(8/338)
'أوجد له البديل'
في زيارة الأقارب:
هيا أحمد.. تعال.. أسرع
عمرو يجري مسرعًا آخذًا بيد أحمد بن عمه الذي جاء في زيارة له.
تعال معي نشاهد التلفاز حان موعد السيرك... كم أشتاق لمشاهدة الأسود المدربة والقرود الفكاهية والكلاب المضحكة والسحر العجيب.
سال لعاب أحمد... وجلس أمام جهاز التلفاز وقد اتسعت حدقتا عينه وجلس فاتحًا فمه مندهشًا من هذا الجهاز العجيب الذي لم ير مثله في البيت؛ لأن والده الشيخ ناصر لم يشتر له هذا الجهاز.
تأخر الوقت وحان موعد الانصراف وأحمد مازال جالسًا كالمعتوه أمام التلفاز يتابع برنامج تلو برنامج وفقرة تلو فقرة.
وجاء أبو أحمد ليأخذه للبيت.
هيا يا أحمد لقد تأخر الوقت.
أحمد: أبي انتظر قليلاً حتى أكمل هذا البرنامج.
أحمد هيا هذا خطأ.
أحمد: أبي إنه ممتع جدًا.. دعني أشاهد.
في المدرسة:
وليد: هل رأيت فليم الأمس؟
أحمد: عن ماذا تتكلم.
وليد: ألم تر البطل وهو يبرز عضلاته أمام الجميع ويحارب بقوة خارقة حتى قضى على الأعداء. كم أنا فخور به وأتمنى أن أكون مثله.
أحمد: وماذا أيضًا؟
وليد: تخيل أن البطل له القدرة على الطيران إنه يسمى 'سوبر مان' أي الرجل الخارق.
أحمد: أكمل أكمل... كم أشتاق لمشاهدة هذا الفيلم.
وليد: لقد قمت بتسجيله يمكنك زيارتي في أحد الأيام لمشاهدته.
آباء محتارون:
في البيت المسلم الملتزم بتعاليم الإسلام الحميدة، المحافظ على واجباته المجيدة يحتار الآباء دائمًا في أمر التلفاز.. يشترونه للبيت أم لا؟
كل البيوت يوجد بها هذا الجهاز مع ما فيه من أضرار ومفاسد في أغلب الأحوال.. وبالتالي فعدم وجوده في البيت الملتزم سيؤدي إلى أن يكون الأطفال في هذا البيت كما يقول البعض متخلفين.. لا يجارون أحداث الواقع ولا يتطورون مع المجتمع ويعيشون في الكهف.
هذا ما حدث مع أحمد ابن الشيخ ناصر فلقد منع أبوه دخول التلفاز البيت، فكانت النتيجة أن أصبح أحمد كما يقول الناس: طفل متخلف لا يعرف شيئًا عن الواقع ولا يدري شيئًا عما يدور حوله.
هذا ما وجده أحمد في بيت أقاربه وفي المدرسة، ولو وسعنا دائرة البحث لوجده في السوق وفي وسائل المواصلات وفي القرى والشوارع والمحطات، لقد نجح أعداء الله أن يخترقوا بهذا الجهاز اللعين كل ثقب في بلاد المسلمين.
ووجوده أكبر الضرر:
فوجود التلفاز في بيت المسلم له من الأضرار الخلقية والنفسية والسلوكية والصحية على الطفل ما الله به عليم.
ثم إن أطفالنا في سن البلوغ من التمرد بحيث لا يستطيع أحد التحكم في تصرفاتهم خاصة والأب مشغول بجمع الأموال، والأم ضعيفة القوة والسيطرة بطبيعة الحال، فوجود أطفالنا بعد ذلك في المجتمع الذي عم به الفساد والأخلاق الذميمة في كل مكان، ونجد بعد ذلك أيضًا التلفاز في البيت بما يُعرض فيه من الأفلام والمسلسلات والإعلانات التي تمثل أغلب برامج عرضه. مع كل هذا كيف سنضمن إذن لأولادنا الصلاح؟
وكيف لا نخاف عليهم من ـ جهاز التلفاز ـ؟
ـ حدِّث ولا حرج عن أفلام الحب والاختلاط التي لا يتورع الآباء عن متابعتها حتى في وجود الأطفال، فيتعلم الأطفال أمورًا لا تناسب سنهم يكون لها أكبر الضرر على سلوكياتهم.
ـ التلفاز مضر بأطفالنا فهو يضيع أوقاتهم أمام تفاهات ويعلمهم الكسل والخمول، ويسبح بخيالهم إلى عالم الأساطير والخيال وينأى بهم عن الواقع وكيفية مواجهته.
ـ ولكن كيف السبيل إذن ووجوده ضرر، وعدم وجوده يجعل أبناءنا في نظر الناس متخلفين لا يعلمون شيئًا عما يدور حولهم، ولا يفهمون شيئًا عن واقعهم مما يضعف ثقتهم في أنفسهم ويجعلهم يرتدون على أعقابهم ليجاروا الواقع.
فكر في أصل المشكلة:
الأطفال عندهم من القوة والطاقة والنشاط ما يملأ العالم بأسره لصغر سنهم وعدم انشغالهم بهموم الحياة، فعندهم طاقة لابد أن تفرغ وبقدر ما تفرغ هذه الطاقة جيدًا بقدر ما يكون لهذا التفريغ أعظم أثر في تقوية شخصية الطفل.
ـ ولكن تنبه فالطاقة المفرغة في التلفاز لا تنشئ طفلاً قويًا... هذه القوة هي قوة وهمية لأنها مستقاة من بحر الخيال وتخاريف الأقوال... هذه القوة ستنتج لك طفلاً يتكلم فقط ولا يفعل؛ لأنه سمع ورأى في التلفاز ولكنه لم يتحرك بنفسه.
ـ ماذا يوجد في التلفاز إذن؟
مباراة، فيلم، مصارعة، مغامرة، إثارة، فكاهة.
هذه كلها حاجات نفسية لدى الطفل يلبيها من خلال متابعته للتلفاز، ولكنها تملأ نفسه داخليًا وتضغط على أعصابه دون أن تفرغ هذه الطاقة خارجيًا أو على الأغلب لا يفرغ خارجيًا بقدر ما يعبئ داخليًا.
إذن فالطفل القوي هو الطفل الذي يفرغ طاقته خارجيًا في صورة أعمال والذي يعتاد إنجاز الأشياء، ولا بأس من التعبئة الداخلية، ولكنه ليس من التلفاز فقط فالبديل موجود وهو الحاسوب الآلي.
ـ إن الأطفال عندهم طاقة عظيمة بحاجة إلى تفريغ، وهذا الجهاز يمتص قدرات أطفالنا وذكاءهم وقوتهم في أوهام وأحلام وأساطير.
كيف تجعل ابنك متميزًا بلا تلفاز؟(8/339)
1ـ لا تقل له: التلفاز- بما يقدمه في أغلب الأحوال- حرام ـ في البداية ـ لأن هذه المعلومة لن تفيده الآن بل سيكون ضررها عليه، إن هو رددها في المجتمع أكبر بكثير من نفعها؛ لأنه سيقابل بهجوم شديد من الآخرين فيصاب بالإحباط وتضعف ثقته بنفسه.
2ـ اطلب من أقاربك أو أصدقائك الذين تذهب إليهم ومعك أبناؤك ألا يشغلوا التلفاز في وجود أبنائك.
3ـ أكثر من ذكر أضرار التلفاز بصورته القائمة حاليا، وركز الآن على الأضرار الصحية وإضاعة الوقت وتفكيكه للتجمع الأسري وكثرة التفاهات.
ـ على الآباء أن يتقوا الله ويكونوا قدوة لأبنائهم فعندما يرى الطفل والديه يشاهدان التلفاز سيقوم بالتقليد.
ـ الاستفادة من الأوقات للقيام بالواجبات الاجتماعية من بر الوالدين وصلة الأرحام وتفقد الأرامل والمساكين وإعانة أصحاب الحوائج.
ـ الاشتغال بطلب العلم وحث أهل البيت على زيادة معلوماتهم الشرعية.
ـ وضع دروس يومية منتظمة بجدول ثابت لحفظ القرآن.
ـ الاهتمام بإيجاد مكتبة أسرية متنوعة تحوي مختلف العلوم وتكون في متناول الجميع.
ـ الاستفادة من برامج الحاسوب المتوفرة بكثرة بما في ذلك المسابقات وبرامج الذكاء.
ـ القيام بالنزهات البرية للأماكن الخلوية البعيدة عن أعين الناس والتبسط مع الزوجة والأبناء وإشباع رغباتهم في اللعب والجري وصعود الجبال واللعب بالرمال.
ـ وضع برنامج رياضي للأب والأم والأبناء بمعدل يومي عشر دقائق مثلاً حتى وإن اقتصر على التمارين الخفيفة.
ـ زيارة الصالحين والأخيار والاستفادة من تجاربهم والاستئناس بأحاديثهم وربط الناشئة بهم ليكونوا القدوة بدلاً من الممثلين والمهرجين.
ـ اشتغال الفتيات بأعمال المنزل وتدريبهن على القيام بالواجبات المنزلية وتعويدهن على تحمل مسئولية البيت وتربية الأطفال والقيام بشئونهم.
ـ وضع جدول زمني ـ شهري مثلاً ـ لحضور بعض محاضرات العلماء في المساجد.
ـ اجعل يومًا في الأسبوع يومًا مفتوحًا في المنزل لإلقاء الكلمات المفيدة وبث الفوائد بين الجميع وطرح الأفكار ورؤية إنتاج المنتجين في الأبناء والصغار.
ـ عمل قائمة بالأنشطة والدرجات والتقديرات للأبناء وتحسب نقطة لكل عمل جيد وأخرى لكل جهد متميز، وهكذا في نهاية الأسبوع توضع الجوائز لصاحب أعلى النقاط.
ـ التأمل الدقيق في بيوت كثير من الأخيار التي تخلو من الشاشات وكيف تجد ـ بفضل الله ـ صلاح أبنائها واستمرار أهلها وحسن تربيتهم على التقوى والصلاح.
ـ الاهتمام بهوايات الأبناء وتوجيهها نحو خدمة الإسلام والمسلمين وتشجيعهم على المفيد منها.
ـ إعداد البحوث علامة على مقدرة الشخص وتمكنه العلمي ولكل عمر من الأعمار مستوى معين من البحوث.
ـ كثير من الناس يعتذر بوجود الشاشة لرغبتهم في معرفة العالم وأخبار الكون، مع حرص هذا، فهو غافل عن أخبار القيامة والبرزخ وأحوال البعث والنشور، ويمكن أن يكتفي بالإذاعة وبعض الصحف لمتابعة الأخبار والأحداث.
ـ لو طلب منك شخص أو جهة أن تضع في صالة منزلك خمسة أفراد ما بين رجل وسيم وامرأة فاتنة منهم الفاجر والفاسق ومنهم المهرج، وشرطت عليهم ألا يتحدثوا ولا يجتمعوا بأبنائك وزوجتك إلا بحضورك، فهل يا ترى تخرج مطمئن الفؤاد إلى هؤلاء وهم في عقر دارك؟!
ـ أوجد له البديل:
هو يريد إثارة.. أوجد له الإثارة من خلال جهاز الحاسب الآلي وأفلام الإثارة التي تنتقيها أنت بنفسك.
هو يريد الفكاهة أوجد له الفكاهة من خلال أفلام الكرتون الفكاهية في الحاسوب وكذلك من خلال الفسح والترفيه ومجالس السمر والطرائف.
هو يريد اللعب لابد أن يكون له على الأقل يوم في الأسبوع يذهب فيه للعب سواء الكرة أو الكونغفو أو المصارعة، المهم أن يتحرك ويلعب.
هو يريد الثقافة.. علمه كيف يجمع الأخبار ويتابعها عن طريق شبكة الإنترنت واطلب منه أن يعد لك تقريرًا أسبوعيًا عن أخبار الإسلام في العالم مثلاً.
ـ إذا كانت هناك بعض الفضائيات الهادفة مثل 'المجد' و'اقرأ' يمكنه متابعتها عن طريق كارتة tv من خلال الحاسب الآلي فالتحكم هنا يكون أكثر، إضافة إلى أن التلفاز هنا يكون جزءًا من كل وليس هو كل شيء.
الأحد 12 ربيع الأول 1425هـ - 2مايو2004 م
http://links.islammemo.cc المصدر:
=============(8/340)
(8/341)
تنامي الاحتجاجات ضد العولمة ..
هل تدفع الأغنياء لمواقف أكثر عدلا ؟؟
أحمد طه
رغم أن الخط البياني لظاهرة العولمة وبروز التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة آخذ في التصاعد لأعلى وبوتيرة أكبر منذ منتصف التسعينات إلا أن اللافت لكافة دول العالم غنيها وفقيرها تلك المظاهرات الصاخبة المناهضة لتيار العولمة والتي اتخذت صورًا حادة من التعبير والصدام والعنف.. لكن اللافت أكثر أن تخرج تلك المظاهرات من معقل الرأسمالية في العالم وليس من داخل الدول النامية والفقيرة التي ستكون أكثر المتضررين من العولمة..
وكانت البداية قد انطلقت من مدينة سياتل الأمريكية في ديسمبر عام 1999م احتجاجًا على جولة جديدة من مفاوضات منظمة التجارة العالمية والتي شهدت أعمال عنف حادة تحولت إلى شبه معركة حقيقية بين المناهضين ورجال الشرطة وسقط خلالها العديد من المصابين من الطرفين.. ثم جاءت المعركة الثانية في أواخر أبريل الماضي بمدينة كيبك الكندية حيث احتشد الآلاف من المناهضين للعولمة احتجاجًا على قمة الأمريكتين التي ضمت زعماء 34 دولة يمثلون 800 مليون نسمة هم مجموع شعوب الأمريكتين باستثناء كوبا التي ترفض هذا التجمع وتصف أعضاءه بأنهم «دمى» في يد أمريكا فيما يعتبرون هم كوبا دولة غير ديمقراطية.
وكانت مظاهرات كيبك أكثر تنظيمًا واحترافًا وامتلك المتظاهرون الذين احتشدوا بالآلاف في منطقة انعقاد القمة القنابل اليدوية والذخائر والأقنعة الواقية من الغاز، وكانت حصيلة المصادمات أعدادًا كبيرة من المصابين من الجانبين إضافة إلى اعتقال 430 شخصًا من المتظاهرين وبعض حوادث تكسير زجاج السيارات وواجهات المحال التجارية.
أما احتجاجات المتظاهرين المناهضين «لغول» العولمة ومنطقة التجارة الحرة التي أقرتها قمة كيبك لتصبح بعد دخولها حيز التنفيذ في ديسمبر عام 2005 أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم فقد تركزت في كونها ستضر كثيرًا بالشعوب الفقيرة وستزيدها فقرًا وأن أكبر المستفيدين منها الشركات الكبرى والمتعددة الجنسيات إضافة إلى أن التفاوت الكبير بين الدول الأربع والثلاثين المشاركة في منطقة التجارة سيجعل من الصعب التطبيق وتبادل الفوائد بصورة عادلة.
لكن الرئيس الأمريكي جورج بوش انتقد المحتجين وقال: «إذا كانوا يحتجون على التجارة الحرة فإنني اختلف معهم، أعتقد أن التجارة مهمة جدًا لأنها لا تساعد على انتشار الازدهار فحسب وإنما تساعد على نشر الحرية أيضًا» وأكد بوش أنه لذلك يختلف مع أولئك الذين يعتقدون أن التجارة سيكون لها تأثير سلبي على العاملين.
ويبدو أن إرادة القادة في الدول الرأسمالية وبينها زعيمة الرأسمالية في العالم ومهندسة برنامج العولمة ـ أمريكا ـ هي التي تفرض نفسها رغم أصوات المعارضين والمحتجين ولو كانت معارضتهم واحتجاجاتهم تستقطب اهتمام الرأي العام العالمي وتحوز إعجاب فقراء العالم والمطحونين على الأخص.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن.. أين نحن في عالمنا العربي والدول النامية بشكل عام من هذه العولمة التي ستكون قاسية التأثير على الضعفاء والتي ربما لن تقدم لهم سوى الفتات بينما يفوز الأغنياء الأقوياء بالنصيب الأوفى لأنهم «فصّلوا العولمة على مقاساتهم!!؟»، وتجيء الاحتجاجات من معاقل الرأسمالية نيابة عن الدول النامية والفقراء .. سؤال مطروح على دولنا العربية والنامية لتُسمع صوتها من أجل عولمة أقرب للعدالة وأقل ظلمًا وقسوة على الضعفاء...
http://www.almuhayed.com المصدر:
-==============(8/342)
(8/343)
العولمة خيارات مرة للدول الفقر وطوفان قادم لا مفر منه !
في كل مرة ينعقد مؤتمر أو لقاء يتعلق بالعولمة يستثير ذلك مظاهرات الاحتجاج، سواء على هامش أعمال صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو المنتدى الاقتصادي السنوي في دافوس ـ سويسرا أو كما جري مؤخرًا خلال انعقاد كوبيك. الأمر الذي يدعو إلى تأمل أسبابه مظاهرات الاحتجاج رفعت أهمية البحث عن إجابة على السؤال الآتي: هل تساعد العولمة على تقليل صور الفقر في العالم أم لا؟ هذا هو السؤال المبدئي وراء حركات الاحتجاج مختلفة المشارب وأحيانًا متعارضة الأهداف، إنها حركات غير متجانسة ولذلك غير منظمة فستجد بينها أنصار البيئة والماركسيين ودعاة حقوق المرأة وأصحاب اليسار الاقتصادي، جماعات لا يجمعها رابط عدا معاداة اتجاهات الاقتصاد العالمي إلى جانب إحساس مرير بعدم العدالة ومن أمثلة تناقضها: رفض اتحادات العمال في الدول المتقدمة العولمة لأنها تريد الاحتفاظ بصور حماية المنتجات الوطنية وبالتالي وقاية عمالها من البطالة وذلك هدف يناقض من يعارضون العولمة في الدول الغنية رأفة بحال الدول النامية على الرغم من أن هؤلاء معنيون أساسًا بفتح أسواق جديدة أمام منتجات تلك الدول ومن يعارضون بهدف حماية البيئة يقدمون قضية التلوث على مطلب النمو الاقتصادي الذي يعني المعنيين بمكافحة الفقر ويرون العولمة وسيلة للافتقار.
إذا كان ثمة ما يجمع هؤلاء المتناقضين فإنه غالبًا فروض عامة نذكر منها التفاوت الاقتصادي غير عادل... العولمة تدمر البيئة... التجارة الحرة ليست بالضرورة التجارة العادلة لأنها لا تخدم إلا الشركات متعددة الجنسية وتحابي الأغنياء على حساب الفقراء والمتقدمين على حساب المتخلفين.
أما الاقتصاديين الجادين فهؤلاء لا يعادونها بإطلاق إنما يعادون عولمة لا تدار بشكل جيد وهجومهم موجه أساسًا إلى طرق التسويق التي تتبعها الشركات العملاقة ذات العلامات التجارية واسعة الشهرة التي تستحوذ على مخيلة المستهلك في الدول المتقدمة وتمارس تطبيقات استغلالية تجاه العمال والعالم الثالث لكن ليس بين المعارضين من يقول بأن العولمة لا تعجل النمو العالمي وهذه هي النقطة المركزية في قضية العولمة فإذا كانت مشكلة الفقر لا حل لها إلا بتسارع النمو فهذا ما تكفله العولمة وبالتالي للفقراء وللدول النامية مصلحة فيها وبدلاً عن المعارضة الأنفع التركيز على تقليل السلبيات.
استباق ما لا مفر منه!!
لابد أن نعترف أن العولمة أضحت الظاهرة الأساسية المهيمنة على العالم والسمة الأساسية لهذه الظاهرة إنها ليست اقتصادية وتجارية فقط بل تشمل المجال الثقافي وينعكس ذلك في الجهود التي تقدم بها وسائل إعلام عالمية لإشاعة رأي عام عالمي موحد تمهيدًا لخلق ثقافة عالمية موحدة مما يتهدد المنطقة العربية التي بدأت قوى العولمة في النظر إليها كسوق كبير مستهلك لمنتجاتها الاقتصادية والثقافية ومن هنا يمكن لفكرة السوق العربية المشتركة أن تشكل جزءًا من مشروع يواجه هذا التطور الذي لا مفر منه واستباقًا لما سيحدث إن عاجلاً أم آجلاً ومن شأن هذه السوق في حالة نجاحها أن تدفع باتجاه تقارب عربي ـ عربي بدءًا بالمستويات الاقتصادية ووصولاً إلى الثقافية وربما السياسية ما قد يساعد في نشوء تيار وحدوي عربي جديد ينطلق من هذه الأسس الواقعية ويستند هذه المرة إلي معطيات مختلفة كليًا عن ما سبق وإلى عقد اجتماعي شعبي عربي يشكل حصانة أكيدة ضد محاولات الاختراق وتذويب الهوية والدعوة إلى شرق أوسطية مشبوهة لكن التكتل الاقتصادي لا يكفي بدون توفر عوامل أخرى عديدة منها القيام بعملية تثقيف تستهدف إشاعة القيم العملية وترسيخ حقيقة أن تنامي المصالح المتبادلة بين كافة البلدان العربية هو الضمانة الحقيقية للأمن والرفاه العربي.
من يتحدى العولمة؟!
عناوين النظام الدولي الجديد كلها مبهرة، كلها تتحدث عن الحرية وحقوق الإنسان في إطار عالم واحد تجري عولمته بعناية فائقة، مأزق العناوين المبهرة للنظام الدولي الجديد يكمن في مصداقيتها فهو يتحدث عن حرية التجارة ولا يعني بها سوى حرية الأقوياء في الوصول إلى أسواق الضعفاء وهو يتحدث عن حقوق الإنسان ولا يعني بها سوى حرية الإنسان الأبيض في استبعاد باقي سكان العالم وهو يطالب الجميع باستيفاء شروط الالتحاق بالعولمة دون أن يكترث لمدى عدالة هذه الشروط أو قابليتها للتنفيذ.
لهذه الأسباب خرجت التظاهرات الحاشدة في سياتل بالولايات المتحدة لتفسد سعي منظمة التجارة العالمية إلى التنكيل بالدول النامية ولهذه الأسباب ذاتها اشتعلت كيبك الكندية غضبًا حينما اجتمع على أرضها قادة الأمريكتين لبحث إقامة منطقة تجارة حرة تشمل القارتين (العالم الجديد).
الغاضبون في سياتل يطالبون بعالم أكثر عدلاً ويتشككون في حقيقة نوايا الكبار إزاء الغالبية العظمى من دول العالم التي تكتوي بنيران العولمة ولا تقدر على تحديها لأنها إن رفضتها صارت خارج التاريخ وإن قبلتها صارت تحت مقصلته.(8/344)
اللافت أن الذين يطالبون بعالم أكثر عدلاً والمدافعين عن حقوق الدول النامية هم في معظمهم من شعوب الدول الأكثر تقدمًا... لماذا؟!
وتحول الاحتفال بعيد العمال في معظم العواصم الأوربية هذا العام إلي فرصة للتنديد والاحتجاج على شراسة العولمة اقتصاديًا وسياسيًا ولم تقتصر تلك التظاهرات على تلك العواصم الأوربية بل امتدت من النرويج إلى كوبا ومن ملبورن إلى مكسيكو سيتي حيث نظم المناهضون للرأسمالية ونقابات العمال احتجاجات عارمة في عيد العمال.
واعتقل المئات بعد اشتباكات مع الشرطة شابت التظاهرات التي شهدتها استراليا وألمانيا وسويسرا وبريطانيا بينما اجتذب التجمع الذي شهدته العاصمة الكوبية هافانا الملايين في حملة مناهضة للرئيس الأمريكي جورج بوش.
وشهدت ألمانيا واحدة من أسوأ الاحتجاجات العمالية في عيد العمال منذ عقود واستخدمت الشرطة القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه ضد آلاف المحتجين في العاصمة برلين وفرانكفورت بعد أن ألقوا الحجارة والزجاجات الفارغة على أفراد الشرطة.
وفي أوسلو ألقى محتجون فطيرة بالقشدة في وجه وزير الخارجية النرويجي توربيورن باغلاند.
وفي سيدني وملبورن طوق محتجون مناهضون للعولمة مباني بورصة الأسهم الاسترالية بينما قام متظاهرون مناهضون للرأسمالية بالاحتشاد في الحي التجاري في العاصمة البريطانية لندن وقامت مجموعة صغيرة بأعمال شغب وحطمت واجهات المحال التجارية والبنوك وقدرت خسائر وسط لندن بنمو 30 مليون دولار.
ويقول المحتجون إن نفوذ الشركات الكبرى تضخم وأصبحت تحدد مصائر البشر وأن نفوذها امتد أيضًا إلى سياسات حكومات منتخبة ديمقراطيًا.
وكانت سلسلة مطاعم ماكدونالدز هدفًا متكررًا في شل هذه الاحتجاجات وكتب المتظاهرون علي جدرانها شعارات مناهضة مثل «قذارة... ماك».
لم تكن الرأسمالية والعولمة وحدها هما هدف احتجاجات الثلاثاء.
تحرير التجارة أم استعباد البشر... ؟!
ويحمل مصطلح العولمة في طياته الكثير من التبعات على الدول التي ترغب في الانضمام لمنظمة التجارة العالمية إذ لا يقتصر الأمر على الجانب الاقتصادي المتمثل في الالتزام بحرية التجارة أو عدم فرض قيود جمركية أو ضريبية على الواردات وفتح الأبواب على مصراعيها للاستثمارات الأجنبية ومعاملة الشركات الأجنبية في هذا المجال كالشركات المحلية فالعولمة لها جوانب سياسية وثقافية، إذ أن معظم دول العالم الثالث الراغبة في الانضمام للمنظمة مطالبة بالتنازل عن كثير من ثوابت قيمها وثقافتها ومعتقداتها فقط لتكون من رعايا هذه المنظمة العالمية الفرضية للأساسية التي يقوم عليها صرح منظمة التجارة العالمية إن حرية التجارة الدولية تقود إلى تحرير الإنسان العادي في جميع مجتمعات العالم عن طريق إشاعة الديمقراطية فإذا كانت منظمة التجارة العالمية تلقي معارضة من قبل أعرق المجتمعات الديمقراطية في أمريكا الشمالية وأوروبا كما حدث في مؤتمر كويبك مؤخرًا.
ويرى الدكتور طلال بنان أن ليبرالية الاقتصاد الذي تحمل لواءه منظمة التجارة العالمية تعكس فكرًا متخلفًا ظن الكثيرون أنه اندثر منذ القرن قبل الماضي عندما ظهر فكر أكثر عذرًا يقوم على تحديد المسؤولية الاجتماعية للدولة وليس ربطها باحتكارات رأسمالية تعتبر رأس المال هو أداة الإنتاج الرئيسية.
ويضيف لقد ساد هذا الفكر التحرري مجتمعات كانت معاقل للرأسمالية في العالم ووصلت إلى الحكم في كثير من تلك المجتمعات أحزاب سياسية ورقتها الانتخابية كانت تقوم حول فكرة تعظيم مسؤولية الدولة الاجتماعية.
ويوضح وجهة نظره بالقول ويمكن تفهم لماذا تتزاحم حكومات كثير من دول العالم الثالث علي عضوية المنظمة بالرغم من عدم استعدادها السياسي والاجتماعي والثقافي لتحمل مسؤليات تلك العضوية من باب: ملعون إن فعلت ملعون إن لم تفعل... ! ولكن السؤال هنا ألا يثير رد الفعل السلبي من قبل مواطن هذه المجتمعات لهذه القضية شكًا حول مشروع انضمامها للمنظمة... !؟
قد يقول قائل إنه المواطن العادي في معظم تلك المجتمعات ليس له دور في تشكيل خيارات مجتمعه السياسية ولا في تشكيل رموز قيادته ومؤسساته السياسية.. دعك من كونه مهتمًا بعلاقات بلده الخارجية أو حركة تجارتها الخارجية إلا أن هذه المرونة التي تتمتع بها حكومات هذه المجتمعات ليست سوى مصادر غير مرئية لتفعيل مزيد من الضغط على تلك الحكومات من قبل منظمة التجارة العالمية في سبيل الحصول على تنازلات أكبر من تلك الحكومات الساعية لعضوية المنظمة.. وليس العكس فبينما نجد ضغوطًا هائلة من قبل فئات في داخل الأعضاء الرئيسيين في المنظمة تجابه بسلبية مطلقة من قبل مواطني الدول النامية.. منتهي التناقض والسلبية..!
ويلفت إلى نقطة أساسية وهي كون منظمة التجارة العالمية تأخذ مبدأ الليبرالية في التجارة العالمية علي إطلاق. مؤكدًا أنها تأخذ منه ما يناسب توسيع نطاق صادرات أعضائها الرئيسيين.(8/345)
ويشير إلى أن النفط مثلاً سلعة استراتيجية لتحفيز صادرات الدول الرأسمالية إلا أنه من السلع التي تتداول خارج نطاق السوق الحرة لمنظمة التجارة العالمية لسبب بسيط هو أنها قد تكون السلعة الوحيدة التي تتمتع بها كثير من دول العالم الثالث بميزة تنافسية حقيقية.
هل بعد ذلك يمكن أن تصدق بأن هناك علاقة بين حرية التجارة والديمقراطية... لندع مجتمعات الديمقراطية تصدقها أولاً.
العولمة قديمًا وحديثًا:
وبالعودة إلى التاريخ نجد أن العولمة هي وجه آخر للرأسمالية وعودة جديدة بطرق ملتوية لأساليب الهيمنة والسيطرة من قبل الدول الاستعمارية آنذاك على مقدرات وثروات الشعوب ونسيت هذه الدول التي تحمل لواء العولمة حاليًا أن الرأسمالية في يوم ما عصرت اللحم البشري في آلات المصانع بعد أن طافت سفنهم الآفاق بحثًا عن الذهب والقطن وخيرات الشعوب وخطف السود لتحولهم إلى رقيق على الجانب الآخر من الأطلس.
وفرضت نظامًا اقتصاديًا بحجة العولمة يزيد من ثراء الأثرياء ويزيد من فقر الفقراء في مصادرة لحريات الشعوب المغلوبة على أمرها وبتصرف لا يقل عن تصرف شيلوك اليهودي بطل مسرحية شكسبير (تاجر البندقية) الذي أبى إلا أن يأخذ لحمًا بشريًا حيًا مقابل دين العميل الذي لم يستطع السداد.. والعولمة ذات اتجاه ليبرالي مفرق في التطرف لا يريد من اقتصاديات العالم النامي أن يتحرر من الفقر والجوع دون تحقيق لأي توازن اقتصادي لأنه ينتهي بالتوقيع على اتفاقية منظمة التجارة العالمية (الجات) التي أجبرت الشعوب على توقيعها، لأنها ستتولى فرض العقوبات علي من يرفض حرية التجارة التي تركز الثروة في مناطق محدودة في العالم بعد اتساع الفروق الاقتصادية بين الدول.
والآن تستخدم الدول الرأسمالية صندوق النقد الدولي أداة ضغط أخري على تلك الدول النامية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وأيدلوجيًا والعالم المتقدم بتجاهل ما تمر به عندما عجزت عن حل مشاكلها مع هذا الصندوق لأن أسعار الفائدة حولتها إلى رهينة في قبضة الآخر في ضوء سياسات ليبرالية تعتمد على العولمة التي تحمي في النهاية مصالح الأثرياء وتضر بالعمال والطبقات الوسطى في أسلوب فوضوي غير مسؤول في البورصات والأسواق النقدية العالمية التي بدأت تنذر بعض الدول النامية بانهيارات اقتصادية هائلة كما حل في أندونيسيا والبرازيل وغيرهما مما شجع بعض المنظمات الإنسانية أن تهب للنضال من خلال مظاهرات جماعية في مختلف أنحاء العالم لوقف جنون العولمة ودكتاتورية صندوق النقد الدولي الذي يمارس الضغط على الدول الفقيرة تحقيقًا لجانب الإنسانية المشرق وحماية للبيئة ومراعاة للعدالة الاجتماعية الحقة.
كتاب فخ العولمة:
ولفهم قضية العولمة لابد من الرجوع إلى أحد أهم الكتب التي تناولت الموضوع بشكل محايد وموضوعي وهو كتاب (فخ العولمة والاعتداء على الديمقراطية والرفاهية) لمؤلفيه هانس بيتر مارتن وهارلدشومان والذي بات أحد أهم المراجع في هذا المجال.
لقد طرح المؤلفان مجموعة من الطروحات المهمة التي تستحق التأمل والتفكير لفهم قضية العولمة من منظور يختلف عن المنظور الزائف الذي غالبًا ما تطرحه علينا وسائل الإعلام المختلفة منها:
إن العولمة من خلال السياسات الليبرالية الحديثة التي تعتمد عليها تنذر بقيام حركة مضادة للديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية تقتلع كل ما حققته الطبقة العاملة والطبقة الوسطى من مكتسبات وتبدو قتامة المستقبل الذي سيكون صورة من الماضي المتوحش للرأسمالية في فجر شبابها إذا سارت الأمور على منوالها الراهن إذ من المتوقع أن يكون هناك فقط 20% من السكان الذين يمكنهم العمل والحصول على الدخل والعيش في رغد وسلام أما الباقون وهم 80% فهم السكان الفائضون عن الحاجة الذين لن يستطيعوا العيش إلا من خلال الإحسان والتبرعات وأعمال الخير.
إن المصالح المشتركة لأصحاب رؤوس الأموال جمعت بينهم وجعلتهم يهددون بتهريب رؤوس أموالهم ما لم تستجب الحكومات لمطالبهم مثل منحهم تنازلات ضريبية سخية، وتقديم مشروعات البنية التحتية لهم مجانًا.
وإلغاء أو تعديل التشريعات التي كانت تحقق بعض المكاسب للعمال والطبقة الوسطى مثل قوانين: الحد الأدنى للأجور، ومشروعات الضمان الاجتماعي والصحي، وإعانات البطالة وتحويل كثير من الخدمات العامة التي كانت تقوم بها الحكومات لكي يقوم بها القطاع الخاص (الخصخصة) ويشير الكتاب إلى أنه مع نمو العولمة سيزداد تركز الثروة وتتسع الفروق بين البشر والدول اتساعًا لا مثيل له، يقول المؤلفان إن (358) غنيًا في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يمتلكه (5. 2) مليار من سكان المعمورة وأن هناك 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج الإجمالي العالمي وعلى 84% من التجارة العالمية ويمتلك سكانها 85% من مجموع المدخرات العالمية وهذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت آخر داخل كل دولة إذ تستأثر قلة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية وتعيش أغلبية السكان علي الهامش.(8/346)
وفي الفصل الثالث من الكتاب الذي خصصه المؤلفان للكلام عن صندوق النقد الدولي والأسواق النقدية العالمية يبينان أن العالم تحول إلى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية مستخدمين مليارات الدولارات التي توفرها البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار الدولية وصناديق التأمينات والمعاشات وقد سبب هؤلاء المضاربون عددًا من الأزمات وأصبحت لديهم مقدرة فائقة علي التحكم برفاهية أو فقر شعوب ودول برمتها دون أن توجد أي سلطة محلية أو عالمية لمحاسبتهم أو ردعهم.
وعند الحديث عن النمو المطرد للبطالة وتحت سياط السعي المحموم لخفض كلفة الانتاج وزيادة الأرباح تمت (مذبحة العمالة) في البنوك وشركات التأمين وحتي في قطاع صناعة الكمبيوتر. إذ بدأت الشركات الكبرى تستورد العلماء الهنود ذوي الرواتب المنخفضة ليحلوا محل العلماء الأمريكيين وحينما تدخلت الحكومة الأمريكية للحد من هذا السلوك قامت الشركات بنقل جزء من أنشطتها إلى نيودلهي.
انتقادات عربية:
وفي عالمنا العربي تتعالى الأصوات المنتقدة لمفاهيم العولمة التي تفتقد للعدالة وتعتمد أسلوب الغابة حيث لا مكان للضعيف، والبقاء للأقوى ولتسقط القيم الإنسانية والأخلاقية تحت أقدام المادية « وعولمة القوة وقوة العولمة.. وعلى المستوى الرسمي مثلاً تشكو المملكة العربية السعودية من أن أنظمة منظمة التجارة لا تراعي العدالة والإنصاف في التعامل بين الدول الصناعية القوية اقتصاديًا وتكنولوجيًا وبين الدول النامية.
وتطالب المملكة بضرورة توفير فرص أوفى للدول النامية وتبادل عادل للمنافع وليس لصالح الطرف القوي على حساب الطرف الضعيف كما تشدد المملكة على ضرورة احترام خصوصيات الشعوب العقائدية والثقافية وعدم الزج بها في ميادين التجارة وفيما يتعلق بإجراءات مفاوضات الانضمام للمنظمة تري المملكة والعديد من الدول أنها تعوزها المعايير والمبادئ الإرشادية العامة التي تحدد معالم واضحة للانضمام مما يجعل من المفاوضات مسألة طويلة ومعقدة وإجراءاتها تطول، كما لا تنجو المنظمة من اتهام يتعلق بعدم اهتمامها بالتمسك بمبادئها تجاه نظام تجاري متحرر دولي يقوم على مبادئ القواعد وحكم القانون ويرتكز على مبدأ الشفافية.
ناقوس خطر:
ومن جانبه يدق رئيس جمعية رجال الأعمال المصريين في فرنسا محمود عمارة ناقوس الخطر مما ستحدثه تطبيقات اتفاقيات منظمة التجارة والتي يبدأ العمل بها في يناير عام 2005 ووصف بداية التطبيق بأنه بمثابة حرب عالمية ثالثة لكنها تختلف عن سابقيها الأولى والثانية بكونها حرب اقتصادية تختلف أدواتها وأسلحتها عن سابقيها التي كانت تستخدم الأسلحة العسكرية من طائرات ودبابات وبوارج وصواريخ.
ويضيف عمارة أن حرب العولمة لا تحتاج إلى أراضي والاستيلاء عليها أو احتلال الشعوب فتلك هي الأساليب القديمة للحروب لكن الحرب الاقتصادية في ظل العولمة تعتمد على احتلال أسواق الدول، وقال لكي تستطيع الدول النامية أن تواجه وتخوض حرب العولمة فعليها أن تستعد وتتسلح بالأسلحة اللازمة وهي كما سبق أن قلت ليست أسلحة حربية بل أسلحة مدنية فبدلاً من الطائرات المقاتلة والقاذفة يجب أن يكون لدى هذه الدول سلاحٌ جوي مختلف يتضمن طائرات شحن مدنية تكون قادرة على نقل المنتجات والسلع إلي الأسواق الخارجية.
واستطرد قائلاً أن أسطول البوارج البحرية يستبدل في حرب العولمة بأسطول ناقلات بحرية تؤدي نفس الغرض الذي تقوم به طائرات الشحن المدنية وتكون عبر خطوط منتظمة حتى تضمن الحفاظ على الأسواق ولا تضيع في ظل المنافسة الدولية.
السوق العربية المشتركة:
ودعا رجل الأعمال المصري إلى ضرورة أن تتجه الدول العربية وبدون إبطاء وبخطوات جادة نحو إقامة السوق العربية المشتركة حتى تتمكن من بناء تكتل اقتصادي قوي وقادر على التعامل مع الخارج بنفس لغة العولمة الاقتصادية التي تحمي الدول الداخلة في هذا التكتل بدلاً من التعامل منفردة وقال إنه قبل أن نصل إلى السوق المشتركة التي تحتاج لمراحل وخطوات عديدة جادة علينا أن نزيد من حركة التبادل البيني بين الدول العربية كخطوة تسبق منطقة التجارة العربية الحرة التي ما تزال تواجهها مشكلات التطبيق.
وقال هل تصدق أن التجارة البينية العربية لا تتجاوز نسبة 5. 8% من إجمالي التجارة العربية مع العالم الخارجي وهي نسبة ضئيلة جدًا ينبغي أن نرفعها كخطوة أولى نحو تحقيق التكتل الاقتصادي وتساءل هل من المستحيل أن نرفع النسبة إلى 10% أو 40% مثل التكتل الآسيوي أو 60% مثل التكتل الأوربي ويجيب بأن التجارة والاقتصاد هي لغة أرقام صادقة وليست ضربًا من الأحلام والخيالات وإذا ما وضعنا خطة للوصول لهدف معين نلتزم به فلابد أننا سنصل.. المهم التنفيذ بجدية وفق خطوات تتضمنها الخطة التي وضعناها.. مؤكدًا أن لا سبيل أمام الأمة العربية سوي العمل الجاد وأن تتعلم وتستفيد من تجارب الآخرين ولا وقت لديها تضيعه لتخسر المزيد.(8/347)
أما الاقتصادي اللبناني الدكتور عبد الله جبور فإنه يري أن قوانين العولمة لم تراع العدالة ولم تستخدم القيم الأخلاقية التي تمنع القوى من افتراس الضعيف ولكن لا مجال أمام الدول النامية ومنها الدول العربية من التعامل مع هذه القوانين لأن رفض التعامل معها سيفرض أسوارًا عالية من العزلة حول هذه الدول والأفضل لها أن تقبل بشراسة المنافسة وتعيد هيكلة اقتصادياتها وصناعاتها وتهيء مؤسساتها للعمل في ظل قوانين العولمة المجحفة.
http://www.almuhayed.com المصدر:
===========(8/348)
(8/349)
تحدي العولمة كيف يمكن لاقتصاديات العالم الإسلامي أن تواجهه ؟
عبد الرحمن سعيد
يشير مصطلح "العولمة" في جانبه الاقتصادي إلى "تحرُّر العلاقات الاقتصادية القائمة بين الدول من السياسات والمؤسسات القومية والاتفاقيات المنظِّمة لها، وذلك بخضوعها التلقائي لقُوى جديدة أفرزتها التطورات التقنية والاقتصادية، وتعيد هذه القوى الجديدة تشكيل وتنظيم العلاقات الاقتصادية بشكل طبيعي على مستوى العالم كله باعتباره وحدة واحدة"، وهناك شبه اتفاق على أن "العولمة" تستند على خمس ركائز أساسية هي:
1- حرية الاستثمار في أي مكان في العالم، أي حرية رأس المال الخاص في الحركة دون أي عوائق تحول دون حركته.
2- حرية إقامة الصناعة في أنسب الأماكن لها في العالم بغض النظر عن الجنسية أو السياسة القومية لأي دولة.
3- عالمية الاتصالات التي ترتبت على تطور تقنيات وصناعة الأقمار الصناعية.
4- عالمية المعلومات التي ترتبت على تطور تقنيات وصناعة الحاسبات الآلية جنباً إلى جنب مع تقنيات وصناعة الأقمار الصناعية.
5- عالمية النمط الاستهلاكي وحرية المستهلك في الشراء من المصدر الذي يختاره في العالم.
وكما تشير الركائز التي تقوم عليها "العولمة" فإن الشركات متعددة الجنسيات تمثل القاطرة التي تقود قطار العولمة، وهي شركات عملاقة تتعدى حدود الدول بحيث تنتشر استثماراتها وعملياتها الاقتصادية والتجارية على مستوى العالم كله، وتمثل هذه الشركات العملاقة قمة التطور الرأسمالي الغربي، وتتسم هذه الشركات العملاقة بحجم مبيعاتها الضخم، فمثلاً شركة "ميتسوبيشي" اليابانية بلغ حجم مبيعاتها عام 1995 مبلغاً قدره 184. 4 مليار دولار، ويشير تقرير الاستثمار العالمي لعام 1995 أن عدد الشركات متعددة الجنسيات في العالم يبلغ 37 ألف شركة تعمل من خلال 200 ألف فرع وبلغ رصيد استثماراتها 2. 7 تريليون دولار عام 1995 مقابل استثمار قدره 370 بليون دولار عام 1978، يستحوذ على 50% من رصيد هذه الاستثمارات مائة شركة عالمية، وهذه الشركات متعددة الجنسيات مسئولة عن ثلثي الإنتاج العالمي، وتمتلك 75% من الطاقة العالمية للبحث والتطوير، وتستخدم 73 مليون عامل يمثلون 10% من حجم الاستخدام العالمي، أي أن القوة التي تروج للعولمة هي قوة اقتصادية جبارة تريد أن تجعل من العالم كله مجالاً مفتوحاً لأنشطتها بلا أي قيود أو عوائق من أي نوع كانت، وتستعين هذه الشركات العملاقة متعددة الجنسية بهيئات ومؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي ووكالات الأمم المتحدة المختلفة العاملة في ميادين التنمية والثقافة وأجهزة الاستخبارات في الدول الكبرى، ومختلف وسائل التأثير في الرأي العام مثل الصحف والمجلات السيارة وشبكات التلفاز والمؤسسات المانحة للجوائز الدولية المهمة أو المشتغلة بحقوق الإنسان كما أنها لا تدخر وسعاً في تجنيد الكُتَّاب والمفكرين الذين يروجون لأفكار العولمة والكونية.
وبالإضافة إلى الشركات متعددة الجنسيات تأتي ثمار ثورة التقنية خاصة فيما يتصل بالمعلومات والاتصالات بحيث يمكن للمرء وهو في أي مكان في العالم أن يتصل بأي مكان آخر وأن يحصل على ما يريد من معلومات، وشبكات "الإنترنت" - الخط السريع الدولي للمعلومات - تمثل أكبر شاهد على ذلك، ولم يعد التبادل بين البشر أو الدول قاصراً فقط على السلع ورؤوس الأموال بل امتد ليشمل الأفكار والمعلومات، وأصبحت الأفكار والمعلومات هي العنصر الأهم والغالب في العلاقات الإنسانية، ولم يعد استيراد القيم أو الأفكار مرتبطاً بحجم التجارة أو حجم تدفق الأشخاص أو رؤوس الأموال بل أصبح استيراداً مباشراً عن طريق الاتصال بمصدر هذه الأفكار والقيم، وكما هو واضح من السياق السابق فإن العولمة تدعو للحرية الاقتصادية بمعناها الواسع بعيداً عن أي قيود أو سلطة، ومن ثم فإنها تبدو وكأنها المرادف - على المستوى الاقتصادي - لمقولة "فرانسيس فوكاياما" الشهيرة "نهاية التاريخ" وما ارتبط بها من مقولات أخرى مثل "نهاية الأيديولوجيا" وتحوُّل الإنسان إلى حيوان اقتصادي لا يتحكم في سلوكه سوى غرائزه المادية المتصلة بالإنتاج والاستهلاك، أي أن العولمة هي تعبير عن نمط جديد للحياة هو ذلك الذي صمد واستمر وهو نمط الحياة الرأسمالية الغربية، ومسألة الإلحاح الدائم مع فكرة "العولمة" يفرض ضرورتها لأنها الموجة الجديدة التي تكتسح العالم ولا يصح لأحد أن يتخلف عن ركوبها.(8/350)
إن العولمة تهدف إلى أن يصبح العالم سوقاً تحكمها قواعد الربح والاحتكار والمنافسة بينما يصبح الإنسان جزءاً من هذه السوق الكبيرة لا تسيِّره هو الآخر سوى قواعد البيع والشراء والمكسب والخسارة، ومن ثم يتم نزع أهم ما في الإنسان، وهو هويته وثقافته ودينه وكرامته وانتماؤه وولاؤه وبراؤه، وفي الواقع فإن هذا المفهوم "العولمة" لا يمكن أن يكون محايداً ولكنه يستبطن ترويجاً لأفكار قُوى رأس المال الجبارة الغاشمة، والتي تريد تفكيك مجتمعات العالم الإسلامي على المستوى السياسي والثقافي لصالح الشركات متعددة الجنسيات، على المستوى السياسي بضرب قوة الدولة في العالم الإسلامي وتحويلها إلى ما يطلق عليه "الدولة الرخوة" أي التي تقل سيطرتها على مقدرات أوطانها، وعلى المستوى الثقافي بضرب ثقافة المجتمعات الإسلامية والترويج لنمط الحياة الغربي عبر دعاوى حرية المرأة، وحرية الرأي، وحقوق الإنسان والأقليات.
إن قوى العولمة تقوم بعمليتين متناقضتين في آن واحد: فهي تسعى إلى تكتل قوى رأسمالية على المستوى الكوني حتى يمكن تعميق سيطرة هذه القوى وهيمنتها، وفي نفس الوقت هي تسعى إلى تفكيك مصادر التوجيه والضبط والوعي في العالم الإسلامي عبر أنماط بديلة تخدم أهداف القوى الرأسمالية الغربية، ومن المثير أن "العولمة" تم التعبير عنها في العالم العربي بمصطلح "الشرق أوسطية"، حيث يصبح الاقتصاد ورأس المال ومشاريع التنمية هي أدوات حل الصراع بين العالم العربي والكيان الصهيوني، حيث يمكن أن يوجد إنسان جديد في المنطقة هو "الإنسان الشرق أوسطي" الذي لا يهدف إلا إلى تحقيق مصلحته باعتبارها جوهر العقلانية والعلمية، ومن ثم فإن هذا الإنسان لن يشعر بأي حرج في أن يبحث عن مصلحته عند الصهيوني واليهودي فيؤْثِره على أخيه المسلم إذا لم يكن لدى أخيه نفس المصلحة أو كانت لديه لكنها أقل، ومن ثم فإن "العولمة" لها منطقها الذي تروج له وقواعدها التي لا تقاوَم، وهذه القواعد تستبعد أن يكون "للإسلام" - باعتباره المرجعية العامة والحاكمة للسلوك الإسلامي على مستوى الأفراد والجماعات والحكومات - دخْل في ضبط ما يتنافى مع أحكامه مما تأتي به العولمة، فمثلاً هل المسلمون يرحبون بكل أشكال الاستثمار الأجنبي بصرف النظر عن طبيعة الأنشطة التي يوجَّه إليها هذا الاستثمار؟، فالتركيز على قطاع السياحة وما يرتبط به من نوادٍ للقمار وفنادق تستورد الخمور وتنشط فيها حفلات الرقص الماجنة سوف يتم رفضه، وهل المسلمون يرحبون بالاستثمارات الأجنبية في قطاع الصناعة حين تجذب عناصر الإنتاج المحلية لإنتاج سلعة ترفية كالسيارات الفارهة ومساحيق التجميل والعطور بدلاً من إنتاج سلع ضرورية أو حاجية عليها طلب عام من أصحاب الدخول المنخفضة أو المتوسطة؟، كما قد يقرر أصحاب الاستثمارات الأجنبية سحبها خاصة لو كانت استثمارات ضخمة في محافظ الأوراق المالية وهو ما قد يؤدي إلى انهيار مفاجئ في البورصات كما حدث في اقتصاديات دول جنوب شرق آسيا، كما أن حرية رأس المال وعولمة الاستثمار قد تدفع رؤوس أموال إسلامية صافية إلى أن تتجه إلى خارج العالم الإسلامي في الدول المتقدمة، وتشير الإحصائيات إلى أن تدفقات الاستثمارات الأجنبية إلى البلدان المتقدمة أضعاف تدفقاتها إلى البلدان النامية، وأكدت إحصائية أن ما يمتلكه المصريون من أسهم في أوروبا وأمريكا يزيد عن المائة مليار دولار، وتشير التقديرات إلى أن الفوائض المالية للدول العربية والإسلامية المودعة في مصارف أمريكا والدول الغربية تبلغ 800 مليار دولار، وهذا يؤكد غياب الوعي الإسلامي والتضحية بمصالح البلدان الإسلامية من أجل مصالح مادية بحتة لمن يملكون هذه الأموال، وهنا تثور قضية مَن الذي يستخدم الأموال المسلمة في العالم الغربي، وفي أي المجالات يتم استخدامها؟، وألا يمكن أن تقع هذه الأموال في أيدي أعداء الإسلام والمسلمين من المحاربين كاليهود أو الصرب مثلاً، ومن هنا فإن الحضور الإسلامي كجزء من وعي المسلم وهويته - يمثل أحد الحقوق الأساسية التي يواجه بها العالم الإسلامي مخاطر العولمة.
وبالنسبة للحديث عن المستهلك العالمي - باعتباره أحد الركائز التي تستند إليها العولمة - فإن المستهلك يمكن تلبية طلباته في أي مكان في العالم بسبب سرعة وسائل الاتصال، وبسبب تحرر التجارة من القيود الحمائية وسهولة قيامه بالتحويلات المصرفية عبر الشبكة المصرفية التي تعتمد على شبكة الاتصال العالمية، وفي الواقع فإن زيادة كفاءة عناصر الإنتاج لابد وأن تتجه إلى تحقيق رفاهية المستهلك، بيد أن التفاوت الهائل في مستويات المعيشة بين المستهلك في بلجيكا أو سويسرا وبين المستهلك في سيراليون يجعل من مقولة المستهلك العالمي هذه أكذوبة كبرى إلا إذا كان يقصد به المستهلك الغربي، فمتوسط دخل المواطن في سيراليون يبلغ 180 دولاراً، بينما يبلغ متوسط دخل المواطن في اليابان 30000 دولار وفي سويسرا 40. 630 دولار وفي أمريكا000 27 دولار.
اقتصاد العالم الإسلامي:(8/351)
يبلغ عدد الدول الإسلامية المشتركة في منظمة المؤتمر الإسلامي 55 دولة، ويبلغ عدد سكانها 21. 5% من مجمل السكان في العالم بينما تبلغ مساحة العالم الإسلامي 25% من مجمل المساحة الكلية للعالم، بينما لا تزيد مساهمة العالم الإسلامي في الإنتاج العالمي عن 3. 5% من جملة هذا الإنتاج، ولو قارنا بين العالم الإسلامي - بدُوله الخمس والخمسين - وبين الاتحاد الأوروبي مثلاً لهالتنا المقارنة، إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي عشرة أمثال الناتج المحلي للعالم الإسلامي سبعمائة مليار للأول وسبعة تريليون للثاني) بينما تبلغ صادرات الاتحاد الأوروبي أيضاً عشرة أمثال صادرات العالم الإسلامي مائتان وثمانون مليار دولار للأول، وحوالي ثلاثة تريليون دولار للثاني)، وبالطبع فإن الاتحاد الأوروبي يمثل سوقاً واحدة لها نظام جمركي واحد، أما العالم الإسلامي فإنه أسواق متعددة بنظم جمركية متباينة، ولو قارنا مثلاً حجم الناتج المحلي الإجمالي للعالم الإسلامي كله بدولة مثل اليابان - لوجدنا نسبته 1: 6 لليابان بينما نسبة الصادرات بين الاثنين تبلغ 1: 14 لليابان، على الرغم من أن عدد سكان اليابان يبلغ عُشر سكان العالم الإسلامي، ولكن هذا لا يعني أن العالم الإسلامي ليس لديه مقومات التكامل الاقتصادي الذي يعد فريضة شرعية لا يجوز التأخر عنها أو إهمالها، وأهم هذه المقومات الآتي:
1- الامتداد الجغرافي الواسع للعالم الإسلامي على ثلاث قارات (إفريقية - أوروبا - آسيا) ويتسم هذا الامتداد بتنوع الموارد الطبيعية فمثلاً الغابات تبلغ مساحتها حوالي 3445 ألف كم2 ولدى بعض دول العالم الإسلامي والعربي حوالي 1147. 7 ألف كم2 أراضٍ محمية.
2- يبلغ عدد السكان في العالم العربي والإسلامي حوالي 1042. 5 مليون نسمة أي أكثر من 21% من تعداد سكان العالم (عام 1997)، وتبلغ مساحة العالم العربي والإسلامي حوالي 30751. 8 مليون كم2 أي حوالي 25% من مساحة العالم، فالعالم الإسلامي سوق واسعة يمكنها أن تحقق مفهوم الإنتاج الكبير بكل معانيه.
3- تملك الدول العربية والإسلامية 73. 1% من الاحتياطي العالمي من النفط الخام، وينتج 38. 5% من الإنتاج العالمي ويمثل النفط أهم صادراته حوالي 90% من جملة الصادرات بيد أن 90% من النفط يصدرها العالم الإسلامي خاماً وليس مصنعاً وهو ما يهدر عائدات وفوائض مالية تزيد بعشرات المرات عن بيع النفط خاماً، ولدى العالم الإسلامي احتياطي من الغاز الطبيعي يبلغ 39. 7% من الاحتياطي العالمي، ويبلغ إنتاج العالم الإسلامي منه 19. 8%، وأندونيسيا هي الأولى في تصديره بنسبة 14%، تليها السعودية.
4- يوجد لدى العالم الإسلامي كميات هائلة من الفحم فالمغرب ينتج وحده (75 مليون طن) تليه الجزائر (40 مليون طن) ومصر (36 مليون طن) وأندونيسيا (27. 5 مليون طن) وتركيا (3 ملايين طن) كما يوجد خام الحديد ويقدر مجمل احتياطيه بـ (17 مليار طن) تتوزع بين الجزائر وموريتانيا وليبيا والسعودية، وينتج العالم الإسلامي 8. 3 مليون طن حديد الآن، ولدى العالم الإسلامي كِبريت يقدر بـ 18% من جملة الاحتياط العالمي، ولديه أسمنت.
5- لدى العالم الإسلامي 80 مليون هكتار أرض زراعية صالحة للزراعة ولم يتم استغلالها حتى الآن وهي تمثل 85. 4% من جملة المساحة الصالحة للزراعة في هذه الدول بينما يستورد العالم الإسلامي مواداً غذائية من الخارج تقدر بـ 33 مليار دولار (عام 1994) ولو تم استخدام جزء يسير من هذه الأموال في استغلال هذه الأراضي لوفرت الكثير على العالم الإسلامي.
6- تبلغ الفوائض النفطية للدول العربية والإسلامية في المصارف الأمريكية والغربية حوالي 800 مليار دولار، تملكها دول نفطية، واقتصادياتها لا يمكنها استيعاب هذه الفوائض، بينما توجد دول أخرى لديها القدرة على استيعاب واستغلال هذه الفوائض وهو ما يعود بالخير على العالم الإسلامي بدلاً من الأعداء.
7- يبلغ إجمالي التجارة البينية بين الدول العربية حوالي 10% من تجارتها الخارجية بالنسبة للصادرات وحوالي 10. 33% بالنسبة للواردات، (بينما تبلغ التجارة البينية بين دول الاتحاد الأوروبي حوالي 70%)، وهذه النسبة من التجارة البينية بين الدول الإسلامية يأتي بدون تنسيق أو اتفاق.
أي أن العالم الإسلامي يملك مقومات السوق الواحدة والإنتاج الكبير ويملك مقومات التكامل الاقتصادي وهو ما يجب على العالم الإسلامي أن يفعله بلا تأخير لأن اتفاقية الجات سيتم بدء تنفيذها عام 2004 م على الجميع، ومن المعلوم أن 34 دولة إسلامية أعضاء في اتفاقية الجات التي بدأ تطبيقها فعلاً في شهر أبريل عام 1994.
مواجهة العولمة:(8/352)
لا سبيل للعالم الإسلامي لمواجهة العولمة إلا سعيه الجاد لتحقيق التكامل الاقتصادي بين دوله، فالعالم يعيش عصر التكتلات الكبيرة، ولا مستقبل لأي دولة بمفردها تحاول مواجهة زحف العولمة، ونعني بالتكامل وضع آليات تستهدف إلغاء التمييز بين الوحدات الاقتصادية التابعة لدول مختلفة وتبدأ خطوات التكامل بمنطقة التجارة الحرة، حيث تُلغى الضرائب الجمركية والقيود المفروضة على التجارة الخارجية بين الدول التي تشترك بمنطقة التكامل، وهناك العديد من المناطق الحرة بين البلدان العربية والإسلامية ثم تأتي مرحلة الاتحاد الجمركي وفيها يتم توحيد الإجراءات الجمركية على التبادل التجاري لكل الدول الأعضاء - في الاتحاد - مع غير الأعضاء ثم تأتي مرحلة السوق المشتركة وفيها يتم إلغاء القيود على حركة عوامل الإنتاج ثم يأتي الاتحاد الاقتصادي وفيه توجد درجة معينة من التنسيق بين السياسات الاقتصادية للدول الأعضاء، وأخيراً يأتي الاندماج الاقتصادي الكامل - أي الوحدة - وفيه توجد سلطة عليا يكون لها الحق في اتخاذ قرارات إلزامية لكل الدول الأعضاء، وعلى الدول الإسلامية أن تبدأ بتنمية المؤسسات الموجودة لديها فعلاً والتي تشجع على تحقيق التكامل الإسلامي مثل البنك الإسلامي للتنمية بحيث يزيد رأس المال المصرح به إلى 10 مليار دينار إسلامي بدلاً من مليارين حالياً وهناك منظمات موجودة ضمن منظمة المؤتمر الإسلامي مثل "مركز الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية والإحصائية والتدريب للدول الإسلامية" في أنقرة، والمركز الإسلامي لتنمية التجارة بالدار البيضاء، والغرفة الإسلامية للتجارة والصناعة وتبادل السلع بكراتشي.
وعلى العالم الإسلامي أن تنشط تجارب التعاون والتكامل الاقتصادي لديه مثل "منظمة التعاون الاقتصادي" "إيكو" وهي تضم تركيا وباكستان، وتأسست عام 1964 وانضمت إليها أفغانستان وقازاقستان أوزبكستان وقرغيزستان وآذربيجان وتركستان عام 1992 وتطرح المنظمة مشروع إنشاء سوق مشتركة بين دولها، ولدى العالم الإسلامي "مجموعة الثماني" وتضم في عضويتها مصر ونيجيريا وتركيا وباكستان وأندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش، وتشكلت بمقتضى إعلان إسلام بول "إسطنبول" في 15 من يونيه عام 1997، وتطرح المجموعة من المشاريع المشتركة بين دولها والتي تشجع على الاعتماد والتبادل بين دولها كخطوة على طريق تحقيق التكامل الاقتصادي.
إن العالم يشهد اندماجاً بين شركاته الكبرى متعددة الجنسيات كشركات النفط الكبرى البريطانية والأمريكية وشركات الطيران الكبرى وشركات السيارات الكبرى وشركات الدواء الكبرى وتشهد المصارف الكبرى اندماجاً بينها، وهذا الاندماج يأتي في إطار سعي هذه الشركات إلى السيطرة على الأسواق وتحقيق التكامل بدلاً من التنافس، ولا يمكن للعالم الإسلامي أن يبقى مجزَّأً بنظم اقتصادية متعددة، ونظم جمركية متعددة؛ لأن قطار العولمة سيدهسه، وهذا ليس خياراً أو ترفاً إنما هو ضرورة شرعية وضرورة حياتية وضرورة وجود.
إن العالم مقبل الآن على مرحلة جديدة مختلفة - كيفياً ونوعياً - عما حدث في منتصف هذا القرن، وعلى الدول الإسلامية أن تبدأ بتأسيس بِنية تحتية حقيقية حتى يمكن لمشاريع التكامل بين الدول الإسلامية أن تستند إليها، مع الفصل الكامل بين الإرادة السياسية المتقلبة وبين مشاريع التعاون والتكامل الاقتصادي...
http: //www.alsunnah.o r g المصدر:
===========(8/353)
(8/354)
في رأس السنة تحسسوا رؤوسكم
حسن عبد الحميد
يتخذ الغزو الفكري والعولمة الثقافية أشكالاً عديدة وألواناً مختلفة، لعل أخطرها ذلك الذي يتصل بالجانب العقدي ويتسلل بنعومة ويتسرب خفية فلا ينتبه الناس إلاّ وقد تورطوا في أعمال مخالفة للشرع منافية لأخلاقهم، وخير نموذج لذلك الغزو وأصدق تمثيل لتلك الممارسات ما يحدث في معظم بلاد المسلمين ليلة رأس السنة.
وابتداءً نزيل اللبس أو التلبيس الذي يلجأ إليه البعض في موضوع التعامل مع النصارى مستندين إلى فهم خاطئ لآية الممتحنة: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). محملين الآية من المعاني ما لا تحتمله من مشاركة النصارى في أعيادهم الدينية، لكن العلماء فرَقوا بين البر بمعنى حسن المعاملة والعدل، وبين إقرارهم على كفرهم وضلالهم، فيجوز ـــ مثلاً ـــ أن تهنئ أحدهم بمولود جديد أو عودة من سفر أو شفاء من مرض، لكن لا يجوز تهنئتهم بعيد الكريسماس أو مشاركتهم الاحتفال به.
وعودة إلى موضوع الاحتفال بالكريسماس و رأس السنة، فقد أصبحت هذه الأعياد من الأعياد الثابتة عند معظم المسلمين، ويستعدون لها ويفرحون بها على قدم المساواة ــ إن لم يكن أكثر ـــ مع احتفالات أعياد المسلمين. وخطورة الاحتفال بأعياد الميلاد تتجلى ــ بالإضافة إلى البعد العقدي ــ فيما يصاحبها من ألوان المعاصي وأنواع المخالفات، فقد ارتبطت هذه الأعياد بليالي الغناء الممتدة إلى الفجر وما يصاحبها من رقص واختلاط وما يتبعها من تبرج وسفور.
على العقلاء من المسلمين ــ والأصل في المسلمين أنهم كلهم عقلاء ــ أن يتدبروا في معاني ومغازي الاحتفال بهذه الأعياد مع النصارى، ويحذروا من عواقب هذه الممارسات على دينهم وأثرها على أجيالهم. وليرصدوا معنا هذه الآثار على حياتهم:
ــ الاحتفال بأعياد الكريسماس والميلاد يدخل المسلم في فعل المحظور واقتراف المنهي عنه من اختلاط ومجون، وهذا محل إجماع بين علماء المسلمين.
ــ الاحتفال بأعياد النصارى يذهب بعقيدة الولاء والبراء ويضعف الانتماء لخير أمة أخرجت للناس.
ــ الجو الاحتفالي الصاخب يرسخ في أذهان ناشئة المسلمين وعقلهم الباطن أن النصارى على حق فيحبون هذه الأعياد لما يجدونه فيها من الفرحة والتوسعة.
ــ تزداد في هذه الاحتفالات مظاهر التبرج والسفور مع الموسيقى والرقص وما يجره ذلك من فسق يستوجب غضب الله - تعالى - وإنزال عقابه.
ــ تطورت مظاهر الاحتفالات بين الشباب إلى درجة أشبه بالجنون والهستريا من صياح وتقافز في الشوارع ورش الماء على بعضهم البعض وسهر حتى الساعات الأولى من الفجر.
لكل ذلك احذروا أيها المسلمون من المشاركة في الاحتفالات هذا العام وحكموا عقولكم واحفظوا أبناءكم قبل أن تخسروا دينكم.
http://new.meshkat.net المصدر:
===========(8/355)
(8/356)
إنهم يخافون الإسلام !
"لكننا وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع وفي حيويته المدهشة" [لورانس بروان].
"من يدري؟ ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين يهبطون إليها من السماء لغزو العالم مرة ثانية، وفي الوقت المناسب" [ألبر مشادور].
"المسلمون يمكنهم أن ينشروا حضارتهم في العالم الآن بنفس السرعة التي نشروها بها سابقاً، بشرط أن يرجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول؛ لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم" [مرماديوك باكتول].
"إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير" [المنصر لورانس بروان].
"إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ" [أرنولد توينبي]
"إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد، وبالديكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها" [المستشرق الأمريكي"و ك سميث"(الخبير بشؤون الباكستان)].
"و ماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا" [لاكوست (وزير المستعمرات الفرنسي عام 1962)].
"لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام حدوده وانتشر فيه؛ فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه بشدة تفوق أي دين آخر" [هانوتو (وزير خارجية فرنسا سابقاً)].
"إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم" [سالازار].
"إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي، فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي؛ فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد دون الحاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية"
"إن الإسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر بيسر في القارة الإفريقية" [مورو بيرجر].
"يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم، حتى ننتصر عليهم". [الحاكم الفرنسي في الجزائر بعد مرور مائة عام على احتلالها].
"إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام، فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى" [المستشرق البريطاني مونتجومري وات].
"إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد".
http://www.aljalees.net المصدر:
-===========(8/357)
(8/358)
تجارة البشر في عصر العولمة (1/2)
أحمد أبو زيد
- أكثر من مليون طفل وامرأة يتعرضون للبيع والشراء كل عام خلال تجارة الرق المعاصرة والمتسارعة في النمو.
- وقد بدأت المنظمات الخيرية الألمانية تنفيذ خطة تقضي بوضع صناديق في مدينة هامبورج تشبه صناديق البريد لإيداع المواليد الجدد غير المرغوب فيهم من قبل أمهاتهم!.
قد لا يصدق أحد أن تجارة الأطفال تزدهر اليوم في أوربا المتحضرة على أيدي عصابات تمارس الرق والنخاسة الحديثة في أبشع صورها، فهناك شبكات ووكالات دولية تتاجر في الأطفال بين دول العالم المختلفة وتروج لهذه التجارة الملعونة تحت ستار " التبني "، وهذه حقائق تؤكدها منظمة " اليونيسيف " التي أعلنت أنه تم بيع 20 مليون طفل خلال السنوات العشر الأخيرة ليعشيوا طفولتهم في ذل وهوان وفي ظروف معيشية صعبة لا يرضاها متحضر. وأن أكثر من مليون طفل وامرأة يتعرضون للبيع والشراء كل عام خلال تجارة الرق المعاصرة، وأن تجارة البشر باتت تشكل ثالث أكبر المصادر المربحة لعصابات الجريمة المنظمة في العالم بعد تجارة السلاح والمخدرات.
وأن سعر الطفل الرضيع في كمبوديا يصل إلى 100 دولار، ويصل في الصين إلى 1200 دولار، وأن الشرطة الصينية كشفت 484 مهرباً و54 عصابة لخطف الأطفال وبيعهم خارج البلاد، وأن هناك أمهات في الدول الفقيرة اضطررن لبيع أطفالهن من أجل الطعام والمأوى.
وأمام هذه الحقائق والأرقام صار الاتجار في البشر أحد أسرع الأعمال التجارية نموا في العالم، وعادت أسواق الرقيق إلى الظهور لتعود بالبشرية إلى عصور الجاهلية الأولى التي كان فيها البشر يباعون ويشترون ويسترقون كغيرهم من الحيوانات والدواب، وأخذت هذه الأسواق شكلاً آخر في عصر العولمة والإنترنت، ودخلت فيها شبكات ووكالات دولية تتاجر في الأطفال بين دول العالم المختلفة، وتروج لهذه التجارة الملعونة تحت ستار "التبني" وغيره من المسميات التي يتخفون وراءها لجمع الملايين بل المليارات.
الفقر والحروب سبب الانتشار:
والأرقام الرسمية المعلنة من الهيئات الدولية - كما ذكرنا - تشير إلى أن هذه الكارثة البشرية قد استشرت في السنوات الأخيرة نتيجة انتشار الفقر والجوع والحروب والمنازعات والكوارث الطبيعية والبشرية، فقد أعلنت منظمة "اليونيسيف" العالمية للطفولة التابعة للأمم المتحدة في تقرير حديث لها أنه تم بيع 20 مليون طفل خلال السنوات العشر الأخيرة ليعشوا طفولتهم في ذل وهوان، وفي ظروف معيشية صعبة لا يرضاها متحضر. وأن أكثر من مليون طفل وامرأة يتعرضون للبيع والشراء كل عام خلال تجارة الرق المعاصرة والمتسارعة في النمو إلى حد أنها باتت تشكل ثالث أكبر المصادر المربحة لعصابات الجريمة المنظمة بعد تجارة السلاح والمخدرات. ويوظف معظم ضحايا هذه التجارة في أعمال مشينة أو لاستئصال أعضاء بشرية منهم بهدف بيعها للمرضى القادرين على دفع أسعارها.
وأكدت المنظمة أن الدول الصناعية وحدها تستورد سنوياً خمسة ملايين طفل للتبني، معظمهم يأتي من دول أفريقيا وأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية، حيث تضم هذه المناطق ما يزيد عن 100 مليون طفل مشرد يجوبون الشوارع بحثاً عن الطعام أو الكسب الزهيد.
وقالت المنظمة: إن التفاوت في الفقر والغنى بين دول الشمال ودول الجنوب يساعد في الترويج لهذه التجارة، حيث يوجد ملايين الأسر في المناطق الغنية ترغب في تبني الأطفال، وفي المقابل يوجد في المناطق الفقيرة ملايين الأطفال الذين لا يجدون الطعام ويبحثون عمن يسد جوعهم، وفي هذه الظروف يعمل تجار الأطفال الذين يستغلون حاجة البشر لتحقيق الربح الوفير. وليست مراكز التبني التي تنشئها بعض الدول بهدف مكافحة الظاهرة إلا خطوة نحو تقنين هذه التجارة البشعة، وخلق عصابات منظمة للسيطرة عليها.
تجارة الأطفال في رومانيا:
وتعتبر أوربا المتحضرة بغربها وشرقها سوقا رائجة لهذه التجارة، ففي عام 1995م كان حوالي 38% من الأطفال المستوردين إلى ألمانيا من شرق وجنوب شرق أوربا وخاصة من رومانيا وبولندا ودول الاتحاد السوفيتي، وهناك شبكة تُسهِّل تجارة الأطفال في قرى رومانيا التي تعاني الفقر المدقع، بل وصل الحد بالقرويين هناك إلى عرض أطفالهم على زوار القرى. وتؤكد الدلائل وجود عصابات رومانية وأجنبية تشترك في ازدهار هذه التجارة وتصدير الأطفال إلى العواصم الغربية الكبرى تحت شعارات وأوراق رسمية تمنح هذه " السلعة البشرية " صفة " التبني ". وقد أكد رئيس اللجنة الرومانية المختصة بمتابعة 18 - الظاهرة الجديدة أنه تم تسجيل نحو 2000 حالة تبنٍ عالمية، وأن هناك ما بين 22 ألف طفل تم تبنيهم بطريق البيع من عائلات غربية، ويشكل الأطفال الرومانيون ما يقارب ثلث هذه الحالات.
وفي روسيا يوجد ثماني مؤسسات أمريكية تحتكر سوق تجارة الأطفال العالمية فيها مقابل أسعار تتراوح ما بين عشرة آلاف وخمسين ألف دولار للطفل الواحد.(8/359)
وفي بولندا أصبحت تجارة الأطفال من اختصاص شبكات المافيا بسبب أرباحها الكبيرة وتقوم هذه الشبكات بنقل السيدات البولنديات لوضع أطفالهن بالسويد ثم يتركنهم هناك مقابل مبلغ من المال.
وفي ألمانيا تشهد تجارة الأطفال انتعاشاً ظاهراً، وقد ذكرت المنظمة الإنسانية الألمانية في تقريرها السنوي عام 1997م أن حالات التبني القانونية للأطفال الأجانب عبر المنظمات الإنسانية لا تشكل سوى 25% من مجموع 1100طفل أجنبي تم تبنيهم عام 1996، أما الجزء الأكبر من هؤلاء الأطفال فقد تم تبنيهم عبر وسطاء مشبوهين يستهدفون ترويج تجارتهم غير المشروعة من خلال عمليات التهريب وتزوير الوثائق.
أطفال الصناديق البريدية:
وقد بدأت المنظمات الخيرية الألمانية تنفيذ خطة تقضي بوضع صناديق في مدينة هامبورج تشبه صناديق البريد لإيداع المواليد الجدد غير المرغوب فيهم من قبل أمهاتهم، وهذه الخطة - كما أكدت المنظمة الخيرية للعناية الاجتماعية "ستيرنياك"- ستحد من قتل المواليد غير المرغوب فيهم من قبل أمهاتهم اللواتي يمكنهن إيداع الطفل في الصندوق المجهز لذلك خفية دون معرفة الناس بعملهن أو الكشف عن هويتهن. وهذه الصناديق مجهزة من الداخل بفراش ناعم وجهاز إنذار العاملين في المستشفى القريب من الصندوق بوجود مولود جديد فيه، فيقوم العاملون بالتقاطه بعد عشر دقائق من وضعه، لتتولى المستشفى رعايته لمدة شهرين قبل وضعه مع وكالات خاصة من أجل إيجاد عائلة تتبناه بشكل دائم، ولا يخفى على أحد ما يصاحب ذلك من تجارة مقنعة لهؤلاء الأطفال تحت ستار التبني.
الأوضاع المتردية للأطفال:
ولعل الرواج الكبير الذي تشهده تجارة الأطفال في أوروبا الشرقية يعود إلى الأوضاع المتردية للأطفال في هذه الدول، ففي روسيا يوجد آلاف الأطفال الذين أُخذوا من آبائهم جبراً بسبب عدم أهليتهم للتربية، إما بسبب الإدمان على الكحول أو المخدرات، أو ربما لأسباب سياسية أخرى، والاعتقاد المقبول هناك هو أن الدولة هي أفضل مربٍّ لأي طفل.
أما في رومانيا فهناك مئة وأربعون ألف طفل هجرهم آباؤهم في مؤسسات الدولة بسبب عدم قدرتهم المالية على تربيتهم.
ومن ينظر إلى دور الرعاية في هذه البلدان المتقدمة مادياً المتخلفة حضارياً وروحياً؛ يجدها بحاجة إلى من يرعى الأطفال، ففي رومانيا - كما وصفتها الصحف العالمية- لا تختلف دور رعاية الأطفال عن حظائر الحيوانات حيث رائحة البول الطاغية في الدور، والبرد والظلام اللذان يهيمنان عليها، والأطفال الذين فقدوا كل خصوصية لهم، حتى إنهم لا يمتلكون صندوقاً يضعون فيه أشياءهم الشخصية. وهناك شائعات تقول إن 1% في المائة فقط ممن يسمون باليتامى في رومانيا هم يتامى حقيقيون، أما الباقي فهم ممن تركهم آباؤهم، لأسباب اقتصادية.
وفي ظل هذه المأساة الإنسانية تنتشر تجارة الأطفال وكل من يملك الثمن بإمكانه التوقف في رومانيا وشراء طفل، فمعظم الأطفال - كما أكد المسؤولون عن دور الرعاية هناك - لم يزرهم أحد منذ ستة أشهر، وهذا يعني أن الأطفال أصبحوا في عين القانون الروماني رهن تصرف الدولة..
ويؤكد مسؤول البعثة الأوروبية في رومانيا أن محاولة إقناع الحكومة الرومانية بأن تقوم بعمل حاسم في هذا المجال لم تجد صدى بسبب تحكم المصالح الخاصة لبعض المنتفعين، فهناك آلاف الوظائف التي توفرها إقامة بيوت رعاية الأطفال، أو مؤسسات الدولة المكلفة بالرعاية، لذلك فإن الاتحاد الأوروبي يتعامل مع من أسماهم المسؤولين بتجارة الأطفال.
ومما يروج تجارة الأطفال هناك أيضا أن إجراءات التبني سهلة وميسورة، فإذا كان المرء مستعداً لبذل المال؛ فإن بإمكانه الحصول على طفل بسهولة عجيبة، على العكس مما يحصل في بريطانيا على سبيل المثال حيث تستغرق الإجراءات شهوراً عدة.
وتقول التقارير المحلية: إن مديرة بيت رعاية الأطفال تستفيد مادياً من تجارة الأطفال؛ فهي تمتلك أصدقاء من ذوي النفوذ، وليس بإمكان الشرطة أن يحققوا فيما تقوم به.
وقد أَطلعت مديرة بيت رعاية الأطفال مراسلي الصحف العالمية على ستين طفلاً معروضين للبيع. وكل من هؤلاء الأطفال أُعد لذلك إعداداً كاملاً من الناحية الشكلية، مثل مظهرهم الخارجي، إلا أنهم لا يزالون معرضين للإهمال، وهي تخيِّر المشتري بين ثلاثة أطفال: أندري، ونيكول، وليفيو، فهي تعرف أن بإمكانها أن تحصل على رخصة من آبائهم الفقراء بسهولة، لأنها كما قالت تستطيع أن تزور تواقيعهم بسهولة
وذكرت المديرة مبلغ عشرين ألف دولار كثمن للطفل، ويدخل ضمن ذلك إكمال كافة الأوراق وإيصاله إلى لندن، تساعدها في ذلك ابنتها المحامية.
خطف الأطفال:
وفي الصين ارتفع عدد النساء والأطفال المخطوفين بهدف التجارة والاستغلال، فقد تمكنت الشرطة الصينية خلال عملية استمرت عشرة أيام من تحرير 1600 امرأة وطفل خطفوا في مقاطعة جاندونج في جنوب الصين. وذكرت صحيفة "ون ووي بو" الصادرة في هونج كونج أن النساء خُطفن لبيعهن كزوجات أو الاتجار بهن، والأولاد للتسول أو لبيع الزهور، واستطاعت الشرطة كشف 484 مهرباً و54 عصابة، انتزاع آلاف الأطفال من براثن المهربين.(8/360)
ومن المعروف أن عدد النساء والأطفال المخطوفين في الصين ارتفع بنسبة 4 - 11 في المائة عام 1999 عما كان عليه في السنة السابقة، ففي القرى التي تزداد فيه الهوة اتساعاً بين الأغنياء والفقراء المتروكين لرحمة الإصلاحات الاقتصادية، يشكل المهاجرون يداً عاملة رخيصة، وكتلة مهمشة يسهل الاعتداء عليها. فهؤلاء الذين يعيشون غالباً بصورة غير قانونية، يترددون في إبلاغ الشرطة، لا سيما وإن كان الطفل الذي تعرض للخطف مولوداً بخلاف التشريع الخاص بتنظيم الولادات، فسياسة الحد من الولادات التي تسمح للأسرة المدينية بإنجاب طفل واحد وللفلاحين بإنجاب طفلين كحد أقصى إذا كان الأول أنثى، شجعت المتاجرة بالأطفال لا سيما الذكور. وتختلف أسعار الأطفال والفتيات تبعاً للمقاطعات لكنها تتراوح بين ألف و10 آلاف يوان 120 و1200 دولار.
http://www.islamtoday.netالمصدر:
=============(8/361)
(8/362)
تجارة البشر في عصر العولمة ( 2 / 2 )
أحمد أبو زيد
وكالات دولية للتجارة الملعونة:
وفي شرق آسيا أصبحت فيتنام وكمبوديا مصدرًا رئيساً لبيع أبناء الأسر الفقيرة إلى شبكات دولية وآسيوية تعمل في تجارة الرقيق الأبيض، وهي أسواق يلجأ إليها بصورة كبيرة الأزواج الأثرياء من الدول المجاورة مثل سنغافورة لتعويض حرمانهم من الأطفال، كما قد يلجأ إليها آخرون للبحث عن عمالة جديدة في تجارة الجنس.
وقد شهدت عمليات الاتجار بالأطفال في فيتنام زيادة كبيرة خلال الفترة الأخيرة، وقضت إحدى المحاكم هناك بالسجن لمدد تصل إلى عشرين عاما على تسعة أشخاص لاشتراكهم في عمليات تهريب الأطفال إلى الخارج.
وقال مسؤول قضائي: إن القضية تضم نحو مائتي طفل هربوا إلى الخارج خلال السنتين الماضيتين، بغرض الاتجار فيهم عن طريق عرضهم للتبني، وتضم عصابة الأطفال طبيباً وأحد العاملين بدور الأيتام وموظفاً بإدارة السكان بإقليم جيانج جنوب البلاد. وتؤكد الصحف العالمية أن عمليات الاتجار بالأطفال شهدت زيادة كبيرة في فيتنام خلال الفترة الأخيرة، إذ يباع معظمهم لمواطنين من أوروبا وأستراليا.
ومن الوكالات النشطة في تجارة تبنّي أطفال فيتنام وكالة "جود هومز فور ذا تشلدرين" السنغافورية، ومنذ خمس سنوات تستلم الوكالات كل عام من سنغافورة وحدها 700 طلب لتبني أطفال فيتناميين، وتقول تقارير صحفية: إن هناك شبكات أخرى تعمل على شراء الأطفال من الصين وإندونيسيا وحتى ماليزيا المجاورة لسنغافورة.
وبسبب انخفاض عدد الأطفال السنغافوريين المعروضين للتبني، ومع ارتفاع نسبة الإجهاض حيث سجلت 13 ألف حالة إجهاض في المستشفيات السنغافورية - بدأت تنشط وكالة "جود هومز" التي أُسّست في أكتوبر العام الماضي، بالاتفاق مع دور الأيتام في فيتنام، وهي تنظم رحلات لمن يريد اختيار "ابنه" الذي سيتبناه من بين أطفال دار الأيتام، وقد ينفق أحد السنغافوريين مبالغ كبيرة ليكون له "ابن" بعد طول انتظار من زواجه، وقد تتفاوت فترة البحث والاختيار والاستلام ما بين ستة أشهر إلى عام.
سماسرة للتسويق:
أما في كمبوديا فإن دور الأيتام تتحرك في القرى بين الفقراء لشراء الأطفال المولودين من أمهاتهم و"تصدير" الرقيق الناعم إلى الخارج. فسكّان قرية "تشيري كوانغ" التي تقع بالقرب من العاصمة بنوم بنة أكدوا أن "رابطة النساء والأيتام المهنية" تشتري أطفالاً من العائلات الفقيرة لتلبية حاجة شبكات أجنبية، وأنها كانت تبحث عنهم في الأقاليم النائية، ولكنها الآن تتحرك في القرى القريبة من العاصمة.
وقد تحدثت الأمهات الفقيرات اللاتي اضطررن لبيع أولادهن حديثي الولادة - للصحف العالمية - بعد أن عرضت عليهن مديرة الرابطة العجوز" تيتث فون " شراء الوليد ب100 دولار فقط، وقالت إحدى الأمهات: إنها بكت كثيرًا عندما باعت ابنتها لكنها كانت تأمل أن تعيش حياة أفضل في بيت غني "أجنبي".
وتختلف طريقة "تسويق" الأطفال الكمبوديين عن الفيتناميين بأن الرابطة المذكورة تشتري الطفل من أمه وتبيعه لمن تشاء، غير أن وكالة "جود هومز" السنغافورية تركز على الأطفال الأيتام، وتسهّل زيارة المتبني لفيتنام ليختار بنفسه مباشرة وقد يلتقي بأقارب اليتيم.
وتقول (هونغ ثا) - وهو اسم مستعار لأم باعت طفلتها -: إن زوجها قد مات ودمرت العواصف والأمطار كوخهم ولا قريب لها فبقيت بدون مأوى ولا مصدر للعيش، ومعها ولد وبنت فباعت البنت على أمل أن ترسل العائلة التي تتبنى ابنتها مبلغًا ماليًّا مجزيًا لها ولابنها، ولكن بعد أيام من بيعها إياها غيّرت رأيها وعادت لتحرر ابنتها لقاء مبلغ مالي؛ ولذلك لا تفضّل مديرة الرابطة شراء أطفال من قرى قريبة من العاصمة حتى لا تتكرر هذه الحالة.
وترفض الكثير من الأمهات بيع أبنائهن كما حصل مع "تشهيم فادي" التي رفضت بيع طفلتها التي لم تبلغ أربعة أشهر بسعر 100 دولار مع أنهم يعيشون في فقر شديد، وقالت للتي عرضت عليها ذلك بغضب:" نحن لسنا حيوانات ولا نحتمل أن نبيع أطفالنا، وحتى الحيوانات لا تقبل التخلي عن أطفالها "، لكن دور الأيتام تبحث عمن لا سبيل لهم في العيش، وفي حاجة لأي مبلغ مالي ويغرونهم بآمال بيع أبنائهم لأجانب يدفعون لهم أكثر من ال100 دولار التي يشترون بها الوليد من الأم، وهو السعر الذي حددته دار الأيتام.
وقد تأسست رابطة دار أيتام منذ عام 1997، وتنكر الرابطة شراء أطفال من أمهاتهن بغرض عرضهم لمن يتبناهم من الأجانب، مع اعتراف أرامل بذلك، وتقول "فون" مديرة الدار: إن كل الأطفال الذين لديهم ممن لا أب لهم ولا أم، أو إنه غير مرغوب فيه من قبل أمه بعد علاقة غير شرعية، وتحاول "فون" إخفاء عملية تبني الأطفال من الأجانب، وقد رفضت في حديث للصحف أن تكشف عن الدول التي "يُصدّر" لها الأطفال، لكن ممرضة سابقة في الدار اعترفت لمنظمة حقوق الإنسان التي تهتم بتهريب الرقيق الناعم بأن قريبات لها قد بعن أطفالهن للدار ب60 دولارًا فقط!.
وكالة سياتل الدولية للتبني:(8/363)
ومن بين المشترين للأطفال الكمبوديين وكالة " سياتل الدولية للتبني" التي قال مديرها: إن لجنة وزارية قد شُكّلت للتحقيق في أسلوب بيع الأطفال لهم، غير أنه لم ينكر المعلومات الواردة بشأن ذلك، كما أنكرت لورين غاليندو -الوسيطة في دار الأيتام - ما روته أمهات من قرى كمبودية، مع أنها تتعامل في توصيل الأطفال لوكالة "هاواي العالمية للطفل"، وهي وكالة دولية معروفة تعمل في معاملات تبني الأطفال منذ عام 1975، وقد أنكرت هذه الوكالة التي تعمل في كمبوديا منذ 3 سنوات وجود أية فضائح عن أسلوب غير سليم في إدخال الطفل إلى دور الأيتام.
وقد اعترفت وكالة سياتل: إن الطفل الكمبودي يكلف ما بين 11 - 13 ألف دولار لتوصيله لزوجين خارج الولايات المتحدة، تدفع منها 5500 لعملائها في كمبوديا، ولكن الوكالة لم تكشف عن تفاصيل تقسيم هذا المبلغ الذي يرسل إلى كمبوديا، غير أن مديرها أشار إلى أن سعر الطفل الكمبودي متفاوت، بينما تدفع وكالة هاواي لدار الأيتام 3500 دولار وتسلمه لزوجين مقابل مبلغ أكبر من ذلك بالطبع، لكن الطفل الآسيوي أقل كلفة من الأطفال من أوروبا الشرقية بشكل عام حسب أسعار وكالة سياتل!!.
وتقول زوجة أمريكية نشرت قصتها على الإنترنت: إنها وزوجها تراجعا عن قرار تبني طفل صيني بعد أن اكتشفا سرعة توصيل الطفل الكمبودي من وكالة سياتل!.
وتتحمل وزارة الشؤون الاجتماعية الكمبودية أمر تقنين عملية التبني وتجهيز أوراق الطفل الرسمية وتسفيره، وقد أنكر نائب مدير قسم رعاية الطفل فيها استلام موظفي الحكومة لمبالغ كبيرة تصل ل10 آلاف دولار كرسوم للمعاملة ورشاوى لكبار المسؤولين وصغارهم -حسب زعم الوكالات الأمريكية، وأنكر ما قاله أحد الأجانب المقيمين في كمبوديا الذين تبنوا طفلا كمبوديًّا، وما أكده نشط في مجال حقوق الإنسان، ولكنه أكد أن وزارته قد صادقت على تبني 381 طفلاً لأزواج أجانب العام الماضي، فيما منحت السفارة الأمريكية 240 تأشيرة لأطفال من مجموع هؤلاء، وأشارت السفارة الفرنسية إلى تلقيها عددًا متزايدًا من الطلبات في الأشهر الأخيرة.
أطفال الشيشان:
وفي الشيشان كشف المجاهدون الشيشان النقاب عن وجود عصابة دولية تولت المتاجرة بأطفال قاصرين من الشيشان وبيعهم في أسواق الدول الأوروبية والأميركية وغيرها، وقال السفير المتجول لحكومة الشيشان (بدر الدين بينو) في ندوة صحفية في عمان: إن أفراد العصابة الذين يحملون جنسيات عدة دول غربية استغلوا الظروف المأساوية التي يعيشها أبناء الشعب الشيشاني من جراء العدوان الروسي المتواصل على الشيشان وقاموا بنقل أطفال قاصرين من الشيشان إلى دول غربية بحجة رعايتهم ومن ثم القيام ببيعهم مقابل 15 ألف دولار للطفل الواحد. وأعلن أن لديه وثائق تثبت قيام العصابة ببيع ما يزيد عن 35 طفلاً شيشانياً خلال العام الحالي لعائلات في جنوب أفريقيا وعدة دول أوروبية وأميركية.
أطفال يحتجون:
وفي كولومبيا تظاهر آلاف الأطفال الكولومبيين في شوارع العاصمة بوجوتا للمطالبة بوقف عمليات خطف الأشخاص - ولاسيما صغار السن منهم - وقد سار ثلاثة آلاف صبي على الأقل إلى جانب آباء ودعاة سِلْم للاحتجاج بشكل خاص على الخطف الذي يمارس في حق الأطفال.
وظلت كولومبيا على مر سنوات عدةٍ مركزاً لخطف الأشخاص، وذلك بمعدل ثماني عمليات خطف يومياً.
وتُدر هذه العمليات على مرتكبيها أرباحا تقدر بملايين الدولارات سنويا، ويلجأ إليها على الخصوص الثوار الماركسيون للحصول على فِدْيات لتمويل الحرب التي يخوضونها منذ 36 عاماً على الحكومة المركزية.
وبعد أن صار الكولومبيون - ولاسيما الأثرياء منهم - يتخذون إجراءات مُحكمة لحماية أنفسهم، اتجه الخاطفون نحو القاصرين، وقد سجل العام الماضي رقماً قياسياً في خطف الأطفال إذ تجاوز عددهم مائتين من بين زهاء ثلاثة آلاف شخص تعرضوا للخطف.
وفي مارس الماضي أصيب الكولمبيون بالرعب لدى سماعهم بنبأ تعرض صبي يبلغ ست سنوات من العمر للقتل على يد خاطفيه؛ لأنه تعرف على هويتهم، وقد واصل الخاطفون طلب فدية عنه رغم مضي شهور على قتله.
ولمحاربة هذه الظاهرة تعكف الحكومة الكولومبية حالياً على صياغة قانون تُنزل بموجبه عقوبة لا تقل عن 25 عاما على كل من نفذ عملية خطف.
وفي بريطانيا تكثف الحكومة البريطانية جهودها للعثور على 28 شخصاً ممن وردت أسماؤهم في التقرير الذي أصدرته هيئة التحقيقات القضائية في قضية استغلال الأطفال في دور الطفولة في شمال ويلز، وقد خلص التقرير إلى أن أكثر من ستمائة وخمسين طفلا عانوا استغلالاً جسدياً وجنسياً خلال تواجدهم في دور رعاية الأطفال في السبعينات والثمانينات، وأن عشرة منهم حاولوا الانتحار، وهذه الفضيحة تعد واحدة من أسوأ الفضائح التي قد تقضي على فكرة دولة الرفاه في بريطانيا.
مؤتمر دولي لمكافحة الظاهرة:(8/364)
وقد بدأ المجتمع الغربي يدرك خطورة هذه الظاهرة التي تمثل أحد أشكال الرق والعبودية في العصر الحديث، فانعقد في العاصمة الفلبينية مانيلا منذ سنوات مؤتمر دولي يبحث إيجاد السبل الكفيلة بمكافحة الاتجار في النساء والأطفال في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
وقال المشاركون في المؤتمر: إنه في القارة الآسيوية وحدها يباع ويشترى نحو مائتين وخمسين ألف شخص سنوياً معظمهم من الأطفال والنساء والفتيات، حيث يرغمن على امتهان الدعارة أو أعمال الخدمة في المنازل أو السقاية في الحانات.
ماذا بعد..
إننا أمام مأساة حقيقية يعيشها ملايين الأطفال الفقراء على مستوى العالم والذين يسترقون ويباعون في أسواق الرقيق على أيدي عصابات دولية وشبكات ووكالات هدفها تحقيق الربح السريع والوفير من وراء هذه التجارة الخسيسة ولو على حساب حقوق البشر وحرياتهم، ويجب على المجتمع الدولي أن يتصدي لهذة النخاسة، ويتعقب عصاباتها وشبكاتها ويعتبرهم أخطر من مجرمي الحرب، حتى نحمي أطفال العالم من الوقوع في أيديهم.
ــــــــــــــــــــ
المراجع:
1 - تقارير وكالات الأنباء العالمية.
2 - مجلة الشريعة - العدد 401 - الأردن - عدد محرم 1420ه.
3 - مجلة الرابطة - العدد 424 - صفر 1421ه / مايو 2000م.
4 - شبكة " الإسلام علي الإنترنت " - 6يونيه 2000م.
5 - قناة محيط على الإنترنت - 11ابريل 2000م.
6 - موقع بي بي سي على الإنترنت - 6 مارس 2000م.
http://www. islamtoday. net المصدر:
============(8/365)
(8/366)
حملة صليبية وليست غزوة حضارية
السيد أبو داود
إذا كان الرئيس الأمريكي بوش قد خانه التعبير وقال في رده على ما حدث في واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر 2001م "إن هذه الحرب ستكون مختلفة عن كل الحروب.. إنها حرب صليبية على الإرهاب، فالإرهاب موجه ضد المسيحية واليهودية".
هذا الكلام فضح المسألة برمتها، وهو يفسر تمامًا تفكير وفعل الإدارة الأمريكية - مسنودة في الغالب بكثير من الدعم الأوروبي - في عملياتها ضد العالم الإسلامي في أفغانستان والعراق وباكستان وإيران وليبيا وفي تهديدها لمصر والسعودية والسودان واليمن.. إلخ.
والمشكلة في العقل الأوروبي ليست وليدة اليوم؛ بل هي ترجع إلى فترة الإمبراطورية الرومانية، فهذه الإمبراطورية تمثل مرجعية أساسية للتفكير الغربي.. ومعروف أنها كانت تسعى لفرض قيمها على العالم بالقوة والحرب، حيث كانت مؤمنة بأن العالم يجب أن يتبع قانونها الإمبراطوري.. والمؤرخون يؤكدون أن الإمبراطورية الرومانية حينما اعتنقت النصرانية طوعت الدين لخدمة أغراضها الإمبراطورية الإمبريالية التوسعية ولم تسع هي إلى ضبط تصرفاتها بالدين.. وأصبح هذا موروثًا في الفكر والممارسة الأوروبية والأمريكية على مر التاريخ.
وأصبح الغرب يدبرون الحروب التي يخوضونها ضد العالم لفرض هيمنتهم عليه بأنها "حرب عادلة".. والحرب العادلة هي التي تحقق أغراض وأهداف وخطط الغرب الصليبي.
وهكذا ظلت ازدواجية القيم أمراً ثابتاً في علاقة الغرب بالعالم فباسم الصليب شنت أوروبا النصرانية على العالم الإسلامي حروباً دامت مئتي سنة احتلت بلاده ومقدساته وذبحت أهله.
الاستعمار الحديث جزء من الحرب الصليبية:
كثير من المؤرخين والمثقفين العرب والمسلمين يرون أن الحروب الصليبية انتهت بتحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي وهذا فهم خاطئ بكل تأكيد.. لأن الحروب الصليبية اتخذت في الفكر الغربي مفهوماً جديداً بعد فك أسر لويس التاسع عشر من مصر وعودته إلى بلاده مرة أخرى.. حيث كتب أن التعامل مع العالم الإسلامي يجب أن يتغير ولا يأخذ شكل الحرب المباشرة ورفع الصليب.
ولذلك يعتبر كثير من المثقفين أن احتلال البلاد العربية والإسلامية سواء أكانت ليبيا 1811م أو الجزائر 1830م أو مصر 1881م أو تقسيم الدول العربية بين دول الإمبريالية الغربية في أعقاب الحرب العالمية الأولى والاستحواذ على خيراتها ومص ثرواتها وتعطيل تطورها وذرع الكيان الصهيوني على أرضها.. كل ذلك كانت حرباً صليبية أو مرحلة من مراحل الحرب الصليبية التي حافظت على تخلف العرب والمسلمين وأبقت الفجوة كبيرة وواسعة بين الطرفين تمنع النهضة الإسلامية التي تخيف الغرب الإمبريالي الاستعماري الصليبي وعلى رأسه أمريكا وبريطانيا.
بل إننا نقول إن حركة الكشوف الجغرافية التي أصابت الغرب في فترة من تاريخه لم تكن هدفاً بريئاً لاستكشاف العالم الجديد؛ بل كانت مرحلة من مراحل الحرب الصليبية للالتفاف حول العالم الإسلامي وتقطيع أطرافه واحتلال قلبه.
وفي أعقاب موجة الكشوف الجغرافية ظهر مفهوم غربي كاذب وهو مسؤولية الرجل الأبيض نحو تحضير العالم - كما يدعي الأمريكان اليوم الذين يقولون إن مسؤوليتنا تحضير الشعوب المتخلفة (ولو بالقوة) - وتغيير نظمها السياسية ومناهجها التعليمية.
وطبعاً الغرب يريد شماعة دائماً كي يعلق عليها أهدافه، ويخفي وراءها أغراضه الخبيثة، فوجدوا هذه الشماعة فيما يسمى "الإرهاب".. وهي كلمة معادلة في قاموسهم ل "الإسلام" تماماً..وجاء تصريح بوش بها كاشفاً لكثير من الخبايا والسياسات.
أفغانستان والعراق.. حملة صليبية جديدة:
ما حدث في أفغانستان واستباحة أمريكا - مؤيدة بالغرب - لكل المواثيق الدولية لضرب بلد آمن لم يفعل لها شيء.. كل ذلك كان في إطار سياسة الاستعلاء الإمبريالي الغربي الصليبي بزعامة بوش؛ فأمريكا بدون تحقيق ولا إدانة دولية توجه أصابع الاتهام إلى حكومة طالبان لإيوائها تنظيم القاعدة، فتحرق الأخضر واليابس وتقتل عشرات الآلاف من الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين وتهدم المساجد والمستشفيات والمدارس، بل وتضرب مواكب العرس والأفراح.
وكأن الغرض الأساسي هو محاربة المد الإسلامي في هذا البلد الفقير وإخافة كل المجتمعات الإسلامية بأن من يسلك سلوك أفغانستان وطالبان فسوف يكون مصيره الدمار والهلاك كما حدث في أفغانستان.
العجيب أن حجة "تحضير ومدنية " الدول المتخلفة التي تتحدث عنها أمريكا قد اختفت بعد أن تحققت الأهداف العدوانية، فالمرافق الأساسية تم تدميرها وإلى الآن لم يحصد الأفغان من الأمريكان إلا الخراب.. بل وزادت المخدرات بنسبة 19 ضعفاً عما كانت عليه أيام طالبان.
وما حدث في العراق كان أكبر وأبشع.. فهذه الدولة التي حققت في يوم من الأيام أعلى معدلات التنمية، أغرى الغرب رئيسها صدام حسين بغزو الكويت ودفعوه دفعاً إلى الخطأ، ثم حاصروه من 1991م وحتى 2003م حصاراً مات بسببه الولدان والشيوخ.. وضربوه باليورانيوم.. ولأنها حرب صليبية فقد غزوا العراق - بلا أي مبرر اللهم إلا النزعة الصليبية الإمبريالية.(8/367)
لماذا هذه الحملة الصليبية الجديدة؟
بعد أن انهار الاتحاد السوفيتي وانهارت معه الشيوعية ظهرت فكرة العولمة.. وتم تأصيلها فكريًّا وثقافيًّا عن طريق بعض الأعمال الثقافية مثل كتاب نهاية العالم لفوكوياما، وكتاب صدام الحضارات لصمويل هنتنجتون.. يقولان إن النظام الغربي وعلى رأسه النظام الأمريكي هو النظام الأفضل والأنجح ولابد أن يسود العالم بعد خوض صراع مع عدة قوى وعلى رأسها العالم الإسلامي.
وبدأ الغرب يروج لهذه المقولات وتركز الحديث عن الصراع الحتمي مع الإسلام أقصد مع "الإرهاب".. وكأنه لم يبق في العالم أية منظومة ثقافية أو حضارية أخرى غير الإسلام.. ونسي القوم أو تناسوا الثقافة الصينية والهندية والإفريقية واللاتينية.
ولأن مفكري الغرب يعلمون أن هوية الإسلام مستقلة لها سماتها وخصائصها في الجانب الفكري والثقافي والعقائدي؛ فقد ركزوا على ضرورة الاصطدام معه، وفرض الأفكار الغربية عليه، حتى ولو بالقوة.
وهكذا فإن الذين لا يقتنعون بمشروع العولمة الغربي الذي هو امتداد للإمبريالية والحملات الصليبية ليسوا سوى إرهابيين أصوليين.
إن رد الفعل الأمريكي على ما حدث في 11 سبتمبر 2001م ليس مجرد رد اعتبار أو انتقام، إنما هو نتيجة مخزون نفسي وفكري وثقافي قديم تبلورت في فترات زمنية بعيدة المدى.
مشكلة التواجد الإسلامي في الغرب:
يعتقد الغربيون أنه إذا أتيح للإسلام الريادة من جديد، فسوف يقوم أتباعه بنشر الإسلام في كل أنحاء أوروبا وأمريكا، ومن هنا يشعر الغرب بخطر الإسلام داخل بلدانهم.. ولذلك فهم يعملون دون كلل على محاصرة هذا المد الإسلامي قبل أن يقوى.. ولهذا أيضًا اتخذت حربهم ضد الإسلام - بخلاف الحملات الصليبية والتدخل المباشر - أشكالاً متنوعة من التنصير والماسونية والغزو الفكري.
ويظهر في الكتابات الغربية الآن من يقول بضرورة إعادة استعمار الشرق العربي ونشر المسيحية فيه خاصة وأن الغرب - وعلى رأسه الساسة والمفكرون - يزعجه ما يمثله العالم الإسلامي من استقلالية في الفكر والعقيدة والثقافة والانتماء والنهج السياسي والاقتصادي.
لكن ما يزعج في هذا المجال هو أن رجال الإعلام والسياسة في بلادنا قد صدقوا ما تروجه وسائل الإعلام الغربية من أن الغرب ليس في حالة عداء مع الإسلام أو الشعوب الإسلامية.. وإنما هو ضد التطرف والأصولية والحركات الإسلامية لأنها حركات "إرهابية".. وحينما يصدق القوم هذه الادعاءات يتنادون لضرب الحركات الإسلامية ويقعون في الفخ.
وتحاول أمريكا أن توهم المسلمين بأنها تخوض حربًا حضارية وليست حربًا دينية.. ونحن هنا نقول: إن كوبا وكوريا الشمالية من الخارجين على أمريكا.. فلماذا لا تظهر لهم السلاح وتحرك لهم الجيوش؟
لسبب واحد هو أن الحرب صليبية والجيوش لا تتحرك إلا لضرب واحتلال البلاد العربية والإسلامية.
http: //www.islamtoday.net المصدر:
=============(8/368)
(8/369)
الثقافة الإسلامية وعولمة الثقافة
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
العلاقة بين الثقافة الإسلامية والعولمة:
إن الله هو رب العالمين، والدين الذي ارتضاه للعالم هو الإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (1)، وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فأدى الرسول الكريم رسالة ربه، فخاطب العرب والعجم، بل دعا الثقلين، ثم أخبر من لا ينطق عن الهوى بأن دين هذه الأمة ظاهر، وأنه أكثر الأنبياء تبعاً.
فأمة الإسلام مبعوثة لتنقل ركناً ركيناً من أركان الثقافة إلى البشرية بل إلى العالم، فقد قال الله - تعالى - عن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم : (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين) (2) ومما قيل في معناها:"لينذر بهذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض"(3).
وقال - سبحانه -: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلاّ ذكر للعالمين) (4)، (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلاّ ذكر للعالمين) (5)، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (6)، وقال - سبحانه -: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) (7)، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (8).
وفي حديث الصحيحين: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) قال صلى الله عليه وسلم : (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) (9).
فاستجاب نبينا صلى الله عليه وسلم لأمر ربه وبدأ بدعوة قومه، فاستجابة له قلة وجمع من الضعفاء على استخفاء، أما الأقوياء والكبراء فقد فرحوا بما عندهم من العلم، (وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين) (10) فجاهروا بصريح العداء، وزعموا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معتقدات (راديكالية) بالية، لها جذور قديمة، لا أساس لها من الصحة (إن هذا إلاّ خلق الأولين) (11)، (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً) (12).
ولكن سنة الله في الأمم تمضي فما هي إلاّ سنوات قلائل حتى تغيرت الحال، ومما امتن الله به على عباده المؤمنين: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) (13).
وتنفيذاً لأمر الله لم يكتف صلى الله عليه وسلم ، بدعوة من بدأ بهم من عشيرته الأقربين، فدعى قومه ثم سائر العرب، بل خاطب الأمم والشعوب ممثلة في عظمائها، وكان من ثمرات ذلك إسلام بعضهم كالنجاشي بأرض الحبشة، وإقامة جسور للدعوة بأرض مصر عن طريق الاتصال بمقوقسها، أما كسرى فمزق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فمزق الله ملكه، وعظيم الروم آثر اتباع الهوى من بعد ما تبين له الحق.
ولأنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين لم يكتف بدعوة البشر بل دعا صلى الله عليه وسلم الجن أيضاً فانقسموا (فمن أسلم فؤلئك تحروا رشداً) (14)، (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) (15)، (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (16).
وقد تكفل الله بنشر دعوة الإسلام، فعن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها"(17)، فهذا وعد بقبول دعوة الإسلام وعالميتها، وفي حديث ابن عباس: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ورأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق فرجوت أن يكون أمتي فقيل هذا موسى وقومه، ثم قيل لي انظر فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق فقيل هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب) (18).
إن هذا الانتشار الواسع لأمة جاءت في ختام الأمم، لدليل يبين أن لديها من الخصائص والمميزات ما لا يوجد في سواها.
كما أن لسيادتها وظهورها في عصرها الأول عندما قام أهلها بها حق القيام، لدليل على صدق الوعد بظهورها في الآخرين على سائر الملل.(8/370)
فإذا سرنا على نفس الطريق تحقق الوعد الإلهي بظهور هذه الدعوة وقبولها على نطاق واسع، وإذا تأخرنا تأخر، وبشائر الحاضر بحمد الله حاضرة شاهدة، فعجلة الدعوة رغم النكوص والعراقيل والحواجز والسدود لم تتوقف وإن تباطأت، فدعوة الإسلام -بحمد الله- في اطراد مستمر، والناس يدخلون في دين الله يوماً بعد يوم، رغم ضعف الآلة الإعلامية والمقومات المادية الأخرى.
ومتى رجع المسلمون لسابق عهدهم وترسموا خطى سلفهم، ازدادت قوة دعوتهم، وانتشرت ثقافتهم واكتسحت، كما ظهر الصدر الأول وعلا في سنوات قلائل.
ومن البشائر أيضاً أنه ليس ثمة مكان - بحمد الله- في أرض الله يخلو من مسلم، وهذا يدل على مواءمة دعوة الإسلام وثقافته لكافة المجتمعات، وعلاجها لظروف أي زمان ومكان، وليس هذا تنظيراً علمياً بل هو واقع عملي.
وليس معنى هذا أن دعوة الإسلام خاضعة للتشكل كالطين أو العجين، يلعب به الصبيان فيصورونه كيف شاءوا، ولكن المراد بيان أن في شريعة الله علاجاً لكافة أوضاع البشر أين كانوا وأيان وجدوا، وأن من تمسك بها فهو موعود بالحياة الطيبة، وكل المطلوب ممن أرادها هو أن ينهل من المعين الصافي الذي نهل منه الصدر الأول، دون أن يحاول تغيير مجراه، أو تحسين محتواه، فالذي وضعه عليم خبير، والذي أداه حريص أمين.
فالواجب أن نؤدي ما علينا من تبليغ دعوة الله، فنأخذ بالأسباب المادية ونضع الخطط والبرامج الاستراتيجية، والله قد كفل القبول والعالمية.
أما ما يرد إلينا من علوم وثقافات وافدة، فإن فيها حقاً وخيراً، وهذا يقبل ممن جاء به، كما أن فيها باطلاً وشراً، وهذا يرد على من جاء به، وهو غالب ما يرد، والمطلوب أن لا نخضع شريعتنا ونلويها حتى توافق ما وفد، وإنما نُحكِّمها فيما يرد، ونرضى بحكمها، ثم لا نجد حرجاً فيما قضت، ونوقن بأنه الخير والحق.
إن في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي عمل الصدر الأول تقرير لهذا المنهج، فقد نقل أهل السير لنا استفادته صلى الله عليه وسلم من ثقافة الفرس يوم حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي - رضي الله عنه -، وقد لبس صلى الله عليه وسلم جبة من صوف رومية، وعرف الإستبرق وأصله أعجمي، وأطلقوا على الجمال طويلة العنق ما كان يطلقه العجم فقالوا بختي وبختية، ورمى الصحابة بالمنجنيق وهي فارسية، واستعملوا سيوف الهند، وعرفوا الصولجان، وقرأوا المجال - مفرد مجلة - وهي وافدة، وأقر نبينا صلى الله عليه وسلم الدركلة ضرب من لعب الحبشة حتى جاء في الأثر: (خدوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة) (19).
وبالمقابل نبذ الصدر الأول ثقافات وعادات وافدة، ومنها اللعب (بالإسبرنج) وهي الفرس التي في الشطرنج، وعرفوا الشطرنج وما فيه من بياذق أو بيادق وكلها فارسية، وجاء في الأثر: (من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه) (20)، وعرفوا لعبة السُّدُّر - نوع من القمار - وأنكروها، وعرفوا السمسرة من فارس وتكلموا فيها.
و لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما هذا؟) قال: يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك.
قال: (فلا تفعل) (21).
بل أكثر من ذلك كان عندهم نوع استقراء وتحليل للثقافة الوافدة، فقد تصوروا بعضها، وحكموا عليها - حكماً خاصاً - قبل أن تفد، ومن ذلك ما جاء في البخاري: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة - رضي الله عنهما - أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: (أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) (22).
فينبغي للمسلمين أن يعدوا الدراسات ويقيموا الثقافات من حولهم، حتى يميزوا بين حقها وباطلها وفقاً لضوابط الشرع، فيقبلوا ما فيها من خير، ويحصنوا المجتمعات ضد ما فيها من شر، وأول ذلك يكون بتقرير الثقافة الإسلامية في نفوس ذويها، وترسيخ مفاهيمها وبيان محاسنها قبل دعوة الآخرين إليها.
ــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران: 85.
2 سورة يس: 70-71.
3 تفسير ابن كثير 3/581.
4 سورة ص: 87.
5 سورة يوسف: 104.
6 سورة الأنبياء: 107.
7 سورة الفرقان: 1.
8 سورة سبأ: 28.
9 حديث جابر رواه البخاري 1/128، ومسلم 1/370.
10 سورة سبأ: 35.
11 سورة الشعراء: 137.
12 سورة الفرقان: 5.
13 سورة الأنفال: 26.
14 سورة الجن: 14.
15 سورة الجن: 1-2.
16 سورة الأحقاف 29-32.
17 صحيح مسلم 4/2215.
18 صحيح البخاري 5/2170.(8/371)
19 انظر زوائد الهيثمي، مسند الحارث 2/826، والصحيحة 4/443 رقم (1829)، وقد أعلها أبو حاتم كما في العلل لابن أبي حاتم 2/297، ولكن جاء بمعناه عند الإمام أحمد 6/116: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ:"لتعلم زفر أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة"، قال ابن كثير (التفسير 2/199):"أصل الحديث مخرج في الصحيحين والزيادة لها شواهد من طرق عدة".
20 حديث بريدة بن الحصيب في صحيح مسلم 4/1770، ورواه غيره.
21 رواه ابن حبان في صحيحه 9/479، والحاكم في مستدركه 4/190، وروى نحوه أبو داود في السنن 2/244، وابن ماجة 1/595، ومسند أحمد 4/381، ورواه غيرهم وقد صححه الألباني في الإرواء 7/55-56 وأدب الزفاف 178 والصحيحة 1203 وغيرها.
22 صحيح البخاري 1/450، ومسلم 1/376، ورواه غيرهما.
http://www.almoslim.net المصدر:
============(8/372)
(8/373)
العولمة والسنن
أ. د.ناصر بن سليمان العمر
كان الناس في عصرهم الأول نموذجاً مثالياً لعولمة حضارية، وحدة على مستوى البشرية جمعاء؛ فكرية ثقافية، سياسية، اقتصادية، وكان ذلك وفقاً لمنهج الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ثم جاءت الأذواق والأهواء بعجرها وبجرها، فحاولت جبابرة القرون - جيلاً بعد جيل- رفض الكتاب الذي أنزل ليقوم الناس بالقسط، موظفةً الحديد والنار في محاولات شتى لفرض أضرب من"العولمة"، بل لفرض نفوسهم ونفوذهم على العالمين"كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم"(1)،"وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون"(2).
إن إرادة الله الكونية اقتضت وجود الخلق، ومشيئته الشرعية اقتضت توحدهم على منهج الحق كما قال- سبحانه-:"يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون"(3) ولكن خالفت الإرادة الكونية المشيئة الشرعية"فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون"(4)، أي: يفرحون بما هم فيه من الضلال؛ لأنهم يحسبون أنهم مهتدون (5).فاقتضت حكمته - سبحانه وتعالى - وجود الخير والشر في هذا الكون "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"(6)،"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين"(7)،"هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير"(8)، "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن ُيدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ"(9).
وكما اقتضت حكمته وجود الخير والشر، جرت سنته بدوام التدافع بينهما، فقد جعل الله الأيام دولاً" ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين"(10)،"... ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز"(11)،"وتلك الأيام نداولها بين الناس"(12).
غير أن العاقبة للتقوى، فصاحب الحق يجب عليه أن يستعين بالله ويصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين" (13).
فالناس من حيث المآل فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، وعلى الأعراف فريق ثالث مآله إما إلى جنة أو إلى نار، فالمحصلة فريقان.
أما في الدنيا فصراع أهل الحق مع أهل الباطل مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يرسل الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى في أرض الله من يقول: الله الله، وعندها تقوم الساعة على شرار خلق الله.
كما أن أهل الباطل طوائف مختلفة ولكن مآلها واحد، تجمعهم أهواء وأهداف مصالحهم الضيقة، فيتداعون لحرب من يعارضهم من أهل الحق، كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - "توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تدعى الأكلة على قصعتها"، ولكن هم مع ذلك طرائق قدداً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.
ولما كان الناس كذلك، فقد راعت شريعة الإسلام العالمية هذه السنة الكونية، فجاءت تشريعات الإسلام معتبرة للفروق بين ما يجب التفريق فيه كالأديان، فأصحابها بين متبع للباطل ومتبع للحق، فهم متباينون، ومن الجور التسوية بين المتباينين، ولا يمكن أن يسمى هذا عدلاً.
وجاءت كذلك ملغية للتفرقة فيما تلزم المساواة فيه، كالتفريق بين الناس على أساس الأعراق بينما هم كلهم لآدم وآدم من تراب.
أما النظام العالمي الأمريكي فله حقيقة ودعوى تجاه هذه المسألة:
أما حقيقته، فهي فرض للهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة الأقوى،على كافة الشعوب والمجتمعات، وهو شكل جديد من أشكال الاستعمار كما سبق، وقد اعترف بنحو هذا بعض الأمريكيين كالكاتب الصحفي (توماس فريدمان).
أما دعواه فهي زعم أن النظام العالمي الجديد قائم على عدم التفريق بين الناس على أي أساس، سواءً أكان ديناً أو عرقاً، رجلاً أو امرأة أو غير ذلك، فلا فرق البتة، ولست هنا في مقام مناقشة تفصيلية لهذه الفكرة.
ولكن يكفي القول بأن العدل هو التسوية بين المتساويين والتفريق بين المختلفين، وإن إلزام المختلفين بفعل واحد أو سلوك طريق بعينه سيكون مجحفاً في حق بعضهم.(8/374)
كما أن اعتبار الفروق لامناص منه، والواقع التطبيقي العملي الفعلي اضطر هؤلاء لاعتبار بعض الفروق، فعلى سبيل المثال، لماذا يمنع غير الأمريكي مثلاً من الترشح لحكم أمريكا؟ أليست المساواة تقتضي جواز ترشح أي إنسان، سواء جاء من إحدى الولايات أو جاء من إحدى القارات؟ كذلك لماذا يمنع من كان دون سن معينة من الترشح؟ ومع ذلك لم نر أحداً خرج يطالب بحقوق الشباب! إذن فلابد من ضوابط ومحددات، وهذه المحدادات هو ما يرفض العالم أن تكون أمريكا هي صانعتها، وبخاصة في بلداننا.
وأخيراً أشير إلى فشل هذا النظام في إلغاء هذه الفوارق حتى بين مصدريه من أبناء الملة الواحدة، فهذه بريطانيا تعيش ردحاً من الزمن أزمة سياسية ثقافية اجتماعية عجزت أن توحد فيها بين رؤى الجيش الأيرلندي الكاثوليكي الذي يسعى للانفصال، وبين الوحدويين البروتستانت، ومازلنا نسمع بين الفينة والأخرى نبأ انفجار عبوة وضعها متطرفون بروتستانت، أو مقتل بروتستانتي برصاص كاثوليكي أو اشتباكات بين كاثوليك وبروتستانت، كل ذلك في الدولة التي تعد الحليف الأول لراعية العولمة الجديدة!
وقل مثل ذلك عن الجيش الأحمر الياباني الوثني، وجيش التحرير الكوبي الشيوعي.
وكم من مرشح غربي فاز في الانتخابات العامة بسبب برنامجه الاقتصادي الإصلاحي!
وبعد ذلك يريد النظام العالمي الجديد أن يقنعنا بإمكانية إلغاء سنة كونية لن تنتهي إلاّ بنهاية هذه الدنيا.
ــــــــــــــ
1سورة البقرة: 213.
2سورة يونس: 19.
3سورة المؤمنون: 51.
4سورة المؤمنون: 53.
5تفسير ابن كثير 3/248.
6سورة يونس: 99.
7سورة هود: 119.
8سورة التغابن: 2.
9سورة الشورى: 7-8.
10سورة البقرة: 251.
11سورة الحج: 40.
12سورة آل عمران: 140.
13سورة الأنبياء: 105-107.
http://www.almoslim.net المصدر:
============(8/375)
(8/376)
من أنماط العولمة الاقتصادية
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
يتحدث الناس عن مجالات مختلفة للعولمة، منها: الاقتصادي، ومنها الثقافي، ومنها الإعلامي، ومنها السياسي، ومنها العسكري، وغير ذلك.
وهذه المجالات متداخلة فيما بينها، يصعب فصلها، غير أن الثلاثة الأولى هي مفاتيح أنماط العولمة الأخرى وأهم آلاتها، فالاقتصاد والثقافة والإعلام، هي التي تصنع المجتمعات، فالسياسات وما يتبعها، فلهذا ولأن تفصيل الحديث عن أنماط العولمة المختلفة يحتاج إلى جهد وبسط ربما طال أمده، أكتفي في هذه الدراسة بالإشارة إلى الأنماط أو المجالات الرئيسة للعولمة.
أولاً العولمة الاقتصادية:
الأسئلة التي سبق طرحها يعاد طرحها مرة أخرى لفهم المشكلة الاقتصادية، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة، فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة؟ من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟
ولأن هذا نزر يسير من الأسئلة والإشكالات، فلا عجب أن تشهد (براغ) عنفاً لم تشهد مثله منذ قرون! فقد انقلبت العاصمة التشيكية في سبتمبر من عام ألفين رأساً على عقب، ففي اليوم السادس والعشرين تلقى عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من خلال شبكة الإنترنت رسالة تحدد موعداً للقيام بتحرك في مدينة (براغ) التشيكية، وتطالب الرسالة أولئك الذين تلقوها بالحضور في الموعد المحدد من أجل المساهمة في التظاهر ضد العولمة والرأسمالية العالمية؛ للاحتجاج على الشركات والمؤسسات الكبرى التي أصبحت تتحكم بمصائر العالم من خلال تزايد نفوذها أكثر فأكثر وما يتبع ذلك من آثار مأساوية على العديد من شعوب العالم، وخاصة الفقيرة منها المستثناة عملياً من دورة المناقصة التجارية،
وقد تم اختيار الموعد على ضوء انعقاد المؤتمر السنوي لصندوق النقد والبنك الدوليين في مدينة (براغ) نفسها، ومما يلفت النظر أن الدعوة وجهت خطاباً خاصاً لمن سبق له التظاهر ضد العولمة في (سياتل) و(ملبورن) و(لندن).
ويرى بعض الغربيين: أن العولمة الرأسمالية والحركات النقابية والعمالية والاجتماعية المضادة لها سيكون بينهما صراع كبير في القرن الحادي والعشرين، وقد ابتدأ بالفعل هذا الصراع في مطلع القرن الحادي والعشرين في مدينة (سياتل) بأمريكا -معقل فكرة العولمة- عام (1999م)، فمؤتمر (سياتل) الذي اجتمعت فيه معظم الحركات والمنظمات المضادة للعولمة استطاع أن يكشف مؤتمر التجارة العالمية الذي يضم قادة العالم الرأسمالي(1).
إذن فمناهضة العولمة حركة عالمية لا تخضع لأيديولوجية معينة بمعنى أنها ليست محصورة في إيديولوجيا كالماركسية مثلاً، وهذا ما كان يحصل للحركات النقابية العمالية سابقاً، بل هي حركة تتجاوز القوميات والأقطار، وتعمل لصالح العمال والفلاحين والمضطهدين في شتى أنحاء العالم، كما يزعم أنصارها.
وهدف هذا الطيف المتباين، وهو: محاربة الليبرالية أو الرأسمالية الجديدة، بل قل العالمية الجديدة، التي تريد أن تلغي الآخر وتحكم للأقوى بالسيادة والبقاء، ولذا يرى كثير ممن لا تجمعهم أيديولوجية أن العولمة آفة متوحشة تحتقر الإنسان والفقراء والمهمشين والعاطلين عن العمل، سواء كان ذلك على نطاق الدول الرأسمالية ذاتها أو على نطاق دول العالم الثالث، فإنها تؤدي إلى كم من المآسي في نهاية المطاف.
وهذه الحركة الجديدة المضادة للعولمة الرأسمالية ليست أحادية الجانب وليست متفقة بالضرورة على كل شيء، بل كما يقول بعض دعاتها:"إنها ليست حزباً نمطياً ببغائياً يقول نفس الشيء عن كل شيء على الطريقة الشيوعية السابقة، ومن يتأمل حالها يجد فيها كل الاتجاهات: من أحزاب الخضر المدافعة عن البيئة إلى الأحزاب الاشتراكية، فالحركات السلمية فالحركات الإنسانية، فحركات تحرر المرأة، وغيرها"(2).
بعضها يتعاون فيما بينه، وبعضها يعمل مستقلاً لتحقيق نفس الهدف، وكما أن الأيديولوجيات المناهضة للعولمة مختلفة، فإن الاستراتيجيات التي اعتمدتها الجهات المناضلة مختلفة، فبعضهم يتبع استراتيجية عنيفة إلى حد ما، كما فعل النقابيون الفرنسيون الذين هجموا على المطاعم الأميركية في بعض مناطق فرنسا، وكان ذلك بقيادة (جوزيه بوفيه) ليصبح بذلك المناضل المعروف في الوقت الحاضر!
ومن الطريف أن الرجل عندما قدم للمحاكمة في شهر يونيو من عام ألفين بتهمة تخريبه لأحد مطاعم (مكدونالدز) تجمع في فرنسا نحواً من 40 ألف شخص للاحتجاج على تقديمه للمحاكمة.
فقد كان هدفه وهدف من معه ظاهراً بالنسبة لهم، وهو لفت الأنظار إلى خطورة الأغذية الصناعية، والدفاع عن الأغذية الطبيعية أو الصحية، وهو هدف مشروع في وقت لا تبالي فيه الرأسمالية العالمية بتسميم اللحوم، وتشكيل خطر حقيقي على الصحة العامة، ومن براهين ذلك عندهم قضية البقرة المجنونة وقضايا أخرى مشابهة، فالرأسماليون من شدة حرصهم على الربح بأسرع وقت ممكن وبأكبر قدر ممكن لا يتورعون عن تقديم اللحوم المطحونة كغذاء للحيوانات بدلاً من العلف النباتي!(8/377)
وقد قال توماس فريدمان معلقاً على مظاهرات سياتل، كلمة يصح لمتظاهري (بوفيه) قولها، قال:"لقد كان لمظاهرات سياتل جانبها الأحمق، لكن ما أراد المحتجون الجادون طرحه هناك كان:"يا أميركا، إنك الآن تؤثرين على حياتي بشكل يفوق تأثير ما تفعله حكومتي. إنك تؤثرين علي بنفس أسلوب تغلغل ثقافتك في ثقافتي، وبنفس أسلوب تسريع تقنياتك لتغيير جميع مناحي حياتي، وبنفس الأسلوب الذي فرضته إجراءاتك الاقتصادية علي، إنني أريد أن أدلي برأيي في كيفية فرضك لقوتك؛ لأنها الآن باتت قوة تشكل حياتي".
عوداً على بدء، فما اتبعه (جوزيه بوفيه) استراتيجية، وبعض المناهضين للعولمة قد يلجأ إلى استراتيجية أخرى أشد، ومن هؤلاء أولئك الذين جعلوا برجي التجارة العالمية أثراً بعد عين.
ومنهم من يكتفي بمسيرات يحشد لها مئات الآلاف كتلك التي خرجت في بوليفيا عام ألفين بمناسبة خصخصة شركة المياه.
إن هذا الاعتراض العالمي على ما يسمى بالعولمة الأمريكية هو الذي حدى بتوماس فريدمان للتساؤل: لماذا لم تتهيأ الأمم عسكرياً ضد الولايات المتحدة؟
قال:"يجيب مايكل ماندلباوم، مؤلف كتاب (الأفكار التي غزت العالم) قائلاً:"تطرح واحدة من أبرز مدارس العلاقات الدولية -مدرسة الواقعيين- أنه متى ما برزت قوة مهيمنة، كأميركا في النظام العالمي، فإن دولاً أخرى ستحشد جهودها بشكل طبيعي ضد هذه القوة، لكن ولأن العالم يدرك بشكل أساسي أن هيمنة أميركا (سلمية)، فان عملية التصدي لها لا تتخذ شكل العمليات الحربية، وبدلاً من ذلك، تصبح مسعى لكبح جماحها، باللجوء إلى قواعد منظمة التجارة العالمية أو الأمم المتحدة، وبقيامها بذلك فإنها تطالب باستخدام حق النقض (الفيتو) فيما يتعلق بكيفية تفعيل قوة أميركا".
وهناك أيضاً سبب آخر لرد الفعل غير العسكري، وهو: أن بروز أميركا كقوة مهولة حدث خلال عصر العولمة، حيث باتت الاقتصاديات متشابكة للغاية، إلى حد أن الصين وروسيا وفرنسا، أو أي تجمع منافس آخر لا يمكنه إلحاق الأذى بالولايات المتحدة بدون إصابة اقتصادياته بضرر ما.
ثم ذكر أن الناس الوحيدين الذين بإمكانهم إلحاق الضرر العسكري هم من ليست لهم أي مصالح مع النظام الدولي، ومثل بأسامة بن لادن.
وأضيف سبباً آخر على ما ذكراه، وهو أن أصحاب القرار والنفوذ والأموال في العالم ليس من مصلحتهم حرب العولمة، وهؤلاء هم القطاع المؤثر الحقيقي بصورة مباشرة أو غير مباشرة في قرارات الدول.
فإذا كانت المعارضة للعولمة حدت بطرح هذا التساؤل، وهذه الآراء في الدول الغربية لكون الفارض والمسيطر دولة أخرى، فإن ما يسمى بدول العالم الثالث أشد معارضة لهذا النظام، والإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص، فكيف تخضع هذه الأمم لغير الشرائع الإلهية أو الأحكام الدينية، ثم إن الدراسات الاقتصادية أو التجارية والإحصائية والاجتماعية المبنية على مصلحة مجتمع ما، ليس من العدالة فرضها على المجتمعات الأخرى.
ــــــــــــــــــــ
1 (العولمة والحركات الاجتماعية والأمميات الجديدة) لبيتر وتر مان.
2 بيتر وترمان في كتابه (العولمة والحركات الاجتماعية والأمميات الجديدة).
http://www.almoslim.netالمصدر:
==============(8/378)
(8/379)
صونوا السفينة قبل أن تغرق! ( 1 )
جرت عادة العقلاء، على أخذ الحيطة والحذر من كل ما يخافون خطره على أنفسهم، وأموالهم وأسرهم وكل ما يمت إليهم بصلة من مصالحهم.
فتجد أهل الأموال يحرصون على إيداع أموالهم في البنوك التي يأمنونها على تلك الأموال، وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بـ"الحرز" الذي يعد شرطا من شروط إقامة الحد على السارق.
وتجد المحاربين يبنون القلاع، ويحفرون الخنادق لحماية أنفسهم من هجوم أعدائهم، لمقاتلين.
وتجد السكان في المدن والقرى والبوادي، يحرصون على اتخاذ ما يستطيعون من حماية أنفسهم وأموالهم وأسرهم، من المغيرين والوحوش، وعلى حيواناتهم من الذئاب.. فيبنون البيوت، ويتخذون لها الأبواب المناسبة، ويوظفون الحراس، من البشر ومن الكلاب.... وتجد شركات المواصلات تحاول اتخاذ أقصى ما تستطيع من الوسائل التي تمكنها من إتقان صنعة مواصلاتها، بحيث يأمن المسافرون في أسفارهم على تلك المواصلات، سواء كانت سيارات، أو طائرات، أو قطارات، أو بواخر، بل حيوانات النقل، كالإبل والخيل والبغال والحمير... يجتهدون في تغذيتها وتدريبها على السير البعيد وحمل الأثقال..
وتجد الحكومات والدول تجتهد في اتخاذ الوسائل التي تحمي بها بلدانها مما يخل بأمنها الداخلي الخارجي:
فتتخذ لأمنها الداخلي جهاز الشرطة والمرور، وأجهزة المباحث المتنوعة المدربة على كل وسيلة تمكنها من التصدي للمجرمين-حسب مفهومها-فتبني لهم السجون وتعد المعتقلات، وتحضر لذلك كل وسيلة من وسائل التعذيب والقمع...
وتتخذ لحماية أمنها الخارجي إعداد الاستخبارات المتنوعة، والجيوش المدربة على أعلى ما تتمكن منه من التدريب، لجيوشها البرية والبحرية والجوية -ولكل فرقة من الفرق المتخصصة تدريبها الدقيق في تخصصها-وتوفير السلاح وما يتبعه من وسائل ...
كما تعد لحماية زعمائها حرسهم الخاص الذي توفر له من السلاح والتدريب، ما لا يتوفر لغيره...
وتعد لحماية عقول أبنائها من الأفكار والمبادئ التي تعتبرها خطرا عليها، المؤسسات التعليمية بمناهجها وكتبها وأساتذتها، والمناهج الإعلامية، لحماية تلك العقول من أفكار إعلام الأعداء الموجه إليها.
كأني بالقارئ هنا يقول: تلك أسباب ووسائل معروفة يتخذها الأفراد والأسر والجماعات والأحزاب والشركات والحكومات، كل منها يتخذ ما يراه مناسبا لمصلحته، ولا شك أن اتخاذ الأسباب والوسائل لحماية المصالح أمر مطلوب.
ولكن ماذا تريد أن تقول؟
ولم لم تدخل في صلب الموضوع؟
ومن تخاطب في عنوانك؟
وأي سفينة تريد؟
وما نوع الصيانة التي تدعو إليها؟
وفي أي بحر تخشى أن تغرق تلك السفينة؟
أخاطب جميع المسلمين في الأرض: حكاما ومحكومين، وكافة العلماء والمتخصصين في علوم الشريعة أو غيرها من العلوم البشرية والكونية، وأعيان البلدان الإسلامية، من زعماء القبائل وقادة الجيش، ومسئولي التعليم والإعلام، والتجار والأغنياء، والمنظمات النقابية جميعها... والخلاصة جميع "أهل الحل والعقد" في بلدان المسلمين.
أما السفينة التي أقصدها، فهي سفينة حياة المسلمين في الأرض كلها، سفينتهم التي لها أرض وسماء، ويابسة وأنهار وبحار، ومقدسات في بلدان الوحي والرسل، ومساجد...
ولها قيادة وأعوان ووقود، وبها مرافق من الغذاء والدواء والكساء والمسكن، ومؤسسات تعليمية، ومؤسسات إعلامية، ومؤسسات اقتصادية، ومؤسسات عسكرية، ومؤسسات اجتماعية.... وأساس تلك المرافق والمؤسسات كلها هو الدين الذي نزل به القرآن وفصلته سنة الرسو صلى الله عليه وسلم .
كما أن بتلك السفينة ضرورات حياة، فرض الله على المسلمين كلهم حفظها، ولا حياة لهم بدون حفظها، وهي: "دينهم، ونسلهم وأعراضهم، ونفوسهم، وعقولهم، وأموالهم"
وفي السفينة الصحيح السليم، والمريض السقيم، والشجاع الجسور، والجبان غير الصبور، وفيها المؤمن القوي الإيمان، الملتزم بمنهج الإسلام وطاعة الرحمن، وفيها قليل الدين ضعيف الإيمان، غلبه هواه وشهواته وعدوه الشيطان، وكلهم مأمورون بالتعاون على البر والتقوى، ومنهيون عن المعاصي والتعاون على الإثم والعدوان.
أما الصيانة التي أريد من ركاب السفينة اتخاذها للمحافظة عليها من الغرق، فألخصها في الأمور الآتية:
الأمر الأول: الاتفاق على منهج الرحلة الذي يضمن لهم النجاة والفوز والأفراح، ويقيهم الهلاك والخسران والأتراح.
هذا المنهج هو صراط الله المستقيم، غير المغضوب عليهم والضالين: ((اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) المنهج الذي أرسل الله به رسوله الكريم، وأنزل عليه به كتابه العظيم، وضمن لأهله الفلاح المبين، فقال: (( قد أفلح المؤمنون)) و ((أولئك على هدى من ربهم وألئك هم المفلحون))
الأمر الثاني: الاعتصام بحبل الله المتين، والأخوة الصادقة بين عباده المؤمنين: ((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون)) [آل عمران: (103)](8/380)
وسأفرد لهذا الأمر حلقة خاصة بإذن الله تلي هذه الحلقة، لأنه هو المقصود في هذه المرحلة من مراحل الأمة الإسلامية.
الأمر الثالث: تقوية الإيمان والعمل الصالح، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، وهو من أهم أبواب هذا الدين: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون)) [آل عمران: (110)]
الأمر الرابع: العلم اليقين أن أعداء هذه السفينة، يسعون جادين لإغراقها أو تعطيلها، حتى لا ترسوا على شاطئ الأمان، وهذا العلم من أهم ما يحفز أهل السفينة على صيانتها والدفاع عنها، وإذا فرطوا في ذلك فهم معرضون للهلاك واستبدال الله بهم غيرهم ممن يحمون حوزة الإسلام: ((يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) [البقرة: (217)]
((ياأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)) [المائدة: (54)]
((إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير)) [التوبة: (39)]
((هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)) [سورة محمد: (38)]
الأمر الخامس: الوقوف صفا واحدا ضد من يريد إغراق هذه السفينة، من أعداء هذا الدين: ((إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)) [الصف:(4)]
((يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)) [التوبة: (38)]
الأمر السادس: طلب العزة من الله وحده، فهو صاحبها، وهو واهبها، ولا قدرة لغيره على منحها، مهما عظمت قوته في الأرض، فردا كان أو جماعة أو حكومة، فالقوة لله والعزة لله لا لغيره:
((الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا)) [النساء: (139)]
((ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم)) [يونس: (65)]
((من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور)) [فاطر: (10)]
((سبحان ربك رب العزة عما يصفون)) [الصافات: (180)]
((يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)) [المنافقون: (8)]
((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير)) [آل عمران: (26)]
وأما البحر الذي أخشى أنت تغرق فيه السفينة، فهو بحر الخسران والذلة والمهانة، والعبودية لغير الله، فيفقد بذلك ركاب السفينة العزة التي يظنون أنهم قد ينالونها من غيره سبحانه:
((والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر))
((فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)) [المائدة: (52)]
((مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)) [الفتح: (41)]
ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)) [آل عمران: (149)]
((ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين)) [آل عمران (100)]
((ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)) [آل عمران: (149)]
وإنه لمؤسف كل الأسف أن تغفل الأمة الإسلامية-حكاما ومحكومين-عن هذا الكتاب العزيز الذي يهدي الضال، ويوقظ النائم، وينبه الغافل، ويرفع الراية للسالكين، مبينا لهم معالم طريقهم التي لا يمكن أن يعبروها بدون تلك المعالم.
وللحديث صلة في الحلقة القادمة بإذن الله.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
==============(8/381)
(8/382)
صونوا السفينة قبل أن تغرق (2)
سفينتكم إرهابية (2)
http://www.eslah.o r g/ubb/Fo r um1/HTML/000463.html
لقد آلت أمريكا على نفسها أن تقضي على الإرهاب والإرهابيين في كل مكان في العالم.
ومعنى الإرهاب لدى أمريكا: كل ما يخالف مخططاتها الاستبداية الاستعمارية في العالم.
وسفينتنا التي بها نجاتنا نحن المسلمين، وهي دين الإسلام، هي الغاية الأولى من حملة أمريكا الإرهابية.
فالإسلام الحق الذي لا ترضى أمريكا له البقاء كما أرد الله له أن يبقى في الأرض، هو الإرهاب بعينه، والذين يتمسكون به ويدعون إليه ويريدون تطبيقه في حياتهم، هم عين الإرهابيين.
والمدن والقرى، والجبال والسهول، والنجود والوهاد، والوديان والشعاب، التي تؤوي الإسلام الذي يتخذه سكانها منهجا لحياتهم، هي مواطن إرهاب يجب تدميرها والقضاء على أهلها.
والشعب الذي يعتدي عليه المعتدون من قوى الظلم والطغيان، فيحتلونه ويطردون أهله، ويخربون بيوتهم، ويفسدون مرافقهم، ويدنسون مقدساتهم، وينتهكون أعراضهم، هو شعب إرهابي يجب أن يباد ويشرد في الأرض.
والدول التي تصر على تطبيق الإسلام المخالف لمنهج أمريكا، هي دول إرهابية.
الجماعات والأحزاب الإسلامية التي تصر على جعل الإسلام منهج نشاطها، هي جماعات وأحزاب إرهابية يجب استئصالها.
المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية التي لا ترضي عن مناهجها ومسؤوليها وأساتذتها، هي مؤسسات إرهابية يجب أن تزول هي ومؤسسوها.
والجمعيات الخيرية الإسلامية التي تجمع المال وتغيث به الجوعى، وتروي به العطشى، وتداوي به المرضى، وتؤوي به المشردين، وتكسو به العريانين، هي جماعات إرهابية لا بد من مضايقتها والحجر على نشاطها.
والحسابات المالية للجماعات أو الشخصيات الإسلامي ذات النشاط الإسلامي المؤثر في الناس، هي أموال إرهابيين يجب إغلاقها وتجميدها، وقد تقتضي المصلحة تعميمها واستعمالها في المصالح الدينية النصرانية أو اليهودية...
وأئمة المساجد وخطباؤها الذين ينشرون الوعي بحقائق الإسلام، وحقائق الكفر، ويردون على شبهات أعداء الإسلام المفتراة، ويكشفون عورات الأديان المحرفة، والسياسات الظالمة، هم -أيضا-إرهابيون، يجب عدم تمكينهم من اعتلاء المنابر وإمامة المصلين في محاريب بيوت الله.
وعلماء المسلمين الذين يقومون بواجب البلاغ المبين للأمة، ويبصرونهم بمصالحهم التي يجب عليهم حفظها والدفاع عنها بالمال والنفس، وينبهونهم على المفاسد التي يجب عليهم دفعها أو رفعها، هؤلاء العلماء هم إرهابيون لدى أمريكا يجب على دولهم أن يحجروا عليهم ويضيقوا الخناق عليهم، أو يسلموهم للاستخبارات الأمريكية (C.I.A) ليجاور زملاء له في المعتقلات والسجون الأمريكية، ويتعرض لإهانات الحاقدين على المسلمين عامة، وعلى علماء الإسلام خاصة، من قبل اليهود الصهاينة، والبروستانت الغلاة.
الجماعات والأحزاب-إسلامية كانت أو ما يسمونها بالوطنية-التي تعارض الاعتراف الكامل بالدولة اليهودية، هي جماعات وأحزاب إرهابية يجب أن تعقد للقضاء عليها مؤتمرات قمة دولية يشترك فيها زعماء العالم الإسلامي، ومنهم حكام العرب، على غرار مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد برئاسة "كلنتن" الرئيس الأمريكي السابق ضد المقاومة الإسلامية الفلسطينية.
اجتماع كلمة المسلمين القطرية والإقليمية والدولية التي ترمي إلى الاستقلال بمصالحها، دون الخضوع لأمريكا الطاغية، هي تجمعات إرهابية، يجب إيقافها عند حدها وعدم إعطائها فرصة التقارب والتعاون غير المأذون به من فرعون العصر الذي يقول: (أنا ربكم الأعلى)
الدول التي تسعى لتقوية مؤسساتها العسكرية القادرة على دفع العدوان الأمريكي واليهودي على بلدانها، هي دول إرهابية تملك أسلحة الدمار الشامل، يجب تدمير كامل قوتها العسكرية، وهذا التدمير لا يتم إلا بخراب غالب مرافق الشعب الذي ستحشد أمريكا لحربه التحالفات الدولية-ومنها حكومات الشعوب الإسلامية- التي ألفت حشدها بشريا وماليا وعتادا.
الدول التي لا تمنح المرأةَ فيها الحريةَ الكاملة بمفهومها الغربي، وهي التي لا تقيدها الأحكام الإسلامية، من سفور وعلاقات اجتماعية، وخروج عن آداب الإسلام التي جاء بها شرع الله، كالاختلاط غير المشروع، والإجهاض والخروج على طاعة ولي أمرها...
الدول التي لا تخضع للسياسة الأمنية الأمريكية، التي يجب أن تتدخل في التحقيقات مع رعايا تلك الدول أو غيرهم من المقيمين فيها، وتهيمن على سيرها وإجراءاتها، هيمنة تفقد بها الدولة سيادتها واستقلالها، هذه الدول التي لا تخضع للسياسة الأمنية الأمريكية، هي دول إرهابية، يجب إسقاطها وإقامة دول السمع والطاعة للإدارة الأمريكية وأجهزتها الأمنية.
ومن باب النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، أرى من الواجب علي أن أصدع بما يغلب على ظني أن أمريكا عازمة على تنفيذه من السيطرة الكاملة على العالم الإسلامي، ويحجم عن التصريح به غالب العلماء، إيثارا للمجاملة وخشية من الإثارة، ولكن الفتن الخطيرة التي تعم الأمة كلها، يجب أن بيانها والتحذير منها قبل أن يستفحل خطرها.(8/383)
(((فأمريكا تريد))) أن تجعل حكومات الشعوب الإسلامية كلها عمليا-وإن لم تعلن ذلك رسميا- ولايات غير رسمية تابعة لها.
(((وأقول: هذا ما تريده أمريكا، ولا يعني أن حكام الشعوب الإسلامية سيخضعون بالضرورة لهذه الإرادة الجائرة، بل سنجد بإذن الله من لا يزال يحافظ على كرامة نفسه وكرامة شعبه، مهما كثرت الضغوط الظالمة من الإدارة الأمريكية)))
فالرئيس الفيدرالي هو الرئيس الأمريكي، وزعماء دول الشعوب الإسلامية-مهما كانت تسمياتهم-هم حكام لتلك الولايات، كالحال في الولايات المتحدة الأمريكية الرسمية، مع فارق جوهري، وهو أن للولايات المتحدة الأمريكية الرسمية صلاحياتها التي يحميها الدستور والقوانين الأمريكية الفيدرالية وقوانين الولايات، أما الولايات التابعة -غير الرسمية-فلا صلاحيات لها غير الأوامر الأمريكية، وإن بدت في الشكل غير ذلك.
ورئيس الاستخبارات الأمريكية (C.I.A ) هو الرئيس الفعلي لرؤساء الاستخبارات في الولايات التابعة غير الرسمية.
ولقد كانت حكومات الشعوب الإسلامية يخجلون، إذا نشرت صحيفة أو إذاعة، أو أي وسيلة إعلامية أن لهذه الوكالة السيئة السمعة صلة ببعض موظفيها من المباحث أو الاستخبارات أو السفراء، ولكن هذه الوكالة اليوم
ووزير الدفاع الأمريكي ستنصبه إدارته وزيرا عمليا للدفاع في الولايات غير الرسمية، يصدر الأوامر العسكرية التي لا يجوز لوزراء دفاع تلك الولايات عصيانها، وإذا عصوها فهم إرهابيون يجب أن ينالوا جزاءهم العسكري الرادع.
ووزير الداخلية الفيدرالي الأمريكي، هو الوزير العملي لوزراء داخلية تلك الولايات، يأمر بالمتابعة والإيقاف، والاعتقال، وحظر السفر، والتحقيق والتفتيش، لكل من تشتبه أمريكا في كونه إرهابيا، بحسب مفهومها للإرهاب: (من لم يكن معنا فهو ضدنا)
((( ولْيُقَسْ ما لَمْ يُقَلْ))) كما قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته الشهيرة المفيدة.
الخلاصة: إن سفينتنا-نحن المسلمين-التي ترى أمريكا وأعوانها،من الداخل ومن الخارج، أنه يجب إغراقها، هي السفينة التي تحمل الإسلام الحق الذي يدعو إلى العزة والقوة وموالاة المؤمنين بعضهم بعضا، والوقوف صفا واحدا ضد أعدائهم الذين يعتدون عليهم، وعدم الركون إلى الذين ظلموا.
لكنْ هناك إسلامٌ -بالمفهوم الغربي-سيُمنحُ أفراد المسلمين -إذا شاءوا- الحق في اعتقاده، وفي العمل به، وهو الإسلام الذي يقوم به الفرد بينه وبين ربه.
فله أن يؤمن بما شاء مما جاء به الرسو صلى الله عليه وسلم ، بشرط أن يكون إيمانه كامنا في قلبه، لا يحركه لدعوة غيره إلى الحرية التي يحققها ذلك الإيمان لصاحبه، وهي العبودية لله وحده، والكفر بجميع الآلهة الطاغوتية، بما فيها أمريكا التي تقول بلسان حالها اليوم: (أنا ربكم الأعلى)
وله أن يصلي الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر. وله أن يصوم الصوم الذي لا يثمر التقوى. وله أن يحج الحج الذي لا يشعر المسلم في حجه بتحقيق المنافع التي يجنيها المسلمون من حجهم، ومن أهمها تعاونهم على البر والتقوى، ومناصرة بعضهم بعضا على من اعتدى عليهم...
وله أن يحمل السبحة ليذكر ربه، الذكر الذي لا يؤدي إلى الصفقة الإلهية (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فَيَقْتُلُون ويُقْتَلُون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) [التوبة: 111]
الذكر الذي لا يثمر حماسَ فلسطين، ولا جبهةَ مورو الإسلامية في الفليبين، ولا المجاهدين الشيشانيين في الشيشان، ولا المقاومة الجهادية في كشمير.
أما إذا أثمر الذكر تلك الكتائب الجهادية التي تدفع الظلم عن أرضها ودينها وأهلها، فكل سبحة تعتبر في الدستور الأمريكي سبحة إرهابية يجب أن تقصفها الطائرات الحربية، والصواريخ العابرة للقارات حتى تتقطع خيوطها، وتتناثر حباتها...
وصدق الله العظيم القائل: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [البقرة: 120]
والقائل: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة: 217]
http://www.aljazee r a.net/news/asia/2001/12/12-9-1.htm
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
===============(8/384)
(8/385)
صونوا السفينة قبل أن تغرق(3)
وسائل الحملة الظالمة(3)
أرجو أن يكون القارئ قد اطلع على الحلقة الثانية
وعرف معنى الإسلام والمسلمين اللَّذَيْنِ تنفي أمريكا أن يكونا هدفا لحملتها الصليبية الصهيونية الإرهابية، فالإسلام الذي ستهادنه أمريكا مضطرة: هو " الإسلام الذي يقوم به الفرد بينه وبين ربه...."
والمسلمون الذين ستوافق أمريكا على بقائهم على دينهم دون عدوان سافر عليهم، هم: "المسلمون الذين لا يبنون حياتهم وقوانينهم ونظمهم وتصرفاتههم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والصناعية والإعلامية والعسكرية، وعلاقاتهم الدولية، على أساس الطاعة المطلقة لله وتطبيق شريعته كاملة في الأرض..."
فليكن المسلمون على علم وبصيرة بالإسلام الذي تدعي أمريكا أنها لا تحاربه ولا تحارب أهله، بل قد تثني عليه وتمدحه وتثني على أهله وتمدحهم.
ويجب على المسلمين ألا تخدعهم وسائل الإعلام الأمريكية خصوصا والغربية عموما، وبيانات زعمائهم ومثقفيهم.
ويجب كذلك ألا يغتر المسلمون بغالب وسائل إعلام كثير من بلدانهم التي تسلك نفس مسلك وسائل الإعلام الغربية وتتبعها حذو القذة بالقذة.
فإن عاقبة الاغترار بذلك وخيمة، لما فيه من فساد الأفكار وتضليل العقول، وما يترتب عليهما من التفريط في ضرورات الحياة، وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال، التي سيعتدي عليها أعداء الإسلام، دون أن يشعر المُضَلَّلُون بضياعها، إلا بعد فوات الأوان.
إن اعتداء الظلمة على هذه الضرورات، مع علم المسلمين بخطر الاعتداء، وعجزهم عن الدفاع عنها، أهون بكثير من الاعتداء عليها دون الشعور بخطر الاعتداء، لأن الذي يشعر بالخطر، يمكنه أن يفكر في درئه، ويتخذ الأسباب التي تمكنه من ذلك الدرء، بخلاف من لا يشعر بالخطر، فإنه يدهمه عدوه ويسلب منه أعز ما يملكه، وهو عن ذلك غافل.
فحقيقة الإسلام الذي تعترف به أمريكا، هو الإسلام التركي الذي أرسى أسسه الطاغوت اليهودي "أتاتورك"
وهو الإسلام الذي تثني عليه أمريكا وتصفه بالإسلام المتحضر، الذي تنحاز دوله إلى الدول الغربية، وماعدا هذا الإسلام، فهو أصولي رجعي.
فقد قال الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية: "نكسون" في كتابه "الفرصة السانحة" (ص: 28):
" العالم الإسلامي متقلب وغير مستقر، ولكنه من الأهمية بمكان، إن قوى التقدم والرجعية والأصولية ، تتصارع فيه، لكي تحظى بتأييد الشعوب، التي يبلغ تعدادها 850 مليون نسمة.
هل سيتبع العالم الإسلامي نموذج تركيا، في انحيازها نحو الغرب والتحضر؟ أم سيتبع نموذج العراق؟ أم سيتبع نموذج إيران؟"
ثم بين أن أمريكا ودول الغرب سيكون لها شأن في تحديد خيار الشعوب المسلمة لأحد النماذج الثلاثة، فقال:
"إن الإجابة على هذه الأسئلة، ستكون لها ردود فعل خطيرة في العالم، وسوف تلعب السياستان الأمريكية والغربية مع المسلمين، دورا رئيسيا في تحديد الخيار الذي تختاره الشعوب المسلمة"
وهاهي أمريكا ودول الغرب تحدد لأفغانستان الإسلام الذي يجب أن تتبعه، وهي في طريقها لتحديده في بقية الشعوب الإسلامية.
ويجب التنبيه على أن هناك دولة أخرى صديقة للولايات المتحدة، تعتبر نموذجا آخر في تطبيق الإسلام، لم يذكرها نصا الرئيس "نكسون" وكانت أولى بالذكر من العراق، لأن العراق دولة علمانية، وعدم ذكرها يدل على عدم رضاه عنها، وقد دلت القرائن على عدم الرضا هذا، فوسائل الإعلام الأمريكية وكثير من المسؤولين تشن حملاتها المسعورة عليها.
ما الوسائل القهرية التي ستتخذها أمريكا لحملتها الإرهابية على الإسلام؟
إن أمريكا تظن أنها بما آتاها الله من قوة مادية، قادرة على أن تسيطر على الكون كله سيطرة كاملة، وأن كل من فقد رضاها عنه بسبب عقوقه لها، ومروقه عن طاعتها وعدم التزامه بمنهجها - سواء كان فردا أو جماعة أو حزبا أو دولة - يعتبر إرهابيا تجب مطاردته والقضاء عليه، حتى يسمع لأمريكا ويطيع.
ولدى أمريكا كثير من الوسائل التي ستتخذها -بل قد اتخذتها - ومنها ما يأتي:
الوسيلة الأولى: الإغراء بالمال:
إغراء الزعماء والدول والأحزاب والجماعات والمثقفين والإعلاميين والأدباء، وكل من يمكنهم استمالته بالمال، لينفذ لهم ما يحقق لهم أهدافهم، كل في تخصصه ومحيطه.
والإغراء بالمال لإبطال الحق ونصر الباطل سنة طاغوتية قديمة، يطمع فيها الطامعون الذين يخدمون زعماء الباطل ضد أهل الحق، وقد برزت هذه السنة السيئة في تصرفات فرعون عندما أراد أن يظهر لجماهيره أن ما جاء به موسى باطل وليس بحق، وأن هدف موسى هو السيطرة على الحكم وإخراج أهل البلد من بلدهم، والاستئثار بخيراتها.
قال تعالى: (قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم(109)يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون(110)قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين(111)يأتوك بكل ساحر عليم(112)وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين(113)قال نعم وإنكم لمن المقربين(114) [الأعراف](8/386)
وفي حملة أمريكا الظالمة التي بدأت بالشعب الأفغاني المسلم المحطم، سقط كثير من زعماء القبائل وقادة الجيش، ورؤساء الأحزاب، في بيع ذممهم وغدروا بإخوان لهم من أهل بلدهم، وممن وقفوا في صفوفهم من الشعوب الإسلامية الأخرى من العرب وغيرهم.
بل إن بعض زعماء الدول المجاورة استجابوا لتنفيذ أوامر أمريكا، فتنازلوا عن سيادتهم على أرضهم ومكنوا الدولة المعتدية من استعمالها في حربهم ضد الدولة المسلمة المجاورة، من أجل نيل حفنة من الدولارات.
وقد استسلم ضعاف الإيمان اليوم لهذا الإغراء، ومكنوا أمريكا من تحقيق مآربها في حملتها الظالمة الإرهابية.
وقد عقدت دولة أوزبكستان معاهدة استراتيجية مع الولايات المتحد الأمريكية بسرعة هائلة، بعد أن مكنتها من استعمال أرضها لضرب الشعب الأفغاني المسلم.
الوسيلة الثانية: الإغراء بالزعامات والتمكين:
والإغراء بالزعامات والتمكين من الحكم والعلو الكاذب في الأرض -كذلك -سنة شيطانية قديمة، كان قدوة أهلها الأول الشيطان الذي أغوى آدم وزوجه حواء عليهما السلام، بأكل الشجرة التي نهاهما ربهما عنها، كما قال تعالى عن ذلك: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) [طه: 120]
والإغراء بالملك-ابتداء أو استمرارا-من أعظم شهوات النفس التي تسوق صاحبها، ما لم يحمه الله، إلى امتطاء صهوتها استجابة لإغواء الشيطان ومحاربة الحق وأهله.
وأمريكا اليوم تغري زعماء دول العالم بالتمكين لهم، إذاما استجابوا لتنفيذ مطالبها، وتهددهم بحرمانهم من ذلك، إذا لم يسمعوا لها ويطيعوا، وتغري عشاق الكراسي بإحلالهم محل المارقين عن طاعتها.
والمسلم البعيد عن الإيمان الصادق بربه الذي هو وحده يعطي ويمنع، معرض للوقوع في الفخ الأمريكي الذي يضعه في صف من يحاد الله ورسوله، غير مدرك للعواقب الوخيمة التي سينالها من المنتقم الجبار، الذي قال في محكم كتابه: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) [آل عمران: 26]
الوسيلة الثالثة: الضغط السياسي والدبلوماسيي:
ومن الضغط السياسي: السعي في إيجاد الفرقة و التنازع بين الشعوب والحكام، وبين فئات الشعب، من أحزاب وجماعات ومؤسسات، بحيث تقوم بتقوية بعض الأحزاب أو القبائل، أو بعض فرق الجيش المعارضة للزعيم أو لحزب آخر، لا ترضى عنه أمريكا، بحيث تمدهم بالمال والوسائل التي تمكنهم من إحداث اضطرابات تهز بها البلد، حتى تُسقِط من لا يستسلم لسيطرتها، ولا يعلن خضوعه لما تمليه عليه. ومن أهم الوسائل التي تمد بها تلك الأحزاب أو القبائل وفرق الجيش: المال ووسائل الإعلام والسلاح.
ومعلوم ضلوع أمريكا في هذه الوسيلة التي استعملتها في كثير من بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، أو الدول النامية، من إندونيسيا شرقا إلى بعض البلدان العربية وأمريكا اللاتينية في زمن الحرب الباردة، وهي تستعملها في كثير من البلدان الإسلامية، اقتداء بفرعون الذي قال الله تعالى عنه: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين) [القصص:4] ومربيتها الأولى "بريطانيا" التي اتخذت في استعمارها للشعوب قاعدة: "فَرِّقْ تَسُدْ"
الوسيلة الرابعة: اتخاذ الوسائل التي تحدث النزاع بين الدول المتجاورة، لأي سبب من الأسباب، مما يمكن أمريكا من التدخل وفرض ما تريد مما يحقق أهدافها، كما فعلت في حربي الخليج الأولى والثانية.
الوسيلة الخامسة: الضغط الاقتصادي
وله صور كثيرة:
منها: تجميد الأموال المودعة في البنوك الأمريكية، كما فعلت مع إيران، وغيرها.
ومنها: حظر صادرات الدول غير المرضي عنها إلى أمريكا وحلفائها الغربيين وغيرهم.
ومنها: حظر الصادرات والواردات الضرورية عن الدولة غير المرضي عنها، وقد تتخذ هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن غطاء لأعمالها، كالحالة في العراق التي لا يخفى أمرها والضرر الذي أنزلته بالشعب العراقي على أحد.
ومنها: منع المساعدات المالية التي يقدمها كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وكل المقاطعات الاقتصادية المجحفة هي من هذا النوع.
التهديد بالاغتيالات وتنفيذها:
وهذه مهنة أصيلة حقيرة لا تتورع عنها أمريكا، وذراعها الرئيس لتنفيذ هذه المهنة الشائنة، وكالة الاستخبارات الشهيرة: " C.IA " وعملاؤها منتشرون في العالم كله، وقد نفذت كثيرا من هذه العمليات زمن الحرب الباردة في دول كثيرة في العالم، على مستويات متنوعة، وهي اليوم باسم محاربة الإرهاب والقضاء عليه، تعد العدة لهذه الاغتيالات، ورصدت لها ميزانية خاصة:
http://www.aljazee r a.net/news/ame r i.../12/12-17-1.htm
العدوان العسكري:
والعدوان السكري أصبح السمة البارزة لهذه الدولة المعتدية الظالمة، وله مظاهر عدة:(8/387)
المظهر الأول: إمداد الدول المتحالفة معها بالسلاح ضد الشعوب المظلومة المعتدى عليها، كما هو حال اليهود في فلسطين، فاليهود يدمرون بيوت الفلسطينيين، ومزارعهم ومساجدهم ومدارسهم، وكل مرافقهم، بالسلاح الأمريكي، ويقتلون ويغتالون ويجرحون الشعب الفلسطيني، بالسلاح الأمريكي.
وقل مثل ذلك في الفيليبين، ضد المسلمين في الجنوب، وفي تركيا ضد الأكراد....
المظهر الثاني: الكيل بمكيالين في إمداد الدول بالسلاح، فهي تمد الدولة الحليفة لها بأحدث أنواع السلاح الهجومي، والمثال على ذلك الدولة اليهودية، بخلاف الدول العربية الصديقة، بل الحليفة في واقع الأمر، فأمريكا لا تمدها إلا بالأسلحة التي لا تمكنها من دفع العدوان اليهودي في أوقات الحرب، مع شروط قاسية ظالمة في استعمال ذلك السلاح.
المظهر الثالث: إلغاء صفقات الأسلحة المتفق عليها بين أمريكا والدول الأخرى، إذا عارضت تلك الدول أي مشروع أمريكي ضد مصالحها، كما حصل مع الباكستان، في الطائرات التي تمت الصفقة على شرائها من أمريكا.
المظهر الخامس: الهجوم المباشر على الدول المغضوب عليها، كم حصل مع اليابان في الحرب العالمية الثانية، ومع غيرها، وكما حصل لفيتنام، ولليبيا، والسودان، وكما حصل ولا زال يحصل مع العراق، وكما يحصل اليوم مع الشعب الأفغاني، والاستعداد للاعتداء على غيره من الدول بعد الانتهاء من حملتها عليه.
المظهر السادس: تحطيم سلاح الدول المغضوب عليها، كما فعل اليهود بالمفاعل النووي العراقي، بتأييد أمريكا.
والتخطيط جار الآن باتفاق بين أمريكا واليهود والهند للقضاء على السلاح النووي الباكستاني، ولعل ذلك قد بدأ بالهجوم على البرلمان الهندي، وما تلاه من التحرشات والتهديدات الهندية.
فأمريكا واليهود يدر بون فرقا من جيشيهما للقيام بهذه المهمة:
فخ هندي لسلاح باكستان النووي.
(((وحدة من الجيش الأمريكي وبعض جنود حدة 262 اليهودية معروفة بـSAYA r ETMATKEL تتدربان لهجوم محتمل على باكستان لسرقة ترسانة الأسلحة النووية
http://www.islam-online.net/A r abic/...A r ticle50.shtml)))
هذا مع ما قدم رئيس الجمهورية الباكستانية من خدمة لأمريكا في بلاده، للاعتداء على الشعب الأفغاني المسلم، وما قام به من القمع ضد شعبه وقادة الأحزاب فيه، إرضاء للدولة الظالمة المعتدية، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم
(من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه واسخط عليه الناس).
وما خفي أخطر مما ظهر!
تقسيم الشعوب
ومن الأمور الخطيرة التي تريد أمريكا القيام بها، إعادة ترتيب دول العالم وحكامه، ترتيبا يحقق لها ما تصبو إليه من السيطرة، هي وربيبتها الدولة اليهودية الطارئة في قلب الأمة الإسلامية.
ومن أبرز البلدان التي يخشى تقسيمها: العراق، الذي قد قسمته أمريكا عمليا، إلى أكراد في الشمال، وسنة في الوسط، وشيعة في الجنوب، هذا الشعب الذي لا يفتأ اليهود يكررون خوفهم منه، ولم يكن غزو النظام العراقي إلا بترتيب مسبق من أمريكا واليهود، من أجل القضاء على قوته التي كانت ترهب اليهود.
