r ue Lies, USA 1999).
وجبات تتوافق تماماً مع أذواق الحكام في واشنطن، لأنها تحتوي على الشرّيرين (bad guys) الذين يوقعون الدنيا في حالة خوف وفزع، ولا يقدر عليهم سوى الأبطال الأمريكان (good guys) والذين يقضون عليهم باسم السلام العالمي وأمن الدولة.
ويرسم المخرجون في هوليوود مشاهدهم المرعبة فيصورون فيها موضوعات تشغل السياستين الداخلية والخارجية الأمريكية ومنها خطر انتشار الأسلحة وخاصّةً أسلحة الدمار الشامل وخطورة التجارة بالمخدرات والأخطر: الإرهاب الدولي، الذي يجب اتخاذ إجراءات وقائية منه، حسب خطة وزارة الخارجية. فمن هم الأعداء في سياسة واشنطن ليحصلوا على أدوار الشريرين في أفلام هوليود؟
في ظلّ التطورات على الساحة الدولية هم الآن إرهابيون خطيرون دوافعهم دينية أو أيديولوجية ومن المفضل أن يكونوا من "الشرق الأوسط" أو من أنحاء مجهولة في العالم الثالث المتخلّف الفوضوي.. وهؤلاء الآن الذين يعزّون هوليود في "حزنها" على افتقاد العدو الشيوعي المفضل، إلا أنها ترجع لإحيائه عند اللزوم في بعض الأفلام.
ليس من باب "الصدفة" أن يتم إعداد الأفلام على أساس عملي وحقيقي، وأن يكون هدفها في كثير من الحالات نشر تصوّرات ومصالح أمريكية، وهى تشرح وتثبت في رؤوس الناس ضرورة قيام الولايات المتحدة بدور أساسي في النظام الدولي لحماية الشعوب، وخاصّةً شعبها، مما تعتبره عدواناً.(10/39)
ميمي ليدر (Mimi Lede r ) ـ وهي مخرجة فيلم (P r oject Peacemake r ) ـ ترغب كما تقول في "أن يستمتع زائرو السينما بمشاهدة أفلامها، ولكن في الوقت نفسه أن تذكرهم بأن الأشياء التي يرونها هي وقائع، تقوم الحكومة الأمريكية مع حكومات أخرى بمعالجتها".
وزميلها ولفجانج بيترسون يعلق على فيلمه حيث يقول إن هناك "حقيقة وجود الإرهاب الذي أصبح شيئاً تقبَّلناه كجزء من الحياة الحديثة.. فنحن خلقنا مشهداً لنوضح للجمهور كيف أنّ عملية إرهابية واحدة يمكن أن يكون لها أثر على العالم كله".
ظاهر أن مخرجي هوليوود اختاروا لأنفسهم خدمة حكومتهم باستخدام أفلامهم السينمائية كجهاز لتسويق سياسة الولايات المتحدة دولياً وتبريرها، وبالمقابل فإن البلد الأم وحكومته بالذات لا ترحّب بهذا العمل فقط وإنما تقوم بتمييز هؤلاء المخرجين الذين يتمتعون بالآداب السياسية الصحيحة، فهي تساعدهم في مشاريعهم السينمائية، مثلاً بتزويدهم بمعدّات وأدوات، أو توفير أماكن للتصوير، يتضح ذلك في فيلم (Ai r Fo r ce One) كمثال، والذي تقوم فيه جماعة خطيرة من الإرهابيين الشيوعيين باختطاف طائرة الرئيس الأمريكي وترافقه على متنها زوجته وابنته.
في هذا الفيلم يقوم الممثل المشهور هاريسون فورد بدور الرئيس الأمريكي، الذي يظهر كرجل شجاع ونبيل، حسيب نسيب، ورجل فعل لا رجل كلام فقط.. فهو وحده يتمكن من إنقاذ نفسه وعائلته ووطنه ويقضي على الأعداء بذكائه.
في مرحلة التحضير لتصوير الفيلم سُمِح لأعضاء الإنتاج أن يدخلوا طائرة الرئيس رغم القوانين الأمنية المتشددة التي لا تسمح لأحد بدخولها، وجاء هذا التصريح بعد مأدبة عشاء دعا إليها الرئيس الأمريكي كلينتون الممثلين الرئيسين ومخرج الفيلم، وسادها جو لطيف داخل البيت الأبيض. هذه الحركة الإيجابية لم تأت جواباً على طلب أو رجاء من قِبل صانعي الفيلم، فجنرال طائرة الرئيس الأمريكي المسماة (Ai r Fo r ce One) واسمه رون سكونيرز يقول في تصريح له : "في هذه المرة نحن الذين اتصلنا بالمنتجين لنسألهم إن كانوا بحاجة لمساعدة القوات الجوية.. وسمحنا لهم باستخدام قواعد القوات الجوية والمعدات التي لا نقدمها لهوليوود عادةً". ومن المعدات التي قدمها الجيش الأمريكي أيضاً ستة طائرات حربية من قاعدة القوات الجوية في فلوريدا، ومروحيتان من نوع (Blackhawk UH69)، كما تمّ تشغيل 250 رجلاً من الجيش الأمريكي لتشغيل تلك المعدات. كذلك فقد تلقى المسؤولون عن الفيلم مساعدة وزارة الدفاع، والوحدات العسكرية المحلية لولاية أوهايو وكاليفورنيا، لكي يبدو التصوير واقعيا للغاية.
وبذا أصبح هذا الإنتاج من أنجح الأفلام، وجمع صانعوه ثروة إضافية، وأصبح الرئيس الأمريكي بطلاً مشهوراً في أنحاء العالم.. يا لها من نهاية سعيدة!..
إنّ الأسلاك بين هوليود وواشنطن ساخنة باستمرار.. وتستمتع الحكومة بتحقيق ما تريد، وتدفع ثمنه بتعاونها الإيجابي.
وماذا عن المشاهد الذي ينفق ماله ووقته على مشاهدة هذه الأفلام؟
سيصاب أولاً بمغص شديد بعد تلك الوجبة، وثانياً.. سيتلقى عملية غسل دماغ مرتبة، كي يفهم حياته بصورة أفضل، عبر المنظار الأمريكي لها. وثالثاً سيستوعب لماذا تهاجم الولايات المتحدة حتى الآن وتضرب بطائراتها الحربية في العراق مثلاً، وهو المُدمَّر اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً إذ سيتذكر المشاهد ذلك المشهد المثير في فيلمٍ للبطل آرنولد شوارزنجر، عندما استعدّ رئيس المجموعة الإرهابية لإطلاق أربع صواريخ نووية على أمريكا.
ويبقى أن يستلقي المشاهد على مقعده مستريحاً، وأن يطمئن ويقول لنفسه: أمريكا ستقوم بحل المشكلات كلها.. على طريقتها المفضلة!.=>
=============(10/40)
(10/41)
العولمة والهوية الثقافية
&&إبراهيم بوغضن &&&
ما العولمة؟ العولمة تعني ـ لغة ـ تعميم شيء ما وتوسيع دائرة انتشاره ليشمل العالم كله. وكما ورد في معجم ويبسترز: "إكساب الشيء طابع العالمية وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالمياً".
ومعناها في المجال الاقتصادي إزالة الحواجز والحدود أمام حركة التجارة وإتاحة الحرية الكاملة لتنقل السلع ورؤوس الأموال.
ومعناها في المجال السياسي ـ الثقافي: العمل على تعميم نمط حضاري معين على بلدان العالم أجمع والنمط المقصود تحديداً هو النمط الحضاري الأمريكي. ويمكن انطلاقاً من هذا المفهوم أن نقول عن العولمة إنها : أمركة العالم (am r icanisation du monde).
ما الفرق بين العولمة والعالمية؟
يقع كثير من الدارسين في خلط كبير حينما يجعلون العولمة رديفة للعالمية.
فالعولمة قمع وإقصاء للخصوصيات، هي نوع من العدوان الثقافي تمارسه الثقافة الأمريكية على سائر الثقافات الأخرى. إنها رديف الاختراق الثقافي الذي يجري بالعنف ـ المسلح بالتكنولوجيا ـ فيهدر سيادة الثقافة في سائر المجتمعات الأخرى. إنها أخيراً نزعة رجعية ظلامية تقوم على احتواء الآخر ونفيه والهيمنة عليه وإقصائه.
أما العالمية (unive r salit) فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصي إلى مستوى عالمي، فهي طموح مشروع ورغبة في الأخذ والعطاء.
يقول تعالى: >> يّا أّيٍَهّا النَّاسٍ إنَّا خّلّقًنّاكٍم مٌَن ذّكّرُ $ّأٍنثّى" $ّجّعّلًنّاكٍمً شٍعٍوبْا $ّقّبّائٌلّ لٌتّعّارّفٍوا << (الحجرات:13)، ويقول أيضاً: >> $ّمٌنً آيّاتٌهٌ خّلًقٍ السَّمّوّاتٌ $ّالأّرًضٌ $ّاخًتٌلافٍ أّلًسٌنّتٌكٍمً $ّأّلًوّانٌكٍمً << (الروم: 22)، إنها آيات قرآنية صريحة في الإقرار بالتعددية الحضارية وحق الاختلاف.
أما العولمة، فهي تنطوي على الاستعلاء والمركزية الذاتية بما يتلازم معهما من إكراه وعدوان واستبعاد للغير والادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة ومحاولة فرضها على بقية البشر.
هل هي
ظاهرة مستحدثة؟
ما من شك في أن مصطلح العولمة مصطلح حديث، لكنه يطلق على واقع ضارب في القدم. ذلك أن الرغبة في عولمة حياة الناس وتنميط سلوكهم اتجاه قديم قدم حياة البشر.
فكتابات الفلاسفة عبر العصور كان الهدف منها أن يلتزم بها البشر كل البشر.
والإسلام في تحريره للإنسان ـ أي إنسان ـ هو دعوة للعالمين جميعاً. يقول الله تعالى: >> $ّمّاأّرًسّلًنّاكّ إلاَّ رّحًمّةْ لٌَلًعّالّمٌينّ =>107<= << (الأنبياء)، فدعوته إذن دعوة عالمية، لا تحدها حدود الجنس أو العرق أو اللون أو اللغة أو التاريخ أو الجغرافيا، أو أي اعتبار آخر، من هذه الاعتبارات الدنيوية الزائلة.
إلا أن الإسلام ـ خلاف العولمة المتوحشة ـ: "لا يقيم مجتمعاً نمطياً، بل إن الناس تستوي في الحقوق وتستوي في الإنسانية لكنها تتفاضل في الطاقات والملكات، والإسلام يزكي التنافس كما يدعو إلى التعاون لكي يتكامل الناس ولكي يتنافسوا في الوقت نفسه في الخير والبر والمعروف، >> $ّفٌي ذّلٌكّ فّلًيّتّنّافّسٌ الًمٍتّنّافٌسٍونّ=>26<= << (المطففين)، وبذلك تتوازن الحقوق والواجبات وعلاقات الفرد والجماعة، فليس في الإسلام تطرف نحو الفردية ولا تطرف نحو الجماعية ولا تطرف في التسلطية الشمولية، والإنسانية العالمية تعين الناس على التواصل وعلى التعاون في اقتسام الطيبات حتى يكون العالم كله سوقاً للعمل وسوقاً للإنتاج، ومجالاً للتبادل والتداول.
وتتميز نظرة الإسلام حول التعددية والاختلاف الثقافي بأن ليس هناك شعب معين مختار ومفضل على جميع الشعوب الأخرى، فالأفضلية يكتسبها شعب ما في القيم التي يعيش بها، وعليها تدار نظمه ومؤسساته، والإسلام بهذا المعنى لا يقر كل واقع، ولا يحترم كل اختلاف، ولا يقبل كل القيم ـ أياً كانت هذه القيم ـ بل وضع أسساً معيارية على ضوئها تتفاضل الثقافات فيما بينها، وعلى رأسها قيم الحق والخير والجمال والعدل.
والإمبراطوريات القديمة ـ كالرومان مثلاً ـ استخدمت قوتها لبسط نفوذها ونشر قيمها في أكبر رقعة ممكنة من العالم، إنها رغبة في العولمة ـ العالمية، ولاتزال القيم والسلوك وأنماط الحياة والعيش الفرنسية سائدة في الدول التي استعمرتها فرنسا في العصر الحديث. والشيء نفسه حدث للمستعمرات الإنجليزية، وعلى أثر كل حرب تحاول الدول المنتصرة احتواء العالم ووضعه تحت سيطرتها وصبغه على شاكلتها.
فبعد الحرب العالمية الثانية وجدت أيديولوجيتان تتقاسمان العالم، كل منهما يحاول عولمة العالم وفرض قيمه الأيديولوجية عليه، وعاش العالم في ظل حرب باردة ما يقرب من نصف قرن إلى أن حدث انهيار شامل للمنظومة الاشتراكية وسقط جدار برلين، ووقع تفكك مريع لما كان يسمى الاتحاد السوفييتي، وتوحدت الألمانيتان في دولة واحدة رأسمالية ديمقراطية، ويلاحظ هنا أن هاتين الأيديولوجيتين، رغم حربهما الباردة، فإنهما تنتميان إلى منظومة حضارية واحدة هي الحضارة الأوروبية.
وبعد غزو العراق للكويت، ووقوع "عاصفة الصحراء"، دعا الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش إلى إقامة نظام عالمي جديد، أحادي القطبية.(10/42)
ومنذ ذلك التاريخ والخطاب حول العولمة يتسع ويحث الدول تصريحاً أو تلميحاً على الانخراط في المنظمات الدولية التي تقف وراء وحدة "السوق" كالجات، و"منظمة التجارة العالمية"، والمؤتمرات الدولية التي تستهدف عولمة الفكر والثقافة والقيم كمؤتمر "البيئة" و"مؤتمر السكان" والمؤتمرات المعنية بقضايا المرأة.
والحقيقة أن الشركات المتعددة الجنسيات التي بسطت سيطرتها على كل أنحاء المعمورة هي التي تقف وراء هذا السعي الحثيث للارتقاء بأشكال وحدة السوق العالمية، وتمول النظريات التي تدعو باسم الحرية والليبرالية إلى حرية تنقل المنتجات والبضائع والرساميل والمهارات والتقنيات والأنواع المختلفة من المنتجات الاستهلاكية الموجهة إلى القارات التي تسكنها غالبية سكان العالم مستهدفة بذلك إدخالها بعنف إلى دوامة الاستهلاك، استهلاك نتاج هذه الشركات العملاقة.
وكون هذه الشركات متعددة الجنسيات لا يعني بتاتاً أنها ملك للإنسان ـ أي إنسان ـ على هذه الأرض، بل هي ملك للأغنياء، أغنياء أوروبا وأمريكا تحديداً.
أرقام ناطقة
ما من شك أن لوسائل الاتصال دوراً متقدماً في عولمة القيم والسلوك وتوحيد نمط العيش والتأثير في أذواق الناس وميولهم وخلق نفسية الاستهلاك لديهم وجعلهم أسرى منتجات الشركات متعددة الجنسيات، كما أن مما لا شك فيه أن لوسائل الاتصال الأكثر حداثة أكبر الدور في الترويج لقيم العولمة ويأتي في قمتها ـ أي الوسائل ـ شبكة الإنترنت، هذه الأخيرة تكاد تقع بالكامل تحت سيطرة الإنتاج الأمريكي واللغة الأمريكية، فحسب عدة دراسات تبين أن 88% من خدمات شبكة الإنترنت تبث باللغة الإنجليزية و2% فقط للغة الفرنسية.
كما أن أضخم وكالتين للأنباء في العالم أمريكتان وهما: "أسوشيتدبريس" و"يونايتدبريس".
80% من واردات التذاكر في دور السينما البريطانية تأتي من عرض أشرطة أمريكية، ونسبتها في فرنسا تبلغ 60%، أما الإنتاج السينمائي الأمريكي فقد فاق 75% من الإنتاج العالمي.
وتسيطر الولايات المتحدة الأمريكية على المنظمات الدولية بشكل شبه كامل، مثل البنك الدولي و"صندوق النقد الدولي" و"المنظمة العالمية للتجارة"، بل وحتى هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، كما بيَّن ذلك عديد من الوقائع، فهذه المنظمات جميعها "أمريكية الأصول أو النفوذ" بتعبير الأستاذ منير شفيق.
وفي عقد التسعينيات برز إلى الوجود ما يسمى بـ"المؤسسات التقييمية" وهذه المؤسسات عبارة عن جهاز شرطة يقف بالمرصاد لمن يتمردون على نظام العولمة، وذلك بالقيام بعمليات التأديب الاقتصادية، وإعطاء إشارات المرور أمام حركة الأموال والاستثمارات، ونجد على رأس هذه المؤسسات: موديز ـ أبيكا ـ ستاندر آنبورز.
إن هذه الوكلات ما هي إلا نوع "أجهزة مخابرات" جديدة تمارس عملية التغريب والترهيب وتقوم بالدور نفسه الذي كانت تقوم به أجهزة المخابرات التقليدية.
من أجل مقاومة فاعلة
إن الخطر ـ الذي أوضحنا طرفاً منه فيما سبق ـ الذي تمثله العولمة على الهوية الثقافية لدول العالم بصفة عامة وللعالمين العربي والإسلامي بصفة خاصة ليحث ذوي الضمائر على تنظيم مقاومة فاعلة لهذه العولمة ـ الأمركة.
1 ـ إن الوعي بالخطر هو الخطوة الأولى من أجل مقاومته، فما لم أعلم بأن هنالك خطراً يتهددني لا يمكنني أن أنخرط في المقاومة، ومن ثم فإن الخطوة الأولى على درب المقاومة هو نشر الوعي على أوسع نطاق، وبين أوسع الفئات الاجتماعية حول خطورة العولمة، وما تمثله من تهديد للقيم والدين والأسرة والحضارة وتدمير للإنسانية جمعاء. والخطباء والدعاة والمفكرون والصحفيون ورجال الفكر والثقافة، جميعهم مدعوون ـ كل حسب طاقته ـ للمساهمة في نشر الوعي حول ما يحيق بالعالم.
2 ـ المبادرة الذاتية: إن الوعي بخطورة العولمة سيؤدي حتماً إلى أشكال من المقاومة الشعبية، وسيكون لها أثر كبير في الصراع، فالفرد المسلم الواعي مثلاً يستطيع أن "يأخذ قراراً ذاتياً بأن يقاطع بضاعة الدولة التي يرى أنها تجاوزت الحد في الإساءة إلى مصالح الأمة" "إنه الإنسان العادي الذي عبَّر وهو يعلق على الأخبار أو حين يسمعها عن استيائه من هذا الموقف أو ذاك، فالمطلوب أن يتبع قراره ذلك بقرار ذاتي، أن يفعل شيئاً قد يبدو أنه فردي ومعزول ولا قيمة له وغير مؤثر، لكنه إذا ما أصبح نهجاً يمارسه الكثيرون، بل حتى القلة النسبية فيصبح عملاً مؤثراً يضرب في عصب الدولة المعنية، ولاتستطيع أن تتجاهله مهما كانت قوية وغنية وتجارتها رائجة"، والمشكلة هنا أن يقتنع الفرد بفاعلية خطوته حتى ولو لم تأخذ شكلاً جماعياً مادام ذلك متعذراً، فعندما يقتنع أفراد قليلون بأن يمارسوا المقاطعة ويتسموا بالنفس الطويل، ستبدأ الفكرة بالانتشار حتماً"(1).(10/43)
3 ـ تنسيق الجهود بين دول الجنوب: إن على الدول العربية والإسلامية ـ ودول الجنوب بصفة عامة ـ أن تسعى لتنظيم نفسها استعداداً للانخراط في المقاومة، مقاومة الهيمنة الأمريكية بعولمتها المتوحشة، بل "يجب أن تتحول الجمعية العامة في هيئة الأمم المتحدة مسرحاً للصراع حول هذه المسائل. وينبغي لهذه الدول أن تستعيد مرة أخرى مبادرات جماعية كما كان الحال مع لجنة (77) ومؤتمرات حركة عدم الانحياز، وربما كان ما حدث في مؤتمر السكان بالقاهرة وفي مؤتمر الأرض ومؤتمر المناخ ومؤتمر المرأة إرهاصات لتطوير صوت عالمي مقابل من أجل نظام عالمي غير ذلك الذي تريده أمريكا بمشروعها التدميري"(2)
4 ـ إن على طلائع النهضة ـ الحركة الإسلامية ـ العبء الأكبر في المقاومة لأنها جزء لا يتجزأ من الأمانة التي أخذتها على عاتقها، ومنها تستمد مشروعيتها، ألا وهي مقاومة الظلم والظالمين المستكبرين وإغاثة الضعفاء والمستضعفين، قال تعالى: >> كٍنتٍمً خّيًرّ أٍمَّةُ أٍخًرٌجّتً لٌلنَّاسٌ تّأًمٍرٍونّ بٌالًمّعًرٍوفٌ $ّتّنًهّوًنّ عّنٌ الًمٍنكّرٌ << (آل عمران:109)، ولعل السيطرة على شعوب العالم، وامتصاص ثرواتها وتدمير ثقافاتها بدعوى الحداثة والعولمة، لهو من أكبر المنكر الذي يجب على الحركة الإسلامية أن تنهض لمقاومته، والله غالب على أمره.=>
الهوامش
(1) ص 85 كتاب منير شفيق "في الحداثة والخطاب الحداثي" نشر المركز الثقافي العربي.
(2) المرجع نفسه ص 82.
=============(10/44)
(10/45)
حروب أهلية.. مذابح عرقية.. انقلابات عسكرية
إفريقيا السمراء بدماء حمراء!
إفريقيا إلى أين في ظل حروبها ونزاعاتها التي لاتنتهي؟ وهل تكمن أسباب هذه النزاعات والحروب في عوامل داخلية أم في عوامل خارجية؟ وما الحل في مواجهتها.. من أجل وقف نزيف الدماء بين أبنائها وهي تعبر إلى الألفية الثالثة؟
هذه الأسئلة وغيرها، تناولتها بالبحث والتحليل، ومحاولات الإجابة، ندوة "الصراعات والحروب الأهلية في إفريقيا" التي نظمتها منظمة تضامن الشعوب الإفريقية ـ الآسيوية بالتعاون مع المركز العربي للبحوث والدراسات الإفريقية والتوثيق، واختتمت أعمالها في القاهرة مؤخراً، وشهدت مشاركات ومداخلات ثلة من الخبراء والمختصين بشؤون القارة السمراء.
في البداية أشار الدكتور مراد غالب ـ رئيس منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية ـ إلى الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية الإفريقية مع بداية دخول إفريقيا الألفية الثالثة، مركزاً على المذابح، والطموحات القبلية والعرقية المقيتة السائدة في القارة، وهي تدخل هذه الألفية بوجه تملؤه الكدمات، مشيراً إلى ظاهرة القيادات التي نصبت نفسها في القيادة بقوة السلاح، واستولت على الحكم في الكثير من بلدان القارة.
ثم تساءل: هل تستطيع إفريقيا أن تدخل في مرحلة توازن، واستقرار، وسلام يؤهلها لتعويض ما فقدته، وأن تبدأ مرحلة جديدة تتناسب مع التغييرات الهائلة التي حدثت في هذا العالم من ثورة علمية، وتكنولوجية جعلت من كوكبنا قرية كونية صغيرة إلى "العولمة" التي انطلقت بقوتها وزحفها الكاسح المهيمن؟
وأكد غالب أن إفريقيا تواجه عناصر خارجية مؤثرة إلى حد كبير على مجريات الأمور وكذلك تواجه منافسة وصراعاً مريراً للسيطرة على مقدراتها، كما أن المنافسة والصراع الشرس بين الأنجلوفونية، والفرانكوفونية على أشدهما بين المستعمرين القدامى والمستعمرين الجدد.
الأبعاد الخارجية
ثم تحدث الأستاذ حلمي شعراوي ـ مدير المركز العربي للبحوث والدراسات العربية والإفريقية والتوثيق ـ مثيراً تساؤلاً مهماً وهو: هل هذه الحروب وتلك الصراعات سمة إفريقية عبر التاريخ القديم والحديث؟
وقدم شعراوي ورقته عن "الأبعاد الخارجية للصراع الإفريقي الداخلي" مشيراً إلى تعدد صور الصراعات الإفريقية كما تتعدد أسبابها وضرورة التساؤل عن البعد الخارجي والداخلي لهذه الصراعات بناء على ذلك التعدد.
واعتمد في ورقته على الافتراضات الآتية:
أولاً: لم تكن إفريقيا دائماً ساحة لمثل هذه الصراعات المدمرة قبل اتصالها بالظاهرة الرأسمالية الاستعمارية منذ خمسة قرون، بل عرفت ـ مثل أوروبا وآسيا ـ الإمبراطوريات والممالك المستقرة على أرض غانا، وبنين، ومالي، وكانم، والزولو، وزيمبابوي، ومصر، والمغرب الأقصى.
وأكد أن إفريقيا شهدت بعض الصراعات هنا وهناك أثناء فترة بناء الدولة ، فلم يصل ذلك لمثل الصراع الرأسمالي الأوروبي في حربين عالميتين مضحياً بنحو خمسين مليون نسمة في ثلاث قارات على الأقل، كما أن إفريقيا لم تقم نهضتها التاريخية الإفريقية على أشلاء البنى الاقتصادية الاجتماعية والسياسية لغيرها من الشعوب كما تم مع الأمريكتين، أو خلال الفترة الاستعمارية لإفريقيا كأكبر عامل خارجي في حياة القارة.
ثانياً: مرت إفريقيا بفترة الاستقلال السياسي، ومحاولات بناء الدولة مرة أخرى بعد الحرب الأوروبية الثانية في ظروف أنماط مستوردة للدولة، وكذلك حدود موروثة من عصر التكالب الأول دون اقتران ذلك بمثل هذه الصراعات المدمرة، اللهم إلا بعض الأزمات الحدودية، والخلافات السياسية المتوقعة فيما سماه جوليوس نيريري رئيس تنزانيا الأسبق ـ أمراض التكالب الثاني حول إفريقيا.
ثالثاً: عمدت المراكز الكبرى العالمية إلى تهميش أطرافها حيث انتعشت الرأسمالية العالمية بثروات النفط وبتطور الآليات الرأسمالية المالية عالمياً حتى غرقت مشروعات الدولة الوطنية في الانقلابات والديون، وانهارت أسعار المواد الخام والمحاصيل الزراعية، ويلاحظ أنه بالرغم من تطلع إفريقيا إلى آفاق التنمية الحقيقية التي سبق أن استعرنا أنماطها أيضاً من المراكز ـ إن لم نقل إنها فرضت بدورها ـ فإن منتج الثمانينيات والتسعينيات أصبح هو هذا الحجم من القروض والديون وبرامج التكيف الهيكلي مع مخططات المؤسسات المالية الدولية لإزاحة دور الدولة الوطنية تدريجياً!.
رابعاً: مع الضجيج السائد حول الحروب والصراعات الإفريقية فإنه لايركز الكثير أيضاً على الجهود الذاتية الإفريقية لتفعيل إمكاناتها الداخلية الاقتصادية منها والسياسية في أنحاء القارة، وذلك برغم مظاهر التكالب الثالث السائد، والمحاولات المستمرة لاستيعاب الثروة بعد استيعاب الاستقلال السياسي من قبل في ظل تجاهل الإعلام الدولي الذي يتحدث عن المذابح والحروب، ولايذكر شيئاً عن الشركات الدولية، وإدارات المراكز للعب بثروات الماس، والبترول، وتجارة السلاح... إلخ، الأمر الذي يجعل المسكوت عنه أكثر خطراً من المعلن عنه في عملية تشويه مقصودة وغير مبررة إلا بواقع الاستغلال الخارجي.(10/46)
خامساً: أصبحت العوامل الخارجية أكثر تشابكاً وبنيوية مع الواقع الإفريقي إزاء تطور النظام المركزي في العالم من الدولي إلى العولمة اقتصادياً وتشريعياً، وذلك مع استفحال دور المؤسسات المالية والشركات عابرة الدول والحكومات، ومع عسكرة القطب الأوحد لآليات الهيمنة.
ثم التفت الباحث نحو التاريخ بحثاً عن إجابات حول الواقع المدمر الذي تعيشه القارة، وذلك لمحاولة الخروج من المأزق، ودائرته المأساوية بسبب التاريخ الاستعماري لإفريقيا كعامل خارجي فرض بنية اقتصادية تقوم على محاصيل نقدية عدة في أنحاء مختلفة تحاصر عملية تقسيم العمل، وتنسيق الإنتاج وتحاصر عملية التكامل الاقتصادي، وتحرم الشعوب من أوليات الاكتفاء الذاتي الغذائي، حيث خصصت إفريقيا لتمد السوق "العالمية" بالقطن والبن والكاكاو والفول السوداني والشاي على سبيل المثال برغم أن هذه المحاصيل لاتمثل استجابة لحاجة غذائية مباشرة لشعوب القارة، ومثل ذلك يقال عن تعدين الذهب، والماس، والبترول... إلخ، وكذلك واقع البنية التحتية في البلدان الإفريقية، إذ تم نتيجة لذلك عملية دمج كاملة لمصير الشعب الإفريقي بالسوق العالمي منذ قرنين على الأقل، وفي مواقع من القارة منذ خمسة قرون نتيجة الاستيطان في الجنوب الإفريقي كله.
ثم تساءل الباحث: فأي سياسة يمكن تصورها الآن بعد هذا الإلحاق؟
وأجاب قائلاً: لا نتصور إلا صراعات حول لقمة العيش البسيطة أو صراعات النخبة من أجل أنماط الرفاهية المستوردة.
الفساد.. والثروات
ثم انتقلت الورقة إلى الحديث عن بنيوية العامل الخارجي في الصراعات والحروب الأهلية في عدد من الدول الإفريقية ومدى ارتباطه بالبنية الاقتصادية والاجتماعية فضلاً عن السياسية، وعن علاقة الانهيار الصومالية بادئاً بالحرب الباردة حول إثيوبيا ووصولاً للحاجة إلى مناطق لدفن النفايات الذرية امتداداً إلى الأسباب الأولى لصراع ليبيريا وسيراليون، ثم الإشارة إلى دور الشركات البترولية الفرنسية والأنجلو أمريكية في الصراع حول الكونغو ثم الماس والذهب في منطقة البحيرات العظمى، وأخيراً: الأرض والصراع في زيمبابوي، وجذور هذه المشكلات في دعم النظم العنصرية (والأبارتهايد) لقرون عدة لأسباب اقتصادية عالمية أكثر منها محلية، مروراً بحالات الانفصال في كل من إقليم كاتنجا بزائير سابقاً، وبيافرام بجنوب نيجيريا، فتساءلت الورقة عمن يدعم هؤلاء اللوردات، وأمراء الحرب، والصراعات أو من يشكل لهم بيئة التعامل، والاستقرار على ما هم عليه من مواقف التصارع؟
كما أشارت الورقة أيضاً إلى أن عملية الاتجار في الماس أدخلت أطرافاً ليست عالمية بطبعها، لكن تركز ضدها التقارير التي تمتد من الكيان الصهيوني حتى التوجو، وساحل العاج ولبنان أيضاً.
وركزت الورقة أيضاً على ظاهرة عولمة الفساد، وقالت: إن كثيراً من آليات الفساد أصبحت مؤسسات فساد إذ حولت مؤسسات عسكرية كبيرة إلى مؤسسات اجتماعية تتسم أساساً بالفساد، كما حولت أحزاباً وقيادات لقطاع الدولة أو القطاع العام إلى كبار المفسدين، وكلها اعتبارات داخلية لاتنكر، ولكن يجذب النظر أن معظم مظاهر الفساد بهذه الحرية في الحركة للخارج أكثر من كونها مجرد ظاهرة اجتماعية داخلية محدودة أو تتعلق بأحكام التنظيم الاقتصادي الوطني.
ثم تساءل: كيف أصبحت الودائع الفردية الإفريقية بالبنوك الأوروبية تزيد على 300 أو 400 مليار دولار، ومن دولة واحدة أحياناً ـ أكثر من 50 ملياراً؟ وكيف صار بعض الأفراد يملك بالخارج أكثر من عشرة مليارات وليست كل إفريقيا بترولية أو منتجة للماس والذهب؟!
وأكدت الورقة أن إفريقيا مطالبة بصياغة مفاهيمها الخاصة حول ما هو "دولي" وما هو "عولمي" قبل أن تمضي وقتاً طويلاً في الطريق الصعب للاندماج كما يصفه بعض منظري العولمة.
أزمة الاندماج الوطني : ثم تحدث الدكتور إبراهيم نصر الدين ـ أستاذ العلوم السياسية وخبير الشؤون الإفريقية بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة ـ عن تفسير ظاهرة الحروب الأهلية في إفريقيا ذاكراً بعض الأسباب وأهمها:
1 ـ العوامل ذات الطبيعة الداخلية الاقتصادية، مثل: ارتفاع معدل النمو السكاني والتزايد السريع في عدد الشباب الوافد إلى سوق العمل، ونقص الأرض الصالحة للزراعة، وعدم عدالة التوزيع في الدخول.
2 ـ في مواجهة المقولة السابقة والتي ترد أسباب الحروب الأهلية إلى عوامل داخلية، ظهرت مقولة أخرى تردها إلى عوامل دولية ومفادها: أن انتهاء الحرب الباردة كان بمقدور كل معسكر أن يقدم العون لحلفائه لتحقيق الاستقرار ولو بالقوة لتحقيق مصالحه، كما أن كل معسكر كان قادراً على ضبط سلوك حلفائه بشكل لايسمح لهم بتصعيد الصراع الداخلي إلى الحد الذي يقود إلى مواجهة بين القوى الكبرى أو يقود إلى حرب أهلية طاحنة، وما إن انتهت الحرب الباردة لم تعد هناك حاجة لمساندة الحلفاء في دول العالم الثالث فوجدت الأنظمة التسلطية نفسها دون سند دولي من جهة ودون ضابط يضبط إيقاع سلوكها من جهة أخرى، فغالت في استخدام القمع ضد المعارضة أفراداً أو جماعات.(10/47)
وفي المقابل فإن حركات المعارضة بات بإمكانها الحصول على السلاح من السوق العالمي بتمويل من مبيعات المخدرات أو العاج أو الماس في المناطق التي تسيطر عليها في كل من (ليبيريا ـ سيراليون ـ أنجولا) أو من خلال المعونات التي يقدمها أنصارها المهاجرون بالخارج أو بعون من الدول المجاورة، وكل هذا وغيره أدى إلى زيادة عدد الحروب الأهلية، واشتداد ضراوتها ووحشيتها.
ويرى نصر الدين أنه من الأهمية بمكان إعادة البحث عن المصدر الأصيل الذي تنسب إليه هذه الحروب، ويمكن رد ظاهرة الحروب الأهلية في إفريقيا إلى أزمة الاندماج الوطني التي تعيشها الدول الإفريقية منذ الاستقلال التي جعلت من الصعوبة بمكان على النظم الحاكمة بناء الدولة ناهيك عن بناء أمة فضلاً عن مشكلة التعددية في المجتمعات الإفريقية، ودرجة تعقيداتها الكبرى، وفشل معظم أنظمة الحكم الإفريقية في التعامل مع هذه المشكلة إما لفساد هذه النظم وتحيزاتها لصالح جماعة إثنية على حساب غيرها، وإما لعدم قدرتها على الإكراه والإغراء نتيجة اتساع مساحة أقاليم غالبية الدول الإفريقية، وسيادة الطابع الغابي عليه.
ثم أشارت الورقة إلى تجارب نظم الإدارة الإفريقية في إدارة هذه الأزمة بواحد أو أكثر من الأساليب الثلاثة الآتية:
أ ـ أسلوب الاستبعاد أو الفصل: وهو الأسلوب الذي طبقه النظام العنصري في جنوب إفريقيا (أبارتهايد) قد فشل هذا الأسلوب بانهيار النظام العنصري برمته.
ب ـ أسلوب الاستيعاب أو الاندماج الطائفي الإكراهي: مثل تجربتي إثيوبيا (هيمنة الأمهرا) ولكنه فشل هو الآخر في تحقيق الاستقرار.
جـ ـ أسلوب الاندماج الوظيفي الرضائي، عن طريق تقاسم السلطة والثروة بين الجماعات المختلفة في الدولة، أو بمنح الحكم الذاتي للأقاليم والجماعات المختلفة أو الأخذ بالشكل الفيدرالي للدولة أو بمنح حق تقرير المصير والاستقلال، فإن هذا الأسلوب قد فشل في تحقيق غاياته، الأمر الذي يفصح عن أن اللجوء إليه كان بمثابة عملية تكتيكية ومرحلية، للعودة مرة أخرى إلى الاندماج الطائفي الإكراهي، وهو ما دفع بالأقاليم والجماعات المضطهدة إلى رفع رايات حق تقرير المصير والاستقلال باعتباره الحل الأخير أمامها، وباعتبار المساندة الفكرية الغربية الراهنة والدعم المادي الغربي لهذا التوجه مع ما يحمله في طياته من أخطار جمة على استقرار القارة الإفريقية.