ثم إن دول الخليج معرضة لإحداث الفتن والقلاقل، ومرشحة لإراحة اليهود من الشعب الفلسطيني، وإسكانه في هذه الدول التي يقول اليهود والأمريكان معا، إنها قليلة السكان، ويجب أن تستوعب الفلسطينيين، وهي مقالة شبيهة بما كانوا يقولونه عن فلسطين: "أرش بلا شعب، لشعب بلا أرض!"
كذلك تقسيم السودان إلى شمال وجنوب وإكراه الحكومات في الشمال على القبول بذلك.
وأخيرا: إن أمريكا عازمة على تغييرات خطيرة تسمى"ترتيب العالم" وللشعوب العربية نصيبها الأوفر، وقد قال "نكسون" في كتابه: "الفرصة السانحة" صفحة: 22 "فلدينا فرصة تاريخية لكي نعيد ترتيب العالم"
وما الحملة الإرهابية الأمريكية إلا تنفيذ لهذا الترتيب واغتنام لهذه الفرصة....!
وللحديث صلة إن شاء الله.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
===============(8/388)
(8/389)
كيف نصون السفينة - واجب العلماء …
http://www.alwatan.com.sa/daily/2002-08-25/fi r st_page/fi r st_page17.htm
إن صيانة السفينة، واجب مشترك بين أفراد الأمة الإسلامية، وجماعاتها، وأحزابها، ومؤسساتها الرسمية والشعبية، كل بحسب قدرته وموقعه.
وأقصد بالعلماء هنا علماء الشريعة، وهذا لا ينفي وجود علماء متخصصين في جوانب أخرى تقع عليهم مسؤولية صيانة السفينة في حدود قدرتهم بحسب تخصصاتهم، وسيأتي الحديث عنهم، في مكانه من هذه السلسلة؟
لذلك سأبدأ بمسؤولية مشايخنا وعلمائنا الأفاضل في كل البلدان الإسلامية، فهم ورثة الأنبياء في نشر العلم وبيان الحق والبلاغ المبين، لمكانهم الذي بوأهم الله تعالى فيه، وهو فقه دينه من كتابه وسنة رسوله، وما مهده لهم سلفهم من طرق البحث والاستنباط والقواعد والأسس التي تمكنهم من السير على منهاجهم.
وسيكون بيان هذه المسؤولية في المحاور الآتية:
المحور الأول: أن يستحضر علماؤنا الأفاضل مسؤوليتهم التي كلفهم الله تعالى إياها في كتابه وعلى لسان رسول صلى الله عليه وسلم ، والتي سار عليها علماء المسلمين في القرون المفضلة، ودعوا مَن بعدهم إلى حتذائها، ليستقيم حال الأمة على نهج الإسلام العظيم.
ولا أرى حرجا في تذكير هؤلاء العلماء بشيء من ذلك، مع علمهم به أكثر مني، لأن الذكرى تنفع المؤمنين.
والإنسان -مهما كان فضله-في حاجة إلى التذكير، لأنه معرض للغفلة، وللتنشيط، لأنه معرض للكسل، وللنصيحة، لأنه معرض لتثبيط الشيطان ووساوسه.
إن من أهم وظائف العلماء التي ناطها الله تعالى بهم بيان الحق وإظهاره للناس، اقتداء برسول ا صلى الله عليه وسلم ، والرسل من قبله.
قال الله تعالى: ((يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين)) المائدة: (67)))
وقال تعالى: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)) يوسف: (108)
وتوعد سبحانه وتعالى من كتم الحق عن الخلق أشد الوعيد، فقال: ((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)) البقرة: (159)
ولما كان علماء أهل الكتاب يكتمون الحق ليأخذوا به عرضا من الدنيا: مالا أو جاها أومنصبا، أبرز الله تعالى مع وعيده الشديد لهم ذلك الداعي إلى كتمان الحق، فقال تعالى: ((إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) البقرة: (174)
وكل من كتم الحق من العلماء في أي عصر من العصور، وفي عهد أي نبي من الأنبياء، استحق ذلك الوعيد الذي ترتعد له فرائص العقلاء.
بل إن علماء المسلمين لأولى بهذا الوعيد الشديد ممن سبقهم من علماء الأمم الماضية، لأن الحق في هذا الدين محفوظ في مصدريه: القرآن الذي حفظه الله، فلم يتمكن أحد من تحريفه، بخلاف الكتب السابقة التي لم تعد صالحة للرجوع إليها، لأنها قد حرفت، وما بقي منها لم يحرف كتمه علماؤها.
ولو كانت كلها محفوظة-على سبيل الفرض- فقد هيمن عليها كتاب الله، فلا حق إلا ما جاء به وشهد له بأنه حق، كما قال تعالى: ((وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق...)) المائدة: 48
وهذا يُحَمِّل علماءنا الأفاضل مسؤولية عظيمة، لأنهم وحدهم يملكون مصدر الحق الإلهي، وهو كتاب الله المحفوظ الذي ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)) فصلت: (42)
((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) الحجر: (9)
وكما تولى الله تعالى حفظ كتابه بنفسه، فقد هيأ عباده الصالحين لحفظ سنة نبي صلى الله عليه وسلم ، فبينوا صحيحها من ضعيفها وموضوعها.
كما هيأهم لاستنباط المعاني والأحكام من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، والرد على كل افتراء وتحريف لمعانيهما.
المحور الثاني: العلماء ركن ركين في ولاية الأمر:
لقد كان العلماء هم ولاة الأمر في العصور الإسلامية الأولى، فكان الخليفة هو رئيس الدولة، وإمام المصلين في محراب مسجدهم، وقائد جيوش جهادهم، وقاسم مالهم فيهم... ثم انفصل العلم الشرعي عن إمارة الحكم بالتدريج، وبقي العالم يفتي وينصح، والحاكم يستفتي ويستشير وينفذ-في الغالب-، ثم حدث الانفصال التام بين الأمراء والعلماء، فاستبد الحكام بالأمر فجمعوا بين الولاية الزمنية، وهي التصرف الكامل في شؤون الأمة، وبين التشريع الذي يصد عن تطبيق شرع الله من كتابه وسنة رسول صلى الله عليه وسلم .(8/390)
واضطر العلماء أن ينزووا مع طلابهم في صحون المساجد أو في مؤسساتهم التعليمية، واقتصر نشاطهم تعلما وتعليما على ما سمي بعلوم الدين وما يخدمها من علوم اللغة وغيرها، كما اقتصرت استفتاءات الناس وفتاوى العلماء على ما يتعلق بالشعائر التعبدية، من طهارة وصلاة وصيام وحج وزكاة وذكر... وانقطع غالبهم عن التعرض لشؤون الحياة الإدارية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والإعلامية، حيث حظر عليهم الحكام الدخول في هذا المعترك الواسع، حرصا على استئثارهم بالتمتع بمرافق الشعوب ومتع الحياة، بدون معارض.
وعندما يقوم في حقب نادرة رجال من شجعان العلماء، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقولون كلمة الحق، يكون جزاؤهم الاعتقال والسجن والتعذيب والتشريد والقتل....
هذا مع العلم أن كثيرا من علماء المسلمين يرون أن العلماء هم ولاة أمور المسلمين، وإن لم يكونوا هم الحكام، لأن الواجب على الحكام أن يأخذوا بما يبينه لهم العلماء من شريعة الله، ولا يجوز لهم مخالفتهم فيما يخالف كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، حتى قال بعض العلماء: إن "العلماء هم أمراء الأمراء"
وبعض العلماء يرون أن أولي الأمر هم العلماء والأمراء معا، وهذا أقرب إلى مقاصد الشريعة وتحقيق مصالحه، بل إن ولاة الأمر يشمل الأمراء والعلماء وأهل الحل والعقد من ذوي الاختصاص، وأعيان الأمة وزعماء قبائلها، لأن المصالح والمفاسد يعود نفعها أو ضرها عليهم جميعا وعلى أتباعهم.
وبعضهم يقصرون أولي الأمر على الأمراء، وهذا يخالف قاعدة الشورى التي أمر الله بها رسوله، ووصف بها عباده المؤمنين مع وصفهم بقامة الصلاة...
وهذا كله يدل على عظم مسؤولية علماء الأمة الإسلامية التي يجب عليهم أن يقوموا بحقها، ولا ويقعدوا عنها.
المحور الثالث: شمول البيان وعمومه:
وإن الواجب بيانه على علماء المسلمين، يشمل كل مصلحة يجب جلبها لهم، وحمايتها من الضياع بعد تحققها لهم، و كذلك بيان كل مفسدة يجب درؤها عنهم، أو رفعها بعد نزولها بهم.
فليست مهمة علماء الإسلام الاقتصار على بيان ما اشتهر عند الناس من شعائر الإسلام الظاهرة، من صلاة وصيام وحج و زكاة وتلاوة قرآن وذكر... وإن كان أعداء الإسلام يريدون قصرهم على ذلك، وإبعادهم عن التدخل في شؤون الحياة التي لا تستقيم إلا بتوجيه هذا الدين.
بل إن مهمتهم شاملة لكل ما يتعلق بحياة الناس من الأحكام التكليفية التي تتضمن الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، وهي الأحكام التي لا تخرج عنها تصرفات البشر.
فلا يخرج عن ذلك شعائر تعبدية، أو مبادئ أخلاقية، أو شؤون اجتماعية، أو جوانب سياسية، أو ترتيبات جهادية، أومناهج اقتصادية أو إعلامية، أو تعليمية...
وما أُلِف من قصر مهمة العلماء على إقراء القرآن وقراءته، وتعليم بعض أبواب الفقه والحديث والتفسير، وإمامة المساجد، وخطب الجمعات المأذون بها، من قبل الحكام المحاربين لشرع الله، وإجراء عقود الأنكحة وكتابة صكوك الطلاق...
إن ما ألف من قصر مهمة العلماء، على أمثال ما ذكر، والحجر عليهم من بيان الحق في شؤون الحياة الأخرى، كما يحجر على الصغار والسفهاء من التصرف في أموالهم، إنه ظلم للعلماء، وسلب لما منحهم الله تعالى وجعله واجبا عليهم، وليس حقا لهم فقط.
كما أنه ظلم للأمة الإسلامية وأفرادها الذين، يفقدون حقوقهم الشرعية، بسبب القوانين البشرية المخالفة لشرع الله، التي يضعها أعداء الإسلام، لتوافق أهواءهم، فيحمون بها مصالحهم التي تجلب المفاسد على شعوبهم.
المحور الرابع: الحكم على الشيء فرع عن تصوره:
ولست أقصد بالعلماء الذين تسند لهم هذه المهمة الشاملة، من يسمون بعلماء الدين المقلدين للآراء التي دونها العلماء السابقون تقليدا أعمى، دون أن يجتهدوا في الأحكام النازلة بالمسلمين، ودون أن يفقهوا الواقع الذي تعيش فيه الأمة، الواقع الذي يحمل في جعبته ما يحتاج الناس فيه إلى بيان من شرع الله، يضبط الحكم، ويرفع الحرج، ويقنع المتردد.
ثم لا يستقل علماء الشريعة بإصدار حكم يحتاجون في صحة تصور مسألته إلى متخصصين فيه، من أطباء، وإعلاميين، ومهندسين، ورجال تعليم، واقتصاديين، وعسكريين، وسياسيين.... بل لا بد من تصور المسألة تصورا واضحا من أهلها، وما يحيط بها من مصالح راجحة أو مرجوحة، ومفاسد راجحة-كذلك-أو مرجوحة، حتى يصدروا أحكامهم أو فتاواهم على بصيرة من أمرهم، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وهذا ما درج عليه العلماء في هذا العصر في مؤتمراتهم ومجمعاتهم، كالمجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلامي، والمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة، ومجمع البحوث الإسلامية في مصر...فإنهم لم يصدروا قراراتهم في المسائل التي لم يتصوروها تصورا صحيحا، إلا بعد أن يحضروا المتخصصين فيها فيصوروها لهم على حقيقتها، ثم يصدروا فيها قرارهم سلبا أو إيجابا.
المحور الخامس: الحلال بين والحرام بين.(8/391)
ولا أريد أن يفهم القارئ من كلامي هذا الحجر على تصرفات الناس جميعها، بحيث لا يقولون قولا، ولا يعملون عملا، إلا بعد أن يفتي فيها عالم أو علماء، فالأصل في الأشياء الإباحة، والحلال بين والحرام بين، فما اشتهر وجوبه، وجب، وما اشتهرت حرمته حرم، وما اشتهر ندبه ندب، وما اشتهرت كراهيته كره، وما علمت إباحته، وهو الغالب من تصرفات العباد، أبيح ولا حرج.
و في حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء غير نسيان من ربكم ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها، ولا تبحثوا فيها) الحاكم في صحيحه(4/129)
ونحن نرى كثيرا من النظم التي يسنها ولاة الأمر من الحكام وموظفيهم، لا يخالف غالبها نصوص الإسلام وقواعده، ولا ينكرها العلماء على تنوع اتجاهاتهم، بل يؤيدونها وينفذونها.
ومنها نظام المرور ونظام رخص بناء العمارات وهدمها، ومنها نظام التأشيرات الذي أصبحت الحاجة داعية إليه، بسبب تفرق المسلمين وتعدد دولهم، ومنها نظام الإقامة، ومنها كثير من نظم الأمن في المطارات والموانئ والطرقات في داخل المدن وخارجها، ومنها كثير من نظم المؤسسات العسكرية، ومنها التراتيب الإدارية في شتى مؤسسات الدولة... وغير ذلك كثير، لا اعتراض عليه مالم يخالف نصا من القرآن والسنة، أو قاعدة من قواعد الإسلام، أو مقصدا من مقاصده.
وأبواب المباحات التي لولاة الأمر سن نظم يضبطون بها مصالح الأمة واسعة جدا، لا يشترط فيها الرجوع إلى العلماء، ولا صدور فتاوى منهم، وإن لزم ولي الأمر أخذ مشورة أهل الاختصاص في وضع قواعدها المبنية على الخبرة، لتحقق المصالح التي وضعت لتحقيقها.
وإنما يرجع الناس أفرادا، وأسرا، وجماعات، ودولا، إلى العلماء، فيما لم يظهر فيه حكم الله تعالى، وهو ما يحتاج إلى فقهاء في الدين قادرين على استنباط حكم الله من كتابه وسنة رسوله على قاعد الفقه المعتبرة.
كما قال الله تعالى: ((وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)) النساء: (83)
فعلى المسلمين جميعا أن يردوا ما لم يتبين لهم حكمه إلى أهله، وأن يدعوا ما اشتبه عليهم حكمه، حتى يتبينوه من فقهاء الأمة، فهم الذين يعلمون ما خفي عن غيرهم،كما جاء عن النعمان بن بشير، قال سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول-وأهوى النعمان بإصبعيه إلى اليسرى-: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات،لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه....) صحيح مسلم: (3/1219)
المحور السادس: لا غنى لبعض العلماء عن بعض.
http://alsaha.fa r es.net/sahat?14@0.PfynaIOM2U2^12@.ef0b252
وما دمنا بصدد صيانة سفينتنا، فالواجب علينا أن نصدع بكلمة الحق التي لا صيانة للسفينة بدونها:
من المعلوم أن علماء الأمة منتشرون في كل حدب وصوب من بلدان المسلمين وغيرها، ومن المعلوم أن بعض العلماء قد اشتهروا في شعوبهم وفي خارجها لأسباب قد لا تكون بسبب علمهم فقط، كالعلماء الذين مكنهم الله بالسلطان من ارتقاء منابر العلم، كالجوامع الكبيرة، وكراسي الفتوى، والمناصب الرسمية التي منحوا بسببها من الوسائل ما أشهرهم، وسهل للناس الاتصال بهم، ويسر لهم الاتصال بالناس.
ومن المعلوم كذلك أنه يوجد علماء موظفون وغير موظفين، لم ينالوا ما ناله السابقون من الإمكانات والوسائل الرسمية التي اشتهروا بسببها، وقد يكون العلماء الذين لم يشتهروا مثل الذين اشتهروا في علمهم وفقههم لنوازل العصر، وقد يكونون أكثر منهم علما، وأغزر فقها لتلك النوازل، ففوق كل ذي علم عليم.
ولما كانت النوازل كثيرة، وبخاصة في هذا العصر الذي جد فيه مالم يحدث في غيره، فإن العالم لا يستغني عن إخوانه العلماء موظفين كانوا أو غير موظفين، ولا فرق بين مفت وقاض، في ذلك، كما نص عليه العلماء.
وأي عالم ظن أنه مستغن عن إخوانه العلماء وعن مذاكرتهم واستشارتهم في نوازل الأحكام، فقد غرته نفسه وخدعه الشيطان.
وفي قصة موسى مع الرجل الصالح للمعتبرين معتبر [القصة في صحيح البخاري: (1/40)]
وقد كان الرسو صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه فيما لم ينزل به وحي، في سلمه وحربه، استجابة لأمر ربه تعالى:((وشاورهم في الأمر))
وكان كبار أصحابه، ومنهم الخلفاء الأربعة، يستشيرون قومهم في سلمهم وحربهم، وفي الحلال والحرام، محققين بذلك وصف الله لهذه الأمة: ((وأمرهم شورى بينهم))
وكانوا ويسألون عن الدليل الذي يخفى عليهم، وكان عمر يطلب في الأمر أصحابه، فيستشيرهم وَفْدًا تلو وفد، ويراجعه بعضهم مراجعة شديدة حتى يغضبه، فلا يترك الشورى حتى يظهر له الدليل، أو تقنعه الحجة.
يراجع في استشارة الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه"فتح الباري" (13/340)(8/392)
فمن هو العالم الذي يظن نفسه اليوم أغنى علما وأوفق رأيا من رسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى يستغني بعلمه عن علم من سواه؟!
أقول: إنه ينبغي للعلماء-موظفين وغير موظفين، مشهورين وغير مشهورين- أن يقترب بعضهم من بعض، وأن يجتمعوا لمدارسة الأمور المهمة ومذاكرتها والتشاور فيها، ليخرجوا بقرارات ترضي الله تعالى وتجعل الأمة تثق فيهم جميعا، بدلا من استئثار بعضهم بالأمر، استنادا على مراكز رسمية لا تؤهلهم وحدها للاستئثار، كما يعلمون، وتجعل جمهرة من الأمة تنفر منهم بسبب ذلك، وبخاصة إذا انتشر الخلاف واتضح لهم الحق مع العلماء الآخرين غير الموظفين.
إن هذا الخلاف الذي لا يتم معه لقاء بين الصنفين: صنف من يسمون بالعلماء الرسميين، وصنف من يطلق عليهم كثيرا: "علماء فقه الواقع" يثمر تنافرا وبعدا بين العلماء، وترددا وشكوكا وضعف ثقة عند الأمة، وبخاصة الشباب المتحمس منهم.
ولقد جاءني بعض الشباب الذين لم أكن أعرفهم، يسألون عن بعض القضايا المعاصرة، وكانوا حذرين في إظهار أسئلتهم على حقيقتها، فألححت عليهم أن يوضحوا مرادهم، حتى أتمكن من إجابتهم، فلما أجبتهم تهللت وجوههم، وقالوا: لقد كنا خائفين من أن تنهرنا وتغضب من أسئلتنا.
قلت: ولماذا؟ قالوا: لأن بعض العلماء إذا سألناهم مثل هذه الأسئلة يتهموننا بالتطرف والغلو ويتهموننا في عقولنا، ولم تكن إجاباتي لهم تختلف عن إجابات غالب علمائنا الأفاضل.
ولفت نظري عنوان في بعض المنتديات يتعلق بأحد علمائنا الأفاضل، فلما قرأت مضمونه رأيت نقد شديدا لذلك العالم، لأنه-كما زعموا-نهر أحد السائلين، وأنَّبه على الهواء، وتهافت الشباب في عيب ذلك العالم... فكتبت سطورا نصحتهم من الغيبة والكلام في أعراض العلماء، فإذا هم جميعا يستجيبون. إن هذا دليل واضح على أن هذا الشباب في حاجة إلى من يرفق به ويحاوره محاورة صبر وحكمة وإقناع.
إن هذا الشباب في حاجة إلى علماء يصبرون عليهم ويحاورونهم بالحكمة، ويقنعونهم بالدليل، ولا ينبغي أن يظهر لهم العالم سخطه من أسئلتهم وشكه فيهم، ويرمي لهم التهم جزافا، فهؤلاء أبناؤنا، يختلطون بأصناف من البشر، ويسمعون كثيرا من الأفكار الصحيحة وغير الصحيحة، فإذا فتحنا لهم قلوبنا، وأصغينا إلى ما يقولون مما يدور بخواطرهم، ثم أجبناهم الإجابات الصحيحة المقنعة، فإنا مع تفقيهنا لهم، نقيهم الشبهات والأفكار المضللة أو الغالية، ونقربهم إلينا فيأخذون منا العلم، بدلا من نفورهم منا.
المحور السابع: مبادرات العلماء في نصح ولاة أمر الأمة:
ومن الأمور المهمة التي يجب أن يقوم بها العلماء-مع بيان الحق الذي أوجبه الله عليهم-أن يبادروا بتقديم النصح لأولياء الأمور في بلدانهم ليقيموا شريعة الله والعدل بين الناس، ويرفعوا راية الجهاد في سبيل الله، دفعا عن حوزة الإسلام وتأمينا لأهلها من عدوان أعدائها عليه، وأن يصبروا على ما قد يترتب على النصيحة من مشقة-أحيانا-فإن الله تعالى قد أوجب على عباده القيام بالنصح، وهو وظيفة جميع الأنبياء والمرسلين، ووظيفة أتباعهم من العلماء والفقهاء في الدين:
كما قال تعالى عن هود لقومه: ((أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين)) الأعراف: (68) وهكذا سائر الأنبياء، صرحوا بنصحهم لأممهم.
وقد جعل الرسو صلى الله عليه وسلم الدين هو النصيحة، فقال: (الدين النصيحة) وعلى العلماء تقع مسؤوليتها العظمى، وتترتب عليها تحقيق مصالح الأمة، كما تترتب على فقدها من المفاسد ما ينزل بها الضنك والغمة.
ولا ينبغي أن يصاب العلماء باليأس من قبول الحكام نصيحتهم، بل ينبغي الأمل في قبولها، وأن يكرروا النصح بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدلوهم على الخير، ولا يدعوا بطانات السوء تستفرد بهم وتدلهم إلى الشر.
ثم لو فرض أن الحكام لم يقبلوا نصيحة العلماء، فقد أقاموا عليهم الحجة أمام الله وبرَّءوا أنفسهم من تبعة السكوت عن كلمة الحق.
وما أعظم كلمة حق يلقيها أهل العلم إلى سمع أهل الجور، ليجلبوا بها العدل للناس، ويرفعوا بها عنهم الظلم والباس!
فقد روى عن أبو سعيد الخدري أن صلى الله عليه وسلم قال (إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) رواه الإمام الترمذي، وقال: " وفي الباب عن أبي أمامة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" (4/471)
وذكر الحديثَ مطولا في المسند الإمامُ أحمد، وفيه: (ألا لا يمنعن رجلا مهابةُ الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) (3/19)
وهنا ترد على العالم المتقي جميع النصوص الواردة في القرآن والسنة، في بابي النصيحة و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تذكر سيرة دعاة الإسلام وفقهائه الذين قاموا بواجبات البابين.
المحور الثامن: مبادرة العلماء بالصلح بين المختلفين:
وإن مما يجب على العلماء القيام به، الصلح بين المتخاصمين، وبخاصة حكام الشعوب الإسلامية، عندما يقع بينهم التنازع المؤدي إلى الفشل، وما أكثره في هذا الزمان!(8/393)
فلا يليق بالعلماء أن يقعدوا عن القيام بالصلح بين الدول والشعوب الإسلامية، بل يجب أن يتداعوا إليه ويبادروا من عند أنفسهم، للقيام بهذا الواجب العظيم، وأن يكون صلحهم قائما على العدل والصدق مع ربهم، غير منحازين إلى هذه الطائفة أو تلك، ففي الإصلاح بين الناس بالعدل جمع لكلمة الأمة، وجلب لقوتها وعزتها، ووقاية من التمزق والتصدع اللذين هما من أهم أسباب ضعف المسلمين أمام أعدائهم.
ومن عجائب الأمور أن يقبع العلماء في منازلهم، أو في مكاتبهم، في وقت يعصف التنازع بالدول والشعوب الإسلامية، دون أن يحركوا ساكنا، حتى تحشد كل دولة علماءها ومن وافق رغبتها من علماء البلدان الأخرى، لعقد مؤتمرات وإقامة ندوات لإصدار قرارات من علماء كل دولة ضد الدولة الأخرى، فيتسابق العلماء إلى التنازع بينهم، كما تسابق إلى ذلك الحكام والزعماء!
والشعوب الإسلامية تتجرع مرارة تنازع علمائها وحكامها، وتزهق أرواحهم وتهدر أموالهم، وتخرب ديارهم وترمل نساؤهم، وييتم أطفالهم، وتستباح ضرورات حياتهم، وهم يرمقون مواقف علمائهم وحكامهم وينظرون إليها نظرة عجب وازدراء، وفي الحربين الخليجيتين المدمرتين عبرة ومثال، كما في الحرب الضروس التي جرت ولا زالت تجري بين الأفغان في الوهاد والجبال، ولازالت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها يعدون العدة لتدمير بقية بلدان المسلمين.
أين نحن يا علماء الأمة الإسلامية من آيات كتاب الله التي نتلوهن ليلا ونهارا؟
قال الله تعالى: ((لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما)) النساء: (114)
وقال: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)) الحجرات: (9)
والواجب على العلماء، إذا قدموا النصيحة وقاموا بالصلح، ولم يستجب لهم أن يعلنوا للأمة الإسلامية الحق ويبينوا لها الظالم من المظلوم، ويدعوا أهل الحل والعقد إلى القيام بواجب رد المعتدي عن عدوانه، وإعطاء صاحب الحق حقه، تنفيذا لأمر الحق جل جلاله: ((فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله))
ولقد ذقنا وبال نسيان هذه القاعدة العظيمة التي اغتنم أعداء الإسلام فقدها في حياتنا، فتدخلوا في شؤوننا واتخذوا كل سبب من الأسباب التي توري نار النزاع بيننا، ليجلبوا علينا بخيلهم ورجلهم، ويعتدوا على ضرورات حياتنا، كما هو الواقع اليوم!
نعم قد يقال: إن العلماء لا يتيح لهم حكام بلدانهم المبادرة بالاجتماع بأمثالهم في البلدان الأخرى، للقيام بالنصح والصلح، لأن كل دولة تستغل علماءها لدعم موقفها في اجتماعات مرتبة لهم، وهذا صحيح، وهنا يجب على العلماء إذا اجتمعوا في بلدانهم أن يعلنوا كلمة الحق بالعدل، وألا يخافوا في الله لومة لائم، حتى لا يكونوا مطايا وجسورا للسياسات المتقلبة.
فسياسات الحكام الذين لا يلتزمون شرع الله في تقلب دائم، لا ولاء لها، ويتبع تقلبَ ولاآتهم، تقلبُ مناهج حياتهم وتشريعاتهم وقوانينهم، وكافة تصرفاتهم: فالحق الذي يدعون له اليوم ويعلنونه ويقاتلون عليه، يصبح غدا عندهم باطلا، يحاربونه ويحاربون من يدعو إليه، وصديق السياسي اليوم هو عدوه غدا.
والفرض في العلماء ثبات ولائهم لله ولرسوله وللمؤمنين، فلا تتقلب مواقفهم بتقلب السياسات المضطربة التابعة لأهواء أصحابها.
ثم إن الله قد هيأ للعلماء اليوم وسائل كثيرة لاتصال بعضهم ببعض وتشاورهم، وتدارس أي أمر من أمور الأمة، وهم في منازلهم وعلى مكاتبهم، ولكن غالبهم أهملوا أو قصروا في استعمال هذه الوسائل التي ساقها الله إليهم، فحبسوا أنفسهم في زنزانات واسعة، هي بلدانهم ومنازلهم.
والعالم غير الإسلامي يتحرك من حولنا ويتواصل و يدبر لديننا المكايد، ويبرم له عظائم الأمور.
هذا مع ما هو معلوم من أن الرسو صلى الله عليه وسلم ، قد استعمل كل وسيلة أتيح له استعمالها لإبلاغ دعوته إلى كل من استطاع إيصالها إليه.
فقصد الناس ماشيا على قدميه في أماكن عبادتهم، وقصدهم في أسواقهم، وقصدهم في قراهم ومخيمات حجهم، ونادى الناس بأعلى صوته من على جبل أبي قبيس، ودعا عامة قريش وخاصتهم، فدعاهم وأنذرهم، كما أرسل رسائله ورسله إلى أعيان الناس وملوك الأمم...وركب كل أنواع المركوبات في عهده.
وها قد هيأ الله لعلماء الإسلام في هذا العصر من وسائل الاتصال ما هو سائلهم عنها، إن لم يستعملوها في القيام بواجبهم.
فيجب علهم-وهم ورثة نبيهم الكريم- أن يقتدوا به في استعمال كل وسيلة تتاح لهم، لإبلاغ الناس دين الله، ولا يليق بهم أن يهملوا تلك الوسائل النافعة المفيدة، وعلى حكام المسلمين تمكين العلماء من القيام بالبلاغ المبين الشامل لحياة الأمة، باللغة العربية وغيرها من لغات العالم.
http://www.saaid.net/Doat/ahdal/14.htm
المحور التاسع: السهر على ثوابت الأمة:
وإن من واجب العلماء، أن يسهروا على رعاية ثوابت الأمة، وهي ثوابت الإسلام التي لا يجوز أن تمس بتغيير ولا تبديل:(8/394)
وذلك يشمل ما جاءت به شريعة الله في كتابه وسنة رسوله، وبخاصة أصول الإسلام وأصول الإيمان، وفرائض الشريعة وواجباتها، ومحرماتها ومحظوراتها، وثوابت نظام الأسرة، وثوابت الحدود الزاجرة عن الجرائم والاعتداء على حقوق الله وحقوق عباده، ومقاصد الشريعة العامة والخاصة.
فالسكوت على حرمان الأمة الإسلامية من تطبيق شريعة الله التي لا سعادة لهم بدونها، هو كتمان للحق الذي سبق وعيد الله الشديد عليه:((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)) البقرة: (159)
المحور العاشر: الأخذ بحسن ظن بعضهم في بعض، وعدم قبول ما يقوم به بعض صغار طلاب العلم من غيبة في علماء آخرين، ونسبة بعض النقائص إليهم، فالغيبة معصية، والرضا بها معصية، وتحقير العلماء معصية، والرضا به معصية، ويجب تأديب من يسلك هذا المسلك وزجره وتأنيبه.
كما يجب التثبت مما ينقله هؤلاء عن العلماء، بالاتصال المباشر بهم أو مكاتبتهم، وفتح حوار معهم مع الالتزام بأدب الخلاف، حتى يغلقوا بذلك أبواب تحريش الشيطان بينهم.
ويجب على العلماء البعد عن تكفير بعضهم أعيان بعض، بسبب ما تحصل من مخالفة بعضهم لبعض في بعض الجوانب العقدية، حتى يحاوروهم ويستمعوا لوجهة نظرهم وأوجه استدلالهم، فقد يكون الحق معهم، لا مع من يكفرهم، وقد يكون للمخالف تأويل يمنع تكفيره وإن كان مخطئا، فالتكفير لا يجوز إطلاقه على معين، إلا بوجود شروط وانتفاء موانع، وما كل كفر يأتيه المرء يكون كافرا به.
قال ابن تيميه رحمه الله: "وأما الحكم على المعين بأنه كافر، و مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه........
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين.. فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة..). [مجموع الفتاوى (12/497-501، وراجع:523)]
المحور الحادي عشر: التصدي للشبهات التي يبثها الحاقدون على الإسلام، غلاة العلمانيين، وبقايا الشيوعيين الملحدين، ممن ينتسبون إلى آباء مسلمين، الذين تمكنهم بعض الفضائيات العربية التي تحارب الإسلام باسم "الحرية" و"الرأي والرأي الآخر" من بث سمومهم، والطعن في كتاب الله وسنة رسوله ورد أحكامها ومبادئهما الثابتة، كتلك الملحدة التي لا تزال تصدر فتاواها الشيطانية في تلك الفضائيات المشبوهة، بدون رادع يردعها.
فهي ترد حكم الله في التفريق بين الذكر والأنثى في الإرث المجمع عليه بين المسلمين من وقت نزول الوحي إلى يومنا هذا، وعندما أنكر عليها أحد المشاهدين تدخلها في هذا الأمر، وهي جاهلة بالشريعة، ردت عليه بأن والدها كان عالما، وأنها هي درست كتاب الحيوان للجاحظ!!!
أرأيت مؤهلات هذه المفتية، بل "المفتنة"؟ أبوها كان عالما، وهي قرأت كتاب الحيوان؟! ولذلك يحق لها أن ترد أحكام الله باسم الاجتهاد!
لقد سمعت كلامها هذا وشاهدتها وهي تتشدق به على الملأ قبل أكثر من سنتين، في القناة التي لا ترد يد لامس: "A r T"
وقريبا عَقَدت تلك الملحدة مؤتمرا لتنفث فيه سمومها ضد الإسلام:
(مؤتمر .... يطالب بمنع ختان الذكور)
http://www.islam-online.net/A r abic/news/2002-01/07/A r ticle53.shtml
وغيرها كثير من أتباع عبد الله بن أبي بن سلول...
إن من واجب العلماء أن يتصدوا لأمثال هذه الملحدة، أن يحتجوا على الفضائيات التي تستضيفهم للهجوم على الإسلام من أرض الإسلام...
إن ذلك من أوجب الواجبات على العلماء، وبخاصة أولئك الذين يتولون مسؤولية بعض المؤسسات الإسلامية المشهورة في العالم، كالأزهر وجامعته، ومركز البحوث الإسلامية في القاهرة، ورابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لها في مكة المكرمة، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة، والمنظمة العربية للثقافة والعلوم "الأسيسكو" في المغرب، وكذلك الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، كافة المؤسسات الإسلامية، منها "جمعية الإصلاح الاجتماعي" في الكويت، وزارات الشؤون الإسلامية والأوقاف في جميع حكومات الشعوب الإسلامية.
لا أدري كيف يطيب لهؤلاء المنام والإسلام يهاجم كل يوم من هذه الفضائيات، ويعكف على مشاهدة هذا الهجوم وسماعه والتأثر به أبناؤنا وبناتنا في منازلنا وفي مؤسساتنا العامة والخاصة؟؟
لا أدري أينام هؤلاء المسؤولون إذا شاهدوا أحدا يسبهم ويعيبهم في تلك الفضائيات، بدون أن يخططوا لمحاكمة من يسبهم ويعيبهم؟؟
هل كثر إمساسنا فقل إحساسنا يا علماءنا؟ وهل يمكن أن نصون سفينتنا والمنكر يستشري في ديارنا؟
ومع أسفي واعتذاري الشديدين لعلمائنا الأفاضل، لا أرى مانعا أن أذكرهم بصرخة العالم الغيور الذي لم يطق صبرا على السكوت عن المنكر، وهو العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله الذي نعى على من ينتصرون لحظوظ أنفسهم ولا ينتصرون لدين الله، عندما قال:(8/395)
"وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما..... وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات فلم يحدثوا قلوبهم بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي.....
ومن له خبرة بما بعث الله به رسول صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا.
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان؟ شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله، بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.
وهؤلاء-مع سقوطهم في عين الله ومقت الله لهم-قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل..." انتهى كلامه من كتابه الجليل:[ إعلام الموقعين عن رب العالمين عن رب العالمين (2/176-177)]
لماذا لاتخصص هذه المؤسسات مراقبين لمدة معينة يحصرون فيها الاعتداء على الدين، من الفضائيات والجهلة الذين تستضيفم، ثم يقيمون دعوى على الجميع في المحاكم للانتصار للدين الإسلامي، حتى لا يتمادوا في تضليل عقول أبناء المسلمين؟
8/11/1422هـ _ 22/1/2002م
في منتدى أمسية:
http://www.omsyah.com/vb/showth r ead.php?th r eadid=1738&goto=newpost
===============(8/396)
(8/397)
كيف نصون السفينة - واجب الحكام …
أساس شرعية الحاكم المسلم أن يحكم بشرع الله.
لكل أمة أساس لحكمها، يتضمنه دستورها وقوانينها المنبثقة عنه، وعلى أساس ذلك الحكم تقوم حياتها.
والحكم -في الأصل- عقد بين الأمة والحاكم على ذلك الأساس، ويجب عليهما الوفاء بما تم عليه العقد، لقول الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)) فإذا خرج الحاكم على ذلك الأساس، فقد أهليته في تولي الحكم.
والأمر كذلك إذا تولى حكم الأمة بالتغلب، بدون شورى المؤمنين، كما يحصل في الانقلابات العسكرية ونحوها، فليس للوالي أن يحكم المسلمين بغير دينهم وشريعتهم.
فأساس شرعية حاكم الأمة في الإسلام، هو شرع الله الذي يعد مخالفه خائنا لله ولرسوله وللمؤمنين، خارجا على العدل الذي نزل هذا الشرع لإقامته في الأرض، ولهذا أمر الله ولاة أمر المسلمين بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، فقال تعالى:
((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا)) [النساء: 58]
وبالحكم بالعدل تتحقق مقاصد شرع الله التي تضمنها كتابه وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، واستنبطها مَن فقَّههم الله في دينه من أهل العلم، وكل حكم خالف شرع الله، فهو ظلم وليس بعدل، وباطل وليس بحق.
وعلى الحكم بالعدل المنزل من عند الله، سار أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة و السلام، كما قال تعالى عن دود عليه السلام: ((وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب(21) إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط)) [ص: 22]
وقال تعالى آمرا رسوله محمدا r بذلك فقال: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون)) [المائدة: 49]
وكما أمر الله ولي الأمر بالحكم بشرع الله، أمر الرعية بتحكيمه، ونفى عمن لم يرض بذلك الإيمان، فقال تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) [النساء65]
ولما كانت مخالفة الحكم بشرع الله مؤدية إلى الظلم واختلال نظام الأمة، وضياع حقوقها، وإهدار ضرورات حياتها، وهي : الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وما يتبعها من حاجيات وتحسينيات، استحق المخالفون له الوصف بالكفر والظلم والفسق، كما قال تعالى: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.)) [المائدة: 44، 45،47]
مظاهر الحكم بشرع الله:
وللحكم بشرع الله مظاهر لا تخفى على الأمة:
المظهر الأول: التزام الحاكم والمحكوم طاعة الله وطاعة رسوله.
المظهر الثاني: الاعتراف بأن كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، هما المرجع لما اختلف فيه من الحق، سواء كان الاختلاف بين الرعية، أو بينها وبين الحاكم نفسه.
وقد تضمن هذين المظهرين قوله تعالى: ((يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)) [النساء:59]
ومن أبى أن يرجع في التنازع إلى الله ورسوله (القرآن والسنة) واعتقد جواز تحكيم غير شرع الله، فليس هو بالمؤمن، سواء كان حاكما أو محكوما، وإنما هو من المنافقين أتباع عبد الله بن أبي الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، ويتذرعون بشتى الأعذار لإقصاء شرع الله عن حياة الأمة.
وفي هؤلاء قديما، وفي أمثالهم حديثا، قال الله تعالى: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا(60) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا(61) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا(62) [النساء:]
المظهر الثالث: المساواة بين الرعية، مسلمهم وكافرهم: في إعطاء كل ذي حق حقه، وفي إقامة حكم الله على الجميع، دون تفريق بين كبير وصغير وشريف ووضيع وقريب وبعيد، والمساواة في ذلك من مقتضيات العدل، كما قال تعالى: ((يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)) [المائدة: 8]
ولقد حذر رسول ا صلى الله عليه وسلم أمته من عدم المساواة بين الناس في الأحكام، وبين أن ذلك سبب في هلاك الأمم، كما ثبت في حديث عائشة المتفق عليه، قالت: "إن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟
فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُّ رسول ا صلى الله عليه وسلم .(8/398)
فكلمه أسامة. فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم (أتشفع في حد من حدود الله؟!)
ثم قام فاختطب، فقال: (أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) هذا لفظ مسلم، وهو فيه برقم: "1688" و هو في صحيح البخاري برقم: "3288"
ويدخل في ذلك كل حكم من أحكام الإسلام، سواء تعلق بالأموال، أو بالأنفس، أو بالأعراض، أو بغير ذلك.
وبالعدل والمساواة تطمئن نفوس الرعية وتستقر أحوالهم، ويأمنون على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
ويقوى نشاطهم في عمارة وطنهم، بالتجارة والزراعة والصناعة، وتتوطد العلاقات بينهم وبين ولاة أمرهم، فيثق بعضهم في بعض، ولا يخافون من ظلم ظالم ولا غدر غادر، مهما عظمت منازلهم الاجتماعية، وعلت مراتبهم السياسية أو سفلت، لعلمهم بوجوب ذلك لبعضهم على بعض، وبأن سوط عدل الحاكم مرفوع لإنصاف المظلوم وردع الظالم.
وبذلك يحصل الوئام بين الرعاة والحكام، وتسلم الصدور من الضغائن والأحقاد، ويتم التعاون على جلب المصالح ودفع الفساد.
بخلاف الحاكم الجائر الذي يتخذ سلطته وسيلة للاعتداء على حقوق الرعايا، ويعين ذوي الحيف من بطانته، على سلب الناس حقوقهم، فإن الشعب الذي يبتلى بمثل هذا الحاكم، يعيش في ذل وهوان دائم، ينام مرعوبا بالكوابيس، ويصحو مشفقا على نفسه من هجمة الظلمة الأباليس.
يحجم الناس في ولايته عن الاقتناء والكسب، خشية على حقوقهم من النهب والسلب، فتضعف في البلاد الصناعة، ويزهد الناس في مزاولة التجارة ومهنة الزراعة.
وهنا تنطوي قلوب الناس على الغل و الأحقاد، ويعم البلاد الإجرام والمصائب الشداد، ويصبح الأمن مفقودا بين العباد، وجِران الخوف على طولها وعرضها في امتداد.
تقطع فيها السبل و الطرقات، وتسلب فيها الأموال وتنتهك الأعراض الشريفات، وتسفك الدماء وتزهق النفوس المحرمات، ويتمنى الأحياء أن يكونوا في القبور مع الأموات.
ولهذا تواترت نصوص القرآن والسنة، في النهي عن الظلم والتحذير منه، وبيان عواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة.
وليس المقام هنا مقام سرد لتلك النصوص كلها، فجميع عقلاء بني آدم يعلمون أن العدل خير مطلوب، وأن الظلم معدود في أعظم الذنوب، وإن تعاطى بعضهم الظلم وترك العدل.
قال تعالى: ((وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)) [هود:102]
وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) قال ثم قرأ: ((وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)) [الحديث في صحيح البخاري برقم: 4409]
وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) [الحديث في صحيح مسلم برقم: 2577]
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: ( الظلم ظلمات يوم القيامة) [صحيح البخاري برقم: 2315وهو في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله برقم: 2578]
جعل الإسلام أساسا للولاء بين الحاكم والمحكوم
إن الولاء القوي المتين القابل للدوام، بين الحاكم ورعيته، إنما هو ولاء الإسلام، فهو العروة الوثقى التي لا تقبل الانفصام، والحصن القوي الذي يمتنع على الاقتحام، والبناء الراسي الذي يستعصي على المعتدين من ذوي الإجرام.
إن المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله، ويعبدونه حق عبادته، هم أهل الولاء الدائم، وقد قرن تعالى ولاءهم بولائه وولاء رسوله، إشارة إلى قوة هذا الولاء ومتانته، وأن لأهل هذا الرابط الغلبة على أعدائهم، كما قال تعالى:
((إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون(55) ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون)) [المائدة:56]
ومن صفاتهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهما عبارة عن قيامهم بحق الله وحق عباده، ومن صفاتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عبارة عن حرصهم على حفظ نظام الأمة وصيانته من التفكك والانحلال، وهؤلاء هم الذين يستحقون رحمة الله في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:
((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)) [التوبة:71]
هذا الولاء هو الذي يدوم ولو تباعدت بين أهله الأنساب، وانقطع بينهم ما اتصل بين غيرهم من الأسباب، وفي تاريخ المسلمين المعتصمين بحبل الله ما يقطع حجة كل مرتاب، وقد بين ذلك في كتابه المبين:
((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون)) [آل عمران:103]
وكل ولاء غير الإسلام قابل للنقض بعد الإبرام، وللزوال بعد التمام.(8/399)
وإن في قصة سحرة فرعون الذين دانوا له بالولاء، بما يمنحهم من الأجر والتقريب إليه، وتغير ولائهم له- مع قوة ملكه، وعظيم ترغيبه، وشدة ترهيبه-إلى ولائهم لعدوه موسى عليه السلام، الذي لا يملك شيئا غير إيمانه بربه وتوكله عليه، إن في تغيير ولائهم لفرعون وزهدهم في ماله وقربه، وعدم المبالاة بتهديده، إلى الولاء لله ولرسوله موسى عليه السلام، لعبرة للملوك والرؤساء الذين يجعلون أساس الولاء بينهم وبين أعوانهم غير الإسلام.
ويكفي أن نقرأ هذه الآيات الكريمة بدون شرح ولا تعليق، فهي واضحة بينة وضوح الشمس في كبد السماء، قال تعال:
((وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين(113) قال نعم وإنكم لمن المقربين(114) قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين(115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم (116) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون(118)فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين (119) وألقي السحرة ساجدين(120) قالوا ءامنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون(122) قال فرعون ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون(123) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين (124)قالوا إنا إلى ربنا منقلبون (125) وما تنقم منا إلا أن ءامنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين(126) [الأعراف]
((فألقي السحرة سجدا قالوا ءامنا برب هارون وموسى (70) قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى(71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا (72) [طه]
والذي يقرأ التاريخ يجد فيه البراهين الساطعة والحجج القاطعة، على أن الولاء على غير الإسلام، من مال أو منصب أو جاه، لا يعصم الحكام من خيانة من يوالونهم على ذلك وخروجهم عليهم.
فتجد الابن يخرج على أبيه، والأخ يقتل أخاه، والقريب يستولي على ملك قريبه، وكبار رجاله يقلبون نظام حكمه ويسفكون دمه أو يهينونه في غياهب السجون، فيصبح مجرما بعد أن كان مطاعا محترما...
والسبب في ذلك أن الولاء على المال أو المنصب أو الجاه أو النسب، قابل للتغيير والتبديل، فقد يجد من يوالي الحاكم على المال، من يعطيه مالا أكثر، ويجد من يواليه على المنصب من يمنحه منصبا أعلى، ويجد من يواليه على النسب، من هو أقرب إليه نسبا أو أكثر مصلحة، وقد يواليه بسبب ما يملك من قوة، فإذا صار أقوى منه غدر به، فيغير ولاءه بتغير مصلحته في ذلك كله.
أما الولاء بين الحاكم ورعيته على الإسلام، فالغالب أنه لا يتغير، لأنه مرتبط بالولاء لله ولرسوله وللمؤمنين: ((إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)) وهو ولاء باق دائم، يعبد المسلم به ربه: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين))
فإذا حصل تغيير في هذا الولاء، فلا بد أن يكون سببه ضعف الإيمان المانع من التغيير، من قبل الحاكم أو المحكوم أو من قبلهما معا.
لهذا يجب أن يتخذ الحكام كل وسيلة مشروعة لجعل الولاء بينهم وبين شعوبهم الإسلام، ليقوى بينهم الولاء، ويتم بينهم الوئام والإخاء، ويأمن بعضهم بعضا، ولا يفقدوا الثقة فيما بينهم، لأن فقد الثقة بين الحكام ورعاياهم، يجعل كلا منهم يتوجس خيفة من الآخر، ويتربص به الغدر و الدوائر.
ولا يغتر الحاكم بما قد يظهره بعض رعيته من الولاء، وما يطلقونه عليه من المدح والثناء، فكثيرٌ هم الذين يمدحون الحاكم شعرا ونثرا، ويثنون عليه بألسنتهم مساء وفجرا، وهم يلعنونه بقلوبهم إذا غابت رقابته سرا وجهرا.
ولقد أجاد ابن القيم رحمه الله في وصف من يظهرون للإنسان حبهم له، وهم في الحقيقة أعداء، ويظهرون له أنهم يريدون نفعه، وهم لا يريدون إلا منفعة أنفسهم وإن أضروه، فقال رحمه الله:
"ومما يبين ذلك أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك، وإن كان ذلك ضررا عليك، فإن صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها، فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك.
وهذا إذا تدبره العاقل علم أنه عداوة في صورة صداقة، وأنه لا أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة، فهم يريدون أن يصيروك كالكير، ينفخ بطنك ويعصر أضلاعك في نفعهم ومصالحهم.
بل لو أبيح لهم أكلك لجزروك كما يجزرون الشاة، وكم يذبحونك كل وقت بغير سكين لمصالحهم، وكم اتخذوك جسرا ومعبرا لهم إلى أوطارهم وأنت لا تشعر، وكم بعت آخرتك بدنياهم وأنت لا تعلم وربما علمت، وكم بعت حظك من الله بحظوظهم منك، ورحت صفر اليدين...." [طريق الهجرتين وباب السعادتين:(1/107-108)]
العمل بمبدأ الشورى:
سأستعير هنا نصا-مع شيء من التصرف- من كتابي "الشورى":(8/400)
"إن الشورى في الإسلام قاعدة من قواعده التي إذا فقدت اختل نظام الأمة، وانفرط عقد ائتلافها واجتماع كلمتها، وحلت فيها الفوضى، وسار كل شيء في غير مكانه اللائق به، وحلت في مجتمعها الفوضى.
إن الشورى من صفات المؤمنين التي لا غنى لهم عنها في حياتهم، ولا غنى لهم عنها في الوصول إلى رضا ربهم، وهي من القواعد الرئيسة التي أبرز خطرها القرآن الكريم في عهده المكي، قبل أن تقوم للمسلمين دولة، كما قال تعالى:
((فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى، للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون. والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)) [الشورى: 36-39]
وكانت الشورى من القواعد التي حرص الرسو صلى الله عليه وسلم على تطبيقها مع أصحابه، وقد ساق الإمام البخاري رحمه الله، عدة حوادث شاور فيها أصحابه، وذكر أن الأئمة بعده كانوا يستشيرون الأمناء من أهل العلم. [صحيح البخاري: (8/162-163] وفتح الباري [13/339]
وقد أضيف الأمر في قوله تعالى: ((وأمرهم)) إلى الضمير وهو معرفة، وإضافة المفرد إلى المعرفة يكسبه العموم، فكل أمر يحتاج الحاكم فيه إلى إبداء الرأي والمشورة داخل في ذلك. وإنما كانت للشورى هذه المنزلة في الإسلام، لما فيه من الخير العائد إلى المسلمين، حاكمهم ومحكومهم.
فهي توجد بينهم الألفة، وتكون سببا في الوصول إلى الصواب، إما بإبداء الآراء وتمحيصها والخروج منها بالرأي الصائب بصفة جماعية، وإما باستحضار بعض أهل الشورى الحجة التي يقنع به الآخرين.
هذا إضافة إلى ما يوجد لدى بعضهم من الخبرة الطويلة والممارسة في العمل المبني على التخصص الذي لا يستغني عنه المسلمون، وإذا فقدوا ذلك خسروا خسارة عظيمة.
قال الإمام القرطبي -المفسر الفقيه-في تفسير الآيات السابقة: "وقال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم قط إلا هُدُوا، وقد قال الحكيم:
[sh r ]
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن،،،،،،،،،،برأي لبيب أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة،،،،،،،،،،فإن الخوافي قوة للقوادم
[/sh r ]
[الجامع لأحكام القرآن:16(/36-37) والبيتان لبشار بن برد، وهما في كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ(4/49)]
قلت: وكما أثنى الله على المؤمنين بصفة الشورى، فقد أمر بها رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فقال: ((فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين)) [آل عمران: 159]
[كتاب الشورى ص 22،23 وفي الكتاب تفصيل لحكم الشورى، وما تجري فيه الشورى، ومن هم أهل الشورى...]
والمقصود هنا أنه لا يحق للحاكم أن يتصرف في شؤون الأمة، التي تؤثر في حياتها سلبا وإيجابا، متفردا في تصرفاته، دون الرجوع إلى أهل الحل والعقد فيها، لأن الأمة تتحمل المفاسد المترتبة على تصرفه بلا ذنب ترتكبه.
ويشمل ذلك ما يتعلق بمرافق الأمة العامة كلها، كالتعليم والإعلام، والشؤون السياسية، والاجتماعية، والصحية، والمال العام والاقتصاد، والسلم والحرب، والمعاهدات الدولية، فتلك كلها تمس حياة الشعوب، ويعود عليها نفعها أو ضرها، فيجب أن يستشار أهل الحل والعقد فيها...
فقد طبق أصحاب الرسو صلى الله عليه وسلم قاعدة الشورى، بعد وفاته مباشرة في اختيار من يخلفه، وهو أساس الشؤون السياسية [يراجع صحيح البخاري (8/25-28)]
وطبقها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشؤون الصحية [صحيح البخاري (7/21)]
وطبقها في المال العام والاقتصاد [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/1...) وبدية المجتهد (1/418) وفتح الباري (6/24) وكتاب الخراج لأبي يوسف (24-27)] وكتاب الشورى للكاتب [ص 54-71]
ونحن نشاهد في هذا العصر استبداد غالب حكام المسلمين بأمرهم-مع تستر كثير منهم بمجالس برلمانات صورية- في أمورهم الخطيرة التي تعود على شعوبهم بكوارث لا طاقة لهم بحملها، في شؤونهم الداخلية والخارجية، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وعسكرية...
ويكفي أن نعلم أن بعض هؤلاء الزعماء يعلنون الحروب مع جيرانهم، وهي حروب يهلكون فيها الحرث والنسل، ويقضون على الأخضر واليابس، دون استشارة الأمة في ذلك.
وإن ما نراه اليوم من جفاء بين غالب حكام المسلمين وشعوبهم، يعود كثير منه إلى إضاعة قاعدة الشورى الصحيحة، التي يمنح الله بتطبيقها بركة يجمع بها القلوب ويزكي النفوس، ويزيل الأحقاد بين الحاكمين والمحكومين، كما يغري بينهم بفقدها الفرقة والنزاع المؤديين إلى الفشل.
وللقضاء على هذا الاستبداد الظالم، رأى العلماء عزل الحاكم الذي لا يستشير أهل الحل والعقد، كما قال ابن عطية رحمه الله:
"والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه....." [الجامع لأحكام القرآن (4/249]
إقامة قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(8/401)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم قواعد هذا الدين، التي تبنى حياة الأمة على إقامتها.
وهو من أخص صفات عباد الله المؤمنين التي وعد الله من اتصف بها أن ينال رحمته، كما قال تعالى:
((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)) [التوبة:71]
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من لوازم الولاء بين المؤمنين عموما، وبينهم وبين ولي أمرهم خصوصا، كالصلاة والزكاة، وغير ذلك من طاعة الله تعالى، كما هو واضح من الآية السابقة.
وإذا كان الله تعالى قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب رحمته، فإنه تعالى جعل ترك ذلك من أسباب طرده ونقمته، كما قال تعالى:
((لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون(78)كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)) [المائدة: 79]
والأمة التي تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهددة كلها بعقاب الله تعالى لها في الدنيا والآخرة، وأعظم ما يعاقبها الله به في الدنيا اختلاف قلوبها، وإغراء العداوة والبغضاء بينها، وعدم استجابته دعاءها لكشف السوء عنها.
وإن ما أصاب الله به الأمة الإسلامية من الفتن والمصائب العظام في كل أنحاء الأرض اليوم، لهو نذير من نذره تعالى على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وقد قال تعالى منذرا عباده المؤمنين، من تركهم الظالم يعيث فسادا في الأرض، بأن فتنة الظلم لا تخص الظالم فقد، وإنما تعم المسلمين جميعا، كما قال تعالى:
((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)) [الأنفال:25]
وفي حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: (والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) [الترمذي: 4/ 468]
وفي حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده.
فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قرأ ((لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم)) إلى قوله ((فاسقون)) ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا) [سنن أبي داود: 4/ 121]
وقد كلف الله جميع عباده المؤمنين القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على لسان رسول صلى الله عليه وسلم ، كل منهم حسب طاقته، كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قال: سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [صحيح مسلم: 1/69]
نعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على كل مسلم، في حدود موقعه وقدرته، ولكن وجوبهما على الحاكم أعظم، لما أعطاه الله من القدرة، وما آتاه من التمكين في الأرض.
فإذا ترك المعروف أو وقع المنكر في منزل الأسرة، وجب على القادرين في الأسرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا حصل ذلك في مصنع أو إدارة وجب على رب المصنع أو الإدارة القيام بواجبه.....
لكن المنكر عندما ينتشر في البلد كله، في الشارع والسوق والبر والبحر، وفي مرافق الدولة، كالإعلام والتعليم والاقتصاد، فيعتدى على الحقوق، وتنتهك الأعراض، و تزهق الأرواح، وتقطع الطرقات...
عندئذ لا يمكن أن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ولي الأمر الذي بيده قوة المال وقوة السلاح، ووسائل الضبط، ووسائل الاتصال العامة، من إذاعة وتلفاز وصحافة، كما أنه قادر على تعميم ذلك عن طريق أئمة المساجد وخطبائها... ولهذا يتعين عليه الأمر والنهي، لأن قراراته تنفذ في أصعب الأمور، التي يحشر لتنفيذها كل الوسائل والأسباب.
وإن صدور قرار الحاكم بأمر أو نهي، ليجعل الرعية كلها تأخذه مأخذ الجد، إذا علموا إصراره على تنفيذ قراره، لأن كبار موظفيه من الوزراء والشرطة وأجهزة الأمن تتعقب كل مخالف لقراره، في المدن والأحياء والحواضر والبوادي.
ومن هنا يظهر لنا شيء من حكمة جعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أهم وظائف ولاة الأمور المقرونة بأهم حقوق الله بعد الشهادة، وهي الصلاة، وأهم حقوق عباده، وهي الزكاة، كما قال تعالى:
((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) [الأنبياء: 41](8/402)
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تجتمع كلمة الأمة على الحق، ويحصل الانسجام بين أفرادها وجماعاتها، وبينها وبين ولاة أمرها، لاتجاههم جميعا إلى الأعمال الصالحة، والسعي في جلب مصالح الأفراد والمجتمع، واتخاذ الأسباب المانعة من وقوع المفاسد المهلكة، ويألف الناس الحرص على فعل الخير وترك الشر، وبذلك تغرس الطهارة الحسية والمعنوية في نفوس الناس.
وبترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تختلف قلوب الأمة، وتتصدع صفوفها، ويحصل بينهم التنازع والخصام، ويعم الفساد في الأرض، لأن تاركي المعروف وفاعلي المنكر يتبعون أهواءهم، ولا يمكن اجتماع أهل الأهواء على شيء فيه صلاحهم وفلاحهم، لأن كل واحد له من الأهواء ما يخالف بها الآخرين، بل إن أهواء الإنسان تتعدد وتختلف، فما يهواه اليوم قد يبغضه غدا، وما يبغضه اليوم قد يهواه غدا.
ولقد كان الهوى هو معبود من كفر بالله وعصى رسله عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ((أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا)) [الفرقان: 43]
وقال تعالى ((فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)) القصص: 50]
هذا حال أهل الأهواء يتنازعون فيما بينهم، بحسب تنازع أهوائه.
بضاف إلى ذلك تنازع أهل الحق وأهل الباطل، وهم أهل الأهواء فأهل الحق يعملون بالمعروف ويأمرون به، ويتركون المنكر وينهون عنه، وأهل الباطل يعملون المنكر ويأمرون به ويتركون المعروف وينهون عنه.
وقصص الأنبياء مع أممهم، وقصص دعاة الخير والصلاح مع المفسدين في الأرض، شاهدة على ما يصيب الأمم من تنازع وتقاتل ودمار.
تصور أمة هذا حالها: تنازع بين أهل الأهواء وخصام، وتنازع بين هؤلاء وبين أهل الحق، كيف يكون حال هذه الأمة؟
إنه لا يوحد هذه الأمة ويجمع كلمتها إلا حاكم مسلم، ملتزم بشرع الله يرد رعيته كلهم إلى الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإن الحاكم الذي يترك الناس هملا، كالبهائم يرتكبون المنكر، ويتركون المعروف، لهو حاكم سوء، يجلب على الأمة الفساد والخسران المبين:
((والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر))
فكيف إذا كان الحاكم نفسه، هو الذي يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، كحال كثير من حكام المسلمين اليوم، الذين ينشرون المنكر تشريعا وقضاء وتنفيذا، وإعلاما وتعليما، وأخلاقا، مستخدمين في ذلك مرافق الشعوب وأموالها، وطاقات أبنائها، محاربين لتطبيق شرع الله، يتكبرون على الناصحين، الذين إذا أمروهم بتقوى الله أخذتهم العزة بالإثم، متشبهين بسلف أفسدوا في الأرض:
((ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد (206) [البقرة]
((والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)) [النساء:27]
فليتق الله حكام المسلمين في قيادة أمتهم بشرع الله، ليرضوا الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ليحققوا الصلاح في الأرض، ويطردوا الفساد منها، ولتجتمع كلمتهم جميعا على إحقاق الحق وإبطال الباطل...
صدق الحكام ووضوحهم مع شعوبهم في كل الأمور التي تهمهم، وتعود عليهم - عاجلا أو آجلا - بمصالح أو مفاسد، فإن ذلك واجب على الحكام دينا وسياسة، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين-وأنتم أجدر بأمره- بالتقوى والصدق، فقال تعالى: ((ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) [التوبة:119]
إن صدقكم شعوبكم -أيها الحكام-يجعلهم يصدقونكم، ويجلب لكم جميعا المصالح التي تستقيم بها الحياة، في الدنيا والآخرة، يوم لا ينفع عند الله إلا الصدق، كما قال تعالى: ((قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم)) [المائدة:119]
ومن الأمثال العربية: "إن الرائد لا يكذب أهله"
نعم أثنى الناس على هذا الاعتراف، لالأنهم يجهلون مضمونه، وإنما لخروجه عن المألوف الذي لم تعرف الشعوب العربية غيره من زعمائها، وهو عدم"المفاتحة والمصارحة"
وكم يستبشر الناس بسماع كلمة صد يتفوه بها حاكم من حكامهم في أمر يهمهم، لا لأنهم يجهلون الحقيقة التي اعترف بها، وإنما لكثرة التصريحات المضللة من كثير من الحكام، ولندرة التصريحات الصادقة.
إن الصدق مع شعوبكم، من أهم أسباب حصول الثقة الصادقة الظاهرة والباطنة، بينكم وبينهم، الثقة التي يبنى عليها الولاء الصادق، والتعاون النافع المثمر الدائم.
وليست الثقة المزيفة التي يخالف باطنها ظاهرها، فهذه ثقة سراب خادع، يبرم كل من الشركاء فيه أمر سوء وهلاك لشريكه، في أقرب قرصة تتاح لي منهم، ثقة هي اسم دون مسمى، ضارة غير نافعة في الدنيا والآخرة.
حفظ نظام الأمة وإرساء الأمن الشامل لحياتها على أساس الشريعة:(8/403)
إن المقصد العام من التشريع، الذي لا يمكن تحقيقه، إلا بتصدي الحاكم المسلم له، هو حفظ نظام الأمة بصلاح من يقوم بحراسة هذا النظام وتدبيره، وهو الإنسان، بحيث يشمل صلاح عقله وعمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم.[أخذ المعنى من مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ الطاهر بن عاشور ص: 273 الناشر دار النفائس- الأردن]
فمن أهم واجبات الحكام حفظ النظام القائم على شرع الله، وإرساء الأمن العام الشامل لحياة الأمة المعنوية والحسية... الذي تتحقق به حماية الضرورات التي لا تستقيم الحياة بدونها، وهي: "الدين... والنفس... والنسل... والعقل... والمال" وما يكملها.
والمقصود بالضروريات، كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "...فمعناها أنه لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت، لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين" [الموافقات:بتحقيق عبد الله دراز 2/8]
وبهذا يعلم أن عدم حفظ هذه الضرورات على أساس شرع الله، يكون فيه هلاك الأمة الإسلامية وذوبانها، وفقد عزتها وكرامتها، وجعلها نهبا لأعدائها.
[للكاتب رسالة خاصة لخص فيها القول في هذه الضرورات، في حدود ما أمكنه. وهي بعنوان: الإسلام وضرورت الحياة-الناشر دار المجتمع بجدة]
وإن جل ما أصاب هذه الأمة اليوم من ضعف وتأخر وهوان، وخضوع لأعداء الله، يعود إلى التفريط الشديد في هذه الضرورات، وعدم تطبيق شرع الله في حفظها وحمايتها، في غالب البلدان الإسلامية.
فهاهم أعداؤنا من اليهود والنصارى والوثنيين، يعتدون على ديننا، ونفوسنا، ونسلنا وعقلنا ومالنا، في كل الأقطار الإسلامية، فلا يجدون من يحمينا بشريعتنا من عدوانهم.
بل إن غلاة العلمانيين المنتسبين إلى الإسلام في بلدان المسلمين، يتعاونون مع أعداء الإسلام، ويستعينون بهم على الانقضاض على هذه الضرورات، ولهم في ذلك من التدابير، والخداع، والوسائل... ما ليس بخاف على من يتتبع تصرفاتهم اليوم.
ولهؤلاء سلف يقتدون بهم، يفسدون في الأرض ويزعمون أنهم مصلحون، ويتعاملون مع المسلمين بوجه، ومع أعداء المسلمين بوجه آخر: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون(11). ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون(12) وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون (14) [البقرة]
يفضلون التحاكم إلى الطاغوت على التحاكم إلى القرآن، الذي يزعمون أنهم يؤمنون به، ويزعمون أنهم لا يريدون من عملهم المخالف لحكم الله إلا مصلحة الأمة....
((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا(62) [النساء]
المسؤولية جماعية:
وحفظ نظام الأمة وأمنها الشامل، الذي هو من أهم مسؤولية ولاة الأمر، هو مسؤولية جماعية، لا يمكن أن يقوم بها الحاكم وحده، وإنما هو مسؤولية الأمة كلها:
فالأسرة مسؤولة عن تربية أبنائها من طفولتهم، في منزلها على سلوك سبل النظام، في نظافتهم، ونومهم، وطعامهم، وجدهم ولهوهم، ودراستهم، وحسن أدبهم مع الأبوين والأقارب وبخاصة الكبار، ومع الضيف والخدم.... وإعطاء صاحب الحق حقه، وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين، وعلى التزام الصدق والوفاء بالوعد، وأداء العمل بإتقان...
والمسؤولون في المدرسة-من روضة الأطفال إلى الدراسات العليا-من مديرين، ومدرسين، وموظفين، مسؤولون كذلك عن توجيه الطالب في تصرفات وسلوكه...
والعلماء وخطباء المساجد، مسؤولون -كل في موقعه، عن إرشاد الناس وحثهم على التزام النظام وترك الفوضى...
والإدارات الحكومية العامة، والأهلية الخاصة، مسؤولة عن تدريب موظفيها وعمالها على النظام...
والقضاة في محاكمهم، مسؤولون عن حفظ النظام والأمن، بحسم الخلافات والنزاعات، والتعدي على الحقوق والأعراض، بالحكم بشرع الله، وإعطاء كل ذي حق حقه، وبإقامة الحدود والقصاص والتعزير، على من يستحق ذلك، دون تهاون ولا مجاملة لقوي أو ضعيف، ووضيع أو شريف...
والوزراء والأمراء وكبار رجال الدولة، كل منهم مسؤول عن القيام بواجبه في حفظ النظام وتثبيت الأمن الشامل، في حدود وظيفته...
ورجال الشرطة والمرور، مسؤولون -كذلك- عن إرساء النظام والأمن في مواقعهم، مع مراعاة الحقوق والواجبات الشرعية والنظم التي لا تخرج عن ذلك.
وجميع المؤسسات الرسمية والشعبية التي تعين عليها القيام بأي عمل من مصالح الأمة، هي مسؤولة عن
ويجب أن يعلم هؤلاء جميعا، أن الأصل في حفظ النظام وتثبيت الأمن في الأمة، هو تدريب كل مسؤول من تحته على ذلك، بالتعليم والتربية والترغيب والإقناع، وبالقدوة الحسنة والمتابعة المستمر، فإن لم ينفع ذلك كله، فبالزجر والترهيب والعقوبات المناسبة...(8/404)
وإن المسؤولين عن النظام والأمن، إذا لم يكونوا قدوة حسنة لمن تحت مسئوليتهم، لهم أشد إفسادا لنظام الأمة وأمنها من غيرهم.
كيف يطلب الأب من أبنائه، التزام النظام، وحياته كلها فوضى؟ وكيف تطلب الأم من ولدها الصدق وهي تكذب عليه صباح مساء؟
كيف يطلب الحاكم وأعوانه الكبار -كالوزراء- ممن تحت يدهم التزام الأمانة والنظام وهم يتخذون كل وسيلة من وسائل الخيانة والخروج على مضامين القوانين...؟
وإنما نبهنا على أن المسؤولية عن الأمن والنظام جماعية، وإن كانت مسؤوليتها الأولى تقع على الحاكم، لأمرين:
الأمر الأول: أن مصطلح الأمن في الإسلام أشمل مما تعارفت عليه غالب الدول في هذا العصر -وإن وصفوه بالعام- وهو ما تقوم به الشرطة بفئاتها، ورجال المرور، والمباحث العامة والخاصة، وكذلك الاستخبارات بأنواعها... ويدخل في ذلك النائب العام... ومحاكم أمن الدولة التي قد تأخذ أسماء مختلفة...
فهؤلاء تؤدي كل فئة منهم وظيفتها المرسومة لها من قبل الدولة، وغالب الدول في هذا العصر تهتم بأمن محدود -وإن سمي الأمن العام-. ولتوضيح ذلك أضرب مثالا واحدا، وهو :
أن شرب الخمر مباح في غالب الدول، إذ الخمر تباع وتشترى، وتقدم في الحفلات وتشرب فيها علنا... ولا يعاقب القانون -عقابا غير رادع-شاربها إلا إذا سكر وحصل منه ضرر على الناس في الأماكن العامة، كالشوارع...
أما إذا شربها حتى غاب عقله دون أن يحصل منه ضرر على غيره، فلا عقوبة عليه، بل له الحرية الكاملة في ذلك.
فالأمن المقصود هنا غير شامل، بل هو قاصر، بخلاف الأمن الذي تتصدى الشريعة، فإنه يشمل أمر الشخص نفسه، سواء حصل منه ضرر على غيره أم لا.
فحفظ عقل الإنسان ضرورة من ضرورات الحياة، ويجب حمايته، ولا يجوز التفريط فيه، لأن الإسلام لا يبيح للإنسان أن يتعاطى الأسباب التي تعود عليه بالضر.
والضرر الذي يلحق شارب الخمر، ينال دينه وخلقه وشؤونه الدنيوية، وهذا معلوم يعرفه كل من أمكنه معرفة أحوال السكارى.
إضافة إلى ذلك فأن ضرر شرب الخمر لا يقتصر على شاربه فقط، بل يشمله ويشمل المجتمع، ولو بصورة غير مباشرة.
فهو مع اعتدائه على نعمة العقل يعتدي على ضرورات أخرى، كإنفاق المال في المحرمات، وحجبه عمن يستحقه من أسرته أو غيرهم من المحتاجين.
كما يعتدي على أهم الضرورات وأعظمها وهي الدين، ومعلوم أن غالب الذين يداومون على شرب الخمر يفقدون التدين والتعبد، وتقل عندهم التقوى، ويضيع الورع.
ويعتدون على ضرورة اجتماعية أخرى وهي النسل والعِرض، فغالب من يشربون الخمر لا يتورعون عن ارتكاب فاحشة الزنا، وكثير منهم يتصفون بالدياثة فلا يغارون على نسائهم، وفي الزنا مع هتك الأعراض اختلاط الأنساب، وقطع النسل، لأن النساء الزواني يتعمدن تعاطي ما يمنع الحمل.
ثم إن الشريعة الإسلامية تعاقب على شرب قليل الخمر وكثيره، أسكر أو لم يسكر، حماية للعقل ووقاية له من أن يصل إلى السكر.
والشريعة الإسلامية تمنع منعا باتا صناعة الخمر وبيعها وشراءها، وتلعن كل من يتسبب في استعمالها: العاصر والمعتصر، والبائع والمشتري، والساقي والشارب...
ففرق بعيد في حماية العقل وحفظه وأمنه مما يغتاله ويذهبه، بين ما سنته الشريعة الإسلامية، وبين ما سنته الدول في قوانينها الوضعية.
بل إن عقوبة شارب الخمر في القوانين الوضعية، مع عدم جدواها، لم توضع لحفظ العقل، بل وضعت لحماية النظام العام.
ومن هذا المثال -وغيره من الأمثلة كثير- يعلم الفرق الكبير بين مفهوم الأمن في قوانين غالب الدول وبين مفهومه في الشريعة الإسلامية وعلى كلا المفهومين تترتب آثار لا تخفى.
الرحمة والسماحة والرفق:
1828 عن حرملة عن عبد الرحمن بن شماسة قال أتيت عائشة أسألها عن شيء فقالت ممن أنت فقلت رجل من أهل مصر فقالت كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه فقال ما نقمنا منه شيئا إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير والعبد فيعطيه العبد ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة فقالت أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا : اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به مسلم: [3/1458]
القضاء المستقل
العناية بذوي الحاجات
1829 حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث ح وحدثنا محمد بن رمح حدثنا الليث عن نافع عن بن عمر عن صلى الله عليه وسلم أنه قال ثم ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته مسلم 3/1459(8/405)
142 وحدثنا شيبان بن فروخ حدثنا أبو الأشهب عن الحسن قال عاد عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه فقال معقل ثم إني محدثك حديثا سمعته من رسول ا صلى الله عليه وسلم لو علمت أن لي حياة ما حدثتك إني سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة
مسلم: 3/1460
باب تحريم هدايا العمال 1832 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وابن أبي عمر واللفظ لأبي بكر قالوا حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي قال ثم استعمل رسول ا صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد يقال له بن اللتبية قال عمرو وابن أبي عمر على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا لي أهدي لي قال فقام رسول ا صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال اللهم هل بلغت مرتي مسلم 3/1463
2589 أخبرنا علي بن شعيب قال أنبأنا ينعقد قال أنبأنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال ثم والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا أعطاه الله عز وجل من فضله فيسأله أعطاه أو منعه باب فضل من لا يسأل الناس شيئا النسائي 5/96
اتخاذ أسباب الاجتماع
هل يجوز الخروج على الحاكم الظالم؟
فإذا أصر على حكمهم بغير الإسلام، وجب عليهم أن يتخذوا الأسباب السلمية الممكنة لعزله، ولكن لا يتعاطون عزله بالقوة إلا عندما يتعذر عزله بالطرق السلمية، و تشترط القدرة التي يتم بها عزله بدون مفاسد راجحة.
فإذا كان عزله لا يحصل إلا بمفاسد وفوضى تعم الأمة كلها أو غالبها، وتفقدها الأمن الضروري لحياتها، فلا يجوز عندئذ الخروج عليه، بل يجب الصبر واتخاذ الأسباب الكفيلة بعزله عندما تحين الفرصة تنتفي معها تلك المفاسد.
وقد صور الرسو صلى الله عليه وسلم ، حالة ولاة الأمر ورعاياهم في الحالتين: حالة العدل والمساواة والوئام، وحالة الظلم وتعاطي المظالم العظام، تصويرا دقيقا، في حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم ، يقول:
(خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم) قالوا قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: (لا ما أقاموا الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة) [صحيح مسلم: رقم: "1855" (3/1482)]
فسبحان الله الذي نَزَّل شرعَه كلَّه رحمة وحِكَما، فحرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما.
والنصوص الواردة في القرآن والسنة في تحريم ظلم بعض العباد بعضا كثيرة لا يتسع لذكرها المقام، ولنذكر بإيجاز قليلا منها:
جلب المصالح، دفع المفاسد، حماية البيضة، إقامة الحدود والتعزير،
حكام المسلمين-ومنهم العرب- هم الذين يملكون التصرف في مرافق الشعوب: السياسية، والمالية، والاقتصادية، والإعلامية والتعليمية، وهم الذين يتولون وضع التشريعات والقوانين وتنفيذها، وإن أظهروا غير ذلك باصطناع برلمانات تمثل الشعوب.
ومع ذلك لا يحجم من أراد منهم عن تعليق الدساتير والقوانين، وإعلان حالة الطوارئ، للقضاء من ينكر بعض تصرفاتهم المستبدة، من شخصيات وجماعات وأحزاب.
وهم الذين يسيطرون على القضاء والمحاكم، وإن زعموا أن القضاء مستقل ونزيه، ومع ذلك لا يتأخرون عن إنشاء محاكم عسكرية عندما يريدون إصدار الأحكام الاستثنائية العاجلة للقضاء خصومهم، بتهم مزيفة، والغالب أن توجه إليهم تهم الإخلال بأمن الدولة وخيانة الشعب، والخروج على القانون، والسعي لقلب نظام الحكم، والإفساد في الأرض....
ويكون الحكم هو السجن والتعذيب والنفي من الأرض والقتل ... وتلك هي أساليب الطغاة المتجبرين من قديم الزمان، كما سطرتها سجلات التاريخ، واحتواها قَصَص القرآن، كما قال تعالى: ((وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)) [الأنفال:30]
وقال تعالى عن فرعون وقومه في موقفهم من رسولي الله موسى وهارون عليهما السلام: ((فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى(62) قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى)) [طه: 63]
وهي طبيعة أعداء الحق والدين من الكافرين مع الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى: ((وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين)) [الأنبياء: 13](8/406)
كما يسيطرون -غالبا-على القضاء، وإن زعموا استقلاله، بل لا يتورعون عن إنشاء محاكم عسكرية لتتولى وهم الذين يضعون سياسة بلدانهم الداخلية والخارجية،
والحكام بجرة قلم يجلبون أعظم المصالح، إن أرادوا، و يجلبون بجرة قلم أخرى أعظم المفاسد إن قصدوا، فإن راقبوا الله في حركة أناملهم عندما يوقعون على أي قرار، نالت شعوبهم من المصالح ما يسعدهم ويسعدها، وإن أعرضوا عن مراقبته واتبعوا أهواءهم تعرضوا لسخطه، وأوقعوا شعوبهم فيما يشق عليها ويشقيها.
جريدة الرياض وتصريحات الأمير عبد الله
http://www.al r iyadh.com.sa/31-12-2001/page12.html(8/407)
(8/408)
11الالتقاء والتفاهم للاتفاق على الثوابت
2-تطبيق الإسلام
3-التشاور مع أهل الحل والعقد
4-الحرية في دائرة الثوابت
6-سعة صدور الحكام مع شعوبهم، وعدم الإقصاء
7-اتخاذ أسباب القوة الاقتصادية والسياسية والصناعية والإعلامية والاجتماعية
8-التعاون القطري.
9-القوة العسكرية وتدريب الشعوب
11-عدم التفريط في السيادة والحرص على المعاملة بالمثل في المصالح
دعوى عدم التدخل والآثار المترتبة عليه.
=================
فئات الشعب(الإسلاميون)
العلمانيون:
مرت فترة ضعف عام على المسلمين، في دينهم واقتصادهم وسياستهم واقتصادهم وثقافتهم وإعلامهم وشأنهم العسكري، وكانوا في حاجة أن يتشبثوا بأي مبدأ يعرضه أهله لينقذوا به أنفسهم مما هم فيه. وجربت كل تلك المبادئ واتضح فشلها
وقد رجع كثير ممن اغتروا بتلك المبادئ عنها:
سواء كانت شيوعية أو قومية لم تقم على أساس الدين، أو علمانية مغرقة في محاربة الإسلام.
واليوم لم يبق عذر لأحد في البعد عن الإسلام، لأن الصحوة الإسلامية انتشرت في الأرض بسبب انتشار الثقافة الإسلامية التي بينت للناس أن الإسلام هو الحل الذي لم يجرب.
إذا كان بعض العلمانيين كانوا يشكون من وجود علماء غير منفتحين على العالم وغير متابعين للواقع المعاصر، فإن هذا العذر قد زال، لوجود علماء مسلمين ومفكرين ودعاة جمعوا بين الفقه في الدين، وبين معرفة الواقع المعاصر، وبادروا بالتحاور مع غيرهم من مسلمين معارضين لتطبيق الإسلام، كالعلمانيين، ومن غير المسلمين، وقد عقدت مؤتمرات بينهم وبين غيرهم في كثير من البلدان الإسلامية والأوربية وغيره، وحصل تفاهم وتقارب صدرت عنهما قرارات مفيدة للتعاون على تحقيق مصالح البلدان الإسلامية والعربية...
لذلك يجب أن يتفهم العلمانيون من أبناء المسلمين ما يدعو إليه الإسلاميون ويتحاوروا معهم، ليصلوا إلى التعاون المثمر ضد الهجمات الأجنبية على البلدان الإسلامية، لأن المصير واحد.
دعاة الإسلام لم يقفوا ضد ما تم من منجزات العصر المفيدة التي لا تتعارض مع الإسلام: سواء كانت تتعلق بالشؤون الإدارة، أو السياسية أو الاقتصاد أو أي علم من العلوم الإنسانية، من تعليم وعلم نفس وتربية، والكونية والطبية، بل إنهم يجتمعون في مؤتمراتهم وندواتهم بالمتخصصين في تلك العلوم ليصححوا تصورهم عما يبحثون فيه، ليصدروا قراراتهم وفتاواهم بناء على صحة ذلك التصور.
فلم يبق عذر للعلمانيين في النفور من علماء الإسلام والتحاور معهم وقبول الحق الذي جاء به الإسلام، لأن ذلك هو دينهم الذي يجب عليهم أن يعودوا إليه.
13-التربية الأسرية.
14-المدارس، المناهج، الكتب، الأساتذة.
15-الأدباء الكتاب الشعراء الفنانون
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإصلاح بين الناس
الآثار المترتبة-عداوات-كذب-خيانة-عدم ثقة-كلاب بوليس للعدو
اجتماع الكلمة:
لوشب حريق في مسجد يصلي فيه جميع طوائف المسلمين,احزابهم.... فما الواجب عليهم؟ هل يعذر أحد يتخلف عن إطفاء الحريق وهو قادر؟
لو تعرض قطاع طرق لقطار فيه ركاب من جميع الأديان والفئات، هل يعذر أي قادر على الدفاع عن أنفسهم على التخلف عن ذلك؟
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الطرف الثاني: زعماء المسلمين من غير العرب
فأنتم "زعماء الدول العربية" طرف من الأطراف المسؤولة عن هذه الأرض، وهناك أطراف أخرى:
الأمر الثالث: العدل و المساواة بين رعيتكم، مسلمهم وكافرهم: في إعطاء كل ذي حق حقه، وفي إقامة حكم الله على الجميع، دون تفريق بين كبير وصغير وشريف ووضيع وقريب وبعيد، والمساواة في ذلك من مقتضيات العدل، كما قال تعالى: ((يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)) [المائدة: 8]
ولقد حذر رسول ا صلى الله عليه وسلم أمته من عدم المساواة بين الناس في الأحكام، وبين أن ذلك سبب في هلاك الأمم، كما ثبت في حديث عائشة المتفق عليه، قالت: "إن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟
فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُّ رسول ا صلى الله عليه وسلم .
فكلمه أسامة. فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم (أتشفع في حد من حدود الله؟!)
ثم قام فاختطب، فقال: (أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) هذا لفظ مسلم، وهو فيه برقم: "1688" و هو في صحيح البخاري برقم: "3288"
وبالعدل والمساواة تطمئن نفوس الرعية وتستقر أحوالهم، ويأمنون على دمائهم وأموالهم وأعراضهم. ويقوى نشاطهم في عمارة وطنهم، بالتجارة والزراعة والصناعة، وتتوطد العلاقات بينهم وبين ولاة أمرهم، فيثق بعضهم في بعض، ولا يخافون من ظلم ظالم ولا غدر غادر، مهما عظمت منازلهم الاجتماعية، وعلت مراتبهم السياسية أو سفلت، لعلمهم بوجوب ذلك لبعضهم على بعض، وبأن سوط عدل الحاكم مرفوع لإنصاف المظلوم وردع الظالم.(8/409)
بخلاف الحاكم الجائر الذي يتخذ سلطته وسيلة للاعتداء على حقوق الرعايا، ويعين ذوي الحيف من بطانته، على سلب الناس حقوقهم، فإن الشعب الذي يبتلى بمثل هذا الحاكم، يعيش في ذل وهوان دائم، ينام مرعوبا بالكوابيس، ويصحو مشفقا على نفسه من هجمة الظلمة الأباليس.
يحجم الناس في ولايته عن الاقتناء والكسب، خشية على حقوقهم من السلب والنهب، فتضعف في البلاد الصناعة، ويزهد الناس في مزاولة التجارة ومهنة الزراعة.
وهنا تنطوي قلوب الناس على الغل و الأحقاد، ويعم البلاد الإجرام والمصائب الشداد، ويصبح الأمن مفقودا بين العباد، وجِران الخوف على طولها وعرضها في امتداد.
تقطع فيها السبل و الطرقات، وتسلب فيها الأموال وتنتهك الأعراض الشريفات، وتسفك الدماء وتزهق النفوس المحرمات، ويتمنى الأحياء أن يكونوا في القبور مع الأموات.
ولهذا تواترت نصوص القرآن والسنة، في النهي عن الظلم والتحذير منه، وبيان عواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ((وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)) [هود:102]
وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) قال ثم قرأ: ((وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)) [الحديث في صحيح البخاري برقم: 4409]
وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) [الحديث في صحيح مسلم برقم: 2577]
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: ( الظلم ظلمات يوم القيامة) [صحيح البخاري برقم: 2315وهو في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله برقم: 2578]
الأمر الرابع: اتخاذ كل الوسائل المؤدية إلى جمع كلمة شعوبكم على الحق، ودفع الذرائع الجالبة للنزاع والمحق، لما في اجتماع الكلمة من قوة واطمئنان، وما في النزاع من ضعف وفوضى وهوان.
ومعلوم أن اجتماع كلمة الأمة من أهم مقاصد شرع الله، بل هو نعمة من نعمه وآلاه [ أصله: آلائه قُصر مراعاة للفواصل] أمر به في كتابه وعلى لسان رسوله ومصطفاه، كما قال تعالى: ((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون)) [آل عمران:103]
كما أن تنازع الأمة من أهم مقاصد الشيطان الرجيم، الذي ألزم نفسه إضلال الناس عن صراط الله المستقيم، كما قال الله تعالى عنه: ((قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم)) [الأعراف:16]
وقال تعالى: ((وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)) [الأنعام:153]
ويقتدي بالشيطان أولياؤه من الطغاة الذين يتخذون من الوسائل والأسباب ما يؤدي بشعوبهم إلى شيع وأحزاب، ليستضعف من أراد من طوائفهم، ولا يخشى مواجهته باجتماعهم، وفي فرعون للطغاة أسوة: ((إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين)) [القصص:4]
الأمر الخامس: إقامة قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم قواعد هذا الدين، التي تبنى حياة الأمة على إقامتها، وهو من أخص صفات عباد الله المؤمنين التي وعد الله من اتصف بها أن ينال رحمته، كما قال تعالى:
((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)) [التوبة:71]
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من لوازم الولاء بين المؤمنين عموما، وبينهم وبين ولي أمرهم خصوصا، كالصلاة والزكاة، وغير ذلك من طاعة الله تعالى، كما هو واضح من الآية السابقة.
وإذا كان الله تعالى قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب رحمته، فإنه تعالى جعل ترك ذلك من أسباب طرده ونقمته، كما قال تعالى:
((لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون(78)كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)) [المائدة: 79]
والأمة التي تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهددة كلها بعقاب الله تعالى لها في الدنيا والآخرة، وأعظم ما يعاقبها الله به في الدنيا اختلاف قلوبها، وإغراء العداوة والبغضاء بينها، وعدم استجابته دعاءها لكشف السوء عنها.
وإن ما أصاب الله به الأمة الإسلامية من الفتن والمصائب العظام في كل أنحاء الأرض اليوم، لهو نذير من نذره تعالى على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وقد قال تعالى منذرا عباده المؤمنين، من تركهم الظالم يعيث فسادا في الأرض، بأن فتنة الظلم لا تخص الظالم فقد، وإنما تعم المسلمين جميعا، كما قال تعالى: ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)) [الأنفال:25](8/410)
وفي حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: (والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) [الترمذي: 4/ 468]
وفي حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قرأ ((لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم)) إلى قوله ((فاسقون)) ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا) [سنن أبي داود: 4/ 121]
ومن الذي يقدر على الأخذ على يد الظالم، وأطره على الحق أطرا، وقصره عليه قصرا غيركم يا من بيدكم مرافق الشعوب وقوتها؟
نعم كلف الله جميع عباده المؤمنين القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على لسان رسول صلى الله عليه وسلم ، كل منهم حسب طاقته، كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قال: سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [صحيح مسلم: 1/69]
نعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على كل مسلم، في حدود موقعه وقدرته، ولكن وجوبهما عليكم أعظم، لما أعطاكم الله من القدرة، وما آتاكم من التمكين في الأرض.
فإذا ترك المعروف أو وقع المنكر في منزل الأسرة، وجب على القادرين في الأسرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا حصل ذلك في مصنع أو إدارة وجب على رب المصنع أو الإدارة القيام بواجبه.....
لكن المنكر عندما ينتشر في البلد كله، في الشارع والسوق والبر والبحر، وفي مرافق الدولة، كالإعلام والتعليم والاقتصاد، فيعتدى على الحقوق، وتنتهك الأعراض، و تزهق الأرواح، وتقطع الطرقات...
عندئذ لا يمكن أن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنتم يا ولاة الأمر لأن بيدكم قوة المال وقوة السلاح، ووسائل الضبط، ووسائل الاتصال العامة، من إذاعة وتلفاز وصحافة، كما أنكم قادرون على تعميم ذلك عن طريق أئمة المساجد وخطبائها... ولهذا يتعين عليكم الأمر والنهي، لأن قراراتكم تنفذ في أصعب الأمور، التي يحشر لتنفيذها كل الوسائل والأسباب.
وإن صدور قرار الحاكم بأمر أو نهي، ليجعل الرعية كلها تأخذه مأخذ الجد، إذا علموا إصراره على تنفيذ قراره، لأن كبار موظفيه من الوزراء والشرطة وأجهزة الأمن تتعقب كل مخالف لقراره، في المدن والأحياء والحواضر والبوادي.
ومن هنا يظهر لنا شيء من حكمة جعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أهم وظائفكم يا ولاة الأمور المقرونة بأهم حقوق الله بعد الشهادة، وهي الصلاة، وأهم حقوق عباده، وهي الزكاة، كما قال تعالى:
((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) [الأنبياء: 41]
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تجتمع كلمة الأمة على الحق، ويحصل الانسجام بين أفرادها وجماعاتها، وبينها وبين ولاة أمرها، لاتجاههم جميعا إلى الأعمال الصالحة، والسعي في جلب مصالح الأفراد والمجتمع، واتخاذ الأسباب المانعة من وقوع المفاسد المهلكة، ويألف الناس الحرص على فعل الخير وترك الشر، وبذلك تغرس الطهارة الحسية والمعنوية في نفوس الناس.
وبترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تختلف قلوب الأمة، وتتصدع صفوفها، ويحصل بينهم التنازع والخصام، ويعم الفساد في الأرض، لأن تاركي المعروف وفاعلي المنكر يتبعون أهواءهم، ولا يمكن اجتماع أهل الأهواء على شيء فيه صلاحهم وفلاحهم، لأن كل واحد له من الأهواء ما يخالف بها الآخرين، بل إن أهواء الإنسان تتعدد وتختلف، فما يهواه اليوم يبغضه غدا.
ولقد كان الهوى معبودَ مَن كفر بالله وعصى رسله عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ((أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا)) [الفرقان: 43]
وقال تعالى ((فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)) القصص: 50]
هذا حال أهل الأهواء يتنازعون فيما بينهم، بحسب تنازع أهوائه.
بضاف إلى ذلك تنازع أهل الحق وأهل الباطل، وهم أهل الأهواء فأهل الحق يعملون بالمعروف ويأمرون به، ويتركون المنكر وينهون عنه، وأهل الباطل يعملون المنكر ويأمرون به ويتركون المعروف وينهون عنه.
تصور أمة هذا حالها: تنازع بين أهل الأهواء وخصام، وتنازع بين هؤلاء وبين أهل الحق، كيف يكون حال هذه الأمة؟
إنه لا يوحد هذه الأمة ويجمع كلمتها إلا حاكم مسلم، ملتزم بشرع الله يرد رعيته كلهم إلى الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(8/411)
وإن الحاكم الذي يترك الناس هملا، كالبهائم يرتكبون المنكر، ويتركون المعروف، لهو حاكم سوء، يجلب على الأمة الفساد والخسران المبين:
((والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر))
فكيف إذا كان الحاكم نفسه، هو الذي يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، كحال كثير من حكام المسلمين اليوم، الذين ينشرون المنكر تشريعا وقضاء وتنفيذا، وإعلاما وتعليما، وأخلاقا، مستخدمين في ذلك مرافق الشعوب وأموالها، وطاقات أبنائها، محاربين لتطبيق شرع الله، يتكبرون على الناصحين، الذين إذا أمروهم بتقوى الله أخذتهم العزة بالإثم، متشبهين بسلف أفسدوا في الأرض:
((ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد (206) [البقرة]
((والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)) [النساء:27]
فاتقوا الله يا حكام المسلمين في قيادة أمتكم بشرع الله، لترضوا الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولتحققوا الصلاح في الأرض، وتطردوا الفساد منها، ولتجتمع كلمتكم جميعا على إحقاق الحق وإبطال الباطل...
الأمر السادس: الحرص على جعل أساس الولاء بينكم وبين شعوبكم هو الإسلام:
إن الولاء القوي المتين القابل للدوام، بين الحاكم ورعيته، إنما هو ولاء الإسلام، فهو العروة الوثقى التي لا تقبل الانفصام، والحصن القوي الذي يمتنع على الاقتحام، والبناء الراسي الذي يستعصي على المعتدين من ذوي الإجرام.
إن المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله، ويعبدونه حق عبادته، هم أهل الولاء الدائم، وقد قرن تعالى ولاءهم بولائه وولاء رسوله، إشارة إلى قوة هذا الولاء ومتانته، وأن لأهل هذا الرابط الغلبة على أعدائهم، كما قال تعالى:
((إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون(55) ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون)) [المائدة:56]
ومن صفاتهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهما عبارة عن قيامهم بحق الله وحق عباده، ومن صفاتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عبارة عن حرصهم على حفظ نظام الأمة وصيانته من التفكك والانحلال، وهؤلاء هم الذين يستحقون رحمة الله في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:
((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)) [التوبة:71]
هذا الولاء هو الذي يدوم ولو تباعدت بين أهله الأنساب، وانقطع بينهم ما اتصل بين غيرهم من الأسباب، وفي تاريخ المسلمين المعتصمين بحبل الله ما يقطع حجة كل مرتاب، وقد بين الله ذلك في محكم الكتاب، فقال وهو أصدق القائلين:
((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون)) [آل عمران:103]
وكل ولاء غير الإسلام قابل للنقض بعد الإبرام، وللزوال بعد التمام.
وإن في قصة سحرة فرعون الذين دانوا له بالولاء، بما يمنحهم من الأجر والتقريب إليه، وتغير ولائهم له- مع قوة ملكه، وعظيم ترغيبه، وشدة ترهيبه-إلى ولائهم لعدوه موسى عليه السلام، الذي لا يملك شيئا غير إيمانه بربه وتوكله عليه، إن في تغيير ولائهم لفرعون وزهدهم في ماله وقربه، وعدم المبالاة بتهديده، إلى الولاء لله ولرسوله موسى عليه السلام، لعبرة للملوك والرؤساء الذين يجعلون أساس الولاء بينهم وبين أعوانهم غير الإسلام.
ويكفي أن نقرأ هذه الآيات الكريمة بدون شرح ولا تعليق، فهي واضحة بينة وضوح الشمس في كبد السماء، قال تعال:
((وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين(113) قال نعم وإنكم لمن المقربين(114) قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين(115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم (116) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون(118)فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين (119) وألقي السحرة ساجدين(120) قالوا ءامنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون(122) قال فرعون ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون(123) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين (124)قالوا إنا إلى ربنا منقلبون (125) وما تنقم منا إلا أن ءامنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين(126) [الأعراف]
والذي يقرأ التاريخ يجد فيه البراهين الساطعة والحجج القاطعة، على أن الولاء على غير الإسلام، من مال أو منصب أو جاه، لا يعصم الحكام من خيانة من يوالونهم على ذلك وخروجهم عليهم.(8/412)
فتجد الابن يخرج على أبيه، والأخ يقتل أخاه، والقريب يستولي على ملك قريبه، وكبار رجاله يقلبون نظام حكمه ويسفكون دمه أو يهينونه في غياهب السجون، فيصبح مجرما بعد أن كان مطاعا محترما...
والسبب في ذلك أن الولاء على المال أو المنصب أو الجاه أو النسب، قابل للتغيير والتبديل، فقد يجد من يوالي الحاكم على المال، من يعطيه مالا أكثر، ويجد من يواليه على المنصب من يمنحه منصبا أعلى، ويجد من يواليه على النسب، من هو أقرب إليه نسبا أو أكثر مصلحة، فيغير ولاءه بتغير مصلحته في ذلك كله.
أما الولاء بين الحاكم ورعيته على الإسلام، فالغالب أنه لا يتغير، لأنه مرتبط بالولاء لله ولرسوله وللمؤمنين: ((إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)) وهو ولاء باق دائم، يعبد المسلم به ربه: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين))
فإذا حصل تغيير في هذا الولاء، فلا بد أن يكون سببه ضعف الإيمان المانع من التغيير، من قبل الحاكم أو المحكوم أو من قبلهما معا.
لهذا يجب أن تتخذوا ايها الحكام كل وسيلة مشروعة لجعل الولاء بينكم وبين شعوبكم الإسلام، ليقوى بينكم الولاء، ويتم بينكم الوئام والإخاء، ويأمن بعضكم بعضا، ولا تفقدوا الثقة فيما بينكم، لأن فقد الثقة بين الحكام ورعاياهم، يجعل كلا منهم يتوجس خيفة من الآخر، ويتربص به الغدر و الدوائر.
ولا يغتر الحاكم بما قد يظهره بعض رعيته من الولاء، وما يطلقونه عليه من المدح والثناء، فكثيرٌ هم الذين يمدحون الحاكم شعرا ونثرا، ويثنون عليه بألسنتهم مساء وفجرا، وهم يكتمون بغضهم له، إذا غابت رقابته سرا وجهرا.
ولقد أجاد ابن القيم رحمه الله في وصف من يظهرون للإنسان حبهم له، وهم في الحقيقة أعداء، ويظهرون له أنهم يريدون نفعه، وهم لا يريدون إلا منفعة أنفسهم وإن أضروه، فقال رحمه الله:
"ومما يبين ذلك أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك، وإن كان ذلك ضررا عليك، فإن صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها، فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك.
وهذا إذا تدبره العاقل علم أنه عداوة في صورة صداقة، وأنه لا أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة، فهم يريدون أن يصيروك كالكير، ينفخ بطنك ويعصر أضلاعك في نفعهم ومصالحهم.
بل لو أبيح لهم أكلك لجزروك كما يجزرون الشاة، وكم يذبحونك كل وقت بغير سكين لمصالحهم، وكم اتخذوك جسرا ومعبرا لهم إلى أوطارهم وأنت لا تشعر، وكم بعت آخرتك بدنياهم وأنت لا تعلم وربما علمت، وكم بعت حظك من الله بحظوظهم منك، ورحت صفر اليدين...." [طريق الهجرتين وباب السعادتين:(1/107-108)]
الأمر السابع: رعاية مصالح شعوبكم:
إن الواجب الأول عليكم هو القيام برعاية شعوبكم، لأن ذلك هو أساس وظيفتكم، إذ أن توليكم حكم هذه الشعوب، يحملكم المسئولية عن جلب مصالحها، ودفع المفاسد عنها...ومعلوم أن مسئوليتكم هي أعظم المسئوليات، بصفة وظيفتكم التي هي أعلى الوظائف، والمغنم على قدر المغرم...
ومن هنا بدأ الرسو صلى الله عليه وسلم بمسئولياتكم قبل كل المسئوليات، كما في حديث
الأمر الثامن: التمكين أجيال شعوبكم من فقه الإسلام فقها صحيحا، نابعا من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، مستندا إلى فقه علماء السنة المشهورين بالفقه في دين الله، الذين لا يخافون في بيان الحق لومة لائم.
وتمكين هذه الأجيال من معرفة تاريخ أمتهم وتاريخ أعدائهم، من اليهود والصليبيين والوثنيين، من زمن البعثة النبوية إلى يومنا هذا، حتى لا تضلل عقولهم ويحرف تاريخهم، وينسون جغرافية أوطانهم الإسلامية، التي يحاول أعداء الإسلام سلبها والاستيلاء عليها، مطالبين بالاعتراف الرسمي بها، لتصبح وطنا شرعيا لهم، وبخاصة الأرض المباركة "فلسطين"
أيها الزعماء العرب! إن تغيير مناهج مدارسنا وجامعاتنا، استجابة لأعدائنا اليهود، ومؤيديهم من الغربيين، وبخاصة الإدارة الأمريكية الصليبية الظالمة، هو خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، خيانة لأبنائكم الذين يراد محو ما في ذاكرتهم من الحقائق الدينية والتاريخية والاجتماعية......
إن اليهود -إذا تم اعترافكم باغتصابهم للأرض المباركة- لا يمكن أن يرفعوا علمهم بجانب عَلَم أي بلد من بلدانكم العربية، تحقيقا للسلام المزعوم[وهو في حقيقته استسلام] إلا بعد اجتثاث تلك الحقائق من مناهجنا التعليمية والإعلامية، وبعد توقيعكم على معاهدات تلتزمون فيها بالقضاء على أي صوت حر، يبين تلك الحقائق للأجيال الناشئة، من أساتذة الجامعات، ومعلمي المدارس، وخطباء المساجد وعلماء التاريخ...
إن محاولة تحريف الحقائق من أفراد أو جمعيات، أو أحزاب ليست على قمة السلطة، هي محاولة خائنة، ولكنها قابلة للرد عليها ولتصحيح اعوجاجها، لأن الأفراد والجمعيات والأحزاب الذين يحرفون الحقائق، يقف إزاءهم أفراد وجمعيات وأحزاب أخرى يردون على تحريفهم، بدون تكميم أفواه واعتقالات ومحاكمات ...(8/413)
أما إذا صدر التحريف من دولة تملك السلطة، وتهيمن على مرافق الأمة، وبخاصة التعليمية والإعلامية، والأمنية والعسكرية والسياسية، فإن التحريف يصبح مفروضا على عقول الأمة بالإكراه .... ومعلوم هو الفرق بين آثار هنا والتحريف هناك!
البند الثاني: يشمل أهم مسؤولياتكم الخارجية:
كيف نصون السفينة - واجب الأمة كلها: …
… …
…
وفي هذه الحلقة نبين واجب الأمة الإسلامية كلها في صيانة سفينتها، فكلهم راكب في هذه السفينة، ينجون من الغرق إذا تعاونوا على صيانتها، ويغرقون جميعا إذا فرطوا فيها وتغاضوا عن إفساد من أراد إفسادها، لا فرق بين قائد وراكب في مقدمتها أو مؤخرتها، في أعلاها أو أسفلها....
ويجب أن نعلم جميعا أن لنا أعداء خارج هذه السفينة يتربصون بنا الدوائر، ويسعون جادين لتخريبها وإفسادها، وأسهل وسيلة لتحقيق هدفهم أن يجدوا منا -ركاب السفينة- من يخرق فيها خرقا أو خروقا يتسرب منها الماء إلى داخلها، فيكون سببا في إغراقها وإهلاك ركابها.
فكيف نتعاون على صيانة سفينتنا، ونمنع المفسدين من إغراقها؟
الجواب على هذا السؤال نوجزه في أمرين عامين:
الأمر الأول: معرفةُ من يخشى منه خرق السفينة وإفسادها من ركابها، لأن معرفة المفسدين أمر ضروري لاتقاء شرهم وفسادهم، وهذا يقتضي يقظة الركاب وحذرهم الدائمين من كيد المفسدين المندسين في صفوفهم، وأن يكون جميع الركاب أفرادا وأسرا وأمة من حكام ومحكومين، حراسا لهذه السفينة ومراقبين لتحركات من يريدها بسوء.
وإن أي غفلة عن هذه الحراسة، وأي تساهل في هذه المراقبة، قد يؤدي إلى إغراق السفينة وهلاك ركابها جميعا: ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)) الأنفال: (5)
ومن هنا نعلم عناية الإسلام ببيان أهل الصلاح وصفاتهم من المؤمنين، وفضح أهل الفساد وكشف صفاتهم من الكافرين والمنافقين، والمصرين على الفسوق وكبائر الذنوب من المسلمين، وكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم مليئان بهذه المعاني...
وقد ذكر الصلاح ومشتقاته في القرآن الكريم: 180 مرة، وذكر الفساد ومشتقاته 50 مرة...
وما على مريد الاطلاع على هذه العناية، إلا أن يفتح ما بين دفتي المصحف الكريم، وكذلك أي كتاب من كتب السنة المطهرة، وأوجزها وأقربها تناولا كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله، ليرى تلك العناية الفائقة في بيان الصلاح والدعوة إليه، والثناء على المصلحين وذكر صفاتهم، وثمار أعمالهم التي أسعدت العالم كله في أرض الله.
فإذا اهتم المسلم بتتبع ما ورد في الكتاب والسنة من سير عباد الله الصالحين وما ترتب عليه من إصلاح في الأرض وحفظ للمصالح التي عادت على الأمم بالخير والسعادة، ومن تاريخ المفسدين، وما ترتب على من مفاسد وضياع لحقوق الله وحقوق عباده، إذا اهتم المسلم بذلك، رأى بأم عينيه تلك العناية الربانية ببيان أهل الصلاح وأهل الفساد.
وأن المراد من هذه العناية، حفظ مصالح الأمم في كل أقطار المعمورة، ودرء المفاسد عنها في كل فجاج الأرض، وأن المؤهلين لحفظ هذه المصالح، ودرء هذه المفاسد، هم الصالحون الذين يتلقون أوامر الله ونواهيه بالقبول، فلا يعصون له أمرا، ولا يرتكبون له نهيا، بل يدعون غيرهم إلى طاعة الله وترك معصيته، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ليثبت الصلاح ويقوى في الأرض وينتشر، ويضمحل الفساد فيها ويختفي أو يقل ويضعف.
وإن هذا الهدف العظيم لا بد له من منطلقات يجتمع عليها ركاب السفينة، من قادة الأمة وشعوبها، ومن أهم هذه المنطلقات ما يأتي:
المنطلق الأول: اجتماعهم على تحقيق الحق الذي أنزله الحق، وجاء به رسول الحق، فجمع به المتفرقين، وأزال به أسباب النزاع والشقاق، وأسعدت به أمة الحق أهل الأرض كلهم في مشارق الدنيا ومغاربها، وأزهقوا به الباطل وطردوه.
فارتفعت بذلك راية الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها في برهة من الزمن أدهشت الفلاسفة والمفكرين، فوصل دين الله إلى الصين والفليبين وجزر الملايو شرقا، وإلى المحيط الأطلسي وجنوب أوربا ووسطها غربا، وإلى البحر العربي جنوبا، وإلى موسكو وبعض مناطق سيبريا شمالا... ولا زال ذراري المسلمين وآثارهم شاهدة على تلك الانطلاقة العظيمة التي كان أساسها الاعتصام بحبل الله والاجتماع على صراطه المستقيم...
قال تعالى في هذا المنطلق: ((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)) آل عمران (103)(8/414)
والواجب على المسلمين إذا حصل نزاع بين طائفة وأخرى، سواء كانت بين أسرة، أو بين جماعة وأخرى، أوبين حاكم ومحكوم، أو بين دولة وأخرى، أن يقوموا بالصلح بين المتنازعين بالعدل، ليثبت الاعتصام بحبل الله والاجتماع على كلمته، وتزول أسباب التفرق والنزاع المؤدية إلى الفشل، وعلى علماء الإسلام ورجال الفكر ورؤوس أهل الحل والعقد، والأقوياء منهم، تقع المسؤولية العظمى في ذلك، ويجب أن يكون الصلح عادلا، لا يميل فيه المصلحون إلى طائفة دون أخرى...
فقد أمر الله بالصلح الأسري، كما قال تعالى: ((وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا)) النساء (35) ))
وأمر بالصلح بين المقتتلين، فقال: (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)) الحجرات (9)
وبين r أن إصلاح ذات البين، يفضل نوافل الطاعات المهمة، كما في حديث أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟) قالوا: بلى قال: (إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة) أبو داود (4/280) والترمذي (4/663) وقال: "قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح"
وبين r أن وأن فساد ذات البين تستأصل دين المتنازعين وثوابهم،كما في حديث الزبير بن العوام أن صلى الله عليه وسلم قال(دب إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم) مسند أحمد (1/164) و الترمذي (4/664) قال في مجمع الزوائد (8/30): " رواه البزار وإسناده جيد"
المنطلق الثاني: الحرية التي يستوي فيها الراعي والرعية والحاكم والمحكوم، فلا يحد حرية الفرد والأسرة والجماعة والدولة ويقفها، إلا تعدي صاحبها الحد المشروع وإلحاق الضرر بنفسه أو بغيره من عباد الله، فما دامت تصرفات المسلم محاطة بسياج شرع الله، غير معتدٍ بها صاحبُها على حقوق الله وحقوق عباده، فلا يجوز لأحد سلب حرية آخر...
لا فرق في ذلك بين التصرفات المالية، كسبا وإنفاقا، والآراء السياسية تأييدا أو نقدا، والنشاط الدعوي، والإعلامي والتعليمي، والتجاري والاقتصادي، وكذلك حرية التجمع الذي يقصد منه التشاور فيما يحقق جلب مصالح لعامة المسلمين أو لخاصتهم، مما لا يتعارض مع المصالح العامة، ولا يترتب عليه نزاع يصدع صف المسلمين ويفرق كلمتهم، وكذلك حرية التنقل في داخل البلد أو خارجه.
فهذه حقوق يجب أن تتمتع بها الشعوب والحكومات على السواء، ويدخل في ذلك غير المسلمين في الحدود التي منحهم الله في كتابه وسنة رسوله، وهي كثيرة جدا، فصلها الفقهاء في كتبهم، ومنها الكتاب القيم، لابن القيم: "أحكام أهل الذمة"
المنطلق الثالث: تطبيق قاعدة الشورى التي لا تستقيم حياة المسلمين إلا بها، ولهذا كانت من أهم صفات المؤمنين البارزة في العهد المكي: ((وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون(36) والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون(37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون(38) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)) الشورى (39)
وأمر الله بها رسول صلى الله عليه وسلم في قضية معركة أحد، فقال تعالى: ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)) آل عمران (159)
وطبقها الرسو صلى الله عليه وسلم في شئون الحرب، في غزوات بدر وأحد، والأحزاب، وحنين، وفي المعاهدات، كما في قصة الحديبية، وعمل فيها بمشورة إحدى أزواجه...
وشاور أزواجه رضوان الله عنهن في بقائهن عنده، أو تسريحهن عندما نزلت الآية الكريمة: ((ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا(28)وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما)) الأحزاب (29) فاخترن الله ورسوله.
كما طبقها في شئونه الخاصة، كما قصة الإفك...وطبقها أصحابه رضي الله عنهم في شتى المجالات، وبخاصة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم... وقد ذكرت أمثلة متنوعة لذلك في كتاب "الشورى"(8/415)
ويجب على ولاة الأمر الأخذ بقاعدة الشورى حقيقة، وليس مظهرا دون مخبر، وأن لا يخصوا بها من يوافقهم في كل آرائهم ممن يتخذونهم بطانة لهم، فالغالب في أمثال هؤلاء أن يظهروا لهم الموافقة دون تمحيص وتأمل ونصح، حرصا منهم على نيل مصالحهم منهم من الحظوة والقرب والعطاء، ويحرصوا على حجب الناصحين عنهم خشية على مصالحهم، وإن حصل ضرر على من سواهم من الرعية، بل على ولاة الأمور أنفسهم... وفي ذلك ما فيه من العواقب الوخيمة التي قد يفوت تداركها...
وقد كان الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يستشيرون الموافق والمخالف، كما في قصة غزوة أحد، حتى يصلوا إلى الصواب من الرأي، ثم ينطلق الجميع لتحقيق ما توصلوا إليه، متحملين ما يترتب على ذلك من مسؤوليات، راضية به نفوسهم، لأنهم شاركوا في الرأي وفي اتخاذ القرار...هذا عندما لا يكون في المسألة نص صحيح قاطع لا يحتمل التأويل، أما إذا وجد هذا النص الصحيح القاطع الذي لا يحتمل التأويل في معناه، فإنه يجب العمل به طاعة لله ولرسوله بدون تردد ولا مشورة...
المنطلق الرابع: التعاون على البر والتقوى... وليس على الإثم والعدوان،
إن من آفات المسلمين التي أفسدت حياتهم وشتت شملهم وصدعت صفوفهم، عدم سلوكهم جميعا صراط الله المستقيم، بل اتبع كثير منهم سبل الشيطان والأهواء، فتعاونوا على الإثم والعدوان، بدلا من التعاون على البر والتقوى، ووقف كثير منهم ضد دعاة الخير الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
والأدهى من ذلك، تنازع من ينتسبون إلى العلم، وينصبون أنفسهم دعاة إلى الله، من جماعات وأحزاب، بل تجد جماعة واحدة أو حزبا واحدا، محددة أهدافهم، مقررة وسائلهم، ينشق عنهم فرد أو أفراد، ليكونوا جماعة جديدة، تصارع الجماعة الأم.
وإذا بحثت عن الأسباب لتلك الانشقاقات، لا تجد غالبا إلا الأهواء والاستجابة لوساوس الشيطان، في أحد الطرفين أو فيهما، والحرص على الزعامات، وحقيقته نسيان أمر الله بالتعاون على لبر والتقوى... ((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب)) المائدة (2)
المنطلق الخامس: التناصح والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر وبهذه القاعدة العظيمة تحفظ الأمة الإسلامية ضرورات حياتها ومكملاتها، تحفظ دينها ونسلها ونفسها وعقلها ومالها، وما يكمل تلك الضرورات، بل تسعد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمم الأرض كلها، لأن الله تعالى أخرجها برسالة الإسلام لقيادة الناس إلى رضاه، كما قال تعالى: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون)) آل عمران (110)
وإذا تخلت هذه الأمة عن التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان حظها الخسران في الدنيا والآخرة، واستحقت ما استحقته الأمم المتخلية عن هذا الباب العظيم، من لعنة الله وعقابها بالعداوة والبغضاء فيما بينها، وبذلك تفقد نصر الله وتنال بدلا منه الهزائم ويسلط الله عليها أعداء ها فيسومونها سوء العذاب.
قال تعالى: ((لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)) (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)) (79) [المائدة] فقد بينت الآية أن علة هذا اللعن لبني إسرائيل عدم تناهيهم عما فعلوا من منكر، وإذا تحققت هذه العلة في أي أمة استحقت لعنة الله.
وقال تعالى: ((ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون)) (14) [المائدة]
ومعنى إغراء العداوة والبغضاء بينهم إلصاقها بهم بجعلهم فرقا متنازعة فيما بينها، بسبب تركهم بعض ما ذكرهم الله به من الحق الذي جاءتهم بهم رسلهم... فترك شيء مما أمرهم الله به علة لإلصاق العداوة والبغضاء بينهم، وإذا وجدت هذه العلة في المسلمين، استحقوا ما استحقه النصارى من إلصاق العداوة والبغضاء بينهم، وهذا ما نشاهده اليوم في هذه الأمة من كثرة الفرق المتنازعة التي يكفر بعضها بعضا، والدول المختلفة التي قد يصل اختلافها إلى التقاتل والتقاطع...
وبينت سورة العصر، أن الناس كلهم يستحقون الخسران، إلا من اجتمعت فيهم خصال أربع، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
قال تعالى: ((والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)) وكم من الخسران نزل بنا ولا زال ينزل بسبب ضعف إيماننا، وفقدنا للتواصي بالحق والتواصي بالصبر الذي أراده الله منا؟
وقد يوجد من يقوم بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، لأن هذه الأمة لا يمكن أن يفقد فيها من يبقى داعيا إلى الحق الذي أنزله الله، ولكنه قد لا يجد من يقبله منه قبولا يرضاه الله تعالى، فيكون وجوده شبيها بعدمه، فيترتب على ذلك ما يترتب على فقد التواصي بالحق والتواصي بالصبر...(8/416)
وإن من أوجب الواجبات على العلماء في كل بلد إسلامي، أن يجتهدوا في نصح ولاة الأمر وعدم السكوت عن المنكرات التي تنتشر في الأمة، لأن ولاة الأمر عندهم من القدرة على تثبيت المعروف ومناصرته، وطرد المنكر وملاحقته، مالا يملكه سواهم، وإذا لم يتمكن العلماء من الوصول إلى ولاة الأمر مباشرة، فعليهم أن يكاتبوهم، ويحاولوا إيصال نصحهم بوساطة من يستطيع الوصول إليهم.
ويكون نصح ولاة الأمر أوجب على العلماء الذين تتاح لهم الفرص للاتصال بأولئك الولاة، لتمكنهم مما لم يتمكن منه غيرهم من أقرانهم، وفي سكوتهم عن المنكرات وعدم إنكارها بالأساليب المناسبة، خيانة لله ولرسوله ولولاة الأمر، ولعامة المسلمين، وإقرار للمنكر، وبذلك يتحملون من الإثم ما لا يتحمله غيرهم.
وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من كتمان العلم، ويخشى على من لم يقم به أن يقع فيما وقع فيه علماء أهل الكتاب الذين أنزل الله في كتابه الكريم هذا الوعيد الشديد: ((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون(159)إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)) (60) [البقرة]
وقوله: (( ((إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) (174) [البقرة]
وتطابقت السنة مع الكتاب في وعيد من كتم العلم، كما في حديث أبي هريرة عن صلى الله عليه وسلم قال: (من كتم علما تلجم بلجام من نار يوم القيامة [صحيح ابن حبان) (1/297)]
وحديث عبد الله بن عمرو أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: (من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" صحيح ابن حبان (1/298) والمسند المستخرج على صحيح مسلم (1/41)
ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعلماء الشريعة فقط، بل يجب على أعيان الناس، وقادة الفكر أن يقوموا بهذا الواجب، فيما لا يخفى عليهم من المعروف والمنكر، وعليهم مناصرة علماء الشريعة، في أمرهم ونهيهم، فعموم النصوص يوجب على الجميع القيام بهذه الفريضة: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [صحيح مسلم (1/69)]
ويجب على ولي الأمر أن يصغي لنصح الناصحين، ويقوم بتأييد المعروف ومناصرة أهله، وبإزالة المنكر وكبح جماح أهله، فالعبء الأكبر في هذا الباب - باب التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - يقع على كاهل الحكومات في الشعوب الإسلامية، لأنها هي القادرة على حمل الناس على القيام بهذا الأمر وإلزامهم بقبوله، كما قال تعالى: ((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) [الحج (41)]
وإن مما يؤسف له أن تنتشر المنكرات في الشعوب الإسلامية، بسبب تمكين كثير من حكوماتها لتلك المنكرات وتأييدها لها، ومحاربتهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من رجال العلم والدعوة، بدلا من قيامهم هم بهذا الواجب الذي هم أقدر على القيام به، لأنهم يستطيعون تغيير المنكر بأعلى مراتبه، وهي التغيير باليد، كما سبق قريبا في حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
والحاكم الذي لا يقبل النصيحة، ويصر على السكوت عن ترك المعروف، أو فعل المنكر، هو من المفسدين في الأرض، ومن المتكبرين الذين تأخذهم العزة بالإثم، وإن أظهروا بألسنتهم ما يخدعون به شعوبهم من القول الحسن الذي يعجب سامعيه ويطربهم، كما قال الله في أمثاله: ((ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد(205) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد)) (206) [البقرة]
ومعلوم أن في صلاح ولاة الأمر صلاح رعاياهم - الغالب - وفي فسادهم فساد رعاياهم، لأنهم يدعمون صلاحهم أو فسادهم بما مكنهم الله تعالى منه من إمكانات الدولة، فيكون التعليم والإعلام والاقتصاد والمال والقوانين، والجيش والشرطة والاستخبارات، والحكومة بجميع مرافقها، محققة لما يدعمه الحاكم من صلاح أو فساد، ويكون ولي الأمر قدوة لشعبه في الصلاح والفساد، وقد شبه بعض العلماء القلب الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله) بولي الأمر مع رعيته، وله حظ وافر من قول الشاعر:
إذا كان رب البيت بالدف ضاربا=فشيمة أهل البيت كلهم الرقص!
المنطلق السادس :
العدل
المساواة
احترام الكفاءات
مراقبة أحوال الرعية وقضاء حاجاتهم
بناء اقتصادي متين
وإن من أشد الغفلات عند غالب المسلمين، عدم اهتمامهم بالأمور العامة، التي تعود مصالحها إلى الأمة كلها، والْحَوْلُ بينهم وبين ما يشتهون
=================(8/417)
(8/418)
الإعلام الإسلامي وتحديات العولمة
جمال سلطان(*)
(1)
قَدَرُ الفكر الإسلامي، بل الفكر الإنساني عامة أن يواجه في العقدين الأخيرين سلسلة متلاحقة من المصطلحات الجديدة في السياسة والاقتصاد والفكر والدين وغير ذلك؛ بصورة ترهق العقل الإنساني إذا حاول التأمل والتفكيك لهذه المصطلحات وتدوير النظر فيها وتعميقه. وكان مصطلح العولمة واحداً من أحدث هذه المصطلحات التي ابتلينا بها، والتي نحاول منذ سنوات التأمل فيه وتفكيكه والبحث في مراميه وخلفياته، ونحاول فهمه في ضوء ما ابتلينا به سابقاً من مصطلحات أو ظواهر إنسانية مختلفة، ورغم محاولاتنا ومحاولات غيرنا فإن مصطلح العولمة ما زال يحمل قدراً كبيراً من المراوغة وعدم الوضوح، ويتجلى ذلك في العديد من التأويلات والتفسيرات التي طرحت له من قِبَل مفكرين عرب ومسلمين وغربيين، وبصورة تجعل محاولة الانشغال بضبط المصطلح علمياً أمراً غير ذي جدوى، وحسبنا الإطار العام الذي تدور فيه دلالات المصطلح، ألا وهو النزوع نحو الهيمنة الاقتصادية والثقافية والإعلامية والقيمية للقوى القادرة والمستكبرة في عالم اليوم على غيرها من الأمم والشعوب، وبصورة تؤدي إلى «تنميط» الحالة الإنسانية وهندسة البناء الاجتماعي وفق معادلات تم وضعها سلفاً وبصورة حاسمة ومدمرة للشخصية الإنسانية.
ولعل الوجه الأبرز والأكثر حضوراً للعولمة هذه الأيام هو الوجه الاقتصادي، ومعظم المؤتمرات ـ أو المؤامرات ـ التي تعقد في الشرق أو الغرب تحت مظلة أو لافتة «العولمة» هي ذات وجه اقتصادي واضح وصريح، كما حدث في سياتل الأمريكية، وأخيراً في «جنوا» الإيطالية التي شهدت أول قتيل «أوروبي» في انتفاضة الضمير الإنساني ضد مخاطر العولمة.
وبروز هذا الوجه الاقتصادي للعولمة على غيره إنما يعبر في الحقيقة عن الوجهة العامة للمؤسسات الدولية المتحكمة في مسار التاريخ الإنساني الآن؛ إذ إن «القيم المادية» هي الهدف وهي البوصلة وهي الطريق الوحيد أو الأبرز والأساس الذي تتجه إليه هذه المؤسسات، ويأتي الشأن الثقافي والفكري والإعلامي وحتى السياسي فيما بعد نوعاً من الدعم أو «الخدمة» لهذه الوجهة؛ ومن ثم فلنا أن نتصور الحديث عن العولمة بوصفها وجهاً للهيمنة الاقتصادية لرأس المال المحتكر للطاقة البشرية، وبحثه عن «تطويع» العقل والوجدان الإنساني بحيث يتعايش مع هذه الهيمنة ولا يتنافر معها، وفي سبيله إلى هذا «التطويع» لن يعدم استغلال إمكانياته الهائلة في «إغواء» أو حتى «إذلال» المؤسسات الإعلامية أو الثقافية أو «الدينية» ـ مع الأسف الشديد ـ لكي تدعم توجهاته وأهدافه، وهي الأهداف التي تتلخص في صناعة شخصية إنسانية شهوانية، فاقدة لأية قيم إنسانية راسخة، دينية أو أخلاقية، ذات هوس استهلاكي وفراغ عقلي ووجداني، وفاقدة لأية مناعة نفسية أو وجدانية أو عقلية ضد عمليات «التنميط» للشخصية الإنسانية؛ بحيث يمكن إعادة هيكلة اتجاهاتها وعواطفها كل حين كما لو كانت زياً في الملابس «موضة» وقصة الشعر.
(2)
والحقيقة أن محاولات الدخول إلى العقل الإسلامي بقيم العولمة من بوابة الثقافة والفكر، والتي لم تعد تحتاج جهوداً أجنبية؛ حيث هناك من بني جلدتنا ولساننا من يتولون الدعوة الصريحة والفجة لها، أقول: هذا المدخل يعود أساساً إلى غياب الوعي والإدراك الكامل لمفهوم التبعية في العالم الثالث؛ حيث روجت القوى الثورية واليسارية والقومية التي قادت حركة الفكر في نصف القرن الأخير في العالم العربي والإسلامي، روجت للمفهوم السياسي والاقتصادي للاستقلال؛ بينما تجاهلت ـ أو جهلت ـ الأخطر والأفدح، وهو الاستقلال الفكري والثقافي؛ فكنت تجد بعض المدافعين عن الاستقلال الوطني ـ مثلاً ـ يمثلون ـ هم أنفسهم ـ بوابات التغريب والتبعية الثقافية في العالم العربي والإٍسلامي، بل من مفارقات الأمور التاريخية المذهلة ما سجله التاريخ المصري الحديث عن «صفية زغلول» المسماة بأم المصريين، زوجة الزعيم المشهور سعد زغلول، حيث قادت مظاهرة نسائية كبيرة في عشرينيات القرن الماضي ضد الاحتلال البريطاني وداعية إلى الاستقلال، وفي التظاهرة أعلنت ـ هي ورفيقاتها ـ خلع الحجاب وكأن ذلك جزء من النضال التحرري؛ رغم أنها في الحقيقة بهذا العمل الرمزي إنما تعلن التبعية الثقافية والقيمية للمستعمر الذي تطالب بالتحرر السياسي منه.(8/419)
إن من المفارقات الغريبة لدى بعض الكتاب والباحثين المشتغلين بالشؤون العامة - الفكرية والسياسية والحضارية - أنك تجدهم يتكلمون بانفعال وصرامة في أمر «التبعية» السياسية والاقتصادية للغرب أو الشرق، وينعون على مجتمعاتهم أو بعض القوى فيها عدم اكتراثها بالوقوف في وجه «التبعية» وفضح آثارها ومخاطرها، ومسها بمصالح المجتمع وكرامته ومستقبله كله، ثم إذا أنت تكلمت مع هؤلاء عن «التبعية الفكرية» ومخاطرها وآثارها ـ بعيدة المدى ـ في مصالح الأمة وشخصية إنسانها ـ وجدتهم يتعجبون من كلامك ويستنكرون عليك منطقك ويتهمونك بالغلو والتطرف، وساموك أبشع ألوان الاستهزاء والسخرية، ثم أرهقوا أذنيك وأعصابك بالحديث عن العالم الذي أصبح قرية واحدة، والتلاقح الفكري، والانفتاح الثقافي... إلى آخره.
ولا شك أن هذه المفارقات تكشف عن غياب الوعي الراشد بجوهر مفهوم «التبعية» وأبعاده المختلفة، واستحالة الانتقاء في الموقف تجاهه، بحيث تقبل التبعية في جانب وترفضها في آخر. إن التبعية رذيلة إنسانية وحضارية بكل أبعادها، وهي مؤشر للانهيار الحضاري، وعقم المجتمع، وانعدام الإحساس بالتميز والكرامة معاً، وتلاشي قوى الأمة وقدراتها الإبداعية، ثم إن المنطق اليسير يؤكد أن «التبعية» - في المجال الفكري والثقافي ـ أخطر بكثير من التبعية في السياسة أو الاقتصاد؛ إذ إن العلاقات السياسية أو الاقتصادية هي مما يتميز باللحظية والتحول، وكثيراً ما تتصل بمصالح مشتركة؛ مما يجعل لها وجه اشتباه ـ لدى العامة ـ في الإحساس بخطر «التبعية» فيها، وبما يؤمل معه القدرة على رفض هذه التبعية أو التخلي عنها في لحظة أخرى. أما في مجال الثقافة والفكر، فالأمر لا يتعلق بلحظة وإنما يتعلق بصياغة الشخصية الإنسانية ذاتها، ومعتقداتها، وقيمها، ومفهوماتها، ونظرتها إلى مختلف شؤون الحياة؛ فإذا حدث اختراق لهذا الكيان فهو تأسيس لشخصية جديدة بمواصفات جديدة يستحيل تغييرها بين لحظة وأخرى، وتكون معالجة الشرخ الاجتماعي - الذي تحدثه - شديدة الصعوبة، كما أن «التبعية الفكرية» هي ـ في الحقيقة ـ التي تمهد الواقع الاجتماعي للتبعية السياسية والاقتصادية، بل إنها هي التي تفقد الإنسان الإحساس بوجود تبعية من أساسها؛ إذ إن الإحساس بوجود التبعية يعود إلى تصور مسبق بأنك كيان متميز غير متمازج أو متماهٍ مع كيان آخر، وأن من حقك على هذا «الآخر» أن يحترم استقلال رأيك وقرارك ومصالحك الاقتصادية وغيرها.
(3)
في العالم العربي الآن ـ على سبيل المثال ـ توجهات جديدة مثيرة في النشاط الإعلامي، في مرحلة ما بعد المحلية، أعني في مرحلة البث الفضائي، وهو جزء ـ شئنا أم أبينا ـ من آليات العولمة الجديدة، في المجال التقني على الأقل. هناك الآن في العالم العربي ظاهرة وجود نشاط ملحوظ لعدد جديد من البرامج الإعلامية التي ترسخ قيماً جديدة وخطيرة للغاية في البناء النفسي والعقلي للإنسان المسلم، ولعل الجدل الديني والصحفي الذي احتدم مؤخراً عن برامج «المسابقات» في قنوات تلفزيونية عديدة، يشير إلى أي مدى تجري المحاولات لاختراق المجتمع حتى المؤسسات الدينية لكي توظف في النهاية من أجل دعم توجهات «العولمة» على الصعيد المحلي؛ فهناك الآن برامج تلعب على «دغدغة» مشاعر الناس، والبسطاء بوجه خاص، وترسخ في روح المجتمع فكرة البحث عن «الثراء» السريع والخاطف هدفاً وطموحاً نهائياً، بدون بذل جهد حقيقي، وهي نوع من اللعب بالأوراق أو الأرقام، وبعض هذه البرامج يكون فيها «المقامرة» واضحة، سواء من خلال المقامرة بما يكتسبه المتسابق في مراحل سابقة من البرنامج المعروض، أو فيما يدفعه المتسابقون من أموال للاتصالات بأسعار خاصة، كأن يكون سعر الدقيقة المعتادة جنيهاً فيدفع في دقيقة الاتصال بالبرنامج خمسة جنيهات؛ فالأربعة الأخرى إسهام في مقامرة حقيقية، وعقب ما أصدره بعض العلماء من فتاوى صريحة بأن هذا قمار محرم شرعاً، فوجئنا بمؤسسات «دينية» رسمية تجتمع على عجل وبشكل استثنائي لكي تخرج على الناس، وعلى معالي الوزير، بفتوى تقول إن برامج المسابقات التي يبثها التلفزيون الرسمي حلال ولا شيء فيها.
توظيف المؤسسة الدينية في خدمة توجهات السلطة السياسية هو أمر شائع إلى حد ما في العالم الثالث، وخاصة في النظم القمعية والاستبدادية، ولكن المثير للدهشة الآن أن توظيف المؤسسات الدينية لم يعد يتعلق بالسلطة السياسية ومصالحها مباشرة، بل هو توظيف لخدمة توجهات عالمية تصب في النهاية في خدمة احتكارات دولية كما تصب في خدمة قيم مدمِّرة ومخرِّبة للبناء النفسي والعقلي والاجتماعي في المجتمع؛ لأنها ترسخ معنى أن الحياة «مقامرة» وضربة حظ، وأن العمل الجاد والصبور والبناء ليس هو سبيل الثراء، وحينما تترسخ هذه المعاني في مجتمع يعاني ضعف الفعالية الإنتاجية أصلاً، ويعاني اختلالات هيكلية في اقتصادياته، فإن الأمر يكون أكثر تدميراً. والمثير للدهشة أن يتم هذا التدمير بمباركة مؤسسات دينية، وبصمت مذهل من نخب ثقافية تزعم الاستنارة والتحرر ومقاومة التبعية.(8/420)
الحادثة السابقة هي ـ بلا شك ـ وجه من وجوه العولمة في بُعدها الإعلامي، وإن كانت تكشف عن «توظيف» كل شيء لخدمة مخططات العولمة، بما في ذلك المؤسسات الدينية.
(4)
والعولمة ـ على الصعيد الثقافي والقيمي ـ تستغل بعض المؤسسات الاجتماعية النسائية أيضاً لتمرير مشروعاتها ونسقها القيمي؛ بحيث تجري عملية تضليل للأولويات الاجتماعية؛ فتجد بعض الجمعيات النسائية في العالم العربي تخدم مخططات تخريبية في أوطانها لحساب قوى أخرى أجنبية دون أن تدري؛ بسبب الغفلة والبحث عن «الأصداء الإعلامية» العالمية لنشاطاتها المتحررة في بلاد العالم الثالث. وعلى سبيل المثال توقفت أمام خبر «معتاد» في صحيفة خليجية، والخبر يتعلق بنشاط بعض المنظمات النسائية في بلد عربي خليجي، وكان عنوانه يتحدث عن جهود لوضع صيغة قانونية صارمة من أجل تأخير سن الزواج للفتاة المسلمة في هذه الدولة؛ بحيث لا تقل عن ثمانية عشر عاماً، وكذلك تأخير سن الزواج للشباب. والذي يقتلك غيظاً وكمداً أن هذه الدولة تعرف ـ حسب الإحصائيات ـ واحدة من أعلى نسب العنوسة بين الفتيات!! ومع ذلك تأتي منظمة نسائية لكي تتجاهل هذه الحقيقة المرة والمخيفة والمتعلقة بصميم بنية المجتمع وسلامته النفسية والأخلاقية والدينية لكي تحارب من أجل إصدار قانون لا يمثل أية أولوية اجتماعية أو نفسية في هذا البلد على الإطلاق؛ وإنما هو تقليد أعمى لتصورات وأولويات بلاد أخرى وشعوب أخرى لها نسيج اجتماعي مغاير تماماً لطبيعة مجتمعاتنا، ولها منظومة قانونية وأخلاقية مختلفة عن منظومتنا التشريعية والأخلاقية، ولو كان هناك إخلاص وعقل وتجرد للمصالح الحقيقية لأوطاننا وشعوبنا، لكان عكس الدعوة السابقة هو المطلب الملحّ مع وضع البرامج التربوية والنفسية المعينة عليه والموجهة له؛ أي أننا في حاجة إلى تبسيط الزواج وسبله بالنسبة للفتيات والشباب على السواء، وإلى خفض سن الزواج بالنسبة للاثنين بحيث تجد الفتاة والشاب فور بلوغهما ما يروي فطرتهما التي يشعل شياطين الإنس من حولهما جذوة نيرانها في كل موطئ قدم يطؤونه أو مكان يتلفتون إليه، في الشارع والمذياع والتلفاز والسينما والمسرح والإعلان والموسيقى والأغنيات التي تتبارى الآن في مستوى الخلاعة والتماجن، والبرامج الإباحية المتسترة في ثوب التثقيف الجنسي والاجتماعي، والروايات والقصص التي ينشرها مرضى وشواذ ومهووسون جنسياً. سيل عجيب ومتوالٍ يحاصر الفضيلة والعفة، ويعكر صفو الخاطر ويلوث الفطرة، ويدمر قيمة الحياء وبهاءها، بل وجدنا من يكتب أو ينشر أو يذيع برامج لمعالجة ظاهرة الحياء عند الفتاة أو الشاب، معتبراً ذلك مرضاً نفسياً لا بد من مقاومته، وإنما الصحة والعافية في التبجح والصفاقة وقلة الحياء. في مثل هذه الدوامات تكون الدعوة إلى حرمان الفتاة من حقها الفطري والإنساني في الحياة الزوجية الهانئة جريمة في حقها واعتداءً على حقها الإنساني، ولكن الذي لا يُذكر في الخبر وفي الواقعة أن معظم هذه «التوابل» السابقة التي أشرنا إليها أصبحت «صناعة» ولا بد لها من سوق، وحينما تتشكل مؤسسة الزواج بشكل فطري وطبيعي؛ فأين تكون أسواق بضاعة الجنس بمختلف صورها وأشكالها في الموسيقى والأفلام والبرامج والمجلات والقصص والأغاني والإعلانات وغيرها؟! فضلاً عن الأهداف غير المباشرة والمتمثلة في تدمير إمكانات المقاومة في نسيج المجتمع لأية قيم وافدة، وتحويل «الشهوة» والإشباع المادي إلى أن يكون هو الهدف وهو الغاية وهو الحياة؛ ومن ثم: توسعة سوق التجارة العالمية الجديد.
(5)(8/421)
من المهم ـ في هذا السياق ـ أن نوضح بعض المداخل المهمة التي يتخذها مروجو «العولمة» سبيلاً إلى «تهيئة» العقل والوجدان الإنساني لقبولها، ولعل من أبرز هذه المداخل مقولة: «العالم أصبح قرية واحدة»، وهي أصبحت محور الرسالة الإعلامية الجديدة التي تقابل الإنسان العربي والمسلم الآن في الصحيفة والبرنامج الإذاعي والتلفزيوني وغير ذلك، وأصبحت هذه العبارة اللطيفة الظريفة إحدى بوابات التخريب القيمي في مجتمعات المسلمين، والعالم الثالث بوجه عام، بل هي ـ في تقديري ـ أحدث أنواع المخدرات الثقافية التي تستخدم لشل طاقات النقد والتمحيص تجاه الوافدات الفكرية والقيمية التي تتسلل إلى ديار المسلمين عبر أكثر من منفذ ووسيلة، فإذا أراد بعض «المستوردين» أو الوكلاء المحليين للتيارات القيمية والأدبية الأجنبية أن يسوِّقوا بضاعتهم المستوردة في مجتمعاتنا، على ما فيها من إباحية أو شذوذ فكري أو فساد عقَدي ـ فتجدهم لا يكلفون أنفسهم عناء بذل الجهد الفكري والمعرفي المخلص لنقد هذا الجديد، وطرح المسوِّغ الموضوعي لتمريره بين الناس، على ما فيه من خطر بالغ، وإنما يكفيهم أن يصكوا وجهك بالعبارة السحرية: «يا أخي! إن العالم أصبح قرية واحدة»! بمعنى: إنك لا تستطيع أن تعزل نفسك عن مجريات العالم وتياراته، وعلى الرغم من معقولية منطلق هذه العبارة، فإن ترجمة الموقف المترتب عليها هو الذي يحمل الخبث والتضليل؛ فالعالم تتقاطع المؤثرات العالمية فيه، وتمرر الكثير من هذه التيارات عبر أجهزة الاتصال الحديثة التي تطوي المسافات بل وتلغيها، إلا أن هذا الاختراق التقني لا يمكن بحال أن ينفي خصوصيات الشعوب، ولا أن يدمر بنيان القيم، ولا أن يزلزل ثبات المعتقد والدين، ولا أن يبدل المقومات الأساسية للمجتمع، أي مجتمع؛ ولذلك تجد أن الدول الأوروبية ذاتها ـ التي سوَّقت لنا هذه العبارة الرشيقة ـ تتخذ أحياناً من القوانين والإجراءات ما يقطع بفساد قصة: «العالم الذي أصبح قرية واحدة»، كرفض السلطات الفرنسية السماح للعرب المهاجرين باستخدام أجهزة البث الفضائي «الدش» في بعض المناطق، ومصادرة السلطات السويسرية لبعض كتب روجيه جارودي، ومصادرة السلطات البريطانية لكتاب عن «مارجريت تاتشر» أو فيلم عن المسيح رأت أنه مغرض ومسيء، ومصادرة السلطات الفرنسية لكتب سيد قطب وأحمد ديدات، ثم تراجعها عن بعض ذلك، وموقفها من الحجاب، ومن استعمال كلمات غير فرنسية لمحلات ونحوها، كما أن التجوال في العالم المعاصر يؤكد لنا بالبرهان الحي ـ أنه على الرغم من الجبروت الإعلامي عابر القارات، فإن طبائع الشعوب وخصوصياتها، الثقافية والدينية والخلقية تبقى متمايزة، بمعنى أن الصمود ممكن، والحفاظ على الهوية يرتبط بإرادة الشعب الذي يرفض الذوبان فيما يصنعه الآخرون، وأن العالم يبقى ـ على الرغم من كل شيء ـ ثقافات وهويات، وليس هوية واحدة، وليس قرية واحدة، ولكن الإلحاح ما زال مستمراً على تمرير هذه المقولة في أوساط النخب الثقافية والإعلامية في بلادنا، بل تسللت إلى أحاديث رجل الشارع.
(6)
كيف يمكن أن نتفاعل مع «العولمة» في المجال الإعلامي؟
من دون مبالغة يمكننا القول أن أهم المكتسبات التي حققتها العولمة لشعوب العالم وأعظمها هي تلك التي تكونت على الصعيد الإعلامي؛ حيث إن ظهور شبكة الإنترنت الرهيبة مثَّل انقلاباً كبيراً في معنى التواصل الإنساني، ومعنى الحوار، ومعنى الرسالة الإعلامية العالمية، كما أن ظهور البث الفضائي الإذاعي والتلفزيوني أتاح فرصاً مدهشة للتواصل الإعلامي الفعال مع كل إنسان في العالم، وبشكل لم يتصوره الناس من قبل. وكذلك تخفيف حساسيات الدولة القومية من وجود النشاطات الإعلامية والإنسانية الأجنبية على أراضيها جعل هناك مساحة واسعة من الحركة والتفاعل الإنساني بين الصوت الإسلامي والإنسان المعاصر في غير ما مكان من عالم اليوم. والذي لا شك فيه أن هذه الآليات هي نتاج تغوُّل فكرة العولمة، والبحث عن وسائل لاختراق الحدود أو تجاوزها وبسرعة توصيل الرسالة الفكرية والإعلامية المراد توصيلها إلى كل إنسان على وجه الأرض وبسرعة فائقة. وقد نجحت بلا شك المؤسسات الإعلامية الدولية في الاستفادة من هذه الآليات بما يخدم مصالحها، وقد وصل جزء كبير من الفساد عن هذا الطريق إلى الإنسان المعاصر في العالم الإسلامي والعربي بشكل خاص، ولكن بالمقابل فإن هذه الآليات قد أتاحت قدراً مدهشاً للحركة أمام النشاط الإسلامي الإعلامي والثقافي، ويكفي أن نشير إلى أن غالبية المواقع العربية على شبكة الإنترنت هي لمؤسسات إسلامية صغيرة أو كبيرة أو حتى شخصية، واستخدامات البريد الإلكتروني وساحات الحوار ونحو ذلك خير شاهد على هذه الحقيقة.(8/422)
هناك أيضا المئات بل الآلاف من الإصدارات والمجلات والصحف الإسلامية التي تبث الآن عبر الإنترنت وتصل إلى أنحاء العالم كافة مخترقة حواجز رهيبة كان من العسير عليها في السابق اختراقها مهما أوتيت من قوة وقدرة مالية أو غيرها؛ بل إن شبكة الإنترنت أعطت الجهاد الشيشاني ـ على سبيل المثال ـ إمكانية الصمود أمام آلة الإعلام الروسي الجبارة، وأصبح موقع المجاهدين على الشبكة أحد أهم مصادر وكالات الأنباء الدولية عن الأوضاع في الشيشان، وكذلك مصدراً مهماً للصحف والمجلات، ولو كان هذا الأمر قبل عشرين أو ثلاثين عاماً لما شعر أحد بالمعاناة الشيشانية ولتم دفنها كما دفن الجهاد الكشميري زمناً طويلاً قبل أن يبدأ في التواصل مع العالم الخارجي.
إن شبكة الإنترنت ساعدت على إحياء معاني كبيرة وجليلة في الحالة الإسلامية، وفي مقدمتها معنى «الجسد الواحد» للأمة إذا اشتكى منه جزء تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، ورغم كل المكتسبات التي حققتها الصحوة الإسلامية من خلال الاستفادة من شبكة الإنترنت، فإن هناك مجالات رحبة وواسعة يمكنها استغلالها بشكل أفضل؛ ومن ذلك إنشاء صحف يومية مختلفة وقنوات إذاعية وتلفزيونية عبر الشبكة. ومما يبشر بالخير أن نجد الكثير من الشباب الإسلامي متميزاً للغاية في خبرة التعامل مع التطور التقني والمعلوماتي الجديد بصورة تبهج النفس، ويبقى حضور الأفق الجيد الذي يرسم خريطة الحالة الإسلامية؛ ومن ثم يرصد احتياجاتها، ثم يحدد الطرق والوسائل التي يسد بها هذه الاحتياجات من خلال هذا المنفذ الجديد والمثير.
أيضاً على صعيد البث الفضائي، أعتقد أن هذه نافذة مهمة للغاية، وما زال الإسلاميون عاجزين عن الاستفادة منها. صحيح أن هذه الخدمات تحتاج إلى إمكانيات مادية أعلى بكثير من تلك التي يحتاجها العمل من خلال الإنترنت، إلا أن الإسلاميين لا يهتمون بتدريب الكفاءات الفنية التي يمكن لها تحريك عمل مثل هذا مستقبلاً، كما لا يوجد ـ في حدود علمي ـ جهود حقيقية لدراسة الإمكانيات الفعلية لتحقيق هذا الطموح، وفي تقديري أنه إذا نجحت الدعوة الإسلامية في اختراق هذه الآلية الجديدة للتواصل مع القواعد العريضة من الناس فإنها ستربح كثيراً من الوقت والجهد وتقفز بالدعوة قفزات كبيرة. وقد لمست ذلك بنفسي من خلال تجربة محدودة في العمل من خلال إحدى القنوات الفضائية الإسلامية، ولمست كيف يمكنك أن تصل إلى الملايين من أقصر طريق وبأفضل تأثير، وأذكر أن أستاذًا جامعياً إسلامياً في مصر، ظل على مدى أربعين عاماً يكتب في الشأن الإسلامي وفي الدعوة والتنمية وغيرها، فلم يعرفه ويعرف دعوته إلا نفر قليل، ثم ظهر في برنامج تلفزيوني لعدة حلقات وكان موفقاً فيه فأصبح يتابعه الملايين وتحول إلى نجم جديد وكبير، وأفردت له صحيفة الأهرام المصرية ـ أكبر صحيفة مصرية وربما عربية ـ صفحة كاملة كل أسبوع يكتب فيها ما يشاء. وكذلك فإن الحضور المتتالي لبعض الرموز الدعوية ممن أثاروا جدلاً واضطراباً بفتاواهم، يعود بشكل مباشر إلى نجاحهم في استثمار البث الفضائي والحضور الجيد من خلاله، في حين لم ينجح ـ وربما لم يتحمس ـ آخرون فخسروا الكثير من تأثيرهم الدعوي، كما خسر جمهور الناس إمكانية الاستماع والتواصل مع الرأي الفقهي الآخر.
(7)(8/423)
الذي لا شك فيه أن «العولمة» هي نوع جديد من أنواع الاستعمار فيه كل ما في الاستعمار القديم من صفات، وله ما لسَلفه من الأهداف والغايات، غير أنه طور نفسه مستغلاً آليات حديثة مدهشة، واستفاد من دروس الماضي حين أخفى مخالب الاستعمار القاسية تحت ألفاظ ناعمة: كالتعاون، والشراكة، والتعاون المتبادل، وحشد ـ إلى جوار القوة العسكرية ـ هيمنة المال والاقتصاد والتقنية الحديثة ووسائل الثقافة والإعلام، وأسباب التسلية والترفيه. وهذه الهجمة الكاسحة ـ على مناطق الضعف والفراغ ـ سوف تُحدث أثرها دون شك، لكن ذلك سوف يكون لمدى محدود، يطول أو يقصر وفقاً للظروف، وبالأساس وفقاً لقدرات الشعوب على المقاومة والمحافظة على استقلاليتها، وقدرتها على حفظ هويتها وصلابتها في الصمود أمام تيارات الإغراق الإعلامي والثقافي والاستهلاكي التي تهجم عليها من كل جانب. ونحن على يقين من أن العولمة ـ بقدر ما يظهر عليها من علامات القوة والسطوة ـ فإنها تحمل معها بذور ضعفها وانهيارها، ومن شأن هذه البذور أن تزداد نمواً كلما اتسعت الدائرة وتعددت مناطقها ومساربها؛ وأهم نقاط الضعف أنها نظام مادي صِرف يقوم على الجشع والسيطرة والاستغلال، وشهوة الكسب، ويثير أكثر الميول وضاعةً في النفس الإنسانية: ميول التقليد الأعمى، وتخدير العقل حقيقة أو مجازاً، وعشق المظاهر، والتبذير، واعتماد الانتهازية في السلوك والكسب، والعمل وفق منطق «الحظ والمصادفة»، والاستسلام للشهوات، وبتعبير آخر: إطلاق الوحش البدائي الذي يسكن أعماق الإنسان، وتحطيم تلك الكوابح الأخلاقية التي جاء بها الأنبياء، أو حتى تلك البقايا الأخلاقية التي تحدث بها فلاسفة وحكماء، ومن شأن هذه الميول أن تزداد ضراوة كلما اشتدت التناقضات التي تفد مع المادية كالطبقية والظلم الاجتماعي، وتفاوُت الدخول، وغَلَبَة الاستهلاك على الإنتاج، وفي غيبة التدين وانحسار القيم والأخلاق تصل هذه التناقضات ذروتها في موجات العنف، والإرهاب، والتصدعات الاجتماعية العنيفة، والحروب الأهلية، وتقع الصورة التي حذر منها القرآن الكريم أمثال هذه المجتمعات: {قّدً مّكّرّ پَّذٌينّ مٌن قّبًلٌهٌمً فّأّتّى پلَّهٍ بٍنًيّانّهٍم مٌَنّ پًقّوّاعٌدٌ فّخّرَّ عّلّيًهٌمٍ پسَّقًفٍ مٌن فّوًقٌهٌمً $ّأّتّاهٍمٍ پًعّذّابٍ مٌنً حّيًثٍ لا يّشًعٍرٍونّ} [النحل: 26]، ويبقى أن يبذل المخلصون من أبناء هذه الأمة جهدهم الدؤوب والصبور من أجل التبصير بالمخاطر، وحماية الناشئة، والتميز والإبداع في بث القيم الراشدة وبالأسلوب المناسب عبر الآليات الجديدة؛ فكل هذه الجهود من شأنها أن تثمر ـ بإذن الله ـ في جعل أمتنا عصية على «التنميط» والتبعية؛ ومن ثم بعيدة عن دوامات العولمة، على الأقل في جانبها العقدي والقيمي.
---------
(*) رئيس تحرير مجلة: (المنار الجديد).
المصدر:http://www.albayan-magazine.com
===============(8/424)
(8/425)
الخليج ليس نفطاً
إبراهيم غرايبة
لعل هذه العبارة عالقة في ذهني من كتاب قرأته قبل عشرين سنة للدكتور (محمد الرميحي)، أو من محاضرة للدكتور (غازي القصيبي) في أوائل الثمانينيات، ولكنها عادت تعاودني بإلحاح بعد كتاب الدكتور (فهد بن عبد الرحمن آل ثان)"استراتيجية التنمية في دول الخليج"، هذا بالإضافة بالطبع إلى ما يلاحظه المعايش للأحداث من تحولات اجتماعية واقتصادية تدعو إلى المراجعة والحوار في المسار الذي آلت إليه الدول والمجتمعات في الخليج والوطن العربي بعد تحولات النفط وتقلباته. ففي الأردن على سبيل المثال كانت تحويلات المواطنين المالية من الخارج عام 1973 لا تتجاوز سبعة ملايين دولار، وهي اليوم تزيد على الألفي مليون معظمها بالطبع من دول الخليج.
وعندما يقدم أحد أبناء الأسر الحاكمة في الخليج طروحات وأفكاراً جريئة وعلى مستوى متقدم من الصراحة والنقد الذاتي، والانتماء إلى الهموم الخليجية والعربية، والانحياز إلى الناس العاديين ومطالبهم واحتياجاتهم الحقيقية؛ فإن ذلك يشجع مثلي على طرح مسألة كان يظن أنها محرجة ومزعجة.
يذكر د. فهد آل ثاني أن النظام الإقليمي لدول مجلس التعاون الخليجي يعاني من إخفاقات متعددة في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية، والثقافية، والتكنولوجية، ومن مؤشرات هذا الإخفاق: اختلال البنية الإنتاجية نتيجة ضعف أداء النمو الاقتصادي، وانخفاض الإنتاجية الزراعية والصناعية، واختلال التوازن بين قطاعات الإنتاج السلعي وبين قطاعات التوزيع والخدمات لصالح الأخيرة، واختلال الأمن الغذائي والمائي، واعتماد دول الخليج أساساً على النفط، والأسواق الخارجية لسد الحاجات الاستهلاكية والاستثمارية، والخلل بين الوضع الراهن للعمالة الوطنية والطاقات التي تتطلبها احتياجات العمل مما يجعلها تعتمد على العمالة الأجنبية، وما يترتب على ذلك من اختلال سكاني ومخاوف أمنية، وتعرض المنتجات الوطنية لمنافسة وهيمنة الشركات الأجنبية.
لقد تحولت دول الخليج بسرعة من دول فقيرة يعتمد اقتصادها على الصيد والرعي والنقل البحري المحدود إلى دول غنية، ولكن هذا الوفر المالي ما زال مستمداً من تصدير البترول الخام الذي يشكل 80% من الإيرادات الخليجية، وتعاني الدول الخليجية من تبعية كبيرة في التقنية، وهي دول مستوردة للسلع المنتجة، والتقنية، وتعتمد على الاقتصاد الريعي، ولم تتحول إلى دول ذات إنتاج اقتصادي سلعي وخدمي. وبسبب التشابه في الموارد، وعدم التنسيق بين الدول؛ فإنها تتنافس فيما بينها، مما يجعلها هدفا ً سهلاً لابتزاز القوى الاقتصادية العالمية؛ فالبترول الخام فرضت عليه ضرائب تجعل حصة دول الخليج من ريعه تتدنى إلى خمس التكلفة التي يسوق بها في بعض الدول الصناعية، وفرضت أيضاً ضريبة على الصناعات التحويلية لم تفرض على السلع المستوردة من أمريكا اللاتينية، وجمدت الأجور تقريباً منذ عشرين سنة بسبب الاضطرابات التي شهدتها سوق النفط، والانكماش الاقتصادي، والعمالة الخليجية ما زالت مساهمتها في التنمية هامشية ومحدودة.
واستطاعت دول الخليج أيضاً أن تحقق رفاهاً لمواطنيها، وتوفر الخدمات والاحتياجات الأساسية كالتعليم، والصحة، والطرق، والمرافق العامة بعدما كانت معدومة أو متخلفة، ونشأت دول حديثة ومدن هائلة.
هذا التحول وما رافقه من تحولات سياسية واجتماعية وثقافية وتداعيات أمنية وإقليمية كون خريطة معقدة تربك مشروعات وبرامج التنمية.
ومن ملامح هذه الخريطة: حداثة النشأة، ونمو مدن خليجية هائلة بعيدة عن المواصفات الإنشائية للأقاليم الصحراوية، وبروز ظاهرة دولة المدينة، وارتفاع معدل التحضر، والبروز الواضح والصريح لمدينة القبيلة، وتشابه الخليجيين في تنظيم ثروتهم على أساس تأميم البترول وتسييسه والتنافس في تصديره واستخدامه ورقة أمنية، ويشترك الخليجيون في طابع استهلاكي لا يوجد له مثيل في العالم، وأصبح ذلك جزءًا من الشخصية وليس مؤشراً لارتفاع الدخل، والتعليم، والحراك القبلي، والبيئة. وقد أدت تفاعلات هذه المحاور إلى نتائج متشابكة؛ منها: الغزو السكاني، والتذبذب في الدخل الفردي، واستنزاف الخزان المائي الجوفي، والتلوث، وتدمير الثروات البحرية، وخضوع الصناعة الهايدروكربونية لتقلبات السوق، والتنافس غير الصحي بدل التنسيق التاريخي الذي كان سائداً، وغياب الاستراتيجية المشتركة، والخلافات الحدودية.
ولتعميق مفهوم التنمية يقترح د. آل ثاني وضع المعاني الاستراتيجية لتركيب البنيان الخليجي من خلال: الدولة، والمدينة، والقبيلة، والشعب، والسلطة، والثروة.
والتنمية الزراعية في الخليج يجب النظر إليها على أساس الملاءمة للصحراء، فتكون موجهة للأعلاف والنخيل، وتربية الحيوانات والدواجن، ولكن الموارد البحرية مهمة جداً، ويمكن التوسع في إنتاج الأسماك، وتطوير قطاع السياحة، وتقطير المياه.(8/426)
يقدر عدد السكان في الخليج بحوالي 27 مليون نسمة، يشكل الأجانب أكثر من نصفهم (حوالي 15 مليوناً) وقد وصلت نسبة المغتربين في بعض الدول الخليجية إلى80% وتتراوح نسبة العمالة بين 70% و90%، ومعظم العمالة من دول جنوب شرق وجنوب آسيا، ولم يستفد المخططون للقطاعات التعليمية والفنية من الإمكانات المتاحة لتنظيم التعليم كماً ونوعاً، لكي يجعلوا المواطن الخليجي مشاركاً في جميع القطاعات التنموية المحلية.
وما دام التعليم متوفراً للأنثى مساواة بالذكر؛ فلا بد من خلق قطاعات منتجة لاستيعاب العاملات وعدم محاصرتهن في قطاعات وظيفية محددة، والمحافظة على معدل المواليد المرتفع، والتعامل مع مرحلة ما بعد الأسرة الممتدة.
ويبلغ معدل التلوث في مياه الخليج أكثر خمسين مرة من المعدل الطبيعي في البحار، ولو استطاعت دول الخليج تنظيم حرفة الصيد فستكون أحد المراكز الرئيسة في العالم لتصدير الأسماك.
وظل تصدير النفط الخام يمثل 80% من الإيرادات، ولم يحافظ على هذا المورد الاستراتيجي من الهدر والهيمنة، فلا يحصل أصحاب النفط على أكثر من 15% من قيمته الحقيقية.
وتحظى الصناعات الكيماوية والبتروكيماوية بحوالي 60% من الاستثمارات (38 مليار دولار) ولكنها في المرتبة الثالثة من حيث عدد المصانع، وفي الثانية من حيث عدد العمالة، لأنها تستخدم تقنية عالية، وهذا يرسخ التبعية الصناعية والتقنية.
وبلغت الواردات الخليجية عام 2000 حوالي 95 مليار دولار تحتل السوق الأوروبية المرتبة الأولى منها(31%)، ثم أمريكا (17%)، ثم اليابان ودول جنوب شرق آسيا (11% لكل منهما)، وتأتي دول الخليج في المرتبة قبل الأخيرة في التبادل التجاري فيما بينها، والدول العربية في المرتبة الأخيرة، وبلغت الصادرات الخليجية حوالي 96 مليار دولار موزعة على جنوب شرق آسيا (24%)، واليابان (21%)، والسوق الأوروبية (12%)، وأمريكا (9%)، والدول الخليجية (6.3%)، والدول العربية (2%).
http://www.islamtoday.net المصدر:
=============(8/427)
(8/428)
الفكر الإسلامي في زمن العولمة ( 1 )
محمد سليمان أبو رمان
يعد سؤال الهوية من الأسئلة المحورية في الفكر العربي المعاصر، وقد شغل هذا السؤال كثيرًا من مداولات وسجالات المفكرين العرب، وأدخلهم إلى ميادين الصراع الفكري، وقسّمهم إلى فئات متنازعة حول الأصول الفكرية والمعرفية التي ينبغي أن تحكم مسيرة النهضة والتنمية، والخروج من كهف التخلف ومن ظلمات التيه.
وأخذ الصراع الفكري أشكالاً متعددة، ومر بمراحل مختلفة في العالم العربي في فترة العصور الحديثة، لكنه وصل اليوم مع العولمة إلى مرحلة متقدمة جدًا تمتاز بوجود أمريكي مهيمن على العالم، وحداثة غربية تنتقل وتسود بشكل كبير - مع تطور ثورة الانفوميديا -.
و يجد الفكر الإسلامي اليوم نفسه أمام تحديات كبيرة في عدة مستويات: مستوى نقد الحداثة الغربية، ومستوى مواجهة ظواهر التشدد والانغلاق والجمود الفكري في الداخل، ومستوى صوغ استراتيجية فكرية تدفع بالإنسان والمؤسسات في العالم العربي إلى المضي بفعالية و قوة في مشروع النهضة والتنمية وتجاوز مرحلة الانكشاف الحضاري السافر الذي وصلنا إليه أمام الآخر، والخروج من الفجوة الكبيرة بين حالتنا الحضارية ورصيدنا الحضاري الكبير..
المدرسة الإصلاحية:
بدأت أولى الجدالات حول مسألة الأصالة والمعاصرة، ودور الفكر الإسلامي في مواجهة التحديات الكبرى مع الحملة الفرنسية على مصر، وعودة الطلاب العرب الدارسين في الغرب، وجاءت أبرز المساهمات الرائدة في هذا المجال مع رحلة رفاعة الطهطاوي والذي سجّل ملاحظاته ورؤيته و استنتاجاته حول الحضارة الغربية في كتابه"تخليص الإبريز في تلخيص باريز".
ثمّ كانت أبرز المحاولات الفكرية في مواجهة التحدي الحضاري الغربي - و ما وصل إليه من فلسفة وعلوم ومعرفة وما صاحب ذلك من تقدم وتطور تكنولوجي - من قبل ما عرف بالمدرسة الإصلاحية (جمال الدين الأفغاني، عبد الرحمن الكواكبي، محمد عبده، رشيد رضا، علال الفاسي، ابن عاشور، ابن باديس)، وقد تمركزت مجهودات هذه المدرسة في:
- الإطلاع على المعرفة والثقافة الغربية، وهضم أصولها، ودراستها دراسة نقدية.
- رصد الجوانب الإيجابية في المعرفة والثقافة الغربية، والعمل على الإفادة منها في المشروع النهضوي الإسلامي.
- رصد جوانب الخلل في المفاهيم الحاكمة في هذه الحضارة، وتنبيه المسلمين إليها، وإلى خطورة الوقوع فيها، خاصة الفلسفة المادية في النظر إلى الوجود والحياة.
- إعادة تفسير الإسلام ومصادره المعرفية وفق أسس جديدة تتناسق مع الأصول الفكرية والمقاصد الشرعية للإسلام، وتكون قادرة على الدخول إلى العصر بروح إسلامية متقدمة ومتجددة.
- تجديد الفعالية الحضارية و النهضوية الإسلامية، والعمل على استنهاض الشعوب للمساهمة والمشاركة في عملية التنمية والتحديث في العالم الإسلامي.
وكان للمفكر الجزائري مالك بن نبي مقاربة متميزة في فهم شروط النهضة و أسس التنمية المطلوبة، وكذلك في فقه الصراع الفكري في العالم العربي، خاصة في كتابه"الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، ولعل أبرز ما قدّمه ابن نبي -بالإضافة إلى نظريته في شروط النهضة - هو مفهوم"القابلية للاستعمار"؛ والذي يقوم على فرضية أن الاستعمار هو محصلة ونتيجة منطقية للحالة الثقافية والفكرية وليس سببًا لها، والمشكلة هي في جمودنا وكسلنا وغياب الفعالية الحضارية، وليس الاستعمار والغرب.
الفكر الإحيائي:
وتلا المدرسة الإصلاحية والمحاولات المبكرة في هضم الثقافة الغربية، وتجديد الخطاب الإسلامي، مرحلة جديدة ظهر فيها الانقسام الفكري على أشده، وجاء أغلب النتاج الفكري والمعرفي لهذا الصراع الفكري قبيل الاستعمار، وفي المرحلة المبكرة من الاستقلال السياسي وظهور الأنظمة العلمانية في العالم العربي، وبدأ مع هذه المرحلة حالة الاستنزاف الشديد للفكر العربي في هذا الصراع والجدال الحاد حول هوية الدولة والمجتمع، وأثّر ذلك على مناهج الثقافة والتعليم والفن والأدب.
واجه الفكر الإسلامي هذا التحدي والصراع الجديد من خلال مجهودات ركزت على نقد الأسس الفكرية والمعرفية للحداثة الغربية وتصوراتها العامة في كافة مجالات الحياة، وبرزت في هذا السياق مساهمات أبي الأعلى المودودي في أغلب كتبه، وأيضًا الشهيد سيد قطب، وأخيه الأستاذ محمد قطب خاصة كتبه:"مذاهب فكرية معاصرة"،"الإنسان بين المادية والإسلام"،"جاهلية القرن العشرين"، وكُتب يوسف القرضاوي ومنها " الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا"، وكُتب الشيخ محمد الغزالي.
وقد أكّد الفكر الإسلامي في هذا النتاج المعرفي والفكري على عدة قضايا:
- التمييز في الحضارة والفلسفة الغربية بين البعد الفلسفي والبعد التقني والعلمي المحض، والدعوة إلى تجاوز الفلسفة الإلحادية والإفادة من التطورات العلمية التطبيقية.(8/429)
- نقد الأسس المادية للحداثة الغربية، ولمناهجها العلمية والإنسانية، ومفاهيمها الحاكمة، ورصد آثارها المدمرة على الأمن الاجتماعي المبني على سيادة القيم والحفاظ على رأس المال الاجتماعي، الذي يستند على الدين الناظم لكل القيم الروحية والأخلاقية التي تحمي الإنسان من الفساد والانحطاط.
- عرض الفلسفة الإسلامية المقابلة للفلسفة الغربية، وبيان حالة التفوق الكبير للإسلام في تجاوز الخبرة الغربية أثناء التجربة المسيحية، وحالة الصدام بين العلم والدين والاستبداد الديني لرجال الكنيسة، وفساد التصورات المعرفية الكونية والاجتماعية للكنيسة.
وأغلب ما يميز المدرسة الإصلاحية / النهضوية السابقة عن المدرسة الإحيائية في مواجهة النظم العلمانية؛ أنّ المدرسة الإصلاحية لم تشهد صعود التيار العلماني بشكله الفض والرافض للقبول بالمنطلقات الإسلامية في السياسة والمجتمع و المعرفة والثقافة، وكذلك لم يشهد الفكر الإصلاحي الصراعات السياسية الحادة على هوية الدولة بين الحركات الإسلامية والنظم السياسية القائمة، الأمر الذي تطوّر إلى معارك دموية وحالة أمنية متعسرة واضطراب سياسي شديد، مما جعل الفكر الإحيائي أكثر تشددًا في مسألة الانفتاح، و أقل حرصًا على التجديد والتفاعل مع الحضارة الغربية، ودفع بالبعد الأيدلوجي ـ السياسي إلى الأمام، على حساب البعد المعرفي في محاولة الإجابة عن سؤال النهضة في الفكر و معضلة التخلف في الواقع العربي الحديث والمعاصر.
العولمة و الانكشاف الحضاري
مع انتهاء الحرب الباردة و أفول نجم الاتحاد السوفيتي و تضعضع مكانة ومصداقية المذهب الشيوعي؛ تأثر الفكر العربي بشكل كبير، وضعف بالتبعية الفكر الاشتراكي العربي، وأخذ عدد كبير من فلول المفكرين اليساريين يبحثون عن أيدلوجيا جديدة يتدثرون غطاءها بعد انكشاف عورتهم الفكرية و الفلسفية التي كانوا يجادلون عنها سنين طويلة، و لبس عدد كبير منهم ثوب الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان عندما وجدوه بضاعة رائجة في سوق المعونات والرشوة الأمريكية للمثقف العربي والمسلم، كما يرصد ذلك بموضوعية عزمي بشارة في كتابه"المجتمع المدني".
كما صدرت قراءات مستقبلية حول المرحلة القادمة من الصراع الفكري العالمي، كان أبرزها كتاب فوكوياما "نهاية التاريخ" والذي يزعم فيه أن التاريخ البشري قد وصل إلى نهاية كدحه الطويل؛ بحثًا عن الفلسفة الفكرية التي تحقق سعادة الإنسان و تكون القول الفصل في الجدال الإنساني الطويل في الفكر والفلسفة، وطبقًا لفوكوياما فإن الليبرالية والديمقراطية الغربية هي ذروة الفكر الإنساني ومحور خَلاصه وسعادته.
أما القراءة الثانية؛ فقد كانت للمفكر السياسي المعروف صموئيل هانتنجتون في كتابه "صدام الحضارات"، والذي يرى فيه أن المرحلة القادمة من الصراع العالمي ستكون مرحلة صراع ثقافي، وبالتحديد بين الثقافتين الإسلامية والغربية، وجوهر كل منهما المتركز حول الدين.
لقيت القراءتان السابقتان اهتمامًا كبيرًا في العالم، وكان لهما صدى واسع في العالم العربي، و أثارتا جدالاً كبيرًا، بيد أن المهم في الموضوع أن الفكر الإسلامي وجد نفسه أمام تحد واضح وكبير مرة أخرى، وهو مواجهة الحداثة الغربية، وقد جاءت هذه المرحلة بقوة وغزارة شديدة ترتدي ثوبًا جديدًا يطلق عليه "العولمة".
مفهوم"العولمة"- إذًا - ليس مفهومًا محايدًا؛ بل هو مفهوم محمّل ومثقل بالمضامين المعرفية والحضارية للحداثة الغربية، وخطورة العولمة أنها وسيلة قوية جدًا ومتطورة لنقل الحداثة والمشروع الغربي إلى أنحاء العالم، كما أنها تحمل قِناعًا تجميليًا فائقًا يقدمها في إطار من الإغراء الشديد للدخول والولوج إليها، وتصل محاولة تجنب التفاعل مع العولمة إلى درجة الاستحالة الحقيقية، إلاّ إذا اختارت أمة أو مجموعة أن تدخل كهفًا من الكهوف، وتعزل نفسها عن العالم وصولاً إلى الخلاص الروحي!.
ومما يزيد من صعوبة وخطورة تحدي العولمة أمام الفكر الإسلامي المواجهة العسكرية والسياسية بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة، والتي تفجّرت بشكل كبير مع أحداث 11 أيلول وما تلاها من تحديات، وظهور التيار الجهادي، مما يجعل من مهام الفكر الإسلامي - بالإضافة إلى التحاور مع العولمة- مواجهة حالة الإحباط والتشدد الذي تنتاب كثيرًا من أبناء الأمة الإسلامية في غضبهم الشديد، وحنقهم على الحالة السياسية الحرجة التي آلت إليها الأمور من تسلط وهيمنة خارجية أمريكية وتدفعهم إلى الغلو في رفض الآخر، والميل إلى الانغلاق الفكري حرصًا على التأكيد على الهوية والذات أمام روح التبعية والهزيمة التي تنتاب فئات كبيرة من المفكرين والساسة.(8/430)
ومن دواعي استنفار الفكر الإسلامي - في هذه المرحلة - انكشاف الحالة الحضارية للعرب والمسلمين عن درجة عالية من الفشل في المشاريع التنموية، وعن فساد كبير في الممارسة السياسية العربية، وحالة متقدمة من خطورة الأوضاع الاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي، وما يرتبط بذلك من فقر شديد و بطالة ونسب مرتفعة من الحرمان، و الأمية وغياب الإنتاج العلمي، وضعف تدفق المعلومات، وإهدار كبير للثروات، ناهيك عن الأوضاع السياسية البائسة المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة.
ويمكن الإشارة إلى جزء من هذه الحقائق المخيفة التي تكشف الحالة الحضارية في تقرير التنمية الإنسانية - بعيدًا عن تحفظات كبيرة حوله -، وفكرة مبادرة الشراكة الأمريكية ـ الأوسطية، وكل هذا وذاك من الأرقام والوقائع والإحصائيات يؤكد الفجوة الكبيرة بين الرصيد الحضاري الكبير و بين الحالة الحضارية الحالية.
إن الملاحظات السابقة تضع أمام الفكر الإسلامي العديد من المسؤوليات والمهام في هذه المرحلة، أبرزها:
- مجهود التعامل مع العولمة وما تستبطنه من قيم و معرفة، وبناء الخطاب الحضاري الإسلامي بما يستبطنه أيضًا من أسس ومفاهيم وقيم تميزه عن الخطاب الغربي، والتي تستند على الاعتراف بالوحي كأحد أبرز وأهم مصادر التنظير الإسلامي.
- مواجهة التفلت الفكري في الداخل سواء اتجاهات الغلو العلماني والانجراف الفكري أم جماعات الغلو الفكري والتشدد الديني، وبناء الرؤية الحضارية الإسلامية في الفقه العام للتدين، ودور الدين في الممارسة السياسية، و العلاقة بين الشعب والسلطة..إلخ.
- بناء الرؤية الاجتهادية الإسلامية في التعامل الواقعي مع المشاكل والقضايا الداخلية التي تعاني منها الشعوب العربية، ومنها: الفقر والبطالة والفساد السياسي والتخلف العلمي والأمية وفشل المشاريع التنموية وإهدار الثروات والمعضلات الاقتصادية..إلخ.
http://www.islamtoday.net المصدر:
=============(8/431)
(8/432)
الفكر الإسلامي في زمن العولمة ( 2 )
محمد سليمان أبو رمان
يأتي في إطار مهام الفكر الإسلامي اليوم تحدٍ رئيس، وهو مواجهة العولمة التي تستند إلى الحداثة الغربية وتقوم عليها، وتوظف ما وصلت إليه التقنيات البشرية خاصة ثورة الانفوميديا في هذا المجال بشكل فاعل وكبير.
ومواجهة الحداثة أو فرضية تفوق الحضارة والعلوم والقيم الغربية تتطلب قراءة معرفية عميقة للحداثة الغربية ورصد مساحات الخلل وكشف الفجوات الكبيرة في بنيتها المفاهيمية الحاكمة، وتقديم الأسس الفلسفية والفكرية للخطاب الحضاري الإسلامي في مواجهة ذلك، وبيان أدوات ومناهج التعامل مع العولمة ومعطياتها وفيضانها الكبير على العالم الذي وصل إلى درجة كما يصفها هوفمان "إن أزمة القيم الغربية تحظى حاليا بالقلق داخل بقية العالم؛ لأنّ الثقافة في وقتنا الحالي ليست ثقافة مكان بعينه، بل هي ثقافة وقت بعين".
في هذا السياق من مهام الفكر الإسلامي يأتي كتاب مراد هوفمان المفكر الألماني المسلم، الذي كتب قبل هذا الكتاب عدة كتب تبين أسباب دخوله الإسلام وتحاول تقديم الأصول الفكرية للرؤية الإسلامية التي تتجاوز التناقضات والفراغات المعرفية الكبيرة في الفلسفة والثقافة الغربية الحديثة.
وليس كتاب هوفمان ببدع من الكتب التي تقدم نقدًا للفكر الغربي المستند على معطيات الحداثة، أو تتحدث عن الآفات المترتبة على النزعة المادية والمرتبطة أيضًا بالفلسفة الفردية الليبرالية الحديثة، فهناك على سبيل المثال كتاب الفوضى لأحد أبرز المنظرين الأمريكان بريجنسكي، لكن الجديد في كتاب هوفمان أنه ينقد الخبرة المعرفية والفلسفية الغربية الحديثة في شتى العلوم والمجالات الحيوية من خلال فكره الإسلامي الذي يصدر عن فهم يصل إلى قاع النظرية المعرفية الإسلامية التي تقوم على الاعتراف بمصادر المعرفة وحدود كل منها: الوحي و العقل والحس، أو الموائمة بين العقل المؤيد والعقل المسدد - على حد تعبير الإمام محمد عبده - رحمه الله -ـ.
يحمل كتاب هوفمان عنوان"خواء الذات: العقول المستعمرة"(دار الشروق الدولية، القاهرة، 2002)، ويأخذ جزءًا من العنوان من عبارة للدكتورة نادية مصطفى - أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة - إذ تقول:"عملية الاختراق المسماة بالعولمة، لا تتعلق باختراق حدود جغرافية، ولكن بالسيطرة على العقول"، فاستعمار العقول الذي تشير إليه مصطفى من أكبر التهديدات والحروب التي تشن على المسلمين اليوم وهي حروب من نوع جديد - كما يصفها محمد حسنين هيكل في كتابه"حرب من نوع جديد"-، وبما أنها تستهدف العقل والوعي و تدفع إلى الهزيمة الفكرية والنفسية؛ فهي إذًا أخطر من الحروب العسكرية والهيمنة السياسية. وهذه الملاحظة يشير لها الخبير الأمريكي جوزيف ناي في كتابه مفارقة القوة عندما يتحدّث عن القوة الناعمة والمرتبطة بالنموذج الثقافي الاستهلاكي الأمريكي الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تعميمه على العالم.
ما يريد هوفمان إذًا قوله في هذا الكتاب هو: أن الحداثة الغربية - التي تستند عليها العولمة كمضمون فكري وثقافي ومعرفي يجري تسويقه وكأنه العلم بعينه، و أنه آخر ما وصل له العقل البشري من إبداع، وأنه الإنتاج المعرفي والثقافي الذي يحقق الخير والسعادة للإنسانية -، أنها - أي الحداثة - مليئة بالثغرات والتناقضات، وقد وصلت إلى أزمة حقيقية اليوم أنتجت ما يسمى بمدرسة"ما بعد الحداثة".
وبالتالي على العقل المسلم أن يتحرر من التبعية الخطيرة للفكر الغربي، وأن يشق طريقه في المعرفة والعلم والتفكير انطلاقًا من الرؤية الإسلامية الناصعة التي تنظر إلى الكون والوجود والحياة بشكل شمولي متكامل ولا تختزل أي جزء لحساب الآخر، كما هو الحال في الفكر الغربي والذي يختزل الحياة في بعدها الفيزيقي المادي المحسوس، الأمر الذي يصيب الإنسان باضطراب شديد في مسيرته الحديثة، كما يوضح ذلك كتاب هوفمان وكما يشرح الأمر بشكل مفصل للغاية محمد مزريان في كتابه القيم"البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية".
وإذا كان كتاب هوفمان يتآلف بشكل رئيس من ثلاثة أجزاء، فإن الجزء المهم و المساهمة الفكرية الرئيسة في الكتاب هو ما يرتبط بنقد الحداثة الغربية، ويدل على هذه الملاحظة أيضًا تقسيم صفحات الكتاب؛ إذ يشمل الجزء المتعلق بنقد الحداثة تقريبا 60 صفحة من صفحات الكتاب البالغة 111 صفحة، بينما يقع الجزء الأول المرتبط بالشيوعية في 15 صفحة تقريبًا، أما الجزء الثالث حول الرؤية الإسلامية فيقع في 25 صفحة.
زيف الحداثة:
يتتبع هوفمان المادية العلمية التي صبغت البحث العلمي في شتى حقول المعرفة الإنسانية في مدرسة الحداثة؛ ليصل إلى نتيجة أن العلم لم يصل إلى إرواء غليل الإنسان في القضايا الكبرى التي تشكل دومًا مصدر اهتمامه و محور تفكيره: الوجود و العدم، الله والكون، غائية الحياة..، بل صار العلم اليوم أكثر استعدادًا لتقبل فكرة صياغة أسئلة لا يستطيع الإنسان الإجابة عنها؛ لأنها تقع خارج قدرة المعارف الإنسانية.(8/433)
وساهمت أزمة الحداثة الغربية في ظهور مدرسة ما بعد الحداثة التي تعبر عن ذروة التخبط في العلم الحديث، و تعيد نبش المطلقات الفلسفية والمعرفية التي انطلقت منها الخبرة العلمية المعاصرة، التي بنيت على فرضية التناقض مع الدين، وفرضية أن العقل البشري قادر على الوصول إلى المعرفة المطلقة بمفرده دون أية وصاية خارجية.
بدا واضحا اليوم أنّ هناك تطورًا دائمًا في العلوم، وأن النظريات العلمية تنقد بعضها، وأن ما يثبته العلم اليوم ينفيه غدًا، كما أن هناك فرضيات أساسية شكلت نموذجًا سائدًا في حقول علمية شتى ثبت اليوم عدم صحتها، الأمر الذي يصل ببول فييرانبد إلى القول - في كتابه ترجمتي -:"لقد وصلت إلى الاقتناع أن الأمر كله ليس إلاّ فوضى مجنونة"، وأصبح علماء الأنسنة أقرب إلى الشعراء منهم إلى العلماء إذ يقولون:"لماذا نتباحث اليوم فيما سوف يتغير غدًا على أي الأحوال؟!".
هذا القلق و الاضطراب في عدم القدرة على الوصول إلى الحقيقة من خلال مناهج البحث الحداثية أنتج محاولات عديدة للخروج من هذا النفق، وبات عدد كبير من العلماء يشعر بالحاجة إلى الحكمة الشرقية و فلسفة الروح لإنقاذ العلم من متاهته المعاصرة، الأمر الذي حدث فعلاً مع فريتوف كابرا - أحد أفراد مدرسة ما بعد الحداثة - الذي قام في كتابه بالدمج بين الفيزياء والتصوف الشرقي، وكما في التصوف يتوقع كابرا أن ترفع فيزياء العصر الحديث - ما بعد الحداثة - كل المتناقضات، وتصل إلى نقطة يندمج فيها الملاحِظ والملاحَظ في وحدة واحدة: وحدة صوفية تتجاوز الفيزياء الحديثة.
الله أو الدمار:
يمكن استعارة عنوان كتاب المفكر الإسلامي سعد جمعة"الله أو الدمار"في قراءة نقاش هوفمان لأخطار وآفات الحداثة على الخبرة الغربية الحديثة والمعاصرة في شتى مجالات الحياة..
1- العلم والأخلاق: حاول العديد من المفكرين والعلماء وضع أساس جديد للأخلاق بدلاً؛ إلاّ أنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعًا، وأدى العلم إلى مشكلة أخلاقية حقيقية في الغرب؛ إذ لم يتظاهر العلم فقط بوجود برنامج دون مبرمج، لكنه تصرف و كأن العلم وحده هو المعول عليه. وأصبح الغرب وفقا لفاسلاف هافيل أول حضارة ملحدة في التاريخ أي تنكر دور الدين ابتداءً.
2- العلم والحضارة: الميراث من العلم، والعلم الزائف في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بدأ يثمر مجتمعًا لا إداريًا، نفعيًا، استهلاكيًا، موغلاً في الفردية، وليبراليًا، بما يعني حضارة تنشد المتعة حتى النخاع.
3- اللذة كأسلوب للحياة: كان جينو - المفكر الفرنسي المسلم - ذا إدراك عظيم عندما حدد أن المفهوم الجوهري للحركة الإنسانية الذي صيغ خلال فترة النهضة الأوروبية، يلخص مقدمًا البرنامج الذي ستأتي به الحضارة المعاصرة، كل شيء سوف يختزل إلى المستوى البشري، وإلى المقاييس البشرية، لذلك كان من الممكن التنبؤ أن الحضارة المعاصرة سوف تصل في النهاية إلى الغوص مرحلة تلو الأخرى، إلى مستوى أدنى الرغبات البشرية.
4- دين ما بعد الحداثة: أقام الغرب بنيانه الاجتماعي المعاصر بعيدًا عن الدين، وعلى الرغم من حضور الدين في المناسبات العامة، فهو لا يعدو أن يكون فلكلورًا أو تقليدًا عاريًا عن القوة.
لكن المشكلة هي أن الدين الذي خرج من الباب الأمامي في المجتمعات الغربية عاد من الباب الخلفي من خلال الإقبال الشديد للشباب ولفئات من المجتمع على أديان جديدة وغريبة؛ كجماعات العهد الجديد التي تتعبد داخل الأهرامات، والانبعاثيون الذين يعيدون عبادة إخناتون للشمس، وبالتساوي في مكان الصدارة إلى الآن أديان عبادة القمر، العلموية والتنجيم، والملائكة، والشيطان.
هذه الموجة الجديدة من التدين تستمد قوتها من الحنين إلى التوحد العضوي، والبحث عن المعنى، الغائبين بشدة في الحياة المعاصرة.
5- ثورة القيم: اعتبر الغربيون أن الخروج على الدين و على قيم العصور الوسطى التقليدية ثورة في القيم، واستبدلوها بالقيم الرأسمالية العملية. لكن طبقًا لتحليل عالم الاجتماع دانييل بيل في كتابه"التناقضات الثقافية للرأسمالية"؛ فإن المشكلة في العالم الغربي تكمن في أن نجاحه الاقتصادي يدفع إلى تدمير القيم الجوهرية التي قام عليها.
وداخل المسار الجديد للعلم والقيم العملية النفعية أصبح الناس غير معتادين على حقائق الحياة كالحوادث والمصائب الشخصية والمرض والكهولة والموت، إلى حد أنهم أصبحوا غير قادرين على التواؤم مع هذه الحوادث من غير مساعدة مستشاري الأحزان.
6- السلام الخيالي: لم يقدم عونًا لإحلال مدرسة ما بعد الحداثة محل الحداثة مثلما فعلت لا عقلانية الحروب المتواصلة داخل ما يفترض أنه العالم المستنير، وقد تنبأ بذلك تولستوي في رواية الحرب والسلام أن الحياة مستحيلة في اللحظة التي يظن فيها الإنسان أنه يستطيع أن يقودها ويمارسها وفقا لتوجيهات العقل الخالص.(8/434)
ولم يعد المجتمع الغربي ينعم بالسلام حتى على المستوى الداخلي، فقد وصل مستوى العنف في المدارس الأمريكية الثانوية حدًا مرعبًا، وهذا لا يمثل سوى قمة جبل الجليد الغاطس؛ إذ يتغذى العنف كل يوم من كمية العنف غير المعقولة التي تشاهد يوميًا في التلفاز، وقد وصلت إلى ألعاب الكمبيوتر بشكل كبير.
7- حافز الربح: أعادت الفلسفة الرأسمالية السائدة في الغرب إنتاج جملة المفاهيم الحاكمة في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في الغرب، و تعدلت كثيرًا من المفاهيم لتلائم هذه الفلسفة، فالخير هو النافع والفعال في الحصول على أقصى درجات السعادة عن طريق إنتاج أقصى كمية من البضائع لأكبر عدد من الناس.
في الواقع، النفعية هي التي قادت إلى الغلو الذي أنجب الماركسية، وأدت كذلك إلى تفاوت كبير في دخول الأفراد والدول.
ويصل ريتشارد فولك إلى القول: لم يعد الغرب حيزًا جغرافيًا، بل ظاهرة كونية تدار العولمة بمؤسسات لا تحصى، بالغة الضخامة، ومتعددة الجنسيات، ووصل الأمر إلى الحد الذي تدار به السياسة برأس المال، الأمر الذي يهدد الديمقراطية الاجتماعية بصورتها المعروفة في ألمانيا والدول الاسكندنافية.
8- الإعلام والتسلية (المعلومات تسلية): الإنسان الغربي يعاني اليوم من الكم الهائل من المخترعات والأجهزة التي تحرمه من الهدوء والاسترخاء والتأمل أو التفكير بعمق، أو الصلاة بخشوع. في الواقع يجب على الدوام إثارة غرائز الإنسان المعاصر، حتى عطلاته ينبغي تحويلها إلى مغامرات يشرف عليها محترفون بالتسلية.
وعلى الرغم من وجود برامج تلفازيه ذات مستوى رفيع، وأيضًا مجلات إلاّ أن العملة الرديئة تطرد الجيدة من السوق، والمنتجات الإعلامية الهابطة تستحوذ على النصيب الأوفر من المشاهدين، وكل هذا يعمل بشكل كبير على إفقار روحي للمجتمع وتنمية النرجسية والبعد عن العلاقات الاجتماعية.
في نفس الوقت تجاوزت وسائل الإعلام المعاصر كل الحواجز الموضوعة لحماية الدول ذات الأيدلوجية المغلقة من تأثيرات الأنباء والثقافات الأخرى، وهنا ينبغي على الدول الإسلامية أيضًا تغيير استراتيجيتها لحماية تراثها الإسلامي من خلال تحصين الناس بالعلم النافع لمواجهة الأفكار الضارة، وليس من خلال عزلهم المادي عن التعرض لها.
9- التعليم كأيدلوجيا: تلعب العلمانية دورًا حاسمًا في المعالم العامة للتعليم الغربي، من خلال إبعاد الدين عن المناهج الدراسية وعن صياغة أخلاق الطلاب، ويدرّس الإلحاد بشكل سافر في المدارس من خلال نظريات الحداثة أسسها اللادينية.
10- الثورة الجنسية: ضمن كثير من الثورات التي مرت بالإنسان الغربي في العقدين الماضيين؛ فإن أكثرها ثراءً وأطولها بقاءً هي على الأرجح الثورة الجنسية، وبدا الجنس للوهلة الأولى كأنه البديل الأقوى للدين مكتملاً بأنبيائه الذين يبشرون بالحرية الجنسية.
الآن فإن العادة السرية، والجنس ما قبل الزواج، تبادل الزوجات، الجنس في الشرج، والجنس المثلي، ومشاهدة العري، والدعارة؛ أصبحت كلها مقبولة، وتتكرر كموضوعات رئيسة من خلال تبادل الحديث، كما تجتذب الإعلام، الجنس مع الأطفال هو الوحيد الذي مازال محرمًا. ووصل الأمر إلى السماح لمحترفات البغاء بتكوين نقابات ببعض الدول على أنهن"عاملات جنس"، وفي ألمانيا منذ عام 2001؛ فإن الأزواج الشواذ يحصلون على التسجيل المدني.
11- انحطاط الأسرة: الضحية المباشرة للثورة الجنسية، والتي هي الأكثر استحقاقًا للأسى هي الأسرة، انهيار الأسرة الناتج عن الثورة الجنسية هو عنوان الشؤم على قرب انهيار الحضارة الغربية.
ويعرض التلفاز كل ليلة كم هي عالية درجة الجمال في الرجال الآخرين والنساء الأخريات، ويحض الزوجات داخل بيوتهم على الدخول في منافسة مع جميلات التلفاز، وهي منافسة صعبة جدًا، ولا يمكنهم ببساطة الفوز بها، فعندما يصبح الجنس بضاعة تعرض في السوق، فسوف تتحلل الأسرة، وذلك ما يحدث بمعدلات مخيفة، وأرقام الطلاق تتصاعد في كل مكان، والأسوأ من ذلك المزيد والمزيد من الشباب يقررون عدم الزواج مطلقًا منذ البداية.
12- العدوان على الحياة والإدمان البنيوي: ومن آفات الحداثة إباحة الإجهاض وقتل الجنين غير المرغوب فيه، ومن أثارها الإدمان والكحول و المخدرات، والإدمان ليس مرتبطًا بالمخدرات والخمر، وإنما يصل إلى الإدمان على التكنولوجيا والاستهلاك وشراء الحديث، بما يذكرنا بكتاب هربرت ماركوز المتميز"الإنسان ذو البعد الواحد".
يقول هوفمان:"يطغى ضجيج الإدمان على صوت الضمير الذي قد يذكر الإنسان المعاصر بمصيره الحق، وهو معرفة الله، والدخول تحت عباءة الخضوع له. تعطي أنواع الإدمان معنى زائفًا للحياة، وتبدو على هيئة حلول، بينما هي في الحقيقة تمثل المشكلة الجوهرية.. إنها تحرم الإنسان من الصمت الوجودي والتركيز الذي يحتاج إليه من أجل إقامة الروابط السامية".
الفكر الإسلامي و العولمة:(8/435)
في حوار سابق مع زكي ميلاد حول أحداث أيلول وأثارها على الفكر الإسلامي، قال: إن على الفكر الإسلامي اليوم أن يعيد بناء رؤيته الشمولية للكون وللمفاهيم الكبرى، ويصوغ من جديد استراتيجية الخروج من النفق الحضاري الذي وصلنا إليه.
و يرى الفضل شلق في مقالة له - في مجلة الاجتهاد - أن الهوية الحضارية ليست دورانًا حول الذات، وإنما عملية دؤوبة نحو تحقيق الذات من خلال النمو والتنمية، وعندها ستصبح الهوية الحضارية منجزاً وليس عائقًا.
وبالتالي؛ فإن الفكر الإسلامي في عصر العولمة مسؤول مسؤولية مباشرة عن طرح الرؤية الاجتهادية الإسلامية في التنمية والنهضة والتقدم، وإدارة الصراع الفكري ليكون جدلاً محركًا ومفعلاً لطاقات الأمة وليس كابحًا لها.
والسؤال الذي يجب على الفكر الإسلامي أن يجيب عنه: كيف نسير في مساق التنمية، وننهض انطلاقًا من روح الإسلام ومقاصده العامة؟، كيف نفقه المشروع الحضاري الإسلامي؛ ليكون طرحًا تنويريًا منفتحًا متقدمًا يمتلك أدوات الموائمة والتوفيق بين مصادر التنظير الإسلامي الوحي و العقل والحس؟
http://www.islamtoday.netالمصدر:
=============(8/436)
(8/437)
الانترنت تسبب أزمات نفسية للشباب
يعرف علماء النفس أعراضا تصيب بعض الرجال والنساء في عقد الأربعينات، ويطلقون عليها أزمة منتصف العمر. وتنشأ هذه الأزمة عادة من إحساس الفرد بأنه قطع شوطا غير قليل من عمره ولم ينجز بعد شيئا مما كان يتمناه لنفسه. أو إحساسه بأنه يودع مرحلة الشباب ويدخل طور الشيخوخة، وبالتالي فعليه أن يسرع بالاستمتاع بحياته قبل أن يسرقه الزمان ويضيع العمر.
ومن تصبه أزمة منتصف العمر يبدأ في التساؤل عن جدوى وظيفته، وما الذي حققه منها؟! ثم يقارن باستمرار بين ما حققه زملاؤه وأصدقائه من نجاح مادي أو مهني وبين ما لديه.
وتكون نتيجة المقارنة دائما محبطة بالنسبة له، الأمر الذي يدخله في دائرة من الضيق والملل.
هذا في الجانب المهني والمادي، أما من الجانب العاطفي فكثيرا ما يشعر من يمر بهذه الأزمة بأنه لم يجد الحب الحقيقي الذي يملأ عليه مشاعره، وأنه يضحي بسعادته على مذبح التزامه تجاه أسرته، ومن ثم يقرر أحيانا الدخول في تجربة عاطفية جديدة بغض النظر عن العواقب.
وأزمة منتصف العمر تحظى باهتمام خاص في المجتمعات الغربية بسبب قسوة العمل وشدة المنافسة مما يجعل الفرد في بداية حياته يسخّر كل ما لديه من قدرات لتحقيق النجاح.
فأن تحقق بعد سنوات من العمل الشاق بدأ يفكر فيما ضاع من عمره وكيف يمسك بتلابيب الباقي.
والجديد الذي اكتشفه باحثان شابان في علم النفس أن أزمة منتصف العمر زحفت إلى الشباب في المجتمعات الغربية.
وحسبما يقول الباحثان الكسندرا روبينز وآبي ويلنر: "كان الناس يفكرون في أنهم لابد أن ينجزوا شيئا ما عندما يصلون لسن الخامسة والأربعين. أما الآن فإنهم يفكرون بنفس الطريقة في سن الخامسة والعشرين."
أما أسباب هذا التطور الجديد فيشرحها الباحثان في الدراسة التي نشرت تحت عنوان: "أزمة ربع العمر: تحديات فريدة تواجهها في العشرينات من عمرك." ويقع على رأس أسباب أزمة ربع العمر ثورة الإنترنت.
وأدت الثورة في تكنولوجيا المعلومات إلى إتاحة الفرصة لشباب كثيرين في العشرينات لتحقيق دخول عالية والحصول على وظائف ممتازة بشكل لم يكن متاحا للأجيال السابقة. وبالتالي تزايدت التوقعات بتحقيق نجاح كبير قبل أن تنقضي فترة العشرينات من العمر.
وإذا نظر شاب إلى زميله الذي يعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات ويتقاضى راتبا ضخما بينما هو يؤدي عملا تقليديا بأجر تقليدي، فمن الطبيعي أن يشعر بأنه لم ينجح، وأن زملاءه تفوقوا عليه.
وإذا سيطر هذا الشعور على ذهن الفرد فإنه يدفعه لأزمة شبيهة بأزمة منتصف العمر رغم أنه في العشرينات لا الأربعينات.
سبب آخر يقدمه عالم النفس البريطاني ديك بايلز لأزمة ربع العمر وهو الثقافة السائدة بين كثير من الشباب، وتتلخص في " اعمل بأقصى ما تستطيع، واستمتع بأقصى ما تستطيع." والنتيجة هي حياة مهنية ناجحة وحياة شخصية فاشلة.
وبعد بضع سنوات من الحياة بهذه الطريقة يشعر الشاب بالفراغ العاطفي وبأن عمله يهدر عمره بلا سعادة حقيقية, ويدخل في أزمة ربع العمر.
والنصيحة التي يقدمها لك علماء النفس لتجنب أزمة ربع العمر هي ألا تحاول أن تحمل نفسك ضغوطا فوق طاقتك، وألا يدفعك الطموح الشديد إلى اعتصار نفسك اعتصارا؛ لأنك بهذا تحرق قدراتك وطاقاتك بسرعة.
فعليك أن تتذكر أن الحياة ليست نجاحا ماديا فقط، بل إن هناك جوانب أخرى كثيرة يمكن أن تحقق لك السعادة والاستقرار النفسي، مثل مشاركة الحياة مع من تحب، ومثل التمتع بجو أسري جميل.
ويبدو أن عالم اليوم ـ القائم على ثورة المعلومات والاتصالات وحرية المنافسةـ أضاف الكثير لتقدم الإنسان. لكنه أضاف قدرا لا يستهان به لتعاسته، وأصبح شباب اليوم يعانون من أزمات الشيوخ.
http://www.islamweb.netبتصرف من:
==============(8/438)
(8/439)
لماذا يأكلون الطعام الرديء المغشوش؟
أ.د. عبد الحليم عويس
توجد في الساحة الأوروبية تيارات ثلاثة تؤرخ للعلم وتطوره، فأما أولاها: فهي التي تتكلم عن العلم بكثير من الحياد، فلا تربطه بأفكار مسبقة ولا تزعم أنه يكفي الإنسان وحده، بل تعترف ـ ضمنا وليس صراحة ـ بأن الإنسان يحتاج مع العلم إلى الدين والأخلاق.
وهناك مدرسة ثانية قوية ـ وإن لم تكن كبيرة الحجم ـ تؤمن بأن "العلم يدعو إلى الإيمان" وبأن "الإيمان يتجلى في عصر العلم" وبأن "الإنسان ذلك المجهول" لا يعلم مفاتيحه إلا الذي خلقه، ولن تتحقق سعادته إلا بخضوعه للمنهج الرباني الذي أنزله الله الذي يعلم من خلق وهو ـ وحده ـ اللطيف الخبير!!
وهناك منهج ثالث متهافت، لكنه مدعم من أبواق الإعلام الصهيونية والإلحادية في العالم، ويحاول أصحاب هذا الاتجاه الوقيعة بين العلم والدين، ويزعمون أن الإنسان يستطيع أن يقوم وحده، وأنه ليس في حاجة إلى قوة أخرى تساعده، وهؤلاء يحاولون أن يخفوا وجوههم الحقيقية في بعض ما يكتبون، فيستعملون مصطلحات غائمة، لا يدرك ما وراءها إلا الذي يعرف أهدافهم وأساليبهم!! ومن المصطلحات التي يتسترون خلفها رفضهم مبدأ (العلِية) الكونية تحت راية أن نظرية المعرفة (الأبستمولوجيا) ترفض اطراد الطبيعة [وكأنه لا قوانين] وبالتالي ترفض العلِية أو الثباب في القوانين، وتؤمن بمبدأ (الصدفة).. إلى غير ذلك من المقولات التي ينقصها العلم الحق والمنهج الصحيح والنظر الموضوعي لحقائق الكون والحياة، بل إلى داخل البناء الإنساني في نفسه قال - تعالى -: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21)} [الذاريات]، وأيضا: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53]!!•
والحق أن (العلم الحق) غير الموظف لأغراض أيدلوجية، بعد إسقاطه للماركسية قد أسقط هذه (الفلسفة) العبثية التي تحاول أن تظلم العلم، وتقوده إلى الصدام مع الحقائق الكبرى، التي يقوم الكون عليها: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115)} [المؤمنون]، ولقد أصبحت الحضارة الأوربية نفسها تئن من هذا الاتجاه، ويرفضه علماؤها الكبار وفلاسفة تاريخها.. وقد ظهر هذا الاتجاه جليا في النصف الثاني من القرن العشرين كله، لدرجة أن الكاتب الهندي الكبير (تقي الدين الأمين) رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة عليكرة ـ رحمه الله ـ رصد ظاهرة انهيار الفلسفة المادية العبثية للعلم في كتاب كامل سماه: "عصر الإلحاد: خلفيته التاريخية ونهايته" كما أن الكاتب الهندي الكبير (وحيد الدين خان) (دحض هذا الاتجاه في كتابيه المعروفين: "الإسلام يتحدى" و"الدين في مواجهة العلم"... وفي عالمنا العربي دحض هذا الاتجاه أيضا مفكرون كثيرون على رأسهم العلامة نديم الجسر ـ مفتى طرابلس لبنان ـ رحمه الله ـ في كتابه: قصة الإيمان بين الفلسفة والدين والعلم..!!
فما بال بعض المراهقين الفكريين لا يزالون يجلسون على المائدة الماركسية عندنا، مع أن فساد أطعمتها قد وضح لكل ذي عقل وقلب؟!
إن نظريات إلحادية كثيرة تلفعت برداء العلم الغربي "كالتطورية الدرونية" و"الجنسية الفرويدية" والوضعية [الكونتية ـ نسبة إلى أوجست كونت]، و"المادية الماركسية" قد أسقطها العلم نفسه...
نعم أسقطها العلم الغربي والشرقي على السواء.. فما بال بعضنا يبقى متحلفا في التبعية، ولا يعجبه
إلا الطعام الرديء المغشوش•• والعلم بريء من ذلك كله.
http://aldaawah.com المصدر:
=============(8/440)
(8/441)
الفقر خيط من عنكبوت العولمة
أكرم خير الله
بدأت أمواج العولمة واقتصاد السوق تترامى على شواطئنا وبدأت تظهر آثارهما السلبية على مجمل عالمنا العربي في كثير من النواحي الثقافية والسياسية والاقتصادية وبتسارع مطّرد، يصعب كبح نتائجه السلبية، والتي نجمت عن تردي السياسات الاقتصادية المتبعة.
لم ينتبه المسؤولون إلى حجم الآثار التي بدأت تظهر جلية ولاسيما الفقر الذي أصاب شريحة واسعة في مجتمعاتنا العربية، وكثيراً من الدول الغربية وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، وما يهمنا هنا هو دراسة واقع الفقر في سورية، مسبباته، آثاره، ووسائل القضاء ما أمكن على نتائج هذه الظاهرة المؤلمة. لاشك أن هناك مجموعة مؤثرات دولية اقتصادية وسياسية ألقت بظلالها على سياساتنا الاقتصادية، والاقتصاد له مفرداته الرقمية ومعدلاته التي يمكن تطبيقها على كل دولة بشكل يتناسب مع مقاسها، والحلول الناجعة كالدواء الشافي إن وصفه طبيب أتقن مهنته.
لم تكن الوصفات التي طبقت خلال السنوات العشر الماضية ذات أثر إيجابي، حتى أشير لها بأنها وصفات امتصاص للسيولة من الأفراد بوسائل طوعية أو إلزامية كالضرائب دون إيجاد أقنية لإعادة ضخ هذه الأرصدة في مشاريع استثمارية تعمل على معالجة البطالة وتحرك الركود الاقتصادي الناتج عن انخفاض الرواتب وزيادة تكاليف الاستهلاك الشخصي والضرائب، بل على العكس فقد دأبت الوزارات والمؤسسات على وضع ضرائب إضافية على المواطن دون تمييز، فزادت قيمة الاستهلاك الكهربائي والماء، وأضافت ضرائب النظافة وبوتائر عالية، إضافة إلى زيادة أسعار النفط بأنواعه، ورغم إعطاء الموظفين ما يوازيها إلا أنها رفعت مجمل المنتجات الصناعية والتجارية ما بدد هذه الزيادة، كما أن زيادات الرواتب المتوالية لم تتناسب مع الزيادات التي أنهكت المواطن وكانت النتائج أعباء متوالية على صدور شريحة واسعة من العاملين في الدولة والفقراء أصحاب الدخل المقطوع الذين تراجعت أحوالهم من سيء إلى أسوأ.
ومن المؤلم أنه إذا تعرض أحد هؤلاء إلى حادث أو مرض أو حتى ولادة أو زواج فإنه لا يجد ملجأ له سوى التوسل للأقرباء والأصدقاء ليسدد فاتورة مشفى أو يساعد بالقليل في زواج أحد أولاده، فإن أفلح فقد بدأت دوامة الديون لتجعله غارقاً في البحث عن وسائل وفائها، وتلك كافية لتعطيل قدراته على الإنتاج والعطاء... والمفاجآت الإضافية التي تتعرض لها هذه الشريحة تعددت ومنها أخيراً اللباس المدرسي الذي كلّف كل طالب ألف ليرة سورية كحد أدنى، لقماش سيء لن يطول استخدامه، فماذا يفعل من لديه خمسة أولاد، وراتبه لا يكاد يكفيه لسد احتياجاته الأساسية.
إن الآثار الخطرة التي يورثها الفقر تندرج تحت ظواهر سلبية تبدأ باتباع بعضهم وسائل كسب غير مشروعة، وتنمو من خلالها وسائل السرقة والنصب والاحتيال، كما تدفع بعضهم إلى تشغيل أولادهم في أعمال أقرب إلى التسول في الطرقات ما يؤدي إلى انخراطهم عفوياً مع مجموعات تستغل براءتهم، فيسلكون مسالك رفاق السوء...!!
وسوء الأحوال المعيشية في المجتمعات من أخطر الآثار التي تؤدي إلى تفشي الجريمة والرذيلة والتفكك الأسري.
إن الحضارة فرضت علينا الكثير من الكماليات والتي أصبحت من ضرورات الحياة كالسيارات وأجهزة التلفزة وتوابعها وأجهزة الهاتف السلكي والهاتف النقّال وجميعها ما يترتب عليها فواتير متنوعة (وسائل امتصاص إضافية) وبعملية حسابية بسيطة خلال عشر السنوات الماضية ارتفعت متطلبات العيش إلى 12مثلاً، بينما زاد دخل الموظف خمسة أمثال ومازالت الترفيعات والمنح والراتب العائلي المضاف دون المستوى.
إن الاختناقات المالية التي تنوء تحتها شريحة واسعة من المجتمع مرتبطة بالسياسة الاقتصادية وعلى اقتصاديينا استنباط المعادلة التي توفر الحياة الكريمة في مسار الإصلاحات البنيوية، وفي إطار اقتصاد ومالية الدولة.. لإعادة العطالة الإبداعية العمالية والإنتاجية ما أمكننا لهذه الشريحة.
ورغم كل النظريات التي تربط زيادة الراتب بالتضخم، إلا أنها ضرورة ملحة؛ لأنها تصيب العاملين في الدولة بمختلف تسمياتهم ورفع مستوى المعيشة لهم مع الرقابة الصارمة التي تخفف كثيراً من الرشوة وهي الداء القاتل لكل مجتمع تستشري به.
ولتوفير العيش الكريم بالتوازي مع زيادة الرواتب، يجب رفع وتيرة الإنفاق على المشاريع الاستثمارية وتحريك الأموال المجمدة في المصارف بقروض لذوي الدخل المحدود وتخفيف الأعباء الضريبية ونسب الفوائد في البنوك، وتشجيع القطاع العام الرابح ومنح العاملين على استنهاضه حوافز تشجيعية ومعالجة المؤسسات الخاسرة أو جعلها قطاعاً مشتركاً، كل ذلك سيرفع القدرة الشرائية وسيوفر للمواطن حياة كريمة تبعده عن التسول وتشغيل أطفاله وتغنيه عن التوسل للجمعيات الخيرية، أو الانتظار الطويل أمام الحشد الذي يزداد كل يوم أمام صندوق العافية لإجراء عملية جراحية أو صرف وصفة طبية لا يقدر على دفع فاتورتها.(8/442)
إننا بحاجة إلى خبراء واختصاصيين ينكبّون على إعادة دراسة الوسائل القادرة على إحداث معادلة تتلاءم مع مقاسنا، إضافة لقراءة متأنية للمسح السكاني، ودراسة مستويات النمو فيه بالتناظر مع دخل الفرد وما يدفعه من ضرائب، فعدد سكان سورية ارتفع منذ عام 1947 من 5،3مليون إلى 5،18 مليون نسمة تقريباً أي بزيادة 15مليون نسمة، بحاجة إلى برامج وخطط لاستيعاب هذه الزيادة.
خلال ستة وخمسين عاماً الزيادة مرعبة إن لم تواكبها دراسات اقتصادية وجغرافية وزراعية وتعليمية وصحية لزيادة النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية في الدخل والضمان الصحي والتقاعدي وتخفيض نسب البطالة وتوفير الحد الأدنى لكرامة المواطن.
علينا أن نهيئ أنفسنا بكل الوسائل المتاحة للمستقبل ونستبق النمو السكاني بخطط ودراسات بعيدة المدى لكل الاحتياجات المطلوبة ونتعامل مع هذه الظاهرة بجدية ومتابعة حتى نحصّن شواطئنا من الفقر وأمواج العولمة واقتصاد السوق.
http://www.ta r bya.net المصدر:
===============(8/443)
(8/444)
العولمة في الإعلام
د مالك بن إبراهيم الأحمد
الحمد لله رب العالمين القائل: (فاصدع بما تُؤمر وأعرض عن المشركين) [الحجر:94] والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين القائل: [إن من البيان لسحرا] وبعد:
فإن أمر الإعلام في عصرنا الحاضر ودوره المؤثر والفعّال على الأمم والمجتمعات وعلى الدول والمؤسسات، والكبار والصغار، والنساء والرجال أمر لا يخفى على ذي بال لكن الطور الذي دخله الإعلام في سنيه الأخيرة ليس مجرد طور عادي، وليس مجرد وسيلة جديدة أو أسلوب متطور فحسب؛ بل الأمر هو التوجه العالمي للإعلام؛ بمعنى أن الإعلام لم يعد محصورًا في مكان أو حدود سياسية أو بقعة جغرافية.. بل أصبح يتخطى الحدود وربما يجاوز كل وسائل الرقابة.
كذلك فإن الأمر لا يقف عند هذا الحد.. بل تعداه إلى تكوين مجموعات أو شركات إعلامية أخطبوطية لها أذرع في كل مكان، ولها وجود في كل صنف من الإعلام.. تشارك في القرار السياسي وتؤثر في النشاط الاقتصادي.. توجّه المجتمعات وتقود الأمم في الفكر والثقافة، في الفن والرياضة، في الدين والأخلاق.
مفهوم العولمة:
العولمة مصطلح حادث مترجم عن الكلمة الإنجليزية Global ومعناها: عالمي أو دولي، وغالبًا ما تذكر مرتبطة بمصطلح القرية Village Global بمعنى القرية الكونية أو العالمية. ويدور مفهوم العولمة حول الوجود العالمي أو الانتشار الكوني، وغالبًا ما استخدم في السياسة والاقتصاد بمعنى النفوذ السياسي العالمي والمؤسسات الاقتصادية الدولية (الأخطبوطية) المتواجدة في أنحاء كثيرة من العالم ولها تأثير قوي ونافذ سواء في الشأن الاقتصادي أو السياسي المحلي (أي في البلدان المتواجدة فيها). ثم تطور في جانب جديد وهو العولمة الإعلامية، عن طريق إنشاء مؤسسات إعلامية دولية ضخمة لها قاعدة أساسية في بلد وتنطلق منه إلى كثير من البلدان، ولها أثر فاعل في الإعلام المحلي لتلك البلدان.
أهداف العولمة الإعلامية:
من المعلوم أن الربحية غرض رئيس للرأسمالية الغربية، وأي نشاط اقتصادي يكون وسيلة لزيادة الدخل والربحية فإنه مُحبّب ومرغوب.. هذا هو منطلق العولمة الإعلامية.. ربح وربح وربح.
لكن لا ننسى أن القائمين على هذه المؤسسات والعاملين فيها لهم خلفيات وعقائد ومبادئ ينقلونها إلى العالم من خلال أنشطة مؤسساتهم الإعلامية مثلما تنقل السفينة البضائع، فلا يُستغرب أن نرى مضامين هذه العولمة الإعلامية مترافقة تمامًا مع ما درج عليه أصحابها، فالعنف يستشري في دمائهم، والجنس قضية بيولوجية، أما العقيدة فهي مجموعة من الخزعبلات والخرافات والشعوذات تتوافق أحيانًا مع تربيتهم الدينية (النصرانية) وتصادمها أخرى.
من المستهدف؟
ليس هناك مجتمع محدد مستهدف بالعولمة ولا قطاع معين أو دولة محددة، لكن أينما وجدت التسهيلات الفنية والإمكانات المالية فتجدهم هناك، لذلك نجد توجهًا قويًا للمجموعات الإعلامية الدولية تجاه المراهقين والأطفال، نظرًا للوقت الطويل الذي يقضونه أمام شاشات التلفاز، الإنترنت، الكمبيوتر.
والمجتمعات العربية والإسلامية مستهدفة بهذه العولمة ضمن هذا الميدان، فحيثما شُرعت الأبواب لهم فإنهم داخلون، لا يعتّدون غالبًا بالبيئات وثقافتها وتقاليدها فضلًا عن دينها ومبادئها.
من يقود العولمة الإعلامية؟
المتابع لوسائل الإعلام بكافة أنواعها - والتلفاز والسينما والإنترنت على وجه الخصوص - لا يخفى عليه الحضور الأمريكي الطاغي؛ لدرجة أن أصواتًا عدة ارتفعت في أوروبا (فرنسا على وجه الخصوص) لمقاومة المد الإعلامي الأمريكي الغازي.وفي الوقت نفسه بدأ السعي الحثيث لدى بعض المؤسسات الإعلامية الأوروبية نحو العولمة، بدءًا بالإنتشار الواسع داخل أوروبا نفسها ثم الإنطلاق نحو الأسواق الخارجية خصوصًا ذات الثقافة واللغة المتشابهة.
تطور العولمة الإعلامية:
بدأ التحول الضخم في اتجاه العولمة في مجال الإعلام بدءًا من الثمانينيات، وكانت البداية أفرعًا لمؤسسات وموزعين لمنتجات إعلامية، ثم تطورت الأمور مع التوسع الاقتصادي، والنمو السكاني، والانفتاح السياسي والاقتصادي بين الدول.استطاعت مجموعة من المؤسسات الإعلامية أن تفهم حاجات المجتمعات المختلفة للمواد الإعلامية مما ساعدها على تطوير أدوات إيصال لهذه المواد مستفيدة من التطور التقني الواسع في ميدان الاتصالات.
بدأت المؤسسات الإعلامية الأمريكية القوية في موطنها في تكوين شركات متعددة الجنسيات وشراء أنشطة ومؤسسات إعلامية في البلدان الخارجية المختلفة.واكب ذلك تحالفات استراتيجية مع الجهات المحلية القوية مستفيدة بدرجة كبيرة من النفوذ الأمريكي السياسي في العالم وتهاوي أدوات المنع أو الرقابة ووسائلهما في البلدان المختلفة.
وتطورت الأمور تجاه العولمة بسرعة بالتواكب مع العولمة الاقتصادية؛ حيث يمكن إدراج الإعلام جزءًا من الأنشطة الاقتصادية.
وصل عدد المؤسسات الإعلامية الدولية إلى (80) مؤسسة نصفها تقريبًا أمريكي.ويتوقع الاستمرار نحو هذا الاتجاه وزيادة التكتلات والمجموعات الإعلامية الدولية وذلك في المدى القريب والمتوسط.(8/445)
مستقبل العولمة الإعلامية:
تعتبر أمريكا أكبر دولة في العالم اقتصاديًا وسياسيًا، وفي جانب الاتصالات هي الأولى وكذلك في جانب الكمبيوتر. أما الإعلام فلا يوجد لها منافس حقيقي في الساحة. هذه الحقيقة تعطي تصورًا واضحًا للمستقبل الإعلامي العالمي؛ فقيادة أمريكا له ظاهرة.
وتداخل الإعلام مع التقنية في الكمبيوتر والاتصالات تجعل القدرة الأمريكية في استمرار الهيمنة الإعلامية مؤكدة؛ خصوصًا إذا انتبهنا إلى الأسلوب المستخدم في الإعلام (المرئي على وجه الخصوص) والذي يعتمد على الإيحاء والخيال الواسع والصورة والحركة لإيصال الرسالة الإعلامية بعيدًا عن الكلام الكثير والحشو المطوّل.ومما هو مشاهد أن التوسع الإعلامي (الأمريكي على وجه الخصوص) أفقي وعمودي؛ وقد استفاد من التحالفات المحلية (في المناطق القوية) والسيطرة والاحتكار (في البلدان الضعيفة).
كذلك فإن النظرة للعولمة من جهة الشركات الإعلامية الغربية والأمريكية على وجه الخصوص يزداد مع الأيام، والقناعة به بدأت تسري حتى في المؤسسات المتوسطة والصغيرة فضلاً عن الكبيرة. هذا الأمر (العولمة الإعلامية) سيتجذر مع مرور الأيام، وسيصبح جزءًا مفهومًا من الواقع العالمي، وبالطبع سيتأثر هذا الأمر بمدى المقاومة السياسية للبلدان المستهدفة وبمدى قدرتها على المقاومة أصلاً أو حتى برغبتها في ذلك أو عدم الرغبة.كذلك سوف تتعرض البلدان المتخلفة لضغوط سياسية واقتصادية للقبول بها الواقع الإعلامي الجديد من باب: حرية الناس، وحقوق الإنسان، الإعلام الحر، تبادل الثقافات، وحوار الحضارات.
ولا ننسى أيضًا أن الشركات الإعلامية تتحرك بمساعدة حكومية من بلدانها الأم وهي تنظر إلى الناس (في كل مكان) أنهم مستهلكون لسلع هم ينتجونها، ولا ينظرون إليهم بصفتهم مواطنين في بلدانهم لهم ثقافاتهم الخاصة وعقائدهم المتميزة.
وأخيرًا …
فإن واقع الإعلام العالمي يدعو للذعر مع الأخبار التي ما فتئت تذكّرنا بل تذهلنا بالتطورات المتسارعة: حيث ذكرت إحدى الشركات الأمريكية أنها في صدد إطلاق قمر صناعي جديد ذي إمكانيات تقنية مذهلة وبتكلفة أقل من الحالية.. تقول الشركة: إنها في غضون سنة 2002م سوف تطلق قمرًا قادرًا على بث ألف وخمسمائة قناة تلفازية في وقت واحد يعادل أداؤه مجموعة من الأقمار الصناعية الحالية.. هذا في جانب البث الفضائي، أما الإنترنت فالشبكة القادمة - والتي بدأ تطبيقها في بعض الجامعات الأمريكية - ستصل سرعتها إلى آلاف سرعة الشبكة الحالية. وهذا يعني بثًا حيًا عالي النقاوة للصورة المتحركة أو الصوت (تلفاز رقمي).. بمعنى آخر: أن الإنسان سيمكنه مشاهدة مئات القنوات التلفزيونية بنقاوة معقولة وهو قابع في مكتبه أمام الكمبيوتر.
المجموعات الإعلامية الدولية الكبرى:
هناك ست مجموعات رئيسة كبرى تعمل في الأنشطة الإعلامية على مستوى العالم ولها حضور دولي كبير متفاوت من مؤسسة لأخرى، أربعة منها أمريكية، وواحدة أوروبية، وواحدة أسترالية أمريكية، وهذا عرض لأبرز أنشطة هذه المجموعات:
1- تايم وورنر Time Wa r ne صلى الله عليه وسلم
أكبر مؤسسة إعلامية في العالم؛ إذ تفوق مبيعاتها 25 بليون دولار، ثلثها من أمريكا والباقي من العالم. ويتوقع ارتفاع دخلها من خارج أمريكا إلى 50%، وتملك العديد من الأنشطة الإعلامية المتنوعة ومنها:- 24 مجلة (منها تايم).
- ثاني أكبر دار للنشر في أمريكا.
-شبكة تلفزيون ضخمة واستديوهات برامج وأفلام، ودور عرض للسينما (أكثر من 1000 شاشة)، وأكبر شبكة كيبل تلفزيوني مدفوع في العالم.
- شركات أفلام في أوروبا، والعديد من محلات البيع بالتجزئة.
- مكتبة ضخمة من الأفلام (6000 فلم) والبرامج التلفزيونية (25000 برنامج).
-بعض القنوات الدولية التلفزيونية مثل HBO, TNT. CNN مساهمات رئيسة في قنوات وشبكات تلفزيونية أو مرئية.وللعلم، فإن عدد مشاهدي المحطة الإخبارية CNN يفوق 90 مليونًا من 20 دولة، ولدى HBO 1.2 مليون مشترك حول العالم.
2- مجموعة برتلزمان Be r telsmann:
أكبر مجموعة إعلامية في أوروبا وثالث أكبر مجموعة في العالم. دخلها السنوي يجاوز 15 بليون دولار، وتتميز بأن لها تحالفات وتعاونًا مع العديد من المجموعات الإعلامية الدولية في أوروبا واليابان، ولها العديد من الأنشطة الإعلامية ومنها: - قنوات تلفزيون في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا: إضافة إلى استوديوهات سينمائية متعددة.
- مجموعة من الإذاعات الأوروبية.
- 45 شركة نشر للكتب بلغات أوروبا المختلفة.
- أكثر من 100 مجلة في أوروبا وأمريكا.
3- مجموعة فياكم Viacom :
مجموعة إعلامية قوية في أمريكا: وريع دخلها السنوي (13 بليون دولار) من خارج أمريكا، ولها نشاط محموم للتوسع الدولي: حيث أنفقت بليون دولار في السنوات الأخيرة للتوسع في أوروبا، ولها تحالفات مع العديد من المجموعات الإعلامية ونشاطها متنوع ومنه:
- 13 محطة تلفزيون في أمريكا إضافة إلى شبكات بث فضائي دولي (شوتايم - نكلدون..).
- شركات إنتاج تلفزيوني وسينمائي وفيديوي وموسيقي.
- شركات نشر كتب.
4- ديزني Desney:(8/446)
أكبر متحدٍ لمجموعة تايم ورنر في العولمة الإعلامية. لها دخل يفوق 24 بليون دولار، ولها حضور قوي في مجال الأطفال بل تعتبر أكبر منتج لمواد الأطفال في العالم، ولها حضور من أقصى الشرق (الصين) إلى أوروبا والشرق الأوسط حتى أمريكا اللاتينية، ولها أنشطة متنوعة منها:
- استوديوهات أفلام وفيديو وبرامج تلفزيونية، وشبكة ABC التلفزيونية الضخمة في أمريكا، ومحطات تلفزيون وراديو متعددة.
- قنوات تلفزيونية دولية متعددة بالأقمار الصناعية والكيبل مثل ديزني Disney , Espn الرياضية.
- محلات تجارية باسم ديزني، ومراكز ألعاب وترفيه حول العالم.
- دور نشر للكتب.
- 7 صحف يومية، و3 شركات لإصدار المجلات.وللمجموعة تحالفات ومشاركات مع مؤسسات إعلامية في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وكذلك مع شركات بث واتصالات متعددة الجنسيات.
5- نيوزكوربريشن News Co r po r ation:
خامس أكبر مجموعة إعلامية من حيث الدخل (10 بليون دولار) لكنها أكبر لاعب دولي في مجال الإعلام حول العالم. أسس المجموعة روبرت مردوخ ويملك حاليًا ثلثها، ولها وجود في جميع أنحاء العالم من خلال أنشطتها الإعلامية والتي منها:
- 132 صحيفة و25 مجلة في أستراليا وبريطانيا وأمريكا (تعتبر واحدة من أكبر ثلاث مجموعات صحفية حول العالم).
- شركة فوكس للإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وشبكة فوكس للبث التلفزيوني: إضافة إلى 22 محطة تلفزيون.
- شبكة ستار للبث الفضائي حول العالم وشبكة سكاي (بريطانيا خصوصًا).
- دور نشر للكتب.
وللمجموعة تحالفات مع مجموعات إعلامية حول الإعلام، وقاعدتها 6 دول رئيسة تنطلق منها أنشطتها المتنوعة وبالأخص: أستراليا - بريطانيا - أمريكا.تعتبر هذه المجموعة من أعقد المجموعات الإعلامية وأوسعها، ولها نفوذ قوي في الصين والهند (فضلًا عن أوروبا وأمريكا)، وأسلوبها الناجح هو الشراكة مع جهات نافذة محلية مع عدم مصادمة التوجهات السياسية المحلية لهذه البلدان.
ومن أهم خصائص هذه المجموعة: أنها تبث بلغت البلدان المختلفة؛ فمجموعة FOX نفسها مثلما تبث بالأسبانية في أمريكا اللاتينية وأسبانيا إضافة إلى الإنجليزية بوصفها لغة دولية، وتتميز هذه المجموعة أيضًا بقدرتها على اختراق الدول النامية وتوطيد أقدامها فيها، كما أن لها مصادرها الخاصة بالأخبار والبرامج ممثلة في شركات تابعة أو شريكة إضافة إلى قنوات البث الخاصة بها.
6- مجموعة TCT:
وهي مجموعة إعلامية متخصصة بالبث التلفزيوني عبر الكابل وكذلك عبر الأقمار الصناعية من خلال نظام الاشتراكات، ولها وجود قوي دولي في هذا الميدان؛ حيث تمتلك قمرين صناعيين للبث حول العالم (قيمتهما 600 مليون دولار) والدخل السنوي للمجموعة يفوق 7 بليون دولار.مجموعات إعلامية أخرى:
هناك مجموعة إعلامية دولية أخرى على صنفين:
الأول: يمثل النشاط الإعلامي جزءًا من نشاط أوسع للشركة الأم.
والصنف الثاني: مجموعات إعلامية أصغر (من حيث الدخل؛ وإلا فإنها إمبراطورية إعلامية لا يقل دخلها عن بليون دولار سنويًا)، مثل يونيفيرسال، بولي جرام (جزء من فيلبس) وسوني اليابانية (يتجاوز دخلها 9 بليون دولار) وجنرال الكتريك ومجموعة هولنجر الكندية، ويلاحظ الغياب للمؤسسات الإعلامية الدولية في منطقة آسيا والشرق الأوسط.
العولمة الإعلامية والتقنية:
ترتبط العولمة بالتقدم والتوسع الإقتصادي ارتباطًا وثيقًا؛ ولذلك كانت عملية الرقمية Digital في نقل الصوت والصورة والكلمة حاسمة في تسهيل وصول هذه المواد للمستهدف، كما أنها خفضت التكلفة، مما ساعد على توسيع دائرة الانتشار عالميًا، كذلك ساعدت شبكات الاتصال الفائقة Fibe r s في تسهيل نقل كميات كبيرة من المعلومات وبدرجة نقاء عالية وبوقت قصير حول العالم، وأصبح هناك تحالف ظاهر بين شركات الاتصالات التقنية والبرامج مع المؤسسات الإعلامية نظرًا للمصالح المشتركة بين هذه الأطراف؛ فالأولى ترصف الطريق والثانية تسير عليه.
وفي الختام أحذّر وأحذّر من خطوة الإعلام على عالمنا العربي والإسلامي الضعيف في كل المناحي (ومنها الإعلام)، وهو أصلاً هزيل في تقنياته وموارده بعيدًا عن جذور الأمة وعقيدتها. كذلك أحمِّل قادة الفكر والتوجيه المسؤولية في هذا الميدان، وأدعوهم للمسارعة في تحمّل المسؤولية خصوصًا أننا دائمًا متخلفون عن الركب عالة على الغير في كثير من أمورنا، والعبء الكبير لا يستطيعه فرد أو أفراد بل لا بد من مساهمة الجميع: مؤسسات، ورجال أعمال، مربين ومفكرين، كل بحسبه وكل بقدرته.
والأمر يسيرٌ لو كان الإعلام خاليًا من الرسالة والهدف، بل المضمون الثقافي المُصدَّر إلينا لا يحتاج إلى كثير بصيرة لمعرفة خطورته على مجتمعاتنا وأجيالنا القادمة.
http://www.kujh r a.com المصدر:
=============(8/447)
(8/448)
الإسلام الديمقراطي
محمد رزق ساطور
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه وبعد:
تتعرض ديار المسلمين وعقائدهم في هذه الأيام لهجمة تتارية يهودية صليبية حاقدة تريد أن تأتي على الأخضر واليابس، فلم تكتف بسفك الدماء وانتهاك الحرمات، بل تبتغي أغلى ما يملكونه وما يعيشون به؛ ألا وهي معتقداتهم وأخلاقهم، وبدأ الغزو الفكري بإدخال مفاهيم غريبة على عقيدة المسلمين وديارهم، وأحدث هذه الغرائب ما قاله هبل في تصريحاته: أنه يريد الإسلام الديمقراطي، والغريب أنه وضع الاسم ثم وضع المعنى، فماذا يعني بالإسلام الديمقراطي؟!!
إنه يعني أن يكون المسلم مفرغًا من دينه فلا يعلم ولا يعمل ولا يدعو، بمعنى أن تختلط عنده الأحكام، ويستوي عنده الناس مسلمهم وكافرهم، وبمفهوم أوسع أن تضيع هوية المسلم فلا يكون مميزًا عن غيره في شيء، فلا شخصية متميزة بما أضفاه عليها الإسلام من العزة والكرامة والإباء ومحبة المؤمنين وبغض الكافرين والحذر منهم، ولا عقيدة صحيحة يتميز بها، لتصبح عقيدته عبارة عن مجموعة من المفاهيم القاصرة العاجزة الهشة، فيستوي عنده من يقول لا إله إلا الله، ومن يقول إن الله ثالث ثلاثة، يستوي عنده الحق مع الباطل، يستوي عنده العدل مع الظلم، ليكون عند ذلك صورة بغير روح، صنمًا أسك لا يصلح إلا لعبة في أيدي الصغار، وتلك نكبة أخرى.
لقد عاش الإسلام في المدينة مع اليهود ولكنه كان مميزًا بعقيدته التي لا تسمح بالتزايد، لدرجة أن اليهود طمعوا في المسلمين وظنوا أنهم سيجاملونهم فجاءوا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، وكانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدى مئة وسق من تمرًا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه إلينا فقالوا بيننا وبينكم رسول الله، فنزلت "سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين" {المائدة:42}، ويقول - تعالى -: "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين" {المائدة:43}، فقد أخرج البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال: "كيف تفعلون بمن زنى منكم؟" قالوا لا نجد فيها شيئا، فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم؛ في التوراة الرجم "فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" فجاءوا بالتوراة فوضع مدارسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم فقال ما هذه فلما رأوا ذلك قال: هي آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قريبا من حيث توضع الجنائز عند المسجد، قال عبد الله فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها الحجارة"، ثم يذكّر القرآن النصارى فيقول: "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" {المائدة:47}، لكن هل هؤلاء الغزاة الحاقدون لهم دين يرجعون إليه أو يعظمونه؟! هل لهم خلق يقدرونه أو يوقرونه ويتصفوا به؟!
يبرهن الغزاة الحاقدون بشتى الطرق أنهم مستمرون في صراعهم ضد الإسلام والمسلمين فهم يدعون الرقي والحضارة والثقافة وهم أهل الأساطير والخرافات، ومن يلق نظرة في التاريخ يعرف أيهم أرقي فكريا المسلمون أم النصارى، فهم يدعون الناس إلى مناصبة العداء للمسلمين فيتهموننا بالظلم والوحشية لينسى الناس الفظائع التي ارتكبتها الحملات الصليبية، وقد أباحوا لأنفسهم صنوف الأكاذيب ليستفزوا شعوبهم ضد المسلمين ولا بأس عندهم بالخيانة والغدر إذا كانت الخيانة والغدر تستنهض الهمم لمعاداة الإسلام والمسلمين.
لقد تخلت أمريكا عن كل تعهداتها السابقة من ادعاءات عن حقوق الإنسان، إلا إن كانوا يعرفون الإنسان أنه غير المسلم، فقد انتشرت عندهم المعتقلات وطرق التعذيب والاعترافات الوهمية، ولما انتهت تحقيقاتهم وعلموا أن المسلمين برآء من كل ما زعموه أخفوا نتائجها بزعم المحافظة على أمن أمريكا، لقد فشلوا فشلا ذريعًا في ديارهم، فجاءوا إلى ديارنا فيقولون نريد الإسلام الديمقراطي، ومعناه الاستسلام الذليل المهان، يريدون إسلامًا مهيض الجناح، منتهك القوى، إنهم كما قال القرآن عنهم "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل" {النساء:44}، يريدون إسلامًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، لكي يعطي كل ما يملك لإخوان القردة والخنازير وعبد الطاغوت عن طيب خاطر، فيقول للغزاة المجرمين سفاكي الدماء والأعراض أنتم منقذو هذا العالم من الطغاة والمتجبرين.
الإسلام الديمقراطي: أن لا تقوم لعقيدة الجهاد قائمة وأن يبقى المسلمون في ديارهم منزوعي الكرامة والعزة، لأنهم يعلمون أن قوة المسلمين في دينهم.(8/449)
روى أحمد أبو داود عن ابن عمر قال سمعت رسول الله يقول: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم".
إن هؤلاء الغزاة المجرمين إذا أرادوا أن يستبيحوا حرمة بلد من بلاد المسلمين لم يعجزوا عن اختلاق الأسباب المبررة لما أرادوا أن يفعلوا، والعذر الأقبح من كل ذنب قولهم أسلحة الدمار الشامل، وهذا العذر سيف موضوع الآن على أعناق جميع الحكام ليخضعوا ويستكينوا إلى أن يأتي عليهم الدور ألا لعنة الله على الظالمين، فمعلوم أن من دخل الحضانة أو الروضة لن يقف عندها بل هي مقدمة بين يدي التعليم الأساسي، وهذه مقدمة للمرحلة التالية، فعينه على الجامعة ولكن في حينها ثم الدراسات العليا ثم الدكتوراه، ثم على رئاسة القسم أو العمادة أو قل رئاسة الجامعة أو الوزارة وهكذا احتلال الشعوب، فليست العراق نهاية المطاف بل هي البداية، ومع تلك البداية الخبيثة بدأ هبل في شرح إسلامنا بموسوعة الإسلام الديمقراطي.
الإسلام الديمقراطي: أن ينشغل المسلم بنفسه ولا يسأل عن أخيه، ولا يفكر في دعوة غيره إلى الإسلام، فهم يريدون إسلامًا باهتًا لا يتميز بشيء، أقول لو أن أبا جهل عرض عليه وعلى من معه من كفار قريش هذا الإسلام الديمقراطي لما ترددوا لحظة في قبوله لأنه غير مكلف فلا يغير سلوكا ولا يترتب عليه شيء لا عمل ولا تعبد، فهو دين بلا دين.
إن إسلامنا تميزه عقيدة صافية خالصة صحيحة تربط العبد بربه سبحانه، كما تربطه بالناس، فالعلاقة بالله تعالى تقوم على تقديسه وتنزيهه عن كل عيب ونقص، فلا تنسب لله تعالى الولد ولا الصاحبة لأن في ذلك سبًّا له سبحانه وشتما، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
فقد أخرج البخاري وأحمد والنسائي وابن حبان عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني وشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الله الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد".
بل يعتبر من نسب لله - تعالى - الصاحبة والولد كافرًا خاسرًا في الدنيا والآخرة إلا أن يتوب ويسلم لله رب العالمين، فعند ذلك يؤتى أجره مرتين، فقد أخرج البخاري وأحمد والنسائي والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين.... ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به".
إن هذه العقيدة تشعر المسلم بانفراده بتعظيم الله بعبادته ومعرفته، وفي الوقت نفسه تربطه بالناس على أساس المحبة والبغض بناء على هذه العقيدة، وحتى الذين نبغضهم لا نظلمهم ولا نعتدي عليهم ولا ننتهك حرمتهم بل نعاملهم بالعدل، وأما من نحبهم فنعاملهم بالرحمة، كما ندعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، ونجادلهم بالتي هي أحسن.
أسأل الله - تعالى - أن ينجينا من شر هبل وأعوانه، وأن يكفينا شر تحريف الإسلام إلى ما يزعمونه الإسلام الديمقراطي، وشر تخطيط الغزاة المجرمين، وأن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يكفيناهم بما شاء وكيف شاء إنه على كل شيء قدير إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون {الأنفال:36
http://www.altawhed.com المصدر:
================(8/450)
(8/451)
عالمنا ليس للبيع أو الدمار
شاركونا في النضال ضد آثار الإصلاح الاقتصادي
نحن نطالب بفرض ضرائب على كبار المستثمرين لصالح الفقراء ومحدودي الدخل من أجل:
1- إعادة الدعم الحكومي على السلع الأساسية-
2- تمويل برنامج لتشغيل العاطلين-
3-رفع مستوى الخدمات والضمانات الاجتماعية
"لقد جئنا نقول لهؤلاء أننا لن نسمح بدفع حياتنا مقابل أرباحهم" هذا ما أعلنته عاملة فرنسية بسيطة أثناء "مشاركتها في المظاهرات الحاشدة لحركة مناهضة العولمة في مدينة جنوة الإيطالية في يوليو 2001، ضد اجتماع زعماء الدول الصناعية الثماني الكبرى. لن ندفع حياتنا مقابل أرباحكم، هكذا بكل بساطة ووضوح. لكن ما هي القصة؟ ومن أين خرج كل هذا الغضب؟ وكيف تحول إلى تيار هادر، يتسع يوما بعد يوم، ليوحد الإنسانية ضد صناع الفقر والدمار؟
ما هى العولمة الرأسمالية
ظهور العولمة:
في مطلع التسعينات بدا في أعين الكثيرين وكأن الرأسمالية قد حققت انتصارا حاسما، وأنها أصبحت الآن تتحكم بشكل نهائي في مقدرات جميع البشر!! فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وبلدان أوروبا الشرقية سيطرت هذه الأفكار على الجماهير في كل مكان. وعلى خلفيتها انتعشت عالميا السياسة التي تبنتها حكومات البلدان الغربية منذ أوائل الثمانينات، والتي أطلقوا عليها اسم "الليبرالية الجديدة" (أي الخصخصة، وتحرير السوق، الخ). خلال التسعينات أصبحت هذه السياسة هي الطريق الذي ترسمه الحكومات الغربية للعالم. وتحولت إلى روشتة للإصلاح تقدم إلى جميع بلدان العالم بواسطة المؤسسات الاقتصادية الدولية تلك التي لا تخدم إلا مصالح الحكومات الرأسمالية الكبرى وشركاتها العملاقة.
وانطلقت على قدم وساق حكومات العالم الثالث في اتباع روشتة "الإصلاح"، على طريق الخصخصة والاندماج في السوق العالمي. هذا في الوقت الذي كانت تعاني فيه الشعوب الفقيرة في العالم الثالث من عبء الديون الضخمة التي حصلت عليها حكوماتها (ذهبت هذه الديون في الواقع إلى جيوب الحكام ولم يستفد منها الفقراء بشيء). وكانت النتيجة من اتباع روشتة "الإصلاح" هذه هي ضرب مصالح الفقراء في كل مكان، وتقليص أجورهم وسحب الضمانات والخدمات الاجتماعية التي يتمتعون بها.
أتاحت تلك السياسة التي نطلق عليها اليوم "العولمة الرأسمالية" للشركات متعددة الجنسية العملاقة الفرصة للسيطرة على حياة البشر في كل مكان بهدف تحقيق أقصى أرباح ممكنة. وتقوم هذه الشركات عبر العولمة وبواسطة سياسات السوق الحر بفرض هيمنتها على العالم، وإعادة تنظيمه حماية لمصالحها. هذا وبينما يدعي أنصار العولمة أنها الأسلوب الأمثل لتشجيع الجهد الفردي والاختيار الحر للمستهلكين والديموقراطية في أبهى مظاهرها!! وأنها تقدم خدمة هائلة للفقراء بتوفير رغد العيش للجميع!! بينما يدعون ذلك ينتشر الفقر والجوع والدمار والاستبداد في كل أرجاء المعمورة بفضل هذه العولمة، ومن أجل الحفاظ على أرباح كبار المستثمرين في العالم!!
عولمة الفقر:
يقول أحد أنصار العولمة: "بما أن جني الأرباح هو جوهر الديمقراطية، فإن أي حكومة تنتهج سياسات معادية للسوق، هي حكومة معادية للديمقراطية"!! وهكذا فإن الديموقراطية التي تبشر بها العولمة هي حق الرأسماليين في جني الأرباح!! ولأجل تحقيق هذا الهدف تحاول الشركات العملاقة وحكومات البلدان الرأسمالية الكبرى فرض هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية على جميع أرجاء العالم. حتى يمكن طمس جميع الاختلافات بين الشعوب وجعلهم يعيشون في عالم رأسمالي واحد، بهدف توفير أفضل فرص للربح للرأسماليين. أما رغد العيش الذي يبشرون به فها نحن نذوق مرارته يوما بعد يوم: انتشار واسع للفقر وسط الأمم والشعوب الفقيرة أصلا؛ اتساع هائل للفجوة بين الفقراء والأغنياء؛ انهيار للبيئة على مستوى العالم، وانتشار للكوارث الناتجة عن التلوث؛ زيادة هائلة في معدلات التشريد والبطالة وتقليص الأجور والضمانات الاجتماعية؛ دمار وتخريب متواصل بسبب الحروب الاستعمارية والاضطهاد العرقي والديني.
ومن الخطأ أن نتصور أن انتشار الفقر قاصر فقط على بلدان العالم الثالث، فالبلدان الرأسمالية الكبرى تعاني اليوم من أزمة كساد مرعبة لم تشهد مثلها من قبل. أدى ذلك إلى انتشار الفقر أيضا في تلك البلدان، وإلى مزيد من التهميش للفقراء بها. أما بلدان العالم الثالث ومع اتباعها لروشتة "الإصلاح الاقتصادي" وانتهاجها لسياسات السوق الحر أصبحت تعاني من أزمات اقتصادية عارمة وانهيارات سياسية، كالتي شاهدنا آثارها في المكسيك وإندونيسيا والأرجنتين. وبفضل سياسات العولمة ازداد العالم فقراً نتيجة للنهب الواسع للشركات الرأسمالية العملاقة.(8/452)
وفقاً لتقرير التنمية الصادر عن البنك الدولي عام 2000/20001 (وهو أحد أهم المؤسسات الرأسمالية الدولية) أصبح خُمس سكان العالم يعيشون على أقل من دولار في اليوم الواحد؛ وخُمس الأطفال في الدول الفقيرة يموتون قبل سن الخامسة؛ ومتوسط الدخل في أغنى 20 بلد في العالم يساوى 37 مرة متوسط الدخل في أفقر 20 بلد. أن هذا الانتشار الواسع للفقر لا يحدث بسبب قلة الإنتاج أو بسبب الزيادة السكانية، كما يحاولون خداعنا. الحقيقة أن الإنتاج العالمي ـ وبسبب التقدم التكنولوجي المذهل في الصناعة ـ أصبح قادرا على تغطية أضعاف احتياجات جميع البشر في العالم. فمثلا أصبح إجمالي الإنتاج العالمي في مطلع التسعينات خمسة أضعاف إجمالي الإنتاج العالمي في مطلع الخمسينات (وهو أعلى بكثير من معدل الزيادة السكانية)، هذا بينما تضاعفت خلال نفس الفترة معدلات الفقر في جميع أنحاء العالم!!! الحقيقة أن النهب الرأسمالي وسوء توزيع الموارد هو السبب وراء انتشار الفقر، وليس الزيادة السكانية. الإحصائيات تذكر مثلا أن أغنى 225 شخص في العالم يملكون مجتمعين ثروة تزيد عن مليون مليون دولار، وهو ما يوازي مجموع الدخل السنوي لحوالي 2,5 مليار إنسان يشكلون 42% من سكان العالم الأكثر فقرا!!!
عولمة الدمار والاضطهاد
ومن أجل أن تحافظ الشركات العملاقة على أرباحها تعمل حكومات البلدان الرأسمالية الكبرى على نشر العولمة بالقوة إذا اقتضى الأمر. ذلك بتوسيع أسواق ونفوذ تلك الشركات، وحماية مصالحها في كافة أرجاء العالم، وإجبار البلدان الأكثر فقرا على الاندماج في السوق العالمي. وهكذا شاهدنا سلسلة من الحروب الاستعمارية والتدخلات العسكرية المشبوهة، التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. هذا هو سر ما حدث في حرب الخليج الثانية وحصار التجويع المتواصل على الشعب العراقي، وهذا أيضا هو سبب التدخلات العسكرية التي جرت في العديد من البلدان: في الصومال وكوسوفو ورواندا، وأخيرا فهذا هو جوهر الحرب الاستعمارية التي شنتها مؤخرا الولايات المتحدة وبريطانيا على أفغانستان. وبينما يموت عشرات الملايين من الأطفال في العالم من الجوع، تنفق الحكومة الأمريكية تريليونات الدولارات على تطوير قدراتها العسكرية بما يسمح لها من سحق الشعوب الفقيرة إذا أرادت.
أيضا وبسبب سياسة فرض العولمة الرأسمالية بالقوة، اشتعلت مع الوقت ـ كواحدة من الآثار الجانبية لهذه السياسة ـ العديد من الصراعات العرقية والدينية في العالم. وهكذا شهدنا مذابح وإبادة جماعية لمئات الآلاف والملايين من البشر في جمهوريات يوغوسلافيا السابقة وفي بلدان وسط أفريقيا (رواندا وبروندي) وفي إندونيسيا وغيرها. كما تطالعنا كل يوم مشاهد المأساة الحية لمعاناة الشعب الفلسطيني البطل وصموده الباسل في مواجهة الاضطهاد الصهيوني، هذا الاضطهاد القذر الذي يجسد ضعة سياسات العولمة ومشاريعها الاستعمارية. وأخيرا تأتي موجات الاضطهاد العنصري للعرب والمسلمين في جميع البلدان الغربية ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 كخير مثال على عنصرية العولمة الرأسمالية ورجعيتها.
هذه هي إنجازات عولمة الرأسمالية!! وهذه هي ديموقراطيتها!! وهذا هو رغد العيش الذي يبشر به أنصارها!! وبالطبع فأن مصر وشعبها ليسا بعيدين عن هذه العولمة وآثارها. فمصر عضو في منظمة التجارة العالمية (أحد أهم أدوات تطبيق العولمة الرأسمالية، وهي التي تقوم بتنظيم العلاقات التجارية بين مختلف بلدان العالم، بما يترتب عليه من استغلال البلدان الفقيرة من قبل البلدان الغنية) والحكومة المصرية واحدة من أكثر الحكومات التزاما بتطبيق روشتة صندوق النقد الدولي لـ "الإصلاح الاقتصادي". ولعلنا نتساءل عما جرى لحياة الجماهير المصرية الفقيرة بعد عشر سنوات من توقيع الحكومة المصرية لاتفاقية "المساندة" مع صندوق النقد الدولي.
العولمة الرأسمالية في مصر
العولمة هي البطالة
تعتبر الخصخصة وما أدت إليه من تشريد لمئات الآلاف من العمال أهم آثار العولمة الرأسمالية على مصر. فجميع الاتفاقات التي وقعتها الحكومة المصرية (الجات، الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، إلخ) تنص على ضرورة خصخصة جميع الشركات. كما تنص على ضرورة إزالة جميع الحواجز الجمركية، مع تقديم أكبر قدر ممكن من الإعفاءات الضريبية للمستثمرين. باختصار أدت سياسات العولمة إلى إفقار متزايد لجماهير العمال المصريين من أجل تحقيق أعلى فرص للربح للمستثمرين. وبسبب الخصخصة وسياسة المعاش المبكر، وبعد أن رفعت الحكومة المصرية يدها عن مسئولية توفير فرص عمل للمواطنين، وصلت نسبة البطالة إلى 17% من السكان حسب تقارير البنك الدولي (وهي نسبة أقل بكثير من النسبة الحقيقية). ومن المؤكد أن معدلات البطالة في مصر ستتضاعف مع إقرار وتطبيق قانون العمل الموحد، الذي يهدد بوضوح الحق في العمل.(8/453)
أن صدور هذا القانون (وهو أحد شروط دخول الرأسمالية المصرية إلى السوق العالمي) يؤدي إلى إطلاق يد أصحاب الأعمال في طرد العمال. كما أنه "يحرر" علاقات العمل، أي "يحرر" صاحب العمل من أي التزامات، و"يحرر" العامل من كل حماية قانونية، ويترك الأمر كله (الأجور بالتحديد) للمفاوضة "وكل واحد وشطارته". وفي نفس الوقت يمنع العمال من الدفاع عن أنفسهم بتقييده لحق الإضراب عن العمل!! هذا بالطبع يحدث من أجل عيون أصحاب الأعمال والمؤسسات الرأسمالية الدولية، وتحت رعاية اتفاقيات الاندماج في السوق العالمي!!
العولمة هي طرد الفلاحين من الأرض
أن واحد من أهم آثار العولمة الرأسمالية على جماهير الفقراء من المصريين هو الإطاحة بالحقوق المكتسبة لفقراء الفلاحين مستأجري الأراضي الزراعية، هذه الحقوق التي استحقوها منذ مطلع الخمسينات وأطاحت بها روشتة صندوق النقد الدولي. فإصدار القانون رقم 96 لسنة 1992، والذي بدأ تطبيقه في أكتوبر عام 1997 الخاص بمستأجري الأراضي الزراعية، جاء بناءا على توصيات صندوق النقد. ومن أجل توفير الفرصة للاستثمارات الرأسمالية الكبيرة في تجميع الأراضي الزراعية في مصر، وتحقيق مزيد من النهب للفلاحين المصريين.
ترتب على هذا القانون طرد أكثر من نصف مليون فلاح مصري من حيازاتهم الزراعية، وبالتالي حرمانهم من مصدر رزقهم الوحيد ومن دخل ثابت يسد حاجاتهم بالكاد. وتحول معظم هؤلاء الفلاحين إلى عمالة زراعية تعمل بأجر يومي لا يوفر الحد الأدنى من شروط الحياة الإنسانية. وهكذا وصلت نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر (حسب تقديرات الأمم المتحدة) إلى 48% من السكان (أغلبهم من سكان الريف)، بينما كانت النسبة عام 1990 39% من السكان.
العولمة هي الإطاحة بالخدمات الاجتماعية
مدرسة بدون مدرسين، وفصول مكدسة بتلاميذ يجلسون على الأرض؛ ومستشفى بدون أسرة للمرضى، أو أجهزة طبية، أو علاج؛ وملايين من المواطنين بدون سكن، في مدينة تمتلئ بغابات من الفيلات والشقق الخالية!! هذا ما تسميه الحكومة: تخفيض الميزانية العامة.
أن تدهور أحوال المدارس الحكومية وانتشار ظاهرة الدروس الخصوصية وارتفاع نسبة التسرب من التعليم بالإضافة إلى اتساع ظاهرة العنف وسط المدارس، جميع هذه الظواهر هي واحدة من آثار العولمة الرأسمالية على مصر. ويكفي فقط أن نعرف أن الحكومة المصرية كانت تنفق على التعليم في عام 1980 5,7% من إجمالي الناتج القومي، وأنها قامت بتخفيض هذا الرقم ليصل في عام 1997 إلى 4,8% من إجمالي الناتج القومي، هذا رغم تزايد أعداد التلاميذ. وبالطبع فإن هذا التخفيض في الإنفاق على التعليم هو أحد أهم بنود روشتة صندوق النقد. وقد أدى انتشار ظاهرة التسرب من التعليم إلى الاتساع الهائل في أعداد عمالة الأطفال في مصر. لقد وصل عدد الأطفال العاملين ما بين سن 6 و14 سنة إلى حوالي 1,5 مليون طفل أي ما يقرب من 12,5% من إجمالي القوى العاملة، هذا بينما يحفى ملايين الشباب بحثا عن فرصة عمل!!
وما تعانيه الخدمات التعليمية في مصر بسبب العولمة الرأسمالية، تعاني منه بنفس الدرجة وقد يزيد الخدمات الصحية. فبفضل روشتة صندوق النقد لا تنفق الحكومة المصرية على الصحة سوى 1,8% من إجمالي الناتج القومي سنويا، بينما تشترط منظمة الصحة العالمية ألا يقل هذا الرقم عن 5%. وطبقا للتقديرات الحكومية لم يتمتع إلا 11% من المصريين بالخدمات الصحية الحكومية خلال الفترة من عام 1990 إلى عام 1996. وبسبب تدهور الإنفاق الحكومي على الصحة عادت إلى الظهور بعض الأمراض التي كانت على وشك الاختفاء مثل الدرن الرئوي، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الإصابة بالأنيميا بين الأطفال والنساء، بل أن بعض الأمراض التي اختفت من العالم وكان يجب أن تختفي من مصر منذ سنوات لازالت تنهش فقراء المصريين وعلى رأسها البلهاريسيا. يضاف إلى ذلك أن أحد أهم نتائج التوسع في سياسة الخصخصة في مجال الصحة هو انهيار العلاج المجاني والمستشفيات العامة ووحدات الرعاية الصحية الأولية، بينما يحدث توسع هائل في بناء المستشفيات الفندقية والعلاج السياحي الذي لا يتمتع به إلا الأغنياء.(8/454)
ومما يزيد الطين بلة الارتفاع المذهل لأسعار الأدوية الذي ستشهده مصر بعد تطبيق قانون "حماية الملكية الفكرية وبراءات الاختراع". هذا القانون الكارثة الذي ناقشه مجلس الشعب المصري مؤخرا، والذي تصدره مصر تحت ضغوط العولمة واتفاقات الشراكة الدولية، سيؤدي مباشرة إلى رفع أسعار جميع الأدوية الرئيسية التي يحتاجها الشعب المصري بدرجة كبيرة جدا. فالقانون يمنع الشركات من إنتاج السلع المحمية ببراءات اختراع، مما سيؤدي إلى رفع أسعار جميع هذه السلع، والتي تأتي الأدوية على رأسها. هذا كله لصالح الشركات متعددة الجنسية صاحبة تلك "البراءات"، التي لا يهمها سوى أرباحها بصرف النظر عن صحة الفقراء. وواحدة من أشهر الأمثلة على وقاحة تلك الشركات هي الشكوى التي قدمتها العام الماضي ضد حكومة جنوب أفريقيا، بسبب انتهاكها لحقوق الملكية الفكرية المزعومة هذه، بعد أن سمحت ـ الحكومة ـ بإنتاج دواء للإيدز بحوالي 500 دولار كانت الشركات العملاقة تنتجه بحوالي 30000 دولار!! لكن استطاعت التعبئة الجماهيرية الواسعة في جنوب أفريقيا ضد المسألة، من إعلان صوت الفقراء أمام الرأي العام العالمي وإسقاط الشكوى.
العولمة هي الاستبداد والقمع
بالطبع ليس في مقدور الحكومة المصرية وهي تمرر السياسات المتوحشة للعولمة الرأسمالية، إلا أن تفرض المزيد من الاستبداد على جماهير المصريين. فالإطاحة بالحقوق المكتسبة لجماهير العمال والفلاحين والانتشار الواسع للفقر والتشريد والبطالة يستتبعه مباشرة ممارسات قمعية شديدة، هي واحدة من أهم آثار العولمة. أن ما يدعونه من أن تحرير السوق سيؤدي إلى الحرية السياسية هو خدعة. لقد شهدت مصر خلال العشرين عاما الماضية أسوأ ألوان الاضطهاد السياسي، وبمعدلات لم تشهدها من قبل. أكثر من عشرة آلاف معتقل يقبعون في السجون لما يزيد عن عشرة أعوام فقط بالاشتباه ودون أن توجه لهم أية اتهامات!! اغتيال مئات المعارضين السياسيين في الشوارع، ومحاكم عسكرية غير دستورية للمدنيين تصدر أحكام إعدام على العشرات بالجملة!! حالة طوارئ مزمنة، واتساع للتعذيب داخل السجون بمعدلات فائقة!! دبابات تقتحم المصانع لفض الإضرابات، وفرق من الأمن المركزي تقتحم القرى والأحياء الفقيرة وتحطم البيوت، وعشرات من القتلى يسقطون في مواجهات مع الشرطة!! هذا غير العصف الواسع بالحقوق المدنية والسياسية، والقيود الهائلة التي تفرضها الدولة على كافة الحريات. أن كل هذا الاستبداد هو في الواقع الوجه الأسود للعولمة الرأسمالية في مصر.
العولمة هي الخضوع للسلام الصهيوني الأمريكي
إذا كان الاستبداد السياسي هو الوجه الأسود الذي تظهر به العولمة الرأسمالية في مصر، فإن الخضوع للسلام الصهيوني الأمريكي هو وجهها المهين والمنحط. فمع توقيع اتفاقيات كامب دايفيد عام 1979 أصبحت السياسة المصرية تجاه الاستعمار الاستيطاني الصهيوني خاضعة بالكامل لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة والشركات الرأسمالية العملاقة. وهكذا بينما يندفع الشعب الفلسطيني في بسالة لمواجهة الصهيونية، وبينما يندفع مئات الآلاف من المصريين في أوسع حركة للتضامن مع الانتفاضة، تقف الحكومة المصرية بلا حراك ودون أن تجرؤ حتى على طرد السفير الإسرائيلي. بل تفعل ما هو أمر، بمحاولة سحب البساط من تحت الانتفاضة والعمل على جر الأوضاع مرة أخرى إلى مفاوضات السلام الزائف المهين. أنها العولمة الرأسمالية ومصالح الشركات متعددة الجنسية وشركائها في مصر، هي التي تفرض على المصريين أن يدخلوا في تحالف سوق شرق أوسطي مع الاستعمار الصهيوني، وتحت مظلة السلام الأمريكي المهين!!
هذه هي إنجازات العولمة الرأسمالية في مصر، فهل من طريق للمقاومة؟ نعم هناك طريق. أن جماهير الفقراء والمضطهدين تحتشد الآن في كل أرجاء العالم في حركة تتسع يوما بعد يوم لمناهضة العولمة الرأسمالية. والطريق الوحيد أمام الجماهير الفقيرة في مصر لمقاومة كل ما تتعرض له هو الانخراط في هذه الحركة العالمية، والتضامن مع كل الفقراء في العالم تحت شعار: البشر قبل الأرباح.
الحركة العالمية لمناهضة العولمة
عالمنا ليس للبيع
لقد شاهدنا جميعا على شاشات التليفزيون عشرات الآلاف ومئات الآلاف من الفقراء يناضلون ضد العولمة الرأسمالية، بدءا من سياتيل مرورا بديفوس ونيس وجنوة. شهدنا عشرات الآلاف وهم يحاصرون قاعة المؤتمرات لمنع عقد مؤتمر منظمة التجارة العالمية في سياتيل في نوفمبر 1999، كما شاهدنا مئات الآلاف وهم يواجهون قوات البوليس في مدينة جنوة الإيطالية في يوليو 2001. فوجئنا جميعا ليس فقط بحيوية المظاهرات وبنجاح احتجاجات سياتيل، لكن أيضا بالأعداد الغفيرة التى احتشدت. كانوا أربعين آلف في سياتيل في نوفمبر 1999، ثم تظاهروا بالآلاف في براج في سبتمبر 2000، وفى نيس في ديسمبر 2000. أما قمة الأحداث فكانت جنوة حيث شاهدنا 200 آلف متظاهر محتشدين ضد اجتماع زعماء الدول الصناعية الكبرى. وأخيرا اجتمع نحو 120 آلف متظاهر على مدى ثلاثة أيام في بروكسل من 13-15 ديسمبر 2001 ضد انعقاد القمة الأوربية.(8/455)
كيف بدأت هذه الحركة؟
إذا كانت سياتيل شكلت نقطة انطلاق للحركة على المستوى الإعلامى، فان هذا لا يعنى أن الحركة بدأت بسياتيل. في مقدورنا اعتبار إعلان تمرد الزباتيستا في المكسيك في أول يناير 1994 - نفس تاريخ تطبيق اتفاقية التبادل الحر في المنطقة - هو البداية. كما يمكن اعتبار الحملات التى نظمت من اجل إلغاء ديون العالم الثالث، أو بداية تشكيل حركة "آتاك": (الجمعية من اجل فرض ضريبة على التعاملات المالية لمصلحة المواطنين) في فرنسا في 1998 هو البداية. وعموما يمكن اعتبار جميع هذه الأحداث هى البداية الحقيقية للحركة.
من يشكل هذه الحركة؟
تتشكل بشكل رئيسى من المتضررين من سياسات العولمة، كاتحادات الفلاحين الموجودة في البرازيل وفرنسا، أو النقابات العمالية في كوريا وفى جنوب أفريقيا والنقابات الأكثر راديكالية في فرنسا وإيطاليا. وهناك أيضا بالطبع حركات شبابية عديدة في إنجلترا أو جامعات الولايات المتحدة تساهم في تشكيل الحركة. بالإضافة إلى حركات العاطلين عن العمل الذين شاركوا في تنظيم "المسيرة الأوربية ضد البطالة وكل أنواع التهميش"، التى نظمت مظاهرة في امستردام في يونيو 1997 وقد شاركت الحركات النسائية أيضا في الحركة بتنظيمها ل"المسيرة العالمية ضد العنف والفقر"هذا غير المنظمات غير الحكومية وجماعات البيئة التي ساهمت في تشكيل حملات واسعة داخل الحركة بدأت جميع هذه القوي السياسية والنقابية المختلفة والمتنوعة (التي لم تتحرك في أي وقت مضي في إطار جبهة واحدة )في بناء شبكه عالميه موحدة،وأصبحت تشارك بشكل جماعي في تنظيم الأحداث الاحتجاجية الواسعة هذا ما حدث مثلا في جنوة، حيث حشد "منتدى جنوه الاجتماعي"اكثر من 90 جمعية ونقابة في إطار واحد من اجل تنظيم المظاهرة والمؤتمر البديل في يوبيو 2001ولازال هذا الإطار قائما حتى الآن مشكلا آداه لتنظيم أحداث احتجاجية أخرى.
ما هى مطالب الحركة:
تريد الحكومات الرأسمالية الكبرى والشركات العمالقة تحويل كل شىء في العالم إلى سلعة قابلة للشراء والبيع!! بما في ذلك الخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم، وحتى الماء الذى نشربه والهواء الذى نتنفسه. وتحت شعار "عالمنا ليس للبيع" نظمت حركة مناهضة العولمة الرأسمالية العديد من الاحتجاجات ضد تلك المحاولات. وأيضا تناضل الحركة ضد محاولة فرض آلية السوق على كل جوانب الحياة. كما تنادى بان لجميع البشر الحق في أن يعيشوا حياة إنسانية محترمة، وألا يتناول طعاما ملوثا إشعاعيا، وألا يموتوا بسبب عدم قدرتهم على توفير المبالغ اللازمة للعلاج. تنادى أيضا بإسقاط الديون عن بلدان العالم الثالث، وتناضل ضد تلك المنظمات التى أصبحت تحكم العالم.. لا لصندوق النقد الدولى، ولا للبنك الدولى، ولا لمنظمة التجارة العالمية. وتقوم الحركة أيضا بتنظيم حمالات مشتركة من اجل أهداف محددة، مثل رفض توسيع نطاق عمل منظمة التجارة، أو رفض فتح جولة جديدة من المفاوضات.
الحركة بعد 11 سبتمبر
استغلت الحكومة الأمريكية وحلفائها الأوربيون فرصة أحداث 11 سبتمبر لكى تضرب حركة مناهضة العولمة، بادعاء أنها "تهدد الأمن العام" !! لكن هذا لم يفلح في إجبار الحركة على السكوت، ولم تفلح أيضا الحملات الإعلامية الواسعة جدا في "تضليل" "شعب سياتيل". لقد تهاوت سريعا الدعاية الاستعمارية المخادعة بتشكيل جبهة موحدة ضد الإرهاب. اكتشف الجميع أن الأمر قد انتهى إلى تحميل المهاجرين العرب والمسلمين مسئولية الأحداث، وسارعت البرلمانات الأمريكية والأوربية إلى إصدار قوانين للطوارئ!
وكان رد حركة مناهضة العولمة الرأسمالية هو النضال ضد ما يحدث. فقامت بتنظيم مظاهرة في إيطاليا ضمت اكثر من 250 آلف شخصا ضد الحرب الاستعمارية، كما نظمت في إنجلترا واليونان مظاهرات أخرى مناهضة للعدوان على الشعب الأفغانى. آتت بعد ذلك مظاهرات بروكسل لتكون خير دليل على تجذر الحركة واتساعها.
أن حركة مناهضة العولمة الرأسمالية لا زالت وستظل مستمرة في النضال من أجل مستقبل افضل للإنسانية. مستقبل يكون فيه العمل والإنتاج موجه لتلبية احتياجات جميع البشر، وليس لتحقيق الأرباح للرأسماليين. ونحن ندعوك لمشاركتنا هنا في مصر في النضال ضد العولمة الرأسمالية، حتى تتوحد أصوات جميع الفقراء في العالم وترتفع ضد الاستغلال والقهر معلنة:
البشر قبل الأرباح
عالمنا ليس للبيع أو الدمار
المصدر:http://www.ageg.net
=============(8/456)
(8/457)
العولمة وصراع الحضارات
أ. د. جعفر شيخ إدريس(*)
{الذٌينّ أٍخًرٌجٍوا مٌن دٌيّارٌهٌم بٌغّيًرٌ حّقَُ إلاَّ أّن يّقٍولٍوا رّبٍَنّا اللَّهٍ ولّوًلا دّفًعٍ اللَّهٌ النَّاسّ بّعًضّهٍم بٌبّعًضُ لَّهٍدٌَمّتً صّوّامٌعٍ وبٌيّعِ وصّلّوّاتِ ومّسّاجٌدٍ يٍذًكّرٍ فٌيهّا اسًمٍ اللَّهٌ كّثٌيرْا ولّيّنصٍرّنَّ اللَّهٍ مّن يّنصٍرٍهٍ إنَّ اللَّهّ لّقّوٌيَِ عّزٌيزِ} [الحج: 40].
فالصراع سنة ماضية، والصراع بين الحضارات إنما هو في جوهره صراع بين معتقدات لا بين طبقات ولا عرقيات. فأصحاب الطبقة الواحدة، والمنتمون إلى قومية واحدة بل قبيلة واحدة قد يقتل بعضهم بعضاً إذا اختلفت معتقداتهم. على هذا تدل الآية الكريمة التي تشير إلى اعتداء أناس من قبيلة هي أشرف قبائل العرب على أناس آخرين من هذه القبيلة نفسها؛ لأنهم خالفوهم في معتقدهم. وهذا هو الذي توصل إليه دارسو الحضارات من الغربيين؛ فإنهم يكادون أن يكونوا مجمعين على أن الحضارة وإن تكونت من عناصر كثيرة إلا أن أهم عنصر فيها هو العنصر الثقافي، وأن أهم عنصر في الثقافة هو الدين. ويلاحظون أن كبرى الحضارات كانت إلى حد كبير مرتكزة على أديان. فما الحضارة؟ وما الثقافة؟ وما العولمة؟ وما علاقة الصراع بين الحضارات بها؟
الحضارة والثقافة والعولمة:
كلمات الحضارة والمدنية والثقافة والعولمة وإن كانت عربية إلا أنها جعلت في استعمالنا الحديث رموزاً تدل على المعاني والمفهومات نفسها التي تدل عليها الكلمات الغربية التي جعلناها ترجمة لها. فلننظر في تلك المعاني والمفهومات كما هي عند أهلها. وأنسب ما نبدأ به هو الأمريكي هنتنجتون أول من أشاع تعبير صراع الحضارات في مقال مشهور نشر في صيف عام 1993م في مجلة Fo r eign Affai r s بهذا العنوان، ثم نشر موسعاً في كتاب بالعنوان نفسه. ينقل هنتنجتون عن عدد كبير من العلماء الغربيين تعريفهم لما أطلقنا عليه كلمة المدنية أو الحضارةcivilization ، والفرق بينها وبين ما نسميه ثقافة cultu r e؛ فما الحضارة أو المدنية وما الثقافة؟ يمكن أن نلخص مجمل أقوال من نقل عنهم هنتنجتون في مفهوم الحضارة والثقافة فيما يلي:
يضع المفكرون الألمان حداً فاصلاً بين الحضارة والثقافة، فالحضارة عندهم تشمل التقنية وسائر العوامل المادية، أما الثقافة فتشمل قيم المجتمع ومثله العليا وخاصياته الفكرية والفنية والخلقية الكبرى. لكن سائر المفكرين الغربيين خالفوا الألمان في هذا؛ فهم يرون أن الحضارة والثقافة كليهما تشيران إلى منهاج حياة أمة من الناس، وأن الحضارة إنما هي الثقافة مكبرة، وأن كليهما يشمل القيم والمعايير والمؤسسات وطرائق التفكير السائدة في أمة من الناس، وأن الدين هو أهم العناصر المكونة للحضارة، وأن الحضارة ليست متطابقة مع العرق؛ فأصحاب العرق الواحد قد ينتمون إلى حضارات مختلفة، كما أن الحضارة الواحدة ـ كالحضارة الإسلامية ـ قد تضم مجتمعات مختلفة الأعراق والألوان والأشكال. والحضارة هي أوسع وحدة ثقافية؛ فأهل قرية إيطالية مثلاً قد يتميزون ثقافياً عن قرية إيطالية أخرى لكنهم يشتركون في ثقافة إيطالية تميزهم عن أهل القرى الألمانية. والألمان والإيطاليون ينتمون إلى ثقافة أوروبية تميزهم عن الجماعات الصينية والهندية. هذا الذي يجمع الأوروبيين هو حضارتهم التي تميزهم عن الحضارات الصينية والهندية. فالحضارة هي أعلى تجمُّع ثقافي للناس، وأوسع مستوى للهوية الثقافية لهم. وليس فوق الانتماء الحضاري للناس إلا انتماؤهم إلى الجنس البشري(1).
أما العولمة فيمكن أن نقول إنها في أساسها تصيير المحلي عالمياً؛ فهي وصف لعمل مستمر تدل عليه كلمة Globalization لكنها في الوقت نفسه وصف لبعض نتائج هذا التعولم. النتيجة النهائية المثالية للتعولم أن تكون للعالم كله لغة أو لغات مشتركة، وأن تكون التجارة فيه مفتوحة ومتيسرة بين كل بلدان العالم، وأن يسود فيه نظام اقتصادي واحد، ونظام سياسي واحد، وأن تسود فيه عقيدة واحدة، وأن تكون للناس فيه قيم مشتركة في مسائل كحقوق الإنسان والعلاقة بين الجنسين، وأن يكون هنالك أدب عالمي يتذوقه الناس كلهم، وأن يسود فيه تبعاً لذلك نظام تعليمي واحد، وهكذا. وأن تكون كل هذه الأمور التي تعولمت مناسبة للناس من حيث كونهم بشراً، ومساعدة لهم على تحقيق طموحاتهم المادية والروحية، أي تكون للعالم حضارة عالمية واحدة. هذا هو الهدف النهائي المثالي، لكن العولمة قد تكون ناقصة، وقد تكون تامة من غير أن تكون مناسبة للبشر بل مفروضة عليهم لظروف طارئة.
المهتمون بقضية العولمة متفقون تقريباً على أنه وإن كانت الكلمة جديدة إلا أن ما تصفه ليس بجديد، بل يرى بعضهم أن السير نحو هذه العالمية بدأ منذ مئات السنين.
فإذا كانت هذه هي العولمة فما وسائلها التي تجعلها ممكنة وتحركها؟ يذكر بعض المؤرخين أنه كان للعولمة في الماضي سببان رئيسان هما الهجرة والغزو.(8/458)
ولكن لنا أن نسأل: لماذا يهاجر الناس، ولماذا تغزو بعض البلاد بعضاً؟ إنهم يفعلون ذلك؛ لأنهم يرونه ـ بحسب قيمهم ـ في مصلحتهم المادية أو الروحية. هذا إذن هو الدافع الأول المحرك للهجرة أو الغزو أو أي نوع آخر من أنواع الاتصال بين أمة وأمة. لكن الناس إنما يقررون الهجرة إلى مكان معين أو غزو أمة معينة بحسب ما يصلهم من معلومات عنها، وبحسب إمكانية الوصول إليها. هذان إذن عاملان آخران هما المعلومات ووسائل الانتقال؛ وهذان يعتمدان كثيراً على مستوى التقنية الذي تصل إليه الأمة المهاجرة أو الغازية أو الساعية لأي نوع آخر من أنواع العلاقات أو التأثير.
دوافع أمة لغزو أمة أخرى أو هجرة بعضهم إليها هي في غالبها دوافع اقتصادية، لكن بعضها قد يكون ثقافياً. والأمران متشابكان؛ فحتى الغازي لأسباب اقتصادية ينقل معه ثقافته وقد يفرضها على المهزومين إذا كان غازياً ذا إمكانات كبيرة، وقد يتأثر بثقافة من غزاهم، بل وقد يتبناها ويترك ثقافته، وقد يكون التأثر والتأثير متبادلاً. والمهاجر أو الغازي لأسباب ثقافية قد يستفيد فوائد اقتصادية، وقد يحدث لثقافته التي هاجر من أجلها ما يحدث للمهاجر.
كان غزو المسلمين للعالم مثالاً للغزو بدافع حضاري؛ فقد كانوا يعدون أنفسهم أصحاب رسالة موجهة للعالم كله كلفوا هم بتبليغها إليه بالوسائل السلمية ما أمكن، وإلا باللجوء إلى الحرب. لكن حتى المسلمين الذين كانوا يهاجرون طلباً للرزق كانت مهمتهم الرسالية ماثلة أمامهم، فأثروا في البلاد التي هاجروا إليها تأثيراً كبيراً، فنقلوا إليها ـ كما نقل الغزاة قبلهم ـ دينهم ولغتهم ولم يتأثروا بهم إلا في أمور لا تتعارض مع دينهم، بل قد يكون بعضها من مقتضيات الدعوة إليه، كتعلم لغتهم.
أما المسلمون الذين يهاجرون إلى البلاد الغربية في أيامنا هذه فإنهم يفعلون ذلك لأسباب في غالبيتها العظمى اقتصادية، وتجربتهم تدل على أن الغالبية العظمى منهم تفقد هويتها الثقافية ـ لغة ومظهراً وديناً ـ وتذوب في المجتمعات الغربية. لكن أكثر ما يحتفظون به ويؤثرون به في تلك المجتمعات هو طعامهم. غير أن قلة من هؤلاء الذين هاجروا لأسباب اقتصادية كانت ـ مع القلة التي تسافر لأسباب دعوية أو دراسية ـ سبباً في قبول بعض الغربيين للإسلام، وفي انتشار بعض المظاهر الإسلامية كالمساجد والمدارس والمكتبات والحجاب.
أما الغربيون الذين ذهبوا إلى العالم الإسلامي غزاة أو لأسباب اقتصادية فإن قلة قليلة منهم هي التي تأثرت بالثقافة الإسلامية أو اعتنقت الإسلام. ولذلك كان دخول بضعة آلاف من الجنود الأمريكان في الإسلام في المدة القصيرة التي قضوها في السعودية إبان حرب الخليج أمراً ملفتاً للنظر شاذاً عن القاعدة. لكن دخول غير الغربيين المهاجرين إلى العالم الإسلامي كان ولا يزال أمراً معتاداً.
أما غزو الغرب للعالم فقد كان في أساسه لأسباب اقتصادية، لكن الدافع الرسالي كان أيضاً حاضراً فيه حضوراً بيناً. فالغربيون كانوا يرون أن لهم رسالة هي أن يحضِّروا العالم ويجعلوه نصرانياً. وهم يرون أن حضارتهم تفوق الحضارات الأخرى لما تمتاز به من عقلانية لا توجد في غيرها، وأن هذه الميزة هي التي تؤهلها لأن تكون الحضارة العالمية. يرى أحد الأساتذة الأرجنتينيين أن أحسن من يعبر عن هذا الاعتقاد هو هيجل وينقل عنه قوله: «إن الروح الألمانية هي روح العالم الجديد». ويقول: إن هيجل يرى أن الروح الأوروبية التي هي روح ألمانيا هي الحقيقة المطلقة التي تحقق نفسها بنفسها من غير أن تكون مدينة لأحد سواها. ويقول ـ أعني الكاتب ـ: إن هذه القضية ـ يعني قضية هيجل ـ لم تفرض نفسها على أوروبا والولايات المتحدة فحسب؛ بل على كل المجال الفكري لأطراف العالم(1). ويقول أستاذ بجامعة ديوك الأمريكية: «إنه لأمر عجيب وإنها لحركة في غاية التعصب العنصري أن تعتقد أوروبا أن عليها منذ عام 1500م أن تحضِّر عالماً ظلت فيه منذ قرون حضارات (مثل الحضارة الصينية والهندية والإسلامية...) قبل أن تجعل من نفسها مركزاً جديداً للعالم باسم النصرانية وأوروبا زمرة من الجماعات الهمجية الصاعدة»(1)، وأحسن من عبر عن الجمع بين الدافعين الاقتصادي والحضاري هو المؤرخ الأسباني الذي سوغ ذهابه وزملاءه لغزو الجزر الهندية بقوله: «خدمة لله ولصاحب الجلالة، ولنقل النور إلى أولئك الجالسين في الظلام، ولنصير أغنياء كما أن كل إنسان يريد أن يصير»(2).
استطاعت أوروبا أن تفرض نفسها وكثيراً من جوانب حضارتها على تلك الحضارات بالغزو والاحتلال والاستعمار، ثم بوسائل الإعلام والضغوط الاقتصادية، والتهديدات العسكرية. يقول مؤرخهم المعاصر بشيء من الزهو:(8/459)
«إن التغيير الذي حدث في تاريخ العالم بعد عام 1500م لم يكن له سابقة. لم يحدث من قبل ذلك أبداً أن انتشرت حضارة واحدة في أرجاء الأرض كلها؛ فمنذ أقدم مسارح ما قبل التاريخ المشاهدة كان الميل دائماً نحو التنوع. أما الآن فإن التيار الثقافي بدأ يتحول. إن جوهر ما كان يحدث كان بادياً حتى منذ أواخر القرن الثامن عشر. فالأمم الأوروبية ـ بما فيها روسيا ـ كانت في ذلك الوقت قد ادعت لنفسها أكثر من نصف سطح الأرض، وكانت ـ بدرجات متفاوتة ـ قد سيطرت بالفعل على ما يقرب من ثلثه. ففي غرب الكرة الأرضية كانوا قد ازدرعوا جماعات مستوطنة تكفي بأعدادها الكبيرة لإنشاء مراكز حضارية جديدة؛ فقد خرجت أمة جديدة من المقاطعات البريطانية السابقة في أمريكا الشمالية، وفي الجنوب استطاع الأسبان أن يحطموا حضارتين ناضجتين ليغرسوا حضارتهم»(3).
ثم يذكر أنه كان هنالك في ذلك التاريخ ما يقرب من عشرين ألف هولندي في جنوب أفريقيا، وأن أستراليا كانت قد بدأت تستقبل مستوطنيها الجدد. وأن الزائر الأوروبي لشرق أفريقيا وإيران والهند وأندونيسيا كان سيجد فيها أوروبيين جاؤوا ليتاجروا ثم ليرجعوا إلى بلادهم في المدى القريب أو البعيد ليستمتعوا بالأرباح التي حققوها.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان الاستعمار الغربي قد شمل أفريقيا كلها، وأحكم سيطرته على شبه القارة الهندية وبقية آسيا. وفي أوائل القرن العشرين أخضع الشرق الأوسط كله ـ عدا تركيا ـ لسيطرته المباشرة، ومع نهاية عام 1920م كانت الإمبراطورية العثمانية قد قسمت بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. في غضون هذا التوسع قضى الغرب قضاءً كاملاً على حضارتي (Meso ame r ican) و (Andean)، وأخضعت الحضارات الهندية والإسلامية وأخضعت أفريقيا. وتوغل في الصين وجعلت تابعة للنفوذ الغربي لمدة أربعمئة عام تمثلت العلاقة بين الحضارات في خضوع المجتمعات غير الغربية للحضارة الغربية(4).
ذلك ما كان حتى عام 1920م؛ فماذا حدث بعده؟ استمر الغرب في تفوقه التقني واستمر في تأثيره الكبير على كل مجتمعات العالم لا سيما بعد الطفرة التي حدثت في تقنية الاتصالات والانتقال والتي زادت في إمكانية العولمة.
تتمثل هذه الهيمنة الغربية الآن ـ كما لخصها كاتب أمريكي ـ في أن الأمم الغربية:
- تملك وتدير النظام المصرفي العالمي.
- وتسيطر على كل أنواع العملة الصعبة.
- وأنها هي الزبون العالمي الأول.
- وأنها هي التي توفر للعالم معظم بضائعه الجاهزة.
- وأنها تسيطر على أسواق الرأسمال العالمية.
- وأنها تمارس قدراً كبيراً من القيادة الأدبية في كثير من المجتمعات.
- وأن لها قدرة على التدخل العسكري العظيم.
- وأنها تسيطر على المضايق البحرية.
- وأنها تقوم بمعظم البحوث والتطوير للتقنية المتقدمة.
- وأنها المتحكمة في التعليم التقني الفائق.
- والمهيمنة على المدخل إلى الفضاء.
- وعلى صناعة الطيران.
- وعلى وسائل الاتصال العالمية.
- وعلى التقنية العالية لصناعة الأسلحة(1).
العولمة لم تكن ـ كما كان يرجى لها إذن ـ أن تسود في العالم ثقافة إنسانية تناسب كل الناس وتساعد على تعاونهم وتطورهم والاستفادة من خيرات بعضهم بعضاً. بل كادت العولمة وكاد التحديث أن يكون تغريباً بسبب هذا التفوق الغربي وعدم تسامح حضارته مع الحضارات الأخرى.
إلى متى سيستمر هذا التفوق وهذه الهيمنة الغربية؟
يرى كثير من المفكرين الغربيين أنها لن تستمر طويلاً ـ على الأقل بهذا القدر الكبير. لماذا؟ هذا موضوع كبير لا يسعنا هنا إلا أن نشير إليه مجرد إشارات، فنقول:
1 - لأن سبب تلك القوة لم يكن لمجرد أسباب داخلية في الحضارة الغربية، وإنما كان أيضاً لظروف خارجية مواتية. أما الآن فإن ظروفاً خارجية أخرى لا قِبَلَ للغرب بتغييرها جعلته يضعف ضعفاً نسبياً للازدياد النسبي في القوة الاقتصادية والتقنية لبلاد غير غربية.
2 - يزداد تقديرنا لأهمية هذا الضعف النسبي للقوة المادية للدول الغربية إذا ما تذكرنا ما يقوله كثير من مفكريها بأن السبب الأساس لسيطرتها لم يكن قيماً ولا فكراً ولا ديناً وإنما كان هذه القوة. يقرر هنتنجتون هذه الحقيقة في صراحة عجيبة إذ يقول: لم يغلب الغرب العالم بتفوق في أفكاره أو قيمه أو دينه (الذي لم تعتنقه إلا قلة من أبناء الحضارات الأخرى) وإنما غلب بتفوقه في العنف المنظم. إن الغربيين كثيراً ما ينسون هذه الحقيقة، لكن غير الغربيين لا ينسونها أبداً(2).
بيد أننا يمكن أن نستدرك على هنتنجتون ومن يرى رأيه بأن الغرب وإن لم يكن في نفس الأمر متفوقاً في تلك المجالات إلا أن أهله كانوا يعتقدون فيه هذا التفوق، وأن هذا الاعتقاد الباطل كان دافعهم، مع الدوافع الاقتصادية للخروج لغزو العالم كما ذكرنا سابقاً.(8/460)
3 - أما الآن فإن هذا الضعف النسبي في القوة المادية للغرب يصحبه وربما سبقه فتور في الدافع الرسالي؛ فحماس الغربيين لدينهم المسيحي في بداية قرنهم الواحد والعشرين لم يعد كما كان في القرن الثامن عشر، ولم يطرأ هذا الفتور في الحماس الديني بسبب التأثر بالحضارات الأخرى في المكان الأول، وإنما كان في أساسه:
- بسبب دراساتهم العلمية لأصول دينهم التاريخية، تلك الدراسات التي شككت في الثبوت التاريخي لكثير من نصوصه، والتي أثبتت أن في هذه النصوص تناقضاً ومخالفة لبعض الحقائق العلمية نشأ عنه انقسامهم إلى أصوليين ـ أكثرهم من العوام ـ يؤمنون بحرفية ما في كتابهم المقدس، وليبراليين يعتقدون أنه ما كل ما فيه من عند الله، وأنه تأثر بالظروف الثقافية للزمن الذي كتب فيه.
- ثم كان التطور في مجال العلوم الطبيعية سبباً آخر؛ لأن منهج هذه العلوم يقوم على عقلانية لا وجود لها في دينهم.
- ثم زاد من ضعف الإقبال على الدين أو الاهتمام به النظام السياسي العلماني الذي يفصله عن الدولة، بل وعن الحياة العامة كلها.
4 - كان كثير من المفكرين الغربيين يأملون في أن يحل العلم الطبيعي محل الدين، وينجح في حل مشاكل البشرية التي عجز الدين عن حلها. لكن تجربة الحربين العالميتين العظميين، واعتمادهما على التقنية الحربية التي وفرها العلم الطبيعي أضعفت من هذا الأمل. ثم كانت كارثة هيروشيما فاقتنع كثير من المفكرين والعوام الغربيين بأن العلم الطبيعي إنما هو سلاح يعتمد حسن استعماله أو سوؤه على قيم لا تؤخذ منه هو، فلا بد أن يكون لها مصدر آخر.
5 - والشيوعية ـ التي هي نتاج غربي ـ والتي تعلق بأوهامها الآلاف المؤلفة من الناس في الشرق والغرب، باءت هي الأخرى بإخفاق ذريع.
6 - لم يبق للغرب الآن مبدأ يتعلق به ويدافع عنه ويعتز به إلا الديمقراطية الليبرالية وما يصاحبها من نظام رأسمالي. لكن حتى هذين يجدان كثيراً من النقد والمراجعة لعدم وفائهما ببعض القيم الإنسانية، ولا سيما إنصاف الفقراء، ولما نتج عنهما من تعميق للروح الفردية وما يصحبها من مشكلات اجتماعية.
7 - الروح السائدة في الغرب الآن ليست روحاً متفائلة، بل إن التشاؤم قد يصل بهم إلى الحد الذي عبر عنه كاتب فرنسي أزعج ذلك الشعب وأثار تشاؤمه حين كتب يقول كما نقل عنه مؤلف إنجليزي: «إن أوروبا بدأت تدخل في عصر ظلام جديد يتميز بالأوبئة والمتسولين وانهيار المدن، وبعث الخرافة، وعودة التهديد القادم من الشرق ـ من آسيا ومن الإسلام»(1).
ولعلنا نستطيع أن نقول إنه حتى لو لم يطرأ هذا الفتور في حماس الغربيين لدينهم ولرسالتهم، فإنه ما كان لحضارتهم أن تصير حضارة عالمية إذا ما فقدت القوة المادية؛ لأنها لا تملك في نفسها مقومات العالمية. لكن هذا موضوع آخر لا يسعنا الدخول في تفاصيله الآن، غير أن كثيراً من هذا القصور سيتضح إذا ما أظهرنا بعض مقومات عالمية الإسلام؛ إذ بضدها تتميز الأشياء. إلى هذا نتجه الآن وبه نختم مقالنا هذا.
ما الذي يؤهل الحضارة الإسلامية لأن تكون حضارة عالمية؟
أرى أننا ينبغي أن نميز أولاً بين الإسلام والحضارة الإسلامية؛ لأنه إذا كانت الحضارة هي في جوهرها المعتقدات والقيم والتصورات المتمثلة فعلاً ـ أو قل إلى حد كبير ـ في واقع أمة من الأمم، فما كل ما جاء به الدين المنزل من عند الله متمثلاً في الأمة التي تعلن إيمانها به. فالدين دينان: دين منزل من عند الله لا يتغير ولا يتبدل {إنَّا نّحًنٍ نّزَّلًنّا الذٌَكًرّ وإنَّا لّهٍ لّحّافٌظٍونّ} [الحجر: 9] ودين متمثل في واقع الناس يقترب من الدين المنزل أو يبتعد عنه، ولا يطابقه إلا في الرسول الذي جاء به، والذي صدق عليه قول زوجه أم المؤمنين: «كان خلقه القرآن»(1)، أما غيره فمنهم من يقرب منه قرباً شديداً، ومنهم من يبتعد عنه بعداً كبيراً وإن كان منتسباً إليه. فالحضارة الإسلامية المتمثلة في واقع المسلمين تتأهل للعالمية بقدر قربها من الدين المنزل الذي تنتسب به. فما مقومات العالمية في هذا الدين؟ إنها مقومات كثيرة وعظيمة، لكننا نكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى بعضها:
1 - أنه بينما كان الرسل من أمثال موسى وعيسى ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ يرسلون إلى أقوامهم خاصة فإنمحمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة، أرسل رحمة للعالمين، وجعله الله خاتماً للنبيين. فحتى لو كان اليهود والنصارى المنتسبون إلى هذين الرسولين مستمسكين بدينهم الحق، لما جاز لهم أن يجعلوا منهما دينين عالميين بعد نزول الدين الخاتم؛ لأن الله ـ تعالى ـ إنما أرسل هذين الرسولين إلى قومهما خاصة وإلى فترة محدودة. فالمسلم المستمسك بدينه العارف بهذه الحقيقة يستبشر بالتطور الذي حدث في وسائل الاتصال والانتقال الذي جعل من العالم قرية واحدة كما يقولون. يستبشر به؛ لأنه يرى فيه تصديقاً لنبوةمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ فلا أحد غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان يمكن أن يعلم أن العالم سيتقارب هذا التقارب فلا يحتاج إلا إلى رسول واحد.(8/461)
2 - أن إمكانية تقريب المسافات أمر حاضر في حس المؤمن الذي يقرأ قوله ـ تعالى ـ: {سٍبًحّانّ الذٌي أّسًرّى بٌعّبًدٌهٌ لّيًلاْ مٌَنّ المّسًجٌدٌ الحّرّامٌ إلّى المّسًجٌدٌ الأّقًصّا الذٌي بّارّكًنّا حّوًلّهٍ} [الإسراء: 1]، وحين يذكر كيف أن المكذبين ب صلى الله عليه وسلم ضاقت أعطانهم عن أن يروا إمكان ذلك، وحسبوا أن الممكن محصور في المألوف. ويقرأ المؤمن في كتاب ربه أن رجلاً عنده علم من الكتاب استطاع أن ينقل عرشاً بأكمله في أقل من طرفة عين من اليمن إلى الشام، ثم يقرأ في كتاب ربه ما هو أعجب من ذلك أن الرسو صلى الله عليه وسلم عُرج به إلى السماء السابعة ورجع في ليلة واحدة؛ وهي مسافة لو قطعها مخلوق بسرعة الضوء لاستغرقت منه البلايين من السنين الضوئية. ويصدق المسلم قول رسوله صلى الله عليه وسلم «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها»(2).
3 - أن هذا الدين هو فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ فهو يخاطبهم بوصفهم بشراً وضع الله في قلوبهم أساسه؛ فهو ليس بالأمر الغريب عليهم. وما أكثر الذين شعروا بهذا حين أسلموا وفاضت أعينهم مما عرفوا من الحق.
4 - ومما يزيد المسلم اقتناعاً بعالمية دينه أنه أثبت في الواقع أنه ليس بالدين الذي تحده ظروف جغرافية أو مناخية، أو زمانية أو ثقافية؛ فقد اعتنق هذا الدين أناس بينهم كل أنواع تلك الاختلافات، فلم يجدوا في شيء منها ما يحول بينهم وبين الإيمان به أو وجدانهم شيئاً غريباً عليهم. فالمسلمون في كل بقاع الأرض الآن أقرب إلى دينهم من النصارى أو اليهود لدينهم. فما زال المسلمون رغم كل تلك الظروف المختلفة يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، ويحجون إلى بيت الله الحرام، ويقرؤون الكتاب المنزل على رسولهم من غير تحريف ولا تبديل.
5 - وإذا كان تطور العلوم الطبيعية يقف الآن حجر عثرة في طريق بعض الأديان الباطلة، فإنه يقف شاهداً على صدق هذا الدين؛ لأنه لا يجد فيه ما يخالف شيئاً من حقائقه، بل يجد فيه تقريراً لبعض تلك الحقائق قبل أن يتمكن الإنسان من اكتشافها بوسائله البشرية. ولا يجد فيه مخالفة لمنهجه العقلاني التجريبي؛ إذ يجده ديناً لا يأتي بمحالات العقول، ولا ينكر ما يشهد به الحس. فإذا ما شعر الناس بأهمية الدين ـ كما يشعر بذلك كثير منهم الآن ـ وإذا ما صدهم عما عرفوه من أديان تناقضها المنطقي، أو مخالفتها للواقع المحسوس فسيجد ديناً فيه كل ما يريد من هدى واستقامة وراحة نفسية، وهو خال من تلك النقائص. فسيكون العلم الطبيعي بإذن الله ـ تعالى ـ سبباً من أسباب دخول الناس في هذا الدين على المستوى العالمي.
6 - والغرب وإن كان في مجموعه مهيمناً تلك الهيمنة التي ذكرناها سابقاً إلا أنه ليس شيئاً واحداً منسجماً متعاوناً، وإنما هو شعوب ودول وجماعات تختلف مصالحها ويثور التنافس والتحاسد بينها، ويرتاب بعضها من قوة بعضها ويخشى من سيطرتها.
إذا كانت تلك هي بعض المقومات التي تؤهل الإسلام ليكون دين القرية العالمية، ومركز حضارتها، فإن في واقع الأمة المنتمية إليه الآن ما يعرقل سيرها بدينها نحو تلك العالمية:
1 - أول تلك العوائق هو كون الحضارة الغربية قد نجحت في جعل بعض المنتسبين إليه عملاء لها في داخل الأوطان الإسلامية، ومكنت لهم فيها؛ فهم الذين قسموا الأمة وجعلوها متنازعة، وشغلوها بصراعات داخلية سياسية واجتماعية، فحالوا بذلك بينها وبين أن تسعى متكاتفة إلى الأخذ بأسباب التقدم المادي من علم طبيعي وتقنية وإنتاج؛ لأن وحدة الأمة ـ وإن كانت كافرة ـ شرط في هذا كما تشهد بذلك تجارب اليابان والأمم الغربية.
2 - وثانيها أن هذا النزاع كان وما يزال السبب في فقدان القدر اللازم من الحرية التي هي أيضاً شرط لذلك التقدم. لكن الغربيين الذين كانوا سبباً في فقدانها يعزون هذا الفقدان الآن إلى طبيعة العرب أو طبيعة الإسلام! وقديماً قال العربي: «رمتني بدائها وانسلَّت».
3 - وثالثها أن كثرة كاثرة من المنتمين إلى الإسلام قد حادوا عن جوهره التوحيدي، ففقدوا بذلك الشرط الذي علق الله ـ تعالى ـ نصره لهم عليه في مثل قوله ـ تعالى ـ: {وعّدّ اللَّهٍ الذٌينّ آمّنٍوا مٌنكٍمً وعّمٌلٍوا الصَّالٌحّاتٌ لّيّسًتّخًلٌفّنَّهٍمً فٌي الأّرًضٌ كّمّا اسًتّخًلّفّ الذٌينّ مٌن قّبًلٌهٌمً ولّيٍمّكٌَنّنَّ لّهٍمً دٌينّهٍمٍ الذٌي ارًتّضّى لّهٍمً ولّيٍبّدٌَلّنَّهٍم مٌَنً بّعًدٌ خّوًفٌهٌمً أّمًنْا يّعًبٍدٍونّنٌي لا يٍشًرٌكٍونّ بٌي شّيًئْا ومّن كّفّرّ بّعًدّ ذّلٌكّ فّأٍوًلّئٌكّ هٍمٍ الفّاسٌقٍونّ} [النور: 55].(8/462)
4 - ورابعها أن الغرب يبالغ في خوفه من الإسلام، ويزيد في هذا التخويف أناس يبالغون في خطر البعث الإسلامي الجديد متخذين من هذا التخويف وسيلة لتحقيق مآرب لهم لا تمت إلى مصلحة الغرب في شيء؛ وأكثر من يعينهم على هذا ويعطيهم أدلة يفرحون بها أناس لا عقل لهم ينتمون إلى حركة البعث هذه يكثرون من التهديد والوعيد للغرب من غير أن تكون لهم مقدرة على تحقيق أدنى شيء منه. وبسبب هذا الخوف المَرَضي من الإسلام ييالغ الغرب في ضغطه على الدول الإسلامية والتدخل في شؤونها ليقضي على كل بادرة نهضة إسلامية تطل برأسها فيها، {واللَّهٍ غّالٌبِ عّلّى أّمًرٌهٌ ولّكٌنَّ أّكًثّرّ النَّاسٌ لا يّعًلّمٍونّ} [يوسف: 21] .
5 - مع كل هذا الخطر الغربي فإن بعض الدعاة عندنا يتصرفون وكأنه لا وجود للغرب نفسه؛ فلا يتتبعون أخباره ولا يهتمون بمعرفة سياساته ومخططاته، ولا يفكرون في الرد على أفكاره، وكأنهم لم يسمعوا بمثل ما قال عالم الجزيرة الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن معرفة أحوال الكفار من أعظم أبواب الجهاد». وصار هؤلاء الدعاة ـ بسبب هذه الغفلة ـ مشغولين بمحاربة أناس هم معهم في صف البعث الإسلامي. إن نقد الخطأ ـ ولا سيما ما كان في مسائل العقيدة ـ أمر واجب وعمل عظيم؛ لكن نقد أخطاء المسلمين شيء، وجعلها الشغل الشاغل عن الخطر الداهم شيء آخر.
---------------------------------------
(ü) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) Samuel P. Hintington, The Clash of Civilizations, Simon & Schuste r , 1997, pp. 41- 43.
(1) En r ique Dussel زBeyond Eu r ocent r ism: The Wo r ld-System and the Limits of Mode r nityس in F r ed r ick Jameson and Masao Miyoshi, Edito r s, The Cultu r e of Globalization, Duke Unive r sity P r ess, London and Du r ham, 1998, pp. 3-4.
(1) Op cit. pp. 32-33, Walte r D. Mingnola, زGlobalization, Civilization P r ocesses and the r elocation of Languages Cultu r esس.
(2) J. M. r obe r ts, The Penguin Histo r y of the Wo r ld, Penguin Books, 1995, p.608.
(3) Ibid. p. 605. (4) Huntington, op.cit. p. 51.
(1) Jeffe r y صلى الله عليه وسلم Ba r net, Exclusion as National Secu r ity Policy, Pa r amete r s, 24 (Sp r ing1994), 54, as quoted by Huntington, op. cit. 81-
(2) Ibid. p. 51.
(1) r uling B r ittania, pp 316 -7.
(1) أخرجه مسلم، رقم 746، وأحمد في المسند، رقم 23460، واللفظ له. (2) أخرجه مسلم، رقم، 2889
المصدر:http://www.albayan-magazine.com
===============(8/463)
(8/464)
الطفل ومخاطر العولمة
مزن مرشد
يتعرض الطفل العربي لتيارات وقيم ثقافية متباينة، وأساليب متنوعة في التفكير عبر القنوات الفضائية العربية وغير العربية وعبر الحاسبات الآلية،وتتباين قيمه الاجتماعية والبنيوية لمعيشته مع قيم العولمة الحديثة المنقولة إليه عبر الكثير من الوسائل والتي بات من الصعب السيطرة عليها. في الوقت الذي تنحسر فيه أدوار كل من الأسرة والمدرسة في التنشئة الثقافية.
وإذا كان هذا يعرض الأطفال لأنماط ثقافية متباينة وأحياناً متعارضة مما يعرض مستقبل الثقافة العربية لمخاطر ذات صلة بجوهرها الروحي واللغوي، نتيجة لما يعيشه الأطفال العرب من مواقف صراع تزداد تأججاً بين وسائل مبهرة تستخدم في بث ثقافات مغايرة متنوعة المضامين والغايات وبين أساليب تقليدية غير قادرة على الصمود أو حتى جذب الطفل إليها. يحدث هذا في غياب خطة عمل ممكنة التنفيذ،بحيث نستطيع معها الاستفادة مما تقدمه وسائل الإعلام والاتصال من ايجابيات لأطفالنا مع ثقتنا بأن هذه الخطط البديلة مهيأة لجعل الطفل العربي قادراً على لاختيار الواعي لما يريده من هذا الكم من المعلومات بالتحديد،مستفيداً مما يتلقاه، محافظاً على هويته الحضارية ومقوماتها، ولعل من التساؤلات الحاملة لإشكاليات بحاجة إلى عمل علمي مخطط : كيف يتعلم الطفل لغة أجنبية تزداد الحاجة إليها في التواصل مع المعرفة والتقنية المعولمة، دون أن يخل هذا بتعلمه اللغة العربية التي هي أحد أهم مقومات ذاتيته الحضارية ؟
كيف يمكن أن نتيح للطفل التعامل مع الحواسب الآلية ووسائل الإعلام، خاصة التلفزة، دون أن ينعزل عن سياق التفاعلات اليومية مع أعضاء الأسرة بكل ما تحفل به تلك التفاعلات من مواقف للتعلم والتنشئة على القيم الأصيلة لحضارته، خاصة عمقها وجوهرها الروحي ؟
ومن هنا نلتمس الحاجة إلى وجود برامج مدروسة تهيئ لنا فتح المجال واسعاً أمام أطفالنا للانفتاح على هذا القادم وبعنف والاستفادة من إيجابياته ولغته وتقنياته وفي نفس الوقت حفاظه على كل ما هو أصيل في هويته العربية والمطلوب برامج موجهة ليس للطفل داخل الوطن العربي فحسب بل لكل طفل عربي حول العالم في أي مجتمع كان.
-تغيرات بنيوية:
طرأت على أدوار الدولة تغيرات أثرت سلبا في دعمها للخدمات المختلفة وفرص التشغيل وفى الوقت نفسه لا يزال المجتمع المدني العربي يعانى من مشكلات ومعوقات إدارية وقانونية ورقابية ومالية. ولهذا كان ولا يزال الرهان على الأسرة العربية لتنمية خصائص الطفل والارتقاء بفرصه. غير أن الواقع المتغير للأسرة يؤشر إلى ضعف إمكاناتها وقدراتها على القيام بما هو معقود عليها من أدوار ومهام. فهي تتجه إلى الحجم الأصغر وتعاني في شرائحها المتوسطة والمنخفضة من مشكلات متعددة، في الدخل والسكن والقدرة على الوفاء بمتطلبات العلاج والتعليم نتيجة لخصخصة قسم لا يستهان به من هذه الخدمات فضلاً، عن بزوغ اتجاهات لتغير قيمها من الجماعية إلى الفردية، ومن الروحية إلى المادية، مما يجعل مسألة الأسرة العربية أحد المسائل التي بحاجة إلى عمل دؤوب وجاد لاستعادة أدوارها في التعلم الذاتي والتنشئة الحضارية، خاصة وأن مؤسسات أخرى دخلت معها في تنافسية غير مخططة لجذب الطفل والتأثير فيه، خاصة وسائل الإعلام التي يأتي في مقدمتها التليفزيون بإبهاره وجذبه للطفل منذ بروز قدراته الإدراكية المبكرة.
إضافة إلى هذا التأثير الخطير لعولمة الثقافة يبقى المفرز الأكثر أهمية من مفرزات العولمة وهو الفقر وتأثيره القوي على سير حياة وتطور الأطفال روحيا وفكريا وثقافيا فبالرغم عدم وجود بحوث ومسوح دقيقة حول تأثيرات الفقر على فرص إعداد الطفل العربي، إلا أنه يمكن في ضوء قراءة متأنية للبيانات المتاحة التوصل إلى بعض الاستنتاجات الحافلة بالدلالة من منظور مستقبل الطفل العربي ويهم في هذا السياق الإشارة إلى أن اقل تقديرات لأعداد الفقراء العرب وصلت إلى وجود فرد من كل خمسة أفراد يعاني من الفقر بمعيار الدخل.أما إذا اعتمدنا على مفاهيم فقر القدرات capability pove r ty والحرمان البشري فأن النسبة ترتفع إلى ما هو أكثر من خمس السكان.(8/465)
فحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002، تصل نسبة السكان الذين لا يتوقع أن يعيشوا بعد سن الأربعين إلى 13% وتصل الأمية بين الذكور إلى 48.4 % وبين الإناث إلى 58.1% ولا تقل البطالة في معظم البلدان العربية عن 10% وتصل في بعضها إلى 30% وتصل نسبة الإعالة إلى قرابة 79%. وتتراوح نسبة الإناث العائلات لأسرهن إلى ما بين 16% - 20 %. لقد انعكست هذه الأحوال على أوضاع الطفل العربي وعلى فرص النهوض به وانعكست اكثر على الأحوال الصحية له فقد أنتجت الظروف الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية للأسرة العربية خاصة في البلدان المصنفة ضمن المستوى المتوسط والمنخفض في تقارير التنمية البشرية، مجموعة من المؤشرات الصحية اللافتة للانتباه : أن نسبة الرضع الذي يعانون من الهزال الحاد والمعتدل تتراوح خلال الفترة من 1995-2001 بين 1%-10% في كل من الأردن وتونس والبحرين والجزائر وسوريا وفلسطين وقطر ولبنان وليبيا ومصر والمغرب. وبين 10-17% في بقية الأقطار العربية. وان أمراض سوء التغذية والتقزم الحاد والمتوسط خلال الفترة المذكورة تراوح بين 8%- اقل من 20% في كل من الأردن الإمارات تونس البحرين الجزائر فلسطين قطر لبنان ليبيا مصر وما بين20% لأقل من 30% في كل من جيبوتي السعودية سوريا الصومال العراق عمان الكويت المغرب. وما بين 30%-52 % في كل من جزر القمر واليمن وموريتانيا ولا تزال معدلات وفيات الأمهات لكل 100.000 ولادة حية في عام 2000م75 ولادة في فلسطين و130 في لبنان 150 في الجزائر و390 في المغرب و370 في العراق و850 في اليمن و170 في مصر و520 في جيبوتي و1500 في السودان. ورغم ما طرأ من تحسن على معدلات وفيات الأطفال الأصغر من 5سنوات، فإنها لا تزال مرتفعة في عدد من الأقطار العربية مقارنة بغيرها من الأقطار العربية داخل الإقليم العربي وبأقاليم العالم الأخرى : فهناك دول عربية كان معدل وفياتها اقل من 30 في الألف وفقا لبيانات 2001 ليبيا وهناك مجموعة أخرى يتراوح المعدل فيها بين 30- اقل 60 في الألف كما في الأردن، الجزائر، فلسطين، لبنان، مصر، المغرب. أما بقية الأقطار العربية فقد كان المعدل بها اكثر من مائة حالة كما في جيبوتي والسودان والصومال والعراق وجزر القمر وموريتانيا واليمن.
كما تؤكد المسوح والدراسات العربية انخفاض معدلات الاستيعاب في مراحل التعليم خاصة الأساسي في الأقطار العربية المصنفة ضمن الدول المنخفضة التنمية، فهي تصل في ضوء تقارير التنمية البشرية الدولية إلى 21% في جيبوتي، 34% في السودان، 41% في موريتانيا وحوالي 50% في اليمن. كما ربطت تقارير التنمية البشرية والمسوح الوطنية، بين التسرب والفقر - مصر والمغرب. وانتشار هذه الظاهرة بين أطفال الريف أكثر من الحضر، وبين الإناث أكثر من الذكور في الشرائح الدنيا في الريف والحضر.
ولا نستطيع أمام هذه الأرقام إلا أن نتساءل :
هل نقف مكتوفي الأيدي لنرى عالمنا الذي نحلم به ينهار أمام أنظارنا أم ننتظر لنصل إلى مرحلة وجب علينا فيها تعلم لغة الغرب لتتاح لنا فرص العمل داخل بلداننا لا خارجها أو لينتهي ما نسميه تراثنا وحضارتنا وهويتنا الثقافية التي لا نزال نعتز بها?
المصدر:http://www.annahjaddimoc r ati.o r g
=============(8/466)
(8/467)
منظمة التجارة العالمية والعولمة الاقتصادية
د. محمد بن سعود العصيمي(*)
تمثل التجارة الدولية العصب المركزي لاقتصاديات دول العالم. ومع هذه الأهمية، فقد مرت النظرية الاقتصادية التي تعنى بدراسة التجارة الدولية بمراحل تطورت من خلالها، بدءاً بالنظريات التي كانت ترى الاكتفاء الذاتي لكل بلد أمراً ممكناً. بل مرغوباً فيه من الناحية الاقتصادية؛ وعليه فلا داعي للتجارة الدولية؛ وهو ما يستدعي فرض قيود عليها. ووصولاً إلى النظريات الحديثة التي ترى التوسع في التجارة البينية بين دول العالم، وأنها تزيد من رفاه العالم والدول المشاركة فيها على حد سواء؛ فلا بد من تحريرها من القيود.
وتاريخياً، وبناءً على الواقع السياسي والحربي لدول العالم، كانت التجارة الدولية تمر بموجات من المد والجزر في مجال الحمائية (ويقصد بها وضع موانع غالباً ما تكون مصطنعة أمام انسياب السلع من خارج البلد مثل الجمارك والقيود الكمية والنوعية على الواردات). فقد كانت الحروب، ولا تزال، تشكل العائق الأول أمام انسيابية التجارة الدولية بسبب فقدان الثقة بين البلدان المتحاربة. وكان يصاحب قيام الحروب وقف تصدير واستيراد الذهب والفضة على وجه الخصوص بسبب كونهما نقوداً مقبولة في أنحاء كثيرة من العالم لقرون طويلة (أو غطاء إلزامياً للنقود الورقية إلى عهد قريب). هذا هو السبب الأول الذي جعل أصحاب النظرية التجارية ينادون بالاكتفاء الذاتي وعدم القيام بعمليات تجارة عالمية؛ حيث إن فقدان المعدنين الثمينين في أوقات السلم يجعل البلد عرضة للضعف الشديد حال الحرب. ولذلك تزيد الموجات الحمائية (بفرض القيود المالية والكمية والنوعية) على التجارة بين البلدان أثناء وبعد الحروب. ولما تغير الوضع في النقود وأصبحت لا تصرف بالمعدن الثمين، خفَّت تلك الآثار من جهة، وزادت من جهة أخرى؛ فأصبحت الدول المتحاربة تتعامل بعملات قوية مصدرة في بلد غير مشمول بالحرب، لكن النقد الخاص بالدول المتحاربة قد يتلاشى للصفر. وآثار الحروب لا تتوقف على النقود، بل كثير من الأدوات الاقتصادية التي تعتمد على الثقة تتأثر تأثراً كبيراً بالحرب(1).
ولذلك كانت الحربان العالميتان ذواتي أثر كبير على التجارة العالمية بناءً على ما سبق. وقد استدعى ذلك من قادة العالم (القادر على ذلك) المبادرة لتصحيح مثل تلك الاختلالات في سوق التجارة العالمية حتى لا تتضرر البلدان وخاصة المتقدمة بعد الحروب. وقد قامت جهود كثيرة من دول العالم المتقدم لتصحيح الخلل الناشئ من الحروب على التجارة الدولية بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنها لم تلق الدعم الكافي من بقية دول العالم، وفتَّ في عضدها الكساد العظيم الذي ضرب أطنابه على الولايات المتحدة وأوروبا من عام 1929م حتى 1933م، وقيام الحرب العالمية الثانية فيما بعد. وكانت الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مناسبة للولايات المتحدة الأمريكية (البلد المنتصر في الحرب) لفرض سياستها على العالم، وتشكيل ما تريد تشكيله من المؤسسات والمنظمات العالمية التي تحل بها كثيراً من المشكلات التي نشأت من الحروب؛ بحيث تستفيد الاستفادة القصوى من تلك المنظمات. ومن هنا قامت منظمات دولية من أهمها: (منظمة الأمم المتحدة) والهيئات والوكالات التابعة لها، و (صندوق النقد الدولي)، و (البنك الدولي للإنشاء والتعمير). وكان الغرض منها ترتيب الشأن السياسي والاقتصادي والتمويلي في العالم. وفي تلك الحقبة نفسها، تم اقتراح إنشاء منظمة تعنى بالتجارة الدولية تسمى: (منظمة التجارة العالمية). وبالفعل تم ذلك، وبدأت اللجان المشكلة العمل بها منطلقة مما عرف فيما بعد بـ (ميثاق هافانا) الذي كان يراد منه تنشيط العلاقات التجارية العالمية. ولكن هذه المنظمة لم تقم على سوقها، لاعتراض الكونجرس الأمريكي عليها نظراً لسحبها كثيراً من صلاحياته(1).(8/468)
غير أن حاجة الدول لمنتدى دولي للتداول حول الشؤون التجارية المختلفة كان ملحاً على الرغم من رغبة الولايات المتحدة الأمريكية، فكان أن قامت جهود منفردة بين مسؤولي القطاعات التجارية والاقتصادية التي لها علاقة بانسيابية حركة التجارة الخاصة بها، ثم تبلورت تلك اللقاءات والاجتماعات عن أطر تلقى قبولاً عاماً بين الدول، مستمدة من (ميثاق هافانا)، شكلت فيما بعد الإطار النظري الذي بنيت عليه اتفاقية سميت: (الاتفاقية العامة للرسوم الجمركية والتجارة)، واختصاراً من الحروف الإنجليزية الأولى لاسمها، تدعى (جات) [GATT]. وكان الهاجس الأول فيها تحرير التجارة العالمية من القيود التي وضعت بعد الحرب؛ وذلك بخفض الجمارك، والحد من القيود الكمية والنوعية المفروضة على السلع من قبل الدول الأطراف في الاتفاقيات. وتولد عن تلك الاجتماعات اتفاقات بين دولتين أو أكثر، وتغطي في الغالب سلعاً صناعية من المهم لأطراف الاتفاقية وضع ضوابط للتجارة فيها. ولحاجة كثير من دول العالم لمثل هذا النوع من الترتيبات التجارية، زادت تلك الاتفاقات وتعددت أطرافها، وتوسعت بعض الاتفاقيات في أعضائها والسلع الصناعية التي تشملها، وأصبحت تلك الاتفاقيات مجالاً لإنضاج كثير من الأفكار الاقتصادية في مجال التجارة العالمية. ومع كل ذلك، لم تكن (الجات) منظمة بالمعنى الفني الدقيق، وإن كان لها أعضاء مشاركون مشاركة فاعلة في كثير من مجريات اتفاقياتها، ولكنها قدمت للعالم وللفكر الاقتصادي كثيراً من الأفكار الناضجة في مجالها؛ ومن ثم اكتسب كثير من ممارساتها عرفاً دولياً مهماً، وإن كان غير ملزم للأطراف فيها؛ وتبلورت تلك في خفض كثير من الرسوم الجمركية على جملة السلع محل المفاوضات(2). وكانت بعض الدول التي لا ترغب في الانضمام لهذا الملتقى الاقتصادي غير الرسمي تدخل طرفاً أو «عضواً» مراقباً فيه. وقد تبلور العمل التجاري العالمي المدار عن طريق اتفاقية (الجات) عن مبادئ مهمة ألخصها فيما يأتي(3):
1- مبدأ عدم التمييز (أو: قاعدة المعاملة الوطنية): والمقصود أن تتم معاملة كل دولة لسلع الدول الأخرى معاملة السلع الوطنية سواء فيما يتعلق بالضرائب المحلية أو الأنظمة المعمول بها. وفي هذا الإطار تعطى الدولة المشاركة في الاتفاقية وضع «الدولة الأَوْلى بالرعاية»؛ ويقصد به: حصول الدولة على كل المزايا الممنوحة من بلد آخر للبلدان الأخرى تلقائياً حتى لو لم يكن البلد طرفاً في اتفاقية محددة، ويستثنى من ذلك البلدان الداخلة في ترتيبات تجارية إقليمية.
2- مبدأ حظر القيود الكمية: والمقصود أن يتم امتناع كل الدول المشاركة في اتفاقية الجات عن استخدام القيد الكمي (أي: تحديد الواردات بكمية معينة) في أساليب التعامل التجاري مع البلدان العالمية. ومعنى ذلك أن الدول ليس لها إلا استخدام الرسوم الجمركية كآلية وحيدة لحماية الصناعة المحلية.
3- مبدأ تخفيض الرسوم الجمركية: والمقصود أن تتعاون الدول الأعضاء في الاتفاقية بخفض رسومها الجمركية أمام الواردات الأجنبية تحفيزاً للتجارة العالمية، وتقليصاً للعوائق السعرية عليها، أو على الأقل ربط تلك الرسوم بحيث لا تزيد.
4- التعهد بتجنب سياسة الإغراق: والمقصود أن تحاول الدول الأعضاء عدم دعم السلع الموجهة للتصدير دعماً مالياً مباشراً؛ بحيث إن الاتفاقية تريد ترسيخ قيم التنافس الحر بين الشركات والمنشآت التجارية بدون التدخل الحكومي.
ومن أهم أسباب التطورات التي حدثت في مسيرة (الجات) تلك الجولات من المفاوضات بين الدول الأعضاء التي كانت تعقد كل عشر سنين تقريباً، وتسمى في البلد الذي تعقد فيه غالباً. وكانت هذه الجولات مجالاً لإنضاج التجارب في الاتفاقيات المختلفة، ولسماع الأطراف المختلفين ما عند الآخرين حول الاتفاقيات، وللنظر في إدخال سلع أخرى لتشمل في الاتفاقيات القائمة. وقد تم عقد ثماني جولات، كانت الأولى في جنيف عام 1948م. ولكن أهم تلك الجولات هي الجولات الثلاثة الأخيرة: جولة كندي (1964 ـ 1967م)، وجولة طوكيو (1973ـ 1979م)، وجولة أوروجواي (1986 ـ 1993م)(1)، وكانت جولة أوروجواي أهم تلك الجولات على الإطلاق.
إرهاصات قيام منظمة التجارة العالمية(2):
لقد تغير موقف الولايات المتحدة المعارض لإنشاء منظمة تعنى بالتجارة العالمية على نحو غير معهود. ولا شك أن لذلك أسباباً تشترك فيها مصالح الولايات المتحدة مع أوروبا، وبقية البلدان الصناعية.
وأهم تلك المتغيرات في نظري:(8/469)
- استعار المنافسة بين الولايات ودول أوروبا على المصالح، خاصة بعدما تبين لدول أوروبا أن الولايات المتحدة قد شكلت في السنوات الخمسين الماضية أكبر تحد لدول أوروبا في جميع المجالات، خاصة التجارية والثقافية. ومن هنا ندرك أن تشكيل (الاتحاد الأوروبي) بين دول كانت متناحرة إلى عهد قريب لها لغات متعددة وثقافات متغايرة ومصالح متعارضة لم يأت اعتباطاً ولا ترفاً اقتصادياً أو سياسياً؛ بل هو حل غالي الثمن لمعضلات باهظة التكاليف(3). ومن المهم في هذا السياق ربط الاندماجات الكبيرة التي حصلت بين الشركات العالمية، والغربية على وجه الخصوص، في كثير من المجالات، مثل الصيرفة، والخدمات المالية، والاتصالات، والتأمين، والصناعات الأساسية وغيرها. ومن المهم الإشارة إلى أن مثل تلك الممارسات كانت إلى عهد قريب تعد مخالفة للقوانين الخاصة بمكافحة الاحتكار في بلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الصورة القانونية تغيرت مع تغير ساحة الصراع الاقتصادي.
- كثرة الدول التي كانت مستعمرات لدول أوروبا مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية؛ مما يجعل تقديم الدول الأوروبية لمزايا تجارية لهذه المستعمرات غير مخالف للنمط التجاري المعروف والمألوف عالمياً. ولما كانت تلك المستعمرات السابقة قد أصبحت بعد التحرير(!) مجالاً خصباً لنشاط الشركات متعددة الجنسيات، فقد كانت الشركات حاملة الجنسية الأوروبية فيها مقدمة على غيرها من الجنسيات، خاصة الأمريكية في المزايا التجارية. وهذا يعني خسارة كبيرة لأسواق كبيرة بإمكان الولايات المتحدة دخولها. والعكس صحيح، فهناك دول ترغب أوروبا أن تمارس فيها دوراً أكبر، وهي تاريخياً مجال لصولات وجولات الشركات الأمريكية. ومشكلة الموز التي ثارت بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أوضح مثال على كسب الولايات المتحدة السجال في المستعمرات(1)، ومشكلة تسليح بعض دول الخليج مثال آخر على كسب أوروبا الجولة في بعض الأسواق التقليدية للولايات المتحدة الأمريكية.
- عيوب اتفاقية (الجات) السابقة في النطاق وآليات الإلزام والتنفيذ. فمثلاً، توجد ثغرات قانونية في اتفاقية (الجات) في مجالي الزراعة والمنسوجات، جعلت تلك الثغرات الباب مشرعاً أمام الدول للتنصل من التزاماتها القانونية، مؤدية لعرقلة انسيابية التجارة. وكمثال على هذا، لم تستطع الولايات المتحدة إقناع اليابان ولا الصين في ظل اتفاقية الجات بفتح أسواقهما كاملة أمام السلع الأمريكية. ويضاف لذلك عدم شمول اتفاقية (الجات) تجارة الخدمات التي أثبتت أهمية قصوى في التجارة العالمية(2)، وقد اشتكت كثير من المنظمات الصناعية والتجارية من اختلاف المعايير الوطنية لحماية حقوق الملكية الفكرية. كذلك فإن كثرة النزاعات التجارية بين الدول في المجالات التجارية، وعدم وجود الآلية الكافية والقوية والمتفق عليها حسب نظم القانون الدولي كانت تعوق حل تلك المشكلات. ثم إن كثيراً من الممارسين للتجارة الدولية قد تبين لهم بوضوح أثر التغييرات والتعديلات التي تجريها دول العالم المختلفة على التنظيمات الخاصة بها والتي لها صلة بالتجارة على انسيابيتها عالمياً. يضاف إلى ذلك ازدياد أهمية الشفافية في التجارة الدولية وخاصة مع المعطيات الجديدة في النقود والأدوات المالية الائتمانية، وزيادة أهمية القدرة على التنبؤ في كل تلك المتغيرات الاقتصادية.
- خروج رؤوس أموال الشركات الكبرى من الدول الصناعية واستيطانها في دول نامية؛ مما شكل عبئاً كبيراً على إيرادات تلك الدول من الضرائب المفروضة على تلك الشركات. أضف إلى ذلك أن الدول المتقدمة أصبحت تنوء بأعباء ثقيلة من جراء حماية أسواقها المحلية، وخصوصاً دعم المنتجات الزراعية ومشكلات التنافس بينها حول تصريف فوائض الحاصلات الزراعية(3)، وقد واكب ذلك شكاوى من بعض تلك الشركات بخصوص بعض الأوضاع غير المواتية من التصرفات والممارسات التجارية للدول النامية وغيرها؛ مما يضيع مزيداً من الفرص لتلك الشركات. وبطبيعة وضع البلدان الغربية وتركيبتها؛ من حيث الانتخاب السياسي والعلاقة بين الساسة ورجال المال وحاجة كل منهما للآخر، كان لا بد من تدخل الحكومات الغربية لتعديل الأوضاع الدولية لصالح شركاتها.
- التخوف من نجاحات ظهرت بوادرها في الأفق من دول نامية، وآخذة في النمو، مثل تجربة (النمور السبعة) وغيرها. يضاف إلى ذلك انهيار المعسكر الاشتراكي الذي لم تكن بلدانه من أنصار تحرير التجارة. وكان انتهاء الحرب الباردة وإدخال إصلاحات اقتصادية مبنية على قوى السوق (الأقرب للاقتصاد الرأسمالي) فرصة مواتية لطبع تلك الاقتصادات الجديدة بالطابع الرأسمالي. ثم الاستفادة من تلك الفرص التجارية الضخمة في تلك البلدان، يضاف إلى ذلك تغير السياسات التجارية في البلدان النامية وذلك بترك سياسة الاستعاضة عن الواردات واتباع سياسة تشجيع النمو الموجه نحو التصدير، وما صاحب ذلك من تخصيص كثير من نشاطات القطاع العام في تلك الدول.(8/470)
- ثبوت نجاح المؤسسات والهيئات الدولية للدول الغربية لكونها أداة رخيصة الثمن مقابل المصالح التي تجنى منها؛ لذلك ربطت منظمة التجارة العالمية بالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي ربطاً إدارياً عضوياً. فالمنظمات الدولية أثبتت أنها أداة قوية جداً لتثبيت أوضاع مناسبة للدول الصناعية، ولتمرير حلول ومقترحات تصبُّ في مصلحة الدول الغربية، ولحل كثير من المشكلات الاقتصادية التي تمهد لتوسع كبير في مبيعات الدول الصناعية. وكل تلك المزايا بكلفة قليلة (مثل المساهمة النقدية من الدول الصناعية في رؤوس أموال تلك المؤسسات)، مع مزية قبول الدول الأخرى للقرارات بسبب كونها من منظمات دولية. ومما يدل على استفادة الدول الكبرى الصراع الذي يدور بينها على تنصيب مسؤولي تلك المنظمات.
ما سبق وغيره من الأسباب جعل من قيام منظمة تعنى بالتجارة العالمية أمراً ملحّاً جداً. وقد أدى ذلك إلى تغير قناعات دول كانت ترفض الفكرة من أساسها، مثل الولايات المتحدة الأمريكية(1).
منظمة التجارة العالمية(2):
التعريف: هي: «عبارة عن إطار قانوني ومؤسسي لنظام التجارة متعدد الأطراف. ويؤمن ذلك الإطار الإلزامات التعاقدية الأساسية التي تحدد للحكومات كيف يمكن صياغة وتنفيذ الأنظمة والضوابط التجارية المحلية. كما أن المنظمة منتدى يسعى إلى تنمية العلاقات التجارية بين الدول من خلال المناقشات والمفاوضات الجماعية والأحكام القضائية للمنازعات التجارية»(3).
تاريخ التأسيس: بعد ختام جولة أوروجواي في 15 ديسمبر 1993م، والتي وقع بيانها الختامي في اجتماع مراكش أبريل 1994م، تأسست منظمة التجارة العالمية رسمياً في أول يناير 1995م.
المحاور: ستكون منظمة التجارة العالمية مكاناً عالمياً لتحديد القواعد والأعراف العالمية للسلوك التجاري العالمي، ولتكون منتدى عالمياً لإجراء المفاوضات التجارية العالمية، ولتقوم بمهام محكمة دولية للمنازعات ذات الصبغة التجارية.
الأهداف: تهدف المنظمة إلى:
1- إيجاد بيئة آمنة وأجواء مستقرة للتجارة الدولية.
2 - استمرار تحرير التجارة من القيود (والمقصود: النفاذ إلى الأسواق). وفي سبيل ذلك تسلك سياستين مهمتين: الأولى الحد من سياسات الدعم للمنتجات المحلية، والثانية الحد من سياسات الدعم الموجهة للصادرات (وتسمى الإغراق). ومن الواضح أن هدف المنظمة من ذلك تكافؤ الفرص بين المصدِّرين في كل الدول الأعضاء، وأن لا تكون المنافسة بين الحكومات بل بين المنشآت الخاصة والشركات لما سبق بيانه من الأسباب. ويستحق البلد العضو وضع «الدولة الأَوْلى بالرعاية» حين ينضم للمنظمة. والمقصود حصول الدولة العضو على المزايا الخاصة بالتجارة المتاحة من عضو من المنظمة لأحد الأعضاء الآخرين دون قيد أو شرط وتلقائياً. ويستثنى من هذا تجمعات التكامل الاقتصادي التي تتم بين دول بينها تجمع جمركي خاص، ويستثنى كذلك بعض الترتيبات التفضيلية التي تقام بين الدول النامية تشجيعاً لها على الانضمام(4)، ثم يحصل العضو كذلك على أحقية معاملة سلعه المصدرة معاملة السلع الوطنية في البلد الأجنبي. ولا شك بأهمية هاتين المزيتين للعمل التجاري عموماً، مع أنهما في نفس الوقت التزام من كل عضو لكل الأعضاء بنفس ما حصل عليه من مزية.
الصكوك القانونية: هناك صكوك واتفاقات قانونية ملزمة للدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، وهي:
1 - الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارة (جات) [GATT](1)، والاتفاقات المرتبطة به (وهي تزيد عن 12 اتفاقية، و 4 مذكرات)، وتطبق هذه الاتفاقات على السلع.
2 - الاتفاق العام للتجارة في الخدمات (الجاتس) [GATS] الذي يطبق على تجارة الخدمات.
3 - اتفاق الجوانب المتصلة بالتجارة في حقوق الملكية الفكرية (تريبس) [T r IPS]. أما الاتفاقات الملزمة للأعضاء الموقعين عليها فقط فهي: الاتفاق الخاص بالتجارة في الطائرات المدنية، والاتفاق الخاص بشأن المشتريات الحكومية، والاتفاق الخاص بشأن منتجات الألبان، والاتفاق الخاص بشأن لحوم البقر(2).
النطاق: لا شك أن من أهم عيوب اتفاقية (الجات) عدم شمولها قطاعات تجارية واقتصادية مهمة، ولا شك أن التوسع في التجارة العالمية حتَّم دخول كثير من المجالات لمنظمة التجارة العالمية. ومن هنا شمل نطاق منظمة التجارة العالمية التجارة في السلع الصناعية ومشتقاتها، والتجارة في السلع الزراعية، وتجارة الملابس والمنسوجات، والتجارة في الخدمات. ولإكمال الإطار القانوني للتجارة السلعية، فقد أدرجت الموضوعات التالية إما كمواد أو كاتفاقيات مستقلة، وهي: الوقاية من الإغراق، القيود على الدعم والإجراءات التعويضية، الحماية الطارئة من الواردات على الصناعة المحلية، الضوابط الفنية والمواصفات، تراخيص الاستيراد، وقواعد تسعير السلع على الحدود، وقواعد الفحص قبل الشحن، وإجراءات شهادات المنشأ(3).(8/471)
وقد نص الاتفاق العام بشأن تجارة الخدمات (جات) على مجالات كثيرة مثل التعليم، والأعمال المصرفية، والتأمين، والمعلومات، والاتصالات السلكية واللاسلكية، ووسائل الترفيه. وحددت منظمة التجارة العالمية ما يزيد على 150 قطاعاً فرعياً للخدمات(4)، وقد نص على قاعدة «التغطية الشاملة» بخصوص الخدمات، والمقصود شمول جميع الخدمات المتاجر بها دولياً في الاتفاق، بغضِّ النظر عن طريقة توصيل الخدمة. وقد عرفت الاتفاقية أربع طرق للتوصيل:
1 - الخدمات المعروضة من دولة عضو إلى أخرى (مثل مكالمات الهاتف الدولية).