وتوصل الباحث إلى نتيجة مفادها: إذا بقيت المشكلة الرئيسة وهي: أزمة الاندماج الوطني دون حل سلمي مقبول يسمح بالاشتراك في السلطة وتقاسم الثروة واحترام التنوع الثقافي والاجتماعي، فإن ظاهرة الحروب الأهلية ستستمر في القارة، وسيتسع نطاقها ليطول دولاً أخرى بشكل يفتح المجال أمام التدخلات الأجنبية من جهة، وشيوع حالة التخلف في القارة من جهة ثانية، ووأد مشروعها الوحدوي في إطار الجامعة الإفريقية من جهة ثالثة مادام توجه الفكر الغربي الراهن إلى القبول بتمزيق الدول الإفريقية إلى كيانات إثنية ضعيفة.
العسكرة.. والدمقرطة
وأكد آريو ا.س ـ الوزير بسفارة نيجيريا بالقاهرة ـ في ورقته عن "العسكرة والدمقرطة" أن النزاعات والحروب الأهلية ليست ظاهرة إفريقية فقط، لأنه في المجتمع الإفريقي وقبل قدوم الاستعمار ودخول نظام الحكومة الأوروبية كانت المؤسسات الإفريقية ـ بالرغم من الطابع الأبوي ـ تتسم بقدر كبير من الديمقراطية، ولم يعرف هذا المجتمع أي حالة من حالات العسكرة أو أي نظام للحكم من تلك الأنظمة الملكية والإمبراطورية المختلفة.
وأكد الباحث أن هناك مسؤولية استعمارية تتلخص في تفريق بعض المجموعات العرقية إلى أمم مختلفة على يد رسامي الخرائط الاستعماريين إذ قامت القوى الاستعمارية بمحاولات مدروسة لتفضيل مجموعة عرقية معينة لتوريثها السلطة، وعندما شعروا أن عليهم أن يغادروا إفريقيا على هذا النحو وضعوا بذور النزاعات والحروب الأهلية في إفريقيا.
وأشار إلى صور عدة تؤكد الجانب المحلي من المسؤولية وهي:
1 ـ سوء فهم الوطنيين الأفارقة لجوهر الحكم، فلقد حكم الوطنيون الإفريقيون ومازالوا يحكمون بلدانهم المستقلة لصالح أنفسهم وليس لصالح بلدانهم، بل لصالح أوروبا وآسيا وأمريكا ونتيجة لانتشار الفساد أخفوا أموال الشعب بعيداً في البنوك الأجنبية.
2 ـ الهيمنة العرقية: التي قام بها العديد من المجموعات العرقية التي وجدت نفسها في وضع أغلبية في مختلف البلدان الإفريقية التي خلقتها القوى الاستعمارية للسيطرة على أو حتى ابتلاع المجموعات العرقية الصغيرة.
3 ـ الثروات الطبيعية: كانت من أسباب اشتعال بعض النزاعات بين الأمم والدول الإفريقية من خلال الرغبة في التحكم في البحيرات والأنهار والأراضي والثروات المعدنية.=>
=============(10/48)
(10/49)
الأسلمة في مواجهة العولمة
تعليقاً على ما نُشر في العدد (1406) ص16 في باب "المجتمع الإسلامي" تحت عنوان "الإيسيسكو تُحذر من فرض العولمة بالقوة"... حيث أكد الدكتور عبدالعزيز التويجري "أن فرض العولمة بقوة الهيمنة الاقتصادية والاستقطاب السياسي يتعارض مع قواعد القانون الدولي".
ونقول إن القانون الدولي أصبح نصوصاً بلا روح.. يصيح وينادي به من وضعوه من الغرب حينما يستخدمونه لخدمة مصالحهم فقط، أما في غير هذا فيضربون به عرض الحائط.
ولو حاولنا إحسان الظن بهذا القانون الدولي وأنه يتعارض حقاً مع فرض العولمة بالقوة.. فهل يُمكننا إحسان الظن بالوسائل التي ما أُنشئت إلا لحماية ما ينادون به من عولمة الاقتصاد لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وقوانين الاستثمار الأجنبي... إلخ.
إن التعارض الحقيقي هو بين سلبيات هذه العولمة "لأنها لاشك تحمل إيجابيات لو أحسنا التعامل معها".. وبين ما شرعه ديننا الحنيف منذ أربعة عشر قرناً، حيث لم يلغ التعددية ولا الشعوبية ولا القبلية.. بل أقرها واعترف بوجودها وحقوقها.
قال تعالى: ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22) (الروم)، وقال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير 13 (الحجرات).
"إن العالم الذي يتطلع اليوم إلى صياغة رأي عام متماسك يقف في وجه العدوان على الهوية ويسعى من أجل الحفاظ على التعددية..." لن يجد هذا العالم مهما كد في البحث ما يحقق تطلعاته إلا بالتوجه للإسلام، حيث لن يجد مجرد آراء عامة متماسكة... ولكنه سيجد قوانين مُحكمة تُراعي حاجات البشر وتحارب الهيمنة الاقتصادية.. فالأصل في المال التدويل، فليس هناك احتكار ويعم النفع الجميع: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (الحشر:7)، وتُضبط المعاملات الاقتصادية، فالغرم بالغرم، ولا ضرر ولا ضرار (أخرجه أحمد)، وتؤدي الزكاة، ولكل فقير مدقع حق مفروض من مال المسلمين... وفي أموالهم حق للسائل والمحروم 19 (الذاريات).
سيجدُ العالم قوانين تؤصل لحياة سياسية منضبطة بشرع الله الحكيم لا استبداد فيها بالضعيف من قِبَلِ القوي مهما بلغت قوته، حياة تُراعى فيها حقوق الراعي والرعية، فلا دكتاتورية ولا تعسف ولا انتخابات تصل فيها نسبة النجاح إلى 99.9%... ولكن وأمرهم شورى" بينهم (الشورى)... كل هذا على سبيل المثال لا الحصر من سمات العالم الذي يُحكم بشرع الله وقوانين الإسلام.
===========(10/50)
(10/51)
الاقتصاد الماليزي.. بعيداً عن إيقاع العولمة
ألقى الدكتور محاضير محمد ـ رئيس وزراء ماليزيا ـ محاضرة مهمة بجامعة القاهرة مؤخراً، لدى زيارته العاصمة المصرية، وذلك على هامش أعمال مؤتمر الدول الخمس عشرة، تحت عنوان: "المنهج الماليزي للتعامل مع الأزمة المالية الآسيوية والدروس المستفادة بالنسبة لأثر العولمة على الدول النامية".
في بداية اللقاء ـ الذي نظمه مركز الدراسات الآسيوية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالجامعة ـ أكد د.مفيد شهاب ـ وزير التعليم العالي والبحث العلمي المصري ـ أن ماليزيا تعد رمزاً للدول والشعوب الإسلامية في مجال التنمية، بعد أن استطاع الشعب الماليزي تحقيق إنجازات تنموية واضحة، ونجح في أن يجعل من بلاده بلداً متقدماً وقوة اقتصادية كبرى ليست في آسيا وحدها، ولكن على المستوى العالمي.
وأضاف : إنه إذا كان معدن الشعوب يظهر فى الأزمات فقد استطاع شعب ماليزيا الوقوف إلى جانب حكومته أثناء الأزمة الاقتصادية التي ضربت دول شرق آسيا منذ بضع سنوات، ونجحت الحكومة الماليزية بفضل هذه الوقفة الجادة في أن تعيد ترتيب البيت من الداخل، وتنطلق من جديد.
وقال شهاب: إن العديد من الدارسين يرون أن الإسلام أدى دوراً محورياً في التنمية الماليزية، وأن التصور الماليزي للإسلام يعد مسؤولاً ـ إلى حد بعيد ـ عن تلك التنمية، وأضاف: إن التجربة الماليزية في إقامة أول سوق نقدية إسلامية تُعد تجربة رائدة، وأنها لاتزال مجهولة بالنسبة للكثيرين ولم تلق بعد ما تستحقه من اهتمام، داعياً الباحثين إلى ضرورة إماطة اللثام عن هذه التجربة الرائدة في تطوير حركة العمل المصرفي الإسلامي وكيفية نجاحها في الوصول إلى ما عجزت عنه التجارب الأخرى، التي تم فيها تحويل النظام المصرفي للعمل وفق الشريعة الإسلامية بقرار سياسي، كما هو الحال في باكستان وإيران والسودان.
%%قصة نجاح آسيوية%%%
الدكتور محمد السيد سليم ـ مدير مركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة ـ أشار في كلمته إلى ما حققته ماليزيا من طفرة تنموية كبرى، تعد واحدة من إحدى قصص النجاح القليلة في ميدان التنمية الاقتصادية في إفريقيا وآسيا.
وقال: إن ماليزيا استطاعت خلال العقود الثلاثة الماضية أن تجمع بين النمو السريع والمستمر والمستوى العالي للعدالة في توزيع الدخل، مؤكداًً أن دخل الفرد في ماليزيا قد تضاعف أربع مرات منذ الاستقلال حتى عام 1992م، إذ تطور هذا الدخل من 450 دولاراً في عام 1972م إلى 1900 دولار عام 1982م، ثم إلى 2790 دولاراً عام 1992م، وإلى 3440 دولاراً عام 1995م، كذلك فقد تراجع الفقر وحققت مؤشرات التنمية الاجتماعية تطورات كبيرة.
وأوضح أن النمو في ماليزيا بعد أن كان يرتكز في الستينيات على الإنتاج الزراعي بصفة أساسية، إذ كان يمثل 40% من الناتج في الوقت الذي كان فيه إسهام القطاع التصنيعي أقل من 10% من هذا الإنتاج، فقد أدى النمو المعجل في الاستثمار والإنتاج الصناعي إلى زيادة نصيبه في الناتج المحلي الإجمالي الآن لأكثر من 30%، كما يمثل 70% من إجمالي الصادرات، بل وأصبحت المنتجات الكهربائية والإلكترونية تمثل الآن وحدها 40% من هذا الإجمالي.
وعن صادرات السلع والخدمات أكد سليم أنها حققت طفرة كبيرة وزادت من 1.9 مليار دولار في عام 1972 إلى 3.14 مليار دولار عام 1982م لتصل إلى6.46 مليار عام 1992م، وفي الوقت ذاته زادت نسبة التعليم من 60% عام 1974 إلى 84% عام 1994م وانخفضت نسبة وفيات الأطفال من 75% عام 1974م إلى 12% عام 1994م وارتفع معدل العمر المتوقع من 59 سنة إلى 71 سنة في الفترة ذاتها، كما زادت نسبة السكان الذين تصلهم المياه النقية من 64% عام 1979م إلى 88% عام 1994م، وازدادت أيضاً نسبة الذين تصلهم الكهرباء من 45% عام 1964م إلى 100% عام 1994م.
%%العولمة المطلقة فوضى%%%
في بداية محاضرته أكد رئيس الوزراء الماليزي أن نهج بلاده تجاه العولمة يقوم على أساس أن إيقاع العولمة في ماليزيا تحدده ماليزيا ذاتها بناء على ظروفها وأولوياتها، وأن الحرية المطلقة تقود إلى الفوضي، وكذلك العولمة المطلقة قد تقود أيضاً إلى الاضطراب، وهو ما اتضح في الأزمة المالية الأخيرة، موضحاً أن العولمة لا يمكن أن تُرى كهدف، وإنما كوسيلة لتحقيق هدف، وهو الوصول إلى حياة أفضل لشعوبنا وضمان التحرر من الهيمنة الأجنبية.
وأشار محاضير محمد إلى ما تواجهه بلاده اليوم من قبل قوى العولمة بما فيها صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والولايات المتحدة، مؤكداًً أنه لو كان الأمر بيد هذه القوى لحاولوا بدأب شديد أن يؤكدوا فشل التجربة الماليزية في التنمية.(10/52)
وأوضح أن الهدف الأساسي لصندوق النقد الدولي هو فتح الأسواق الماليزية كي تتمكن الشركات الأجنبية من القدوم والاستيلاء على إدارة الأعمال المحلية، في ظل القدرة التنافسية المحدودة للشركات المحلية وعدم قدرة المواطنين على المشاركة في الخصخصة، وقد قلت كلفة هجمات أولئك المفترسين الأجانب، لأنه بعد سحب رؤوس الأموال قصيرة الأجل من البورصة انخفضت أسعار الأسهم إلى مستوى متدن، وقد قاوم بعض الدول ولكن البعض الآخر فقد كل ما لديه من شركات وبنوك ذات كفاءة بما في ذلك شركات المنافع التي تم خصخصتها، إذ إن الخصخصة تم تشجيعها من قبل صندوق النقد الدولي، لأن المواطنين لم يكونوا قادرين على المشاركة بفاعلية فيها، في حين أن الأجانب كانوا يختارون لأنفسهم أحسن ما يمكن.
%%إبعاد المستغلين الأجانب%%%
وقال: ولأن ماليزيا لم تكن في حاجة إلى صندوق النقد، فإننا كان بإمكاننا إبعاد هؤلاء المستغلين الأجانب، ولكننا الآن نتعرض للهجوم من اتجاه آخر هو العولمة والتجارة الدولية، فهذه القوى الجديدة تجعل كثيراً من الشركات المحلية غير تنافسية، وقد يؤدي فشلها إلى سيطرة أجنبية، ونحن نحاول إيجاد طريقة لكيفية مواجهة هذه الهجمات الجديدة.
وأضاف: إنه على الرغم من الاتهامات بأن ماليزيا بالغت في البذخ والإنفاق على المشروعات العملاقة، فإن ماليزيا كانت ولاتزال قوية من الناحية المالية، فلا الحكومة ولا القطاع الخاص اقترض أكثر من المصادر الأجنبية، والحاجة إلى الاقتراض الأجنبي لإعادة دفع الديون كانت غير لازمة، إذ إن القوة الأكبر لدينا تمثلت في معدلات الادخار العالية التي بلغت نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 1999م.
وعن أخطار السوق المفتوحة أكد رئيس الوزراء الماليزي أن "علينا أن نتجنب طغيان حرية السوق، حيث لا تأتي القوة من استخدام البندقية، وإنما من فرض قائمة اشتراطات، وأضاف: إن حجم رأس المال اليوم لا يمكن تصديقه، وأن حجم الإتجار في العملة أصبح يوازي أكثر من 20 ضعف حجم التجارة العالمية موضحاً أن مثل هذا الحجم الضخم من الأموال يؤدي إلى اضطراب الأعمال أينما تتوجه هذه الأموال، وأن استخدامها في بيع العملات وشرائها يؤدي إلى إثراء المضاربين، وإفقار الأمم وإغراقها في الفتن والعنف والحروب وقلب نظم الحكومات، وإشاعة الفوضى".
وأوضح أن السوق الحرة لم تعد أكثر من اسم جديد للرأسمالية، وأن الأسواق وجدت لكي تمكن المستثمرين من كسب المال وتعظيم الأرباح، وليس من أجل صياغة حاجة الشعوب أو رفاهية المجتمع، وأن رجال الأعمال ليسوا منتخبين من جانب الشعب لكي يهتموا برفاهيته، ولو أنهم انتخبوا فإن ذلك يحدده مالكو الأسهم الذين يهتمون فقط بعوائدهم، وأنصبتهم، والمكاسب المالية التي يحققونها، وقال: إنه من غير الصحيح الاعتقاد أن السوق الحر سوف ينظم أداء الحكومة بهدف بناء أمة أو مجتمع فاضل.
وانتقد محاضير آلة الدعاية الغربية وقدرتها على جعل كل شخص يشعر بالذنب إذا لم يوافق على الأفكار والأيديولوجيات الجديدة التي ابتكرها الأغنياء لإعطائهم المزيد من المزايا.
وأضاف: إن الديموقراطية، والسوق الحر، وعالم بلا حدود، والحقوق الليبرالية للعمال، وعمالة الطفل وغيرها، قد تم إنضاجها في الدول الغنية، وبعد ذلك فرضت على الفقراء الذين لا يمكنهم القبول بها كما هي، لأنها سوف تؤدي إلى عدم الاستقرار وتضعهم تحت رحمة الأغنياء.
وحذر محاضير محمد ـ في ختام محاضرته ـ من أن محاولة قوى العولمة إغواء الدول النامية بكل الطرق ليست أكثر من كلمات معسولة، ووعود وشعارات ونظم وأيديولوجيات جديدة، مؤكداًً أن ماليزيا لن تعود إلى الاقتصاد المركزي المخطط الذي ساد في ظل الاشتراكية، إلا أنها لن تسمح في الوقت ذاته لأحد بأن يبيع لها أفكاراً وأيديولوجيات قبل أن تتفحصها جيداً، خاصة أن ماليزيا جربت عولمة رأس المال، وكادت تُدمر بسببها.
============(10/53)
(10/54)
الخطر الزاحف.. العولمة والتطبيع
بعيداً عن التعريفات الأكاديمية التي تطرحها مختلف المدارس الفكرية العربية لمصطلحي العولمة والتطبيع، فإنه يجب علينا أن نجهد أنفسنا وعقولنا في الإجابة عن جملة من التساؤلات التي تطرح نفسها بإلحاح في واقعنا اليوم :
1 ـ هل التطبيع مع الكيان الإسرائيلي بالنسبة للدول العربية بات اليوم جزءاً من حقيقة العولمة الزاحفة على المنطقة؟
2 ـ وهل العولمة وما أفرزته وما ستفرزه من إلغاء للحدود والحواجز والكثير من مظاهر سيادة الدول والشعوب على أوطانها، ستستخدم كوسيلة فاعلة في جر ما بقي من الدول إلى التطبيع مع العدو الصهيوني، آخذين في الاعتبار ما أشار إليه ـ إيهود باراك ـ في حواره مع جريدة الخبر الجزائرية 9-3-2000م، حين ذكر في حديثه عن الدول العربية التي ترفض التطبيع إلى اليوم مع إسرائيل قائلاً: "إن العولمة ستغير الكثير لأنها الحقيقة القائمة حالياً"؟
هل التطبيع الإرادي أو المفروض من قبل القوى العظمى كائن مستقل في حد ذاته لا يلتقي العولمة إلا في كونه من التحديات التي تتعرض لها فسيفساء الوطن العربي، والتي ستزيد وتضاعف من حجم معاناته ومشكلاته، لأنها كالعولمة ستهدد بنيانه الاقتصادي وتوجهاته السياسية ونسيجه الفكري والاجتماعي كذلك؟
إن كل الاختصاصيين يؤكدون على أن العولمة هي: "القدر" الزاحف على العالم خاصة على الدول المتخلفة بسلبياتها و"إيجابياتها" إذ إنها تمثل مرحلة القسر والاجتياح في تطور الحضارة الغربية بعد مرحلة الاختيار التي عرفها العالم في زمن تعدد الأقطاب.
إنها تعني أمركة العالم. فإذا كانت العولمة هكذا فهل التطبيع ومد جسور التعاون والتبادل مع الكيان الإسرائيلي قدر "زاحف" محتوم على الدول العربية؟ وهل لابد عليها أن تنصاع لعملية أمركة العالم طوعاً أو بالضغط والإكراه وحتى التهديد.
مع منتصف التسعينيات، بدأت تكثر الكتابات حول العولمة وتأثيراتها الواضحة في المجال الاقتصادي، غير أن الحديث عن التطبيع ظل إلى وقت قريب في كثير من البلدان العربية هو الحقيقة المغيبة، والواقع السري المسكوت عنه، لأن التطبيع بمفهوم ربط علاقات من قبل الساسة العرب مع إسرائيل يعود إلى نشأة هذا الكيان، وإن كان في دوائر ضيقة حتى برز بصفة رسمية معلنة في توقيع اتفاقية كامب ديفيد في 18-9-1978م، والتي عرضت مصر آنذاك إلى مقاطعة عربية وصلت إلى حد نقل مقر الجامعة العربية منها إلى تونس.
واليوم تهاوت اللاءات العربية وتكسرت صخرة المقاطعة، وأصبحت بلدان عربية متعددة، تقيم علاقات واتصالات مع إسرائيل، وامتدت حمى التطبيع حتى إلى جل دول المغرب العربي.
إن أكثر المدافعين عن اتجاه التطبيع هم في الواقع وكلاء مكاتب للاستيراد الفكري المعلب وممن سماهم المفكر الجزائري ـ مالك بن نبي ـ في كتابه ـ نحو التغيير ـ بالثخدانيات "حشرة كثيرة الأرجل"، والذين يعدون بشرق أوسط جديد ستحقق فيه الدول العربية الكثير من التطور الاقتصادي والاستقرار السياسي والاجتماعي، بعد الانفتاح على إسرائيل وهي نغمة ما سئموا من ترديدها والعزف على أوتارها.
ولكن تجارب الدول المطبعة مع إسرائيل ماثلة أمامنا، وهي لم تحقق "جنة التطبيع" الموعودة، بل ظهرت سلبياتها وأضرارها على أكثر من مستوى، وكمثال، فإن الصناعة النسيجية المصرية قد تضررت بخسائر كبرى من جراء عمليات التهريب المنظمة للبضائع الإسرائيلية النسيجية إلى الأسواق المصرية، مما أدى إلى غلق العديد من المصانع، ولقد وصل الأمر إلى ما هو أخطر من ذلك، فكلنا يذكر أنه في أواخر الثمانينيات قدمت السفارة الإسرائيلية بمصر احتجاجاً شديداً تطالب فيه الحكومة المصرية التدخل لوقف برنامج للشيخ متولي الشعراوي ـ يرحمه الله ـ كان يفسر فيه سورة البقرة فاضحاً خبث اليهود، ومكرهم وغدرهم، رابطاً ذلك بالواقع المعاصر لليهود وخاصة منذ نشأة كيانهم على ثرى فلسطين، أما اليوم فإن إسرائيل تطالب الكثير من الدول العربية بإجراء تعديلات تطبيعية حتى على برامجها ومقرراتها التعليمية والدراسية منها حذف الفقرات التاريخية المقررة في البرامج الدراسية، والتي ترشد إلى صحوة الأمة من كبوتها، وتجدد الأمل في نهوضها وخاصة تاريخ صلاح الدين الأيوبي. بل إن هذه المطالب وأمثالها يطالب بها الكثير من دجالي التطبيع وأشباه المثقفين، حتى أن منهم من تجرأ على تاريخنا في علاقته مع اليهود، وراح يصفه بالمخيال والذاكرة العدائية لليهود، وهي مطالب ترفع مرة باسم الإنسانية والحوار الحضاري وأخرى باسم التواصل مع الواقع الميداني، وطبعاً ما يُقال عن مصر يقال عن غيرها.(10/55)
واليوم ـ تنادي القوى الشعبية والسياسية والفكرية في مصر والأردن وبلدان الخليج العربي، وتطالب حكوماتها بالوقف الفوري لعملية الهرولة غير المتزنة نحو التطبيع، لأن التسوية السلمية في الواقع العربي الهزيل والمنهار اليوم لن تؤدي إلا إلى فرض الواقع السياسي والعسكري القائم وهو لصالح إسرائيل. خاصة في ظل مشهد الهرولة التطبيعية التي ألغت المقاومة كورقة الضغط في أثناء التفاوض كما حدث ويحدث على المسار الفلسطيني. إن شباك التطبيع المنصوبة والتي تدفع إليها الأنظمة العربية دفعاً ستؤدي إلى تطويع اقتصاداتها للنفوذ والمال اليهودي الكبيرين.
وإذا كانت العولمة قد أسهمت في تهميش المنظمات العالمية والدولية وحولتها إلى هيئات إغاثة للاجئين والمشردين من المجاعات والحروب كما هو حال الأمم المتحدة اليوم، فإن التطبيع مع الكيان الصهيوني سيؤدي ـ كما هو مخطط له ـ إلى تغييب الأسس الحضارية لهذه الأمة ومرتكزاتها التاريخية، من خلال تهميش فاعلياتها السياسية والفكرية والشعبية الداعية إلى إحياء ورقة المقاطعة لهذا الكيان كسلاح استراتيجي.
الآن وقد بات واضحاً ما تمثله العولمة والتطبيع المعولم من تحد للوطن العربي، شعوباً وأنظمة، فإنه من الأولى أن نسعى إلى إحداث عولمة عربية إسلامية، بانفتاح الدول العربية والإسلامية على بعضها البعض وإلغاء الحدود والحواجز وتسهيل تنقل الأفراد والبضائع والأموال وتقريب وجهات النظر باستنساخ التجارب الناجحة، وقبل أن نلهث وراء التطبيع مع الكيان الصهيوني إرضاء لأمريكا أو غيرها علينا أن نلهث ونسعى نحو تطبيع الأجواء والعلاقات العربية العربية، والعربية الإسلامية، إرضاء للشعوب وانسجاماً مع سيرورة التاريخ وسعياً لمستقبل أفضل.
-===========(10/56)
(10/57)
عولمة الاستثمار التجاري في مصر
سينسبري شركة بريطانية نشاطها الأساسي التجارة والتوزيع والتسويق، وقد أنشئت في عام 1869م، كشركة تمثل متجراً متخصصاً في بيع الألبان ومنتجاتها، وتطورت مع رواج التجارة باعتبار الألبان من أهم احتياجات كل منزل، وقد تطورت إثر ذلك لتعتبر أكبر شركة للسوبر ماركت في بريطانيا، ولم يقف التطور بها عند هذا الحد، بل قامت بتعديل نشاطها من عام 1975م بالدخول إلى السوق الفرنسي، الذي سيطرت على 75% منه في سنوات قلائل، واجتاحت بعد ذلك دول أوروبا.
ولسنسبري قرابة 1000 فرع على مستوى العالم، يعمل بها حوالي 170 ألف عامل، وتخدم قرابة 12 مليون عميل أسبوعياً، وتعد شركة سينسبري من أكبر شركات السوبر ماركت العالمية، وهي في ذلك تنافس خمس مجموعات كبرى تعمل في المجال نفسه هي: مترو، وجانتيس، وكارفور، وسيفواي، وهذه الشركات ـ شركات السوبر ماركت ـ والتي تطور اسمها في الدراسات الاقتصادية إلى "هايبر ماركت" تسيطر على 75% من مجمل السوق في أوروبا والولايات المتحدة.
بدأت سينسبري تدخل السوق المصري وتدرسه منذ مارس 1999م، وقد ترددت قبل الدخول لفترة قاربت على العام، بسبب قرابة العهد بحادثة معبد الدير البحري في عام 1998م، إلا أنها قررت الدخول إلى السوق، وقد دخلت من خلال مشاركة مع رجلي الأعمال هشام وعمرو النشرتي، وهما مالكا شركة "إيدج" للتوزيع والتجارة عبر تمويل شراء 80% من أسهم شركة إيدج، وقد استثمرت سينسبري في مصر قرابة نصف مليار جنيه، وبلغت خسائرها بسبب سياستها العمدية الإغراقية في الأشهر الأربعة الأخيرة 50 مليون جنيه ـ حسب تقارير صحفية.
وتقوم فلسفة النشاط التجاري لسينسبري على ثلاثة أركان:
1 ـ استثمار التناقض بين المنتجين والمستهلكين، والذي قوامه سعي المستهلكين للحصول على السلع بأرخص الأسعار وسعي المنتجين لتحقيق زيادة في هامش الربح.
2 ـ السيطرة على أهم احتياجين لأي بيت، وهما منتجات الألبان ومنتجات التنظيف، ومن هنا كان سعيهم لاحتكار جل صنوف إنتاج كل من "إنجوي" و"جهينة" على صعيد منتجات الألبان، و"برسيل" و"بروكتور آند جامبل" على صعيد أدوات النظافة، وهكذا تتمكن الشركة من استيعاب ما لا يقل عن 40% من احتياجات العملاء.
3 ـ كسب المزيد من العملاء من خلال خفض أسعار هذه السلع إلى حد يصل بها إلى ممارسة سياسة الإغراق، وهي في ذلك كشركة عالمية على استعداد لتحمل مثل هذه الخسارة لمدة قصيرة تصل إلى عام، وهي مستعدة في هذا الإطار لخسارة في أول عام تصل إلى 500 مليون جنيه، وهي طبعاً بسبيل تعويض هذه الخسارة، وذلك لأن خسارتها تحسب في الأمد القصير وحسب، وفي هذا الإطار تعتمد على نجاح سائر فروعها العالمية، ثم تعوض هذه الخسارة بعد سيطرتها على خطوط الإنتاج، وسحق المؤسسات المنافسة، سواء الصغيرة أو المتوسطة.
كان ذلك تعريفاً عاماً بسينسبري ، والآن ننتقل للحديث عنها سياسياً وثقافياً واقتصادياً.
ثقافياً : في الإطار الثقافي نتحدث عن سينسبري وفق منطلقين:
أولهما: عولمة الاستغلال والتنميط.
وثانيهما: الثقافة الاستهلاكية.
على الصعيد الأول: صعيد عولمة الاستغلال والتنميط، تمثل سينسبري نوعاً من امتداد رأس المال الغربي للهيمنة على أسواق العالم الثالث المستقرة، وتحويل الفائض إلى المصارف التي يتعامل معها رأس هذه المجموعة، ويأتي استغلالها من كونها تحول فائض ربحها هذا (100% من رأس مال متاجر سينسبري، و80% من رأس مال متاجر إيدج) إلى الخارج، وأما عن تنميطها أو قولبتها للمجتمعات التي تغزوها فتتمثل في عملية الإلحاق التي تصنعها في السوق الذي تدخله، إذ تلحقه بنمط الدولة التي اجتاحتها من قبل، بحيث تصير هي إحدى صور هذا النمط الذي يتجاهل الخصوصيات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات التي دخلتها، وصورة القولبة هنا تتمثل فيما يعرف بظاهرة "الفرنشايز" التي تعم كل دول العالم الثالث التي بها قدر معقول من الفائض الاقتصادي، ومن بينها مصر، والمتمثلة في انتشار الماركات العالمية في مجال المشروبات والمطاعم والكافتيريات.. المشروبات مثل "كوكاكولا" والمطاعم مثل "ماكدونالدز" والكافتيريات مثل "سايبر كافيز" حتى ذهب البعض إلى تسمية عملية العولمة أو القولبة والتنميط باسم هذه المؤسسات، مثل مفهوم الكوكلة، والهمبورجرية، المعروفة باسم "المكدلة"، وإن كان المفهومان الأخيران يخصان العولمة أو القولبة وفق النمط الأمريكي، وإن كانت شركة كوكاكولا أمريكية أيضاً.(10/58)
وقد سبق للكاتب فهمي هويدي أن كتب مقالاً يحمل اسم "كوكلة العالم" في إشارة لعملية التنميط الحضاري هذه، وفي مؤتمر العولمة الذي عقد بالمغرب في أواخر 1998م ذكر أن ثمة مقولة تتردد في الغرب مفادها أن معرفة مدى استقرار منطقة ما سياسياً ولحاقها بالغرب يتوقف على معرفة ما إذا كانت ماكدونالدز قد افتتحت فيها سلسلة مطاعمها أم لا، وعن تجاهلها للخصوصية في إطار التنميط المشار إليه، نجد سينسبري وأخواتها تسحق الخصوصية ولا تتجاهلها فحسب، فعن "ماكدونالدز" و"كنتاكي" و"تكا" و"باسكن وروبنز" للحلويات و"سب واي" نجد أنها تعمل على تنميط الطعام، حيث يصير صنف الطعام واحداً في كل أنحاء العالم، متجاهلة خصوصيات اختلاف الأذواق وأصناف الطعام المحلية، أما سينسبري وأخواتها فإنها تدمر كل منافس محلي، ولذا يحاول البعض ـ من هذا المنطلق ـ الخروج بها عن نطاق اقتصادات الفرينشايز ذات الميول التوسعية غير التدميرية، ولاشك في سلامة هذا المنطق، ولكننا نميل إلى تصنيف الفرينشايز إلى مؤسسات تنميط إيجابية (تضيف ولا تهدم) ومؤسسات تنميط سلبية (تضيف وتهدم في آن واحد، حيث تضيف الجديد، وتهدم القديم)، ولذلك قد يحلو للبعض استيعاب ماكدونالدز وأخواتها، في جانب نطاق العالمية التي تعمل على بناء حالة مشترك إنساني عامة، بينما تصنف سينسبري وأخواتها على أنها ملحق بحالة العولمة التي تتجاهل أي إضافة غير غربية، وتجتاح كل مظاهر الخصوصية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تقابلها.
وأما عن جانب الثقافة الاستهلاكية فهو جانب أصيل، أو بالتعبير الأكاديمي، جانب هيكلي يتعلق بطبيعة المؤسسة التي نتحدث عنها، فهي مؤسسة تسويق وتوزيع سلع استهلاكية، ومن الطبيعي أن يكون هدفها تعميق ثقافة الاستهلاك في مقابل ثقافة الادخار، أو ثقافة الإنتاج، وهاتين الأخيرتين وجهان لعملة واحدة وفق المنظور الإسلامي مع توافر الاشتراطات الأخرى، ويحاول الفكر الليبرالي أن يقصي قيمة الإنتاج ليحل محلها قيمة الاستثمار، لتصبح هي الوجه الآخر للادخار، ولكن ليس كل الاستثمار إنتاجاً، فبعض الاستثمار استهلاكي، وبعض الاستثمار ذو أغراض اقتصادية مركزية كالتعامل في الأوراق المالية، وتتفادى نظريات التنمية الاقتصادية العالمثالثية ذات التوجه الليبرالي الحديث عن النشاط الإنتاجي إلا في إطار التعاون مع الشركات متعدية الجنسية، باعتبارها الضامن لعدم اجتياح معايير التجارة الدولية لصناعتنا، وذلك باستثمارات قليلة لا يمكن اعتبارها التيار الأساسي في هذه النظريات.
ومن هنا يتعمق الطابع الاستهلاكي في المجتمع، وهو من الخطورة بحيث يجب الالتفات إليه بوعي، وقد كان التيار الإسلامي أول من لفت الانتباه للثقافة الاستهلاكية باعتبارها أحد مظاهر الغزو الفكري، وتحاول الحكومة المصرية في هذه الآونة حفز التصدير ليقينها بسلامة هذه الفكرة، فهي ـ أي فكرة ـ من إضافات التيار الإسلامي لرصيد الفكر القومي.
سياسياً : فيما يتعلق بسينسبري سياسياً لم نجد سوى إشارة واحدة في مصادر المعلومات التي وجدناها حول هذه الشركة تشير إلى أن ثمة تأكيدات بسيطرة اليهود على رأس مالها، وهذه الإشارة جاءت في صورة مانشيت في صحيفة "الأسبوع"، ولم يتضمن تقرير الصحيفة أي معلومة عن كونها محل سيطرة اليهود، أي كانت الإشارة في العنوان دون المتن، ولم تشر أي مصادر أخرى لقضية علاقة اليهود بسينسبري، وصحيفة الأهالي اليسارية في عدد 8- 3- 2000م، ومن هنا يصعب على الباحث المدقق التعويل على مثل هذه الإشارة، بالإضافة إلى أن المصادر الغربية التقليدية للمعلومات لن تحاول الإشارة لصلة الدين بالاستثمار، وفي إطار التبعية المعلوماتية يصعب الجزم بهذا لأن الوسائل المعلوماتية المصرية لن تجد ما تقوله في هذا الصدد سوى الإشاعات، ما لم تكن ثمة جهة لديها معلومات ذات درجة مقبولة من التوكيد تمكن من بناء مقولات، علمية وسياسية، في هذا الإطار.
وحيال قضية ندرة المعلومات هذه لا يكون أمامنا سوى مسلكين للتصرف حيالها، أولهما افتراض صحة هذه المقولة، وثانيهما الانصراف عن الإشاعة لتقرير مبدأ نظري يعالج هذه المشكلة وفق الرؤية التاريخية، ومنها ما يتعلق بتاريخ اليهود القديم، وحتى المعاصر.(10/59)
أما المسلك الأول : وهو افتراض صحة هذه المقولة فيدفعنا للقلق حيال مستقبل مصر، لأن مثل هذه المتاجر ستعمل على تدمير مصر من خلال آليات عملها المعتادة، فهي تسحق المنافسين، وتحتكر السوق، وتربط خطوط الإنتاج في المصانع بمتاجرها، وتعمل على تحويل أرباحها إلى الخارج، وهذا من أكثر أضرارها، وسنعرض لهذه الملامح بالتفصيل في الجانب الاقتصادي من هذا التقرير، فتحويل أرباحها إلى الخارج يعني عجزاً في ميزان المدفوعات، واستمرار التحويل يعني مزيداً من الضغط على النظام فيما يتعلق بقيمة العملة، كما يعني مزيداً من الإفقار للمجتمع، هذا فضلاً عما ستتسبب فيه من سحق المنافسين التجاريين الضعفاء والمتوسطين، بل والكبار المحليين أيضاً، وهو ما سنراه بالتفصيل في الشق الاقتصادي، هذا فضلاً عن أن انسحابها من السوق سيؤدي إلى ضرب الصناعات التي تعاقدت معها، وهو ما سيفرض على الدولة ضغطاً أكثر، وفي هذا الإطار نشير إلى أن المناخ المناسب لوجودها، كما لوجود غيرها من المؤسسات الأجنبية، هو مناخ التسوية مع إدارة الاحتلال الصهيوني.