2 - الخدمات المعروضة من أراضي عضو للمستهلكين (مثل السياحة).
3 - الخدمات المقدمة عبر وحدة تجارية (مثل البنوك).
4 - الخدمات المقدمة من أشخاص (مثل الاستشارات)(5).
والوسيلة الرئيسة المتبعة لحماية المنتجات المحلية هي الأنظمة الوطنية، حيث لا يمكن وضع الرسوم الجمركية على الخدمات؛ ولذلك تتبين أهمية الإفصاح والشفافية للمنظمة وللمجتمع الدولي؛ وعليه، فتحرير التجارة في الخدمات يتم عبر تقديم الدول تعهدات من خلال المفاوضات لتعديل أنظمتها المحلية تدريجياً وحيثما أمكن نهائياً؛ لتكون متوافقة مع مبادئ منظمة التجارة العالمية. وليست معاملة الخدمات المقدمة من الأجانب معاملة مماثلة للخدمات المقدمة من المواطنين ملزمة في الخدمات مثلها في السلع، بل يكتفى بتقديم تعهدات لتعديل الأنظمة المحلية(6).
كذلك تشمل المنظمة التجارة في الحقوق الفكرية والأدبية: فقد نص اتفاق الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية (تريبس) التي تنصب على إبداع العقل البشري، على أن يشمل الاتفاق حفظ:
1 -حقوق التأليف (الكتب والأعمال الفنية الأخرى).
2 -حقوق براءات الاختراع (حقوق المخترعين).
3 - حقوق النماذج الصناعية (أشكال الرسوم الزخرفية). ويعتبر هذا الاتفاق مكملاً للاتفاقات التي وضعتها المنظمة العالمية للملكية الفكرية (وايبو) [WIPO](1)، ويحدد الاتفاق الحد الأدنى لمعايير الحماية ومددها التي يتعين توفيرها لحقوق الملكية الفكرية على اختلاف أنواعها. وتطالب الاتفاقية بمعاملة المنتج الأجنبي معاملة مماثلة للمنتج الوطني، ومراقبة تطبيق التشريعات على المستوى الوطني(2). وتتعهد الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية بتنفيذ إجراءات حماية الملكية الفكرية من خلال تشريعاتها المحلية، وتطبيق الإجراءات الرادعة لانتهاك هذه الحقوق، بما في ذلك الإجراءات المدنية والإجراءات الجنائية، وطبقاً للاتفاق، فإن الحد الأدنى لمدة حقوق الملكية الفكرية هو 50 سنة في حالة حقوق الطبع، و 20 سنة في حالة براءات الاختراع، و 7 سنوات في حالة العلامات التجارية(3)، «وإثر إبرام اتفاق تعاون مع منظمة التجارة العالمية سنة 1996م، بسطت (الويبو) الدور المنوط بها، وأثبتت مدى أهمية حقوق الملكية الفكرية في إدارة التجارة في عهد العولمة»(4).
كذلك تطرقت المنظمة لترتيب إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة حيث إن كثيراً من ممارسات الدول بخصوصها مشابه للدعم الذي تقدمه الدول لصادراتها؛ ومن ثم فإنه يجب إلغاء معظم هذه الإجراءات حيث إنها تؤدي إلى تغيير مسار التجارة الدولية وتشجيع الإنتاج غير الكفء، وتصبح بهذا إجراءات مخالفة لقواعد المنظمة؛ لذلك سعت المنظمة لتخفيف القيود المفروضة على الاستثمارات الأجنبية. ويحدد الاتفاق إجراءات الاستثمار ذات الأثر في التجارة (ترمز) [T r IMS] ومعنى هذه الإجراءات بأنها الشروط التي تضعها السلطات المحلية على الاستثمارات الأجنبية التي ترغب في العمل في نطاق إقليمها، والتي تنطوي على تقييد وتشويه للتجارة الدولية. وبمقتضى الاتفاق (المادة 15) يتعين على كل دولة عضو في منظمة التجارة العالمية إلغاء الإجراءات المحظورة خلال سنتين من قيام المنظمة إذا كانت من الدول المتقدمة. أما إذا كانت من الدول النامية فثمة معاملة تفضيلية تتمثل في إطالة الفترة المذكورة إلى 5 سنوات للدول النامية، و 7 سنوات للدول الأقل نمواً. ويتم إلغاء مثل هذه القيود بعد ذلك عن المشروعات الجديدة والمشروعات القائمة في الوقت نفسه. والشروط المحظور فرضها هي:
1 - شرط المكون المحلي أو شرط استخدام المستثمر الأجنبي لنسبة محددة من المكون المحلي في المنتج النهائي.
2 - شرط إحداث توازن بين صادرات المستثمر الأجنبي ووارداته.
3 - شرط بيع نسبة معينة من الإنتاج في السوق المحلية.
4 - شرط الربط بين النقد الأجنبي الذي يتاح للاستيراد والنقد الأجنبي العائد من التصدير(5).
هذه المجالات هي المجالات الموجودة الآن، ولا بد من تقرير أن نظام المنظمة يتيح لها إدخال كثير من المجالات التجارية الأخرى التي لم تكن مجالاً لمثل تلك الترتيبات العالمية من قبل.
قواعد الجات 1993م التي تطبق عند الحدود:
1 - تحديد القيم الخاضعة للرسوم الجمركية (تحدد الرسوم حسب سعر البيع، وللسلطات الجمركية إن شكت أن ترفض القيمة المعلنة، وتعطي الفرصة للتسويغ. فإن لم تسوغ، فللسلطات الجمركية التقدير حسب المعايير القانونية الخمسة المقررة).(8/472)
2 - تطبيق المعايير الإلزامية (وهي معايير الصحة والسلامة للمواطنين، ولا يجوز وضعها بطريقة تسبب وضع حواجز أمام التجارة؛ ولذلك يدعى لتطبيق المعايير الدولية، فإن لم توجد فتوضع على أساس المعلومات العلمية).
3 - تطبيق أنظمة الصحة، والصحة النباتية (كسابقتها).
4 -إجراءات الترخيص بالاستيراد (وهي تعنى بإرشادات إصدار التراخيص)(1).
قواعد دعم المنتجات الوطنية:
الدعم الحكومي للمنتجات الوطنية على نوعين:
أولاً: دعم محظور، وهو نوعان:
أ - دعم التصدير، ويسمى: (الإغراق)(2).
ب - الدعم الذي يستهدف تشجيع استعمال السلع المحلية بدلاً من المستوردة.
ثانياً: الدعم المسموح، وهو على نوعين أيضاً:
أ - دعم يسوِّغ التقاضي.
ب - ودعم لا يسوِّغ التقاضي: فيجوز في حال وجود دعم يسوِّغ التقاضي لجوء البلدان المستوردة المضرورة إلى تدابير تصحيحية مثل الرسوم التعويضية إذا ألحقت المستوردات المدعومة ضرراً بالصناعة المحلية. ولا يجوز ذلك في الذي لا يسوِّغ التقاضي(3).
التدابير التي يمكن للدول المستوردة أن تتخذها بناء على طلب الصناعة المحلية:
1 - الإجراءات الوقائية: وذلك بزيادة التعرفة أو فرض قيد كمي لمدة لا تزيد عن 8 سنوات بشرط أن الزيادة المفاجئة في الواردات قد تم التحقق من أنها تضر ضرراً جسيماً بأكثر من شركتين محليتين تنتجان الجزء الأكبر من الإنتاج المحلي لمنتوج شبيه.
2 - يحق فرض رسم تعويضي على المنتوجات المستوردة حين يمارس المورِّدون ممارسات تجارية غير مشروعة، وهي:
أ - الإغراق؛ وذلك حين يكون سعر التصدير أقل من سعر البيع في السوق المحلية للمصدر.
ب - بيع الشركات منتوجاتها بأقل بسبب تلقي دعم حكومي، بشرط ثبوت ضرر كبير لمنتجين محليين ينتجون 25% من إجمالي الناتج المحلي(4).
الهيكل الإداري للمنظمة(5):
يتكون الهيكل الإداري للمنظمة من المجلس الوزاري الذي يمثل فيه كل الدول الأعضاء، سواء كان العضو دولة منفردة أم اتحاداً جمركياً. ويلتقي المجلس الوزاري كل سنتين على الأقل، وتتخذ فيه القرارات الكبرى الخاصة بالمنظمة، من مثل الموافقة على دخول عضو جديد(6). وتكون القرارات بالإجماع أو التصويت بالأغلبية حسب نوع القرار. ويتفرع من المجلس الوزاري مجلس عمومي، وهو للعمل اليومي للمنظمة. وهو مثل سابقه ممثل فيه كل الأعضاء، ويرفع قراراته وما يتم النظر فيه للمجلس الوزاري. ويقوم المجلس العمومي بعملين مهمين: متابعة حسم النزاعات التجارية، ومراجعة السياسات التجارية للدول الأعضاء. ويفوض في ذلك ثلاثة مجالس: مجلس التجارة في السلع، ومجلس التجارة في الخدمات، والمجلس الخاص بحقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة. وهناك لجنتان مشكَّلتان من المجلس الوزاري: الأولى: «لجنة التجارة والتنمية» وتعنى بحل مشكلات الدول النامية، والثانية: «لجنة ميزان المدفوعات» وهي للتشاور في شأن الدول التي تضع إجراءات تقييدية على وارداتها لمواجهة صعوبة ميزان المدفوعات، وترفع هاتان اللجنتان توصياتهما للمجلس العمومي.
أهم الفروق بين اتفاقية الجات ومنظمة التجارة العالمية(7):
مع أن الفروق الآن قد باتت واضحة بين اتفاقية الجات ومنظمة التجارة العالمية، إلا أن بيان أهم الفروق قد يفيد في هذه العجالة. فـ (جات 1947م) ليست منظمة بالمعنى الكامل للمنظمات الدولية؛ ومن ثم فليس لها سكرتارية دائمة، ولا مبنى مستقل. وأما منظمة التجارة العالمية فهي منظمة عالمية بالمعني القانوني الشامل لها، مقرها جنيف، ويعمل فيها ما يزيد على 450 موظفاً، بميزانية تقارب مائة مليون دولار. ومع كل ما سبق، ترتبط المنظمة ارتباطاً وثيقاً جداً وعضوياً مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ثم إن التزامات الدول في اتفاقية الجات مشروطة ومرتبطة بالاتفاقيات الثنائية الموقعة وذات أجل قصير، وأما التزامات منظمة التجارة العالمية فدائمة ونهائية وملزمة للأعضاء(1)، وكانت اتفاقية الجات تغطي بعض السلع الصناعية وشيئاً من السلع الزراعية فقط، وأما منظمة التجارة العالمية فتغطي كل التزامات الجات السابقة وما تمت الإشارة إليه في النطاق أعلاه. ثم إن اتفاقية الجات تخلو من نظام متكامل وفعال لفض المنازعات، بعكس منظمة التجارة العالمية التي كان من أساس بنائها الإداري وجود مثل ذلك النظام، بل اعتني به ليكون فعالاً وسريعاً يتواكب مع إيقاع التجارة العالمية في العصر الراهن. ثم إن اتفاقية الجات ليست لها علاقة بالمنشآت الفردية ولا الأفراد من باب أوْلى. أما منظمة التجارة العالمية فيمكن للأفراد والمنشآت الفردية والشركات فضلاً عن الحكومات الاستفادة منها ومن أجهزتها المختلفة، وخاصة حين حدوث ممارسات تخالف منطلقات المنظمة، وفي حال النزاع القانوني حولها.
كيف تنضم الدول الجديدة للمنظمة:(8/473)
من المهم التذكير أن معظم أعضاء المنظمة الحاليين هم الدول الأعضاء في اتفاقية الجات الموقعين على جولة أوروجواي، كما نصت على ذلك المادة الحادية عشرة/أ من نظام المنظمة(2)، أما الدول الأخرى فلا بد أن تتقدم للمنظمة للحصول على العضوية. ولأي دولة أو إقليم جمركي حق العضوية، حسب المفاوضات التي يتفق عليها مع المنظمة. وفي حال رغبة دولة جديدة الدخول «تقدم الدولة الراغبة في العضوية مذكرة تغطي جميع السياسات التجارية والاقتصادية التي لها صلة بمنظمة التجارة العالمية. وتصبح المذكرة الأساس للفحص الشامل من قبل فريق العمل. ويعرض موضوع انضمام العضو الجديد على أعضاء المنظمة؛ بحيث يطلب من الأعضاء الذين لهم مصلحة في انضمام العضو الدخول في مفاوضات الانضمام. وعليه، تدخل حكومة البلد الجديد في مفاوضات ثنائية مع حكومات الدول الأعضاء الذين لهم مصلحة لتأسيس الالتزامات والتنازلات الخاصة بالسلع والخاصة بالخدمات. وهذه العملية الثنائية تحدد، من بين أشياء أخرى، المنافع التي سيحصل عليها أعضاء منظمة التجارة العالمية من السماح للدولة الراغبة في الانضمام من الدخول في منظمة التجارة الدولية. وبعد اكتمال فحص النظام التجاري ومفاوضات الوصول إلى الأسواق، يحدد فريق العمل الشروط الأساسية للانضمام. ترفع مداولات فريق العمل المضمنة في تقرير، ومسودة بروتوكول الانضمام، مع الجدول المتفق عليها من المفاوضات الثنائية إلى المجلس العمومي أو المؤتمر الوزاري لتبنيها»(3)، ولا بد أن يوافق ثلثا الأعضاء على الأقل على قبول انضمام الدولة الجديدة.
دور منظمة التجارة العالمية في صنع السياسة الاقتصادية العالمية:
نصت المادة الثالثة/ فقرة 5 على ما يأتي: «بغية تحقيق قدر أكبر من التناسق في وضع السياسة الاقتصادية العالمية؛ تتعاون المنظمة على النحو المناسب مع صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، والوكالات التابعة له»(1). ويشكل هذا القرار أساساً مهماً للوصول إلى «انسجام أكبر في صنع السياسة الاقتصادية العالمية»... «كما أدرك القرار مساهمة تحرير التجارة في نمو وتنمية الاقتصادات الوطنية. فمن الملاحظ أن ذلك التحرير يمثل أهمية خاصة لنجاح برامج التكيف الاقتصادي التي ينفذها عدد من أعضاء منظمة التجارة العالمية، وإن كانت تنطوي عادة على تكلفة تحول اجتماعي باهظة»(2)، ومن المهم ربط ذلك بما ترسله الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي من معلومات مهمة ودورية عن جميع بيانات وإحصاءات الشؤون الاقتصادية.
مراقبة السياسات التجارية الوطنية:
«يحتل نشاط متابعة السياسات التجارية الوطنية أهمية أساسية في عمل منظمة التجارة العالمية. ويرتكز هذا العمل على آلية مراجعة السياسة التجارية». و «تتمثل أهداف آلية مراقبة السياسة التجارية من خلال المتابعة العادية بزيادة وضوح (شفافية) وتفهُّم السياسات والممارسات التجارية، وتحسين نوعية المناقشات بين الأجهزة الحكومية والعامة على المشاكل، وإيجاد التقييم المتعدد الأطراف لآثار السياسات على النظام التجاري العالمي. وتتم المراجعة على أساس معتاد ودوري. ويجري فحص أكبر أربع دول تجارية في العالم ـ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان وكندا ـ مرة كل سنتين تقريباً. أما الدول الست عشرة التالية على أساس حصتها في التجارة العالمية، فيتم فحصها كل أربع سنوات، وبقية الدول كل ست سنوات مع إمكانية تمديد الفترة التحضيرية للدول الأقل نمواً. ويتولى المراجعة جهاز مراجعة السياسة التجارية ـ المؤسس على مستوى مماثل لمستوى المجلس العمومي ـ على أساس وثيقتين: وثيقة السياسة المقدمة من الحكومة محل المراجعة، ووثيقة مفصلة معدة بشكل مستقل من سكرتارية منظمة التجارة الدولية». «وإلى جانب جهاز مراجعة السياسة التجارية، تحتوي معظم اتفاقات منظمة التجارة العالمية على إلزام للحكومات الأعضاء بإبلاغ سكرتارية منظمة التجارة العالمية بالإجراءات الجديدة أو المعدلة. على سبيل المثال: يجب إبلاغ الجهاز المختص في منظمة التجارة العالمية عن تفاصيل أي تشريع جديد لمكافحة الإغراق والتعويض، والمواصفات الجديدة التي تؤثر على التجارة، وتعديلات التشريع الذي يؤثر على تجارة الخدمات، والقوانين والتشريعات الخاصة باتفاقية مظاهر التجارة ذات العلاقة بحقوق الملكية الفكرية. كما يتم تأسيس مجموعات خاصة لفحص الترتيبات الجديدة لمناطق التجارة الحرة والسياسات التجارية للدول المنضمة»(3).
فض المنازعات التجارية والاستئناف والتنفيذ:(8/474)
ينص التفاهم على القواعد والإجراءات التي تحكم فض المنازعات التجارية على أن «نظام فض المنازعات التجارية لمنظمة التجارة العالمية يشكل عنصراً أساسياً لتأمين الثقة والقابلية للتنبؤ للنظام التجاري متعدد الأطراف. ويلتزم أعضاء منظمة التجارة العالمية بعدم اتخاذ أي إجراء من طرف واحد ضد التصور بالإخلال في قواعد التجارة، بل اللجوء إلى نظام فض المنازعات متعدد الأطراف وبقبول قواعده ونتائجه. ويجتمع المجلس العمومي للمنظمة بصفته جهاز فض المنازعات للبت في الخلافات التي تنشأ من أي اتفاقية في الوثيقة الختامية لجولة أوروجواي ... وتهدف آلية فض المنازعات لـ «التحقق من الحل الإيجابي للخلاف». وأنه حل مُرْضٍ منسجم مع شروط منظمة التجارة العالمية، من خلال المشاورات بين البلدين المتنازعين. وفي حال إخفاق المشاورات، ترفع للأمين العام لبذل المساعي الحميدة للتوفيق بين وجهات النظر. وإذا لم تنجح المشاورات في الوصول إلى حل بعد 60 يوماً، يستطيع المدعي أن يطلب من جهاز فض المنازعات تأسيس هيئة لفحص الحالة، وتحديد اختصاصها وأعضائها، على أن تعطي الهيئة تقريرها النهائي بعد 6 أشهر، يمكن تخفيضها إلى 3 أشهر(4)، ويمكن الاستئناف ضد حكم صادر، ولكنه مقيد بالقضايا المتعلقة بالقانون المستخدم في تقرير هيئة الفحص والتفسيرات القانونية المقدمة منها. وجهاز الاستئناف معد من قبل جهاز فض المنازعات، من سبعة أشخاص، يخدمون 4 سنوات، لهم سمعة مميزة في القانون والتجارة الدولية وغير مرتبطين بأية حكومة. ويتبنى جهاز حسم المنازعات تقرير جهاز الاستئناف بعد ثلاثين يوماً من إصداره، ويقبل من أطراف النزاع بدون شرط، إلا مع الإجماع ضده. ويجب على الطرف المعني إظهار عزمه على تنفيذ التوصيات المتوصل إليها من جهاز فض المنازعات، ويمكن إعطاؤه فترة معقولة من الزمن ـ تحدد من جهاز فض المنازعات ـ للقيام بذلك. وفي حال إخفاق العضو في تنفيذ ما تقرر، يتفاوض على حل تعويضي للمدعي، كتخفيضات جمركية في بعض الجوانب المهمة للمدعي. وفي حال الإخفاق، يطلب المدعي من جهاز فض المنازعات سحب الامتيازات والالتزامات من الطرف الآخر، في نفس القطاع الذي تخوصم فيه، إلا إن كان غير عملي أو غير فعال، فيمكن سحب الامتيازات من قطاعات أخرى. وعلى أية حال، فإن جهاز فض المنازعات سيتابع تنفيذ التوصيات والقرارات المتبناة، وستبقى أية حالة معلقة على جدول أعماله حتى تحل المشكلة(1). ولا شك أن آليات فض المنازعات قد تم التوسع فيه مقارنة بالآليات الخاصة بـ (جات 1947م)(2).
ملحوظات:
1 - هناك نظر في المنطلقات التي قامت عليها المنظمة. فمثلاً تدعي المنظمة أنها تقوم على تحرير التجارة، ولكن ليس من المتوقع تحرير تجارات الدول الغربية ولا فتح أسواقها كما تطلب من الدول الأخرى، ولا تمكين العمال من كل دول العالم لدخولها(3). ثم يقال إنها منظمة ترغب في منافسة عادلة بين المنتجين وليس بين الحكومات. وليس من العدالة ترك قوى السوق (والآليات الرأسمالية) تصطرع بين خصمين: قوي جداً وضعيف جداً(4). ثم يقال إنها تريد ترسيخ مبادئ قانونية وأعراف دولية في المجالات التجارية. ولكن السؤال: مَنْ وضع تلك القوانين، ومَنْ أقر تلك الأعراف؟ إنها الدول الكبرى، ولا يراد للدول النامية إلا الإذعان لها وفتح أسواقها للمنتجات الغربية. ثم يقال إنها منتدى للحوار بين الدول. وكيف تتحاور دول ضعيفة مع أخرى متمكنة وقوية؟ بل كيف السبيل إلى ذلك بين الشركات، فضلاً عن الحكومات؟ فميزانية بعض الشركات الكبرى الأمريكية مثلاً تفوق ميزانية دول نامية مجتمعة! ومن الأمثلة الواضحة عدم جدية الدول الصناعية في الوصول لعقد اتفاقيات تكامل لأسواق العمل(5). ثم من يضمن حياد المنظمة في التحكيم بين الدول المتنازعة، وفي مجال فهم وتفسير الاتفاقات الموقعة، وفي مجال الرقابة الدورية على التجارة المحلية وقوانينها المستجدة، ومن يضمن حياد الخبراء الذين يقومون بتلك الأعمال، وجلهم بل كلهم من الغربيين!(6) وهذا لا يعني عدم حيادية الأسس التي قامت عليها المنظمة، ولكن القوي سيستفيد من حيادية الأسس أكثر من الضعيف.(8/475)
2 - الأهمية القصوى لمنظمة التجارة العالمية في صياغة منظومة التجارة العالمية، وخاصة مع التنسيق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وفي المقابل، نجد اهتماماً بارداً من الدول الإسلامية، سواء المنضمة لها أو التي على وشك الانضمام. ولذلك، تستفرد المنظمة والدول الفاعلة فيها بحياكة مصالحها داخل المنظمة، ومع الدول الراغبة في العضوية بشكل قوي بل ومقزز أحياناً. والموضوع له أبعاد كثيرة، فهو ليس موضوعاً اقتصادياً بحتاً، بل فيه الجانب العقدي والاجتماعي والاستراتيجي والسياسي والفكري والأمني والحضاري. والخلاصة هو أمر أمة لا بد من القيام نحوه بما يستحقه. ويستوي في الأهمية النظر للدول الإسلامية والعربية الأعضاء أو المتوقع دخولهم، وإن كان للأخيرين أهم قليلاً في المدى القصير نظراً لظروف المفاوضات المسبقة للانضمام. وقد مر قيام منظمات دولية كثيرة في غيبة من ذوي الرأي والحجا والدين، بل كانت فيه الدول العربية والإسلامية مستعمرات في الغالب، ولكن ذلك الوضع قد تغير كثيراً الآن. فلا بد من التنسيق على أعلى المستويات بين الدول الإسلامية والنامية حيال الموضوع وعلى جميع الأصعدة، سواء داخل المنظمة أم خارجها. ولا بد من سياسات إعلامية مناسبة، تصب في خانة توضيح عمل المنظمة لكل الأطراف المتأثرين بها، وهم كل ساكني الدول، وعلى وجه الخصوص مسؤولي المجالات التجارية والاقتصادية في الدول، وقطاع رجال الأعمال. ولا بد كذلك من رصِّ الصف تجاه المنظمة والشركات التي توجهها، وتجميع أوراق الضغط على الدول القوية كاملة، سواء في المجال التجاري أم غير التجاري. ولا بد من أن تنسق الدول النامية والإسلامية منها على وجه الخصوص كثيراً من خططها ورؤاها المستقبلية عبر منظمة التجارة العالمية، وأن تجعل منها إطاراً للفوز بمكاسب في التجارة العالمية، ومن أهم تلك المكاسب المتوقعة إدخال السلع والمواد الأولية التي لم تكن مجالاً لعمل المنظمة التي انطلقت من مصالح الغرب الصناعي. ولعل في هذه النقطة مجالاً للتعاون بين الدول الإسلامية لم يكن أصلاً موجوداً في الأجندة السياسية، خاصة مع كون منظمة التجارة العالمية قابلة للتوسع في المجالات التي تشملها.
3 - من أهم مساوئ قيام المنظمة بكامل عملها المنصوص عليه أن يتم الدمج الكامل للاقتصاد الإسرائيلي في اقتصاديات باقي الدول العربية والإسلامية. ولا شك أن بعض الدول العربية لم تكن عضواً كاملاً في الجات بسبب المقاطعة العربية الإسرائيلية. ومع سير تلك المقاطعة نحو التلاشي، والتقارب العربي الإسرائيلي، لم يبق إلا وضع النقاط على حروف العلاقات التجارية. ولا شك أن الدول العربية مجتمعة، والدول الإسلامية، قد تعاني من تفوق الإسرائيليين في بعض الجوانب التجارية. ولكن العبرة ليست في الجانب التجاري، ولكنه في الجانب الاستراتيجي العقدي والفكري في صراع المسلمين مع يهود.
4 - تثور بعض الأسئلة التي تتفاوت درجة إلحاح الجواب عليها من بلد إلى آخر: فإلى أي مدى تتحمل الدول النامية التغيرات الكبيرة التي ستنقص كثيراً من الصلاحيات (السياسية والتنظيمية والمالية والتجارية) غير المحدودة التي تتمتع بها؟ وهل في مقدور تلك الدول تحمل النفقات الناتجة عن تخفيف الجمارك التي تشكل مصدراً لدخل كثير منها(1)؟ وهل بديل الرسوم الجمركية وهي الضرائب (أو زيادتها) بديل عملي وبدون تكلفة اجتماعية [ومن ثم سياسية] عالية؟ وهل تمت دراسة أثر العوامل السلبية الناتجة من تفعيل منظمة التجارة العالمية لكل أدواتها واتفاقياتها على اللحمة السياسية والاجتماعية والمالية والاقتصادية للدول النامية؟ خاصة أن الاتفاقية نصت على سموها على النظم المحلية(2). وهل تحررت فائدة الانضمام بالنسبة للدول التي يغلب على اقتصادياتها الجانب الاستهلاكي؟ وما موقف الدول المنضمة لمنظمات تعنى بمنتوجاتها، مثل أوبك، أو غيرها من المنظمات التي قد ينظر لها على أنها تكتلات تجارية (كارتل) تمنع انسيابية التجارة العالمية؟(8/476)
5 - حرص الدول الغربية على مصالحها التجارية. وحتى مع النزاعات الكبيرة التي بينها، يجد المراقب بعداً استراتيجياً في التعاون بينها لمصالحها، والتنسيق في المواقف بينها. ولولا النزاعات التي تند عن التنسيق لم يعرف المتابع كثيراً من خفايا دهاليز السياسات التنسيقية! وقد انعكس ذلك جلياً في الضغوط الموجهة للدول التي تريد الانضمام، كالصين وتايوان والسعودية وماليزيا وغيرها. وقد كان لكثير من الضغوط بعد غير تجاري، كما صرح بذلك بعض مسؤولي تلك الدول، كالبعد الثقافي والديني والسيادي لتلك الدول. وقد تبين من لقاء المنظمة السابق في سياتل (واللقاءات الدولية الأخرى للمنظمات العالمية) وجود الخلافات العميقة بين الدول الغربية، ومقدار التعامل الحضاري بينها في تفويت المفاسد الكبرى للحصول على المصالح المرجوة، ومقدار المرونة مع الشارع السياسي لصالح الشارع التجاري (ولو كان تمثيلاً). والدول الإسلامية والنامية أولى بذلك بدون شك. وقد تبين كذلك بوضوح مقدار ما تكنه تلك الدول الغربية للدول النامية من احتقار وتسفيه حيث لم تأبه لها ولم تترك مجالاً لمندوبيها للكلام، بل إن بعضهم لا يدعى لحضور بعض الجلسات كما صرح بعضهم بذلك لوسائل الإعلام. وقد تبين من حجم المعارضة الشعبية الغربية للمنظمة مدى نضج الفرد الغربي مقارناً ببقية العالم، فحيث مست بعض مصالحه مسا يسيراً فقد قام وسعى ضد من مسها، ولم نر المثل لا من حكومات الدول النامية والإسلامية ولا من شعوبها. بل قد شملت المعارضة المنظمات التي لها سنوات طويلة من العمل العالمي، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير. وأرى أنه لا بد من استغلال تلك التجمعات الشعبية المعارضة لصالح العمل العربي والإسلامي في فضح الممارسات الشائنة للمنظمات العالمية.
6 - لا ينكر أن للمنظمة والانضمام إليها فوائد. ومما ذكر منها على سبيل الإجمال: خفض تكاليف المعيشة بسبب خفض الضرائب الجمركية، وزيادة نفاذ صادرات الدول النامية إلى الأسواق المتقدمة، والتعامل الحاسم والبناء مع الخلافات التجارية العالمية، مع إمكانية ذلك لكل من الأفراد والمؤسسات التجارية فضلاً عن الحكومات، وتقليل الأعباء المالية على التجار بسبب توحيد الإجراءات التجارية، وحيادية آليات المنظمة يجعلها صالحة لجميع الدول بدون استثناء، والاعتماد على قوى السوق وترك السياسات التعويضية المكلفة لكل من الدول والأفراد، وتقليص المفاجآت في النظم التجارية في دول العالم حيث لا بد من إخبار المنظمة عن ذلك مسبقاً، ثم إن أحكام بعض الاتفاقات خاضعة للمراجعة والتعديل بعد التفاوض عليها، ثم إنه قد ثبت أن جعل بعض الصلاحيات في يد منظمات عالمية يقلل الفساد الإداري في الدول التي يوجد فيها التسلط الفردي والمحسوبية. وفي المقابل، ذكرت بعض السلبيات في عمل المنظمة، منها: ارتفاع الأسعار بعد تطبيق نظم حقوق الملكية الفكرية التي تزيد من الاحتكار وتحميه، وخفض الموارد المالية للدول التي تعتمد على الرسوم الجمركية، والحد من نقل التقنية للدول النامية، وتوقع إفلاس عدد كبير من الأعمال في الدول النامية بعد دخول الشركات الكبرى ومنافسة الصناعات المحلية وما يترتب على ذلك من البطالة، ومن ثم التغييرات السياسية والاجتماعية، خاصة أن آليات المنظمة هي آليات السوق وهي لا ترحم الضعفاء ولا عديمي الخبرة. أضف إلى ذلك قضية التحاكم إلى محكمة دولية لا تحكم بشرع الله سبحانه وتعالى.
7 - قرر أحد الكتاب القانونيين المختصين بالمنظمات العالمية أن أهم جانب يمكن للدول النامية الإفادة منه تأخر تطبيق كثير من مبادئ وآليات التنظيمات الدولية. فليس من المستغرب أن يعرف أن بعضاً من استثناءات صندوق النقد الدولي سارية المفعول بالرغم من مرور أكثر من نصف قرن على إقرارها(1). يضاف إلى ذلك فضفاضية بعض المصطلحات والحقوق المنصوص عليها في الاتفاقيات. مثال ذلك: التفريق في الدعم المسموح بين نوعين: الأول يسوغ التقاضي، وهو ما أحدث آثاراً سلبية على الصناعة المحلية للدولة المستوردة. ولا شك أن مثل تلك الآثار مما يطول النقاش حوله. وخاصة أن المنظمة مع ما يقال عن قوتها وتسلطها قد عانت من إخفاق ذريع في دورة سياتل. وقد يكون لحوادث التفجيرات في الولايات المتحدة الأمريكية أثر كبير في إعاقة سير عولمة المنظمة. والغاية هي الإفادة من تلك الثغرات والفرص في إعادة ترتيب الصف العربي والإسلامي نحو المنظمة.(8/477)
8 - ختاماً: هل ما سبق يعني عدم الانضمام للمنظمة؟ لا، بل أرى أن الانضمام بأقل التكاليف وبأسرع وقت، وبأكثر قدر من الضغط المعاكس على الدول المفاوضة حين الانضمام، وبأكبر قدر من التنسيق بين الدول الأعضاء الحاليين الذين لهم مصلحة في دخول الدولة الجديدة، وبلعب كافة الأوراق الأخرى التي قد لا يكون لها دخل كبير بالعمليات التجارية أو بمتطلبات الانضمام، كل ذلك أوْلى من الانتظار. والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الانضمام للمنظمات الدولية من المصالح المرسلة، التي يجب الموازنة فيها بين المصالح والمفاسد إجمالاً، ثم لكل دولة على حدة. لكن ما سبق تقريره هو الرأي الذي أراه، بالشروط المذكورة (خاصة ما ذكرت في رقم 2 أعلاه). ولا شك أن بعض المفاسد التي ذكرت في الانضمام كبيرة جداً، ولكن النظر إلى واقع المسلمين وما هم عليه من فرقة يكرس القول إن الانضمام والاتحاد بين الدول العربية والإسلامية من الداخل سيكون فرصة لتوحيد الكلمة. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
------------------------------------
(*) أستاذ الاقتصاد الإسلامي المشارك، كلية الشريعة ـ الرياض، مدير إدارة الرقابة الشرعية ـ شركة الراجحي المصرفية للاستثمار.
(1) منظمة التجارة العالمية واقتصاديات الدول النامية، عبد الناصر نزال العبادي، 1999م، الطبعة الأولى، دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان، ص 15، [وسيشار له لاحقاً بـ: منظمة التجارة العالمية]، ومنظمة التجارة العالمية، التجارة في المستقبل، ترجمة د. سليمان التركي، نشر مجلس الأعمال الأمريكي ـ السعودي، بدون تاريخ، 9. [وسيشار له لاحقاً بـ: التجارة في المستقبل].
(1) منظمة التجارة العالمية، ص 89 ـ 93.
(2) فبعد أن كانت هذه الرسوم الجمركية تعادل في المتوسط 47% في الدول الأعضاء في اتفاقية الجات عام 1947م، انخفضت إلى ما بين 6% و 8% في بداية السبعينيات. أما بعد جولة طوكيو فقد أصبحت هذه التعريفة تعادل 6% في المجموعة الأوروبية، و 4.5% في اليابان، و 4.9% في الولايات المتحدة الأمريكية. منظمة التجارة العالمية، ص 49 ـ 50.
(3) منظمة التجارة العالمية، ص 30 ـ 38، التجارة في المستقبل، ص 6 ـ 7.
(1) انظر الكلام حول الجولات الثلاث الأخيرة مفصلاً في منظمة التجارة العالمية، ص 38 ـ 89.
(2) منظمة التجارة العالمية، ص 55 - 60، مركز التجارة الدولية الأونكتاد/ منظمة التجارة العالمية والأمانة العامة للكومنولث، دليل الأعمال إلى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، ترجمة مكتب طلال أبو غزالة الدولية، جنيف، 1995م، ص 2 ـ 3. (وسيشار له لاحقاً بـ: دليل الأعمال).
(3) هناك اتحادات تجارية دولية كثيرة الآن. ومن أهمها الاتحاد الأوروبي (15 عضواً)، آسيان (6 أعضاء)، السوق المشتركة لشرق إفريقيا وجنوبها (23 عضواً)، حلف دول الإنديان (5 أعضاء)، النافتا (3 أعضاء). دليل الأعمال، ص 79.
(1) تتلخص مشكلة الموز بأن الاتحاد الأوروبي يضمن لبعض الدول اللاتينية استيراد جزء من إنتاجها من الموز وبيعه فيها؛ مما يعني منافسة غير عادلة اقتصادياً مع الموز القادم من بقية الدول والشركات التي قد تواجه بالحجز الجمركي، وخاصة التي لها صلة بالشركات الأمريكية. ولما اشتكت الشركات الأمريكية التي تصدر للاتحاد الأوروبي من هذا التصرف حيث يعطي امتيازاً لمنافسيهم ليس بمقدورهم دفعه، قامت الولايات المتحدة برفع شكوى على المنظمة من أن هذا التصرف يعارض الأسس الجديدة المتفق عليها في المنظمة، فرفض الاتحاد الأوروبي الانصياع، فردت الولايات المتحدة بزيادة الجمارك على الواردات من الاتحاد الأوروبي، ثم حسم الجدل قانونياً لصالح الولايات المتحدة في المنظمة. انظر قائمة بإحدى وعشرين قضية مرفوعة لمنظمة التجارة العالمية، في: منظمة التجارة العالمية، ص 98 ـ 101.
(2) بلغت تجارة الخدمات عام 1993م قريباً من ألف مليار دولار للصادرات ومثلها تقريباً للواردات لنفس السنة. دليل الأعمال، ص 289 ـ 290. وهي بهذا تصل إلى 20% من إجمالي التجارة العالمية. منظمة التجارة العالمية، ص 75.
(3) منظمة التجارة العالمية، ص 117.
(1) من الجدير بالذكر أن دخول الولايات المتحدة الأمريكية الجدي في موضوع المباحثات الخاصة بالتجارة العالمية بدأ في عام 1975 بعد إقرار الكونجرس الأمريكي إعطاء صلاحيات واسعة للرئيس الأمريكي. منظمة التجارة العالمية، ص 44 ـ 45.
(2) ركز الباحث في المعلومات المباشرة عن منظمة التجارة العالمية على الكتاب الصادر منها بعنوان: التجارة في المستقبل، ما عدا ما عزي إلى غيره من المراجع.
(3) التجارة في المستقبل، ص 1.(8/478)
(4) تتيح منظمة التجارة العالمية ترتيبات إقليمية بين الدول لزيادة تحرير التجارة، استثناء من مبدأ الدولة الأولى بالرعاية، بشرط عدم زيادة الحواجز على التجارة مع بقية العالم. ويمكن أن تكون هذه التجارة الإقليمية بصفة اتحاد جمركي، أو منطقة التجارة الحرة حيث يحتفظ العضو بسياسته التجارية الخارجية مع تجارة الدول غير الأعضاء في التجمع. وفي كلتا الحالتين يجب إزالة جزء كبير من الرسوم والعوائق الجمركية بين الدول الداخلة في التجمع. التجارة في المستقبل، ص 21.
(1) سميت الاتفاقات السابقة المشمولة باتفاقية الجات القديمة: (جات 1947م)، وأما الجديدة فهي: (جات 1993م)، وتشمل الثانية الأولى حين الإطلاق الآن. ويشتهر اسم (منظمة التجارة العالمية) أكثر من اشتهار (الجات) الآن
(2) دليل الأعمال، ص 4 ـ 5، التجارة في المستقبل، ص 54 ـ 56.
(3) التجارة في المستقبل، 45 ـ 52.
(4) ولذلك قامت كثير من دول العالم بتحرير سوق الاتصالات استعداداً للمنافسة القادمة التي تحتمها الحقائق التقنية الحديثة، ومتطلبات المنافسة العالمية حسب قواعد منظمة التجارة العالمية.
(5) التجارة في المستقبل، ص 34. (6) دليل الأعمال، ص 13.
(1) على الرغم من تأسيس منظمة عالمية للملكية الفكرية (WIPO) منذ أكثر من ربع قرن (1967م) ـ أصبحت تضم في عضويتها 132 دولة، إلا أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي قد أصرت على إدراج هذا الموضوع في مفاوضات جولة أوروجواي، وعلى الوصول إلى اتفاق بشأنها في إطار منظمة التجارة العالمية. منظمة التجارة العالمية، ص 80.
(2) دليل الأعمال، ص 14 ـ 15، والجدير بالذكر أن اتفاقية الخدمات تتيح للدول الأعضاء استثناءات عامة من تطبيق قواعده لحماية الأخلاق العامة أو النظام العام وحماية الأمن القومي، على ألا تنطوي الإجراءات المتخذة على التمييز بين الدول أو حماية مقنعة. منظمة التجارة العالمية، ص 74.
(3) منظمة التجارة العالمية، ص 80. (4) منظمة الملكية الفكرية، من موقع (الويبو) على شبكة الإنترنت.
(5) منظمة التجارة العالمية، ص 78 ـ 79، باختصار.
(1) دليل الأعمال، ص 8.
(2) ويجوز هذا للدول النامية التي يقل دخل الفرد فيها عن 1000 دولار سنوياً، وكذلك أقل البلدان نمواً (!). دليل الأعمال، ص 9 (ولا أدري كيف تدعم مثل تلك الدول صادراتها؟!).
(3) دليل الأعمال، ص 9. (4) دليل الأعمال، ص10 ـ 11.
(5) التجارة في المستقبل، 16 ـ 17، دليل الأعمال، وانظره موسعاً جداً في (قواعد الجات: الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارية)، مصطفى سلامة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1998، ص 47 ـ 67، (وسيشار له لاحقاً بـ: قواعد الجات).
(6) وقد كان اللقاء الأخير في قطر، حيث تم قبول الصين وتايوان عضوين جديدين.
(7) التجارة في المستقبل، ص 14 ـ 15، قواعد الجات، ص 8 ـ 9.
(1) شرط الانضمام للاتفاقات المرتبطة بمنظمة التجارة العالمية شرط جديد، «وكان في السابق اختيارياً، وكانت النتيجة أن انضمت قلة قليلة جداً من البلدان النامية إلى الاتفاقات المرتبطة بالجات مثل اتفاق التقييم الجمركي، وترخيص الاستيراد، والحواجز الفنية أمام التجارة. وأما قاعدة الالتزام المتكامل فقد جعلت جميع أعضاء منظمة التجارة العالمية، بما في ذلك البلدان النامية وبلدان مرحلة التحول، أطرافاً في الاتفاقات المرتبطة باتفاق جات وفي غيره من الاتفاقات المتعددة الأطراف». ولأجل الصعوبات العملية، تتيح معاملة خاصة وتفاضلية وفترات انتقالية للبلدان النامية، وأقل البلدان نمواً، وبلدان مرحلة التحول، مع توفير المساعدة الفنية. دليل الأعمال، ص 15.
(2) قواعد الجات، ص 160. والجدير بالذكر أن الدول العربية الذين منحوا عضوية تلقائية هم: مصر، وتونس، والمغرب، والكويت، وقطر، والبحرين، والإمارات. وقد قبلت المنظمة عمان، والأردن بعد مفاوضات، ولا تزال السعودية والجزائر في طور المفاوضات. أما باقي الدول العربية فلم تتقدم للحصول على عضوية المنظمة.
(3) التجارة في المستقبل، ص 19 - 20، بتصرف يسير.
(1) قواعد الجات، ص 152. (2) التجارة في المستقبل، ص 22. (3) التجارة في المستقبل، ص 22 ـ 23.
(4) التجارة في المستقبل، ص 23 ـ 24، بتصرف. وللنظر في الإجراءات المفصلة لعمل الهيئة، انظر الكتاب نفسه، ص 25 ـ 26.
(1) التجارة في المستقبل، ص 26 ـ 27، بتصرف، وباختصار. (2) قواعد الجات، ص 44.
(3) فقد تبين ـ مثلاً ـ من ضغط الدول أوبك على الدول الصناعية أن المشكلة ليست في سعر النفط المحدد في السوق والمتأثر بجهود منظمة أوبك، ولا في الجمارك المفروضة على النفظ من قبل الدول الصناعية، بل المشكلة في ضريبة القيمة المضافة التي تفرضها الدول الغربية على مبيعات النفط داخلياً. ولا شك في عدم قدرة الدول الصناعية على إلغائها بسبب ضخامتها وأهميتها للموارد المالية لتلك الدول. وأما الجهود التي تبذل من الدول الصناعية لإغلاق أسواقها أمام العمال الأجانب فهي لا تحتاج إلى تعليق.(8/479)
(4) يرى مصطفى سلامة أن أهم أثر للمنظمة هو عولمة الاقتصاد الرأسمالي وآلياته، قواعد الجات، ص 80.
(5) منظمة التجارة العالمية، 77، وكذلك 187.
(6) انظر ما كتبه مصطفى (أستاذ القانون الدولي) عن الدور المؤثر للدول الفاعلة الأعضاء، وإقحام الاعتبارات السياسية من أجل التحايل على التزاماتها التجارية. قواعد الجات، ص 78. وقد صرح بحيف المنظمة في ترتيباتها التجارية، ص 22 ـ 23، وقال إن التنظيم التجاري الدولي الجديد نتاج لتوافق بين الدول المتقدمة، ص 83.
(1) ذكر بعض الباحثين أن نسبة الجمارك في إيرادات غالبية الدول الإسلامية تصل 15%، بينما لا تشكل إلا 1% للدول الصناعية فقط!
(2) قواعد الجات، ص 37.
(1) قواعد الجات، ص 84. ويقول أيضاً: «فلقد أسفرت وأثبتت ممارسات المنظمات الدولية الاقتصادية المختلفة أن الإعفاءات أو الاستثناءات قابلة للاستمرار والامتداد مراعاة ونزولاً على واقع الدول المختلفة؛ بحيث أصبح هناك ما يسمى بالتحلل المشروع من الالتزامات الدولية.... إن هناك خطورة تتمثل في إمكانية أن يصبح تنفيذ الالتزامات المتولدة عن اتفاقات 1994م اختيارياً». قواعد الجات، ص 75 ـ 77.
المصدر:http://www.albayan-magazine.com
==============(8/480)
(8/481)
لعولمة:جدل العدوان والمقاومة الثقافيين
* عبدالإله بلقزيز
ليس صحيحاً أن العولمة الثقافية هي الانتقال من حقبة ـ ومن ظاهرة ـ الثقافات الوطنية والقومية إلى ثقافة عليا جديدة هي الثقافة العالمية أو الثقافة الكونية، على نحو ما يدعي مسوقو فكرة العولمة الثقافية، بل إنها ـ بالتعريف ـ فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات. إنها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف ـ المسلح بالتقانة ـ فيُهدر سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها عملية العولمة. وإذا كان يحلو لكثيرين أن يتحذلقوا بإفراط في الرد على هذا الفهم للعولمة الثقافية، فيرجمونه بتهمة الانغلاق الثقافي أمام تيارات العصر، والدعوة إلى الانكفاء والتشرنق على الذات (والهوية، والأصالة، ومشتقاتهما...)، وإذا كان يحلو لهم أن يعيدوا على أسماعنا مواويل الانفتاح الثقافي غير المشروط على ((الآخر)) للانتهال من موارده ومكتسباته وكشوفه المعرفية... الخ، فإنه يطيب لنا أن نلفت انتباههم إلى وجوب وعي الفارق بين التثاقف والعنف الثقافي من جانب واحد.
يعني الأول الإصغاء المتبادل من سائر الثقافات بعضها إلى بعضها الآخر، كما يعني الاعتراف المتبادل بينها، ومنه الاعتراف بحق الاختلاف وهو من أقدس حقوق الانسان، فيما لا ينطوي الثاني سوى على الإنكار والإقصاء لثقافة الغير، وعلى الاستعلاء والمركزية الذاتية في رؤية ثقافته. يرادف الأول معنى الحوار والتفاهم، بينما يتلازم معنى الثاني مع الإكراه والعدوان. أما الأهم في الأمر، فهو أن التثاقف يجري بين الثقافات على قاعدة الندية، وهو ما يمتنع دون اعتبار أية ثقافة لشخصيتها وحرمتها الرمزية، فيما لا يعبر فعل الاختراق والتجاوب معه سوى عن دونية يأباها أي انفتاح وأي حوار! هذا درس بدائي من دروس الأنثروبولوجيا الثقافية المعاصرة حري بدعاة الانفتاح أن يقرأوه قبل أن يفتتحوا طقوس التبشير.
أي اختراق ثقافي هذا الذي نعنيه، أو ماذا يمكنها أن تكون تلك العولمة الثقافية إن لم تكن صناعة لثقافة عالمية جديدة؟
ليست العولمة تلك ـ في مفهومنا ـ سوى السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات، بواسطة استثمار مكتسبات العلوم والتقانة في ميدان الاتصال. وهي التتويج التاريخي لتجربة مديدة من السيطرة بدأت منذ انطلاق عمليات الغزو الاستعماري منذ قرون، وحققت نجاحات كبيرة في إلحاق التصفية والمسخ بثقافات جنوبية عديدة، وبخاصة في أفريقيا وأمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية. ولعل هذا يؤكد ما افترضناه ـ في مستهل هذه الورقة ـ من أن العولمة لا تؤرخ لنهاية عصر الدولة القومية، بل تعلن عن ميلاد حقبة جديدة من تمددها المستمر. وليس ما يدعى بالعولمة الثقافية، اليوم، إلا مظهراً من مظاهر ذلك التمدد خارج الحدود، الذي هو آلية طبيعية في نظام اشتغال الدولة القومية الحديثة.
على أن هذه السيطرة الثقافية الغربية العامة تنطوي ـ في داخلها ـ على علاقة أخرى من السيطرة تجعل ثقافات غربية عديدة في موقع تبعي لثقافة أقوى تتمدد أحكامها على امتداد سائر العالم. أما هذه السيطرة التي نعني، فهي التي يمكننا التعبير عنها بعبارة الأمركة (Ame r icanisation)، والعولمة ـ في ما نزعم ـ هي الاسم الحركي لها. ليست الأمركة أسطورة جديدة من أساطيرنا السياسية، ولا هي شماعة نعلق عليها إخفاقاتنا وعجزنا، بل هي حقيقة مادية تعيشها أوروبا نفسها، وتحتج عليها، وتنظم مقاومتها ضدها، وتعتبرها خطراً استراتيجياً يهدد استقلالها الاقتصادي والسياسي وهويتها الثقافية. وقد تكون مقاومة فرنسا لها ـ بمناسبة مفاوضات (الغات) ـ ودفاعها عما بات يعرف باسم الاستثناء الثقافي، أسطع دليل على وجودها وعلى مخاطرها، وهي ـ للتذكير ـ مقاومة حقيقية وشرسة وليست مسرحية سياسية للضحك على ذقون أهل العالم الثالث.
ما الذي في وسع مجتمعات وثقافات أخرى ـ خارج أوروبا ـ أن تفعله في مواجهة هذه العولمة/ الأمركة بإمكانياتها الشحيحة؟
ليست هناك معجزات في الأفق، ولكن، من المفيد القول إن فعل العدوان الثقافي ـ أي عدوان ثقافي ـ لا يحتل المشهد وحده، بل هو غالباً ما يستنهض نقيضه، بسبب ما ينطوي عليه عنفه الرمزي من استفزاز لشخصية المعتدى عليه، ومن تشبث بثقافته وهويته. ماذا يمكننا أن نسمي ـ مثلاً ـ حالة الانكفاء الثقافي للمغلوب إلى منظوماته المرجعية التقليدية؟ إنها تراجع معرفي ما في ذلك شك، غير أنها ـ في منظور علم اجتماع الثقافة ـ شكل من الممانعة الثقافية ضد الاستسلام، ومحاولة للبحث عن نقطة توازن في مواجهة عصف التيار الثقافي الجارف. إنها محاولة للاحتماء من عملية اقتلاع كاسحة. وهي وإن كانت دفاعاً سلبياً عن الثقافة والأنا الجمعي، إلا أنها تظل ـ في النهاية ـ مظهراً من ماهر المقاومة الثقافية المشروعة، وإن كان من الواجب القول إن معركتها مع العولمة خاسرة في آخر المطاف إن لم تتحول إلى مقاومة إيجابية تتسلح بالأدوات عينها التي تحققت بها الجراحة الثقافية للعولمة.(8/482)
ليست من مشمولات هذه الورقة أن نتحدث في بند ((ما العمل؟))، ومع ذلك، نهتبل الفرصة للقول إن مقاومة العولمة الثقافية ليست دعوة رجعية لقطع آصرة التفاعل الثقافي مع العالم الخارجي، بل هي طريقة للقول إن الثقافة العالمية الحقيقية هي ثقافات سائر المجتمعات من دون استثناء، فالكونية هي التميز في مجال الرموز. وكل نزعة توحيدية في هذا الباب مدماك جديد لبناء صرح التوتاليتارية.
... وكم يطيب لي ـ هنا ـ أن أستعير عنواناً جميلاً لأحد كتب الباحث اللبناني سهيل القش، مختتماً به الورقة، مجيباً به عن ((ما العمل؟))، إنه ((في البدء كانت الممانعة)).
============(8/483)
(8/484)
لعولمة الثقافية
بقلم: إبراهيم السوداني*
تعتبر العولمة القضية التي كثر الحديث عنها فجأة ليس فقط على المستوى الأكاديمي، وإنما أيضا على مستوى أجهزة الإعلام والرأي العام والتيارات الفكرية والسياسية المختلفة. ولا يمكن الجزم إذا قلنا أن هناك الآن سيلا أشبه بالطوفان في الأدبيات التي تتحدث عن هذا الموضوع. ولم يعد الأمر يقتصر على مساهمات الاقتصاديين وعلماء السياسة أو المهتمين بالشؤون العالمية، بل تعدى الأمر ليشمل مساهمات الاجتماعيين والفلاسفة وإعلاميين والفنانين وعلماء البيئة والطبيعة...الخ.
وباعتبار قضية العولمة لها من الجوانب والزوايا الكثيرة ما يثير اهتمام كل هؤلاء. ووسط هذا الكم الهائل من الكتابات عن العولمة (الموجودة حاليا بالسوق). ويكاد المرء يحتار في كيفية الإلمام بهذا الموضوع أو فهم حقيقته، خاصة وأن كل كاتب عادة ما يركز تحليله عل جانب معين من العولمة، مثل الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي أو الإعلامي أو الثقافي ... ولهذا أصبح من الضروري أن نتخصص في الجانب الثقافي لتناول هذه القضية، فما هو إذن مفهوم العولمة؟ وما هي تجلياتها الثقافية؟
مصطلح العولمة
مصطلح العولمة مصطلح جديد ظهر في العالم الغربي في بداية التسعينيات. وقد سبقه حدثان ضخمان أثرا في حركة العلاقات الدولية واتجاهاتها وعى موازين القوى في العالم: الأول هو سقوط المعسكر الشرقي،الذي اتخذ من سقوط جدار برلين شعارا له عام 1989م، كذلك الذي أنهى فترة من الحرب الباردة بين المعسكرين (وارسوا/الأطلسي). تلك الحرب بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وصاحبها حالات من الاستقطاب والمد والجزر في علاقات هذين المعسكرين؛ بحيث وصلت في الجزر إلى التهديد بحرب عالمية ثالثة، (مباشرة أثناء أزمة الصواريخ الكوبية)، وفي المد وصلت إلى الإنفاق على تقسيم مناطق نفوذ في بقاع العالم، وبين ذلك حصلت حروب بالوكالة كما حصل في فيتنام وأفغانستان. وقد أتاحت حالة الحرب الباردة والصراع والتنافس العالمي على مناطق النفوذ وجود هامش من الحرية لما سمي ب(دول عدم الانحياز) مكن ذلك كثيرا من الدول من الاستقلال عن الدولتين الكبيرتين أو إحداهما.
ثم جاء الحدث الآخر الكبير وهو حرب الخليج الثانية في عام1991م؛ وهي حرب شبه عالمية لكن من طرف واحد ودون تكافؤ في القوى. وانتهت هذه الحرب كما -هو معلوم- بانتصار أمريكي غربي أضيف إلى النصر التاريخي على المعسكر الشرقي. هذان الانتصاران أتاحا لأمريكا نوعا من السيادة العالمية.. مستغلة تقدمها التقني والاقتصادي وقوتها العسكرية في تكريس هذه السيادة.فبدأ في هذا الظرف التاريخي ظهور مصطلحات جديدة مثل (العالم الجديد) ومثل (العولمة) وهذا المصطلح الأخير اخذ حظه من الانتشار باعتبار أنه يمثل حركة الهيمنة والسيادة الغربية بأسلوبها الحضاري الجديد، وظهرت أعمال وكتابات كثيرة لدى الغربيين تؤدلج هذه الفكرة مثل فكرة (نهاية التاريخ)، وكذلك فكرة(صراع الحضارات)وإن كانت سابقة لفكرة نهاية التاريخ إلا أنها قد اشتهرت أخيرا.
بعض تعار يف المفكرين للعولمة
يقترح سمير أمين التعريف التالي لصيرورة العولمة بحيث يقول إن العولمة هي:
"الاختراق المتبادل في الاقتصاديات الرأسمالية المتطورة بدرجة أولى، ثم توسيع المبادلات التجارية بين الشمال والجنوب على اعتباره يمثل سوقا مهما".
ويعرض عمرو حمزاوي العولمة على أنها: "تكثيف للتبادل التجاري والثقافي والمعلوماتي بين أقاليم العالم المختلفة، وتصاعدا لمعدلات التأثير المتبادل بين السياقات المحلية". أما فتح الله ولعلو فيقدم تعريفا تقنيا واقتصاديا معتبرا أن العولمة كنظرية تعني: "توسيع الكتلة المالية والكتلة التواصلية، مما يؤدي على إزالة الحواجز بين السواق المالية ... تتجاوز البنيات الدولية والوطنية، وظهور أشكال تنظيمية جديدة في ميدان الإنتاج وأساليب التسويق". ويقدم محمد الأطرش تعريفا مركزا للظاهرة يقول فيه بأن:"العولمة هي اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة، وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والثقاة ضمن إطار رأسمالية السواق الحرة". من جهة أخرى يرى د.عزمي بشارة أنها: "طغيان قوانين التبادل العالمي المفروضة من قبل المراكز الصناعية الكبرى على قوانين وحاجات الاقتصاد المحلي".
2. هل هي نهاية عهد السيادة الثقافية؟
تنتمي السيادة الثقافية إلى كيان الدولة الوطنية وسيادته. وظلت الثقافة الوطنية تستمد سيادتها من ذاتها في سائر الظروف من: تربية الأجيال وتكوين الأطر معبرا عنها في الممارسة من خلال مؤسستي الأسرة والمدرسة.
* الأسرة: هي أول وأهم المصانع الاجتماعية التي تنتج الوجدان الثقافي الوطني بوساطة شبكة القيم التي يبنيها الدين والأخلاق العامة. ويتلقى الطفل في هذه المؤسسة التكوينية لغته ومبادئ عقيدته، والقوالب الأخلاقية الضرورية لسلوكه. وكذلك يتلقى بعض مبادئ الأنا الجمعي.
* المدرسة: وهي مؤسسة الإنتاج الاجتماعي الثانية التي تستأنف عمل الأولى، وتنتقل أهدافها إلى مدى أبعد من حيث البرمجة و التوجيه .(8/485)
عدم قيام هذه المؤسستين في الوقت الحاضر بالأدوار المنوطة بها و التي تتمثل في إنتاج وعادة إنتاج منظومات القيم الاجتماعية و رصيد الوعي المدني، اللذين يؤسسان البنى التحتية للثقافة الوطنية و للسيادة الثقافية .
إن انهيار السيادة الثقافية ناتج عن تعرض النسيج الثقافي الوطني لتمزيق تضافرت لصنعه الضغوطات الثقافية و القيمة من الخارج، و الإخفاقات الذاتية المتعاقبة التي منيت بها من الداخل- سواء في مؤسسات إنتاج الرموز والقيم، بسبب تكلس بناها و عجزها عن التكيف الايجابي مع التحولات الثقافية الكونية وفي سبيل واقعية هذا الأمر، فقد انهار هذا النظام الثقافي الوطني التقليدي دون أن يكون في وسع المجتمع العربي أن ينتج بديلا منه من داخل البنى الذاتية القائمة.
ثقافة العولمة وأدواتها
العولمة الثقافية تجري وتتوسع، في مناخ من التراجع الحاد للثقافة المكتوبة على صعيد الإنتاج والتداول بالصورة . أوهي الثقافة ما بعد المكتوب، الثقافة التي يؤرخ ميلادها لاحتضار ثقافة الكتاب .
النظام الثقافي الجديد) تقنيات الإنتاج والتوزيع)الصورة هي المادة الثقافية الأساس في ذلك.وتلعب دور الكلمة وهي خطاب مكتمل يستكفي بذاتها .والصورة تستغني عن الحاجة إلى غيرها. وأصبح النظام الثقافي المسيطر هو النظام السمعي البصري في حقبة العولمة الثقافية. وهذا النظام الثقافي الجديد ليس مجرد وسيلة، بل هو طريقة معينة لإدراك العالم والتعبير عنه.
2. في مضمون النظام الثقافي للعولمة
أصبح المصدر الجديد لإنتاج وصناعة القيم والرموز وتشكيل الوعي والوجدان والذوق، تبدو الثقافة على مستوى من الوعي والهزل والفقر والسطحية يثار معه التساؤل المشروع عن مستقبلها الإنساني، بحيث تشبه سائر مواد الاستهلاك.
ومن جانب آخر تبدو الثقافة خارج حدود تعريفها وماهيتها الطبيعيين، ثقافة هجينة لا ترتكز على مبادئ ولا تحمل أي نفع للإنسان، وهي ثقافة لا تقوم صلة بينها وبين النظام الاجتماعي الذي ينتمي إليه الإنسان.
3. العولمة الثقافية في ركاب التجارة الحرة
الثقافة بوصفها منتوجا اجتماعيا، دخلت الآن ميدان العملية الجديدة التجارة الحرة- وباتت قابلة للتداول على أوسع نطاق في العالم. حيث أصبحت الثقافة سلعة، والدول القوية هي التي تسوقها، باعتبارها تملك قدرة ثقافية أكبر مما يفرض القول أن "التبادل" الثقافي العالمي غير متكافئ. ونجد الدول الغنية تروج الاديولوجيات الفكرية الخاصة بها، والسعي إلى فرضها في الواقع من خلال الضغوطات السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية، ذلك في مجالات عدة كحقوق الإنسان، والديمقراطية، وحقوق الأقليات، وحرية الرأي.وتستخدم في ذلك آليات ووسائل منها:
- إصدار الصكوك والاتفاقيات الدولية المصاغة بوجهة نظر غربية والضغط من اجل التوقيع عليها مثل (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مكافحة التمييز ضد المرأة ...الخ) وهذه الاتفاقيات وان كان فيها بعض الحق إلا أن فيها الباطل أيضا، ويكفي أنها مصاغة بوجهة نظر غربية إمبريالية.
4. جدل العدوان والمقاومة الثقافيين
العولمة الثقافية لا تعني الانتقال من الثقافة الوطنية والقومية إلى الثقافة العالمية أو الكونية وإنما هي فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات، إنها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف المسلح وبالتكنولوجيا.
إضافة على وجوب وعي الفارق بين التثاقف وبين العنف الثقافي؛ يعني الأول: الإصغاء المتبادل من سائر الثقافات إلى بعضها كما يعني الاعتراف بحق الاختلاف، فيما لا ينطوي الثاني: سوى على الإنكار والإقصاء لثقافة الغير، كما على الاستعلاء والمركزية الذاتية.
ليست العولمة إذن سوى السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات بواسطة استثمار مكتسبات العلوم والثقافة في ميدان الاتصال. أمام هذه السيطرة فهي التي يمكننا التعبير عنها بعبارة الأمركة، والعولمة هي الاسم المرادف لها.
5. موقف المجتمع الاسلامي من الثقافات غير الاسلامية
تأثر المجتمع الاسلامي بالثقافة الغربية قياسا بغيرها من الثقافات الوطنية والإقليمية الكبرى واعتبار المسلم أن الثقافة الغربية هي ثقافة الآخر. والمجتمع الاسلامي ينقسم إلى قسمين هما: مجتمع أهلي ومجتمع النخبة.
أ. استهلاك المجتمع الاسلامي الأهلي للثقافة الغربية خصوصا ثقافة الصورة بدل المكتوب من تلك الثقافة.
ب. استقبال الوعي الاسلامي الأهلي المادة الثقافية الغربية المعروضة عليه، في شكل أصوات وصور، وهو مجرد ملتقط أو يكاد بدون خلفية نقدية تسمح له بإخضاع تلك المادة إلى المسائلة وهذا ناتج عن عجز الآلة الثقافية الوطنية عن إشباع حالة الجمهور.
* مجتمع النخبة ينقسم إلى قسمين: هناك تيار انبهاري بالمجتمع الغربي متماه معه وتيار رفض ويستنفر ضده:
- يؤسس التيار الانبهاري شرعية خطابه عل فرضية تقول بكونية المعرفة، ومقولات العقل، ومنظومة المفاهيم التي تنهض عليها فكرة الحداثة.(8/486)
- يقوم فكر التيار الرافض على موضوعة إيديولوجية بالغة الادعاء والنرجسية ويشدد هذا التيار على الخصوصية ووصفها التعبيري العادل عن كل ثقافة كما يمارس الممانعة الثقافية ضد الزحف الظاهر للثقافة الغربية.
الواقع أن ما قلناه هو غيض من فيض، وقليل من كثير. لكننا مع هذا نأمل من متن الموضوع أن يكون قد ساهم في تسليط الضوء على العولمة وإزاحة النقاب عن حقيقتها التي تريد الولايات المتحدة الأمريكية فرضها على شعوب العالم أجمع.
بعض مراجع المادة
1. العولمة والممانعة: عبد الإله بلقزيز-سلسلة الزمان (2001).
2. مجلة البيان عدد167 أكتوبر 2001.
3. فخ العولمة: سلسلة عالم المعرفة عدد 295 غشت 2003.
ــــــــــــــــــــــــ
* كلية الآداب أكادي
===========(8/487)
(8/488)
العولمة الاقتصادية ومؤتمر الإيواء البشرى
محمد عبد الله الشباني
عقد خلال الفترة من الثالث حتى الرابع عشر من شهر يونيو لعام 1996م في استنبول مؤتمر الإيواء البشري تحت مظلة الأمم المتحدة، وهذا المؤتمر حلقة من حلقات المؤتمرات التي دأبت الأمم المتحدة على عقدها وفق دعايتها بتحسين أوضاع العالم الاقتصادية والتجارية والعمرانية والسياسية والاجتماعية، - لكن حقيقة الأمر بخلاف ذلك، بل إن هذه المؤتمرات أداة تستخدمها الرأسمالية اليهودية للسيطرة على العالم اقتصاديّاً وفكريّاً من خلال تأطير السلوك الاجتماعي والسياسي ليوافق الفكر العلماني الذي تقوم عليه الرأسمالية اليهودية المعاصرة.
إن الإطار الفكري الذي تقوم عليه فكرة المؤتمر وما طرح في وثيقته من أفكار وأساليب مطلوب من الدول المشتركة في هذا المؤتمر تبنيها لحل مشكلة تؤرق السياسيين في مختلف أقطار العالم وهي (مشكلة الإيواء وتوفير الأماكن الكافية لاستيعاب ملايين البشر (، هذا الإطار ما هو إلا غطاء للتسلل لاحتواء موارد الدول الفقيرة واستغلالها لصالح المؤسسات المالية والمالكين لها من دهاقنة اليهود والمتهودين فكراً وسلوكاً، ونشر الأنماط السلوكية التي أفرزتها الفلسفة الجدلية المادية، التي من مقتضياتها الانفلات السلوكي: سواء ما كان له ارتباط بالمنهجية الاقتصادية، وما يرتبط بذلك من حرية مطلقة في استلاب الآخرين، وتحقيق المنفعة الفردية على حساب المنفعة الجماعية مع استبعاد الجوانب الأخلاقية في السلوك الاقتصادي، أو ما كان له ارتباط بأنماط السلوكيات الاجتماعية لسيطرة الرأسمالية اليهودية ممثلة في الولايات المتحدة بوصفها قوة وحيدة بتمكين هذه القوة الجديدة من الاستحواذ على العالم؛ ليكون القرن الحادي والعشرين قرن أمريكا.
أهداف المؤتمر:
إن أهداف المؤتمر الذي حددتها مسودته (جدول أعماله) تلبس الحق بالباطل؛ حيث تعلن مفاهيم عامة وتمنيات تُدغدغ بها رغبات الحكومات الفقيرة التي ترزح تحت وطأة الفقر والحاجة والتخلف، ولكنها في الواقع سراب يُنْفَذُ من خلاله إلى الهدف الحقيقي المغلف بهذا السراب.
فمن الأهداف المشار إليها في وثيقة المؤتمر التي هي مدخل للأهداف الحقيقية الأمور التالية:
1- المساواة والعدالة لجميع الأفراد، للحصول على الإيواء وتوفير البنية التحتىة المكملة للمسكن الملائم.
2- استئصال الفقر، من خلال توفير المأوى للفئات ذات الدخل المنخفض مع حق اختيار العمل والحصول عليه.
أما الأهداف الحقيقية للمؤتمر فيمكن فهمها من خلال ما رسم من إجراءات تنفيذية لتحقيق الأهداف الفضفاضة، وما امتزج ضمنها من مفاهيم أدرجت لتخدم الغرض الحقيقي للمؤتمر، ويمكن تحديدها على النحو التالي:
1- العمل على تغيير مفهوم الأسرة القائم عل الأسس الدينية والقيم الاجتماعية الفطرية، وتوسيع هذا المفهوم ليشمل أنماطاً من الأشكال التي تم تبنيها في المجتمع الغربي بوجه عام، وفي الولايات المتحدة بوجه خاص؛ من خلال تغيير معالم ومكونات الأسرة كما عرفتها الإنسانية، حيث أشار البند (18) من الوثيقة إلى شمول الإيواء لمختلف أشكال الأسر، والمقصود من ذلك: منح الشاذين جنسيّاً الذين يكونون فيما بينهم أُسَراً، وتلك الأشكال من العلاقات بين الرجال والنساء الذين لا يرتبطون بعلاقات شرعية، مساكن للإيواء.
2- توسيع النظام الربوي، وتمكين المؤسسات المالية الربوية من السيطرة على المقدرات المالية لدول العالم الثالث، من خلال عمل شبكة من البنوك ومؤسسات الإقراض، وربط تمويل توفير المباني والبنية التحتىة لمشاريع الإيواء بالإقراض الخارجي، البند (30).
الالتزامات المطلوب تنفيذها لتحقيق الأهداف:
من أهم الالتزامات المطلوب تبنيها من قبل المشاركين في هذا المؤتمر والموقعين على وثيقته الأمور التالية:
1- تغيير قوانين الملكية الخاصة بالأراضي: سواء الزراعية أو السكنية، وقوانين الإسكان والإيجارات، وفتح باب سوق شراء وبيع العقارات، وإزالة جميع العوائق الخاصة بتوفير المناخ الملائم لحرية السوق العقاري (البند 56 من الوثيقة).
2- تغيير وتعديل الأنظمة لتسهيل حركة الأموال وربط تمويل الإسكان بالنظام المالي العام للدولة وتعديل السياسة النقدية والمالية لتوفير روح المنافسة، لتتحرك الأموال من أجل توفير القروض للفقراء، مع توفير الإمكانية لأنظمة الإقراض لتحقيق استعادة القروض من خلال توفير القوانين والأنظمة لذلك، وإقرار برامج رهن المساكن لمؤسسات الإقراض المتعددة (البند: 61).
3- ربط اقتصاديات الدول المتخلفة باقتصاديات الدول الرأسمالية ضمن المفهوم الذي تبشر به الوثيقة، وهو الاقتصاد الدولي، كما أشارت إليه البنود (140، 147، 150)، من الوثيقة، حيث تم التأكيد على ربط السلطات المحلية بالسوق المالي الدولي ومؤسسات الإقراض الخاصة بالشؤون البلدية، مع العمل على توفير البنية التي تسمح للاقتصاد الدولي في النمو، والمساهمة في بناء البنية التحتىة لمشاريع الإيواء وتكوين المراكز الحضرية.(8/489)
إن تبني الأهداف وقبول الالتزامات التي حددتها الوثيقة التي تم التوقيع عليها في مؤتمر استنبول يعني التمكين لما يعرف في مجال الدراسات الاقتصادية (بعولمة الاقتصاد) تحت قيادة صندوق النقد الدولي والمؤسسات التابعة له.
وظاهرة (العولمة) التي أخذت في الازدياد في الفترة الأخيرة لها خطورتها على النمو الاقتصادي والحضاري والثقافي للمجتمعات المتخلفة، وبخاصة المجتمعات الإسلامية؛ حيث يتوفر في بلاد المسلمين مصادر الثروات الطبيعية؛ مما يدفع إلى الاستحواذ عليها من قبل الرأسمالية اليهودية العلمانية.
إن أهم مظاهر عولمة الاقتصاد هي: زيادة نمو الشركات المتعددة الجنسية، ومؤسسات الإنتاج الدولية الطابع والعالمية النشاط، وقد أدى هذا الأمر إلى التشابك بين مؤسسات الإنتاج على الصعيد القطري والإقليمي، واتجاه الشركات القطرية إلى توسيع رقعة أنشطتها لتخرج به خارج الحدود الوطنية أو القومية وصولا إلى المستوى الكوني، والشكل الذي تأخذه العولمة هو قيام المؤسسات الضخمة بمد نشاطها خارج حدودها الوطنية وإنشاء فروع شبه مستقلة ولكنها تابعة لها في بلدان الدول المتخلفة، أو تحويل الكيانات القائمة للشركات القومية؛ لتُكوّن فروعاً لها وتوابع لنشاطها.
لتتضح أبعاد ظاهرة العولمة الاقتصادية أو ما يمكن تسميته بظاهرة الرأسمالية متعددة الجنسية التي تجمع لديها عناصر القوة الاقتصادية، وما يمكن أن توظفه من قوة سياسية أو تمارسه من ضغوط على الدول المتخلفة غير القادرة على التعامل بندية مع هذه الكيانات العملاقة، فالإحصاءات توضح مدى خطورة هذا التمركز الرأسمالي... فإذا عرفنا أن إيرادات أكبر خمسمئة شركة في العالم بلغ في عام 1994م نحو عشرة تريليون ومئتين وأربع وخمسين بليون دولار، وإذا تم مقارنة ذلك بمجموع الناتج المحلي الاجمالي لدول العالم في سنة 1993م (الذي كان أكثر قليلاً من ثلاثة وعشرين تريليون دولار)، أدركنا مدى خطورة تركز الأموال لدى الرأسمالية العالمية.
إن السؤال الذي يبرز هنا هو: لماذا تتجه الرأسمالية اليهودية في نقل وتركيز بعض عمليات الإنتاج في الدول المتخلفة؟.. وإن الهدف الحقيقي هو البحث عن أعلى معدلات للربح، وهو هدف سهل يمكن تحقيقه بعد أن قامت الرأسمالية اليهودية بالدفع إلى تبني السياسات الليبرالية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وفشل الفكر الاشتراكي في تحقيق النمو الاقتصادي للدول التي تبنته.
ومن هنا: نجد أن القوى الرأسمالية من خلال مؤسسات الأمم المتحدة المالية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتوابعهما) وبعد أن تزعمت الولايات المتحدة العالم؛ أخذت بالدعوة إلى تبني أساليبها الاقتصادية، حيث أصبح تبني هذه السياسة بدون نظر لمحاذيرها هو التوجه لدى دول العالم المتخلف وبخاصة دول العالم الإسلامي، فقد أخذ البنك الدولي بتوجيه من الولايات المتحدة بإجبار دول العالم الإسلامي إلى إعادة هيكلة اقتصادياتها على ضوء هذه السياسة الليبرالية، فاتجهت لخارج دولها لجذب رأس المال الأجنبي، وتبني مفهوم القطاع الخاص من خلال استخدام آليات السوق وما يتطلبه ذلك من تحجيم واضح في الملكية العامة، وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وهذا ما تتبناه وثيقة استنبول لحل مشكلة الإيواء.
إن عولمة الاقتصاد الذي تُطالب به الأمم المتحدة برئاسة الولايات المتحدة حيث يحل مشروع أممية رأس المال بدلاً من أممية البروليتاريا، فما يحصل الآن من أساليب إجرائية متعددة الأشكال لحل مشاكل اجتماعية واقتصادية هو تمكين لمراكز النظام الرأسمالي من إعادة احتواء دول العالم المتخلفة وإعادة امتصاص قواها، طبقاً لمنطق تراكم رأس المال في تلك المراكز.
إن آليات السوق الذي تقوم عليه الفكرة الأساس للرأسمالية: أن من لا يستطيع كسب قوته يجب أن يموت، فهناك في الغرب فلاسفة ممن يقول: إن المليار من فقراء العالم الثالث، بل وفقراء الدول الصناعية كانوا زائدين عن الحاجة، وبالتالي: فلا مبرر لوجودهم ولا حاجة إليهم، ضمن مفهوم فلسفة البقاء للأصلح!، ولذا: تجد الدعوة المستمرة لتغيير مفهوم الأسرة، والدعوة إلى الإجهاض وقتل العجزة.. وغير ذلك من الدعوات غير الأخلاقية وغير الإنسانية، وما هي إلا نتيجة العبثية الرأسمالية العلمانية.
إن المخرج من هذا الفخ الذي نصبته الرأسمالية اليهودية هو قدره العالم الإسلامي في اتخاذ قراره السياسي المستقل، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا طرح الفكر العلماني ونبذه من مناهجه وتوجهاته، وتبنى الفكر العقائدي الإسلامي وما يحتويه من سلوكيات وقيم ونظم وتشريعات لتحقيق سعادة الانسان الدنيوية والأخروية ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [الأعراف: 96].(*)
الهوامش :
* تأجلت الحلقة الثالثة من دراسة الكاتب الكريم د/ محمد الشباني عن (الربا والأدوات النقدية المعاصرة) وذلك لتواكب المجلة المؤتمر مدار البحث، وموعدنا مع الحلقة المؤجلة في العدد القادم إن شاء الله(8/490)
المصدر:http://www.albayan-magazine.com
=============(8/491)
(8/492)
العولمة
إيمان الزهيري
حصلت العولمة كغيرها من الظواهر الجديدة على أنصار ومعارضين واستناداً إلى مروجيها فإن العولمة تعني تصغير العالم و حرية التبادل التجاري والسلعي وحرية انتقال الأشخاص أما معناها اللغوي هو إضفاء صبغة واحدة على العالم وعلى كل من يعيش فيه مع توحيد الأنشطة الثقافية والاجتماعية والفكرية لكافة الأديان والأمم والجنسيات والثقافات
وتعود بداية مصطلح العولمة إلى بداية التسعينات أي بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ولاسيما عندما طالبت أميركا العالم بتوقيع اتفاقية التجارة العالمية وذلك لسيطرة بعض الشركات العابرة للقارات على السوق العالمية مما يؤكد أن العولمة هي اميركية المنشأ
لقد ساهمت العولمة في الدمار الاقتصادي الحالي في ظل الهيمنة المطلقة للشركات الكبرى على البلدان الفقيرة ولم يقتصر توحش العولمة على الدول الفقيرة بل بدأ يأخذ طريقه باتجاه الدول المتقدمة والغنية ، وهذا يعود للأهداف السياسية للعولمة حيث تعمل على تفكيك السيادة السياسية لهذه الدول وذلك ليتقرر مستقبلها خارج حدود وطنها وتصبح فكرة الاستقلال غير مهمة بالنسبة لها و تصبح السيطرة على هذه الدول ليست بيد شعوبها أو حكوماتها وإنما للذي يتحكم بمصير العالم ،هذا هو هدف الشركات الكبرى التي تقود العولمة الاقتصادية فاعتماد السوق كمرجعية وحيدة وإخضاع جميع المجتمعات لنمط اقتصادي واحد موحد عالمياً ولقيم وأنماط تفكير واحدة يفكك قيم الدولة بالمعنى الإنساني ويجعل تعظيم قيمة الربح تتفوق على أية قيم أخرى
ولم يعد هناك شك أن القضية الأساسية التي تطرحها العولمة هي اللامساواة سواء بين الدول الغنية والفقيرة أو داخل هذه الدول سواء كانت هذه الدول غنية أو فقيرة
وكما تطرح أيضاً إمكانية تجسيد نظام هيمنة أكثر شمولاً وقسوة من حيث اعتماد العولمة على المبادلات الحرة دون أي عائق ورفضها لأي اعتبار أخلاقي أو سياسي يمنع حرية الأسواق والتجارة مما يؤدي إلى تعميم الفقر والبؤس من خلال التهميش الجماعي للكتل البشرية في العالم وانسداد الآفاق وتفجر أشكال متجددة من الحروب الداخلية وتعميم الفساد والنهب غير المشروع لرأس المال الاقتصادي ضمن المجتمعات الفقيرة
وهذا ما يدفعنا للتساؤل هل أن العولمة مرادفة للأمركة أو بمعنى أخر هل العولمة هي عبارة عن تحقيق الشروط الأساسية لاستقرار أميركا أو لتعميم النموذج الأميركي في الحياة
يرى الباحثون أن العولمة تجسد نظام هيمنة أكثر شمولاً وقسوة من كل ما عرفته البشرية في السابق ، عن طريق تشجيع نظام الهيمنة الأميركية بشكل أوسع فهي تحمل معها مخاطر التركيز الهائل للثروة المادية والعلمية والثقافية في أيدي فئة قليلة من سكان العالم الذين تتوافر لديهم القدرات والآليات والتكنولوجيا اللازمة للهيمنة ولا يتوقف الأمر عند الهيمنة الأميركية على الثقافة والسياسة و الاقتصاد بل تجاوز ذلك لتصل إلى حد السيطرة على الأمم المتحدة التي أسست لحقوق الإنسان ومجلس الأمن الذي ينقاد للمصالح الأميركية ويزداد تهميشا للشعوب
وربط أحد التقارير الدولية بين ازدهار تجارة المخدرات والعولمة الاقتصادية التي يشهدها العالم وذكر التقرير أن فتح الحدود ورفع القيود على تنقل الأموال أدى إلى تزايد تجارة المخدرات وأشار التقرير إلى أن أموال المخدرات عادة ما تستخدم في تمويل الصراعات وتأجيجها في كل أنحاء العالم
وذكر تقرير آخر للمفوضية العليا لشؤون حقوق الإنسان أن العولمة تؤدي إلى تصاعد مظاهر العنصرية لأن الدول الفقيرة لا تستفيد من نتائج العولمة وهذا الوضع سيزيد اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وسيؤدي إلى تزايد النقمة
وكانت ماري روبنسون مفوضة الأمم المتحدة السابقة لشؤون حقوق الإنسان قد دعت مؤتمر مكافحة العنصرية وكراهية الأجانب الذي عقد في جنوب أفريقيا إلى بحث تأثيرات العولمة إيمانا منها أن هناك علاقة بين العنصرية والعولمة
والجدير بالذكر أن التحكم بالقرار العالمي في ظل العولمة يرتبط بالتكنولوجيا والتقنية سواء تعلق الأمر بالاقتصاد والمال والسياسة أو المعلومات والإعلام والاتصالات فتطور تكنولوجيا المعلومات يعزز عملية العولمة وهناك من يظن أن شبكة الإنترنت أيضاً هي عبارة عن أداة لهيمنة الثقافة الاميركية
ولكن لو حاولنا أن نجد للعولمة جوانب إيجابية والعمل على توظيف هذه الجوانب بما يخدم مصالحنا في حياتنا العامة لوجدنا أن الانخراط في المعترك الثقافي للعولمة والاندفاع مع المتغيرات المتسارعة لفهم ما يجري في العالم ولاستيعاب التحولات والتغييرات الكبرى التي تعيشها الإنسانية في هذا الوقت الذي يسعى فيه العالم كله للتطور والتقدم أفضل بكثير من الوقوف عاجزين أمام التغيرات الكبيرة التي تحدث في العالم
إن معركة العولمة والاحتجاجات عليها والمظاهرات المنددة بها تعود إلى افتقار العولمة للعدالة واعتبارها حتمية ولطابعها الذي يجلب للإنسانية الاستغلال والتدمير والاستغلال عوضاً عن تحقيق الأمن والعدالة والمساواة.
المصدر:http://www.sana.o r g
=============(8/493)
(8/494)
العولمة الاجتماعية للمرأة والأسرة
فؤاد بن عبد الكريم آل عبد الكريم(*)
أصبحت «المرأة» و «الأسرة» محورين أساسيين من محاور عمل التجمعات والفعاليات الاجتماعية في العالم، ولدى كثير من المنظمات والجمعيات (الحكومية وغير الحكومية) التي ترفع لواء ورداء الحرية والمساواة وحقوق الإنسان.
كما أصبح الشغل الشاغل لتلك التجمعات والمنظمات: السعي لعولمة الحضارة الغربية ممثلة في الحياة الاجتماعية لتلك الدول؛ وذلك من خلال تقنين الإباحية والرذيلة، ومن خلال محاولة تعميم الشذوذ باسم حقوق الإنسان والحرية الشخصية، وتقويض بناء الأسرة؛ لأنها ـ في زعمهم ـ أكبر عائق من عوائق التقدم والرفاهية؛ فهي أقدم مؤسسة اجتماعية يدَّعون أن الرجل يتسلط من خلالها على المرأة، ويمارس عليها أشكال القهر، ومن أجل التحرير المزعوم للمرأة فإنهم يرون ضرورة التخلص من شيء اسمه «الأسرة»، ولو أدى ذلك إلى التمرد على كل التعاليم الدينية، والمبادئ الفطرية، التي أرست دعائم الشعوب والأمم على مر التاريخ البشري.
تلك هي رؤيتهم التي دأبوا على بثها بكل وسيلة ممكنة، وذلك هو برنامجهم الذي لم يسأموا من السعي لتحقيقه في الواقع، وفرضه بالقوة(1) مستعينين بأمور منها:
أولاً: وسائل الإعلام بمختلف أشكالها وأنواعها (المقروءة والمسموعة والمرئية)، وهذا الأمر معلوم للجميع ومشاهد على أرض الواقع.
ثانياً: الاستعانة بمؤسسات الهيمنة الدولية، وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. وهذا ما سيدور حوله الكلام إن شاء الله؛ حيث إنه يقع في دائرة الاهتمام والمتابعة الشخصية.
ففي السنوات الأخيرة ـ وخاصة في التسعينيات الميلادية، كما سيتبين ذلك بعد قليل ـ كثفت الحركات النسوية جهودها، وكذلك نشطاء حقوق الإنسان ـ من أجل نقل تصوراتها وأفكارها من حيز الكلام التنظيري إلى حيز التنفيذ العملي، ومن الأطر الثقافية، والأخلاقية، والاجتماعية ـ الخاصة ببعض الشعوب والحضارات الغربية ـ إلى النطاق العالمي العام مستغلين طغيان موجة العولمة؛ وذلك بإقامة مؤتمرات من خلال هيئة الأمم المتحدة بعضها خاص بالمرأة، وبعضها الآخر تصبح المرأة فيه جزءاً مهماً من قضاياها.
أولاً: أجهزة الأمم المتحدة المعنية بالمرأة:
هناك أجهزة وهيئات تابعة للأمم المتحدة معنية بالمرأة تشارك في الإعداد والتجهيز لهذه المؤتمرات، منها:
أ - لجنة مركز المرأة التابعة للأمم المتحدة.
ب - صندوق الأمم المتحدة للسكان(1).
ج - صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة.
د - برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
هـ - المعهد الدولي للبحث والتدريب من أجل النهوض بالمرأة.
و - جامعة الأمم المتحدة.
ز - معهد الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية.
ح - اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة.
ط - منظمة الأمم المتحدة للطفولة.
ي - مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل).
ك - مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
ل - منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.
وهذه المنظمة الأخيرة التي تعرف باسم: «منظمة اليونسكو»، لها دور فاعل ومميز في هذه المؤتمرات من حيث الإعداد والمشاركة فيها؛ فقد قرر المدير العام لهذه المنظمة إنشاء لجنة استشارية معنية بالمرأة، وعهد إلى هذه اللجنة بإعداد ما يمكن لهذه المنظمة الإسهام به في مؤتمر المرأة الرابع في بكين 1995م، وتهدف هذه المساهمة إلى ما يلي:
- تعزيز نشاط اليونسكو وتفكيرها بشأن موضوعات المؤتمر الثلاثة: المساواة، والتنمية، والسلام، وإبرازها بصورة أوضح.
- تعزيز أهمية نوعية التعليم المقدم إلى البنات والنساء على جميع المستويات، وفي جميع المجالات.
- إشاعة صور إيجابية عن المرأة تبرز مواهبها، وخبراتها، وقدراتها، وإسهامها الفعلي بصفتها عاملاً من عوامل التغيير الاجتماعي.
- تعزيز إمكانيات المرأة في اتخاذ القرار في جميع مجالات اختصاص اليونسكو كالتربية، والاتصال، والعلوم، والثقافة، ومكافحة جميع أشكال التمييز والعنف تجاه المرأة.
- الإسهام في القضاء على القوالب الجامدة التي لا تزال تحدد أدوار وسلوك الرجال والنساء، وتبقي ـ من ثم ـ على أشكال التفاوت والتمييز التي تستند إلى الجنس(2).
ثانياً: تاريخ موجز لهذه المؤتمرات:
بدأ اهتمام هيئة الأمم المتحدة بالمرأة منذ عام 1946م، حين أُنشئت لجنة مركز المرأة (وهي هيئة رسمية دولية تتألف من خمس وأربعين من الدول الأعضاء تجتمع سنوياً بهدف عمل مسودات وتوصيات وتقارير خاصة بمكانة المرأة وتقويم تلك الأعمال).
وقد أكد دستور هيئة الأمم المتحدة وميثاقها(3) ـ الذي أبرم بتاريخ 26/6/1945م ـ مبدأ عدم التفرقة بين الناس بسبب الجنس، فجعل للرجال والنساء حقوقاً متساوية، كما ورد في نصوص موادها: الأولى والثامنة.(8/495)
ونشير ـ هنا ـ إلى تركيز الأمم المتحدة في اتفاقياتها ومؤتمراتها على قضية المساواة بين المرأة والرجل ـ بالمفهوم الغربي(1) ـ بوصفها قيمة عليا من القيم التي قامت عليها الحضارة الغربية، والتي أصبحت من القضايا المسلَّمة التي لا تقبل النقاش حولها، واستخدمت قضية المساواة هذه في تمرير كثير من القضايا التي تنادي بها الأمم المتحدة لعولمة النموذج الغربي للمرأة في جميع مجالات الحياة السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والإعلامية.. إلخ.
وقد أكدت المادة الثامنة هذا المفهوم؛ حيث جاء فيها: (لا تفرض الأمم المتحدة قيوداً تحد بها جواز اختيار الرجال والنساء للاشتراك بأي صفة وعلى وجه المساواة في فروعها الرئيسية والثانوية)(2).
وفي عام 1948م صدر (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) شاملاً كافة حقوق الإنسان المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية التي يجب أن يتمتع بها كل فرد رجلاً كان أو امرأة.
ففي المادة الثانية ـ مثلاً ـ من هذا الإعلان: (لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر)(3).
كما أكدت الأمم المتحدة(4) ضمن بنود دستورها (ل) و (م)، على حقوق المرأة السياسية والاجتماعية، وحقها في الزواج والاتفاق على الرضا بالزواج والتوصية بذلك، بالإضافة إلى حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والمنازعات المسلحة.
وفي عام 1951م اعتمد المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية: (اتفاقية المساواة في الأجور بين العمال والعاملات)(5).
وفي عام 1952م أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة (الاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة)، وذلك بناء على توصية اللجنة الخاصة بمركز المرأة.
وبالنظر إلى (العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) المتفق عليه، والذي أصدرته الأمم المتحدة في عام (1966م)، نجد أن المادة الثالثة من هذا العهد(6) تنص على ما يلي: (تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بضمان مساواة الذكور والإناث في حق التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنصوص عليها في هذا العهد)(7).
وكذلك صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية) في عام 1966م، ونص في مادته الثالثة على ما يلي: (تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بكفالة تساوي الرجال والنساء في حق التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في هذا العهد)(1).
وفي عام 1967م صدر (الإعلان الخاص بالقضاء على التمييز ضد المرأة)، وقد أقرته هيئة الأمم المتحدة مع توصية ببذل أقصى الجهد لتنفيذ المبادئ الواردة فيه للحكومات والمنظمات غير الحكومية والأفراد، والذي ينص على حق المرأة الدستوري في التصويت، والمساواة مع الرجل أمام القانون، وعلى حقوقها في الزواج والتعليم وميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية مع الرجل سواء بسواء(2).
وفي عام 1968م عقد في طهران مؤتمر دولي لحقوق الإنسان تحت إشراف الأمم المتحدة، وسمي: (إعلان طهران 1968م)، ونص في بنده الخامس عشر على أنه: (يتحتم القضاء على التمييز الذي لا تزال المرأة ضحية له في عديد من أنحاء العالم؛ إذ إن إبقاء المرأة في وضع دون وضع الرجل يناقض ميثاق الأمم المتحدة، كما يناقض أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتنفيذ الكامل لإعلان القضاء على التمييز ضد المرأة ضروري لتقدم الإنسانية). أما البند السادس عشر من هذا الإعلان فكان من ضمنه (أن حماية الأسرة والطفل تظل شاغلاً للمجتمع الدولي)(3).
ثم بعد ذلك بدأت الأمم المتحدة في عقد مؤتمراتها الخاصة بالمرأة:
- فعقدت أول مؤتمر عالمي خاص بالمرأة وهو: (مؤتمر مكسيكو لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم)، وذلك في عام 1975م في المكسيك؛ حيث حضرته 133 دولة، واعتمد فيه أول خطة عالمية متعلقة بوضع المرأة على المستوى الحكومي وغير الحكومي في المجالات السياسية والاجتماعية والتدريب والعمل على حماية الأسرة.
كما اعتمدت خطة العمل العالمية لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم، للأعوام (1976 - 1985م).
- وفي عام 1979م عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤتمراً تحت شعار: (القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة)، وخرج المؤتمرون باتفاقية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
وجاءت هذه الاتفاقية لأول مرة بصيغة ملزمة قانونياً للدول التي توافق عليها، إما بتصديقها أو بالانضمام إليها. وقد بلغ عدد الدول التي انضمت إلى هذه الاتفاقية مائة وثلاثاً وثلاثين دولة، إلى ما قبل مؤتمر بكين عام 1995م. وكان من أبرز مواد هذه الاتفاقية:
- الاعتراف بتساوي الرجل والمرأة في الميادين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، أو في أي ميدان آخر، بغض النظر عن حالتها الزوجية.(8/496)
- اتخاذ جميع التدابير المناسبة - بما في ذلك التشريعي منها - لتغيير أو إبطال القائم من القوانين، والأنظمة، والأعراف، والممارسات التي تشكل تمييزاً ضد المرأة.
- تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية للقضاء على العادات القائمة على فكرة تفوق أحد الجنسين، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة.
- القضاء على أي مفهوم نمطي عن دور الرجل والمرأة على جميع مستويات التعليم، وفي جميع أشكاله، عن طريق تشجيع التعليم المختلط وغيره من أنواع التعليم.
- تمنح الدول الأطراف المرأة في الشؤون المدنية أهلية قانونية مماثلة لأهلية الرجل، ونفس فرص ممارسة تلك الأهلية.
- أن يكون للمرأة نفس الحقوق في أن تقرر بحرية وبشعور من المسؤولية عدد أطفالها، والفترة بين إنجاب طفل وآخر.
- نفس الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالولاية، والقوامة، والوصاية على الأطفال وتبنيهم(1).
- وفي عام 1980م عقدت الأمم المتحدة (المؤتمر العالمي لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم) في (كوبنهاجن) بالدانمارك وهو المؤتمر الثاني الخاص بالمرأة؛ وذلك لاستعراض وتقويم التقدم المحرز في تنفيذ توصيات المؤتمر العالمي الأول للسنة الدولية للمرأة الذي عقد عام 1975م في المكسيك، ولتعديل البرامج المتعلقة بالنصف الثاني من العقد الأممي للمرأة.
- وفي عام 1985م عقد (المؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم) في (نيروبي) ـ المؤتمر الثالث الخاص بالمرأة ـ والذي عرف باسم: (استراتيجيات نيروبي المرتقبة للنهوض بالمرأة) وذلك من عام 1986م حتى عام 2000م. وقد شارك فيه سبع وخمسون ومائة دولة. وقد بين المؤتمر أهداف وغايات العقد الأممي، وشدد على صحتها بالنسبة إلى المستقبل، وبين الحاجة إلى اتخاذ تدابير ملموسة للتغلب على العقبات التي تعترض سبيل إنجازها أثناء الفترة 1986-2000م.
- وفي عام 1995م عقدت الأمم المتحدة (المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة) في (بكين). وقد دعت فيه إلى مضاعفة الجهود والإجراءات الرامية إلى تحقيق أهداف استراتيجيات نيروبي التطلعية للنهوض بالمرأة بنهاية القرن الحالي.
ويعتبر هذا المؤتمر متميزاً عن المؤتمرات الأخرى التي تبنتها الأمم المتحدة؛ حيث دعت فيه بصراحة وبوضوح إلى العديد من الأمور التي فيها مخالفة للشريعة الإسلامية، بل فيها مخالفة للفطرة التي فطر الله ـ تعالى ـ الناس عليها. مثل:
الدعوة إلى الحرية والمساواة - بمفهومهما المخالف للإسلام ـ والقضاء التام على أي فوارق بين الرجل والمرأة، دون النظر فيما قررته الشرائع السماوية، واقتضته الفطرة، وحتمته طبيعة المرأة وتكوينها.
وكذلك الدعوة إلى فتح باب العلاقات الجنسية المحرمة شرعاً؛ ومن ذلك: السماح بحرية الجنس، والتنفير من الزواج المبكر، والعمل على نشر وسائل منع الحمل، والحد من خصوبة الرجال، وتحديد النسل، والسماح بالإجهاض المأمون، والتركيز على التعليم المختلط بين الجنسين وتطويره، وكذلك التركيز على تقديم الثقافة الجنسية للجنسين بسن مبكرة، وتسخير الإعلام لتحقيق هذه الأهداف.
كما أن في هذا المؤتمر إعلاناً للإباحية، وسلباً لقوامة الإسلام على العباد، وسلباً لولاية الآباء على الأبناء، وقوامة الرجال على النساء.
بالإضافة إلى هذه المؤتمرات الخاصة بالمرأة فهناك مؤتمرات أقامتها الأمم المتحدة خاصة بالسكان، إلا أنها ناقشت في وثائقها قضايا متعلقة بالمرأة وبالعقد الأممي الخاص بالمرأة، وهي:
- المؤتمر العالمي الأول للسكان في (رومانيا) عام 1974م. وقد اعتمدت في هذا المؤتمر خطة عمل عالمية، جاء فيها:
* الدعوة إلى تحسين دور المرأة ودمجها الكامل في المجتمع.
* الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل.
* الدعوة إلى تحديد النسل، وتخفيض المرأة لمستوى خصوبتها.
- (المؤتمر الدولي المعني بالسكان) في (المكسيك) عام 1984م . وقد جاء في هذا المؤتمر:
* الدعوة إلى إعطاء المرأة حقوقها المساوية لحقوق الرجل في جميع مجالات الحياة.
* الدعوة إلى رفع سن الزواج، وتشجيع التأخر في الإنجاب.
* إشراك الأب في الأعباء المنزلية، وإشراك المرأة في المسؤولية على الأسرة.
* الإقرار بالأشكال المختلفة والمتعددة للأسرة.
* الدعوة إلى التثقيف الجنسي للمراهقين والمراهقات.
* الإقرار بالعلاقات الجنسية خارج نطاق الأسرة.
* تقديم الدعم للزناة والزانيات، بتقديم الدعم المالي، وتوفير السكن المناسب لهم.
** وفي عام 1994م أقيم (المؤتمر الدولي للسكان والتنمية) في (القاهرة). وقد نوقشت في هذا المؤتمر قضايا شبيهة تماماً بالقضايا التي سبق ذكرها في المؤتمر الرابع للمرأة ببكين؛ فقد أكد قضية المساواة بين الجنسين وأفرد لها فصلاً مستقلاً (1). وأما التنمية فإن عنوان المؤتمر أشار إلى ذلك، فضلاً عن قضايا تنمية المرأة التي نوقشت في ثنايا المؤتمر.
ومؤتمر السكان والتنمية هذا يعد من المؤتمرات التي أثارت وثيقته ضجة واسعة في العالم الإسلامي وغير الإسلامي؛ بسبب مخالفتها للشرائع السماوية وللفطرة السليمة.(8/497)
كما أقيمت مؤتمرات أخرى للأمم المتحدة نوقشت فيها بعض قضايا المرأة؛ فمن هذه المؤتمرات:
- (المؤتمر العالمي لتوفير التعليم للجميع) المنعقد في (جومتيان - تايلاند) عام 1990م الذي تم فيه الإعلان العالمي لتوفير التعليم للجميع.
- (مؤتمر القمة العالمي من أجل الطفل) المنعقد في (نيويورك) عام 1990م الذي أكد فيه ما ورد في اتفاقية حقوق الطفل التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1989م. ومن ذلك: حق الطفل في حرية الفكر والوجدان والدين، والدعوة إلى سلب ولاية الآباء على الأبناء؛ وذلك من خلال الدعوة إلى تمكين الطفل من الحصول على المعلومات والمواد من شتى المصادر الوطنية والدولية.
- (المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية) المنعقد في (ريودي جانيرو ـ البرازيل) عام 1992م الذي أشير فيه إلى حقوق النساء في التحكم في قدرتهن على الإنجاب، والدعوة إلى إنشاء مرافق صحية وقائية وعلاجية للرعاية الصحية التناسلية تكون مأمونة وفعالة، وكذلك الدعوة إلى تحديد النسل.
وكذلك المطالبة بتحسين مركزهن الاجتماعي والاقتصادي، ومن ذلك وضع استراتيجيات للقضاء على العقبات الدستورية، والقانونية، والإدارية، والثقافية، والسلوكية، والاجتماعية، والاقتصادية التي تحول دون مساواة المرأة بالرجل.
- (المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان) في (النمسا)، عام 1993م. وقد حث هذا المؤتمر على تمتع المرأة تمتعاً كاملاً ـ وعلى قدم المساواة ـ بجميع حقوق الإنسان السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها من الحقوق ـ بالمفهوم الغربي لهذه الحقوق ـ، وأن يكون هذا الأمر أولوية من أولويات الحكومات.
وكذلك أكد على قضايا تخص المرأة مثل قضية المساواة التامة مع الرجل، وأهمية إدماج المرأة في عملية التنمية بوصفها فاعلة ومستفيدة من هذه العملية.
وكذلك حث هذا المؤتمر على استئصال جميع أشكال التمييز ضد المرأة ـ الخفية منها والعلنية على السواء ـ وطالب هذا المؤتمر بالتصديق العالمي من قبل جميع الدول على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بحلول عام 2000م.
- (إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد النساء)، وذلك في عام 1993م.
- (مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية) الذي أقيم في (كوبنهاجن) عام 1995م الذي تم فيه الإقرار بأشكال الأسرة المختلفة، والدعوة إلى المساواة بين المرأة والرجل، ومن ذلك إسقاط قوامة الرجل على المرأة داخل الأسرة، ودعوة الرجل لتحمل الأعباء المنزلية، ودعوة المرأة للخروج للمساهمة في سوق العمل.
وكذلك إزالة القيود المفروضة على المرأة في وراثة الممتلكات.
- (مؤتمر الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية) (الموئل الثاني) الذي انعقد في (تركيا) عام 1996م ودعا إلى كفالة مشاركة النساء ـ مشاركة تامة وعلى قدم المساواة مع الرجال ـ في الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. وكذلك الالتزام بهدف المساواة بين الجنسين في تنمية المستوطنات البشرية، وكذلك الالتزام بإدماج الاعتبارات المتعلقة بنوع الجنس (جندر) في التشريعات، والبرامج والمشاريع المتصلة بالمستوطنات البشرية، عن طريق التحليل الذي يراعي نوع الجنس.
كما تم الاعتراف بالأشكال المختلفة للأسرة. وأيضاً دعا هذا المؤتمر إلى إجراء إصلاحات تشريعية وإدارية؛ من أجل الحصول الكامل ـ وعلى قدم المساواة - على الموارد الاقتصادية، بما في ذلك الميراث، والائتمان.
- (مؤتمر الأمم المتحدة للمرأة عام 2000م المساواة والتنمية والسلام في القرن الحادي والعشرين) الذي انعقد في (نيويورك).
وقد تضمنت وثيقة هذا المؤتمر التحضيرية ما يلي:
* الدعوة إلى الحرية الجنسية والإباحية للمراهقين والمراهقات والتبكير بها مع تأخير سن الزواج. وأوجدوا مسمىً جديداً للداعرات وهو: (عاملات الجنس)، وتشجيع جميع أنواع العلاقات الجنسية خارج إطار الأسرة الشرعية (رجلاً وامرأة)، وتهميش دور الزواج في بناء الأسرة.
* إباحة الإجهاض.
* تكريس المفهوم الغربي للأسرة، وأنها تتكون من شخصين يمكن أن يكونا من نوع واحد (رجل + رجل، أو امرأة + امرأة).
* تشجيع المرأة على رفض الأعمال المنزلية، بحجة أنها أعمال ليست ذات أجر.
* المطالبة بإنشاء محاكم أسرية من أجل محاكمة الزوج بتهمة اغتصاب زوجته.
* إباحة الشذوذ الجنسي (اللواط والسحاق)، بل الدعوة إلى مراجعة ونقض القوانين التي تعتبر الشذوذ الجنسي جريمة.
* فرض مفهوم المساواة الشكلي المطلق، والتماثل التام بين الرجل والمرأة في كل شيء بما في ذلك الواجبات: كالعمل، وحضانة الأطفال، والأعمال المنزلية، وفي الحقوق: كالميراث.
* المطالبة بإلغاء التحفظات التي أبدتها بعض الدول الإسلامية على وثيقة مؤتمر بكين 1995م.
ويعتبر أهم هدف في هذا المؤتمر هو: الوصول إلى صيغة نهائية ملزمة للدول بخصوص القضايا المطروحة على أجندة هذا المؤتمر، والتي صدرت بحقها توصيات ومقررات في المؤتمرات الدولية السابقة، تحت إشراف الأمم المتحدة.(8/498)
ولأهمية هذا المؤتمر وتعويل التيار النسوي العالمي عليه؛ فقد أقيمت عدة مؤتمرات إقليمية لمتابعة توصيات مؤتمر بكين، والتمهيد لهذا المؤتمر المسمى: «المؤتمر التنسيقي الدولي للنظر في نتائج وتطبيق قرارات المؤتمرات الأممية للمرأة». ومن هذه المؤتمرات الإقليمية:
- اجتماع في نيويورك في عام 2000م، تحت شعار (بكين +5 (ـ إشارة إلى السنوات الخمس التي مضت على مؤتمر بكين ـ وقد جرى في هذا الاجتماع محاولة لإدخال تعديلات على وثيقة مؤتمر بكين.
- (مؤتمر المرأة الخليجية) في البحرين، في شهر مارس تحت شعار (الفرص، والمعوقات، والأدوار المطلوبة) الذي نظمته جمعية فتاة البحرين، وشارك فيه عدد من الشخصيات النسائية والرجالية من كل دول الخليج.
- (مؤتمر تونس) في 1999م لدول المغرب العربي.
- (المؤتمر النسائي الأفريقي السادس) في 1999م في أديس أبابا، نظمه المركز الأفريقي التابع للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية.
- مؤتمر - شبيه لما سبق - في عمان بالأردن، وفي بيروت، وذلك في أواخر عام 1999م، نظمته اللجنة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا.
ثالثاً: أهم السلبيات التي دعت إليها هذه المؤتمرات وهي كما يلي:
1 - ما يتعلق بالجانب الأخلاقي والاجتماعي، ومن ذلك(1):
أ - الدعوة إلى حرية العلاقة الجنسية المحرمة، واعتبار ذلك من حقوق المرأة الأساسية.
ب - توفير خدمات الصحة الجنسية والإنجابية للمرأة.
ج - نشر وسائل منع الحمل ذات النوعية الجيدة، ومنع حالات الحمل غير المرغوب فيه، والدعوة إلى منع حالات الحمل المبكر.
د - الدعوة إلى تحديد النسل.
هـ - الاعتراف بحقوق الزناة والزانيات.
و - الاعتراف بالشذوذ الجنسي.
ز - السماح بأنواع الاقتران الأخرى غير الزواج.
ح - التنفير من الزواج المبكر، وسن قوانين تمنع حدوث ذلك.
ط - إنهاء تبعية المرأة والبنت من الناحية الاجتماعية.
ي - سلب قوامة الرجال على النساء.
ك - سلب ولاية الآباء على الأبناء.
2 - ما يتعلق بالجانب التعليمي(2):
أ - تشجيع التعليم المختلط.
ب - الدعوة إلى المساواة في مناهج التعليم.
ج - الدعوة إلى التثقيف والتربية الجنسية.
3 - ما يتعلق بالجانب الصحي(3)، وأهم السلبيات في هذا الجانب:
أ - الأمراض الجنسية، ومن ذلك:
- الدعوة إلى أن يكون السلوك الجنسي المأمون، والوقاية من الأمراض المنقولة بالاتصال الجنسي جزءاً لا يتجزأ من خدمات الصحة الجنسية والإنجابية، مع ضمان السرية والخصوصية للمراهقين والمراهقات فيما يتعلق بهذا الجانب.
- تيسير انتشار وتوزيع الواقيات الذكرية (الرفالات) بين الذكور على نطاق واسع وبأسعار زهيدة.
- القضاء على التمييز ضد الأشخاص المصابين بالإيدز.
- ضمان عدم تعرض المصابات بالإيدز للنبذ والتمييز بما في ذلك أثناء السفر.
- تقديم ما يلزم من الرعاية والتعاطف للرجال والنساء المصابين بالإيدز.
- الاعتراف بهذه العلاقات الجنسية المحرمة، والتي تسبب هذه الأمراض الجنسية.
ب - الإجهاض، ومن ذلك:
- الدعوة إلى أن يكون الإجهاض غير مخالف للقانون، وأن يكون مأموناً طبياً.
- الدعوة إلى إلغاء القوانين التي تنص على اتخاذ إجراءات عقابية ضد المرأة التي تجري إجهاضاً غير قانوني.
- الدعوة إلى أن يكون الإجهاض حقاً من حقوق المرأة، وتيسير حصولها على هذا الحق، عندما تريد إنهاء حملها.
- الدعوة إلى إنشاء مستشفيات خاصة للإجهاض.
- الدعوة إلى قتل الأجنة داخل الأرحام، بحجة أنه غير مرغوب فيه.
ج - ختان المرأة، ومن ذلك:
- حث الحكومات على حظر بتر أجزاء من الأعضاء التناسلية للإناث.
- أن يكون التنفير الفعال من الممارسات الضارة - مثل بتر أجزاء من الأعضاء التناسلية للأنثى جزءاً لا يتجزأ من برامج الرعاية الصحية الأولية.
- أن إزالة أجزاء من الأعضاء التناسلية للإناث يشكل انتهاكاً للحقوق الأساسية للمرأة، ويعتبر من العنف والتمييز الواقع عليها.
- تضخيم الآثار السلبية الطبية، من جراء عملية ختان المرأة.
- سن وإنفاذ قوانين لمواجهة مرتكبي ممارسات العنف ضد المرأة - ومنها ختان الإناث.
4 - ما يتعلق بالجانب الاقتصادي، ومن ذلك(1):
أ - التقليل من عمل المرأة داخل المنزل، واعتبار ذلك عملاً ليس له مقابل، ومن ثم فهو من أسباب فقر المرأة.
ب - الدعوة إلى خروج المرأة للعمل المختلط.
ج - الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل فيما يتعلق بالعمل (نوعية العمل ووقته).
د - دعوة الحكومات للقيام بإصلاحات تشريعية وإدارية لتمكين المرأة من الحصول الكامل على الموارد الاقتصادية، كحقها في الميراث بالتساوي مع الرجل.
هـ - تيسير حصول المرأة على الائتمانات (القروض الربوية).
5 - ما يتعلق بالجانب السياسي، ومن ذلك(2):
أ - دعوة الحكومات والمنظمات لاتخاذ إجراءات من أجل مشاركة المرأة في الأنشطة السياسية.
ب - ضمان حق التصويت للمرأة، وحقها في الانتخاب.
ج - تشجيع الأحزاب السياسية على تعيين مرشحات من النساء من أجل انتخابهن على قدم المساواة مع الرجل.
د - الدعوة لإصدار تعليمات حكومية خاصة لتحقيق تمثيل منصف للمرأة في مختلف فروع الحكومة.(8/499)
هـ - الدعوة لتمثيل المرأة تمثيلاً منصفاً على جميع المستويات العليا في الوفود، كوفود الهيئات والمؤتمرات واللجان الدولية التي تعالج المسائل السياسية والقانونية ونزع السلاح، وغيرها من المسائل المماثلة.
و - حق المرأة في أن تكون رئيسة دولة، أو رئيسة وزراء، أو وزيرة.
رابعاً: أهم جوانب الخطورة في هذه المؤتمرات، وهي:
أ - أن القاسم المشترك بينها هو المرأة، ومساواتها التامة بالرجل في كافة مجالات الحياة المختلفة، وكذلك الجنس، والحرية المطلقة.
ب - أنها تستظل بمظلة الأمم المتحدة، وتستثمر شعارات العولمة وأدبياتها.
ج - أنها توظف سلطان الدول الكبرى سياسياً واقتصادياً وحضارياً لفرض تنفيذ توصياتها.
د - أن الهدف النهائي لها هو: عولمة الحياة الاجتماعية بالمفهوم الغربي الإباحي.
خامساً: بعض إيجابيات هذه المؤتمرات:
الأمور السابقة هي أبرز سلبيات مؤتمرات الأمم المتحدة - في نظري - حول المرأة. إلا أنه إحقاقاً للحق وحكماً بالعدل، وامتثالاً لقول الله ـ تعالى ـ: {ولا يّجًرٌمّنَّكٍمً شّنّآنٍ قّوًمُ عّلّى أّلاَّ تّعًدٌلٍوا اعًدٌلٍوا هٍوّ أّقًرّبٍ لٌلتَّقًوّى} [المائدة: 8]، فإن هذه المؤتمرات قد دعت إلى أمور تخص المرأة، وتعتبر أموراً إيجابية، ومن ذلك:
أ - الدعوة إلى تعليم المرأة، وإزالة الأمية عنها.
ب - الدعوة إلى مكافحة الأمراض السارية عند النساء، خاصة في البيئات الفقيرة.
ج - الدعوة إلى الرضاعة الطبيعية، بالنسبة للأم.
د - محاربة الاتجار بالمرأة والطفل، واستغلالهما جنسياً، من خلال شبكات وعصابات دولية متخصصة في هذا المجال، واعتبار ذلك جريمة دولية محرمة.
هـ - تشجيع وسائط الإعلام على الامتناع عن تصوير المرأة على أنها مخلوقة أدنى منزلة من الرجل، وكذلك عدم استغلالها مادة وسلعة في سوق الجنس.
و - الدعوة إلى المساواة في الأجور بين الجنسين لنفس العمل، وبنفس الجودة.
ز - الدعوة إلى إعطاء إجازة أمومة للمرأة العاملة.
ح - مكافحة التحرش الجنسي ضد المرأة من قِبَل الرجل في مواقع العمل وغيرها.
ط - مسؤولية الوالدين عن تربية الطفل وتنشئته تنشئة سوية.
ي - منع استغلال المرأة جنسياً من خلال النزاع المسلح، أو من خلال استغلال ظروف اللاجئات وفقرهن.
ك - التحذير من وأد البنات، والانتقاء الجنسي قبل الولادة.
سادساً: المواقف والظواهر السلبية والإيجابية حول هذه المؤتمرات في العالم العربي والإسلامي:
1 - الظواهر والمواقف السلبية، ومنها:
أ - مشاركة بعض الجمعيات النسائية العربية والإسلامية في الإعداد لهذه المؤتمرات والمشاركة في اللجان التحضيرية، بل إن بعض الجلسات التحضيرية لمؤتمر بكين - مثلاً - عقدت في الأردن، وبمشاركة بعض الجمعيات النسائية فيها.
ب - تزايد نشاط التيار النسوي الوافد بما يحمله من فكر تغريبي، ومثاله: الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية بالمغرب، وما قامت به الهيئات المساندة لمشروع الخطة من تنظيم مسيرات تأييد من 8 مارس/ آذار ـ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2000م.
ج - تزايد التمويل الأجنبي المشبوه لمنظمات نسوية، أو معنية بشؤون المرأة والأسرة في العالم العربي.
د - بداية الاتجاه لإعادة النظر في قوانين الأسرة - أو ما يسمى بالأحوال الشخصية - في العالم الإسلامي، كما حصل في مصر.
هـ - طرح مناقشات وبرامج تجاه المرأة في المجتمعات المحافظة، كما هو الأمر في بعض دول الخليج.
2 - بعض المواقف والظواهر الإيجابية، ومنها:
أ - قيام عدد من الهيئات الإسلامية باستنكار بعض ما ورد من وثائق لهذه المؤتمرات وخاصة الأخيرة منها، ومنها: موقف هيئة كبار العلماء في السعودية، وموقف الأزهر في مصر حول وثيقتي مؤتمري السكان في القاهرة، والمرأة في بكين.
ب - ازدياد ظاهرة الوعي الإسلامي بهذه المؤتمرات المشبوهة، ورصد المؤامرة وكشفها.
ج - وجود بعض الفعاليات الإسلامية ضد التيار التغريبي، مثل:
د - مؤتمر الاتحاد النسائي العالمي من 25 ـ 27 فبراير 2000م، وهذا الاتحاد هو مؤسسة دولية غير حكومية، ذات صبغة استشارية لدى المؤتمر الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة، تأسس عام 1996م للدفاع عن الممارسات الظالمة ضد المرأة، والتي تخالف الدين وكرامة الإنسان، ومقره الخرطوم، وهذا الاتحاد ونشاطاته عليه بعض الملاحظات، إلا أننا نقدر الهدف الذي من أجله نشأ وأقام مؤتمره.
هـ - اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل (ممثلة رابطة العالم الإسلامي)، والتقرير الذي أعدته، والمعنون بـ (التقرير البديل)، والمقدم إلى لجنة مركز المرأة بالأمم المتحدة بوصفها اللجنة التحضيرية للدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي عنوانها: «المرأة عام 2000م» تحت شعار: (مساواة النوع الاجتماعي والتنمية والسلام في القرن الحادي والعشرين).
هـ - ما قامت به الندوة العالمية للشباب الإسلامي من خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده أمينها العام د. مانع الجهني في 20 صفر 1421هـ، لكشف أبعاد ما في وثيقة (مؤتمر بكين + 5) من مخططات إفسادية.
وغيرها من الظواهر والمواقف الإيجابية.(8/500)
سابعاً: كيفية مواجهة هذه المؤتمرات المعولمة للحياة الاجتماعية (أو الموقف من هذه المؤتمرات):
إن الوعي بأهداف هذه المؤتمرات، وما تدعو إليه، ومن يقف وراءها يجعلنا نتمكن من اختيار الطريقة المناسبة لكيفية مواجهتها، واتخاذ الموقف المناسب تجاهها. وهذه الطريقة ذات اتجاهين: موقف نظري معرفي، وموقف عملي.
فالموقف النظري المعرفي يقوم على ما يلي:
1 - كشف سوءاتها وعوارها للجمهور الإسلامي، وبيان مراميها، ومخالفتها لمقاصد الشريعة، وأنها أحد أذرعة العولمة المعاصرة؛ وذلك من خلال وسائل الإعلام المختلفة (المقروءة، والمسموعة، والمرئية)، والندوات، والمحاضرات؛ وذلك من قبل العلماء، والدعاة، وطلاب العلم، والمثقفين الإسلاميين، والإعلاميين، والقيادات النسائية، وتحميلهم المسؤولية في بث الوعي العام؛ للوصول إلى تحصين داخلي قوي.
2 - أن تقوم الوزارات والهيئات والمؤسسات الإسلامية (الرسمية وغير الرسمية)، كوزارات الخارجية، والشؤون الإسلامية، والشؤون الاجتماعية، ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وهيئة كبار العلماء، وعلماء الأزهر، ودور الإفتاء، وكل من يقوم على أمور المسلمين بأداء دورهم اللازم، وتكوين حضور قوي في الداخل والخارج، ومن ذلك إصدار بيانات تستنكر هذه المؤتمرات وأهدافها الخبيثة، ونشر هذه البيانات وتغطيتها تغطية إعلامية حتى يتبين الأمر للجمهور الإسلامي.
3 - كشف زيغ التيار النسوي التغريبي في العالم الإسلامي والعربي، وأنه جزء من تيار الزندقة المعاصر، والمدعوم من هيئات مشبوهة خارجية.
4 - قيام الجهات الخيرية الإسلامية والأقسام النسائية فيها على وجه الخصوص، والجمعيات الخيرية النسائية، بتحمل مسؤولياتها، والتنسيق فيما بينها، وإصدار وثيقة للأسرة المسلمة تؤصَّل فيها الرؤية الشرعية حول المرأة وحقوقها الأساسية في الإسلام، وكذلك الأسرة ومفهومها الشرعي.
وكذلك القيام بالمناشط الدعوية التثقيفية لمختلف شرائح المجتمع.
5 - عمل رصد إعلامي جاد لكل فعاليات المؤتمرات الدولية والإقليمية، ومتابعة الخطوات الفعلية لتنفيذ توصيات المؤتمرات السابقة التي ناقشت قضايا المرأة، وإصدار ملاحق صحفية؛ لبيان الموقف الشرعي من هذه المؤتمرات وتوصياتها.
6 - إقامة أسابيع ثقافية في المدارس والجامعات؛ لبيان مخالفة مثل هذه المؤتمرات لمقاصد الشريعة الإسلامية.
7 - ممارسة ضغوط شعبية قوية على وسائل الإعلام المختلفة التي تقوم بالترويج والتغطية السيئة لهذه المؤتمرات لتكف عن ذلك.
8 - اعتماد إدخال الأسرة في مناهج التعليم في المرحلة المتوسطة والثانوية للبنين والبنات، ويشتمل هذا المنهج ـ بوصفه صيغة مقترحة ـ على: قيمة الأسرة، ومكانة المرأة في الإسلام، والمفهوم الشرعي للعلاقة بين الرجل والمرأة، والحقوق الزوجية، والوسائل الفعالة في تربية الأولاد، وبيان الأفكار المتصادمة مع الفطرة، ويشتمل هذا المنهج ـ أيضاً ـ على عرض تاريخي للجهود الدولية في إفساد الأسرة والمرأة المسلمة، وعولمة الحياة الاجتماعية ـ عموماً ـ عن طريق هذه المؤتمرات العالمية، وبيان أهدافها الخبيثة الحالية والمستقبلية.
9 - تكوين هيئات عليا للنظر في كل ما يتعلق بالأسرة من النواحي النفسية، والثقافية، والصحية، وتفعيل دور وزارات الشؤون الاجتماعية للقيام بدور فاعل للاستجابة لمتطلبات الأسرة المسلمة.
10 - تفعيل دور الأئمة والخطباء، وإعطاؤهم دورات تثقيفية حول هذه المؤتمرات، والإيعاز إليهم بتكثيف التوعية بخطورة مثل هذه المؤتمرات وتوصياتها على الأجيال القادمة ـ مع تجنب العنف والإثارة ـ.
أما الموقف العملي فيقوم على ما يلي:
1 - المشاركة الفعالة في هذه المؤتمرات، وطرح البديل الإسلامي في المسألة الاجتماعية، وكشف عوار الحياة الغربية الاجتماعية - كلما أمكن -.
وحجة القول بهذا الرأي: أن الضعيف إذا قاطع مثل هذه المؤتمرات لا تؤثر مقاطعته، وبذلك تسود وجهة نظر القوي. بينما إذا قاطع القوي فإن مقاطعته ستؤثر. وكنموذج لهذا الكلام فإن مقاطعة الولايات المتحدة الأمريكية لمنظمة اليونسكو قد أضعفتها كثيراً.
والمسلمون ـ اليوم ـ ضعفاء أمام أصحاب وجهات النظر الأخرى؛ فمقاطعتهم لا تؤثر، بخلاف لو حضروا وطرحوا ما عندهم بقوة، وأبدوا ما لديهم من تحفظات؛ فإن هذا يقطع الطريق على تفرد وجهة النظر الغربية في هذه المؤتمرات؛ حيث يعلم البشر أنه يوجد وجهة نظر أخرى في المسألة الاجتماعية؛ خاصة إذا علمنا أن قرارات هذه المؤتمرات ملزمة إلى حد كبير.
ومما يؤكد هذا الاتجاه - أي المشاركة - ما حصل في مؤتمر السكان والتنمية بالقاهرة/1994م ومؤتمر المرأة الرابع في بكين/1995م؛ حيث كان لمشاركة الوفود والهيئات الإسلامية دور واضح في رفض وتعديل بعض توصيات هذين المؤتمرين.(9/1)
2 - تأسيس مراكز متخصصة لمتابعة النشاط النسوي التغريبي العالمي والإقليمي، ومعرفة ما يتعلق به من مؤتمرات، من حيث: مواعيد إقامتها، وأوراق العمل التي ستقدم فيها، والاجتماعات التحضيرية لها، وغير ذلك؛ حتى يتمكن المهتمون بهذا الجانب من مقاومة أفكار هذه المؤتمرات بكل جدية وسرعة، وتقديم الأبحاث، والرؤية، والرأي لأصحاب الشأن العلمي، والاجتماعي، والشرعي لإعانتهم على تشكيل الموقف الصحيح عند الحاجة، وكذلك كشف الوجه الآخر البشع للحياة الاجتماعية الغربية، وتقديم الإحصاءات، ورصد الظواهر في تلك المجتمعات؛ حتى يتبين لهم أنه الحق.
3 - الاستفادة من بعض الجمعيات النسائية الغربية - المناهضة والمعارضة لبعض أفكار هذه المؤتمرات - وذلك من خلال الاستفادة من نفوذها في بلدانها، وكذلك ما يتوفر لديها من معلومات وحقائق عن مجتمعاتها وعن بعض الاجتماعات السرية التي تدور من خلف الكواليس؛ وخاصة أن كثيراً من هذه الجمعيات لها مواقع على شبكة المعلومات العنكبوتية؛ فيمكن من خلال «الإنترنت» التواصل معهم، والحصول على المعلومات منهم.
-------------------------------
(*) باحث يحضر شهادة الدكتوراة في موضوع بعنوان: (قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية.. دراسة نقدية في ضوء الإسلام)، كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(1) انظر: مجلة المجتمع، العدد 1402، بتاريخ 26/2/1421هـ.
(1) بدأ هذا الصندوق عملياته في عام 1966م؛ وذلك للأغراض الآتية ـ كما ورد هذا في موقع الصندوق على الشبكة العنكبوتية ـ:
أ - المساعدة على إيجاد برامج الصحة الإنجابية، بما في ذلك تنظيم الأسرة، والصحة الجنسية ـ أي الدعوة إلى الحرية الجنسية المأمونة طبياً!! ـ.
ب - حل المشاكل المقترنة بسرعة النمو السكاني.
ج - مساعدة البلدان النامية ـ بناء على طلبها!! ـ في حل مشاكلها السكانية.
د - العمل على تحسين الصحة الإنجابية.
هـ - المناداة بالمساواة بين الجنسين، وبتمكين المرأة، والسعي إلى تثبيت تعداد سكان العالم. انظر: http:// www.unfpa.o r g. ويشرف هذا الصندوق على الإعداد للمؤتمرات العالمية السكانية.
(2) المصدر: مطبوعة للأمم المتحدة بعنوان: «القرارات والتدابير التي اتخذتها منظمات الأمم المتحدة، والتي تهم اليونسكو في دورة المجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، في دورته الرابعة والأربعين بعد المائة»، ص 32، 33.
(3) انظر: هذا الدستور في موقع الأمم المتحدة، وعنوانه: http:/ /www.un.o r g/a r abic/aboutun/cha r te r / cha r te صلى الله عليه وسلم
(1) القائم على مفهوم التماثلية التامة (لا التكاملية) بين المرأة والرجل، دون اعتبار لأي فروق بينهما، سواء كانت فروقاً جسدية، أو نفسية، أو عقلية، (وهي ما تسمى علمياً بالفروقات البيولوجية، والفسيولوجية، والسيكولوجية)، هذه الفروق التي اعترف بها علماء الغرب أنفسهم من خلال دراساتهم وأبحاثهم، فضلاً عن المفهوم الإسلامي للمساواة بين المرأة والرجل القائم على مفهوم التكامل بينهما، واختصاص كل منهما بخصائص تختلف عن الآخر؛ بحيث يكمل كل منهما الآخر، ويقوم بما أوجبه الله عليه في عمارة هذا الكون، دون أي تمييز بينهما، وليس هذا مجال التفصيل في هذه القضية.
(2) مجموعة الصكوك الدولية للأمم المتحدة نيويورك 1983م، نقلاً عن كتاب المرأة في الإسلام، سامية منيسي، ص 165.
(3) اعتمد هذا الإعلان ونشر بقرار الجمعية العام 217 (أ) ( د ـ3) المؤرخ في 10 كانون الأول ـ ديسمبر 1948م. انظر: حقوق الإنسان في الإسلام، محمد الزحيلي، ص 393، وحقوق الإنسان، محمود بسيوني، ص 17.
(4) المرأة في الإسلام، سامية منيسي، ص 165. (5) انظر: حقوق الإنسان، محمود بسيوني وآخرون، ج 1، ص 90.
(6) اعتمد هذا العهد الدولي وعرض للتوقيع والتصديق بقرار الجمعية العامة 2200 (أ) ( د ـ 21) المؤرخ في 16 كانون الأول / ديسمبر 1966م، وتاريخ بدء النفاذ: 3 كانون الثاني/ يناير 1976م، طبقاً للمادة 27.
(7) حقوق الإنسان، محمود بسيوني، ج 1، ص 23.
(1) حقوق الإنسان، محمود بسيوني، ج 1 ، ص 32.
(2) حقوق الإنسان، محمود بسيوني، ج 1 ، ص 93. (3) المرجع السابق، ج 1، ص 49.
(1) حقوق الإنسان، محمود بسيوني، ج 1 ، ص 97 ـ 107.
(1) هو الفصل الرابع، وعنوانه: (المساواة بين الجنسين والإنصاف وتمكين المرأة).
(1) انظر: وثيقة المؤتمر العالمي ـ كوبنهاجن، 1980م، الصفحات: 6، 26، 28، 35، 39، 44، 51. ووثيقة المؤتمر العالمي للمرأة ـ نيروبي، 1985م، الصفحات: 28، 31، 46، 55، 57، 58، 61، 79، 80، 106. ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة ـ بكين، 1995م، الصفحات: 6، 11، 18، 41، 46، 47، 48، 51، 55، 56، 57، 58، 61، 63، 101، 103، 105، 106، 142، 144، 148.(9/2)
ووثيقة المؤتمر الدولي المعني بالسكان ـ مكسيكو، 1984م، الصفحات: 3، 4، 12، 13، 21، 23، 27، 29، 30، 31، 32، 42. ووثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية ـ القاهرة، 1994م، الصفحات: 11، 14، 21، 24، 25، 27، 29، 30، 31، 32، 33، 36، 37، 41، 43، 44، 45، 47، 49، 50، 52، 53، 55، 56، 65، 66، 67، 87، 88، 92، 93، 95، 102، 104، 110، 108، 112، 115. ووثيقة المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية ـ ريودي جانيرو، 1992م، الفصل (24) ص 400، 401.
(2) انظر: وثيقة المؤتمر العالمي للمرأة ـ كوبنهاجن، 1980م، الصفحات: 28، 39. ووثيقة المؤتمر العالمي للمرأة ـ نيروبي، 1985م، الصفحات: 35، 57، 61، 248. ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة ـ بكين، 1995م، الصفحات: 35، 41، 46، 55، 56، 142، 147، 148. ووثيقة المؤتمر الدولي المعني بالسكان ـ مكسيكو، 1984م، ص 31. ووثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية ـ القاهرة، 1994م، الصفحات: 30، 37، 44، 45، 52، 53، 54، 55، 56، 84، 85، 89.
(3) انظر: وثيقة المؤتمر العالمي للمرأة ـ كوبنهاجن، 1980م، ص 37. ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة ـ بكين، 1995م، الصفحات: 21، 46، 48، 52، 55، 56، 58، 59، 60، 61، 62، 64، 68، 125، 141، 142، 146، 150. ووثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية ـ القاهرة، 1994م، الصفحات: 29، 32، 44، 45، 49، 50، 52، 53، 54، 55، 59، 66، 67، 93.
(1) انظر: وثيقة المؤتمر العالمي للمرأة ـ كوبنهاجن، 1980م، الصفحات: 22، 30، 31، 33، 46، 51. ووثيقة المؤتمر العالمي للمرأة ـ نيروبي، 1985م، الصفحات: 26، 27، 31، 32، 45، 50، 51، 52، 53، 65، 75، 106، 143، 146، 167. ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة ـ بكين، 1995م، الصفحات: 7، 8، 16، 18، 22، 25، 26، 31، 32، 33، 34، 87، 88، 90، 91، 95، 96، 98، 99، 100، 102، 113، 144، 196، 204، 207. ووثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية ـ القاهرة، 1994م، الصفحات: 26، 28، 31. ووثيقة المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية ـ ريودي جانيرو، 1992م، الفصل (24) الصفحات: 400، 401، 403. ووثيقة مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية ـ كوبنهاجن، 1995م، الصفحات: 21، 52، 57، 73، 76، 78.
(2) انظر: وثيقة المؤتمر العالمي للمرأة ـ كوبنهاجن، 1980م، الصفحات: 23، 148. ووثيقة المؤتمر العالمي للمرأة ـ نيروبي، 1985م، الصفحات: 19، 25، 26، 34، 36، 37، 85، 94، 115، 124، 127. ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة ـ بكين، 1995م، الصفحات: 6، 14، 15، 18، 23، 102، 103، 104، 105، 106، 107، 108، 125، 195.
ووثيقة المؤتمر الدولي المعني بالسكان ـ مكسيكو، 1984م، ص 20. ووثيقة المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية ـ ريودي جانيرو، 1992م، ص 403. ووثيقة مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية ـ كوبنهاجن، 1995م، الصفحات: 20، 37، 87.
المصدر:http://www.albayan-magazine.com
============(9/3)
(9/4)
العولمة .. ملاحظات نفسية
د.حسان المالح
استشاري الطب النفسي
تتميز العولمة بجملة من التغيرات الاقتصادية والتقنية والاجتماعية والثقافية ومن المتوقع أن هذه التغيرات سوف يكون لها آثار نفسية على صعيد الفرد والمجتمع .
واذا أخذنا التغيرات التقنية في وسائل الاتصال والمعلومات مثلاً فإننا نجد عدداً من الصفات والسلوكيات التي تميزها :
1- الاتصال بالآخر : تتيح تقنيات الاتصال الحديثة مثل الإنترنت والبريد الإلكتروني والهاتف الجوال الاتصال بالآخر وبسرعة فائقة والتعامل معه ومن الممكن تسمية ذلك " ازدياد أهمية التواصل " بين البشر ولكن في الوقت نفسه أن هذا الاتصال يبقى" فضائياً " وليس مباشراً . كما يلاحظ أن هذا الشكل من الاتصال يطغى على اتصال الفرد المباشر والحميم بالآخر مما يمكن له أن يجعله هامشياً و ثانوياً . ومع ازدياد أهمية قيمة الاتصال كقيمة إنسانية وما يتبعها من تطور في مهارات اللغة و التفاهم و الحوار بين الفرد و الآخرين تبقى نوعية هذا الاتصال خاصة وغير مباشرة مما يمكن أن يساهم في عزلة الفرد عملياً و انطوائه .. مالم يحدث توازن و توجيه لهذا النمط من الاتصال في تطوير الاتصال المباشر جنباً إلى جنب مع الاتصال الفضائي .
2- الفردية و الذاتية : تتميز تقنيات الاتصال الحديثة بأنها تنمي الفردية والذاتية .. وهي تمنح المستخدم لها قدرات على التحكم بضغط الأزرار و بسرعة والتنقل من موضوع إلى آخر إلى موقع إلى أشخاص .. وفقاً لمزاج الفرد وتفكيره وإرادته. كما أن إسم الفرد و عنوانه ورمزه الخاص به يظهر على الشاشة ويتداوله الآخرون .. وفي ذلك اعتداد بالذات وارضاء للفردية والنرجسية والأنا .. وتعزيز و تضخيم لها . وفي نفس الوقت تتيح نفس التقنيات إمكانية التنصت على ما يكتبه الفرد أو يخزنه في جهازه الشخصي ( الكومبيوتر ) .. وايضاً إمكانية التدخل في بريده الشخصي و إغراقه بمعلومات قد لا يحتاج إليها .. إضافة إلى إمكانية حدوث تخريب لجهازه الإليكتروني و الأذى الذي يمكن أن يلحق به. كما أن سرقة بطاقات الائتمان و استخدامها غير الشرعي يمكن أن يؤدي إلى خسائر مادية كبيرة . وهكذا يشعر الفرد ظاهرياً أنه مستقل وحر و يتصرف كما يريد مضخماً وهم الفردية و النرجسية ولكنه في نفس الوقت معرض للتدخل و الاجتياح .. ومن المتوقع أن يؤكد ذلك قيماً و صفات سلبية مثل القلق و الحذر و الشك وعدم الأمان .
3- التنافس والمغامرة والربح : تفتح العولمة بجوانبها الاقتصادية والتقنية الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام التنافس وإمكانيات الربح والمغامرة الاقتصادية و الاجتماعية و العملية .. ولكن في الجهة الأخرى نجد أن الربح و المصادفة الناجحة والحظ لا يستمتع بها إلا قلة .. ويبقى القانون الاقتصادي هو " التحكم بالأرباح الكبرى من نصيب الشركات الكبرى " ويبقى وهم الفرصة السانحة يستهوي الفرد ولكن من المتوقع أن يصيبه بالإحباط وخيبة الأمل والكوارث أيضاً بعد التجربة و المعاناة .
4- الصدمة الثقافية : تمثل تقنية الاتصالات ثورة هامة في مجال الثقافة والمعلومات والقيود المفروضة عليها تبقى محدودة ويمكن لهذا الانفتاح المعرفي والثقافي أن يكون له آثار إيجابية إلا أنه يمثل صدمة ثقافية وتربوية للكثيرين .. مما يعني اهتزاز القيم والأفكار والثوابت التي يحملها الإنسان ويسبب ذلك قلقاً وتناقضاً لا يسهل فهمه والتعايش معه من قبل الفرد وربما يجعله سلبياً يتقبل كل شيء ويتصالح مع مختلف والأفكار وأساليب العيش .. وربما يجعله أكثر تعصباً ونكوصاً وتطرفاًَ وعودة إلى الماضي وبين ذلك خيارات واحتمالات أخرى متنوعة ومنها الشعور بالنقص والضعف ونقد الذات والشعور بالعجز والاكتئاب والفقدان .
ويعبر كثيرون عن قلقهم من كمية المعلومات المتاحة ونوعيتها .. ويشعر الفرد بأنه فقد السيطرة ليس على أبنائه وأسرته فحسب بل حتى على أصدقائه ومعارفه .. وكل على هواه دون رقيب .. ومن الناحية الاجتماعية يمكن أن تنتج ثورة المعلومات والاتصالات هامشاً أكبر للحرية والمعرفة ولا شك في ذلك .. وهذا ما يستدعي تعديلات في بنية الهيئات الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة.
ويبقى أن هناك صدمة ثقافية تحتاج إلى التعامل معها بكل قلقها وتناقضاتها من قبل الفرد والمجتمع وهذا يعني " ازدياد التوتر والاضطراب والتغير والتحول" .
5- استيراد وتصدير الأمراض الجسمية والنفسية والاجتماعية : تستدعي العولمة فكرة " القرية الكونية الواحدة " بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. وأيضاً المرضية.
ومن الملاحظ أن تبادل الأمراض المختلفة أصبح أكثر شيوعاً بين مختلف الشعوب .. ويحدث ذلك بسبب العدوى والتقليد والتأثر وغيره من خلال تبادل المنتوجات المتنوعة ابتداءاً من البشر والآلات والأطعمة إلى الكتب والمجلات والأفلام ..(9/5)
ومن المتوقع أن المجتمعات الأكثر تطوراً يمكنها أن تتعامل بشكل أفضل مع مثل هذه المشكلات بحكم إمكانياتها وتطورها .. وتبقى المجتمعات النامية أكثر عرضة وتأثراً بالمشكلات العديدة التي تفرضها هذه الأمراض الجسمية والنفسية والاجتماعية .. مما يعزز الشعور بالضعف والعجز وعدم الأمان لدى الفرد والمجتمع.
كلمة أخيرة
لا يمكننا اتهام التطور العلمي والتقني بمخاطر العولمة ومساوئها .. والعلم وسيلة بيد الإنسان والمجتمع يمكن أن يستخدم في سعادة البشر .. كما يمكن أن يستخدم في غير صالحهم .. ولا بد من القول بأن العولمة تحمل في داخلها تناقضاتها وصراعاتها .. ولا بد من التعامل مع الواقع والظروف المعاصرة دون الهرب إلى الأمام أو إلى الخلف .. ويبدو أن هناك تحديات كبيرة وكذلك هناك مسؤوليات متنوعة يجب أن يحملها الفرد والمجتمع .. وهكذا الحياة.
المصدر:http://www.hayatnafs.com
==============(9/6)
(9/7)
هذه غابة العولمة.. وتلك وحوشها!
يجتذب مصطلح (العولمة) يوماً بعد آخر المزيد من النقاش، والكثير من الجدل؛ لما لهذا المصطلح من تأثير مباشر متراكم آخذ في القوة على حياة البشرية منذ أن أخذت وسائل الإعلام ومؤسسات صنع العقول في طرحه وتسويقه إلى المثقفين والعامة... هذا المصطلح الذي يأتي امتداداً لرؤية عالم الاتصال الكندي الشهير (مارشال ماكلوهان) بتحول العالم إلى قرية كونية أو عالم واحد يثير اليوم غباراً كريهاً من الممارسات والفواجع والكوارث.
لنتفق أولاً على أن (العولمة) ليست مخلوقاً جديداً أو فكرة ترفل في ثياب جديدة مع تسليمنا بأن وجود مصطلح العولمة يقصد به وجود نمط عالمي واحد، وباختصار: امتداد طبيعي لنمو (المركز) الغربي وانبساطة في الأرض (مبشراً) بنموذجه المادي المغرق في حب السيطرة، أو كما يقول أحد المفكرين الغربيين: (إنها روما الجديدة... كما كانت روما في السابق تصر على أن كل الطرق تؤدي إليها؛ فإن العولمة حتماً لا تعرف سوى طرق تؤدي إلى أمريكا، وكما كانت روما جنة السادة وجحيم العبيد فإن أمريكا تعيد الفكرة نفسها حيث لا يوجد قرية كونية إنما مدينة مقسمة: واحدة للأثرياء، وأجزاء شاسعة للفقراء الذين يشعرون بالسعادة؛ لأنهم يجاورون السادة ويشاركونهم اسم المدينة).
ولنتفق ثانياً أن من حق الأمة المسيطرة أن تسعى لفرض ثقافتها وسلوكها ومعتقدها ومصالحها؛ عملاً بمبدأ التدافع في الأرض.
ولنتفق ثالثاً على عدم طرح العولمة على أنها شر محض ونقبل ما فيها من مصالح مثل انتقال المعلومات المجردة، ونقل أيسر للتقنية ورأس المال اللازم لتنمية البلدان الفقيرة والأقل نمواً.
(هل هناك داعٍ لذكر أن المسلمين يشكلون رقماً لا بأس به في هذه القائمة؟) ولنطرح أيضاً موقفاً محايداً من كل العوامل السلبية التي يراد لنا أن نبتلعها ونتلذذ بطعمها المر ثم لنسأل أسئلة مدوية بحجم القضية المطروحة؟
لماذا يبشر النموذج الأمريكي بالعولمة في الوقت الذي تزداد السياسة الأمريكية والغربية انغلاقاً وعنصرية ورفضاً (للعالمي) إذا مس أرضها ومصالحها ونمط معيشتها أدنى مس..؟
لماذا تتفق مراكز العولمة وأركان صنع قرارها على اتخاذ الإسلام عدواً وحيداً أمام النموذج الذي تدعوه ب (المتحضر) والذي يعكس تفاهة تلك الثقافة وغوغائيتها؟
لماذا يراد لنا نحن المسلمين أن نقبل بعضوية (نادي العولمة) دون أن نسأل عن شروط العضوية، ورسوم الاشتراك، وطقوس النزع التي تنتظرنا، ودرجة حرارة النار التي سوف يطبخ عليها (العشاء الأخير) الذي سيزيل من أجسادنا آخر ذرات المقاومة ليجهز في النهاية على أنفاسنا؟
إن هذه الأمة بشهادة خبراء العولمة أنفسهم كانت حتى هذه اللحظة ولا تزال أصعب الأمم على القولبة وأشدها مراساً في مواجهة النموذج الاستعماري المتغطرس.
والعولمة لا تعني انتقال البضائع والخدمات والنقد والتقنية والمعلومة والشركة والسلوك والثقافة منفردة الواحدة تلو الأخرى.. كلا إنها تعني أن يقدم هذه الطّعم ضمن سياق فكري لا نحتاج إلى ذكاء شديد أو حتى بلاهة أشد لنعرف حقيقة أنه الثقافة الغربية: النصرانية/ المادية في نموذجها الأشد فجاجة وغطرسة وتعالياً! وإذا كان من حق فرنسا أن تقاتل وتحارب وترفع صوتها وتتصدى بالقوانين والممارسة لهذا النموذج... فلا أظن أن اللاعقين لجراح (داحس والغبراء) المعاصرة إلا أن يفتحوا عيونهم قليلاً وعقولهم كثيراً لهذه الهجمة المتواصلة منذ انحسار الإسلام كقوة عالمية ودولية مؤثرة!
إن الأسئلة تزداد توغلاً في صدورنا ونحن نرى اليوم ثمار العولمة تنبت في أراضينا شجراً من علقم..
المسلمون في جنوب شرق آسيا كانوا قبل أشهر ضحية للعولمة مضافاً إليها مخزون كراهية متفجر.. فالخبراء الأوروبيون يرون أن تحطم الأسواق الآسيوية، كانت عملية مدبرة بين البنك الدولي والبنوك الغربية الكبرى وامتدادها الياباني حيث أغرقت هذه الأسواق بالقروض الربوية القصيرة الأمد والتي كانت تقدم بشكل مثير وبأرباح هائلة تدفع لأصحاب الثروات البنكية، ثم اتضح بعد الأزمة أن البنك الدولي تَقَدّم لمساعدة هذه الدول شريطة تسديد أرباح البنوك الغربية الفلكية وإغلاق البنوك الوطنية الربوية هي أيضاً لينفرد النموذج الوحيد نفسه للعولمة بالساحة؛ وتنتهي مقولة النموذج الآسيوي أو النمور الصاعدة التي تُروّض بأمثال اليهودي البشع (سورش).
هذه العولمة يقودها كما يطمئننا الخبراء المروِّجون للعولمة الأفراد لا الحكومات، وإذا كان سورش بإجماع الخبراء هو (نجم العولمة القادم) فلنقرأ شيئاً من سيرته.
قام سورش بدعم المافيا اليهودية الحاكمة في روسيا؛ وهذه المافيا تشمل إمبراطوريات المال والإعلام، ويستثمر ما يزيد على 30 بليون دولاراً متحالفاً مع عصابات المافيا والإجرام التي يحركها اليهود هناك.
قام بالمضاربة في بورصات جنوب شرق آسيا لأشهر قبل الأزمة؛ ويتفاخر بأنه حطم أسعار البورصات إلى النصف، وكانت ماليزيا وأندونيسيا أكثر الدول تضرراً حيث ما زالتا تعانيان الأمرّيْن.(9/8)
يدعم حالياً صناعة الألماس (الإسرائيلية) ب 20 بليون دولاراً حتى لا ينهار سعر الألماس المصنّع الذي يشكل مصدراً هاماً للدخل للدولة الصهيونية.
ساد الهلع سوق المال المصرية بعد إعلانه استثمار بلايين الدولارات في السوق المصري الذي أكد خبراء المال أن دخوله إليه سيحطمه وبسرعة!
إذن هذه هي بعض (لقيمات) العولمة الاقتصادية التي هبت لمساعدة كوريا وتايلاند بينما تركت أندونيسيا وماليزيا تلعق جراحها رغم أن كوريا ليست في أمريكا الشمالية وتايلاند لا تمت إلى القارة الأوروبية بصلة!!
أما العولمة العسكرية فنحن في هذا الجزء من العالم نشهدها ونلمسها حين تصر واشنطن على الخيار العسكري المدمر في الخليج بينما كل دول العالم ترى أن خيارات المفاوضات العالمية بعد ذلك لإرضاء (غطرسة العولمة) التي لا تنظر للعالم سوى بمنظار السادة والعبيد.
أما العولمة الثقافية فهي برأي الخبراء والمفكرين تروِّج لثقافة (الهمبرجر) (والكوكاكولا) والغناء على الطريقة نفسها، وهي طلائع العولمة التي لا تبشر إلا بمزيد من الشقاء والتعاسة للبشرية.
فكم من (سورش) على الطريق يعمل لوأد كل اتجاه صاعد في عالمنا الإسلامي؟! وهل يا ترى ننتبه لما يراد لنا أم على قلوب أقفالها؟!
وأخيراً: فالعولمة تحدٍّ كبير يحتاج من الأمة أن تستدعي مثقفيها وعلماءها ومفكريها إلى رصدها والتصدي لها من منظور إسلامي، وهي قضية شائكة تتطلب التفهم الإيجابي لبعض مكوناتها كالاستفادة من التقنية أو الجوانب الاقتصادية التي لا تتعارض مع مصالح الأمة المسلمة..
وهذه الدعوة تحتاج إلى عقول ورجال وإمكانات بحجم التحدي الهائل وبحجم الإحجام والإهمال الذي نشعر به من مثقفي المسلمين الأصلاء، والذين نخجل من نتاجهم في هذا الجانب مقارنة باهتمام ومتابعة ومقاومة الاتجاهات الفكرية الأخرى داخل وخارج عالمنا الإسلامي.
بقيت حقيقةٌ هي منطلق هذه المحاولات والدعوات، كما أنها هي الضوء في نهاية نفق التحدي المليء بالوطاويط.
أبداً لن تَهزِمَ ثقافةُ (ميكي ماوس) الإيمانَ الحقيقي الفعال.. إيمانَ الغلام حين يُستدعى للموت فيطلب الشهادة شريطة أن يُنادى بسمع الكون وبصوت عالٍ... باسم الله رب الغلام.
((وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [يوسف: 21].
المصدر:http://www.albayan-magazine.com
==============(9/9)
(9/10)
العولمة وغياب المشروع الحضاري العربي
مهنّد ابراهيم أبو لطيفه
قليلة هي المصطلحات التي تثير ضجة كبيرة على الصعيد الدولي، وتخضع لمثل هذا الرصد والتفسير والتحليل، التهليل والرفض والعديد من الفرضيات، مثل الذي خضع له مصطلح العولمة في السنوات الماضية. وهذا مرده أن مصطلح "العولمة" فرض نفسه بقوة ليطال عمق العالم بغرض احداث تغييرات نوعية في كافة مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية تقودها ثورة لتكنولوجيا المعلومات ذات طابع كوني، غاية في التطور والتعقيد ولأول مرة في التاريخ الإنساني، وفي ظل غياب توازن دولي على مستوى القوى الكبرى، ما يصطلح تسميته بعصر القطب الواحد.
تطور مصطلح العولمة :
تتحدث دراسة - صدرت حديثاً في ألمانيا، عن المركز الاتحادي للبحوث السياسية، الذي يعتبر من أهم المراكز البحثية المتخصصة في الاقتصاد السياسي والعلوم الاجتماعية، شارك في إعدادها نخبة من المتخصصين في هذا المجال - تتحدث عن تطور مصطلح العولمة الذي ظهر -كما جاء فيها - للمرة الأولى في السبعينات بعد بث صورة الكوكب الأزرق(الأرض) التي التقطت بواسطة الأقمار الصناعية، ليتطور المصطلح مشيراً إلى الاسواق العالمية الجديدة للبضائع ورأس المال مصحوباً بثورة الاتصالات والمعلومات التي حوّلت العالم إلى قرية إعلامية صغيرة.
يضاف إلى ذلك تطور اقتصاديات الدول لتتجاوز الحدود وتتداخل فيما بينها، ويمكن تصور حجم هذا التطور إذا علمنا -كما جاء في الدراسة- أنّ أربعين ألف مؤسسة اقتصادية شملها هذا التغيير لتساهم عبر استثماراتها وتعاونها إلى تقليص المسافة بين الدول الصناعية وغيرها في ظل غياب لأجزاء كبيرة من القارة الافريقية عن المشاركة بحكم ظروفها في هذه " العملية التطورية المستمرة للإنتاج واتساع الأسواق في العديد من دول العالم، لتتداخل اقتصادياتها ويكتسب السوق العالمي ديناميكية جديدة تفتح أفاقاً واسعة لكافة القطاعات ".
لم تكن العولمة عملية منظمة مائة بالمئة، ولكنها في معظمها نتاج " قرار سياسي للعديد من الدول " مما يفسر هذا الاندفاع الذي يصعب ايقافه وتفسيره واستيعابه. الإرادة السياسية دفعت بالعديد من الدول لتطوير (أو تطويع) سياستها الاقتصادية الخارجية على حساب الاقتصاد الوطني تحت تسميات عديدة مثل : الانفتاح، الخصخصة، الإصلاح الاقتصادي ... مما أدى إلى إفلاس العديد من شركات ومؤسسات القطاعين العام والخاص التي لم تستطع الصمود في وجه هذا المد الهائل المنافس ذي التقنيات والمواصفات. يشير مصطلح العولمة كذلك إلى جملة من التغييرات المراد أن تشهدها جميع جوانب الحياة تحت شعارات الانعتاق والحرية في ظل النظام الجديد من العلاقات الدولية تقرب المسافات بين الشعوب بعيداً عن التطرف الديني والقومي والاقليمي، وازدياد الاعتراف الدولي بحقوق الأفراد، ونهاية للصراع بين الشرق والغرب، الاهتمام بالبيئة على المستوى العالمي، كما يروج دعاة العولمة.
نحن والعولمة : مواقف بعض المفكرين العرب
اهتم المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي بشكل كبير بكل جوانب العولمة، وحظي هذا المشروع الكوني باهتمام منقطع النظير في جميع هذه الاوساط نتيجة الإحساس المبرر بمخاطره في ظل غياب واضح للمشروع الحضاري العربي ومقومات دخول الألفية الثالثة بشكل يضمن حجم وفاعلية التعاطي مع هذه التغييرات الجامحة.
عُقدت المئات من الندوات وحلقات النقاش والمحاضرات، وصدر العشرات من الكتب التي تناولت هذا الموضوع، ونقدم فيما يلي رصداً لأبرز المواقف التي اهتمت بالعولمة، بابعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية.
يفيد الباحث الاجتماعي الدكتور سيد ياسين ، أنّ جوهر العولمة هو :
أ ) انتشار المعلومات بحيث تصبح مشاعة بين الناس.
ب) تذيب الحدود بين الدول مما يضرب فكرة السيادة الوطنية أو القومية.
ج) زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات، مما يؤدي إلى تفكك الدولة القومة وعجزها عن السيطرة على مقاليد الأمور.
أما الدكتور اسماعيل صبري عبدالله فيؤكد على أنّ العولمة ستقود إلى عجز الدولة القومية عن السيطرة على مقاليد الأمور، ولا شك في تراجع الدولة في البلدان الصناعية المتقدمة وضعفها أمام الشركات متعددة الجنسيات والاتجاه الغالب لتخفيض الانفاق العام ولا سيما في مجال الضمان الاجتماعي، وتصغير حجم الدولة وتسريح الألاف من موظفيها، وأصبح رؤساء الدول والحكومات في زياراتهم الرسمية يحملون عقوداً تجارية خدمة للشركات الكوكبية (ربما مقابل مصلحة شخصية لرجل السياسة أو حزبه) وأصبح أكبر الساسة كمندوبي المبيعات Salesman .(9/11)
فيما يرى الدكتور جلال أمين أنّ الشركات متعددة الجنسيات، في عصر العولمة، قد حلّت محل الدولة. كما حلت الدولة محل الاقطاعية تدريجياً منذ خمسة قرون، تحل اليوم الشركة متعددة الجنسية تدريجياً محل الدولة، والسبب في الحالين واحد : التقدم التكنولوجي وزيادة الإنتاجية والحاجة إلى أسواق أوسع، لم تعد حدود الدولة القومية هي حدود التسويق الجديدة، بل أصبح العالم كله مجال التسويق، سواء كان تسويقاً لسلع تامة الصنع، أو تسويقاً لمعلومات وأفكار، فقفزت الشركة المنتجة فوق أسوار الدولة، وأخذت هذه تفقد قيمتها الفعلية، بل أصبحت أكثر فأكثر أسواراً شكلية، سواء تمثلت في حواجز جمركية، أو حدود السلطة السياسية، أو حدود بث المعلومات والأفكار، أو حدود الولاء والخضوع... إنني ما كنت لأذرف الكثير من الدموع حزناً على انحسار سلطة الدولة لولا أنّ الذي يحل محل الدولة هو الشركات العملاقة متعددة الجنسيات.
فاي مؤشر هناك يدلني على انّ الحرية التي أتمتع بها في ظل سطوة هذه الشركات أكبر وأوسع مما كنت أتمتع به في ظل سطوة الدولة؟ هل أنا بحاجة إلى أن أذكركم بما تفعله وسائل الإعلام الحديثة بحرية الرأي والتفكير، أو بما تفعله سطوة هذه الشركات بحرية المرأة ومكانتها؟ أو بمدى تحملها للاختلاف الحقيقي في الرأي؟
يتفق الدكتور محد عابد الجابري مع الطرح القائل أن العولمة " تتضمّن معنى إلغاء حدود الدولة القومية في المجال الاقتصادي (المالي والتجاري) وترك الأمور تتحرك في هذا المجال عبر العالم وداخل فضاء يشمل الكرة الأرضية جميعها".
أما الأستاذ صادق جلال العظم فيعترض على كل محاولات تسطيح مصطلح العولمة، ووصفها بامباراطورية الفوضى، أو بالمملكة، أو كونها عالم بلا دولة، بل هي رفع الدولة إلى تركيب أعلى، مما يعني التعديل في دورها ووظائفها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، ويقول :
" العولمة هي رسملة العالم على مستوى العمق، بعبارة أخرى، إن ظاهرة العولمة التي نعيشها الآن، هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي -إلى هذا الحد أو ذاك- إلى الأطراف، بعد حصرها طوال هذه لمدة كلياً في مجتمعات المركز ودوله. بمعنى إعادة صياغة مجتمعات الاطراف وتشكيلها على الصورة الملائمة لعمليات التراكم المستحدثة في المركز ذاته. إنّ صعود مرحلة عالمية دائرة الإنتاج ونشرها هي ما نسميه اليوم بالعولمة. وهي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ".
إنها نقلة نوعية في حياة الرأسمالية التاريخية من التبادل والتجارة إلى الإنتاج. وهي لا تساوي الفوضى، أو هي الفوضى لا أكثر، ورغم كل التناقضات، فإن عملية العولمة تدار بكليته من مواقع المركز بكفاءة عالية، إنّ فينومينولوجيا العولمة كما أرصدها حالياً، تعمل في الغالب لا على تغيير العالم ولا على فهمه، ولا على تفسيره، بل تعمل على تكريسه وتسويغه وتبريره وعقلنته على حساب الطرف الأضعف في المعادلة.
وفي ندوة لدار المدى في دمشق حدد مجيد الراضي (مدير تحرير المجلة) أنّ جذور العولمة : فكرية، ثقافية، دينية كامنة، " وهي ليست قبولا بالآخر كحامل لثقافة مختلفة بالاستناد لمعطيات معينة، وإنما محاولة سافرة من الأقوى لابتلاع الآخر - الأضعف والمختلف ثقافياً - من جذوره... إنّ انتصار الرأسمالية لا يعني نهاية التاريخ".
في حين يعترض الدكتور ماهر الشريف على فكرة أن العالم توحد فعلاً أو يشهد صيرورة توحيد، اقتصادياً وتجارياً وتكنولوجيا، كي يصبح في الإمكان الربط بين هذا التوحيد وتوحده على المستوى الثقافي ويعتبر أنّ السياسات الرأسمالية قد عمّقت الانقسام في العالم لا مثيل له.
تركز المستشارة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في القاهرة الدكتورة نجوى الفوّال ، على البعد الثقافي لظاهرة العولمة، وترصد التغييرات الايجابية المصاحبة لها في النقاط التالية :
1.
تجاوز الفرد للدائرة الضيقة للإعلام الوطني في ظل الثورة التكنولوجية.
2.
اتساع مساحة الحرية أمام المتلقى، وتزايد قرة القنوات الفضائية غير الحكومية على مناقشة جميع القضايا بطرح الرأي والرأي الآخر، بحيث صارت تلك القنوات ساحات للممارسة الديمقراطية التي تفتقدها على مستوى الواقع أغلب دول الجنوب.
3.
تنشيط الصناعات المختصة للاتصال المرئي، وفتح مجالات للعمل أمام العمالة المتخصصة وان كان التطور المتلاحق في تكنولوجيا الفضائيات قد ترك أثراً حول عملية إحلال العمالة المدربة والاستغناء عن سواها، بحيث أصبحت سوق العمل هنا أكثر تخصصاً.
4.
فتح ظهور شبكة الإنترنت وانتشارها عالمياً مجالات لا حدود لها للمعرفة واكتساب المعلومات لتسهيل الاتصال بين الأفراد ومن ثم بين الثقافات، ومع نهاية القرن العشرين تنامى باطراد الاتجاه نحو المزج بين هذه الشبكة وبين وسائل الاتصال الجماهيري، إلى حد يتنبأ فيه البعض بأن يُصبح الكمبيوتر الشخصي هو وسيلة الاتصال المجمعة لباقي الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، وذلك في المستقبل القريب.(9/12)
كذلك تورد المستشارة بالمركز القومي، الجوانب السلبية في الظاهرة، مثل نقل أساليب وقيم حياة جديدة ومختلفة، ومخاطر التشوه الثقافي، والمنافسة الحادة بين التقاليد والمستورد، في ظل الهوة الكبيرة في امتلاك تقنيات الاتصال واستخدامها بين الشمال والجنوب.
ومذكِّراً بالفترات التي كان العرب هم القوة المحركة وراء عملية "كوكبة" للعالم، على المستويين التجاري والثقافي على الأقل، يطرح الدكتور سعيد -في مقال له بالأهرام_ سؤالا هاماً :
" هل الانكماش على الذات، والاكتفاء برفض "الكوكبة" أو "العولمة" قد حمى العرب ومكنهم من الحصول على الأمان؟ ناهيك عن "التقدم" . ويجيب بالنفي على السؤال معتبراً " أننا لم نحصل على كل هذا لأننا أخذنا في تجنب العالم والتكنولوجيا، ورفضنا العقل وأخذنا نتعقب عقولنا العظيمة فنعمل فيها الذبح والسجن والنفي، وارتبط رفض كل موجة من موجات "العولمة" بموقف بدا دفاعياً وانتهى بالانكماش الحضاري والمادي لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وبالخضوع في نهاية المطاف للاستعمار... العولمة ستكون بكل تأكيد تهديداً داهماً لأمن العرب وتقدمهم، إذا ما حررنا العقل من المخاوف واستجبنا للتحدي". وتكون هذه الاستجابة للتحدي-حسب رأيه- بالعمل العربي المشترك على جميع المستويات وفي جميع المجالات، والانفتاح على الآخر بكل ثقة وديناميكية وتحرر من الانكماش، وإنجاز مهمات التحديث في جميع المجالات، واحترام الحريات الاساسية للإنسان، وإنجاز التحولات الديمقراطية، وصياغة سياسة علمية وتكنولوجية فعالة، والإصلاح السياسي والدستوري... أي مشروع حضاري عربي شامل ومتكامل.
عرضنا بعض المواقف العربية تجاه بعض موضوعات العولمة والتي لا يمكن بالطبع الإلمام بمختلف جوانبها، على امل أن نكون فد قدمنا للقارئ العربي ما يضيف إلى معرفته جديداً، ويضعه بصورة التحولات التي تترك أثرها كل يوم على واقعه المعيشي والحياتي بشكل عام.
مصادر :
1.
الاهرام الدولي 29/اكتوبر 1999 .
2.
كتاب العرب والعولمة، أسامة أمين الخولي، بيروت، مركز دراشات الوحدة العربية.
3.
مجلة وجهات نظر، العدد العاشر، نوفمبر 1999 .
4.
مجلة الهدف، العدد 1291، 1999 .
5.
نشرة صادرة عن المركز الاتحادي للبحوث السياسية- ألمانيا، 1999 .
المصدر:http://www.ibn صلى الله عليه وسلمushd.o r g
============(9/13)
(9/14)
العولمة الفكرية الإسلامية
أ . د. عابد السفياني (*)
إن «الإسلام» هو الرسالة الخاتمة التي أُرسل بها رسولنا محمد عليه وعلى إخوانه المرسلين أفضل الصلاة والسلام، وهي رسالة عالمية لها مبادئها الشاملة لجميع أحوال البشرية العقدية والتشريعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة والعامة، ويدخل في ذلك من آمن بها من أهل الإسلام ومن دخل تحت أحكامها ونظامها التشريعي من غير المسلمين.
ومن المناسب أن نقول إن انحسار العولمة الإسلامية هو سبب لفتح الطريق للعولمة الكفرية. والعولمة الفكرية الغربية هي اتخاذ الأمم الكافرة الوسائل لنشر مبادئها ونظمها وأفكارها عالمياً، وهو ما يُسمى الآن بـ «العولمة الفكرية» ـ بالنسبة للغرب ـ التي تتمثل في نشر أفكاره ونظامه.
ونذكر مثالاً يوضح الفرق بين العولمة التشريعية في الإسلام، وبين العولمة التشريعية بالنسبة للكفار.