حالة يهودية
وأما المسلك الثاني فيتمثل في الإشارة للقضية محل النظر من وجهة نظر معالجة تنظيرية تضاف للرصيد النظري الإسلامي والوطني بصفة عامة، وتتمثل في حديثنا عن "حالة اقتصادية يهودية" وهي رؤية مستمدة من تعقب تاريخ اليهود في المجتمعات التي عاشوا فيها، فاليهود في اجتماعاتهم واقتصاداتهم لم يمارسوا نشاطاً إنتاجياً، إلا في القليل النادر، وكان جل نشاطهم إما طفيلياً كالمراباة، أو النشاط الخدمي والرمزي كإدارة المصارف والمضاربة في الأوراق المالية، أو النشاط التجاري والمالي، والسيرة التاريخية لهم تشير إلى أنهم كانوا يكتنزون الأرباح إلى حساباتهم بالخارج، وكلا الأمرين باستثناء الحالة المصرفية لم يكن يعود على المجتمع بفائدة، بل كان يسهم في إضراره، ويمكن أن نقول في آثار هذه "الحالة الاقتصادية اليهودية" كل ما قلناه عن تأثير الشركات اليهودية، مع اختلافات طفيفة في حجم الإضافة بالغة الدلالة، في حجم التأثير سواء على صعيد مصر أو على صعيد العالم، حين يمتد نشاطهم إلى الحيز الإعلامي.
اقتصادياً : في هذا الإطار نود أن نتحدث عن شيئين: أولهما سينسبري كجزء من العولمة الاقتصادية، وثانيهما سينسبري في مصر.
أما عن سينسبري كجزء من عملية العولمة، ففيها نتحدث عن شقين أولهما عن حالة الهايبر ماركت، وكلمة هايبر في اللغة الإنجليزية معناها مفرط أو بإفراط، أو متجاوز، حيث قد تستخدم كلمة هايبرفيزيك بنفس معنى استخدام ميتافيزيك أي متجاوز للطبيعة المادية، وكلمة هايبر ماركت استخدمت لتصف الجيل الثالث من شركات التوزيع والتجارة، فالجيل الأول هو الجيل التقليدي المتمثل في المحال التجارية البسيطة، والجيل الثاني يتمثل في اتساع هذه المحال والمتاجر بصورة كبيرة على المستوى المحلي دون تجاوزه إلى المستوى العالمي، وهي المرحلة التي عرفت باسم السوبر ماركت غير أنه منذ الثمانينيات بدأت دراسات الاستثمار متعدد الجنسية تعرف مصطلح "هايبر ماركت" وهو مصطلح يعبر عن حالة نمو المتاجر وتضخم رؤوس أموالها إلى حد دفعها لاستيعاب السوق المحلية وتجاوزها إلى السوق الدولي، وهذا يرتبط بالعولمة من حيث كون أحد أبعاد تلك الأخيرة على الصعيد الاقتصادي يتمثل في عولمة رأس المال، أو تحرير رأس المال من قيود الدولة القومية وضوابطها، ويتحدث عنها المنظرون باعتبارها عولمة لثلاثة عناصر، هي: عولمة المستهلك، وعولمة التاجر، وعولمة المنافسة، ويدخل ما تحدثنا عنه من عولمة رأس المال في إطار الحديث هنا عن عولمة التاجر، حيث إن حرية التجارة تختلف عن عولمة التاجر، فالأولى تعين إزالة القيود أمام انتقال السلع، أما عولمة التاجر فتعني إزالة القيود أمام انتقال مؤسسات التجارة نفسها، كما أن مصدر التفرقة الآخر يتمثل في أن التجارة تعني نشاطاً داخلياً وخارجياً في آن، بينما التاجر يرتبط بالمستهلك المباشر، وهو أمر أكثر تخصصاً من التجارة بالمعنى الخارجي، وإن شئنا الدقة نستبدل عولمة الموزع بعولمة التاجر، كما أن المنافسة المقصودة في عولمة المنافسة هي منافسة التاجر المحلي لتاجر عبر قومي موجود في الخارج والداخل في آن، وهذا من قوالب العولمة، وأما عولمة المستهلك فلا تعني سوى تعامل المستهلك مع موزع عالمي بما لهذه العلاقة من دلالة استفادة المستهلك من القدرة التنافسية للتاجر العالمي.(10/60)
وأما الشق الثاني من سينسبري كجزء من العولمة فهو يعبر عن حالة خاصة من حالات المنافسة التي فيها يواجه رأس المال المحلي برأس المال العالمي، وتكون المواجهة غير عادلة حين لا توجد أرضية قانونية تحمي رأس المال المحلي من الاحتكار والإغراق، والمشكلة في حالة مصر أن هذه الأرضية القانونية غير متوافرة حالياً، وحتى تتوافر في الأمد المنظور ستكون شركة سينسبري قد تمكنت من ربط مجموعة من خطوط الإنتاج بها، وهذه قد تتأثر سلباً إن غادرت السوق والحل أن يصدر هذا القانون سريعاً، حتى يحفظ سياسات هذه الشركة في حدها الأدنى من خفض الأسعار ويمنع الإغراق.
شراء المجمعات الاستهلاكية
وأما البعد الثاني من أبعاد الحديث عن سينسبري على الصعيد الاقتصادي فيتمثل في أوضاع سينسبري في مصر، وقد دخلت سينسبري إلى مصر بالمشاركة مع شركة إيدج للتوزيع والتجارة، حيث اشترت 80% من أسهمها، وقد كان ما يميز شركة إيدج فيما دعا سينسبري للمشاركة فيها أن الأولى "إيدج" كانت قد ارتبطت من قبل مع وزارة التموين بعقد مشروع تطوير المجمعات الاستهلاكية، ولهذا ارتبط اسم شركة سينسبري بإشاعات عن عزمها شراء بعض شركات التجارة الداخلية والجمعيات الاستهلاكية المملوكة لقطاع الأعمال العام والمعروضة للبيع حالياً، وأن هذا هو سر هدوء الحكومة في التعامل مع شكاوى التجار من سياستها، وتباطؤها في إيجاد حلول، كما قامت سينسبري بشراء مجموعة ABC للسوبر ماركت والتي تنتشر في الأحياء التي تسكنها الطبقة العليا، والشريحة العليا من الطبقة الوسطى كمصر الجديدة والزمالك والمهندسين (من أبرز الأحياء الراقية مادياً في القاهرة).
ومن أهم ملامح عمل مؤسسة سينسبري في مصر أنها في علاقتها بالموردين لا تحصل على السلعة من باب المصانع كما يفعل غيرها من المتاجر، بل تعمل على شراء خطوط إنتاج بكاملها من خلال تعاقدات مع المنتجين، وحتى تاريخ كتابة هذه السطور وقعت سينسبري مع كل من شركتي بروكتور آند جامبل وإنجوي، في حين رفضت شركات أخرى التوقيع معها مثل شركة برسيل وجهينة، والشركات الأربع من شركات منتجات الألبان أو المنظفات الصناعية التي تمثل محل التركيز الأول عند شركة سينسبري.
كما تعمل شركة سينسبري وفق إطار سياسة إغراقية تسمى سياسة "حرق الأسعار" إذ هبطت سينسبري بأسعار منتجات الألبان إلى النصف تقريباً، فتقارير مجلة الأهرام الاقتصادي تشير إلى أن سينسبري تعاقدت على الحصول على منتجات الألبان من شركة إنجوى بسعر 180 قرشاً بدلاً من 275، بينما سعر التكلفة الحقيقية 250 قرشاً، كما حصلت من شركة بروكتور آند جامبل على المنظفات الصناعية بأسعار تقل عن أسعار البيع المنافسة بحوالي 30% مع إغراء كلا الشركتين بالدفع النقدي، ولا تميل وجهة النظر المدققة لتصديق هذه الأقوال، فلماذا تتحمل الشركات تكلفة تفوق تكلفة البيع، حتى ولو كانت الشركة المنتجة هي شركة تابعة لسينسبري نفسها، كما أن خطاب التوضيح الذي أرسلته شركة بروكتور آند جامبل يشير إلى أن شركة سينسبري قد تساوت في عروض البيع مع غيرها من الموزعين، بل إنها حصلت على سعر أعلى لأنها طلبت الشراء بتمويل آجل لمدة 14 يوماً، وعلى الرغم من عدم ميلنا لتصديق إداريي شركة بروكتور آن جامبل، أو حتى المستندات التي أرفقوها، لأنها مستندات ورقية يمكن التلاعب فيها بالتضامن، إلا أننا نشير باطمئنان إلى أن سينسبري اشترت بأسعار أقل من غيرها، ولكن ليست أسعار إغراق، بل أسعار قليلة بصورة طفيفة لضخامة حجم التعاقد، أما فارق السعر أمام المستهلك، فتتحمل هي وحدها آثاره، طالما كانت شركة مستقلة، وقد تجلى هذا التحمل فيما ذكره تقرير الأهرام الاقتصادي نفسه من أنها خسرت في أول شهر 22 مليون جنيه، وأنها مستعدة لتحمل خسارة تصل إلى نصف مليار جنيه خلال العام الأول،. حتى تكتسب زبائن غيرها من المنافسين، وتشير التقارير إلى أن سينسبري لن تكتفي بحرق أسعار منتجات الألبان والمنظفات الصناعية، بل لديها قائمة تضم 70 سلعة تسعى لحرق أسعارها.
وقد ترتب على سياسة سينسبري أن أغلقت 25 من المتاجر أبوابها فعلاً تمهيداً للبيع أو تغيير النشاط بعد إشهار الإفلاس، ومن المتوقع خلال السنوات الثلاث القادمة إغلاق 10 آلاف متجر، كما ذكر تقرير الأهرام الاقتصادي أن رجل أعمال مصري "محترم" له نشاط في مجال السوبر ماركت تقلصت مبيعاته خلال شهر يناير بنسبة 55% بسبب متاجر سينسبري ومترو.
ولاتزال محاولات العلاج قيد الإعداد وسط هدوء في الأوساط الحكومية، وهو الهدوء الذي يعبر إما عن موافقة، أو رغبة في توريط سينسبري أكثر حتى تبقى لتعوض ما أنفقته، أو رغبة في إحراج المعارضة التي توقعت منها أن تولول فتقوم بإصدار القانون بعد ذلك لإحراجها، وربما كان البديلان الثاني والثالث مقترنين لديها، وإن كانت كل البدائل محتملة حتى إشعار آخر.
============(10/61)
(10/62)
عولمة الفقر
نعيش في عصر الفقر العالمي مع ظهور المجاعات على نطاق واسع وعودة الأوبئة الفتاكة وانهيار القطاعات الإنتاجية في البلدان النامية وضمور برامج الرعاية الصحية والاجتماعية.
وللأسف فإن هناك محاولات من الوكالات الدولية الكبرى الثلاث "البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية" لتشويه الحقائق والتلاعب بالبيانات وبمعايير الفقر من أجل تقديم صورة أفضل للعالم. بدأت عولمة الفقر في العالم الثالث متزامنة مع حدوث الهجمة العنيفة لأزمة الديون، وقد امتدت منذ التسعينيات لتشمل جميع المناطق الأساسية في العالم. كما انتشرت المجاعة وطالت جانباً كبيراً من السكان في العالم، فحسب تقدير الأمم المتحدة فإن 23 مليون إنسان في القرن الإفريقي فقط معرضون في الواقع لخطر المجاعة.
يقول مايكل تشوسادوفسكي: تتفق الدول السبع الكبرى والمؤسسات الدولية بما فيها البنك الدولي على إنكار المستويات المتزايدة للفقر العالمي الناشئ عن عمليات الهيكلة الاقتصادية، ويتم إخفاء الحقائق الاجتماعية والتلاعب بالإحصاءات الرسمية، كما تُقلب المفاهيم الاقتصادية رأساً على عقب.
يحدد البنك الدولي وبعيداً عن المفاهيم والمناهج التقليدية الاقتصادية المتعارف عليها لقياس الفقر بشكل اعتباطي عتبة الفقر بدولار في اليوم، ويصنف فئات السكان ذات الدخل الفردي الذي يزيد على دولار واحد في اليوم على أنها غير فقيرة.
إن مقياس دولار في اليوم لا يستند إلى أساس منطقي، ففئات السكان في البلدان النامية التي يصل دخلها الفردي إلى دولارين أو ثلاثة دولارات أو حتى خمسة دولارات في اليوم، مازالت تعاني الفقر، وعدم القدرة على تغطية النفقات الأساسية للغذاء والمأوى والصحة والتعليم.
عندما تتحدد عتبة الفقر بدولار في اليوم يصبح تقدير مستويات الفقر العالمي والوطني مجرد مسألة حسابية، وتحسب مؤشرات الفقر بطريقة آلية ابتداءً من فرضية الدولار في اليوم، ومن ثم تدرج المعلومات ضمن جداول جذابة تبين تراجعاً في مستويات الفقر العالمي.
وهذه التنبؤات المتعلقة بالفقر تستند إلى نسبة مفترضة من النمو في الدخل الفردي الذي يتضمن انخفاضاً مساوياً له ومتماشياً معه في مستويات الفقر.
لقد ابتعد الإطار الذي بني على فرضية دولار في اليوم عن دراسة وقائع الحياة الفعلية، فمع غياب دراسة النفقات المنزلية على الطعام والمأوى والخدمات الاجتماعية والصحية، يصبح تقدير مؤشرات الفقر في الإطار الذي وضعه البنك الدولي مجرد مسألة حسابية، كما أسلفنا.
بيد أن تقديرات برنامج الأمم المتحدة للفقر البشري تعتبر نموذجاً أكثر تشويهاً من ذلك النموذج الذي قدمه البنك الدولي، ذلك أن تقديرات البرنامج لا تتوافق مع الحقائق المتعلقة بمستوى البلد المعني، والتقديرات الوطنية للفقر.
إن المعايير المزدوجة هي المشكلة الواضحة في عملية قياس الفقر، فمعيار البنك الدولي بمقدار دولار في اليوم ينطبق فقط على الدول النامية، حيث لا يعترف البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية بوجود الفقر في أوروبا وأمريكا.
وأكثر من هذا، فإن مقياس دولار في اليوم يناقض أصول البحث الثابتة التي تستخدمها الحكومات الغربية والمنظمات الحكومية في تعريف الفقر في البلدان المتطورة وقياسه، حيث تعتمد طرق قياس الفقر في الغرب على المستويات الدنيا للنفقات المنزلية المطلوبة للإنفاق على الطعام والملبس والمسكن والصحة والتعليم.
وحقيقة الأمر، فإن برنامج الأمم المتحدة للتنمية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير لا يقومان بمقارنة مستويات الفقر بين الدول المتطورة والدول النامية.
إن الانخفاض العالمي في مستويات المعيشة ليس نتيجة ندرة الموارد الإنتاجية، كما كانت في فترات تاريخية سابقة، ففي الواقع حصلت عولمة الفقر خلال فترة تقدم تقني وعلمي سريعين.
ففي حين أسهم التقدم العلمي في زيادة الطاقة الكامنة للنظام الاقتصادي لإنتاج السلع والخدمات الأساسية، فإن المستويات الواسعة للإنتاجية لم تترجم إلى تخفيض مماثل في مستويات الفقر العالمي.
وختاماً أقول: إن التلاعب بأرقام الفقر العالمي تعيق المجتمعات الوطنية عن فهم نتائج المسار التاريخي الذي ابتدأ في بداية الثمانينيات مع هجوم أزمة الديون.. وقد غزا هذا الوعي الخاطئ جميع ميادين الحوار والنقاش، وبدورها فإن قلة التبصر الفكرية لعلم الاقتصاد والسائد تعيق فهم الأعمال الحقيقية للرأسمالية الكونية وأثرها المدمر على سبل عيش ملايين الناس.=>
===============
أكذوبة تحرير المرأة.. وسجل حافل بالمآسي والشعارات الخادعة
تستعد الأمم المتحدة لعقد مؤتمرها الدولي الثامن للسكان وهو المؤتمر الذي يأتي ضمن سلسلة المؤتمرات التي تنظمها الهيئة الدولية حول السكان منذ عام 1975م حين عقدت مؤتمرها الأول في المكسيك ثم نيروبي عام 1985م ومؤتمر القاهرة عام 1994م، وبكين عام 1995م وإسطنبول عام 1996م ونيويورك عام 1999م وانتهاء بمؤتمر "بكين + 5" بعنوان "المرأة عام 2000م".(10/63)
ورغم أن العنوان المعلن لهذه المؤتمرات هو "السكان" إلا أن حقيقة برامجها ووثائقها وأهدافها تمحورت حول نقطة واحدة فيما يخص "المرأة" وهي الإلحاح على الدعوة لإطلاق الإباحية الجنسية ومنح المرأة كامل التصرف في جسدها، بما في ذلك حق الإجهاض دون تدخل من أحد، والدعوة لإلغاء نظام الميراث الذي أقره الإسلام بزعم المساواة، والمطالبة الصريحة بشل سلطة الأبوين على الأبناء، بل وصل الأمر إلى الدعوة إلى هدم الأسرة وإلغائها ليبقى كل فرد هائماً على وجهه.
وقد أثبتت وثائق وفاعليات وبيانات تلك المؤتمرات على امتداد أكثر من ربع القرن أنها أبعد ما تكون عن إنصاف المرأة وحمايتها وإحقاق حقوقها وصون آدميتها؛ وإن كانت الشعارات التي ترفعها تتغنى بذلك كذباً وزوراً.
والحقيقة الثابتة التي ينطق بها تاريخ تلك المؤتمرات أنها تأتي في إطار المشروع الغربي الكبير لعولمة العالم، فكما أن الآلة السياسية والعسكرية الغربية تسعى لدمج العالم سياسياً واقتصادياً وثقافياً في منظومة غربية واحدة، تأتي تلك المؤتمرات التي ينظمها الغرب ومنظماته وأجهزته، ممتطياً المنظمة الأممية الدولية، لإكمال مخطط العولمة الكبير بعولمة البشرية ودمجها في أتون النمط الغربي الاجتماعي الفاشل حيث الإباحية المطلقة والدمار الأسري والانهيار الأخلاقي، والمستهدف من وراء ذلك كله المرأة المسلمة والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم الذي يمتلك بفضل الإسلام ثروة عظيمة من القيم والمبادئ والأخلاق التي صانت عفاف المرأة وأقامت بنيان الأسرة على أساس متين وأبدعت مجتمعاً متماسكاً متكافلاً.
ومن هنا واستباقاً للحملة الدعائية الكبرى التي ستصاحب عقد المؤتمر الجديد حول السكان نؤكد الحقائق التالية:
أولاً: لقد بات واضحاً وبما لا يدع مجالاً للشك أن الغرب وسماسرته في البلاد الإسلامية من المؤسسات والمنتديات والأقلام العلمانية المتطرفة أصبحوا يمتلكون خبرة شيطانية في التلاعب بقضايا المرأة من خلال الشعارات الخادعة نحو تحقيق مكاسب سياسية رخيصة حيناً أو استخدامها كورقة ضغط على الدول والشعوب أو كورقة إرهابية لابتزاز الأفراد والجماعات حيناً آخر، وقد نجحت للأسف تلك الضغوط في إحداث تغييرات بقوانين الأسرة في المغرب والأردن ومصر بما يصب في تحقيق بعض من مخطط عولمة الأسرة المسلمة.
ثانياً: أن النموذج والتجربة الغربية فيما يسمى بتحرير المرأة والذي يروج له سماسرة الاستعمار بافتنان وإلحاح على تطبيقه في بلادنا، نموذج حافل بالفشل ومليء بالمآسي ومتخم بأنات وصرخات النساء، ولا نقول ذلك من نسج خيالنا وإنما نقوله من واقع السجلات والبيانات والوثائق والدراسات التي صدرت في الغرب وعلى ألسنة النساء الغربيات وبما يلقم المتخرصين حجراً تلو حجر. ووقفة سريعة أمام البيانات والوثائق تؤكد ما نقول:
1 اكتشفت المرأة الغربية التي خرجت إلى ميادين العمل بلا ضوابط أو حدود تحت شعار المساواة بالرجل وإثبات الذات أنها ساقطة بين أنياب غول من الشهوانية المريضة التي تفترسها من جهة وواقعة تحت مطارق الاستعباد والابتزاز من جهة أخرى. ففي استطلاع لجامعة كورفيل الأمريكية بين العاملات في الخدمة المدنية ثبت أن 70% منهن قد تعرضن إما لمضايقات أو اعتداءات جنسية.
وفي دراسة تم رفعها مؤخراً إلى وزيرة الشؤون النسائية الكندية تبين أن 40% من النساء العاملات تعرضن إما للضرب أو الاغتصاب.
2 لقد بلغ الانحدار والإسفاف أن أصبحت المتاجرة بالأعراض وتبادل صفقات الاستغلال الجنسي من أكثر الأسواق رواجاً في العالم، وهذا ما يحاولون تصديره إلينا عبر مؤتمرات السكان التي تنادي بالحرية الجنسية الإباحية.
وقد كشفت دراسة حديثة صادرة عن جامعة بنسلفانيا الأمريكية أن حوالي 325 ألف أمريكي تقل أعمارهم عن 17 عاماً يتعرضون سنوياً للاستغلال الجنسي، وهو ما وصفه واضع الدراسة البروفيسور ريتشارد ايستيس بأنه "أخبث أشكال المعاملة السيئة التي تنزل بالأولاد في الولايات المتحدة وأمريكا الشمالية".
3 أن المجتمعات الغربية ذاتها صارت تضج بالشكوى من الإباحية وأصبحت تئن تحت سعارها. ففي دراسة أمريكية أخرى ثبت أن 80% من الأمريكيين باتوا يعتقدون أن أسباب انحدار القيم الأخلاقية لدى الشباب يكمن في التغيير الذي طرأ على المجتمعات خلال الثلاثين عاماً الماضية بسبب الحرية المفتوحة، وقال 87% من عينة الدراسة: "لو عادت عجلة التاريخ لاعتبرنا المطالبة بالمساواة بين الجنسين مؤامرة اجتماعية ضد الولايات المتحدة".
وقد أثبتت الدراسات في ألمانيا أن الحياة الإباحية تنتج كل عام سبعة آلاف طفل ينتسبون لغير آبائهم.
كما بثت وكالة رويترز للأنباء مؤخراً نبأ محاكمة مارك دمولان عضو الجمعية الوطنية الفرنسية بتهمة الاعتداء الجنسي على ابنة أخيه القاصر.(10/64)
إن السجل حافل ومتخم بالحقائق الدامغة التي تكشف زيف الشعارات والدعاوى التي تطلقها مؤتمرات الأمم المتحدة عن المرأة والسكان، وتكشف في الوقت نفسه بلاهة الببغاوات العلمانية ممن يطلقون على أنفسهم اسم مناصري حقوق المرأة. ولو أن الجميع وقفوا قليلاً وبتجرد أمام الحقيقة لتحركوا نحو إنقاذ المرأة ولسارت خطط المؤتمرات وحملات الإعلام نحو إنقاذ المرأة والأسرة وفق منهج الإسلام الحكيم.
فقد كرم الإسلام المرأة تكريماًَ حقيقياً وصان حقوقها وحفظ كرامتها وشرفها وإنسانيتها أماً وزوجة وابنة، ويجدر بنا التأكيد في هذا الصدد على أنها كانت دوماً درة المجتمع الإسلامي وحصنه الحصين في إقامة بنيان الأسرة وحفظ تماسكه، ولذا كان إصرار الغرب والمشروع الغربي الاستعماري على استهدافها واستخدامها كسلاح لإفساد مجتمعاتنا.
وقد أعلن ذلك قبل قرنين من الزمان رئيس الوزراء البريطاني جلادستون قائلاً: إن بلاد الشرق لا يمكن أن تتقدم في نظره إلا بأمرين: الأول: برفع الحجاب عن المرأة المسلمة والثاني: أن يغطي الحجاب القرآن. وذلك ما يحاولونه حتى اليوم، ويعينهم عليه تهاون بعض الأنظمة وتحركات الطابور الخامس من المتغربين.
لكن الصحوة الإسلامية المباركة التي عادت بالناس إلى كنف الإسلام استطاعت عرقلة كل تلك المخططات متخذة المرأة المسلمة العامل الأهم نحو الإصلاح الشامل، وإنها لمنتصرة بإذن الله.=>
=============(10/65)
(10/66)
الصحوة المعرفية والحاجة للتخلص من الاستبداد والتبعية للغرب
القاهرة: علي عليوه
جاء تقرير "التنمية الإنسانية" الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2003 والخاص بالمنطقة العربية بمثابة جرس إنذار للشعوب والحكومات بسبب ما تضمنه من أرقام وإحصاءات تشير بوضوح إلى تدهور الأوضاع المعرفية، وتزايد الفجوة في هذا المجال، بين البلدان العربية والبلدان المتقدمة، وقد أسهم في ذلك مناخ عام طارد للعلماء والخبراء، فيما يسمى بهجرة العقول، إلى جانب غياب الحريات والمناهج الدراسية التي تثير لدى المتعلم الرغبة في إنتاج المعرفة. رابطة المرأة العربية عقدت بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ندوة لمناقشة التقرير، شاركت فيها نخبة من الخبراء والمهتمين بالدراسات والبحوث التنموية في المنطقة العربية.
ويرى الدكتور حسن الببلاوي أن التقرير يركز على مثلث التنمية الذي يقوم على ثلاثة أضلاع: المعرفة، والمرأة، والحرية، وهو مثلث مهم في حركة التنمية والنهضة، وأهم ما فيه ربط المعرفة بالحرية، وللأسف فإن كثيراً من البلدان العربية يعاني من غياب الحرية، وبالتالي غياب المناخ الذي يساعد على الإبداع والابتكار، وإنتاج المعرفة، وأنه لا معرفة في ظل شيوع مناخ لا يراعي حقوق الإنسان.
وانتقد الببلاوي البعد الثقافي الذي يغلّب مفاهيم عتيقة تقوم على السلبية واللامبالاة، وعدم تقديس قيمة الوقت وإتقان العمل وهي تعيد صياغة التخلف وتعمل على تكريسه، وقد عششت داخل الإنسان العربي، وعرقلت اكتساب وإنتاج المعرفة، ولذلك فالحاجة ماسة لإعادة النظر في تلك المفاهيم.
عسكرة العولمة
وترى الدكتورة عواطف عبد الرحمن رئيسة قسم الصحافة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة: أن التقرير يعرض مفهوماً للحرية من المنظور الغربي، ولم يسع لوضع مفهوم يناسب دول العالم الثالث، ويركز على حرية المواطن ويهمل حرية الوطن، ففي ظل الاحتلال الأمريكي للعراق كيف يمكن أن يكون هناك مواطن عراقي حر في وطن محتل؟ وكيف يكون المواطن حراً في ظل غياب العدالة في توزيع الناتج القومي على مستوى الوطن العربي، وشيوع مناخ الاستبداد السياسي وهيمنة العولمة التي أصبحت عولمة عسكرية بعد تحول الولايات المتحدة إلى قوة استعمارية تفرض هيمنتها بقوة السلاح.
وتطرق الدكتور نبيل علي خبير الحاسوب إلى الأخطار التي تتهدد اللغة العربية في عصر العولمة الذي يسعى لفرض اللغة الإنجليزية على شعوب العالم، وأدت تلك العولمة إلى اختفاء أكثر من ستة آلاف لغة تحت وطأة الغزو اللغوي، ومع تعاظم دور ثورتي المعلومات والاتصالات، فإن التنوع اللغوي مهدد بالانقراض لصالح اللغة الإنجليزية، مما يتطلب عناية أكبر بمقررات اللغة العربية، وتعريب مناهج التعليم الجامعي، حتى تعود للغة العربية سيادتها على أرضها، وتعود كما كانت في عصر الحضارة العربية الإسلامية لغة العلم والمعرفة.
وأكد أن السعي وراء تعليم أبنائنا اللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية لغة القرآن الكريم لن يجعل من هؤلاء الأبناء مبدعين أو منتجين للمعرفة، فالحقيقة العلمية تشير إلى أن الإنسان لا يكون مبدعاً أو مفكراً أو منتجاً للمعرفة، إلا من خلال لغته القومية، لا من خلال لغة الآخرين، وإن كان تعلم اللغات الأجنبية أمراً مطلوباً ومهماً للاتصال بالعالم والانفتاح على ثقافاته، ومن هنا تظهر أهمية الترجمة، ومن المؤسف أن ما تم ترجمته منذ عصر المأمون حتى الآن لا يزيد على 10آلاف كتاب، وهو ما قامت أسبانيا بترجمته في عام واحد.
وتساءل السفير الدكتور أحمد عبد الحليم سفير السودان في القاهرة: كيف نغير أوضاعنا التعليمية والاجتماعية لنصبح مجتمعاً منتجاً للمعرفة في ظل التدخلات السافرة للغرب في شؤوننا، ورغبته الحثيثة في إلغاء مبدأ السيادة، وفرض سياسة التبعية ثقافة وسلوكاً وأنماط حياة، وبالتالي القضاء على مفهوم التنوع الثقافي واللغوي الذي طالما تشدق به الغرب؟ وهذا الوضع الدولي يفرض على شعوبنا وضع استراتيجيات متكاملة للتصدي للغزو الثقافي الغربي، وفي الوقت نفسه إحياء قيم وتعاليم عقيدتنا وتفعيلها في واقع الحياة حتى نصبح مجتمعاً منتجاً للمعرفة.
وينبه الدكتور نادر فرجاني رئيس فريق الباحثين، الذي وضع تقرير "التنمية الإنسانية العربية" لعام 2003 إلى أن مفهوم التنمية الإنسانية يعني أن الإنسان العربي له حق أصيل في العيش الكريم مادياً ومعنوياً، وأن الأوضاع منذ صدور التقرير الأول لعام 2002 لم تتحسن في اتجاه حقوق الإنسان والحريات، بل شهدت تلك الحقوق انتكاسة بسبب تداعيات أحداث سبتمبر بزعم (الحرب على الإرهاب)، وتجاوزت هذه الحرب الخطوط الحمر، وأدت إلى تآكل الحريات المدنية والسياسية في أقطار عدة من العالم، خاصة الولايات المتحدة، وانتقص ذلك من رفاه العرب والمسلمين، وضيق فرص اكتسابهم للمعرفة والمساهمة في إنتاجها.(10/67)
وأضاف فرجاني أن تداعيات أحداث 11سبتمبر أعطت "إسرائيل" الفرصة لارتكاب المذابح والمجازر في حق الشعب الفلسطيني، وللولايات المتحدة احتلال العراق وأفغانستان، ووجد العرب أنفسهم أمام تحد جديد لا يمكن الخروج منه إلا بتحرير العراق، والتصدي للمشروع الصهيوني التوسعي، وأن تكون هناك استراتيجية تبلورها النخب العربية تهدف إلى تحقيق الإصلاح الداخلي المتأسس على نقد رصين للذات باعتبار ذلك البديل الصحيح لمواجهة مخاطر إعادة تشكيل المنطقة التي تقوم بها الولايات المتحدة، وأن يتضمن الإصلاح إفساح المجال أمام الحريات، وتداول السلطة، والمشاركة الشعبية، والشفافية، وهذا كله من شأنه تهيئة المناخ للإبداع والابتكار وتحقيق مجتمع المعرفة.=>
============(10/68)
(10/69)
ربانية الأمة.. سر قوتها وخلودها
شريف قاسم
للدخول في ميدان هذا الموضوع، تتعدد الأبواب، وتتنوع الطروحات سيما وأن انكشاف عورة العولمة، فضح أسرار الهجمة الشرسة على الإسلام، وعلى الأمة المسلمة، ومحاولة طمس الهوية المتلألئة بأنوار القيم الربانية، منذ ظهور الإسلام في جزيرة العرب المباركة، ولعل التحدي الأكبر هو تجميع الدول الاستعمارية منذ عقود لليهود في أرض فلسطين، وإقامة كيانهم اللعين بقرار التقسيم عام 1947م، وتسليح هذا الكيان وحمايته من قبل تلك الدول نفسها، حيث وجد اليهود الصهاينة ضالتهم التي حشدوا لها أوهامهم التاريخية، وأباطيلهم الدينية، فالدخول من هذا الباب يكشف ما أعد الله لهؤلاء اليهود من هوان وذلة، وما ألبسهم من ثياب اللعنة الأبدية، مهما رسموا من خرائط، ومهما بنوا من جدران، ومهما وسعوا من أحياء ومستوطنات حول القدس، وغيرها من البقاع الطاهرة غرب النهر، فوجود اليهود في القدس خاصة، وفي سائر الأرض الفلسطينية عامة، هو التحدي الأكبر حقيقة للأمة الإسلامية.
ولقد قال بن جوريون: "لا معنى لإسرائيل بدون القدس ولا معنى للقدس بدون الهيكل". أما الحاخام شلومو جورين فقد قال بكل قوة وجرأة: "إن حركة رابطة الدفاع اليهودي ستخوض صراعاً حاداً من أجل استعادة الهيكل، وإزالة المساجد، بما فيها المسجد الأقصى" وهذا الحقد وهذا العداء ليس بجديد، ولكنه ممتد منذ القدم، فلقد وقف زعيم اليهود حيي بن أخطب وأخوه ينظران في مقدم النبي يوم وصوله مهاجراً إلى المدينة المنورة، فقال أبو ياسر لأخيه حيي: أهو؟ قال حيي: نعم والله. قال أخوه: أتعرفته وتثبته؟ قال: نعم، فقال أبو ياسر: فما في نفسك منه؟ قال اللعين: "عداوته ما بقيت"، فاليهود هم اليهود في عهدهم القديم، وفي تلمودهم البابلي وفي الآخر الأورشليمي، وهم هم في كل طوائفهم المتعددة والمتناحرة.
فأمتنا اليوم تواجه معركة مصيرها، وليست المعركة معركة مصطلحات، أو بيانات ولقاءات، وإنما هي معركة الأمة في الدفاع عن عقيدتها الإسلامية، وعن وجوب حضورها لأداء مهمتها بين الناس، إن كل طبول المصطلحات المحدثة صناعة غريبة عنا، وعن قيمنا، صاغتها الدوائر المغلقة من صهيونية وصليبية، وأعدتها على شكل مشاريع لتغري بها المسلمين، ولقد استهوت بعض المسلمين الذين تعلقوا بذراع ما يسمى بالتقدمية أو الثورية، فلطخوا أفكارهم، وزينوا رؤاهم بأنواع المساحيق المستوردة، ونظروا إلى خطوط هويتهم الجديدة في مراياهم الخاصة فأعجبتهم، وكانت خسارتهم باهظة، وانعكست على أمتهم بهذا الانحدار المريع، حيث تقف الأمة اليوم في حالة من الوجوم يتشح وجهها بغبار النكبات والانتكاسات المتلاحقة، وتعلق على صدرها المحطم أوسمة الزيف المياسة، وتغشي قيمها السامية سحب احتقان آلام المساءات الحزينة بدموع الثكالى وأنين اليتامى، وهي تنظر بأسف وحسرة في حركة تسويق الشعارات بأسماء الشهداء والأبرياء، وحيناً ترنو بابتسامات اليأس التي تدرها أشداق الموغلين في إرهاقها ببريق قسوة سيوف القهر والإذلال، وأحياناً تسخر إذا اختلطت صيحات الذئاب الأهلية بتهدج سبحات الفجر الساطع بالأمل والرجاء، وحيث تتوهم أنيابها الآثمة أنها تحمي حضور التقهقر المرير من فضيحة بدت عارية، ولتعود تقطع أسيجة الفطرة الضاربة في سواد العيون المؤمنة، وفي أعماق الأحناء الطاهرة.
لقد ساخت حكايا عنترياتهم المملة في مستنقعات قذارة أفكارهم ورؤاهم وسلوكهم، التي ملأت سلالها المتعفنة بالحشف، ولم يمل ميزان عتوهم المضحك من سوء الكيل، يوم ملأت ديباجات أكاذيبهم شهادات الامتياز بحروف الزور الباهتة، لا بأحرف المجد الظليلة، ولا ببهاء قناديل الفتح التي أوقدتها أمتنا بربانيتها عبر العصور.
إن جمهور الطغاة يمتد في فراغ وهمهم، جمهوراً عريضاً طويلاً، ولكنه بلا مشاعر، وامتداده نتيجة لنهوض أسياده بتوسيع مساحات الفراغ، فلا عقيدة ولا قيم ولا أخلاق، فالمكان أخلوه إلا من حضارة الشيطان، فهو جمهور لم يعرف الالتزام بقيم القضايا المقدسة عند الأمة الثاكلة، تلك الأمة الربانية التي يجندها الوعي والإيمان فلا تعرف إلا نجاوى المقربين، وميادين الجهاد، وهي مطمئنة لوعد الله بالفتح والتمكين، وهذا هو الانتماء الرباني لها، ولا مكان ولا قيمة عندها لكل الفلسفات المتناقضة، التي تجتر عداءها لأنصار الدعوة الإسلامية، ولا اهتمام لديها لكل المفردات والنصوص الاصطناعية التي صاغها أعداء الله، ورددها الأغبياء من أبناء جلدتنا: رجعية.. تقاليد بالية.. إرث محنط.. إلى آخره، وتلتها المفردات المبتكرة حسب الطلب أصولية.. إرهابية.. مع تلميع المصطلحات الباهتة من: حداثة.. معاصرة.. علمنة.. عولمة.. إلى آخر شريط العبارات الجوفاء المزيفة، التي يحاول مبتكروها ومصنعوها بواسطتها تصويح نضارة الأمة التي تحميها ربانيتها الحقة، وتجفيف منابعها الثرة.(10/70)
ولقد شارك مع الأسف أبناء جلدتنا العدو الحاقد في هذه العمليات الصعبة، التي باءت بالفشل بفضل الله تبارك وتعالى، من خلال حربهم على دينهم وبني قومهم، بالقتل تارة وبالسجن تارة أخرى، وبالنفي والتضييق، وبالمقابر الجماعية.. وغيرها من أنواع التنكيل والإرهاب والاستهزاء، فهل لهؤلاء الأبناء الأعداء أن يؤوبوا إلى رشدهم، وتدركهم رحمة الله؟ قال تعالى: أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى" إنما يتذكر أولوا الألباب (19) (الرعد).