حرّم الإسلام نكاحَ المحارم، وحرّمَ السفاح والزنى واللواط على المسلمين وعلى غير المسلمين من الكفار اليهود والنصارى، والمجوس وغيرهم، وقام المسلمون بدعوة الناس جميعاً لاجتناب الرذائل، وألزموا مَنْ دخل في الإسلام بتركها، ومَنْ بقي على كفره وكان مع المسلمين في بلادهم أيضاً؛ لأنها محرمة على الجميع، ونُشِرَ هذا التشريع عالمياً واستفاد المسلمون والكفار من الآثار الإيجابية المترتبة عليه، فانحسرت الرذائل وآثارها السلبية(1)، وهذه عولمة تشريعية إسلامية.
أمّا الكفار فيحاولون أن يعولموا الإباحية ويُصدروا التشريعات التي تبيح الفواحش والشذوذ وينشروها من خلال الأنظمة الوضعية والمؤتمرات الخاصة بالمرأة والسكان، وإطلاق الحريات.
ولهذا فإنني أرى أن توصف جهود المسلمين في نشر الإسلام عالمياً بقولنا: «العولمة الفكرية الإسلامية» ويشمل ذلك التعريف بالإسلام، ومن ثمرته دخول الناس أفواجاً في الدين، وهؤلاء بمقتضى الإسلام يكون معهم العلم به والعمل، ويُطلب منهم أن يشاركوا في نشره وهذا يوسع دائرته العالمية.
وأمّا الكفار الذين يدخلون تحت حكم الإسلام ونظامه فهؤلاء يدخلون تحت «العولمة الفكرية والتشريعية» إن صح التعبير، وإن لم يدخلوا تحت اسم الإسلام. فالعولمة التشريعية أو الفكرية الإسلامية تعني نشر الإسلام عقيدةً، كما تعني نشر النظام الإسلامي، ويشمل ذلك مصطلح الدعوة الإسلامية.
وأمّا جهود الأمم الكافرة في نشر أنظمتها وأفكارها وتشريعاتها الرأسمالية أو الإباحية فيجب أن يُسمى ذلك بـ «العولمة الكفرية»، ويشمله قولنا: الدعوة الكفرية، أو الدعوة إلى الكفر، أو الدعوة لنشر أنظمة الكفار ومناهجهم ومذاهبهم.
ذكر الأدلة النقلية والعقلية على وجوب إخضاع البشرية لعالمية الإسلام:
1 - قال الله ـ تعالى ـ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ }[البقرة: 213].
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق»، قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «وهذا القول صحيح عن ابن عباس سنداً ومعنى؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام»(1).
ففي هذه الفترة كان العالم يعيش تحت شريعة واحدة وهذا هو الأصل في البشرية، وهذه الشريعة الإسلامية هي الحق والهدى والخير والعفاف، ويقوم على ذلك حفظ الدين والأنفس، والعقول، والأعراض، والأموال.
2 - أن الشرائع الإسلامية في جميع العصور جاءت بالنظام الذي يحفظ تلك الضروريات التي يسميها العلماء الضروريات الخمس التي سبق ذكرها آنفاً، والتي تكوّن الأمة الواحدة ذات المبادئ الواحدة والنظام العالمي الواحد، وقد طرأ الاختلاف في البشرية بعد أن لم يكن، فلما وقع الاختلاف، وطرأ الشرك، وظهرت الخرافة والظلم والبغي، وخالف بعض الناس الشرائع الإسلامية أرسل الله نوحاً ـ عليه السلام ـ ليرد الناس إلى ما كانوا عليه.
يؤكد ذلك أنه مَا مِنْ نبي ورسول إلا ويأتي بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، والأمر بإقامة أركان الإسلام والإيمان وتطبيق الشرائع الحافظة للأنفس والأعراض والعقول والأموال.
قال الله ـ تعالى ـ: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الإسراء: 23]، وقوله ـ سبحانه ـ: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [يس: 60، 61].
وقوله ـ سبحانه ـ: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } [البقرة: 83].
وجاء الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم يجدد هذه الدعوة لتكون للعالمين نذيراً، ولتكون للعالمين ذكراً: {إنً هٍوّ إلاَّ ذٌكًرِ لٌَلًعّالّمٌينّ} [التكوير: 27] .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].(9/15)
ويؤكد القرآن مفهوم الأمة الواحدة العالمية: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 92].
ومن أكبر مقاصد هذه الوحدة العالمية ما يلي:
أ - تذكير البشرية بنشأتها الأولى.
ب - تأكيد وحدة الفطرة الإنسانية.
ج - تأكيد حاجة البشرية للعبادة المبنية على التوحيد الخالص.
د - تقديم الحلول العملية التطبيقية للمحافظة على مصالح البشرية الدنيوية والأخروية؛ ففي الدنيا المحافظة على تلك الضروريات، وفي الآخرة النجاة من النار ودخول الجنة، والفوز برضوان الله.
3 - عناية الإسلام العظيمة بتأكيد حفظ ضرورات البشرية، واستمرار نشأتها الخيّرة الأولى. وإن من المقاصد العظيمة للإسلام كف البشرية عن الشرور التي ترتبت على الاختلاف الذي وقع بسبب الشرك والظلم والبغي والفواحش؛ ولهذا قال الله ـ سبحانه ـ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [البقرة: 213].
فأما الفريق من الناس الذين ظلموا وبغوا وتركوا مقتضى العلم الصحيح والعمل بالهدى والحق، فهؤلاء خلافهم وشرورهم طارئة على البشرية، وترتب على هذا الخلاف نشوء جميع الضلالات والانحرافات العقدية والعملية الموجودة في هذا العالم؛ فكانت رسالات الأنبياء ـ عليهم السلام ـ تُعنى بمحاربة تلك الشرور التي ترتبت على تلك المخالفات مع عنايتها بتجديد التوحيد والأمر بإقامة أركان الإسلام.
ولهذا ذكر العلماء ـ رحمهم الله ـ أن كل مقصد من مقاصد الإسلام بُني من جهتين: من جهة إيجاده والقيام به، ومن جهة حمايته، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك، أمر بالصدق ونهى عن الكذب، أمر بالزواج ونهى عن الزنا، أمر بالصدق والعفاف ونهى عن قطع الأرحام والفواحش، أمر بالعدل في المعاملات ونهى عن الجور والربا والعقود الفاسدة، أمر بالوفاء ونهى عن الغدر والخيانة، وغير ذلك من المبادئ العالمية؛ أي التي هي ذكر للعالمين ويحتاجها جميع الناس، ولا تصلح الأرض إلا بإقامة التشريع الإسلامي، ثم المحافظة عليه. وواضح من هذه الأمثلة: أن الطارئ على البشر هو الفساد والشرك والفواحش والربا والغدر والخيانة والطغيان السياسي والاقتصادي والإباحي، وهذا كله طارئ على نشأة البشرية، ومخالف لفطرتها؛ ولهذا شدد الإسلام على أتباعه، وأمرهم بمحاربة هذا الفساد، وأن يشهدوا عن طريق نشر العلم والدعوة، وعن طريق العمل والواقع بتجريم هذه الانحرافات، ورد البشرية عنها.
ولما ضعُف جهد المسلمين العلمي والعملي والدعوي وانحسرت قوتهم ازداد الكفار في غيهم ومخالفاتهم وانحرافاتهم، وعظُم الطغيان الرأسمالي، والربا، ونشر الفساد والإباحية والانحرافات الأخلاقية، وما زالوا يحاولون عولمتها. وهذا كله من مسائل الجاهلية التي جاء الإسلام لمحاربتها. والواجب على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها نشر العلم والاعتقاد والعمل الذي يقف في وجه هذه الانحرافات والشرور والفساد، ورفض هذه العولمة المنحرفة سواء من الناحية الفكرية أو التشريعية، وتقديم البديل الذي هو: العولمة الإسلامية العقدية لمن يقبل الإسلام ديناً، والفكرية والتشريعية لمن يخضع له نظاماً، أو يستفيد من مبادئه وتشريعاته.
ونختم هذا المقال بصورتين لهما أكبر الدلالة فيما نحن فيه:
الصورة الأولى: صورة للعولمة الفكرية أو التشريعية أو العقدية الكفرية قبل بعثة صلى الله عليه وسلم كما وردت في الحديث الصحيح: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»(1). أي قليل من أهل الكتاب على دين صحيح لم يُبدل.
وهذه هي الصورة لحياة الجاهلية قبل بعثته عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا نقول: إن العولمة الكفرية التي يقوم بها الغرب اليوم هي عولمة مقيتة ممقوتة؛ لأنها مبنية على مسائل الجاهلية: من رأسمالية، وربا، وإباحية، وطغيان سياسي. أما الرأسمالية فإنها تضطهد الفقراء شعوباً ودولاً وأفراداً، وأما الربا فهو السبب الكبير في المشاكل الاقتصادية التي أرهقت الشعوب، وأما الإباحية فقد حوّلت المرأة إلى سلعة تُستعمل في الجنس والدعاية والفن الرخيص.
ولا يزال الغرب يبذل ما يستطيع لعولمة هذه الانحرافات، ويحارب الشريعة الإسلامية؛ لأنها تجرّم الطغيان الرأسمالي والإباحية وتنهى عن الظلم والفحشاء.
وأما الطغيان السياسي فقد نشر الظلم، وأهدر الحقوق وأصبح القوي هو الذي يتحكّم كما يشاء.(9/16)
ولهذا فإن مَنْ أسمى نفسه: «النظام العالمي الجديد» يعتبر العالم قريةً واحدة يريد أن يعولم فيها أفكاره وتشريعاته الرأسمالية والإباحية والسياسية، وكل ذلك على حساب كرامة الإنسان ومقدرات الشعوب.
الصورة الثانية: المبادئ الإسلامية العالمية ويتحدث عنها رجلان، أحدهما زعيم من زعماء الجاهلية الأولى، والثاني رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما الأول: فهو أبو سفيان بن حرب القرشي قبل أن يُسلم؛ وذلك حين سأله زعيم من زعماء الروم عن الإسلام ومبادئه العالمية؛ فقد جاء في الحديث الطويل الذي رواه عبد الله بن عباس في قصة كتاب رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى قيصر: قال قيصر لأبي سفيان: «فماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة»(2).
ودعوة صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام هو أول مراحل نشر العالمية الإسلامية.
وأما الثاني: فهو الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الذي تحدث عن الإسلام في بلاد الغربة عند الملك النجاشي، وقبل أن نذكر قيام جعفر ـ رضي الله عنه ـ وأصحابه بإعلان المبادئ العالمية للإسلام عند النجاشي نحب أن نشير إلى أن أبا سفيان بن حرب في كفره لو استطاع هو وقيصر أن يعولموا مبادئهم الضالة لفعلوا، وقد حاولت قريش أن تعمم انحرافاتها وموقفها من الدعوة الإسلامية، وأن تطارد المسلمين في خارج أراضيها وحدودها، وحاولت أن تقنع النجاشي بأن ما هي عليه من الشرك والفساد في الأعراف السياسية، والاقتصادية والظلم الاجتماعي إنما هو العدل، وهو الذي يجب البقاء عليه وهو الصالح للحياة البشرية، وأنّ تعاونهم على إبقائه والدفاع عنه هو السبيل لمقاومة مبادئ الإسلام، وهنا يظهر الصراع بين الكثرة التي تريد أن تنشر المبادئ الكفرية وتُعوْلمها، وبين القلة التي ترفض عولمة الكفر والتشريعات المنحرفة، وترفض الظلم في جميع مجالاته سواء الظلم في الاعتقاد، أو الظلم السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الأخلاقي، وهي مع رفضها لهذه الشرور والانحرافات تقاوم الغربة والاضطهاد، وتعلن عولمة المبادئ الإسلامية ولو كره المشركون.
وإليك صورةً من المواقف العملية لأصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم وهم يقفون مُتجردين من كل قوة إلا قوة الإيمان؛ لتكون نبراساً وقدوة لنا على الطريق ونحن نواجه عولمة الانحراف في شتى مجالاته في هذا العصر، ونترك القارئ في ختام هذا الحديث يتملى هذه الصورة النيرة للمواقف المشرفة كما ذكرها ابن إسحاق في السيرة النبوية. قالت أم سلمة بنت أبي أمية: «لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جارٍ النجاشي، أَمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله ـ تعالى ـ لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلَيْن منهم جَلْدَيْن، وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدَم(1)، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تُكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يُكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يُكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضَوَى(2) إلى بَلَد الملك منا غِلْمانٌ سُفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مُبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً(3)، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك منّا غلمان سُفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت: فقالت بطارقته حوله: صَدَقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عَيْناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسْلمْهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا ها الله! إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قومٌ جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَنْ سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك مَنعتُهم منهما، وأحسنتُ جِوارهم ما جاوروني.(9/17)
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسولُه اجتمعوا، ثم قال بعضُهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما عَلِمْنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلمكائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوا، وقد دعا النجاشي أساقفته(4)، فنشروا مَصاحفَهم حولَه سألهم فقال لهم: ما هذا الدينُ الذي قد فارقتم فيه قومَكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلّمه جعفرُ بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منّا الضعيفَ؛ فكنّا على ذلك؛ حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصِدْقه وأمانَتَه وعفافَه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبدَه، ونخلَع ما كنا نعبدُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمَرَنا بصِدْق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلة الرحم، وحُسْن الجِوار، والكَفِّ عن المحارم والدِّماء، ونهانا عن الفَواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقَذْف المُحْصنات؛ وأمَرَنا أن نعبد الله وحده لا نُشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ قالت: فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنّا نستحلُّ من الخبائث، فلما قَهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَنْ سواك؛ ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ! قالت: فقرأ عليه صدراً من: { كهيعص } [مريم: 1]. قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت(1) لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم؛ ثم قال [لهم] النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة(2) واحدة. انطلقا، فلا والله! لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون»(3).
وهكذا يجب أن يبيّن المسلمون للعالم عالمية الإسلام، ويدعوا إلى مبادئه؛ كما أظهر جعفر ـ رضي الله عنه ـ مبادئ الإسلام وعدَّد منها التوحيد، وإنكار الشريك والخرافة والتقليد، كما عدَّد منها الصدق، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء والفواحش وقول الزور، واستنكر ـ رضي الله عنه ـ أمر الجاهلية، وقد فهم النجاشي ملك الحبشة أن هذه المبادئ، وهذا الحق هو الذي جاء به عيسى ـ عليه السلام ـ وأنه يخرج من مشكاة واحدة، ورد زعماء الجاهلية الذين خرجوا من مكة يطاردون الدعوة الإسلامية.
ومثلهم أولئك الذين يطاردون الفضيلة ومبادئ الدعوة الإسلامية اليوم، ويخططون لعولمة الرأسمالية والإباحية ويتعجبون من المبادئ الإسلامية والفضيلة، ويكرهون أن ينتشر الحق في البشرية.
إن خطط الجاهلية الأولى قد أخفقت في محاربة الحق والفضيلة والعفاف والخير، وكذلك خطط العولمة الكفرية المعاصرة؛ والإسلام اليوم قد خطا خطوات واسعة نحو العالمية من حيث العلم والفكر، وكما انحسرت الجاهلية الأولى أمام مبادئ الإسلام يوم قام أمثال جعفر ـ رضي الله عنه ـ باستنكار أمر الجاهلية وإعلان مبادئ الإسلام فكذلك اليوم ستنحسر العولمة ـ بإذن الله ـ إذا قام المسلمون بمثل ما قام به دعاة الإسلام في جيل القدوة، وسيتقدم الإسلام نحو العالمية لا من الناحية الفكرية فقط، بل من الناحية العملية العقدية والتشريعية، وسيدخل الناس تحت سلطانه إمّا بمقتضى عقد الإسلام، وإما بالخضوع لنظامه، والله ـ سبحانه ـ ناصر دينه، وهو نعم المولى ونعم النصير.
------------
(*) عميد كلية الشريعة في جامعة أم القرى سابقاً، وأستاذ العقيدة في الكلية نفسها حالياً.
(1) حرمت الشرائع الإسلامية لدى الأنبياء ـ عليهم السلام ـ الفواحش والربا، انظر كتاب: حكم الزنا في القانون وعلاقته بمبادئ حقوق الإنسان في الغرب، دراسة في ضوء الشريعة الإسلامية، للكاتب.
(1) تفسير ابن كثير، 1/ 251.
(1) أخرجه مسلم، رقم 2865. (2) رواه البخاري، باب دعاء النبي إلى الإسلام، 4/56.
(1) الأدم: الجلود، وهو اسم جمع. (2) ضوى: لجأ ولصق.
(3) أعلى بهم عيناً: أبصر بهم.
(4) الأساقفة: علماء النصارى الذين يقيمون لهم دينهم، واحدهم: أسقف، وقد يقال بتشديد الفاء.
(1) كذا في أكثر الأصول، واخضلت لحيته: ابتلت. وفي نسخة: «حتى أخضل لحيته»: أي بلها.
(2) المشكاة: قال في لسان العرب: «وفي حديث النجاشي: إنما يخرج من مشكاة واحدة. المشكاة: الكوة غير النافذة؛ وقيل هي الحديدة التي يعلق عليها القنديل»، أراد أن القرآن والإنجيل كلام الله تعالى، وأنهما من شيء واحد.
(3) المغازي، لابن إسحاق، ص 358.
المصدر:http://www.albayan-magazine.com
=============(9/18)
(9/19)
العولمة اللغوية
هيثم بن جواد الحداد(*)
لا أظن أن القارئ لهذا العنوان سيجد جاذبية تشده إلى قراءة موضوع عن العولمة اللغوية، في الوقت الذي تقع عيناه على موضوعات متعلقة بالعولمة تبدو لأول وهلة أنها هي أهم مجالاتها، وأشدها خطورة؛ فموضوع مثل العولمة السياسية، أو العولمة الاقتصادية يستحوذ على اهتمام القارئ الذي يرى ويسمع صباح مساء كيف تصوغ السياسة مستقبل الشعوب، وكيف تتحكم السياسة في الاستقرار الدولي الذي يتأثر به الفرد قبل المجتمع؟
وهذا أمر طبيعي في ظل الظروف الراهنة، ولا سيما في ظل السُّعار السياسي الذي أنشب أنيابه في أكثر طبقات المجتمع نتيجة لسرعة المتغيرات الدولية، ولضخامة نتائجها وتأثيراتها، كل ذلك في مقابل التجهيل ـ سواء كان مقصوداً أو غير مقصود ـ الذي يمارس ضد المجتمعات والأفراد فيما يتعلق بالجذور الحقيقية لكثير من أسباب الصراعات الحضارية، أو الإقليمية بين الأمم.
لقد غفل الكثير أو تغافل، أن العقائد ـ بمدلولها الواسع ـ هي الرحى الذي تدور حوله تحركات الأفراد والمجتمعات، وهذه العقائد تتأثر وتؤثر ـ في نفس الوقت ـ بعدة عوامل مرتبطة بالطبيعة البشرية مثل اللغة.
فاللغة باختصار: وسيلة اتصال البشر بعضهم ببعض(1) وهي ذات علاقة ثنائية الاتجاه بما يعتقده الإنسان؛ ولهذا فلا يسع أي دارس لظاهرة عالمية بصرف النظر عن منحاها أن يهمل دراسة تأثير اللغة في هذه الظاهرة؛ فما بالك إذا كانت هذه الظاهرة متعددة الجوانب، مترامية التأثير والتأثر كظاهرة العولمة؟!
لقد كتب الكثير عن العولمة، وكأي موضوع يستجد في ساحة الفكر العالمي تبدأ الدراسات المتعلقة به، صغيرة بصغره، لكنها تنمو وتتسع دائرتها، حتى تنتقل إلى مرحلة تفتيت الموضوع قيد البحث، إلى موضوعات فرعية أكثر دقة؛ فالعولمة كانت محوراً واحداً تتناوله الدراسات المختلفة، ثم مع تطور تلك الدراسات، وازدياد خبرة الفكر اتسعت دائرة مجالاتها التي وضعت قيد البحث، فظهرت دراسات عن العولمة الاقتصادية، ثم عن العولمة السياسية، وكذلك العولمة الثقافية، وكذلك تناولت بعض الدراسات أنماطاً أخرى من العولمة مثل العولمة الإعلامية، والعولمة الاجتماعية، إلا أنني لم أقف على دراسة سواء كانت مستقلة أو غير مستقلة تتناول عولمة اللغة(1)، على الرغم مما سبق ذكره عنها.
مدخل في أهمية اللغة:
أهمية اللغة موضوع طويل بحاجة إلى دراسات مستقلة، والأبحاث فيه ليست بالقليلة؛ ولهذا سأقتصر في هذا المدخل على جوانب أهمية اللغة التي لها اتصال مباشر بالعولمة اللغوية باختصار شديد.
اللغة وعاء الثقافة:
اللغة وعاء الثقافة، والثقافة أساس الحضارة، والحضارة ترجمة للهوية؛ ومن هنا كانت اللغة من أهم الأركان التي تعتمد عليها الحضارات، ومن أهم العوامل التي تساهم في تشكيل هوية الأمة، وكلما كانت اللغة أكثر اتصالاً بثقافة الشعوب كانت أقدر على تشكيل هوية الأمة وحملها.
وبهذا ندرك السر في نهي الشريعة الإسلامية عن استعمال لغة الغير (الرطانة) دونما حاجة(2)، في الوقت نفسه الذي نجد فيه بعض الفقهاء أوجب تعلم اللغة العربية(3).
والشعور بهذا الخطر الذي تمثله اللغة الوافدة لم يكن وليد ظروف معينة حملت الفقهاء على هذا الرأي، لكنه حقيقة مرتبطة بطبيعة النفس البشرية التي تميل إلى المشابه والمماثل، والتي تقترب من الكائن الآخر إذا أمكن التواصل معه، وتبادل مكنونات النفس معه.
ولهذا فلا نعجب مثلاً حينما نرى أن بعض المفكرين اللغويين في بعض البلاد التي تعتبر نفسها أمة عريقة، يرون أن الغزو اللغوي الإنجليزي لا يقل خطورة عن الغزو العسكري.
إن الاعتزاز باللغة ليس وليداً لاعتزاز بذات اللغة بقدر ما هو اعتزاز بالثقافة التي تمثلها هذه اللغة، ونحن نقرأ في العصر الحديث مثلاً أن من أكبر العوائق التي وقفت في وجه اتفاقات السلام في مقدونيا الاعتراف باللغة الألبانية لغة ثانية في البلاد؛ فلماذا كل هذا الاختلاف والصراع حول مجرد لغة؟
ثم ما صراع الأمازيغ في المغرب العربي، وخصوصاً في الجزائر، الذي يسقط فيه الضحايا، إلا من أنواع الصراع من أجل إثبات الهوية، لا مجرد اللغة؛ فاللغة الأمازيغية لغة محدودة الانتشار، ضحلة الأدب والفنون، قليلة الفائدة، ولو أن أهلها نظروا بعين إنصاف لكانت لغة القرآن، ولغة قومهم المسلمين، ولغة دولهم، خيراً لهم من هذه اللغة التي تحاصرهم في أضيق الخنادق الحضارية.
اللغة من مقومات الوحدة:
بها تنهض الأمم، ويعلو شأنها، وتتحقق وحدتها، وفي غيابها تتفكك الشعوب وتضمحل الروابط وتتداعي، وينحسر الانتماء.
إن الدول التي يتحدث أهلها بلغة واحدة تكون أكثر تماسكاً وانسجاماً من الدول التي تتحدث بعدة لغات، بل إن وحدة اللغة من أهم عوامل الاستقرار السياسي والاقتصادي، وهذا واضح في الدول الأفريقية إذا ما قورنت بدول أوروبا وأمريكا.(9/20)
لقد اعتبر جمال الدين الأفغاني إخفاق الدولة العثمانية في عدم استخدام اللغة العربية لغة رسمية لجميع البلاد الإسلامية الواقعة تحت حكمها من أهم العوامل التي ساعدت على قيام النعرات القومية بين العرب والترك، والتي كان لها أكبر الأثر في سقوط الدولة العثمانية على المدى الطويل(4) .
ومن أجل هذا فليس من المستغرب أن يؤكد بعض الباحثين أن البلاد المجزأة لغوياً بشكل كبير بلاد فقيرة دائماً(1).
ويذهب بعض الباحثين إلى «أن التعدد اللغوي بين دول المجموعة الأوروبية يعد عقبة أساسية تحول دون انصهارها في كيان موحد»(2).
وتأسيساً على ما سبق ندرك خطورة دخول لغة أجنبية على قوم ما، هذه الخطورة متمثلة بمجرد مزاحمتها للغة القوم، بصرف النظر عن كونها أقوى أو أضعف؛ فما بالك إذا كانت اللغة الوافدة تملك من المقومات ـ ولو خارجية ـ أكثر مما تملك اللغة المحلية! كأن تكون اللغة الوافدة لغة الغالب، أو اللغة التي تمنح متحدثها ميزات اجتماعية، أو مالية، أو نحو ذلك.
وبكل حال؛ فإن ذلك يقود في الغالب إلى احتواء الثقافة المحلية بصورة تدريجية مما يجنبها مواجهة أي مقاومة، ومن ثم ستكون لها آثار مدمرة على المدى البعيد.
إذا علم هذا أدرك الإنسان تلك الحكمة الإلهية المتناهية حينما جعل كتاب هذه الأمة المقدس الذي يمثل دستور حياتها، كتاباً محفوظ الألفاظ والحروف، وأن تطالب الأمة بتعلمه وتلاوته كما هو بلسانه الذي أنزله الله به، وما أعظمه من حكيم الذي لم يقصر ارتباط هذه الأمة بهذا الكتاب على التشريع، بل شرع معه التعبد بتلاوة نفس اللفظ بحروفه، وزاد على ذلك بأن جعل هذا الكتاب كلامه، صدر منه جل وعلا بصوت وحرف، مما يشعر المسلم معه بارتباط عاطفي روحي بمجرد لفظ هذا الكتاب، زيادة على ارتباطه التشريعي به.
وبهذه المناسبة، وإن كنا نستبق بعض فقرات هذا البحث؛ فإننا نقول: إن الأمة المسلمة تملك من مقومات الوحدة اللغوية، ومن ثَمَّ الوحدة الحضارية ما لا تملكه أمة من الأمم؛ فوحدتها اللغوية ليست نابعة من مصلحة أرضية مؤقتة، لكنها تنبع من عقيدة سماوية طاهرة.
ما هو المقصود بالعولمة اللغوية؟
ماذا نقصد بالعولمة اللغوية، أو هل هناك عولمة لغوية؟ إذا نظرنا إلى مدلول العولمة الذي يعني جعل ما هو محلي عالمياً، أو الانتقال من المحلية الإقليمية إلى العالمية؛ فهل هناك لغة انتقلت من المحلية إلى العالمية، فتجاوزت نطاقاً جغرافياً محصورة ببلد أو بلدان، لتصبح لغة عالمية يتحدث بها العالم كله على اختلاف لغاته الأصلية؟ لا شك أن الجواب الواضح هو الإيجاب، ولا شك كذلك أن تلك اللغة الوحيدة التي يصدق عليها ذلك الوصف هي اللغة الإنجليزية.
وفي العقد الأخير يمكن القول إن سيطرة اللغة الإنجليزية وانتشارها العالمي الذي تضاعف مع الهيمنة الاقتصادية والإعلامية الأمريكية، ثم بسبب تزايد استخدام شبكة الإنترنت أدى إلى اتساع نطاق استخدام كلمات وعبارات إنجليزية تعبر عن الثقافة الأميركية والقيم الاستهلاكية التي قد لا تتناسب مع قيم بعض الأمم التي تعتبر نفسها عريقة، مثل الألمان، والصينيين، والفرنسيين، دون العرب وللأسف.
مظاهر عولمة اللغة الإنجليزية:
أول مظاهر عولمة ظاهرة من الظواهر أن تنتقل هذه الظاهرة من المحلية إلى العالمية، وهذا تماماً ما يحدث للغة الإنجليزية، أو لنقل ما يقوم به البشر نحو اللغة الإنجليزية.
لا أخفي على القارئ الكريم أني وقفت حائراً أثناء كتابة هذه المبحث؛ فقد وقفت على بعض الإحصائيات التي تفيد اتساع نطاق استخدام اللغة الإنجليزية، سواء كانت لغة أولى، أو لغة ثانية، ثم إذا بي أجد إحصاءات أخرى تدل في أقل الأحوال على انحسار ضئيل في اتساع هذه اللغة، ويبدو أن من أهم أسباب هذا التناقض باختصار شديد أن كثيراً من الدول النامية لا تملك إحصاءات دقيقة عن انتشار هذه اللغة أو لغات أخرى في بلادهم، بالإضافة إلى تباين المعايير في الحد الذي يعتبر الشخص به متحدثاً بلغة ما؛ فما هو حجم المفردات التي يتوجب على الإنسان حفظها؟ وما هي كمية التراكيب التي عليه أن يتقنها حتى يقال إنه يتحدث أو يتقن لغة أجنبية؟ وكيف ينظر إلى من يحسن القراءة دون الكتابة، أو العكس؟ ومن الغريب أن أحد أسباب تناقص نسبة المتحدثين باللغة الإنجليزية في العالم هو التناقص الحاد في أعداد المواليد الذي تشهده البلاد المتحدثة بالإنجليزية، وهو ما يؤدي إلى نقص عدد سكانها، في مقابل ازدياد عدد سكان البلاد الأخرى، ولا سيما دول العالم الثالث(1).
بالإضافة إلى ما ذكر فإن عدد المتحدثين بلغة ما لا يمثل حقيقة انتشار هذه اللغة أو عولمتها؛ فإن أكثر الإحصائيات، إن لم يكن كلها، تشير إلا أن أكثر لغة في العالم تحدثاً هي اللغة الصينية، والكل يعلم أن سبب ذلك ليس انتشار أو عولمة اللغة الصينية بقدر ما يعود لعدد سكان الصين الهائل، وهذا مما يزهد الباحث نوعاً ما في هذه الإحصاءات، إذا ما زاحمها في إثبات ذلك الافتراض شواهد وحقائق أخرى أقوى في الدلالة.(9/21)
وبكل حال يكاد يجمع من كتب في حاضر اللغات أن اللغة الإنجليزية هي اللغة العالمية بصرف النظر عن عدد المتحدثين بها وتوزيعهم الجغرافي؛ حتى إن كثيراً من الكتابات نظرت إلى اللغة الإنجليزية باعتبارها اللغة المعيارية العالمية(2) .
وهنا نكتفي ببعض هذه الشواهد والظواهر التي تدلنا على مدى امتداد هذه الظاهرة الأفقي:
1 - شعور كثير من الأمم بهذا الخطر الداهم الذي يمثله هذا التغلغل والانتشار للغة الإنجليزية، لا سيما تلك الدول التي تعتز بحضارتها، وتنظر بريبة لانتشار الثقافة الأمريكية، ولم تستسلم بسهولة للهيمنة الأمريكية على معظم جوانب الحياة، في معظم البلدان، فهذه فرنسا مثلاً وهي صديق لدود لأمريكا، يدعو رئيسها جاك شيراك إلى إقامة «تحالف» بين الدول التي تعتمد لغات من أصل لاتيني للتصدي بشكل أفضل لهيمنة اللغة الإنجليزية، وذلك لدى افتتاحه منتدى حول موضوع «تحديات العولمة».
وقال الرئيس الفرنسي لدى افتتاحه منتدى في جامعة السوربون جمع بين الناطقين بالفرنسية والإسبانية والبرتغالية إنه «في مواجهة قوة نظام مهيمن يحق للآخرين حشد القوى لإرساء المساواة في الفرص وسماع أصواتهم».
ودعا شيراك الناطقين بالإيطالية من الاتحاد اللاتيني إلى الانضمام إلى منظمة الفرنكفونية ومجموعة الدول الناطقة بالبرتغالية والمنظمتين الناطقتين بالإسبانية للدول الأمريكية ـ الأيبيرية والقمة الأيبيرية ـ الأمريكية.
وأضاف أنه «من خلال منظماتنا الخمس تصبح هناك 79 دولة وحكومة من كل القارات تمثل 2.1 مليار رجل وامرأة يريدون الإبقاء على لغاتهم».
ودعا شيراك إلى القيام بتحرك في الأمم المتحدة بالاتفاق بين المنظمات الخمس لإقامة «مشاريع مشتركة».
ودافع شيراك عن مبدأ «تعددية اللغات في المجتمع الدولي» ودعا شركاءه إلى «الاستثمار بقوة في شبكات المعلوماتية» مقترحاً إنشاء موقع للثقافات اللاتينية على الإنترنت.
وأعرب أخيراً عن أمله في أن تعترف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) رسمياً بـ «حق التعددية الثقافية» من خلال إصدار «إعلان عالمي يكون بمثابة ميثاق تأسيسي»(1).
وهكذا نجد أمة أخرى مثل الصين ينتابها القلق من هذا الانتشار الواسع ـ أو العولمة ـ للغة الإنجليزية في بلادهم من خلال الأفلام الأمريكية التي يحرص الشباب على متابعتها ثم التأثر بها، مما دفع الحكومة الصينية إلى إصدار أول قانون للغة من أجل الوقوف أمام الخطر الذي يتهدد اللغة الصينية، ويلزم القانون الذي بدأ العمل به اعتباراً من مطلع شهر يناير 2001م وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة بضرورة الالتزام بالأسس المتعارف عليها في اللغة الصينية المعتمدة على الكتابة المبسطة في الصين الأم بعيداً عن الكتابة المعقدة المتبعة في المستعمرة البريطانية السابقة هونغ كونغ(2) .
أما الألمان وهم من أكثر الناس اعتزازاً بلغتهم، فقد كان لهم نصيب من هذا القلق المتزايد؛ حيث اتسع في ألمانيا نطاق المناداة بسن قوانين لحماية اللغة الألمانية من تأثير اللغات الأخرى وعلى رأسها اللغة الإنجليزية التي يعتقد اللغويون الألمان أن مصطلحاتها بدأت تشكل خطورة على سلامة لغتهم. ويرغبون أن تحذو ألمانيا حذو فرنسا في هذا المجال.
فالألمان الذين هدموا قبل عقد مضى جدار برلين الشهير، في ثورة سلمية أعادت الوحدة إلى شطري بلدهم يحاولون الآن بناء جدار حديدي من نوع آخر للحفاظ على هويتهم الثقافية واللغوية من طغيان الغزو الثقافي واللغوي القادم من الولايات المتحدة وبريطانيا متخفياً برداء اللغة الإنجليزية، والمصطلحات التي تقض مضجع اللغويين الألمان.
ويطالب هؤلاء بأن تحذو بلادهم حذو فرنسا بسن تشريعات تمنع استخدام المصطلحات الأجنبية في الإعلانات والرسائل الإعلامية.
ويعترف وزير الثقافة الألماني بوجود المشكلة لكنه يرفض فكرة سن قوانين قد تؤدي إلى استحداث شرطة للغة؛ لأن هذا سيكون فيه نوع من القسوة غير المسوغة.
ويتفق مع رأي الوزير عدد من اللغويين الألمان غير أنهم يؤكدون ضرورة اتخاذ إجراء ما لحماية اللغة التي يعتبرونها أغلى ما تملكه أي أمة للحفاظ على وجودها(3).
2 - ومن مظاهر ـ وربما أسباب ـ عولمة اللغة الإنجليزية، أنها أصبحت لغة الإنترنت بلا منازع؛ فقد أظهرت دراسة أجرتها إحدى المؤسسات الألمانية أن 77% من صفحات الإنترنت باللغة الإنجليزية بينما لا تتمتع باقي لغات العالم مجتمعة إلا بـ 23% من صفحات الإنترنت، وقد جاءت هذه الدراسة بعد فحص أكثر من مليار صفحة إلكترونية على الشبكة.
وجاءت اللغة اليابانية في المركز الثاني، تليها اللغه الألمانية.
الجدير بالذكر أن نسبة الأمريكيين المستخدمين للشبكة تتضاءل باستمرار، إلا أنهم يمثلون حالياً قرابة نصف مرتادي الإنترنت حول العالم بعد أن كان نصيبهم ثلاثة أرباع مستخدميه قبل خمسة أعوام،(1) والظاهر أن ذلك يعود لازدياد عدد مستخدمي الإنترنت في العالم أكثر من كون السبب تناقص العدد الفعلي لمستخدمي الإنترنت في أمريكا.(9/22)
3 - من مظاهر العولمة اللغوية الإنجليزية أن اللغة الإنجليزية أصبحت اللغة الثانية في أغلب بلاد العالم ـ لا سيما العربية بدرجة أولى، ثم البلاد الإسلامية بدرجة ثانية، ـ يتلوها بذلك اللغة الفرنسية(2)، وبعيداً كذلك عن الإحصاءات الدقيقة التي تقف خلف هذه الحقيقة؛ فإن نظرة سريعة لمناهج التعليم في العالم العربي ثم الإسلامي تجد مصداق ذلك؛ حيث ينقسم العالم الإسلامي إلى معسكرين: أحدهما وهو الأغلب يدرس الإنجليزية لغة ثانية لأبنائه، كما هو الحال في دول الخليج ومصر، والسودان، والباكستان، وبعض دول جنوب شرق آسيا، وأما الثاني فيدرس اللغة الفرنسية كدول المغرب العربي، وبلاد الشام.
ويميل المرء نوعاً ما إلى صدق جانب من الإحصاء الوارد في كتاب مستقبل اللغة الإنجليزية الذي قام به المجلس البريطاني عام 1995م والذي يقول إن خمس سكان العالم يتكلمون الإنجليزية بدرجة ما، وأن الحاجة من الباقين لتعلمها في ازدياد مستمر، وبحلول عام 2000م سيكون هناك بليون شخص يتعلمون الإنجليزية، وستصبح اللغة الإنجليزية هي اللغة الرئيسة لكثير من القطاعات التقنية وغيرها(3) .
4 - ومن مظاهر العولمة اللغوية عموماً ـ بصرف النظر عن عولمة اللغة الإنجليزية ـ انحسار نطاق بعض اللغات، أو حتى اندراسها بالكلية؛ فقد أفادت دراسة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أن نصف اللغات المحلية في العالم في طريقها إلى الزوال مما يهدد الثقافات والبيئة في آن واحد.
واعتبرت الدراسة التي أعدها فريق من خبراء برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن «أسرار الطبيعة التي تتضمنها الأغاني والقصص والفن والصناعات الحرفية لدى الشعوب الأصلية قد تختفي إلى الأبد بسبب ظاهرة العولمة المتصاعدة في جميع المجالات».
وقال الخبراء إن 234 لغة أصلية معاصرة اختفت كلياً، محذرين من أن 90% من اللغات المحلية في العالم سوف تختفي في القرن الحادي والعشرين.
وحذر المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة كلاوس تويبفر من أن تحرير الأسواق في العالم ـ الذي هو مفتاح التنمية الاقتصادية في الدول الغنية والفقيرة ـ قد يتم على حساب آلاف الثقافات والتقاليد المحلية.
وأشار برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن حوالي 32% من اللغات المحلية في العالم توجد في آسيا و30% في أفريقيا، و 19% في منطقة المحيط الهادي، و15% في القارة الأميركية، و3% في أوروبا.
وتأتي غينيا الجديدة على رأس الدول التي تنتشر فيها اللغات المحلية؛ إذ توجد فيها (847) لغة، وتليها إندونيسيا بنحو (655) لغة، ثم نيجيريا (376)، والهند (309)، وأستراليا (261)، ثم المكسيك (230)، والكاميرون (201)، والبرازيل (185)، والكونغو الديمقراطية (158) والفلبين (153)(1).
وقد نشرت هذه الدراسة في مؤتمر عقده برنامج حول البيئة في نيروبي في الخامس من فبراير/ شباط 2001م، وأعلنت الأمم المتحدة أن حوالي سبعين وزيراً للبيئة من القارات الخمس شاركوا في هذا المؤتمر الذي تبنى في يوم انعقاده الرابع خطة للدفاع عن الثقافات واللغات المحلية التي تمثل إحدى الأولويات لحماية البيئة.
4 - ويحلو لي أن أذكر ملاحظة غريبة طريفة تدل على قوة هذا النوع من العولمة ونفوذه، وسريانه حتى إنه فرض نفسه دون أن يشعر به المتظاهرون أنفسهم ضد العولمة في دافوس، ونيس، وساو بالو، فضلاً عن عموم الناس، ألا وهي التي ذكرها (أليكسي باير) في مقال له في صحيفة «The Globalist» حيث قال: «إن اللغة الإنجليزية كانت لغة اللوحات التي استخدمها المتظاهرون المعارضون للعولمة في التعبير عن معارضتهم للعولمة، وما ذلك إلا دليل على عولمة هذه اللغة دون أن يشعر بذلك أحد»(2).
كيف نقاوم هذه العولمة اللغوية؟
قبل البدء في طرح بعض الحلول العملية لمقاومة هذا الاجتياح العولمي اللغوي الإنجليزي ولا سيما لبلادنا الإسلامية، أود أن أثير نخوة الحمية فيه لا لقومية مذمومة، ولكن للغة القرآن الكريم، ووعاء الإسلام، حينما أقول له: ألا تعجب أخي القارئ حينما تعلم أن العرب خصوصاً والمسلمين عموماً هم أوهى من يتمسك بلغته؟! ولا يتوقف العجب عند ذلك، إذا ما علم ـ وهو معلوم ـ ولا شك أن أقواماً من أهل العربية الذين يدينون بهذا الدين يزوِّقون كل يوم مسوغات جديدة لنشر اللغة الإنجليزية في بلادهم العربية والإسلامية.
وإن العجب لا ينقضي حينما نرى الغربيين على وجه الخصوص الذين كانوا وما زالوا يطالبوننا بفتح الأبواب للغاتهم سواء إنجليزية أو فرنسية، والتخلي عن لغتنا هم أشد الناس تمسكاً بلغاتهم.
لعلك أخي القارئ سافرت أو قابلت من سافر إلى بعض بلاد الغرب، مثل فرنسا أو ألمانيا؛ فهل تجد للغة الإنجليزية ذلك الحضور الذي تجده لها في بلادنا العربية والإسلامية؟ هل تجد أسماء المحلات كتبت بالإنجليزية؟ هل تجد لوحات الإرشادات أو التوجيهات الصوتية في المطارات أو في غيرها ـ بخلاف الأوراق الرسمية للاتحاد الأوروبي ـ كتبت بالإنجليزية؟(9/23)
ثم ألم تسمع أن الألمان يشعرون بالانزعاج المقرف لمن يحدثهم بغير لغتهم، وأنهم يرفضون الإجابة عنه حتى وإن كانوا يحسنون الحديث بها، وأن الفرنسيين يشمئزون ممن يتحدث بالإنجليزية مع أن أم الإنجليزية لا تبعد عنهم سوى رمية حجر؟!
ألا تصيبك أخي القارئ الدهشة حينما ترى الفرنسيين ـ وهم أقرب الدول إلى الإنجليز ـ وقد حافظوا على لغتهم، بل وساهموا في نشرها وامتدادها خارج حدودهم الجغرافية؟!
لو كانت فرنسا دولة عربية أو إسلامية فهل تظن أن الحال سيكون كذلك؟!
إذن لماذا العربية هي المستباحة الحمى؟ أم كما قال العقاد عنها: «لقد تعرضت وحدها من بين لغات العالم لكل ما ينصبُّ عليها من معاول الهدم ويحيط بها من دسائس الراصدين لها؛ لأنها قوام فكرة وثقافة وعلاقة تاريخية».
إن هذه المقدمة، هي مقدمة الجيش الذي سنخوض به هذه المعركة الشرسة التي تواجهها لغتنا العربية في ظل هذه العولمة الشرسة البشعة.
إن اعتزاز الإنسان بقيمه ومبادئه هو أول الطريق إلى انتصاره ولو طال الأمد، فلا يمكن لنا مقاومة هذا الزحف اللغوي العولمي بجيوشه الجرارة بجنود ملأ نفوسها الخور، وهد قواها نظرية «إعجاب المغلوب بالغالب».
وعليه فلا بد من حملة ضارية يحملها العلماء وقادة الفكر أولاً لإعادة ثقة هذه الأمة بلغتها، واستنهاض هممهم للذود عنها من خلال الخطوات الآتية، وهي:
1 - نشر اللغة العربية في أكبر رقعة جغرافية ممكنة، وهذا الأمر تؤيده وتسهل القيام به مسوغات شرعية، ومسوغات واقعية، ولا شك أن نتائجه ملموسة وسريعة.
وللقيام بهذه المهمة لا بد من سلوك قنوات عدة أذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
أ ـ نشر اللغة بين الأقليات غير العربية التي تعيش في بلاد عربية، مثل بلاد المغرب العربي، ولو يدرك المسؤولون في تلك البلاد فوائد هذا الأمر حتى من ناحية سياسية لاستقرار البلاد لسارعوا إليه.
ب ـ نشر اللغة العربية في البلاد الإسلامية الناطقة بغير العربية، وهي كثيرة وتمثل ثقلاً سكانياً مثل إندونيسيا، والباكستان، وبنغلاديش، وقد بدأت بذكر هذه البلاد؛ لأن مسلمي تلك البلاد لهم عاطفة جياشة تجاه الإسلام، وتجاه تعلم اللغة العربية، ولا تهمل هذه الخطوة أيضاً مع البلاد التي تبدي تعاطفاً أقل مثل تركياً.
ج ـ ويتلو هذه البلاد في الأولوية البلاد الغربية، سواء قلنا نشر اللغة العربية بين الجاليات المسلمة التي تعيش فيها، أو حتى بين الغربيين أنفسهم، ويوجد في بلاد الغرب متحمسون كثيرون للتعرف على الثقافة العربية، والدين الإسلامي، وهذا قد يكون مفتاحاً لتفهم مزايا هذه اللغة، أو مفتاحاً لتعلم الإسلام.
2 - نشر اللغة العربية الفصيحة بين المتحدثين بالعامية في جميع الأقطار العربية؛ وتخيل يا أخي القارئ لو أن العالم العربي كله من الخليج إلى المحيط، يتحدثون العربية الفصحى أو ما يقاربها، ألا ترى أن ذلك يكون أقوى على إزالة الحواجز القبلية والعرقية واللغوية بين المسلمين في العالم الإسلامي، ومن ثم يمهد الأرض للعمل من أجل الوحدة الإسلامية؟
وحتى يكون هذا الهدف واقعياً، فلنقل: لنقتربْ من الفصحى بقدر الإمكان، ويمكن تحقيق نتائج إيجابية بنسبة مقبولة وبسرعة إذا تمت معالجة بعض الظواهر المرضية التي تشكل مناخاً ملائماً لفُشُوِّ العامية في البلاد العربية، مثل:
أ ـ استخدام العامية لغة للإعلام المرئي والمقروء؛ وللأسف أن بعض الدول العربية لم تمانع في أقل الأحوال من استخدام العامية في بعض الصحف والمجلات المحلية، ناهيك عن استخدام العامية في بعض خطابات مسؤوليها.
ب ـ انتشار ما أسميه بالفكر الفلكلوري أو التراثي؛ حيث تعمد بعض الجهات بحسن نية أو بسوئها إلى تبني العامية وجعلها مظهراً من مظاهر الاعتزاز بالتاريخ، وتعبيراً عن الانتماء الإقليمي أو الوطني، حيث تعمد إلى النبش عن تاريخ العامية، وأهميتها، وأثرها في تنمية الوعي الوطني، ودورها في المحافظة على قيم وثقافة ذلك البلد، بالإضافة إلى نشر الكتابات العامية، وتبني الشعر العامي، أو النبطي كما يسمى في بلاد الجزيرة العربية، وعليه؛ فحتى يمكن نشر العربية الفصيحة فإنه يتوجب علينا أن نبين للناس مدى خطورة هذا الفكر، ومحاولة محاصرته في دوائر ضيقة.
ويحسن بي هنا أن أذكر بعض ما يمكن اتخاذه من أجل محاصرة العامية، وتجاوز ما تقوم به ضد انتشار العربية الفصحى:
أ ـ بيان خطر العامية على وحدة العالم العربي، ويمكن أن يدلل على ذلك بأن العامية أصبحت في بعض البلاد، إذا ما قورنت بعامية أخرى، كلغة غير عربية؛ فلو أنك جمعت رجلاً من أقحاح قلب الجزيرة العربية، كالقصيم، ورجلاً من أقحاح بلاد الشام، كلبنان، وثالثاً من الجزائر لاحتاجوا إلى مترجم يساعدهم في التخاطب فيما بينهم. ويمكن للقارئ أن يقوم بتجربة يسيرة تبين له صدق هذا الافتراض؛ فلو أخذ بعض العبارات المتداولة في بلاد الجزائر ودفعها لشخص من لبنان، أو إلى آخر من السعودية، لما استطاعا فهم أكثرها، وهكذا العكس.(9/24)
جاء في كلمة رئيس مجمع اللغة العربية الدكتور شوقي ضيف في افتتاح مؤتمر دورة المجمع السابعة والستين بالقاهرة: «لو تمادت الإذاعات العربية في البث بالعاميات لانفكت الصلات التي تربط بين شعوب الأمة، وانعزل كل شعب عربي وعاش وحده، بينما شعوب الغرب في أوروبا المتعددة اللغات تجمع شملها في تكتلات اقتصادية وسياسية واحدة كالاتحاد الأوروبي»(1).
ب ـ بيان خطر العامية على التمسك بالإسلام وفهمه؛ فالذي يستخدم العامية بدل العربية الفصيحة يكون أبعد من الألفاظ والتراكيب اللغوية الفصيحة، ومن ثَمَّ يكون أبعد عن فهم القرآن الكريم والسنة النبوية، وشيئاً فشيئاً تبنى الحواجز بين كتاب الله وسنة نبيه اللذين هما مصدر هذا الدين، وبين أهل الإسلام.
3 - الحد من توسع اللغة الإنجليزية ولا سيما في المجالات التي يمكن الاستغناء عنها ولو بشيء من المشقة. والذي يؤسف له أن بعض البلاد العربية نشرت التعليم الأجنبي في مراحل التعليم المختلفة بدءاً من التعليم الابتدائي، وهذا والله لو أدركوا خطره لما فعلوه، بل لحاربوه بكل الوسائل.
يا قومنا! هذه دول العالم التي تحترم نفسها، وتعتز بهويتها لا تدرس هذه اللغة إلا في أقسام اللغات في المراحل الدراسية العليا الجامعية، وما فرنسا، وألمانيا، واليابان، وروسيا، والصين منا ببعيد؛ فهل نحن أحرص على التقدم الحضاري أو العلمي أو التقني منهم؟ وهل أدى نهجهم هذا الذي نهجوه في الحد من استعمال اللغة الإنجليزية إلى التخلف الذي يتذرع به من يدعون الثقافة ويمسكون زمام الأمور في بلادنا العربية والإسلامية؟
وبكل حال، لِمَ لا نجعل تعليم اللغة الإنجليزية مرهوناً بالحاجة لاستعمالها؟ فما الفائدة بالله عليكم حينما يتعلم الطالب منذ نعومة أظفاره لغة أخرى لتزاحم لغته الأم، مع العلم أن حاجته لها في حياته العملية قد تكون محدودة جداً، أو معدومة؟
وليعلم أن كثيراً من الذين تعلموا اللغة الإنجليزية على سبيل المثال كانوا أحرص على السفر للبلاد الغربية بحجة وبدون حجة؛ وما ذلك إلا لأن معرفتهم بهذه اللغة شيدت جسوراً من التواصل المعنوي العاطفي معها.
ولا يزعمن زاعم أنه لا يمكن الاستغناء عن اللغة الإنجليزية لعموم الناس؛ فالرد على هذا الزعم يكون أولاً بالنظر إلى أحوال الدول التي ذكرناها، ثم ليعلم أن الحاجة إلى اللغة الأجنبية تزداد إذا أراد الناس ذلك، وتقل إذا أراد الناس ذلك، ولعل هذا يذكرني بما قاله بعض فقهائنا من أن الناس يجدُّ لهم من القضايا بقدر ما أحدثوا من الفجور، ولنضرب لذلك مثالاً استخدام جهاز الحاسب الآلي؛ حيث أصبح من الحاجيات الأساسية لدى بعض الناس ولا سيما مع شبكة الإنترنت؛ لكن مطالبة الناس للبرامج العربية شجع منتجي البرامج على تكثيف إنتاج البرامج العربية، وبذلك قلَّت حاجة عموم الناس لتعلم مصطلحات إنجليزية أكثر، وهكذا في دائرة تتسارع؛ حتى إن بعض الناس يحسنون استخدام تطبيقات الحاسب الآلي دون إلمام باللغة الإنجليزية.
وملاحظة أخرى يحسن التنبيه لها وهو التفريق بين تعليم اللغة الانجليزية لمن يخشى عليه من الذوبان الثقافي العقدي إما لصغر سن، أو ضعف دين، ومن لا يخشى عليه ذلك، وبنظرة لواقع صلى الله عليه وسلم مع صحابته حينما حث بعض أصحابه وليس (عموم المسلمين) على تعلم لغة يهود.
4 - مقاومة الاعتقاد السائد لدى قطاعات كثيرة من عامة الناس أن تعلم اللغة الإنجليزية مفتاح للمستقبل المشرق والوظيفة المرموقة.
5 - تكثيف الترجمة العلمية الصحيحة والراقية، وقد أثبتت التجارب العملية سواء التي قامت بها دولة مثل سوريا، أو بعض الجامعات العربية أن الترجمة إلى العربية لها آثار إيجابية واسعة النطاق؛ حيث يزداد التحصيل العلمي لمن يتعلم بلغته الأم، ناهيك عما تؤدي إليه هذه الترجمة من تحفيز الجهود لأعمال عربية مماثلة لتلك التي تترجم، بالإضافة إلى أن الترجمة إذا تمت من قبل أناس يجمعون بين إتقان الترجمة، وإتقان العلم الذي تتناوله المادة المترجمة؛ فإن ذلك سيحملهم على نقد المادة المترجمة، أو الاستدراك عليها، أو التعليق عليها، وهذا يؤكد مقدرتهم على «هضم» ما قيل، بل على الزيادة عليه.
6 - على أهل التعليم، لا سيما مدرسي المراحل الابتدائية والمتوسطة، ومديري الجامعات، والمشايخ في حِلَق المساجد، والموجهين في القنوات الإعلامية، إتقان اللغة العربية، وجعل هذا الإتقان عدوى ـ إن صح التعبير ـ تنتقل للأجيال التي تقع بين أيديهم، فيساهمون في إحداث ثورة لغوية تصحيحية.
7 - تكثيف الأنشطة والمسابقات اللغوية؛ ففي القديم كانت مدارسنا تقيم مسابقات للخطابة والإلقاء، وكذا مطارحات شعرية، ومسابقات للقصة القصيرة، وغيرها من صنوف الأدب واللغة، ولكنها اضمحلت في السنوات الأخيرة، وليس هذا والله بفأل حسن.
وختاماً نقول: إن اللغة العربية تملك من المؤهلات ما يحميها ليس من الاضمحلال فقط، بل ما يجعلها منافسة للغة الإنجليزية، إذا ما وجدت ألسناً تفخر بالتحدث بها، والدفاع عنها، ونشرها، وتحويل العولمة الإنجليزية إلى عوربة للعالم الإسلامي في أقل الأحوال؛ فمن يستجيب؟(9/25)
-----------------------------
(*) المشرف الثقافي في المركز الرئيس للمنتدى الإسلامي بلندن.
(1) كما يقال فإن تعريف المعروف من أصعب المهام؛ ولذلك فلا نريد أن ندخل في تعريف اللغة، ولا سيما مع انتشار أنماط جديدة من وسائل الاتصال، حيث ولَّدت بعداً جديداً لمدلول اللغة، كما في لغات الكمبيوتر مثلاً.
(1) في أثناء إعداد هذا المقال وقعت على كتاب للدكتور أحمد بن محمد الضبيب، بعنوان: (اللغة العربية في عصر العولمة)، نشر مكتبة العبيكان، حيث ناقش تأثير العولمة على اللغة العربية، وكيفية مقاومة ذلك، فجزاه الله خيراً على هذا الجهد، وقد أفدت منه.
(2) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 1/203 ـ 208.
(3) الرسالة، للشافعي، ص 49، وإن كان شيخ الإسلام يتحفظ على هذا الرأي.
(4) انظر: الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، دراسة وتحقيق، د. محمد عمارة، ص 219 ـ 242، طبعة القاهرة، سنة 1968م.
(1) اللغة والاقتصاد، ترجمة الدكتور أحمد عوض، الكويت، عالم المعرفة، شعبان 1421هـ، ص 48، نقلاً عن اللغة العربية في عصر العولمة، الدكتور أحمد بن محمد الضبيب.
(2) العرب وعصر المعلومات، نبيل علي، الكويت شوال 1414هـ، نقلاً عن اللغة العربية في عصر العولمة، الدكتور أحمد بن محمد الضبيب.
(1) انظر: بحثاً جيداً أعدته (باربار والراف) في مجلة The Atlantic في عدد نوفمبر 2000م بعنوان: What Global language? ما هي لغة العالم؟ وانظر: Camb r idge Encyclopedia of the English language (1995م) على شبكة الإنترنت، وانظر: بعض الإحصاءات في موقع http://www.k r ysstal.com/ english.html.
(2) انظر: 1996م Decembe r 21، The Economist، ص 39 نقلاً عن كتاب مستقبل اللغة الإنجليزية.
(1) أخبار قناة الجزيرة على الشبكة يوم الثلاثاء، 25/12/1421هـ الموافق 20/3/2001م، وجاء في الخبر: أن الاحتفال بيوم الفرنكفونية الدولي في القارات الخمس (55 دولة) بدأ اليوم الثلاثاء، وهو نفس يوم انطلاق حركة الفرنكوفونية العالمية قبل 31 عاماً.
وجاءت الدعوة تلبية لنداء المنظمة الدولية للفرنكوفونية التي يترأسها الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي، وتضم 55 دولة من الناطقة كلياً أو جزئياً بالفرنسية وتمثل نحو 500 مليون نسمة عبر العالم.
وتم إنشاء الوكالة الحكومية للفرنكوفونية في 20/3/1970م في نيامي عاصمة النيجر، بمبادرة من ثلاثة رؤساء دول أفارقة هم الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سينغور، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، ورئيس النيجر ديوري.
وكانت هذه الوكالة تدعى لدى انطلاقها: (وكالة التعاون الثقافي والتقني) وضمت 21 دولة عملت على إرساء قواعد لمجموعة فرنكوفونية «قادرة على إسماع صوتها في إطار الحوار العالمي».
وتعتبر الوكالة الفرنكوفونية المحرك الأساسي للمنظمة الدولية للفرنكوفونية. وهي تعد برامج مساعدة وتدريب في القطاعات اللغوية والثقافية والقضائية وفي مجال الإنترنت.
(2) الأربعاء 22/10/1421هـ الموافق 17/1/2001م.
(3) وكالة رويتر للأنباء نقلاً عن قناة الجزيرة، الإثنين 10/12/1421هـ ـ الموافق 5/3/2001م.
(1) الأهرام المصرية، حيث نقلت هذه الدراسة عن مؤسسة جوجل في ألمانيا، من موقعها على شبكة الإنترنت بتاريخ 9 ربيع الثاني 1422هـ الموافق 30 يونيو 2001م.
(2) انظر: مثلاً الإحصاء الوارد في موقع http:// www.k r ysstal.com/english.html.
(3) The Futu r e of English? إصدار المعهد البريطاني، نشر The English Company.
(1) قناة الجزيرة، السبت 17/11/1421هـ، الموافق، 10/2/2001م نقلاً عن أي إف بي.
(2) المقال مؤرخ بتاريخ 5/2/2001م.
(1) نقلاً عن قناة الجزيرة، الإثنين، 24/12/1421هـ الموافق 19/3/2001م
المصدر:http://www.albayan-magazine.com
=============(9/26)
(9/27)
فخ العولمة
عبدالرحمن عبدالعزيز السديس
ملخص الخطبة
دعوة العولمة , معناها وخطورتها - بعض مظاهر العولمة - محاذير الإنترنت - المؤتمرات والمؤامرات ( السكان , المرأة .. ) - المنظمات الدولية ودورها الخبيث - أثر الاقتصاد وخطورة الاقتراض من الدول الكافرة - كيف نواجه العولمة
الخطبة الأولى
عباد الله: إن فخا عظيما ينصب لأمة الإسلام اليوم يراد لها أن تقع فيه فتضمحل في غيرها وتفقد خصوصيتها وتخسر خيريتها وشهادتها على الناس إنه فخ العولمة الذي تنصب شراكه هذه الأيام شعاره المصير الواحد للبشرية هدفه إزالة الحواجز الدينية والأخلاقية وتذويب الفروق بين المجتمعات الإنسانية المختلفة وإشاعة القيم المشتركة التي يراد لها أن تجمع البشر بزعمهم وسيادة المال وحرية التجارة عبر الدول والنفاذ إلى المجتمعات بعيدا عن هيمنة حكوماتها فتضعف بذلك السلطات المحلية ويحل محلها سلطات أخرى تنتظم مجموعة الدول التي وقعت في الشراك عبر شركات كبرى تجوب الأرض طولا وعرضا لا تعوقها حدود ولا تضايقها قيود ولا تراعي خصوصيات لبلد لسان حالها من رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ومن مظاهرها التي تم شيء منها وبعضها في الطريق شبكات المعلومات العالمية الإنترنت والتي يصعب السيطرة عليها إلا بإلغاء نظام الإتصال أصلا وهذا لا تفكر أي دولة بالإقدام عليه أما الرؤى والأخلاق والثقافات والمواقف التي تطرح عبر هذه الشبكات فهي بمنأى عن سيطرة الدول وتحكمها وفيها من الإختلاط والتوصل إلى الشعوب ما ينذر بخطر عظيم على ما فيه من خير لا يتطلبه إلا علماء الناس وحكماؤهم وما أكثر الناس بعالمين ومن مظاهرها المواطئة لها شبكات الإتصال والإعلام عبر الأقمار الصناعية من خلال أطباق الإستقبال التي تعلو كثيراً من بيوت المسلمين وتنشر فيهم ثقافات وقناعات وتغرس في أبنائهم وبناتهم قيما ومبادئ وأخلاقا ما كان يعرفها أحد من آبائهم المحافظين حتى أصبح ما يشبه إنفصاما نكدا بين ثقافة الوالدين وقناعاتهم وقيمهم وأخلاقهم وبين كل ذلك في الأولاد واستسلم كثير من الأولياء وأعلن عجزه عن تربية أولاده وما ذاك إلا لأن هناك من يزاحمه بل من يبعده ويحتل موقعه في تربية فلذات كبده وهي هذه القنوات التي تصب عليهم بالليل والنهار أخلاقاً وقيماً ومبادئ وأفكاراً مستمدة من قيم وأفكار ومبادئ القائمين عليها وأكثرهم من اليهود ومن شايعهم من الصليبيين ومنها هذه المؤتمرات التي تعقد بين الفينة والأخرى بهدف فرض رؤى العولمة بفرض رؤى غريبة عن المجتمعات الإسلامية حتى تفقد هويتها وتضمحل في غيرها ومنها مؤتمر السكان بالقاهرة والذي تدخل في أمور شرعية هي من المسلمات عند المسلمين وقاطعته هذه البلاد والحمد لله واستنكره في حينه علماؤنا في هذه البلاد وفي مصر ولله الحمد وفي كثير من بلاد المسلمين ثم مؤتمر السكان بلاهاي ومؤتمر المرأة ببكين ومؤتمر الإسكان بإسطنبول وكلها نوع من العولمة لقيم غريبة غربية محددة لسحب المجتمع الدولي والمجتمع الإسلامي بخاصة إلى الوحل الأخلاقي والإجتماعي الذي انحدر إليه الغرب فالأسرة في المجتمعات الإسلامية تعد ركيزة إجتماعية متماسكة قوية وهي في الغرب تعد من مخلفات الماضي ولذا يحرصون على هدم هذه الركيزة عند المسلمين عبر هذه المؤتمرات عبر إخراج المرأة من تميزها النوعي والإنساني والكثافة السكانية وهي قوة بشرية يتمتع بها العالم الإسلامي تمثل هاجساً مخيفاً للغرب يسعى لتقليصه عبر هذه المؤتمرات وتوصياتها أما الوسائل التي عن طريقها تفرض رؤى العولمة فهي المؤتمرات والمنظمات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والمجلس الإقتصادي والإجتماعي ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة العمل الدولية ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونسكو وغيرها إن المال والإعلام هما السلاحان النافذان في عصر العولمة فمن ملكهما كانت له السيطرة والنفوذ وقد قال أحد حكماء الغرب قبل خمسمائة عام : إذا حاربت بسيف المال فستكون الغالب دائما وقد أخبرنا الله تعالى عن هذا عن اليهود ونظرتهم إلى المال فقال جل وعلا عن قولهم في طالوت: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال وقال جل وعلا عن المنافقين: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا إن من ملك المال والإعلام هو من سيفرض مفاهيمه وقيمه ومبادئه على الآخرين في عصر العولمة وهو الذي سيحدد المعايير ويدفع الهيئات والمؤسسات نحو ما يريد وسيعمل لتحقيق مصالحه خاصة إنه الغرب وعلى رأسه أمريكا فهو الذي سيبقى مسيطرا في عصر العولمة إلى درجة العمل على إفناء الآخرين وإلغائهم ومن عدى الغرب سيصبح مجرد حشو يمكن توظيفه لصالح المستفيد الأول من العولمة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(9/28)
الحمد لله على إحسانه والشكر لله على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه أما بعد فيا عباد الله يجب ألا يعزب عن أذهاننا أن تدخل إنجلترا واحتلالها لمصر في القرن الماضي واحتلال فرنسا لتونس في القرن الماضي أيضا هو عن طريق القروض التي أوجدت بتراكمها والعجز عن سدادها أوجدت الذريعة للتدخل السافر للمستعمر وبسبب الديون التي بدأت بتشجيع من الغرب عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذين يعملان على إغراق الدول المستهدفة بالديون بسببها أصبح إقتصاد معظم هذه الدول متخبطاً وما كوارث الدول الإسلامية في جنوب شرق آسيا عنا ببعيد والدول العربية وهي إحدى الدول المستهدفة بالعولمة بلغت ديونها الآن مائتان وخمسون مليار دولار وهي تتزايد ربا بمقدار خمسين ألف دولار في الدقيقة الواحدة فيا لهول الأمر وعظم الفاجعة ولعلنا إن شاء الله في خطب لاحقة نكمل الحديث عن خطر العولمة ونبين جوانب الضعف فيها التي لو أحسن المسلمون إستغلالها لقلبوا السحر على الساحر ونبين واجبنا تجاهها ونقول ما قال ولي العهد في تصريحه لا لعولمة الفساد والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المصدر:http://www.islamdoo صلى الله عليه وسلم com/k/281.htm
=============(9/29)
(9/30)
العولمة: مرحلة متطورة في الامبريالية*
اسماء اغبارية
2003 / 4 / 27
فيما يلي موجز للمحاضرة التي القيت في حزيران (يونيو) 2001، وكان هدفها تحديد طبيعة المرحلة التاريخية، العولمة، بانها استمرار لعهد الامبريالية. الحرب على العراق اليوم هي اشارة اضافية مهمة الى صحة هذا التحليل؛ النقاش تم بالتحديد مع الحركة ضد العولمة التي تطورت فيما بعد للحركة ضد الحرب، غير ان عدم قراءتها الصحيحة للنظام السياسي العالمي، أعجزها عن طرح البديل له، والنتيجة انها وقعت واوقعت العالم معها، رهينة صانعي القرار السياسي الذين قرروا جر الشعوب من حرب لاخرى.
طبيعة المرحلة
العولمة هي مرحلة متطورة في الرأسمالية، وليست "نهاية التاريخ" والتناقضات الطبقية، كما ادعى انصارها. بهدف الاشارة الى الخيط الذي يربط بين الامبريالية التي ميزت اوروبا عشية الحرب العالمية الاولى، وبين العولمة اليوم، سنعتمد على كتاب لينين "الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية" (دار التقدم، موسكو).
وضع لينين كتابه على خلفية التحضيرات للحرب العالمية الاولى التي بدأت في المانيا. ووجه نقاشه لقائد الاممية الثانية، المفكر كارل كاوتسكي، زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني، الذي دعم الحرب مدعيا انها حرب بين الامم تتطلب من الشعب التجند دفاعا عن الوطن، ورفض التحديد بان الرأسمالية استنفذت نفسها. لينين من جهته ادعى ان سبب الحرب كامن في ان رأس المال المالي والصناعي في المانيا كبر جدا، ولكنه لم يجد لنفسه مكانا في العالم يتوسع اليه بعد ان تم تقسيم العالم بين الدول الاستعمارية العظمى، وتحديدا بريطانيا وفرنسا. وفسر لينين الحرب بانها محاولة لاعادة تقسيم العالم بالقوة، ناجمة عن تغيير في موازين القوى بين الدول العظمى.
وعاد لينين لتحليل ماركس بهدف تحديد المرحلة التي تمر بها الرأسمالية. حسب تحليل ماركس الرأسمالية تميل للتطور من منافسة حرة الى التمركز او الاحتكارات العالمية التي هي النقيض التام للمنافسة، وهي اقرب شكلا للنظام الاقتصادي الاشتراكي. لينين الذي يثبت باحصائيات من فترته صحة الاتجاه، يشير الى ان المصانع الكبرى التي صمدت في الازمات الدورية، توصلت لضرورة احتكار السوق بهدف تنظيمه والتحكم بالعرض والطلب ومنع انهيار الاسعار الناجم عن المنافسة الحرة.
الاحتكارات الصناعية في تلك الفترة اضطرت ان تبحث عن رأس المال الكبير والمواد الخام في كل مكان في العالم، بعد ان عجزت الدولة عن اشباع طمعها. الى جانب ذلك نما رأس المال المالي (المصرفي) الفائض الذي بحث لنفسه عن اماكن للاستثمار حتى في الدول المستقلة التي احتاجت للديون.
العولمة - المرحلة الفوضوية في الرأسمالية
اذا كانت الاحتكارات في فترة لينين لا تزال تعيش الى جانب المنافسة الحرة، فانها في عهد العولمة اصبحت الامر المسيطر. يتجلى هذا في ميل واضح باتجاه الاقتصاد المبرمج من خلال تركيز الشركات المتعددة الجنسيات. ولكن لا تزال هناك فوضى لان رأس المال لم ينجح في تركيز الفروع الانتاجية في جهاز اقتصادي موحد.
ثلاث طرق بارزة يحكم من خلالها الاستعمار العالمي الجديد: اولا، من خلال الشركات المتعددة الجنسيات التي تسيطر من خلال مؤسسات المال العالمية ومنظمة التجارة العالمية التي تحدد السياسات الاقتصادية لدول العالم. ثانيا، الرأسمال المضارب في البورصات. وثالثا، رأس المال المالي الذي يبني علاقة تبعية اقتصادية، وبالتالي سياسية، مع الدول من خلال الديون والفائدة البنكية التي ترهق كاهلها.
الرفاه انحراف عن الرأسمالية
عدم انهيار الرأسمالية يثير السؤال حول صحة موقف وتحليل لينين بالنسبة لطبيعة الامبريالية كما عرّفها، بانها المرحلة الاعلى في الرأسمالية والتي تقربها من نهايتها، وتخلق الانطباع بان الرأسمالية دائما تصحح نفسها.
الاجابة تكمن في عدة نقاط: الاولى، ان لينين لم يستطع تنبؤ القوة الاحتياطية للرأسمالية: الاقتصاد الامريكي المزدهر الذي انقذ اوروبا من الدمار. الثانية، دولة الرفاه التي تأسست للجم الرأسمالية. والنقطة الثالثة تتعلق بالوضع الجديد ذي القطبين الذي نشأ بعد الحرب العالمية الاولى: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي اللتين خلقتا موازين قوى جديدة ولجمت الرأسمالية ومنعتها على مدى 30 عاما من الانجرار باتجاه نهايتها.
المفارقة ان انحراف النظام الرأسمالي عن مساره الطبيعي، المنافسة الحرة، حافظ عليه ولكنه في النهاية بدأ ايضا يثقل عليه. القطاع العام لم يعد بامكانه تمويل خدمات الرفاه التي قدمها للمواطنين، وذلك لعدم وجود قطاع خاص قوي يمكنه دفع الضرائب، واضطرت الدولة ان تمول النفقات من خلال خلق عجز في ميزانيتها.(9/31)
ثورة تاتشر في بريطانيا وريغان في الولايات المتحدة جاءت لتصحح هذا "الانحراف"، من خلال خصخصة القطاع العام. وانفتح المجال بذلك للسوق ان تنظم نفسها بنفسها حسب مبدأ "اليد الخفية": القوي سيصمد والضعيف سيسقط. هكذا وجدت الرأسمالية نفسها تنجر من جديد لعهد الرأسمالية التقليدية حتى لو سميت باسم جديد "العولمة"، وهذه المرة بشكل اكثر وحشية.
في وثيقة حزب دعم "القضية الفلسطينية والبديل الاشتراكي - رؤية جديدة في عصر العولمة"، كتبنا ان العولمة لم تأت بالديمقراطية والتقدم كما وعدت، بل بمزيد من الحروب والدمار. الازمات والحروب التي نشهدها منذ تفرد امريكا بقيادة العالم، لا تزال تضرب الهوامش وليس المراكز: 1997 انهيار الاقتصاد في تايلاندا، افلاس الارجنتين، الهند وباكستان، الانتفاضة. واذا كانت المراكز لم تنتقل لحروب فيما بينها فذلك لان الدول العظمى تلجم نفسها بشكل واع لمنع الحرب العالمية الثالثة التي قد تطيح بالنظام الرأسمالي برمته، خاصة انه لم يعد هناك قوة احتياط تنقذه.
مجرد الازمات يشير الى ان العولمة لم تنجح في وضع حد للتناقضات الطبقية بل زادتها حدة. السبب ان القوانين الاساسية في الاقتصاد الرأسمالي لم تتغير، والتناقض الجوهري بقي ايضا في الطريقة الجديدة: التناقض بين الشكل الاجتماعي للانتاج والتملك الخاص لوسائل الانتاج. وبكلمات اخرى، مبدأ الربح بقي هو المبدأ الذي يحرك الانتاج وليس مصلحة المجتمع.
في ختام هذا الفصل نقول ان العولمة هي مرحلة متطورة من الامبريالية، وليست نقيضها. لسنا في وضع ثوري يشير الى انهيار كل اجهزة النظام القائم، ولكن الانهيار هو الاتجاه العام. الفوضى العارمة التي تسود العالم الثالث هي نتيجة الامبريالية الجديدة التي تدفعها اطماعها للربح لاخراج 80% من البشرية خارج قوانين اللعبة.
كيفية مواجهة العولمة
خلافا للينين الذي كان عليه مناقشة الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية، فاننا نواجه اليوم وضعا فقدت فيه الطبقة العاملة اي تمثيل حزبي سياسي، وفقدت حتى الوعي الطبقي الاممي. الاحزاب التي ناقشها لينين وصلت للسلطة في المانيا وبريطانيا مثلا، من خلال تبني برنامج البرجوازية ونظام دولة الرفاه، وتنازلت بذلك عن الدور التاريخي لحزب الطبقة العاملة، وهو الوصول للسلطة. الى هذا الفراغ السياسي دخلت منظمات غير حكومية تعرّف نفسها بانها غير سياسية، واستأثرت لنفسها بحق تمثيل الشعوب المضطهدة.
هذا القطاع الذي يسمى القطاع الثالث، او المجتمع المدني، يشمل بالاضافة للمنظمات الاهلية ايضا مثقفين ليبراليين. يؤمن هذا القطاع بالتعاون بين الطبقات، ويحرض ضد التغييرات الجذرية، وذلك من خلال تمويه التناقضات الطبقية والادعاء بانتهائها. بدل ذلك ينادي باصلاحات مدنية، والابتعاد عن العمل السياسي، وتأكيد اهمية الفرد على حساب العمل الجماعي المنظم.
هذا القطاع اعتبر العولمة في البداية ثورة تكنولوجية متقدمة على غرار الثورة الصناعية، ذلك انها الغت الحدود وسمحت بالمنافسة الحرة. الخصخصة فتحت مجالا للجميع لاستخدام الحق بتحقيق الذات من خلال تشجيع المبادرات الفردية الحرة. النجاح او الفشل اصبحا حسب هذه النظرية مسألة ذاتية تتعلق بقدرات الفرد او الامة على ادارة مبادراتهما. انهيار الاتحاد السوفييتي بالنسبة لهذا القطاع كان الاثبات على فشل الاشتراكية والاستبداد، وان بامكان الجميع الاستفادة من خيرات الديمقراطية وعهد الانسانية.
النقاش حول طبيعة العولمة هام، فمنه تشتق المهمات. وكما ان كاوتسكي دعم الحرب وخان مصالح الطبقة العاملة، بسبب تحليله ان النظام الرأسمالي لم يستنفذ نفسه بعد، كذلك فان القطاع الليبرالي الانتهازي في ايامنا، اختار تجاهل حقيقة ان الحدود فتحت فعلا ولكن ليس من اجل الانسانية بل من اجل التحرك الحر لرأس المال وللقوى العاملة الرخيصة، لمضاعفة ارباح الشركات الرأسمالية الضخمة، فكانت النتيجة سكوت هؤلاء الليبراليين عن الاملاءات الاقتصادية التي فرضتها مؤسسات المال العالمية على بقية الامم، ودعمهم للحروب الرجعية التي قادتها قوميات مختلفة ضد روسيا ويوغوسلافيا بدعم كامل من امريكا، ودعمهم ايضا لاتفاقات السلام الفلسطينية والشمال ايرلندية والجنوب افريقية، علما انها خدمت البرجوازية المحلية والقوى الاستعمارية وتناقضت مع مصالح الشعوب.
وضع ثوري؟
لقد مثل لينين امام وضع ثوري، احتدت فيه التناقضات داخل النظام الرأسمالي لدرجة الحرب وانهيار كافة مؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في هذا الوضع رأى ان الامبريالية، عصر الاحتكارات، هي المرحلة الوسط بين الرأسمالية وبين مرحلة اعلى في تطور النظام الاقتصادي نحو سوق مبرمجة وموحدة، بكلمات اخرى: اشتراكية. ودور الطبقة العاملة هو اعطاء الدفعة لعملية ولادة النظام الجديد، هذا ودفع قطار التاريخ الى الامام من خلال الثورة. عندما مثلت روسيا امام وضع ثوري، كان حزبه الوحيد الجاهز لقيادة الثورة، بسبب قدرته على رؤية الامور وتحليلها.(9/32)
وفي ايامنا، رغم الحروب، الفقر، الجوع والفاشية، الا ان القطاع المدني يصر في مؤتمراته في بورتو اليغري أ (2001) وب (2002) على الاصلاحات و"لبرلة السوق"، اي العودة للسوق الحرة، اي لنقطة البداية. ولا يجب ان نستغرب هذا الاصرار على الاصلاح، لان الطبقة التي يمثلها القطاع المدني هي الطبقة الوسطى التي ترعرعت على دولة الرفاه، علما ان دول الرفاه الغربية تغذت من خيرات الشعوب المستعمرة. بمعنى آخر، ان هذه الشريحة مستعدة بهدف ضمان مستوى معيشتها ان يتم مواصلة استغلال الشعوب الفقيرة ولو كان الثمن الحرب.
خلافا للوضع الذي يكتب عنه لينين، لسنا في وضع ثوري بعد، فالازمات لا تزال تضرب الهوامش. ولكن دورنا هو متابعة ما يحدث وتحديد مصلحة الطبقة العاملة ودورها فيه. في وثيقتنا المذكورة آنفا، حددنا ان البرجوازية الفلسطينية أنهت دورها بانتقالها للمعسكر الرأسمالي الامريكي المضاد، وان على الطبقة العاملة ان تتكفل بتنظيم نفسها لقيادة قضيتها الوطنية والطبقية والحفاظ على مصالحها بنفسها. على المستوى العملي، يقوم حزب دعم بمساهمته في توعية وتنظيم الطبقة العاملة العربية في البلاد، اولا على المستوى النقابي ومن ثم السياسي لتكون جديرة بتحمل المسؤولية والمساهمة في المجهود الدولي للطبقة العاملة العالمية باتجاه تأسيس النظام الاشتراكي.
المصدر:http://www. r ezga صلى الله عليه وسلم com
* هذه المقالة مأخوذة من نشرة إلكترونية يسارية , علمانية , ديمقراطية من موقع الحوار المدني .وإيرادها هنا من قبيل الإفادة من أصحاب التوجه الاشتراكي في الرد على الرأسمالية الغربية وأما الحل الذي وضعوه فهو أسوء حالا من أخيه وقد أثبت فشله على أرض الواقع وما سقوط الاتحاد السوفيتي إلا خير مثال على ذلك.
==============(9/33)
(9/34)
العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق
عمار طالبي
لا تقتصر العولمة على تعميم القيم الاقتصادية وأنظمتها, بل إنها أخذت فعلا تعمم القيم الثقافية التي تكون لب حياة المجتمع, وبخاصة القيم الأخلاقية والدينية منها, إذ أن القيم الأخلاقية والدينية وما تؤدي إليه من سلوك فردي واجتماعي هي الأرضية التي تقوم عليها أنماط السلوك الاجتماعي, وهو ما يمثل الحياة الثقافية في مجملها, باعتبار أن الثقافة طريقة لرؤية العالم والتعبير عنه.
والثقافة التي تملك وسائل الاتصال القوية ووسائل صناعة الثقافة والرقابة عليها هي التي أخذت تهيمن اليوم عن طريق القنوات الفضائية والإنترنت, مما يؤدي إلى غلبة نماذج معينة من القيم الأخلاقية وأنماط معينة من السلوك والذوق, وخاصة لدى الأطفال الذين لم تتكون لديهم ملكة النقد, والحصانة الذاتية, فيقعون فريسة سهلة لما يعرض عليهم من صور مؤثرة, وأغان ورقص وأزياء, وتناول الأطعمة والأشربة, وغيرها من أنماط الاستهلاك عن طريق الإعلانات المكررة والصور الجميلة المؤثرة, مما يؤثر تأثيرا واضحا على المعتقدات والقيم, وبما يعرض بقوة وبمهارة من قيم مجتمع أجنبي, وتصرفات غير مقبولة في مجتمعاتنا نحن المسلمين, بما في ذلك التمرد على الأسرة وتفكيك علاقاتها المتماسكة, ونشر ما يتعارض مع مرجعياتنا وقيمنا من سلوك جنسي فاضح واستهلاك للمحرمات وما إلى ذلك.
إن الكلمة المؤثرة قديما فقدت كثيرا من تأثيرها, وحلت محلها الصورة التي لا يقف حاجز اللغة أمام تأثيرها, فالذي لا يفهم اللغات الأجنبية يكتفي بالصورة المعبرة.
ربما أدى هذا الاكتساح للقيم, وهدم العلاقات الأسرية, والهجوم على المرجعيات والقيم الثقافية إلى رد فعل, يتمثل في تفجير أزمة الهوية فيرجع الناس إلى التقاليد القديمة والعصبيات القبلية أو القومية الضيقة, التي تؤدي إلى سلوكيات ربما كانت أسوأ مثل التطهير العرقي, أو يحتمون بثقافتهم الأصلية بطريقة تؤدي إلى جمودها, وعدم تفتحها على الثقافات الأخرى, وقد نشاهد جماعة من المهاجرين الأتراك مثلا في ألمانيا يقتصرون على مشاهدة الأفلام التركية وهم مقيمون في ألمانيا, ينقلون هويتهم معهم ولا تتقطع الصلة بينهم وبين مجتمعهم الأصلي, وكذلك بفعل المهاجرون المسلمون في فرنسا, والأكراد في ألمانيا, وقد يؤدي ذلك أيضا إلى ظهور الأقليات العرقية وسلوكها العنيف مما يهدد السيادة الوطنية لبلد ما من البلدان, ويمزق وحدتها الثقافية السائدة, وعقيدتها الدينية.
وهذا التهديد الثقافي والديني قد يؤدي أيضا إلى فرار الناس إلى الدين, يلوذون به, ويحتمون بعقائدهم لدرجة التعصب والعنف والقتال, لأنهم يشعرون أنهم مهددون في أعز شئ عندهم. ولشدة خوفهم من الاستئصال والانسلاخ قسرا عن معتقداتهم, لأن الصراع يسهل أن ينشأ عندما يشعر الإنسان أنه مهدد في جانب من ذاتيته.
وقد تمت دراسات ميدانية في مجال تأثير الأقمار الصناعية على القيم الثقافية ومنها الأخلاقية والدينية على عدد من البلدان منها بالنسبة للعالم الإسلامي : السعودية واليمن والأردن ومصر وتونس, ومنها بلدان أخرى خارج العالم الإسلامي.
من هذه الدراسات دراسة ناصر الحميدي الذي لاحظ أن التأثير على الجوانب الأخلاقية يأتي في الدرجة الأولى, مثل: الترويج للإباحية, والاختلاط وما إلى ذلك مما يخالف القيم الإسلامية, والترويج للسلع الأجنبية وخاصة بين النساء والأطفال, وهذا من الجانب الاقتصادي.
ومما أشارت إليه الدراسة التأثير على الجوانب العقدية والثقافية, والتأثير على الجوانب التعليمية والسلوكية من التشتت بين ما يتعلمه المرء في المؤسسة التربوية, وما يشاهده من برامج مناقضة لذلك, وإغراء النساء بتقليد الأزياء الغربية وأدوات الزينة, وكذلك التأثير على الروابط الأسرية.
وقام اتحاد الإذاعات العربية بدراسة في هذا المجال ومن نتائج ذلك أن المشاهدة الأسرية غير ممكنة في أحوال كثيرة, وغير مقبولة لوجود محاذير أخلاقية, وكذلك ارتفاع نسبة الإعراض عن مشاهدة البرامج الوطنية بحثا عن المتعة والترفيه, وترى العينة أنه بالرغم من وجود تباعد بين المشاهد والمضمون الإعلامي الأجنبي الذي لا يتلاءم مع تعاليم الإسلام ولا مع الواقع الاجتماعي العربي إلا أنه لا يخلو من تأثير.
ومن الدراسات الميدانية التي تمت لمعرفة تأثير المواد التلفزيونية الأمريكية على الشباب الكوري الجنوبي قام بها( Mo r gan و Kang) ومن نتائج هذه الدراسة أن هذه المواد أدت إلى تأثير بالغ على القيم التقليدية الكورية, فأصبحت الفتيات الكويات أكثر تحررا من القيم الأسرية والأخلاقية, ويعتقدون أنه لا حرج من الممارسة الجنسية خارج الزواج, وأن ذلك من قبيل الحرية الجنسية, وأصبحن يرتدين الملابس الأمريكية, ويحتقرن العقيدة الكونفوشيوسية.
أما الفتيان فقد كان الأمر على العكس, إذ أصبحوا أكثر محافظة على التقاليد الكورية وأكثر كراهية للولايات المتحدة, وبين الباحثان أن هذا التعارض قد يؤدي إلى رد فعل معاكس مناهض للثقافة الأجنبية.(9/35)
كما أن شبابا آخرين في دراسة أخرى أصبحوا يدمنون المخدرات هربا من واقعهم بالمقارنة مع الواقع الأمريكي الذي يشاهدونه. ومن نتائج دراسة أخرى تمت على أطفال في أستراليا أن هؤلاء الأطفال أصبحوا أكثر عدوانية وميلا إلى العنف في معاملاتهم, ويرون العالم رؤية تجعله مليئا بالعنف والجريمة من كثرة مشاهدتهم لمواد التلفزة الأمريكية. وهذه النتائج تبين أن هذا التأثير يؤدي إلى فقدان الانتماء. وإلى أزمة أخلاقية وإلى غربة ثقافية, كما يؤدي إلى وجود فئة من النخبة تعيش منقطعة الجذور وتزعم أنها قيادة فكرية, كما تبقى أخرى ذات ثقافة شعبية غريبة عن عصرها وعاجزة عن تجديد ثقافتها وتوسيع أفقها أخلاقيا ودينيا, الأمر الذي يفجر صراعا اجتماعيا, يعوق المجتمع عن التخلص من التخلف, فعقول بعض المثقفين لا تعترف إلا بالنمط الغربي في الحياة والفكر, وعقول آخرين لا تعترف إلا بالتقاليد التي ربما فاتها الزمن, ولم تعد صالحة لعصرنا هذا, وينتج عن ذلك, أزمة نفسية أخلاقية وعدم استقرارنفسي, ويولد ذلك كله صراعا مريرا داخل المجتمع الواحد.
ولا شك في أن الثفافة القوية في وسائلها ومضامينها تغير المواقف وتشكل رأيا عاما جديدا, وتقوم أحيانا على تزوير الحقائق, وينتج عن ذلك تغييرات عميقة في البنى الاجتماعية وقيمها والتمرد عليها, وتبني ثقافة الاستهلاك للأشياء والأفكار والقيم.
ويؤخذ على العولمة وعلى هذا الذي يدعونه بالنظام العالمي الجديد أنه يخلو من أي منهج أخلاقي, ولذلك لجأ الفرنسيون إلى وضع الثقافة في خانة الاستثناء, لأنهم تنبهوا إلى أن قوة الإنتاج الثقافي الأمريكي تؤدي إلى التغيير التدريجي في معايير السلوك وأنماط الحياة, بالإضالة إلى ذلك, فإن الحداثة الغربية أخفقت في مجال القيم الأخلاقية التي بنيت على المنفعة, أو على مجرد الرغبة أو مجرد العقل, وأبعدت القيم الأخلاقية عن العلم وعن الدين, وبذلك أصبحت العولمة في انفلات عن قيم تحكمها وعن ضوابط إنسانية تحدد سلوكها, ولذلك فإننا نرى فلاسفة الغرب, ممن يسمون بفلاسفة ما بعد الحداثة, يهاجمون العقل الذي تصورته الحداثة أنه هو الحل السحري لمشاكل الإنسان, وأن العلم هو مفتاح السعادة, وإن انقطع عن القيم, وانفلت منها, ويعتبر هذا الانفلات من القيم الأخلاقية والدينية عندهم تحررا, فطالبوا بحرية الجنسية المثلية وغيرها من الموبقات.
ومما جاء في التقرير العالمي الخاص بالصحة النفسية Wo r ld Mental r epo r t إن الدراسة المعمقة لمشاكل الصحة النفسية التي أشار إليها مؤلفوا هذا التقرير تبين أن المشاكل الاجتماعية والاضطرابات النفسية هي مشاكل كونية, ونسبة كبيرة منها لا تنجو من تأثير سياق العولمة المعقد, لأن وسائل الاتصال الراهنة بقوتها تهدم المرجعيات الثقافية العريقة التي عاشت عليها المجتمعات البشرية وتقوض كثيرا من أسسها, لأن منطق العولمة منطق الربح والمال, والنجاح في الأسواق كلها, أسواق الاقتصاد, وأسواق الثقافة أيضا.
إن العلماء اليوم يجب أن يطرحوا مسائل ذات صبغة أخلاقية وخاصة في مجال البيولوجيا والهندسة الوراثية, حيث نشهد تطورا سريعا سواء في مجال العلم النظري أو البحث الأساسي في مجال البحث التطبيقي, فمنذ أربعين عاما تقريبا كان أغلب الباحثين من العلماء يعتبرون القيم مسألة لا تعنيهم, وأصبح العلماء اليوم لا يستطيعون أن يتجنبوا البحث فيما يتعلق بنتائج أعمالهم العملية, فيجب إذن الاعتراف بضرورة أن تحد سلطة التكنولوجيا بسلطة الأخلاق, كما صرح بذلك المدير العام السابق لليونسكو F r d r ik Mayo r , وكما قال الكاتب الفرنسي r abelai : ( العلم بلا ضمير ليس إلا خراب النفس ) (Science sans conscience n 'est que r uine de I 'ame ) إن الباحثين الأمريكان يتساءلون عن نوع الإنسان الذي يريدون إنتاجه, وأدت البحوث المتقدمة في البيولوجيا إلى محاولات التحكم الفيزيقي في العقل البشري, وإلى محاولة التغيير الأساسي بشروط بداية وجود الإنسان ونهايته.(9/36)
وإذا كانت بداية الاستنساخ كانت في الفئران في هواي Hawai وفي الخرفان بنيوزلندا واليابان, وفي المعز في الولايات المتحدة وكندا, فإن مجلة محترمة جدية علميا وهي المجلة البريطانية The Lancet كتبت في سنة 1998م أنه بات من الضروري صنع كائنات بشرية عن طريق الاستنساخ, ودعت الأوساط الطبية إلى قبول ذلك, وقام Paulin Jose أحد الكبار المهتمين بدراسة المخ البشري يقول:( ليست المشكلة الفلسفية الرئيسية اليوم هي: ما هو الإنسان؟ ولكن ما هو نوع الإنسان الذي يجب علينا إنتاجه؟.) فأين كرامة الإنسان؟ وأين الشعور بالأخطار التي يمكن أن تحدث للجنس البشري, والمفاجئات التي يمكن أن تؤدي إلى إنتاج أناس لا عهد للإنسانية بهم في التاريخ, مما ينحرف بالطبيعة البشرية إلى كائنات أخطر ما تكون, وأكثر ما تكون خروجا عن سمات هذا الكائن الذي نعرفه, وهو الإنسان ذو الطابع الأخلاقي الفطري, وذو الكرامة التي منحه الله سبحانه وتعالى إياها في وجوده وفطرته الأخلاقية باعتباره غاية في ذاته لا أنه شئ, من الأشياء, أو وسيلة إلى غيره يمكن أن يتلاعب بها اللاعبون في مجال البيولوجيا أو العلم المنفلت من أي معيار أخلاقي أو قانوني أو ديني.
لا شك أن ابن خلدون قد تفطن لأهمية القيم الخلقية في حياة الإنسان ولذلك قال: (إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة).
ويتوقع من العولمة إذا تمكنت في سلطانها أن تمسخ الإنسانية, وأن تقولبها في نمط ثقافي يفقد ما في الحضارات الإنسانية وقيمها من غنى وتنوع, ونحن نشاهد كيف يشجع الغرب الذين يتحدون المسلمين في عقائدهم مثلما فعلوا مع نسرين البنجلاديشية التي تدعو إلى تغيير القرآن وتصف الدين بأنه ظلامي, وكذلك سلمان رشدي, الذي هاجم القرآن ومقدسات الإسلام علنا, فمن حق المسلمين أن تحترم عقائدهم كما تحترم عقائد غيرهم. إن النظم الأخلاقية والديانات تقع تحت تأثير العولمة اليوم فتقود إلى ضعف البنى الاجتماعية والأسرية فيصيبها الاضطراب والتفكك. إن جماعة من المفكرين في ماليزيا عارضوا القيم الغربية, ونظروا إلى القيم الآسيوية على أنها بديل بهذه القيم الغربية, ومن هؤلاء إبراهيم أنور ومظفر شندرا, كما يمكن للأفارقة أن ينادوا بقيم أخرى لهم معارضة للعولمة الغربية, وقد حاول ذلك بولان هونتوندجي Paulin Houtondji في مقال له يدعو فيه إلى مقاومة العولمة الثانية, ومن قبله فرانس فانون 1925-1960م الذي دعا إلى تصفية الثقافة الزنجية وغيرها من آثار الاستعمار, وهو يعتبر من النخبة الإفريقية الآسيوية. إن الظلم الاقتصادي في العالم وراء كثير من التوترات التي تعاني منها الإنسانية, وإذا كان عدد سكان البلدان النامية حوالي (4.5 مليار) فإن الثلث منها على الأقل لا يحصل على المياه الصالحة للشرب, والخمس (5/1) من الأطفال لا يتمتع بالسعرات الحرارية الكافية ولا بالبروتينات الضرورية, بل إن مليارين من البشر أي ثلث (3/1) الإنسانية يعاني من فقر الدم, ويمكن القول بأن ما تستهلكه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من الروائح والعطور, يكفي لسد حاجات التغذية الأساسية والصحة للسكان الفقراء في العالم, وذلك- حسب تقدير الخبراء - لا يتجاوز (13 مليار دولار) وهو المبلغ الذي تستهلكه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من العطور.
إن ارتفاع مستوى الحياة في هذه البلدان قاد إلى هجران كثير من القيم التي تجعل المجتمع متماسكا, فأدى ذلك إلى الحصر St r ess والشعور بالوحدة وما إلى ذلك من الأمراض النفسية والجسمية.
إن العالم - كما يقول الأستاذ طه عبد الرحمن - مقبل على تحول أخلاقي جذري بتأثير التحولات المتلاحقة التي يشهدها في الحياة الفردية والاجتماعية, لأن هذه التغييرات تفرز ضرورة معايير أخلاقية جديدة, ويأمل أن يتجه قادة العالم إلى إيجاد نظام أخلاقي عالمي جديد, كما وضعوا نظاما تجاريا عالميا, حتى لا تنحرف العولمة إلى الظلم والعدوان على الأمم الضعيفة اقتصاديا وحضاريا. وبما أن الإسلام يتجه نحو العالمية منذ نزوله, ويحث على التعايش والسلم, وعايش فعلا في تاريخه مختلف الديانات وتسامح معها تسامحا واضحا عند المؤرخين وغيرهم, فإنه مؤهل بتعاليمه الأخلاقية أن يشارك في وضع أخلاق جديدة لهذه العولمة المنفلتة لحد الآن, وهو يعترف بالقيم المشتركة بين الحضارات, ولا شك أن الدعوة إلى الفهم المتبادل للقيم الحضارية الشرقية والغربية من سمات الإسلام الرئيسية, فقد دعا إلى الحوار مع ديانات أخرى, منذ نزول القرآن, ونادى بالحوار بين الأديان وأزاح الغبار عما طرأ على بعض الديانات من الخرافات والتحريفات, ودعا إلى الأصل المشترك بينها جميعا.(9/37)
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) { آل عمران: 64 }, فعلى المسلم اليوم أن يحدد رسالته نحو العولمة ويبني موقفه على الفهم الصحيح للإسلام, وأن ميزانه ميزان أخلاقي ( التقوى ) حين يتحاور ويتعاون مع البشرية في العالم إذ ألغى ميزان العصبية واللون, والطبقة والثروة, وجعل عمارة الكون والإحسان إلى العالمين من مبادئه ومقاصده, وكذلك المشاركة في توفير الخير للناس, وحفظ الحقوق, ومنع الظلم وإن كان مع عدو أو مخالف في الدين, ( ..ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .. ) { المائدة : 8 } وعد القرآن اختلاف اللغات والألوان - واختلاف اللغات هو أيضا اختلاف الثقافات - فهذا المعنى الأخلاقي القرآني إذا راعيناه فإن العولمة لا تصبح غابة يأكل القوي فيها الضعيف, ولا تمحو الثقافة التي أتيحت لها عوامل القوة ثقافة الآخرين وقيمهم, مما يدعو إلى نشوب الحروب والمقاومة. وإذا كان يتبع العولمة بقصد أو بغير قصد إشاعة الفساد والانحلال, وبيع الشهوة وحمى الاستهلاك, فإن من شأن المسلم أن يقاوم هذه العوامل من الفتنة ويعمل جهده أن تسود القيم التي تحفظ على الإنسان كرامته, ولا شك أن العولمة يمكن أن تكون لها جوانب إيجابية مثل تداول التقنية والمعرفة المتاحة, فيمكن لشباب الشعوب النامية أن يستفيد من ذلك كله لرفع شأن شعوبهم ومستواهم الثقافي والحضاري, ومنع إطلاق الوحش الذي يكمن في الإنسان ليحطم الكوابح الأخلاقية إذا غاب الدين, واختفت القيم, وسادت موجات العنف, والحروب, والفساد الاجتماعي.
إن بعض القيم كالحرية والأخوة والعدل هي قيم متعالية إنسانية, لا يمكن أن يتنكر لها الإنسان إذا سلمت فطرته من الفساد. إن 80% تقريبا من سكان الأرض يتبعون الدين, بالرغم من الشك الذي يسود بعض البلدان, والدين يدعو إلى الرحمة. بل إن الإسلام جاء رحمة للعالمين, كما وردت أيضا عدة مرات كلمة الرحمة في الكتاب المقدس, ولكن الناس لا يراعون هذا المعنى, فترى النزاع بين الهندوس والمسلمين في الهند, بين الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا, وبين المسلمين والنصارى في البلقان والسودان, ونيجيريا وإندونيسيا, إن ذلك يرجع إلى عداوات تاريخية قائمة على سوء الفهم, وعدم التسامح والانفتاح على الآخر, بالإضافة إلى العوامل السياسية والاقتصادية والعرقية الأجنبية التي تغذي بعض هذه الصراعات, فالروس مثلا يساندون الصرب, والألمان يؤيدون الكروات, في حين أن البلاد الإسلامية تساعد المسلمين بما في ذلك تركيا. ويشير جيمس ميتلمان أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية بواشنطن إلى أن العولمة تنطوي على إمكانات الضرر بالأديان, وإفادتها في الوقت نفسه, فالعولمة في جانبها الإعلامي والثقافي وترويجها للأنماط الاستهلاكية والتحلل من القيم تتحدى المنظومات الدينية والأخلاقية وتضعف إقبال الجيل الجديد عليها, ولكن يمكن القول بأن الدين يستفيد من وسائل الاتصال المعاصرة الفعالة بتوظيفها في نشر الرسالة الدينية والدعوة إليها, ولذلك فإنه بالرغم من هذه العوامل المشار إليها التي تتحدى القيم الدينية والأخلاقية, فإن الأديان والدعوة الأخلاقية التي تقاوم الثقافة الاستهلاكية يمكن القول بأنها سائرة في طريق اكتساب أنصار في العالم حتى سكان الولايات المتحدة.
وينبغي أن يشار هنا إلى الوجود الإسلامي في القارة الأوروبية الذي يصل إلى حوالي ( 15 مليونا ) منها خمسة ملايين في فرنسا وحدها, وما يعانيه المهاجرون المسلمون من إشكالية الهوية, ذلك أن موجات العنصرية تتزايد ضد هذه الجاليات المسلمة, كما أن احتماءهم بهويتهم واكتشاف جديد لهويتهم لأنها أصبحت مهددة, أدى هذا إلى شعور حاد بالقلق وخاصة لدى الآباء خوفا على هوية أبنائهم من الذوبان, ويتصور بعض الباحثين أن الإسلام يمثل عاملا مقاوما لتحدي العولمة.
فضلا عن الجماعات الغربية المتعددة المقاومة لهذه العولمة, ومن خلال التحليل الواقعي للتاريخ, وهذه الظروف التي يمر بها العالم ينبغي أن يتفطن المسلمون - إن في العالم الإسلامي وإن في هامشه وهو الوجود الإسلامي في الغرب - إلى رسالتهم في أن يضفوا على العولمة السمة الإنسانية الإسلامية, والعمل على أن تكون في إطار أخلاقي عالمي مشترك, ومنعها من التفرعن والنزعة الامبراطورية الرومانية وما إلى ذلك من وجود الاستبداد والفساد. ولا شك أن الشباب في العالم الإسلامي له قدرات وإمكانات وطاقة لا تقدر بثمن, وهي كفيلة إذا قامت بواجبها أن تشارك في توجيه صيرورة هذه العولمة العارمة, إذ ليست الحضارة الغربية هي نهاية الحضارات وخاتمة التاريخ كما يزعم بعض الكاتبين المنبهرين بانتصار الليبرالية الجديدة, وخمود الاتحاد السوفيتي وانحلاله.(9/38)
ونحن نرى اليوم أن القوة تكمن في المعرفة, وأول آية نزلت في القرآن نبهت إلى القراءة والعلم والقلم الذي يؤوله بعض الباحثين اليوم بأنه الكمبيوتر, ولماذا لا ؟ إنه امتداد للقلم, والعالم الإسلامي اليوم هو ميدان الصراع بين موجات العولمة فيها الرابح والخاسر, ولكن يبدو أول وهلة أنه مرشح لأن يكون هو الخاسر, وهو الذي يدفع الثمن, فلا يوجد في بلد إسلامي مثل بنغلادش من أجهزة الكمبيوتر ما يوجد في بعض الجامعات الأمريكية.
اقتراح: إن قوة الحضارة الحقيقية إنما تكمن فيما يبدو في قوة قيمها الأخلاقية التي تسندها, وتطيل من عمرها, ولذلك فإن العولمة باعتبارها ظاهرة حضارية كونية تتطلب أخلاقيات عالمية تضامنية تحد من الانفراد بالسيطرة لثقافة واحدة. وتفاديا للصراع بين الثقافات, وذلك بإيجاد ميثاق أخلاقي جديد مشترك ينظم جوانب العولمة المختلفة الاقتصادية والثقافية.
هذا من الجانب العالمي, وأما من الجانب المحلي فإن البلاد النامية مدعوة لإحياء ثقافتها لتصبح ثقافة فعالة, تتفاعل مع الثقافات الأخرى أخذا وعطاءا مما يمكنها من أن تجد مكانا لائقا بين الثقافات الأخرى, بتطوير إنتاجها الثقافي وبوضع استراتيجية ثقافية إعلامية محكمة وإن في صورة إنتاج مشترك بين دول إقليم معين, كالإنتاج المشترك لدول الخليج مثلا الذي يوجد في الكويت, ويكون قائما على أسس عقلانية, وتخطيط واضح تسنده دراسة كافية, وتمويل ضروري, لأن الثقافة اليوم أصبحت صناعة قائمة بذاتها, ولأنه لا يمكن الدخول في العولمة دخولا فوضويا, الأمر الذي لا يعدو أن يكون مجرد اندماج وذوبان في أمواجه العاتية. ويدعم ذلك كله استراتيجية تربوية, هدفها تجديد ملامح المستقبل الذي يراد تحقيقه في الواقع, وأهم ما في الرصيد الثقافي عند المسلم هو قيمه الدينية التي تجعل منه إنسانا يدرك تاريخه, وذلك يتم في إطار فلسفة أخلاقية نشترك فيها مع غيرنا, وينبغي النظر إلى التربية الإسلامية في بعدها الحضاري, لا في بعدها الظرفي ولا في منظورها الجزئي, ويتم ذلك بإحداث تغيير شامل في الأهداف والوسائل الفعالة, والتقنية المعاصرة التي تكون الذهن النافذ والعمل المتقن, مما يمكن من تجاوز التخلف الذي ما يزال يجثم على المجتمعات الإسلامية. كما أن دعم التعلم مدى الحياة وتعميمه بوسائل الإعلام من أهم عوامل الوعي العام في المجتمع.ِ
المصدرhttp://www.ikhwan-muslimoon-sy r ia.o r g
==============(9/39)
(9/40)
"العولمة" نوع من الغزو الجديد
د. جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
مانشيتات
1- "العولمة" نظام يقصد به الخضوع لمجموعة النظم والأفكار والعادات والتقاليد السائدة في الغرب في مجالات الحياة.
2- إقامة المؤتمرات في بلاد مختلفة، وإتاحة فرص التعليم أمام الأجانب وتسويق العادات والتقاليد، واستخدام التقنية الحديثة في مجال الاتصالات هي بعض وسائل "العولمة".
3- إن من بين العاملين في المجال الفني أناساً يحرصون على دينهم ويخافون ربهم ويحاولون بعث القيم الأصيلة في أعمالهم.
4- الحرص على الجوانب الثقافية والفكرية تعميق للمشاعر الوطنية وتثبيت له في النفوس والقلوب.
5- الوازع الديني والمحافظة على القيم، والعناية بالشباب ورعايتهم أمر لا مفر منه في الوقاية من خطر الغزو الثقافي الجديد.
دلالة العولمة:
العولمة تعبير مستحدث أخذ يجري على الألسنة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وتبلور نظام عالمي جديد، أحاديّ القطبية، تقوده أمريكا، ومن ورائها دول عديدة تسعى في نفس المضمار، ولا يحدث بينها - غالبا - خلاف في قرار، فشاع استعمال "لفظ العولمة" للدلالة على اكتساح الرؤية الغربية في السياسة الدولية لوجه الأرض، فلا يخرج عن هذه السياسة الدولية التي تضع أسسها الولايات المتحدة، وتبرزها وتخرجها الأمم المتحدة إلا قليل من الدول، التي يؤدبها الحصار الاقتصادي (ليبيا) أو العداء السياسي والانقطاع الدبلوماسي (إيران) أو العدوان المسلح (السودان وأفغانستان).
ولم يقف تعبير (العولمة) عند المجال السياسي وحده، بل تعداه إلى مجالات أخرى عديدة حتى صار يعني:
خضوع الشعوب لمجموعة النظم والأفكار والعادات والتقاليد السائدة في (الغرب) في المجالات الاجتماعية والسلوكية والاقتصادية بجميع مظاهرها وعللها، ما صلح منها وما فسد على السواء إلى جانب المجال السياسي بالطبع، وهذا ما أعلنه الرئيس كلينتون في خطابه في الأمم المتحدة في دورة انعقادها الثامنة والأربعين، حين بيّن سياسة بلاده الخارجية التي تقوم على الأسس الأربعة الآتية:
1- تقوية وتوحيد المجتمعات الديمقراطية الصناعية.
2- التبشير بالديمقراطية والعمل على نشرها في العالم.
3- التبشير باقتصاديات السوق (الخصخصة) والعمل على تطبيقها في العالم.
4- حصر وتطويق الدول غير الديمقراطية. (قضايا دولية العدد 198 ص16).
وسائل تسويق العولمة:
أولا: إقامة المؤتمرات:
وبالطبع فإن نشر هذه المبادئ في العالم يستتبعها نشر القيم الغربية ومعالم السلوك وغيرها مما يصطدم في كثير من الأحيان مع قيم الشرق الإسلامي ومبادئه والعادات والتقاليد السائدة بين الشعوب الإسلامية، ولعل العمل على نشر هذه القيم الغربية كان وراء إقامة مجموعة كبيرة من المؤتمرات في عديد من البلاد أذكر منها مؤتمر الإسكان الذي أقيم في القاهرة، وواجه معارضة شديدة، ومؤتمر المرأة الذي عقد في بكين وواجه - أيضاً - معارضة شديدة للتوجيهات والقيم التي يرغب الغرب في تسويقها ونشرها بين الشعوب، لا لشيء إلا لأنها سائدة عنده.
ثانيا: التعليم:
ولم تقف محاولة الغرب فرض مجموعة النظم السائدة عنده على العالم عند عقد عدة مؤتمرات في بلدان مختلفة، بل اتخذ عدة وسائل أخرى تؤدي إلى نفس الغرض، فعمل على إتاحة فرص تعليم بعض القيادات الشابة التي تعود إلى بلادها حاملة مبادئ الغرب وقيمه، رافضة نظم بلادها، وطرائق تفكيرها وأسلوب تعاملها (وقد تعلم في أمريكا - وحدها - في الفترات الأخيرة مليوني طالب آسيوي، بينما لا يوجد طلبة روس في أمريكا سوى 10 آلاف كما يقول ميخائيل كرامر في مقال له بمجلة تايم الأمريكية بتاريخ 12/4/1993م، ويذكر في مقاله أن حوالي نصف أعضاء البرلمان الألماني درسوا في أمريكا الأمر الذي ساعد على تماسك الديمقراطية في بلادهم على حد قوله.
وقد دعا السيناتور الأمريكي بيل برادلي إلى إحضار الروس إلى أمريكا بأعداد ضخمة لأنهم سيتعلمون الرأسمالية بطريقتهم الخاصة، وهذا سيأخذ وقتاً ولكن لا يوجد شيء مختصر في تبادل الأفكار على مستوى كبير) (قضايا دولية العدد 173 ص24).
ثالثا: العادات والتقاليد:
ثم بدأت تنتشر في العالم الطريقة الأمريكية في المطعم والمشرب بحيث أحاطت بالكرة الأرضية مجموعة من المطاعم الأمريكية المنتشرة في كل الأرض، تقدم الوجبات السريعة الجاهزة على الطريقة الأمريكية، وغزت طريقة ونوعية الملابس الأمريكية الشباب، وصار (الكاوبوي) راعي البقر بزيّه المعروف الذي ما يزال ينشر في الإعلانات على أنه الرجل العصري الذي لا تهزه الأعاصير، صار هذا النموذج الموضوع في كل حين أمام الشباب هو القدوة وهو الأمل الذي يحلم به كثير من الشباب في كثير من البلاد.
وليس معنى هذا أن هذا الغزو في طرائق الطعام والشراب والملبس قاصر على الناحية الشكلية الخارجية، فهذا هو المظهر البادي للعيان، والحقيقة أن هذا الفتى الآخذ بالمظاهر الغربية لم يأخذ بها إلا بعد أن تفتت جزء من هويته، وهبط جزء من ذاتيته، وسقطت من حسابه قيم كان يدين بها ويتمثل آدابها فتخلى عنها وتمسك بغيرها.(9/41)
وهنا مكمن الخطر ومستوقد الشر الذي قد لا ينطفئ إلا بعد أن يجتاح العقول ويمسك بزمام العاطفة، وحينئذ يكون الغرب قد استكمل هيمنته من غير حرب وبلا أي سلاح وبدون أي خسائر، بل يكون قد صنع لنفسه مدداً جديداً، يأخذ منه - عند الحاجة - ما يريد.
رابعا: التقنية الحديثة في وسائل الاتصال:
وقد تسأل: وما الجديد في ذلك كله بعد أن شاع خبره وعمّ ذكره؟
والجديد هو في التقنية الحديثة التي تطرأ كل يوم على وسائل الاتصالات والمواصلات، وتطور بها أجهزة الإعلام أداءها على نحو غاية في السهولة والإتقان، بحيث تصل إلى من يعيش فوق الجبال، أو يركب ظهر البحار، أو يسكن سحيق الأودية، أو يطير سابحاً في الفضاء، فلم تترك هذه الأجهزة ذات التقنية الحديثة ركناً إلا دخلته، تاركة لصاحبه أن يختار من بينها ما يشاء من فضائيات، تخاطبه بلغات مختلفة، وتعرض عليه من الأفلام والمسلسلات الجيد والرديء، وما يخاطب العقول، وما يدغدغ الغرائز، وما على الإنسان إلا أن يضغط بلمسة رقيقة من إصبعه على زر لتعرض عليه الفضائيات المتعددة - وهو نائم في فراشه - ما يشاء.
وكان آخر ما توصلت إليه التقنية الحديثة في مجال الاتصالات هو "الستلايت المترجم" أي الذي يقوم بدورين في آن واحد التقريب والتوضيح ثم تخرج منه الكلمات الملقاة على ألسنة الممثلين أو قارئي الأخبار، أو غيرها مترجمة إلى اللغة التي يريدها المشاهد.
ولا شك أن للغتنا العربية نصيبها الوافر من الترجمة، لأن السوق العربية واسعة كبيرة، والشركات المنتجة لا تستغني عنها، وإلا ضاع عليها جزء كبير من مبيعاتها، وقد تلحق بها بعض الخسارة إن فقدت هذا السوق.
والربح المادي لهذه الشركات يأتي على حساب القيم الأخلاقية والفضائل الكريمة للشعوب الإسلامية، ورغم انتشار (الستلايت) إلا أنه كان يحد من أثره الاحتياج إلى الترجمة المصاحبة لكل ما يبثه من أفلام ومسلسلات أجنبية، وهذا أمر ترهق به ميزانية أجهزة الإعلام نظراً للأموال التي تدفعها للقائمين على الترجمة والمشرفين عليها. وكان كثير من غير القارئين ينصرفون عمّا يبثه الستلايت، نظراً لأنه غير مترجم، وغير مفهوم، ومن لم ينصرف كانت المشاهدة بالنسبة له قاصرة على صورة يراها أو منظر يمّر عليه ضمن مسلسل أو فيلم، ثم يمضي لحال سبيله يرى ما يراه، فلم تسمع أذنه ألفاظاً تخدش الحياء مع وجودها والنطق بها، لأن حاجز اللغة منع عنه هذا الأذى، وكانت أجهزة الترجمة - وما تزال - تحاول أن تغير بعض الألفاظ التي تصك الأسماع بقبيح القول، فتجعل بدلها ألفاظاً مقبولة.. أما مع اختراع الستلايت المترجم فقد سقطت كل الحواجز بين المشاهد وبين ما يشاهده، تصل إليه الصورة، وتصل إليه الكلمة، قبيحة أو غير قبيحة، صريحة أو مغلفة، والذين يحسنون اللغات الأجنبية وعندهم من الوقت ما يشاهدون بعض المعروض بهذه اللغات يخبروننا أن بهذا المعروض الذي يعالج مشاكل الشباب أو الأسرة أو المشاكل الاجتماعية وبعض المشكلات الاقتصادية كثيراً من الكلمات التي تصطدم بجدار الحياء فتخرقه وتنفذ منه، لتستقر في ذهن المشاهد مرتبطة بأحداثها ومقدماتها ونتائجها، فلا تغيب عن وعيه إلا بعد وقت طويل وجهد كبير.. ويا له من بلاء!!! ويا له من ابتكار قد يجر علينا كثيراً من المصائب والمتاعب ما لم نقاومه ونصد الناس عنه. والمقاومة المادية بجميع صورها قد لا تجدي في حالات كثيرة، ولذا فلم يبق أمامنا إلا أن نقاوم هذا البلاء مقاومة معنوية.
المقاومة:
وفي مقدمة هذه المقاومة المعنوية إيجاد الوازع الديني في ضمير كل فرد بحيث يصده هذا الوازع عن السعي نحو الشر، أو عن البحث عنه، وعن متابعته والتأثر به، والانغماس في هوّته، لأن أمثال هذه الشرور التي تبث من خلال الأجهزة العصرية، لا تزيد عن سراب خادع يحسبه الظمآن ماء، وما هو بماء، ولكنه هراء يثير نفوس الشباب بما يعرضه أمامهم، ويفسد أخلاقهم، وقد يدفع بهم - وهم يجرون خلف السراب - إلى الجريمة وهم يظنونها غنيمة، وما هي إلا غرامة وندامة وحسرة وخسارة يوم القيامة، يوم يؤتى بأنعم أهل الأرض فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا.
ومن عناصر هذه المقاومة: تعميق الجانب الثقافي والفكري والاهتمام بإحياء القيم الأصيلة في نفوس الأفراد، بحيث يدركون أن هذه القيم متعلقة بأشخاصهم وذواتهم، فإن هم نفضوها عنهم خلعوها من سلوكهم فقد لا تحيا من بعدهم، ولا يبقى لها أثر في حياة قومهم، ولذا فإن الحرص على هذه الجوانب الثقافية والفكرية تعميق للمشاعر الوطنية وإحياء لها في النفوس، فإذا ما تعرضت هذه القيم للضياع ضاعت معها فكرة الأوطان، وضربت الوطنية في الصميم، لأن الوطن ليس أرضاً فقط، بل إنه مجموعة من الناس تتفاعل وتتعاون حول مبادئ معينة فوق قطعة من الأرض تعارفت المجتمعات على حدودها، وكما أن الحدود الجغرافية يهب الناس للدفاع عنها حين يعتدي عليها المعتدون، فكذلك ينبغي أن يدافع الناس عن ثقافتهم وأفكارهم ومبادئهم وقيمهم حين يعتدي عليها - كذلك - المعتدون.(9/42)
ونضيف إلى هذين الأمرين المهمين أمراً آخر وهو قيام المؤسسات الفنية بواجبها نحو حماية الشباب من هذا الغزو الداعر الممقوت بعرض القيم الصحيحة، التي نشأنا عليها وتربى عليها الآباء والأجداد، وهي بحمد الله قيم وفيرة من الممكن أن تعمل فيها الأجهزة الفنية سنوات ثم سنوات من غير أن تنضب أو تجف.
ولسنا نشك في أن من بين العاملين في هذه المجالات من مخرجين ومنتجين وممثلين نماذج تحرص على دينها وعلى وطنها، وتحاول أن تقدم الفن الراقي الذي لا يعرف الإسفاف، ولا يقيم أعمدته في الخمارات أو دور العاهرات، وإنما يقدمون الواقع المستمد من البيئة وحدها غير متأثر بما عند الغرب أو بما عند الشرق. فيكونون بهذا قد شاركوا في صد هذا الغزو الجديد. ومن يدري فلعل عملهم هذا يكون بديلاً نافعاً عمَّا يأتي من الخارج. فهل هم فاعلون؟
وقبل هؤلاء وأولئك فإن دور الأسرة في رعاية أبنائها ومعرفة ماذا يرون ويشاهدون أمر لا مفر منه، ولا يغني عنه شيء آخر، بل إن جميع المؤسسات التربوية يكون دورها مكملاً لدور الأسرة، فإذا ضيعت الأسرة واجبها نحو أبنائها فقد ضاعت جهود المؤسسات التربوية، ولم تعد لها قيمة تذكر أو عمل يرجى.
إن الخطر كبير ولكن الأمل في مقاومته عظيم، فهل ننجح في إقامة جدار أمام هذا الموج الهادر؟
http://www.d r -mohalhal.com المصدر :
============(9/43)
(9/44)
موقف الإسلام من العولمة
في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والأمن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين… أما بعد:
فإن الدراسات المتعلقة بالمستقبل، أصبحت تشغل الجامعات ومراكز البحث في العالم أكثر من أي وقت مضى. ولم يعد القائمون على التخطيط للتنمية والاستثمار يقفون عند دراسة التاريخ في الماضي والتفكر في الحاضر، ولكنهم إضافة إلى هذا يستشرفون المستقبل باحثين عن بدائل احتمالاته وإعداد العدة للتعامل معها. ونتيجة لهذا، فإنهم يحسنون استثمار الزمن أولاً، كما يحسنون استثمار الطاقات البشرية والمادية، على السواء.
ومن أهم ما يطل على الساحة العالمية، ويشغل بال علماء الاقتصاد والاجتماع والتربية والسياسة في الوقت الحاضر ما يشار إليه ب "العولمة". وهي توجه جديد يبدو أنه سينضمّ إلى جملة المؤثرات المعاصرة على مستقبل العالم بعامة والعالم الإسلامي بخاصة.
لذلك، لا بد أن يكون الحديث عن "موقف الإسلام من العولمة في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والأمن". ويقتضي المنهاج العلمي أن أبدأ بتحديد مفهوم "العولمة"، وهو مفهوم لم يتفق عليه بعد بين العلماء والباحثين. ومن ثم فإنني سوف أجتهد في تحديد هذا المفهوم، مشيراً إلى أن اجتهادات المثقفين تختلف بالنسبة للعولمة المعاصرة.
فنجد فريقاً يراها - بما امتطت من تقانة متقدمة وإعلام غلاّب - تهدد هويتنا، ومن ثم ينبغي أن توصد الأبواب والنوافذ دونها، وأن نرفضها كلا وتفصيلاً.
ويرى فريق آخر أنها بشير تقدم ورقي. وكيف لا وهي آتية من مجتمعات متقدمة، وتمتطي أحدث ما وصل إليه العصر من أساليب الاتصال وتقانته، ومن ثم ينبغي أن نفتح لها الأبواب والنوافذ، وأن نغتنم الفرصة بالأخذ بمعطياتها لإفادة الأمة الإسلامية من ثمراتها.
وهناك فريق ثالث يرى أن نأخذ منها المفيد ونتقي شر ما تأتي به من مثالب. وأمام هذه الرؤى المختلفة والمتعارضة - أحياناً - نرى أهمية فتح حوار عن العولمة، لعلنا نصل فيها إلى كلمة سواء.
أولاً: مفهوم العولمة:
سوف نعرض هنا مفهومين للعولمة:
الأول: أشير إليه بمفهوم "العولمة كما ينبغي أن تكون" وهو تصور للعولمة التي يتكافأ فيها الشمال مع الجنوب.
الثاني: أسميه "المفهوم المعاصر للعولمة" وسوف أحاول استقراءه من واقع التطبيق الفعلي المعاصر للعولمة.
أ- مفهوم العولمة كما ينبغي أن يكون:
يمكن فهم "العولمة" - على وجه العموم - من الناحية الاصطلاحية بأنها حركة تهدف إلى تعميم تطبيق أمر ما على العالم كله.
فمثلاً عبارة "عولمة تنقية البيئة" تعني جعل البيئة في جميع أنحاء العالم، بيئة نظيفة ومناسبة، لأن تحيا الكائنات الحية فيها حياة صحية. وتعني عبارة "عولمة الاقتصاد" جعل الاقتصاد في جميع أنحاء العالم يتبع النظام نفسه، ويطبق الأساليب ذاتها، ويستخدم آليات بعينها، لصالح جميع الشعوب دون تمايز بينها. وتعني عبارة "عولمة السلام" أن تتعاون جميع الدول لحفظ السلام في العالم، كما تتعاون على قتال المعتدين. وهذا المفهوم يستتبع استفساراً مهما عن إجراءات الأخذ بهذه العولمة. فهل تتبنى مختلف دول العالم هذه "العولمة" اختيارًا، بمعنى أنها تستشار في صياغة أسسها، وتخطيط أساليبها، وتحديد آلياتها، وأنها تتمتع بالحرية المطلقة في قبولها أو رفضها في النهاية؟ إذا كانت إجابة الأسئلة السابقة "نعم" فإن العولمة حين تسود جميع دول العالم، فإنّ هذا يكون بناء على اختيار حر وإرادة مستقلة منها. وتكون العولمة بذلك ظاهرة صحية.
ويمكن تطوير مفهومها ليكون: حركة قامت على اختيار جميع دول العالم اختياراً حراً، لتعميم تطبيق أمر ما عليها جميعاً، دون تمايز بينها.
وحيث إن العلم الحديث والتقانة المتقدمة هما مطية العولمة، ومع مراعاة التعددية الثقافية والخصوصية الدينية والحضارية للشعوب، وسعياً إلى تحقيق الأمن والرفاه والسلام للجميع، يمكن أن ننتهي إلى تحديد مفهوم "العولمة كما ينبغي أن تكون" على النحو التالي:
توظيف التقدم العلمي التقاني المعاصر، لتحقيق الأمن والسلام العالميين، والسعي لتحقيق الرفاه لجميع دول العالم، وبناء علاقات هذه الدول على أساس التعامل مع التعددية الثقافية، والخصوصية الدينية والحضارية.
ب- مفهوم العولمة المعاصرة:
باستقراء التاريخ يتبين أن العولمة المعاصرة ليست جديدة، ولا هي وليدة وقتنا الحاضر. فهي ظاهرة نشأت مع ظهور الإمبراطوريات في القرون الماضية. ففي السابق حاولت الإمبراطوريات -مثل الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية- أن تصبغ الشعوب التي تبسط نفوذها عليها بثقافتها، وتسعى لترسيخ هذه الثقافة في مختلف جوانب حياة هذه الشعوب. وقد عملت هذه الإمبراطوريات لتوجيه قيم هذه الشعوب وتقاليدها وحضارتها، وفق أنماط الحياة التي تريدها. فكانت هذه الخطوة نحو العولمة.(9/45)
وقد لبست هذه العولمة عدة أثواب أخرى، منها الثوب العسكري ومنها الاستعمار، ومنها استنزاف الموارد، فقد قام الشمال باحتلال بلاد الجنوب متعللاً بشتى الأسباب، وعن طريق هذا الاحتلال تحكم في مقدرات البلاد واستنزاف مواردها، وغرس ثقافته فيها، وكانت هذه خطوة أخرى نحو العولمة. واليوم، وقد تفوق الشمال على الجنوب بما حاز من علم وتقانة، وبما امتلك من وسائل الدمار الشامل، أصبح الشمال مصدر الإنتاج في مختلف المجالات، وأصبح الجنوب مستهلكاً لهذا الإنتاج. ولكي يقنن الشمال هذه العلاقة، أطلق نداءه بالعولمة وأخذ بأسباب تحقيقها في مختلف الميادين. وينظر البعض إلى العولمة المعاصرة، بأنها:
آليات اقتصادية وأسواق عالمية، وجدت إطارها المقنن في اتفاقية التجارة العالمية، التي تضع الاقتصاد أمام الإنسان، وتهدر سيادة الدولة ومصلحة الفرد لحساب السيطرة الاقتصادية، ومن ثم فلابد من أن تتصادم مع التراث الثقافي لمختلف الشعوب، نظرا إلى أنها تنزع إلى صياغة ثقافة كونية تهدد الخصوصية الثقافية للمجتمعات.
وينظر آخرون إلى العولمة المعاصرة بأنها:
هيمنة المفهوم الغربي، الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، على العالم. ومن ثم فإنها تفرض على الآخرين - ليس فقط ما يتعلق بتخطيط التنمية، وإنشاء البنى التحتية والخدمات الأساسية - ولكن تتعدى هذا إلى البنى الثقافية والحضارية.
ومن هنا يمكن أن يحدد مفهوم العولمة المعاصرة بأنه:
سعي الشمال عن طريق تفوقه العلمي والتقني للسيطرة على الجنوب تربوياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، بدعوى مساعدته على التنمية الشاملة وتحقيق العدالة في الاستثمار والرفاه للجميع.
وعلى الرغم من أن هذا التعريف يوضح النظرة الاستغلالية للشمال، إلا أن هناك أساليب كثيرة - لا يتسع المجال لذكرها - يمكن أن يستفيد بها الجنوب من العولمة. فعلى سبيل المثال يمكنه الاستفادة من معطيات التقدم العلمي التقاني الذي تستخدمه العولمة، في توسيع خطواته نحو التقدم. كما يمكنه أن يستنهض قدراته الذاتية، وأن تتضامن مجتمعاته في مواجهة تحدياتها، وفي توجيه القرارات الدولية الوجهة السليمة.
ثانياً: النظام السياسي بين الشورى والديمقراطية:
إن هدف العولمة المعاصرة، هو التمكين للنظام الديمقراطي على النمط الغربي، من حيث الأخذ بالتعددية، وإعطاء فرص لحرية التعبير، وإبداء الرأي من خلال قنواته. والنظام الديمقراطي كما يطبقه دعاة العولمة عليه مآخذ كثيرة، منها أنه في غالب الأحوال لا يمكن من الحكم إلا لفئة معينة، ويتحكم في الانتخابات فيه: رأس المال، والقبلية والنزعات العرقية والعنصرية والنفوذ، وتؤثر في مصداقيته الأمية والدعم الإعلامي.
ولإضفاء الشرعية على إقحام الديمقراطية الغربية في حياة الشعوب الأخرى، ادعى الغرب أن عدم تطبيقها فيه جور على حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات. ولا شك أن "حقوق الإنسان" يمكن أن تقرب بين دول العالم، إذا طبقت بموضوعية وتجرد. ولكن حقوق الإنسان - كما يطبقها دعاة العولمة - لم تراع الخصوصية الدينية والثقافية والأعراف الصحيحة للمجتمعات، بل أصبحت وسيلة للتحيز المقيت. فعلى سبيل المثال، حقوق الإنسان - كما تطبق في العولمة - لا تساوي بين حقوق الإنسان الفلسطيني أو البوسني أو الألباني، وحقوق الإنسان اليهودي أو الصربي، كما تسمح في ظل العولمة بالتحيز ضد يهود الشرق في إسرائيل، ولكنها لا تسمح بمقاومة المنحرفين عن نظام المجتمع في الكثير من بلدان العالم.
وبالنسبة لنا نحن المسلمين، فإن لدينا الأفضل والأنسب لحياة البشر جميعاً، وهو نظام الإسلام الذي يقوم الحكم فيه على الشورى والعدل وتطبيق شرع الله. والشورى وسيلة للوصول إلى الرأي الأصوب لأنه رأي الجماعة. والجماعة هنا لا يقصد بها الأغلبية المطلقة، كما هو الحال في النظام الديمقراطي الذي يعتمد على الأغلبية العددية وحدها، ولكن المقصود بالجماعة هنا الجماعة المؤهلة للاستشارة. ومن أهم ما ينبغي أن يتوافر في هؤلاء أن يكونوا ممن يتقون الله في القول والعمل ولا يخشون أحداً إلا إياه، ويعملون على تحقيق منهاجه في الأرض، وأن يكونوا ممن لديهم العلم والخبرة الكافية، فيما يستشارون فيه.
وبناءًا عليه فإن المستشار في الإسلام يصدق الحاكم القول. أما عن مدى صواب ما يشير به، فعلمه وخبرته يؤهلانه - بعد توفيق الله - للوصول إلى الصواب. ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، ولكنه يتحرى الصدق والصواب في كل حال. وجماعة الشورى يذكر بعضهم بعضا، ويتناصحون ويتحاورون ويرجعون إلى الكتاب الكريم والسنة المطهرة فيما استشكل عليهم من أمور. قال الله سبحانه وتعالى عن المسلمين: (وأمرهم شورى بينهم) (الشورى 38)، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم (وشاورهم في الأمر) (آل عمران، 159).
وفي التاريخ الإسلامي صور من استعمال الرسو صلى الله عليه وسلم والمسلمين للشورى في اتخاذ القرارات، كما في حفر الخندق في غزوة الخندق، وفي خروج المسلمين في غزوة بدر لمقابلة الكفار، وفي معاملة أسرى بدر.(9/46)
ويعتمد العدل في الإسلام على المنهاج الشرعي وعلى تطبيق الحدود. أما المنهاج فهو شريعة الله… وقد قامت الشريعة على العدل مع النفس،وداخل الأسرة وفي ساحة القضاء، وعلى مستوى الرعية، وحتى مع المخالفين في العقيدة، ومع من نحبهم ومن نكرههم. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون( (المائدة ، 8) وقال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)> (النحل،90). وقال تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)> (النساء، 58).
وتطبيق الحدود من الدعائم المهمة لتحقيق العدل في الإسلام، ومن أهم أسس استقرار الحياة في المجتمع المسلم. قال تعالى: (" ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) (البقرة، 179). وقال تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له) (المائدة، 45).
وبيّن نبينا صلى الله عليه وسلم قواعد للعدل والمساواة ستظل نبراساً يستضيء به طلاب العدل ومريدوه على مر الأزمان. وذلك حين جاءه من يشفع في حد من حدود الله، فأقسم بالله أن لو سرقت ابنته فاطمة لقطع يدها. وقال عليه الصلاة والسلام: «كلكم لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى» (متفق عليه)
وقد ضرب الحكام المسلمون أمثلة للعدل مع النفس ومع أبناء الرعية المسلمين وغير المسلمين. فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحكم لنصراني من مصر بضرب ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قصاصا منه. وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقاضي نصرانياً أخذ درعه - وهو أمير المؤمنين - فيحكم القاضي للنصراني بالدرع، لأن أمير المؤمنين ليس عنده بينة.
وولي الأمر الذي يحكم بشرع الله المؤسس على الشورى والعدل، له واجب الطاعة على المسلمين. قال تعالى: (يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) (النساء، 59).
ويبين أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول ا صلى الله عليه وسلم وصديقه قواعد العلاقة بين الحاكم المسلم والمحكومين في كلمات بالغة الدلالة بقوله: « إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم». وقال عن ذلك الإمام مالك: «لا يكون أحد إمامًا إلا على هذا الشرط».
وهكذا كانت مبادرة الرعية إلى إبداء النصح واجبة عليهم بمقتضى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبادرة ولي الأمر إلى طلب المشورة من أهلها واجبة عليه، للاستدلال على حكم الله ورسوله من النصوص الشرعية المتعددة، وللاجتهاد فيما سكتت عنه النصوص.
ومع أن التطبيق الديمقراطي -الذي تبشر به العولمة - يستند كما نعلم إلى دساتير وقوانين وضعية، فإن من أهم سمات الشورى في الإسلام أنها تنبع من عقيدة الإسلام وشريعته. وهذا يعني أن الشورى لا يمكن أن يتغلب فيها حزب على حزب أو جماعة على جماعة لمجرد الكثرة العددية، ولكن يكون التقويم المبدئي للرأي من حيث التزامه بالعقيدة وانطلاقة من الشريعة، ثم يأتي بعد هذا الأغلبية العددية.
أما في الديمقراطية، فإن مرجعية الحرية والعدالة فيها تتأثر بعوامل سياسية وحزبية واقتصادية وإعلامية.
والشورى في الإسلام تتيح للجميع الحوار الحر ومناقشة الحجج والمبررات التي توضح أن قرارا ما أكثر التزاماً بمبادئ الحق والعدل، كما تبين مدى توافقه مع مقاصد الشريعة وأصولها ومبادئها. أما في الديمقراطية فإن الفرد ليس ملزماً بإبداء الرأي، وقد يتعمد الغياب عن التصويت أو حجب صوته لأن هذا يحقق مصلحة انتمائه السياسي أو مصلحة فردية.
ومحور الفكر السياسي الذي تبشر به العولمة هو تحكيم الأغلبية العددية، أي عدد الأفراد الذين ينحازون إلى رأي معين. أما الشورى الإسلامية فإنها تجعل الأولوية للعقل والفكر وليس للعدد وحده. فالأغلبية العددية يمكن الحصول عليها لأسباب كثيرة عارية من الشفافية كما سبق أن بيناه، ونشاهد أمثلة لهذه كثيرة في داخل العالم الإسلامي وفي خارجه.
ومع هذا كله وعلى الرغم من مزايا نظام الإسلام، فإن العولمة المعاصرة لا ترضى به بديلاً عن الديمقراطية، لأنهم يهدفون إلى صبغ العالم كله بصبغة معينة هم مخترعوها، وهم الذين يدعمونها لتحقيق أهدافهم.
ثالثاً: السلام بين الإسلام والعولمة :(9/47)
إن الدعوة إلى السلام في العالم هي دعوة الإسلام، قبل أن يوجد نظام العولمة، وقبل أن تلتزم دول العالم بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة سنة 1948م بعدم الاعتداء وبحل المنازعات بينها بالطرق السلمية، فقد أمر الله المسلمين أن يتجهوا إلى السلم إذا رأوا من أعدائهم ميلا إليه، ودعا إلى الاستجابة لدعوة السلام إذا صدقت نية الطرف الآخر في التوصل إليه، يقول تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) (الأنفال، 61) وينبه الله المؤمنين إلى الحذر من خديعة العدو: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) (الأنفال، 62) فالإسلام بذاته دعوة للسلام، السلام داخل المجتمع الواحد، والسلام بين المجتمعات المتعددة والمختلفة الأعراق واللغات والثقافات والعقائد.
ولم يرد لفظ الحرب في القرآن الكريم مقرونا بالدعوة إليها أو تمجيدها، بل جاء ذكر الحرب بأوزارها حين تفرض على المسلمين: (حتى تضع الحرب أوزارها) (سورة محمد،4) وقال تعالى في وصف الخارجين على المجتمع والذين يروعون الناس بغير حق ويجترئون على أحكام الشرع بأنهم (يحاربون الله ورسوله) (المائدة، 33) وهكذا لم يجعل الإسلام الحرب - وهي ظاهرة اجتماعية قديمة في التاريخ - وسيلة لتحقيق الخير أو حتى النفع الحقيقي للإنسان، واستبدل الإسلام بالحرب مفهوماً أسمى وأرقى هو مفهوم الجهاد، وهو مفهوم يتسع لبذل الجهد في مقاومة كل شر وعدوان، بدءاً من شرور النفس وانتهاءً بدفع العدوان وطلب تحقيق العدل والإحسان على الأرض وعلى الناس والجهاد ليس حرباً يشنها المسلمون على غيرهم بدافع السيطرة ومد السلطان وإذلال الآخرين واكتساب المغانم، إن الجهاد في الإسلام له مفهوم ينفي العدوان وينكر التوسع والسيطرة للاستعلاء على الناس بالقوة، وهو لا يبيح للمسلم أن يعرض نفسه للهلاك أو يقصد إهلاك غيره إلا وفق قيود الشرع، التي تحدد أسباباً يكون فيها الجهاد ويكون فيها القتال مشروعاً، فالإسلام لا يعرف الحرب التي يكون الباعث عليها مجرد العدوان وطلب المغنم، والتي يحتكم فيها إلى القوة وحدها، وإنما يعرف القتال دفاعاً عن النفس وعن الدين وعن جماعة المسلمين إذا حيل بينهم وبين عبادة الله وحده والدعوة إليه.
إن مفهوم الجهاد في الإسلام يستلزم أن تكون الحرب مشروعة، ومشروعية الحرب لا تتأتى بحسب أحكام الشرع الإسلامي إلا في حالات محددة، ووفق ما يجيزه الشرع من إجراءات لإعلان الحرب، وتحديد مداها وأثرها وتقييده لشرورها.
إن الحرب قد تكون للدفاع عن النفس، يقول الله تعالى: (" وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة، 109) ولنقض المعاهدات ونكث العهود، والكيد للإسلام والمسلمين. يقول سبحانه وتعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) (التوبة، 12) وإن فتنة المسلمين عن دينهم والسعي بالفساد بينهم وتهديد سلامة المجتمع والدولة الإسلامية مما يجيز القتال درءا للفتنة، يقول الله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) (البقرة، 193).
ولم تخرج غزوات المسلمين والحروب التي خاضوها في العهد النبوي وعصر الخلفاء الراشدين عن هذه الحالات داخل شبه الجزيرة العربية أو خارجها: مع اليهود في داخل شبه الجزيرة أو الروم والفرس خارجها.
هذا هو مفهوم الجهاد في الإسلام، وهو مفهوم يختلف عن مفهوم الحرب بمعناها الواقعي قديماً وحديثاً، فمفهوم الجهاد يجعل السلام هو الحالة الدائمة والثابتة في علاقة المسلمين بغيرهم، ولا يكون القتال إلا الاستثناء الذي يجب أن يتوفر سببه وحكمته.
ويوجب الله حتى في حالة الجهاد والحرب المشروعة، أن تكون الحرب معلنة، وليست غدراً بالآمنين والمسالمين، وأن يقلل من شرورها، لقد نهى عن قتال من لا يقاتلون من الشيوخ والعجزة والنساء والأطفال والرهبان المنقطعين للعبادة، وحرم الله صور القسوة والوحشية التي لا مبرر لها، مثل التخريب الشامل للعمران، وحرم أن تنتهك حرمة الآدمي حياً أو ميتاً، كالاعتداء على الجرحى أو الأسرى أو التمثيل بجثث الأعداء، كل ذلك شرع الله مراعاته من قبل المجاهدين، فكان بذلك ما نسميه "آداب القتال" أو قانون الحرب.
إن الجهاد في الإسلام وما يتبعه من قتال، لا يصح أن ينال المدنيين المسالمين، ولا يجوز أن يكون فيه دمار شامل للإنسان أو الأشياء النافعة للإنسان، وهكذا كان الحال في الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، مما لم تتوصل إلى بعضه المواثيق الدولية كمعاهدة جنيف، التي تحمي المدنيين من ويلات القتال، وتحدد حقوق الأسرى والمقاتلين والتي صدرت في عام 1949م.
رابعاً: حقوق الإنسان والعولمة:(9/48)
لقد أثبتت الحروب الطاحنة التي نشبت في العصر الحديث - وخاصة في القرن الميلادي العشرين - أن إهمال حقوق الإنسان وإهدارها قد أفضى إلى أعمال همجية ووحشية انتهكت حياة ملايين الناس وحريتهم، وكان ذلك من الأسباب التي دعت إلى إصدار ميثاق عالمي لحقوق الإنسان سنة 1948م، وهو ما أشارت إليه ديباجة الميثاق، ومن أهم ما أفرزته "العولمة" في السنوات الأخيرة زيادة الاهتمام بقضية حقوق الإنسان، وخروج هذه القضية من الدائرة الوطنية والداخلية في دول العالم إلى الآفاق الدولية واعتبارها مسألة تهم المجتمع الدولي، ويستطيع أن يتخذ فيها عن طريق منظمة الأمم المتحدة أو الوكالات المتخصصة فيها إجراءات معينة لمراقبة الدول التي ينتشر فيها إهمال أو إهدار لحقوق الإنسان.
إن مفردات حقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو التي وردت في اتفاقيتي الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية الصادرتين سنة 1966م عن منظمة الأمم المتحدة، هي حقوق قديمة في الإسلام اكتسبت مصطلحاً جديداً في المواثيق الدولية المعاصرة.
إن الحقوق الاقتصادية التي أتاحتها الاتفاقيتان الصادرتان سنة 1966م (وقد عمل بهما اعتباراً من سنة 1977م) تقع غالب مفرداتهما ضمن الحقوق التي منحها الله للفرد في المجتمع المسلم، الذي يتكون وفق الولاية المتبادلة بين أفراده من الرجال والنساء: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة، 71) ومن بين معاني الولاية النصرة والتعاون وتبادل الرأي والنصيحة، وهناك مبدأ عام في الإسلام يجعل التكافل الاجتماعي سمة ظاهرة فيه فيكون القادر مادياً أو علمياً مسؤولاً عن مساعدة غير القادر لسبب لا دخل له فيه.
في شأن المال تأتي فريضة الزكاة التي تجب على أغنياء المجتمع (وفق ضوابط مفصلة ودقيقة مبسوطة في كتب الفقه) لفقراء المجتمع.
لقد أمر الله تعالى بالزكاة وهي جزء يسير (2.5%) من بعض أنواع المال، يؤخذ من الأغنياء في المجتمع ويرد على الفقراء والمساكين فيه، كما يجري إنفاقه في الأوجه التي تسدّ حاجة من حاجات المجتمع المسلم، يقول الله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) .
فهؤلاء ثمانية أصناف يمثلون في مجموعهم حالات الضعف والحاجة حين تدهم الفرد أو طائفة من الناس في المجتمع.
ويحفظ الشرع الإسلامي حدًا كافياً للمعيشة لكل صاحب رأس مال أو دخل يكفي حاجاته طبقاً لنفقته ولظروفه، قبل أن يفرض عليه كفالة غيره، فما يؤخذ من زكاة إنما يؤخذ من الفائض الذي مضت عليه سنة كاملة دون أن يدخل في نفقات صاحبه، وذلك على النصاب الذي عينه الشرع حتى يجب أخذ الزكاة من المكلف بها. لقد حول الإسلام بتشريع الزكاة على هذا النحو اتجاه المال من أغنياء المجتمع، إلى سداد حاجات الفئات المحتاجة بجميع أنواعها، وقد كان ذلك تحولاً كبيراً عما كان سائداً في المجتمعات قبل الإسلام من اتجاه المال من الفقراء إلى السادة في المجتمع، قال تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) (الحشر، 7).
فالإسلام يمنع أن يزداد الأغنياء غنىً -وقد يكونون قلة في المجتمع-، ويزداد الفقراء -وقد يكونون كثرة في المجتمع- فقراً وبؤساً.
وضمان حق العمل مكفول للفرد المسلم القادر عليه، لأن الإسلام ينهى عن البطالة، ويرفع من شأن العمل والكسب منه حلالاً طيباً، والفرد المسلم يعمل تحت رقابة المجتمع كله، قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) (التوبة،105) ويعاون المجتمع الفرد على إيجاد العمل المناسب إذا تعسر ذلك على الفرد أو ضاقت سبله. وقد نصح الرسو صلى الله عليه وسلم شخصاً بالاحتطاب، ونصح شخصاً آخر بالاتجار وأسلفه مالاً لكي يبدأ كسب رزقه، وأعد بيده الشريفة آلة العمل لشخص شكا إليه قلة الكسب. وفي أحاديث الرسول صلوات الله عليه وسلامه من العناية والرعاية بالعمل والعامل ما يعد الأساس الشرعي لكافة ما يعطى للعمل والعامل من ميزات بحكم القوانين المعاصرة.
إن العمل لاكتساب الرزق والنفقة على الأهل يكفر الذنوب، كما جاء في الحديث الشريف: «من بات كالاً من عمل يده بات مغفور الذنب» والوصية بالعامل من الهدي النبوي: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه».
وما ورد في الاتفاقيتين اللتين أصدرتهما الأمم المتحدة سنة 1966م بشأن الحقوق الاجتماعية والمدنية والسياسية هو القليل مما دعا إليه الإسلام.
إن أول ما نزل من القرآن الكريم يفتح أمام المسلم آفاق العلم والتفكير والوصول إلى الحق يقول تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) (العلق، 1) وللعلم شأن كبير ومكانة عالية في الإسلام ومن قرأ القرآن الكريم والحديث الشريف عرف منزلة العلم في الإسلام، وعلو شأنه وحضه عليه، ومن ذلك: قول الله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (آل عمران، 18).(9/49)
وقوله سبحانه: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب) (الرعد، 19) وقوله تعالى: (وقل ربِ زدني علما) (طه، 114) وقوله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (فاطر، 28) وقوله تعالى: (" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) (الزمر، 9) وقوله عزّ وجلّ: (" يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير) (المجادلة، 11).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» متفق عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة" رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم "إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" ثم قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير" رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وقال صلى الله عليه وسلم «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً» رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وقال عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العمل فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان.
والمسلم مطالب ببذل النصح لغيره من أفراد المجتمع "الدين النصيحة" وعلى المسلم أن يشارك في الحياة العامة بقدر ما يسمح به علمه وقدرته، فأمور المسلمين في المجتمع شورى بينهم، يقول الله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) (الشورى، 38) وهكذا تتكامل قدرات الأفراد في المجتمع المسلم وتتجمع طاقاتهم، فيكفل الفرد للمجتمع طاقته وجهده بالعلم أو العمل، ويكفل المجتمع للفرد - حين يصيبه العجز أو الضعف - الحق في حياة كريمة، وبذلك يتحقق السلام الاجتماعي.
خامساً: الإرهاب بين الإسلام والعولمة:
وفي السنوات الأخيرة ظهرت قضية الإرهاب، واستأثرت باهتمام المجتمعات والحكومات، وتنبه العالم عن طريق منظماته السياسية والأمنية إلى مخاطر هذه الظاهرة التي شملت كثيرًا من بلاد العالم، ولم يسلم من شرورها سوى مجتمعات قليلة، ومع ذلك وبسبب ظروف سياسية وجهود إعلامية موجهة، حاولت بعض الجهات أن تصل ما بين ظاهرة الإرهاب وما بين صحوة إسلامية بدأت في العقود الأخيرة من هذا القرن الميلادي، ومن المحزن أن بلاداً إسلامية - أوقعتها ظروفها السياسية تحت سيطرة الأجنبي أو سادتها الفتن والقلاقل بسبب العجز الاقتصادي أو التخلف الثقافي أو الفتن الخارجية - تعاني وجود هذه الظاهرة مما ساعد أعداء الأمة الإسلامية على الادعاء بأن الإرهاب له أصل ديني وأنه نتاج الإحياء الإسلامي، مع أن الظاهرة ليست من الإسلام ولا صلة لها بالدين الصحيح، وليست خاصة بالمسلمين بل ربما كانت في بلادهم - مع خطئها وإدانتها إسلامياً - أقل من وجودها وظهورها في المجتمعات غير الإسلامية، كما دلت على ذلك إحصاءات دولية.(9/50)
في الإسلام ووفق أصوله ومبادئه الكلية يعتبر الأمن من أجل النعم على الإنسان: أمن الفرد على نفسه ودينه وعرضه وماله، وانتفاء الخوف من العدوان على ضروريات حياته وحاجياتها. وفي القرآن الكريم بيان أهمية الأمن وأنه نعمة من الله تقرن بنعمة الطعام الذي يحفظ حياة الإنسان، وأن النعمتين معاً تستوجبان عبادته وحده لا شريك له. يقول الله تبارك وتعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش، 3) ويحرم الله العدوان على النفس الإنسانية، ويجعل القتل العمد من أشد الجرائم إثماً وبغياً، ويبين أن قتل فرد واحد بمثابة قتل للجنس البشري كله، يقول تعالى: (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) (المائدة، 32). ويحفظ الشرع الإسلامي حرمة الجسد الإنساني، فلا يجوز العدوان عليه ولا إتلافه ولا استخدامه في غير ما شرع له، وهو العبادة والسعي في الأرض بعمل الخير. ويحفظ الشرع الإسلامي نفس الإنسان وجسده ويكفل حماية عقله ودينه وعرضه وماله بما فيه من عقوبات زاجرة عن العدوان على هذه الضروريات في حياة الإنسان - جسداً وديناً وعقلاً ونفساً - في شريعة القصاص وفي الحدود التي تواجه جرائم الاعتداء على الدين والنفس والعرض والمال والشرف والاعتبار.
فالإرهاب إذًا عدو الأمن -أمن الفرد وأمن المجتمع- وعدوان على نعمة من نعم الله الجليلة على الإنسان، وهو إذا ظهر في مجتمع عطل طاقاته وأسلمه إلى التخلف، لأن الخائف لا يأمن إذا عمل أن يضيع عمله هباءًا فالأمن لازم لتقدم المجتمعالمسلم في دينه ودنياه.
لقد كانت الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي بسبب الإرهاب، وأول المجتمعات التي عانت من الإرهاب هو المجتمع المسلم بالذات، قتل ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب غيلة وغدراً على يد مجوسي حاقد على الإسلام والمسلمين، وقتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه على يد فئة خرجت على الشرع الإسلامي وانتهكت محارمه بقتل إمام المسلمين وصاحب رسول ا صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة الذين بشرهم الرسو صلى الله عليه وسلم بالجنة، واقتتل المسلمون مع الخوارج الذين ناصبوا الخليفة علي بن أبي طالب العداء على الرغم من محاولته نصحهم وهدايتهم إلى الحق، وقتل هؤلاء الخوارج الإمام علياً وأوغلوا في دماء المسلمين، فكانت الفتنة الكبرى التي بدأت في القرن الأول الهجري ومازالت آثارها في العالم الإسلامي حتى اليوم، صنعها الخوارج وغذاها أعداء الإسلام والمسلمين خلال مسيرة التاريخ الإسلامي، حتى تفرقت الأمة الواحدة إلى شيع وأحزاب كلهم على ضلال إلا الفرقة الناجية التي تسير على ما كان عليه الرسول وأصحابه خيار السلف في هذه الأمة.
إن الإرهاب - وهو مرفوض في الإسلام رفضاً حاسماً - ينتسب من يمارسونه أحياناً إلى الإسلام، بل يتظاهرون بالغيرة على الدين وعلى حقوق المسلمين، وقد يتجاوزون الحد في اتهام المسلمين أفرادًا وجماعات بالمروق من الدين ويستحلون دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وهكذا فعل أجدادهم من الخوارج حين اتهموا عليا رضي الله عنه بالخروج من الدين واستحلوا قتل إمام المسلمين بعد أن بايعه الناس، وبذلك وجهوا إرهابهم إلى المسلمين كافة وإلى أئمتهم خاصة. ولقد قاتلهم إمام المسلمين ليحفظ أمن المجتمع وحياة المسلمين حتى قضى على فلولهم، وهذا واجب كل إمام مسلم، لا سيما في هذا العصر الذي ينسب فيه غير المسلمين كل إرهاب وإخلال بأمن المجتمعات إلى فعل المسلمين أو توجيهات الإسلام، مع أن الشرع الإسلامي وتوجيهاته هي أقوم السبل في مواجهة جرائم الإرهاب.
لقد حفظ الإسلام أمن المجتمع المسلم إزاء المجتمعات الأخرى، فلم يشرع القتال إلا دفاعاً عن الدين والنفس وحفظ المجتمع من الفتنة، وأمر بطاعة أولي الأمر (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء، 59). ولا يجوز في الإسلام أن تخرج طائفة من الناس على أمن المجتمع وتهدد استقراره أو تنزع يدها من بيعة توجب الطاعة، بل لقد أمر الرسول صلوات الله عليه وسلامه بالطاعة حتى ولو ظهر في المجتمع ما يعد منكراً، ما دام يجري التصدي له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العلماء والأمراء، أو بإنكار عامة الناس، وما دام المجتمع المسلم يتمتع بحقه في عبادة الله وحده، وتظهر فيه شعائر الإسلام، ويوجد فيه الحاكم المسلم الذي يحفظ الدين ويحمي أرض الإسلام ومصالح المسلمين، فلا خروج عن الطاعة من الفرد أو طائفة من الناس تروع الآمنين وتنشر الخوف والفزع بين المؤمنين. لقد ذكر الله الخارجين عن الطاعة، وجعلهم محاربين لله ورسوله، وحدد عقوبتهم بخسرانهم في دينهم ودنياهم. يقول تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (المائدة، 33).(9/51)
وهكذا وضع الإسلام الإرهاب في عداد أعظم الجرائم: محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فساداً، وأوجب على ولي الأمر أن يتصدى له حفاظاً على الدين وعلى حياة المسلمين، ولا حق لفرد أو جماعة أن تدعي على الأفراد أو على المجتمع ولاية لا حق لها فيها ، وأن تكفر غيرها أو تقيم حدًا من حدود الله مع وجود الولاية الشرعية للحاكم المسلم، فالإسلام يقيم مجتمعاً آمناً مستقرًا بعيدًا عن كل ما يهدد الناس ويروعهم، ويصلح المجتمع إذا ظهر ما يعد منكرًا من فرد أو طائفة من الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبإقامة حدود الله على يد الحاكم المسلم، وطبقاً لحكم الشرع، ولا مجال في الإسلام للخروج على المجتمع أو التسلط على الناس والإخلال بالأمن بحجة الغيرة على الدين أو الرغبة في الإصلاح، وهو ما يدعيه الإرهاب في هذا العصر، وأصحابه هم شر خلف لشر سلف في تاريخ الأمة الإسلامية.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم…
http://magazine.al-islam.comالمصدر
=============(9/52)
(9/53)
العولمة وثقافة الإثم!
الشيخ محمَّد العبدة
إذا كانت العولمة تعني أنَّ العالم تحوَّل إلى قرية كونية - كما يقولون - بسبب تقدم تقنية الاتصالات، وفي عصر المعلومات والإنترنت.. وإذا كانت تعني أنَّ لا أحد يستطيع الانعزال عن المجتمعات الأخرى والحضارات الأخرى، ليؤثر ويتأثر ويأخذ ويعطي، فهذا مقبول وهو شيء طبيعي، ولكن إذا كانت العولمة تعني أن تهيمن ثقافة على ثقافة وحضارة على حضارة، وأنَّ قيم الغرب وعاداته وتقاليده يجب أن تدخل كل بيت وكل غرفة، فهذا لا نقبل به، بل نرفضه بشدة ونحاربه ونقاطعه، ولا نرضى أن يتحوَّل الإنسان إلى قطيع يأكل ويشرب ثم يذبح على مقصلة (البزنس) وتجار الفساد الذين يحاربون الدين والأخلاق ويستنفرون معاهدهم ومؤسساتهم الإعلامية للسخرية من الدين وإبطال فاعليته، وإبعاده عن التوجيه والتربية، يريدون تحويل البشرية إلى عبادة أصنام المال والشهوات، ويتحولون إلى كهنة لهذه الأصنام، يريدون تحويل الفضيلة إلى رذيلة والرذيلة إلى فضيلة، والجهل إلى معرفة والمعرفة إلى جهل.
إنَّ الغرائز في الإنسان موجودة وليست بحاجة إلى من ينفخ في جذوتها، بل بحاجة إلى من يروضها ويحفظها في حدود الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فأي حاجة إلى القنوات الفضائية التي تثير الغرائز وتطلق عنان المناظر التي تخدش الأخلاق والطبع السليم؟!
العولمة الثقافية تريد كسر الحواجز؛ لأنَّها مرتبطة بالعولمة الاقتصادية، اقتصاد الربا وتجارة الحروب والمخدرات واحتكار المال، إنَّه اقتصاد السحت الذي يسحت جهود الناس ومصادر عيشهم من أجل أقلية مترفة، لقد فقد الإنسان الاستمتاع بالأشياء التي يشتريها وصار بحاجة إلى تبديل ما يشتريه باستمرار، وصار يكرس المشتريات وإن لم يستعمل الكثير منها.
إنَّ الوحش الاقتصادي الغربي يريد ابتلاع منتجات كل الشعوب الأخرى، وخاصة الإسلامية، ويريد تحويل البلدان الإسلامية إلى شركات عامة و(سوبر ماركت) لمنتجاتهم. إنَّ العلاقة بين الفساد الأخلاقي واقتصاد السحت علاقة واضحة، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (المادة/63).
المصدر http://www.lahaonline.co
============(9/54)
(9/55)
خطر العولمة الثقافية
حامد عبد الله العلي
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء محمد وعلى آله وصحابته وبعد :
فإن الدعوة إلى العولمة الثقافية لا تخرج في حقيقتها عن محاولة لتذويب الثقافات والحضارات وإلغاء الخصوصيات الحضارية لصالح حضارة الغالب .. وعالم المسلمين بعد أول المستهدفين .. ذلك أن الثقافة الإسلامية التي تشكل هوية الأمة وقسمات شخصيتها الحضارية هي في ثوابتها من لأن الدين ليس أمرًا مفصولاً عن الثقافة.
أعمدة الهيمنة الأربعة :
ولقد أصبح من الواضح في تحميل السياسة العالمية بصورة عامة منذ تفرد الولايات المتحدة بكونها القوة الكبرى المهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أن العولمة ما هي إلا أحد الأعمدة الأربعة التي أوثقت بها دول القلب (الولايات المتحدة وأوروبا)، التي تشكل موقع صناعة القرار العالمي، ما حوتها من العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية والتي غدت لا تعني سوى كونها سوقًا مريحة أو ساحة مصالح لدول القلب أو ثقلها بهذه العمدة لتجبرها على البقاء تحت هيمنة دول القلب، تجري في فلكها لتضمن تحقق السيطرة الكفيلة ببقاء تفوق الغرب على الشرق والشمال على الجنوب، وتدفق المصالح الاستراتيجية من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال.
وأما الأعمدة الثلاثة الأخرى فهي :
الشريعة الدولية: حيث تحتكر دول القلب هذه الشرعية المتمثلة في (الأمم المتحدة) وتستعملها لإسباغ الشرعية أو نزعها عن أي دولة تحاول التخلص من الوثاق ذي الأعمدة الأربعة التي أوثقت به دول القلب العالم، ولم يعد بهم دول القلب أن تتعسف وتتناقض وتكيل بمكيالين في استعمال أداة (الشريعة الدولية) فتصدر قرارًا من مجلس الأمن لعقاب من تريد .. لأنه أعلن رفضه لقانون الهيمنة الذي فرضته دول القلب على العالم، بينما تكتفي بموقف المتفرج في حالات أشد خطورة وانتهاكًا لحقوق الإنسان وقيم الأمم المتحدة لسبب واضح وهو أن دول القلب لم تشعر بالحاجة على تحريك الشرعية، هنا لضمان مصالح أو تأديب خارج على قانونها. قانون الهيمنة والسيطرة.
السلاح ، وبوسيلة هذا العمود تتحكم دول القلب بالحروب والتوترات العالمية وتأجج أو تخمد مناطق الصراع العالمية على وفق مصالحها.
والخامات: مثل النفط والقمح، وبوسيلة هذا العمد تتحكم دول القلب بالتنمية والتطور والتكنولوجيا أيضًا في الدولة الواقعة في أحزمة مصالح دول القلب، وذلك وفق مصالحها وبما يضمن بقاء تفوقها وتدفق المصالح الاستراتيجية إليها.
والعولمة تعتمد على محورين أساسيين :
المحور الأول : التجارة العالمية .
المحور الثاني : الإعلام الذي يحمل الثقافة والفكر .
والعولمة التجارية يقصد بها ضمان تدفق رؤوس الأموال الغربية إلى أسواق العالم، وضمان تدفق المصالح المادية نحو دول القلب كما تقدم والعولمة الإعلامية يقصد بها إخضاع العالم لقيم العالم الغربي.
الموقف من العولمة الفكرية والثقافية:
يمكن تلخيص المواقف تجاه العولمة في أربعة:
الأولى : الموقف القابل للعولمة الذائب فيها والمؤيد لها تأييدًا مطلقًا .
الثاني: الموقف الرافض لها جملة وتفصيلاً.
الثالث : الموقف الملفق الذي يحاول التلفيق بين ما تحمله العولمة والإسلام.
الرابع : الموقف المتفاعل معها على أساس الانتقائية المشوبة بالحذر.
أما الموقف القابل بإطلاق فهو موقف تابع، وقد جلب ولا يزال يجلب سلبيات الحضارة الغربية لأنه موقف قائم على الخلط بين مقومات الحضارة الإنسانية التي هي بناء فكري ينبثق منه منهج التعامل مع الخالق والحياة والإنسان والكون، وبين الآلات والتكنولوجيا التي هي منجزات علمية مشتركة بين الناس .. فالأول هي الحضارة وهي لا تستورد ولا تشتري ولا يمكن نقلها من أمة إلى أمة ولا بإحداث انقلاب جذري استئصالي.
وأما الموقف الرافض فهو موقف خاسر غير واقعي وسيؤدي إلى الانكفاء والانعزال فالموت الحضاري.
وأما الموقف الملفق وهو الموقف الذي يتزعمه بعض من يسمون أنفسهم الليبراليين في عالمنا العربي. والذين يعتبرون أنفسهم معتدلين لأن المتطرفين منهم هم أصحاب الموقف المؤيد تأييدًا مطلقًا للعولمة .. ويدندن حول هذا الموقف من يسمون أنفسهم (اليسار الإسلامي) أيضًا .. وهاتان اللفتتان تضيعان وقت الأمة بممارستهما عمليًا (قص والزق) وبتر لبعض قيم الأمة وعزلها من سياقها المتكامل لإخضاعها للفلسفات المعارضة، وما هذا الصنيع إلا تكريس لإلغاء الذات أو لتشويهها لصالح الأجنبي.(9/56)
وأما الموقف الرابع القائم على التفاعل الحضاري الناقد والانتقالي الحذر، الذي يقوم على الفحص والتدقيق وتقليب الشعارات والتنقيب عن المسميات، فيكشف ما تحت بريق العولمة من الظلمات كالإباحية والمادية النفعية، والميكافيلية الشريرة والاستغلال الرأسمالي للإنسان باسم التحرير، وفلسفة اللذة والمتعة وعبادة الدنيا، ثم يأخذ ما في العولمة من الصواب والخير بعد التمييز والتفتيش والنقد الموضوعي المنبثق من الثقة بالذات والاعتزاز بالهوية، ويرفض ما في العولمة من الشر والضلال.
الموقف الصواب من العولمة :
وهذا الموقف لا شك أنه هو الحق الذي يجب اتباعه، وأصله في الشريعة الإسلامية قول صلى الله عليه وسلم : (.. حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وورد في بعض ألفاظه: (ولكن لا تصدقوهم.. ولا تكذبوهم) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .. ووجه الاستدلال به أنه إذن بالتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي مع ما عند أهل الكتاب، غير أن صلى الله عليه وسلم يرفض ما يعارض القرآن وقبول ما يوافقه والحذر مما لا يعلم صدقه من كذبه.
وحتى نبرهن على صحة هذا الموقف من العولمة، نقف عند أهم أخطارها الثقافية والفكرية على اعتناء لتأخذ حذرها وتدرك كيفية التعامل مع وجهة العالم الجديد، مما يمكنها عن إبلاغ رسالتها وإلحاق الرحمة بالعالمين قيامًا بدورها في الشهود الحضاري.