وهل لهم أن يعلموا أن هذه الأمة باقية وخالدة بخلود كتاب ربها، وأن الأعداء مهما كانت قوتهم سينهارون ويتقهقرون، تلك سنة الله في خلقه من أيام قوم نوح وهود وصالح، ومن زمن الجاهلية الأولى التي جاءها نبيُُّنا ص؟ يقول الحق عز وجل: ولقد \ستهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب 32 (الرعد)، فأعداء الله جنَّدوا عساكرهم لحرب النبوة وما جاءت به من خير وسعادة للبشر، ولقد هلك قدار الذي عقر ناقة الله، وهلك أبوجهل فرعون هذه الأمة، وتقهقر الروم والفرس، وباء المغول والتتار والصليبيون بالذل والعار والانكسار، وبقيت الأمة الربانية لأنها رفضت كل هزائم الآثمين في الصراعات غير المتكافئة، وصبرت ورجعت إلى الله، وتابت واستغفرت، وهي تكفر اليوم بالاستعمار الجديد الذي جاءها بأثواب العلمنة والعولمة، وبأسفار اللعنة من طرب وغناء وتمثيل وموسيقى الغرب، وبكلِّ أنواع الثقافة والأيديولوجيات التي يحملها سيل الأعداء زبداً وغثاءً، وبقيت الأمة المسلمة وهي باقية بمشيئة الله لأن دينها الحنيف يرفض ذلك الزبد والغثاء والضياع، ولأنه رسالة الخالق للخلق، وله مهمة مقدسة حملها الأنبياء وأتباعهم، لإرشاد الآخر المعاند، وكان النصر للمؤمنين، وهو كائن إلى يوم الدين.
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ص: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله: وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".
أجل... إلا ما أصابهم من لأواء، ومن شدة وحصار وقتل وسجن وإرهاب وتدمير، وما وهنت الطائفة المؤمنة وما استكانت، وتلك عقيدتها مهما أصابها من سوء، وصدق الله القائل: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما \ستكانوا والله يحب الصابرين 146 وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا \غفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 147 (آل عمران). والسِّير تعيد أفعالها الحميدة بأيدي المؤمنين الصابرين في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان وفي جنوب الفلبين واليوم في بغداد العراق، وفي كلِّ أرض يُحارَب فيها أنصار دين الله، إن حضور الأمل بصلاح الأمة، وإعادة توجهها إلى الله، بدأ يحلُ محلَّ الغفلة المظلمة، وربانية هذه الأمة تؤكد قدرتها على تخطي العقبات، وعلى معالجة ما أنتجته حضارة الآخرين، وعلى تقويم وتصويب مسيرة الحضارة الإنسانية على مراقي السمو والأمن، ولتسقط إلى الأبد مذاهب الانتكاسات والنكبات التي حملها للأمة أتاتورك وطه حسين، وأهل الحداثة والتغريب، وأتباع طغاة الغرب وأهل القبعات وتربية الكلاب.
ولحضارة الآخرين المعاصرة مزايا، ولكن سوءاتها ومثالبها أكثر وأكبر وأخطر، وسعيهم للقضاء على الإسلام والأمة المسلمة لم يعد خافياً، وإن أسباب العافية لأمتنا الربانية موجودة بين أيدي أبنائها، رغم تعدد الآفات، وتنوع الأمراض، ولقد أصيبت من قبل بابتلاء وشقاء، وهبَّت قوية عزيزة بما وهبها الله من أسباب النهوض من كبوتها، فهي الأمة المستخلصة، وهي أمة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فقيم الإسلام في الأخلاق والمعاملات، وقيمه في التربية والتنشئة، وقيمه في إيجاد الوعي، وتفعيل القدرات، وتوجيه الطاقات الروحية والمادية، وقيمه في قيادة عملية التغيير... تمنح الأمة الأداة ذات الطَوْل والتأثير للتغلب على المفاسد والخلل، وتغذيها بمناهج المعالجات البصيرة للتشوهات التي أصيب بها جسدها، وثمرة ذلك مواجهة الأباطيل، ودحر شوكة الأذى، وكبح جماح الأعداء الذين ملكوا القدرات الهائلة من القوة العسكرية ومن وسائل أخرى لا تقل خطورة عن الأولى في الثقافة أو الاقتصاد أو الفساد.
في حاضر أمتنا غيابٌ لروح النهج الذي كان عليه الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، أعني مجاهدة النفس وبناء الذات، فلقد قال رسول الله ص: "المجاهد من جاهد نفسه في الله" أخرجه الترمذي وابن حبان.(10/71)
فتربية النفس المسلمة وتزكيتها بالعبادات، وبالصفات المحمودة، وتوجيه طاقاتها في مسارات الولاء لله والوفاء لأهل دينه، وشحن رؤاها بالشوق إلى الله وتذوق حلاوة الإيمان، واسترخاص النفس في ميادين الجهاد ودرب الاستشهاد، كلُُّ ذلك يرفعها فوق مراتع الابتذال في حياة اللهو بل ويسمو بها على المستنقعات الوثنية الشيطانية في هذا العصر، ويجعل لها الوسيلة الطاهرة، والهدف الأسمى، ويمتد بفطرتها التوَّاقة إلى الخير لتلتقي بصدقها ويقينها بمسؤولياتها في مجتمع الأمة المسلمة التي تدين لربانيتها بمعاني الأخلاق ومعاليها، وكره سفسافها، وتعيش بجمال التزامها بدينها الحق ولغتها الأثيرة لغة القرآن العظيم، وتصوراتها الفينانة بسعادة البشرية.. وخصائصها في النصرة والإيثار والتضحيات، ومن التثبت في أدائها، وإتقان ترجمتها إلى سلوك يومي، فيه التوازن والتواؤم بين متطلبات أبناء المجتمع، وهذا ما يولِّد البناء الرصين لجسد الأمة الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، أي بالنصرة والتفاعل، وهذا ما يولد القدرة على استنهاض الهمم، والمنافسة والإقبال على رضوان الله في الميادين التي نوَّهنا بها من قبل.
ويشهد لهذه الأمة حتى أعداؤها، وهم صاغرون، لأن نور الشمس لا تحجبه يدٌ باغية، ولا ثوب بال، ولا لعبة قذرة، فأمتنا بربانيتها وخلودها هي التي تستطيع توحيد الخلق تحت راية فطرتهم قبل أن يدنسها شياطين الإنس والجن، يقول دينون في كتابه "العواطف كأساس للحضارة" بعد حديث عن حال الناس آنذاك:
"كانت المدنية في القرنين الخامس والسادس كشجرة ضخمة فارعة امتد ظلها إلى العالم كله، وهي واقفة تترنح، وقد تسرَّب إليها العطب حتى اللباب، وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحَّد العالم جميعه". ولد الإسلام في جزيرة العرب... ديناً ليس بحاجة إلى القيام بتجربته في حياة الناس، ولا إلى انتظار ما ينقصه في حالة التطبيق، وليس بحاجة إلى محللين أو ناقدين أو منظِّرين، لأنه دين الله العليم بخلقه، الخبير بكلِّ احتياجاتهم ومشاعرهم ونوازعهم، أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون 83 (آل عمران)!!، فأوامر الإسلام ونواهيه جعلها الله لتقويم السلوك والسمو بالنفس، وتوجيهات الإسلام ووصاياه الربانية جاءت لصياغة الإنسان المؤهل لخير الدنيا، والفوز بنعيم الآخرة، فلا مكان لظلم أو اعتداء بين الناس أفراداً أو دولاً، بل لا مكان للشح والحسد والحقد في النفوس المطمئنة بثواب ربها، والرفعة والكرامة والمكانة للناس إنما تكون بقدر التزامهم بمنهج هذا الدين، وبعبارة أدق بمقدار تقواهم لله، فلا يسخر قوم من قوم، ولا ينهب قوم حقوق الآخرين، وهنا تسقط شركات المكر والكيد، ومواقف المصالح المبنية على حساب الناس، كما نرى اليوم في حياة الغزاة والمحتلين، الذين استحلوا لحوم العباد فقطعوها، ودماءهم فشروبها، وخيراتهم فنهبوها، ولقد تلاشت صيحات المصلحين والمفكرين في العرب والشرق، أمام همجية وتترية أباطرة المال، وحوش غابة العولمة الدولية، وهم يطالبون بالحرية ومحاربة الفقر والعوز والمرض والجهل، وتهيئة البيئة الصالحة لإيجاد بستان الإخاء الإنساني.... ولكن!!
لا يسمع الصمُّ صوتاً بات يزعجهم
وحسبهم قولهم: في أذْنهم صمم
إن أمتنا الربانية ستبقى رغم كلِّ المؤامرات، ورغم قسوة الهجمة الشرسة على قيمها وأبنائها لأن رسالتها السماوية أغنتها بكلِّ أسباب البقاء والسيادة، وما حقوق الإنسان التي يطالب بها المصلحون إلا من بعض القيم والتعليمات التي نادت بها شريعة الله، كحماية المجتمع من الجهل والمرض، وتأمين حاجاته الصحية والمعاشية، وتحريم الاستغلال في العمل، والنهي عن أكل حق الأجير، وحفظ حق الأمومة، وحق الإنسان في التكريم وفي بناء أسرة، وفي التعبير والعدالة والمساواة وغيرها من حقوق رعاها الإسلام وحفظها وتوعَّد من استهان بها أو عمل على إلغائها.(10/72)
والأمة أصلح الله أمرها حين نأت عن أفياء ربانيتها، ادلهمت فوقها سحب الهموم، واستأثرت بها عواصف الأوجاع الاجتماعية، وصاحبتها الرزايا واستأسدت عليها الثعالب، بل والكلاب، فاكتوت بجمر الحسرات على مرأى السجون الملأى بالأبرار، وأحرقت كبدها غياهب القبور الجماعية وقد مضغت الهزائم، واستمرأت جلد الإهانة، وراحت تلهث خلف صدى أنين تنكره أصالتها، فروحها تمرَّدت على التصحُّر، وانطلقت على صهوات القيم، تصرخ في آذان اللاهين المغرورين، وتحدثهم عن القادم الميمون، والغائب الحاضر الذي يزيل بعون الله حالات التجهم والتشاؤم التي تغطي مساحات وجوه لا يستهان بمكانة أصحابها من أبناء هذه الأمة، فهي بحاجة إلى توقُّد حرارة العودة إلى الله، والتمكين لمعاني الصبر والرجاء، وإشعال جُذى العزائم في النفوس من أجل التغلب على قسوة الاسترخاء والفتور التي أُصيبت بها الأمة، ومن أجل أن تدخل مرحلة التغيير بوعي وقوة، وهي لم تفرِّط بهويتها الإسلامية التي طبع جلال محياها وجمال سمتها عصر النبوة منذ أربعة عشر قرناً، وهذا ليس ضرباً في الخيال، أو زرعاً في قاع البحار، وإنما هو الحقائق، وبشائر النبوة، وحتمية التغيير والمداولة على وجه المعمورة.
وربانية هذه الأمة هي المظلة الوارفة لكل المسلمين في آمالهم المنشودة، من خلال تعبئة شاملة لكلِّ قواهم الروحية والمادية، ولكلِّ قدراتهم الفائقة في عالم النهضة والإنجازات والمآثر، وهم والله أهل لذلك، ولانطلاقة باهرة تخلو من كل سلبيات أمم الكفر والاستكبار والعدوان، التي شاركت بقوة وحقد في قتل ملايين البشر خلال حربين عالميتين، مستعملة كل أنواع الأسلحة ذات التدمير المحلي والشامل، فأهلكت الحرث والنسل، وروَّعت حتى الطيور الآمنة في أعشاشها الربيعية.
إن حرب هؤلاء الأعداء ما برحت قائمة على أمة الإسلام، وما برح الغزاة يخططون لهدم شموخ هذا الدين، ألم يقل لورنس براون: "إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي"(1)؟ ألم يقل جلادستون رئيس وزراء إنجلترا السابق: "مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق"(2)؟!، ألم تكتب إحدى الجرائد الشيوعية بالخط العريض على صفحتها الأولى: "من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائياً"؟!(3). أما بن جوريون الصهيوني فقد قال: "إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد"(4)، وتضيق الصفحات بما قاله أعداء الإسلام لو تعمَّدنا نقل عباراتهم الموثقة في الكتب المطبوعة وفي وسائل الإعلام.
صحَّت نبوءة اليهود بظهور نبيِّ هذه الأمة، وناصبوه العداء، فهل تصح نبوءة هؤلاء الأعداء في هذه الأيام حيث يقول إلبر مشادور: "من يدري؟! ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين، يهبطون من السماء لغزو العالم ثانية وفي الوقت المناسب"! ثم يقول: "لست متنبئاً لكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة، ولن تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها، إن المسلم قد استيقظ، وأخذ يصرخ: هأنذا، إنني لم أمت ولن أقبل بعد اليوم أن أكون أداة تسيِّرها العواصم الكبرى ومخابراتها"(5)، ولعلها هي بقرآنها وسنة نبيها، بقيمها وعدلها ورحمتها، الأمة الربانية بقوتها الدائمة، وبازدياد صحوة أبنائها، وبحبِّ الناس لهذا الإسلام الذي تكمن فيه السعادة الأبدية لكل من اعتنقه، وبالروح الاستقلالية التي تتمتع بها الأمة، فما ذابت شخصيتها رغم جحيم الاستعمار، وأوار المكائد الذي ما انطفأ في يوم من الأيام. أجل هي الأمة الربانية التي تفتح آفاق الإنسانية على هدى الله، وتعالج بطريقتها المتميزة مساوئ هؤلاء وأولئك، ولن ترضى بالتبعية العمياء المضلة في مسيرتها المباركة، لأنها مسيرة نحو النجاة ونحو الحياة الكريمة يقول الله تبارك وتعالى: يا أيها الذين آمنوا \ستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون 24 (الأنفال:24).
وحين لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وحين يكون الخير فيها إلى قيام الساعة، وحين يبعث الله على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها، وحين تهاوت المذاهب والملل بكلِّ شعاراتها وممارساتها، وأطروحاتها الخائبة، سيعود الإسلام بهذه الأمة الربانية، حيث انبعاثها من جديد بثبات أبنائها على الحق، وتمسكهم بالقرآن الذي تعهد الله بحفظه إلى قيام الساعة، والقرآن أعظم أثراً وأكبر قوة، وهو روح التألق للقلوب ومعراج السمو للنفوس، وهو يبني إذا هدم الطغاة والغزاة، وهو يبشر إذا استشرى اليأس بين المتعبين، وهو يترجم معاني الصلاة والصيام والزكاة والحج إلى سلوك ذي يقظة ووعي في حياة المسلمين وبناء المجتمع الإسلامي، وهو يردُّ بالحجة والبرهان تشكيك الملحدين والحاقدين، وهو يصنع الأبطال لحمل راية الحق، وهذا كائن، وإن أسوأ الأيام وأشدها ظلمة وكرباً هي الأيام التي تحتاج إلى صيحة الفتح والنصر. قال تعالى: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز 40 (الحج).
الهوامش
(1) كتاب: التبشير والاستعمار.(10/73)
(2) كتاب: الإسلام على مفترق الطرق.
(3) كتاب: الإسلام والتنمية الاقتصادية.
(4) جريدة الكفاح الإسلامي العدد الثاني شهر نيسان- أبريل 1955م.
(5) كتاب: لِمَ هذا الرعب كله من الإسلام.؟!
===============(10/74)
(10/75)
عولمة مقاييس الجمال من خلال بث مشاهد
منكرة لفتيات ذوات مواصفات خاصة
هوس "الجمال" عند بعض الأزواج والزوجات.. لماذا؟!
القاهرة : ناهد إمام
كيف تؤثر وسائل الإعلام في مفهوم الجمال ومقاييسه لدى الزوجات والأزواج في المجتمعات العربية والإسلامية؟ وما أكثر عناصرالجمال جذباً للرجل تجاه المرأة؟ وهل تغيرت نظرة الأزواج تجاه جمال زوجاتهم؟ وأخيراً: بماذا تحدثهم أنفسهم عن ذلك؟!
أسئلة كثيرة تدور في أذهاننا حول هذا الموضوع، دنيا العولمة تتجه نماذج الجمال المنحوتة فيها خطوات إلى الخلف لتصبح بلا لون ولا شكل ولا هوية.. فتقتحم على دنيا الازواج والزوجات في منطقتنا العربية والإسلامية حياة كانت هانئة لتضعها على مسارات أخرى صاخبة وليتم ذلك وفي كثير من الأحيان رغما عن الزوج والزوجة!
من خلال عينة قوامها مائة من الأزواج والزوجات استطعنا الحصول على إجابات صريحة وأخرى دبلوماسية حرصاً على السلامة الزوجية!
اعترافات صريحة
اعترافات صريحة للرجال أكدت تأثرهم الواضح بنماذج الجمال المعروضة من خلال وسائل الإعلام تمثل ذلك في مقارنتهن بالزوجة تارة (9%) أو مطالبة الزوجة بالتغيير مثلهن وإلا! وهؤلاء مثلوا 25% من العينة.
أما نسبة 5% من العينة فكان لديهم الاستعداد بالتضحية بكل شيء حتى تكون زوجاتهم ال "top" حسب تعبيرهم في مستوى التأنق والجمال بينما أكد الباقون 22% أنهم يريدون كل شيء بمعنى أن تهتم الزوجة بتجملها وكل ما عليها من أدوار داخل البيت وربما..خارجه أيضاً.
39% كانت نسبة المقتنعين بأن الجمال ليس مادياً فحسب وهؤلاء يرون شريكات حياتهم أجمل ممن يرونهم على شاشات الفضائيات وأماكن العمل..الخ.
أما الزوجات فقد أكدت 55% منهن وقوعهن تحت ضغوط نفسية كبيرة لمحاولتهن مماثلَة style الجمال الذي يطالبهن أزواجهن بأن يكنّ عليه وهؤلاء عرضن أنفسهن لإجراء كل شيء حتى العمليات التجميلية للمقتدرات منهن مادياً.
35% من العينة لا يعانين كثيراً من إحداث التوافق بين مستوى جمالهن ومطالب أزواجهن، ويرجعن الأسباب في ذلك إلى نضج تفكير أزواجهن و"تعشيش" الحب على حياتهم.
10% من الزوجات مصابات باللامبالاة ولا يلقين بالاً للتغيرات الطارئة على أذواق أزواجهن أو مطالبهم!
نماذج وآراء
من بين تلك الآراء نعرض لأبرزها كما وردت:
تقول نادية طه (35سنة) متزوجة منذ عشر سنوات: لكثرة تشبعه بما يرى تقصد زوجها فإنه لا ينظر إليّ عندما نتحدث، نعم! إنه يغض بصره تماماً عني قد ينظر إلي الجدار أو التلفاز أو الاولاد أما أنا فلا، برغم أني لا أهمل زينتي وهندامي ولكنني مهما فعلت فلن أصل إلي مستوى تأنق وجمال فتيات الفيديو كليب وليس أمامي حيلة بعد أن استنفدت كل ما في وسعي.
أما منى (30سنة) فتقول: أعاني الويلات بسبب الفضائيات العربية فقد لا تصدقين أن زوجي لا يفعل شيئاً إذا ما دخل البيت سوى مطاردة المذيعات والمسلسلات والفيديو كليبات العربية على شاشة التليفزيون وقد يئست من حالته التي تنعكس سلباً على حياتنا كلها.
أما ماهر (45سنة) فهو زوج ذو ذوق تركي!.. تقول زوجته بكل أسى: بعد أن سافر إلى تركيا بحكم طبيعة عمله الصحفي في مهمة لم تستغرق سوى أشهر قليلة عاد منبهراً بجمال المرأة التركية وتوليفتها العربية الأوروبية وبدأت نظرته إليّ تتغير فلم يعد يبدي إعجاباً ولا إطراءً كأن نظراته الحادة تنكر علي ملامحي.
وليد (زوج في الثلاثين من عمره) يعترف بأنه بالفعل ظل ولفترة متأثراً بنماذج الجميلات من خلال وسائل الإعلام لذا مكث طويلاً في البحث عن فتاة تتوافر بها المواصفات نفسها لكي يتزوجها، وبسؤاله عن رأيه في شريكة حياته التي طال بحثه عنها الآن رد قائلاً: لا بأس!
أما عبد الرحمن (36 سنة) فهو يرى أن الجمال الشكلي ليس كل شيء فهو إن توافر الآن يزول غداً وتبقى مواطن أخرى للجمال في المرأة لا تزول، وعن مدى تأثره بوسائل الإعلام في تحديد مقاييس جمال المرأة لديه يقول: مقدار التأثر يحدث كنتيجة لقابلية الشخصية لذلك، وأنا شخصياً وضعت معايير الجمال التي تروقني بعيداً عن المؤثرات.
رؤية خبيرة
ولأن صالونات تجميل السيدات أحد أهم المواقع التي ترتبط مباشرة بالموضوع، فقد التقينا بالسيدة هدى زكي خبيرة التجميل بأحد الصالونات بحي المهندسين أحد أحياء القاهرة الراقية تقول: نعم تأتي إلى الصالون كثير من السيدات وتكون مطالبهن غريبة لإرضاء أذواق أزواجهن، فهناك من تصر على صبغ شعرها باللون الأشقر كلما نبت سنتيمتر واحد من شعرها الأسود لأن زوجها يحب ذلك، وأغلبهن يستشرنني في كيفية عمل الرجيم القاسي للنحافة، وحتى قصات الشعر والمكياج فهذه تطلب قصة شعر أنغام أو ماكياج باسكال والمبرر "أصل زوجي يحب ذلك"!.. زمان لم يكن الأمر هكذا، فالعميلة كانت تطلب مني أن أصنع لها ما يليق لها، وكان للأزواج آراء مستقلة غير متأثرة بشكل المغنية فلانة أو.. أو..الخ!
لا تنسي نفسك(10/76)
ويعلق الدكتور سيد صبحي أستاذ الصحة النفسية على ما سبق فيقول: كل شيء يكون جيداً ما دام في حدود المقدرة والطاقة، ومقولة أن الجمال الحقيقي هو جمال الروح حقيقة وليس من كلام الفلاسفة، ونحن لا نناقش مسلّمة أهمية تجمُّل الزوجة لزوجها فهو أمر مفروغ منه إلا أن الإسراف في التشبه بالأخريات أمر مرهق نفسياً يجعل الزوجة تفقد معه جمالها الطبيعي وخصوصيتها وشخصيتها التي تميزها عن كل امرأة أخرى، بل ويدخلها ذلك في دوامة صراع مع ذاتها وعدم رضاء عنها، وذلك كله بالطبع.. مرفوض.
وتتفق الدكتورة نجوى عبد السلام الأستاذ المساعد بكلية الآداب بقسم الإعلام بجامعة عين شمس مع ما سبق وتضيف: ببساطة شديدة تسبب وسائل الإعلام الإحباط للمرأة وتبهر الرجل وتصيبه هو الآخر بالإحباط لأنه لا يظفر بما يراه على شاشات الفضائيات من أجساد شقراء راقصة.. إلخ من مقاييس نموذج الجمال الذي ترغّب فيه وتروج له تلك الوسائل، فعولمة مقاييس الجمال تتم من خلال بث مشاهد لفتيات ذوات أداء حركي ولون بشرة وتكوين جسم ومستوى جمال متماثل في كل عروض الفيديو كليب والإعلانات..الخ.. لا فرق في ذلك بين فضائيات عربية أو أجنبية فالكل نسخة واحدة.
ومن هنا يأتي الخطر إذ تُعتبر وسائل الإعلام أهم أدوات ثقافة العولمة، ثقافة سمعية بصرية تصنع ذوق المشاهد وتصيغ رؤية خاصة للإنسان والمجتمع، وهناك اتجاه عالمي يهدف إلى توحيد القيم حول كل شيء ومن تلك الأشياء المرأة وما يتعلق بها من جمال.. والمحك الحقيقي أن يلقى ذلك الاستجابة أو "لا".
وتنصح الدكتورة نجوى الأزواج والزوجات فتقول: على الزوج أن يفكر قبل أن ينساق وراء عوامل الجذب والكاميرات المتحركة إلى حد الجنون التي تبذل جهدها بسرعة إيقاعها وتوليفاتها البصرية لإقناعه وإبهاره بما يرى، وعليه أن يرفض مقارنة شريكة الحياة بهؤلاء، وعليها هي أيضاً أن ترفض ذلك، فنموذج الجمال الذي يراه لا يوجد إلا في دنياهن لأنهن ببساطة لا يؤدين في حياتهن غير هذا الدور الذي وبكل أسف يحرم كثيراً من الأزواج والزوجات من الاستمتاع بالحياة، وبالجمال الحقيقي.=>
============(10/77)
(10/78)
مشاريع الدعوة صناعة داخلية
الشيخ سلمان بن فهد العودة ل المجتمع : المجتمع
الداعية الإسلامي الشيخ سلمان العودة هو أحد الدعاة المعروفين بسعة العلم، فقد تلقى العلم الشرعي على أيدي علماء أجلاء بالمعهد العلمي في منطقة "بريدة" بالمملكة العربية السعودية، وهي المنطقة التي ولد بها. وأتاحت له الدراسة فرصة الجلوس بين أيدي هؤلاء العلماء والاستزادة من علمهم وفضلهم ، ثم واصل الدراسة بعد ذلك في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم ونال درجة الماجستير في موضوع "غربة الإسلام وأحكامه في ضوء السنة النبوية".
قام بالتدريس في المعهد العلمي وكلية الشريعة ثم تفرغ للدعوة من خلال دروسه وكتاباته في التفسير والأخلاق والتربية والإصلاح وأخرج إلى المكتبة ست كتب إضافة إلى ما يقرب من الخمسين رسالة، كما يشرف على الموقع الإسلامي المعروف "الإسلام اليوم".
م التقته وأجرت معه الحوار التالي:
ينادي أعداء الإسلام بتغيير المناهج التعليمية، بحجة أنها تُفرِّخ الإرهاب... ما تعليقكم؟
<< لمناهج التعليم أثر هائل في صياغة الجيل، وأيُّ خلل فيها يظهر في الطلاب الذي هم نتاج تلك المناهج.
تطوير المناهج التعليمية هو قضية سيادة يُحتكم فيها إلى المصالح العليا للأمة، ويبتُّ فيها من ائتمنتهمالأمة على عقولها، وثقافتها، وتراثها.
ولذا: فإن دخول العامل الخارجي على الخط ليس عاملاً إيجابياً بأي حال، بل هو عاملُ هدمٍ وإحباط.
وإنني أدعو إلى تغيير المناهج الدراسية، وذلك بتكثيف المقرر الشرعي، وتحويله من متن مختصر، إلى تقرير مُوسَّع يحول دون نقص الفهم، ويؤكد على ولاء المسلم لدينه وتاريخه وأمته وبلاده، ويعمِّق الخصوصية الإسلامية لدى الأجيال، ويربي على نضج التفكير وسلامة التصور.
كما أدعو إلى غرس روح الإيمان الصادق في المقررات العلمية، لتحاشي الازداجية في التعليم، وبناء العقيدة الصادقة المنبعثة من داخل النفس، والمنسجمة مع الكون والحياة.
الشيء المدهش أن الأسماء التي يتم تداولها إعلامياً، ليس لها علاقة بالتعليم الشرعي... فهل سيطالب هؤلاء بإغلاق الجامعات المدنية، ومنع تدريس الطب أو الهندسة، أم سيدركون أن التعليم الشرعي السليم هو أهم ضمانة لحماية الأجيال من الاندفاع وراء نوازع النفس، وتحقيق الوسطية والاعدال وضبط المسار وفق نظام الشريعة؟!!.
إن الغضب العربي الإسلامي على أمريكا، ليس مُنطَلقه التعليم الديني، وإلا فلماذا لم يكن هذا الغضب موجهاً ضد الصين أو اليابان مثلاً مع أنها بلاد وثنية، والمسلم يتعلم أن أهل الكتاب أقرب إليه من الوثنيين؟!! ولكن منطلقه نفاد الصبر من الانحياز الأمريكي لصالح اليهود، وضد قضايا العرب والمسلمين، وغمس أمريكا يدها في البلدان الإسلامية بأسلوب متغطرس لا يراعي مشاعر الشعوب، ولا يقيم لها وزناً.
هناك هجمةٌ شرسةٌ على الجمعيات الخيرية بالحجة ذاتها؟
<< مادامت الولايات المتحدة جعلت نفسها القاضي، والشاهد، والجلاد في الوقت ذاته، فكل شيء ممكن.
ومادام العالم الإسلامي بهذه الحالة من التشرذم والشتات، والانهماك في الصراعات الداخلية، فلن يكون لديه القدرة على المقاومة.
ولقد شهد تاريخ الولايات المتحدة ما كان يعرف بالمكارثية وهو مصطلح يتعلق بتوجيه التهم على نطاق واسع، والتي شملت الإدارة الأمريكية نفسها، وشملت الجيش ذاته بتهم تتعلق بمناصرة الشيوعية في وقت الحرب الباردة، ومع أفول نجم الاتحاد السوفييتي، والتحدي الشيوعي يبدو أن العملية ذاتها صارت تُدار ضد كل ما هو إسلامي وعربي، والإعلام مسؤول إلى حد كبير عن نشر التهم، وترويجها دون أدلة أو وثائق، وفي فترة المكارثية الأولى وضعت لوائح سوداء لأشخاص وهيئات، وها نحن نشهد اليوم الأمر ذاته فيما يتعلق بالعرب والمسلمين.
وإذا كانت المكارثية الآن عاراً يستحي منه الأمريكيون، فإنهم يمارسونها بطريقة مشابهة... والله وحده يعلم إلى متى يتوجب علينا الانتظار، لتصبح المكارثية الجديدة، عاراً آخر يلحق بالتاريخ الأمريكي؟ وهل ثمَّة استعداد لمراجعة الجمعيات المنطلقة من الغرب نفسه تحت هذا الشعار؟!.
إن الجمعيات الإسلامية هي إحدى الواجهات الإنسانية المشرقة التي يتفيَّأ ظلالها مئات الآلاف من الجياع، والفقراء، والمتعلمين، والمعوزين، وإذا كان الكثير من الجمعيات الغربية معزولة بأنانيتها وعنصريتها عن التجاوب الصادق والبريء مع هؤلاء... فهل وصل الحال إلى حد حرمان هؤلاء من اليد الحانية التي تواصلهم بالغذاء والكساء والدواء والكتاب؟ وبات من الصعب أن نستوعب اعتراف الغرب بالإسلام كدين يحكم شعوباً اختارته، وصناعة التصنيف التي يتكلم عنها حتى في المشاريع الخيرية ذات الدور الإنساني الضروري.
إن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة يمارس ضد هذه الجمعيات، وضد الوجود العربي والإسلامي مكارثية جديدة، ومع الأسف فقد صارت الإدارة الأمريكية وأجهزتها الأمنية والعسكرية سنداً ودعماً لهذا التحيز السافر، والعدوان المقيت.
بعد أحداث 11 سبتمبر، مَارَسَ الغربُ صوراً من التعذيب والسجن للعرب والمسلمين، بماذا تفسرون ذلك؟(10/79)
<< الغربُ وتحديداً الولايات المتحدة يمارس ما يظنه دفاعاً عن الأمن القومي، من خلال الاعتداء على الأمن المدني.
وإذا كانت الحرية هي أغلى قيمة يتغنى بها الأمريكيون، فإن ضرورات الأمن المزعومة صادرت هذه الحرية، وسجن آلاف الأبرياء بغير تهمة، ورحل الآلاف بغير سبب، ومارست أجهزة الأمن في المطارات وغيرها عنصرية مكشوفة.
لقد كان يُقال عن الولايات المتحدة: إنها بلد الحرية، ووصفها جون كنيدي بأنها "أمة من المهاجرين"، ومعظم الإبداعات والإنجازات قام بها أجانب، ولهذا اتخذت الإدارة الأمريكية ذاتها عدداً من الوسائل لاستقطابهم، ومن ذلك السحب العشوائي الذي تقوم به وزارة الخارجية، وتمنح بموجبه راغبي الإقامة ما يسمَّى ب"البطاقة الخضراء".
وها نحن نرى تحولاً خطيراً يصبح بموجبه هؤلاء الأجانب في موضع الشك، ولا يأمنون على أنفسهم أو ممتلكاتهم، ويتعرضون للاعتداء والقتل أحياناً.
وانتقل الأمر من مجرد الممارسات الخاصة، أو الخاطئة، أو الاستثنائية، ليحظى بدعم الجهات التشريعية، حيث أقر مجلس النواب جملة قوانين تعطي السلطات الفيدرالية إمكانيات واسعة للمراقبة والقمع، وخففت القيود على التنصت الهاتفي، والتوقيف الاحتياطي للأجانب، وهكذا تطورت الأمور ليكون تحقيق الأمن قائماً على حساب الحريات المدنية.
ولقد قال جون كنيدي: إن الأمة التي تقدم أمنها على حريتها لا تستحق البقاء.
يكثر في وسائل الإعلام طرح مصطلح "التطرف"، فما مدى صحة هذا المصطلح، وما رأيكم في مدلوله؟
<< ربما كانت كلمة "التطرف" من أكثر الألفاظ إلحاحاً على ألسن الكتبة والإعلاميين والساسة في هذا الوقت، وهي كلمة مولدة غير أصيلة، ويفترض أنها تعني عند من يطلقها: وقوف الإنسان في طرف بعيد عن مركز الوسط.
والتطرف في الإطار الإسلامي: هو تعبير عن فهم منحرف، أو تطبيق منحرف للتعليمات الشرعية، وإن كان قد يتكئ على حجج شرعية مفترضة، أو ينطلق من غيرة دينية، كما في أول وأقسى نموذج في التاريخ الإسلامي، وهو نموذج الخوارج، الذين لم يقنعوا بمستوى فهم وتطبيق الصحابة حتى انشقوا عن نسيج الأمة، ووجهوا سهامهم إلى نحورها، بل كان أصلهم يمت إلى صاحب النفس المريضة الذي اعترض على النبي ص في عدله، وخاطبه قائلاً: اعدل يا محمد! فكانت تلك نواة الشريحة التي تصطفي نفسها، وتستشعر صدقها وطهارتها وإخلاصها، وتزن الآخرين بالجور أو الحيدة عن الصراط السوي.
لكن من الخطأ أن يتم تقديم هذا الأنموذج دائماً على أنه صورة التطرف، حتى يقع في نفوس الكثيرين أن التطرف بضاعة إسلامية، بينما يتم التغافل والتجاهل للتطرف اليهودي، الذي تمثله أحزاب وجماعات رسمية كبيرة تتبجح بغلوها، ولا تستحي من الجهر بمطالباتها الصارمة إزاء خصومها، دع عنك الغلو المرسّم المبرمج الذي أصبح جزءاً من السياسة اليهودية، وغدا قاسماً مشتركاً لدى جميع الأطراف.
ومثله التطرف المسيحي الممثل في الجماعات والمنظمات الكثيرة في الولايات المتحدة، والتي تجاوز عددها المائة، ويقدر أتباعها بعشرات الملايين.
ولقد كانت الأحداث الأخيرة فرصة لهؤلاء، ليكشفوا عن مكنوناتهم ضد الإسلام والمسلمين، وكان منهم من يطالب بسحق كل ما هو إسلامي، ومنهم من يطالب بتدمير مقدسات المسلمين، وتعالت أصوات رسمية تتهم الإسلام ذاته، وتعتبره ديناً سيئاً وشريراً.
والتوجه الرسمي الآن الذي يقيم للمسلمين والعرب ديكتاتورية خاصة داخل الولايات المتحدة، ويستثنيهم من النظام العام، ويبخل عليهم بالحقوق التي يتملكها كل من سواهم... هذا التوجه هو نفسه ضرب من التطرف المقيت، كما أن إسراف الحلفاء في غطرسة القوة، وتجاهلهم لأبسط حقوق الإنسانية، وعدوانهم على شعب أفغانستان، واستهانتهم بالدماء وحقوق الإنسان، لهو صورة صارخة من التطرف البغيض، لكنه تطرف القوي الباطش الذي لا يحتاج إلى برهان على ما يفعل.
إن التطرف يتمثل في مفهوم الفكرة أياً كان منطلقها وليس بالضرورة أن يكون نتاج رؤية دينية، بل حتى نماذج الفكر المعاصر والمفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الغرب فيها قدر كبير من التطرف.
وهناك التطرف العلماني في العالم الإسلامي الذي يصر على نقل التجربة الغربية، بل على استنساخ المجتمعات الغربية في ديار الإسلام، ويزيد على ذلك اقتباس الجانب الدموي المتعسف من التجربة الشيوعية لملاحقة المتدينين ومحاصرتهم، إعلامياً ووظيفياً واجتماعياً وسياسياً.
إن دائرة ردود الأفعال لا تنتهي، والتطرف يولد التطرف، ولعل أفضل بيئة لتشجيع الفكر المنحرف، هي البيئة التي تحرم الناس من حقوقهم الفطرية والشرعية، وتصادرهم، وتحرمهم من فرصة الهدوء النفسي، والاستقرار العاطفي، وتمتحنهم في أنفسهم وأديانهم وأهليهم وأموالهم.(10/80)
إن التطرف الذي هو "تجاوز عدل الشرائع السماوية والفطر الآدمية" هو أزمة بحق، وتاريخ الحضارات كلها يكشف عن نماذج كثيرة لهذا التطرف، وتعد رسالة الإسلام الأنموذج الأول والأمثل لمعالجة هذا الانحراف، ولكن مع هذا كله، فلسنا هنا بصدد أن نعيش ردود أفعال، ونتبادل مع الغرب والعالم الأوصاف. إن هذه معركة ربما تكون غير ملحة، وقد لا تصنع شيئاً لصالحنا، لكن المهم أن ندرك أهمية بناء الوعي في أفراد الأمة، لنعرف مواقع التطرف الخارجة عن الإطار الإسلامي، ولعل من حسن الفهم هنا أن ندرك أن الغرب يمارس صناعة التطرف، ويصدرها، وقد يكون بعض الأطراف مستهلكاً لشيء من هذا، لكن لابد أن ندرك أن الأزمة ليست في التطرف يوم يكون حالة تَعْرِض لدى بعض الفئات، لكن يصبح الأمن العالمي مهدداً حقيقة، حينما يكون التطرف قانوناً له شرعيته، كما ترسم ذلك دوائر سياسية ومؤسسات متنفذة في الأوساط الغربية قد يتجاوز تأثيرها إلى دوائر شتى، ولعل الأنموذج اليهودي هو المرشح عالمياً لهذا، لو أعطيت الشعوب حرية الموقف والتعبير.
إننا هنا أمام ضرورة توسيع مساحة التفكير، وألا نسمح للغرب أن يرسم مفهوم التطرف، وأن نعي أن التطرف يتجاوز دائرة القانونية ليتحول إلى رسالة حضارية تُطالبُ عقولٌ في العالم كله، وليس في الغرب أو الشرق أن تستوعبه كحضارة راقية، وهذه معادلة جادة لصناعة الصراع والتوتر في العالم، وتقنين مشاريع الإرهاب المتبادلة بين الأطراف.
هنا ندرك أن الغرب يعيش أزمة، وإن كنا نعيش شيئاً منها، فيجب أن نكون مستعدين لتجاوز مشكلتنا.
وتجاوزها يتم عبر الحفاوة بالاعتدال وترسيمه، وإشاعة المفاهيم الشرعية الصحيحة التي تنهي حالة الاضطراب والتناقض.
ما العوامل التي تسهم في تشكيل اهتمامات الداعية وصياغة تفكيره؟
<< ثمة عوامل تسهم في تشكيل اهتماماتنا وترتيب أولوياتنا سواء كنا أفراداً أو جماعات، أو حتى دولاً وأمماً.
ومن أهم هذه العوامل الماثلة في الوقت الحاضر:
أ حجم المتغيرات الدولية، والمتغيرات الإقليمية والمحلية الناجمة عنها، والتحديات التي تفرزها على كل الصعد.
ب مدى النضج في التجربة العلمية والعملية واكتمالها.
ج مدى الشعور بالمسؤولية عمقاً واتساعاً تجاه ما تقوله أو تعمله وتأثيره ومداه، وطريقة تلقيه.
د قدر المصداقية مع الله، ومع النفس، ومع الناس، والقدرة على التجريد والشفافية، ولو إلى حد ما.
وكل هذه العوامل تؤثر في أي تصور أو تعديل أو تصحيح يقوم به فرد أو جماعة أو مؤسسة أو دولة.
إن الهزيمة النفسية الناتجة عن جلد الذات المجرد، أو عن الرؤية السوداوية لا تنتج عملاً مثمراً للأمة، بل تمكن للمنكر من الرواج والاستقرار دون عناء.
ولابدّ من تفهم فرص التغيير الممكنة في ظل حالة دولية تضع هامشاً ضيقاً للرفض المحض، وهامشاً أوسع للمشاركة والتصحيح.
وهكذا يتعيَّن استثمار المؤسسات القائمة للإصلاح والدعوة والتواصل مع جمهور الأمة الذي له الحق الكثير علينا.
كما يتعين أن نشعر بالانتماء لهذه الأمة بشموليتها واتساعها، وأن تكون أرضها الواسعة الممتدة، وإنسانها المتنوع ميدان حركتنا وتصحيحنا، يستوي في ذلك ملامسة المعاناة المريرة في مناطق الالتهاب كفلسطين والشيشان وكشمير وغيرها، أو التجاوب مع طموحات مثقفيها وعلمائها ودعاتها للنهوض بعلومها وعقولها، أو تحقيق القدر الضروري من العلم الشرعي الذي يثمر صفاء العقيدة وصلاح العمل واستقامة السلوك، أو الدأب في توفير متطلبات العيش الكريم، فإن المشغول بضروراته المادية معذور، وغير قادر على حمل الهم الكبير.
وهذا الانشغال بالأمة يحدث انصهاراً وتوافقاً مع همومها ومشكلاتها وتطلعاتها، ويمنع من الاعتزال عنها، وإن الإحساس بالموقع، وبالمرحلة التاريخية، وتنوع التحديات الدولية والمحلية يملي علينا قائمة متجددة من الإلحاح والعناية بالقضايا والموضوعات والمحاور والبرامج، لا يفترض أن تكون متطابقة في كل وقت، بل يتم تحديثها ومراجعتها كلما دعت الحاجة.
ومن الضرورة بمكان أن تكون آلية المعالجة ولغة الخطاب منسجمة مع الموضوع المطروح، ومع الشريحة المستهدفة.
فإن الخطيب مثلاً يختار الموضوع الملائم للحال والمقام، ثم يختار الزاوية التي سيطرق الموضوع من خلالها، ثم يختار الأسلوب المناسب، فمن مسألة علمية هادئة، إلى وعظ مؤثر، إلى تحذير مندفع، إلى مزيج من هذا وذاك.
ولا يفترض أن يكرر الخطيب نفسه إن كان مبدعاً متجدداً، بل يعمد إلى التنويع المحبب، الذي هو قاعدة كونية وسنة شرعية، والمؤكد أن نوع الاهتمام الذي يمنحه الإنسان لقضية قد يزيد وينقص، ويؤثر هذا في معالجته للقضية سلباً وإيجاباً.
وكلما تعددت الموضوعات وتنوعت توزع الاهتمام بينها، والطاقة تظل محدودة.
وقد يحملنا الخوف على الإحجام عن اكتساب طرق، أو وسائل جديدة للدعوة.
والخوف دافع فطري غريزي، لكنه لابد أن يمزج بغيره ويرشَّد حتى يعتدل وينضبط.
وقديماً قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: يجدُّ للناس من الأقضية بقدر ما يجدُّ لهم من الفجور.(10/81)
وإذا كان الاجتهاد الصحيح المنضبط الذي لم يتردد فيجمد، ولم يندفع فينفلت هو من أهم الثوابت الشرعية، فهو أيضاً أساس المتغيرات.
ولقد كانت حرب الخليج الثانية دقاً لطبول مرحلة جديدة الملامح والسمات والآليات سموها النظام العالمي الجديد، القائم على أنقاض الحرب الباردة، وكان من الواضح لكل ذي عينين أن هذا النظام الجديد، سيوفر شيئاً من الحريات المتنوعة، ويدعو إلى حقوق الإنسان، إلى حقوق المرأة، إلى عولمة الاقتصاد، وأنماط السلوك.
وكان جديراً أن يتحقق شيء من المبادأة الإسلامية التي تكسر الروتين المعتاد بالتفوق العلماني الذي يقدم نفسه وكأنه نصير حرية التعبير، وحرية الفكر وحرية الإبداع.
وإن مشاركة أولياء الإسلام وتسارعهم في عرض التصور الأمثل للحرية التعبيرية المنضبطة بضوابط الشرع البعيدة عن العدوان على النفس أو على الآخرين... لا يعني بحال أنهم يجب أن يكونوا ضد السلم الاجتماعي الذي لا بقاء للأمة ولا للدعوة إلا به، وهكذا طرح شعار "الكلمة الحرة ضمان..."، وهذا لا يعني بحال تجاهل الانضباط الشرعي الذي يوفر استقراراً للدعوة، وقبله للأمة.
كما أن ثمة خطين أحمرين كنا وما زلنا نعتقد بوجوب الحذر منهما في هذا السياق:
أولهما: الغلو في الدين، فإنما أهلك الناس الغلو في الدين، وفتنة الغلو هي أول فتنة حدثت في الإسلام، وترتب عليها شرخ هائل في كيان الأمة، واستحلال بعضهم دماء بعض وأموالهم.
والثاني: هو نتيجة عن الأول وتفريع عليه، وهو اعتماد أساليب المواجهة والقوة في الدعوة والإصلاح في ظل ظروف وأوضاع تجعل هذا الخيار إلغاء للفرص الضخمة الممكنة، وحرماناً من المشاركة في مؤسسات الأمة القائمة وإمكانياتها الهائلة للتواصل والتغيير والتأثير.
إن المكاسب التي تزخر بها بلاد الإسلام توجب على الدعاة طرح أسلوب المشاركة المتميزة في الواقع العملي، فهو المحكّ والميدان الحقيقي لاختبار القدرة على الإصلاح، إذ الشعار المجرد لا يكفي، وقد يُرفع أحياناً لمجرد التحدي وإثبات عجز الآخرين.
يقف كثير من الشباب في حيرة من أمرهم، عندما يسمعون الفتاوى من العلماء فترى عالماً في مسألة ما يجيزها، والعالم الآخر يحرمها، فلا يدري الشاب من يتبع!! في نظركم الشخصي كيف يعمل الشاب في هذه الحالة، وهل إذا أفتى العالم برئت ذمة المستفتي؟!
<< الخلاف الفقهي والاجتهادي المبني على النظر والتأمل في الأدلة والوقائع نتيجة طبيعية لتفاوت أنظار المجتهدين وسعة مدركاتهم، ولهذا يجب أن يكون مقبولاً من حيث المبدأ، وألا نضيق به، والأمة اليوم تحتاج إلى تربيتها على قبول التعددية العلمية المبنية على الاجتهاد وليس على الهوى.
وفي تقديري أن المسائل المهمة والكبيرة يجب ألا ينظر فيها إلى أي قول بقطع النظر عن قائله، بل يفترض ألا يخوض فيها إلا أولو الخبرة والبصيرة، وربما أكثر من ذلك أنها تحتاج إلى اجتهاد جماعي مُرسَّم يشارك فيه أهل العلم والتحصيل وأهل الرعاية والعناية بأحوال الأمة ممن لهم فضل وسابقة.
أما عن المتلقين إذا كانوا لا يعلمون فشأنهم كما قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43) (النحل)، فيختارون من الأقوال ما يرونه أصوب وأقرب، أو يختارون من العلماء من يرونه أتقى لله وأفقه في دينه.
ماذا عن العلاقة بين الدعوة والمجتمع بكل أطيافه ومؤسساته؟
<< يفترض أن تكون صناعة مشاريع الدعوة داخلية أي أنها تتحرك داخل المجتمع لصناعة الإصلاح الاجتماعي.
ثمة ضرورة فطرية أن الدين هو سياج الأخلاق والأمن، ومن هنا، فإن الدعوة ليست مفهوماً لملاحقة أخطاء المجتمع فحسب، أو رسم صورة من الصراع بين طرف وآخر، الدعوة مفهوم مبادرة وأولوية في الترتيب الاجتماعي، وحينما نتحدث عن التطور، فإننا بحاجة إلى إدراك حضارية الإسلام حتى نقدم إجابة معقولة لكثيرين يلحون على الذوق الحضاري والنمطية الحضارية، لكنهم قد يمارسون نقلاً لنماذج أو مشاريع من الغرب، هذه مسؤولية تتحرك في التأثير على سيادة الأمة، ويجب أن تفكر كل المجموعات الاجتماعية بمسؤوليتها، إننا نخطئ حينما نفترض أننا نتسابق لتحقيق مصالح خاصة، إننا أمناء أمام الله والتاريخ على أمتنا، لماذا الغرب جاد في سيادته وحقوق أمته حتى على حساب الآخرين؟
نحن يجب أن نتحرك بعدل وأمانة مع كل أحد لكن يجب أن نقدر أن الدين ضرورة للمجتمع باعتباره رسالة الله لخلقه وباعتباره قاعدة المصالح الآدمية.
ننتقل بالحديث إلى قضية أخرى.. مع وجود الفضائيات، وشبكة المعلومات "الإنترنت" هل ترون أن الشريط الإسلامي، والكتاب انقرض دورهما من الساحة أم أنهما لا يزالان يؤديان رسالتيهما؟
<< من المؤكد أن الوسائل لها حكم الغايات كما يقول الأصوليون، ومن هذا المبدأ يصبح اعتماد أي وسيلة جديدة محتماً إذا كانت فاعلة ومفيدة، ما لم تكن محرمة في ذاتها.(10/82)
وقد يتفاوت تأثير وسيلة عن غيرها بين وقت وآخر، لكن هذا لا يعني العزوف عن القديم، إن الكتاب من أقدم وسائل الدعوة والتعليم، وهو يظل اليوم حاضراً برغم المزاحمة والمنافسة القوية من الإذاعة، والتلفاز، والإنترنت، والصحافة، وتشهد بهذا معارض الكتب التي تقام في عواصم الدول الإسلامية.
إن دخول عنصر جديد في الميدان لا يستلزم إقصاء غيره، فإن الواقع المشهود أن للشريط الإسلامي دوره الفاعل، ويكفي أن المادة الواحدة ينسخ منها الآن ملايين الأشرطة، ويستفيد منها الإنسان في السيارة والمنزل وغيرهما، وينتفع منها القارئ وغير القارئ.
ولعل من المفيد أن يكون ثمة تنافس شريف يحدو إلى الإبداع والتجديد والتطوير، لأن ركود الوسيلة يقلل من ثمرتها وفاعليتها، وتقديمها للمتلقي بأسهل الطرق وأبخس الأثمان.
=============(10/83)
(10/84)
في التعامل مع التيار الأمازيغي والإسلاميين يجتهد المغرب في مخالفة موقف الجزائر تجاه القضيتين
"الأسلوب المغربي" وسياسة المخالفة.. للحالة الجزائرية
مرت قضية الأمازيغية في المغرب بتحولين بارزين في مسارها، الأول كان بعد مرحلة الاستقلال عن فرنسا حينما بدأت الدولة المغربية تنهج أسلوب الإدماج بالدفع نحو خلق أحزاب سياسية تقود القبائل الأمازيغية، أما التحول الثاني فهو الذي ظهر في الثمانينيات والتسعينيات حين بدأت بعض الجمعيات الأمازيغية في الظهور على مسرح الأحداث بتأثير عوامل داخلية وخارجية عديدة ليس هنا مجال التفصيل فيها، فظهر خطاب جديد لدى الحركة الأمازيغية يريد الابتعاد عن هيمنة الدولة والأحزاب ذات التوجه الأمازيغي معاً، وطرح نفسها طرفاً مستقلاً يتبنى مطالب جديدة ويتخذ أسلوباً سياسياً وثقافياً يتسم بالتراشق الايديولوجي والصراع السياسي، وبين هذين التحولين البارزين وبالتوازي معهما أيضاً، كانت هناك أنشطة أكاديمية في الجامعات تسعى إلى تأسيس قاعدة لغوية ولسانية للأمازيغية والبحث عن جذور اللغة والثقافة الأمازيغيتين في تاريخ المغرب. وكان اعتراف الجزائر مؤخراً باللغة الأمازيغية كلغة رسمية قد ألقى بظلاله بلا شك على القضية الأمازيغية في المغرب، مشكلاً ضغطاً لصالح تلك القضية.
وقد شكلت بداية التسعينيات منعطفاً بارزاً في مسار دعاة الأمازيغية في المغرب بتوقيع عدد من الجماعات الأمازيغية عام 1991 على ما يسمى "ميثاق أغادير" الذي تضمن للمرة الأولى مجموع مطالب هذا التيار وأهدافه الثقافية واللغوية والسياسية، ومنذ ذلك التاريخ بدأت المواجهات الصامتة بين الدولة وهذه الحركة، لكن الموقف المغربي الرسمي ظل يتسم بطابع الحذر تجاه مطالب الاتجاه الأمازيغي وأنشطته، وتراوح بين المنع والسماح المقيد لشتى تعبيراته في الساحة الثقافية والسياسية، دون أن يصل الأمر إلى حد المواجهة التي تبشر بالقطيعة وتؤثر على ما يسميه المراقبون والمسؤولون "الأسلوب المغربي" في التعاطي مع القضايا الساخنة.
وقد ظل النموذج الجزائري في التعامل مع الحركة الأمازيغية يلقي بآثاره على صناع القرار في المغرب، ويفرض على الدوائر الرسمية التقاط الإشارات وفهم الدروس لتجاوز الحالة الجزائرية، سواء فيما يخص العلاقة مع الإسلاميين أو مع التيار الأمازيغي، لتجنب السقوط في "المستنقع الجزائري"، وهو ما تفهمه الدوائر المغربية على أنه هدف للعسكريين الجزائريين لضرب وحدة المغرب البشرية بما ينعكس سلباً على قضية الصحراء، عنوان المواجهة الأبرز بين الجارتين. لذلك ظل المغرب يرى في تعاطي الجزائر مع الملفات الشبيهة نموذجاً ينبغي عدم تكراره، ولعل الإطار التاريخي للمغرب يمثل أحد العوامل التي ساعدت على نجاح "الأسلوب المغربي" في التعامل مع تلك الملفات، بسبب تجذر الملكية والصلاحيات التي يمنحها الدستور للملك، هذه العوامل كانت تمنع الصراعات السياسية الداخلية من اتخاذ النظام هدفاً للرهانات السياسية، بخلاف الجزائر، حيث كانت الصراعات تقوم على أساس التشكيك في شرعية النظام وطابع الحكم.
من التكريس إلى التسييس
ساعدت العوامل الإقليمية والعالمية في نهاية التسعينيات على نمو الحركات الأمازيغية وخطابها السياسي والأيديولوجي والثقافي، مع اتساع مفهوم عولمة حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والإثنيات، ووجوب إيجاد مراكز للانطلاق منها لضرب قوة الحركات الإسلامية والحد من نموها ونفوذها، وقد كان مؤتمر حقوق الإنسان في فيينا عام 1993م أول منبر دولي لطرح القضية الأمازيغية على مستوى عالمي وترويج أطروحاتها السياسية والثقافية باعتبارها تعبيراً عن أقليات مقموعة ومهضومة الحقوق!! وطرحت في ذلك المؤتمر مسألة إيجاد تنظيم عالمي يضم جميع التيارات الأمازيغية في بلدان المغرب العربي وإفريقيا الساحل وشمال إفريقيا، وهو الذي تأسس عام 1998م تحت اسم "الكونجرس الأمازيغي العالمي".
ورغم الخلافات الحادة داخل هذا الكونجرس العالمي التي عرقلت سيره وأدخلته في نفق مسدود، فإن الإعلان عنه في حد ذاته كان قوة جديدة دافعة لهذه التيارات لتصعيد مواقفها ورفع الصوت بمطالبها.
وبعد إنشاء هذا الكونجرس العالمي بسنتين اتخذت الأطروحة الأمازيغية بعداً أكبر بتقديم وثيقة خاصة عرفت ب "البيان الأمازيغي"، قادها محمد شفيق أحد الوجوه البارزة في البحوث الأكاديمية حول اللغة الأمازيغية، وصاحب أول معجم أمازيغي عربي، وسميت الوثيقة التي تتألف من سبع وعشرين صفحة ب "بيان من أجل ضرورة الاعتراف الرسمي بأمازيغية المغرب"، ونشطت حركة جمع التوقيعات للناشطين الأمازيغيين المؤيدين لمضمون البيان وبنوده، فوقع عليه أكثر من أربعمائة شخص من الجمعيات الأمازيغية والناشطين الأمازيغيين المستقلين.(10/85)
وقد استعرض البيان برؤية تاريخية ثمانية وثمانين سنة من تاريخ المغرب وأوضاع البربر خلال هذه الحقبة، كاشفاً عما أسماه بالتهميش الذي كانوا ضحيته، ودعا إلى رفع "الحصار" عن المناطق البربرية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً، مع الحفاظ على خصوصياتها وجذورها، وتضمن البيان بعد جرد تاريخي طويل تسعة مطالب لحل مشكلة الأمازيغية في المغرب، تتمحور حول فتح حوار وطني في الموضوع، وإدماج الأمازيغية في الدستور كلغة رسمية إلى جانب العربية، وإعطاء الأسبقية في التنمية الاقتصادية للمناطق التي يسكنها "أمازيغون"، وفرض تعليم الأمازيغية، والكف عن تعريب الأسماء الأمازيغية للأماكن والشوارع، وجعل الإعلام في خدمة الأمازيغية.
وكان دافع محمد شفيق إلى وضع هذا البيان هو البحث عن حل وسط بين الحل السياسي والحل الثقافي اللغوي للقضية الأمازيغية، مستأنساً في نفسه القدرة على التأثير بالنظر إلى وزنه التاريخي والفكري والسياسي، وصرح بأنه يريد إيجاد إطار للعمل يشتغل بصيغة وسطى بين الاتجاهين.
غير أن البيان تحول عن وجهته الأصلية وتعرض لنوع من الاستغلال من قبل جهات الحركة الأمازيغية المتنافرة التي تجمع بين اليمين واليسار والوسط المعتدل والمتطرف، وظهرت أطروحة مغايرة تريد تحقيق كسب سياسي، مستغلة في ذلك الثقل الرمزي والمعنوي للبيان، وسعت إلى تأسيس حزب سياسي، يجعل لها موقعاً في القرار السياسي خارج القوي الحزبية الموجودة التي يتهمونها بالعروبة أو التأسلم أو النزعة المشرقية. وشهد الملف الأمازيغي تصعيداً جديداً، الأمر الذي دفع محمد شفيق إلى التواري عن الأنظار والركون إلى الصمت، حتى تم الإعلان عن إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بقرار من الملك محمد السادس في شهر أكتوبر المنصرم.
المعهد الملكي: سياقه وأهدافه
ومن الواضح أن الإعلان عن إنشاء "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية" يرمي إلى وضع حد للنقاشات الدائرة حول ملف الأمازيغية، كما يرمي لأن يكون صيغة رسمية لحل وسط، ونوعاً من الاعتراف بمشروعية الثقافة الأمازيغية، والجماعات المشتغلة في هذا الموضوع بشكل خاص، لكن سياقه السياسي يتمثل في كونه يأتي عقب أحداث البربر في منطقة القبايل الجزائرية قبل أشهر، وما أسالته تلك الأحداث من حبر داخل المغرب، وما تركته من انعكاسات سياسية، تمثلت على الخصوص في إسراع جزء من النخبة الأمازيغية المغربية إلى التضامن مع رديفتها في الجارة الجزائر، وتنظيم وقفة احتجاجية، وتصعيد المطالبة بالترخيص للحزب السياسي الأمازيغي، والإعلان المسبق عن تنظيم مسيرة كبرى لم يتم تحديد موعدها بعد، وتهديد البعض تحويل المسيرة في حالة المنع إلى مواجهات دموية على غرار ما حدث في الجزائر، وبدا أن الأمر يتجه نحو الكارثة والتأزم، وتوريط النظام.
وقد أراد الملك أن يقدم بإنشاء المعهد إشارة قوية، حين أعلن عن ذلك في منطقة "أجدير" في الجنوب المغرب ذي القاعدة السكانية البربرية والتاريخ المشهود في المقاومة البربرية المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي (1912 1956م ) كما أن الملك حرص على أن يكون الإعلان في حضور شخصيات دينية وسياسية وحزبية وثقافية وأمازيغية، الأمر الذي أعطى لإنشاء المعهد طابعاً رمزياً قوياً يشير إلى حصول الإجماع حوله.
وتتحدد أهداف المعهد في إدراج الأمازيغية ضمن مناهج التعليم، وتسهيل تدريسها وتعلمها وانتشارها، والحفاظ على الثقافة الأمازيغية في كافة المجالات، وتدوين كتابتها، ويعمل المعهد على النهوض بهذه الأهداف بالتشارك والتعاون مع الجهات الحكومية.
يدير المعهد مجلس إدارة وعميد يعين من طرف الملك، ويتمتع بالاستقلال الإداري والمالي، وهو يجتمع مرتين في السنة في دورة عادية، كما يمكنه عقد دورات استثنائية إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ويرفع المعهد تقريراً سنوياً مفصلاً إلى الملك عن أنشطته المنجزة وبرامجه المستقبلية، وتم تعيين محمد شفيق عميداً له.
بين القبول والرفض والانتظار
أثار الإعلان عن إنشاء المعهد الملكي ردود فعل متعددة اختلفت من جهة لأخرى، بحسب المنطلقات والمواقع الايديولوجية والسياسية لأصحابها، وإن كانت أغلب الردود والمواقف اتجهت إلى اعتبار المعهد لبنة كبرى غير مسبوقة في سياق الاعتراف الرسمي بالأمازيغية. هكذا اعتبرت صحيفة "أكراو أمازيغ" أن قرار الملك "رفع رؤوس الأمازيغ من الوحل وزرع في قلوبهم الأمل"، وقالت إنه "عمل جريء، ولا يسع التاريخ إلا أن ينحته على أعلى وأصلب صخرة في جبال تامزغا"، بينما اعتبره آخرون خطوة مهمة في طريق رفع الحظر عن اللغة الأمازيغية، في الوقت الذي رحبت فيه جميع الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني والشخصيات الفكرية والثقافية بالمعهد، ورأت فيه بلورة للتعددية الثقافية واللغوية التي لم تكن أبداً محل مزايدات سياسية أو إيديولوجية.(10/86)
غير أن هناك من اعتبر المعهد محاولة من القصر لاحتواء التيار الأمازيغي وتدجينه، وتشتيت مكوناته الثقافية والسياسية المتنوعة التي ستجد نفسها بعد تنصيب المعهد وانطلاق أشغاله وإنجاز تصوراته النهائية منقسمة بين المؤيدين والمعارضين لمخططاته وطرائق عمله وكيفية تعاطيه مع المشكلة الأمازيغية، وبذلك سينتقل الصراع إلى داخل البيت الأمازيغي بعد أن كان صراعاً بين هذا الأخير والنظام. ويرى هؤلاء أن صياغة الظهير المؤسس للمعهد جاءت لتخدم الأهداف الرسمية، حيث إن قرار التأسيس يشير إلى ضرورة رفع تقرير سنوي عن أنشطة المعهد وبرامجه إلى الملك، مما يعني أن الملك يحتفظ بحقه في توجيه المعهد الوجهة التي يريدها. ويلحق القرار ميزانية المعهد بالميزانية العامة للقصر الملكي، وهو ما سيقود في نظر الرافضين والمتشككين إلى افتقار المعهد لأية استقلالية في أعماله، وقال البعض إن المعهد ليس هو ذلك الوارد في ميثاق أغادير الذي وقعته مجموعة من الجمعيات الأمازيغية في 1991، وضمنته مطالبها المختلفة ومن جملتها تأسيس معهد مستقل عن السلطة والحكومة في اختصاصاته وبرامجه، وشكل الميثاق المذكور منذ ذلك الوقت إطاراً للتحرك بالنسبة للأمازيغيين الذين تكاثرت جمعياتهم منذ ذلك التاريخ إلى الآن.
ومن الواضح أن المعهد لم يرض الكثيرين ممن كانوا يريدون الدفع بالمسألة الأمازيغية إلى مدى أبعد، خصوصاً لجهة المطالبة بالاعتراف باللغة الأمازيغية في نص الدستور المغربي بشكل صريح، جنباً إلى جنب مع اللغة العربية التي تعد اللغة الرسمية للبلاد. ويتخوف هؤلاء من أن يكون المعهد إيذاناً بإغلاق هذا الملف نهائياً، وسد الطريق على الراغبين في تسييس القضية أكثر من اللازم، وإدخال البلاد في أتون المجابهات القاتلة التي تغذيها العصبيات القومية واللغوية، كما أن هناك تياراً آخر يسعى إلى نزع الاعتراف من الدولة بإنشاء حزب سياسي أمازيغي يجمع الأمازيغيين في إطار سياسي واحد. ويدعي أنصار هذا التيار الراديكالي أن الأحزاب المغربية القائمة في الساحة السياسية وفي الحكومة والبرلمان لا تمثل الأمازيغ، وترتبط بثقافات "شرق أوسطية" أو "أندلسية" كما قال أحدهم، رغم أن هناك حزبين يعتبران نفسيهما أمازيغيين هما الحركة الوطنية الشعبية التي يتزعمها "المحجوبي أحرضان" منذ تأسيسها في الخمسينيات، والحركة الوطنية الشعبية التي يقودها "أمحند" العنصر المنشق عن الحركة الأولى في الثمانينيات، وهما معا أمازيغيان.
لكن هذا الاختيار يعتبر في نظر النظام تحدياً قوياً لا يمكن السماح به، لأن من شأنه أن يشجع الإسلاميين أكثر على الضغط لتأسيس أحزاب سياسية على أساس إسلامي، وهو ما يتفادى النظام المغربي السماح به.
ورغم أن المعهد لم ينتقل إلى طور العمل، ومازال بدون مقر رسمي، فإن هناك فئة من الأمازيغيين تفضل الانتظار والتريث في الحكم، دون أن يمنعها ذلك من طرح التساؤلات بشأن احتمالات النجاح والفشل في مهماته، خاصة وأن فتح ملف الأمازيغية ومباشرة مشكلاته ليس بالأمر السهل إذا تم الانتقال من مرحلة التنظير والشعار إلى مرحلة التنفيذ والممارسة.
مشكلات معقدة وطروحات متباينة
لقد استبق محمد شفيق الذي عينه الملك محمد السادس قبل ثلاثة أسابيع عميداً للمعهد هذه التخوفات ليعلن أن المعهد لن يقدم حلولاً نهائية للقضية الأمازيغية، وربما كانت التخوفات من الإخفاق في مهمة المعهد هي ما دفع شفيق إلى أن يطلب من الملك حسب مصادر وثيقة أن يكون عميداً مؤقتاً للمعهد لمدة عامين فقط، بدل أربع سنوات، وألا يتقاضى أجراً على مسؤوليته تلك، حتى يظهر أنه يعمل بشكل تطوعي ولا يسعى إلى جني مكاسب مادية أو سياسية، وأن يحافظ على صورته الأولى كرجل الحلول الوسط وصفته كباحث أكاديمي يخدم القضية الأمازيغية من بعيد دون أن يغوص في صراعاتها وتياراتها المتباينة.
ومنذ تعيين الملك لجنة خماسية قبل أيام للبت في تشكيلة المجلس الإداري (35 عضواً) لاحت أولى مشكلات المعهد، فهذه اللجنة تتكون من خمس شخصيات بعضهم من غير ذوي الأصول الأمازيغية، الأمر الذي جعل الأمازيغيين يقولون إن المجلس الإداري للمعهد لن يكون أمازيغياً خالصاً، وأن عدداً من أعضائه سيكون ممن يسمونه "العروبية الرسمية" أي أن المعهد في نظر هؤلاء سيكون عبارة عن خليط من الأمازيغيين والعروبيين الذين سيمثلون عائقاً أمام سيره، ولن يكون منتدى للأمازيغيين بل واجهة أخرى للتعريب.(10/87)
المشكلة الثانية التي مازالت تعترض تأسيس المعهد هي المعايير التي سوف يتم اعتمادها في اختيار أعضاء مجلس الإدارة، ذلك أن هناك ثلاثة معايير مختلفة: معيار الانتماء السياسي، ومعيار الاشتغال الأكاديمي، ثم معيار الأصول الجهوية. ويتجه الاختيار فيما يبدو حتى الآن إلى اعتماد المعيار الأخير على أساس أن اللهجات الأمازيغية الأربع توجد في أربع مناطق من المغرب، واعتماد هذه اللهجات جميعاً داخل المعهد يدفع إلي اختيار المنتمين إليها على التساوي، وهذه المناطق هي سوس والأطلس ومنطقة الريف في الشمال والصحراء، والتي بها اللهجات الأربع: تاريفيت، وتاشلحيت وتامازيغت، والحسانية. وقد ظهرت بعد الإعلان عن المعهد عدة لوائح لجمعيات أمازيغية مختلفة تضم أسماء ترشحها هذه الجمعيات لعضوية مجلس الإدارة، وصلت إلى حد التضارب والمزايدات الشخصية والسياسية.
غير أن أخطر المشكلات التي ستجابه المشرفين على المعهد وبالخصوص عميده المعين محمد شفيق تتمثل في قضيتين جوهريتين، تشكلان معاً آلية اختبار لقدرة المعهد على تصفية مشكلة الأمازيغية في المغرب.
القضية الأولى تهم الخط الذي سيتم اعتماده في كتابة اللهجات الأمازيغية الأربع، والثانية تخص موضوع تدريس الأمازيغية في التعليم، وهما قضيتان شائكتان ليس الحسم فيهما بالأمر الهين.
خط الكتابة
تعتبر قضية الخط في كتابة الحروف الأمازيغية وتدوين ثقافتها قضية حاسمة بالنسبة للتيار الأمازيغي في المغرب، فهذا التيار يرى أن الخط ليس مسألة شكلية بل تعبير عن الهوية التي يريدها لنفسه، وهو ينطلق في البحث في هذا الموضوع من ضرورة قيام قطيعة مع اللغة العربية وحروفها، التي يعدها لغة الغازي المحتل، خصوصاً وأن اللغة العربية في أعين دعاة الأمازيغية تحيل إلى الدين الإسلامي، وهو هوية دينية مخالفة للهوية الأمازيغية التاريخية حسب اعتقادهم.
من هنا فإن مهمة المعهد ستكون صعبة، وسيؤدي اختياره لخط معين إلى إثارة خلافات ربما قد تؤدي به إلى الفشل منذ البداية. فهناك ثلاثة اختيارات: الخط العربي والخط اللاتيني، وخط تيفيناغ الذي يعتبره الأمازيغيون الخط الرسمي الأول الذي كتبت به اللهجات الأمازيغية في القرون السابقة لظهور الإسلام.
ونظراً لكون الدولة في المغرب دولة عربية مسلمة حسب الدستور، وكون اللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد، فإن اختيار المعهد سيقع بدون أدنى شك على الخط العربي، لأن اختيار أي خط آخر سوف يعني تخلي الدولة عن سياسة التعريب التي تنهجها منذ الاستقلال، وسيوقعها في تناقض مع المبادئ الدستورية المحددة لهوية الدولة، وبالتالي مع موقفها الرافض لدسترة الأمازيغية، إذ ما دامت الدولة مستعدة للتخلي عن مبدأ التعريب وبالنسبة لجزء من المغاربة، فإن رفض الاعتراف بالأمازيغية إلى جانب العربية في الدستور سوف يصبح بدون أساس معقول، وسيمنح ذلك مشروعية أكبر للمطالبين بالدسترة، وبذلك تكون الدولة نصبت لنفسها فخاً. وعلاوة على هذا فإن اختيار غير الخط العربي، وليكن اللاتيني أو تيفيناغ، سيعني اعترافاً رسمياً بوجود هويتين لغويتين، وتشجيعاً لأي نزاعات انفصالية في المستقبل وتهديداً لوحدة المغرب.
والمشكلة القائمة اليوم هي صعوبة إقناع التيار الغالب في الحركة الأمازيغية باستعمال الخط العربي، إذ يرفض هذا التيار توظيف الخط المذكور لما يعنيه ذلك من تكريس لسياسة التعريب التي يرفضها من الأصل، ولا يتردد البعض عن نعت اللغة العربية بأنها لغة الغزاة والمحتلين!.
ومقابل رفض الخط العربي، ينقسم هذا التيار إلى اتجاهين، اتجاه يدعو إلى تبني الخط اللاتيني، واتجاه يدعو إلى بعث خط تيفيناغ، ولكل واحد أسبابه. فالاتجاه الأول يرى أن الخط اللاتيني المتمثل في اللغة الفرنسية يعطي الأمازيغيين بعداً دولياً ويوفر لهم حليفاً قوياً هو فرنسا، والقسم الأكبر من أصحاب هذا الاتجاه معروف بولائه للأوساط الثقافية والسياسية الفرنسية، وبثقافته الفرنسية، قراءة وكتابة، وقد ظهر هذا الاتجاه مع الاحتلال الفرنسي للمغرب والسياسة البربرية الشهيرة في الثلاثينيات من القرن الماضي، إذ برزت دعاوى تاريخية تقول بأن جذور البربر تعود إلى القارة الأوروبية، وأن الحضن الطبيعي لهم هو فرنسا، والفرنسية هي لغتهم الأم، وقامت المؤسسات الأكاديمية الفرنسية التي يعمل بها أمازيغيون مغاربة وجزائريون بإجراء دراسات وتجارب لغوية لتوحيد اللهجات الأمازيغية وفق الخط الفرنسي، لكن دون نجاح.
أما خط تيفيناغ الذي تقول النخبة الأمازيغية إنه أول خط رسمت به الحروف الصوتية الأمازيغية قبل الإسلام، فهو يطرح عدة مشاكل وصعوبات، أبرزها أن القلة من الأمازيغيين هي التي تعرفه اليوم، وأن عدد حروفه لا يتجاوز 24 حرفاً، وقد حاول البعض تطويره، فأوصله إلى 32 حرفاً وأوصله آخرون إلى 40 حرفاً، لكن الخلافات السياسية والحزازات الشخصية حالت دون اكتمال مشروع التطوير هذا.