أهم أخطار العولمة :
تعرف العولمة مطلقًا بأنها ظاهرة لانتماء العالمي بمعناه العام، وهي تعبير مختصر عن مفاهيم عدة فهي تشمل الخروج من الأطر المحدودة ـ الإقليمية والعنصرية والطائفية ـ وغيرها إلى الانتماء العالمي الأعم .. ففي جانبها الاقتصادي تشمل الانفتاح لتجذري وإلغاء القيود التجارية، وتوفير فرص لتتبادل التجاري الواسع محكومًا بقواعد السوق فقط بدون وجود إجراءات حمالية حكومية .. وفي جانبها الفكري والثقافي هي الانفتاح الفكري على الآخر وعدم الانغلاق على الذات، ورفض التعصب الفكري الذي يدعو لإلغاء الآخر: لا لشيء سوى أنه مغاير للفكر .. وفي جانبها السياسي هي شيوع تطبيق القانون على الجميع ومراعاة الحقوق السياسية للإنسان.. فهي باختصار الشعور بالانتماء الكبير العالمي بدلاً من الاقتصاد على الانتماء المحلي الإقليمي (الديني، العنصري، الطائفي).
لكن هذا العرض اللطيف الذي حاول تجميل وجه العولمة ليس سوى محاولة لإخفاء حقيقتها التي ينطوي عليها أهدافها.
أهداف العولمة :
1 ـ محاولة سيطرة قيم وعادات وثقافات العالم الغربي على بقية دول العالم، خاصة الداعي منها وإذابة خصائصها.
2 ـ تهميش تميز دين الإسلام، وإزالة الحدود الفاصلة بينه وبين غيره من الأديان الباطلة تمهيدًا لشن هجوم على مبادئه وتعليمه وصد الناس عن الإيمان به.
3 ـ فرض مفهوم نهاية التاريخ بانتصار قيم العالم الرأسمالي الغربي انتصارًا نهائيًا، والتسليم بلزوم تعليم القيادة البشرية إلى ثقافة الغرب إلى الأبد.
4 ـ إبقاء حال الهيمنة الغربية ـ بأعمدتها المذكورة آنفًا ـ أطول فترة ممكنة تحت شعار مصطلح العولمة.
هوية بلا هوية :
وباختصار العولمة هي في الحقيقة (هوية بلا هوية) وهدفها باختصار تفريغ ثقافة (الغير) من محتواها واستدراجها إلى الثقافة الغربية بحيلة وشعار مزيف يطلق عليه اسم (العولمة) لأنه لو قيل للعالم (الأمركة) لنفر كثير من الناس من هذه الدعوى، فاستبدل باسم (العولمة) فكأنهم يقولون تعالوا لنصير جميعًا عالمًا واحدًا، وننصهر في ثقافة واحدة ونحتكم إلى قوانين عالمية واحدة وتسيرنا ثقافة وعادات واحدة أو متقاربة حتى نتعايش ونتفاهم ولا تقع بيننا الحروب .. الخ، حتى إذا وقع المدعوون في هذا الفخ اكتشفوا أنهم في قفص الأمركة والعالم الغربي، ثم وجدوا اللافتة التي تحمل اسم (العولمة) تساقطت حروفها واختفت كهيئة الحبر السري، وظهر من تحتها اسم جديد وشعار جديد هو (التغريب) واكتشف المخدوعون أن حضارتهما سلبت من حيث لا يشعرون وثقافاتهم ذابت من حيث لا يعلمون وهويتهم طمست بالتدريج من حيث لا يدرون.
إذن العولمة في النهاية هي نتيجة انهيار نظام عالمي كان يقوم على (القطبية الثنائية) بانهيار أحد قطبيه ـ وهو الاتحاد السوفياتي ـ وسيطرة قطب واحد وأخذ يهيمن بانتهاء الحرب الباردة على العالم سياسيًا وعسكريًا .
هذا القطب الواحد ـ كما أشرنا في مطلع هذه المقالة ـ يستخدم آلات كثيرة خداعة للسيطرة الفكرية والثقافية على العالم تحت شعار كبير اسمه (العولمة) .. وقد بدأت تظهر آثار سياسية هيمنة وسيطرة القطب الواحد (دول القلب) بملامح حملة تغريب الإنسان في أفكاره ومنهاج تعليمه وفي طراز حياته وفي طعامه وشرابه حتى في صورته الظاهرية وشكله الخارجي التي أصبحت ظاهرة منتشرة في شباب اليوم الذي يحمل جراثيم التغريب، باتت هذه القبعات الجديدة تذكرنا بالقبعة التي فرضها أتاتورك على الشعب التركي عندما أعلن أول خطوات الانهزام أمام التغريب عند بدء عصر الانحطاط أول هذا القرن.
المخاوف من العولمة على العالم الإسلامي :(9/57)
أولاً: تهديد العولمة لأصل العقيدة الإسلامية :
لعل من أخطر ما تحمله العولمة هو تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية، وذلك لأن العولمة تشتمل على الدعوة إلى وحدة الأديان، وهي دعوة تنفض عقيدة الإسلام من أساسها وتهدمها من أصلها، لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء، ثم أصابها التحريف والتعبير ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي.
والعولمة تحمل في طياتها اعتبار الأديان كلها سواء، وإن ألحق في هذه الدائرة نسبي يحسب اعتقاد كل أمة .. ولا يصح في العولمة الفكرية والثقافية اعتبار دين الإسلام هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، ولهذا تشجع العولمة ما يسمى (حوار الأديان) لا على أساس دعوة الأديان الأخرى إلى الإسلام بل على أساس إزالة التمييز بين الإسلام وغيره بالحوار الذي يتوقعون أنه سيحمل المسلمين على التنازل عن اعتزازهم بدينهم واعتقادهم ببطلان غيره، وبذلك يزول التعصب وتتقارب الأديان .. وتنجلي خطورة هذه الدعوة في كونها تنفض عقد الإسلام من أصله، فعقد الإسلام لا يستقيم إلا مع اعتقاد بطلان كل الأديان الأخرى، والإيمان لا يعد صحيحًا إلا على أساس قوله تعالى: (قل يا أيها الكافرين لا أعبد ما تعبدون) [الكافرون: 1 ـ 2]، أي باعتقاد كفر كل من يعبد غير الله تعالى أو بزعم أنه يعبد الله تعالى بغير دين الإسلام وشريعةمحمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران : 85]، وقوله: (إن الدين عند الله الإسلام) [آل عمران : 19].
كما يعبر عن هذه الحقيقة علماء الإسلام بأن من نواقض الإسلام من لم يكفر المشركين والكفار أو شك في كفرهم أو صحح دينهم .. والكفار هم أتباع كل دين غير دين الإسلام بعد بعثةمحمد صلى الله عليه وسلم . وقولهم : إن من نواقض الإسلام أيضًا من اعتقد جواز الخروج عن شريعة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم
ثانيًا : تهديد العولمة للمفاهيم الأساسية في العقيدة الإسلامية :
كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافيًا وفكريًا.
فالكون ـ في نظر العولمة الثقافية والفكرية ـ لم يخلق تسخيرًا للإنسان ، ليكون ميدان امتحان للناس ولابتلائهم أيهم أحسن عملاً؛ والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى، والحياة ليست صراعًا ابتدأ منذ خلق الإنسان بين الحق الذي يمثله الرسل والأنبياء وأتباعهم الذين يدعون إلى سبيل الله تعالى بالوحي، وبين الباطل الذي يدعو إليه الشيطان .. والشيطان ليس هو الذي يقود ـ في الحقيقة ـ معركة الباطل ويجند لها جنوده من الرجال والنساء. كما قال سبحانه وتعالى: (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) [الإسراء: 64]. وقال سبحانه وتعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزًا) [مريم: 83]، وقال الله تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغون فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا) [النساء: 76]، وقال سبحانه : (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك ) [الحشر: 16]. هذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة.
كما أن الموقف من أمم الأرض ـ في نظر العولمة الفكرية والثقافية ـ ليس على أساس المفهوم القرآني القائم على التقسيم العقائدي إلى :
أ ـ (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وأنه تجب موالاة المسلم لأخيه المسلم ونصرته، وأن يكونوا أمة واحدة تجمعهما العقيدة ولا تفرقهما أي وشيجة أخرى.
ب ـ وإلى كفار تجري عليهم الأحكام الشرعية بحسب علاقتهم بالمسلمين.
هذه المفاهيم القرآنية الإسلامية الأساسية كلها تنقضها العولمة الفكرية والثقافية من أصلها، وتهدمها من أساسها ـ فالكون ـ في نظر العولمة ـ ما هو إلا ميدان تنافس على المصالح الدنيوية، والإنسان حيوان دائب البحث عن ملذاته وشهواته ومنافعه، وليست الحياة سوى فرصة قصيرة لا ينبغي أ، تضيع في غير اللذة والشهرة والجنس والمال والثروة والجمال، وليس وراءها شيء آخر، وما هي إلا سباق بين الناس في هذا الميدان لا ينقصه سوى تعظيم هذه اللعبة لئلا تفسد على الجميع، ولا يصح التفريق بين الناس على أساس عقائدهم فهم أمة واحدة في الإنسانية تجري عليهم أحكام واحدة لا يجوز بحال أن تتفاوت هذه الأحكام بسبب الدين أو العقيدة.
إن خطورة العولمة الفكرية والثقافية تكمن في أنها تعمل على إعادة تشكيل المفاهيم الأساسية التي تشكل أصول عقيدة المسلم . بل تنفضها وتستعيض عنها بمفاهيم غريبة كافرة ملحدة لا تؤمن بوجوب عبادة الله واتباع الوحي والاستعداد للآخرة.
ثالثًا : تهديد العولمة لمبادئ الشريعة الإسلامية :(9/58)
كما أن العولمة تحمل في طياتها نقضًا لأحكام الشريعة الإسلامية بفرضها مبادئ تخالف الشريعة ومن الأمثلة :
تسويق العولمة توهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا قضية فرض مفهوم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فهذا المفهوم منصوص عليه في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ومقتضاه إزالة جميع الفوارق على الأحكام والحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، وهو الأمر الذي يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تقوم على أساس الفرق الفطري والخلقي بين الرجل والمرأة، ذلك الفرق الذي يقتضي اختلافًا في بعض الأحكام والحقوق والواجبات بحسب اختلاف الاستعدادات الفطرية.
والمؤهلات التكوينية بينهما، ولهذا تجد الشريعة الإسلامية تقرر أن مبدأ عدم المساواة المطلقة بين الرجال والنساء أمر قطعي الثبوت والدلالة ولا خلاف فيه، ولا مجال فيه للاجتهاد .. وفي المساواة المطلقة لا يقتضي نفي مطلق المساواة كما لا يخفى.
الشريعة الإسلامية تقوم على أساس الفروق بين الجنسين:
على هذا قام الفقه الإسلامي ودلت على ذلك نصوص الكتابة والسنة وإجماع العلماء وبدءًا من باب الطهارة إلى باب الشهادات، آخر أبواب الفقه الإسلامي، تجد المرأة والرجل يجتمعان في أحكام ويختلفان في أحكام أخرى .. ومن صدور الاختلافات ما جاء في أحكام الحيض والنفاس، وأحكام لباس المر' وفي الصلاة وعدم وجوب الجمعة والجماعة عليها وكون صلاتها في بيتها أفضل، وأنها ممنوعة من الآذان بإجماع العلماء، ومن إمامة الرجال في الصلاة وخطبة الجمعة لهم بإجماع العلماء وأنها تصفق لتنبيه الإمام إذا سهى ولا تسبح كالرجال، وأن صفوف النساء في الصلاة وراء صفوف الرجال ولا يجوز لقدمهن ولاختلاطهن بصفوف الرجال بإجماع الفقهاء، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها، أخرجها مسلم، بعكس الرجال.
ومن الأمثلة أيضًا على الاختلاف إحرامها للحج والعمرة في بعض الأحكام، وفي عدم وجوب الجهاد عليها وفي اختلاف أحكام الميراث والنفقة وجعل الطلاق بين الرجل في الأصل، وتقديمها في الحضانة في الجملة وفي تحريم الخلوة بها وفي تحريم التبرج وعدم قبول شهادتها في الحدود والدماء.
وهذا كله على سبيل المثال وإلا فثمة أحكام كثيرة غير هذه قد أجمع العلماء على أن المرأة لا تتساوى فيها والرجل، كما دل على ذلك صريح قوله سبحانه وتعالى: (وليس الذكر كالأنثى) [آل عمران: 36].
وأما العولمة فإنها كما ترفض التمييز بين الناس على أساس الإيمان والكفر ترفض أيضًا التمييز بين الرجل والمرأة مناقضة لأحكام الشريعة الإسلامية التي بنيت على أساس التقسيم الوظيفي بين الرجل والمرأة في المجتمع وأن دور كل منهما مكمل لدور الآخر في النظام الاجتماعي الإسلامي بناء على أساس أن التكوين الخلقي للمرأة يختلف عن الرجل وأن مؤهلاتها واستعداداتها الفطرية تقتضي توليها دورًا في المجتمع يختلف عن دور الرجل، وهو الدور الأسري.
إن الحقائق العلمية لتؤكد الفرق البيولوجي الأساسي بين الجنسين ولا بأس أن أستشهد هنا بما أورده مؤلفا كتاب جنس الدماغ (B r ainsex) . الدكتور في علم الوراثة (أن غويره، ديفيد جييل)، وهو في الحقيقة مؤلف اشترك فيه أكثر من 350 اختصاصي على رأسهم رائدة علم الفروق الدكتورة (كوراين هت) لنهما نقلا نتيجة إجابات كل هؤلاء الأخصائيين في الكتاب.
يقول مؤلفا الكتاب في المقدمة : (ثمت صياغة المادة الأساسية لهذا الكتاب من أبحاث قام بها علماء كثيرون من جميع أنحاء العالم) .. ثم قالا في وصف وفرق للحقيقة التي توصلا إليها بعد أبحاث مضنية : (الرجال مختلفون عن النساء) وهم لا يتساوون إلا في عضويتهم المشتركة في الجنس البشري .. والادعاء بأنهم متماثلون في القدرات والمهارات والسلوك تعني بأننا نقوم ببناء مجتمع يرتكز على كذبة بيولوجية وعلمية، فالجنسان مختلفان لأن أدمغتهم تختلف عن بعضهما، فالدماغ وهو العضو الذي يضطلع بالمهام الإرادية والعاطفية في الحياة، قد تم تركيبه بصورة مختلفة عند كل منهما، والذي ينتج عنه في النهاية اختلاف في المفاهيم والأولويات والسلوك.
وإنما أصّلت في هذا المثال لأن حمى مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة أضحت موجة آخذة في الصعود في الخليج، منساقة مع تنامي الدعوة إلى العولمة الثقافية والفكرية، ولأنها قضية بالغة الخطورة لأن الغرب يسعى من خلالها إلى إعادة تشكيل النظام الاجتماعي في المجتمعات الخليجية وفقًا للمفاهيم الغربية.
إنه مثال واضح لما تفرضه العولمة من مبادئ وتشريعات تناقض الشريعة الإسلامية ومبادئها.
رابعًا : تهديد العولمة للأخلاق الإسلامية :(9/59)
كما أن العولمة تهدد النظام الأخلاقي الإسلامي، فمن خلال العولمة يروج للشذوذ الجنسي ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم، ومن أحدث محاولات العولمة محاولة فرض مصطلح جديد يطلق عليه Gende r بدل كلمة (sex) يقول الدكتور محمد الركن في مجلة المستقبل الإسلامية: (ومن المسائل الجديدة المستحدثة التي تحاول بعض المنظمات والحكومات الغربية فرضها وإلزام شعوب العالم الأخرى بوجهة نظرهم فيها مسألة تعريف الجنس والأسرة، ومما حداني للحديث حول هذا الموضوع ما شاهدته في المستندات الرسمية، فقد تمت ترجمة الجنس الغربي إلى مصطلح Gende r ، باللغة الإنجليزية، وهي تنم عن عدم إلمام بما يسعى غليه الغربيون في فرض ثقافتهم على الآخرين، فلفظة الجندر لا تتطابق تمامًا مع لفظة (sex) بل إن لها أبعادًا خطيرًا قلمًا تشبه إليها.
والموسوعة البريطانية تعرف الجندر بأنه : (لقبل المرء لذاته، وتعريفه لنفسه كشيء متميز عن جنسه البيولوجي الحقيقي) .. فهناك من الأشخاص من يرون أن لا صلة بين الجنس والجندر، إذ أن ملامح الإنسان البيولوجي الخارجية الجنسية مختلفة عن الإحساس الشخصي الداخلي لذاته أو للجندر .. بعبارة أخرى أكثر تبسيطًا فأنا الجندر بعبارتهم تنصرف إلى غير الذر والأنثى كجنسين فقط. ونحن لا نعرف ولا نقر في ديننا وثقافتنا إلا بهما، فالجندر تشمل الشاذين جنسيًا من سحاقيات ولواطيين ومنحولي الجنس، إذ أنها ترتبط بتعريف المرء لذاته وهويته وليس بجنسه البيولوجي .. ومن هنا تأتي خطورة المسألة ولهذا نرى في المؤتمرات الدولية تسابقًا محمومًا من المنظومات الغربية وبعض الحكومات الغربية، وخصوصًا الأوروبية لفرض لفظة Gende r بدل لفظ (sex) التي تنصرف إلى الذكر والأنثى فقط، وذلك عند الحديث عن حقوق الإنسان أو محاولة التمييز ضد الإنسان أو تجريم أفعال ترتكب ضد الإنسان).
خاتمة :
وبعد هذا العرض لمخاطر العولمة لا يبقى مجال لشك أن الموقف الواجب تجاه العولمة الثقافية والفكرية هو التفاعل الحضاري والتعامل الثقافي والانتقائي بحذر : حفاظًا على عقيدة الأمة وهويتها وأخلاقها من عبث العولمة الفكرية والثقافية .. ولا يتم ذلك إلا بإحياء مشروع نهضوي ثقافي شامل بعيد للأمة ثقتها بثقافتها واعتزازها بتاريخها وفخرها بهويتها، على أساس الالتفاف حول الإسلام النقي الخالص من شوائب الموروث المتخلف، بفهم صحيح يضع الثوابت والمتغيرات في مواضعها الصحيحة ويوجه الاجتهاد الشرعي العصري توجيهًا سليمًا جامعًا بين الأصالة والأسس السلفية، والاستفادة من المعاصرة النافعة، وسطًا بين الغلو والإجحاف .. وذلك أن الموقف الرافض المنكفئ العاجز عن التعامل مع حقبة العولمة، يحمل من المخاطر على الأمة المسلمة وطمس هويتها وتوهين قيمها وعزلها عن الواقع العالمي الشيء الكثير، لذلك لابد من التفكير بامتلاك الوسائل النادرة على حماية الأمة، الإفادة من وسائل العولمة وطروحاتها لتقديم البديل الإسلامي على المستوى العالمي.
كما لابد من تفعيل كل جهود الوحدة التي تقرب الأمة حكومات وشعوبًا عن بعضها البعض، وتقرب الحكام من الشعوب والشعوب من الحكام، وتصلح بين السياسة والثقافة والحكام والعلماء وتجمع بين الكتاب والميزان والحديد تتعود هذه الأمة إلى مجدها من جديد .. حيث تتمكن من حشد قواها التي تمكنها من استئناف دورها.
موقع مفكرة الإسلام
http://www.islammemo.com/kashaf_9/cultu r e/cultu r e_6.htm
=============(9/60)
(9/61)
وحدة العمل الإسلامي في مواجهة أعاصير العولمة
صلاح الصاوي
كما يريدها ويروِّج لها دُعاتها في واقعنا المعاصر - لا تعدو أن تكون تعبيراً معاصراً عن نزعة تسلطية قديمة , صاحبت كل قوة غاشمة على مدار التاريخ . بل لا نبعد النجعة إن قلنا إن هذه العولمة - وما تعنيه من الهيمنة واستلاب الآخرين - نوع من أنواع الاستخراب (الاستعمار) , لها كل ما للاستعمار القديم من صفات , إلا أنها - كما يقولون - تضفي طلاءً من الذهب على الأغلال , وتتوارى خلف أقنعة زائفة من العبارات الجذابة والشعارات البراقة , كالعدالة والديمقراطية والحرية والسلام العالمي والتعايش السلمي وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب .. الخ . فهي نفس الشراب القديم وإن كان في آنية جديدة ! .
ولعل من أبرز مظاهر هذه العولمة انهيار السدود بين الحضارات والثقافات , وفرض الهيمنة الغربية في مختلف المجالات , سياسة واقتصاداً وإعلاماً وفكراً ؛ توطئة للاستيلاء على ثروات الشعوب وشلّ قدراتها الوطنية , ومسخ هويتها وخصوصياتها الحضارية , وتحويل أسواقها المحلية إلى أسواق استهلاكية تفتح الأبواب على مصاريعها أمام الشركات الأجنبية لترويج منتجاتها وتراكم أرباحها .
وقد رأينا من ذلك بدايات أسيفة , لا تخطئها العين , تمثلت في شيوع التقاليد والأزياء والمطاعم الغربية ومزاحمتها لمثيلاتها الوطنية مع ما يجلبه هذا الوافد الغربي من مفاهيم بلاده وقيمها , ولعل هذا يوضح الصلة بين شيوع هذه المظاهر وبين مظاهر التخنُّث وضعف التدين وانفراط عقد الأسرة وانتشار المخدِّرات والجريمة المنظمة ! , فضلاً عن تراجع - أو انهيار - كثير من المؤسسات الوطنية وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج .
إن عُمد الحضارة الغربية - كما لا يخفى عليكم - تمثلت في الطباعة والتنصير والبارود , فهي ظل ذو ثلاث شُعب : أولاهن إعلامية والثانية تنصيرية والأخيرة عسكرية , وما الأولى والثانية إلا كاسحات ألغام أمام الشعبة الأخيرة , تهيئ لها الأجواء وتعبِّد لها الطريق !
ولقد وعى القوم دروس التاريخ فقدموا القوة الناعمة على القوة الضاربة ؛ لأنها أقل استفزاراً للآخرين , وأقل ظهوراً أمامهم , وأقدر على شلّ قدراتهم على المقاومة , وأقتل لروح الاستبسال والمواجهة في صدورهم .
وإذا كان الأسلوب التقليدي - لدى القوم - قد تمثل في حمْل الآخرين على فعل ما تريد ولو باستخدام القوة المسلحة - فإن الأسلوب الأمثل اليوم يتمثل في حمل الآخرين على إرادة هذا الذي تريد , وإقبالهم عليه عن طواعية واختيار , وهذا يتوقف بطبيعة الحال على حسن تسويقه وجاذبية عرضه من ناحية , كما يتوقف على حجم الإغراء الذي تحمله الجوائز التي تقدم ثمناً لمَن يتعاونون مع القوم ويلقون لعولمتهم السَّلَم من ناحية أخرى ! .
بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية
ومما يجدر التنبيه إليه - في هذا المقام - ضرورة الفصل بين العالمية التي جاءت بها شريعة الإسلام وما تحمله من رسالة حب ورحمة إلى العالم أجمع , وبين العولمة وما تعنيه من الهيمنة واستلاب الآخرين لحساب الرأسمالية العاتية , بل لحساب حفنة من النخب الرأسمالية التي تتضرع في دماء الآخرين وأموالهم .
إن العالمية التي تحيل العالم إلى قرية كونية واحدة , يتمتع الإنسان فيها بحق الاختيار ويسود فيها البر والقسط ويتفيأ الإنسان فيها ظلال العدل والرحمة , وتصان فيها حرمات المخالفين وحقوقهم - هذه العالمية يجب ألا تلتبس في ذهننا بالعولمة , التي يدعو لها حملة المشروع الغربي والتي تحيل العالم إلى غابة عالمية واحدة , يأكل القوي فيها الضعيف , ولا يرقبون في أحد فيها إلاًّ ولا ذمة ! .
إن الاتجاه إلى العالمية برسالة حضارية عادلة لا حرج فيه ولا تثريب على دعاته , ولكن الحرج - كل الحرج - إنما يكمن في روح الهيمنة والجشع والأنانية والابتزاز الذي تحمله هذه العولمة الجامحة , كما يدعو إليها أباطرة الرأسمالية وقراصنتها من غير حريجة من دين أو خلق , فليس الحرج في التوجه إلى العالمية في ذاته , والتعامل مع الكيان البشري كأمة واحدة , وإنما يكمن الحرج في المشروع الذي يحمله القائمون على هذا التوجه عندما لا يرون في الآخرين إلا أحجاراً على رقعة الشطرنج , يعبثون بمقدراتهم ومصائرهم كما يشاءون , الأمر الذي لا تقام به دنيا , ولا يصلح به دين , ولا يزداد به العالم إلا شقاءً فوق شقاء !
إننا - نحن المسلمين - نحمل مشروعاً حضارياً رائداً , لُحمته الربانية وسُداه البر والقسط , نبذله إلى العالمين ما داموا لا يقاتلوننا في الدين , ولا يصادرون علينا حقنا في أن نبسط دعوتنا إلى الآخرين .(9/62)
فليس على دعاة الدين الحق والرسالة الخاتمة من حرج إذن أن يطوفوا بدعوتهم في المشارق والمغارب , يوطِّئون للحق مهاداً , وينشرون له أعلاماً في إطار قاعدة (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[البقرة:256] , وتحت خيمة الربانية التي ترعى حقوق الموافقين والمخالفين , حتى يتفيأ العالم ظلال هذه الرحمة العامة , يفئ إليها من هجير الظلم ورمضاء الأثرة والجشع والأنانية , ويجد له موقعاً في سفينة الإسلام , التي تمخر به عباب هذه الفتن المتلاطمة ؛ حتى ترسو على شاطئ النجاة في الآخرة .
إن هذه العولمة - في إطارها اللاديني (العلماني) الجامع - لَتحمل في طياتها بذور فشلها وعوامل انهيارها ؛ فإنه لا دوام لظلم , ولا بقاء لعسف ولا جور , لقد حدثنا القرآن الكريم عن دول قامت , ثم زالت , وعن حضارات صالت , ثم انهارت .
قال - تعالى - : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ (8) وَثَمُودَ الَذِينَ جابُوا الصَّخرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ](14)) الفجر[ .
وقال - تعالى - : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37) وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً(39))]الفرقان[ .
وقال - تعالى - : (وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جاءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(40))]العنكبوت [ .
وإن مواريث القوم الفكرية والفلسفية لتنذرهم بذلك , وتشهد عليهم به , فقد قال أحد حكمائهم (حين وقف على أطلال روما) : "إن أول رجل تسبَّب في خراب الإمبراطورية هو الذي بدأ يقدم لها الأسلاب والغنائم" ؛ لأنه هو الذي أثار لدى أهلها غول النهب والسيطرة وحرك شياطين الأثرة والأنانية الكامنة وراء جلودهم , وقديماً قال نابليون : "إن الإمبراطوريات تموت دائماً بمرض التخمة" , أي أن جوفها يعجز عن هضم ما تلتهمه من الأقاليم والشعوب ! .
موقف المسلم من العولمة :
يبقى الحديث بعد هذا عن موقف المسلم من هذه العولمة : هل هو الرفض والمقاطعة أم الاصطفاء والتخيُّر ؟ .
لا يخفى أنه لا سبيل إلى الأول لجملة من الاعتبارات والضرورات العملية منها :
1- عالمية هذه الظاهرة , وتدفقها إلى العالم عبر قنوات مفتوحة لا سبيل إلى إغلاقها , وقطع السبيل إليها , سواء أكان ذلك في وسائل الأعلام أم في حركة السياحة والاتصال المباشر بين الشعوب .
طبيعة العلاقات الدولية التي تقوم على التبادل والتداخل والتعامل المشترك , ولا يتسنى لأحد - في محيط المجتمع الدولي - أن يحبس نفسه داخل أسوار العزلة .
حاجة البلاد الإسلامية والعربية إلى كثير من الخبرات وآليات التقنية المبثوثة في هذه المجتمعات ؛ نظراً لحداثة البناء الاجتماعي والاقتصادي في كثير من هذه البلاد .
ضعف مؤسسات الوحدة والتنسيق بين البلاد الإسلامية والعربية .
وإذا كان لا يتسنى لنا أن نقطع السبيل بالكلية على هذا السيل الجارف من مظاهر العولمة وآلياتها فلم يبقَ أمامنا إلا التخير والاصطفاء , بأن العلم ما الذي نأخذه منها , وما الذي نجتنبه , فما كان فيها من أمر صالح أخذناه ولا حرج , وما كان منها من فاسد تحاشيناه واجتهدنا في التصدي له .
إن من إيجابيات هذه العولمة - على سبيل المثال - سهولة الاتصال بين الدول والأفراد على المحيط الدولي , وتوافر التقنيات المتطورة التي تذلل هذا التواصل , وتهيئ أسبابه , فلماذا لا يستفيد المسلمون من ذلك كله ؟ , بإنشاء جامعات مفتوحة يستفيض من خلالها البلاغ بعلوم الدين وتعم من خلالها المعرفة بعلوم الدنيا , فتقضي على الأمية والجهالة وتدرج الأمة من خلالها على معارج الغلبة والتمكين .(9/63)
وإن من إيجابياتها كذلك ما تتيحه من ثروة كبرى في عالم المعلومات تتدفق عبر العالم في سلاسة ويسر , لا تحدها حدود ولا تحجزها حواجز إقليمية أو سياسية أو عسكرية , ومن هذه المعلومات ما هو نافع وبنَّاء في مختلف المجالات , فلماذا لا تُستثمر هذه المعرفة المبذولة بالمجان في تطوير قدراتنا حاضراً ومستقبلاً , وفي توجيه ناشئتنا إلى الإفادة من هذا كله ؛ ليكونوا أقدر على العطاء والمواجهة .
هذا وإن الآكد من هذا كله أن نبعث في هذه الأمة روح المواجهة لهذه الأعاصير , وأن نستثير مذخور طاقاتها الإيمانية والجهادية , وأن نرشد توجيه هذه الطاقات على طريق المحافظة على الهوية , واستئناف ما توقف من مسيرتها الحضارية .
كثيرة هذه المقومات التي تملكها الأمة وتتمكن بها - بعد توفيق الله (جل وعلا) وتأييده - من الثبات في مواجهة أعاصير هذه الفتن , بل ومن قهر هذه الأعاصير وتجاوزها إلى مرفأ الأمن والسلامة .
ولا يتسع المقام لاستقراء كل هذه المقومات , ولكننا نخص بالذكر آكدها وأثمنها وأغلاها في هذا المقام , وهو ما تموج به هذه الأيام من صحوة إسلامية مباركة , توشك أن تعم بلاد العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه .
ذلك أن ترشيد هذه الصحوة وإزالة التناقضات الداخلية التي تغشى صفوفها في بعض المواقع وحشد فصائلها جميعاً في خندق التصدي لهذه الأعاصير - لَيمثل خط الدفاع الأول في هذه المواجهة المحتومة الشرسة .
وإن خصومنا ليدركون هذه الحقيقة بجلاء , ومن هنا كان مكر الليل والنهار لإجهاض هذه الصحوة وإفشال أعمالها , لا من خلال سحقها وتجفيف منابعها بالكلية , فقد يئسوا من ذلك , ولكن من خلال المراهنة على تشرذم فصائلها , وتفشِّي الفتن بين صفوفها وإغراء العداوة والبغضاء بينها وبين القيادة السياسية في بلادها , فترتد سهامها إلى الداخل , وتُجهض طاقاتها في مناوشات داخلية , لا يفيد منها في نهاية المطاف إلا هؤلاء الخصوم .
إلى متى يُدفع بشبابنا إلى المحرقة ؟! :
إلى متى يُدفع بشبابنا إلى المحرقة ؟! , سؤال طرحه أحد أئمة أهل العلم في هذا الزمان , وهو مثل زفرة من زفرات الألم المكتوم , التي تجيش بها صدور كثير من المشفقين على هذه الأمة , ممن يحزنهم استضعافها في المحيط الدولي , وهوانها - على أعدائها - في الخارج , وتشرذم صفوفها واحتراقها في أتون الفتن والتهارج في الداخل .
ولعل مثل هذا التساؤل هو الذي دفع بكثير من هؤلاء ممن يرصدون هذه الظاهرة - إلى التأكيد على ضرورة إحياء فقه المراجعات , والتأمل الدقيق في مفردات المشروع الفكري الذي حمله التيار الإسلامي طوال الحقبة الماضية , بدءًا من المسائل العلمية , وانتهاءًا بوسائل العمل وآليات التغيير في مختلف المحاور .
ولعل على رأس هذه الإشكاليات التي تمس الحاجة إلى استنفار العقول والأقلام لتدبرها واقتراح ما يلزم لها من الحلول والمعالجات :
إشكالية التعامل مع القيادات السياسية , وإشكالية التعامل مع الآخرين , سواء أكانوا داخل الصف الإسلامي من ذوي الاجتهادات المخالفة , أم كانوا خارجه من أصحاب المشروعات القومية أو الوطنية .
أولاً : إشكالية التعامل مع القيادات السياسية :
لقد ورثت الأمة منذ عصور الاستخراب (الاستعمار) محنة ثقيلة , تمثلت في تعطيل الشريعة وتكريس الفصل بين الدين والدولة في كثير من المواقع , ورحل الاستخراب عن البلاد , ولكن بقيت هذه التركة بصمة له , وأثراً من آثاره البغيضة في معظم المواقع , التي دنستها أقدامه , ووطئت فوقها سنابك خيوله .
ثم كان انبعاث الصحوة الإسلامية وتفجر ينابيعها الثرية في مختلف أرجاء الأمة , رافعة لواء الدعوة إلى تحكيم الشريعة , مؤكدة ضرورة التخلص من الاستخراب التشريعي , والعودة إلى التحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى ما أنزل الله .
ورأت بعض القيادات السياسية في هذه الدعوة تحرُّشاً بها وتأليباً على عداوتها وعدواناً على سيادتها وزلزلة لقواعد مشروعيتها , وفي المقابل لم يخلُ أداء الإسلاميين - في بعض المواقع - من بعض المواقف المستفزة أقوالاً وأفعالاً , فاشتعل فتيل المواجهة بين الفريقين , وواتت الفرصة فريقاً من الشانئين , ممن يخاصمون الإسلام معتقداً وتشريعاً , فاستثمروا هذا الصراع وعمقوا جذوره ووسعوا دوائره , وتقاسموا على إبادة هذه الصحوة إلى آخر جندي تملكه القيادة السياسية ! , ووقع كثير من القيادات السياسية في شراك الابتزاز الذي نصبه لها هؤلاء , فزادت الفتن سعيراً واشتد الصراع وتطاول ليله , وتمخض عنه من الويلات والفجائع ما تمخض , وكلما دعا فريق من الحكماء (في هذا الجانب أو ذاك) إلى مصالحة تُحقن بها الدماء , ويرتفع بها هذا البلاء - سلقه الشانئون بألسنة حِدَاد , أشحَّة على الخير ؛ حتى لا يهدأ أُوار , ولا يقر للأمة قرار ! .(9/64)
ولعل من اللافت للنظر بين واقع العمل الإسلامي في المجتمعات الغربية ومثيله في بلاد المشرق هذه المفارقة المذهلة بين الهدوء والاسترخاء اللذين يسودان علاقة العمل الإسلامي بالقيادات السياسية في الغرب , والتحفز والاستفزاز اللذين يسودان هذه العلاقة في بلاد المسلمين , وقد كان المتوقع هو العكس .
ولا يخفى أن من التسطيح الفاحش للأمور أن تفسَّر ظاهرة شديدة التعقيد , تختلط فيها أبعاد كثيرة ببعد واحد من هذه الأبعاد , ولكن الذي أود التركيز عليه , وأود لفت الانتباه إليه في هذه الأبعاد - هو هذا الانضباط المتبادل بالأنظمة السارية من كلا الفريقين في المجتمعات الغربية , وهذا الانتهاك المتبادل في مجتمعات المسلمين , وهي ظاهرة جديرة بالتسجيل والتأمل , وربما امتهد من ذلك سبيل لحسن التعامل مع هذه الإشكالية وحل مغاليقها .
لقد التقى الفريقان في الغرب على أن هناك دولة قائمة - ظالمة كانت أو عادلة - وأن لهذه الدولة نظماً سارية لا سبيل إلى تغييرها إلا من خلال آليات التغيير المعتمدة في هذه المجتمعات , وأنه لا بد من الوقوف عند هذه الحدود التي تمثل إشارات ضوئية , تضبط السير وتحدد العلاقة بين الفريقين :
فالعمل الإسلامي يرى أنه يعيش في إطار دولة يجب عليه أن يتقيد بنظمها , وإن مثَّلت نوعاً من أنواع الجور على حقوقه في بعض الجوانب , أو تناقضت مع بعض قواعد المشروعية التي يعتقدها , ويَدين بها في جوانب أخرى , وهو يبذل هذا الانضباط عن طواعية واختيار , والدولة ترى في نظمها حدوداً ملزِمة , لا يجوز أن تنتهكها ؛ لتبطش بمواطنيها بغير حق , فتكفل الحماية والمنعة وتبذل الحقوق والرعاية لكل مَن يقيمون على أرضها ماداموا وقَّافين عند هذه الحدود التي فصَّلتها الأنظمة والشرائع السارية .
وهكذا أصبح الانضباط المتبادل سُنة التعامل بين الفريقين في هذه المجتمعات , ولكن الأمر على النقيض من ذلك في بلاد المسلمين , حيث مسلسل الانتهاكات الصارخة التي تتجاوز المعقول واللامعقول , وتدخل بالعلاقة - بين الطرفين - في سراديب ملتوية كثيرة التعاريج .
ولهذا فإن من آكد محاور الترشيد - التي نسجلها في هذا المقام - أن يدرك التيار الإسلامي بفصائله المختلفة أنه يعمل في إطار دول قائمة , وتحت مظلة أنظمة سارية , وأن عليه أن يرتب برامجه في ضوء هذه الحقيقة , وأن يستنفد المتاح قبل أن يتطلع إلى غيره , وأن يدرك أن تشوُّفه لغير المتاح قد يُفقده المتاح وغير المتاح ! .
لقد درج كثير من العاملين للإسلام - خلال الحقبة الماضية - على أن ينطلقوا في أعمالهم الدعوية والتربوية والاحتسابية من خلال الشرعية التي يعتقدونها , والمرجعية التي يَدينون بها , سواء التقت مع المرجعية السائدة في مجتمعاتهم أم تعارضت , وقد ترتب على ذلك ما ترتب عليه من صراعات ومواجهات أسيفة دامية .
ولا يخفى أن هذا الالتزام الذي ندعو إلى التقيد به - من جانب حَمَلَة الشريعة - لا يعني بالضرورة توقُّف مسلسل المواجهات والانتهاكات من الطرف الآخر على الفور , ولكنه بالقطع سوف يُضعف حدتها , ويكسر سَوْرتها , وينقل ما تبقَّى منها إلى إطار جديد , تتمايز فيه المواقف بجلاء , وتنقطع معه شبهات المتأولين والمرتابين ! .
وإن هذه النظرة لتمثل منعطفاً كبيراً في مسيرة العمل الإسلامي , تزداد بها نضجاً وتوفيقاً , وتضيق به شُقة الصراعات بين الفريقين , في الوقت الذي لا تمثل فيه تراجعاً عن التزام واجب , أو تفريطاً في مُحكَم لا يتسنى التفريط في مثله ؛ إذ القدرة هي الشرط العام في جميع التكاليف .
والنظر في مآلات الأقوال والأفعال مقصود معتبر شرعاً , وقاعدة تحقيق خير الخيرين ودفع شر الشرين مما ينتظم به عقد هذا التوجه , ويتسق بها مضمونه كله , وسوف ينعكس هذا التوجه على مواقف كثيرة واجتهادات عديدة , ويرسم مساراً جديداً للعملية الدعوية برمتها , وتمس الحاجة معه إلى مزيد من الدراسات التفصيلية , التي تنقله من حيز التنظير والتجريد إلى حيز التطبيق والتنفيذ , ولا يخفى أن لكل محلة خصوصياتها في هذا المجال , وأن هذا الأمر مما تختلف فيه الفتوى باختلاف الزمان والمكان والأحوال والعوائد .
إن سياسة إطفاء الحرائق ونزع فتيل الاشتعال في علاقات العاملين للإسلام والقيادات السياسية من حولهم وتطويق المواجهات على أرض الإسلام - ينبغي أن تكون هماً يقضُّ مضاجع الغيورين , ويؤرق ليلهم , فلا أقر لعيون الخصوم من تفاقم هذه الصراعات , وتنامي هذه المواجهات , التي تحترق بها الأمة , وتبدد بها طاقاتها داخلياً , دون أن يسكب الخصوم في هذا الإفناء والمحو قطرة دم واحدة ! .
ثانياً : إشكالية العلاقة مع الآخرين : 1- العلاقة مع الآخرين داخل الإطار الإسلامي :(9/65)
يثور جدل على الصعيد الفقهي حول مشروعية الصلح مع الصهاينة الغاصبين ومشروعية التنسيق والتقارب مع الرافضة والباطنيين إعمالاً لمقتضيات الضرورة واستجابة لدواعي المصلحة وتتفاوت الآراء بين مجيز ومنكر ومتحفظ , وتشهد الساحة من أئمة أهل العلم مَن لا يرى بذلك حرجاً في إطار الضوابط المعتبرة شرعاً للضرورة أو المصلحة , ويتعامل الناس مع هذه المواقف دونما توجس أو ارتياب , ويقبلون أو يرفضون في غير ما تحفّز أو توثّب , ويبقى لكل طرف حرمتُه المصونة وعِرضه الذي لا يُنتهك .
ولكن الأمر لا يبدو بهذه السلاسة عندما تُعرض قضية التعاون بين الفصائل الإسلامية , التي تدور - في الجملة - في فلك أهل السنة , وتواجه قدَراً واحداً من الجراحات والتطلعات , وتنالها جميعاً مطارق الاستضعاف والمحنة بدرجات متقاربة , وتجد أشد الناس تصلباً في رفض هذا التقارب مَن يرون في اللادينية وتحكيم القوانين الوضعية صورة من صور الكفر الأكبر , وأن الخلل في واقعنا المعاصر قد بلغ مبلغاً لا تُجدي معه محاولات الترقيع , وإنما النقض وإعادة البناء من الأساس , وقد كان أوْلى بهؤلاء - والحال كذلك - أن يكونوا أكثر تسامحاً مع إخوانهم ممن يقفون معهم على أرض الإسلام , ويحملون معهم هَمّ الدعوة إلى تحكيم الشريعة , ويتعرضون - معهم - لنفس الويلات , التي يتعرض لها حملة هذه الدعوة في كل موقع ؛ لأنه إذا صح توصيف تحكيم القوانين الوضعية بأنه من جنس أعمال الكفر والشرك - فلا فتنة أعظم من الكفر , ولا عمل أوجب من التكاتف لإزالته.
ولكن الأمر كان على النقيض من ذلك , فقد كان هؤلاء أكثر الناس تصلباً في الازورار عن إخوانهم , والتجافي عنهم , والغلظة عليهم , متأولين في ذلك بعض النصوص والآثار , التي طُبقت في غير مناطها , وإن كانت حقاً في ذاتها .
ولا مخرج من هذا كله إلا بإحياء فقه الاختلاف , كما فصَّلته مواريثنا السلفية , وترتيب أولويات المواجهة , كما تمليه الضرورات العملية والعملية , بما يدرك معه المتدينون كافة أنه لا إنكار في موارد الاجتهاد , وأن الأصل هو الالتقاء على الثوابت والمحكمات , والتغافر في الظنيات والمتشابهات , وأن الله قد قسم الأعمال كما قسم الأرزاق , وأن من الناس مَن يُفتح عليه في باب من أبواب العلم أو العمل , ومنهم من يُفتح عليه في باب آخر , ومن خلال هذه الجهود مجتمعة يتجدد العمل بفروض الكفايات على مستوى مجموع الأمة , وأنه يجب التفريق بين مناط الاستضعاف ومناط الاستخلاف , وأن ما يحسُن تشديد النكير عليه ومزايلة أصحابه في وقت قد يحسن السكوت عليه ومداراة أصحابه في وقت آخر وفقاً لمقتضيات الزمان والمكان والظروف والأحوال , وأنه قد يتسنى ترك الفاضل وإعمال المفضول في وقت من الأوقات رعاية لمصلحة الاجتماع والائتلاف , وكل ذلك مبثوث في مواريثنا السلفية , ولسنا بصدد تفصيل القول في ذلك فقد أفردت لتفصيله دراسات مستقلة , وحسبنا في هذا المقام هذه الإشارات المجملة , التي أرجو أن يستفيض البلاغ بها , وأن يتأمل طلبة العلم في مداركها , ونحن نتحدث عن فتنة العولمة , واجتياح أعاصيرها بلاد الإسلام ! .
إن تعدد الاجتهادات سُنة من سنن الاجتماع , وحقيقة ملازمة للتجمعات البشرية كافة في مختلف الأزمنة والأمكنة , ولا يذم هذا الاختلاف إلا في صورتين :
الأولى : أن يكون في الأصول والقطعيات كالخلاف على أصل الملة أو الخلاف في الأصول الكلية القطعية في الشريعة , فالأول يخرج به أصحابه من الملة , والثاني يخرجون به عن دائرة أهل السنة والجماعة , ويصبحون فرقة من الفرق الضالة .
الثانية : التعصب المذموم الذي يفضي إلى التفرق , ويخترق به سياج الأخوة الإيمانية , ويصبح به الناس شيعاً متلاعنة متدابرة , ويحُول دون التنسيق والتعاون في مواضع الإجماع , أو في أوقات المحن والكوارث العامة .
ولا يخفى أن المقبول من تعدد الاجتهادات هو ما كان منه داخل الإطار الإسلامي , بل داخل الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع , وأن التعصب المقيت في الفروع وموارد الاجتهاد ليس من منهج أهل السنة في شيء , وأن فقه الاجتماع في هذه المرحلة يقتضي إعلان النفير العام وحشد كل طاقات الأمة في خندق المواجهة ؛ لأن المنازعة هنا - ونحن نتحدث عن العولمة وتهديدها لديار الإسلام - ليست من جنس المنازعات التي تكون داخل الإطار الإسلامي , ولكنها منازعة على أصل هذا الإطار , هل نقبل بالإطار الإسلامي أم نستبدل التغريب واللادينية (العلمانية) به ؟! .(9/66)
وإذا أثيرت المسألة على هذا النحو فإن الأولوية تكون لصالح الانتصار لأصل الدين وتوفير كل الجهود والطاقات للتصدي لخصومه , ولهذا نظير في الأنظمة الوضعية , عندما تمر البلاد بحالة حرب وتجتاحها كوارث عامة تهدد وجودها كله بالفناء والاستئصال - فإن القوى السياسية الموجودة في الدولة كافة (حكومة ومعارضة) تقف صفاً واحداً وخندقاً واحداً ؛ لدفع هذه الكارثة العامة , ويكون الاعتبار القومي مقدماً على الاعتبار الحزبي , ومصلحة الأمة مقدمة على مصلحة فريق معين منها , فتتلاشى التصدعات الحزبية , وتتوارى العصبيات المذهبية , ولا يكون للمجتمع كله من همّ إلا دفع هذا الصائل , والتصدي لهذه الكارثة !! .
وبناءًا على ذلك فلا حرج في تفاوت الاجتهادات والرؤى الفقهية أو السياسية , إذا لم يَحُل هذا التفاوت دون إقامة التنسيق والتعاون بينها جميعاً , بحيث تجمع أصحابها جبهة واحدة للعمل المشترك , ويلتزمون جميعاً بإقامة جماعة المسلمين بمفهومها العام والشامل , إذ لا ضرر في مثل هذا التفاوت , فلا تثريب إذن على أصحابه .
أما إذا أدى هذا التفاوت إلى التمحور حول الذات والازورار عن الآخرين والاستطالة عليهم بغير حق , وبات يُعنى فيه بالفرع على حساب الأصل , وينشغل أصحابه بالجزئيات عن الكليات , ويستغرقون في خلافاتهم الداخلية الفروعية التي تهدر فيها الطاقات , وتتناكر بها القلوب والأرواح - فهو من جنس التفرق المذموم , الذي جاءت النصوص بذمه , وشنت الغارة على أصحابه ؛ لأنه يكون - في هذه الحالة - ذريعة إلى تشرذم الأمة , وتقطُّع أمرها بينها زُبَراً , وما يعنيه ذلك من الفشل وذهاب الريح ! .
2- العلاقة مع الآخرين خارج الإطار الإسلامي :
إذ تجاوزنا الحديث عن خارطة الصلات والعلائق داخل الإطار الإسلامي إلى الحديث عن العلاقة مع الآخرين من ذوي الاتجاهات القومية أو الوطنية خارج الإطار الإسلامي , فهل يشرع التنسيق والتحالف مع بعض هؤلاء لدفع غائلة عامة , والتصدي لعدو مشترك , يجتاح البلاد والعباد , انطلاقاً من عمومات النصوص , التي تحض على التعاون على البر والتقوى , وتأسيساً على صحيفة المدينة , التي اتفق فيها مع جميع الطوائف على الدفاع عن المدينة في إطار مرجعية الشريعة ؟ .
لا شك أننا أمام تساؤل دقيق حري بأن نتدبره في ظل الظروف الراهنة للعمل الإسلامي المعاصر .
ولا يخفى أنه قد جاء من النصوص ما ينهى عن الأحلاف , وجاء منها ما يجيزه , من هذه النصوص :
- ما رواه مسلم في صحيحه عن جبير بن مطعم من قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا حلف في الإسلام , وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة".
- وما رواه أحمد في مسنده من قول النبي صلى الله عليه وسلم : "يا أيها الناس إن ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة" .
- ويقابل هذا ما رواه البخاري عن عاصم الأحول أنه قال : "قلت لأنس بن مالك : أبلغَك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا حلف في الإسلام؟ فقال : قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داره" , وقد عقد البخاري باباً في الصحيح فقال : (باب : الإخاء والحلف) .
وقد جمع أهل العلم بين هذه النصوص بأن الحلف المنهي عنه هو الحلف على ما منع منه الشرع , كالذي كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالماً , ومن أخذ الثار من القبيلة بسبب قتل واحد منها , ومن التوارث ونحوه , وأما ما كان من هذه الأحلاف على نصر المظلوم , والقيام في أمر الدين , والتعاون على البر والتقوى , وإقامة الحق والعدل فهذا باقٍ لم يُنسخ .
وبهذا التفصيل نستطيع أن نفرق فيما قد تقتضيه الظروف المعاصرة من التحالفات المرحلية مع بعض الاتجاهات اللادينية , تحقيقاً لبعض المصالح العامة , أو دفعاً لبعض المفاسد فنقول :
ما كان من هذه التحالفات على تحقيق أمر مشروع التقت مصلحة الجميع في تحقيقه - كإسقاط بعض القوانين الاستثنائية الظالمة , أو دفع صائل أو إخراج عدو داهم بلاد المسلمين فجأة فاستباح بيضتهم أو بصدد أن يفعل ذلك , ولم يتضمن التزاماً على أهل الدين , يغل أيديهم عن تبليغ دعوتهم أو إقامة دينهم - فالأصل في هذا التحالف هو الإباحة , ويبقى النظر بعد ذلك في دراسة جدواه , ومدى ما يمكن أن يحققه من مصلحة أو يدفعه من مفسدة , وفي ضوء نتيجة هذه الموازنة تكون الفتوى لصالح هذا التحالف أو ضده , شأنه شأن سائر مسائل السياسة الشرعية .
2- أما ما كان منه على أمر غير مشروع , أو تضمن التزاماً , يغل أيدي الدعاة عن الصدع بالحق وإقامة الدين - فهذا هو التحالف الممنوع , الذي تظاهرت النصوص الجزئية والقواعد الكلية على ردّه , إلا إذا حملت عليه ضرورة ملجئة .
التحالف مع بعض القوى السياسية الأخرى لإقامة بديل ديموقراطي :
ولعل هذه النتيجة تقودنا إلى سؤال آخر: هل يجوز للاتجاه الإسلامي أن يدخل في تحالف مع سائر الاتجاهات السياسية القائمة لإزاحة ظلم قائم , وإقامة بديل سياسي , يكون الحكم فيه ديموقراطياً , أي يُترك الأمر في تحديده إلى الأمة ؟ .(9/67)
لا شك أن الإجابة على هذا السؤال تختلف باختلاف واقع المجتمعات , وواقع الديموقراطيات , وواقع الحركات الإسلامية .
فإن كانت المجتمعات لا تزال على ولائها للإسلام , واستمساكها بتحكيم شريعته , وكانت الديموقراطية المقترحة لا تزيف إرادة الأمة , ولا تصادر اختيارات الشعوب - فيصبح القول بالمنع من القبول بالتحالف في مثل هذه الحالة لوناً من التفريط , وإضاعة لفرصة سنحت قد تقيم الإسلام بأدنى خسارة وتضحيات ممكنة .
أما إذا كانت المجتمعات قد انسلخت من دينها , أو كادت وباضت فيها اللادينية (العلمانية) وأفرخت , أو كانت الديموقراطية المقترحة من جنس الديموقراطيات الصورية التي تزيف فيها إرادة الأمة ويُحكم فيها على اختيارات الشعوب بالإعدام - فهنا يصبح القبول بمثل هذا التحالف نوعاً من المجازفة ؛ لأنه يكرس الضلالة القادمة , ويخلع عليها قناعاً من الشرعية , وخير للحركة الإسلامية أن تأرز إلى مساجدها , وأن تعكف على استصلاح أحوال أمتها , وأن تعتزل المعترك السياسي إلى حين ! .
وهناك بُعد آخر جدير بالتدبر , وهو المقارنة بين الواقع القائم والبديل المقترح , فلو كان الواقع القائم قد أوفى على الغاية في القهر والتسلط ومصادرة الحريات والتضرع في الدماء والأموال والأعراض , أو كان البديل المنشود - في أسوأ أحواله - لن يبلغ هذه الدرجة من الاستطالة والسوء فإنه - وإن لم يكن إسلامياً - فسيكون مجتمعاً حراً يطلق حرية القول من عُقُلها , ويتيح لجميع القوى السياسية الحق في أن تدافع عن اختياراتها الفكرية والسياسية , فيستطيع حملة الشريعة في ظل هذا المناخ أن ينطلقوا في الدعوة إلى الله بعد أن كانت الدعوة مصادرة , ويستطيعون أن يعيشوا بالإسلام بعد أن كان العيش بالإسلام جريمة يعاقب عليها ويُفتن الناس بسببها , أفيستطيع منصف أن يتردد في رفض هذا البديل بدعوى أنه لا يريد إلا محض الإسلام ؟! .
نعم , إن حَمَلَة الشريعة لا يريدون إلا محض الإسلام , ولكن أليس الميسور لا يسقط بالمعسور ؟ , ألا يمثل هذا المُناخ الجديد خطوة على طريق استعادة الهوية والتمكين للإسلام ؟ .
إن المقابلة ليست بين الإسلام وبين هذا البديل الديموقراطي - ولو كانت المقابلة على هذا النحو لحسمت القضية على الفور - ولكن المقابلة بين الواقع القائم بجبروته وطغيانه وبين البديل المقترح بحرياته وضماناته , هكذا تكون المقابلة , وعندما تكون المقابلة والمفاضلة بين واقعين : أحدهما تُستباح فيه الحرمات وتُجرَّم فيه الدعوة إلى الله ويُسام فيه المؤمنون والمؤمنات سوء العذاب , والآخر تصان فيه الحقوق والحريات - فإن نتيجة المفاضلة تكون لصالح هذا الأخير ولا شك .
وما أشبه هذه الحالة بحالة الهجرة إلى الحبشة ؛ لقد كان مبررها أن بالحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد , مع اجتماع الواقع في مكة والواقع في الحبشة في صفة الكفر , فما كانت الحبشة يومئذ دار إسلام , بل إن الحبشة - حتى بعد إسلام مليكها - ما أصبحت دار إسلام , فما استطاع النجاشي أن يحكم بالقرآن , ولا أن يقيم في الناس شريعة الله , فقد كان في وضع لا يمكِّنه من ذلك , فعذره الله بإيمانه , وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يصلُّوا عليه صلاة الغائب عند موته , ولكن الفارق أن مكة - يومئذ - كانت تسوم المؤمنين سوء العذاب , أما الحبشة فقد كانت دار أمن , لا يُظلم فيها أحد , فهاجر إليها المستضعفون أفواجاً بعد أفواج .
والأصل في ذلك كله ما تمهد في قواعد الأصول من أن مبنى الشريعة تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها , واحتمال المفسدة المرجوحة تحصيلاً للمصلحة الراجحة , وأن الميسور لا يسقط بالمعسور , وأنه ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جلُّه .
فإن قيل : ألا يتضمن هذا المسلك نوعاً من الإعانة على المعصية والفسوق عن أمر الله ؟!.
قلنا : لا ؛ لأننا ندفع بذلك منكراً أكبر هو أسخط لله - عز وجل - من هذه المعصية , وقد تجوز الإعانة على المعصية - لا من جهة كونها معصية - بل لما تتضمنه من دفع معصية أكبر , كما ندفع الأموال إلى الكفرة نفتدي بها أَسْرانا من بين أيديهم , وقد أشار إلى هذا المعنى أئمة أهل العلم من قبل .
يقول العز بن عبد السلام - رحمه الله - في كتابه "قواعد الأحكام" : "إذا تفاوتت رُتب الفسوق في حق الأئمة قدمنا أقلهم فسوقاً , مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع , وفسق الآخر بالتضرع للأموال , قدمنا المتضرع للأموال على المتضرع للدماء والأبضاع , فإن تعذر تقديمه قدمنا المتضرع للأبضاع على مَن يتعرض للدماء , وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر , والصغير منها والأصغر على اختلاف رتبها" (قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 1/86) .(9/68)
وقال - في معرض الحديث عن تقديم أقل الأئمة فسوقاً عند تفاوت رتبهم في ذلك - : "فإن قيل أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته؟! , قلنا : نعم ؛ دفعاً لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت , ودرءًا للأفسد فالأفسد , وفي هذا وقفة وإشكال ؛ من جهة أنَّا نعين الظالم على إفساد الأموال دفعاً لمفسدة الأبضاع , وهي معصية , وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعاً لمفسدة الدماء وهي معصية .
ولكن قد تجوز الإعانة على المعصية - لا لكونها معصية - بل لكونها وسيلة لتحصيل المصلحة الراجحة , وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربى على تفويت المفسدة , كما تبذل الأموال في فداء الأسرى الأحرار من المسلمين من أيدي الكفرة الفجرة" (قواعد الأحكام للعز ابن عبد السلام) .
ويقول - في موضع آخر - : "وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان - لا من جهة كونه معصية - بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة , وله أمثلة : منها ما يُبذل في افتكاك الأُسارى , فإنه حرام على آخذيه , مباح لباذليه , ومنها أن يريد الظالم قتل إنسان مصادرة على ماله , فإنه يجب عليه بذل ماله فكاكاً لنفسه , ومنها أن يُكرِه امرأة على الزنا , ولا يتركها إلا بافتداء بمالها , أو بمال غيرها , فيلزمها ذلك عند إمكانه , وليس هذا - على التحقيق - معاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان , وإنما هو إعانة على درء المفاسد , فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعاً , لا مقصوداً" (المرجع السابق , 1/ 129) .
وهذا الذي قاله - رحمه الله - سديد في النقل والعقل معاً , وقد يمر بالحركة الإسلامية من الأحوال ما تكون معها مندفعة إلى الأخذ بهذه الاجتهادات , سواء أعرفت وجه مشروعيتها أم لم تعرف ؛ لأنها تجد أن هذا هو الطريق المتعين سلوكه , والذي لا يعني القول بغيره سوى الانتحار أو الجنون !! .
أرأيت لو اجتاحت البلاد جائحة عامة - كاجتياح البعث العراقي أرض الكويت , أو اجتياح اليهود لبلد من بلاد المسلمين - وكان لا يمكن دفْعه إلا بتكاتُف جميع التيارات الموجودة اللادينية والإسلامية لدفع غائلته , ثم اتفقوا أن تُترك الأمور - بعد الجلاء - لما تقرره الأغلبية , ولم يكن من ذلك من بديل إلا تشرذم هذه التيارات , وتمكين البعثيين أو اليهود من رقاب البلاد والعباد , وهم الذين لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمة(إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)]الممتحنة:2 [
هل كان يسع الناس في هذه الحالة أن يتركوا اليهود أو البعثيين يغتالون البلاد والعباد ؛ لأنهم لم يتفقوا على الأيديولوجية التي تسود البلاد بعد الجلاء , أم يسعهم هذا الحل المرحلي الذي إن أحسن الاتجاه الإسلامي التعامل معه - استطاع أن يمكِّن للدين من خلاله , وإن لم ينجح في ذلك فإن البديل القادم - مهما بلغ من السوء - فلن يبلغ عُشر مِعشار ما يفعله البعثيون أو اليهود! .
وبناءً على ما سبق فإن تحالف الحركة الإسلامية مع غيرها على إقامة بديل ديموقراطي فيه تفصيل :
إن غلب على ظنها القدرة على إقامة الدين أو تقليل المفاسد ورفع بعض المظالم القائمة وتهيئة أجواء مناسبة للدعوة فالأمر محتمل .
أما إذا غلب على ظنها عدم القدرة على ذلك : إما لأن الديموقراطية المقترحة مجرد مسرحية صورية تضفي طلاءً من الذهب على الأغلال والحكم فيها للشياطين , أو أن الأمة تفشَّت في أوساطها اللادينية والمفاهيم الغربية , وأنها قد بلغت من التشويش مبلغاً لا يسهل معه توقُّع انحيازها إلى الإسلام عندما يخلَّى بينها وبينه , وأن البديل القادم في هذه الحالة سيكون مماثلاً أو أسوأ من الباطل القائم -فالحزم في هذه الحالة هو الكف عن هذا التحالف , والصبر على أمر الله ؛ كما قال - تعالى - (وَقُل لِّلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(122))]هود[ .
ولكن هذه الموازنات حَمَّالة أوجه , ولا يخفى أنها من دقائق الفقه وحقائقه وأغواره , فهي مزلَّة أقدام ومدحضة أفهام , فكم من مغلِق لهذا الباب بالكلية , وما درى أنه يعطل على الأمة كثيراً من المصالح الشرعية ! , وكم من فاتح لهذا الباب على مصراعيه , وما درى أنه يُدخل في دين الله ما ليس منه !! , ويهبط بالرسالة العظمى إلى حضيض المزايدات والمساومات , والمعصوم مَن عصمه الله - عز وجل - ولهذا فإن النصيحة في هذا المقام ذات شقين :
شق يوجه إلى القائمين على الأمر في التيار الإسلامي - ممن يضطلعون بحكم مواقعهم بهذه الاجتهادات وتنتهي إليهم مسئولية البت فيها - وهو أن هذا الباب من الدقائق والمعضلات , وأنه قد زلت فيه أقدام كثيرة , وأن عليهم ألا يستبدوا فيه بقرار قبل استفراغ الوسع في الشورى وطلب النصيحة من كل قادر على إسدائها من أهل العلم وأهل الخبرة .(9/69)
يجب أن يدركوا أنهم يعالجون أمراً قد يحدد مستقبل العمل الإسلامي ومستقبل الأمة كلها من ورائه , ورُب قرار راشد يُتخذ في هذا المجال يقفز بالعمل الإسلامي سنوات إلى الأمام , وعلى النقيض من ذلك رُب قرار أهوج يجهض مسيرته , ويرمي بها إلى الوراء بضعة عقود ! .
كما يجب عليهم أن يصبروا على ما يتعرضون له بعد ذلك من النقد اللاذع من قبل بعض إخوانهم , ممن لم يدركوا أبعاد هذه الموازنات , وغاب عنهم العلم بتفاصيلها , وباتوا يحاكمونها عن بُعد , ولو أُتيح لهم من الحيثيات والرؤى - ما أتيح لهؤلاء - لكان لهم موقف آخر , يجب أن يصبروا على هؤلاء , وأن يدركوا أن الدافع لهم إلى ذلك هو الغَيرة على الإسلام , والحسبة على ما قد يظنونه تعدياً لحدود الله , وأنه قد يُغتفر بحسن القصد ونبل الباعث كثير من الجفوة والمواقف الحادة .
وشق آخر نتوجه به إلى عامة المنتسبين إلى العمل الإسلامي المعاصر - ممن يعسر عليهم في كثير من الأحيان - فهم بعض المواقف التي يتخذها بعض القادة , انطلاقاً من قاعدة "الموازنة بين المصالح والمفاسد" , فيثيرون حولها كثيراً من الضجيج والجلبة , ويسعِّرون بها الفتن , ويشككون بها في القيادة , وربما انتهى بهم الأمر إلى مفارقة العمل الإسلامي بالكلية .
إن رصيداً من الثقة يجب أن ينشأ , وينمو بين عامة المشتغلين بالعمل الإسلامي وبين قياداته , يمكِّنهم من استيعاب هذه المواقف في إطار من الإدراك والموضوعية , بحيث يدركون معه أن كثيراً من هذه المواقف يعتمد على ملابسات وحيثيات تحتاج إلى بسط وتفصيل , وقد لا تستطيع القيادة - بطبيعة الحال - أن تبسط كل ذلك على الملأ ؛ ولهذا فإن الأصل فيمن عُرف بالفضل والربانية أن تُحمل أعماله ومواقفه الموهمة على أحسن محاملها , وأن تُلتمس لها المخارج ما امتهد سبيل إلى ذلك , حتى يأتي من ذلك أمر لا يحتمل التأويل , عندئذ يتسنى لهم أن يقفوا لله وقفة , يصححون بها المسار , ويحافظون بها على ربانية المسيرة , ويمحضون بها النصح للقائمين على الأمر , على أن يتم ذلك كله بما لا يؤدي إلى مفسدة أعظم .
فإذا التزمت القيادة تحري الحق , واستنارت بمشورة الأمناء من أهل العلم في هذه المسائل من جانب , وإذا غلبت القاعدة حسن الظن في المواقف الموهمة من جانب آخر - أمكن للمسيرة أن تغذ السير بمعزل عن عواصف الفتن , وأن يتلاحم هؤلاء وأولئك في ولاء منقطع النظير .
موقع مجلة المنار الجديد
http://almana صلى الله عليه وسلم net/issues/10/5.htm
===============(9/70)
(9/71)
عولمة الثراء وفقر العولمة
احمد سعد
في مطلع التسعينات حاول منظرو الرأسمالية تسويق مقولة ديماغوغية مفادها ان الرأسمالية التي دخلت مرحلة العولمة، هي الخيار الوحيد للبشرية وتطورها الحضاري وحاملة مشعل الامن والاستقرار والازدهار الاقتصادي- الاجتماعي كونياً في ظل انتهاء مرحلة الصراع الايديولوجي عالمياً، خاصة وان الفكر الماركسي الطبقي والصراع الطبقي وبناء الاشتراكية قد انهوا رسالتهم التاريخية بالفشل الذريع ولا مكان لهم بعد!!
وقد بنى منظرو الفكر البرجوازي الامبريالي امثال فوكومايا وبيرجنسكي وغيرهما ارائهم النظرية بابعادها السياسية في خدمة النظام الرأسمالي العالمي بناء على عاملين اساسيين كانا بمثابة الخلفية الرئيسية لبلورة الطابع والمفهوم العصريين للعولمة بمكوناتها ومدلولاتها الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية والثقافية.
العامل الاول: دخول العالم في بلدانه الصناعية الرأسمالية المتطورة الموجة الثالثة من الثورة العلمية التقنية منذ مطلع التسعينات- الثورة الالكترونية، ثورة المعلومات والاتصالات. فالرأسمالية بفضل هذا التطور العلمي التقني ولا سيما في مجالي الاعلام والمعلومات، قد انتقلت الى مرحلة نوعية جديدة في تعاملها مع العالم بوصفه بنية موحدة، وهي اليوم بنية الاسواق المالية المتشابكة ورؤوس الاموال المعولمة والاستثمارات الكبيرة المدولة و اوسترادات الاعلام.
العامل الثاني، بانهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي والانظمة الاشتراكية في اوروبا الشرقية في مطلع التسعينات اجتاز النظام الرأسمالي العالمي مرحلة تمركز الانتاج والاستقطاب من اجل التوسيع في اطار الثنائية القطبية، وانتقل الى مرحلة سيادة العولمة وتعمقها لتصبح السمة المركزية للمنظومة الرأسمالية العالمية التي تقودها وتحدد مسارها الولايات المتحدة الامريكية.
وانطلاقاً من هذين العاملين يلجأ منظرو وساسة واقتصاديو الرأسمالية الامبريالية الحديثة الى تسويق المنظور الشامل للعولمة الذي يعني تذويب الحدود بين الدول وسهولة حركةالناس والمعلومات والسلع ورؤوس الاموال والاستثمارات المباشرة والتكنولوجيا والخبرات والمعلومات بين الدول لتحسين الاداء الاقتصادي العالمي من حيث التكامل الاقتصادي!! فلوكان هذا المفهوم هو حقيقة ما يتجسد على ارض واقع التطور في عالمنا وعلى ساحة العلاقات الدولية كلنا بصمنا بالعشرة، ولكن الواقع غير ذلك، فالعولمة بطابعها وجوهرها ومدلولها غير قائمة على قواعد ومباديء العدل والمساواة في التقسيم العالمي للعمل. ففي ظل الثورة العلمية التقنية الحديثة والدور الكبير للثورة المعلوماتية والاعلامية- الكمبيوتر الانترنت.. تستطيع البشرية اكثر من اي وقت مضى التحكم بالزمان والمكان، واكثر من اي وقت مضى الظروف مواتية موضوعية لوحدة الكون،ولكن جوهر وسياسة الرأسمالية واهدافها الطبقية والقائمة على الاستغلال والتمييز وبهدف تغذية مصالحها الانانية بجرف الارباح تجعل من العولمة عملية تجري في اطار التناقض الصارخ في المصالح بين محاور الامبريالية التي تشمل البلدان الرأسمالية الصناعية مالكة الثورة العلمية التقنية الحديثة وإنجازاتها المستثمرة وبين اطراف الرأسمالية من البلدان النامية الفقيرة المحرومة من انجازات الثورة العلمية التقنية ومن امكانيات استثمارها في تطوير اقتصادها الوطني واخراجها من هاوية الفقر والتخلف.
فمن المفارقات البارزة على ساحة العولمة انها جاءت تتويجاً لادخال التكنولوجيا الالكترونية ميدان الانتاج وتحقيق الوفرة المادية، ولكن الجانب الاخر لهذا "النجاح" هو افقار العالم الثالث وتوريطه في المجازر والمجاعات والمديونية التي تستنزف حيوية بلدانه ونهب خيراته من قبل الاحتكارات متعددة الجنسية وعابرة القارات. ففي ظل العولمة اتسعت الهوة في مستوى التطور بين البلدان الغنية (بلدان الشمال) والبلدان الفقيرة (بلدان الجنوب) قد تعمقت بشكل لم يسبق له مثيل، حتى وصل الوضع الى درجة وكأن قارات باسرها، خاصة القارة الافريقية، لم تعد قادرة على اللحاق بل ولا حتى على البقاء. فالتفاوت الصارخ في مستوى التطور يعكس نفسه في التهميش المتزايد لعدد كبير من بلدان العالم في نظام التجارة العالمية، التي صارت تتمركز اكثر فأكثر حول الاقطاب الرأسمالية الثلاثة- الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي واليابان- كما يعكس نفسه في اشكال السيطرة التكنولوجية بعد ان تحكم واحتكر عدداً قليلاً من البلدان الرأسمالية المتطورة بالتكنولوجيا البصرية وصار يحرم القسم الاكبر من الشعوب والامم من الاستفادة من نتائج البحث العلمي وتوظيفها في تطوير الانتاج ووسائله.
ان افتقار الدول النامية لعناصر القوة، لوسائل النهضة الاقتصادية من تكنولوجيا وخبرات جعلها تقع فريسة عولمة الفقر وفقر العولمة. والاخطر هنا ان البلدان النامية ليست لديها وسائل التأثير الناجع على مجرى العولمة.
والمعطيات التالية التي جمعناها من مصادر الامم المتحدة ومن مؤتمرات دولية تعكس الطابع الوحشي للعولمة ومأسيها.(9/72)
فمن الناحية الاجتماعية- الاقتصادية اتسعت الهوة بين الاغنياءوالفقراء بصورة مفزعة. ففي سبعينات القرن العشرين كانت هذه الهوة بين اغنى 20% من سكان المعمورة (من الدول الغنية) وافقر 20% منهم تقدر ب (30) ضعفاً ولكنها صارت 74 ضعفاً في العام 2001.
وزادت الفجوة في مجال الدخل الفردي ففي الدول الصناعية السبع الكبار بلغ دخل الفرد حوالي (20) ضعف الفرد في الدول الاكثر فقراً عام 1965 و 40 ضعفاً في عام 1995.
حسب معطيات الامم المتحدة يبلغ عدد سكان البلدان النامية في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية (4,6) مليار نسمة، من بينهم (826) مليون نسمة لا يجدون الطعام الكافي و (850) مليون انسان امي ومليار انسان لا يجدون مياه الشرب النقية و (2,4) مليار نسمة محرومون من الضمانات والصرف الصحي و (325) مليون طفل محروم من التعليم واكثر من (1,2) مليار لا يجد الفرد منهم دولاراً للصرف على حياته اليومية. في القارة الافريقية لوحدها اكثر من (16) مليون انسان يعاني من الجوع. مقابل هذه الصورة المأساوية فان الوحوش الكاسرة من الشركات متعددة الجنسية تفترس البلدان النامية وخيرات العالم، فحسب معطيات العام (2002) فان 40% من المبادلات التجارية عالمياً تقوم بها الشركات متعددة الجنسية وهي تمتلك 44% من قيمة الانتاج العالمي فيما تبلغ حصة افريقيا والشرق الاوسط وامريكا اللاتينية 4,6% من مجمل الانتاج العالمي!! وحسب معطيات البنك الدولي فان حجم الواردات والصادرات للبدان النامية في انخفاض مستمر، حيث انخفض من 6,7% عام 1991- 1993 الى 1,9 كما هو متوقع في العام 2004.
ومثال اخر: يستحوذ حوالي (360) مليارديراً عالمياً على ثروة بما يملكه (3) مليارات نسمة، اي حوالي ما يملكه نصف سكان العالم واكثر هؤلاء الاثرياء يعيشون في الدول الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية.
لقد ركزنا على احد جوانب ومظاهر ومدلولات العولمة على عولمة الثراء مقابل عولمة الفقر، فقر العولمة عملياً، وذلك للكشف عن الخلفية الطبقية- الاجتماعية والاقتصادية لاشكال الصراع الطبقي المختلفة على النطاق المحلي والكوني وتبلور العديد من الظواهر الجديدة على حلبة الصراع هذه في عالم لا يعرف الاستقرار وتمزقه الانقسامات والصراعات في ظل العولمة. ففي جوف هذه الخلفية يجب التفتيش عن المصادر الاساسية والعوامل الاساسية لانتعاش الحركات الاصولية وما يرافقها من تصاعد عمليات الارهاب عالمياً. ففي جوف هذه الخلفية تكمن عوامل ومصادر عولمة الارهاب والجريمة التي تنتهجها الامبريالية الامريكية وادارة بوش- تشيني- رامسفيلد للهيمنة عالمياً ولخدمه مصالح احتكاراتها عابرة القارات. في جوف هذه الخلفية تكمن دوافع الصراع وتناقضات المصالح بين محاور الامبريالية. في جوف هذه الخلفية تكمن ظاهرة مناهضي العولمة كظاهرة كونية اممية جديدة للصراع الطبقي.
المعطيات التي ذكرت تؤكد حقيقة ساطعة ان الرأسمالية في عهد العولمة وطابعها الممارس لم تجلب للانسانية لا الامن ولا الاستقرار ولا العدالة والمساواة، بل الاستغلال والتمييز التي تدعو اوسع الاوساط عالمياً لمواجهتها وتغيير طابعها باتجاه اقامة نظام دولي متوازن على قواعد العدل والمساواة وبرمجة عالمية لمساعدة الدول النامية النهوض من مقبرة التخلف والفقر والمجاعة.
=============(9/73)
(9/74)
عولمة الثقافة ..
الاختراق بعد إسقاط عناصر المقاومة الحضارية
لم تعد الثقافة اليوم كما كانت في الماضي خاضعة لوسائل تقليدية في النشر والانتشار وإنما اضحت متأثرة الى حد بعيد بالتكنولوجيا عامة والتكنولوجيا الاتصالية خاصة، هذه التكنولوجيا التي استطاعت القيام بالاختراق الثقافي، اي ان السيطرة اصبحت للتكنولوجيا، التكنولوجيا تحمل الثقافة، الثقافة محمولة عبر التكنولوجيا اذ بامكان التكنولوجيا بث الثقافة التي تريد.
ومن هنا جاء مصطلح «العولمة الثقافية» اي قدرة الثقافات الأقوى تكنولوجياً على السيطرة على الثقافات الأضعف تكنولوجياً اذ ان التكنولوجيا بدأت تلعب دوراً تأثيرياً بارزاً ليس على نطاق محلي فحسب وانما على نطاق عالمي. والعولمة الثقافية بصورة اوضح هي محاولة مجتمع تعميم نموذجه الثقافي على المجتمعات الاخرى من خلال التأثير على المفاهيم الحضارية والقيم الثقافية والأنماط السلوكية لأفراد هذه المجتمعات بوسائل سياسية واقتصادية وثقافية وتقنية متعددة.
وتهدف «العولمة الثقافية» الى زرع القيم والافكار النفسية والفكرية والثقافية للقوى المسيطرة في وعي الآخرين وعلى الأخص ابناء المجتمعات الغربية وفتح هذه المجتمعات «اختراقها ثقافياً» واسقاط عناصر الممانعة والمقاومة والتحصين لديها وبالمعنى الثقافي الحضاري اعادة صياغة قيم وعادات جديدة تؤسس لهوية ثقافية وحضارية اخرى لهذه المجتمعات مهددة لهويتها الحضارية بشكل جدي باتجاه فرض نمط ثقافي .
وهيمنة ثقافية معينة تنتجها مصالح الاقوياء وسيلتها الاساسية اداة اعلامية جبارة اصبحت قادرة على اعادة صياغة الاخلاق والقيم حتى العادات، واذا كان عالم النفس الاميركي الشهير «بوروس سكنر» قد اشار قبل عقود في كتابه الشهير «تكنولوجيا السلوك الانساني» في معرض نظريته التربوية الى امكانية ضبط سلوك الانسان الفرد «التعلم» بنفس الطريقة التي يمكن بها ضبط سلوك حيوانات السيرك مركزاً على دور الاسلوب المشوق والجذاب في ذلك الضبط الامر الذي اعتبر في حينه صدمة للكرامة .
والآن فإن العولمة الثقافية وعبر وسائل الاعلام وشبكات المعلومات كالانترنت وسواها اصبحت تمارس نوعاً من التحكم والضبط لسلوك الافراد والمجتمعات وبطريقة قسرية رغم بعض اشكالها الجذابة ولهذا لم يعد مستغرباً ان تمتلك بعض المحطات التلفزيونية الفضائية موارد تفوق ميزانيات بعض الدول النامية، او ان تصل ميزانية فيلم سينمائي الى مئات الملايين من الدولارات.
ان مراكز المعلومات وتكنولوجيا الاتصال هي التي تمتلك اليوم مفاتيح الثقافة، ولذلك نجحت الدول الغربية في نشر ثقافتها عبر المحيطات والقارات والترويج لأفكارها وقيمها الثقافية والاخلاقية والاجتماعية والسياسية على حساب اكتساح الثقافات الوطنية.
ويعتبر اكتساح الثقافات الوطنية نقطة رئيسية من ثلاث نقاط لتبيان آثار العولمة الثقافية حددها المفكر الدكتور برهان غليون في ندوة عقدت في القاهرة بعنوان «مستقبل الثقافة العربية» اذ قال بأن العولمة الثقافية تقوم بتعميم أزمة الهوية حيث يتضاءل مع تزايد الثقافات الاقوى في فضاء مفتوح وزن الثقافات الوطنية ونفوذها.
وفي هذا الصدد تجدر الاشارة الى تحذير المؤرخ الثقافي جورج ستينر من ان هذه الحضارة سوف تفرز تماثلاً كاسحاً يهدد الثقافات المحلية، ويعود مصدر معظم هذا التماثل الى صناعات الاعلان والترفيه والسينما فالأفلام والبرامج التلفزيونية الاميركية تباع على نطاق واسع في كل انحاء العالم، وتبلغ الآن جملة هذه المبيعات اكثر من 5 مليارات دولار سنوياً.
ولقد وصفت احدى الصحف الهندية وسائل الاعلام هذه بأنها «النمل الأبيض تقوض قيمنا وعاداتنا» والعولمة الثقافية لا تهدد البلدان النامية والصغيرة وانما تهدد ـ أيضاً ـ دولاً كبرى وهذه الدول تشعر بالخوف والقلق من انتشار الثقافة الاميركية في المجتمع الفرنسي لقد تساءل الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران قائلاً «هل تحقق قوانين المال والتكنولوجيا ما أخفقت الأنظمة الشمولية من تحقيقه؟».
ومعروف ان فرنسا قد تنازعت مع الولايات المتحدة الاميركية في موضوع «الجات» حول «الاستثناء الثقافي» لدرجة ان احد الاوروبيين تحفظ على النجاح الذي احرزه فيلم «الحديقة الجوراسية» للمخرج ستيفن سيبلرج لدرجة وصفه هذه الظاهرة بأنها «امبريالية ثقافية اميركية».
ان نسبة 60% من واردات صناديق التذاكر في دور السينما الفرنسية مصدرها أفلام اميركية معروضة، ولولا ان السلطات الفرنسية فرضت قانوناً تلزم بموجبه قنوات التلفزيون الفرنسي ان تعرض ما نسبته 60% من البرامج ذات المنشأ الاوروبي فإن من المؤكد ان البرامج الأميركية كانت ستسيطر على الشاشة الصغيرة سيطرة كاملة .(9/75)
وفي هذا السياق تجاوز الامر فرنسا الى البرلمان الاوروبي في حربه لمصطلح «العولمة» بمفهومها الاميركي اذ فرض البرلمان قيوداً شديدة على الافلام الاميركية التي تعرضها التلفزيونات الاوروبية وابدى البرلمان الاوروبي استغرابه من موقف بعض الدول الاوروبية التي ابدت ترددها في وضع قيود جبرية على الأفلام الأميركية خشية ان تشن الولايات المتحدة حرباً تجارية ضدها.
ويتزعم الحملة ضد أمركة الثقافة في اوروبا في البرلمان الاوروبي النائبة الايطالية «لوتشيانا كاستيلنا» التي تستند في شرعية حملتها الى احصاءات تقول: «ان من بين كل عشرة أفلام تعرض في قاعات السينما الاوروبية هناك ثمانية افلام اميركية بينما يعرض التلفزيون الاوروبي ستة أفلام اميركية من بين كل عشرة افلام» الامر الذي حقق للولايات المتحدة فائضاً تجارياً مع اوروبا بلغ (4) مليارات دولار في قطاع الترفيه.
اذا كان الاعلام الفرنسي يجد مسوغات كثيرة للخوف على الهوية الفرنسية من الهيمنة الانجلوسكسونية فإن العالم العربي لديه من المسوغات ما يفوق ذلك بكثير في ظروف التهديد الحضاري الشامل الذي يعيشه، وهنا لابد من التأكيد على ان رفض العالم العربي للغزو الغربي لا يعني الدعوة للانغلاق والتقوقع في اطر ضيقة ومحدودة في مواجهة ثقافة العصر.
وهنا يمكن ان يحصل تفاعل ثقافي بين الثقافات الانسانية في العالم، ويعتبر ضرورة موضوعية للاستجابة لتطورات المرحلة الراهنة عالمياً وذلك لاستمرار تقدم المجتمعات العربية ولتسليح الشعوب العربية بقيم ورؤى وافكار تمكنها من الابداع والمشاركة في صناعة ثقافة عالمية بشرط الا يطمس هذا التفاعل الخصوصية الثقافية والهوية الثقافية المتميزة للعالم العربي التي هي في الحقيقة محصلة لتطور تاريخي.
مما سبق نصل الى نتيجة مؤداها ان العالم العربي امام معادلة صعبة شائكة يتطلب حلها المحافظة على العناصر الايجابية في الثقافة العربية بما يدعم خصوصيتها وتعبيرها عن خبراتها التاريخية والانفتاح في الوقت نفسه على الثقافة العالمية بمكوناتها المختلفة ليس فقط في الغرب بل وفي الشرق أيضاً اذ هناك بالاضافة الى اوروبا توجد اليابان والصين وغيرهما.
ولكل منهما ثقافتها الوطنية المتميزة الحافلة بالكثير من القيم والمبادئ والافكار وفي الختام يمكن القول بأن عصرنا الحالي سيفرز العديد من الظواهر والمفاهيم والمصطلحات بالاستناد الى ردود الافعال او مواكبة الموجة الفكرية السائدة دون القيام بما هو ضروري للتقدم والتمعن في الآن نفسه للتفاعل الواعي والتلاؤم المحصن مع ما يستجد على الساحة العالمية.
ان الوضع الحالي تكنولوجياً وايديولوجياً يتطلب من شعوب العالم العربي كغيره من شعوب العالم السعي لامتلاك ناحية التقدم العلمي ومواكبة تطورات ومتغيرات العالم بشكل عملي منظم وعدم تضييع الوقت والجهد والورق في سجالات ونقاشات حامية الوطيس حتى لا يمر وقت كبير ليأتي مفكرون ليجدوا عقم السجالات الماضية ولا جدواها والندم لعدم اتخاذ خطوات عملية حاسمة في هذه اللحظة التاريخية.
==============(9/76)
(9/77)
عولمة المراة ..
قراءة في الايديوليجية النسوية الجديدة
لمشاهدة الصورة بحجم اكبر إضغط علي الصورة
عولمة المرأة أي جعلها كائنا عالمياً يمكن وصفه بأنه كائن فوق الحكومات أو كائن عابر للقارات.. ولجعلها كائناً عالمياً كان لا بد من عقد المؤتمرات الدولية وتوقيع المعاهدات والاتفاقيات العالمية التي تلزم الحكومات بحقوق هذا الكائن، وتمثل توصيات المؤتمرات الدولية والمعاهدات والاتفاقيات العالمية المرجعية العالمية الجديدة التي يمكن وصفها بأنها 'أيديولوجية نسوية' لها قوة الأيديولوجيات السياسية التي عرفها القرن الماضي ثم انهارت وخبت وماتت.
وكما كان يحدث بالنسبة للأيديولوجيات السياسية والفكرية فإن الأيديولوجية النسوية الجديدة يراد لها أن يكون معتنقوها في كل العالم وفي كل الدول والشعوب وفي كل الأعمال؛ فإنها الوسيلة الجديدة لغزو العالم وشعوبه، وهي الدين الجديد الذي يُراد للعالم أن يتوحد خلفه ويدين به : بيد أن الخطر في هذه الأيديولوجية والدين الجديد يكمن في أن الذي يُبشر بها ويدعو إليها هو النظام العالمي الجديد الذي حقق ما اعتبره انتصاراً نهائياً وعالمياً للفكر الغربي العلماني، ويريد أن يفرض هذا الدين والأيديولوجية بالقوة على العالم كله بحيث تكون هناك قوة عالمية واحدة ومرجعية كونية واحدة وإنسان عالمي واحد، وتنهار كل الحدود والقيود والحصون أمام هذه القوة العالمية الجديدة والمنفردة بحيث تصبح إرادتها ورغباتها ومصالحها مُسلَّماً بها ومُرحَّباً بقدومها بلا أي عوائق من الدين أو اللغة أو اللون أو الجنس أو القومية أو الثقافة. أي أن المرجعية الكونية الجديدة هي بديل لكل ما عرفته الأمم والأجناس البشرية من ثقافات وتاريخ وصراعات وأفكار؛ بحيث يغدو كل هذا ذكرى بلا قيمة ولا معنى، وتصبح القيمة والمعنى في المرجعية الكونية البديلة والجديدة التي يتحوَّل البشر جميعاً فيها عبيداً للإله الذي قررها، وهو النظام العالمي الجديد.
كما أن خطر هذه الأيديولوجية البديلة يتمثل أيضاً في اقتحام مناطق كان يُنظر إليها باعتبارها خاصة أو شخصية وينظم أوضاعها بشكل أساسٍ الدينُ والتقاليد والأعراف المحلية والثقافات الخاصة، أي أن الاقتحام والهدم لهذه الأيديولوجية ينال مناطق متصلة بالهوية والثقافة والوجود وهي محور الكيان الإنساني والوجود البشري. ويقف وراء هذه الأيديولوجية فكر شيطاني يريد أن يجعل من الأخلاق فوضى ومن الفاحشة شيوعاً وذيوعاً.
وتستمد النسوية الجديدة جذورها الفكرية من الماركسية الحديثة 'حيث تعتبر أن خطأ الماركسية القديمة هو اللجوء إلى الأساليب الاقتصادية لبناء مجتمع لا طبقي؛ بينما اللجوء إلى الأساليب الاجتماعية هو السبيل الوحيد لمجتمع خالٍ من الطبقات والميول الطبقية، وتمثل 'الأسرة' والأمومة في نظر 'الماركسية الحديثة' التي تستمد النسوية أفكارها منها تمثل السبب وراء نظام طبقي جنسي يقهر المرأة لا يرجع إلا لدورها في الحمل والأمومة.
وإذا كانت السنن الكونية الطبيعية عندهم هي التي اقتضت هذا الاختلاف البيولوجي فلا بد من الثورة على هذه السنن الطبيعية والتخلص منها بحيث تصبح الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة فروقاً اجتماعية متصلة بالأدوار التي يؤديها كلٌّ من الرجل والمرأة وليست متصلة بالخواص البيولوجية لكل منهما؛ ومن ثَمَّ فإذا قام الرجل بوظيفة المرأة وقامت المرأة بوظيفة الرجل فإنه لن يكون هناك ذكر وأنثى وإنما سيكون هناك نوع 'جندر' وهذا النوع هو الذي سيحدد طبيعة دوره في الحياة بحيث يجوز للأنثى أن تمارس دور الذكر والعكس، وبحيث لا تكون هناك أسرة بالمعنى التقليدي ولا أبناء ولا رجل ولا امرأة، وإنما أسر جديدة شاذة وأبناءٌ نتاج للتلقيح الصناعي؛ فأي فكر شيطاني ذلك الذي تتبناه 'النسوية الجديدة'؟! وأي قوة تجعل من الأمم المتحدة وأمريكا والغرب تتبنى هذا الفكر الشيطاني لفرضه على العالم؟!! إنها تعبير عن إرادة لا نقول علمانية وإنما إلحادية لتحويل الوجود البشري وجوداً بلا قيمة ولا معنى تنتفي معه العناية من استخلاف الله للإنسان في الأرض. وفي الواقع فإن هذا الفكر الإجرامي ليس خطراً على المجتمعات الإسلامية فحسب ولكنه خطر على الحضارة الإنسانية ذاتها؛ لكن المجتمعات الإسلامية تأتي في القلب من معتقد هذا المخطط الإجرامي البديل والجديد.
'عولمة المرأة'.
هو الجانب الاجتماعي والثقافي في 'العولمة' الذي تسعى الأمم المتحدة وأمريكا وأوروبا إلى فرضه على بقية العالم خاصة العالم الثالث. والتوصيات والوثائق التي توقع عليها الدول والحكومات الأعضاء في الأمم المتحدة تعتبر ملزمة لها، كما أن الأمم المتحدة تقوم بكل هيئاتها ومؤسساتها بتنفيذ ما جاء في توصيات هذه المؤتمرات الدولية ووثائقها بما في ذلك المراقبة والمتابعة لمدى التزام الدول والحكومات بها. كما أن المنظمات غير الحكومية الممثلة في الأمم المتحدة تمثل قوة ضغط في دولها لمراقبة التزام هذه الدول بقرارات الأمم المتحدة وتوصياتها ومتابعة ذلك، وهي في هذا تشبه 'جواسيس للأمم المتحدة' في دولها.(9/78)
ولا تكتفي الأمم المتحدة بذلك وإنما تعقد مؤتمرات مع الأطراف الحكومية والمنظمات غير الحكومية كل سنة أو سنتين للتأكد من الالتزام الحكومي بالمرجعية الكونية البديلة والخضوع للنظام العالمي الجديد؛ فهناك مؤتمر سنوي يطلق عليه مؤتمر السكان + 1 أو + 2 أو + 3 وهكذا حتى يأتي موعد المؤتمر الدولي القادم للسكان عام 2004م. وأيضاً بالنسبة لمؤتمر بكين[1] قد عُقد بكين + 4 في الهند وسوف يعقد مؤتمر للمرأة أيضاً عام 2005م أي بعد عشر سنوات من مؤتمر المرأة الذي عُقد في بكين، أي أن هناك آلية دولية لها طابع الفرض والإلزام والمتابعة تتدخل في الشؤون الداخلية للدول لتطلب منها الالتزام بما وقعت عليه؛ وهذه الآلية يمكن أن تمارس الإرهاب بفرض العقوبات الدولية على الدول التي ترى الأمم المتحدة أنها غير ملتزمة؛ كما أن هذه الآلية تمارس الإغراء بمنح معونات أو قروض أو ما شابه إذا التزمت بمقررات الشرعية الجديدة.
ومن ثَمَّ فإن ما يجري في مصر أو المغرب أو الأردن بشأن تغيير قوانين الأحوال الشخصية أو العقوبات هو جزء من الالتزام بالأجندة الدولية التي وافقت هذه الدول عليها في المؤتمرات الدولية وليس تعبيراً عن حاجة داخلية لشعوب هذه الدول. فحق المرأة في فسخ عقد الزواج، وحقها في السفر هي وأولادها بلا قيود، وحقها في المواطنة الذي يستخدم ستاراً لمساواتها مع الرجل في الإرث والطلاق وعدم الخضوع لسلطة أي رفض القوامة وإقامة علاقات ود وصداقة خارج نطاق البيت والعائلة، كل هذه القضايا كانت مطروحة باعتبارها جزءاً من أجندة دولية للتسليم بالدخول في طاعة النظام العالمي الجديد والإقرار بالالتزام بالدين النسوي البديل.
وفي الواقع فإن كل ما سيحدث في هذا الإطار سيكون مثل تأسيس 'المجلس القومي للمرأة' في مصر الذي يضم الوجوه النسوية المصرية التي تدعو للأيديولوجية الجديدة بلا خجل أو حياء.
وهذه الوجوه النسوية هي انعكاس للفكر الغربي النسوي؛ حيث تشعر تجاه المرأة الغربية بالنقص، وتشعر أن الالتحاق الفكري بها سوف يعوض هذا النقص لهن كما يبلغ النقص بهذه الوجوه حد كراهية الدين الإسلامي ونظمه الاجتماعية وقوانينه في الاجتماع والأسرة ؛ وهم في ذلك أشبه 'باللامنتمي' ومن ثَمَّ فهذه الوجوه تعبر عن حالة نفسية مرضية؛ ورفعها إلى مستوى التخطيط والحديث عن قضايا المرأة ليس سوى خضوع للقوى الدولية الخارجية التي تحب أن يعبر عن أوضاع المرأة في العالم الإسلامي النسوةُ اللاتي يرددن الأفكار الغربية ويبشرن بالأيديولوجية النسوية الجديدة.
هذه هي المفردات الجديدة والمقررات التي يسعى النظام العالمي الجديد لفرضها أيديولوجية كونية على العالم. وبالطبع فإنه يستهدف من وراء ذلك ضرب مواطن القوة في الحضارات المختلفة معه.
وبالنسبة للحضارة الإسلامية فلا يزال الدين الإسلامي يمثل مرجعية للناس ونظاماً لحياتهم خاصة في مسائل الأسرة والأحوال الشخصية وفي مسائل الفكر والثقافة والاعتقاد وهو ما يزعج الأمم المتحدة والغرب ؛ إذ إن المسلمين يمثلون ملياراً وربع مليار نسمة، والعالم الإسلامي بإمكاناته وثرواته وأهله يهدد النظام العالمي الجديد بفقدان سيطرته عليه ما بقي الإسلام حاكماً للجوانب الاجتماعية والثقافية وللهوية، ولذا لا بد من تسديد الضرب إلى الصميم للقضاء على الهوية الإسلامية وعلى النظم الاجتماعية التي أثبتت أنها القلعة التي حمت العالم الإسلامي من السقوط والانهيار، ولذا فإن الصراع مع الغرب انتقل من السياسي والاقتصادي إلى الديني والثقافي والاجتماعي المتصل بالهوية والوجود؛ وهو ما يتطلب وعياً جديداً وأدوات جديدة ؛ كما يتطلب يقظة ومقاومة.
إن الإنسان: الرجل، والمرأة، والأطفال، والأسرة هم المقصودون بالهجمة العالمية الجديدة وهم المقصودون بالمرجعية الكونية البديلة للنظام العالمي الجديد؛ وعلى عالمنا الإسلامي أن ينتفض ويستيقظ ؛ فإن وجودنا مرتبط بمدى ارتباطنا بكلمة: 'مسلمين' اسماً وفعلا ً؛ وإلاَّ فالاستبدال كما قال تعالى : [[ وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ]]
============(9/79)
(9/80)
عولمة الجمال في زمن الوجوه الناعمة
لمشاهدة الصورة بحجم اكبر إضغط علي الصورة
* ظاعن شاهين
يبدو أن هوس الرشاقة الذي بدأ يجتاح العالم لم يستثن أحداً، فأخذت رياحه تقتلع الأخضر واليابس، المتمدن من الشعوب والأخرى التي تقف آخر الطابور، جميعها اشترك في هم واحد هو البحث عن الرشاقة والجمال.
وأمام هذا الانفتاح الفضائي الذي قرّب البعيد وجمع الشامي على المغربي، وفتح الحدود أصبح الجميع يدورون في فلك واحد، فها هم اليابانيون الذين يقدّسون العمل ولا يعيرون اهتماماً للأمور الأخرى أضحوا في ظل الاهتمام العالمي بمعايير الجمال والرشاقة يرصدون أوقاتاً طويلة للاهتمام برشاقتهم لأن رياح العولمة هبّت على كل ما هو تقليدي!
وفي نيجيريا أحدث فوز أغباني داريغو بمسابقة جمال الكون ثورة في مفاهيم الجمال الافريقية، فلأول مرة تقبل المجتمعات الافريقية فكرة المرأة ذات القوام الرشيق، فمع أن أغباني تنتمي إلى قبيلة كلاباري التي تعتبر السمنة وكبر الأرداف علامة من علامات الجمال وتدل على الموقع الاجتماعي إلا أن فوزها أحدث تغييراً جذرياً في الطريقة التي يرى فيها هؤلاء علامات الجمال.
وكان نجاح أول متسابقة افريقية في المسابقات دافعاً لاستغلال فكرة المرأة النحيفة، حيث أصبح بإمكان النيجيريين استخدام العبارة التي كانت تعتبر عيباً في لغاتهم المحلية، ومن هنا انتشرت كلمة ليبا التي تعني المرأة النحيفة، وقامت صناعة السينما باستخدامها وتسخيرها في فيلم حقق نجاحاً في معظم الدول الافريقية حمل عنوان «ليبا شاندي» والذي يعني فتاة نحيفة مثل ورقة العشرين نيرة عملة نيجيريا.
لقد كانت المرأة النحيفة ولوقت قريب عاراً يتحاشاه الجميع فهي تعني انها مريضة أو تعاني من مرض الايدز، اما الآن فتبدلت المعايير وتغيرت نظرة المجتمعات الافريقية للمرأة النحيفة، فلو كانت الفتاة نحيفة لا داعي للخجل والتواري خلف الأبواب المغلقة..
ورغم ذلك هناك قيود في بعض المجتمعات لا فكاك منها كما هو الحال في النيجر، ففي هذه الدولة التي تعد من أفقر الدول الافريقية ويعيش معظم سكانها تحت خط الفقر، فإن حلم الفتاة ليس تخفيف وزنها، بل زيادته لكي تكون محط أنظار المجتمع الذي يقدس السمنة، ولهذا الأمر تعقد للسمنة كما للأزياء عروض ومهرجانات.
وفي اليابان، وفي ظل عولمة الرشاقة، تسيطر العقاقير الصينية على عقول اليابانيين بشكل كبير حيث تحظى بشعبية منقطعة النظير لأنها أكثر طبيعية كما يعتقدون.
ويبدو ان هؤلاء المهووسين بالرشاقة يطبقون شعار المرحلة الذي يشير إلى نحافة أكثر وأكثر كما يقول جين كوماكي الطبيب في المعهد القومي الياباني للصحة العقلية، والذي يضيف بأن المسألة تتعلق بالشكل الجمالي أكثر من كونها مشكلة صحية، خاصة وأن عارضات الأزياء وفتيات أغلفة المجلات صرن بأجسامهن النحيلة الموضة السائدة في اليابان.
ورغم أنهم في عيون الآخرين يتمتعون برشاقة إلا أن اليابانيين زاد وزنهم على المعتاد نتيجة شيوع الطعام الغربي، حيث كشف مسح أخير ان 40 في المئة من الرجال اليابانيين و49 في المئة من اليابانيات يشعرون بزيادة في الوزن.
وإذا ما تركنا الرشاقة والأجسام النحيفة المرسومة رسماً نجد أن هناك معايير أخرى بدت تظهر في زمن العولمة وهي الاهتمام بالجمال حتى باتت معاهد الجمال تفوق المطاعم في بعض البلدان، فالمرأة الجميلة ولو كان مستواها المهني متواضعاً تسرق الوظيفة من أختها ذات الجمال العادي، فالدراسات تشير إلى سيطرة المرأة الجميلة وحصولها على نصيب الأسد، رغم قلة إنتاجيتها مقارنة بالأخرى ذات الجمال المتواضع، ومثل ذلك الأمر ينعكس أيضاً على الزواج والتواصل مع الآخر.
من هنا وبعيداً عن المرأة النحيفة أو أختها المكتنزة المتعافية، وفي ظل هذا العالم المفتوح الذي يسيطر عليه الذوق البصري والذي يعتمد على توظيف وتكريس مفاهيم معينة من بينها الوجه الجميل للأنثى نجد أننا نعيش في عالم المقارنات وبشكل مثير وفاضح، فأنت وبشكل لا إرادي تقارن بين من تعرفه وتتعاطاه يومياً، وبين تلك الوجوه المنحوتة بالجمال المثير التي تطل عليك دون استئذان من خلال الفضائيات والمجلات والأسواق وبأمر من رجال الاعلان وسوقه المشحونة بالاثارة.
لقد تنامت السوق التجميلية وتضاعفت بشكل خيالي، وأصبحت عمليات التجميل لا تقتصر على النساء فقط، بل تعدتها فاقتحمت عالم الرجال أيضاً، فإذا كان الرجل يبحث وبشكل لاهث عن المرأة صاحبة الجمال المتألق، فمن حق المرأة أيضاً ان تحدد مواصفات شريك حياتها الذي ستقترن به، وأن تراه وسيماً رشيقاً يعتني بنفسه وصحته وأناقته.
واذا كانت الأرقام الغربية تشهد زيادة متنامية بين الرجال الذين اقتحموا صالونات وعيادات التجميل التي كانت الى وقت قريب حكراً على النساء، فإن الأرقام هنا على تواضعها تشكل أيضاً اهتماماً بهذا الجانب.(9/81)
ويبدو ان رجال ونساء هذا الزمن سيصبحون تركيباً بعد ان شد الرجال وجوههم وجفونهم ووردوا خدودهم، وبعد ان زرعوا شعورهم او استبدلوها بشعور جديدة، وبعد ان اعتمدت النساء على التقنية السحرية التي تسمى السيليكون، فنفرت الصدور، وفغرت الشفاه.
انها عولمة الجمال التي هبت رياحها فاقتلعت الوجوه القديمة واستبدلتها بأخرى جديدة ناعمة الملمس.. وإذا كان هناك من نصيحة فهي للرجال والنساء الذين طرقوا أبواب الزواج.. احذروا قبل ان يجد كل واحد منكم قطع الغيار المزيفة في صاحبه!
=============(9/82)
(9/83)
العولمة الإعلامية تمثل قيمة اقتصادية متنامية
*د. حسن بشير
عولمة الرسالة الإعلامية أهم تطور إعلامي في العقدين الأخيرين لكن خارج البلدان العربية
كثيراً ما نسمع اليوم عن ظاهرة «العولمة» ونتائجها وآثارها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا يمكننا أن نغض النظر عما يجري تحت مظلة هذه الظاهرة العالمية حتى وان كنا ممن يخالفون اوممن لا يؤمنون بالعولمة كظاهرة أخذت تضع بصماتها حتى على ما يمارسه الافراد يومياَ ناهيك عن المجتمعات التي انجرّت وراء هذه الظاهرة العالمية.
أما عن الاعلام، فما هي العلاقة بين العولمة والاعلام؟ هل ان الاعلام العالمي تأثر بالعولمة؟ أم ان العولمة هوانعكاس لظاهرة الاعلام العالمي الذي حمل الرسالة السياسية والاقتصادية والثقافية عبر وسائله التقنية؟
الحقيقة هي ان كلا الظاهرتين متلازمتان لا يمكن أن ينفكّ احدهما عن الاخر على الاقل في عالمنا المعاصر الذي طوى شوطا من الزمن توسعت فيه دائرة العولمة من ناحية وكثرت وتشعّبت وسائل الاعلام فيه من ناحية اخرى.
العولمة أثّرت وبحد كبير على الانشطة الاعلامية في عالمنا المعاصر ولا تخلو اليوم أية ظاهرة من ظواهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الاّ ولعبت فيها وسائل الاعلام دوراً يكاد أن يكون الاهم حتى بالنسبة لما تحتويه هذه الظواهر من معنا في المجتمعات المختلفة.
والدكتور ابو العينين يحمل شهادة الدكتوراه في الاعلام من جامعة الازهر عام 1986 وهو الان عميد كلية الالسن والاعلام في جامعة مصر العربية ورئيس قسم الصحافة ومستشار التدريب الاعلامي بمعهد الاهرام الاقليمي للصحافة. وقد انتج بجانب الابحاث المختلفة والكثيرة في المجال الاعلامي، كتبا منها:
«مقدمة في وسائل واساليب الاتصال (1987)»، «الوظيفة الاخبارية لوسائل الاعلام (1991)»، «الاتصال وبحوث التأثير (1995)»، «الصحافة العالمية: مسح لوسائل الاعلام في العالم (1993)، «قوانين الصحافة في الانظمة الاعلامية المعاصر (1996)».
في مقدمة كتابه أكّد البروفيسور ابو العينين ان الكثير من الباحثين يعتقد بأن عولمة الانشطة الاعلامية «تمثل أهم تطور أعلامي في العقدين الاخيرين من القرن الماضي. وأن هذا التطور سوف يحدد مسار هذه الانشطة طوال سنوات القرن الحالي، فضلاً عما يمثله ذلك من أهمية وتأثير في انظمة الاعلام الوطنية في دول العالم». ولكن هناك ايضا ملاحظات مهمة في هذا المجال لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار وهي:
اولاً: ان عولمة النشاط الاعلامي لم تتحقق بعد بالصيغة التي ربما تكون قد استقرت لدى الكثيرين. ثانياً: ان ما تحقق عينياً هوعولمة الرسالة الاعلامية بفضل سقوط الحواجز وهي ظاهرة «تقنية» اكثر من كونها ظاهرة سياسية أو ثقافية على الرغم من تأثيراتها السياسية والثقافية.
ثالثاً: ان درجات استجابة الانظمة الاعلامية الوطنية للتغييرات التي تفرضها عولمة صناعة الاعلام متفاوتة الى حدود بعيدة، الامر الذي ينفي بشدة حقيقة أن تكون العولمة سمة أساسية لانشطة وسائل الاعلام عبر مناطق العالم المختلفة في الوقت الراهن.
رابعاً: ان عولمة النشاط الاعلامي، حيث توجد الان، ليست ظاهرة حديثة تنتمي للعقدين الاخيرين من القرن الماضي، ولكنها تعبير عن تطور تاريخي تمتدّ جذوره الى القرن التاسع عشر، وان كانت خطاها قد تسارعت في الربع الاخير من القرن العشرين.
وقد كشفت الممارسات المختلفة في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين عن دورين اساسيين قامت بهما وسائل الاعلام في المنظومة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العالمية، وهوالدور الاقتصادي حيث تلعب فيه وسائل الاعلام دوراً مهماً. فقد أصبحت العولمة الاعلامية تمثل قيمة اقتصادية هائلة ومتنامية وبخاصة في ظل اقتصاد المعلومات الذي أصبح ألسمة الاساسية للاقتصاد العالمي، حيث بلغت استثمارات صناعة المعلومات تريليوني دولار عام 1995، وفي نهاية القرن (عام 2000) بلغت 3 تريليونات دولار سنوياً بعد ان كانت هذه الاستثمارات لا تتجاوز 350 مليار دولار عام 1980، وثانياً الدور الايديولوجي الذي يوفر بيئة معلوماتية وايديولوجية لدعم الاسس السياسية والاقتصادية والمعنوية لتسويق السلع والخدمات وتطوير نظام اجتماعي قائم على تحقيق الربح عبر الثقافات الوطنية المختلفة. والكتاب يحتوي على اربعة فصول اساسية. في الفصل الاول حاول المؤلف أن يستوعب مفهوم العولمة في بحوث الاعلام. فهذا المفهوم باعتقاد توسوفي كتابه المعروف «الامبراطورية الاكترونية: الاعلام العالمي والمقاومه المحلية» (1998) يمثل أحد المفاهيم الحديثة في الدراسات الاجتماعية بوجه عام بالرغم من كونه مفهوماً اقدم بكثير في مجالي الدراسات الاعلامية والتجارة الدولية والدراسات الاجتماعية.
وبصورة عامة فان دراسات العولمة في العلوم الاجتماعية تتسم بالتركيز على ظاهرتين اساسيتين، تحتل وسائل الاعلام ـ وخاصة التلفزيون ـ فيهما مكانة متميزة:
اولاً: الوسائل التي يسّرت بها الشركات متعددة الجنسيات عولمة رأس المال والانتاج.(9/84)
ثانياً: الثقافة العالمية الناتجة عن ظهور نمط من الشركات متعددة الجنسيات يمتلك ويهيمن على وسائل الاعلام الجماهيرية مما سبب ظهور نمط من الثقافات والايديولوجيات ذات التوجه الاستهلاكي.
وتخضع أدبيات البحث في ظاهرة العولمة ايضاً للعديد من التصنيفات تؤكد بعضها على انها أحادية السبب mono-causual والاخرى متعددة الأسباب multi-causual ويرى المؤلف ان هناك تصنيفاً آخر اكثر ملائمة لتقديم شروح أفضل لظاهرة شديدة التعقيد مثل العولمة وهو تصنيف رباعي يرتكز على تمايز الاتجاهات التالية:
اولاً: مدخل النظم العالمية The Wo r ld System App r oach وهويبنى على التمييز بين دول المركز وشبه المحيط والمحيط من حيث طبيعة دور هذه الدول في تقسيم العمل الدولي الخاضع لسيطرة النظام الرأسمالي العالمي.
ثانيا: النموذج الثقافي العالمي Global Cultu r e Model ونشأ هذا النموذج من البحوث التي تناولت عولمة الثقافة. ويهتم هذا المدخل بالمشكلات التي تسببها ثقافة متجانسة مرتكزة على وسائل الاعلام، وبخاصة التلفزيون، للهويات الوطنية.
ثالثا: نماذج المجتمع الدولي: Global Society Models ويعتقد اصحاب هذه النماذج بأن المجتمع العالمي ـ تاريخيا ـ قد اصبح حقيقة في العصر الحديث فقط، وأن العلم والتقنية والصناعة والقيم العالمية المتنامية أوجدت عالما مختلفاً عن اي عصر من عصور الانسان السابقة. رابعاً: مدخل الاقتصاد السياسي: Political Economy ويرتكز هذا المدخل على افتراض ان ديناميكيات الصناعات المنتجة للثقافة يمكن فهمها في ضوء الحتمية الاقتصادية. وينتمي هذا التوجه الى الغلاة من الماركسيين اللذين يعتقدون بأن ظاهرة العولمة هي نتاج هيمنة القوى الرأسمالية على التطور الاجتماعي والثقافي السائد عالمياً. وفي هذا المجال تمثل وسائل الاعلام ركناً اساسياً في تفسير هذا المدخل لظاهرة العولمة.
وفي الفصل الثاني حاول المؤلف أن يعكس رؤية تاريخية لمراحل عولمة النشاط الاعلامي كمحاولة لفهم الواقع الذي تنطوي عليه هذه الظاهرة ودلالاتها الاقتصادية والسياسية وتأثيراتها المستقبلية.
وينطلق نقاش المؤلف من افتراض اساسي في هذا المجال وهوأن هناك «ثمة علاقة وثيقة ربطت بين عولمة النشاط الاعلامي وتصدير الرأسمالية التجارية عبر تطورهما التاريخي، وأن تلك العلاقة هي التي تحكم التطورات الراهنة والمستقبلية في صناعة الاعلام من دون أن ينفي ذلك تدخل عوامل اخرى». ويدعم هذا الافتراض العوامل التالية:
1) التزامن بين ظهور النشاط الاعلامي خارج الاسواق الوطنية الرأسمالية وتصدير الرأسمالية الصناعية والتمدد التجاري في الاسواق الخارجية.
2) الاختلاف الموجود في عولمة الانشطة الاعلامية التي تطرح على الصعيد العالمي وتنعكس في الانظمة الاعلامية الوطنية الغربية.
3) خضوع اكبر نسبة من الانشطة الاعلامية الدولية لعدد من الشركات العالمية العملاقة ونموالشركات الاعلامية العالمية تبعاً لنموتلك الشركات.
4) وحدة العمل والمنشأ للشركات العالمية العملاقة مما يشير على انسجامها في الاصعدة المختلفة.
5) تماثل التوزيع الجغرافي للمستوى الذي تحقق من عولمة الانشطة الاعلامية مع توزيع الاستثمارات التجارية والصناعية للشركات العالمية متعددة الجنسيات مما يدل على انهما حقيقة واحدة.
6) الاختلاف في تأثير النشاط الاعلامي عبر الوسائل الاعلامية المختلفة. فصناعة التلفزيون مثلاً هي الاكثر تأثراً بسياسات العولمة.
ويستخلص الدكتور ابوالعينين من هذا الافتراض نتيجة مهمة وهي «ان الطابع التاريخي لظاهرة العولمة ينفي عنها صفة الاستمرار باعتبارها مرحلة تاريخية مرتبطة بالقوى الداعمة لها مما يفسح المجال امام العوامل الوطنية سياسية كانت ام اقتصادية ام ثقافية، للتعامل مع هذه الظاهرة» وهذا يعني من جهة اخرى ان عولمة النشاط الإعلامي ستزول اوستتغير اذا تغييرت معالم التجارة العالمية وان تكامل الاقتصاد الوطني سيلعب دوره في تعديل الانشطة الاعلامية لصالح الشعوب خلافاً لما تريده الشركات العالمية المتعددة الجنسيات.
وفي الفصل الثالث يستخلص المؤلف حقيقة مهمة في تجارب الثمانينيات والتسعينيات حول الاعتبارات الجيوبوليتيكية المؤثرة على عولمة النشاط الاعلامي، ويرى بأن قوى السوق قد أصبحت الوسيلة العالمية الاساس لتنظيم الانشطة الاتصالية، وأن المبادئ والقيم غير المرتبطة بقوى السوق يتناقض دورها في تنظيم صناعة الاتصال. وبالرغم من أهمية هذه الحقيقة في تنظيم العلاقة بين السوق العالمية وعولمة الاعلام فان الاعتبارات الجيوبوليتيكية تؤثر تأثيراً جاداً في تنظيم هذه العلاقة. فهذه العلاقة لا تعمل بدرجة واحدة عبر مناطق العالم المختلفة متأثرة بالاعتبارات الجيوبوليتيكية وآثارها في المراحل المختلفة. ولأهمية هذه الحقيقة فان الاستراتيجية الجديدة للشركات العالمية هي أن تصل الى قطاعات معينة من السكان داخل الاسواق الوطنية، أن الوصول الى هذه القطاعات تبدو وكأنها المسؤولية الحقيقية لوسائل الاعلام العالمية.(9/85)
ففي الاقطار العربية على سبيل المثال، يعتقد المؤلف بأن العوامل السياسية هي المحدد الرئيسي لمدى استجابة الاعلام العربي للتحديات التي تفرضها عولمة الانشطة الاعلامية. فلا يخلواي قطر من هذه الاقطار من هيمنة الدولة على واقع الاعلام ومستقبله مما تحدّ كثيراً من خطى الاعلام العربي للتفاعل مع الانشطة الاعلامية العالمية.
وبحث المؤلف في الفصل الرابع والأخير تأثير العولمة على اتجاهات البحث الإعلامي وصنّف بحوث الاعلام المرتبطة بقضايا العولمة الى تيارين اساسيين:
1) تيار يحاول رصد التغييرات التي جاءت بها الانشطة الهادفة الى عولمة صناعة الاعلام وتأثيراتها.
2) تيار يحاول رصد تأثيرات تقنية الاتصال الحديثة على صناعة الاعلام.
فعلى الرغم من اهتمام بحوث الاعلام برصد الخطوات التي قطعتها صناعة الاعلام في سبيل تحقيق سوق عالمية للانشطة الاعلامية المختلفة، ولكنه يمكن رصد العديد من الدراسات خلال سنوات التسعينيات التي تمثل تياراً مناهضاً لظاهرة عولمة الانشطة الاعلامية وتقسيم هذه الدراسات الى اتجاهين:
الاتجاه الاول: وهو اتجاه يبدي الكثير من التحفظات على عولمة الانشطة الاعلامية التي يتم من خلالها تجاهل المصالح الوطنية، وانهاك اقتصادات الطبقات الوسطى في المجتمع، واضعاف قدرات المجتمعات المحلية على الابداع والابتكار في ظل المنتجات الثقافية الجاهزة التي تقدمها وسائل الاعلام الى الجمهور. ولكن المؤلف يؤكد على ان تأثير هذا الاتجاه ضعيف في مواجهة قوى العولمة وما تحققه يوماً بعد يوم على أرض الواقع.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي يقبل بوجود عولمة الانشطة الاعلامية مدفوعة بدوافع الربح المادي.
وهذا الاتجاه هو أقوى الاتجاهات المناهضة لعولمة الانشطة الاعلامية سواء في مجال البحوث أم في مجال التحركات الاجتماعية الفعلية.
* باحث عراقي
=============(9/86)
(9/87)
المرأة وغاية عولمة طموحاتها اللافطرية
المرأة التي هي أم وأخت وزوجة من يستطيع أن ينكر دورها الإيجابي والضروري والمشرق في الحياة؟ فإذا كانت المرأة بهذه الأهمية فلماذا يبادر الرجل دائماً لوضعها في موقع أدنى منه دون وجه حق أو عدل فيحاول أن يسلعها لصالح نزواته وغطرسته في مجتمع عالمي ذكوري ما زال يدان لحكم الرجل المصنف بأنه الأقوى من المرأة؟
مثل الأسئلة الآنفة في ظل ظروف نشر مبدأ العولمة تطرح اليوم بقوة وإلحاح ولكن الإجابة عنها ما تزال تدور في حلقة اللاإجابة الشافية، ولعل في نظرة إلى الجذور الفكرية التي كانت سائدة في العلاقة بين المخلوقين البشريين (الرجل والمرأة) توّصل إلى أنه رغم الاعتراف بأن أحدهما لم يستطع الاستغناء عن الآخر بحكم تمثيلهما تعطي استمرار الحياة البشرية والإنسانية إلا من الغريب أن تصل نزعة العداء لحقوق المرأة الموضوعية في نفس الرجل في بعض مراحل التاريخ إلى وأدها جسدياً ولكن في ظل الظروف المعاصرة فإن هذا الوأد قد تحلو إلى وأد روحي لها الذي يكاد أن يكون مذهباً... اجتماعياً في أنحاء البلدان دون استثناء حيث مفتاح إغواء المرأة عبر التمتع بجسدها من قبل الرجل أمر ميسور في العديد من الأماكن اللاهية والملهية حتى لتكاد أن تصبح المواخير التي تجيزها العديد من الحكومات مقرات للاستثمار السهل وهذا التواصل في التخريب الروحي للمرأة أولاً باعتبارها (ضحية) منعكس تماماً على تخريب روحية المجتمعات أيضاً بيد أن أكثر ما يخشاه طالب الزواج (الفحل) إذا جاز التعبير بهذا أن تكون الفتاة التي يطلبها شريكة حياة له قد تنازلت عن شيء من عفتها الجسدية مع علمه جيداً أن أصناف من الرجال من طالبي الزواج يقومون بتسليع ممارسة الغواية مع المرأة قبل الزواج متناسين أنهم مسؤولين معنوياً أمام المجتمع السوي بأنهم أفراد سيئين يطلبون المرأة العفيفة وهم طرف جناية الإغواء أو الاستغلال مع غيرها.
أن تغيير طبيعة النظرة نحو المرأة يفضل أن تتجه من التفكير نحو آدميتها وبناء سويتها وحفظ عفتها ولكن عموم التلفزات الغربية تخاطب الغرائز الجنسية السلبية بطرق علنية - بالصوت والصورة - فقد أظهرت دراسة بريطانية حديثة أجرتها لجنة معايير البث واللجنة التلفزيونية المستقلة ومحطة إعلام B.B.C أبانت فيها: (أن معدل المشاهد الجنسية زاد بأكثر من الضعف، وتحديداً من (6%) إلى (14%) منذ سنة 1999م) وطبيعي فإن لمشاهد العري والجنس تأثير سلبي على نشر الفساد والإفساد ليس داخل المجتمع بل حتى بين جدران بيت العائلة.
إذ تشر الأخبار المتناقلة أن علاقات شائنة يقترفها الذكور في العائلة الواحدة ضد الإناث فيها وهذا ما يشكل عادة صدمة كبيرة للعوائل إينما كانت ومع أن هذه الحالة أصبحت تتنافى في بعض البلدان التي لا يتحكم فيها (الدين) فإن من الحالة الإيجابية التي يتطلع لها الناس في كل مجتمع هو أن تعيش العوائل ضمن أسس طموحاتها الفطرية حيث الزوج لزوجته والعكس صحيح أيضاً.
وإذ يبقى الرجل أكثر انجذاباً نحو المرأة بحكم فطرته وخلقه كـ(ذكر) إلا أن توظيف مشاعره ينبغي أن توظف لصالح علاقة سوية تنتهي بتأسيس أسرة معها ففي فرنسا الآن توجد (1.5) مليون امرأة يتعرضن لسوء المعاملة جسمياً وجنسياً ونفسياً على أيدي أزواجهن أو شركائهن، وهذا يعني أن وراء هذا العنف (1.5) مليون رجل).
وطبيعي ففي ظل ظروف سياسة العولمة المعاصرة التي أخذت تجرف كل شيء بما في ذلك تشتيت طموحات المرأة الفطرية قد دفعت لإنشاء مراكز للمساعدة القانونية للمرأة لملاقاة الإساءات المتعمدة التي تقترف ظلماً بحق المرأة ولما كان موضوع السوية مطلوباً لكل رجل وامرأة فمن جانب موضوعي ينبغي تسهيل أمر الطلاق بين الزوجين إذا ما وجد شيوع خلل أخلاقي عند أحدهما أو كليهما، وذلك من أجل أن تستمر عجلة الحياة على إيقاع سويتها لا ضياع معنويات أفرادها.
إن نهج العولمة الغربية الذي أخذ يجتاح الكون الأرضي يحتاج إلى وعي محيط يدرس بما يمكن أن يكون العالم عليه من حياة غير قويمة لو فتحت المرأة أو منح الرجل حرية زائفة، وعلى اعتبار أن المرأة هي المخلوق الأضعف في معادلة الحياة قياساً لما للرجل من امتيازات غير محقة له في مجتمعه الذكوري بامتلاك قوة ووسائل الاستبداد الاجتماعي والسياسي فإن على الجميع ممن تهمهم أن تكون الحياة جميلة حقاً أن ينتبهوا لكل ما يحاول منه تجريد المرأة من طموحاتها الفطرية في بناء أسرة سعيدة حقاً، فمن نقطة سوية المرأة تشيد الحضارة الإنسانية.
* النبأ
==============(9/88)
(9/89)
ابو يعرب المرزوقي الوجه العرضي من العولمة
ليست العولمة مشكلاً كونياً بل هي مرض أوروبي عربي لم يَرْقَ إلى إدراك الإشكالية الميتافيزيقية التي تتعلق بضروب الكونية. لكن العلل التي جعلتهم يتصورون هذه العولمة ظاهرة مطلقة فلا يثيرون إشكالية شرط تجاوزها ولا يبحثون في الأساس الميتافيزيقي لهذا الضياع الإنساني، تعود إلى كون النخب في هذه البلاد لم تتكيف في الإبان مع هذه العولمة ولم تبحث في جوهر المشكل. إنه أمر خاص بنخب فاشلة وليس بحثاً في طبيعة الإشكالية في ذاتها. والنخب العربية قد غاب عنها مميزات العولمة الأساسية التالية:
أ_ فالنسبة بين إطلاق العولمة الإمكاني وحصولها الفعلي كالنسبة بين العلم الحقيقي والعلم الخيالي. فبحكم العولمة الوهمية أصبح البشر يعيشون في ما يمكن أن يسمى بحقيقة الإمكان التوهمي.
ب_ ذلك أن العولمة الحاصلة فعلاً لا تشمل كل الأمم بالصورة نفسها أولاً (أكثر من أربعة أخماس البشرية لا يرون منها إلا السلوب) وهي لا تشمل فئات الأمة نفسها بالصورة نفسها ثانياً (جل فئات المجتمع المتقدم متخلفة) بل هي لا تشمل الشخص الواحد بالصورة نفسها أخيراً، إذ إن وسائل العولمة تناسب إدراكه العقلي للكلي الذي كان دائماً موجوداً دون حاجة إلى هذه الوسائل وتنافي إدراكه الحسي للجزئي الذي يبقى دائماً محدوداً بمقاس الإنسان. فلا يمكن أن يتسع حس الشخص الواحد فيشمل ما تُمَكّن منه وسائل الاتصال عن بعد مثلاً إلا بالتناوب فيكون في كل مرة منحصراً في ما كان فيه منحصراً دائماً ولا يكون التوسع إلا وهمياً لكونه مقصوراً على ما يمكنه منه من أصبح يختار بدلاً منه ما تراه الكاميرا لتنقله إليه مع ما يصاحب ذلك من تزييف وتلاعب بالحقائق لا حد لهما.
ج_ وإذن فلا بد من التمييز بين العولمة الفاعلة والعولمة المنفعلة. ذلك أن العولمة تكون بهذا المعنى أمراً لم يخل منه التاريخ الإنساني قط: فكل لحظات التاريخ الإنساني كانت كونية أي أنها تشمل عولمة عصرها الفاعلة إيجاباً وفعلاً، وتعود إلى من بيدهم الأدوات التي تمكنهم من فرض خاصهم على الآخرين ليكون عاماً وهي تشمل عولمة عصرها المنفعلة سلباً وانفعالاً، وتعود إلى كل من يستسلم لهذا الفرض تسليم اندماج أو تسليم هروب إلى الخصوصية، إذ الصراع الوحيد الممكن في التاريخ الكوني كان ولا يزال الصراع بين ضروب العولمة أو إن شئتم بين الصور النموذجية للإنسان في الحضارات المختلفة: أي النماذج التي تسعى الحضارات إلى تحقيقها في التاريخ وتلك هي طبيعة الحضارة. والمعركة اليوم هي بين النموذج الاستخلافي الذي نمثل بذرته التي لم تكتمل بعد والتقاء النموذجين الأدنى منه والأسمى المزعومين، أعني التقاء الشرق الأقصى والغربي الأقصى.
د_ لكن نُخبنا أصبحت تدعي أن العولمة أمر من طبيعة واحدة وأن هذه العولمة هي التي تنتج عن الحتمية الاقتصادية وإنها أمر لا انفكاك عنه. ولأن هذه النخب لم تحدد طبيعة العولمة تحديداً دقيقاً، فقد ظنت أنها ليست ظاهرة ملازمة للتاريخ الإنساني بل ظاهرة جديدة لا علاقة لها بطبيعة صراع النماذج الحضارية فانقسمت بحكم هذا الموقف اللامحلل والناتج عن الانهزام الروحي إلى خيار وحيد بين: الاندماج في عولمة تدعي أنها ممثلة للمستقبل الإنساني وهي في الحقيقة عولمة تسد كل آفاق الإنسان (عولمة المافيات المحلية في خدمة المافيا العالمية: فالعالم تحكمه أوليغاركيات مافياوية تستعبد بقية البشر) والانكماش في الخصوصية حصراً للمثال في بعض اللحظات الوهمية من الماضي ظناً أنها قد أتمت تحقيق العالمية الإسلامية لكأن هذه العالمية يمكن أن تحقق في تعين واحد. وبذلك بات ممتنعاً التفكير في العولمة البديل أعني الثورة على هذه المافيات، باسم نموذج حضاري يلغي منبع الأسباب التي يؤول إليها وجود هذه المافيات.
ه_ وبيّن أن أصحاب الاندماج وأصحاب الخصوصية من طبيعة واحدة: فكلاهما يجعل الواقع الحاصل مثالاً أعلى يستنفذ الممكن فيكبل العلاقة الحية بين المثال والفعل: الأولون جعلوا الاندماج في العولمة بصورتها الحالية مثالاً أعلى والآخرون جعلوا الإدبار عنها إلى العولمة بصورتها الماضية مثالاً أعلى. وكلاهما ينسى أن العولمة فعل تاريخي متواصل لا يتوقف، وأن شكله الحالي لم يتحدد بعد وأنه سيكون حصيلة المعركة الجارية بين العالميات المختلفة أو النماذج الحضارية المختلفة التي يؤمن أصحابها بأن لهم رسالة تحدد مثال الإنسان الأعلى، وأن أكبر علامات الانهزام الروحي هي التسليم بوحدانية النموذج. لا شيء تم وانتهى كما يتصور المنهزمون روحياً.
----------
المصدر: آفاق النهضة العربية ومستقبل الانسان في مهّب العولمة
=============(9/90)
(9/91)
الإسلام والعولمة.. صراع أم حوار؟!
* د. أحمد درويش
تمهيد لقد عرفت البشرية في تاريخها الطويل كثيراً من الثقافات المتعاقبة والمتحاورة والمتصارعة، وكان جزء من سر تقدم البشرية يكمن في هذه الصلة المعقدة التي كانت تتبادل فيها الثقافات والحضارات مواقع الصدارة دون أن تصل واحدة منها لفرض هيمنتها المطلقة على كل ما عداها، كانت الوسائل المتبعة في طرح ثقافة أمة على أمة أخرى تتمثل غالباً في اللجوء إلى ((إغراء العرض))، وعندما كان يتم اللجوء إلى ((سطوة الفرض)) كان يقترن ذلك بالتعسف الواضح وبمطالبة المضطهدين بإعادة هويتهم إليهم، وبتعاطف الآخرين معهم.
لكن النقلة النوعية التي حدثت مع ثقافة العولمة في العلاقة مع ثقافة الآخر تكمن في أنها لجأت إلى ما يمكن أن يسمى ((إغراء الفرض))، بمعنى أنها لم تعد تعرض بل تفرض، ولكن هذا الفرض لا يأتي من خلال استخدام العصا أو السيف، وإنما من خلال استغلال الإغراءات التي منحتها التقنيات الحديثة في الاتصال، وقد أدى ذلك إلى تغيير جذري في نظرية حوار الثقافات، تمثل هذا التغيير على نحو خاص في محورين:
1 ـ اللجوء إلى ثقافة الصورة بدلاً من ثقافة الكلمة.
2 ـ التوجه المباشر للقاعدة العريضة دون التوقف للجدل مع الصفوة.
ونبادر فنقول: إن هذين المحورين في ذاتهما يمكن أن يشكلا عاملاً إيجابياً مهماً على طريق ((عولمة المعرفة)) إذا ما أحسن استغلالهما من كل الأطراف الغازية والمغزوة، ولكنهما يشكلان عامل تهديد خطير لمقومات التماسك الثقافي والقومي للأطراف الأقل قوة وتقدماً إذا لم يتم التعامل معهما بوعي وتخطيط مدروس.
ويعتبر البعد الثقافي للعولمة من أكثر الأبعاد تأثيراً على هوية الفرد والجماعة معاً، وبالتالي على صمود أو ذوبان مجموعة من الكيانات القومية المستهدفة، في مقدمتها الكيان العربي الاسلامي. ومع أن الثقافة كانت دائماً عنصراً مهماً في حملات الترويج الإيديولوجي أو الغزو الاستعماري يراد من خلالها طرح أفكار الغالب على المغلوب، أو تحطيم روح المقاومة من خلال إضعاف عناصر الروح القومية لدى الشعوب المستهدفة، فإن موقع الثقافة في نظرية العولمة قد ازداد أهمية إلى حد بعيد، وشهد نقلة نوعية، فلم يعد الاستهداف الثقافي وسيلة إلى غاية، وإنما أصبح غاية في ذاته لقد ارتقت الثقافة من كونها وسيلة لتحقيق الغايات، لتكون هي الغاية ذاتها وكان من الطبيعي أن تسعى القوى الرأسمالية التقليدية، وقد أدركت الاحتمالات الاقتصادية الهائلة للموارد الثقافية إلى تحويل الثقافة إلى واحدة من أهم الصناعات الاستراتيجية التي تحكم موازين القوى عالمياً إن لم تكن أهمها على الإطلاق.
ومن هنا ظهرت كثير من ردود الأفعال لدى أصحاب الثقافات المتماسكة يعلنون فيها أنهم يرحبون بالاشتراك في عولمة ثقافية لكن بشرط أن يساهموا بنصيب في صنعها، وألا تكون ((غربنة)) تكتسي ثقافتها العالمية بثقافة الغرب وحدها، وهي الثقافة التي أعلن هنتنجتون أنها لا تقبل الدخول للآخرين في نسيجها بسهولة، وهناك دراسات لكتاب صينيين ويابانيين وأفارقة تمثل لوناً من الصدى الإيجابي لفكرة التوازن في ثقافة العولمة.(9/92)
وفي إطار هذه النظرة التي تفضل الحوار مع ثقافة العولمة، يرى هذا الاتجاه أننا يمكن أن ننطلق من فكرة حاجة الثقافة العالمية الجديدة إلى الأساس الأخلاقي الذي عرفته النظم السياسية والاقتصادية السابقة في نظام القبيلة أو الدولة ولم تتفق عليه بعد في النظام العالمي، وأن هذا النظام الأخلاقي يمكن أن يستمد مضمونه من الثقافات المتعددة التي ينتمي إليها الشركاء متجاوزاً مواطن الخلاف مركزاً على مواضع الالتقاء وأن هذا الأساس المشترك يمكن أن يبنى على تلافي ما ساد بعد الثورة الصناعية من ((عبادة المال)) و ((عبادة الذات)) وإحساس البشرية بفقدان السعادة والاستقرار في ظلهما رغم التقدم المادي، وأنه يمكن للأديان في مرحلة أولى أن تتكاثف في صياغة مبادئ مواجهة تيار ((اللادينية)) متبنية في ذلك حسن الحوار ووقف الصراع فيما بينها، ولسوف يجد المنطق الاسلامي في ذلك فرصة تتحرك من خلالها مبادؤه السمحة في حركة عولمة للثقافة تتلافى الآن ألوان الصراع الديني بين دين ودين وطائفة وطائفة، ويتبع ذلك بالنسبة لمنظري الخطة على الساحة الاسلامية تصحيحاً داخلياً على ثلاثة محاور، يتصل أولها ((برسم الخط الفارق بين الاسلام كما يفهمه ويمارسه ويعرفه مئات الملايين من المسلمين وبين تيار الغلو في الدين أو ما يسميه الغربيون ((الأصولية))، ويتصل الثاني ((بتصحيح فهم عالمية الاسلام باعتباره دعوة إنسانية موجهة للكافة وليس نظاماً يسعى أتباعه إلى فرضه عنوة وقسراً على سائر الناس، أما المحور الثالث فيتصل بممارسة الاجتهاد والإقبال على التجديد في الفقه وفي أصوله على نحو يسمح باستيعاب صور التطور العمراني ويواكب حركة العلم والتقنية، ويسهم فيها كما أسهم المسلمون الأوائل في تطور العلوم والمعارف الانسانية مع التأكيد على إعادة قيم الحرية والديمقراطية إلى مكانهما الصحيح من التصور الاسلامي ومن الحياة اليومية والسياسية والاجتماعية للمسلمين، ومع إعادة النظر في علاقة المسلمين بغيرهم القائمة على أساس سنة التعددية التي أرادها الله (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) وعلى أساس الود والتعاون على الخير والتراحم.
إن نظرة معتدلة كتلك يمكن أن تحمل معها مفاتيح الدخول بقوة وثقة إلى دائرة ((عولمة الثقافة)) يكون لنا فيها مكان متميز عندما نملك روح الحوار ا لمعتدلة وقيمه الحضارية وأساليبه المتطورة.
============(9/93)
(9/94)
الإسلام والعولمة.. صراع أم حوار؟!أسئلة عقلية حول هيمنة العولمة!
* محمد عمارة
أعتقد أن العقل العربي والمسلم يحتاج إلى وقفة يصنع لنفسه فيها جدول أعماله أي يعي التجديد ويجدد موقفه من المشكلات المطلوب منه أن يجنى من ورائها ثماراً. أي لا يتحول إلى مجرد صدى أو رد فعل لجدول الأعمال الذي يحدده الفكر الغربي والإعلام الغربي لأننا يجب أن نتسائل بالنسبة لقضية العولمة: هل نحن بالفعل بصدد قضية جديدة؟
ففجأة وجدنا مصطلحاً أُلقى به في الساحة فبدأنا نتحدث عنه.
فأنا بودي أن نقف وقفة مستقلة مع النفس نبدأ بعدها الحديث من خلال منطقنا نحن.. من خلال أولوياتنا نحن ونحدد جدول أعمالنا على أساس الأولويات التي تواجهنا.
وأنا في الموضوع أميز ـ وأعتقد أن هذه ليست نقطة خلافية وكلكم تتفقون حولها ـ بين العالمية والعولمة لأن العالمية تمثل الأفق الاسلامي لأن الاسلام دعوة للعالمين منذ المرحلة المكية وبالتالي فإن العالمية ليست غريبة عن الرؤية الاسلامية بل الرؤية الاسلامية نزاعة إلى الرؤية العالمية انطلاقاً من أن الاسلام هو الرسالة الخاتمة والعالمية.
والعالمية تعني أن هناك حضارات متعددة ومتميزة أي أنها ليست متماثلة وأيضاً ليست منغلقة منعزلة ومعادية وإنما هناك نوع من الخصوصية ونوع من التشابه. أي أن هناك مشترك بين كل هذه الحضارات وهناك بصمات ثقافية وحضارية تميز كل حضارة عن الحضارات الأخرى. وبين هذه الحضارات هناك قاسم مشترك تتفق عليه هذا هو البعد العالمي أو هذه هي العالمية في الكوكب الذي نعيش فيه.
والمفروض أن تكون المؤسسات الدولية لهذا النظام العالمي ـ إذا جاز استخدام هذا المصطلح ـ ممثلة للخصوصيات المختلفة والقاسم المشترك بين الحضارات العالمية.
أما إذا جاءت حضارة من الحضارات واجتاحت العالم بقوتها وفرضت نمطها في الثقافة والمثل والقيم وطريقة العيش على العالم فهذه الحضارة لا يمكن أن تكون عالمية وإنما هذا ما يسمى خطأ بالعولمة لأن العولمة من المفروض أن تعني شيئاً عالمياً ولكن هذا الذي يفرض الآن باسم العولمة ليس عالمياً وإنما هو الرؤية الغربية.. النظام الغربي.. الهيمنة الغربية كل هذا يفرض على الحضارات الأخرى.
ومن هنا يكذبون إذا تحدثوا عن التنوير.. يكذبون إذا تحدثوا عن الشرعية الدولية.. فكل هذا لا علاقة له لا بالدولية ولا بالعالمية ولا بالقسم المشترك بين الحضارات الانسانية.
إذاً لا بد من التمييز بين العالمية التي نحن معها ونحن دعاتها وبين هذا الذي يبشرون به باسم العولمة لأنني قد تابعت بعض الأبحاث التي قدمت في الندوات فوجدت أناساً عقلاء ووجدت أناساً ليسوا أناساً أصلاً. فللأسف الشديد أجد أحد الأشخاص الذين ولدوا بمنزل الوحي بالمملكة العربية السعودية يتحدث عن العولمة على أنها قدر لا مفر منه. هذا رجل ينكر القضاء والقدر الإلهي ويتحدث عن أمريكا على أنها قدر فهل مثل هؤلاء الأناس هم الذين يرسمون لهذه الأمة طريقها ومسارها. إنهم يتحدثون عن العولمة على أنها قطار لأبد أن نركبه وإلا ضاع منا الطريق وضعنا في هذا العالم وهذا إنكار للقضاء والقدر.
ويكذبون عندما يقولون أن وسائل الاتصال جعلت العالم قرية واحدة. صحيح أننا أمام ثورة كبيرة في عالم الاتصال لكن هذه القرية الواحدة بيوتها ليست سواء.. سكانها ليسوا سواء. أي أن هذه القرية بها الظالم والمظلوم بها القاتل والمقتول.. بها مَن يتأجج بأسلحة الدمار الشامل ومَن ينزع سلاحه وتنزع أظافره. انظروا لما حدث اليوم: لقد ضرب الطيران الأمريكي أحد الرادارات العراقية قرب البصرة لماذا؟
لأن هذا الرادار رصد طائرات بريطانية فوق أرض العراق!. أي أنه مجرد أن تفتح عينك على مَن يقتحم عليك أرضك وسيادتك تستحق أن تضرب. إذاً أين هي القرية الواحدة؟!.
وإسرائيل لديها الأسلحة النووية وتقوم بهذا الاقتراء الذي تمارسه في ظل هذه القرية الواحدة.
وعلى ذلك فنحن نريد أن نسأل أولئك الذين يطالبوننا بركوب قطار العولمة على أساس أن العالم قد غدا قرية واحدة: هل المطلوب مننا ن نركب القطار كعبيد؟!.
فحديثهم هذا عن القرية الواحدة لا يعني أن الناس سيصبحون سواسية فالاغتصاب للأرض والعرض والحرمات والمقدسات في بلادنا على قدم وساق والأمة الاسلامية تحرم وحدها من حق تقرير المصير في فلسطين.. في كشمير.. في الفلبين.. في البوسنة والهرسك وبلاد البلقان.. في كل أنحاء أمتنا. حقك في التنمية.. حقك في أن تحكم بالقانون الذي تريده كل ذلك محرم على هذه الأمة.
فالكلام عن القرية الواحدة لا يعني أن أهل هذه القرية الواحدة أصبحوا سواسية وبالتالي نحن مدعوون أن نكون مواطنين كاملي المواطنة في هذه القرية الواحدة. وأريد أن أقول أن ظاهرة أن يفرض الغرب هيمنته على الآخرين ليست ظاهرة جديدة. فعندما كانت الأمبراطورية البريطانية لا تغرب عنها الشمس ألم تكن هذه عولمة؟ كان القرار يصدر في بريطانيا وينفذ في مصر وفي الهند وفي بلاد لا تغرب عنها الشمس.
وعندما كان الرومان يحكمون العالم وكانوا هم الأشراف والسادة وغيرهم البرابرة ألم تكن هذه عولمة؟!.(9/95)
نعم، إننا أمام صعود في وسائل الاتصال الحديثة ولكن الجديد في العولمة وأخطر ما فيها أن هذه الهيمنة الغربية تقنن باسم الشرعية الدولية وباسم النظام العالمي.
فقيم الغرب وثقافته يعملون على فرضها بالإعلام بالفكر بالجواسيس بالاختراق على كل الدول والحضارات الأخرى. والغرب الآن يقنن هذا الاختراق ويقنن هذه الهيمنة بوثائق وبرامج باسم النظام العالمي الجديد.
ومؤتمر مثل مؤتمر السكان عندما يعقد كي تكون هناك وثيقة تحت مظلة الأمم المتحدة لتقنن القيم الغربية في التحلل والانحلال إلى أخر فهذا جديد. فالغرب كانت له قيم يسبلها بسبل غير مقننة ولكن أن تتحول إلى قانون عالمي.. إلى وثيقة عالمية تحت مظلة الأمم المتحدة فهذا هو الجديد.. وكما رأيتم في وثيقة السكان فإن المراهقين والمراهقات يكون لهم كحق من حقوق الانسان أن يتمتعوا بالثقافة الجنسية عالية المستوى وأن الآباء والأمهات يكون عليهم أن يقدموا لأبنائهم هذه الثقافة. أن يكون حمل المراهقات حق من حقوق الانسان وإجهاضهن حق من حقوق الانسان بينما الزواج المبكر جريمة. انظروا إلى ماذا يدعون: أن يكون الزنا المبكر حق من حقوق الانسان أما الزواج المبكر فيكون جريمة ضد حقوق الانسان!.
بل وحتى العمل المبكر يكون جريمة ضد حقوق الانسان ولو كان بعد البلوغ وحتى سن الخمسة عشر سنة.. ونحن جميعاً كنا فلاحين وكنا نعمل في هذه السن ولكن ها هي منظمة العمل الدولية تقرر أن ذلك جريمة.
أقول: إننا الآن أمام تصعيد لهذه الهيمنة القيمية الغربية لأنها تتحول إلى قوانين تفرض على الناس.
كذلك في موضوع المرأة فإنك تجد في مؤتمر السكان أو في مؤتمر بكين لا أقول موضوع مساواة الرجل بالمرأة فهذا مطلب إسلامي ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)) إنما حثّ المرأة على إلغاء حتى الفروق الطبيعية والفطرية بينها وبين الرجل لدرجة ن الأناجيل الآن تترجم ترجمات جديدة تسمى فيها الذات الإلهية بالذكورة والأنوثة لكي تكون هناك مساواة لأن أمثال نوال السعداوي يعترضون على ذلك متسائلين: لماذا يكون الله ذكراً.
هذه هي القيم التي توضع الآن في مواثيق دولية لإلغاء الفطرة التي فطر الله الناس عليها وفرض الرؤى الغربية الديانات والأيديولوجيات التي تتمرد حتى على الديانات الغربية مثل النصرانية. إننا نشهد الآن في الفكر الغربي تحولات في اتجاه تهويد النصرانية الغربية أي بدلاً من أن تعترف اليهودية بالنصرانية يحدث الآن في الفاتيكان أن يصير الإله هو يهوه في أحد المؤتمرات قال البابا يوحنا بولس الثالث أنه قد عقد المؤتمر ليجتمع مائتان قس من الكاثوليك والبروتستانت لتغيير الأناجيل التي كانوا يتحدثون عنها على أنها شيء مقدس. بما لا يعادي اليهود والكنيسة التي ظلت قروناً عديدة تبيع صكوك الغفران الآن تطلب من اليهود التوبة والغفران.
هذه هي تحولات العولمة أي أن هناك الآن تحولات تتم في الغرب ثم يعملون على فرضها على العالم أجمع.
نحن نقرأ عن الغرب أن هناك رجال دين من الشواذ.. أن الكنائس تزوج الشواذ.. بل أن في إنجلترا البلد المحافظ أحد وزراء وزارة العمال الحالية شاذ والرجل الذي يعيش معه يحضر جلسات وزارة العموم في الغرفة المجاورة على أساس أن له امتياز الزوجة ومثل هذه القيم تفرض الآن على العالم باسم العولمة. ومع كل هذا يطالبوننا بسرعة ركوب القطار وأن نرضي بهذا القدر الذي يفرض علينا.
وأريد أن أتسائل معكم: لماذا الغرب يريد أن يفرض علينا العولمة؟.
القضية ليست سحراً ولكن هناك في بنية الفكر الغربي والحضارة الغربية هذه النزعة للهيمنة. فنحن قد أعتدنا ما يسمى بالمركزية الغربية أي أن الغرب لا يعترف بالآخر ويريد أن يفرض ذاته عليه وأنتم تابعتم وقرأتم كل الذي قيل وكتب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي من أن الاسلام الآن هو العدو لأنه مستعصياً على العولمة وإنه للآن لم يتبنّ النموذج الغربي ولذلك فإن على حلف الأطلنطي أن تتوجه آلته الحربية إلى العالم الاسلامي. كل ذلك الكلام يقال على مستوى عال وليس تبعاً لنظرية المؤامرة مثلما يتهمنا بعض المتغربين. وإنما هذا الكلام معلن على أعلى المستويات الغربية وهي مستويات مسؤولة فليس هذا الكلام كلام المثقفين غربيين إنما هو كلام على مستوى صناع القرار.
سأحكي لكم حكاية ذات صلة بما نقول لقد قرأت مقالاً الأسبوع الماضي للسيد ياسين يثنن فيه علي بحث لجميل طر. وجميل مطر هذا من الباحثين الجادين وأنا أحترمه كثيراً ولقد وصف مطر الحضارة الغربية بأنها حضارة داروينية نسبة إلا دارون أي أن الحضارة الغربية في رأيه تقوم على الصراع ضد الحضارات الأخرى مثل الصراع بين الأحياء عند دارون وهذا يتفرع منه صراع الحضارات ونهاية التاريخ إلى أخر هذه المقولات..(9/96)
وعلى الرغم من أنني سعدت بإعجاب السيد ياسين بآراء ميل مطر ومع ذلك فقد ضحكت لأنني عندما كنت أكتب كتاباً عن المودودي في السبعينات وجدت أن المودودي عندما تحدث عن النظريات التي تقوم عليها الحضارة الغربية فإنه حددها في: فلسفة هيجل في التاريخ ـ نظرية دارون في الأحياء ـ الصراع الطبقي عند ماركس. وتكلم المودودي في ذلك كلاماً نفيساً وعبقرياً لماذا؟. لأن نظرية هيجل في فلسفة التاريخ تذهب إلى أن العصر الجديد ينسخ العصر القديم.. ليس هناك ثوابت (عملية نسخ)... عند دارون القوي ينسخ الضعيف ويزيله.. عند ماركس الطبقة الوليدة تنسخ الطبقات السابقة.. إذاً المحور في الحضارة الغربية هو الموقف الصراعي: طرف يصرع الآخر وينهيه ويزيله وينفرد بالميدان وعندما كتبت كتابي عن المودودي وعرضت أفكاره هذه في باب عن نقد الحضارة العربية وكنت قد نشرت جزءاً من هذه الدراسة قبل طبع الكتاب في مجلة العربي في أوائل الثمنينات فإذا بالدكتور فؤاد زكريا ينفذني في العربي ويقول: هذا الذي كنا نتصور أنه مستنير هاهو يهاجم الداروينية ويقول عنها هذا الكلام.
لقد تكلمنا عن أن الداروينية قدمت مبرراً للاستعمار لأن الاستعمار بدلاً من أن يشعر بتأنيب الضمير يعتقد من خلال هذه النظريات أنه يقوم برسالة حضارية عندما يزيل مواريث الأمم والبنى التحتية لها ومجتمعها المدني القائم بها والحرف والصناعات الخاصة بها ويعتبر نفسه أنه يمدنها. حتى ماركس تكلم عن أن غزو فرنسا للجزائر من التمدن وإزالة الرجعية والتخلف وتحدث بنفس هذا المنطق عن الهند مع أن الماركسيين عندنا كانوا دائماً يخفون هذه النصوص لأنها تفحض الرجل لأنه كان يتحدث عن أن الاستعمار يقوم بدور تحديثي ودور تمديني للمجتمعات المستعمرة.
فأنا عندما تحدثت عن النزعة الداروينية انطلاقاً من كلام المودودي عن الحضارة الغربية سخر مني فؤاد زكريا وهذا ما جعلني أضحك من إعجاب السيد ياسين بما قاله جميل مطر وقلت في نفسي لو كان السيد ياسين قرأ لي أنا هذا الكلام أو لأحد غيري من الاسلاميين لما كان كتب هذا الإعجاب الذي كتبه عن كلام جميل مطر. لأنه عندنا تحدث طائفية ثقافية حيث يختلف الموقف مما يقوله أحد الاسلاميين عما إذا قاله غيره من الباحثين والكتاب.
هذه هي قضيتنا مع الحضارة الغربية ففي الاقتصاد يحدث اجتياح لاقتصاد الشعوب وأنال ست متخصصاً في الاقتصاد ولكني أريد أن يجيب الاقتصاديون عندنا عن تفسير ما حدث بالنسبة للنمور الآسيوية. لقد تابعت بعض التفسيرات التي كتبت في هذا مثل أبحاث الدكتور حازم الببلاوي وغيره ومع ذلك سأقدم لكم تفسيراً أعلم أنني لو كتبته لهوجمت من العلمانيين هجوماً شديداً.
فالتجارب التي حدثت في أندونيسيا وماليزيا برغم عظمتها كان هناك دور كبير للشركات المتعددة الجنسية بالنسبة لها وبالتالي لم تكن مفاتيح الأمور بأيدي الحكومات والشعوب فالتنمية التي تجدث نتيجة التدخل الأجنبي من الممكن عند اللزوم القضاء عليها. والنقطة الأخرى أن هذه التجارب التنموية ربطت نفسها بالمركز الغربي فلم يكن هناك سوق إسلامية مثلاً وبالتالي فأنت لست حراً حقيقة: فرأس المال أجنبي والشركات أجنبية. والاستثمارات أجنبية والخبرات أجنبية والتكنولوجيا غربية والأسواق غربية.. وهكذا فأنت مربوط بالمركز الغربي.
الأمر الآخر هو حكاية سوق المال وقد قال مهاتير محمد: إن الملياردير سورس بما فعله من لعب في البورصة هو الذي بدأ الضرب في هذه التجارب. ففكرة تحول المال إلى سلعة يضارب عليها وجعلها بديلاً للإنتاج والعمل هي نفسها الفكرة التي وراء تحريم الاسلام للربا فنحن هنا في الأزهر نتعارك حول الفائدة وهل هي حلال أم حرام وليست هذه هي القضية الأصلية.. فالقضية الأصلية هي فلسفة الاسلام في المال. إن المال ليس سلعة يتاجر فيها لأن هذا هو الذي يصنع التضخم ويصنع عالماً اقتصادياً آخراً لا علاقة له بالاقتصاد الحقيقي.. ليس له أدنى علاقة بالإنتاج أو الزراعة أو الصناعة أو بكل هذه الأمور. وهذا يبين أهمية الرؤية الاسلامية في فلسفة الأموال والتي أرى وجوب دراسة عيوب ما حدث في التجارب الآسيوية في ضوئها.(9/97)
وعندما حققت أعمال محمد عبده بهرني أنه عندما تكلم عن الربا قد لمس هذا البعد وقال كيف أن تجارة المال تركز المال في جانب والفقر في جانب ولم يكن قد أثير عندنا بعد موضوع التضخم الذي هو المتاجرة في المال. فالبنك يأخذ منك بفائدة خمسة في المائة مثلاً وينقل لغيرك بفائدة عشرة في المائة ومَن أخذ بعشرة ينقل بخمسة عشر وهكذا فالمال سعره يزيد دون زيادة حقيقية في الإنتاج. أي أنه بعيداً عن وظيفة المال تتم عملية التضخم وبصنع سوق المال من الممكن أن تضرب تجارب تنموية بعيداً عن عملية الصناعة. فلم تتم عملية اللعب في الصناعة التي أقامتها أندونيسيا وماليزيا وإنما اللعب تتم ي البورصة لأنك صنعت اقتصاداً في المال مواز للاقتصاد الإنتاجي وجعلت هذا في يد السماسرة اليهود وعملاء المصارف العالمية. إذاً فلكي تتم العولمة فلا بد من الاختراق والهيمنة ومسك مفاتيح البلاد وعندما كان ينشأ لدينا مشروع مترو الأنفاق كنا نقول أن المترو في القاهرة ولكن الذي يمغنط التذكرة في فرنسا فالذي يمسك لك المفتاح (التذكرة الممغنطة) هو فرنسا لقد كنا نقول أخذوا الصندوق يا محمد ولكن مفتاحه معي لكن الآن المفتاح معهم وهذه هي فكرة العولمة فحتى في التجارب التنموية الجيدة والمبشرة تكون مخترقاً تماماً ويكون مفاتيحها مع الغرب وطبعاً هذا يتبعه تآكل السيادة في الدولة الوطنية والقومية وأريد أن أقرأ عليكم التعليق الذي كتبته في الشعب عما نشره أحد الأشخاص في جريدة الأهالي حيث زعم أنهم يقفون مع الضغط الأمركي على الحكومة المصرية في مسألة الأقليات لأننا في عصر العولمة والدولة منقوصة السيادة فتساءلت: ولماذا تكون مصر فقط منقوصة السيادة؟!
فإذا كانت العولمة حقيقية فلا بد أن تكون أمريكا أيضاً منقوصة السيادة وكما يضعون أسطولاً في الخليج يكون لنا أساطيل هناك. فلماذا تكون سيادتنا نحن فقط منقوصة وتسمى ذلك عولمة؟!. الأصح أن نسميها هيمنة. فالعولمة كما قلنا إن كان المقصود منها العالمية فلا بد أن تكون حقوقنا جميعاً متساوية ولكن المقصود الحقيقي من العولمة أن تكون سيادتنا نحن فقط هي السيادة المنقوصة.
إن هذا لم يعد يتم فقط باسم النظام العالمي ولكن أمريكا الآن أصبحت تشرع للعالم صراحة فالكونجرس الأمريكي يصدر قراراته بعدم الاتجار مع ليبيا أو بعدم الاتجار مع إيران ويضع العقوبات على مخالفة ذلك حتى حاولوا أن يفرضوا على أوروبا نفسها عقوبات ولكنهم تراجعوا بعد ذلك وآخر ما فعلوه بشأن هذه العقوبات هو قانون الأقليات الأخير.
هؤلاء الذين يدعون الدفاع عن حقوق الانسان في العالم هم الذين أبادوا الهنود الحمر ولا تزال التفرقة العنصرية في أمريكا تمثل أعلى معدلاتها في العالم ولا تزال الحروب الدينية في أوروبا إلى الآن من البلقان إلى أيرلندا إلى آخره.. ونفس هذه الأمور موجودة في يوغسلافيا أي أن أوروبا لا تزال تعيش حروباً دينية ويعودون مرة أخرى التدخل في الشؤون الداخلية للدول من ثغرة الأقليات والأقليات المقصودة هنا ليست فقط الأقليات غير المسلمة فأنا اليوم سمعت خبراً في لندن عن المغني الذي قتل في الجزائر وما الذي قالته الصحف الفرنسية عن ذلك فعندما تحدث مندوبهم في لندن عن ذلك قال: قال ن القتل كان يناضل من أجل الأمازيغية.. يناضل ضد اللغة العربية.. يناضل من أجل اللغة الفرنسية كلغة للانفتاح.. يناضل من أجل العلمانية.. هذا البرنامج الذي عقدت لأجله مؤتمرات في باريس أقامتها منظمة الأمازيغية التي يعمل فيها محمد أركون الذي جاء يعلمنا الاسلام وما هي حداثة الاسلام التي من الممكن أن تكون. وهو يعمل لدى الفرنسيين في موضوع الأمازيغية.
وما أريد أن أقوله أن الإختراق الذي يحدث من خلال موضوع الأقليات ليس فقط متعلقاً بالأقليات غير المسلمة لأنهم يعلبون الآن بورقة الأكراد.. وبورقة الأمازيغ.. مثلما يلعبون بورقة الموانة وورقة الأقباط.(9/98)
وأريد أن أقول أن قضية الأقباط لا بد أن نهتم بها ليس لأن عندنا ما نعتذر عنه أو أن لدى الاسلام ما يعتذر عنه وإنما لأنها أصبحت باباً للاختراق وأنتم ترون المراكز التي تعمل في هذا الموضوع عندنا والممولة علناً من الخارج وأقول إننا أحرص الناس على معايير الإنصاف بالنسبة للأقليات. فالمسلمون مليار وثلث مليار في العالم وربع المسلمين أقليات. إذاً فإن من مصلحتنا كمسلمين ـ فضلاً عن معايير العدل ـ أن تكون هناك ضوابط منصفة للأقليات، إن لدينا على سبيل المثال في الهند مائة وخمسين مليون من المسلمين أقلية. إذاً المسلمون أولى الناس بأن تكون هناك معايير داخلية وإقليمية وعالمية تتعامل على أساسها الأقليات ومن ناحية أخرى فإن الوحدة الوطنية لا بد أن تبنى على الحقائق وليس على الأوهام فعندما يأتي شخص ويقول أن الدين الاسلامي طارئ على مصر وإنه لذلك يجب أن يكون هناك امتياز للدين الأقدم. فلنا أن نقول عند ذلك: إن النصرانية ي مصر أيضاً وافدة.. بل أن النصرانية في العالم كله وافدة حتى في الفاتيكان نفسها لا يستثنى من ذلك سوى فلسطين. بل أن اليهودية وافدة على فلسطين لأنه لا علاقة لها بفلسطين..، لا توراة ولا أنبياء اليهودية عرفوا فلسطين. إذاً لا بد من إنهاء هذا الوهم الذي يتحدث عن دين قديم ودين وافد.
النقطة الثانية: أن المساواة كامل المساواة في حقوق المواطنة حق من حقوق الله وليس حق من حقوق الانسان لأن الله سبحانه وتعالى بحكم خلقه للبشر بصرف النظر عن الدين ـ لا بد أن تكون لهم كامل المساواة في حقوق المواطنة هذا معيار.
المعيار الثاني هو: هو أنه للأقلية في كل بلاد الدنيا أن تقيم دينها والحلال والحرام في دينها ولكنها لا يجوز أن تصادر حق الأغلبية في هوية الدولة. وخمسة مليون مسلم في فرنسا من حقهم أن يقيموا دينهم والحلال والحرام فيه ولكن ليس من حقهم أن يصادروا هوية علمانية الدولة الفرنسية ونفس الأمر إذا تحدثنا عن الأقلية في الهند. وهذه قضايا لا بد من التوسع فيها بدلاً من استغلالها في إطار العولمة.
الكلمة الأخيرة هي عن الوهم الذي يتحدث عنه دعاة العولمة وأعني بذلك ما يقولونه عن الاعتماد المتبادل أي أننا عندما نلحق بالعولمة يكون بيننا وبينهم اعتماد متبادل.
فهل من الممكن أن يكون هناك اعتماد متبادل بين رجل عاجز وأسد مفترس؟!. ويحضرني في ذلك نكتة كانت تروى عن حاجب محكمة سُئل مرة عن مرتبه، فقال: مرتبي أنا والقاضي مائة وثلاثة جنيهات هو ثلاثة والقاضي مائة فهل هذا هو الاعتماد المتبادل؟!.
فالاعتماد المتبادل لو كان حقيقياً فإنه يفترض أساساً أن تكون قوياً.. تكون لك هوية مستقلة ولكن عندما أكون ضعيفاً وتابعاً وملحقاً فهل أقول: أنا وأمريكا!.. إذاً فما الذي يحدث الآن في العراق من الأمريكان؟!..
أين العراق؟! وأين أمريكا؟!.
أين الصلف الإسرائيلي وأبو عمار؟!.
إذاً هذا الصلف المتبادل وهم من الأوهام.
فنحن مع العالمية ولكن هذا الذي يسمى بالعولمة هو تسابق وتطور في أدوات الهيمنة والجديد في ذلك هو تقنين هذه الهيمنة. أما كون الغرب يعمل على فرض هيمنته علينا فهذا مرتبط بموقف الحضارة الغربية القديم منذ الاحتكاك بينها وبين الحضارة الاسلامية وشكراً.
=============(9/99)
(9/100)
من كابل إلى لندن بحثا عن الأمان أم الدعوة؟
محمد أبو زيد
الباحث المصري جهاد عودة يحلل في كتابه الجديد عولمة الحركة الإسلامية الراديكالية في مصر والمغرب من خلال نشأتها وظواهرها
كيف تحولت الحركات الاسلامية الراديكالية من نطاقها المحلي الى النطاق العالمي لتصبح جزءا منظومة العولمة السياسية والاستراتيجية؟
يبدو هذا هو السؤال الرئيسي في كتاب «عولمة الحركة الاسلامية الراديكالية» للدكتور جهاد عودة والصادر حديثا عن دار الهدي بالقاهرة، خاصة مع انتقال المفهوم العولمي من كونه احد ملفات النظام الدولي الى التسييد الكامل له باعتباره السمة الأساسية لذلك النظام.
يربط الدكتورعودة هذه الظاهرة بهجرة قيادات الجماعات من أوطانها الاصلية، ففي مصر بدأت قيادات الجماعات الاسلامية في النزوح من مصر بعد صدور حكم باعدام خمسة من قيادات تنظيم الجهاد الذين قاموا باغتيال الرئيس السادات عام 1981، وكانت افغانستان هي المحطة الأولى مرورا بالسعودية، وقد بلغ عدد هؤلاء النازحين حوالي 800 شخص، وبعد انتهاء الحرب في أفغانستان نزح هؤلاء الى بعض البلدان العربية كاليمن والسودان بينما حصل عدد كبير منهم على حق اللجوء السياسي أو على اقامة دائمة في الدول الأوروبية والافريقية والاميركية، ففي أوروبا يعيش نحو 150عضوا بالجماعة الاسلامية حصل 40 منهم على اقامة دائمة بينما يتوزع الباقون في دول مثل الدنمارك ورومانيا واليونان وبريطانيا والمانيا واسبانيا.
ويرجع عودة أسباب الهجرة الى معاناة الجماعة الاسلامية والجهاد من آثار الضربة الأمنية وهجرة عدد من قيادات تنظيم الفنية العسكرية وجماعة الجهاد الذين تم كشفهم في عامي 77، 1979 الى الدول النفطية والبحث عن التمويل، وتصاعد أعمال القتل في أفغانستان واعتبارها حربا ضد الشيوعية.
ويشير الكتاب الى انه عقب حادثة الأقصر وتداعياتها انشقت الجماعة الاسلامية الى أربعة أقسام، مجموعة أفغانستان وهي التي نفذت العملية ومجموعة لندن، ويقودها ياسر السري مدير المرصد الاعلامي الاسلامي وأبو حمزة المصري، ومجموعة هولندا ويديرها اسامة رشدي أحد قيادات الجماعة الاسلامية منذ تأسيسها وهو الذي أصدر بيان وقف استهداف السائحين الأجانب في مصر ومجموعة النمسا وهي التي انشقت عن قيادة أفغانستان.
وأهم قيادات الجماعة بالخارج كما يذكر جهاد عودة هم عمر عبد الرحمن (في اميركا) وطلعت فؤاد قاسم (أعلن اختفاؤه في كرواتيا) وياسر السري (في لندن) ومحمد الاسلامبولي (غير محدد المكان) ورفاعي طه (في افغانستان) أسامة رشدي (في تركيا) ومصطفى حمزة (في الصومال).
ويقول الكتاب انه منذ عام 1996 فرضت الدول الأوروبية قيودا على دخول عناصر تنتمي الى الجماعة الاسلامية الى أراضيها، بل والقبض عليهم في بعض الأحيان، وهو ما يشير الى استراتيجية دول الخراج تجاه الجماعات في الآونة الأخيرة، بالاضافة الى تجفيف منابع التمويل المادي خاصة مع اتفاق مصر مع دول النفط على تنظيم جمع التبرعات.
وفي رصده لعولمة الحركة الاسلامية الراديكالية يقسمها الدكتور عودة الى طريقين، المصري والمغربي، وفي نقده للفريق المصري يتناول أولا عوامل ومسارات الخروج من مصر، ثم يعرض لنمط الانتشار العالمي للمصريين المنضوين تحت جناح الحركة الاسلامية الراديكالية ثم يوضح طبيعة المنعطف الاستراتيجي الذي اتبعته هذه الحركة كنتيجة مولدة من عملية العولمة.
وقد أججت حرب الخليج الثانية ـ كما يؤكد عودة ـ التوجه الخارجي للراديكاليين المصريين لأنها كانت ملحمة كبرى أحدثت هزة عنيفة لكل التيارات السياسية في العالم العربي وان كان ما نجم عنها لا يتعدى رد الفعل، ويمكن رصده ـ في هذا السياق ـ التنظيم الدولي للاخوان المسلمين قبل هذا، بالاضافة الى تيار ديني واسع الانتشار يتعدى في تمدده حدود الدولة القومية وهو الطرق الصوفية والذي تخرجه سكونيته من المعادلة السياسية الجهادية.
ويؤكد عودة ان الجماعات الاسلامية الراديكالية العربية قد استفادت من مجمولة الاتصالات والمعلومات فتمكنت من صناعة اعلام مضاد لاعلام الدولة من خلال شبكة الإنترنت واستخدمت التقنيات الحديثة في حشد وتعبئة الكوادر التنظيمية وامتلاك قدرات متطورة نسبيا علي تنفيذ عمليات العنف المسلحة ضد رموز السلطة، ورجال الأمن وكبار الكتاب واستعادت من بنية الحداثة القانونية في الدول الغربية كما أن محنة الأفغان العرب جعلت الراديكاليين الاسلاميين يبذلون أقصى جهد ممكن في سبيل توفير حياة آمنة بعد أن أدركوا استحالة عودتهم الى بلادهم، وكان هذا ثمرة تكوين نواة شبكة عالمية ظهرت فيما سمي بالجبهة الاسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين.(9/101)
ويبين المؤلف انه خلال الفترة السابقة قد تشكلت ملامح الموقف الاميركي الراهن في قضية الارهاب والتي أكتملت بعد حادث 11سبتمبر (ايلول) والذي جعل اميركا تدخل في غمار مواجهة ما اسمته بالارهاب بكل قوتها بعد تردد واستحياء في التعامل مع هذه الظاهرة وهو ما أعطى حافزا لاسرائيل ان توغي صدر اميركا ضد بعض المنظمات الاسلامية التي تناهضها وضد بعض الدول كايران مثلا.
أما الطريق المغربي، فيرى ان عملياته ذات الانتماءات الآيديولوجية يغلب عليها الطابع الحداثي (فندق ـ مطعم) بجانب وجود تيار اسلامي قوي داخل المغرب كان من بعض الأماكن العشوائية مركزا يدعو منه الى العودة للأصول الدينية وقيامه في بعض الاحيان بمهاجمة أماكن اللهو والشواطئ.
ويرى المؤلف ان العاهل المغربي قد عهد الى التمسك بالشرعية الدينية كرافد اساسي لتدعيم الشرعية السياسية ولضمان كل من الزعامة الدينية والسياسية وحرص على البعد عن كل ما يمكن ان يقوض أو يهدد دعائم هذه الشرعية الراسخة والتي تشهد نوعا من الاجماع من قبل مختلف الاحزاب السياسية ولذلك قد يرى البعض في ظهور تنظيمات الحركة الاسلامية تهديد الشرعية النظام السياسي خاصة انها قد لجأت الى منازعة الشرعية الدينية وعارضت الاتجاه التحديثي الذي انتهجه النظام، ولعل ابرز هذه الجماعات هي العدل والاحسان والتي يتزعمها روجيا عبد السلام ياسين. يربط الكتاب بين ظهور الحركات الاسلامية في المغرب بالظاهرة العامة التي انتشرت في العالم الاسلامي منذ أوائل السبعينيات، هذا الي جانب فشل ما سمي بالليبرالية الواقعية التي وقع عليها الاختيار كاستراتيجية للتنمية من قبل الطبقة الحاكمة بالاضافة الى الفراغ الذي عرفته الحياة السياسية في المغرب أوائل السبعينيات نتيجة حملات القمع الموجهة صد المعارضة.
ويشير الكتاب في فصله الأخير الى أن مصادر تمويل الحركات الاسلامية يكتنفه بعض الغموض حيث لا يمكن حصر جميع هذه التبرعات لعدم وجود حسابات معلنة وعدم معرفة مصير أموال التبرعات وتشعب الحركات الاسلامية وعدم القدرة على تحديد المنخرطين في هذه الحركة ومساهمات بعص الدول بصورة سرية، واستخدام الحركات وسائل متعددة في نقل الأموال.
-============(9/102)
(9/103)
الدكتور محمد عمارة في حوار معه:المسلمون امام حرب العولمة ..عسكرية وقيمية
في الحوار التالي مع المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة الأكثر إطلاعا على كتابات الغرب وفهما لمشروعه ومخططاته الحالية طرحنا السؤال"هل ما نعيشه حاليا حرب دينية أم مجرد مأزق تاريخي نستطيع التغلب عليه؟..الدكتور عمارة كان أكثر صراحة حيث أكد أن ما يحدث حاليا لا يخرج عن كونه حربا دينية ينبغي أن يعترف المسلمون بها ويتعاملون مع الآخر على أساسها، وعلى المسلمين إزاء هذه الحرب إما "الخنوع" والقبول بما يفرضه الآخرين عليهم أو المواجهة والحفاظ على دينهم وثقافتهم.
تطبيق عملي
* هل تعتقد أن ما يحدث في العالم اليوم هو من تداعيات انفجارات نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2001؟
-لا بل اعتقد أن تداعيات وثمرات ونتائج ما وقع في الحادي عشر من سبتمبر 2001 تمثل التطبيق العملي لمرحلة العولمة التي تعني بالمنظور الغربي عملية اجتياح الغرب وخاصة الأمريكي للآخر وهو هنا العالم كله سواء في الجانب الاقتصادي عن طريق فتح كل الحدود أمام الشركات متعددة الجنسيات أو في الجانب السياسي بتكريس حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول الوطنية والقومية وتهميش المنظمات الدولية وإحلال الهيمنة الأمريكية محلها، أو في الجانب القانوني والتشريعي بجعل الكونجرس الأمريكي يشرع للعالم سواء في الأقليات أو التجارة أو العقوبات..بل وحتى في تغيير نظم الحكم فمثلا عندما يسن الكونجرس الأمريكي قانون لتغيير النظام في العراق ويعتمد ميزانية لذلك فإن هذا يعتبر لونا من ألوان التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
أو في عولمة القيم وإحلال منظومة القيم الغربية من خلال صياغتها في وثائق خاصة بالمرأة والطفل والسكان ثم تعميمها وفرضها على العالم..أو العولمة العسكرية التي جعلت حلف الأطلنطي يخرج من النطاق الأوروبي والغربي لأن ميثاقه الصادر عام 1949 كان يجعله قاصرا على الدفاع عن أراض الدول المشتركة فيه،لكن عندما عقد مؤتمر حلف الأطلنطي في العيد الخمسيني له في أبريل 1999 طورت صيغة حلف الأطلنطي وبدلا من الدفاع عن أراض الدول المشتركة فيه أصبحت للدفاع عن مصالح الدول المشتركة فيه، وبالتالي بدأ الحديث عن القوات متعددة الجنسية والانتشار السريع للتدخل في مناطق الأصولية والتطرف وأسلحة الدمار الشامل.
إذن خلال الفترة الأخيرة أصبحت هناك عولمة عسكرية وعولمة سياسية واقتصادية وقيميه..كل هذا تمت صياغته والحديث عنه منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وانفراد أمريكا بالهيمنة ووحدة قبضة الحضارة الغربية وزوال التناقض الذي كان قائما بين شقيها الليبرالي والشمولي.
الذي حدث بعد 11سبتمبر هو دخول هذا المخطط في التطبيق، الحرب في أفغانستان والتي ستكون لها نماذج أخرى في عدد من البلاد الإسلامية والضغوط التي تتم الآن على باكستان والتدخل في تغيير مناهج التعليم الديني والحديث عن ضرب الصومال واليمن والعراق،كل هذه الممارسات بعد أحداث سبتمبر هي نوع من العولمة العسكرية والعولمة السياسية وتطبيق التدخل في الشؤون الداخلية الذي هو انتقاص لسيادة الدول.
وهذه العولمة كما أنها اجتياح غربي وأمريكي خاصة للعالم الآخر فهي أيضا تطبيق لنظرية صراع الحضارات لأن هذه النظرية كما عرضها هانتنغتون لم تكن اختراعا منه ولا تبشيرا بصدام الحضارات لكنها كانت كشفا عن واقع صدام الحضارات الذي يمارسه الغرب ضد الحضارات الأخرى، وهو في هذا التخطيط تحدث عن ضرورة البدء بالحضارة الإسلامية والصينية مع تحييد الحضارات الأخرى ثم بعد الفراغ من الحضارتين الإسلامية والصينية تعود الحضارة الغربية إلى احتواء الحضارات الأخرى.
ولكن لأن الصين حققت مشروع نهضوي كبير وأصبحت قوة، لذلك صارت نقاط الضعف موجودة أساسا في الحضارة الإسلامية..كما أنها تعتبر مخيفة بالنسبة للمشروع الغربي أكثر من الصين التي رغم امتلاكها عوامل القوة إلا أنها تبقى حضارة محلية مثل اليابانية والهندية،في حين تمتلك الحضارة الإسلامية مشروع يقظة ولديها إمكانات عطاء شديدة خارج الحدود وبالتالي فهي منافسة للحضارة الغربية.
غزوة الأحزاب
وفي اعتقادي فأن اللحظة الراهنة تعيد إلى الأذهان صورة غزوة الأحزاب في عصر رسول ا صلى الله عليه وسلم ، حين كانت القبائل العربية تعيش على الصراعات فيما بينها وهي قبائل مشركة واليهود أهل توحيد وكل هؤلاء بينهم تناقضات شديدة إنما في مواجهة الإسلام اتحد الجميع..والذي حدث الآن أن الصليبية الغربية مع اليهودية الصهيونية مع الأرثوذكسية الروسية مع الكونفوشيسية الصينية والبوذية اليابانية مع الهندوسية الهندية..كل هذه القوى لها مصالح في تحجيم الظاهرة الإسلامية والمد الإسلامي ولها مشكلات مع المسلمين في تركستان الشرقية وروسيا والقوقاز والشيشان والهند وكشمير وأماكن أخرى..ولذلك أتفق العالم على اختلاف تناقضاته ومصالحه في مواجهة المد الإسلامي واليقظة الإسلامية.(9/104)
وهذا المشهد يعيد إلى الذاكرة محاولة نهضة محمد على، لأنه في مواجهة مشروع محمد علي الذي كان بمثابة تجديد الدولة العثمانية وتجديد الشرق الإسلامي اجتمعت روسيا القيصرية مع فرنسا وإنجلترا وألمانيا وكل هذه الدول التي كانت تتصارع دينيا وقومية ضد هذا المشروع النهضوي.
وبكل تأكيد فأنني أنظر للمرحلة الحالية باعتبارها مرحلة عنفوان الهيمنة الغربية في مواجهة الظاهرة الإسلامية..هذا الموقف الغربي هو موقف لا يعترف بالآخر لأن الغرب على المستوى الديني يريد تنصير المسلمين،وعلى مستوى المشروع الغربي والنظم الغربية والسياسات الغربية يريد احتواء العالم الإسلامي وتحقيق تبعية العالم الإسلامي سياسيا واقتصاديا وقيميا في المنظومة والمشروع الغربي..وبالتالي فإن فكرة الآخر غير موجودة والنزعة المركزية في الحضارة الغربية لا تعترف بالآخر بل تعتبر الحضارة الغربية هي الحضارة الإنسانية والعالمية الوحيدة..إذن فكرة العولمة هي فكرة الأمركة وفكرة تغريب العالم واجتياح العالم،وهذا كله من منطلق عدم الاعتراف بالنموذج الإسلامي.
صحوة إسلامية
* عفوا،لكن مقارنة ما يحدث اليوم بواقع المسلمين وقت غزوة الأحزاب ومشروع محمد علي هل تجوز! -المسلمون اليوم من الوهن الشديد بحيث لا تجوز مقارنة أوضاعهم بأي من العصور السابقة؟
اعتقد أن شدة الضربات الغربية في العالم الإسلامي تدل على أن العالم الإسلامي يستيقظ، العالم الإسلامي في حالة استضعاف مادي..لكن من الناحية القيمية والروحية ستجد عودة إلى الإسلام من قبل المسلمين..نحن في حالة صحوة إسلامية حقيقية.
* هذا التفسير عكس المشاع من أن الثمانينات كان عقد الصحوة الإسلامية التي يرى البعض أنها تشهد تراجعا منذ نهاية العقد التاسع من القرن العشرين؟
-لا هذا ليس صحيحا، أنا أدعو إلى تأمل المحطات التي نبهت الغرب أخيرا إلى ما يسمى بالخطر الإسلامي من وجهة النظر الغربية..مجلة شؤون دولية التي تصدر في كمبريدج نشرت ملفا في يناير 1991 فيه دراستين،الأولى عن الإسلام والمسيحية والثانية عن الإسلام والماركسية وعللت لماذا أتخذ الغرب الإسلام عدوا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وقالت لأن الإسلام هو الثقافة الوحيدة من بين ثقافات الجنوب القادرة على تحدي الثقافة الغربية!
* لماذا؟
-ذكرت دراسة مجلة شؤون دولية أن العلم الحديث والتصنيع جعل الإيمان الديني يتراجع في كل المجتمعات،لكن الغرب أكتشف أن الإسلام استثناء وحيد ومدهش جدا من هذه القاعدة..فالإسلام مستعص على العلمنة وهو الآن أقوى في قلوب أبنائه عن مائة سنة سابقة،وثبت أنه يمتلك مواهب للتجديد والتحديث الداخلي وبالتالي ليس مضطرا أن يقف ذليلا أمام النموذج الغربي وأن يستعيره!
إذن أكتشف الغرب أن الإسلام لم يتآكل بسبب المجتمعات الصناعية والعلم الحديث،وإنما بالعكس أصبح يستيقظ والناس تتعاطف نحوه وتتعلق به أكثر مما كان يحدث في القرون الماضية؟
* أنت تؤكد إذن أن الضعف الذي يكاد يعصف بالعالم الإسلامي ليس إلا ضعفا ظاهريا؟
-ضعف في الجوانب المادية، أنت عندما تشاهد منظومة الأسرة ومنظومة القيم في العالم الإسلامي وقارنتها بمثيلها في العالم الغربي تجد أن لدينا غنى شديد، والتدين نفسه الفروقات فيه كبيرة بيننا والغرب، لدينا الناس مؤمنة بكل جوارحها وروحها وهم الغالبية في المجتمعات الإسلامية بينما الذين يؤمنون بوجود أله لا تتعدى نسبتهم 14% في المجتمعات الغربية، والذين يذهبون إلى الكنائس (بموسيقى الجاز والرقص) لا تتجاوز نسبتهم 10% ..كما أنك عند المقارنة مع الغرب ستجد أن أعلى نسبة للعنف ضد النساء في الغرب،وأعلى نسبة للاغتصاب في الغرب،وأعلى نسبة للقلق والانتحار لديهم أيضا..المواطن الغربي العادي عندما يعلم بالإسلام يعتنقه لأنه أصلا لم يكن له دين، العلمانية قتلت فيه الدين.
عندما ترى هذا الواقع في الغرب وما لدينا في العالم الإسلامي تجد أن الأمة الإسلامية بالفعل أمة تستيقظ،رغم أن هناك عشرات المشكلات والعقبات والرواسب والموروثات وخصوصا في النظم والحكومات والتبعية للغرب، فكل هذه مشكلات موجودة أمام الصحوة التي ما زالت قوية لكنها في حالة ثبات.
بالإضافة إلى ما سبق ستجد أن محطة الثورة الإيرانية كانت من ضمن المحطات المؤثرة فيما يتعلق باكتشاف الغرب لهذه الحقيقة،وأذكر مما قرأته من الكتابات الغربية عقب الثورة الإيرانية أنهم قالوا "لقد فوجئنا بأن الإسلام لا يزال حيا وأنه القادر على تحريك الجماهير وعلى بناء دولة" ذلك أنه قبل الثورة كان الغرب يعتقد أنه بعد حوالي القرنين من الاستعمار فقد المسلمون القدرة على بناء دولة!
وأذكر أيضا من القراءات عندما كتبت دراسة عن المؤتمر الذي عقد في أميركا عام 1978 لتنصير المسلمين وجدت أن من دواعي عقد المؤتمر واختراع أساليب جديدة للتنصير المظاهرات التي قامت في مصر تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وكان ذلك في منتصف السبعينات وقبل قيام الثورة الإيرانية، وأيضا من العوامل التي دفعتهم للإسراع في تنصير المسلمين اتجاه باكستان لتطبيق الشريعة الإسلامية.(9/105)
فكرة الإسلام كدين ودولة فاجئت الغرب لأنهم كانوا قد تصوروا أن الإسلام دجن وأن المسلمين قبلوا بفصل الدين عن الدولة وأن الإسلام صار لونا من النصرانية..كان يعتقدون أن المسلمين قد تركوا الدنيا وانكفئوا على العبادة فقط،لكنه فجأة أكتشف حيوية الإسلام كدين ودولة.
وعندما كتب هنري كيسنجر "انتهزوا الفرصة" في أواخر الثمانينات قبيل سقوط الاتحاد السوفيتي وعرف ما يسمونه بالأصولية فقال هي التي تريد بعث الحضارة الإسلامية..تطبيق الشريعة الإسلامية..أن الإسلام دين ودولة..وهم ثوار وليسوا محافظين لأنهم ينظرون إلى المستقبل ويستلهمون الماضي ولكنهم لا يريدون العودة بالعربة إلى الماضي.
إذن مشكلة المشروع الغربي مع الإسلام في كون الإسلام دين ودولة وأنه استعصى على العلمنة وبالتالي فإن عقيدة المسلم تريد تحرير عقيدته، الأرض والثروة وأن يجعل الدنيا للمسلمين أيضا.
حرب دينية
* إذن في ضوء ما عرضته..هل ما يحدث بيننا والعالم الغربي حاليا حرب دينية أم مجرد مأزق تاريخي من الممكن تفاديه أو التعامل معه؟
نعم،هذا ينقلنا إلى زاوية جديدة ذلك أن البعض يشكك في عداء الغرب وعداء أمريكا للإسلام،ويقول أنه ليس عداء للإسلام وليست حربا على الإسلام وإنما هي حرب مصالح..وهذا صحيح لأن الغرب براجماتي ونفعي ودينه هو المال والمصالح، لكن دائما وأبدا عبر التاريخ وفي كل المجتمعات والحضارات سنجد أن المصالح لا تنفصل عن الأفكار..وعلى سبيل المثال عندما كانت الدولة الرومانية تحتل مصر حاربت المسيحية واضطهدت المسيحيين المصريين طوال ستة قرون لأن المسيحية كانت تمثل ذاتية مصر وعامل من عوامل تحررها وكان قهر هذه المسيحية هو تحقيق لمصالح الدولة الرومانية في مصر..أيضا الحروب الصليبية وقد كانت تريد احتلال الشرق إلا أنها تمثلت بالدين واستخدمت غطائه.وفي العصر الحديث كان الهجوم على الدولة العثمانية وعلى فكرة الخلافة سبيل لتقسيم العالم الإسلامي واحتوائه، بل إن الحرب على حركات التحرر الوطني في العالم العربي أخذت شكل الهجوم على القومية العربية..إذن كانت المصلحة دائما ما ترتبط بالفكر..الغرب عندما حراب الشيوعية كان في ذلك يدافع عن النظام الرأسمالي لكن حربه كانت ضد أيديولوجية.
ووفقا لتلك الأحداث التاريخية ستجد أن الذين ينكرون وجود حروب دينية هم بلا شك مخطئون..صحيح نحن ضد الحروب الدينية لكنها موجودة وتمارس ضد المسلمين،مثلما نحن ضد الحروب بصفة عامة إلا أن ذلك لا يلغي وجودها بل ويفرض علينا القتال كما يقول الله في القرآن "كتب عليكم القتال كما كتب على الذين من قبلكم" فالمسلمين لا يريدون أن يقاتلوا إلا إذا اعتدي عليهم أو على دينهم..هناك فارق دون شك بين ما نريد وما هو واقع وموجود..نحن لا نريد صدام حضارات، لكنه موجود.
إذن هناك استخدام للدين في الصراعات وتحقيق المصالح، فمثلا وفي إطار الحضارة المسيحية..أمريكا الشمالية تعتبر أمريكا الجنوبية هي الفناء الخلفي لها،والأرجنتين دولة كاثوليكية لكن أميركا البروتاستنتية تبشر بمذهبها هناك واستطاعت تحويل أكثر من 30% من أهل الأرجنتين إلى المذهب البروتستانتي.
أمريكا تريد التبشير أيضا في روسيا والكنيسة الروسية جعلت البرلمان الروسي (مجلس الدوما) يصدر قانون ديني يمنع التبشير بالمذاهب الغربية..إذن حتى في داخل الحضارة الغربية يستخدم الدين في تحقيق المصالح لأنه ليست هناك مصالح عارية،ولا تتحقق الأموال والثروات بدون أفكار ولذلك فقد أرتبط الغزو الثقافي الأوروبي بالغزو الاستعماري..الغرب والاستعمار في حاجة إلى إقناع المستعمرين بتأييد هذه التبعية وهذا النهب.
ومن خلال تجارب التاريخ نتعلم أيضا أن احتلال الأرض لا يمكن أن يتم إلا باحتلال العقول وجزء من احتلال العقول هو الدين والفكر الديني..والغرب في صراعه ضد الإسلام ينظر إلى الدين الإسلامي باعتباره الجامع الموحد للأمة والطاقة المحركة لها وأنه يجب أولا أن يعمل على تفكيك هذا الجامع حتى يحقق هدفه في شرذمة المسلمين وهزيمتهم واستسلامهم.
والحديث على أن الصراع هو صراع مصالح وليس صراع أفكار وأديان هو حديث وهمي..الغرب لا يريد الصراع ضد الإسلام لأنه يريد إدخال المسلمين جنة النصارى، إنما هو يريد مصالح في العالم الإسلامي ويعادي الإسلام لأنه سياج للمصالح الذاتية والقومية والحضارية والنهضوية للأمة.
جنة الغرب
* الغرب وجد إذن أن مشروعه في العولمة الاقتصادية لن يتحقق إلا بعولمة الآخرين ثقافيا أيضا؟
نعم العولمة الثقافية والدين جزء أساسي من هوية الأمة..الدين واللغة والتاريخ ثالوث يعادي دائما الهيمنة الاستعماري،وهذا ما فطنت إليه فرنسا خلال احتلالها الشمال الأفريقي حيث غيرت وبدلت في عناصر الهوية هذه من لغة ودين والشريعة..الحرب على الإسلام إذن ليس هدفها إنقاذ المسلمين من الكفر وإدخالهم الإيمان والجنة، ليس في المسألة حبا في خلاص المسلمين وإنما هي حب في ثروتهم وفي الهيمنة عليهم ومحاولة ضرب السياج الفكري والعقدي الذي يحمي المصالح الإسلامية والطاقة التي تحرك الأمة في معارك التحرر الوطني.(9/106)
لذلك ينبغي التمييز بين موقف الغرب من الإسلام في نقطتين، الأولى تتعلق بموقف الإنسان الغربي من الصراع،والثانية هي المشروع الغربي الذي يعادي الآخرين.. الإنسان الغربي ضحية للإعلام الغربي..ولذلك مشكلتنا ليست معه وليست مع العلوم الغربية لأنها علم عام يجب أن نسعى إليه ونتتلمذ عليه..مشكلتنا مع المشروع الغربي ومنه المشروع الديني الذي يتلخص في بناء الكنائس والتنصير والتي تطمح لاجتثاث الإسلام كله من أساسه، الإسلام كحضارة وعقيدة وشريعة وقيم لأنها تريد إحلال المسيحية مكانه وهذا الطموح في التغريب وفي العولمة ذو سقف عال.
أما الحكومات الغربية فهي لا تريد الحرب على العقيدة ولا على الشعائر أو العبادات الإسلامية، إنما تريد تحويل الإسلام إلى صيغة مشابهة للنصرانية لا علاقة لها بالدنيا، فهي تتركنا لنصلي كما نريد ونصوم كما نحب ونتدروش إذا شئنا، لكن على أن تبقى دنيانا تابعة لهم ليأخذونها، فالمراد أن تبقى لنا الآخرة شريطة أن يأخذوا الدنيا ومن فيها وما بها.ولذلك فإنه في الأيام الأخيرة ستجد أن هاتنغتون وفوكوياما وضعوا القضية في وضعها الحقيقي وقالوا أنه لابد أن يقبل المسلمون الحداثة والعلمنة التي هي فصل الدين عن الدولة، هذا هو الهدف بالنسبة للمشروع السياسي الغربي والحكومات الغربية.
وإذا كانت النصرانية الغربية والكنائس تعادي العقيدة الإسلامية فإن الحكومات الغربية والأميركية،قد لا يهمها هذا كثيرا إنما الذي يهمها هو وأد الإسلام كشريعة وجهاد مقاوم للغرب والمصالح الغربية،فهذا هو العدو الذي يجب أن تشن عليه الحرب وتجيش ضده الجيوش.
كما أنني أريد أن أضرب مثلا بالحرب التي يشنها الغرب ضد واحد من الأنظمة العربية المعتدلة لأنه تعدى الحدود المسموح بها وصارت له مداخلات خارج حدود العقيدة ..فعندما كان دوره محصورا في ضرورة إطالة اللحى وتقصير الثوب لم تكن هناك مشكلة مع الغرب، لكن عندما بدأ يتحدث عن الجهاد وتحرير الأرض فقد تحدثت بذلك عن الدنيا ولهذا صار الغرب يعاديها ويتهمها بتفريخ الإرهاب وذلك ما لم يكن يحدث عندما كانت تغيب الدنيا بل كانت موضع ترحيب.
لابد أن ندرك ما يحاك لنا،فالحرب ليست على مطلق التعليم الديني إنما على الموقف من شارون واليهود وما حواه القرآن والسنة، وكذلك قصص الغزوات ضد اليهود والجهاد لتحرير الأمة..إنما الإسلام العبادي والشعائري ليس هو ما تريد رأسه أمريكا، بل تريد رأس الإسلام المجاهد والمقاوم..الإسلام الطاقة المحررة للأمة الذي يبحث عن التميز الحضاري والعزة الحضارية والاستقلال.يجب أن نفض الاشتباك الوهمي بين الذين ينكرون صراعات فكرية وحضارية وبين الذين يقولون بوجودها قبل أن نحدد مواطن الخلاف.
المعركة التي تدور الآن هي معركة المشروع الغربي والنظام الأميركي ضد كون الإسلام رافض للعلمنة،وهذا ما ذكره حرفيا فوكوياما في مقالة الأخير المنشور بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر، حيث قال أن الفاشية الإسلامية،كما سماها، رافضة للحداثة ولمبدأ العلمنة لأنه يعتبر أن الديموقراطية الغربية هي ثمرة للمسيحية لأنه يعتبر الديموقراطية للشعب وليس للشريعة في ظل مبدأ فصل الدين عن الدولة..الغرب إذن واضح في تحديد مقاصده، لكن للأسف الشديد نحن لا نقرأ وإن قرأنا لا نفهم.
ما أريد التأكيد عليه أن النزعة الصراعية جزء من مكونات الحضارة الغربية،فالنظريات الأساسية التي صنعت الحضارة الغربية قائمة على الصراع، سواء عند داروين (صراع الأحياء والأقوى هو الأصلح)،أو في الحياة الاجتماعية حيث صراع الطبقات ولابد أن تزيح طبقة الأخرى حتى ترث المجتمع، حتى في التاريخ عند هيجل سنجد أن الحداثة تنسخ ما قبلها وكل عصر ينسخ ما قبله..الحضارة الغربية إذن حضارة صراعية وعندما اجتاحت العالم واستعمرته كانت تعتبر أنها تقوم برسالة حضارية، عندما يتم تغريب العالم وإزالة الموروث الثقافي للمسلمين وغير المسلمين يعتبرون أن ذلك أمر طبيعي لأنه تمدن ولأنه يأتي في إطار نظرية البقاء للأقوى لأنه الأصلح..ولذلك عندما يفرضون علينا منظومة القيم المنحلة التي تتبعهم يعتبرون أن ذلك تمدنا ويتعجبون لعدم قبولنا هذه المنظومة.
1000كتاب
* كيف إذن نتعامل مع الآخر وما هو الخطاب الأمثل الذي يجب أن نتحدث به؟
-نحن مطالبون بتبليغ الدعوة وإقامة الحجة وإزالة الشبهة،كما أننا في حاجة إلى تقديم الإسلام بشكل منظم وموضوعي،لذلك اقترح عمل مشروع ألف كتاب إسلامي ويتم اختيار هذه الكتب من فكر الإحياء والاستنارة على مدى القرنين الماضيين بحيث نكون مكتبة تستطيع أن تجيب على علامات الاستفهام والأسئلة التي تملأ الفراغات الموجودة سواء كانت في العقيدة أو السيرة والسنة.
* هل لديك خطة لتنفيذ هذا المشروع؟(9/107)
-ليت المعنيين بصورة الإسلام في الغرب يقللوا من الندوات التي لا تضيف شيئا ويتبنوا مثل هذا المشروع،وأتصور لو أن هناك مؤسسة تبنت مثل هذا المشروع وطبعت هذه الكتب وقدمتها للدعاة والمثقفين وطلاب العلم في بلادنا، ثم ترجمت إلى اللغات المختلفة فإنها سوف تلعب دورا رئيسيا في تقديم الصورة الحقيقية للإسلام في الغرب الذي رغم ما حدث فإن دخوله إلى الإسلام يتزايد هذه الأيام بعدما بدأ يقرأ عنه نتيجة تزايد الهجوم عليه حديثا.
ردود فعل
* هل تعتقد أننا في هذه الحرب التي أطلقت عليها الصبغة الدينية سنظل خاسرين على طول المدى؟
-بالعكس اعتقد أن الصلف الأمريكي والهيمنة الأمريكية ستضر بها،الأمريكيون ليسوا أمة وليسوا شعب له تاريخ..ما يفعلونه اليوم لا يخرج إلا من عقلية رعاة البقر، وهم يتصرفون الآن في العالم كله بمنطق رعاة البقر..وفي الحقيقة أنه لا يكفي أن تكون هناك قوة فرعونية ووفرة قارونية لكي تكون هناك حضارة وقبول في العالم كله..الأمريكيون في الحقيقة مجرد رعاة بقر يمتلكون قوة فرعون ووفرة قارون، وهذه ليست مؤهلات لحكم العالم..ونحن لو رتبنا البيت العربي من الداخل نستطيع أن نكسب العديد من القوى التي تحالفت بشكل مؤقت مع المصالح الأمريكية لأن التناقضات بينهم أعمق من هذه المصالح..في رأيي فإنه يجب تهدئه الصراع بين المسلمين وهذه القوى في سبيل مواجهة الخطر الأكبر الذي يأتي من الهيمنة الأمريكية،وأتمنى من المنظمات العربية والإسلامية أن تعي مثل هذا وأن تسعى إلى تحقيقه
وردود الفعل للتصرف الأمريكي سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه ستكون حادة والقواعد الثلاثة عشر التي يقال أنهم أقاموها في منطقة وسط آسيا لن تحمي القوات الأميركية..ما أخشاه أن يولد ما تفعله أمريكا حاليا تطرفا أكثر..فالتدخل في التعليم الديني ضرب في العظام واختراق وتجاوز للخطوط الحمراء،وهذا سوف يولد رد فعل عنيف ضد الولايات المتحدة الأمريكية،وهذا ما لا نتمنى حدوثه سواء الفعل أو رد الفعل.
==============(9/108)
(9/109)
الإسلام والعولمة.. صراع أم حوار؟!الإسلام دين العالمية لا العولمة
* جمال البنا
ما أن ظهر الاسلام حتى ظهرت طبيعته ((العالمية)) في صورة مصغرة أو ((جنينية))! كما يقولون فمن الأيام الأولى كان حول الرسول سلمان الفارسي وصهيب الرومي (بالإضافة إلى جارية رومية عذبت واستشهدت في سبيل الاسلام) وبلال الحبشي لقد آخى الاسلام بينهم وصهرت روحه القوية فوارق الدم والجنس فيهم كما كان حوله الرجال والنساء والأطفال أحراراً وعبيداً.
صحيح أن دعوة الاسلام بدت أولاً محلية، ولكن هذا كان في ترتيب البدء بالدعوة لأن هذا هو ما يقتضيه طبيعة الأشياء فقد بدأت أولاً (أنذر عشيرتك الأقربين) ثم (أم ((القرى حولها)) ثم جاء الأنصار، وأرسل الرسول إلى الأنصار معلمين، ثم بدأت الهجرة إلى المدينة إرسالاً كللت بهجرة الرسول).
وعندما استقر الرسول بالمدينة كان من أعماله الأولى المؤاخاة التي قام بها بين المهاجرين والأنصار فقرن كل واحد من المهاجرين بواحد من الأنصار اعتبره أخاه، ووصل كرم الأنصار، وثقتهم في هذه المؤاخاة إلى الدرجة التي كان الأنصاري يعرض على أخيه المهاجر نصف ماله وإحدى زوجتيه بعد أن يطلقها.
وكانت الثانية هي ((صحيفة الموادعة المشهورة)) التي جمعت الفئات اليهودية داخل إطار ((أمة المدينة)) ورتبت عليهم واجبات كما منحتهم حقوق مثل واجبات وحقوق الأنصار.
وتعد صحيفة الموادعة من أولى المعاهدات إن لم تكن أولى المعاهدات التي تترفع فوق حواجز الدين وفوارق الجنس وتمنح الجميع حقوقاً وواجبات متساوية..
ومع الزمن كانت الطبيعة العالمية للاسلام تتضح وكانت نصوص القرآن صادعة بذلك، وحدت الآيات التي يتصدرها (أيها الناس) محل الآيات التي توجه إلى المؤمنين.. والتي تصرح ببعثة الرسول ((إلى الناس جميعاً)) وتصف ((عالمية الاسلام)).
(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) الأعراف: 158.
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107.
(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) سبأ: 28.
وسلك الاسلام طريقة (حضارية) سلمية في الدعوة لعالميته، تلك هي الخطابات التي أرسلها الرسول إلى ملوك الدول المعروفة وقتئذ الروم والفرس ومصر وكانت هذه الكتب تدعو هؤلاء الحكام للإيمان بالاسلام أو تحملهم مسؤولية إبقاء جماهيرهم في ظلمات الكفر إن رفضوا..
وكما هو معروف فقد رفض الجميع باستثناء المقوقس الذي لم يرفض ولم يقبل وأهدى إلى الرسول هدايا.
وأتم الخلفاء الراشدون ما بدأه الرسول عندما أرسل رسله فجوبه بالرفض، ذلك أنه كان يَسعَ المسلمون وليس لديهم قوة أن يقنعوا بتبليغ الملوك ولكن عندما توفرت لهم القوة كان لا بد من تبليغ الشعوب والجماهير، والمجتمع الكافر بصفة عامة برسالة الاسلام..
ذلك أن التبليغ برسالة الاسلام جزء لا يتجزأ من عالمية الاسلام باعتباره الرسالة الخاتمة.
ولننظر سوياً إلى هذه الآيات الكريمة:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على النس ويكون الرسول عليكم شهيداً) البقرة: 143.
(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) النساء: 41.
(ويوم نبعث في كل أمة بشهيد عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل: 89.
(وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس) الحج: 78.
إن هذه الآيات عظيمة الدلالة فيما نحن بصدده لأنها تؤكد عالمية الاسلام بما تفرضه من واجب إشهاد الأمم على الاسلام، وهي:
1 ـ تؤكد عالمية الاسلام.
2 ـ تثبت هذا التأكيد بإيجاب تبليغ رسالة الاسلام وإن يكون المسلمون شهوداً على هذا.
3 ـ ينتهي الوجوب عند هذا ـ وليس فرض الاسلام لأن رسالة المسلم، ورسالة الاسلام ـ تقف عند التبليغ أما إيجاب الإيمان أو فرضه فهذا ما يخالف أصول حرية العقيدة في الاسلام، وما تثبته قاعدة قبول الجزية ـ في حالة الحرب، وانتصار المسلمين..
ولقائل أن يقول ألم يكن هناك طريقة أخرى لتبليغ رسالة الاسلام سوى الجيش؟ فضلاً عن أن الجيش يتضمن أكثر من التبليغ ـ فنقول بعد أن كتب الرسول إلى الملوك، وبعد أن رفض الملوك لم يكن هناك طريق لإشعار المجتمع بن هناك ديناً اسمه الاسلام يعرض على الشعوب إلى هذه الطريقة. لم يكن هناك إذاعات خارجية أو تليفزيونية أو صحافة أو إنترنت أو أي وسيلة للاتصال بالناس.. والطريقة الوحيدة الفعالة والمؤثرة والتي تدفع الملوك والحكام للتحرك هي الجيش.
على أن هناك نقطة دقيقة يجب إيضاحها ذلك أن الاسلام كما هو عقيدة دينية، فإنه أيضاً عدالة دنيوية، وقيم حضارية، وقد استبعد الاسلام نهائياً فرض العقيدة الدينية بالقوة ليس لأنها تخالف طبائع الأشياء فحسب ولا لأنه لا قيمة لدين يكره عليه صاحبه ولكن أيضاً لأنه يخالف النصوص القرآنية الصريحة في أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة وأن الهداية مردها إلى الله (إنك لا تهدي مَن أحببت، ولكن الله يهدي مَن يشاء).(9/110)
ولكن من ناحية أخرى فإن نظم الجبروت والطغيان والطبيعة التي قام عليها العالم القديم وبنى عليها الفرس والرومان نظمهم. هذه النظم التي سحقت الجماهير وقضت عليهم بالاستعباد وحرمتهم كما يقولون، الحقوق الأساسية للانسان وكانت الحرب تعني تدمير هذه النظم الطاغية وتحقيق العدل الاسلامي للجماهير، مع منحها حرية الاحتفاظ بدينها وفي نفس الوقت يكفل لهم الجيش الاسلامي الحماية مقابل تقديم جزاء لهذا، وهي ((الجزية)) التي اشتقت من مادة الجزاء.
هنا نجد أفضل صورة للعالمية، صورة تعرف الناس بدين يستبعد عبادة الأحبار ـ والرهبان والملوك والطغاة، ويعرض عبادة الرحمن الرحيم الخالق الكريم رمز القيم والمثل الغائبة والإيمان برسول أرسله الله رحمة للعالمين.. ولكن هذا العرض لا يعني، ـ كما أشرنا ـ الإجبار، أنه مجرد عرض، دور المسلمين فيه أن يكونوا شهداء عليه.
وفي الوقت نفسه فإن تطبيق القيم الاسلامية والنظم الاسلامية التي تقوم أساساً على العدالة وتستبعد كل صور الظلم والطغيان تحرر المجتمع وتفتح أبواب الحرية وآفاق المبادرات للأفراد جميعاً..
يتضح مما سبق أن للاسلام ((عالمية)) وضعها تطبيقاً لتوجيه القرآن (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 13.
وهذه العالمية لا تقف أمامها حدود أو سدود وهي تنظر إلى الناس جميعا دون تفرقة بين أبيض وأسود. ذكر وأنثى، والاسلام يجد من واجبه أن يعرف ناس هذه العالمية بالاسلام كعقيدة دينية وعدالة دنيوية وقيم حضارية فالمسلمون هم حملة رسالة عليهم أن يبلغوها، وفي العهود الماضية لم يكن ذلك متيسراً بغير العمل العسكري الذي يشعر الجماهير به، فضلاً عما يتمخض عنه من حرب، أو إيمان، أو موادعة تكون كلها لها آثار بعيدة المدى إن لم يكن في إسلام هذه الأقوام فعلى الأقل تعرفهم على قيم الاسلام، وبالتالي ثورتهم على قيم الطغيان والجبروت.
ولكن العصر الحديث وضع في أيدي الدعاة وسائل للدعوة والتبليغ أبعد مدى وأكثر أثراً من أي وسيلة أخرى، وأتصور أن هذه هي وسيلة المسلمين للدعوة وأنها هي البديل عن الجهاد الذي لم يكن له بديل من قبل.
فعالمية الاسلامية عالمية حضارية تقوم على أسس وقيم الاسلام الحضارية سواء كان في مجال العقيدة أو في مجال النظم.
ومرة أخرى قد يقول قائل: ليس في هذا جديد فالمسيحية، يمكن أن تدعى مثل هذا الدور وهذا صحيح إلى حد ما لأن المسيحية والاسلام أخواعلات، كما يقولون: أي من أب واحد وأمهات شتى ولا يستشعر الاسلام حساسية، ذا قامت المسيحية بتعميم قيم الحب والخير بين الناس جميعاً والفرق الوحيد أن الاسلام أكثر أحكاماً من المسيحية سواء في عقيدة الألوهية الخالية من التعقيد الكهنوتي، أو في النظم التي تقوم على العدل..
خلاصة القول أن الاسلام بطبيعته عالمي وإن عالميته تقوم على التعريف به، وما فيه من قيم وأن هذا يمكن أن يتم مع احتفاظ الأمم الأخرى بأديانهم لأن الاسلام وإن كانت عقيدة من ناحية فهو نظام في ناحية أخرى وقاعدته العامة هي الآية: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).
وهذه الآية هي التي تجعل الاسلام عالمياً، وتجعله في الوقت نفسه يرفض العولمة المزعومة لأنها تجعل من قادة المجتمع الأوربي الأمريكي أرباباً من دون الله وتملي على شعوب جماهير العالم الثالث التسليم لها.
ذلك أن العولمة التي يدعون إليها ليل نهار ليس إلا الصورة الأخيرة من الهيمنة الأوربية على العالم.
وقد سبقتها عولمة ((الإمبراطورية الرومانية)) وما يطلقون عليه ((السلام الروماني)) وكان سلاماً يقوم على السيف الروماني العريض الذي قهرت به الجيوش الرومانية العالم القديم وفرضت نفسها عليه وتحكمت فيه تحكم فاتح يرى أن كل ما في المدينة المفتوحة من أرض، ومال، وعقار وناس هم ملك له بحق الفتح...
وانطوت تلك الصفحة لتظهر صفحة أخرى من العولمة الأوربية: عولمة تقوم على تقسيم العالم بين الدول الأوربية طبقاً لاتفاقات في مؤتمرات دولية وكان شعار هذه العولمة وأداتها ((الأسطول البريطاني التي وصلت بوارجه إلى أقصى مواني العالم وقصفت قلاعه.
واليوم تأتي جولة جديدة في المعركة نفسها تأتي العولمة التي لا يكون سلاحها السيف الروماني العريض ولا الأسطول البريطاني العتيد، ولكن التكنولوجيا السحرية وما أوجدته من مَرَدة، مثل الكمبيوتر، والأقمار الصناعية، والتليفزيون، وغيره مما زلزل المقومات والقيم والتقاليد والخصوصيات، ولم يجعل هناك ما يمكن أن يقف في وجه هذه المردة، فالسماوات نفسها مفتوحة أمامهم، وفي الأرض غزوها غرف النوم فيها في كل مكان من؟ أجهزة التليفزيون ويتطلع الأفريقي في غابته على إحدى الأزياء الباريسية وآخر المسلسلات الأمريكية.(9/111)
والهدف الوحيد الذي تعمل له كل قوى العولمة هو أن يصبح العالم سوقاً واحداً مفتوحاً، دون جمارك أو حمايات، بحيث يمكن للمنتجات الأوروبية الأمريكية ((المتلتلة)) أن تجد لها مشترين، وأن يتم هذا على أنقاض الصناعات والمنتجات القومية التي لا تتمتع بمزايا المنتجات الأوربية الأمريكية. أما قضية الثمن فليست مشكلة. إذ يمكن التحكم في عملات الدول كما يشاء تجار العملة.. كما يمكن اللجوء في المرحلة الأولى إلى أسلوب الإغريق أولاً، أي النزول بثمن السلعة إلى ما دون التكلفة لفترة معينة تبور فيها كل السلع القومية، وتفلس مصانعها لتعود هذه الدول فترفع في الأسعار كما تشاء، بعد أن انفردت بالسوق..
وتقوم الإعلانات في الجرائد، وفي التليفزيون بحرب أعصاب حقيقية تحطم فيها مقاومة المستهلك بحيث تفصل السلعة بالمعلن عنها عن سلعته، بل يجد نفسه منساقاً لشراء السلعة المعلن عنها حتى ولو لم تكن رغبة الصحيفة.؟
وبهذه الطريقة ينقسم العالم إلى نخبة فوقية هم سكان الدول الأوربية/ الأمريكية. ومستهلكين هم الدول الأخرى...
ولما كانت شعوب دول العالم الثالث لا تستطيع الشراء إلا عندما يتوفر لها عمل وتحصل منه على نقود، فإن العالم الأوربي/ الأمريكي يدخر لها أدنى الأعمال وأقلها كسباً وأكثرها ناء، وبذلك يرفع عن نفسه القيام بهذه الصناعات والحرف أو بخس الأجور فيها ـ لأنه لا يريد بخس الأجور في بلاده وبهذا يكسب مرة أخرى ولا يؤثر فيه أن إنقاص الأجور في العالم الثالث سيؤثر على قوته الاستهلاكية، لأن عددهم بمئات الملايين، ولأن إغراء السلع الجديدة، وتأثير الدعاية والإعلان تجعل عمال الدول النامية تخيف على غذائها وكسائها وثقافتها في سبيل الحصول على التليفزيون الذي يشبع المتعة ويعرض ما يقوم بدوره في الإشباع العاطفي حتى بدور الممارسة العاطفية.
وإذا كانت العولمة الرومانية تعتمد على السيف، وعولمة الاستعمار تعتمد على الأسطول، فإن لدى العولمة الحديثة ترسانة كاملة من الأسلحة، فبعد ظهور الآثار السيئة لاقتصاديات الشركات متعددة الجنسية أو عابرة القارات تلتمس الدولة مساعدة صندوق النقد الدولي الذي يتقدم ((بوصفة)) معروفة تتضمن تخفيض العملات، وتقليص الإعانات والخدمات الاجتماعية وخصخصة الشركات وترك آليات السوق حرة في العمل، ويقدم الصندوق لقاء إجابة هذه الشروط معونات نقدية بفوائد متفاوتة، وما أن تتقبل الدولة ذلك حتى تجد نفسها وقد أصبحت أسيرة الصندوق لا تملك لنفسها شيئاً، فقد أطلقت عنان الرأسمالية التي لا تعرف إلا الربح والمنافسة القاتلة، وأسوأ شيء أنها تعجز عن سداد الديون وتتراكم الفوائد ويصبح هم الدولة تسديد الفوائد التي فاقت أضعافاً مضاعفة الدين الأصلي..
لقد أصبح واضحاً أن الهدف الرئيسي للعولمة المزعومة هو القضاء على سلطة وقوة الحكومة خاصة في المجال الاقتصادي، بحيث تصبح الدولة تحت رحمة صندوق النقد الدولي، واقتصاديات الشركات الكبرى التي تزيد مالية إحداها عن عشرين أو ثلاثين دولة من دول العالم الثالث، بحيث لا تستطيع أن تقدم شيئاً لشعوبها، أو تصد غائلة الرأسمالية الدولية أو تعينها في محنتها لأن هذا كله يخالف مبادئ الاقتصاد الحر كما يزعمون.
ومن ترسانة العولمة الحديثة ((العقوبات الدولية التي تفرضها أمريكا باسم دول العالم على مَن تشاء طبقاً لمعاييرها الخاصة، فتترك إسرائيل تصنع مئات الرؤوس النووية وتضرب العراق، والسودان لمظنة أن لها نشاطاً ودراسات نووية، وقد سلطت العقوبات الدولية على ليبيا، فلم تستطع مصر، وهي أقرب الدول إليها أن تفعل شيئاً لها.
وكان وجود الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية يعوق انطلاقة وحش العولمة، فلما تهاوى الاتحاد السوفيتي انفردت الولايات المتحدة وانفسح أمامها المجال لأسوأ صور الاحتكار والعربدة.
وأعتقد أن من الضروري لمجموعة الدول الاسلامية أن تتكتل لمقاومة هذا الوباء، ولن تعجز من أن تجد حلفاء لها من الدول التي حاقت بها نقمة العولمة لوضع حد لهذا الابتزاز والتحكم والهيمنة.
==============(9/112)
(9/113)
مستقبل الأحوال العربية فى منظور غربي
/سيد يوسف
يبدو أن سرعة التغير باتت أكثر مما اعتاده الناس فى السنوات الماضية يشهد على ذلك نمو بعض الدول الآسيوية وتأخر الدول العربية وصعود نجم الهند إيران والصين، وبعض الانقسامات فى حلف الأطلسي، ونمو اتجاه العولمة والإرهاب، والنجاحات التى يحققها تيار الإسلام السياسى، وانحسار الاتجاه العلمانى فى الدول العربية ...إضافة إلى مفردات أخر.
ولعل تلك المتغيرات قد حدت بالمجلس القومي الاستخباراتي NIC التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA...إلى تبنى مشروع ""خريطة العالم لعام 2020" والتى قدمت ترجمته الباحثة شيرين حامد فهمي والذى نشر فى موقع إسلام أون لاين نذكر منه ما يتصل بأحوال أمتنا العربية نتبعه بتحليل موجز لبعض مفرداته حسبما يقتضيه المقام.
كانت أهم مفاتيح التغيير الواردة بالمشروع :
(1)
عولمة الاقتصاد وسيولة التكنولوجيا كما يلى:
* يتوقع ريادة الصين والهند للقارة الآسيوية كلاعبين عالميين جديدين بما سيؤدى ذلك إلى أحداث درامية... مع توكيد أن كيفية استخدام هاتين الدولتين لقوتهما المتصاعدة سيظل قيد الدراسة والتأمل.
* ويتوقع وجود أزمات شيخوخة فى أوروبا واليابان بسبب متغيرات متعددة منها وجود مشكلة ضخمة تتمثل في زيادة عدد كبار السن من ناحية، ونقص عدد الشباب أو القوى العاملة من ناحية أخرى؛ وهو ما سيؤدي بدوره إلى تأثيرات سلبية على الاقتصاد الأوربي بأكمله، وفيما يخص اليابان فإنها تواجه مشكلة إضافية خلاصتها أن اليابان ستكون مسئولة في السنوات المقبلة عن الخيار بين مهادنة الصين ومشاركتها فيما سيصب في مصلحتيهما وموازنة الصين والوقوف حيالها في توازنٍ وتحدٍّ. ويُضاف إلى الأزمة اليابانية - في المنطقة- الوحدة الكورية المرتقبة في السنوات القادمة التي من المفترض أن تؤدي إلى أزمة هي الأخرى بالنسبة لكثير من الدول الآسيوية
* ويتوقع انتهاء التقسيمات الثنائية من أمثال: شرق وغرب، شمال وجنوب، نام وغير نامٍ، صناعي وغير صناعي، متحالف وغير متحالف...ومن ثم ستفقد التقسيمات الجغرافية التقليدية أهميتها تدريجيا على مستوى العلاقات الدولية، على أن يحل محلها هيكل عالمي من نوع جديد، يقوم على قاعدة المدينة/العالم أو عالم المدن المتضخمة؛ حيث ستكون التكنولوجيا والتجارة هما الرابط الأساسي بين تلك المدن؛ وهو ما سيُزعزع من رابطة الو لاءات، ويجعلها أكثر تخلخلا.
* ويتوقع أن تمثل العولمة اتجاها متضخما (mega-t r end)، يملي قوته في كل مكان على وجه الأرض؛ ومن ثم، فإنه من المنتظر أن يصير لمثل هذا الاتجاه تأثير جبار على جميع الاتجاهات الرئيسية الأخرى التي ستكون -في عام 2020- قد تشكلت وتأطرت وفق النموذج العولمي...مع الوضع فى الاعتبار أن هناك إصرار من الحكومات والمجتمعات المدنية على تغيير أطر العولمة، وإعادة تشكيلها، ومن ثم عدم إبقائها على حالها.
* توقع زيادة كبيرة بدرجة ملحوظة فى الاقتصاد العالمي حيث يفترض أن يكون الاقتصاد العالمي قد ازداد بنسبة 80% عن عام 2000، وأن يكون معدل دخل الفرد قد ازداد تقريبا بنسبة 50%" ، كما يتوقع اقتطاف معظم دول العالم من ثمرات هذا الرخاء ، على أن تكون الثمرة الكبرى من حظ القارة الآسيوية التي سوف تتحكم في أكثر وأسرع الأسواق انتشارا، والتي سوف تتحكم في أكبر عدد من المصانع والشركات عبر القومية؛ هذا إذا ظلت القارة على تطورها الاقتصادي السريع...مع احتمالية كبيرة فى سوء عدالة فى التوزيع.
* يتوقع أن تكون الدول الأكثر استخداما لأحدث أنواع التكنولوجيا هي نفسها الدول الأكثر استفادة من خيرات العولمة... وهذا لا ينطبق على الدول فقط، بل على القوى الاجتماعية أيضا.
* كما يتوقع أن تصير الصين والهند من قادة الدول التكنولوجية في العالم؛ وأن تصير الدولتان من أكبر الدول المتخصصة في التكنولوجيا رفيعة المستوى ، التي من المفترض أن تمثل الثورة التكنولوجية القادمة، وهي تكنولوجيا "النانو" أو المنمنمات.
* ويتوقع أن تصير الشركات عابرة القارات ذات نكهة آسيوية، بعد أن ظلت عقودا طويلة ذات نكهة أمريكية، كما يتوقع أن العولمة ستأخذ سمتا غير غربي في غضون الأعوام القادمة ، وستكون الشركات الآسيوية العالمية هي المحرك الأساسي لنشر التكنولوجيا في مختلف ربوع العالم، كما ستكون المحرك الأساسي للدفع بعجلة النماء الاقتصادي في الدول غير الصناعية.
* يتوقع مزيدا من الطلب على الطاقة حيث ينتظر أن ينمو إجمالي الطاقة المستهلكة إلى 50% في ظل العقدين القادمين، مقارنة بـ34% فيما بين 1980 و2000. فدول مثل الصين والهند - بأعداد سكانها المتنامية- لا بد أن يزيد احتياجها للطاقة؛ الأمر الذي سيعني انشغالا متزايدا من هاتين الدولتين بمصادر الطاقة؛ وهو ما سيؤثر بقدر كبير على تشكيل سياساتهما الخارجية...أما بالنسبة لأوربا فسيكون تكالبها أكثر على الغاز الطبيعي؛ وهو ما سيُلزمها بالدخول في علاقات إقليمية مع كل من روسيا وشمال إفريقيا لما يتمتعان به من وفرة هذا النوع من الطاقة.(9/114)
* احتمال تصاعد دور روسى مرتقب... نمو كبير ملفت للنظر فى اقتصاد البرازيل وإندونيسيا.
(2)
سياسات الهوية:
* يتوقع ظهور أشكال جديدة من سياسات الهوية - التي ترتكز أساسا على القناعات والمعتقدات الدينية- سوف تمثل ضغطا على الحكومات ، ففي ظل عالم يتجه سريعا نحو العولمة والكوكبة، وفي ظل عالم تموجه الهجرات السريعة أيضا... يأتي الدين ليلعب دوره في منح أتباعه مجتمعا مهيأ تهيئة كاملة، ليكون عزوة لهم، موفرا لهم "شبكة أمان اجتماعي" في أوقات الحاجة؛ وأكثر ما يلعب الدين هذا الدور في وسط مجتمعات المهاجرين.
* ويؤكد المشروع على مركزية وأهمية الإسلام السياسي من بين جميع الهويات؛ حيث يتوقع لمثل هذه الهوية أن تصير ذات تأثير عالمي جم بحلول عام 2020. فتضافر عوامل عدة في الدول العربية والإسلامية - مثل الفقر وتأثير التعليم الديني وأسلمه النقابات وانتشار المنظمات غير الحكومية ذات البعد الديني- يؤكد على حتمية وصول الإسلام السياسي إلى أعلى درجات الأهمية في سلم الهويات؛ وهو ما يؤهله ليصير أكبر وأهم حركة اجتماعية وسياسية يشهدها العالم.
* وفي الغرب، سيبقى الإسلام السياسي خيارا متاحا أمام المهاجرين المسلمين الذين - على الرغم من كونهم منجذبين للرخاء الغربي ولفرص العمل هناك- يشعرون بالغربة والوحشة وسط الثقافة الغربية التي تناقض ثقافتهم الإسلامية... وأكثر ما يخوف الغرب من الإسلام السياسي هو قدرته على حشد الجماعات الإثنية والقومية المحبطة، وتفعيلها بعد ذلك لخدمة أهدافه، والمشروع لا يستبعد أبدا قيام الإسلاميين السياسيين بخلق سلطة لهم عابرة لجميع الحدود القومية.
(3)
الدمقرطة تزدهر بالشرق الأوسط:
* إذا كانت الحكومات العربية قد استطاعت كبح جماح الإسلاميين السياسيين في تسعينيات القرن العشرين فإنها لن تستطيع فعل ذلك عام 2020. فهي إن ظلت سلطوية، فستعاني من ضغوط الدمقرطة؛ وهي إن صارت ديمقراطيات مبتدئة وضعيفة، فستعاني من نقص القدرات اللازمة على التطور والتعايش في ظل التحديات.
* ومن المتوقع أن يقل وازع الدمقرطة بحلول عام 2020، فمن المفترض أن تأخذ الدمقرطة طريقها في الانحسار، خاصة في الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفيتي السابق وفي جنوب شرق آسيا ، إلا أنه من المتوقع على الوجه المناقض، أن تبدأ الدمقرطة في الازدهار بالدول الرئيسية في الشرق الأوسط التي حرمت عنوة، طيلة العقود الماضية، من خوض التجربة الديمقراطية.
(4)
الهجرات
يتوقع تدفق عدد كبير من الجماعات الإثنية في داخل الدولة الواحدة؛ وهو ما يعرض الأخيرة لتحديات جسيمة في كيفية استيعاب تلك الجماعات المتدفقة... بلغة أخرى، إن تزايد عدد الهجرات من شأنه تعريض عدد أكبر من الدول القومية إلى معضلات إثنية، تتمثل في الإشكالية التالية: كيف يمكن امتصاص الجماعات الإثنية في داخل التراب الوطني القومي، واحترام هوياتهم وخصوصياتهم في نفس الوقت؟
* ويتوقع للمؤسسات - التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية- مثل هيئة الأمم المتحدة UN وصندوق النقد الدولي IMF أن تتحول إلى "موضة" قديمة، ما لم تُطبِع وتهيئ نفسها على التأقلم مع التحولات الكبيرة التي سيشهدها النظام العالمي، وأولها بزوغ قوى جديدة.
(5)
انعدام الأمن
من خلال بروز 3 عوامل يتوقع انعدام الأمن العالمي:
* اكتساح العمالة الصينية والهندية للسوق العالمية.
* الصراعات الداخلية أو الحروب الأهلية التي ستصير أكثر تهيجا.
* في بقاء الورقة النووية معلقة في الأفق حيث وما أسهل الحصول علي السلاح النووى في عام 2020!.
(6)
مخاوف غربية وتوقعات
* يظهر المشروع بوضوح مخاوفه من تجاوز "الإرهابيين" لحدودهم المألوفة، واستخدامهم للأساليب غير المألوفة التي قدمتها لهم تكنولوجيا المعلومات على طبق من فضة ، كما يتخوف من نشوء جماعات راديكالية أخرى - على غرار "القاعدة"- واحتضانها للحركات المنشقة المختلفة المنتشرة بوضوح في العالم الإسلامي؛ ويتخوف من تمدد "الأيديولوجية الإسلامية" - كما يسميها- في مناطق بعينها، مثل جنوب شرق آسيا، وآسيا الوسطى، وغربي أوربا.
* كما يتوقع تجاوز تنظيم "القاعدة" من قبل جماعات إسلامية أصولية أخرى حيث يتوقع قيام حركات إسلامية كبرى - تتقارب فكريا وعمليا مع "القاعدة"- بالالتحام مع الحركات المحلية المنشقة؛ وهو ما يرى فيه الغرب خطرا جسيما على الأمن العالمي، وما يزيد الأمر خطورة هو استغلال تلك الحركات لـ"تكنولوجيا المعلومات" بصورة مكثفة ومرعبة في نفس الوقت؛ فعبر هذه التكنولوجيا سيتمكن الإرهابيون من نشر تهديداتهم في كل مكان؛ إذ إنهم لم ولن يعودوا بحاجة إلى مراكز ينطلقون منها لينفذوا عملياتهم؛ فما وفرته لهم هذه التكنولوجيا من اتصالات ومعلومات أغنتهم عن تلك الحاجة؛ ومن ثم، تحولوا إلى مجموعات إلكترونية من الجماعات والخلايا والأفراد. ولذا، فإن كل ما يتعلق بتدريب الإرهابيين، وبتعليمهم المهارات know how المطلوبة، وبدعمهم ماديا، سيصبح متاحا "أون لاين".(9/115)
* ويتوقع أن أغلب الهجمات الإرهابية القادمة سوف تكون تقليدية، ولكن مع تطويرها للآليات المُستخدمة ضد الجهود الرامية لمناهضة للإرهاب، وكما لن ينال الأسلحة والتكنولوجيات "الإرهابية" تغيير واضح - فتظل على تقليديتها- فإن المفاهيم العملياتية "الإرهابية" لن ينالها بالمثل أي تغييرات ، ونقصد هنا بالمفاهيم العملياتية: تصميم العمليات الإرهابية، وتنسيقها وتخطيطها، ودعمها.
* ويبدى الغرب مخاوف كبيرة من شغف عدد كبير من الإرهابيين للحصول على الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية، مما يمكن أن ينبئ بحرب ضروس تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل. حيث إن الإرهاب البيولوجي سيكون أكثر تكيفا وتأقلما مع الجماعات الإرهابية الأصغر، والأكثر حصولا على المعلومات، وآخر ما يتخوف منه الغرب هو تمكن الإرهابيين من تدمير شبكات المعلومات الحساسة من خلال هجماتهم الإنترنتية.
* يتوقع بحلول عام 2020 ألا توجد دولة تستطيع محاربة القوات الأمريكية لكن من المرجح أنه ستوجد دول كثيرة موجعة للولايات المتحدة، تستطيع أن تكلفها الكثير إذا ما قامت بأي فعل عسكري مرفوض". فامتلاك إيران وكوريا الشمالية للأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية، وامتلاك دول أخرى لها على عام 2020، سيزيد من تكلفة أي ضربة أمريكية سواء كانت ضد هذه الدول أو ضد حلفائها.
(7)
السيناريوهات المقترحة
وسط هذا العالم الهائج المتقلب، يمكننا تخيل أشكال عالمية عديدة -على امتداد الخمسة عشر عاما القادمة- يتمحور معظمها حول تحدي نظام الدولة القومية من ناحية، وإرساء عولمة أكثر استفحالا وتشعبا من ناحية ثانية....يضع المشروع أربعة سيناريوهات تخيلية، لا تعكس المستقبل الحقيقي بقدر ما تعكس الصور الممكنة للعالم الذي سنعيش فيه عبر العقدين القادمين؛ وهي تتضمن الآتي:
* عالم دافوس Davos Wo r ld: يقدم تصورا عن عالم تقوده الصين والهند؛ تحققان فيه نماء اقتصاديا لا مثيل له من الضخامة والقوة؛ وهو ما يعيد تشكيل حركة العولمة، فيجعلها أكثر اتجاها لما هو غير غربي.
* سلام أمريكا Pax Ame r icana: يقدم تصورا عن مدى قدرة الولايات المتحدة على إثبات هيمنتها بالرغم من كل التحديات العالمية، وقدرتها على تشكيل نظام عالمي جديد.
* خلافة جديدة A New Caliphate: يرشح ذلك العالم الذي سينقاد من قبل حركة إسلامية عالمية، تغذيها الهوية الدينية "الراديكالية" التي ستشكل تحديا للمعايير والقيم الغربية التي يقوم عليها النظام العالمي.
* حلقة من الخوف Cycle of Fea صلى الله عليه وسلم يتخيل ذلك العالم الذي ستسوده المخاوف من انتشار أسلحة الدمار الشامل؛ فتصير الاحتياطات الأمنية مكتسحة لجميع بقاع الأرض لمنع حدوث أي هجمات مدمرة.
ملاحظة ذكرها المشروع: يؤكد المشروع أن الولايات المتحدة قادرة على محاربة جميع تلك التحديات، وعلى استبقاء دورها الريادي؛ وهو إن دل على شيء فإنما يدل على الثقة العمياء التي يضعها المجلس القومي للاستخبارات في القيادة الأمريكية.
ملاحظات وخاتمة
يغلب على المشروع التحليل فى المنظور الاقتصادي والسيطرة أو بلغة اختزالية التشبع بمفهوم العولمة فى منظوره الأمريكى، ويبدو لى أن الغرب خلق قصة الإرهاب- دون تقديم تعريف له- حتى إنه صدقها حين روج لها، ولم يغب الخوف من الخسارة فى التحليل والتوقعات الغربية، وفى فكرة إحياء تكتل عربى أو وحدة عربية أو بلغة القوم خلافة ما يثير الخوف لدى الغرب.
فى ظل ضعف العرب، ونمو الآسيويين، وضعف أمريكا،أغفل المشروع تطلعات الكيان الصهيونى والذى يبدو لى انه سيتطلع إلى القوة الجديدة الناشئة ليبلغ قوته بحبل من الناس.
كما أغفل التقرير الإشارة إلى مستقبل الصراع فى المنطقة العربية بين العرب - المسلمين- وبين العصابات الصهيونية وهو الأمر الذى ما يزال له تأثيرات على الطاقة ومجريات الأمور سواء فى الغرب أو الاتحاد الأوروبي.
بلاغ كوم
==============(9/116)
(9/117)
هل تحل التكنولوجيا محل المعلمين؟!
د.خالد محمد العصيمي
إن المدقق في المتغيرات العالمية المعاصرة التي تحدث في حياتنا اليوم يتبين له أنها أكثر من مجرد أزمات طارئة تنتهي بدخول العالم القرن الحادي والعشرين أو بإحداث تعديلات طفيفة على سلوكياتنا ومهاراتنا اليومية، بل إنها تشير إلى انبثاق عصر جديد فكرًا ومفهومًا وتطبيقًا.
فالعلم يتطور خلال لحظات، والقيمة المضافة الناتجة عن تطبيقاته زادت من عمليات ابتكاره واحتكاره وتقادمه، وكل يوم تظهر علوم وتخصصات جديدة وغير معروفة من قبل، والتوجه المستقبلي لها يتمركز في التخصصات «البينية» وفي إيجاد مداخل بحثية تحتوي هذه الفروع، أما المعلوماتية فتتميز بالسيطرة والتفاعل والتواصل الزمني والمكاني، مما زاد من توظيفها في العملية التعليمية والتعلّمية، وأدى إلى ظهور أنماط ومؤسسات تعليمية جديدة وغير معروفة من قبل، والتوجه المستقبلي لها يتمركز في النظم الذكية التي تتميز بالذوق والشمّ والإحساس، وفي تنمية ما يعرف بـ«الذكاء الجمعي».
أما متغيرات العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية فربطت العالمي بالمحلي، وجعلت العالم قرية كونية صغيرة تتبادل التأثيرات والأحداث والتطورات في كافة المجالات، والتي على الإنسان العالمي أن يتعلّم العيش في هذه القرية العالمية بما تستلزم من قيم واتجاهات وسلوكيات تؤهله لمعرفة الآخرين والتعامل معهم واحترام خصوصياتهم الثقافية، وأن يتعلّم ليعمل في ظل تزايد التكتلات الاقتصادية والاندماجات والمواصفات العالمية واتفاقيات منظمة التجارة العالمية (WTO)، وفي ظل تزايد ارتباط اقتصاديات الدول، وتزايد انتقال السلع والخدمات والعمالة ورؤوس الأموال والاستثمارات فيما بينها، واشتداد المنافسة في الأسواق المحلية والعالمية بحيث يصبح البقاء للأصلح والأجود والأقل تكلفة في نفس الوقت، كما عليه أن يتعلّم كيف يشارك في بناء المجتمع المدني على أسس الديمقراطية والمواطنة والحوار الإيجابي والتعددية الثقافية، وبناء السلام والتعاون الدوليين، في ظل تزايد الاعتماد المتبادل.
ويعتبر النظام التعليمي شديد التأثير والتأثر بالمتغيرات العالمية المحيطة، وحيث إن المعلم حجر الزاوية في العملية التعليمية، وأحد أبرز عناصر النظام التعليمي، فإن الأدوار التي يقوم بها والوسائل والطرق التي يستخدمها سوف تتأثر تبعًا لذلك، مما يستوجب تحديد هذه المتغيرات، ومدى تأثيرها في تكوين المعلم، ومن ثم اقتراح البرامج اللازمة لتمكين المعلم من التفاعل الجاد مع هذه المتغيرات، ولذا تتلخص مشكلة البحث في السؤال الرئيس الآتي: ما تأثير المتغيرات العالمية المعاصرة في تكوين المعلم؟
وتهدف الدراسة إلى الإجابة عن الأسئلة التالية:-
ــ ما أبرز التغيرات العالمية المعاصرة؟
ــ ما الآثار المترتبة على المتغيرات العالمية المعاصرة في تكوين المعلم؟
ــ ما المقترحات اللازمة لتمكين المعلم من التفاعل الجاد مع المتغيرات العالمية المعاصرة؟
ولذا استخدمت الدراسة المنهج التحليلي الاستنباطي، الذي يهدف إلى رصد وتحليل المتغيرات العالمية وتحديد ما ينتج عنها من تأثيرات على النظام التعليمي، وذلك من خلال استعراض العديد من الدراسات المحلية والعربية والأجنبية التي تمثل جهودًا بحثية قيمة في مجال التربية، حيث دراسات (عبدالحليم، 1998م)، و(برونر، 2001م)، و(الغامدي، 1422هـ)، ودراسات (اللقاء الحادي عشر لقادة العمل التربوي «المعلم في عصر متجدد»، 1424هـ)، وتوصيات (ندوة التربية والعولمة، 1425هـ)، و(الحوات، 2004م) التي تؤكد نتائجها وجود آثار عديدة للمتغيرات العالمية على التعليم، تشمل النظم التعليمية بأهدافها ووظائفها وعناصرها «المدرسة والمعلم والمتعلم والمنهج»، وأهمية تطوير كليات المعلمين وبرامج إعداد المعلم لتتناسب مع هذه المتغيرات وفق ثوابت سياسة التعليم، وملاءمة برامجها لاحتياجات المجتمع، وتحسين نوعيتها وجودتها، وتوظيف التقنية الحديثة في زيادة فعاليتها وإثراء مفرداتها لضمان خبرات مطولة ومنظمة ومنهجية لمعلم المستقبل.
أولًا: المتغيرات العالمية المعاصرة
تحدث عملية تغيير شاملة في العالم المعاصر فكرًا ومفهومًا وتطبيقًا، وذلك من خلال سلسلة مترابطة ومتعددة الأبعاد والمحاور تشمل تحولات وتطبيقات سواء في الكم أو الحجم أو المحتوى، ويؤثر كل متغير منها في الآخر، ويتضمن كل تغير منها جدلًا علميًا كبيرًا فيما بين الفرص والمخاطر.
وتقصد الدراسة بالمتغيرات العالمية المعاصرة المفاهيم والأفكار والتطبيقات الجديدة التي طرأت واستجدت على الأبعاد الرئيسة التي تشكل العالم المعاصر، وهي الأبعاد: المعرفية، والمعلوماتية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، التي يتم تفصيلها على النحو الآتي:-(9/118)
ــ التغير المعرفي: يكمن هذا التغير في السرعة المتزايدة التي يتم عندها إنتاج المعرفة وتراكمها، وتوظيف المعرفة والأنشطة المعرفية في الإنتاج، وزيادة معدل القيمة المضافة الناتجة عنها(1)، إضافة إلى التغير التكنولوجي بمعدلاته المتسارعة، والمتضمن توليد وانتشار التقنيات والمواد الجديدة، والإبداع التقني غير المحدود فيما يعرف بعملية «تخليق المعرفة»(2)، كما يشير إلى تزايد واتساع فروع المعرفة، وتنامي التداخل فيما بينها فيما يعرف »بعبور التخصصات والدراسات البينية«(3).
ــ التغير المعلوماتي: ويشير هذا التغير إلى كثافة وسرعة تبادل المعلومات والمعرفة، وتدني تكاليفها، وتنامي علم التحكم الإلكتروني وبرمجياته وارتباطه بتقنية الاتصال الحديثة وإمكاناتها غير المحدودة «شبكة الإنترنت»(4)، الأمر الذي عزز من عملية الاتصال وجعلها أكثر تفاعلية، كما جعل الاقتراب من العالمية خاصية كبيرة وممكنة لكل شيء(5)، كما أن تطبيقاتها أحدثت تغييرًا عميقًا في مفاهيم الإنسان وأساليب حياته وأعماله وطموحاته وفي كل جوانب الحياة اليومية(6).
ــ التغير الاقتصادي: ويشير هذا التغير إلى تكثيف الانتقال الدولي للموارد، وارتباطها بعدد متزايد من المعاملات عابرة الحدود، وتحرير الأسواق ودمجها في سوق واحد، وتزايد تدفقات رأس المال والاستثمارات الأجنبية المباشرة والشركات العالمية كقوة محركة للاقتصاد العالمي، ومؤثرة على الخصائص الاقتصادية المحلية ومنطق تسييرها، وذلك من خلال القبول بالتحولات البنيوية المطلوبة على مستوى السياسات الاقتصادية والتجارية والمالية والأنشطة التحويلية والتقنية والمعلوماتية، بحيث يصبح الهيكل الإنتاجي والمالي للدول مترابطًا ومتكاملًا زمانيًا ومكانيًا فيما يعرف بالاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية التي تصبح فيها جميع السلع والخدمات قابلة للإنتاج والبيع والتنافس في كل مكان من العالم(7)، إضافة إلى بدء عمل منظمة التجارة العالمية، وتقليص الحواجز التجارية بين الدول لتتحول العلاقات بينها إلى أرضية تجارية ذات اتفاقيات ملزمة وشاملة للعديد من إجراءات الحماية والوقاية والدعم والتعويض والإغراق والمعاملة الوطنية، والتي تعبر عنها منظمة التجارة العالمية، إضافة إلى توفيرها آلية قانونية لحل المنازعات التجارية بين الدول(8).
ــ التغير السياسي: ويشير إلى إعادة تحديد نطاق السلطة صعودًا إلى مستويات أعلى من الدولة وربطه بمؤسسات عالمية الأهداف، وتجاوز مفهوم الاستقلال والسيادة إلى مفهوم المشاركة والتفاعلية في الشؤون العالمية والسلام الدولي، وظهور مفهوم المواطنة العالمية أو المتعددة الأبعاد للوطن والعالم بكافة ثقافاته، إضافة إلى إعادة تحديد نطاق السلطة هبوطًا إلى الهياكل والتنظيمات المحلية فيما يعرف بفرضية «التقارب» التي نتج عنها تسارع وتفعيل النزعة العلمانية والعقلانية والكفاءة في إدارة الدولة الليبرالية، وتوسيع المشاركة الشعبية في الحكم(9)، كما أصبحت مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمواطنة موضوعات رئيسة في سياسات العالم، بل هي في الوقت الحاضر المد التاريخي الذي تنطلق منه كل رياح التغيير، وتكتسب من قوة الدفع الذاتي زخمًا هائلًا يجعل مقاومتها أمرًا بالغ الخطورة، وهذا هو شعار منظمات العالم ومؤسساته وأفراده، سواء كان ذلك على المستوى الداخلي للدول أو محاولة فرضها كمعيار للتعامل فيما بينها (10).
ــ التغير الثقافي: ويشير إلى نشوء شبكات اتصال عالمية تربط فعلًا جميع البلدان والمجتمعات من خلال تزايد التدفقات الرمزية والصور والمعلوماتية عبر الحدود القومية وبسرعة إلى درجة أصبحنا نعيش في قرية كونية(11)، وليصبح النظام السمعي-البصري المصدر الأقوى لإنتاج وصناعة القيم والرموز الثقافية، ومن ثم الاندماج العالمي الأعمق، بإخضاع المجتمعات لتاريخية ومكانية واحدة ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا(12)، مما يفرز عبر المجتمعات والحدود حالات توتر وصور شد وجذب بين القوى المؤدية للتجانس الثقافي وبين عمليات التنوع أو اللاتجانس الثقافي(13)، وبشكل عام، هناك أربعة أطروحات مختلفة للعولمة الثقافية، وهي على النحو الآتي(14):-
ــ ذوبان الهويات الثقافية في ثقافة كونية واحدة، متحررة من الانتماءات اللغوية والقومية والثقافية.
ــ بقاء الخصوصية الثقافية وتعددها، وتعني وجود ثقافات تتفاعل لمزيد من التشبث بالهوية.
ــ انتشار «الأمركة» على نطاق العالم، لأنها الدولة التي تميل نحو إيجاد تجانس العالم معها.
ــ بروز ثقافة التقنية الحيوية «الجينات»، التي ستغير نمط حياتنا ووجودنا البشري تغييرًا جذريًا.(9/119)
مما سبق، نجد أن المتغيرات العالمية المعاصرة شاملة لجميع جوانب حياة الإنسان المعرفية والتقنية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وأن كل متغير منها يتضمن جدلًا علميًا وفكريًا وتطبيقيًا، بل ويؤثر كل متغير منها في الآخر، وهي متغيرات تشكل البيئة المحيطة بالنظام التربوي، وتؤثر في كافة عناصره وعملياته وفقًا لمنهج النظم، وحيث إن المعلم يعد الركن الأساسي في هذا النظام وتأثره أمر واقع لا مفر منه، فإن هذا يستدعي التعرف على الآثار التي تحدثها هذه المتغيرات في تكوين المعلم وإعداده، وتحديدًا التأثير في وظائف الكليات التربوية وكليات إعداد المعلمين والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها والبرامج التعليمية والبحثية والتدريبية التي تقدمها.
ثانيًا: المتغيرات العالمية المعاصرة وأثرها في تكوين المعلم
تفرض المتغيرات العالمية المعاصرة السابقة العديد من الآثار والتحديات «الفرص والمخاطر» على أهداف ووظائف وبرامج مؤسسات إعداد المعلم «كليات المعلمين والكليات التربوية»، وعلى أدوار ووظائف المعلم والكفايات والمهارات الأساسية المطلوب توافرها فيه، ولذا سيتم تحديد هذه الآثار ليمكن التعامل معها بشكل عام، وتمكين المعلم من التفاعل الجاد والخلاق مع معطيات العصر، بشكل خاص، وذلك على النحو الآتي:-
1- الآثار المعرفية:
تتمثل أبرز الآثار المعرفية على مؤسسات إعداد المعلم، في الآتي (15):-
- تغير أهداف العلم وتوجهه للتطبيقات، فيما يعرف «بتكامل المعرفة» ولمزيد من العلم والتعليم.
- تغير أساليب وأدوات الحصول على المعرفة وتنظيم تراكمها واسترجاعها بالحاسب الآلي.
- ازدياد الروابط البحثية وبرامج التبادل العلمي، مما أدى إلى زيادة الإنتاجية والكفاءة البحثية.
- تزايد البحوث بين التخصصات فيما يعرف «بالدراسات البينية» لتبادل الخبرة والمعرفة والأداء.
- تزايد الاستثمار الدولي في البحوث التطبيقية والتطوير( r &D)، وفي استخدام الأنشطة المعرفية.
- تزايد وضع المعايير العلمية في عالم ابتكاري، لتجنب التكرار ووضع المبتكر في مقدمة الموجة.
- حماية الملكية الفكرية في الاتفاقيات الدولية، وإعطاء دور واسع للعلم والخبرة والمهارة.
- تقادم المعارف وانخفاض قيمة ما يتم اكتسابه في الجامعات والمؤسسات التعليمية بشكل عام.
- الجامعة لم تعد المصدر الوحيد للمعرفة، لقيام مؤسسات خاصة تهتم بتوليد المعرفة وتطويرها، وحدوث انقسام بين مؤسسات التعليم في الميزانية والإمكانات والمكانة والتأثير والتخصص.
- إفساد طبيعة الأبحاث الجارية في الجامعة، لما تثيره من قضايا أخلاقية ودينية وتربوية.
- تنامي «السرية» داخل مختبرات الجامعة، مما يحدّ من عملية تطور العلم وحيويته وتبادله.
كما أن تسارع تدفق المعرفة أدى إلى الوفرة وفقدان الاتجاه في البيئة التعليمية معًا، لأن المرء مضطر اليوم ليعترف بأن المواضيع والنظريات ليست نتاجًا آليًا لظروفها الموضوعية، وأن الرابطة بين أحداث منفصلة مكانيًا ومتقاربة زمانيًا غالبًا ما يصعب تفسيرها منهجيًا(16)، إضافة إلى تعقد طرق تحديد المشكلات وإجراءات التنفيذ والحلول، والتي تثير الحيرة وتكشف الخلل في المنهج العلمي التقليدي، وتستلزم معايير جديدة لتأكيد النوعية والصدق والحقيقة والتقبل المعرفي والتقييم(17).
وتطرح هذه الآثار العديد من التساؤلات: عن إيفاء مؤسسات إعداد المعلم باحتياجات التربية في ظل ندرة العمل العلمي الرصين وتغير التكوين المهني المطلوب. وعن كيفية التعامل مع تعاظم عملية تجزيء المعرفة والتخصص فيها. وما التعديلات اللازمة لإعداد المعلم للتعبير عن رؤية متكاملة نسبيًا للمعرفة؟ وهل سيكفي إدخال مضمون متداخل أم إيجاد نهج جديد برمته؟(18).(9/120)
وفي ضوء المتغيرات المعرفية، فإن تكوين المعلم يجب أن يركز على إعداد «معلم المعرفة» وهو المعلم الذي يمتلك قاعدة علمية معرفية صلبة وذات اتساع وعمق معرفي، وهو المتحرر إلى درجة كبيرة من الفصل القاطع بين التخصصات ومن تجزئة المعرفة، ومدرك للكيفية التي تترابط بها أجزاء المعرفة بعضها مع بعض، ولديه القدرة على تجديد معارفه، ورغبته المستمرة في الاحتفاظ الدائم بالحديث والجديد في هذه المعارف، وهو القادر على تطويع المناهج لتعليم طلابه من خلال تداخل العلوم والتخصصات المختلفة، ويكون مصدرًا للمعرفة الحديثة للتلاميذ، وأن يكون قادرًا على إرشادهم إلى مصادر المعرفة في المحيط المباشر للمدرسة وفي المجتمع الكبير، وملتزمًا بتطبيق المعارف التي يقدمها وكيفية الاستفادة منها والسيطرة عليها في حياة التلاميذ، ولديه القدرة على تدريب التلاميذ على مهارة الحصول على المعرفة من مصادرها بشكل مستقل(19)، و«المعلم الباحث»، وهو المعلم الذي يؤمن بأن المعرفة متغيرة ونسبية، وهو الملمّ بطرق التحليل والتفكير المنطقي وفق منطق النظم وعلى التفكير التحليلي والتركيبي والإبداعي والتفكير الحر الملتزم بالمجتمع، وأن يكون قادرًا على ممارسة هذا التفكير بأنواعه خلال تدريسه الصفي، وعلى تكوين المهارات المعرفية والبحثية للتلاميذ اللازمة للقرن الحادي والعشرين، مثل: سرعة الاطلاع وتحليل المشكلة والتجريد والتحليل النقدي البناء واستخدام المعلومات المتوفرة لتكوين اتجاه علمي نحو ظاهرة أو مشكلة ما، وإعادة تفسيرها ووضع نسق علمي يوضح تفاعلها مع الأنساق الأخرى(20).
2-الآثار المعلوماتية:
تتضح الآثار المعلوماتية على مؤسسات التعليم العالي، في الآتي(21):-
- زيادة عدد وقوة الروابط فيما بين مؤسسات التعليم والأكاديميين، مما ساعد على ظهور مجتمع أكاديمي عالمي مترابط العلاقات العلمية والبحثية، وبما يعزز المعرفة والبحوث المشتركة.
- إعادة التنظيم المكاني والزماني للأنشطة التعليمية، فالتعلم وقتما يشاء الطالب وبالسرعة المرغوبة، والحضور جسديًا في قاعة الدراسة ليس شرطًا، ولا توجد حاجة لمبان وتجهيزات تعليمية.
- توفر الدعم والفعالية والاختصاص لإدارة العملية التعليمية: تبادل المعرفة والتجريب والدعم المشترك، والتنسيق والتعاون والإرشاد الشخصي لمقررات التعلم، والتقويم... إلخ.
- تمثل نقلة في التعليم من صناعة كثيفة العمل إلى صناعة كثيفة رأس المال، ونقلة في التغيير العام لنظم التعليم نحو العقلانية وتقسيم العمل وتنويع الموارد، وليصبح التعليم أقل كلفة.
- أنها تشجع المؤسسات التعليمية على دخول أسواق خارجية، وإنشاء فروع لها، وتوزيع مقرراتها... إلخ، ليصبح التعلم والتدريب سوقًا عالمية ينتشر بالتغلب على عامل اللغة والترجمة، وتجعل التنافس على تقديم خدمة التعليم والتدريب للفرد في أي مكان بالعالم.
- أنها أضعفت أهمية ومصادر التعليم التقليدية، وظهور أنماط تعليمية تتوافق مع العصر كالتعليم عن بعد والافتراضي والمستمر، مما يزيد من مدى انتشار التعليم واتساع النطاق الذي يغطيه.
كما أدى الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا المعلوماتية وربطها بشبكات الاتصال المتفاعلة إلى تغير جذري في الممارسات التعليمية التعلّمية نفسها، ليس فقط في السرعة والمرونة والمدى الذي توفره، وإنما في الدرجة المتزايدة للسيطرة على عملية التعليم التي تقدمها للمعلمين والطلاب، فمن السيطرة المتناظرة إلى الرقمية، ومن المذاعة إلى المتفاعلة، ومن السيطرة الخارجية على العملية إلى السيطرة الذاتية التلقائية، وصولًا إلى درجة أكبر من الكثافة باستخدام الوسائط المتشعبة والمترابطة، حيث الاستخدام الشمولي للكمبيوتر في التعليم، والجمع بين أشكال مختلفة للبث والاستقبال الإلكتروني، ومنتديات الخط المباشر، والمستخدمين المتعددين، وشبكة الإنترنت، وإنشاء مواقف افتراضية وعمليات لواقع افتراضي، وتطبيقاتها المتمثلة في صفحة «الويب»، والنص المتشعب، والكتاب أو المنهج الرقمي، والمكتبة الإلكترونية، والتعليم الإلكتروني، والجامعة الافتراضية، وغيرها، والتي تتضمن تنظيم المادة المقدمة وأسلوب بنائها المعماري، وتوسيع المحتوى التعليمي، والعمل والتجريب والدراسة عن بعد(22)، كما لا يقتصر استخدام المعلوماتية على المساعدة المباشرة في عملية التعليم فقط، بل تشمل التأثير على الأدوار التي يقوم بها المعلم، حيث ستكون العلاقة بين المعلم والطالب أفقية، والتعليم عملية تفاعل جماعي المعلم عضو فيها ومسهل، والطالب نشط ومتفاعل، والجماعة مكان للاستشارة، ولم يعد دور المعلم الأساسي «توصيل المعرفة» بل موجّه للتعلمّ والتفكير، من خلال تدريب الطالب على تعلم كيفية الحصول على المعلومات وتقويمها وتحويلها إلى معرفة مع الجماعة، وتركيز المعلم على تقويم العمليات التعلّمية والقدرة على البحث والتكيف والتعاون(23).(9/121)
كما يتميز استخدام المعلوماتية في العملية التعليمية بتوظيف المعرفة فعليًا لا مجرد نشرها،حيث الاستخدام الراقي والأمثل والتعاوني للمهارات والخيال والذكاء والاستدلال، أيًا كان تنوعها الكيفي والمكاني بما يعرف بعمليات «الذكاء الجمعي»، إضافة إلى زيادة وتطوير هذه القدرات والمهارات وتجسيدها جزئيًا وجعلها في متناول الجميع، وذلك فيما يتمثل في النظم الخبيرة ونظم المعرفة وفنيات المحاكاة، التي تجعل من الممكن أن نرى ونشارك في فضاءات معقدة حية وعوالم من المعاني، إضافة إلى المشاركة والتشجيع المتبادل للخصائص والفروق الفردية، والمشاركة في الموارد والمهارات، كما أنها تجعل الرسائل مرتبطة بالسياق ونابعة من التفاعل العام والاتصال والإحساس المتبادل، مثلما كان الاتصال شفهيًا، ومن ثم يقل التفسير والتأويل والاختلاف(24).
وبشكل عام، فإن استخدام المعلوماتية لا يقدم حلولًا سحرية لكل مشكلات التعليم، كما لا تضمن جودة التعلّم وحسن نوعيته، فقد تكون عاملًا مساعدًا على النجاح وقد تكون العكس، كما أن هناك عددًا من التحفظات على تزايد استخدام المعلوماتية في التعليم، وهي الآتي(25):-
- الخوف أن تحل التكنولوجيا محل المعلمين، بينما هي جزء أساسي من عملهم.
- الخوف أن تفرض العزلة على أطراف العملية التعليمية بدلًا من ربطهم بالمدرسة وبما يجري فيها
- القلق من أن المؤسسة التعليمية والكلمة المنطوقة لم تعد الأداة الوحيدة لتلقي وتوصيل المعرفة.
- الخوف على الحرية الأكاديمية، حيث خطر الاتهام بالقذف أو الاعتداء على الحقوق الفكرية.
- الخوف أن مشاعيّة المعرفة عبر الإنترنت ورؤية النماذج الجاهزة والاشتراك في حلقات النقاش، قد تؤدي إلى وقوع أضرار بالغة بترتيب المفاهيم ونظم القيم لدى الأفراد غير الناضجين.
- الخوف أنها غير فعالة في التربية الروحية والأخلاقية، ولا توفر ما توفره الطرق القديمة التي تدمج بين التربية والمعرفة وبين المنهج المكتوب والمستتر، وتؤمن نوعًا من التواصل بين الأجيال.
والتحدي في إعادة دور المعلم والمتعلم يتمثل في مراعاة التحولات المعلوماتية عندما نضع برامج تعليمية أو تدريبية أو مداخل تدريسية، ولذا تتساءل العديد من الدراسات، عن كيفية تعامل النظام التعليمي مع هذا السيل المتدفق من المعلومات؟، وهل ستحقق الشبكات الحاجات التعليمية؟، وما نتائج حرية وصول الطلاب والمعلمين إلى شبكات المعلومات؟، وكيف ستتغير مهمة المعلمين باستخدام تكنولوجيا أكثر كفاءة وفاعلية؟، وما تجارب التعليم الجديدة عندما تغدو تفاعلية بحق؟، وهل ستكون مجرد وسيلة لمساندة التعليم أم ستؤدي إلى ظهور أساليب وممارسات جديدة في بيئات التعليم؟، وعن كيفية تعلّم الاختيار والتمييز بين المعلومات وكيفية «تعليم التعلّم»؟(26).
وفي ضوء المتغيرات المعلوماتية، فإن تكوين المعلم يجب أن يركز على إعداد «المعلم الرقمي»، وهو المعلم المتمكن من مهارات استخدام الحاسب الآلي والإنترنت ومهارات الاتصال والتواصل عبرها شفهيًا وكتابيًا بلغة راقية ومفردات ثرية، والذي يستطيع التدريس باستخدام تكنولوجيا التعليم، ولديه القدرة على تحويل المحتوى التعليمي إلى نشاطات تعليمية، وعلى التدريس بطريقة المشروع، ويعتمد على ورش العمل والمختبرات والدوائر المغلقة والحقائب التعليمية والأفلام والأشرطة المرئية كوسائل تعليمية، والقادر على تدريب وتهيئة التلاميذ على التعامل مع عالم المعلومات والبيانات والاتصالات السريعة عن طريق الحاسب الآلي والإنترنت وسائر وسائل وتقنيات تحليل المعلومات ومعالجتها، وربط المعلومات السابقة بالجديدة وتوظيفها جميعًا في الحياة العملية (27).
3- الآثار الاقتصادية:
وتتمثل في دفع الدول لانتهاج سياسات تخضع الأهداف التعليمية للإنتاجية في العمل والتنافسية، وتأثر التعليم من تطبيق سياسات التصحيح والتكييف الهيكلي، مما يعني إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية وعملياتها وبرامجها الأساسية، لتدور حول مهارات سوق العمل ومتطلبات منظمة التجارة العالمية، مع جعل التعليم عملية تعلّم مستمرة على مدى الحياة، واضطرار المؤسسات التعليمية للبحث عن مصادر تمويل إضافية نتيجة نقص الموارد وتضاؤل التمويل الحكومي، واللجوء إلى الخصخصة وإجراءات استرداد التكلفة، مما يتسبب في التفاوت الكمي والنوعي بين المدارس والطلاب(28)، وسيتم مناقشة الآثار الاقتصادية على المؤسسات التعليمية وفقًا للآتي:-
أ- إعادة الهيكلة: ومن أبرز آثار تطبيق هذه السياسة على المؤسسات التعليمية، ما يلي(29):
- إعادة هيكلة العمليات التعليمية من حيث: القبول والتنظيم والمناهج والتدريس والتقويم.
- ظهور كيانات تعليمية صغيرة للقيام بمهام تعليمية متفوقه في مجال الكفاءة والفعالية.
- أن يصبح التعليم أقل تمركزًا، ويسمح بقدر أكبر من التخصص وتقسيم العمل.
- التأكيد على القياس والتقويم في كل جوانب التعليم، مما يسمح بقدر أكبر من تلاقي سياساته، ويفرض التنافس من حيث الأداء التعليمي والنواتج بل ومقارنة النتائج الدولية فيه.(9/122)
ب- الاندماج: يحقق اندماج المؤسسات والشركات عددًا من المزايا التي تتمثل في تحقيق فائض في عدة نواح، ويمكن أن تستفيد منها المؤسسات التعليمية، وذلك في الجوانب الآتية(30):-
- وفورات داخلية وقياسية، بالتوفير المالي والتكنولوجي والبشري والإداري في المؤسسة التعليمية.
- وفورات خارجية، بالدخول لأسواق جديدة، والحصول على المكانة والتأثير والسمعة المتوافرة لدى الشركاء مجتمعين، وإنتاج وتقديم خدمات لا يمكن تقديمها عن طريق أي منهما منفردًا.
- الالتزام بمواصفات الجودة الارتقائية في كافة الخدمات، واستقطاب أفضل الكفاءات المنتجة.
- توحيد المناهج والبرامج التدريبية ومتطلبات التخصص المهني، ومن ثم تصديرها عبر الحدود.
ج- المواءمة مع احتياجات المجتمع وسوق العمل: تؤثر الشركات العالمية على النظام التعليمي من حيث: الاستثمار في تنمية الموارد البشرية والخدمات والمواصفات التعليمية اللازمة لها، إضافة إلى نشرها المهارات من خلال البرامج التعليمية والتدريبية الخاصة بها، إضافة إلى تدويل التعليم من خلال تطبيق معايير السوق العالمي والمنافسة على مخرجات التعليم، لأن المستوى التعليمي للعاملين ومهاراتهم أصبح أحد شروط الحصول على شهادات الجودة، إضافة إلى أن هناك عددًا من الآثار التي تفرضها المواءمة على المؤسسات التعليمية، ويأتي من أبرزها الآتي(31):-
- أصبح التمييز بين عالم التربية وعالم الإنتاج أقل وضوحًا وأصعب تحقيقًا.
- الحاجة لتأسيس إجراءات الاعتراف بالمهارات والخبرة المهنية التي يتم اكتسابها في الحياة.
- تسريع استجابة التعليم لمطالب سوق العمل، وتوفير المرونة للعمالة للانتقال بين القطاعات.
- زيادة الدقة والتزامن بين العرض والطلب والإتاحة الفورية لهما، مما يوفر حظوظًا أفضل لخريجيه.
ومن أبرز آثار سوق العمل التي يفرضها على مؤسسات التعليم، الآتي(32):-
- صعوبة تقديم التعليم في جوٍ من الشك والمعالجة قصيرة الأمد لمتغيرات سوق العمل وتوجهاته.
- تزايد الفجوة الأساسية بين متطلبات سوق العمل والنتائج التي تؤدي إليها أنظمة التعليم العالي.
- قلة صلاحية البرامج وزيادة تكاليف الدبلومات التي تتعرض محتوياتها للتطوير والتغير المستمر.
- صعوبة التحكم في الكم والنوعية، ليس فقط على مستوى المهارة المهنية المطلوبة، وإنما على مستوى الخصائص الشخصية والنفسية القادرة على التكيفّ النشط مع السوق.
د- الخصخصة: أي مشاركة القطاع الخاص في إنشاء المؤسسات التعليمية بدافع الربح، وتعني النظر إلى التعليم نظرة اقتصادية بحتة من حيث تكلفته ونفقاته، وتحميل الأفراد جزء من هذه التكلفة، الأمر الذي يؤدي إلى عدد من الآثار في التعليم العالي خصوصًا، وهي على النحو الآتي(33):
- إدخال إجراءات أكثر دقة في اختيار طلابه، وترشيد المجانية على أسس سليمة.
- أصبح التعليم للتميّز، ولتصبح ثقافة الإنجاز ومعايير الجودة والأداء التوجه والمعيار فيه.
- إدخال عنصر الإبداع والابتكار والمبادرة والمبادأة والمنافسة إلى العمل المؤسسي التعليمي.
- تسجيل واحتكار واستغلال كل ما يقوله أو يفعله أو ينتجه الأساتذة داخل الجامعة.
- توسيع قاعدة الملكية لمؤسسات التعليم، وزيادة نطاق المسؤولية في الرقابة والمتابعة التعليمية.
- تعزيز عوامل التنوع والاستقلالية في مؤسسات التعليم، وزيادة كفاءته الداخلية والخارجية.
ومن جهة أخرى، هناك من يرى أن التعليم الخاص لا يكترث لاعتبارات عدالة التوزيع ويعمق التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وذلك لارتفاع تكاليفه مقارنة بالتعليم الحكومي، ولأنه يمنح الطلاب منافع فردية أكثر وعائدًا اجتماعيًا أقل، ويعزل المتعلمين عن ثقافتهم، ويضحي بالقدرة الإبداعية لحساب التخصص الدقيق الذي يعد بمكاسب مالية، كما أن الخصخصة تفسح المجال لأجهزة الإعلام المختلفة لتنمي النماذج والمناهج التربوية الملائمة للمؤسسات الاقتصادية، وتشجيع استثمار جامعات أجنبية ذات إمكانيات وسمعة أكاديمية واسعة، وما يترتب عليه من أضرار بالتعليم المحلي، كما تزيد من هجرة الكفاءات التدريسية من التعليم الحكومي للقطاع الخاص، بينما تدفع الجامعات رسومًا مخفضة لإحلال الأساتذة المساعدين، ويدفع الطلاب ليتلقوا الدروس الخصوصية(34).(9/123)
هـ ـ سياسات التصحيح والتكييف الهيكلي:يميل أسلوب تطبيق هذه المعايير إلى تحجيم الرؤى والأهداف التربوية والإنسانية والاجتماعية للتعليم، ولتعتمد الأولوية في ميزانية الدول على الجدوى الاقتصادية والعائد المباشر، كما تطرح تساؤلات: لماذا يتعين على الدولة تقديم مساعدات للتعليم العالي؟ مما يؤثر عكسيًا على فرص التعليم العالي للفئات الفقيرة، ولسكان الأرياف والإناث، إضافة لحدوث نوع من الانقسام الاجتماعي، كما أن لهذه السياسات تأثيرات ضارة على التعليم، حيث: تدني الاستثمار وخفض الإنفاق، وتدني نسب القيد وتكافؤ الفرص، وتدني مستوى الخدمات تدريجيًا والإضرار بمواد التعليم وظروفه، وتدني كفاءته في الأداء والنواتج والربحية، لأنه عندما تحل المصاعب المالية، يتم التخلص من بعض جوانب التعليم المرغوب فيها مقابل الجوانب الاختيارية مثل: مبادلة الجودة والنوعية بالتوسع الكمي، وتكافؤ الفرص التعليمية بتعليم النخبة، والتعليم العالي بالتعليم الإبتدائي والإعدادي، وزيادة الموارد المالية بطلب العون الخارجي، وخفض المرتبات والأجور بضغط نصيب المستلزمات والوسائل التعليمية، والبحث وخدمة المجتمع بالتعليم والتدريس النظري فقط(35).
وفي ضوء المتغيرات الاقتصادية، فإن تكوين المعلم يجب أن يركز على إعداد «المعلم الخصوصي»، وهو المعلم الذي يملك ذخيرة واسعة من المهارات المعرفية والمهنية اللازمة للتعرف على مختلف الصعوبات التي يواجهها التلاميذ في التعلّم، والذي يقوم بدور الوسيط بين حاجات المتعلمين وحاجات المجتمع وحاجات النظام التعليمي، ويعمل في ظل المؤسسات التعليمية الخاصة والمستقلة، ووفق عقد عمل للقيام بعمل محدد ومتخصص وضمن فريق عمل يساعده ويتكامل معه حيث يكون العمل لبعض الوقت، كما يكون لدى المعلم المهارات اللازمة لخلق علاقات قوية مع أولياء الأمور وأصحاب العلاقة بالمدرسة، والذي يشرف على أدائه ويضع مناهجه ويقيم أساليبه أفراد المجتمع بمختلف شرائحه سواء من الأفراد أنفسهم «آباء وأمهات»، أو من المسؤولين في قطاعات العمل والإنتاج والخدمات وكل من له مصلحة في نمو التعليم وفي العائد من هذا التعليم(36)، إضافة إلى «المعلم التنافسي» وهو المعلم المتجدد في معارفه ومهاراته وخبراته باستمرار، والمتطور في وسائله التعليمية وفق أحدث التقنيات المعلوماتية، والذي يكون لديه المرونة والانفتاح على كل جديد، وعلى تعلّم مهارات جديدة غير المهارات السابقة، وعلى التعلّم مدى الحياة، وهو المعلم الحاصل على رخصة لمزاولة مهنة التدريس يتم تجديدها سنويًا بناءً على اجتيازه اختبارات تحصيلية ومهارية واختبار للقدرات، وهو المتحلي بأخلاقيات المهنة وبتقدير المسؤولية الاجتماعية المترتبة على عمله، ويمتلك مهارات قيادة العمل وتحمل المسؤولية والعمل تحت قيادة مهنية، ومهارات العمل ضمن فريق، والعمل المشترك بصفة عامة، ويمتلك مهارات التعامل مع كافة أفراد المجتمع والقدرة على بناء علاقات إنسانية معهم سليمة وإيجابية، ومتقن لمهارات العرض والإقناع، وبارع في تخطيط الجهد والوقت والمال(37).
وبشكل عام، فإن المعلم الخصوصي والتنافسي يجب أن يكونا قادرين على تحقيق الأهداف والنتائج بدقة ووفق معايير عصرية جديدة تركز على تنمية عقل وشخصية التلميذ ومهاراته وقيمه واتجاهاته ضمن عملية ذاتية ومستمرة مدى الحياة، ويكون دور المعلم فيها الإرشاد المعرفي وتسهيل وصول التلميذ إلى مصادر المعرفة، والتشجيع على تنميتها وتطبيقها في الواقع العملي والميداني.
وتفرض هذه المتغيرات الاقتصادية إقرار معايير وإجراءات محددة ودقيقة تنظم عملية القبول في كليات إعداد المعلمين، بحيث تكون عملية القبول انتقائية تنافسية، وتختار الطلاب المتميزين والمتفوقين في ذكائهم وسماتهم الشخصية، مع تنويع وسائل الكشف عن السمات الشخصية للمتقدمين وقدراتهم ومهاراتهم، والتأكد من أنها شاملة وموضوعية، مع تحميل الطالب جزءًا من تكاليف الدراسة لكي تضمن قبول الطلاب الراغبين فعليًا في مهنة التدريس، وقيام الكليات بحملات إعلامية تشمل كتيبات وملصقات وإعلانات تلفزيونية وتنظيم زيارات ميدانية للمدارس الثانوية، بهدف تأكيد بعض الثوابت المتعلقة باختيار معلم المستقبل، والتعريف بمهنة المعلم والدور السامي والنبيل الذي يؤديه، والعوائد المادية والمعنوية المجزية لهذه المهنة، ويمكن أن تصنف معايير القبول تحت الفئات الرئيسة التالية(38):-
- معايير خاصة بالثانوية العامة: حيث يلزم ألا يقل معدل الطالب في الثانوية عن 90%، ويمكن وضع معايير أخرى متعلقة بنوعية المواد التي درسها الطالب في الثانوية وعددها ومعدله فيها، والاستناد إلى المعلومات الصحيحة والموثقة التي يحتويها السجل الشامل عن إنجازات الطالب وقدراته ومهاراته الخاصة وسلوكياته ومشاركاته الصفية واللاصفية ومواظبته.(9/124)
- معايير خاصة بالسمات الشخصية والنفسية: حيث يلزم أن تنفذ المقابلات الشخصية في ضوء إجراءات ومعايير محددة وواضحة وتجمع بين الحس والخبرة التربوية والقياس الرقمي لتوفر السمات التالية في المتقدم: القدرات التواصلية والقيادية والكاريزمية والمظهر العام وسلامة الحواس والجسم، إضافة قياس القدرات العقلية والنفسية والميول والاتجاهات نحو مهنة التعليم والثقة بالنفس والجرأة، والمرونة في التعامل مع المستجدات والتأقلم معها والتسامح والتعاون.
- معايير تتعلق بالاختبارات التحصيلية: بحيث تقيس المهارات المعرفية والبحثية والفكرية والتطبيقية والإبداعية الأساسية التي يلزم توافرها في الطلاب وتقيس المهارات اللازمة في التخصصات الدقيقة التي تحقق المتطلبات الخاصة بالقسم.
- تبني إجراءات تسمح بالقبول المشروط والمؤقت والنهائي، بحيث يمكن إجراء اختبارات تحصيلية أخرى بعد مرور سنتين للطالب في الكلية لمعرفة مدى توافقه مع التخصص الدقيق والمحتوى المعرفي، ومن قدراته العقلية والنفسية العامة، والتي على ضوئها يتخذ القرار عن إمكانية بقاء الطالب في التخصص الذي اختاره وقبوله النهائي أو تحويله إلى تخصص آخر.
- توفير تخصصات آخرى بديلة لمن يثبت عدم ملاءمتهم لمهنة التدريس والذين لم يحصلوا على القبول النهائي، بحيث يمكن إعدادهم لمهن تعليمية مساعدة كمحضر مختبر ومجهز معمل ومراقب وإداري مساعد...الخ، أو إعطائهم كشفًا بدرجات المقررات التي درسوها.
4- الآثار السياسية:
تتضح الآثار السياسية في التطبيق والممارسة لمفاهيم الديموقراطية والحرية والوطنية، لأنها قد لا تتوافق مع الواقع والإرث الاجتماعي والثقافي لدول العالم الثالث التي تعاني من هيمنة قيم التعصب والقبلية والطائفية، ومن انحدار الوعي الديموقراطي وقيمه(39)، ومن هنا تبرز الوظيفة السياسية لمؤسسات التعليم، وذلك من خلال تعريف الأفراد بحقوقهم وواجباتهم، وتحقيق الحوار الوطني والمشاركة المفتوحة مع أفراد وجماعات ومؤسسات المجتمع المحيطة، وإيجاد جذور لها في سلوكيات الأفراد وفي حياتهم العملية، وأيضًا التوازن مع السلطة والممارسة الديمقراطية في المجتمع(40).
والديموقرطية في التعليم تعني إيجاد فرص متساوية للجميع بدخول مؤسساته، وتوفير بنى غير تقليدية ومرنه لقبول الوافدين الجدد وتعديل محتوى التعليم بشكل متوافق مع اهتماماتهم وأهدافهم الشخصية، ومواكبة المضامين المعرفية والمهارات والاتجاهات العالمية المطلوبة، والبعد عن الاتجاهات الهادفة لاستغلال ذكاء الأفراد لصالح قطاعات تتطلب أشخاصًا مدربين بطرق محددة ومزودين بأفكار صارمة ورتيبة، ومصممة لجعلهم قوة عمل سهلة القيادة(41)، ومن جهة أخرى، فإن الحرية الأكاديمية توفر لمؤسسات التعليم عددًا من المزايا التي من أبرزها الآتي(42):
- أنها تزيل المعوقات التي تحد من النشاط العلمي والبحثي والمهني الحر للأستاذ والطالب.
- أنها تعطي الجامعات مزيدًا من العمل والكفاية والاستقلال الداخلي والإنجاز.
- أنها تعيد للجامعة توازنها في القيام بوظائفها الأساسية في المعرفة وممارسة دورها الديمقراطي.
- أنها تقلل مصادر الاستلاب والاغتراب الأكاديمي للطلاب، وتوفر لهم نقابات تدافع عنهم.
أما المواطنة، فإنها تمر بمرحلة مراجعة لكسر حاجزها القومي، بدعوتها لأن تضيق نحو مواطنات أصغر ذات جامع لغوي أو عرقي، أو أن تتوسع نحو مواطنة عابرة للقوميات، إضافة إلى تداخل حدود الانتماءات الفكرية والثقافية مع أبعاد المواطنة، وما يترتب عليه من انشقاق في مجال الفكر والمفاهيم، ومن الخلل في الرؤية والاختيار والاختطاف أمام بريق الشعارات، وبروز الممارسات التي تشكل خرقًا لمسلمات الوطن ومصالحه العليا، والتي تؤدي في النهاية إلى الصراع والانقسام في المجتمع، وإشعال نار الفتن وتغذية التطرف والإرهاب ليقضي على كل قيمة شريفة، وخاصة لدى فئة الشباب وما يتسمون به من حب كل جديد ورغبة في التغيير وتأكيد الذات(43)، إضافة إلى أن الانتماء المزدوج لجامعات العالم الثالث بين المحلي والعالمي هو المصدر الرئيس للصعوبات التي تواجهها، حيث نجد الآتي(44):
- أن الجامعات قد تقدّم النقد المعزز ببراهين علمية صادرة عنها، وهذا يجلب لها نقمة المسؤولين.
- أن الجامعات تشكل الخريجين المتجهين للخارج علميًا ومرجعيًا، مما ينافي تنمية الشعور الوطني.
- هجرة الكفاءات الجامعية عبر الحدود، التي تجد نفسها وجامعاتها بحالة ارتباك وإحباط تجاههم.
- عدم فعالية المؤسسات التعليمية على تأكيد التلاحم الوطني أمام تعاظم وسائل الاختراق.
- تجاوز البيئة المباشرة للمؤسسة التعليمية الحدود القومية وازدياد الحراك والتأثر لأعضائها.
- تزايد الصراع وتكشفه بشكل كبير وفج في الجامعات، وتشطرها حتى داخل الجامعة، لأنها غير قادرة على حماية نفسها أمام سيطرة الأقليات المتعصبة عليها، ولزيادة نفوذ المهنيين فيها.(9/125)
وفي ضوء المتغيرات السياسية، فإن تكوين المعلم يجب أن يركز على إعداد «المعلم الديموقراطي»، وهو المعلم الذي يتمثّل الحرية الأكاديمية كسلوك وممارسة واعية وناضجة في الحياة وفي العملية التعليمية وفق الضوابط والالتزام بالصالح العام، ولديه طموحات في رسم مستقبل متجه نحو الديمقراطية، ويحيا منظومة قيمية وأخلاقية تحكم أداءاته كافة بعيدًا عن التسيب والتهاون، بحيث يبدع في التدريس والبحث وعدم الانغلاق إلى نمطية محددة، ويمارس دوره بفعالية وكفاءة في التدريس والتقييم والنمو المهني وخدمة المجتمع، ويسير مع تلاميذه وبهم لأقصى ما تسمح به مقدرتهم وإمكاناتهم واستعداداتهم، ويقومّ تلاميذه بعدالة ونزاهة وشفافية، ويكون قادرًا على تنمية القدرة النقدية التي تستلزم تفكيرًا حرًا وفعلًا مستقلًا، ويشكل حافزًا لتلاميذه على البحث والنقد والمشاركة والمناظرة للآخرين واحترام آرائهم، ويعمل على إشراك جميع التلاميذ في عملية التعليم، وعلى إعادة الحيوية للصف وإصلاح الخطأ الناجم عن التركيبة الهرمية له، والتخلص من النماذج السلبية في النظر للسلطة(45)، إضافة إلى «معلم المواطنة»، وهو المعلم الذي يجعل من الوطنية موضوع التقاء لكل التوجهات والأفكار والآراء التي تعكس نوعًا من التعددية الثقافية والفكرية في المجتمع، وتنمية السلوك الاجتماعي والأخلاقي المسؤول وإيجاد جذور لها في سلوكيات التلاميذ، وهو الذي يتعامل مع تلاميذه بموضوعية بغض النظر عن أية أبعاد عشائرية أو اجتماعية أو طائفية، ويشبع حاجاتهم الوجدانية والنفسية والروحية بما يتفق وتكوين شخصية ملتزمة ومتوازنة في ذاتها، بعيدة عن اللامبالاة ومنتمية للمستويات الاجتماعية «الأسرة والأمة وجماعة العمل...الخ» المختلفة في المجتمع وتعزيز علاقتهم بها، وترسيخ مفاهيم التعاون مع الآخرين والقيام بالعمل الخيري التطوعي والخدمي، وليكون تلاميذه أكثر فعالية في الحياة العامة، وأن يكونوا مواطنين معتمدين على أنفسهم وعلى مقدراتهم، ومعتزين بوطنهم وبولاة أمره وبنظامه ومؤسساته الاجتماعية، ولديهم القدرة على التضحية بالنفس والمال في سبيل الدفاع عنه(46).
5- الآثار الثقافية:
تعد العولمة مصدرًا جديدًا للتجانس الثقافي، وذلك بفضل حيازتها على المعرفة المنظمة، والوسائل الفاعلة لنشرها وتطبيقها في كافة مجالات الحياة، إلا أن عملية التجانس هذه ومسارها ليسا أمرين حتميين، إذ تسهم فيها عوامل عديدة منها القيم والمعتقدات السائدة، ولذا نجد استمرار الاختلافات الضمنية في القيم ومن ثم تعدد الممارسات والأساليب أي التعدد الثقافي(47)، ولذا تدور ثقافة العولمة حول السعي المشترك بين التماثل والتمايز ومحاولة كل منهما النيل من الآخر، والمستقبل يحمل مشهدين هما: تعزيز نسق أحادي، أو الحفاظ على التنوع الثقافي، ومن ثم تعتمد آثار العولمة الثقافية على تحري ما إذا كانت ستؤدي إلى التجانس أم إلى التعدد الثقافي(48).
وبالرغم من أن الدور الثقافي لجامعاتنا ضعيف إلى حد يمكن تجاهله، إضافة إلى توزعها بين قطبي جدلية العالمية والحداثة في مجال الثقافة، مما يجعل حركة التطور في التعليم الجامعي بشكل عام تتسم بضبابية تلف فلسفة التعليم الجامعي ومحتواه، وتجعل مسيرتها أقرب إلى العشوائية(49)، إضافة إلى توجه الأجيال القادمة إلى الفضائيات والمعلوماتية بمزيد من النشوة مع التقاليد الجديدة، والتي خلقت الانطباع أنه لا يوجد شيء محدد، وأن كل شيء يتوقف على وجهة نظر المشاهد(50)، ويدعم هذا مبالغة المؤسسات التعليمية في الاهتمام باللغات الأجنبية والتدريس بها في بعض العلوم والأقسام، وانتشار الجامعات الأجنبية، واتساع هذا النمط مع ما تفرضه اتفاقيات منظمة التجارة العالمية من إلغاء لأية قيود على فتح المؤسسات التعليمية الأجنبية لفروع لها في الدول الأخرى، والإيحاء بأفضلية الأجنبي على ما هو وطني أو قومي(51)، ولذا فإن للتعليم في هذه المجالات دورًا مهمًا، لأن الانفتاح الزائد لانسيابات الثقافة العالمية يهدد مجتمع الدولة بالاحتجاج والثورات بينما الانغلاق سيخرج الدولة عن المسرح العالمي، ولأن مهمات التعليم والثقافة تتداخل لتكون دافعة أو معوقة لحركة التقدم(52)، وهناك عدد من آثار العولمة الثقافية على مؤسسات التعليم، ومن أبرزها الآتي(53):
- زيادة التدفق الحر للمعارف والمعلومات مما يعزز وظيفة تنمية العلم والتفكير العلمي.
- تطوير وامتلاك المهارات التقنية والإدارية والتسييرية والتفوق فيها، من خلال التعليم العالي.
- تفعيل بعض المبادئ التربوية العالمية مثل «التعلّم الذاتي» و«التعليم للجميع» و«التعليم المستمر».
- تزايد المقارنة بين الجامعات وتطويقها بعدد من المرجعيات الأكاديمية العالمية والمتنوعة.
- إحداث تغييرات في شكل الدراسات ومحتوى البرامج، لتشبع احتياجات الفئات المحرومة.
- تبني عدد من القيم العالمية المشتركة التي تساعد على نشر ثقافة السلام، وكشف العيوب الموجودة في البنية السلوكية والقيميّة المحلية بعيدًا عن قيم الهيمنة أو الوصاية المعرفية والثقافية.(9/126)
- خلق عدد من التناقضات بين: أنماط المعيشة العالمية والمحلية، وبين الحداثة والتقاليد، وبين التعليم الغربي وإحياء المؤسسات التعليمية التراثية، والتوتر بين المادي والروحي.
ولذا يبرز التساؤل عن كيفية المضي قدمًا في مواجهة ثقافة أكثر تنوعًا واعتمادًا على الصور الرمزية وأقل ألفاظًا وأكثر تركيزًا ثقافة الأجيال الناشئة «جيل الشبكات»؟ وعن كيفية حماية الهوية الثقافية في وجه ما تتعرض له من تدفقات العولمة وتداخل المحلي بالاقليمي بالعالمي وسرعة تحولات أنماط الحياة والأنشطة، والتي تكون غالبًا غير متفقة مع الواقع وإمكانياته، بل والتي تتجاهلها تمامًا(55).
وفي ضوء المتغيرات الثقافية، فإن تكوين المعلم يجب أن يركز على إعداد «المعلم العصري»، وهو المعلم الذي لديه سعة ثقافية في الفنون العقلية والعلوم واللغات، ويقود التجديد وصناعة المجتمع وفقًا لمقتضيات العصر، وقادر على التعامل مع تجديد الثقافة المحلية والتفاعل مع الثقافة العالمية، بدلًا من التلقين أو الانبهار، كما يستطيع التدريس بأساليب منطلقة من منهجية المستقبل، ويمتلك أكثر من لغة ويدعم مفهوم نسبية المعارف ويعمل على التوفيق بين الآراء وبناء وجهة نظر متطورة ومتغيرة، وهو المعلم الذي يشجع الحكمة القائلة «فكر عالميًا ونفذ محليًا»، ويهتم بالتفاعل مع الخصوصيات الأخرى، ويراعي التعددية الثقافية في تدريسه وتقويمه، وأن يكون لدى المعلم الوعي الكامل بالعوامل السياسية والثقافية والاجتماعية التي تؤثر على عمله، والذي يكون له دور في نشر ثقافة السلام، والالتزام بمبادئ العدل والتسامح والحوار والاحترام بين أفراد المجتمع والجماعات والشعوب المختلفة بتنوعها العرقي والديني والثقافي(56).
عنوان الدراسة: المتغيرات العالمية المعاصرة وأثرها في تكوين المعلم
إعداد: د.خالد بن محمد العصيمي
أستاذ مساعد بكلية المعلمين بالباحة
قسم التربية وعلم النفس
مقدمة إلى اللقاء السنوي الثالث عشر للجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية (جستن)
المراجع
1- ديفيد وفوراى: بول أ ودومينيك، مقدمة في اقتصاد مجتمع المعرفة، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد 171، مارس 2002م، ص15.
2- السلمي: علي، الإدارة بالمعرفة، المجلة الدولية للعلوم الإدارية، المجلد 2، العدد 2، يونيو 1997م، ص172.
3- ميتلشتراس: يورجين، تحديات جديدة أمام التعليم والبحث في ظل الاقتصاد الكوكبي، مستقبليات، العدد 119، سبتمبر 2001م، ص494.
4- غليون وأمين: برهان وسمير، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة،ط2، دار الفكر، دمشق، 2000م، ص21.
5- بيتي وسويت: باسكال ولوك، العولمة تبحث عن مستقبل، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد 160، 1999م، ص43.
6- برونر: خوسية جواكين، العولمة والتعليم والثورة التكنولوجية، مجلة مستقبليات، العدد 118، يونية 2001م، ص165.
7- ولعلو: فتح الله، تحديات عولمة الاقتصاد والتكنولوجيا، منتدى الفكر العربي، عمان، 1996م، ص (40-42)، والخالدي: ذكاء مخلص، العولمة «المفاهيم والمتطلبات»، المجلة الاقتصادية السعودية، العدد 3، خريف 1420هـ/1999م، ص(67،36).
8- العيسوي: إبراهيم، التنمية في عالم متغير، دار الشروق، القاهرة، 2000م، ص46، وعلي: أحمد محمد، العولمة واقتصاد العالم الإسلامي، للمؤتمر الإسلامي الرابع «الأمة الإسلامية والعولمة»، مكة المكرمة، محرم 1423هـ/أبريل 2002م، ص(20-22).
9- هيجوت: ريتشارد، العولمة والأقلمة «اتجاهان جديدان في السياسات العالمية»، مركز الإمارات للدراسات والبحوث، أبوظبي، 1998م، ص(51-54)، والخضيري: محسن أحمد، العولمة الاجتياحية، مجموعة النيل العربية، القاهرة، 2001م، ص195.
10- الطويل: هاني عبدالرحمن، الإدارة التعليمية «مفاهيم وآفاق»، دار وائل للنشر، عمان، 1999م، ص423، وعبيد: نايف علي، العولمة مشاهد وتساؤلات، مركز الإمارات للدراسات والبحوث، أبوظبي، 2001م، ص42.
11- غليون وأمين، مرجع سابق، ص16، والخضيري، مرجع سابق، ص195.
12- غليون وأمين، مرجع سابق، ص (16-20)، وخريسان: باسم علي، العولمة والتحدي الثقافي، دار الفكر العربي، بيروت، 2001م، ص21.
13- النقيب: خلدون حسن، الآفاق المستقبلية للفكر الاجتماعي العربي، مجلة عالم الفكر، العدد 3، المجلد 30، 2002م، ص18.
14- عبيد، مرجع سابق، ص33، أبو حلاوة: كريم، الآثار الثقافية للعولمة وحظوظ الخصوصيات الثقافية في بناء عولمة بديلة، مجلة عالم الفكر، العدد 3، المجلد 29، يناير 2001م، ص176.(9/127)
15- السلمي، مرجع سابق، ص172، عبدالحليم: محمد محمد، المتطلبات التربوية من التعليم الجامعي في ضوء بعض المتغيرات المحلية والعالمية، التربية والتنمية، العدد 13، مارس 1998م، ص101، والتوم وآدم: عبدالله عثمان وعبدالرؤوف محمد، العولمة «دراسة تحليلية نقدية»، دار الوراق، لندن، 1999م، ص88، وبرونر، مرجع سابق، ص165، وبوقحوص: خالد أحمد، اتجاهات تطوير التعليم العالي في ظل العولمة، مجلة التعاون، العدد 51، يونيو 2000م، ص60، والخضيري، مرجع سابق، ص218، وميتلشتراس، مرجع سابق، ص494، وديفيد وفوراى، مرجع سابق، ص15.
16- ليفي: بيير، التكنولوجيات الجديدة والذكاء الجمعي، مجلة مستقبليات، العدد 102، المجلد 27، يونيه 1997م، ص279، وعزيز: نادي كمال، الإنترنت وعولمة التعليم وتطويره، مجلة التربية، العددان 133-134، الدوحة، قطر، يونيو - سبتمبر 2000م، ص(349-360)، وبرونر، مرجع سابق، ص165.
17- جالوبين وآخرون: جيلبرتو وسيلفو فونتوويكز ومارتن أوكونور وجيري رافيتس، العلم من أجل القرن الحادي والعشرين من العقد الاجتماعي إلى الطفرة العلمية، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد 168، يونيه 2001م، ص65.
18- برونر، مرجع سابق، ص165، وميتلشتراس، مرجع سابق، ص492.
19- الحوات: علي الهادي، التربية العربية رؤية لمجتمع القرن الحادي والعشرين، منشورات اللجنة الوطنية الليبية، دار الكتب الوطنية، بنغازي، ليبيا، 2004م ص130-132، الصايغ وآخرون: محمد بن حسن وعبدالعزيز العمر وطلال الحجيلان، اختيار المعلم وإعداده في المملكة العربية السعودية «رؤية مستقبلية»، مجلة المعرفة، العدد 95، صفر 1424هـ، ص29-33.
20- الحوات، مرجع سابق، ص130-132.
21- عبدالحليم، مرجع سابق، ص29، وبوقحوص، مرجع سابق، ص61، وراسيل، مرجع سابق، ص141، ونوفل: محمد نبيل، الجامعة والمجتمع في القرن الحادي والعشرين، المجلة العربية للتربية، المجلد 22، العدد 1، يونية 2002م، ص(170،152)، ونصار وتقي: سامي وعلي، جودة مؤسسات التعليم العالي في عصر العولمة، دراسة مقدمة لمؤتمر «الجودة الكفاءة والإتقان والتميز»، الكويت، 10-13/3/2002م، ص12.
22- ليفي، مرجع سابق، ص271، (279،282)، وراسيل: جين إم، الاتصال العلمي في بداية القرن الحادي والعشرين، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، العدد 168، يونيه 2001م، ص143، وديفيد وفوراي، مرجع سابق، ص(18-22).
23- الزهراني: سعد عبدالله بردي، مواءمة التعليم العالي السعودي لاحتياجات التنمية الوطنية من القوى العاملة وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، مركز أبحاث مكافحة الجريمة، وزارة الداخلية، الرياض، 1423هـ، ص74.
24- ليفي، مرجع سابق، ص(271-279).
25- كارتون وطويل: مايكل وصبحي، العولمة الاقتصادية والسياسات التعليمية، مجلة مستقبليات، العدد 27، 1997م، ص24، وبرونر، مرجع سابق، ص166، وبكار: عبدالكريم، العولمة «طبيعتها، وسائلها، تحدياتها، والتعامل معها»، ط2، دار الإعلام للنشر والتوزيع، عمان، 2001م، ص77، ونوفل، مرجع سابق، ص(153-159).
26- برونر، مرجع سابق، ص167، وراسيل، مرجع سابق، ص144.
27- الحوات، مرجع سابق، ص126-129، والصايغ وآخرون، مرجع سابق، ص29-33.
28- برونر، مرجع سابق، ص(167-168)، ونوفل، مرجع سابق، ص160.
29- ماكجين: نويل ف، أثر العولمة على نظم التعليم الوطنية، مجلة مستقبليات، العدد 27، 1997م، ص50، كارتون وطويل، مرجع سابق، ص(23-24)، وبرونر، مرجع سابق، ص172، ونصار وتقي، مرجع سابق، ص(1-14).
30- الخضيري، مرجع سابق، ص199، ماكجين، مرجع سابق، ص55.
31- حداد: وادي د، عولمة الاقتصاد وتكوين المهارات وأثرها على التعليم، مجلة مستقبليات، العدد 27، 1997م، ص(41-43)، وناس وعبدالكريم: محمد ونهى، الجامعة والعولمة، دراسة مقدمة لمؤتمر جامعة القاهرة لتطوير التعليم الجامعي «رؤية لجامعة المستقبل»، 22-24 مايو 1999م، ص6، الخضيري، مرجع سابق، ص199.
32- ندوى: مامادو، العولمة وعلاقتها بالتنمية الذاتية والتعليم في إفريقيا، مجلة مستقبليات، العدد 27، 1997م، ص93، وزيتون: محيا، مستقبل التعليم العربي في ظل استراتيجية إعادة الهيكلة الرأسمالية، المجلة العربية للتربية، المجلد 17، العدد 1، يونيه 1997م، ص112، وبرونر، مرجع سابق، ص174.
33- زيتون، مرجع سابق، ص104، وتيلاك: جاندهيالا ب.ج، تأثير التصحيح الهيكلي على التعليم، مجلة مستقبليات، العدد 27، 1997م، ص(102-105)، وناس وعبدالكريم، مرجع سابق، ص13، ونوفل، مرجع سابق، ص159.
34- زيتون، مرجع سابق، ص105، وندوي، مرجع سابق، ص92.
35- ندوي، مرجع سابق، ص(92-93)، وتيلاك، مرجع سابق، ص (102-105)، وزيتون، مرجع سابق، ص107.
36- الحوات، مرجع سابق، ص126-130.
37- الحوات، مرجع سابق، ص118-128، والخبتي: علي بن صالح، نظرة تطويرية للتنمية الذاتية للمعلمين نموذج «التعليم مدى الحياة للمعلمين»، مجلة المعرفة، العدد 95، صفر 1424هـ، ص48-50.
38- الصايغ وآخرون، مرجع سابق، ص29-33.(9/128)
39- وطفة: علي سعد، الأداء الديمقراطي للجامعات العربية، مجلة شؤون اجتماعية، العدد 68، شتاء 2000م، ص73.
40- الطويل، مرجع سابق، ص(429-430)، ووطفة، مرجع سابق، ص88.
41- الأحمد: عدنان، دور البحث العلمي في تجويد وتجديد التعليم العالي، دراسة مقدمة لمؤتمر التعليم العالي في الوطن العربي في ضوء متغيرات العصر، جامعة الإمارات العربية المتحدة، كلية التربية، العين، 13-15 ديسمبر 1998م، ص(22-26).
42- وطفة، مرجع سابق، ص(75-88).
43- الزنيدي: عبدالرحمن زيد، مبدأ المواطنة في المجتمع السعودي، اللقاء 13 لقادة العمل التربوي بالباحة من 26-28 محرم 1426هـ، ص8، والعامر: عثمان صالح، الانفتاح الثقافي على مفهوم المواطنة لدى الشباب السعودي «دراسة استكشافية»، اللقاء 13 لقادة العمل التربوي بالباحة من 26 -28 محرم 1426هـ، ص25.
44- ديلور وآخرون: جاك وأعضاء اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن الحادي والعشرين، التعلّم ذلك الكنز المكنون، اليونسكو، مركز الكتب الأردني، عمان، 1995م، ص(58-62)، وعمار: حامد، مواجهة العولمة في التعليم والثقافة، مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة، 2000م، ص84، وبرونر، مرجع سابق، ص173.
45- الطويل، مرجع سابق، ص(429-430)، ووطفة، مرجع سابق، ص88.
46- جود: جوديث، تعليم المواطنة، مجلة المعرفة، العدد 39، جمادى الآخر، 1419هـ، ص72-74، والزنيدي، مرجع سابق، ص8، والشريدة: خالد عبدالعزيز، صناعة المواطنة في عالم متغير «رؤية في السياسة الاجتماعية»، اللقاء 13 لقادة العمل التربوي بالباحة 26-28 محرم 1426هـ، ص(17-19).
47- التوم وآدم، مرجع سابق، ص130، وعمار، مرجع سابق، ص110، وبايكر وهارت: وين ورونالد إنجل، تحدي العصرنة للقيم التقليدية، مجلة الثقافة العالمية، العدد 110، يناير 2002م، ص73.
48- عبيد، مرجع سابق، ص34، وأبو حلاوة، مرجع سابق، ص177، وعليمات: حمود، الثقافة الإسلامية وتحدي العولمة، مجلة إسلامية المعرفة، العدد 24، ربيع 2001م، ص(108-110).
49- نجيب: عصام، الدور الثقافي للجامعة بين خصوصية الحداثة وتنافسية العولمة، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب «الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية» 4-6 مايو 1998م، جامعة فيلادلفيا، عمان، 1999م، ص237.
50- برونر، مرجع سابق، ص173، وأبو حلاوة، مرجع سابق، ص188، وعمار، مرجع سابق، ص115.
51- عمار، مرجع سابق، ص119.
52- عليمات، مرجع سابق، ص(108-110).
53- عمار، مرجع سابق، ص112، وغليون وأمين، مرجع سابق، ص38، وبوقحوص، مرجع سابق، ص61، وخريسان، مرجع سابق، ص153، وعليمات، مرجع سابق، ص(108-110)، ونصار وتقي، مرجع سابق، ص10، ونوفل، مرجع سابق، ص156، والزهراني، مرجع سابق، ص80.
54- كارتون وطويل، مرجع سابق، ص24، وحجازي: مصطفى، العولمة والتنشئة المستقبلية، العلوم الإنسانية، عدد 2، 1999م، ص18، وخريسان، مرجع سابق، ص123، وعليمات، مرجع سابق، ص110، وبرونر، مرجع سابق، ص171.
55- ندوي، مرجع سابق، ص94، وكوميليان، مرجع سابق، ص37.
56- الزهراني، مرجع سابق، ص59، ونوفل، مرجع سابق، ص175، والحوات، مرجع سابق، ص49.
==============(9/129)
(9/130)
رحلة بابا الفاتيكان من عشق المسرح إلى عولمة الكنيسة
تمكن يوحنا بولص الثاني الذي جاء للفاتيكان من خشبة المسرح من أن يظل طيلة أكثر من ربع قرن في واجهة الأحداث الدولية من خلال فتحه للكنيسة الكاثوليكة على العالم وبانخراطه المستمر في كبرى النقاشات المتعلقة بماضي وحاضر ومستقبل الإنسانية. لكن حضور بابا الفاتيكان يبقى أكثر قوة في حياة أتباع الكنيسة الكاثوليكية -باعتباره يستمد سلطته مباشرة من المسيح في نظرهم- لما يمثله من رمزية خلاصية وغفرانية ولكونه حول كنيستهم إلى فاعل ذي نفوذ قوي في الساحة الدولية. فإلى جانب الرسالة الروحية الخالصة التي كان يضطلع بها، دخل الرجل التاريخ بمساهمته الكبيرة في انهيار المعسكر الشيوعي وذلك من خلال مساندة الكنيسة ماديا ومعنويا لحركة" التضامن" العمالية البولندية التي عصفت بالنظام الشيوعي في البلاد لتسرع بالتالي بسقوط المعسكر بكامله. ولهذا لا يتردد البابا البولندي الأصل الذي رأى النور عام 1920 في اتهام الكتلة الشيوعية بتدبير محاولة اغتياله على يد شخص يدعى محمد علي آغا في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
البابا يحول العالم لفاعل مهم في الساحة الدولية (الفرنسية)
حوار وتكفير
لكن التوجه الكوني لبابا واسمه الحقيقي كارول فويتيلا وهو البابا الأول غير الإيطالي منذ البابا أدريانوس السادس (1522- 1523)، اكتسب قوة أكثر من خلال تشجيعه الحوار بين الديانات عبر سلسلة من اللقاءات وفي التقريب بين الكنائس المسيحية. وسيحتفظ التاريخ ليوحنا بولص الثاني بكونه أول بابا في التاريخ تطأ قدماه مسجدا في بلد مسلم إذ تم ذلك أثناء زيارة البابا لسوريا في مايو/أيار 2001. وكان البابا قد زار عام 1986 المغرب وخرج عشرات الآلاف لاستقباله واستمعوا لخطاب ألقاه في أكبر ملعب لكرة القدم بالمملكة. وفي علاقاته مع اليهودية اعترف الفاتيكان بإسرائيل بشكل رسمي عام 1986 وزار في نفس العام كنيسا في روما مع كل ما يحمله ذلك الاعتراف وتلك الزيارة من أبعاد عقدية. وفي مراجعة كبيرة لماضي الكنيسة في شبه اعتراف بالخطيئة، فتح الفاتيكان عدة ملفات سوداء في تاريخ الكنيسة تشمل محاكم التفتيش والحروب الصليبية وتجارة العبيد وما يسمى محرقة اليهود. وإذا كانت العلاقات مع اليهود واليهودية تتجه نحو نوع من "التطبيع" بفعل الضغوط القوية للوبيات اليهودية التي توجهت بالشروع في فتح ملفات الفاتيكان في عهد البابا بيوس الثاني عشر المتعلقة بمواقف الكنيسة مما تعرض له اليهود على يد ألمانيا النازية، فإن التوجه التكفيري لا يبدو أنه سيشمل الماضي الصليبي للكنيسة ومعاناة المسلمين مع محاكم التفتيش في إسبانيا في القرن الخامس عشر. في مقابل ذلك فإن البابا أبدى مواقف مناصرة للقضايا العربية وخاصة للقضية الفلسطينية حيث فتح لأول مرة أبواب حاضرة الفاتيكان عام 1981 للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وهاجم بشدة الجدار العازل الذي يبنيه الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وكان من أشد المعارضين لشن الحرب على العراق عام 2003.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
البابا يقود منذ 1978 أكبر تجمع مسيحي في العالم (الفرنسية)
من المسرح للفاتيكان عندما تولى يوحنا بولص الثاني مقاليد الكنيسة الكاثوليكية عام 1978 كان أصغر بابا في القرن العشرين حيث كان عمره آنذاك 58 عاما وجاء ذلك بعد ارتقاء سريع لسلم الكهنوت الكاثوليكي بعد أن أصبح كبير أساقفة كراكوف، رابع أكبر مدن بولندا. لم تكن المراحل الأولى من حياة كارول فويتيلا تحمل إرهاصات توليه قيادة الفاتيكان في يوم من الأيام إذ كان يحلم في أن يصبح ممثلا وكان في شبابه يهوى كرة القدم والتزلج وكان من عشاق المسرح. لكن الانعطافة الحاسمة في حياة فويتيلا كانت أثناء الاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية حيث درس علم اللاهوت سرا لبعض الوقت ثم نصب قسا عام 1946 وارتقى سلم الكهانة حتى أصبح كبير أساقفة عام 1964 ثم كاردينالا عام 1967. وخلال توليه للبابوية جاب يوحنا بولص الثاني العالم 27 مرة زار خلالها أكثر من 100 دولة وحول الفاتيكان لآلة لإنتاج القديسين حيث تم في عهده أكبر عدد من عمليات التقديس و"التطويب". لكن مهمة يوحنا، الذي يصارع المرض منذ سنوات، لم تكن رحلة استجمام في عالم سريع التطور والتحول في جميع الميادين ومتشابك العلائق والمصالح حيث أن عددا من آرائه في بعض أوجه الحياة المعاصرة كالطلاق ومنع الحمل والإجهاض أثارت جدلا حادا في العالم شمل حتى بعض الأوساط الكاثوليكية.
=============(9/131)
(9/132)
عندما جاءت العولمة :ثورة الاتصالات بين : الثقافة الموحدة والسيادة الثقافية ..
سامي خشبة
وعندما جاءت العولمة , جاءت محمولة علي أعناق وأكتاف ثورة الاتصالات ; أي طوفان الموجات الالكترونية الضوئية السرعة ; المرئية / المسموعة / المقروءة , التي تتحول بها كل ما تتخذه المعاني من أشكال أو قوالب أو رموز , أي تتحول بها رسائل المعلومات والأخبار والأفكار والتوجيهات والأوامر والايحاءات ودلالات الأعمال الفنية الدرامية والتشكيلية والموسيقية .. تتحول إلي صور وكلمات وأصوات , بالألوان والأصداء الطبيعية والاصطناعية . فالعولمة ـ بأي مفهوم لها , إيجابي أو سلبي ; اقتصادي أو ( و ) سياسي أو ( و ) ثقافي أو ( و ) استراتيجي ـ ما كانت لتأتي بالصورة التي نواجهها منذ أواخر القرن العشرين , وتزداد وضوحا وحدة منذ البداية الفلكية للقرن الحادي والعشرين لولا ثورة الإتصالات ...
غير أن ثورة الاتصالات التي حملت أمواجها وأدواتها حقائق العولمة أو تحولها في كل لحظة إلي حقيقة فعلية تعيشها البشرية كلها تقريبا ـ تستسلم لها أو تقاومها أو تتفاعل معها ـ لم تكن مجرد ثورة في التقنيات الفنية ; وإنما كانت ثورة متعددة الوجوه , الثقافية , السياسية , الاقتصادية والاستراتيجية , بهذا الترتيب كما سنري بعد قليل , تمكنت من توظيف التقنيات ( أو : التكنولوجيات ) الجديدة لنشر أفكار وتوجهات وايحاءات ودلالات بعينها , وتحقيق السيادة علي عقول البشرية كلها ـ عن طريق المواد الثقافية المتعددة الأنواع : من المعلومات إلي الأخبار إلي التحليلات في شكل ندوات وأحاديث .. إلخ .. حتي الأفكار والمذاهب والتصورات الأعمال الفنية وانماط السلوك ...
بهذا الشكل , وفيما يجمع علماء الثقافة المعاصرة , الذين لا ينشغل أكثرهم إلا بدراسة العلاقة بين الثقافة ووسائل الاتصال الحديثة , تضاعف ـ دون حدود تقريبا ـ تأثير الثقافة علي اختيارات الجماعات الانسانية , إلي الدرجة التي يلغي معها مبدأ الاختيار ذاته , أو مبدأ الحرية الجماعية القومية والفردية الشخصية , علي حد ما يطرحه فيلسوف ما بعد الحداثة الأشهر , الفرنسي فرانسوا ليوتار في كتابه : تفسير ألما بعد حداثي:
ThePostmode r nExplained
( نشر جامعة مينيسوتا ـ 1995 ـ ترجمة جماعية حررها جوليان بيفانيس ومورجان توماس . وكتب التعقيب عليها فالد جود زيش )...
كانت الثقافة ( أو : المعرفة عند ليوتار وزملائه ) ابداعا جماعيا وفرديا تحكمه وتستثمره أفكار ومباديء كبيرة ( يسميها : سرديات كبري ـ في محاولته لتسميتها بكلمة محايدة ) وكانت هذه الأفكار والمباديء تجمع بين الأسس الاجتماعية والسياسية والقواعد الأخلاقية والتوجهات المنهجية المختلفة عبر العصور والثقافات .. واستمر هذا الوضع بشكل أو بآخر حتي عصر الرأسمالية المتطورة التي حققت الثورة التكنولوجية ; وكان مجال الاتصالات من أهم المجالات التي تجلت فيها هذه الثورة ; وكانت المعرفة ( أو : الثقافة / أو : الثقافات ) أكبر أهدافها , وضحاياها ...
فالثقافة ( أو المعرفة ) لم تعد إبداعا ـ جماعيا ولا فرديا ـ وإنما أصبحت إنتاجا له قيمة وظيفية نفعية ( استخدامية واستغلالية بتعبير الاقتصاديين )... كما أصبحت سلسلة لا نهاية لها من الرموز الرقمية التي تزداد باستمرار , ويتم تجميعها , واعادة تجميعها علي الدوام ـ مثل مكونات
Components
أي جهاز أو آلة أخري , حسب المنفعة ـ أي الاستخدام أو الاستغلال المطلوبين من تجميعها ـ أو تفكيكها في كل مرة : هكذا تفصل الثقافة / المعرفة ـ ليس فقط عن طبيعتها التاريخية : بوصفها ابداعا جماعيا وفرديا / جماعيا ; وإنما تفصل أيضا عن مبادئها وأفكارها الحاكمة : الاجتماعية / السياسية ( أي : القومية ) والمنهجية ( أي : العلمية ) لكي تؤدي المنفعة التي تطلبها القوي المتحكمة في كل من إنتاج المعرفة ( الثقافة الجديدة ) وفي توزيعها وبثها للتحكم في وعي البشر , وفي اختياراتهم ... فيلغي ـ في الحقيقة ـ مبدأ الاختيار ذاته , أو مبدأ الحرية : حرية الأمم , والأفراد .. علي السواء , مع مجيء العولمة محمولة علي أمواج طوفان ثورة الاتصالات .
هذه الحقيقة استخلصها علماء ثقافة معاصرون من مدارس وتيارات وجنسيات عديدة ; حاول بعضهم أن يقدمها باعتبارها التطور الطبيعي والايجابي للثقافة الانسانية في عصرنا , وللحياة الانسانية بالتالي ; ولكن أكثرهم ـ في الغرب خصوصا ـ اتخذوا منها موقفا نقديا , باعتبارها ظاهرة خطيرة تهدد الليبرالية أو الديموقراطية ـ الاجتماعية والسياسية والفكرية الثقافية ـ في بلدان الرأسمالية ( الليبرالية ) المتطورة ذاتها , مثلما هدد الاحتكار الصناعي والمالي أسس الليبرالية الاقتصادية في الماضي ; ويهدد بالتالي بتحويل هذه الليبراليات التي أقامتها حركة الحداثة منذ الثورات السياسية القومية والاجتماعية : الانجليزية والأمريكية والفرنسية علي التوالي في القرون من السابع عشر إلي الثامن والتاسع عشرتحويلها إلي نظم شمولية , فاشية النزعة يسمونها الآن الفاشية اللينة .(9/133)
ولكن القليلين من علماء الثقافة الغربيين المعاصرين ـ النقديين ـ هؤلاء ـ من اهتم بخطورة تهديد عولمة الوعي ـ الانساني ـ وعولمة الثقافات الانسانية ( القومية ) بالتالي والغاء خصوصياتها . ومع ذلك فما يزال عدد من هؤلاء العلماء البارزين ( في تخصصات اللغويات مثل نوام تشومسكي الأمريكي ; والاجتماع الثقافي مثل زيجمونت بومان البريطاني والانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية مثل نيجل رابورت وزميلته جوانا أو فرينج البريطانيان أيضا ).. مايزالون يدافعون عن , ويبرهنون علي مفهوم وحقيقة وجود ثقافات ـ بالجمع ; مقابل سعي علماء العولمة إلي تثبيت مفهوم : الثقافة بالمفرد : ولكننا من واقع متابعة ومعايشة تيار العولمة الثقافية , الذي تحول بوضوح في الخطاب الرسمي الأمريكي والبريطاني بشكل خاص إلي قرار سياسي وخطة للاختراق الثقافي بهدف فرض نظام للقيم ـ ولدلالات هذه القيم ولتطبيقاتها ـ السياسية والأخلاقية والفكرية التي يتم تصنيعها في مراكز بحوث خاصة تتعامل نتائج بحوثها مع مؤسسات وأجهزة اتصالاتنا المختلفة : مؤسسات وأجهزة التعليم والتثقيف والاعلام والدعوة الدينية , الأهلية والقومية علي السواء ... أو هكذا يدبرون .. من واقع متابعة ومعايشة تيار العولمة الثقافية هذا ; نلمس كما يلمس غالبية المشغولين بمصائر التنوع الثقافي الخلاق للبشرية ; نلمس مدي هيمنة هذا التيار وقوة سلطته علي كل وسائل الاتصال الكبري في عالمنا الآن , ومدي تهديده بالتالي لذلك التنوع الخلاق نفسه .
إن ثورة الاتصالات ـ التي أخضعت الثقافة ( المعرفة ) وتطبيقاتها العملية لمعاييرها ومصالحها الكوكبية / التقنية / لا تشمل فحسب مجرد وسائل الاتصال التقليدية ( الراديو والتليفزيون والتليفون .. حتي الحواسب الآلية والانترنت وشبكات المعلومات الاقليمية والدولية الأخري )... وانما شملت التعليم والتثقيف والترفيه والدعوة الدينية : من المدارس والجامعات ومراكز البحوث والجمعيات .. إلي المكتبات ودور العبادة وقاعات العرض ومنتجات فنون وأساليب العرض الجماعي أو العامة ( والفردي أو الخاصة ) الترفيهية والتبشرية والتعليمية والتوجهية .. إلخ ..
أي أن ثورة الاتصالات بأدواتها وبالتقنية التي تجرد المعرفة ( الثقافات ) من أصولها أو جذورها أو سياقاتها الاجتماعية الخاصة ـ شملت كل أدوات وأجهزة ومؤسسات توزيع المعرفة ... التوزيع فحسب , لأن الانتاج الحقيقي ـ وتقليداته المحلية المتقنة أو سيئة الصنع ـ يتم هناك ـ في مصانع إنتاج المعرفة المرتبطة بقوي العولمة الرئيسية ..
لهذا ـ وغيره ـ نحتاج في عالمنا العربي بشكل خاص ـ إلي برنامج حد أدني من التنسيق ـ يخطط ـ نظريا وتطبيقيا ـ لانتاج معرفتنا ( ثقافتنا السائدة وثقافاتنا الفرعية ) الخاصة . برنامج نعتقد أنه لابد أن تشارك فيه مؤسسات وأجهزة الدول والمجتمعات , الرسمية أو القومية والأهلية ـ في ميادين التعليم والبحث العلمي والتثقيف والاعلام والدعوة الدينية .. برنامج نعتقد أنه أصبح من الواضح ضرورة تحديده للثوابت الثقافية , وفتحه الأبواب كلها أمام التجدد والتجديد ; لا يتجمد عند ثوابت ومتغيرات الماضي الاشكالية ويجعلنا قادرين علي التعامل مع مستجدات الثقافات الأخري ـ بما فيها الثقافة المعولمة .
وفي هذا السياق , لابد أن نتذكر عبارة السيادة الاعلامية التي كان تحقيقها هدفا لمؤسسات الاعلام ( والصحافة بينها ) المصرية منذ أوائل الثمانينات باعتبارها دليلا علي وعي مبكر بخطورة ترك فضاء الاتصالات ـ أو الفضاء الثقافي بمعايير عصرنا ـ لسلطة غير سلطة الأمة وسيادتها الاجتماعية ; وذلك بشرط فهم السيادة علي أنها سيادة مضمونية وتقنية معا ; تكفل تحرير الوعي العربي مع إدراكه لثوابته أيضا ..
============(9/134)
(9/135)
التقدم العلمي في ظل العولمة والنموذج الاسلامي لتفاعل الحضارات
* أ.د. أحمد فؤاد باشا
مقدمة:
يتحدثون الآن عن ((العولمة)) باعتبارها السمة المميزة لحضارة العصر المادية في سعيها إلى الهيمنة
وفرض سيطرة النموذج الغربي سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعلمياً. ولكن هذا يخالف ناموس التفاعل الحضاري الذي يحكم العلاقة بين الثقافات العالمية الكبرى على أساس الاحتفاظ بالتمايز والخصوصيات. ولقد كانت ((عالمية)) الاسلام وحضارته من أهم خصائص النموذج الاسلامي الذي حقق انتشاراً ودواماً متلازمين على الأرض لم تحققهما حضارة أخرى عبر عصور التاريخ الانساني.
وإن ما يحدث في الحاضر والمستقبل من تفاعل وتبادل بين ثقافات الأمم المختلفة ينبغي أن يكون امتداداً لعمل نفس القانون الذي اتبعته حضارات العصور القديمة والمتوسطة والحديثة، برغم الفارق الكبير بين وسائل الاتصال وآلياته ومعدلاته في كل من تلك العصور.
ـ التقدم العلمي في ظل العولمة:
إن صياغة تعريف جامع مانع ـ كما يقول المناطقة ـ لمصطلح ((العولمة)) ليس بالأمر اليسير، نظراً لتعدد مفاهيمه التي تتأثر كثيراً بتعدد الاتجاهات إزاءه رفضاً أو قبولاً بدرجات متفاوتة.
والأفضل ـ فيما نرى ـ أن يتم تعريف ((العولمة)) بتحديد أهم خصائصها وصفاتها ومظاهرها التي تدل عليها. ويمكن ـ من جانبنا ـ أن نجسد هذه الخصائص والصفات بصورة إجمالية في أمرين مهمين جداً:
ـ الأمر الأول نستشفه من تحاشي أنصار ((العولمة)) وبعض فلاسفتها إدخال الدين ضمن مجالات نشاطها، فهم يحصرونها بصورة رئيسية في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، وفي بعض الأحيان يدرجون مجال العلم والتقنية. وهم بهذا الاختزال، يجعلون منها ((علمانية)) جديدة تستبعد الأديان من دائرة التأثير.
ـ الأمر الثاني هو ذلك التحيز الذي يصل إلى درجة التعصب للنموذج الغربي، وتعميمه، وفرض سيطرته وهيمنته، مع السعي إلى اختراق خصوصيات الغير وطمس القسمات التي تتشكل منها شخصيات الأمم والشعوب الأخرى، وخاصة المستضعفة منها، وهو ـ أي النموذج الغربي المدعم بالتفوق المادي والثقافي ـ يسخر من أجل هذا كل إنجازاته العلمية والتقنية، وقدراته الاقتصادية، وإمكاناته الإعلامية، بل وقوته العسكرية إذا اقتضى الأمر، ليفرض تصوراته الخاصة عن السلام والأمن والحرية وحقوق الانسان، وغير ذلك من المفاهيم التي لها عند كل أمة، بل عند كل توجه فكري وسياسي، تصور خاص.
وهذان الأمران اللذان يجسدان أهم خصائص العولمة الغربية ومظاهرها التي تدل عليها قد صاحبها خلال السنوات الأخيرة ظهور اتجاهات نقدية جعلت كثيراً من الشعوب، بل الحكومات في الغرب نفسه، تخشى هذا الخطر القادم، وترفض الاستجابة لدعواته، والانخراط تحت لوائه.
من ناحية أخرى، يتفق دعاة العولمة الغربية على اعتبار الاسلام في مقدمة الأخطار التي تواجههم أو تقوض أركان دعوتهم في جانبها الأيديولوجي، وقد ظهرت عقب انهيار الشيوعية كتابات وبحوث ومقالات تحذر من الاسلام على أنه الخطر الجديد. وفي المقابل هناك بعض المعتدلين الذين ينصفون الاسلام بمبادئه وقوته الروحية، ولا يجدون غضاضة في التعامل معه ومع أتباعه من خلال الحوار، ولا مانع لديهم من أن تكون الغلبة لمن يصلح للبشرية حتى ولو كان هو الاسلام.. فهم يرون البون واسعاً بين ((عالمية)) النموذج الاسلامي، و ((عولمة)) النموذج الغربي، حتى وإن حاول الغرب أن يضفى على تصوراته طابعاً إنسانياً، ويرفض أي نوع من الاختلاف حولها.
ولم يسلم العلم من السقوط في أسر أيديولوجيا العولمة الغربية (الأمريكية والأوربية واليابانية)، فتحول البحث العلمي إلى سلطة سياسية مرتبطة بنفس الأيديولوجيا، وأصبح ((العلم السري)) تعبيراً عادياً يبرر استثناء بعض مجالات البحث العلمي التي يتوقع أن تضر بالمركز التنافسي الاقتصادي والأمن القومي، من قانون حرية المعلومات الأمر الذي يؤدي إلى تخلف العلم نفسه في بعض الميادين.
كذلك أصبح العلم سلعة وموضوعاً للإنتاج في صناعة جديدة هي ((صناعة المعرفة)) التي حلت تدريجياً محل المادة في الإنتاج. الأمر الذي جعل مكانة المواد الأولية الطبيعية أكثر تدهوراً، لأن الحاجة إليها تقل تدريجياً، وهذا ينعكس سلباً على حركة التقدم العلمي في الدولة التي تلهث وراء تقنيات جديدة تحتكر العولمة إنتاجها. ومن الأمثلة الصارخة على الخلل الذي أحدثته العولمة في توجيه مسيرة العلم والتقنية مشكلة التلوث البيئي التي تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم، وأصبحت خطراً قائماً يهدد حياة الانسان في كل مكان على الأرض، وينذر بأوخم العواقب.
ـ قانون التفاعل الحضاري:
يمكن القول بأن المعادلة التي تبلورت من خلال الدراسات الموضوعية الجادة في تاريخ المعرفة والحضارة الانسانية قد أصبحت في حكم الحقيقة التاريخية الثابتة التي تعبر عن العلاقة بين ثقافات الأمم على أساس التفاعل المتبادل من جهة، مع الاحتفاظ بالهوية والقسمات المميزة من جهة أخرى.(9/136)
أما التفاعل المتبادل فيعني أن الثقافة الانسانية ذات موارد متعددة بين شرقية وغربية، يغذي بعضها بعضاً، دون أن تقام بينها حواجز منيعة، لا تسمح باتصال أو تبادل، ومن ثم نجد أن حضارات العصور القديمة والوسطى قد أخذت وأعطت مثلما تأخذ الأمم اليوم وتعطي، لتبقى شجرة العلوم والمعارف خضراء يانعة، وارفة الظل وغزيرة الثمار.
ويمكن الاستشهاد على صحة هذا الطرف من معادلة التفاعل الحضاري بأمثلة عديدة لا يسمح المقام بحصرها، ولكن أحد هذه الأمثلة نستخلصه من مجال تاريخ العلوم، حيث نجد أن تقديس ((فيثاغورث)) وأتباعه للأعداد يشبه تلك المعتقدات التي وجدت في بابل، ونجد أيضاً أن مضمون نظريته المعروفة باسمه، نظرية ((فيثاغورث)) كان معروفاً في مصر والهند وبابل، ويربط بعض المؤرخين بين صحة هذه المقولة، وبين ما يروى عن ((فيثاغورث)) من أنه سافر إلى بابل ودرس بها، وأنه عاش في مصر وشاهد إنجازات المصريين وعني باستخلاص المبادئ النظرية التي قامت عليها تلك الإنجازات، مستعيناً في ذلك بأفكاره العقلية، فقد توصل المصريون القدماء للعلاقة بين الأعداد 3، 4، 5 في مثلث قائم الزاوية، ثم صاغ منها فيثاغورث نظريته التي تقضي بأن المربع المنشأ على الوتر في المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين.
واستطاع علماء الحضارة الاسلامية بعد ذلك، وعلى أساس ما توصل إليه القدماء، أن يستنبطوا تعميم نظرية فيثاغورث لأي مثلث، وكان لكل هذه الإنجازات مجتمعة كبر الأثر في تطوير علم الهندسة المستوية، ثم انبثاق باقي الفروع الهندسية في العصر الحديث.
وعن تفاعل الحضارات كثيراً ما يحدثنا التاريخ السياسي أيضاً، فقد قامت علاقات تجارية بين الهند واليونان والعرب منذ عهد الإسكندر المقدوني وحتى الفتح الاسلامي، وتشهد ألواح حضارة بلاد ما بين النهرين وكتابتهم المسمارية على تفوقهم في عدد من فروع العلم والمعرفة نتيجة اتصالهم بالمصريين القدماء، وتعتبر الحضارة الفارسية حصيلة لحضارات الأمم والشعوب التي أخضعتها حتى امتدت إلى بلاد السند في الشرق وبلاد ما بين ا لنهرين والساحل الفينيقي ومصر وآسيا الصغرى وشمالي اليونان في الغرب. ولطالما فاخر ملوك الفرس بأن أمبراطوريتهم ضمت عشرين أمة، حتى أن البلاط تكاثر فيه علماء وأطباء ومنجمون من بابل ومصر والهند واليونان، كما أن الكتابة المسمارية استخدمت في البدء مع بعض التعديل للتدوين، وبعد ذلك اعتمدت اللغة الآرامية لغة رسمية.
وينبغي ألا يغيب عن الأذهان ما يقتضيه اتصال الشعوب واندماجها من تبادل وتلاقح بين الثقافات، وأن ما نشهده في عصرنا الحاضر من تفاعل وتبادل بين ثقافات الأمم المختلفة ينبغي أن يكون امتداداً لعمل نفس القانون الذي اتبعته حضارات العصور القديمة والمتوسطة والحديثة، برغم الفارق الكبير بين وسائل الاتصال وآلياته ومعدلاته في كل من تلك العصور.
وأما الطرف الآخر لمعادلة التفاعل بين الثقافات والحضارات، فهو احتفاظ كل ثقافة وكل حضارة بخصوصياتها المميزة، والإبقاء على طابعها ومقوماتها التي تنفرد بها، ومقاومة كل أمة للذوبان في أية أمة أخرى إلى الحد الذي تنطمس فيه معالم هويتها وقسمات شخصيتها.
ولقد تحقق التفاعل الحضاري بصورة واضحة في مختلف مراحل التاريخ الإنساني، لكن صبغته ((العالمية)) كانت أوضح ما يمكن في النموذج الاسلامي لعصور الازدهار في ديار الاسلام إبان القرون الوسطى.
ـ النموذج الاسلامي للعالمية:
لم يكن البعد الديني بصورة عامة غائباً أو بعيداً عن مجال التأثير في طبيعة التفاعل بين الحضارات فقد نمت الحضارات القديمة كلها في ظل ديانات وضعية أو سماوية محرفة، تقوم في أغلب الأحيان على التحيز التعصبي وتمجيد عنصر على سائر العناصر، وتستند في مجملها إلى مجموعة من الأفكار والآراء والمعتقدات التي تتعلق بالحياة وما بعد الحياة، والتي يتوصل إليها فيلسوف من الفلاسفة، وقد تكون متفقة مع العقل والمنطق أو قريبة في تصوراتها مما جاء في الرسالات السماوية، وقد لا تكون، ولكنها على أية حال فعلت فعلها في دفع الشعوب التي آمنت بها إلى الأخذ بسبب في طريق الحضارة والمدنية.
وفي داخل هذا الإطار العام كان كم العطاء الحضاري ودوامه متوقفين على مدى اقتراب تلك الديانات الوضعية من المثل الأعلى الذي حدده الله ـ سبحانه وتعالى ـ للإنسان، وعلى مدى تعبيرها عن القانون الإلهي الذي أراده الله تعالى ناموساً طبيعياً لحركة الكون والحياة.(9/137)
وقد كان كلّ من جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده بعيد النظر حين رأى أن الأصول الدينية الحقة تنشئ للأم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة العلوم والمعارف، وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية. ولم يتوفر هذا الذي رأياه إلا في رسالة الاسلام المكتملة التي جمعت في إعجاز رباني بين متطلبات الدين ومتطلبات الحياة، وحثت على الانفتاح والتعارف والإخاء الانساني طريقاً للتكامل بين البشر، ودعت إلى الاستفادة من علوم الآخرين في مضمار الرقي المادي والعلوم العقلية والتجريبية. قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) سورة الحجرات: 13.
وقال عليه الصلاة والسلام ـ فيما رواه الترمذي والعسكري ـ : ((الحكمة ضالة كل حكيم فإذا وجدها فهو أحق بها)).
ومما يؤكد مبدأ الانفتاح والتواصل بين الأمم في دعوة الاسلام العالمية من أجل الخير لكل البشر أنه كفل المحافظة على الحقوق والعهود والمواثيق للذين لم يأتمروا عليه. قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) سورة الممتحنة: 8.
وفي ضوء هذه المبادئ السامية التي سنها الاسلام للتعامل مع غير المسلمين انتشرت رسالة الاسلام في جميع أنحاء الأرض، وازدهرت الحضارة الاسلامية في جوانبها المادية نتيجة التقائها بثقافات الإغريق والرومان والفرس والهنود وغيرهم. حيث تعرف المسلمون على علومكثير من الشعوب من غير ملتهم، وتكونت لديهم خبرات واسعة في شتى المجالات الصناعية والتجارية والزراعية والعمرانية والعلمية والفنية، وترجموا إلى اللغة العربية كل ما عرفوه من تراث الأقدمين، وصهروا هذه الخبرات والمعارف التي أخذوها واستفادوا منها في بوتقة الاسلام، فجاءت الحضارة الاسلامية فيما بعد مطبوعة بطابعه وممهورة بخاتمه، عدا الإسهامات الجديدة التي أبدعوها إبداعاً بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً.
ـ العقلانية في النموذج الاسلامي:
بالرغم من أن تراث الإغريق كان بحق المنبع الأساسي الذي أخذ منه المسلمون في أولى مراحل النهضة العلمية الاسلامية، وبالرغم مما تميز به هذا التراث من إنكار للوحي وتجسيد لهيمنة العقل وسلطان العقلانية في المجتمع المقسم إلى سادة وعبيد، إلا أن الحضارة الاسلامية ظلت محافظة على قوام الدين الاسلامي ومقوماته، حيث نهض الاسلام المرتكز على ((الوحي)) بدور ((المكون الرئيسي)) حتى لمعالمها وقسماتها غير الدينية، ومن ثم قاومت ((العقلانية المؤمنة)) في الحضارة الاسلامية أي تأثير يؤدي إلى شطرها أو تلويثها، وضربت صفحاً عن الصيحة الشائعة لدى الإغريق بأن ((النظر للسادة والتجربة للعبيد)) وبقي القرآن الكريم حصن الأمان لكل المسلمين، يستحث جميع ملكات الانسان على تحصيل العلم النافع، ويدعو إلى اقتران هذا العلم بالعمل الطيب والسلوك الأمثل ويرسي مبدأ تكريم الانسان وتحقيق المساواة الانسانية. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) سورة الصف: 2، 3.
قال عز من قائل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات: 13.