تدريس الأمازيغية(10/88)
المشكل الآخر الذي يعرقل مهمة المعهد، ويعتبر جزءاً من المشكلة الأمازيغية عامة سواء في المغرب أو في الجزائر، يخص طبيعة التعدد الذي تتميز به اللهجات الأمازيغية، مما يصعب معه إيجاد لغة موحدة ذات قواعد مضبوطة يمكن تدريسها والتدريس بها. ذلك أن ما يسمى باللغة الأمازيغية لدى التيار الأمازيغي هو في الواقع أدوات لغوية متعددة ومختلفة وغير متجانسة، وتختلف من منطقة لأخرى، ويصعب جمعها في لغة واحدة. فهناك خياران اثنان: إما السعي إلى التوحيد اللغوي، وإما تدريس جميع اللهجات في وقت واحد. في حالة الخيار الأول، فإنه إضافة إلى أنه غير ممكن بحسب الباحثين اللغويين واللسانيين الذين درسوا هذه القضية فإن المشكلة هي كيفية نشر هذه اللغة الواحدة بعد خروجها من المختبرات اللغوية بين ملايين الأمازيغيين، أما الأخذ بالخيار الثاني، أي تدريس جميع اللهجات، فإن ذلك سوف يؤدي إلى "بلقنة" المغرب وتهديد الوحدة الوطنية، لأنه سيخلق التنافس في خدمة التجزئة حسب أحد الباحثين، ولا يمكن بعدها العودة إلى الأمازيغية الأم، كما يستحيل حالياً رجوع اللغات الأوروبية على اللاتينية الأم، كما أن ذلك سيؤثر على التواصل بين جميع الجهات. ولكن الأخطر من ذلك هو أن هذا الأمر سيفتح المجال أمام الناطقين بالدارجة المغربية للمطالبة بالاعتراف الدستوري بها، وسيصبح آنذاك لزاماً على الدولة المغربية الاعتراف بأكثر من خمس لغات في الدستور، وهو أمر لا يوجد في أي دستور في العالم.
خلاصة الأمر أن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سيكون أمام تحديات ضخمة قد تعصف به في منتصف الطريق، وقد يعيد تجربة المفوضية العليا للأمازيغية الجزائرية التي فشلت في مهمتها قبل ست سنوات، ودلت على ذلك أحداث منطقة القبايل الأخيرة، والسؤال هو هل يفلح المغرب فيما أخفقت فيه الجزائر؟ أم أن حاضر الجزائر هو مستقبل المغرب؟ سؤال كبير وجارح، ولكن الوقائع على الأرض تفرضه.=>
============(10/89)
(10/90)
ظلال الديجولية تخيّم على مواقف السياسيين الفرنسيين
فرنسا.. وأمريكا.. والحملة الدولية
بعد أحداث سبتمبر الأمريكية، كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك أول رئيس أوروبي يزور الولايات المتحدة للتعبير عن تضامن فرنسا العميق مع الشعب الأمريكي من باب الاعتراف بجميل الأمريكيين الذين وقفوا خلال الحرب العالمية الثانية إلى جانب الشعوب الأوروبية مع الشعب الفرنسي خصوصا لدحر النازية. وتوالت مواقف السياسيين الفرنسيين في مختلف مواقعهم تؤكد نفس التوجه التضامني العام. لكن خارج هذا الإطار، برزت أصوات عديدة تدعو إلى عدم الانجرار إلى الاستراتيجية الأمريكية بكل تفاصيلها والحفاظ على السيادة الوطنية في اتخاذ القرار، بما يذكّر بمواقف السياسي الفرنسي الشهير شارل ديجول أيام حكمه.
ولمزيد من فهم مواقف الطبقة السياسية الفرنسية، نتوقف عند مداولات المجلس الوطني (البرلمان الفرنسي) لمناقشة أحداث أمريكا وتداعياتها بحضور السلطتين التنفيذية والتشريعية.
في جلسة يوم الأربعاء 3-10، قدم الوزير الأول ليونال جوسبان خطاباً باسم الحكومة عقبه نقاش من النوّاب. في خطابه، عبّر جوسبان عن تضامن فرنسا مع الشعب الأمريكي وعن الشعور بالحزن الشديد المشفوع بشعور القلق معللاً ذلك بأنّ "هذه الأعمال الإرهابية تمثل تحدياً مباشراً لقيمنا الأكثر ترسّخاً: احترام الحياة، الديمقراطية، الحرية". وكأنّ مثل هذه القيم خاصة بالحضارة الغربية وليست ملكاً للجميع، ولعلّ الإشارة إلى أنّ هذه الأعمال تمثل أيضاً تحدّياً لكل الأمم والمجتمع الدولي يستدعي أجوبة واضحة وحازمة، هو من باب تعويم هذه "الخاصية" الغربية في الإطار الدولي. واعتبر أنّ الهدف من مناقشة هذا الموضوع داخل البرلمان هو إشراك النوّاب في إصرار فرنسا على انخراطها في مقاومة ما أسماه ب "الإرهاب الدولي".
وتساءل: "هل غيّر يوم 11-9 شيئاً في تاريخ العالم؟"، وتوقف عند مصطلحين اقترنا بهذه الأحداث وهما: الحرب وصراع الحضارات. ولم يشر الوزير الأول صراحة في خطابه إلى انتماء القائمين بالتفجيرات في الولايات المتحدة إلى الإسلام وإنما ضمنياً من خلال موقف من يقولون بالصراع الحضاري، مفسراً موقفهم هذا بأن "الإرهابيين يعتقدون في قدرتهم على إبلاغ الإسلام أو بالأحرى رؤيتهم الخاصة المنحرفة عن الإسلام، من أجل تبرير ما لا يمكن تبريره، وجلب أتباع أو أنصار". أو من خلال الإشارة إلى الهدف الذي وضعته الإدارة الأمريكية لتحركاتها على
انفراد أو في إطار تحالف، وهو "النجاعة مع طول النفس من أجل تفكيك منظمة بن لادن والشبكات التي تنعت بأنها تنتمي إلى حركة الإرهاب الإسلامي".
وفي تفسيره لظاهرة الإرهاب، يرى جوسبان من ناحية أنّ الصراعات وكل مظاهر عدم المساواة المنتشرة في العالم لا تفسّر الإرهاب، في الوقت نفسه الذي يعتبر أن الفقر والشعور بالدونية والظلم، كلها تولّد الكراهية. وكأنّه يقول بأنّ الكراهية يجب ألا تتجاوز الخط الأحمر، أي استعمال العنف. ولكن بين ما يجب أن يكون وبين الواقع، فرق شاسع. فقد أثبتت أحداث 11-9 أن الخطر سائد ما دامت أسبابه متجذرة خاصة ما يتعلّق بالفوارق الكبيرة في مستوى العيش بين شعوب ما يسمّى بالشمال وما يسمّى بالجنوب، وما يتعلّق بسياسة المكيالين في معالجة القضايا الحساّسة. وفي خطاب الوزير الأول اعتراف بوجود إشكاليات حقيقية معقّدة تحتاج إلى حوار واسع، حيث قال إنّ: " هذه الأزمة تقودنا إلى أسئلة أساسية بشأن الوضع الحالي للعالم". وتساءل: "كيف نردّ على أصناف التطرّف التي لدينا إحساس عميق بانتشارها حتّى في عالمنا المتقدّم؟ كيف نتجنّب تشكّل فراغات في المجال السياسي لا يملؤها سوى العنف، في عالم يشهد عولمة اقتصادية؟". وأضاف: "لكنّي مقتنع بأنه يجب ألا يكون التهديد الإرهابي سبباً في تحوّل القضايا العالمية الملحّة مثل حلّ النزاعات؛ خاصة في الشرق الأوسط واحترام حقوق الإنسان والتقدّم الديمقراطي والتنمية إلى قضايا ثانوية في أذهان صانعي القرار وفي الترتيبات الزمنية على مستوى الدول".
وفي انتظار هذا الحوار وتنزيل القناعات على أرض الواقع، فإنّ العالم اليوم يشهد مأساة إنسانية يعيشها الشعب الأفغاني. في هذا الصدد، أشار رئيس الوزراء الفرنسي إلى حضور فرنسا عبر منظماتها غير الحكومية والمشاركة في إطار مساعدة أوروبية تقدر ب27 مليون أورو لفائدة المدنيين الأفغان، وتقديم مشروع عمل للمجلس الأوروبي يضمن حق الشعب الأفغاني في تقرير مصيره، والمشاركة في الجهد الدولي لإرساء الحوار بين مكوّنات المجتمع الأفغاني من أجل مساعدته على تحقيق التصالح والسلم المدني.(10/91)
واعتبر جوسبان أنّ مقاومة الإرهاب "أولوية مشتركة لكل الديمقراطيات ويجب أن تكون كذلك بالنسبة لبقية الأمم". ولكي تنجح "يجب أن توحّد الأمم والشعوب والأديان ولا تفرّقهم". بيد أنّه أوضح أنّ هذه الوحدة المرجوة على مستوى عالمي لن تقضي على التوترات في العالم، ولا تهدف إلى أن تفرض على الشعوب التي تعاني التخلي عن معاناتها ولا التنازل عن هويتها من أجل الانصهار في مقاومة أحادية التوجه والقطبية".
وعرّج على الدور الفرنسي في مقاومة الإرهاب مؤكداً سيادة القرار الفرنسي، فهو يرى أنّ ما يتم اليوم يندرج في إطار التضامن الدولي مع الشعب الأمريكي الصديق لفرنسا، ومع الولايات المتحدة "التي نتقاسم معها المثال الديمقراطي"، ولكنّها "ليست حرباً لطرف آخر منجرّون إليها، وإنما هو عمل ضروري ومنهجي نضع فيه كل جهودنا بكلّ حرّية" و"بالطريقة التي تناسبنا"، وذلك "ليس بهدف القضاء على الإرهاب فحسب، وإنما أيضا لإصلاح التصدعات والحدّ من المظالم التي تذكي العنف وتضعف رسالة الديمقراطيات".
أما فيما يتعلق بالحلف الأطلسي، فإن التضامن بين أعضائه الذي ينصّ عليه الفصل الخامس من اتفاقية المنظمة تجسّد على المستوى الفرنسي في فتح المجال الجوي للطائرات الأمريكية والمشاركة بحاملة طائرات والإشارة إلى إمكانية إرسال الفرق التابعة للقوات العسكرية والمختصة في العمليات الدقيقة العاملة في الإطار العسكري. وركّز الوزير الأول الفرنسي على أهمية الدور المخابراتي الذي تقوم به فرنسا في تقديم المعطيات والمعلومات لنجاح الضربات المحدودة الأهداف وكذلك العملية طويلة المدى، مستخدمة في ذلك شبكة علاقاتها الدولية وخبرتها الطويلة بتعقيدات الواقع الإسلامي والتيارات الإسلامية العاملة في الساحة الغربية. وفي ذلك، إشارة إلى أنّ ما تقوم به فرنسا من دور في المجال المخابراتي لا يستهان به ولا يقل أهمية عن الدور البريطاني العسكري المباشر. ويتضمّن هذا الخطاب رسالة للولايات المتحدة بأن فرنسا قدمت إلى هذا الحد ما يفي بالتزاماتها في إطار الأطلسي، وهي رسالة أيضاً إلى الرأي العام الفرنسي السياسي والشعبي في عمومه المتأثّر بالديجولية من حيث التحفّظ إزاء الاستراتيجية الأمريكية، بأن الدور الفرنسي بقي في إطار هذا الحدّ. ولهذا اشترط جوسبان في حال طلب الولايات المتحدة من فرنسا المشاركة العسكرية المباشرة على ساحة المعركة، أن يكون بلده "مشاركاً كلياً في تحديد الأهداف وفي التخطيط للعمليات" ووعد باستشارة البرلمان في ذلك، وإطلاع النواب ومن خلالهم الرأي العام على التطورات في هذا الجانب. في نفس الوقت عبّر عن اعتراض السياسة الرسمية الفرنسية على اتخاذ الموقف الناقد لمسؤوليات الولايات المتحدة في التاريخ المعاصر كمبرّر للتنصل من الانخراط في مقاومة الإرهاب، علماً بأنّ خطاب الرئيس الفرنسي شيراك الموجّه للشعب تضمّن تلميحات لتطوّر المشاركة العسكرية الفرنسية تدريجياً.=>
=============(10/92)
(10/93)
نحو مشروع للنهضة في الوطن العربي(2)
محاور المشروع.. وعوامل النجاح
لن يختلف أحد حول أهم المحاور التي ينبغي أن يتضمنها أي مشروع للنهضة في الوطن العربي. قد يحدث جدل حول أيها يجب أن يقدم أو يؤخر، أو حول الأهمية النسبية لأحد هذه المحاور، وهذا الخلاف اليسير في مظهره مثل أحد الأسباب الرئيسة للأسف الشديد لعدم تعاون القوى السياسية والفكرية الفاعلة على الساحة العربية منذ بداية القرن الميلادي المنصرم، حتى في إطار الاتجاه الفكري والسياسي الواحد.
فقد جرى جدل عقيم حول قضايا من قبيل: هل نحقق الوحدة العربية ولو بالقوة أم نسعى إلى ازدهار وتقدم الدولة القطرية أولا؟ ومازالت تحضرنا مقولة الزعيم المصري سعد زغلول عندما أجاب على من دعاه إلى العمل على وحدة العرب بقوله: وما الفائدة إذا جمعنا أصفارا؟ ستكون الحصيلة بالقطع صفرا كبيرا!
ومثله جدل آخر حول: أيهمها أولى بالعناية والرعاية: تحقيق الديمقراطية وتطويرها والحفاظ عليها أم التنمية الاقتصادية والعدل الاجتماعي بصورة أو بأخرى؟ وكانت النتيجة هى غياب كليهما معاً، حتى بين الفصائل القومية نفسها الطامحة إلى تحقيق أهداف قومية، كان الخلاف شديداً بين الاتجاه الناصري الذي تبنى شعاراً عربياً قومياً بترتيب جديد، وبين حزب البعث العربي الاشتراكي الذى كان له قبل ذلك ترتيب آخر للشعارات (حرية اشتراكية وحدة).
الحقيقة أنه لا يختلف أحد حول أهمية تحقيق أحلام الأمة العربية في التقدم والازدهار وفي الحرية والديمقراطية وفي الوحدة والتكتل، وفي الاستقلال الحقيقي إلا أن التحدي الحقيقي هو في كيفية إنجاز هذه الأحلام على أرض الواقع و الطريقة التي بها تقتنع كل الأطراف والقوى الفاعلة في الأمة بأهمية الالتقاء على كلمة سواء للخروج من المأزق العربي والاتفاق على الحد الأدنى من القضايا لكى ننجز مشروعاً تنفيذياً ببرامج محددة لتحقيقها ثم الانطلاق إلى ما بعدها، وبعث الحمية والحماسة في أفراد الأمة العربية جميعاً أو على الأقل في الطاقات الحيوية مثل الشباب والنساء والقوى النقابية، عمالية ومهنية، والطبقة الوسطى التي تمثل أهم رافعة لتحقيق الانطلاق والنهضة المرجوة.
تحديات العصر والاستجابة لها
تمثل تحديات العصر وكيفية الاستجابة لها أهم محاور مشروع النهضة: فالعالم يشهد تحولات نوعية وكيفية كتلك التي لا تخطئها العين: التكتلات الكبرى والكيانات العظمى، الشركات عابرة القارات ومتعددة الجنسيات، صعود نجم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، عولمة مخيفة للبعض حالمة عند البعض الآخر إلا أنها صارت واقعاً يحتاج للتعامل معه، تقنية عالية جداً في الاتصالات أتاحت نمواً هائلاً للمعارف وإنتاجاً غزيراً للمعرفة، لذلك جاءت محاور المشروع التى قد تبدو للبعض ترديداً لشعارات قديمة إلا أنها في الحقيقة تمثل استجابة للتحديات المطروحة.
ففي عالم بات لا يعترف إلا بالكيانات العملاقة تمثل الوحدة العربية ضرورة بقاء للأمة العربية وليس مجرد حلم طوباوي أو أملاً قد يتحقق أو لا يتحقق، فضلاً عن أن النتائج التى ترتبت على تمزيق العرب إلى كيانات جزئية وإثارة النزاعات الحدودية الدامية فيما بينها كانت كارثة بكل المقاييس، وجاءت التهديدات التي تحملها العولمة لبقاء الدولة القطرية وتقليص سيادتها إلى حد خطير، جاءت لتهدد ما تبقى من استقلال شكلي هزيل.
إلا أن تحقيق الوحدة العربية أصبح رهناً بعدة عوامل منها ما يعد في عرف الاتجاه القومي صعباً وعسيراً مثل "احترام الدولة القطرية، وتحقيق الوحدة الوطنية أولا كمدخل إلى الدولة القومية الموحدة"، وكذلك تعيين الطريق إلى الوحدة بعد التجارب الوحدوية الفاشلة وبعد الغزو العراقى المرير لبلد عربي شقيق هو الكويت بادعاء تحقيق وحدة القطر العراقي، خاصة بعد أن جاءت ورقة د. سعدون حمادي في الندوة التى عقدت في فاس ورسمت مسارين لتحقيق الوحدة العربية: الأول من خلال الأنظمة وهو على ما يبدو طريق مسدود، والثاني مسار الثورة وبالتالى يفتح الطريق إلى القوة لتحقيق الوحدة وهو ما فعله العراق عند غزو الكويت، وقد اعترض كل المعقبين والمتداخلين والمحاورين على فرض الوحدة العربية بالقوة.
لذلك كان من الضروري أن يتضمن محور الوحدة في المشروع المقترح بنوداً من أهمها:
ضرورة المصالحة مع الدولة القطرية.
الطريق الديمقراطي هو السبيل إلى الوحدة العربية.
البناء المؤسسي التدريجي لدولة الوحدة العربية.
تبني أكثر من خيار لتحقيق الوحدة: بين عدد محدود من الأقطار العربية (مجموعة نواة) خيار الكونفدرالية خيار الاتحاد الفيدرالى.
أهمية تفعيل دور الجامعة العربية، ومؤسسات العمل العربي المشترك وتطويرها.
العمل الشعبي والمؤسسات الشعبية الأهلية عبر القطرية مثل الاتحادات المهنية العربية والعمالية وغيرها.
التحول نحو الديمقراطية(10/94)
أما التحدى الثانى الذى يواجه أى نهضة عربية مرجوة فهو التحول نحو الديمقراطية، لقد أصبحت الديمقراطية (بما تحمله من معاني إطلاق الحريات العامة وحرية التعبير والتداول السلمي على السلطة الخ) ضرورة لبناء النهضة فضلا عن كونها شرط استمرار لأى نهضة حقيقية حيث لا يمكن لشعوب مقهورة أن تنهض أو تحافظ على نهضتها أو تحقق الوحدة المنشودة بينها، إذن هناك حاجة لأن يتضمن المشروع المقترح كيفية التغلب على المعوقات الداخلية والخارجية التي تمنع التحول الديمقراطي.
كما أن خصوصية الثقافة العربية الإسلامية تفرض تناول علاقة الديمقراطية بالشورى، كما جاء بها الإسلام والتي تسمح بالمشاركة الشعبية لعموم الناس وتلزم الحاكم وتحترم تعدد الآراء وتسمح بالحق في التنوع والاختلاف وتحترم إرادة الأمة فى اختيار حكامها وكيفية عزلهم، هذه الشورى هى حالة راقية وصورة أكثر تقدماً من صور الديمقراطية، فلسنا في حاجة إلى تبني خيار محدد (وستمنستر مثلا أو الفرنسي أو الأمريكي الرئاسي)، بل يمكن لنا في ظل تحقيق القواعد الكاملة، أن نتبنى خياراً خاصاً ينسجم مع عقيدة وهوية الأمة العربية ويتناسب مع ثقافتنا ويسهل على الشعوب أن تهضمه وأن تتبناه، بل يمكننا هنا أن نضيف لبنة إلى البناء الديمقراطي العالمي من الناحية الفلسفية والمنهجية بل وفي وسائل العمل كذلك.
إن أي مشروع للنهضة ينبغي أن يحقق تثبيت دعائم الشورى والديمقراطية في البيئة العربية بدءاً من التنشئة والتربية لتعزيز قيم المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص، مروراً بتوفير الحريات العامة مثل حرية الرأى والتعبير والتنظيم وكذلك احترام التعددية في الفكر والممارسة والحق في المشاركة السياسية في ظل نظام دستوري يعتمد التمثيل النيابي ويعمل بآلية التداول السلمى للسلطة، في ظل استقلال حقيقي للهيئة القضائية وفصل بين السلطات الثلاث، هذا كله مع الأخذ في الاعتبار أن بناء الشورى والديمقراطية عملية صعبة طويلة الأمد وبغير ذلك فإن الجهود المبذولة قد لا تثمر.
ويظن البعض أن تحقق انطلاقة ديمقراطية قبل إرساء أسس قوية ومتينة ثقافياً وفكرياً وعبر ممارسات مستقرة شرط كاف لتحقيق نهضة عربية، إلا أن ذلك غير صحيح لأن الديمقراطية شرط ضروري ولكنه ليس شرط كفاية، فلابد من العمل على بقية محاور مشروع النهضة، وستكفل آليات الديمقراطية ضبط المسار وتصحيح الأخطاء وحشد الطاقات والكفاءات فضلا عن أن الإرادة الشعبية المحترمة هى التي ستحسم الخيارات الحضارية للأمة وتقف في وجه المخططات المعادية (لذلك تصر أمريكا على دعم الديكتاتوريات، ويظل العدو الصهيونى يتشدق بأنه وحده واحة الديمقراطية وهو يعلم أن تطبيق الديمقراطية سوف يأتى إلى الحكم بأكثر القوى معاداة للمشروع الصهيوني).
التنمية
مع الشورى والديمقراطية والوحدة لابد من تنمية مستقلة متكاملة لبناء اقتصاد عربي قوي يحقق آمال الأمة في رخاء وازدهار يؤهلها للقيام بدورها الحضاري في العالم كله.
وهذه التنمية تتطلب اكتساب المعارف وبناء نظام تعليمى جديد ودعم البحث العلمى والتعليم المستمر والتطوير الثقافي.
كما أن التنمية تحتاج إلى حفز للادخار والاستثمار لبناء قدرة إنتاجية تنافسية لخلق فرص عمل للشباب والعاطلين عن طريق مزاوجة بين قطاع خاص كفء ومنضبط ومسئول اجتماعياً مع دولة قادرة ومبادرة وانفتاح متوازن على العالم.
وهنا لابد من البحث عن دور النفط العربى ووسائل الطاقة في بناء تنمية مستقلة والاهتمام بالبيئة والآثار الخطيرة التى تترتب على التنمية غير المنضبطة بيئياً ويستحسن دراسة التجارب التنموية في شرق وجنوب شرق آسيا خاصة الصين وماليزيا.
وحتى يكون للتنمية المستقلة عائد حقيقي على مشروع يحقق نهضة الأمة جميعًا ولا تصب في صالح طبقة واحدة أو شريحة ضيقة من المجتمع فلابد من العمل على إنجاز واقعي يحقق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية.
وفى هذا المجال المهم ، الذى كان لليسار الصوت العالي المدوي في تبينه، لابد أن يتصالح التيار القومي مع أركان ومعالم الإسلام ومنجزات حضارته العظيمة على مدار القرون السالفة، حيث يمكن الاعتراف بأنه كان هناك فقر في بلادنا إلا أنه لم يكن هناك تمييز طبقي أو أن المحاولات انعدمت من أجل إيجاد علاج لمشكلة الفقر.
وهنا تبرز أهمية إعادة الاعتبار لركن مهم وخطير وأساسي من أركان الإسلام ألا وهو الزكاة، لا كفريضة فردية فقط، بل كمؤسسة تكافل اجتماعي تقوم الدولة برعايتها.
وهناك مؤسسة الوقف التى لم تكن فقط لرعاية المحتاجين بل أمدت المجتمعات الإسلامية بأسباب النهضة ودعمت مشاريعها في التعليم والعلاج والرعاية الاجتماعية وغيرها.
ليس المطلوب مساعدة الفقراء فقط بل العمل على القضاء على الأسباب التي تؤدي إلى إعادة إنتاج الفقر عن طريق بناء القدرات البشرية وتوفير مناخ يؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة للفقراء.(10/95)
ومن المهم الأخذ في الاعتبار البعد القومي للثروة العربية وتحقيق العدالة في توزيعها ليس عن طريق اقتسامها كما يحلو للبعض أن يزايد بل عن طريق توظيفها في المنطقة العربية لتنميتها وخلق فرص عمل جديدة وتحقيق تنمية مستقلة.
الاستقلال الوطني والقومي
وإذا تحققت المحاور السابقة متضافرة ومتداخلة فإن الاستقلال الوطني والقومي يكون قريب المنال متحققاً في الواقع، وحينئذ ستقل التدخلات الخارجية في شؤون الأمة ، وسيكون الأمن الوطني والقومي مكفولاً كما الأمن المائي والغذائي، كما التماسك الوطني والقومي، وحينئذ وفي ظل بنية أساسية متوفرة يمكن تحقيق الأمن الثقافي في المجالين المدني والعسكري كما سيسهل بناء قدرة قتالية عربية في سياق بناء قدرة استراتيجية شاملة لاتقتصر فقط في مجال إنتاج السلاح، ولعل ذلك كله سيصب في صالح مواجهة المشروع الصهيوني المضاد لأي نهضة للأمة العربية كما سيكون بالإمكان مواجهة الهيمنة الأجنبية حيث ستتوفر إمكانات لبناء قدرات تفاوضية جيدة من موقع القدرة والقوة والوحدة لا على المستوى السياسي فقط، بل أيضا،وهو أهم، على المستويين الاقتصادي والثقافي مع مؤسسات النظام العالمي الجديد والشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات الدولية، وإذا استطعنا أن نحقق نهضة شاملة في الأمة العربية فإنها ستتطلع إلى القيام بدور حضارى على مستوى العالم (سماه حسن البنا من قبل: أستاذية العالم) وهذا يحتاج إلى رسالة للأمة العربية تريد نشرها كما للأمم الأخرى، فاليوم تواجهنا عولمة أمريكية برسالة عالمية تدور ظاهراً حول الإنسان وتزعم أنها تريد تحقيق أكبر قدر من الحرية له عن طريق حفظ حقوقه وتمكينه من إرساء الديمقراطية إلا أن ذلك كله يخفي مطامع ومصالح تتحطم أمامها كل الشعارات البراقة، وليس هذا موضوعنا الآن لكن المهم أن تحديد هذه الرسالة يحتاج إلى ما يسميه المشروع "التجدد الحضارى" لأنه من غير المعقول أن يتبنى مفكرون غربيون نظرية "صِدام الحضارات" باعتبار وجود فعال للحضارة الإسلامية بينما نحن لم نستأنف إعادة بناء حضارتنا الإسلامية بعد، ولا يمكن بناء حضارة إسلامية حقيقية إلا على أساس وحدة عربية ونهضة عربية لأن العرب هم معدن الإسلام وحملة رسالته الحضارية قديماً وحديثاً.
مصالحة
لذلك كله كان لابد من مصالح تاريخية بين التيار القومي و التيار الإسلامي ثم العمل على إحياء الثقافة العربية المشتركة وإعادة الاعتبار إلى اللغة العربية مع الاهتمام بالحرف العربي الذى يكتب به قرابة 300 مليون نفس من غير العرب.
وفي ظل تخوفات مشروعة من الانعزال والتقوقع لابد من الاهتمام بأمرين:
الأول: التنوع الثقافي داخل الأمة واعتباره مصدر ثراء وغنى وليس مصدر فرقة وشتات.
الثانى: الانفتاح على العالم بترجمة المعارف الأحدث على نطاق واسع والاستفادة بتجارب الآخرين.
وهذا سيحقق للأمة اغترافاً ذكيًّا من الدوائر الحضارية الأخرى بل والإسهام في بناء حضارة عالمية إنسانية تحترم التنوع وتلتزم التعددية الحضارية وتحقق التفاعل بين الحضارات عن طريق حوار متكافيء لا صِدام، كل ذلك سيكون مشعل هداية للإنسان، عموم الإنسان، وهذا ما يريده الإسلام.
إننا بحاجة إلى بناء نسق قيمي متوازن يحدد للمواطن العربي دوائر العمل المطلوبة منه على مستوى الفرد والجماعة الصغيرة والمجتمع والدولة والأمة ودولة الوحدة .
نحتاج كما يقول مالك بن نبي إلى مزج العناصر التى تكون الحضارة: الإنسان والوقت والتراب لننطلق من نير البقاء فى أسر التبعية والذيلية إلى أفق الحضارة والنهضة.
وهذا دور الطليعة الفاعلة من أفراد ومفكرين وسياسيين وأدباء وجماعات مصالح وقوى سياسية واجتماعية التي يقع عليها عبء استنهاض همم الأمة لتحقيق الإقلاع بمشروع النهضة.
نحتاج إلى علاقة طبيعية بين هذه القوى الفاعلة وبين نظم الحكم فإن لم تتبن مشروع النهضة وهذا حلم ليته يتحقق ولو جزئيا فلا تتخذ من الإجراءات ما يقوضه ويعطله.
دعونا نفكر ونعمل وليس فقط نتأمل ونحلم.
=============(10/96)
(10/97)
عولمة المهرجانات الفنية
بعد عولمة المهرجانات الرياضية في العالم، وفرضها على عالمنا العربي تأتي مرحلة عولمة مهرجانات الفن الرخيص بكل أشكاله.
فضمن إطار فرض الميوعة واللهو الماجن، وعولمة الفن الإباحي وتمجيد نجومه، تأتي صرعة إلهاء الشعوب في عملية منظمة، وتيار جارف يتميز بعقد المهرجانات والاحتفالات الجماعية المختلطة بكثافة، وتأتي هذه المهرجانات متتابعة بصورة متجددة لم تشهد لها الإنسانية مثيلاً من قبل.. كل ذلك تحت شعار الثقافة والتنمية والانفتاح!
وربما بلغت هذه الظاهرة أوجهها في السنوات الأخيرة تمهيداً لدخول الألفية الثالثة..
ففي أرض الكنانة "مصر" تعقد مهرجانات فنية وسينمائية وشعبية في مدن عدة، مثل مهرجان الإسماعيلية للفنون الشعبية، والذي بدأ أعمال دورته الثانية عشرة أمس 24 أغسطس بمشاركة 33 دولة، وفي صيف عام 1998م استخدمت خمس شاشات عملاقة في الشوارع والميادين الرئيسية لإتاحة الفرصة للناس لمشاهدة فعاليات المهرجان في الطرقات! هذا عدا مهرجانات القاهرة والإسكندرية التي تقام سنوياً خلال فصل الصيف.
وفي فلسطين التي ما زالت جراحها تنزف بغزارة تقام مهرجانات الفن الرخيص تحت رعاية وزارة الثقافة التابعة للسلطة الفلسطينية لإلهاء جيل الانتفاضة، وتعميم الفساد، وتحقيق ما لم يستطع اليهود تحقيقه، مثل مهرجان رام الله الذي أطلق عليه سنة 1998 "ليالي صيف 98"، ولاننسى مهرجان "الغناء الإسرائيلي" الذي أقيم في نابلس، والذي أحيته المغنية اليهودية "زهافابن" باللغتين العربية والعبرية.
أما الأردن فمهرجان جرش خير شاهد، فهو بالرغم مما يعرض فيه من اللهو والعبث والغناء والرقص المبتذل، وبالرغم من الخسائر المادية التي تتحملها الدولة في استضافتها لمئات الفرق من شتى الدول، فإنه ظل ينعقد حتى في أحلك الظروف التي منها حرب الخليج الثانية، حيث تم بالرغم من المعارضة الشديدة من قبل كافة الأوساط السياسية والاجتماعية!
بل إن الأمر تعدى ذلك المهرجان لتُقام على غراره مهرجانات أخرى في الفحيص والبتراء ومأدبا والبحر الميت، ومهرجان شبيب في مدينة الزرقاء.
ولم تكن سوريا بمنأي عن هذه الظاهرة، إذ يقام سنويا في أغسطس على شواطيء مدينة اللاذقية مهرجان "المحبة" الذي تشارك فيه فرق للغناء والرقص من دول عربية وأجنبية مختلفة، وتقدم في المهرجان عروض مختلفة ومتنوعة بعيداً عن الحشمة والحياء.
ومن أغرب التعليقات على هذا المهرجان ما صدر عن الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة سنة 1998م حيث قالت: ".. المحبة في تجذرها الأصيل تهزم البغض، فالحقيقة تهزم الباطل أبداً، لأن الباطل كان زهوقاً، وهذا من التنزيل الإلهي لقوم يعقلون"!
ولست أدري كيف وصلت إلى هذا التأويل، وكيف صارت مهرجانات الابتذال والتقاء الجنسين على الخنا حقاً يهزم الباطل، ولا أعلم المراد بالباطل في اعتقادها!
أما في العراق التي تعيش حالة من الفقر والبؤس لم تصل لمثلها من قبل، فهناك مهرجان بابل الثقافي الذي بدأ عام 1987، وهنيئاً لشعب العراق بملهاته التي ستخفف كثيراً من معاناته في ظل حكامه المغاوير.
وللقاريء أن يتساءل عن حجم الإنفاق على مثل هذا المهرجان، في الوقت الذي يشيع الناس هناك كل يوم عشرات من الأطفال الذين يموتون نتيجة سوء التغذية، وانعدام الحليب، وندرة الأطعمة.
أما مهرجانات لبنان فحدث ولاحرة، حيث المهرجانات الفنية في بعلبك وشواطيء بيروت بمشاركة عشرات الفرق العربية والأجنبية، وما يتخللها من عروض وغناء ورقص.
ومن أشد هذه المهرجانات غرابة مهرجان دير القمر، الذي يعدونه احتفالاً صوفياً نغمياً مشرقياً تحت عنوان "سماع من بشارة مريم" ينطلق من نصوص من القرآن، والإنجيل والأحاديث القدسية، ونصوص صوفية من "آفرام السرياني، ومكسيموس المعترف، وابن عربي، وابن الفارض، والمعلم إيكهارت"، أي من الإسلام والمسيحية في خلطة عقدية وتخبط فكري لم يعرف مثله من قبل، حيث يزعمون أنه "حفل تصوفي يقارب السرّ الذي بُشرت به مريم العذراء، ويتخذ منه نموذجاً للنفس البشرية المتلطفة التي تتوق إلى الاتحاد بنور الله" أي عقيدة الحلول والاتحاد الفاسدة وقد تمت فعاليات المهرجان لأول مرة يوم 13 أغسطس 1999م.
والغريب في بلادنا أن هذه المهرجانات تعد إنجازات حكومية عظيمة لايمكن التراجع عنها مهما ألمَّ بالأمة من مصائب، ومهما لحق بها من هزائم، والهزيمة الحقيقية في اعتقادهم تكمن في إلغائها استجابة للعلماء والدعاة الحريصين علي مصلحة البلاد والعباد.
ولم يقتصر الأمر على عقد مثل هذه المهرجانات في بلادنا فحسب، بل تعداه لإرسال فرق "الفن العربي" لأوربا وأمريكا والكيان الصهيوني، وذلك لتحقيق الانفتاح بشكله المطلوب، ولتنفيذ مخطط عولمة الفن ... حيث تفخر فرقنا الفنية الراقصة بالمشاركة في مهرجانات عالمية، تعلم من خلالها الأوربيين الرقص الشرقي. والمضحك المبكي أن ذلك يتم بحجة إطلاع الأمم والشعوب على مميزات ثقافتنا ومعالم حضارتنا الفنية!.(10/98)
ومن هذه التجمعات مهرجان لشبونة العالمي، ومهرجان شاطيء كوستا دا كابريا العالمي في البرتغال، حيث تقام الحفلات الغنائية والراقصة التي تقدمها فرق من 123 دولة، ويحدث خلال العروض ما تمجه النفوس السليمة، ولا ترضى به العقول السوية.
وهناك عشرات المهرجانات العالمية في الولايات المتحدة، وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا.. وغيرها.
وكل ذلك بحجة إزالة الحواجر وإذابة الفوارق، ولكن الحقيقة تكمن في أنهم يخططون لإزالة العقبات أمامهم للهيمنة على دولنا، وقسرها على التبعية للغرب في كل مفاسده، ليسهل بعد ذلك تحقيق مبدأ النظام العالمي الموحد الذي سيهيمن عليه اليهود.
إضافة إلى ذلك فإن هذه المهرجانات تحدث في الوقت الذي يقيم فيه الكيان الصهيوني وحلفاؤه استعراضات ومناورات عسكرية ضخمة في جبهات شتى، ليختبر قوته وإمكانيات الزحف لديه، ويجرب الأسلحة الحديثة المتطورة استعداداً لمراحل جديدة، وخطوات مقبلة لإحكام السيطرة على المنطقة.
- - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الثالث ... 2
العولمة ... 2(10/99)
(10/100)
العولمة.. مقاومة وتفاعل ... 2(10/101)
(10/102)
الشرعي من العولمة ... 3(10/103)
(10/104)
صفقة موانئ دبي . . عولمة باتجاه واحد ! ... 8(10/105)
(10/106)
دورة الألعاب الأولومبية . . وثنية معاصرة في ثياب ( العولمة ) ... 11(10/107)
(10/108)
عولمة العدالة: الطاقة النووية نموذجاً ... 12(10/109)
(10/110)
ثلاث اوجه للعولمة ... 20(10/111)
(10/112)
حتى الجامعات غمرتها العولمة ! ... 27(10/113)
(10/114)
الثقافة الإسلامية في عصر العولمة (1- 2 ) ... 30(10/115)
(10/116)
الثقافة الإسلامية في عصر العولمة ( 2 - 2 ) ... 33(10/117)
(10/118)
العولمة الاقتصادية ... 43(10/119)
(10/120)
هذه صورة للعولمة ... 45(10/121)
(10/122)
دول أم كتل ؟ ... 51(10/123)
(10/124)
نوادي نخب العولمة ... 54(10/125)
(10/126)
تأثير العولمة على وضعيات المرأة المسلمة ... 59(10/127)
(10/128)
سياسة مواجهة تحديات العولمة ضد المرأة والمجتمع 1 - 2 ... 81(10/129)
(10/130)
سياسة مواجهة تحديات العولمة ضد المرأة والمجتمع 2 - 2 ... 89(10/131)
(10/132)
العولمة 1 - 2 ... 92(10/133)
(10/134)
العولمة 2 - 2 ... 97(10/135)
(10/136)
أربعة آراء في العولمة ... 103(10/137)
(10/138)
(1) دردشة ثقافية .. نهاية العولمة ؟ ... 109(10/139)
(10/140)
دردشة ثقافية .. نهاية العولمة ؟ ( 2 ) ... 110(10/141)
(10/142)
دردشة ثقافية .. نهاية العولمة ؟ ( 4 ) ... 112(10/143)
(10/144)
قيادة العولمة ... 114(10/145)
(10/146)
العولمة من خلال رؤية إسلامية ... 117(10/147)
(10/148)
كي لا نسقط في الهاوية ... 136(10/149)
(10/150)
أبناؤنا في ظل الواقع المفتون ... 152(10/151)
(10/152)
ظاهرة الهجوم على منهج السلف (1-2) ... 159(10/153)
(10/154)
أطفالنا في خطر ... 170(10/155)
(10/156)
أورام البناء الثقافي ... 173(10/157)
(10/158)
قلق من انخفاض عدد اليهود في العالم وخطر الحركات الاسلامية ... 177(10/159)
(10/160)
السعوديات قابضات على الجمر!!! ... 180(10/161)
(10/162)
منظمة التجارة العالمية ... 186(10/163)
(10/164)
غزَّة وابن تيمية والنشيد الوطني الصهيوني ... 220(10/165)
(10/166)
آهات الطبيبات ..بين أروقة المستشفيات ... 227(10/167)
(10/168)
المبادرة ... 237(10/169)
(10/170)
غزوٌ من الخارج أم من الداخل ؟ ... 244(10/171)
(10/172)
المجاعةُ في النيجر..مسؤولية من؟ ... 250(10/173)
(10/174)
الغزو الفكري وآثاره على الأفراد والمجتمعات 1 / 2 ... 256(10/175)
(10/176)
مفهوم السياحة ومخاطرها ... 264(10/177)
(10/178)
القرآن الكريم في غوانتناموا تدنيس أم تكريس ؟ ... 272(10/179)
(10/180)
مبررات منع المرأة من قيادة السيارة ... 278(10/181)
(10/182)
من فقه الائتلاف ... 316(10/183)
(10/184)
أسس الانتصار على الأعداء ... 323(10/185)
(10/186)
صور الأسرى العراقيين ... 327(10/187)
(10/188)
لا عزة لنا إلا بالإسلام ... 330(10/189)
(10/190)
القوامة .. دكتاتورية وتسلط أم تهذيب وتبسط؟ ... 333(10/191)
(10/192)
البديل الإسلامي بين الانضباط والتسيب ... 346(10/193)
(10/194)
كيف نستثمر المعركة؟ ... 361(10/195)
(10/196)
نور الإسلام …الآن أيهم أشد عداوة ... 366(10/197)
(10/198)
الحرب والمصارعة على الطريقة الأمريكية ... 372(10/199)
(10/200)
العولمة الإعلامية ... 374(10/201)
(10/202)
الطروحات النسوية العولمية تجليات للاستعمار الجديد ... 378(10/203)
(10/204)
العولمة ومستقبل العالم الإسلامي ... 387(10/205)
(10/206)
عولمة الوباء والتلوث أيضا ... 398(10/207)
(10/208)
التربية الخلقية بين الإسلام والعولمة ... 402(10/209)
(10/210)
حقيقة الدعوة إلى المجتمع المدني، وما وراءها من أهداف ... 404(10/211)
(10/212)
الصين.. العملاق الاقتصادي القادم ... 412(10/213)
(10/214)
عن العولمة ... 417(10/215)
(10/216)
المستقبل وأمريكا ... 423(10/217)
(10/218)
نهاية العولمة ... 427(10/219)
(10/220)
علي بوخمسين ... 431(10/221)
(10/222)
الإصلاح من الداخل ؟ ! ... 437(10/223)
(10/224)
وثيقة أمريكية ترسم ملامح الشرق الأوسط الجديد ... 441(10/225)
(10/226)
نص مشروع الشرق الأوسط الكبير ... 448(10/227)
(10/228)
قوة أمريكا العسكرية وهبوطها الاقتصادي ومرض الدولار المزمن ... 461(10/229)
(10/230)
الاستحواذ على العقول .. أخطر من احتلال الأرض ... 465(10/231)
(10/232)
تحت تأثير اللوبي اليهودي المحلي: ... 470
(إسرائيل) تغزو كازاخستان اقتصادياً، والتعاون يشمل النواحي العسكرية ... 470(10/233)
(10/234)
الإنترنت والعولمة ( 1 ) ... 477(10/235)
(10/236)
الإنترنت والعولمة ( 2 ) ... 485(10/237)
(10/238)
الإنترنت والعولمة ( 3 ) ... 494(10/239)
(10/240)
رمضان يتحدى العولمة ... 503(10/241)
(10/242)
في محاولة لنقد خطاب العولمة ... 508(10/243)
(10/244)
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العالم ... 513(10/245)
(10/246)
"الحرة".. اكتمالاً للهيمنة!! ... 527(10/247)
(10/248)
العولمة الأمريكية ... 530(10/249)
(10/250)
مشروع " الشرق الأوسط الكبير " بالمطلوب الأمريكي ..؟! ... 534(10/251)
(10/252)
'أوجد له البديل' ... 540(10/253)
(10/254)
تنامي الاحتجاجات ضد العولمة .. ... 545
هل تدفع الأغنياء لمواقف أكثر عدلا ؟؟ ... 545(10/255)
(10/256)
العولمة خيارات مرة للدول الفقر وطوفان قادم لا مفر منه ! ... 547(10/257)
(10/258)
تحدي العولمة كيف يمكن لاقتصاديات العالم الإسلامي أن تواجهه ؟ ... 557(10/259)
(10/260)
في رأس السنة تحسسوا رؤوسكم ... 565(10/261)
(10/262)
إنهم يخافون الإسلام ! ... 567(10/263)
(10/264)
تجارة البشر في عصر العولمة (1/2) ... 568(10/265)
(10/266)
تجارة البشر في عصر العولمة ( 2 / 2 ) ... 574(10/267)
(10/268)
حملة صليبية وليست غزوة حضارية ... 580(10/269)
(10/270)
الثقافة الإسلامية وعولمة الثقافة ... 584(10/271)
(10/272)
العولمة والسنن ... 590(10/273)
(10/274)
من أنماط العولمة الاقتصادية ... 594(10/275)
(10/276)
صونوا السفينة قبل أن تغرق! ( 1 ) ... 598(10/277)
(10/278)
صونوا السفينة قبل أن تغرق (2) ... 603(10/279)
(10/280)
صونوا السفينة قبل أن تغرق(3) ... 608(10/281)
(10/282)
كيف نصون السفينة - واجب العلماء … ... 616(10/283)
(10/284)
كيف نصون السفينة - واجب الحكام … ... 632(10/285)
(10/286)
الإعلام الإسلامي وتحديات العولمة ... 679(10/287)
(10/288)
الخليج ليس نفطاً ... 690(10/289)
(10/290)
الفكر الإسلامي في زمن العولمة ( 1 ) ... 694(10/291)
(10/292)
الفكر الإسلامي في زمن العولمة ( 2 ) ... 699(10/293)
(10/294)
الانترنت تسبب أزمات نفسية للشباب ... 707(10/295)
(10/296)
لماذا يأكلون الطعام الرديء المغشوش؟ ... 709(10/297)
(10/298)
الفقر خيط من عنكبوت العولمة ... 711(10/299)
(10/300)
العولمة في الإعلام ... 714(10/301)
(10/302)
الإسلام الديمقراطي ... 722(10/303)
(10/304)
عالمنا ليس للبيع أو الدمار ... 726(10/305)
(10/306)
العولمة وصراع الحضارات ... 738(10/307)
(10/308)
الطفل ومخاطر العولمة ... 751(10/309)
(10/310)
منظمة التجارة العالمية والعولمة الاقتصادية ... 754(10/311)
(10/312)
لعولمة: ... 781
جدل العدوان والمقاومة الثقافيين ... 781(10/313)
(10/314)
لعولمة الثقافية ... 784(10/315)
(10/316)
العولمة الاقتصادية ومؤتمر الإيواء البشرى ... 790(10/317)
(10/318)
العولمة ... 795(10/319)
(10/320)
العولمة الاجتماعية للمرأة والأسرة ... 797(10/321)
(10/322)
العولمة .. ملاحظات نفسية ... 820(10/323)
(10/324)
هذه غابة العولمة.. وتلك وحوشها! ... 823(10/325)
(10/326)
العولمة وغياب المشروع الحضاري العربي ... 827(10/327)
(10/328)
العولمة الفكرية الإسلامية ... 833(10/329)
(10/330)
العولمة اللغوية ... 843(10/331)
(10/332)
فخ العولمة ... 860(10/333)
(10/334)
العولمة: مرحلة متطورة في الامبريالية* ... 863(10/335)
(10/336)
العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق ... 868(10/337)
(10/338)
"العولمة" نوع من الغزو الجديد ... 878(10/339)
(10/340)
موقف الإسلام من العولمة ... 884(10/341)
(10/342)
العولمة وثقافة الإثم! ... 901(10/343)
(10/344)
خطر العولمة الثقافية ... 902(10/345)
(10/346)
وحدة العمل الإسلامي في مواجهة أعاصير العولمة ... 913(10/347)
(10/348)
عولمة الثراء وفقر العولمة ... 932(10/349)
(10/350)
عولمة الثقافة .. ... 936
الاختراق بعد إسقاط عناصر المقاومة الحضارية ... 936(10/351)
(10/352)
عولمة المراة .. ... 940
قراءة في الايديوليجية النسوية الجديدة ... 940(10/353)
(10/354)
عولمة الجمال في زمن الوجوه الناعمة ... 944(10/355)
(10/356)
العولمة الإعلامية تمثل قيمة اقتصادية متنامية ... 947(10/357)
(10/358)
المرأة وغاية عولمة طموحاتها اللافطرية ... 953(10/359)
(10/360)
ابو يعرب المرزوقي ... 955(10/361)
(10/362)
الإسلام والعولمة.. صراع أم حوار؟! ... 958(10/363)
(10/364)
الإسلام والعولمة.. صراع أم حوار؟! ... 960(10/365)
(10/366)
من كابل إلى لندن بحثا عن الأمان أم الدعوة؟ ... 971(10/367)
(10/368)
الدكتور محمد عمارة في حوار معه: ... 974(10/369)
(10/370)
الإسلام والعولمة.. صراع أم حوار؟! ... 985(10/371)
(10/372)
مستقبل الأحوال العربية فى منظور غربي/سيد يوسف ... 992(10/373)
(10/374)
هل تحل التكنولوجيا محل المعلمين؟! ... 1000(10/375)
(10/376)
رحلة بابا الفاتيكان من عشق المسرح إلى عولمة الكنيسة ... 1028(10/377)
(10/378)
عندما جاءت العولمة : ... 1030(10/379)
(10/380)
التقدم العلمي في ظل العولمة والنموذج الاسلامي لتفاعل الحضارات ... 1034(10/381)
(10/382)
طبيعة الإسلام العالمية ... 1044(10/383)
(10/384)
العولمة: جدل العدوان والمقاومة الثقافيين ... 1051(10/385)
(10/386)
أسئلة عقلية حول هيمنة العولمة! ... 1054(10/387)
(10/388)
العولمة التبادلية خيار الاتفاق بين الأمم ... 1064(10/389)
(10/390)
مفهوم العولمة وماذا تعني؟ ... 1069(10/391)
(10/392)
مناهضة العولمة الإمبريالية: الفرص والإمكانيات ... 1075(10/393)
(10/394)
عولمة الإعلام.. والدور الإسلامي المنتظر ... 1081(10/395)
(10/396)
مفكرون بمنتدى الدوحة يحثون على المعرفة لمواجهة العولمة ... 1084(10/397)
(10/398)
سوريون يشكلون أول حركة عربية مناهضة للعولمة ... 1087(10/399)
(10/400)
النظام العالمي الجديد والعولمة والتكتلات الاقليمية وأثرها ... 1089(10/401)
(10/402)
العولمة والتكتلات الاقتصادية ... 1092(10/403)
(10/404)
العولمة والخصوصية الثقافية ... 1096(10/405)
(10/406)
مناهضو الحرب والعولمة قالوا : ... 1104(10/407)
(10/408)
(مؤتمر) تراثنا في ظل العولمة: الواقع والمستقبل ... 1105(10/409)
(10/410)
الإبداع الثقافي في مواجهة العولمة ... 1109(10/411)
(10/412)
مسؤولية الإعلام الإسلامي في ظل العولمة ... 1112(10/413)
(10/414)
مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية ... 1120(10/415)
(10/416)
اللغة العربية أمام تحديات العولمة ... 1130(10/417)
(10/418)
تحت ضغط العولمة سويسرا تنضم إلى الأمم المتحدة ... 1133(10/419)
(10/420)
عولمة المرأة ... 1136(10/421)
(10/422)
ثقافة العولمة ... 1143(10/423)
(10/424)
منتدى العولمة يبدأ أعماله في نيويورك ... 1145(10/425)
(10/426)
العولمة وصراع الحضارات ... 1146(10/427)
(10/428)
المهمات الجديدة في منظومة العولمة ... 1159(10/429)
(10/430)
متظاهرو العولمة يشيدون بموقف قطر ... 1162(10/431)
(10/432)
العولمة والعولمة المضادة ... 1164(10/433)
(10/434)
تحضيرات مكثفة لمناهضة العولمة في بيروت ... 1167(10/435)
(10/436)
الحفاظ على الهوية العربية يستلزم التصدي للعولمة ... 1169(10/437)
(10/438)
شباب أوروبا ضد العولمة.. والأمركة ... 1172(10/439)
(10/440)
تحديات العولمة ... 1173(10/441)
(10/442)
افتتاح مؤتمر تحديات العولمة للمصارف الإسلامية ... 1176(10/443)
(10/444)
عولمة إسلامية لمواجهة الغرب ... 1179(10/445)
(10/446)
الكنائس الأوروبية تقف ضد عولمة السياسيين والاقتصاديين ... 1181(10/447)
(10/448)
إشكاليات الثقافة العربية في عصر العولمة : آليات وأزمات ... 1182(10/449)
(10/450)
ما هو أثر منتديات الدردشة والمواقع الإباحية ... 1189(10/451)
(10/452)
كيف يمكن مواجهة خطر العولمة الثقافية والفكرية ... 1190(10/453)
(10/454)
العولمة: الأخطار وكيفية المواجهة ... 1192(10/455)
(10/456)
نحو عولمة حركيّة وتنظيميّة للكيانات الإسلاميّة السلميّة ... 1196(10/457)
(10/458)
الحركة النسويّة الغربيّة ومحاولات العولمة (1/2) ... 1199(10/459)
(10/460)
عولمة الوباء والتلوّث أيضاً ... 1213(10/461)
(10/462)
في"العولمة": ملاحظات ضروريّة ... 1217(10/463)
(10/464)
الفكر الإسلامي في زمن العولمة 1/2 ... 1221(10/465)
(10/466)
الثقافة الإسلامية في عصرالعولمة(1-2) ... 1234(10/467)
(10/468)
الإعلام الإسلامي وخطر العولمة ... 1247(10/469)
(10/470)
القشة .. العولمة .. البعير !! ... 1252(10/471)
(10/472)
قضايا المرأة.. من وطنية المنطلقات إلى عولمة الأجندات ... 1255(10/473)
(10/474)
المرأة في الرؤية الإسلامية.. واجبات لا حقوق ... 1264(10/475)
(10/476)
يوم المرأة "العالمية".. أم "الغربية"؟ ... 1276(10/477)
(10/478)
قراءة جديدة في يوم المرأة العالمي ... 1280(10/479)
(10/480)
صورة المرأة.. هل كشفت مأزق الإعلام العربي؟ ... 1286(10/481)
(10/482)
المرأة في مرآة الشعوب ... 1290(10/483)
(10/484)
تغريب.. أم تهويد المرأة المسلمة ... 1293(10/485)
(10/486)
لمرأة الفلسطينية .. من العولمة إلى النموذج الحضاري ... 1295(10/487)
(10/488)
تشكيل الرأي العام حول قضايا المرأة ... 1298(10/489)
(10/490)
المرأة والإعلام في زمن العولمة ... 1302(10/491)
(10/492)
المواقف الرئيسية تجاه قضايا مؤتمر المرأة ... 1305(10/493)
(10/494)
من يحدد أجندة قضايا المرأة ... 1313(10/495)
(10/496)
حقل جديد ...ومنظور متميز ... 1316(10/497)
(10/498)
المرأة في ظل الصحوة الإسلامية فاعلة ونشطة ... 1320(10/499)
(10/500)
ثالوث العولمة القاهر: العسكرة والاقتصاد والثقافة ... 1324(11/1)
(11/2)
العولمة من منظور إسلامي ... 1345(11/3)
(11/4)
العالمية والعولمة: تعريف وتمييز ... 1345(11/5)
(11/6)
جذور العولمة ... 1354(11/7)
(11/8)
تفاصيل فلسفة العولمة ونتائجها ... 1356(11/9)
(11/10)
معارضة العولمة ... 1367(11/11)
(11/12)
الفكر الإسلامي في مواجهة العولمة ... 1380(11/13)
(11/14)
نحو ميثاق إسلامي لمواجهة العولمة ... 1392(11/15)
(11/16)
هل من رد إسلامي معاصر على العولمة؟! ... 1397(11/17)
(11/18)
ملاحظات نقدية استهلالية ... 1398(11/19)
(11/20)
ثلاث مقدمات ومناظرات عديدة ... 1401(11/21)
(11/22)
العالم الثالث فيما بعد الحرب الباردة ... 1404(11/23)
(11/24)
الاستقلال الثقافي في ظل العولمة ... 1412(11/25)
(11/26)
الصهيونية والعولمة ... 1420(11/27)
(11/28)
عولمة الإسلام الأمريكي ... 1422(11/29)
(11/30)
أفكار ختامية ... 1425(11/31)
(11/32)
المجتمع الإسلامي ... 1435(11/33)
(11/34)
"ائتلاف المنظمات الإسلامية" في مواجهة الأمم المتحدة ... 1436(11/35)
(11/36)
تقنين الزنا والإجهاض وتقويض القيم الدينية بدعوى مكافحة التمييز ... 1438(11/37)
(11/38)
كاميرا الموبايل و"يوتيوب" والمدونات ... 1442(11/39)
(11/40)
نبينا الحبيب وهجمة العولمة: لا يكفي الغضب الانفعالي ... 1450(11/41)
(11/42)
السنوات القادمة .. تحمل تغيرات وتقلبات خطيرة ... 1453(11/43)
(11/44)
هل تحقق الأمة وحدة مرجعيتها في الحج؟ ... 1459(11/45)
(11/46)
الحملة ضد التيار الإسلامي تزامنت مع إقرار البرلمان إياه ... 1463(11/47)
(11/48)
العولمة".. تجويع للشعوب وإفقار للدول ... 1466(11/49)
(11/50)
الأمم المتحدة تتبنى ترويج الإباحية وتدمير الأسرة في مؤتمر: ... 1470(11/51)
(11/52)
د. رضا الخليفي في حوار صريح عن: ظاهرة أسلمة البنوك الربوية ... 1474(11/53)
(11/54)
هل العلمانية تتناقض مع الإسلام؟ ... 1484(11/55)
(11/56)
العلمانية والدولة اليهودية ... عناق وإتفاق ... 1489(11/57)
(11/58)
القاهرة تحاور أريك كاوفمان: ... 1492(11/59)
(11/60)
العلمانية ... 1498(11/61)
(11/62)
العلمانية وسيلة الغرب لتمكين الطائفية في العالم العربي ... 1505(11/63)
(11/64)
البناء العلماني وبداية السقوط ... 1509(11/65)
(11/66)
نقد التأسيس الأصولي للعلمانية (1-3) ... 1510(11/67)
(11/68)
نقد التأسيس الأصولي للعلمانية (2-3) ... 1515(11/69)
(11/70)
في مؤتمر "إعلام الشرق الأوسط وتحديات العمل الإنساني": ... 1522(11/71)
(11/72)
50 ألف مغربي تظاهروا ضد سياسات واشنطن ... 1527(11/73)
(11/74)
قطار عولمة المرأة وصل لجزائر ... 1528(11/75)
(11/76)
المغتصِبون المُقْتَلَعُونَ من غزة.. الجد والحفيد ... 1534(11/77)
(11/78)
الصحافة المأجورة والكتاب العملاء ... 1537(11/79)
(11/80)
منتدى بيروت يقيِّم مدى التزام العرب بعولمة المرأة ... 1539(11/81)
(11/82)
نحو مشروع للنهضة في الوطن العربي ... 1544(11/83)
(11/84)
استراتيجية التعامل مع ... 1549(11/85)
(11/86)
ديون الدول الفقيرة "سلة" السموم القاتلة ... 1557(11/87)
(11/88)
العولمة.. تبشير بالرأسمالية الأمريكية ... 1562(11/89)
(11/90)
بين الصدام والحوار ... 1565(11/91)
(11/92)
تقسيم العالم العربي بين مشروعي الشرق أوسطية الأمريكية والبحر متوسطية الأوروبي ... 1574(11/93)
(11/94)
في دراسة علمية البروفيسور عبد القدير خان يرسم ... 1579(11/95)
(11/96)
والصراع الاستراتيجي في آسيا الوسطى والقوقاز ... 1594(11/97)
(11/98)
خطر صرف المرأة عن دورها داخل بيتها ... 1613(11/99)
(11/100)
المرأة في فكر مالك بن نبي ... 1614(11/101)
(11/102)
سينما هوليوود في خدمة "البيت الأبيض" ... 1621(11/103)
(11/104)
العولمة والهوية الثقافية ... 1625(11/105)
(11/106)
حروب أهلية.. مذابح عرقية.. انقلابات عسكرية ... 1631(11/107)
(11/108)
الأسلمة في مواجهة العولمة ... 1638(11/109)
(11/110)
الاقتصاد الماليزي.. بعيداً عن إيقاع العولمة ... 1640(11/111)
(11/112)
الخطر الزاحف.. العولمة والتطبيع ... 1644(11/113)
(11/114)
عولمة الاستثمار التجاري في مصر ... 1647(11/115)
(11/116)
عولمة الفقر ... 1655(11/117)
(11/118)
الصحوة المعرفية والحاجة للتخلص من الاستبداد والتبعية للغرب ... 1661(11/119)
(11/120)
ربانية الأمة.. سر قوتها وخلودها ... 1664(11/121)
(11/122)
عولمة مقاييس الجمال من خلال بث مشاهد ... 1672(11/123)
(11/124)
مشاريع الدعوة صناعة داخلية ... 1676(11/125)
(11/126)
في التعامل مع التيار الأمازيغي والإسلاميين يجتهد المغرب في مخالفة موقف الجزائر تجاه القضيتين ... 1687(11/127)
(11/128)
ظلال الديجولية تخيّم على مواقف السياسيين الفرنسيين ... 1697(11/129)
(11/130)
نحو مشروع للنهضة في الوطن العربي(2) ... 1700(11/131)
(11/132)
عولمة المهرجانات الفنية ... 1707(11/133)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (4) العلمانية
الباب الرابع
العلمانية
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الرابع
العلمانية(12/1)
(12/2)
العلمانية
" العلمانية" هي الترجمة العربية لكلمة Secula r ism, Secula r ite في اللغات الأوربية وهي ترجمة مضللة لأنها توحي بأن لها صلة بالعلم ، بينما هي في لغاتها الأصلية لا صلة لها بالعلم ، بل المقصود بها في تلك اللغات هو إقامة الحياة بعيدا عن الدين ، أو الفصل الكامل بين الدين والحياة .
تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة Secula r ism هي حركة اجتماعية تهدف إلي صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلي الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها ، ذلك أنه كان لدي الناس في العصور الوسطي رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر ، ومن أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ"Secula r ism " تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الانسانية ، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالانجازات الثقافية البشرية ، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة . وظل الاتجاه إلي الـ Secula r ism يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية (1)
وهكذا يتضح أنه لا علاقة للكلمة بالعلم ، إنما علاقتها قائمة بالدين ولكن علي أساس سلبي ، أي علي أساس نفي الدين والقيم الدينية عن الحياة ، وأولي الترجمات بها في العربية أن نسميها " اللادينية" بصرف النظر عن دعوي " العلمانيين" في الغرب بأن " العلمانية " لا تعادي الدين ، إنما تبعده فقط عن مجالات الحياة الواقعية, السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية .. إلخ ولكنها تترك للناس حرية " التدين" بالمعني الفردي الاعتقادي ، علي أن يظل هذا التدين مزاجا شخصي لا دخل له بأمور الحياة العملية
بصرف النظر عن هذا الاعتراض الذي سنناقش مدي حقيقته بالنسبة للحياة الاوربية ذاتها ، كما سنناقشه بالنسبة لنتبين مدي تطابقه أو عدم تطابقه مع المفاهيم الإسلامية ، فإن " اللادينية" هي أقرب ترجمة تؤدي المقصود من الكلمة عند أصحابها ، ولكنا مع ذلك سنظل نستخدم المصطلح المعروف عند الناس - مع بيان بعده عن الدقة - حتي يتفق الكتاب علي نبذ هذا المصطلح المضلل ، واستخدام الفظة الأدق
- - - - - - - - - - - - - -
نبذ الدين واقصاؤه عن الحياة العملية هو لب العلمانية
وتبدو نشاة العلمانية في أوروبا أمرا منطقيا مع سير الأحداث هناك ، إذا رجعنا إلي الظروف التي شر حناها من قبل في التمهيد الأول من هذا الكتاب ، أي إلي عبث الكنيسة بدين الله المنزل ، وتحريفه وتشويهه ، وتقديمه للناس في صورة منفرة ، دون أن يكون عند الناس مرجع يرجعون إليه لتصحيح هذا العبث وإرجاعه إلي أصوله الصحيحة المنزلة ، كما هو الحال مع القرآن ، المحفوظ - بقدر الله ومشيئته - من كل عبث أو تحريف خلال القرون
فمن المعلوم أن الإنجيل المنزل من عند الله لم يدون علي عهد المسيح عليه السلام إنما تلقاه عنه حواريوه بالسماع، ثم تشتتوا تحت تأثير الاضطهاد الذي وقع علي اصحاب الرسالة الجديدة سواء من اليهود أو من الرومان ، فلما بدأ تدوينه بعد فترة طويلة من نزوله كان قد اختلط في ذاكرة أصحابه ن كما اختلطت النصوص فيه بالشروح ، ثم غلبت الشروح علي النصوص .. ووقع الاختلاف والتحريف والتصحيف الذي يشير إليه كتاب التاريخ الأوربي ومؤرخو الكنيسة علي السواء ، واستبد رجال الدين بشرح ما سمي الاناجيل بالاحتفاظ بعلم" الأسرار " التي نشات من التحريف والتصحيف والتي لا أصل لها في دين الله المنزل ، ثم زاد استبدادهم - كما أسلفنا في ذلك التمهيد - فصار طغيانا شاملا يشمل كل مجالات الفكر والحياة : طغيانا روحيا وفكريا وعلميا وسياسيا وماليا واجتماعيا ..وفي كل اتجاه
فحين يحدث نفور من الدين في مثل هذا الجو فهذا أمر منطقي مع سير الأحداث ، وإن لم يكن منطقيا مع " الإنسان " في وضعه السوي ، فإذا كان الانسان عابدا بفطرته ، وكان الدين جزءا من الفطرة أو هو طبيعة الفطرة فإن الانسان الراشد في مثل الوضع الذي وجدت فيه أوربا كان ينبغي عيه أن ينبذ ذلك الدين الذي تحوطه كل تلك التحريفات في نصوصه وشرحه وكل تلك الانحرافات فى سلوك رجاله ، ثم يبحث عن الدين الصحيح فيعتنقه ، وقد فعلت أوربا الأمر الأول فنبذت دين الكنسية بالفعل ، ولكنها لم تفعل الأمر الثانى حتى هذه اللحظة إلا أفرادا متناثرين لم يصبحوا بعد " ظاهرة " ملموسة . ومن هنا نقول إن الظروف التى أحاطت بالدين فى أوروبا تفسر ولا تبرر . . تفسر شرود الناس فى أوروبا عن الدين ولكنها لا تبرره .. فإنهن لا شئ على الإطلاق يبرر بعد الإنسان عن خالقه ، ونبذه لعبادته على النحو الذى افترضه على عباده ، سواء بالاعتقاد بوحدانيته سبحانه ، أو بتوجيه الشعائر التعبدية إليه وحده ، أو بتنفيذ شريعته ، فهذا التصرف المنحرف من الإنسان الذى نبذ الذين وابتعد عن الله ، هو الذى قال الله فيه : {بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [سورة القيامة 75/14-15] أى أنه لا يقبل منه عذر فيه !
__________
(1) Encyc . B r itanica V.Ixp.19(12/3)
على أن الذى يعنينا الآن ليس هو محاسبة أوروبا على انحرافاتها فى مجال الدين والعقيدة ، فالخلق صائرون إلى ربهم وهو الذى يحاسبهم :
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [سورة الغاشية 88/21-26]
ولكن الذى يعنينا هو شرح هذه الانحرافات وبيان الصورة التى حدثت عليها ، والظروف التى أحاطت بها منذ مبدئها حتى صارت إلى ما صارت إليه .
ونخطئ - من وجهة نظرنا الإسلامية - إن قلنا إن " العلمانية " حدثت فقط بعد النهضة . فالحقيقة - من وجهة النظر الإسلامية - أن الفصل بين الدين والحياة وقع مبكرا جدا فى الحياة الأوروبية ، أو أنه - إن شئت الدقة - قد وقع منذ بدء اعتناق أوروبا للمسيحية ، لأن أوروبا - كما أسلفنا فى التمهيد - قد تلقت المسيحية عقيدة منفصلة عن الشريعة ( بصرف النظر عما حدث فى العقيدة ذاتها من تحريف على أيدى الكنيسة ) ولم تحكم الشريعة شيئا من حياة الناس فى أوربا إلا ط ألحوال الشخصية " فحسب ، أى أنها لم تحكم الأحوال السياسية ولا الأحوال الاقتصادية ولا الأحوال الاجتماعية فى جملتها . وهذا الوضع هو علمانية كالة من وجهة النظر الإسلامية (1)ولكن الذى تقصده أوروبا بالعمانية " Secula r ism" ليس هذا ، لأنها لم تألف الصورة الحقيقية للدين أبداء فى يوم من الأيام ! إنما الذى تقصده أوروبا حين تطلق هذه الكلمة هو إبعاد ما فهمته هى من معنى الدين عن واقع الحياة ، متمثلا فى " بعض " المفاهيم الدينية ، وفى تدخل " رجال الدين " باسم الدين فى السياسية والاقتصاد والاجتماع والفكر والعلم والأدب والفن .. وكل مجالات الحياة ، ثم إقامة هذا كله بعيدا عن نفوذ الكنيسة من جنة ، وبعيدا عن مفاهيم الدين كلها من جهة أخرى ، بصرف النظر عن وجود الكنيسة أو عدم وجودها .
بعبارة أخرى نقول إن ما نبذته أوروبا حين أقامت علمانيتها لم يكن هو حقيقية الدين - فهذه كانت منبوذة من أول لحظة ! - إنما كان بقايا الدين المتناثرة فى بعض مجالات الحياة الأوروبية أو فى أفكار الناس ووجداناتهم فجاءت العلمانية فأقصت هذه البقايا إقصاء كاملا من الحياة ، ولم تترك منها إلا حرية من أراد أن يعتقد بوجود إله يؤدى له شعائر التعبد فى أن يصنع ذلك على مسئوليته الخاصة ، وفى مقابلها حرية من أراد الإلحاد والدعوة إليه أن يصنع ذلك بسند الدولة وضماناتها !
- - - - - - - - - - - - - -
كيف نشأت هذه العلمانية فى أوروبا ؟
أى كيف أقصيت بقايا الدين من الحياة الأوروبية وصارت الحياة " لا دينية " تماما فى كل مجالاتها العملية؟
نحتاج أن نتذكر أولا أنه فى الوقت الذى لم يكن للدين الحقيقى وجود فى أوروبا - سواء فى صورة عقيدة صحيحة أو صورة شريعة حاكمة - كان هناك نفوذ ضخم جدا يمارس باسم الدين فى مجال العقيدة وفى مجالات الحياة العملية كلها من قبل رجال الدين ، ويتمثل فى حس الناس هناك على أنه هو " الدين " !
أى أن الصورة الواقعية للدين فى أوروبا كانت تتمثل أولا فى عقيدة مأخوذة من " الأناجيل " وشروحها تقول إن الله ثالث ثلاث وإن الله هو المسيح ابن مريم ،وتتمثل ثانيا فى صلوات وقداسات ومواعظ واحتفالات تقام فى الكنائس يوم الأحد بصفة خاصة ، وتتمثل أخيرا - وليس آخرا - فى نفوذ لرجال الدين على الملوك وعلى عامة الناص ، فأما نفوذهم على الملوك فيتضمن أنهم لا يجلسون على عروشهم إلا بإذن البابا ومباركته ، ولا يتولون سلطانهم على شعوبهم إلا بتولية البابا لهم ، وإذا غضب عليهم البابا - غضبا شخصيا لا علاقة له البتة بتحكيم شريعة الله - نبذتهم شعوبهم ولم تذعن لأوامرهم ، وأما نفوذهم على عامة الناس فيتضمن أنهم لا يصبحون مسيحيين إلا بتعميد الكاهن لهم ، وليس لهم صلاة إلا بحضور الكاهن أمامهم فى مكان محدد هو الكنيسة ، ولا يموتون موتا صحيحا إلا بإقامة قداس الجنازة لهم على يد الكاهن ، ولا يعتقدون إلا ما يلقنهم إياه رجال الدين من شئون العقيدة ، ولا يفكرون إلا فيما يسمح لهم رجال الدين بالتفكير فيه ، وعلى النحو الذى يسمحون لهم به ، ولا يتعلمون إلا ما يسمح لهم رجال الدين تعلمه ، ولرجال الدين فوق ذلك نفوذ على أموالهم وعلى أجسادهم وعلى أرواحهم أشرنا إلى جوانب منه من قبل.
هذا الدين - بهذه الصورة - مخالف للدين المنزل من عند الله فى أكثريته .. ولكنه ليس خلوا بالمرة من حقئاق الدين ، وهذه شهادة الله فيهم :
{وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [سورة المائدة 5/14]
__________
(1) سنتحدث فى هذه النقطة تفصيلا فى نهاية الفصل .(12/4)
ففيه من حقائق الدين ان الله هو الذى خلق الكون كله ، وهو الذى خلق الإنسان على هذه الصورة الإنسانية وجعله عاقلا مفكرا مريدا ، وكلفه الأمانة ، وكلفه عمارة الأرض والهيمنة عليها ، وعرفه أن هناك بعثا ونشورا وحسابا وثوابا وعقابا يوم القيامة ، وأن هناك جنة ونار أبديتين يصير الناس إليهما كل بحسب عمله ، وفيه من حقائق الدين كذلك أن الله حرم القتل والسرة والزنا والربا والكذب والغش والخيانة .. وأوجب على الناس فى حياتهم أخلاقيات معينة يتقيدون بها فى تعاملهم بعضهم مع بعض ، وأن الله شرع الزواج وحرم علاقات الجنس خارجه ، وشرع الأسرة وأوجب صيانتها وجعل للرجل القوامة عليها .. إلى آخر ما يجرى هذا المجرى من حقائق الدين .
ولكن الدين المنزل من عند الله ليس فيه أن الله هو المسيح ابن مريم وأن الله ثالث ثلاثة ، وليس فيه أن يشرع رجال الدين ( الأحبار والرهبان ) من عند أنفسهم فيحلوا ويحرموا بغير ما أنزل الله ( كما أحلوا الخمر والخنزير وأبطلوا الختان ) وليس فيه أن يطلب رجال الدين لأنفسهم سلطانا يرهبون به الناس ويفرضون عليهم ما أحلوا هم وما حرموا من دون الله ، كما يفرضون عليهم الخضوع الكامل لأهوائهم فى الوقت الذى لا يستخدمون فيه سلطانهم الرهيب فى فرض شريعة الله على الأباطرة والملوك ليحكموا بها بدلا من القانون الرومانى ، ويكتفون بجعل هذه الشريعة مجرد مواعظ خلقية وروحية من شاء أن يتقيد بها تقيد ومن شاء أن يتفلت منها فلا سلطان لأحد عليه فى الأرض ، بينما القانون الرومانى يعاقب المخالفون له بالقتل أو الحبس أو ما سوى ذلك م العقوبات !
وليس فى الدين المنزل أن الأرض منبسطة وليست كروية ، وأن من قال بكرويتها يحرق حيا فى النار !
وليس فيه أن يفرض رجال الدين لأنفسهم - لا للفقراء والمساكين - عشور أموال الناس ، ولا السخرة المجانية فى أرض الكنيسة .
وليس فيه كل ما فعله رجال الدين من فضائح ومخاز ودناءات .. كصكوك الغفران والفساد الخلقى بكل أنواعه ومناصرة الكنيسة للمظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواقعة على الشعوب !
ولكن أوروبا حين أنشأت علمانيتها نبذت الدين كله ، لم تفرق بين أباطيل الكنيسة وبين حقائق الدين!
وصحيح أن الدين الكنسى - بحقائقه وأباطيله - لم يكن صالحا للحياة ، ولم يكن مقبولا عند الله :
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة المائدة 5/68]
ولكن أوروبا - كما أشرنا من قبل - حين نبذت دين الكنيسة الفاسد لم تبحث عن الدين الصحيح ، الذى يصدق الحقائق ويبطل الأباطيل .
- - - - - - - - - - - -
كان الدين الكنسى ذا سطوة عنيفة على كل مرافق الحياة فى أوروبا فى قرونها الوسطى المظلمة . وكان ذلك أمرا سيئا شديد السوء ، لا بسبب سيطرة " الدين " على الحياة كما خيل لأوروبا بغباء فى جاهليتها المعاصرة ، ولكن بسب سيطرة الفساد الكامن فى ذلك الدين الكنسى على كل مرافق الحياة !
ولكن نستيقن من الحقيقة فى هذا الأمر ما علينا إلا أن نراجع فترة مقابلة " وموازية " من التاريخ ، كان فيها الدين الصحيح ذا سيطرة عظيمة على كل مرافق الحياة .. تلك هى الفترة الأولى من حياة المسلمين التى امتدت حوالى سبعة قرون من الزمان . . فكيف كانت ؟! كان الهدى . وكان النور . وكان العلم ، وكانت الحضارة التى عرفت أوروبا طرفا منها فى الأندلس والشمال الأفريقي . وكان كل جميل من الأفكار والمشاعر وأنماط السلوك برغم كل الانحراف الذى طرأ على حياة المسلمين فى تلك القرون ، سواء من جانب الحكام أو من جانب المحكومين !
فلم يكن " الدين " فى ذاته إذن هو مصدر السوء فى الحياة الأوروبية فى تلك الفترة ( ولنذكر أن أسبانيا - وهى جزء من أوروبا - كانت مزدهرة فى نفس الوقت بتأثير الدين الصحيح ، كما كانت صقلية وغيرها من الأصقاع الأوروبية التى دخل فيها الإسلام ) إنما كان " فساد الدين " هو السبب فى ذلك الظلام الذى اكتنف أوروبا فى قرونها الوسطى المظلمة الحالكة السواد .
وأوروبا لا تحب أن تصدق هذه الحقيقة فى جاهليتها المعاصرة - مع أنها حقيقة موضوعية بحتة يشهد بصحتها كل ما كتبه مؤرخوهم المنصفون عن الحضارة الإسلامية - لأن مجرد تصديقها معناه أنهم كانوا مخطئين فى نبذه " الدين " كله بحجة فساد الدين الذى قدمته الكنيسة لهم ، وأنهم مازالوا مخطئين إلى هذه اللحظة للسبب ذاته .. وهم لا يريدون أن يرجعوا إلى الدين بأى وسيلة من وسائل الرجوع !
مرة أخرى لا تريد أن نحاسب أوروبا على انحرافاتها فى مجال الدين والعقيدة ، إنما نشرح فقط خطوات ذلك الانحراف .(12/5)
كانت سيطرة الدين الكنسى على الحياة الأوروبية فى قرونها المظلمة أمرا سيئا كما قلنا - برغم سيطرة بعض الفضائل الدينية على الحياة وخاصة فى الريف الأوربى - لأن ذلك الدين بما حواه من انحرافات جذرية فى العقيدة من ناحية ، وفى فصل العقيدة عن الشريعة من ناحية أخرى ، وفى فساد ممثليه من رجال الدين وجهالتهم من ناحية ثالثة - كان مفسدا للحياة ومعطلا لدفعتها الحية ، كما كان مفسدا للعقول ومعطلا لها عن التفكير السليم .
لذلك كان نبذ ذلك الدين والانسلاخ منه أمرا ضروريا لأوروبا إذا أرادت أن تتقدم وتتحضر وتعيش ..
ولكن البديل الذى اتخذته أوروبا بدلا من دينها لم يكن أقل سوءا إن لم يكن أشد ، وإن كان قد أتاح لها كل العلم والتمكن المادى الذى يطمح إليه البشر على الأرض ، تحقيقا لسنة من سنن الله التى تجهلها أوروبا وتجهل حكمتها ، لأنها لا تؤمن بالله وما نزل من الوحى :
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
نعم ! لم تكن العبودية للأحبار والرهبان من البابوات ورجال الدين أمرا صالحا للحياة ولو كانوا هم أنفسهم من الصالحين ، لأن العبودية لاتصح إلا لله وحده ، ولا تصلح الحياة إلا إذا كانت لله وحده .. فكيف وهؤلاء الأحبار والرهبان على ما كانوا عليه من الفساد والجهالة والبعد عن حقيقة الدين ؟!
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [سورة التوبة 9/31]
ولم يكن الدين الذى يحوى كل ذلك القدر من الأساطير ، ويحارب العلم ويحجر على الفكر ، ويفصل بين الدنيا والآخرة فيهمل الدنيا وينبذها من أجل الخلاص فى الآخرة ، ويحتقر الجسد ويعذبه من أجل خلاص الروح ، ويبيح فى الوقت نفسه للإقطاعيين أن يمتصوا دماء الفلاحين ويكتنزوا بها ويترفوا ويفسدوا ، ويخذل الفلاحين عن الثورة على هذا الظلم بحجة الحصول على رضوان الله وجنته فى الآخرة إن رضوا بالمذلة والظلم فى الحياة الدنيا .. لم يكن ذلك الدين ليسمح للحياة بالتقدم ، وهو يلفها بأغلفة سميكة من الظلام .
ويقول التاريخ - الذى تكره أوروبا الاعتراف به إلا القلة المنصفة - إن أوروبا بدأت تخرج من ظلمات قرونها الوسطى المظلمة حين احتكت بالمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها ، سواء فى الحروب الصليبية أو البعوث التى بعثتها للتعلم فى مدارس المسلمين فى الأندلس بصفة خاصة ، وفى صقلية وغيرها من البلاد التى نورها الإسلام .
بل تقول الروايات التاريخية إن رجال الدين المسيحى أنفسهم كانوا يتعاطون الثقافة الإسلامية فى تلك المدارس ، أو فيما ينقل منها إلى اللغات الأوروبية ، وإنهم كانوا يترقون فى مناصب الأكليروس بقدر ما يحصلون عليه من تلك الثقافة ! "
ويقول روجر بيكون ( فى القرن الثالث عشر الميلادى ) : " من أراد أن يتعلم فليتعلم العربية لأنها هى لغة العلم " .
لقد وجدت أوروبا حين احتكت بالمسلمين عالما عجيبا بالنسبة إليها ، ليس فيه بابورات ولا رجال دين ! وليست فيه أسرار عقيدية يختص بعلهما فريق من الناس دون فريق .. وليس فيه " نبلاء ! " يستعبدون الناس فى إقطاعياتهم .. وليس فيه حجر على العقول أن تفكر ، ولا حجر على العلم أن يبحث ويجرب وينشر أبحاثه على الناس .
يقول " راندال " فى كتابه " تكوين العقل الحديث " (ترجمة جورج طعمة ج 1 ص 314 من الترجمة العربية) :
وبنوا (يقصد المسلمين ، وإن كان يستخدم لفظة " العرب " تحاشيا لذكر المسلمين !) فى القرن العاشر فى أسبانيا حضارة لم يكن العلم فيها مجرد براعة فحسب ، بل كان علما طبق على الفنون والصناعات الضرورية للحياة العملية ، وعلى الإجمال كان العرب يمثلون فى القرون الوسطى التفكير العلمى والحياة الصناعية العلمية اللذين تمثلهما فى أذهاننا اليوم ألمانيا الحديثة " .
ويقول ليوبولد فايس (محمد أسد) فى كتابه " الإسلام على مفترق الطرق " (ترجمة عمر فروخ ص 39 - 40 من الترجمة العربي) :
" إن العصور الوسطى قد أتلفت القوى المنتجة فى أوروبة .. كانت العلوم فى ركود ، وكانت الخرافة سائدة ، والحياة الاجتماعية فطرية خشنة إلى حد من الصعب علينا أن نتخيله اليوم ، فى ذلك الحين أخذ النفوذ الإسلامى فى العالم - فى بادئ الأمر بمغادرة الصليبيين إلى الشرق ، وبالجامعات الإسلامية الزاهرة فى أسبانيا المسلمة فى الغرب ، ثم بالصلات التجارية المتزايدة التى أنشأتها جمهوريتنا جنوة والبندقية - أخذ هذا النفوذ يقرع الأبواب الموصدة دون المدنية العربية .(12/6)
" وأمام تلك الأبصار المشدوهة ، أبصار العلماء والمفكرين الأوروبيين ، ظهرت مدنية جديدة ، مدنية مهذبة راقية خفاقة بالحياة ، ذات كنوز ثقافية كانت قد ضاعت ثم أصبحت فى أووربة من قبل نسيا منسيا . ولكن الذى صنعه العرب كان أكثر من بعث لعلوم اليونان القديمة .. لقد خلقوا لأنفسهم عالما علميا جديدا تمام الجدة .. لقد وجدوا طرائق جديدة للبحث وعملوا على تحسينها ، ثم حملوا هذا كله بوسائط مختلفة إلى الغرب . ولسنا نبالغ إذا قلنا إن العصر العلمى الحديث الذى نعيش فيه لم يدشن فى مدن أوروبا النصرانية ، ولكن فى المراكز الإسلامية : فى دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة " .
وتعلمت أوروبا كل العلم الذى وجدته عند المسلمين ، كما أخذت كثيرا من الأصول الحضارية التى وجدتها عندهم " (1)" ولكنها لأمر رفضت أن تأخذ الإسلام ، رغم السماحة الهائلة التى لمسها المسيحيون من المسلمين فى الأندلس ! وارتدت من جاهلية الدين الكنسى المحرف إلى جاهلية ما قبل ذلك الدين ، الجاهلية الإغريقية الرومانية G r eco صلى الله عليه وسلمoman لتنشئ على أساسها جاهلية جديدة متقدمة كل التقدم فى العلم والتكنولوجيا (على أساس العلم الذى أخذته من المسلمين ، والمنهج التجريبى فى البحث العلمى الذى استمدته منهم) ومنتكسة أشد الانتكاس فيما عدا ذلك من جوانب الحياة ..
من الإغريق أخذت عبادة العقل وعبادة الجسد فى صورة جمال حسى .
ومن الرومان أخذت عبادة الجسد فى صورة متاع حسى ، وتزيين الحياة الدنيا بكل وسائل العمارة المادية إلى أن يستغرق الإنسان فى المتاع وينسى " القيم " التى تكون الإنسان . كما أخذت شهوة التوسع الحربى واستعباد الأمم الضعيفة لحساب الدولة " الأم " فى صورة إمبراطوريات .
والمهم - بالنسبة لبحثنا الحاضر - أنها بدأت تنبذ الدين !
- - - - - - - - - - - - - -
قامت النهضة على أسس معادية للدين من أول لحظة .
قامت على أصول " بشرية " بدلا من الأصول الدينية أو الإلهية كما كانت تصورها لهم الكنيسة .
كان الدين الذى قدمته لهم الكنيسة على أنه الدين الإلهى دينا أخرويا لا يقيم وزنا للحياة الدنيا ، بل يحتقرها ويزدريها ويدعو إلى إهمالها وعدم الالتفات إليها فى سبيل الحصول على " الخلاص " ، خلاص الروح ، الذى لا يمكن الوصول إليه إلا بالتجرد من متاع الأرض ، والاستعلاء على مطالب الجسد ، والتطلع إلى ملكوت الرب الذى يتحقق فى الآخرة ولا سبيل إلى تحقيقه فى الحياة الدنيا . ومن ثم فإن " حركة التاريخ " ومحاولة تصحيحها بتصحيح حركة المجتمع كما يقول ولفرد كانتول سميث Wilf r ed Cantwell Simth فى كتاب " الإسلام فى التاريخ الحديث Islam in Mode r n Histo r y " لم تكن فى حساب الكنيسة المسيحية لا أيام ضعفها فى القرون الأولى ولا حين أصبح لها السلطان " (2)" إنما يسعى كل إنسان إلى خلاصه الشخصى ، كالذى يسير على معبر دقيق كل عمه ألا يفقد توازنه فيقع فى الهاوية ، أو كالذى يسير فى الوحل كل همه أن يشمر ثيابه ويلتفت إلاى مواقع قدميه حتى لا ينزلق أو يتلطخ بالوحل ، لا يهمه أن يصحح مواضع أقدم الآخرين أو يقيهم من الانزلاق .
ومن هنا فإن هذا الدين فى صورته الكنسية تلك لم يكن يسعى إلى تحسين أحوال البشر على الأرض ، أو إزالة المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى تقع عليهم ، وإنما يدعو إلى الزهد فى الحياة الدنيا برمتها ، وترك كل شئ على ما هو عليه ، لأن فترة الحياة الدنيا أقصر وأضأل وزنا من أن يحاول الإنسان تعديل أوضاعه فيها . إنما يسعى جاهدا إلى الخلاص منها دون أن يعلق بروحه شئ من الآثام . والمتاع ذاته هو من الآثام التى يحاول المتطهرون النجاة منها بالرهبنة واعتزال الحياة .
بل أكثر من ذلك : إن احتمال المشقة فى الحياة الدنيا ، واحتمال ما يقع فيها من المظالم هو لون من التقرب إلى الله يساعد على الخلاص . ومن ثم دعت الكنيسة الفلاحين للرضا بالمظالم التى كانت تقع فى ظل الإقطاع وعدم الثورة عليها لينالوا رضوان الله فى الآخرة ، وقالت لهم : " من خدم سيدين فى الحياة الدنيا خير ممن خدم سيدا واحدا " !
ومن جهة أخرى كان هذا الدين يحصر كيان الإنسان فى نطاق محدود محصور أشد الحصر ، ليبرز جانب الألوهية فى أكمل صورة .
ألوهية الله فى ذلك الدين معناها السلبية الكاملة للإنسان ، وحصر دوره - لا فى العبادة بمعناها الواسع ، أى على النحو الذى قرره الإسلام ، والذى يشمل عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى - إنما فى الخضوع لقدر الله القائم ، وعدم العمل على تغيير شئ من الواقع المحيط بالإنسان ، لأن محاولة التغيير - ولو إلى الأحسن - تحمل فى طياتها " عدم الرضا " بالأمر الواقع ، وهو لون من التمرد على إرادة الله لا يقره ذلك الدين .
__________
(1) " " انظر كتاب " شمس الله تشرق فوق الغرب " وانظر فصلا بعنوان " المسلمون فى أسبانيا " فنونهم وصناعاتهم وما كان لهم من فضل فى ثقافة أوروبا فى العصر الحديث " بقلم ج . ب . ترند G. B. T r end ص 729 - 760 من الترجمة العربية لكتاب " تاريخ العالم " نشر وزارة التربية والتعليم المصرية .(12/7)
(2) " " ص 30 - الطبعة الأولى ، سنة 1957 .
ومن ثم فإن فاعلية الإنسان محصورة فى الطاعة للأوامر الإلهية - كما تعرضها الكنيسة بالحق أو الباطل - لا تتعداها إلى الإنشاء لأنه ، ليس للإنسان أن ينشئ شيئا من عند نفسه ، ولو كان يلتزم فى هذا الإنشاء بالهدى الربانى . ومن ثم كذلك كان ثبات الأوضاع فى أوروبا فى العصور الوسطى لفترة طويلة من الزمان بكل ما تحمل من ألوان الفساد السياسى والاقتصادى والاجتماعى والفكرى والروحى .. على أساس أنها قدر الله الذى لا يجوز للناس تغييره ، إنما ينبغى الخضوع له والمحافظة عليه تقربا إلى الله !
- - - - - - - - - - - -
هذا الدين بصورته تلك لم يكن هو الدين المنزل من عند الله ، ولم يكن - كما أسلفنا - صالحا للحياة . كان لابد من نبذه والانسلاخ منه لكى تسير دفعة الحياة فى خطها الصحيح .
ولقد كان عرى مقربة من أوروبا - بل فى جزء من أرضها - دين آخر يقدم المنهج الصحيح للحياة ، فلا هو دين أخروى بحت بمعنى إهمال الحياة الدنيا ، ولا هو الدين الذى يفرض السلبية الكاملة على الإنسان ، ويفرض عليه الخضوع " للأمر الواقع " وعدم التفكير فى تغييره .
إنه دين يعمل للآخرة من خلال العمل فى الدنيا " الدنيا مزرعة الآخرة " .
ويبين أن العمل للآخرة لا يعنى إهمال الحياة الدنيا {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [سورة القصص 28/77] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الأعراف 7/32]
وهو دين يعمل لإصلاح الحياة الدنيا بإقامة المنهج الربانى الذى يأمر بالعدل والقسط ، كما يدعو إلى الجهاد لإقامة هذا المنهج ومنع الانحراف عنه ، ذلك الانحراف الذى يؤدى إلى فساد الحياة وإلى وقوع الظلم على الناس :
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [سورة الحديد 57/25]
وهو دين يجعل للإنسان إيجابية واسعة فى الأرض .
فقد خلقه الله ابتداء ليكون خليفة فى الأرض :
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30]
ومن شأن الخلافة الهيمنة على الأرض والسيطرة عليها ، والإنشاء والتعميري فيها ، واستغلال الطاقات المذخورة فى السماوات والأرض ، التى سخرها الله للإنسان من أجل عمارة الأرض ، والمشى فى مناكب الأرض لاستخلاص الأرزاق المكنونة فيها والظاهرة :
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك 67/15]
بل إن المنهج الربانى ذاته يستدعى إيجابية الإنسان لتنفيذه ، فهو لا ينطبق انطباقا آليا على الأحداث والأشياء ، بل الإنسان المستبصر بالهدى الربانى هو الذى يطبقه ويجتهد بفكره ليضع تفصيلات تنفيذه ، خاصة وهو منهج حياة كامل ، يشمل الثابت والمتغير فى حياة الإنسان ، فلابد أن يجتهد على الدوام ليضع للمتغير حلا مستمدا من المبادئ الثابتة فى هذا المنهج .. ومن ثم يعمل الإنسان بإيجابيته الكاملة فى التنفيذ ، سواء إيجابية العزيمة اللازمة لإقامة المنهج والجهاد لإقراره فى الأرض ، أو إيجابية التفكير فى الوسيلة المثلى لإقامته ..
بل إن قدر الله ذاته يجرى من خلال أعمال الإنسان بالخير والشر سواء :
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [سورة الروم 30/41]
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [سورة النحل 16/112]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [سورة الأعراف 7/96]
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد 13/11](12/8)
وهذا الدين الذى يعطى التوازن الصحيح بين الدنيا والآخرة ، وبين فاعلية قدر الله وفاعلية الإنسان ، وبين العبودية الكاملة لله والإيجابية السوية للإنسان ، هو الدين الصحيح الذى تصلح به الحياة فى الأرض ، وتستقيم به خطى البشر فى الحياة الدنيا " (1)" .
ولكن أوروبا - بدافع العصبية الصليبية - أعرضت عن هذا الدين واتجهت إلى الجاهلية الإغريقية الرومانية ، تنتقم بها من الكنيسة ودينها الفاسد الذى يهمل الحياة الدنيا ويلغى الوجود الإيجابى للإنسان .
وغذ كانت النهضة فى مجموعها " رد فعل " للكبت الواقع على " الإنسان " بفعل التصور الكنسى للدين ، والممارسة الكنسية له ، وإذ كان الغالب على ردود الفعل هو الاندفاع لا التعقل ولا التبصر ولا الروية ولا الاتزان .. فقد اندفعت أوروبا فى نهضتها تنزع من طريقها كل معلم من المعالم الإلهية (سواء كانت إلهية حقا أو مدعاة من قبل الكنيسة) وتضع مكانها معالم بشرية من صنع الإنسان ، كما تنزع من طريقها كل ما يتصل بالآخرة لتضع بدلا منه ما يتصل بالحياة الدنيا .. وكانت هذه هى بداية " العلمانية " بالتعريف الأوروبى ..
- - - - - - - - - - - - - -
لقد اصبح الطابع المميز للفكر الأوروبى منذ النهضة هو التمرد على الدين والتمرد على الله ، وكان ذلك نابعا من تأثيرين فى آن واحد . التأثير الأول هو روح رد الفعل الذى قام ضد الدين والكنيسة ، والثانى هو تأثير الجاهلية الإغريقية فى هذا الشأن بالذات .
فأما رد الفعل فقد أخذ صورة الخروج على كل ما كان سائدا من قبل فى فترة السيطرة الكنسية .
كان السائد هو ألا يفكر الإنسان لنفسه فى شئ من الأشياء إنما يأخذ الأفكار جاهزة من الكتب المقدسة وشروحها عن طريق رجال الدين ، سواء كانت الأفكار متصلة بالعقيدة أو بأمر من أمور الدنيا ، أو حتى أمور العلم كقضية شكل الأرض .
وغنى عن البيان أن هذا ليس الموقف الصحيح للإنسان فى ظل الدين الصحيح " (2)" ولكن هكذا كانت الممارسة الدينية فى ظل الجاهلية الكنسية المنحرفة ، والتى من جرائها كان لرجال الدين كل ذلك النفوذ على عقول الناس وأرواحهم ، فهم الوسطاء بين الناس وبين الدين ومفاهيمه ، بل هم الوسطاء بين الناس وبين الله ، والناس - علماء أو غير علماء - لا يبحثون فى أى شأن من الشؤون ليكونوا فيه رأيا أو موقفا . إنما يسألون رجال الدين ليدلوهم على الرأى أو الموقف الذى ينبغى عليهم اتخاذه . هذا بالإضافة إلى أن الأمور التى يسألون عنها هى أولا وقبل كل شئ أمور " الخلاص " . الخلاص من أدران الحياة الدنيا للحصول على رضوان الله فى الآخرة .
وكان رد الفعل إن الإنسان هو الذى ينبغى أن يستشار فى الأمور كلها وليس الدين ، وأن العقل البشرى هو الذى ينبغى أن يكون صاحب القرار وليس الله .. ولو كان الأمر متعلقا بالعقيدة أو الأمور الأخروية . وبمقدار ما كان العقل مكبوتا ومحجورا عليه ، انطلق هذا العقل يريد أن يقتحم كل ميدان ولو كان خارجا عن اختصاصه ! يقتحمه بروح أنه هو صاحب الحق الذى كان ممنوعا من حقه فهو يريد أن يؤكد هذا الحق . ويقتحمه بروح الشك ، أو روح المحو لكل ما كان موجودا من قبل ولم يشترك فيه ، فهو يريد أن ينشئه من جديد سواء وافق ما كان موجودا من قبل أو خالفه ، والأجدر به أن يخالفه لكى يثبت وجوده .
بهذه الروح بدأ الكتاب و" المفكرون الأحرار " يهاجمون فكرة الألوهية وينفون الرسالات والوحى ، وينفون الحياة الآخرة والجنة والنار .. ويقولون إن هذه كلها أوهام تبنتها البشرية فى غيبة من العقل ، والآن وقد صحا العقل فقد آن الأوان لنبذها وتركها للهمج المتأخرين .. وربما كان خير ممثل لهذا الاتجاه هو " فولتير " الكاتب الفرنسى الملحد المشهور .
أما التأثير الثانى الذى أشرنا إليه فهو تأثير الجاهلية الإغريقية التى تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة صراع وخصام لا يفتر : الآلهة تريد أن تقهر الإنسان وتكبته وتحطمه لكى لا يطمح فى أن يكون مقتدرا مثلها ، فلا تفتأ كلما حقق نجاحا أن تصب الكوارث فوق رأسه لكى لا يستمتع بثمرات نجاحه ، وهو من جانبه دائم التحدى للآلهة ، كلما وقع فى حفرة من حفائرها عاد يستجمع قواه ليصارعها من جديد . وتكفى أسطورة بروميثيوس الشهيرة لبيان هذا المعنى بصورة مباشرة ، إذ تزعم تلك الأسطورة أن " زيزس " إله الآلهة خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض ثم سواه على النار المقدسة (التى ترمز إلى المعرفة) ثم وضعه فى الأرض محاطا بالظلام (الذى يرمز إلى الجهل) فأشفق عليه كائن أسطورى يسمى بروميثيوس ، فسرق له النار المقدسة لكى ينير له ما حوله ، فغضب زيوس على الإنسان وعلى بروميثيوس كليهما . فأما بروميثيوس فقد وكل به نسرا يأكل كبده بالنهار ثم تنبت له كبد جديدة بالليل يأكلها النسر بالنهار فى عذاب أبدى !
__________
(1) " " انظر فصل التوازن فى كتاب خصائص التصور الإسلامى .
(2) " " سنعاود الحديث فى هذه النقطة فى هذا الفصل وفى فصل " العقلانية " كذلك .(12/9)
وأما الإنسان فقد أرسل له زيزس " باندورا " (التى ترمز إلى حواء) لكى تؤنس وحشته (فى ظاهر الأمر !) وأرسل معها هدية عبارة عن علبة مقفلة ، فلما فتحها إذا هة مملوءة بالشرور التى قفزت من العلبة وتناثرت على سطح الأرض لتكون عدوا دائما وحزنا للإنسان !
ويشير جوليان هكسلى إشارة صريحة إلى هذه الأسطورة فى كتابه " الإنسان فى العالم الحديث Man in the Mode r n Wo r ld " فيقول إن موقف الإنسان الحديث هو ذات الموقف الذى تمثله هذه الأسطورة ، فقد كان الإنسان يخضع لله بسب الجهل والعجز ، والآن بعد أن تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل فى عصر الجهل والعجز على عاتق الله ، ويصبح هوة الله !!
من هذين التأثيرين معا انطلق الفكر " المتحرر " يهاجم الدين ، ويصفه بأنه الأغلال التى تغل الفكر عن الانطلاق ، والتى ينبغى أن تحطم لكى يثبت الإنسان وجوده ، ويقوم بدوره الذى يجب أن يقوم به فى الأرض !
- - - - - - - - - - - - - -
وفى نفس الوقت اتجه الفكر المنسلخ من الدين إلى البحث عن مصدر آخر للقيم الإنسانية غير الدين ! ذلك أن أوروبا لم تكن قد انسلخت بعد من القيم ذاتها كما حدث فيما بعد ، حين امتد الخط المنحرف فازداد بعدا وانحرافا ، أو لم تكن قد سنحت الفرصة للشريرين أن يعلنوا الحرب المنظمة على كل مقومات " الإنسان " كما سنحت لهم بعد ظهور الداروينية وإعلان حيوانية الإنسان !
ففى تلك الفترة وجد " الفكر الحر ! " أنه إن أقر بأن الدين هو مصدر القيم الإنسانية فقد وجب عليه أن يحافظ عليه ولا يهاجمه ولا يسعى إلى تحطيمه ! فينبغى إذن أن يبحث ذلك الفكر عن مصدر آخر يستمد منه القيم ويسندها إليه ، لكى لا يقول أحد إنه لا يمكن الاستغناء عن الدين ! وعلى هذا الضوء يمكننا فهم فلسفة " أوجست كومت " من ناحية ، وأفكار جان جاك روسو من ناحية أخرى . فكلاهما يجهد نفسه ليقول للذين يقفون مدافعين عن الدين : ها قد وجدنا مصدرا آخر تنبع منه القيم الضرورية لحياة الإنسان غير الدين ، وجدناه فى " الطبيعة " وفى " النفس البشرية " وهو مصدر أفضل - فى إنبات القيم وترسيخها - من الدين .. فدعونا إذن من الدين ، وتعالوا معنا إلى تلك المصادر " الحرة " التى يقبل عليها الإنسان إقبالا " طبيعيا " و" ذاتيا " دون أن يحس بالقهر المفروض عليه من قوة أعلى منه !
وفى الوقت ذاته اتجه هذا " الفكر المتحرر " إلى عبادة الطبيعة بدلا من عبادة الله ، ونسبة الخلق إليها بدلا من الله . وقد تحدثنا منق بل عن هذا الأمر بما فيه الكفاية فلا نعود إلى الحديث فيه ، ولكن نضعه فقط فى مكانه من التسلسل التاريخى .
وفى ذات الوقت كله اتجه الفن إلى مناجاة الطبيعة بدلا من مناجاة الله ، وتأليهها بدلا من تأليه الله " (1)" .
- - - - - - - - - - - - - -
ومضى الزمن فى خطواته ، وجاءت الثورة الصناعية .. وجاء مزيد من إبعاد الدين عن الحياة .
ففى العهد الزراعى - أو الإقطاعى كما يسمونه - كان ما يزال للدين نفوذ كبير فى حياة الناس .
كان الملوك قد استقلوا عن سلطان البابا ، وقامت " علمانية الحكم " بفصل الدين عن السياسة (أى إقصاء رجال الدين عن التدخل فى شؤون السياسة) ولكن الكنيسة كان ما يزال لها سلطان ضخم على أخلاق الماس وعاداتهم وأفكارهم رغم كل الصراعات وكل الاعتبارات .
ولكن الثورة الصناعية أحدثت - أو أريد لها أن تحدث - هزات عنيفة فى حياة الناس .
ولقد مر بنا فى الفصول السابقة تفصيل ما صنعت الثورة الصناعية فى حياة أوروبا ، وما بنا من حاجة إلى إعادته . ولكنا نذكر مجرد تذكير بإخراج المرأة إلى العمل وإفساد أخلاقها وإفساد أخلاق الرجل معها ، واستغلال قضية المساواة مع الرجل فى الأجر لبث روح الصراع فى نفس المرأة وإحراج صدرها من قوامة الرجل والعمل فى البيت والتفرغ للأمومة ، وما نتج عن ذلك كله من تحطيم الأسرة وتشريد الأطفال والفوضى الجنسية .. الخ ونسبة ذلك إلى التطور الذى يهدم ما يشاء من القيم ويلغى ما يشاء !
وكانت الطامة العظمى هى الداروينية وإبعاد الإنسان ذاته من عالم الإنسان وإلحاقه بعالم الحيوان ! فعندئذ لم تعد هناك حاجة إلى القيم أصلا .. لا الدين ولا الأخلاق ولا التقاليد المستمدة من الدين .. فما حاجة الإنسان إلى شئ من ذلك وهو عريق فى الحيوانية مستقر فى عالم الحيوان ؟!
ثم أتى على الإنسان حين من الدهر لم يعد حتى حيوانا ! بل هبط عن ذلك دركات فأصبح جزءا من عالم المادة الصماء !
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) " " ليست مناجاة الطبيعة فى ذاتها انحرافا عن السلوك القويم فى عالم الفن ، بل العكس هو الصحيح . فالفن السليم لابد أن يلتفت إلى الطبيعة ويتفاعل معها . ولقد لفت القرآن الكريم حس المسلمين لفتا شديدا إلى الطبيعة فى شتى مظاهرها من الجبال والأنهار والوديان والزروع والرعد والبرق والسحاب والمطر والريح والسماء والأرض .. ولكن المناجاة شئ والتأليه الذى مارسته الفنون الأوروبية العلمانية شئ آخر .(12/10)
لم نكن هنا نستعرض خطوات العلمانية بالتفصيل ، فسيأتى شئ من ذلك فيما بعد حين نتحدث عن علمانية السياسة وعلمانية الاقتصاد والاجتماع والعلم والأخلاق والفن .. ولكنا أردنا فقط أن نلفت النظر إلى حقيقة واقعة هى استمرار " الإنسان " فى الهبوط كلما أمعن فى السير على الخط العلمانى .
وأيا تكن السباب التى أدت بأوروبا إلى العلمانية فهى كما قلنا من قبل تفسر العلمانية ولا تبررها ، ولا تبرر بالطبع نتائجها التى أدت إليها ، والتى بدأ المفكرون الغربيون أنفسهم يتنبهون إليها وينذرون نتائجها ، ولكن دون أن يعرجوا على السبب الحقيقى ولا العلاج الحقيقى !
ولئن كانت الكنيسة هى المعتدية على الملوك والعلماء فى بادئ الأمر ، مما أسفر عن العداء بين الدين والسياسة وبين الدين والعلم ، فلم تكن هى المعتدية ولا المتسببة حين أقامت الثورة الصناعية اقتصادياتها على الربا ولجت فيه ، وحين سقطت " الأخلاق " واحدا إثر الآخر ن حتى الأخلاق التى أقرها " المفكرون الأحرار " فى مبدأ عهدهم يناصبون الكنيسة العداء ، ويبحثون عن مصدر آخر للقيم غير الدين !
إنما استمرأ القوم الفوضى الخلقية وأمعنوا فيها لا للدوافع القديمة التى دفعتهم للخروج على الدين أول مرة ، وكلن لأن هذه هى طبيعة السير على المنزلق .. كل خطوة تصبح أشد هبوطا من السابقة .. وهذه طبيعة الحياة حين يكف الناس عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. يزداد المنكر وينتفش ويستفحل حتى يصبح هو الأصل ، أو حتى يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن أجل ذلك لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم :
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [سورة المائدة 5/78-79]
ويجدر بنا الآن على أى حال أن نستعرض الصورة الراهنة للعلمانية فى أوروبا فى مجالات الحياة المختلفة ، لا على أنها الصورة الأخيرة التى ستقف عندها ! فهى لا تقف عند هذا الحد من السوء ، وإن لم يكن فى وسع الخيال أن يتصور ما هو أسوأ ، ولكن لنقيس المسافة بين الأصل الذى كان ينبغى وبين ما وصلت إليه الأمور حين قال الإنسان لنفسه : لقد شب الإنسان عن الطوق ولم يعد فى حاجة إلى وصاية الله !
(1) فى السياسة :
لم تكن السياسة من أول عهدها فى الإمبراطورية الرومانية محكومة بالشريعة المنزلة من عند الله ، وإن وقعت لفترة من الوقت تحت سلطان البابوات ورجال الدين ، يفرضون على الملوك أن ينزلوا على إرادتهم على اعتبار أن إرادتهم من إرادة الله .
فقد بينا من قبل أن الفصل بين الدين والسياسة كان قائما من أول اعتناق الدولة الرومانية للمسيحية ، إذ اعتنقتها عقيدة فقط ، ولم تأخذ من الشريعة إلا ما يتعلق بالأحوال الشخصية ، وبقيت الأمور الجنائية والأمور المدنية وعلاقة الحاكم بالمحكوم وغيرها من شؤون الحياة الواقعة يحكمها القانون الرومانى ولا تحكمها الشريعة المنزلة فى التوراة والمعدلة تعديلا جزئيا بالإنجيل :
{وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [سورة آل 3/50]
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47)} [سورة المائدة 5/47]
ولكن الكنيسة مع رضاها بهذا الأمر - المخالف لأمر الله - فى أيام ضعفها ، لم تحاول فى أيام سلطانها وسطوتها أن تعود إلى الوضع الدينى الصحيح ، فتلزم الملوك والأباطرة أن يحكموا بما أنزل الله ، وهى تمارس عليهم من السلطان ملا يستطيعون معه مخالفتها أو الخروج على أمرها ، بل استغلت سلطانها فى إخضاعهم لأهوائها الخاصة ، بينما تركتهم يحكمون بغير ما أنزل الله وهى راضية عنهم كل الرضا ماداموا يخضعون لأوامرها ، وهذا هو الذى تسميه أوروبا الحكم الدينى أو الثيوقراطى وما أبعده عن الدين !
صحيح أن إخضاع الكنيسة الملوك والأباطرة لأهوائها الذاتية كان يتم باسم الدين وتحت شعاراته ، ولكن هذا لا يكفى لاعتباره حكما دينيا ما دام لا يحكم بما أنزل الله . ولكن الحس الأوروبى المضطرب يخلط بين الدين ورجال الدين نتيجة اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ، واعتبار أعمالهم وأقوالهم أعمالا دينية وأقوالا دينية ولو كانت بعيدة كل البعد عن حقيقة الدين !
مهما يكن من امر فقد استطاعت الكنيسة بنفوذها أن تجعل الملوك والأباطرة طوع إرادتها . وأعلن البابا " نقولا الأول " (858 - 867م) بيانا قال فيه :
" إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها . وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس فى تسلسل مستمر متصل .. (ولذلك) فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين ، حكاما كانوا أو محكومين " .(12/11)