ـ عالمية الاسلام ليست العولمة:
وهكذا تؤكد لنا حقائق التاريخ أن حضارة الاسلام قدمت لنا ((نموذجاً إرشادياً)) Pa r adigm لناموس التفاعل الحضاري الذي يلعب دوراً أساسياً في تقدم الشعوب، بالإضافة إلى مجموعة المثل والمبادئ العقيدية والعوامل الذاتية الخاصة بقدرات ودوافع كل أمة على إحداث التغيير، وهي أبعد ما تكون عن تلك الصفات القائمة على التعصب للجنس أو الدين أو البيئة الجغرافية، فالفكر والإبداع لم يكونا أبداً قاصرين على شعب دون شعب، أو مكان دون مكان، أو زمان دون زمان، بحيث نقول عن جنس معين من البشر: إنه أذكى بني الانسان، أو نصف الأقدمين بأنهم أقل ذكاءً وعبقرية من المعاصرين، أو نميز منطقة معينة من الأرض بأنها الأصلح دون سواها لاحتضان الفكر الإبداعي وتشيدي البناء الحضاري.(9/138)
ومهما روجت الأقوام المنسوبة إلى الجنس الآري لمقولة تفوقها على غيرها من الأجناس، أو بالغ الأوروبيون في سرد مزايا إقليمهم و ((عبقرية)) موقعهم الجغرافي بالقياس إلى القارات الأخرى، فإنهم لو عاشوا منعزلين عن باقي شعوب العالم لظلوا على حالتهم البدائية المتوحشة حتى يومنا هذا. وإن هناك من بين الغربيين أنفسهم مَن راح يسخر جاهراً من الاعتقاد السائد بينهم بأن الصفات التي تميزهم منط ول فارع وشعر أشقر وعيون زرقاء وبعد عن الفكاهة هي سر التقدم الذي صاحب حضارتهم، ولم يجد المنصفون من علماء الغرب المعنيين بالدراسات الاسلامية أدنى حرج في الاعتراف بحقيقة العطاء المتبادل بين الحضارات بما في ذلك حضارة الغرب الحديثة والمعاصرة، فيقول أحدهم وهو ((كولر يونج)) في ندوة عن ((أثر الثقافة الاسلامية في الغرب المسيحي)): وبعد فهذا عرض تاريخي قصد به التذكير بالدين الثقافي العظيم الذي ندين به للاسلام منذ أن كنا نحن المسيحيين داخل هذه الألف سنة ـ نسافر إلى العواصم الاسلامية وإلى المعلمين المسلمين ندرس عليهم الفنون والعلوم وفلسفة الحياة الانسانية، وفي جملة ذلك تراثنا الكلاسيكي الذي قام الاسلام على رعايته خير قيام حتى استطاعت أوروبا مرة أخرى أن تتفهمه وترعاه. كل هذا يجب أن يمازج الروح التي نتجه بها نحو الاسلام نحمل إليه هدايانا الثقافية والروحية، فلنذهب إليه إذن في شعور بالمساواة نؤدي الدَّين القديم. ولن نتجاوز حدود العدالة إذا نحن أدينا ما علينا بربحه، ولكننا سنكون مسيحيين حقاً إذا نحن تناسينا شروط التبادل، وأعطينا في حب واعتراف بالجميل.
ـ مقومات النهضة العلمية الاسلامية:
إن الفاحص المدقق لواقع الأمة الاسلامية الآن لا يجد صعوبة في تقييم هذا الواقع من مختلف الجوانب: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية وغيرها، مقارنة بالأحوال المناظرة في دول العالم المتقدم. الأمر الذي يتضح معه أن فجوة التخلف العلمي والتقني التي تفصل بين دول العالم الأول ودول العالم الثالث فجوة هائلة تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم. ويعتقد الكثيرون أن سدّ هذه الفجوة يكاد يكون مستحيلاً.. ويروج البعض لما يقول به الغرب من أن حالة التخلف التي نعيشها نتيجة طبيعية لارتباطنا بالاسلام.. وأن ما نقاسيه اليوم عقوبة نستحقها لانسلاخنا عنه (أي عن الغرب) خاصة وأنه يزعم أن حضارته وتصوراته وثقافته هي المعيار الذي يجب أن يقاس عليه الحال عند الأمم الأخرى، فكل ما وافق الفكر الغربي اعتبروه حضارة وتقدماً، وكل ما خالف النظام الغربي وصف بالتخلف والبعد عن الحضارة.
وتبلورت هذه الصورة مؤخراً فيما يسمى ((بالعولمة)) أو ((الكوكبة)) التي تعني ضرورة تعميم النموذج الغربي ليشمل الكرة الأرضية سياسياً وثقافياً وعلمياً واقتصادياً، وتذوب فيه كل الثقافات والهويات غير الغربية.. ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل يمتد إلى التهوين من شأن الحضارات الأخرى والحط من قدرها، ويتم التركيز بصورة رئيسية على دين الاسلام وحضارته. حيث يعتبرونه الخطر الأول الماثل أمامهم.. ويرون في النموذج الاسلامي مصدر قوة تضعف سيطرتهم وهيمنتهم، وتهدد بقاء حضارتهم.
ولهذا إن العولمة الغربية تسعى إلى تدمير النموذج الاسلامي بكل السبل وتستخدم لذلك أساليب عديدة منها:
1 ـ في مجال التربية والتعليم، وإليه يعزى السبب الأول لتخلف الأمة نتيجة الازدواجية التي تؤثر في إعداد العقلية الاسلامية.. والتي جعلت التعليم مجرد وسيلة للحصول على شهادة متوسطة أو عليا لا تعبر في أغلب الأحوال عن المستوى الذي يناظرها في الدول المتقدمة. وفقد نظام التعليم في جميع مراحله القدرة على إعداد وبناء متخصصين على مستوى جيد، خاصة في المجالات العلمية: النظرية والتطبيقية والتقنية.
2 ـ في مجال الثقافة العلمية: نجح النموذج الغربي في تكوين ذيول أو عمالة ثقافية في الدول النامية تروج لفلسفة العلم الغربية التي تدعو جميعها إلى تهميش دور الدين وإبعاده عن دائرة التأثير.. وتطوع هؤلاء السلفيون للنموذج الغربي والثقافة الغربية، تطوعوا من خلال المنافذ المتاحة لهم في أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لنشر ثقافة التغريب والدعوة إلى مقاطعة الماضي الذي لم يجدوا فيه شيئاً على الإطلاق يفيد حاضرنا أو مستقبلنا..
3 ـ في مجال البحث العلمي لم يتناسب العائد كمّاً وكيفاً مع الإمكانات والقدرات والأموال التي تنفق دون ترشيد، بالرغم من آلاف الخريجين الذين تخرجهم أكثر من 250 جامعة و 350 معهداً متخصصاً ونحو ألف مركز وأكاديمية للبحوث العلمية والتقنية، موزعة في مختلف دول العالم الاسلامي.
وإذ ما قبلنا هذا التشخيص لحالة العلم والتقنية في العالم الاسلامي فإنه يمكن تحديد صور التحدي التي تواجه الأمة بصورة إجمالية فيما يأتي:(9/139)
1 ـ على المستوى الفكري لا بد من تفنيد المزاعم المعادية للاسلام ديناً وتاريخاً وحضارة، والموجة لاتساع الفجوة العلمية والتقنية واستحالة اجتياز حالة التخلف العلمي والتقني التي تعيشها الأمة الاسلامية استناداً إلى الفهم الواعي لطبيعة التقدم العلمي والتقني الذي يسير في شكل موجات أو أجيال، إذا فاتنا الإسهام في جيل منه، فلا يعني هذا أننا لا نستطيع اللحاق بالأجيال التالية.. وهناك مجالات يمكن أن تحقق الأمة فيها تفوقاً على غيرها إذا ما أحسنت الإفادة من الثروات والإمكانات المتوفرة لديها.. مثال ذلك: أبحاث الطاقة الشمسية، والطاقة المائية، وتقنيات زراعة الأنسجة النباتية وصناعة الدواء من الأعشاب الطبية، والمعلوماتية، بالإضافة إلى إحراز التفوق في بعض العلوم التي تتنازعها اختصاصات متعددة مثل علوم الفضاء والعلوم البيئية وغيرها.
2 ـ لا شك أن إصلاح التعليم لإعداد الباحث الجيد يعتبر من التحديات التي تحتاج إلى مواجهة تأخذ في الاعتبار طبيعة المجتمع الاسلامي وقيمه، إلى جانب الاسترشاد بالنماذج الناجحة في الدول التي مرت بنفس ظروفنا ومتابعة برامج الإصلاح لمختلف عناصر العملية التعليمية المتمثلة في المعلم والمتعلم والمنهج والمكان (المدرسة، المعمل، المدرج...) والمجتمع، وهي ما نسميها ((الميمات الخمسة)) وتحتاج في نظرنا إلى درايات نظرية وميدانية خاصة يعرف أصولها علماء التربية.
3 ـ كذلك يشهد واقع البحث العلمي في الجامعات ومراكز البحوث على كثرتها ـ بأن الوقت والجهد يضيعان سدى ـ ناهيك عن الأموال ـ بسبب غياب التنسيق العلمي بين الباحثين أنفسهم، فضلاً عن غيابه بين مختلف المؤسسات العاملة في ميدان البحث العلمي والمتصلة به ويأتي هذا العامل في مقدمة التحديات التي تحول دون نهضة علمية إسلامية متكاملة، ويمكن التغلب على هذه العقبة بإنشاء ((اتحاد علمي إسلامي)) يضع السياسات العلمية والتقنية الدقيقة والمستقرة من واقع الإمكانات المتاحة للأمة الاسلامية، ويعمل على تحقيق التكامل بين البرامج العلمية الإقليمية، ويقضي على العزلة القائمة حالياً بين العلم الاسلامي والعلم العالمين ويسهل متابعة كل ما يستحدث في مجال إنتاج المعرفة.
وهذا كله يتطلب بطبيعة الحال رعاية مالية سخية من القادرين، أفراداً ودولاً ومؤسسات، خاصة وأن العلم في عصرنا أصبح صناعة ثقيلة ومكلفة.
وقبل هذا كله لا بد أن تتوافر الإرادة القوية لدى أبناء الأمة الاسلامية لتغيير واقعهم المرير، برفع شعار ((الأسلمة في مواجهة العولمة)) وصدق الله العظيم حيث يقول: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) سورة الرعد: 11، ويقول: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) سورة الأنعام: 153.
=============(9/140)
(9/141)
طبيعة الإسلام العالمية
* جمال البنا
ما أن ظهر الاسلام حتى ظهرت طبيعته ((العالمية)) في صورة مصغرة أو ((جنينية))! كما يقولون فمن الأيام الأولى كان حول الرسول سلمان الفارسي وصهيب الرومي (بالإضافة إلى جارية رومية عذبت واستشهدت في سبيل الاسلام) وبلال الحبشي لقد آخى الاسلام بينهم وصهرت روحه القوية فوارق الدم والجنس فيهم كما كان حوله الرجال والنساء والأطفال أحراراً وعبيداً.
صحيح أن دعوة الاسلام بدت أولاً محلية، ولكن هذا كان في ترتيب البدء بالدعوة لأن هذا هو ما يقتضيه طبيعة الأشياء فقد بدأت أولاً (أنذر عشيرتك الأقربين) ثم (أم ((القرى حولها)) ثم جاء الأنصار، وأرسل الرسول إلى الأنصار معلمين، ثم بدأت الهجرة إلى المدينة إرسالاً كللت بهجرة الرسول).
وعندما استقر الرسول بالمدينة كان من أعماله الأولى المؤاخاة التي قام بها بين المهاجرين والأنصار فقرن كل واحد من المهاجرين بواحد من الأنصار اعتبره أخاه، ووصل كرم الأنصار، وثقتهم في هذه المؤاخاة إلى الدرجة التي كان الأنصاري يعرض على أخيه المهاجر نصف ماله وإحدى زوجتيه بعد أن يطلقها.
وكانت الثانية هي ((صحيفة الموادعة المشهورة)) التي جمعت الفئات اليهودية داخل إطار ((أمة المدينة)) ورتبت عليهم واجبات كما منحتهم حقوق مثل واجبات وحقوق الأنصار.
وتعد صحيفة الموادعة من أولى المعاهدات إن لم تكن أولى المعاهدات التي تترفع فوق حواجز الدين وفوارق الجنس وتمنح الجميع حقوقاً وواجبات متساوية..
ومع الزمن كانت الطبيعة العالمية للاسلام تتضح وكانت نصوص القرآن صادعة بذلك، وحدت الآيات التي يتصدرها (أيها الناس) محل الآيات التي توجه إلى المؤمنين.. والتي تصرح ببعثة الرسول ((إلى الناس جميعاً)) وتصف ((عالمية الاسلام)).
(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) الأعراف: 158.
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107.
(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) سبأ: 28.
وسلك الاسلام طريقة (حضارية) سلمية في الدعوة لعالميته، تلك هي الخطابات التي أرسلها الرسول إلى ملوك الدول المعروفة وقتئذ الروم والفرس ومصر وكانت هذه الكتب تدعو هؤلاء الحكام للإيمان بالاسلام أو تحملهم مسؤولية إبقاء جماهيرهم في ظلمات الكفر إن رفضوا..
وكما هو معروف فقد رفض الجميع باستثناء المقوقس الذي لم يرفض ولم يقبل وأهدى إلى الرسول هدايا.
وأتم الخلفاء الراشدون ما بدأه الرسول عندما أرسل رسله فجوبه بالرفض، ذلك أنه كان يَسعَ المسلمون وليس لديهم قوة أن يقنعوا بتبليغ الملوك ولكن عندما توفرت لهم القوة كان لا بد من تبليغ الشعوب والجماهير، والمجتمع الكافر بصفة عامة برسالة الاسلام..
ذلك أن التبليغ برسالة الاسلام جزء لا يتجزأ من عالمية الاسلام باعتباره الرسالة الخاتمة.
ولننظر سوياً إلى هذه الآيات الكريمة:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على النس ويكون الرسول عليكم شهيداً) البقرة: 143.
(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) النساء: 41.
(ويوم نبعث في كل أمة بشهيد عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل: 89.
(وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس) الحج: 78.
إن هذه الآيات عظيمة الدلالة فيما نحن بصدده لأنها تؤكد عالمية الاسلام بما تفرضه من واجب إشهاد الأمم على الاسلام، وهي:
1 ـ تؤكد عالمية الاسلام.
2 ـ تثبت هذا التأكيد بإيجاب تبليغ رسالة الاسلام وإن يكون المسلمون شهوداً على هذا.
3 ـ ينتهي الوجوب عند هذا ـ وليس فرض الاسلام لأن رسالة المسلم، ورسالة الاسلام ـ تقف عند التبليغ أما إيجاب الإيمان أو فرضه فهذا ما يخالف أصول حرية العقيدة في الاسلام، وما تثبته قاعدة قبول الجزية ـ في حالة الحرب، وانتصار المسلمين..
ولقائل أن يقول ألم يكن هناك طريقة أخرى لتبليغ رسالة الاسلام سوى الجيش؟ فضلاً عن أن الجيش يتضمن أكثر من التبليغ ـ فنقول بعد أن كتب الرسول إلى الملوك، وبعد أن رفض الملوك لم يكن هناك طريق لإشعار المجتمع بن هناك ديناً اسمه الاسلام يعرض على الشعوب إلى هذه الطريقة. لم يكن هناك إذاعات خارجية أو تليفزيونية أو صحافة أو إنترنت أو أي وسيلة للاتصال بالناس.. والطريقة الوحيدة الفعالة والمؤثرة والتي تدفع الملوك والحكام للتحرك هي الجيش.
على أن هناك نقطة دقيقة يجب إيضاحها ذلك أن الاسلام كما هو عقيدة دينية، فإنه أيضاً عدالة دنيوية، وقيم حضارية، وقد استبعد الاسلام نهائياً فرض العقيدة الدينية بالقوة ليس لأنها تخالف طبائع الأشياء فحسب ولا لأنه لا قيمة لدين يكره عليه صاحبه ولكن أيضاً لأنه يخالف النصوص القرآنية الصريحة في أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة وأن الهداية مردها إلى الله (إنك لا تهدي مَن أحببت، ولكن الله يهدي مَن يشاء).(9/142)
ولكن من ناحية أخرى فإن نظم الجبروت والطغيان والطبيعة التي قام عليها العالم القديم وبنى عليها الفرس والرومان نظمهم. هذه النظم التي سحقت الجماهير وقضت عليهم بالاستعباد وحرمتهم كما يقولون، الحقوق الأساسية للانسان وكانت الحرب تعني تدمير هذه النظم الطاغية وتحقيق العدل الاسلامي للجماهير، مع منحها حرية الاحتفاظ بدينها وفي نفس الوقت يكفل لهم الجيش الاسلامي الحماية مقابل تقديم جزاء لهذا، وهي ((الجزية)) التي اشتقت من مادة الجزاء.
هنا نجد أفضل صورة للعالمية، صورة تعرف الناس بدين يستبعد عبادة الأحبار ـ والرهبان والملوك والطغاة، ويعرض عبادة الرحمن الرحيم الخالق الكريم رمز القيم والمثل الغائبة والإيمان برسول أرسله الله رحمة للعالمين.. ولكن هذا العرض لا يعني، ـ كما أشرنا ـ الإجبار، أنه مجرد عرض، دور المسلمين فيه أن يكونوا شهداء عليه.
وفي الوقت نفسه فإن تطبيق القيم الاسلامية والنظم الاسلامية التي تقوم أساساً على العدالة وتستبعد كل صور الظلم والطغيان تحرر المجتمع وتفتح أبواب الحرية وآفاق المبادرات للأفراد جميعاً..
يتضح مما سبق أن للاسلام ((عالمية)) وضعها تطبيقاً لتوجيه القرآن (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 13.
وهذه العالمية لا تقف أمامها حدود أو سدود وهي تنظر إلى الناس جميعا دون تفرقة بين أبيض وأسود. ذكر وأنثى، والاسلام يجد من واجبه أن يعرف ناس هذه العالمية بالاسلام كعقيدة دينية وعدالة دنيوية وقيم حضارية فالمسلمون هم حملة رسالة عليهم أن يبلغوها، وفي العهود الماضية لم يكن ذلك متيسراً بغير العمل العسكري الذي يشعر الجماهير به، فضلاً عما يتمخض عنه من حرب، أو إيمان، أو موادعة تكون كلها لها آثار بعيدة المدى إن لم يكن في إسلام هذه الأقوام فعلى الأقل تعرفهم على قيم الاسلام، وبالتالي ثورتهم على قيم الطغيان والجبروت.
ولكن العصر الحديث وضع في أيدي الدعاة وسائل للدعوة والتبليغ أبعد مدى وأكثر أثراً من أي وسيلة أخرى، وأتصور أن هذه هي وسيلة المسلمين للدعوة وأنها هي البديل عن الجهاد الذي لم يكن له بديل من قبل.
فعالمية الاسلامية عالمية حضارية تقوم على أسس وقيم الاسلام الحضارية سواء كان في مجال العقيدة أو في مجال النظم.
ومرة أخرى قد يقول قائل: ليس في هذا جديد فالمسيحية، يمكن أن تدعى مثل هذا الدور وهذا صحيح إلى حد ما لأن المسيحية والاسلام أخواعلات، كما يقولون: أي من أب واحد وأمهات شتى ولا يستشعر الاسلام حساسية، ذا قامت المسيحية بتعميم قيم الحب والخير بين الناس جميعاً والفرق الوحيد أن الاسلام أكثر أحكاماً من المسيحية سواء في عقيدة الألوهية الخالية من التعقيد الكهنوتي، أو في النظم التي تقوم على العدل..
خلاصة القول أن الاسلام بطبيعته عالمي وإن عالميته تقوم على التعريف به، وما فيه من قيم وأن هذا يمكن أن يتم مع احتفاظ الأمم الأخرى بأديانهم لأن الاسلام وإن كانت عقيدة من ناحية فهو نظام في ناحية أخرى وقاعدته العامة هي الآية: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).
وهذه الآية هي التي تجعل الاسلام عالمياً، وتجعله في الوقت نفسه يرفض العولمة المزعومة لأنها تجعل من قادة المجتمع الأوربي الأمريكي أرباباً من دون الله وتملي على شعوب جماهير العالم الثالث التسليم لها.
ذلك أن العولمة التي يدعون إليها ليل نهار ليس إلا الصورة الأخيرة من الهيمنة الأوربية على العالم.
وقد سبقتها عولمة ((الإمبراطورية الرومانية)) وما يطلقون عليه ((السلام الروماني)) وكان سلاماً يقوم على السيف الروماني العريض الذي قهرت به الجيوش الرومانية العالم القديم وفرضت نفسها عليه وتحكمت فيه تحكم فاتح يرى أن كل ما في المدينة المفتوحة من أرض، ومال، وعقار وناس هم ملك له بحق الفتح...
وانطوت تلك الصفحة لتظهر صفحة أخرى من العولمة الأوربية: عولمة تقوم على تقسيم العالم بين الدول الأوربية طبقاً لاتفاقات في مؤتمرات دولية وكان شعار هذه العولمة وأداتها ((الأسطول البريطاني التي وصلت بوارجه إلى أقصى مواني العالم وقصفت قلاعه.
واليوم تأتي جولة جديدة في المعركة نفسها تأتي العولمة التي لا يكون سلاحها السيف الروماني العريض ولا الأسطول البريطاني العتيد، ولكن التكنولوجيا السحرية وما أوجدته من مَرَدة، مثل الكمبيوتر، والأقمار الصناعية، والتليفزيون، وغيره مما زلزل المقومات والقيم والتقاليد والخصوصيات، ولم يجعل هناك ما يمكن أن يقف في وجه هذه المردة، فالسماوات نفسها مفتوحة أمامهم، وفي الأرض غزوها غرف النوم فيها في كل مكان من؟ أجهزة التليفزيون ويتطلع الأفريقي في غابته على إحدى الأزياء الباريسية وآخر المسلسلات الأمريكية.(9/143)
والهدف الوحيد الذي تعمل له كل قوى العولمة هو أن يصبح العالم سوقاً واحداً مفتوحاً، دون جمارك أو حمايات، بحيث يمكن للمنتجات الأوروبية الأمريكية ((المتلتلة)) أن تجد لها مشترين، وأن يتم هذا على أنقاض الصناعات والمنتجات القومية التي لا تتمتع بمزايا المنتجات الأوربية الأمريكية. أما قضية الثمن فليست مشكلة. إذ يمكن التحكم في عملات الدول كما يشاء تجار العملة.. كما يمكن اللجوء في المرحلة الأولى إلى أسلوب الإغريق أولاً، أي النزول بثمن السلعة إلى ما دون التكلفة لفترة معينة تبور فيها كل السلع القومية، وتفلس مصانعها لتعود هذه الدول فترفع في الأسعار كما تشاء، بعد أن انفردت بالسوق..
وتقوم الإعلانات في الجرائد، وفي التليفزيون بحرب أعصاب حقيقية تحطم فيها مقاومة المستهلك بحيث تفصل السلعة بالمعلن عنها عن سلعته، بل يجد نفسه منساقاً لشراء السلعة المعلن عنها حتى ولو لم تكن رغبة الصحيفة.؟
وبهذه الطريقة ينقسم العالم إلى نخبة فوقية هم سكان الدول الأوربية/ الأمريكية. ومستهلكين هم الدول الأخرى...
ولما كانت شعوب دول العالم الثالث لا تستطيع الشراء إلا عندما يتوفر لها عمل وتحصل منه على نقود، فإن العالم الأوربي/ الأمريكي يدخر لها أدنى الأعمال وأقلها كسباً وأكثرها ناء، وبذلك يرفع عن نفسه القيام بهذه الصناعات والحرف أو بخس الأجور فيها ـ لأنه لا يريد بخس الأجور في بلاده وبهذا يكسب مرة أخرى ولا يؤثر فيه أن إنقاص الأجور في العالم الثالث سيؤثر على قوته الاستهلاكية، لأن عددهم بمئات الملايين، ولأن إغراء السلع الجديدة، وتأثير الدعاية والإعلان تجعل عمال الدول النامية تخيف على غذائها وكسائها وثقافتها في سبيل الحصول على التليفزيون الذي يشبع المتعة ويعرض ما يقوم بدوره في الإشباع العاطفي حتى بدور الممارسة العاطفية.
وإذا كانت العولمة الرومانية تعتمد على السيف، وعولمة الاستعمار تعتمد على الأسطول، فإن لدى العولمة الحديثة ترسانة كاملة من الأسلحة، فبعد ظهور الآثار السيئة لاقتصاديات الشركات متعددة الجنسية أو عابرة القارات تلتمس الدولة مساعدة صندوق النقد الدولي الذي يتقدم ((بوصفة)) معروفة تتضمن تخفيض العملات، وتقليص الإعانات والخدمات الاجتماعية وخصخصة الشركات وترك آليات السوق حرة في العمل، ويقدم الصندوق لقاء إجابة هذه الشروط معونات نقدية بفوائد متفاوتة، وما أن تتقبل الدولة ذلك حتى تجد نفسها وقد أصبحت أسيرة الصندوق لا تملك لنفسها شيئاً، فقد أطلقت عنان الرأسمالية التي لا تعرف إلا الربح والمنافسة القاتلة، وأسوأ شيء أنها تعجز عن سداد الديون وتتراكم الفوائد ويصبح هم الدولة تسديد الفوائد التي فاقت أضعافاً مضاعفة الدين الأصلي..
لقد أصبح واضحاً أن الهدف الرئيسي للعولمة المزعومة هو القضاء على سلطة وقوة الحكومة خاصة في المجال الاقتصادي، بحيث تصبح الدولة تحت رحمة صندوق النقد الدولي، واقتصاديات الشركات الكبرى التي تزيد مالية إحداها عن عشرين أو ثلاثين دولة من دول العالم الثالث، بحيث لا تستطيع أن تقدم شيئاً لشعوبها، أو تصد غائلة الرأسمالية الدولية أو تعينها في محنتها لأن هذا كله يخالف مبادئ الاقتصاد الحر كما يزعمون.
ومن ترسانة العولمة الحديثة ((العقوبات الدولية التي تفرضها أمريكا باسم دول العالم على مَن تشاء طبقاً لمعاييرها الخاصة، فتترك إسرائيل تصنع مئات الرؤوس النووية وتضرب العراق، والسودان لمظنة أن لها نشاطاً ودراسات نووية، وقد سلطت العقوبات الدولية على ليبيا، فلم تستطع مصر، وهي أقرب الدول إليها أن تفعل شيئاً لها.
وكان وجود الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية يعوق انطلاقة وحش العولمة، فلما تهاوى الاتحاد السوفيتي انفردت الولايات المتحدة وانفسح أمامها المجال لأسوأ صور الاحتكار والعربدة.
وأعتقد أن من الضروري لمجموعة الدول الاسلامية أن تتكتل لمقاومة هذا الوباء، ولن تعجز من أن تجد حلفاء لها من الدول التي حاقت بها نقمة العولمة لوضع حد لهذا الابتزاز والتحكم والهيمنة.
============(9/144)
(9/145)
العولمة: جدل العدوان والمقاومة الثقافيين
* عبدالإله بلقزيز
ليس صحيحاً أن العولمة الثقافية هي الانتقال من حقبة ـ ومن ظاهرة ـ الثقافات الوطنية والقومية إلى ثقافة عليا جديدة هي الثقافة العالمية أو الثقافة الكونية، على نحو ما يدعي مسوقو فكرة العولمة الثقافية، بل إنها ـ بالتعريف ـ فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات. إنها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف ـ المسلح بالتقانة ـ فيُهدر سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها عملية العولمة. وإذا كان يحلو لكثيرين أن يتحذلقوا بإفراط في الرد على هذا الفهم للعولمة الثقافية، فيرجمونه بتهمة الانغلاق الثقافي أمام تيارات العصر، والدعوة إلى الانكفاء والتشرنق على الذات (والهوية، والأصالة، ومشتقاتهما...)، وإذا كان يحلو لهم أن يعيدوا على أسماعنا مواويل الانفتاح الثقافي غير المشروط على ((الآخر)) للانتهال من موارده ومكتسباته وكشوفه المعرفية... الخ، فإنه يطيب لنا أن نلفت انتباههم إلى وجوب وعي الفارق بين التثاقف والعنف الثقافي من جانب واحد.
يعني الأول الإصغاء المتبادل من سائر الثقافات بعضها إلى بعضها الآخر، كما يعني الاعتراف المتبادل بينها، ومنه الاعتراف بحق الاختلاف وهو من أقدس حقوق الانسان، فيما لا ينطوي الثاني سوى على الإنكار والإقصاء لثقافة الغير، وعلى الاستعلاء والمركزية الذاتية في رؤية ثقافته. يرادف الأول معنى الحوار والتفاهم، بينما يتلازم معنى الثاني مع الإكراه والعدوان. أما الأهم في الأمر، فهو أن التثاقف يجري بين الثقافات على قاعدة الندية، وهو ما يمتنع دون اعتبار أية ثقافة لشخصيتها وحرمتها الرمزية، فيما لا يعبر فعل الاختراق والتجاوب معه سوى عن دونية يأباها أي انفتاح وأي حوار! هذا درس بدائي من دروس الأنثروبولوجيا الثقافية المعاصرة حري بدعاة الانفتاح أن يقرأوه قبل أن يفتتحوا طقوس التبشير.
أي اختراق ثقافي هذا الذي نعنيه، أو ماذا يمكنها أن تكون تلك العولمة الثقافية إن لم تكن صناعة لثقافة عالمية جديدة؟
ليست العولمة تلك ـ في مفهومنا ـ سوى السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات، بواسطة استثمار مكتسبات العلوم والتقانة في ميدان الاتصال. وهي التتويج التاريخي لتجربة مديدة من السيطرة بدأت منذ انطلاق عمليات الغزو الاستعماري منذ قرون، وحققت نجاحات كبيرة في إلحاق التصفية والمسخ بثقافات جنوبية عديدة، وبخاصة في أفريقيا وأمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية. ولعل هذا يؤكد ما افترضناه ـ في مستهل هذه الورقة ـ من أن العولمة لا تؤرخ لنهاية عصر الدولة القومية، بل تعلن عن ميلاد حقبة جديدة من تمددها المستمر. وليس ما يدعى بالعولمة الثقافية، اليوم، إلا مظهراً من مظاهر ذلك التمدد خارج الحدود، الذي هو آلية طبيعية في نظام اشتغال الدولة القومية الحديثة.
على أن هذه السيطرة الثقافية الغربية العامة تنطوي ـ في داخلها ـ على علاقة أخرى من السيطرة تجعل ثقافات غربية عديدة في موقع تبعي لثقافة أقوى تتمدد أحكامها على امتداد سائر العالم. أما هذه السيطرة التي نعني، فهي التي يمكننا التعبير عنها بعبارة الأمركة (Ame r icanisation)، والعولمة ـ في ما نزعم ـ هي الاسم الحركي لها. ليست الأمركة أسطورة جديدة من أساطيرنا السياسية، ولا هي شماعة نعلق عليها إخفاقاتنا وعجزنا، بل هي حقيقة مادية تعيشها أوروبا نفسها، وتحتج عليها، وتنظم مقاومتها ضدها، وتعتبرها خطراً استراتيجياً يهدد استقلالها الاقتصادي والسياسي وهويتها الثقافية. وقد تكون مقاومة فرنسا لها ـ بمناسبة مفاوضات (الغات) ـ ودفاعها عما بات يعرف باسم الاستثناء الثقافي، أسطع دليل على وجودها وعلى مخاطرها، وهي ـ للتذكير ـ مقاومة حقيقية وشرسة وليست مسرحية سياسية للضحك على ذقون أهل العالم الثالث.
ما الذي في وسع مجتمعات وثقافات أخرى ـ خارج أوروبا ـ أن تفعله في مواجهة هذه العولمة/ الأمركة بإمكانياتها الشحيحة؟
ليست هناك معجزات في الأفق، ولكن، من المفيد القول إن فعل العدوان الثقافي ـ أي عدوان ثقافي ـ لا يحتل المشهد وحده، بل هو غالباً ما يستنهض نقيضه، بسبب ما ينطوي عليه عنفه الرمزي من استفزاز لشخصية المعتدى عليه، ومن تشبث بثقافته وهويته. ماذا يمكننا أن نسمي ـ مثلاً ـ حالة الانكفاء الثقافي للمغلوب إلى منظوماته المرجعية التقليدية؟ إنها تراجع معرفي ما في ذلك شك، غير أنها ـ في منظور علم اجتماع الثقافة ـ شكل من الممانعة الثقافية ضد الاستسلام، ومحاولة للبحث عن نقطة توازن في مواجهة عصف التيار الثقافي الجارف. إنها محاولة للاحتماء من عملية اقتلاع كاسحة. وهي وإن كانت دفاعاً سلبياً عن الثقافة والأنا الجمعي، إلا أنها تظل ـ في النهاية ـ مظهراً من ماهر المقاومة الثقافية المشروعة، وإن كان من الواجب القول إن معركتها مع العولمة خاسرة في آخر المطاف إن لم تتحول إلى مقاومة إيجابية تتسلح بالأدوات عينها التي تحققت بها الجراحة الثقافية للعولمة.(9/146)
ليست من مشمولات هذه الورقة أن نتحدث في بند ((ما العمل؟))، ومع ذلك، نهتبل الفرصة للقول إن مقاومة العولمة الثقافية ليست دعوة رجعية لقطع آصرة التفاعل الثقافي مع العالم الخارجي، بل هي طريقة للقول إن الثقافة العالمية الحقيقية هي ثقافات سائر المجتمعات من دون استثناء، فالكونية هي التميز في مجال الرموز. وكل نزعة توحيدية في هذا الباب مدماك جديد لبناء صرح التوتاليتارية.
... وكم يطيب لي ـ هنا ـ أن أستعير عنواناً جميلاً لأحد كتب الباحث اللبناني سهيل القش، مختتماً به الورقة، مجيباً به عن ((ما العمل؟))، إنه ((في البدء كانت الممانعة)).
==============(9/147)
(9/148)
أسئلة عقلية حول هيمنة العولمة!
* محمد عمارة
أعتقد أن العقل العربي والمسلم يحتاج إلى وقفة يصنع لنفسه فيها جدول أعماله أي يعي التجديد ويجدد موقفه من المشكلات المطلوب منه أن يجنى من ورائها ثماراً. أي لا يتحول إلى مجرد صدى أو رد فعل لجدول الأعمال الذي يحدده الفكر الغربي والإعلام الغربي لأننا يجب أن نتسائل بالنسبة لقضية العولمة: هل نحن بالفعل بصدد قضية جديدة؟
ففجأة وجدنا مصطلحاً أُلقى به في الساحة فبدأنا نتحدث عنه.
فأنا بودي أن نقف وقفة مستقلة مع النفس نبدأ بعدها الحديث من خلال منطقنا نحن.. من خلال أولوياتنا نحن ونحدد جدول أعمالنا على أساس الأولويات التي تواجهنا.
وأنا في الموضوع أميز ـ وأعتقد أن هذه ليست نقطة خلافية وكلكم تتفقون حولها ـ بين العالمية والعولمة لأن العالمية تمثل الأفق الاسلامي لأن الاسلام دعوة للعالمين منذ المرحلة المكية وبالتالي فإن العالمية ليست غريبة عن الرؤية الاسلامية بل الرؤية الاسلامية نزاعة إلى الرؤية العالمية انطلاقاً من أن الاسلام هو الرسالة الخاتمة والعالمية.
والعالمية تعني أن هناك حضارات متعددة ومتميزة أي أنها ليست متماثلة وأيضاً ليست منغلقة منعزلة ومعادية وإنما هناك نوع من الخصوصية ونوع من التشابه. أي أن هناك مشترك بين كل هذه الحضارات وهناك بصمات ثقافية وحضارية تميز كل حضارة عن الحضارات الأخرى. وبين هذه الحضارات هناك قاسم مشترك تتفق عليه هذا هو البعد العالمي أو هذه هي العالمية في الكوكب الذي نعيش فيه.
والمفروض أن تكون المؤسسات الدولية لهذا النظام العالمي ـ إذا جاز استخدام هذا المصطلح ـ ممثلة للخصوصيات المختلفة والقاسم المشترك بين الحضارات العالمية.
أما إذا جاءت حضارة من الحضارات واجتاحت العالم بقوتها وفرضت نمطها في الثقافة والمثل والقيم وطريقة العيش على العالم فهذه الحضارة لا يمكن أن تكون عالمية وإنما هذا ما يسمى خطأ بالعولمة لأن العولمة من المفروض أن تعني شيئاً عالمياً ولكن هذا الذي يفرض الآن باسم العولمة ليس عالمياً وإنما هو الرؤية الغربية.. النظام الغربي.. الهيمنة الغربية كل هذا يفرض على الحضارات الأخرى.
ومن هنا يكذبون إذا تحدثوا عن التنوير.. يكذبون إذا تحدثوا عن الشرعية الدولية.. فكل هذا لا علاقة له لا بالدولية ولا بالعالمية ولا بالقسم المشترك بين الحضارات الانسانية.
إذاً لا بد من التمييز بين العالمية التي نحن معها ونحن دعاتها وبين هذا الذي يبشرون به باسم العولمة لأنني قد تابعت بعض الأبحاث التي قدمت في الندوات فوجدت أناساً عقلاء ووجدت أناساً ليسوا أناساً أصلاً. فللأسف الشديد أجد أحد الأشخاص الذين ولدوا بمنزل الوحي بالمملكة العربية السعودية يتحدث عن العولمة على أنها قدر لا مفر منه. هذا رجل ينكر القضاء والقدر الإلهي ويتحدث عن أمريكا على أنها قدر فهل مثل هؤلاء الأناس هم الذين يرسمون لهذه الأمة طريقها ومسارها. إنهم يتحدثون عن العولمة على أنها قطار لأبد أن نركبه وإلا ضاع منا الطريق وضعنا في هذا العالم وهذا إنكار للقضاء والقدر.
ويكذبون عندما يقولون أن وسائل الاتصال جعلت العالم قرية واحدة. صحيح أننا أمام ثورة كبيرة في عالم الاتصال لكن هذه القرية الواحدة بيوتها ليست سواء.. سكانها ليسوا سواء. أي أن هذه القرية بها الظالم والمظلوم بها القاتل والمقتول.. بها مَن يتأجج بأسلحة الدمار الشامل ومَن ينزع سلاحه وتنزع أظافره. انظروا لما حدث اليوم: لقد ضرب الطيران الأمريكي أحد الرادارات العراقية قرب البصرة لماذا؟
لأن هذا الرادار رصد طائرات بريطانية فوق أرض العراق!. أي أنه مجرد أن تفتح عينك على مَن يقتحم عليك أرضك وسيادتك تستحق أن تضرب. إذاً أين هي القرية الواحدة؟!.
وإسرائيل لديها الأسلحة النووية وتقوم بهذا الاقتراء الذي تمارسه في ظل هذه القرية الواحدة.
وعلى ذلك فنحن نريد أن نسأل أولئك الذين يطالبوننا بركوب قطار العولمة على أساس أن العالم قد غدا قرية واحدة: هل المطلوب مننا ن نركب القطار كعبيد؟!.
فحديثهم هذا عن القرية الواحدة لا يعني أن الناس سيصبحون سواسية فالاغتصاب للأرض والعرض والحرمات والمقدسات في بلادنا على قدم وساق والأمة الاسلامية تحرم وحدها من حق تقرير المصير في فلسطين.. في كشمير.. في الفلبين.. في البوسنة والهرسك وبلاد البلقان.. في كل أنحاء أمتنا. حقك في التنمية.. حقك في أن تحكم بالقانون الذي تريده كل ذلك محرم على هذه الأمة.
فالكلام عن القرية الواحدة لا يعني أن أهل هذه القرية الواحدة أصبحوا سواسية وبالتالي نحن مدعوون أن نكون مواطنين كاملي المواطنة في هذه القرية الواحدة. وأريد أن أقول أن ظاهرة أن يفرض الغرب هيمنته على الآخرين ليست ظاهرة جديدة. فعندما كانت الأمبراطورية البريطانية لا تغرب عنها الشمس ألم تكن هذه عولمة؟ كان القرار يصدر في بريطانيا وينفذ في مصر وفي الهند وفي بلاد لا تغرب عنها الشمس.
وعندما كان الرومان يحكمون العالم وكانوا هم الأشراف والسادة وغيرهم البرابرة ألم تكن هذه عولمة؟!.(9/149)
نعم، إننا أمام صعود في وسائل الاتصال الحديثة ولكن الجديد في العولمة وأخطر ما فيها أن هذه الهيمنة الغربية تقنن باسم الشرعية الدولية وباسم النظام العالمي.
فقيم الغرب وثقافته يعملون على فرضها بالإعلام بالفكر بالجواسيس بالاختراق على كل الدول والحضارات الأخرى. والغرب الآن يقنن هذا الاختراق ويقنن هذه الهيمنة بوثائق وبرامج باسم النظام العالمي الجديد.
ومؤتمر مثل مؤتمر السكان عندما يعقد كي تكون هناك وثيقة تحت مظلة الأمم المتحدة لتقنن القيم الغربية في التحلل والانحلال إلى أخر فهذا جديد. فالغرب كانت له قيم يسبلها بسبل غير مقننة ولكن أن تتحول إلى قانون عالمي.. إلى وثيقة عالمية تحت مظلة الأمم المتحدة فهذا هو الجديد.. وكما رأيتم في وثيقة السكان فإن المراهقين والمراهقات يكون لهم كحق من حقوق الانسان أن يتمتعوا بالثقافة الجنسية عالية المستوى وأن الآباء والأمهات يكون عليهم أن يقدموا لأبنائهم هذه الثقافة. أن يكون حمل المراهقات حق من حقوق الانسان وإجهاضهن حق من حقوق الانسان بينما الزواج المبكر جريمة. انظروا إلى ماذا يدعون: أن يكون الزنا المبكر حق من حقوق الانسان أما الزواج المبكر فيكون جريمة ضد حقوق الانسان!.
بل وحتى العمل المبكر يكون جريمة ضد حقوق الانسان ولو كان بعد البلوغ وحتى سن الخمسة عشر سنة.. ونحن جميعاً كنا فلاحين وكنا نعمل في هذه السن ولكن ها هي منظمة العمل الدولية تقرر أن ذلك جريمة.
أقول: إننا الآن أمام تصعيد لهذه الهيمنة القيمية الغربية لأنها تتحول إلى قوانين تفرض على الناس.
كذلك في موضوع المرأة فإنك تجد في مؤتمر السكان أو في مؤتمر بكين لا أقول موضوع مساواة الرجل بالمرأة فهذا مطلب إسلامي ((ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)) إنما حثّ المرأة على إلغاء حتى الفروق الطبيعية والفطرية بينها وبين الرجل لدرجة ن الأناجيل الآن تترجم ترجمات جديدة تسمى فيها الذات الإلهية بالذكورة والأنوثة لكي تكون هناك مساواة لأن أمثال نوال السعداوي يعترضون على ذلك متسائلين: لماذا يكون الله ذكراً.
هذه هي القيم التي توضع الآن في مواثيق دولية لإلغاء الفطرة التي فطر الله الناس عليها وفرض الرؤى الغربية الديانات والأيديولوجيات التي تتمرد حتى على الديانات الغربية مثل النصرانية. إننا نشهد الآن في الفكر الغربي تحولات في اتجاه تهويد النصرانية الغربية أي بدلاً من أن تعترف اليهودية بالنصرانية يحدث الآن في الفاتيكان أن يصير الإله هو يهوه في أحد المؤتمرات قال البابا يوحنا بولس الثالث أنه قد عقد المؤتمر ليجتمع مائتان قس من الكاثوليك والبروتستانت لتغيير الأناجيل التي كانوا يتحدثون عنها على أنها شيء مقدس. بما لا يعادي اليهود والكنيسة التي ظلت قروناً عديدة تبيع صكوك الغفران الآن تطلب من اليهود التوبة والغفران.
هذه هي تحولات العولمة أي أن هناك الآن تحولات تتم في الغرب ثم يعملون على فرضها على العالم أجمع.
نحن نقرأ عن الغرب أن هناك رجال دين من الشواذ.. أن الكنائس تزوج الشواذ.. بل أن في إنجلترا البلد المحافظ أحد وزراء وزارة العمال الحالية شاذ والرجل الذي يعيش معه يحضر جلسات وزارة العموم في الغرفة المجاورة على أساس أن له امتياز الزوجة ومثل هذه القيم تفرض الآن على العالم باسم العولمة. ومع كل هذا يطالبوننا بسرعة ركوب القطار وأن نرضي بهذا القدر الذي يفرض علينا.
وأريد أن أتسائل معكم: لماذا الغرب يريد أن يفرض علينا العولمة؟.
القضية ليست سحراً ولكن هناك في بنية الفكر الغربي والحضارة الغربية هذه النزعة للهيمنة. فنحن قد أعتدنا ما يسمى بالمركزية الغربية أي أن الغرب لا يعترف بالآخر ويريد أن يفرض ذاته عليه وأنتم تابعتم وقرأتم كل الذي قيل وكتب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي من أن الاسلام الآن هو العدو لأنه مستعصياً على العولمة وإنه للآن لم يتبنّ النموذج الغربي ولذلك فإن على حلف الأطلنطي أن تتوجه آلته الحربية إلى العالم الاسلامي. كل ذلك الكلام يقال على مستوى عال وليس تبعاً لنظرية المؤامرة مثلما يتهمنا بعض المتغربين. وإنما هذا الكلام معلن على أعلى المستويات الغربية وهي مستويات مسؤولة فليس هذا الكلام كلام المثقفين غربيين إنما هو كلام على مستوى صناع القرار.
سأحكي لكم حكاية ذات صلة بما نقول لقد قرأت مقالاً الأسبوع الماضي للسيد ياسين يثنن فيه علي بحث لجميل طر. وجميل مطر هذا من الباحثين الجادين وأنا أحترمه كثيراً ولقد وصف مطر الحضارة الغربية بأنها حضارة داروينية نسبة إلا دارون أي أن الحضارة الغربية في رأيه تقوم على الصراع ضد الحضارات الأخرى مثل الصراع بين الأحياء عند دارون وهذا يتفرع منه صراع الحضارات ونهاية التاريخ إلى أخر هذه المقولات..(9/150)
وعلى الرغم من أنني سعدت بإعجاب السيد ياسين بآراء ميل مطر ومع ذلك فقد ضحكت لأنني عندما كنت أكتب كتاباً عن المودودي في السبعينات وجدت أن المودودي عندما تحدث عن النظريات التي تقوم عليها الحضارة الغربية فإنه حددها في: فلسفة هيجل في التاريخ ـ نظرية دارون في الأحياء ـ الصراع الطبقي عند ماركس. وتكلم المودودي في ذلك كلاماً نفيساً وعبقرياً لماذا؟. لأن نظرية هيجل في فلسفة التاريخ تذهب إلى أن العصر الجديد ينسخ العصر القديم.. ليس هناك ثوابت (عملية نسخ)... عند دارون القوي ينسخ الضعيف ويزيله.. عند ماركس الطبقة الوليدة تنسخ الطبقات السابقة.. إذاً المحور في الحضارة الغربية هو الموقف الصراعي: طرف يصرع الآخر وينهيه ويزيله وينفرد بالميدان وعندما كتبت كتابي عن المودودي وعرضت أفكاره هذه في باب عن نقد الحضارة العربية وكنت قد نشرت جزءاً من هذه الدراسة قبل طبع الكتاب في مجلة العربي في أوائل الثمنينات فإذا بالدكتور فؤاد زكريا ينفذني في العربي ويقول: هذا الذي كنا نتصور أنه مستنير هاهو يهاجم الداروينية ويقول عنها هذا الكلام.
لقد تكلمنا عن أن الداروينية قدمت مبرراً للاستعمار لأن الاستعمار بدلاً من أن يشعر بتأنيب الضمير يعتقد من خلال هذه النظريات أنه يقوم برسالة حضارية عندما يزيل مواريث الأمم والبنى التحتية لها ومجتمعها المدني القائم بها والحرف والصناعات الخاصة بها ويعتبر نفسه أنه يمدنها. حتى ماركس تكلم عن أن غزو فرنسا للجزائر من التمدن وإزالة الرجعية والتخلف وتحدث بنفس هذا المنطق عن الهند مع أن الماركسيين عندنا كانوا دائماً يخفون هذه النصوص لأنها تفحض الرجل لأنه كان يتحدث عن أن الاستعمار يقوم بدور تحديثي ودور تمديني للمجتمعات المستعمرة.
فأنا عندما تحدثت عن النزعة الداروينية انطلاقاً من كلام المودودي عن الحضارة الغربية سخر مني فؤاد زكريا وهذا ما جعلني أضحك من إعجاب السيد ياسين بما قاله جميل مطر وقلت في نفسي لو كان السيد ياسين قرأ لي أنا هذا الكلام أو لأحد غيري من الاسلاميين لما كان كتب هذا الإعجاب الذي كتبه عن كلام جميل مطر. لأنه عندنا تحدث طائفية ثقافية حيث يختلف الموقف مما يقوله أحد الاسلاميين عما إذا قاله غيره من الباحثين والكتاب.
هذه هي قضيتنا مع الحضارة الغربية ففي الاقتصاد يحدث اجتياح لاقتصاد الشعوب وأنال ست متخصصاً في الاقتصاد ولكني أريد أن يجيب الاقتصاديون عندنا عن تفسير ما حدث بالنسبة للنمور الآسيوية. لقد تابعت بعض التفسيرات التي كتبت في هذا مثل أبحاث الدكتور حازم الببلاوي وغيره ومع ذلك سأقدم لكم تفسيراً أعلم أنني لو كتبته لهوجمت من العلمانيين هجوماً شديداً.
فالتجارب التي حدثت في أندونيسيا وماليزيا برغم عظمتها كان هناك دور كبير للشركات المتعددة الجنسية بالنسبة لها وبالتالي لم تكن مفاتيح الأمور بأيدي الحكومات والشعوب فالتنمية التي تجدث نتيجة التدخل الأجنبي من الممكن عند اللزوم القضاء عليها. والنقطة الأخرى أن هذه التجارب التنموية ربطت نفسها بالمركز الغربي فلم يكن هناك سوق إسلامية مثلاً وبالتالي فأنت لست حراً حقيقة: فرأس المال أجنبي والشركات أجنبية. والاستثمارات أجنبية والخبرات أجنبية والتكنولوجيا غربية والأسواق غربية.. وهكذا فأنت مربوط بالمركز الغربي.
الأمر الآخر هو حكاية سوق المال وقد قال مهاتير محمد: إن الملياردير سورس بما فعله من لعب في البورصة هو الذي بدأ الضرب في هذه التجارب. ففكرة تحول المال إلى سلعة يضارب عليها وجعلها بديلاً للإنتاج والعمل هي نفسها الفكرة التي وراء تحريم الاسلام للربا فنحن هنا في الأزهر نتعارك حول الفائدة وهل هي حلال أم حرام وليست هذه هي القضية الأصلية.. فالقضية الأصلية هي فلسفة الاسلام في المال. إن المال ليس سلعة يتاجر فيها لأن هذا هو الذي يصنع التضخم ويصنع عالماً اقتصادياً آخراً لا علاقة له بالاقتصاد الحقيقي.. ليس له أدنى علاقة بالإنتاج أو الزراعة أو الصناعة أو بكل هذه الأمور. وهذا يبين أهمية الرؤية الاسلامية في فلسفة الأموال والتي أرى وجوب دراسة عيوب ما حدث في التجارب الآسيوية في ضوئها.(9/151)
وعندما حققت أعمال محمد عبده بهرني أنه عندما تكلم عن الربا قد لمس هذا البعد وقال كيف أن تجارة المال تركز المال في جانب والفقر في جانب ولم يكن قد أثير عندنا بعد موضوع التضخم الذي هو المتاجرة في المال. فالبنك يأخذ منك بفائدة خمسة في المائة مثلاً وينقل لغيرك بفائدة عشرة في المائة ومَن أخذ بعشرة ينقل بخمسة عشر وهكذا فالمال سعره يزيد دون زيادة حقيقية في الإنتاج. أي أنه بعيداً عن وظيفة المال تتم عملية التضخم وبصنع سوق المال من الممكن أن تضرب تجارب تنموية بعيداً عن عملية الصناعة. فلم تتم عملية اللعب في الصناعة التي أقامتها أندونيسيا وماليزيا وإنما اللعب تتم ي البورصة لأنك صنعت اقتصاداً في المال مواز للاقتصاد الإنتاجي وجعلت هذا في يد السماسرة اليهود وعملاء المصارف العالمية. إذاً فلكي تتم العولمة فلا بد من الاختراق والهيمنة ومسك مفاتيح البلاد وعندما كان ينشأ لدينا مشروع مترو الأنفاق كنا نقول أن المترو في القاهرة ولكن الذي يمغنط التذكرة في فرنسا فالذي يمسك لك المفتاح (التذكرة الممغنطة) هو فرنسا لقد كنا نقول أخذوا الصندوق يا محمد ولكن مفتاحه معي لكن الآن المفتاح معهم وهذه هي فكرة العولمة فحتى في التجارب التنموية الجيدة والمبشرة تكون مخترقاً تماماً ويكون مفاتيحها مع الغرب وطبعاً هذا يتبعه تآكل السيادة في الدولة الوطنية والقومية وأريد أن أقرأ عليكم التعليق الذي كتبته في الشعب عما نشره أحد الأشخاص في جريدة الأهالي حيث زعم أنهم يقفون مع الضغط الأمركي على الحكومة المصرية في مسألة الأقليات لأننا في عصر العولمة والدولة منقوصة السيادة فتساءلت: ولماذا تكون مصر فقط منقوصة السيادة؟!
فإذا كانت العولمة حقيقية فلا بد أن تكون أمريكا أيضاً منقوصة السيادة وكما يضعون أسطولاً في الخليج يكون لنا أساطيل هناك. فلماذا تكون سيادتنا نحن فقط منقوصة وتسمى ذلك عولمة؟!. الأصح أن نسميها هيمنة. فالعولمة كما قلنا إن كان المقصود منها العالمية فلا بد أن تكون حقوقنا جميعاً متساوية ولكن المقصود الحقيقي من العولمة أن تكون سيادتنا نحن فقط هي السيادة المنقوصة.
إن هذا لم يعد يتم فقط باسم النظام العالمي ولكن أمريكا الآن أصبحت تشرع للعالم صراحة فالكونجرس الأمريكي يصدر قراراته بعدم الاتجار مع ليبيا أو بعدم الاتجار مع إيران ويضع العقوبات على مخالفة ذلك حتى حاولوا أن يفرضوا على أوروبا نفسها عقوبات ولكنهم تراجعوا بعد ذلك وآخر ما فعلوه بشأن هذه العقوبات هو قانون الأقليات الأخير.
هؤلاء الذين يدعون الدفاع عن حقوق الانسان في العالم هم الذين أبادوا الهنود الحمر ولا تزال التفرقة العنصرية في أمريكا تمثل أعلى معدلاتها في العالم ولا تزال الحروب الدينية في أوروبا إلى الآن من البلقان إلى أيرلندا إلى آخره.. ونفس هذه الأمور موجودة في يوغسلافيا أي أن أوروبا لا تزال تعيش حروباً دينية ويعودون مرة أخرى التدخل في الشؤون الداخلية للدول من ثغرة الأقليات والأقليات المقصودة هنا ليست فقط الأقليات غير المسلمة فأنا اليوم سمعت خبراً في لندن عن المغني الذي قتل في الجزائر وما الذي قالته الصحف الفرنسية عن ذلك فعندما تحدث مندوبهم في لندن عن ذلك قال: قال ن القتل كان يناضل من أجل الأمازيغية.. يناضل ضد اللغة العربية.. يناضل من أجل اللغة الفرنسية كلغة للانفتاح.. يناضل من أجل العلمانية.. هذا البرنامج الذي عقدت لأجله مؤتمرات في باريس أقامتها منظمة الأمازيغية التي يعمل فيها محمد أركون الذي جاء يعلمنا الاسلام وما هي حداثة الاسلام التي من الممكن أن تكون. وهو يعمل لدى الفرنسيين في موضوع الأمازيغية.
وما أريد أن أقوله أن الإختراق الذي يحدث من خلال موضوع الأقليات ليس فقط متعلقاً بالأقليات غير المسلمة لأنهم يعلبون الآن بورقة الأكراد.. وبورقة الأمازيغ.. مثلما يلعبون بورقة الموانة وورقة الأقباط.(9/152)
وأريد أن أقول أن قضية الأقباط لا بد أن نهتم بها ليس لأن عندنا ما نعتذر عنه أو أن لدى الاسلام ما يعتذر عنه وإنما لأنها أصبحت باباً للاختراق وأنتم ترون المراكز التي تعمل في هذا الموضوع عندنا والممولة علناً من الخارج وأقول إننا أحرص الناس على معايير الإنصاف بالنسبة للأقليات. فالمسلمون مليار وثلث مليار في العالم وربع المسلمين أقليات. إذاً فإن من مصلحتنا كمسلمين ـ فضلاً عن معايير العدل ـ أن تكون هناك ضوابط منصفة للأقليات، إن لدينا على سبيل المثال في الهند مائة وخمسين مليون من المسلمين أقلية. إذاً المسلمون أولى الناس بأن تكون هناك معايير داخلية وإقليمية وعالمية تتعامل على أساسها الأقليات ومن ناحية أخرى فإن الوحدة الوطنية لا بد أن تبنى على الحقائق وليس على الأوهام فعندما يأتي شخص ويقول أن الدين الاسلامي طارئ على مصر وإنه لذلك يجب أن يكون هناك امتياز للدين الأقدم. فلنا أن نقول عند ذلك: إن النصرانية ي مصر أيضاً وافدة.. بل أن النصرانية في العالم كله وافدة حتى في الفاتيكان نفسها لا يستثنى من ذلك سوى فلسطين. بل أن اليهودية وافدة على فلسطين لأنه لا علاقة لها بفلسطين..، لا توراة ولا أنبياء اليهودية عرفوا فلسطين. إذاً لا بد من إنهاء هذا الوهم الذي يتحدث عن دين قديم ودين وافد.
النقطة الثانية: أن المساواة كامل المساواة في حقوق المواطنة حق من حقوق الله وليس حق من حقوق الانسان لأن الله سبحانه وتعالى بحكم خلقه للبشر بصرف النظر عن الدين ـ لا بد أن تكون لهم كامل المساواة في حقوق المواطنة هذا معيار.
المعيار الثاني هو: هو أنه للأقلية في كل بلاد الدنيا أن تقيم دينها والحلال والحرام في دينها ولكنها لا يجوز أن تصادر حق الأغلبية في هوية الدولة. وخمسة مليون مسلم في فرنسا من حقهم أن يقيموا دينهم والحلال والحرام فيه ولكن ليس من حقهم أن يصادروا هوية علمانية الدولة الفرنسية ونفس الأمر إذا تحدثنا عن الأقلية في الهند. وهذه قضايا لا بد من التوسع فيها بدلاً من استغلالها في إطار العولمة.
الكلمة الأخيرة هي عن الوهم الذي يتحدث عنه دعاة العولمة وأعني بذلك ما يقولونه عن الاعتماد المتبادل أي أننا عندما نلحق بالعولمة يكون بيننا وبينهم اعتماد متبادل.
فهل من الممكن أن يكون هناك اعتماد متبادل بين رجل عاجز وأسد مفترس؟!. ويحضرني في ذلك نكتة كانت تروى عن حاجب محكمة سُئل مرة عن مرتبه، فقال: مرتبي أنا والقاضي مائة وثلاثة جنيهات هو ثلاثة والقاضي مائة فهل هذا هو الاعتماد المتبادل؟!.
فالاعتماد المتبادل لو كان حقيقياً فإنه يفترض أساساً أن تكون قوياً.. تكون لك هوية مستقلة ولكن عندما أكون ضعيفاً وتابعاً وملحقاً فهل أقول: أنا وأمريكا!.. إذاً فما الذي يحدث الآن في العراق من الأمريكان؟!..
أين العراق؟! وأين أمريكا؟!.
أين الصلف الإسرائيلي وأبو عمار؟!.
إذاً هذا الصلف المتبادل وهم من الأوهام.
فنحن مع العالمية ولكن هذا الذي يسمى بالعولمة هو تسابق وتطور في أدوات الهيمنة والجديد في ذلك هو تقنين هذه الهيمنة. أما كون الغرب يعمل على فرض هيمنته علينا فهذا مرتبط بموقف الحضارة الغربية القديم منذ الاحتكاك بينها وبين الحضارة الاسلامية وشكراً.
===============(9/153)
(9/154)
العولمة التبادلية خيار الاتفاق بين الأمم
* د. حسن حنفي
وتعني العولمة (التبادلية) ذات الاتجاهين، العولمة المزدوجة، تأخذ وتعطي، تؤثر وتتأثر. فكما أخذت الثقافة العربية الإسلامية من الحضارات المجاورة خاصة اللغة أعطت معاني وتصورات اكمل ومن منظور أوسع، الفرد والجماعة، العقل والقلب، النظر والعمل، المعرفة والأخلاق، الدنيا والآخرة. واستمر ذلك من نشأة الحضارة الإسلامية إلي نهايتها عندما بدأ الغرب اللاتيني في العصر الوسيط المتأخر يترجم منها. فإذا كانت الترجمة الأولي من الآخر إلي الأنا بفضل النصاري العرب فإن الترجمة الثانية من الأنا إلي الآخر بفضل اليهود العرب والنصاري الآتين خاصة من الأندلس، في غرناطة وأشبيلية وقرطبة وطليطلة. وكما أسس المأمون ديوان الحكمة أولاً أسس أسقف طليطلة الأسقف ريموندو ديواناً للترجمة. فقد ظلت اللغة العربية لغة الحياة اليومية فيها علي مدي قرنين من الزمان بعد سقوطها.
كما تمت الترجمة أيضاً عبر صقلية وجنوب إيطاليا غرباً وبيزنطة شرقاً. وقد ظلت اللغة العربية لغة العلم والتأليف كما كان الحال في بلاط فردريك الثاني. وكانت البعثات تُرسل من الشمال إلي الجنوب، ومن الغرب إلي الشرق. وكانت الأسئلة الفلسفية التي تؤرق الأباطرة لا يجدون الإجابات عنها إلا عند المسلمين مثل (المسائل الصقلية لابن سبعين).
وكما تمت الترجمة الأولي من اليونانية إلي العربية لصالح المتلقي بالحذف والإضافة لتوسيع المنظور اليوناني المغلق إلي منظور إسلامي مفتوح بضم إمكانيات أوسع كذلك تمت الترجمة الثانية من العربية إلي اللاتينية مع الحذف، حذف كل العبارات الدينية وأسماء الجلالة التي عدها المترجم أقرب إلي الدين منها إلي العلم. فبدأ العلم ينغلق علي نفسه من جراء الفصل بين الدين والعلم، بناء علي التجربة الغربية مع الكنيسة. فبدأت تظهر أزمة العلم بعد انتصاره وبعد التمييز بين حكم الواقع وحكم القيمة، مع أن الواقع قيمة، والقيمة واقع.
وظهر لأول مرة في الفلسفة المدرسية اللاهوت العقلاني عند الجدليين في فرنسا في القرن الحادي عشر في صراعهم ضد اللاهوتيين. الفريق الأول يعتمد علي الجدل العقلي البرهاني عند انسليم لإيجاد البراهين العقلية علي وجود الله وخلود النفس. وانقلب النموذج من (أؤمن كي أعقل) عند أغسطين إلي (أعقل كي أؤمن) بعد أن كان التناقض أساس الإيمان منذ ترتليان والذي رد إليه كيركجارد اعتباره في القرن التاسع عشر. وازدهر عند ابيلار في القرن الثاني عشر التيار العقلاني حتي أنه تم تحكيم العقل في النص في كتابه الشهير (نعم ولا) لإثبات تناقض أقوال آباء الكنيسة. وكان المسلم نموذج الفيلسوف في كتابه الآخر (حوار بين يهودي ومسيحي وفيلسوف). واستمر الحال كذلك عند توما الاكويني في الاعتماد علي العقل الطبيعي لإثبات حقائق الدين، وجود الله وخلق العالم وخلود النفس. وبلغ العقل الذروة مرة أخري عند الرشديين اللاتين، سيجر البرابنتي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، يؤكدون وحدة الوحي والعقل والطبيعة، هذا النموذج الاسلامي الذي كان وراء قيام العلوم الرياضية والطبيعية في العالم الاسلامي. واستمر العلم الاسلامي نموذجاً للعلم المدرسي عند دنزسكوت ووليم أوكام قبيل العصور الحديثة بعد أن ترجمت الأعمال الرياضية والطبيعية (الكندي)، والكيمياء (جابر بن حيان)، والهندسة والضوء (الحسن بن الهيثم)، والجبر (الخوارزمي)، والفلك (البيروني). ونقلت تكنولوجيا الري (عجلات الري) والحرب (المنجنيق) والاتصالات (البوصلة). كما نترجم نحن الآن العلم الغربي وتقنياته.
واستمر النموذج الاسلامي قبيل العصور الحديثة، في الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر عند مارتن لوثر الذي تعلم العربية لمعرفة كيف استطاع الإسلام أن يحل معضلات الكاثوليكية. فجاءت البروتستانتية علي النموذج الاسلامي ومبادئه: الكتاب وحده، حرية التفسير، رفض التوسط بين الإنسان الله، أولوية الإيمان القلبي علي الشعائر الخارجية، الدين للوطن. ثم استمر في عصر النهضة في القرن السادس في معركة القدماء والمحدثين وانتصار المحدثين علي القدماء باسم التطور والتغير والزمن والتاريخ، والتحول من التمركز حول الله إلي التمركز حول الإنسان، ومن النفس إلي البدن فتم اكتشاف الدورة الدموية، ومن التمركز حول الأرض إلي التمركز حول الشمس في علم الفلك الجديد، وفي التحول من النص إلي الواقع، ومن الكتاب المغلق، الكتاب المقدس، إلي كتاب الطبيعة المفتوح. العقل مصدر العلم الرياضي، والطبيعة مصدر العلم الطبيعي، والعقد الاجتماعي مصدر السلطة في المجتمع، والمجتمع المدني البديل عن الكنيسة.(9/155)
واستمر النموذج الاسلامي في القرن السابع عشر في المنهج العقلي عند ديكارت (أنا أفكر فأنا إذن موجود). فالعقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. ولا فرق بين شك ديكارت المنهجي وشك الغزالي النفسي (من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمي والضلال). والنظر أول الواجبات عند المعتزلة، ومناط التكليف عند الفقهاء، وأساس النقل عند الحكماء بل والفقهاء كما قال ابن تيمية (درأ تعارض العقل والنقل)، (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، وما لا دليل عليه يجب نفيه (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). واستمر العقل عند اسبينوزا مطبقاً إياه في الموضوعات التي استثناها ديكارت من المنهج مطبق فيها (الأخلاق المؤقتة). وانتهي إلي إثبات التحريف في الكتاب المقدس، وأن النبوة ليست حكراً علي اليهود وحدهم، وانتهاء عصر المعجزات، ونقض العهد الأحادي المطلق المجاني بين الله وبني إسرائيل لصالح عهد تعاقدي روحي مشروط بتقوي الله وطاعته كما هو الحال في الإسلام. ورفض الحكم الثيووقراطي لصالح (مواطن حر في دولة حر) وهو الشوري قبل أن تظهر الديمقراطية في الغرب كنظام سياسي، فالإمامة عقد وبيعة واختيار.
واستمر النموذج الاسلامي في المنطق الجديد عند بيكون (الآلة الجديدة) مؤسساً منهج التجريب الحديث الذي أسسه المسلمون عند جابر بن حيان، والكندي والرازي وابن سينا وابن رشد في الطب والصيدلة. وهو منهج الأصوليين في التعليل قبل وضع جون استيوارت مل مبادئ الاستقراء. وهو ما سماه الشاطبي (الاستقراء المعنوي) لأن الأجزاء لا تكوّن الكل، والنوازل لا تنشئ القاعدة. وقد بدأت أزمة الاستقراء في الغرب بفصل الاستنباط عن الاستقراء، وإبعاد العقل عن الحس وكما لاحظ لاشيلييه في (أسس الاستقراء) وكما نقد كلود برنار في (المدخل إلي الطب التجريبي) وهوسرل في الجزء الأول من (بحوث منطقية) في نقد المنطق التجريبي.
ولم تبتعد مُثل التنوير في القرن الثامن عشر عن الأصول الخمسة عند المعتزلة ولا عن نموذج الحكمة عند الفلاسفة أو المصالح العامة عند الأصوليين. فالعقل والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والطبيعة والتقدم هي نفسها المثل التي قامت عليها الحضارة الإسلامية. اكتشفها الوعي الأوروبي في صراعه ضد المعجزات والإقطاع والقهر والظلم الاجتماعي والعودة إلي الماضي علي الرغم من نقد فلاسفة التنوير القضاء والقدر والاستبداد الشرقي والنظم الثيوقراطية وهو ما ينقده الإسلام أيضاً. بل إن الجدل الهيجلي لا يبعد عن جدل الوحي، من اليهودية، الشريعة، إلي المسيحية، المحبة، إلي الجمع بين الاثنين في الإسلام، (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به. ولئن صبرتم لهو خير للصابرين). والدولة عند هيجل، الروح في التاريخ، والمطلق في المجتمع أشبه بالحاكمية عند الحركات الأصولية. وإعطاء الأولوية للفنون السمعية علي البصرية أقرب إلي النظرية الإسلامية. والوحدة المطلقة عند شلنخ أقرب إلي قراءة جديدة لابن عربي. ولم تبدأ الأزمة في الغرب إلا في القرن العشرين عندما بدأ يخبو النموذج الاسلامي ويخف الباعث الأول للعصور الحديثة ومقاربتها علي النهاية.
فإذا كان الوحي قد أعطي الحقائق حدساً فإن العقل وجد البراهين علي صدقه في الحضارة الإسلامية. ووجدت الطبيعة والتجربة والواقع البراهين علي صدقه في الحضارة الغربية، نظراً لوحدة الوحي والعقل والطبيعة. فالحضارة الغربية تقوم في دوافعها علي بواعث إسلامية، تطابق العقل والطبيعة، نظراً لأن تدوين الوحي لم يصمد أمام النقد التاريخي، وأقوال الكنيسة لم تصمد أمام النقد الفلسفي.(9/156)
ومن ثم فإن تيار (أسلمة العلوم) الذي يقوم علي استيراد العلم من الغرب ثم قراءته قراءة إسلامية عن طريق وضع نظارة النص عليه لا يعرف أن هذا العلم في بواعثه، معرفة قوانين الطبيعة، وقوانين المجتمع وقوانين التاريخ علم إسلامي في بداياته وليس في نهاياته، في مقدماته وليس في نتائجه. فالبحث عن الحقيقة أقرب إلي الحقيقة من أخذها جاهزة ثم الحكم عليها بمقاييس خارجية. ما يحدث حالياً هو نقل العلم الغربي بلا تمحيص ثم انتقاء نص قرآني أو حديث نبوي وإلصاقه عليه. فإذا كانت النتيجة إيجاباً كان القرآن أسبق من العلم الغربي في اكتشاف الحقائق العلمية وإن كان سلباً كان القرآن علي حق والعلم الغربي علي باطل لأن الوحي لا يخطئ، في حين أن علم البشر يخطئ. والرهان كله علي المؤوِل والمنتِقي الذي يستطيع أن ينتقي ويؤول العلم الغربي والنص الديني فيحدث الاتفاق أو الاختلاف بينهما. فإذا كان النص الديني يحتوي علي العلم الغربي فلماذا لم يعلن عن ذلك من قبل؟ وإن كان العلم الغربي خاطئاً فلماذا لم يعط النص الديني العلم الصحيح من قبل؟ وبهذه الطريقة يكون للعلم الغربي الريادة والاكتشاف، ويكون النص الديني مجرد تابع له. وماذا يحدث إذا ما تغير العلم الغربي وأتي بالنظرية المضادة بعد أن كان النص الديني قد اتفق معه، فهل يتغير فهم النص وتأويله حتي يتفق مع النظرية المضادة الجديدة؟ وبهذه الطريقة يضيع ثبات النص ويصبح متحولاً بالتحول العلمي. وتصبح كل الحقائق متغيرة ولا ثبات لأي منها وهو ما يضاد العقائد الثابتة للدين. ويصل الأمر إلي منتهاه عندما يُعلن أن الله سخر الغرب لنا، نأخذ علمه ولدينا الدين فنفوز بالحسنيين، الدنيا والآخرة، في حين أن الغرب يفوز بالدنيا من دون الآخرة. فنسجل نقطة زائدة عليه. ولما كانت الدنيا بمفردها خاسرة يخسر الغرب. ولما كانت الآخرة من دون الدنيا خاسرة نكسب نحن باسم الكسل والتبعية.
وربما يعود الغرب الآن إلي اكتشاف مصادر أخري للمعرفة غير نفسه، في الشرق القديم وفي الثقافات النقيضة، راداكرشنان، بوذا، أو الإسلام الصوفي أو في الإيقاع الافريقي لعله يستطيع أن يجد باعثاً جديداً علي الإبداع. فالحضارة الغربية ليست إبداعاً علي غير منوال ومن دون أصول سابقة. فحضارات ما بين النهر، وكنعان، ومصر القديمة، والهند كلها كانت مصادر (للمعجزة) اليونانية. وفي التاريخ لا شيء يحدث من لا شيء.
==============(9/157)
(9/158)
مفهوم العولمة وماذا تعني؟
* أ.د. يوسف القرضاوي
(العولمة) مصطلح من المصطلحات التي شاعت بيننا في هذه السنين الأخيرة، مثل الحداثة، وما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، وما بعد الإمبريالية وغيرها، وهو تعبير جديد على لغتنا، فهو مترجم قطعا، كما سنرى.
والمعروف أن (العولمة) مصدر على وزن (فوعلة) مشتق من كلمة (العالَم)، كما يقال (قولبة) اشتقاقا من كلمة (قَالَب).
فالتعبير صحيح من الناحية اللغوية، ولكن يبقى علينا أن نعرف معناه والمقصود منه، حتى يمكننا الحكم عليه؛ فالحكم على الشيء فرع من تصوره، كما قال قديمًا علماء المنطق.
العولمة تعني في نظر البعض: إزالة الحواجز والمسافات بين الشعوب بعضها وبعض، وبين الأوطان بعضها وبعض، وبين الثقافات بعضها وبعض. وبذلك يقترب الجميع من (ثقافة كونية) و(سوق كونية) و(أسرة كونية).
ويعرفها بعضهم بأنها تحويل العالم إلى (قرية كونية). ولذا نرى بعض الباحثين يستخدم هنا (الكوننة) اشتقاقا من كلمة (الكون) بمعنى العالم أيضا. كما أن بعضهم استعمل كلمة (الكوكبة) إشارة إلى كوكب (الأرض) التي نعيش عليها. ولكن الكلمة التي ذاعت وانتشرت هي (العولمة).
ويتعامل الفرنسيون مع كلمة العولمة بلفظة: (Mondialisation)، في حين أن الأمريكيين والإنجليز يتعاملون مع كلمة (Globalization) الإنجليزية التي ظهرت أول ما ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تفيد معنى تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل.
وبهذا المعنى يمكن أن نحدس، أو على الأقل نفترض، أن الدعوة إلى العولمة بهذا المعنى إذا صدرت من بلد أو جماعة فإنها تعني تعميم نمط من الأنماط التي تخص ذلك البلد أو تلك الجماعة وجعله يشمل الجميع: العالم كله.
من هنا نستطيع أن نحدس، منذ البداية، أن الأمر يتعلق بالدعوة إلى توسيع النموذج الأمريكي وفسح المجال له ليشمل العالم كله.
وبعبارة أخرى: بما أن الدعوة إلى العولمة قد ظهرت فعلا في الولايات المتحدة الأمريكية بهذا المعنى، في أوساط المال والاقتصاد، فإن لنا أن نستنتج أن الأمر يتعلق ليس فقط بآلية من آليات التطور الرأسمالي الحديث، بل أيضا بالدعوة إلى تبني نموذج معين. وبالتالي فالعولمة هي، إلى جانب كونها نظاما اقتصاديا، هي أيضا أيديولوجيا تعكس هذا النظام وتخدمه وتكرسه. وهناك من الكُتاب من يقرن بينها وبين "الأمركة"، أي نشر وتعميم الطابع الأمريكي.[1]
بين العولمة والعالمية:
وربما كان معنى العولمة في ظاهره يقترب من معنى (العالمية) الذي جاء به الإسلام، وأكده القرآن في سوره المكية، مثل قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء:107)، {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (الفرقان:1)، {إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين} (ص: 87،88).
ولكن هناك في الواقع فرق كبير بين مضمون (العالمية) الذي جاء به الإسلام، ومضمون (العولمة) التي يدعو إليها اليوم الغرب عامة، وأمريكا خاصة.
خطابنا الإسلامي في عصر العولمة
فالعالمية في الإسلام تقوم على أساس تكريم بني آدم جميعا {ولقد كرمنا بني آدم} (الإسراء: 70)، فقد استخلفهم الله في الأرض، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه. وكذلك على أساس المساواة بين الناس في أصل الكرامة الإنسانية، وفي أصل التكليف والمسؤولية، وأنهم جميعًا شركاء في العبودية لله تعالى، وفي البنوّة لآدم، كما قال الرسول الكريم أمام الجموع الحاشدة في حجة الوداع: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر، إلاّ بالتقوى..."[2]
وهو بهذا يؤكد ما قرره القرآن في خطابه للناس كل الناس: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13).
ولكن القرآن في هذه الآية التي تقرر المساواة العامة بين البشر، لا يلغي خصوصيات الشعوب فهو يعترف بأن الله تعالى جعلهم (شعوبا وقبائل) ليتعارفوا.
أما (العولمة) فالذي يظهر لنا من دعوتها حتى اليوم: أنها فرض هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية من الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، وخصوصًا عالم الشرق، والعالم الثالث، وبالأخص العالم الإسلامي.
الولايات المتحدة بتفوقها العلمي والتكنولوجي وبقدرتها العسكرية الهائلة، وبإمكاناتها الاقتصادية الجبارة وبنظرتها الاستعلائية.. ترى نفسها أنها سيدة العالم.
إنها لا تعني معاملة الأخ لأخيه كما يريد الإسلام، بل ولا معاملة الند للند كما يريد الأحرار والشرفاء في كل العالم، بل تعني معاملة السادة للعبيد والعمالقة للأقزام والمستكبرين للمستضعفين.
العولمة في أجلى صورها اليوم تعني (تغريب العالم) أو بعبارة أخرى (أمركة العالم). إنها اسم مهذب للاستعمار الجديد الذي خلع أرديته القديمة، وترك أساليبه القديمة ليمارس عهدا جديدا من الهيمنة تحت مظلة هذا العنوان اللطيف (العولمة).(9/159)
إنها تعني فرض الهيمنة الأمريكية على العالم، وأي دولة تتمرد أو تنشز، لا بد أن تؤدب بالحصار أو التهديد العسكري أو الضرب المباشر، كما حدث مع العراق والسودان وإيران وليبيا.
وكذلك تعني فرض السياسات الاقتصادية التي تريدها أمريكا عن طريق المنظمات العالمية التي تتحكم فيها إلى حد كبير، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها.
كما تعني فرض ثقافتها الخاصة التي تقوم على فلسفة المادية والنفعية وتبرير الحرية إلى حد الإباحية، وتستخدم أجهزة الأمم المتحدة لتمرير ذلك في المؤتمرات العالمية، وتسوق الشعوب إلى الموافقة على ذلك بسياط التخويف والتهديد، أو ببوارق الوعود والإغراء.
وتجلى ذلك في (مؤتمر السكان) الذي عقد بالقاهرة في صيف 1994، والذي أريد فيه أن تمرر وثيقة تبيح الإجهاض بإطلاق، وتجيز الأسرة الوحيدة الجنس (زواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء) وإطلاق العنان للأولاد في السلوك الجنسي، والاعتراف بالإنجاب خارج إطار الزواج الشرعي، إلى غير ذلك من الأمور التي تخالف الأديان السماوية كلها، كما تخالف ما تعارفت عليه مجتمعاتنا، وغدا جزءا من كينونتها الروحية والحضارية.
ومن هنا وجدنا الأزهر الشريف في مصر، ورابطة العالم الإسلامي في مكة، وجمهورية إيران الإسلامية، والجماعات الإسلامية المختلفة، تقف جنبًا إلى جنب مع الفاتيكان ورجال الكنيسة، لمقاومة هذا التوجه المدمر؛ إذ شعر الجميع أنهم أمام خطر يهدد قيم الإيمان بالله تعالى ورسالاته، والأخلاق التي بعث الله بها رسله عليهم السلام.
كما تجلت هذه العولمة في (مؤتمر المرأة) في بكين سنة 1995 وكان امتدادًا لمؤتمر القاهرة وتأكيدًا لمنطلقاته، وتكميلاً لتوجهاته.
وهذه قضية في غاية الأهمية (الاعتراف بالخصوصيات) حتى لا يطغى بعض الناس على بعض، ويحاولوا محو هويتهم بغير رضاهم.
بل نجد الإسلام يعترف باختلاف الأمم، وحق كل أمة في البقاء حتى في عالم الحيوان، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" رواه أبو داود[3]، وهو يشير إلى ما قرره القرآن في قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} (الأنعام: 38).
وإذا خلق الله أمة مثل أمة الكلاب، فلا بد أن يكون ذلك لحكمة، إذ لا يخلق سبحانه شيئاً إلا لحكمة {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} (آل عمران: 191) فلا يجوز إذن حذف هذه الأمة المخلوقة من خارطة الوجود، فإن هذا تطاول واستدراك على خلق الله تبارك وتعالى.
إذا كان هذا في شأن الأمم الحيوانية، فما بالك بشأن الأمم الإنسانية؟ إلا أن ترتضي أمة باختيارها الانصهار في أمة أخرى: في دينها ورسالتها ولغتها، كما فعلت مصر وبلاد شمال أفريقيا وغيرها، حين اختارت الإسلام دينا، والعربية لغة، بل أصبحت عضوا مهما في جسم هذه الأمة، بل لها دور القيادة في كثير من الأحيان.
العولمة استعمار جديد
إن (العولمة) كما تطرح اليوم، إنما تصب في النهاية لصالح الأقوياء ضد الضعفاء، ولكسب الأغنياء ضد الفقراء، ولمصلحة الشمال الغني ضد الجنوب الفقير.
وهذا طبيعي؛ لأن التكافؤ مفقود في حلبة المصارعة أو الملاكمة، بين الأوزان الثقيلة والأوزان الخفيفة، بل بين المصارع المدرب الممارس، وبين خصمه الضعيف الذي سيسقط لا محالة في بداية اللقاء من أول ضربة.
وماذا يمكن أن نتصور من نتائج سباق يفتح ميدانه لمن يريد المشاركة فيه؟ كيف يكون مصير من يركب الجمل أو الحمار إذا سابق من يركب السيارة؟
إن فتح الأبواب على مصاريعها - بدعوى العولمة - في مجالات التجارة والاقتصاد، والتصدير والاستيراد، أو في مجالات الثقافة والإعلام، سيكون لحساب القوى الكبرى، والدول التي تملك ناصية العلم والإعلام الجبار والتكنولوجيا العالية والمتطورة، ولا سيما الدولة الأكبر قدرة، والأشد قوة، والأعظم نفوذا وثروة، وهي أمريكا.
أما بلاد (العالم الثالث) كما يسمونها، وخصوصا (البلاد الإسلامية) منها، وهي ما أطلق عليه المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله (محور طنجة - جاكرتا) فليس لها من هذا السباق العالمي، إلا بقايا ما يفضل من الأقوياء، إن بقي لديهم ما يجودون به من فتات على الآخرين.
إنه الاستعمار القديم بوجه جديد واسم جديد. إن الاستعمار يغير لونه كالحرباء، ويغير جلده كالثعبان، ويغير وجهه كالممثل، ويغير اسمه كالمحتال، ولكنه هو هو، وإن غير شكله وبدل اسمه: استكبار في الأرض بغير الحق، وعلو كعلو فرعون في الأرض، والذي جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم.
ولكن الاستعمار الجديد الذي يريد العلو والفساد في الأرض كافة، لا يستضعف طائفة، بل يستضعف شعوب الأرض، لمصلحة أقلية ضئيلة منهم[4].
1- انظر: قضايا في الفكر المعاصر للجابري. نشر مركز دراسات الوحدة العربية ص136،137.(9/160)
2- رواه أحمد في مسنده 5/411 عن أبي نضرة عمن سمع خطبة رسول ا صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق. وذكره الهيثمي في المجمع (3/266) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. ونقل الشيخ الألباني عن ابن تيمية في (الاقتضاء 69)، أنه قال: إسناده صحيح.
3- انظر تعليقنا على هذا الحديث في كتابنا (السنة مصدرا للمعرفة والحضارة) ص146،147 طبعة دار الشروق بالقاهرة.
4- انظر: كتابنا (المسلمون والعولمة) ص 9-17 طبعة دار التوزيع والنشر الإسلامية.
==============(9/161)
(9/162)
مناهضة العولمة الإمبريالية: الفرص والإمكانيات
* وائل خليل
ما هي العولمة الرأسمالية؟
جاءت بداية التسعينيات من القرن العشرين المنصرم لتنذر ببداية عصر الهيمنة الأمريكية. فأمريكا خرجت منتصرة من حربها الأولى ضد العراق ورئيسها آنذاك -جورج بوش الأب- يبشر بقيام النظام العالمي الجديد. والاتحاد السوفييتي ودول ما كان يسمى بالمنظومة الاشتراكية (والتي لم تكن سوى أنظمة لرأسمالية الدولة) انهارت مثل قطع الدومينو وتحولت إلى اقتصاد السوق. وانتشرت نظرية نهاية التاريخ لصاحبها فرانسيس فوكوياما لتزعم نهاية الصراع الفكري والسياسي بين العالم بمناطقه الحضارية والغرب الليبرالي بانتصار الأخير وحتمية هيمنة سياسات الاقتصاد الحر والسوق المفتوحة.
وفي سنوات التسعينيات الأولى نما وتعاظم مفهوم العولمة ليعني شكلاً محددًا لتسيير الاقتصاديات القومية على أساس آليات العرض والطلب وانسحاب الدولة رويدًا من أي دور للرفاهة داخل المجتمع وفقًا لسياسات ما يسمى بالليبرالية الجديدة.
وقد تزامن هذا مع صعود المؤسسات المالية الدولية (البنك والصندوق الدوليان، ومنظمة التجارة العالمية، ومؤسسات التعاون الإقليمي كالاتحاد الأوروبي) لتفرض شروطها على الدول الفقيرة والنامية، وهي الشروط التي تتلخص في أنه على تلك الدول أن تفتح أسواقها للاستثمارات الأجنبية وللمنتجات الأجنبية، وأن تتوقف تمامًا عن تقديم أي خدمات أو دعم للطبقات الفقيرة أو القيام بأعباء تنموية وتأمينية للمواطنين. كما يجب على الدول أن تتخلى عن سياسات التوظيف وضمانات حماية العمال في مجال شروط العمل وفي الحماية من الفصل، فكل الأمور يجب أن تترك لآليات السوق، فهي الوحيدة -في زعم دعاة الليبرالية الجديدة- القادرة على الاستمرار والديمومة. أي أن الليبرالية قد عادت بعد محاولات إصلاحها من خلال إدماج سياسات الرفاهة وحماية حقوق الفئات الفقيرة والمستضعفة، والعمال والنساء، والتي أنقذتها من التهاوي كنظام اجتماعي اقتصادي في لحظة ما إلى الرؤية النفعية التي كانت تتجلى في الكتابات الكلاسيكية لليبرالية مثل كتابات آدم سميث وحديثه عن "اليد الخفية" التي ستقوم بتوفيق المصالح إذا ما أطلقنا الفردية دون ضوابط لينتعش الاقتصاد الرأسمالي في حرية كاملة، أو كتابات بنثام النفعية التي تقوم على مبدأ اللذة والألم وتنادي بترك الأفراد دون فرض ضوابط على حركتهم أو حركة رأس المال وأنهم وحدهم كفيلون بالوصول لنقطة المنفعة القصوى للمجموع، وهي الرؤى التي تتسم بداروينية بالغة وتستنبط فكرة البقاء للأصلح.
وبالتالي كان انهيار الخدمات الاجتماعية -كالصحة والتعليم- وارتفاع تكلفتها، وكذلك انتشار البطالة وازدياد الفقر.. ثمنًا مقبولاً بل وضرورياً لدخول الدول النامية- الفقيرة إلى حظيرة الدول المتقدمة صناعيا، والسماح لها بالحصول على المساعدات اللازمة لاستمرارها على قيد الحياة، والتي تربطها بتبعية للهياكل الرأسمالية الدولية ولا تمكنها من تراكم القوة ولا الثروة اللازمة لحصولها على موقع تفاوضي أفضل في العلاقات الاقتصادية الدولية وتؤثر على خياراتها السياسية والإستراتيجية، وفي النهاية لا تمنحها حقوقا متكافئة في التجارة الدولية التي عادة ما تضع فيها دول الشمال العراقيل أمام تصدير السلع والخدمات من الجنوب للشمال، في حين تزيل كل الحدود أمام تجارة الشمال للجنوب وهو الوضع الذي تفرضه اتفاقيات الجات التي تزعم المساواة بين الدول في حين تتجاهل الخلل في التوازن الاقتصادي والقدرة المتفاوتة تفاوتاً شاسعاً بين الأطراف الدولية في فرض سياسات داخلية ومعايير قاسية للجودة تضمن مصالحها الاقتصادية.
ولم يقتصر تأثير السياسات الليبرالية على الدول النامية والفقيرة، بل امتد ليشمل الفقراء ومحدودي الدخل، بل والطبقة المتوسطة في الدول الصناعية المتقدمة، حيث عانى هؤلاء من تقليص التمويل المخصص للخدمات الاجتماعية -كالصحة والتعليم- وتخلت العديد من الحكومات عن سياسات دولة الرفاهة (التي تضمن حدًا أدنى للأجور وإعانات معقولة للبطالة وكذلك خدمات التعليم والصحة).
لا نهاية للفعل الإنساني
إلا أن جهود الليبرالية الجديدة لم تكن لتمر دون مقاومة أو معارضة، فقد شهدت التسعينيات العديد من حركات المقاومة لسياسات تحرير السوق، ففي المكسيك شهد عام 1994 انتفاضة فلاحي الزباتيستا ضد سياسات الحكومة المكسيكية التي كانت قد وقعت لتوها اتفاق النافتا (المنطقة التجارية الحرة لأمريكا الشمالية - الولايات المتحدة وكندا والمكسيك)، والتي تحولت لحركة منظمة وناجحة لمقاومة العولمة ونموذجًا لا سلطويًا لحركة فاعلة ومستمرة ذات تأثير عالمي فريد.
كما شهد عام 1995 انفجارًا عنيفًا لمظاهرات الطلبة في فرنسا احتجاجًا على ارتفاع تكاليف التعليم. وفي إندونيسيا انهار حكم سوهارتو تحت وطأة الاحتجاجات الشعبية ضد الفساد والفقر.(9/163)
وبدورها عانت سياسات صندوق النقد الدولي من مشاكلها الذاتية، فالأزمات الاقتصادية العنيفة التي أصابت اقتصاديات دول جنوب شرق آسيا في النصف الثاني من التسعينيات جاءت لتبدد وهم أن سياسات الصندوق هي دواء فعال لا بديل له على مرارته لحل مشاكل الدول النامية وشفائها من كافة الأمراض. فدول جنوب شرق آسيا (مثل تايوان وكوريا الجنوبية والفلبين) والتي كان يطلق عليها اسم "النمور الآسيوية" كانت النموذج الناجح الذي يقدمه دعاة الليبرالية الجديدة كدليل على صحة سياساتهم، وبالتالي جاءت أزمتها (انهيار العملة وتكدس المنتجات وزيادة البطالة) لتبث هشاشة المنظومة الاقتصادية بكاملها.
سياتل وميلاد حركة مناهضة العولمة
ورغم تلك الأزمة، وأزمة مثيلة سبقتها في المكسيك عام 95، استمرت الدعاية لسياسات الصندوق على أنها السبيل الوحيد وشر لا بد منه، وأن أي معارضة لتلك السياسات هي من قبيل الجنون والرعونة.
وعلى خلفية هذا المشهد المتأزم بين ضغوط النظام العالمي الجديد ومعاناة فئات واسعة منه كان اندلاع حركة مناهضة العولمة الرأسمالية التي لا تمثل الغالبية العظمى من سكان هذا الكوكب سوى الفقر والمهانة، والمرض والبطالة؛ فالأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرًا بشكل غير مسبوق في التاريخ.
وفي سياتل بالولايات المتحدة الأمريكية في نوفمبر 1999 كان الميلاد الرسمي للحركة، فهناك اجتمع الآلاف من البشر من اتجاهات سياسية متعددة؛ اشتراكيين وفوضويين وشيوعيين وعمال نقابيين وجمعيات مسيحية، ونشطاء من مختلف الحركات والأهداف، ومدافعين عن البيئة وعن حقوق المرأة، ومن حركة الحقوق المدنية السود ومن مناهضي العنصرية.. للاحتجاج على اجتماع منظمة التجارة العالمية المنعقد هناك آنذاك.
وما بدا للوهلة الأولى كاحتجاج رمزي تحول إلى مظاهرات حاشدة استمرت لعدة أيام وأدت لإلغاء اجتماع منظمة التجارة، وصار هناك صوت مدو لمطالب كانت تقال بالأمس همسا، وبرز شعار "نحو عالم أفضل ممكن" (anothe r wo r ld is possible). وقد فاجأ حجم المشاركة الجميع بمن فيهم المنظمين أنفسهم، ومنذ ذلك الحين وجد العديد من الرافضين لسياسات الإفقار والهيمنة بؤرة لنشاطهم وصوتا لغضبهم.
وأصبحت اجتماعات ومؤتمرات المنظمات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة ومنتدى دافوس، بل والمؤتمرات والقمم السياسية كالاتحاد الأوروبي والدول الصناعية السبع (الثمانية فيما بعد).. بؤرة لنشاط الحركة الناشئة وكابوسا لقيادات العولمة وقادة الدول الكبرى.
واكتسبت الحركة الثقة وازدادت قوة بعد سياتل، وسجلت العديد من المدن أسماءها كانتصارات للحركة الجديدة، ملبورن ونيس وبراغ ودافوس وجونتبرج، كانت كلها مواقع أكدت أن سياتل لم تكن حدثا عارضا بل حركة طويلة النفس.
وفي جنوا في يوليو 2001 سقط كارلو جولياني أول شهيد لحركة مناهضة العولمة برصاص الشرطة الإيطالية وبعد العنف الشديد الذي واجهت به الدولة الإيطالية المظاهرات والاحتجاجات ضد قمة الدول الصناعية الثمانية (G8)، وفي اليوم التالي خرجت مظاهرة ضمت ما يزيد عن 300 ألف لتؤكد أن مناضلي حركة مناهضة العولمة لن يهزموا بسهولة.
مناهضة العولمة والحرب والاستعمار بعد 11 سبتمبر
بعد 11 سبتمبر ساور العديدين الشك في قدرة حركة مناهضة العولمة على الاستمرار في وجه تفجر روح التعصب والرغبة في الانتقام الذي أطلقها جورج بوش وآلة الدعاية الأمريكية المهيمنة، وظن البعض أن روح "نحن" و"هم" ستنزع من الحركة طابعها التضامني وبالتالي ستقضي عليها، إلا أن الحركة بعد تردد وتراجع قصيرين استعادت المبادرة ولعبت دورًا أساسيًا في بناء حركة معارضة الحرب الأمريكية في أفغانستان، واليوم تطورت لتصبح حركة ضد العولمة وضد الإمبريالية (الهيمنة الاستعمارية) في العراق.
وكذلك تطورت الحركة لتصبح بؤرة للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية ومع نضال الفلسطينيين المشروع ضد الاحتلال الصهيوني. ففي نوفمبر 2001 شهدت لندن مظاهرة حاشدة قوامها 50 ألفًا ضد العدوان الأمريكي على شعب أفغانستان، وفي إبريل 2002 وفي أعقاب الاجتياح الإسرائيلي سارت مظاهرة من 100 ألف مؤيدة للحق الفلسطيني، في لندن وبعدها في واشنطن فيما وصف بأنه أكبر تحرك لدعم الحق الفلسطيني تشهده العاصمة الأمريكية.
كما شهدت فلورنس في نوفمبر 2002 مظاهرة شارك فيها ما يقرب من مليون متظاهر وتم تنظيمها على هامش المنتدى الاجتماعي الأوروبي، وهو مؤتمر واسع ومفتوح لحركة مناهضة العولمة شارك فيه 60 ألفا من كافة أنحاء العالم، وفي يناير 2003 شهدت مدينة بورتو أليجيري البرازيلية المنتدى الاجتماعي الموازي لقمة المنتدى الاقتصادي الدولي بدافوس (سويسرا)، وفي حين كان في سويسرا 3 آلاف من الساسة ورجال الأعمال وممثلي الشركات عابرة القارات بلغ عدد المشاركين في بورتو أليجيري من مناهضي العولمة في نفس الفترة بالتوازي، ما يزيد على مائة ألف ناشط من كل أنحاء العالم. وبعد تصاعد الهستيريا الأمريكية ضد العراق شهدت العاصمة البريطانية أكبر مظاهرة ضد الحرب منذ 50 عاما.(9/164)
ففي 28 سبتمبر 2002 ثم في 15 فبراير 2003 ثم أخيراً السبت 12 أبريل 2003 انطلقت مظاهرات تاريخية حاشدة وجماهيرية واسعة ضد الحرب الأمريكية على شعب العراق وتأييدا لنضال الشعب الفلسطيني، شارك فيها في كل مرة نصف مليون شخص، وقد نظم المظاهرات تحالف مناهضة الحرب (Stop the Wa r Coalition) -وهو جبهة انبثقت من داخل حركة مناهضة العولمة- بالاشتراك مع اتحاد المنظمات الإسلامية في بريطانيا، أي أن هناك أيضًا شبكات جديدة تتشكل، وتحالفات تنشأ بين مختلف القوى المناهضة للعولمة، الباحثة عن عولمة بديلة إنسانية عادلة.
حركة مناهضة العولمة ودروس مستفادة
إن حركة مناهضة العولمة ليست كلا واحد، ومن أهم خصائصها ذلك التنوع الذي يميز الأفراد والمنظمات المشاركة فيها، فهي تضم منظمات اشتراكية وأخرى فوضوية، شيوعيين ومستقلين، منظمات غير حكومية تعنى بشعوب العالم الثالث وأخرى تعنى بحقوق الأقليات، والمدافعين عن البيئة ومعارضي الزراعة الجينية، ومسيحيين ومسلمين وأتباع شتى الأديان والطوائف.
والنجاح الذي حققته الحركة جاء لأن كل المشاركين رأوا أن الأولوية هي في النضال ضد عدوهم المشترك، أي العولمة الرأسمالية التي تقودها الشركات ولم تمنعهم الخلافات الفكرية من التنظيم المشترك لأعمال عظيمة، ولو تخيلنا أن الحركة اقتصرت على المنسجمين فكريا أو المنتمين لتيار واحد لكان لدينا في فلورنسا مثلا 2000 مظاهرة لا تزيد أيها عن عدة آلاف، وبدلا من النضال ضد العدو المشترك لبدد أعضاء الحركة وقتهم وطاقتهم في تفنيد حجج بعضهم البعض وفي التقاط الاختلافات بين هذا التيار وذاك.
لقد اختارت الحركة ومناضلوها التركيز ليس فيما يميزهم عن بعضهم البعض ولكن على ما هو مشترك: عالم أفضل ممكن.
ولا يعني هذا طمس الخلافات والتمايز بل يعني فقط ألا نضع شرط الاتفاق في كل القضايا، الآنية والمستقبلية، كضرورة للتحرك المشترك. وهذه خبرة علينا أن ندركها في واقعنا العربي والمحلي، وعلينا أن نتجاوز منطق المناظرة والحوار (رغم أهميته) لنصل للعمل الجبهوي المشترك، بدلا من أن نقضي الساعات لمناقشة خلافاتنا، فإن علينا أن نرى ما يمكن تحقيقه معًا.
فهناك العديد من القضايا الملحة في واقعنا الوطني المباشر والتي يجب أن نضعها على قمة أولوياتنا والنظر فيما يمكن أن نحققه معا بشأنها. فقضايا مثل التضامن مع الشعب الفلسطيني وانتفاضته الباسلة، والنضال ضد العدوان الأمريكي على الشعب العراقي، والديمقراطية وحقوق الإنسان (بعيداً عن استهانة أمريكا الليبرالية بها بل وخيانتها لتاريخها ذاته)، وقضايا مناهضة العولمة وسياسات الإفقار، هذه كلها قضايا تفرض على كل القوى والتيارات أن توحد عملها بشأنها.
وحملة مناهضة العدوان الأمريكي والتي بادرت بها على سبيل المثال في مصر المجموعة المصرية لمناهضة العولمة (أجيج) هي مثال حي ومباشر للعمل المشترك المطروح على الجميع المشاركة فيه، وقد تأسست لجنة شقيقة في اليمن وننتظر اتساع الفكرة واتساع قاعدة التعاون الفعال.
إن الواقع العالمي والمحلي يحمل في طياته العديد من الفرص والإمكانات علينا أن نستثمرها من أجل هدف لا يختلف بشأنه أحد: عالم أفضل ممكن.
** كاتب مصري مهتم بشؤون العولمة
==============(9/165)
(9/166)
عولمة الإعلام.. والدور الإسلامي المنتظر
(الشبكة الإسلامية)
قناة الناس جذبت جمهورا غفيرا
من دون مبالغة يمكننا القول أن أهم المكتسبات التي حققتها العولمة لشعوب العالم وأعظمها هي تلك التي تكونت على الصعيد الإعلامي ؛ حيث إن ظهور شبكة الإنترنت الرهيبة مثَّل انقلاباً كبيراً في معنى التواصل الإنساني، ومعنى الحوار، ومعنى الرسالة الإعلامية العالمية، كما أن ظهور البث الفضائي الإذاعي والتلفزيوني أتاح فرصاً مدهشة للتواصل الإعلامي الفعال مع كل إنسان في العالم، وبشكل لم يتصوره الناس من قبل. وكذلك تخفيف حساسيات الدولة القومية من وجود النشاطات الإعلامية والإنسانية الأجنبية على أراضيها جعل هناك مساحة واسعة من الحركة والتفاعل الإنساني بين الصوت الإسلامي والإنسان المعاصر في غير ما مكان من عالم اليوم.
والذي لا شك فيه أن هذه الآليات هي نتاج تغوُّل فكرة العولمة ومحاولة أصحابها السيطرة على البسيطة، والبحث عن وسائل لاختراق الحدود أو تجاوزها وبسرعة لتوصيل الرسالة الفكرية والإعلامية المراد توصيلها إلى كل إنسان على وجه الأرض وبسرعة فائقة.
وقد نجحت بلا شك المؤسسات الإعلامية الدولية في الاستفادة من هذه الآليات بما يخدم مصالحها، وقد وصل جزء كبير من الفساد عن هذا الطريق إلى الإنسان المعاصر في العالم الإسلامي والعربي بشكل خاص، ولكن بالمقابل فإن هذه الآليات قد أتاحت قدراً مدهشاً للحركة أمام النشاط الإسلامي الإعلامي والثقافي، ويكفي أن نشير إلى أن نسبة كبيرة من المواقع العربية على شبكة الإنترنت هي لمؤسسات إسلامية صغيرة أو كبيرة أو حتى شخصية، واستخدامات البريد الإلكتروني وساحات الحوار ونحو ذلك خير شاهد على هذه الحقيقة.
هناك أيضا المئات بل الآلاف من الإصدارات والمجلات والصحف الإسلامية التي تبث الآن عبر الإنترنت وتصل إلى أنحاء العالم كافة مخترقة حواجز رهيبة كان من العسير عليها في السابق اختراقها مهما أوتيت من قوة وقدرة مالية أو غيرها؛ بل إن شبكة الإنترنت أعطت الجهاد الشيشاني ـ على سبيل المثال ـ إمكانية الصمود أمام آلة الإعلام الروسي الجبارة، وأصبح موقع المجاهدين على الشبكة ـ في حينه ـ أحد أهم مصادر وكالات الأنباء الدولية عن الأوضاع في الشيشان، وكذلك مصدراً مهماً للصحف والمجلات، ولو كان هذا الأمر قبل عشرين أو ثلاثين عاماً لما شعر أحد بالمعاناة الشيشانية ولتم دفنها كما دفن الجهاد الكشميري زمناً طويلاً قبل أن يبدأ في التواصل مع العالم الخارجي.
إن شبكة الإنترنت ساعدت على إحياء معاني كبيرة وجليلة في الحالة الإسلامية، وفي مقدمتها معنى « الجسد الواحد » للأمة إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، ورغم كل المكتسبات التي حققتها الصحوة الإسلامية من خلال الاستفادة من شبكة الإنترنت، فإن هناك مجالات رحبة وواسعة يمكنها استغلالها بشكل أفضل؛ ومن ذلك إنشاء صحف يومية مختلفة وقنوات إذاعية وتلفزيونية عبر الشبكة بصورة أكبر مما هو موجود فإن الموجود الآن إذا قورن مثلا بالقنوات التنصيرية فلن يعد شيئا.
ومما يبشر بالخير أن نجد الكثير من الشباب الإسلامي متميزاً للغاية في خبرة التعامل مع التطور التقني والمعلوماتي الجديد بصورة تبهج النفس، ويبقى حضور الأفق الجيد الذي يرسم خريطة الحالة الإسلامية ؛ ومن ثم يرصد احتياجاتها، ثم يحدد الطرق والوسائل التي يسد بها هذه الاحتياجات من خلال هذا المنفذ الجديد والمثير.
أيضاً على صعيد البث الفضائي، أعتقد أن هذه نافذة مهمة للغاية، وما زال الإسلاميون عاجزين عن الاستفادة منها الاستفادة المرجوة. صحيح أن هذه الخدمات تحتاج إلى إمكانيات مادية أعلى بكثير من تلك التي يحتاجها العمل من خلال الإنترنت، إلا أن الإسلاميين لا يهتمون بتدريب الكفاءات الفنية التي يمكن لها تحريك عمل مثل هذا مستقبلاً، وهذه نقطة غاية في الأهمية وسيكون لها أثرها في المستقبل القريب، كما لا يوجد في حدود علمي جهود حقيقية لدراسة الإمكانيات الفعلية لتحقيق هذا الطموح، وفي تقديري أنه إذا نجحت الدعوة الإسلامية في اختراق هذه الآلية الجديدة للتواصل مع القواعد العريضة من الناس فإنها ستربح كثيراً من الوقت والجهد وتقفز بالدعوة قفزات كبيرة. وقد لمست ذلك بنفسي من خلال تجربة محدودة في العمل من خلال إحدى القنوات الفضائية الإسلامية، ولمست كيف يمكنك أن تصل إلى الملايين من أقصر طريق وبأفضل تأثير (ولا يمكن أن ينسى هنا دور بعض القنوات كالمجد والفجر والناس وأمثالها)، وأذكر أن أستاذًا جامعياً إسلامياً في مصر، ظل على مدى أربعين عاماً يكتب في الشأن الإسلامي وفي الدعوة والتنمية وغيرها، فلم يعرفه ويعرف دعوته إلا نفر قليل، ثم ظهر في برنامج تلفزيوني لعدة حلقات وكان موفقاً فيه فأصبح يتابعه الملايين وتحول إلى نجم جديد وكبير، وأفردت له صحيفة الأهرام المصرية أكبر صحيفة مصرية وربما عربية صفحة كاملة كل أسبوع يكتب فيها ما يشاء.(9/167)
وكذلك فإن الحضور المتتالي لبعض الرموز الدعوية ممن أثاروا جدلاً واضطراباً بفتاواهم، يعود بشكل مباشر إلى نجاحهم في استثمار البث الفضائي والحضور الجيد من خلاله، في حين لم ينجح وربما لم يتحمس آخرون فخسروا الكثير من تأثيرهم الدعوي، كما خسر جمهور الناس إمكانية الاستماع والتواصل مع الرأي الفقهي الآخر.
هذه نفثات ومجرد إشارات للدلالة على أهمية هذه الآليات الإعلامية ولفت نظر العاملين في الحقل الدعوي الإسلامي إلى الالتفات إليها والاهتمام بها لما لها من أثر رهيب ودور بارز على الصعيد الحالي وخلال سنوات ربما تمتد وتطول.. والله المسئول أن ينصر الدين وأهله، وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مقال للأستاذ جمال سلطان ـ (البيان:170) بتصرف يسير.
=============(9/168)
(9/169)
مفكرون بمنتدى الدوحة يحثون على المعرفة لمواجهة العولمة
(الشبكة الإسلامية) الجزيرة نت
المنتدى دعا إلى تكامل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية
تسارعت خطى المتغيرات الدولية بصورة مذهلة خلال الـ15 عاما الماضية بصورة لم تدع مجالا لالتقاط الأنفاس ولا حتى لإدراك حجم وآثار تلك المتغيرات وبالذات فيما يتعلق بمنطقتنا العربية.
فبعد مرحلة من التوازن العسكري والسياسي بين القطبين الرأسمالي والاشتراكي اللذين ظلا يتقاسمان نفوذهما في العالم لعقود من الزمن تغيرت ملامح الخريطة فجأة بانهيار الاتحاد السوفياتي السابق وسقوط المنظومة الاشتراكية وانفراط عقدها ككل ليدخل العالم مرحلة النظام العالمي الجديد ونظام القطب الواحد.
وباستفراد الولايات المتحدة منذ بداية التسعينيات بقيادة العالم دون منازع شهد العالم متغيرات متسارعة في كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعلوماتية وما نتج عنها من الضغوط على العالم الثالث لتغيير جلدها وأنماط حياتها بما يتلاءم مع القيادة الجديدة للعالم.
وبرز مفهوم العولمة حينها كأبرز التحديات التي أصابت الكثير من دول المعمورة، لينقسم العالم إزاء هذا المفهوم إلى معسكرين: متفائل يبشر بخيراته وجني ثماره، وآخر متشائم يرى فيه تهديدا صارخا لثقافتنا وقيمنا الأصيلة.
بعدها استمرت النداءات بضرورة إجراء حوارات بين طرفي المعادلة الشمال الغني والجنوب الفقير وعقدت العشرات من المنتديات والملتقيات والمؤتمرات لدراسة تلك المستجدات، ومن أبرزها العولمة وتحرير الاقتصاد والدعوة للخصخصة وصولا إلى المناداة بالإصلاحات السياسية التي تشهدها المنطقة هذه الأيام.
إفرازات العولمة
يرى كثير من الأكاديميين والمختصين بأن العولمة بما أفرزته من فجوة هائلة بين الدول باتت تحتاج أكثر من أي وقت مضى لدراسة موضوعية ونقدية لتشخيص مكامن الخلل والأخطار المنبثقة عنها ومعالجة آثارها مستقبلا.
ويعتقد الدكتور هشام العجمي مدير التطوير المؤسسي بمعهد الإدارة الدولي بلوزان-سويسرا والمشارك في منتدى الدوحة الثاني للتنمية، أن سبب الفجوة التي أحدثتها العولمة نابع من نقص التعليم والتدريب في دول العالم الثالث مقارنة بالدول المتقدمة مما جعلها تضعف أمامها، ورأى أن الحل يكمن في إيجاد بيئة منافسة تستغل أجواء العولمة لصالحها مستشهدا بما حققته دول كالهند التي باتت مصدرا مهما في عالم تقينات المعلومات وتنافس بقوة في هذا المجال.
ويتفق معه في هذا الرأي الخبير بمجال التخطيط الدكتور محمد عبد الحميد أبو علي في أن من يستطيع أن يهيئ لنفسه بيئة مناسبة للمنافسة في المجال الاقتصادي فإنه سيستفيد حتما من العولمة, ويرى أنه لو استمرت الهوة الرقمية بين الدول المتقدمة والنامية بحكم أن الفقراء لا يستطيعون اقتناءها فإن الهوة ستظل لصالح الشمال, مؤكدا أنه ينبغي للدول النامية وضع إستراتيجيات تركز على المعرفة لتضع لنفسها قيمة تنافسية في ميادين التكنولوجيا والمعلومات والطاقة.
الاقتصاد الحر
ومن المتغيرات التي شهدتها المنطقة العربية الدعوات المتسارعة لتحرير الاقتصاد والتحول إلى الاقتصاد الغربي وهي الإصلاحات التي تبناها كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدوليين وما أسفر عنها من تداعيات على شعوب المنطقة.
ويعتقد أبو علي أنه يجب النظر للإصلاحات على أنها "منظومة متكاملة" حيث لا يمكن إجراء إصلاح اقتصادي دون التطرق إلى الجوانب الأخرى، فتعويم العملة مثلا في أي بلد يحتاج إلى سياسات نقدية واقتصادية واضحة، مطالبا بأن تكون مثل هذه الإصلاحات نابعة من الذات وأن تسبقها دراسات وإحصاءات تكشف مواضع الخلل وفق أسلوب علمي حديث.
مقاسات أميركية
بالمقابل يرى الخبير الاقتصادي الدكتور محمد زكريا مطر أن العولمة تسببت في أضرار فادحة أصابت دول العالم الثالث أهمها عدم التسامح والاستغلال والتبادل غير المتكافئ ووجود المعايير المزدوجة، وكذا الانسياب المسيس لرؤوس المال بالإضافة إلى تدمير وهدم النماذج الأصلية في مجتمعاتنا.
وفيما يخص الإصلاحات السياسية يرى مطر أنها "محاولة لتفصيل العالم على المقاسات الأميركية"، مؤكدا أن المنطقة العربية بحاجة لتغيير شامل وبحاجة إلى قيادات جديدة تتماشى مع روح العصر.
وأكد أنه لا يمكن إحداث أي تنمية في المنطقة إلا إذا كان هناك جو من الحرية والديمقراطية مشددا على ضرورة أن تكون مثل هذه الإصلاحات متدرجة وتتفق مع مصلحة الشعوب وليس وفقا لتوجهات الولايات المتحدة.
ويبدو أن مثل هذا الحراك السياسي والاقتصادي سيستمر حتى تتضح ما ستسفر عنه مثل هذا المنتديات والمؤتمرات والتجارب لعل المستقبل القريب يحدد معالمه وآثاره.
===============(9/170)
(9/171)
سوريون يشكلون أول حركة عربية مناهضة للعولمة
السبت :18/01/2003
(الشبكة الإسلامية) دمشق ـ عبد الرحمن الحاج
شكل ناشطون سوريون أول حركة في العالم العربي تناهض العولمة، وجاء الإعلان الأول عن الحركة الجديدة، التي تنضم إلى مثيلاتها من حركات المجتمع المدني في سورية التي أخذت تظهر إلى الوجود منذ عامين ونيف؛ عبر إصدار عدد تجريبي من نشرة تحمل اسم "البديل"، يصف مصدروها أنفسهم بأنهم "مناهضو العولمة في سورية".
وتُعد هذه الحركة الأولى من نوعها في العالم العربي، وإن كانت تأتي متأخرة عن حركة الجماهير الأوروبية والأمريكية اللاتينية والآسيوية المناهضة للعولمة.
وكانت سورية واحدة من أوائل الدول العربية التي شهدت في العامين الماضيين نشاط حركة معلنة ومنظمة لمقاطعة البضائع الأمريكية في العالم العربي، فضلاً عن الحركات المؤيدة للانتفاضة الفلسطينية والمناهضة للصهيونية ولضرب العراق.
وتقول النشرة الصادرة بالعربية بتاريخ 31 كانون الأول 2002، إنه "منذ أن انطلقت الليبرالية الجديدة في الهجوم على الصعيد العالمي تحت اسم العولمة، يزداد يوماً بعد يوم عدد الفقراء والمهمّشين في العالم في الشمال كما في الجنوب، كما إن الهزات الاقتصادية التي تسببها ترمي بملايين العمال إلى البطالة وتدفع بلدانا بأكملها إلى إعلان إفلاسها. لذلك فإنه إذا كان عدد المستفيدين من العولمة يبلغ عشرات الآلاف فإن عدد المتضررين منها يبلغ مئات الملايين".
ويقول معدو النشرة إنهم يريدون "أن تكون جزءاً من الحركة العالمية المناهضة للعولمة، من خلال نشر الوعي والثقافة المناهضة للعولمة من جهة؛ والتعريف بهذه الحركة من جهة ثانية. كما تهدف إلى تسليط الضوء على انعكاسات العولمة على ساحتنا العربية والسورية والعمل من أجل مواجهتها"، وفق تعبيرهم.
وتحت عناوين شبيهة بالشعارات التي رُفعت في سياتل ودافوس وجنوه وبراغ وفلورنسا وغيرها؛ تتوالى عناوين "نشرة البديل" المناهضة للعولمة، مثل: "لن ندفع حياتنا ثمناً لأرباحكم"، و"لن يحكمنا البنك الدولي"، و"عالم آخر أفضل ممكن".
ويقول هؤلاء المعارضون للعولمة والليبرالية الجديدة: "نحن على ثقة بأنّ هجوم الليبرالية الجديدة المنطلقة تحت اسم العولمة يمكن التغلب عليه من خلال التضامن بين الشعوب، من أجل خلق عالم موحد أفضل للإنسانية، بديلاً للعالم الذي يرزح تحت قبضة حفنة من الرأسماليين"، حسب ما يأملون.
هذا وقد وجّه "ناشطو مناهضة العولمة في سورية" مؤخراً أول بيان لهم للشعب السوري قالوا فيه: إن العولمة التي يكافحونها: "هي الخطاب الليبرالي الجديد الذي بث خدعة نهاية التاريخ وختامه وأوهام السلام والرفاه الذي سيعم العالم بعد سيطرة الليبرالية عليه. في الوقت الذي لم تتوقف فيه الحروب لحظة واحدة منذ أن أطلق هذا الخطاب، وتزداد النزاعات تأججاً, وتخلق نزاعات جديدة بدءاً بحرب الخليج الثانية التي دشّنت عصر العولمة, مروراً بحرب البلقان وأفغانستان وفلسطين وانتهاء بالإعدادات الجارية من قبل زعيمة الإمبريالية العالمية للحرب على العراق".
وفي تبنٍّ لمنظور جديد لمكافحة العولمة، يأخذ بعين الاعتبار الخصوصية العربية والإسلامية؛ ووصف البيان العولمة التي يدعو إلى مكافحتها بأنها "الخطاب العنصري الشوفيني لمنظري العولمة حول صدام الحضارات والتحريض ضد العرب والمسلمين ومعاداة الأجانب وإزكاء النزعات الدينية والعرقية والتحريض على حرب صليبية جديدة".
وأوضح البيان أن الليبرالية العولمية "من حرب الخليج الثانية التي دمرت مقدرّات العراق وجوّعت شعبه وقتلت أطفاله، إلى الوجود العسكري للولايات المتحدة على أرض الخليج، وتحميل هذه الدول فاتورة الحرب التي شنتها على العرب، مروراً بدعم الكيان الصهيوني العنصري في فلسطين والمجازر المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني ومحاولة إجهاض كفاح نصف قرن على طريق العودة واستعادة حقوقه المغتصبة، وانتهاء بحملة مكافحة "الإرهاب" في أفغانستان والتي صورت العرب والمسلمين باعتبارهم رمزاً للشر والإرهاب. وأخيرا وليس آخراً التهديدات والاستعدادات المحمومة لغزو العراق".
يُذكر أن ناشطي مناهضة العولمة في سورية أعلنوا عن أنفسهم لأول مرة في آخر يوم من عام 2002م، من خلال إصدار العدد التجريبي "صفر" لنشرة ناطقة باسمهم تحت اسم "البديل".
===============(9/172)
(9/173)
النظام العالمي الجديد والعولمة والتكتلات الاقليمية وأثرها
السبت :18/01/2003
(الشبكة الإسلامية) - الدوحة
قرار رقم 134 8/14 بشأن النظام العالمي الجديد والعولمة والتكتلات الاقليمية وأثرها.
ان مجلس مجمع الفقه الاسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الاسلامي المنعقد في دورته الرابعة عشرة بالدوحة دولة قطر من 8 إلى 13 ذو القعدة 1423هـ الموافق 11 - 16 يناير/2003م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة الى المجمع بخصوص موضوع النظام العالمي الجديد والعولمة والتكتلات الاقليمية واثرها وبعد استماعه الى المناقشات التي دارت حوله.
انتهى إلى يلي:
اولا: المقصود بالعولمة والنظام العالمي الجديد:
العولمة تعني في شكلها ومظاهرها سهولة الانتقال في السلع والافكار ورفع الحواجز بين الشعوب والامم، بحيث اصبح العالم اشبه ما يكون بقرية كونية صغيرة وذلك نتيجة التقدم التكنولوجي المعاصر، وما تم ابتكاره من صيغ للتعامل الدولي منها: التكتلات الاقليمية الدولية، ومنظمة التجارة العالمية، والشركات العابرة للقارات، وقد رافق ذلك استغلال القوى الكبرى ومؤثرات الحضارة الغربية المعاصرة لهذه الامكانات المتاحة لمصالحها، مما مكنها من السيطرة والهيمنة على كثير من مجالات الحياة الانسانية، بل اخذت هذه القوى تعمل على قيادة عمليات التقدم التكنولوجي لايجاد المزيد من الآليات والصيغ التي تمكنها من زيادة قدراتها من ناحية، وزيادة سيطرتها وهيمنتها على آفاق الحياة الانسانية من ناحية اخرى.
وقد ارتبط بذلك ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي يقوم على المنظمات الدولية والمؤتمرات العالمية التي اخذت تتصدى لمختلف القضايا التربوية والاقتصادية والاجتماعية والسكانية والبيئية بنظر يحرص على مصالح القوى الكبرى ويدفع لتعميم مفاهيم الحضارة المادية الغربية المعاصرة.
والعولمة بهذه الصورة تمثل تحديا صارخا للامة الاسلامية بما تحمله من رسالة إلهية، وما اقامته من حضارة انسانية راشدة، حققت خير الانسان وسعادته في كل آفاق الحياة، مما يحمل علماء الامة وساساتها ومفكريها وقادتها، في ميادين الحياة السياسية والثقافية والتربوية والاقتصادية والاعلامية وغيرها، مسؤوليات كبيرة لتحقيق نهضة اسلامية شاملة تدفع الامة الى آفاق الازدهار والتقدم.
ويتجلى ذلك في مجالين:
الاول: تحصين اجيال الامة ومختلف ابنائها في وجه التحديات التي تفرضها ممارسات العولمة المعاصرة الواقعة تحت التأثير الغربي، مما يتطلب جهودا كبيرة لبناء الشخصية الاسلامية المعاصرة القادرة على مواجهة التحديات عن وعي وبصيرة وعلى اساس من الفهم العميق للاسلام بوسطية واعتدال وتوازن، بحيث تجمع بين العلم والايمان، وبين الاصالة والمعاصرة، وبين التمسك بالثوابت والانفتاح على انجازات العصر، وهذا يوجب العناية البالغة بمناهج التربية والتعليم خاصة تقوية المواد الدينية، ورفض اي تدخل فيها من القوى الخارجية.
الثاني: الامساك بزمام المبادرة في التعامل مع ادوات العولمة وآلياتها وفق خطط شمولية واعية تخاطب المجتمعات الانسانية المعاصرة، بالطريقة التي تفهم واللغة التي تدرك بعيدا عن الارتجال والسطحية، او التنظير المحدود القاصر، بما يشمل مجالات الفكر والثقافة والاعلام، ويهدف الى تحقيق الممارسات الابداعية والانجازات العلمية والاقتصادية التنموية التي تؤمن الحياة الكريمة لكل انسان في المجتمع.
توصيات
ويوصي المجمع في اطار الخطط الشمولية المشار اليها، ومن منطلق ان الاسلام دين عالمي جاء لخير الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة وهو خاتمة الاديان الذي لا يقبل من احد دين سواه بما يأتي:
1- التعريف بعالمية الاسلام وما يقدمه من حلول لمشكلات البشرية وفق منهج علمي موضوعي يستخدم كل الوسائل المتاحة لتحقيق ذلك.
2- تقوية منظمة المؤتمر الاسلامي والمؤسسات التابعة لها وسائر المؤسسات الاسلامية الدولية، وتفعيل دورها بهدف تعميق التكتل الدولي الاسلامي، خاصة في المجال الاقتصادي.
3- ضرورة العمل الجاد على اقامة الاسواق الاسلامية المشتركة وتشجيع المشروعات والاستثمارات الاقتصادية المشتركة بين الدول العربية والاسلامية.
4- العمل على اعادة صياغة العلاقة بين العالم الاسلامي والنظام الدولي الجديد بما يؤكد استقلالية الدول الاسلامية واحترام سيادتها وخصوصياتها، بهدف المحافظة على الهوية الاسلامية لشعوبها.
5- العمل على الرقي بالقدرات العلمية والتكنولوجية في البلاد الاسلامية، والسعي الجاد لتوطين التكنولوجيا المعاصرة فيها.
6- العمل على تقوية العلاقات بين الشعوب الاسلامية، وتحقيق وحدة الصف الاسلامي في مواجهة سائر التحديات.
7- التأكيد على عنصري الاصالة والمعاصرة في الخطاب الاسلامي، وتطوير ادواته بما يحقق توعية راشدة لابناء المسلمين، ويقدم المواقف الاسلامية الى المجتمع الانساني على اساس رسالة هذا الدين في تحقيق خير الانسانية وتقدمها، بعيدا عن الغلو والتطرف من ناحية، والتفريط والتحلل من ناحية اخرى.(9/174)
8- العمل على ترسيخ مفاهيم الاجتهاد في مؤسسات التعليم الشرعي في الجامعات والكليات والمعاهد، وفي مجالس الافتاء والمجامع الفقهية، لتكون الامة قادرة على مواجهة القضايا الحادثة والمشكلات المستجدة، بنظر فقهي عميق وشامل يقدم الحلول القادرة والمعالجات الناجعة.
9- الاستفادة مما تتيحه وسائل الاتصال المعاصرة وآلياتها في تقديم المعرفة الاسلامية الراشدة، وابراز الصورة المشرقة لهذا الدين، خاصة من خلال الفضائيات وشبكة الانترنت.
10- ضرورة التنسيق بين الدول الاسلامية والمنظمات التطوعية فيها عند المشاركة في المنظمات الدولية والمؤتمرات العالمية، لابراز المواقف الاسلامية المتميزة، لصيانة مسيرة البشرية مما تتعرض له من اخطار وشرور.
والله أعلم
=============(9/175)
(9/176)
العولمة والتكتلات الاقتصادية
الخميس :16/01/2003
(الشبكة الإسلامية)
العلماء ينادون بمصالحة شاملة وسوق إسلامية مشتركة
دعا العلماء المشاركون في آخر جلسات مجمع الفقه الاسلامي والتي ناقشت النظام العالمي الجديد العولمة والتكتلات الاقليمية واثارها الى مصالحة عربية واسلامية شاملة بين الحكام أنفسهم وبين الجماعات الاسلامية لتوحيد صفوف الأمة في مواجهة الاخطار المحيطة بها.
وشددوا على ضرورة توثيق العمل الاسلامي المشترك عبر تفعيل المؤسسات السياسية والاقتصادية واقامة سوق اسلامية مشتركة فيما دعوا في الوقت نفسه المجلس الى تبني اصدار بيان اقتصادي اسلامي يكون نبراسا للحكام ورجال المال والاستثمار في تعاملاتهم مع المؤسسات المالية العالمية.
من جانبه أكد الدكتور يوسف القرضاوي ان العولمة هي اسم للاستعمار في اشكال جديدة مشيرا إلى انها نوع من السيطرة الاميركية على العالم واصفا العصر الحالي بأنه عصر الأمركة سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
وتناول د. القرضاوي جزئيات العولمة الاميركية مستهلا حديثه بالأمركة السياسية التي توجب على دول العالم بأسره ان تسير خلف الركب الاميركي منتقدا ما واكب الحملة الاميركية المزعومة على الارهاب وما صاحبها من تقسيم دول العالم وفق المنظور الاميركي الى دول مؤيدة لسياسة اميركا واخرى ضدها.
وقال ان هذا الامر يصب في النهاية لخدمة دولة اسرائيل الصهيونية مشيرا الى ان الارهاب الاسرائيلي يجد مباركة اميركية ودفاعا عن النفس.
في السياق نفسه تحدث د. القرضاوي عن العولمة الاقتصادية مشيرا الى وجود تظاهرات معادية في انحاء العالم لمقاومة ظاهرة العولمة على اعتبار انها ضد الضعيف، فيما اشار الى العولمة الثقافية لترويج الاباحية والشذوذ واباحة الاجهاض بصفة دائمة، وثقافة السلام والتطبيع مع العدو.
واعتبر الغزو الثقافي اكثر خطورة من الغزو الاقتصادي داعيا الى تطوير الصناعات الغذائية الاسلامية لمواجهة هذا الغزو، فيما لفت د. القرضاوي الى الغزو الديني للعالم الاسلامي مشيرا الى محاولات تنصير المسلمين عبر مبشرين متخصصين، مشيرًا الى دور اللوبي المسيحي الاميركي في خدمة الصهيونية واسرائيل.
وبين ان اميركا تشن هجمات على العالم الاسلامي بأسره في الوقت الحالي، مذكرًا بما قاله الرئيس بوش نفسه بأنها حرب صليبية.
ودعا الى مصالحة اسلامية عامة لجمع شمل الأمة الاسلامية في الوقت الحالي بين الحكام المسلمين انفسهم وبين الحكام والجماعات الاسلامية في الوقت نفسه، مؤكدا على ضرورة تنحية المشاكل البينية في هذه المرحلة الخطرة في حياة الامة.
العولمة .. والعالمية
وفرق الدكتور شوقى احمد دنيا استاذ الاقتصاد وعميد كلية التجارة جامعة الازهر المنصورة في بحث بعنوان العولمة ومنهج الوقاية من مخاطرها على الامة الاسلامية بين العولمه والعالمية وقال ان العالمية تؤمن بالمحلية وما لها من خصوصيات في النواحي المختلفة خاصة الناحية الثقافية مما يعني حضور البعد الدولي مع البعد الوطني والقومي اما العولمة فهي تعني زوال المحلي وزوال الخصوصيات واعتبار الخارجي محلي فليس هناك محلي وخارجي وانما امر واحد وثقافة واحدة وحضارة واحدة فالعالم دولة واحدة ودعا الى التمييز الجوهري بين كون العولمة واقعا والقبول المطلق لهذا الواقع واقر البحث بأن الناس تواجه حالة غير عادية من النماذج والتداخل والاختراق على كل الاصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وان هناك الحاحا واصرارا من الاطراف القوية وهي الاطراف الغربية على سيادة وهيمنة ما لديها من قيم وانظمة وثقافات وعلى الاستحواذ على نصيب الاسد مما قد يكون وراء ذلك من مغانم وعوائد.
مشيرا الى ان مفتاح الموقف الاسلامي من العولمة هي الآية الكريمة: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله خبير بما تعلمون) [الحجرات:13] وان الاسلام يقبل بل ويرحب ويدعو الى الجوانب الحيادية في العولمة فيدعو لمزيد من الاكتشافات التكنولوجية والارتقاء العلمي وتقوية الروابط والعلاقات الاقتصادية طالما كانت في مصلحة الجميع ثم استعرض واقع العالم الاسلامي المتخلف رغم الامكانيات البشرية والاقتصادية والموقع والثروات محذرا من مخاطر ومضار العولمة على العالم الاسلامي.
واكد المستشار محمد بدر يوسف المنياوي عضو مجمع البحوث الاسلامية بالازهر الشريف في بحثه الاسلام والتفاعلات المعاصرة الدولية على حق الحضارة الاسلامية وربانيتها واستنادها الى الدين الحق الذي وعد الله باظهاره على الدين كله وانها تقوم على الكتاب الكريم والذي وعد الله بحفظه وانه لا وجه ولا محل للمقارنة بينها وبين اي حضارة ولاخوف عليها من اي تيار مناوىء وتناول في المبحث الاول طبيعة الهدي الاسلامي التي تشمل كافة شؤون الحياة الدنيا والاخرة وان الاسلام عقيدة وشريعة ودين ودولة واستعرض في المبحث الثاني النظام العالمي الجديد الذي يعبر عن طموح نظام سياسي كبير نحو الهيمنة المادية على سائر النظم الدولية.(9/177)
مشيرا الى محاربة العولمة للقيم والمبادىء المستقرة ونشر ما تئن منه المدنيات الغربية من فساد ومخاطر وخلص البحث الى الحرص على تقوية الولاء للامة العربية والاسلامية والاعتزاز بذاتها و استثارة روح الوحدة بين شعوبها والاهتمام بقضايا الاصالة والارتباط بالجذور وبالدين وبالقيم الحميدة وتقوية منظمة المؤتمر الاسلامي وتشجيع الاستثمار بين الدول العربية والاسلامية واقامة المشروعات المشتركة بين الدول الاسلامية وترشيد انماط الاستهلاك والاهتمام بتوطين التكنولوجيا المتقدمة وتقرير استخدام الامكانيات الفضائية المتاحة.
سوق عربية .. ومصالحة عربية
اما الشيخ كمال الدين جعيط مفتي الجمهورية التونسية اقترح توصية لحث ودعوة كل الدول العربية والاسلامية للاسراع باحداث هيكل مختص تسند اليه مهمة التفكير والانجاز لسوق عربية واسلامية مشتركة.
وتناول الشيخ خليل محيي الدين الميس مفتي زحلة والبقاع الغربي مفهوم العولمة ونظامها مشيرا الى انه يقوم على ثلاثة توازنات معددا مظاهر العولمة المالية والتكنولوجية والاقتصادية والثقافية ثم تحدث عن اثار العولمة على العالم الاسلامي والمدارس الفكرية التي تشكلت جراء تشخيصها لواقع العالم الاسلامي في تعامله مع العولمة واوصى البحث بوجوب السعى لتوحيد صفوف الامة الاسلامية وتوظيف الاعلام الاسلامي في نشر الثقافة الاسلامية والوعي الديني وتفعيل دور المؤسسات الاسلامية الكبرى وانشاء عولمة اسلامية على غرار العولمة الاميركية واجراء مصالحة عربية شاملة وارساء السلام القومي وتأمين امن الوطن العربي من داخل النظام العربي والحفاظ على الثروة العربية والتخلى عن الافكار الوافدة والتيارات الالحادية واعتماد مبدأ المقاومة.
فيما تناول الشيخ محمد علي التسخيري الامين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية في بحثه نظرة الاسلام الى ان الوضع الطبيعي للبشرية انما يتم اذا قام نظام عالمي شامل له قانون واحد وله امام واحد داعيا الى العمل على ابقاء الامة نموذجا اعلى للمجتمعات البشرية مؤكدا ان دولة الاسلام دولة عقائدية تستوعب حياة الانسان الفرد والمجتمع ثم تحدث عن الاتجاهات العالمية لدى النظم وعرف العولمة والاثار السلبية الناتجة عنها عارضا موقف الامة والخطوات العملية التي يجب ان تتخذها تجاه العولمة بوضع استراتيجية عملية وواضحة وشاملة.
وتحدث الدكتور محمد فتح الله الزيادي امين مكتب الدعوة والمراكز الاسلامية رئيس قسم الدراسات العليا بكلية الدعوة طرابلس ليبيا عن اثار العولمة على العالم الاسلامي عقديا واخلاقيا وثقافيا واعلاميا واقتصاديا وخلص البحث الى ضرورة استخدام الجانب العلمي في التعامل مع العولمة مؤكدا على خلق مؤسسات علمية فاعلة في مختلف المجالات والارتقاء بالخطاب الاسلامي ليكون مؤثرا في الاخرين والالتزام بسياسة الحوار معهم
=============(9/178)
(9/179)
العولمة والخصوصية الثقافية
الأحد :24/11/2002
(الشبكة الإسلامية) إدريس الكنبوري *
فرضت ظاهرة العولمة نفسها بقوة في السنوات القليلة الأخيرة، وأصبحت الكلمة مؤشرًا على التغيرات التي يمكن أن تطرأ على صورة العالم والعلاقات بين الشعوب والحضارات والثقافات، فهل تتجه تلك الصورة نحو احترام التعددية أم نحو فرض المزيد من التضييق على الخصوصيات الثقافية لصالح ثقافة واحدة مهيمنة.
ورغم أن العولمة أو الكوكبة، حسب اختلاف الترجمة العربية للكلمتين الإنجليزية والفرنسية (Mondialisation ; Globalisation) لا زالت حتى الآن مجرد مصطلح لا يدل على واقع حقيقي ماثل، ولم تتشكل بعد في معطيات وحقائق على المستوى الدولي، فإن المقدمات الأولى لها أصبحت تشغل حيزا واسعا من الاهتمامات في صفوف الباحثين والمثقفين والمفكرين نظرًا لما تحمله هذه المقدمات من بذور تعطي صورة أولية للشكل النهائي للعولمة في أفق الأعوام المقبلة. ويبدو الإعلام الدولي والفضائيات إحدى هذه المقدمات المبشرة بذلك الشكل، فقد صار واضحا أن الإعلام يتوسع يومًا بعد يوم ويتوحد في الصورة والخطاب والرسالة الإعلامية، مما حوّل العالم إلى مساحة واحدة ممتدة تخفي الرسالة الإعلامية الموحدة تضاريسها المختلفة، أو إلى "قرية كونية"، حيث تتماثل المشاعر وردود الفعل بين أفراد دول المعمورة.
العولمة والثقافة
إن مسألة وضع تعريف دقيق للعولمة مسألة لا تخلو من صعوبة، ومرجع هذه الصعوبة إلى أن العولمة - كما سبقت الإشارة - ما زالت بعيدة عن التشكل في صورتها النهائية لتكون واقعا يستند عليها. كما ترجع هذه الصعوبة أيضا إلى أن ظاهرة العولمة متعددة المستويات، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية، وكل مستوى من هذه المستويات يقتضي تعريفا للعولمة مناسبا له. كما ترجع هذه الصعوبة في درجة ثالثة إلى الموقع الذي يتخذه الباحث في موقفه من ظاهرة العولمة، فبعضهم يغلب جانب التشاؤم على جانب التفاؤل، وآخرون يغلبون الجانب الثاني على الأول، وبعضهم الآخر يتخذ موقفا وسطا يقيس الإيجابيات والسلبيات.
ولعل أوسع التعاريف انتشارا للعولمة هو ما جاء في كتاب " العولمة " للباحث الأمريكي " رونالد روبيرثسون "، حيث عرف العولمة بأنها "اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم، وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش" (1). ويضع السيد ياسين ثلاثة عمليات تكشف حقيقة العولمة: العملية الأولى تتعلق بانتشار المعلومات بحيث تصبح مشاعة لدى جميع الناس، والثانية تتعلق بتذويب الحدود بين الدول، أما العملية الثالثة فهي زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات(2).
أما الثقافة، فبصرف النظر عن عشرات التعاريف التي وضعت لها والتي تنطلق من مرجعيات فكرية وإيديولوجية تحاول تغليب مفهومها للثقافة، فيمكن تعريفها بإيجاز بأنها مجموعة العقائد والأفكار والطقوس والعادات والتقاليد التي تميز شعبا عن شعب آخر، وترجع إلى جذور دينية أو إثنية أو علمانية، الأمر الذي يعطي لجماعة بشرية أو مجتمع معين خصوصية معينة ثابتة ومستقلة عن خصوصيات الشعوب والجماعات الأخرى، وهذه الخصوصية الثقافية تزداد أهميتها إذا نظرنا إليها بوصفها " نتاجا تاريخيا يحمل عبر الزمن تصورات وآراء ومعتقدات، وأيضا طرائق في التفكير وأساليب في الاستدلال قد لا تخلو هي الأخرى من خصوصية" (3).
ويقدم المرحوم مالك بن نبي تعريفا أكثر دقة للثقافة، إذ يقول: "إن الثقافة هي الجو المشتمل على أشياء ظاهرة، مثل الأوزان والألحان والحركات، وعلى أشياء باطنة كالأذواق والعادات والتقاليد، بمعنى أنها الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر". ويرى ابن نبي: "أن الثقافة لا يمكن أن تقوم من دون المبدأ الأخلاقي الذي يحدد العلاقة بين الأشخاص مع بعضهم، وبينهم وبين عالم الأشياء والمفاهيم" (4). فالثقافة إذن ليست مجرد الأفكار والسلوكيات والعقائد والعادات، بل هي إشعاع أخلاقي ونفسي يلقي بظلاله على الكون والحياة والمجتمع.
ثقافة بلا مبدأ أخلاقي
لا يخفى أن العولمة على مستوى الثقافة والإعلام والقيم الحضارية أصبحت الآن تتقدم زاحفة بوتيرة سريعة. فالعولمة الثقافية تبشر اليوم بتقارب الثقافات والخصوصيات والهويات واحتكاكها، تذوب معها الفوارق بين الثقافات، وتضمحل الحدود والأسوار، لكن مآل هذا التقارب والاحتكاك الثقافي ما زال حتى الآن غامضا وغير معروف، وإن كانت مقدماته حاضرة في حياتنا اليومية عبر وسائل الإعلام الناقلة للقيم الوافدة والثقافات الأخرى، وأبرزها الثقافة الغربية المادية والعلمانية التي تمجد قيم الاستهلاك والربح والأنانية والكسب السريع.(9/180)
وقد أوحى هذا التقارب بين الثقافات للغرب بالمخاطر التي يمكن أن تسفر عنها العولمة الثقافية، وبالتخوف من الإسلام والثقافة الإسلامية، فظهرت مقولة "صدام الحضارات" للباحث الأمريكي صامويل هانتنغتون، التي يتحدث فيها عن المخاطر الكامنة في الثقافات الأخرى - ومنها الإسلامية - على الثقافة والحضارة الأنجلوسكسونية الغربية المسيحية، وهذا يعني أمرا واحدا ينبغي علينا نحن المسلمين أن نفقهه، وهو أن الغرب الذي سبق إلى التبشير بالعولمة وكأنه الرابح الوحيد منها، هو نفسه المتخوف على ثقافته وحضارته. إن العولمة الثقافية ستفتح الباب أمام المنافسة الحضارية والثقافية بين الثقافات، من أجل الهيمنة والغلبة على الثقافات الأخرى، وفرض السيطرة على العالم وزرع القيم الحضارية الواحدة التي ستصبح إذًا المفتاح الوحيد الذي يخول للشعوب فرصة الدخول إلى نادي العولمة. وقد شرعت الولايات المتحدة الأمريكية فعلا في تصدير قيمها الثقافية إلى باقي دول المعمورة، واستشعرت أوربا نفسها - بوحدتها النقدية والثقافية القوية - مخاطر هذا التغلغل الأمريكي في نسيجها الثقافي، الأمر الذي أدى إلى ردود فعل قوية من قبل المسؤولين الأوربيين وخاصة الفرنسيين منهم، وطالبوا بـ " الاستثناء الثقافي " في مفاوضات منظمة التجارة العالمية (5).
تنحو العولمة نحو القضاء على السيادة الثقافية للأمم والشعوب وإزالة الخصوصيات التي تقف حجر عثرة أمام شيوع قيمها الجديدة التي تبشر بها، لتحل محلها ثقافة جديدة معولمة تهدف إلى تسليع القيم وتوظيف الإعلام لخدمة أهدافها. ولعل من بين السمات الحقيقية لثقافة العولمة هي بالتأكيد النسبية والتغير المستمر، لأن ثقافة العولمة ثقافة تركض وراء كل جديد في الأسواق العالمية، وهذه الأسواق هي التي تحدد القيم وليس العكس، وهذا يشير إلى أن هذه الثقافة مجردة عن المبدأ الأخلاقي الذي يشكل أساس أي ثقافة بانية ومؤسسة، لا ثقافة الهدم والخراب الإنساني، فلا مكان للقيم الروحية في هذه الثقافة السطحية المادية، بل قيم مادية متغيرة باستمرار يحكمها مبدأ الجديد في كل شيء، وتتعارض مع الأخلاق والأديان التي تؤكد على الثوابت الراسخة.
والعولمة أيضا دعوة إلى تبني نموذج ثقافي معين، وسيادة النمط الثقافي الواحد (6)، وهذا يعني أن كل من لا يساير هذا النمط معرض للتهميش والانقراض، وفقا لنظرية "الاصطفاء " الداروينية والبقاء للأصلح من الأنواع. وتقوم وسائل الإعلام من خلال الصورة برسم معالم هذا النمط الثقافي الواحد وتسويقه عبر مناطق العالم.
تهديد التعددية الثقافية
لقد أشار عدد من الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين إلى مخاطر العولمة على الخصوصيات الثقافية للشعوب، وتهديدها للتعدد الثقافي وحتى اللغوي. وفي عام2000 خرج برنامج للأمم المتحدة للتنمية في تقريره السنوي حول التنمية البشرية عن صمته ليعبر عن هواجسه من زحف العولمة على الثقافات. وأشار التقرير إلى أن طوفان الثقافات الأجنبية يمكن أن يؤدي إلى تخريب التعددية الثقافية في العالم ويدفع الشعوب إلى التخوف من فقدان هويتها الثقافية. وأوصى التقرير بضرورة حضور جميع الثقافات في العالم والتعبير عن نفسها، مستشهدا بمقولة شهيرة للمهاتما غاندي يقول فيها: " إنني أقبل أن تغمرني جميع الثقافات الموجودة، لكنني لا أقبل أن تدهسني واحدة منها". ولقد أشار التقرير - استنادا إلى تقرير لمنظمة اليونسكو - إلى أن الثقافة أصبحت تحظى بأهمية اقتصادية كبرى في السنوات الأخيرة، حيث تضاعفت قيمة المبادلات العالمية من الإنتاج الثقافي بين 1980- 1991 ثلاث مرات من 67 إلى 200 مليار دولار، وتمثل الولايات المتحدة الأمريكية النسبة الأكبر في هذا المجال (7).
هذه المؤشرات والمعطيات التي تضمنها تقرير صادر عن منظمة عالمية تؤكد فعلا مقدار الخطر الذي تحمله العولمة في أحشائها بالنسبة للثقافات غير الغربية أو غير الأمريكية، خطر القضاء على التعددية الثقافية والحضارية التي لا يمكن من دونها أن يتحقق الانتماء الإنساني والإثراء الحضاري للأمم والشعوب. فالتعدد والتنوع فطرة إنسانية جعلها الخالق سبحانه وتعالى لحكمة بالغة، وهي التعارف والتقارب والتعايش والبحث عن الأفضل مما لدى الآخرين والتكامل والتكافل. ومن دون ذلك ينحدر المجتمع الإنساني في هوة سحيقة من الأنانية وعبادة الذات مما يمهد للفناء والتلاشي.
موقفنا نحن المسلمين
لكن المبالغة في تقدير مخاطر العولمة بالنسبة لنا نحن المسلمين قد تكون دافعا نحو الاستسلام لتيارها والتعامل معها على أنها قدر لا مفر منه، وهو ما يتنافى مع عقيدتنا التي تمتلك من لوازم القوة والصلابة والصمود ما أوهى صخورا عاتية كثيرة في الماضي والحاضر وردت على أعقابها.(9/181)
إن الإسلام جاء هداية للبشرية جمعاء، ولإخراجها من ظلمات الكفر والضلال والفتن والصراعات المقيتة إلى نور الهداية والاحترام المتبادل والتعايش السلمي بين الشعوب. وقد جاء دينا شاملا لكافة مجالات الحياة، رسالة جامعة للبشرية كلها، دونما إلغاء لخصوصياتها الذاتية، بل بإغنائها وتهذيبها من متعلقات الشرك والانحراف، وتقويمها ورسم أهداف سامية لها، إن موقف المسلم من العولمة ينبغي أن يكون موقفا متشبعا بهذه النظرة الإيمانية القوية ومسلحا بالتفاؤل وعاملا على خوض غمار العولمة بالوسائل التي يتيحها الدين الإسلامي الخاتم، وهي التحصين والتربية القوية والعلم والمعرفة، إذ من دون ذلك لم يكن المسلمون ليصمدوا في الماضي أمام الغزاة والمحتلين والمستعمرين، قبل أن يكون هناك ما يسمى بالعولمة.
فالعولمة ليست كائنا خرافيا تستحيل مواجهته، ولا آلة صماء لا يمكن تطويعها أو التعامل معها. إنها ظاهرة عالمية جديدة تطرح تحديات جديدة، وقد كان المسلمون باستمرار يجابهون الكثير من التحديات منذ أن ظهر الإسلام وأضاء نوره الكون، وكانت هذه التحديات بالنسبة لهم جديدة بمقاييس عصرهم وإمكاناتهم المتاحة، لكنها لم تكن مخيفة أو تعجيزية بالنظر إلى الشحنة الإيمانية القوية التي كانوا يخوضون بها لجج المعارك الحضارية الكبرى.
وربما كان جزء كبير من تخوف المسلمين اليوم من ظاهرة العولمة عائدا إلى أمرين أساسيين: الأمر الأول عدم العودة إلى تاريخنا الإسلامي العظيم وسجله الضخم وقراءته قراءة فاحصة وتدبر دروسه ومواعظه. والأمر الثاني انهيار المعنويات النفسية والشعورية والإيمانية للمسلمين، حتى كاد العالم الإسلامي اليوم تتحقق فيه مقولة القابلية للاستعمار التي وضعها مالك بن نبي - رحمه الله - لوصف النفسية الإسلامية في فترات معينة من القرن العشرين أمام الاحتلال الأجنبي لأقطار المسلمين.
وهناك أمر ثالث يثار عند المبالغة في التخوف من ظاهرة العولمة. فهذه المبالغة قد تعود أيضا إلى الاعتقاد الواهم لدى فئات من المسلمين بأنهم لا يملكون ما يقدمونه للعالم، بينما يملك العالم ما يقدمه للمسلمين، وهذه مقولة خاطئة تعود إلى العاملين السابقين. إن المسلمين يملكون شيئا كثيرا يمكنهم تقديمه إلى العالم لو عرفوا كيف يسخرون الوسائل الحديثة لذلك، وإذا أدركنا أن هذا واجب على المسلمين انطلاقا من مبدأ الشهادة على الناس وهداية البشرية، عرفنا أن العولمة ليست غولا مرعبا، بل هي على العكس قناة جديدة تفتح أمام الرسالة الإسلامية، وليس غريبا أن يكون الغرب هو نفسه أول من يعرف هذه الرسالة الإسلامية ويتوجس خيفة منها، ويضع نظرية حول صدام الحضارات انطلاقًا من هذا التوجس. إن العولمة لا تشكل خطرا بذاتها على المسلمين، ولكن سوء التعامل وعدم اختراقها هو ما يشكل أسوأ الخطر علينا.
يقول الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي: " إن الدعوة إلى العولمة لا ينبغي أن يقصد بها طمس هوية الشعوب، وإلغاء خصوصياتها الحضارية، ولا الغض من عناصر هويتها الدينية والثقافية، أو قطع الصلة بينها وبين تاريخها وتراثها الحضاري. وأكثر ما ينطبق ذلك على العالم الإسلامي الذي يؤمن بدينه عقيدة وشريعة ويعتز به، ويمكن أن يسهم بالإضافة والتجديد إلى حضارة الإنسان المعاصر في نطاق عالمية الإسلام، وأنه رسالة عالمية خالدة، خاتمة للرسالات الإلهية، تدعو الناس إلى عبادة الله وحده، وطاعة رسول صلى الله عليه وسلم الذي بعث رحمة للعالمين ". ويواصل الدكتور التركي قائلا: " إن المسلمين يملكون رصيدا ضخما في مجال الثقافة والقيم والعلاقات الإنسانية، والتعاون بين الأمم والشعوب، فينبغي أن يكون للإسلام نصيبه في بناء أي نظام عالمي جديد، وأن يكون له مكانة في الدعوة إلى التعايش السلمي بين البشر " (8). ويقول الدكتور محمد فاروق النبهان : " نحن نجد ملامح العولمة في القيم الإسلامية التي تدعو إلى التكافل بين الناس، والتعاون على الخير وإلغاء كل مظاهر التمييز العنصري، ومقاومة كل دعوة إلى إقليمية ضيقة أو قومية متفوقة، أو عصبية جاهلية" (9).
وإذا كانت العولمة ظاهرة جديدة نشأت في الغرب، فإن الإسلام جاء بالعالمية الإنسانية منذ عدة قرون، وهي البديل الأخلاقي للعولمة الغربية، والإسلام لم يكن عالميا فقط لأنه موجه إلى العالمين، بل كذلك لأن الحضارة الإسلامية حضارة شاملة ومكسب للبشرية جمعاء، ولم يكن العرب سوى نواة هذه الرسالة، أما محيطها فهو كل الإنسانية. وقد ساهمت الشعوب الأخرى جميعها في بناء هذا الصرح الشامخ، فهي حضارة غنية في ذاتها تداخلت فيها إسهامات كل الشعوب.
خطوات في مواجهة العولمة(9/182)
إن الموقف الإسلامي الصحيح في مواجهة العولمة هو التشبث بالإسلام عقيدة وشريعة وتحكيمه في النظر إلى الظواهر العالمية المستجدة، وتفسيرها لردها إلى حجمها الحقيقي في إطار المنظومة الإسلامية الصحيحة التي تتسم بالشمولية والواقعية والعالمية والخيرية. غير أن تصريف هذا الموقف يتطلب التعبئة الشاملة للمجتمع للتصدي لمخاطر العولمة المحتملة والأكيدة، ونجمل عناصر هذه التعبئة في الخطوات العملية التالية :
1- تحصين الذات بالتربية الإسلامية الصحيحة والسليمة للفرد والأسرة، والطفل بالخصوص لأنه رجل المستقبل والحامل لبذور القوة والهزيمة بحسب التنشئة التي يتلقاها في وسطه.
2- بناء استراتيجية ثقافية إسلامية قوية وراشدة وفعالة تقدم الإسلام للبشرية على أنه البديل والخلاص الوحيد من محن العولمة المادية، وتوضيح حقيقة الأنموذج الحضاري الإسلامي.
3- وضع قاعدة لإعلام إسلامي يعنى بتقديم الصورة الحقيقية للإسلام باعتباره هداية للبشرية، وكشف عورات الحضارة الغربية المادية وبيان نواقصها ومخاطرها على الجنس البشري.
4- إنشاء سوق اقتصادية بين دول العالم الإسلامي لتبادل المنافع والسلع بما يحقق التعامل بين الاقتصاديات الإسلامية والتكافل بين شعوب العالم الإسلامي، دون الانغلاق عن بقية العالم.
5- تشجيع العلم والمعرفة والبحث عن الخبرات وتوظيفها التوظيف الناجح لتحقيق الاكتفاء الذاتي لشعوب العالم الإسلامي من الغذاء والدواء.
6- ترشيد الاستهلاك والتوعية بذلك والإلحاح على القيم الإسلامية الواضحة في هذا المجال.
ــــــــــ
*- باحث وكاتب صحافي من المغرب.
الهوامش:
1-نقلا عن د. عبد الخالق عبد الله:العولمة جذورها وكيفية التعامل معها.عالم الفكر،المجلد 28 العدد الثاني.1999 ص 52.
2- السيد يسين: في مفهوم العولمة.المستقبل العربي.عدد 129 أكتوبر 1998ص 7.
3- محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي.المركز الثقافي العربي.البيضاء، الطبعة الثانية 1987 ص 13.
4- مالك بن نبي: تأملات - مشكلات الحضارة: دار الفكر المعاصر.بيروت- دار الفكر، دمشق-الطبعة الخامسة 1412ه. 1991م ص 147.
5- إدريس الكنبوري: العولمة والهيمنة الثقافية الأمريكية. الفرقان. عدد 43 - 1420ه. 200م-ص 101.
7- هانس مارتين وهارالد شومان: فخ العولمة - ترجمة عباس علي -عالم المعرفة - الكويت-أكتوبر 1998- ص 42.
8و9- العالم الإسلامي ( رابطة العالم الإسلامي) الاثنين 28 ربيع الأول 1420 -يول
==============(9/183)
(9/184)
مناهضو الحرب والعولمة قالوا :
هذه الحروب ليست ضد الإرهاب، بل للهيمنة على العالم ، وعلى النفط والأموال ، إن الإرهاب ما هو إلا حجة
السبت :09/11/2002
(الشبكة الإسلامية) بي بي سي - وكالات
تجمع الآلاف من المتظاهرين في مدينة فلورنسا الإيطالية تحضيرا لسلسلة من النشاطات المناهضة للعولمة ، وسط مخاوف من تكرار أعمال العنف التي صاحبت قمة جنوة العام الماضي .
ويتوقع وصول 20 ألف شخص من المتظاهرين ، معظمهم من الأوربيين ، للمشاركة في 18 مؤتمرا ، و140 محاضرة ، و250 ورشة عمل وعروض على مدى الأيام الأربعة القادمة . ويتوقع أن تجذب مظاهرة ضد الحرب التي ستقام يوم غد السبت ما بين 100 إلى 150 ألف شخص.
ويهدف تجمع فلورنسا الذي أطلق عليه اسم "المنتدى الاشتراكي الأوربي" تقليد المنتدى الاشتراكي العالمي الذي يقام سنويا في مدينة بورتو آليجرا في البرازيل.
ويرى التجمع أن هذه الحروب ليست ضد الإرهاب بل للهيمنة على العالم ، وعلى النفط والأموال ، إن الإرهاب ما هو إلا حجة.
ويقف نحو ستة آلاف شرطي على أهبة استعداد في شوارع فلورنسا، وفرضت السلطات قيودا مشددة على الحدود من أجل منع المحتجين المتطرفين من التسرب للبلاد، ومنع العشرات من الأشخاص من دخول البلاد.
وتخشى السلطات الإيطالية من أن تتكرر الصدامات التي وقعت خلال قمة الدول الثماني في جنوة العام الماضي عندما قتل متظاهر واحد وجرح الآلاف.
وحصنت المتاجر في وسط فلورنسا واجهاتها وبالأخص مطاعم ماكدونالدز الأمريكية تحسبا لأعمال تخريب.
هموم
وقد أعطي السماح لاجتماع فلورنسا بالرغم من مخاوف الحكومة الإيطالية على الكنوز الفنية في المدينة. وكمقدمة لاجتماع فلورنسا تجمع الآلاف من المتظاهرين حول القاعدة العسكرية الأمريكية المسماة كامب داربي في ضواحي مدينة بيزا يوم الأربعاء الماضي.
وحلقت المروحيات في سماء فلورنسا ووقف الجنود بين المحتجين ومعسكر كامب داربي، حيث رفع المتظاهرون لافتات تقول "ارموا بوش ولا ترموا قنابل"، ويا أيها اليانكيين ارجعوا لوطنكم."
وقال بيرو برنوجي من اتحاد نقابات "كوباس" الإيطالي، وأحد منظمي الاجتماع، للتجمع: "إن هذه الحروب ليست ضد الإرهاب، بل للهيمنة على العالم، وعلى النفط والأموال، إن الإرهاب ما هو إلا حجة."
=============(9/185)
(9/186)
(مؤتمر) تراثنا في ظل العولمة: الواقع والمستقبل
الأربعاء:18/09/2002
(الشبكة الإسلامية) دمشق ـ عبد الرحمن الحاج
لم تكن قضية التراث شأنا إسلاميا دينيا وحسب، لقد كانت ـ وما تزال ـ المحور الرئيسي الذي تدور حوله تفسيرات السياسة والاجتماع والاقتصاد والمعرفة، بل إن موقعها في عمق الحياة والفكر العربيين (الإسلاميين) يجعل أي حديث في النهضة أو في تفسيرها غير ممكن دون العبور ببوابة التراث.
هذا هو السبب الذي جعل "جمعية بيروت للتراث" تنظم مؤخرا مؤتمرها الدولي الخامس تحت عنوان: "ترائنا في ظل العولمة" في قصر الأونيسكو، الذي شارك فيه عدد من المفكرين والباحثين العرب، حيث ناقش مفهوم "العولمة وإشكالية السيطرة الثقافية" ، ورأى البعض أن العولمة هي إحدى إشكالات الهيمنة الغربية الجديدة وتعبير مركزية دفينة في الوعي الأوروبي تقوم على عنصرية عرقية. ذلك "أنه في مرحلة التحرر أفرز الغرب أشكالاً جديدة للهيمنة عن طريق خلق مفاهيم وزرعها خارج حدوده مثل العولمة، العالم ذي القطب الواحد، نهاية التاريخ، صراع الحضارات، الإدارة العليا، ثورة الاتصالات، العالم قرية واحدة ، الكونية.. وكلها مفاهيم بريئة تكشف سيطرة المركز على الأطراف في تاريخ العالم الحديث، وتجعل المثقفين في العالم الثالث يلهثون وراءها بالشرح والتفسير والتعليق والتهميش، دون أن يعلموا أن التهميش ليس الكتابة على النص بل الإخراج من التاريخ، ودعوة إلى التقليد في الأطراف وترك الإبداع للمركز وحده، وبمجرد نهاية الاستقطاب برز مفهوم العولمة لإحكام السيطرة على العالم باسمه ولصالح المركز ضد مصالح الأطراف، واجتهد المفكرون العرب في ترجمة Globalizalion عولمة أو كونية.. ويستحسنها البعض لأن الهامش سيجد له مكاناً في المركز ولو في حوار بالرغم من إخفاق حوار الشمال والجنوب.. والحوار العربي الأوروبي، وحوار الشرق والغرب، وأصبح كل من يدافع عن الخصوصية والأصالة والهوية الثقافية والاستقلال الحضاري رجعياً، ظلامياً، أصولياً، إرهابياً، متخلفاً، ماضوياً، سلفياً، بتروليا، مع أن الدفاع عن العولمة يأتي من أموال النفط التي تساهم في اقتصاد السوق وشراء أسهم الشركات الأجنبية"!
في حين رأى بعض الباحثين "أن العولمة نقلة نوعية جديدة في حياة الرأسمالية التاريخية، أو هي طور جديد دخله نمط الإنتاج الرأسمالي العالمي، حيث بدأت حقبة التحول الرأسمالي للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها.. وهذه عملية تاريخية طويلة الأمد قد تشتد وتتراجع وتتقدم وتتعثر وتقاوم، لكنها في حراك دائم في الوقت الحاضر، وفي قاعها النقل التدريجي لعمليات الإنتاج الصناعي والخدمي وغيرها من دول المركز، حيث كانت مركزة، إلى دول الأطراف الأكثر ملاءمة وطواعية وتقبلاً لهذا النقل.. وتقف الصين على رأس هذا النوع من الدول" وهو تفسير تتضح عليه بصمات الماركسية التقليدية بقوة، وبالتالي هي رؤية تحمل وجهة نظر مسبقة غير قادرة، بالنتيجة، مهما امتلك من أدوات أن تقدم رؤية واقعية، سوى التعدي عليها، وبروز الرأي الواحد على حساب التراث والمعتقد، بحجة التفصيل والدراسة الموضوعية التي يجب أن يكون كل شيء فيها تحت البحث والتشكيك والتفكيك..الخ.(9/187)
لقد أكد أحد الباحثين على أن العولمة ليست إلا مجرد مقدمة لمخاطر أعظم على الدولة الوطنية والاستقلال الوطني والإرادة والثقافة الوطنية.. "فهي تعني مزيداً من تبعية الأطراف للمركز"، وتقذف عليها مفاهيم جديدة أشبه بالسوط على ظهر من لا يدخل بيت الطاعة في نظام العالم الجديد: حقوق الإنسان، حقوق الأقليات، حقوق المرأة، وقوى الدعم الغربي لمراكز حقوق الإنسان، بالمفهوم الغربي الفردي دون مراعاة لحقوق المواطنة وحقوق الشعب... وانتشرت البحوث عن الأقليات العرقية والطائفية من اجل إبراز الخصوصيات والهويات والتعدديات الثقافية للقضاء على وحدة الثقافة، وحدة الوطن، ووحدة التاريخ، ووحدة المصير، وانتشرت مشاريع دراسات المرأة وجمعياتها، وأدخل مفهوم النوع في كل شيء في ثقافات لم تعرف بعد مفهوم المواطنة التي لا تفرق بين ذكر وأنثى.... وقام النضال الوطني بخلق عدو وهمي للمرأة هو الرجل بينما المرأة والرجل كلاهما ضحايا عدو مشترك: التقليد والتخلف والفقر والقهر والاستعباد.. وكل ذلك بداية لهدف فتح الدولة الوطنية لحدودها الاقتصادية والسياسية، والسير في نهج الخصخصة والتحول من القطاع العام الذي تبنته بعد تحررها الوطني إلى القطاع الخاص الذي يساهم فيه رأس المال الأجنبي ويزاحم رأس المال الوطني وما يتبعه من تحول إلى اقتصاد عالمي، تعم فيه قيم الاستهلاك، والمتعة بالحياة، ولا تنظر الأمم إلى مشاريع قومية وخطط استراتيجية بعيدة المدى، فذلك من اختصاص المركز، وما على الأطراف إلا ركوب القطار، لينتشر الفساد، ووسائل الكسب السريع وتهريب الأموال، ويزدهر الجنس متعة رخيصة لمن يمتلك المال... وبالتالي وبطريقة لا شعورية، و تحت أثر تقليد المركز والانبهار بثقافته، يتم استعمال طرق تفكيره ومذاهبه كإطار مرجعي للحكم دون مراجعة أو نقد، وتتبنى ثقافة الأطراف كل ما يصدر في المركز من أحكام خاصة : ثنائيات الحس والعقل، وتعارض الدين والعلم، والفصل بين الدين والدولة، والانقطاع عن القديم .
وعلى ضوء تداعيات ذلك ينشق الصف الوطني إلى فريقين: العلمانية والسلفية، وكل منهما يستبعد الآخر، وتصبح المعركة على حساب الوطن (الضحية) حينما تضيع الخصوصية لصالح الصراعات المحلية والدولية، ويصمت الحوار الوطني.. ومن هنا فالمعركة بين الخصوصية والعولمة ليست معركة بريئة حسنة النية، أكاديمية علمية، بل تمس حياة الأوطان ومصير الشعوب..
كيف يكون دفاع الثقافة العربية ضد مخاطر العولمة؟
إنه لا يتأتى حسب الباحث إلا عن طريق الانغلاق على الذات ورفض الغير، لأن هذا تصحيح خطأ بخطأ، ومجموع الخطأين ليس صواباً! إنما يتأتى ذلك أولا بإعادة الموروث القديم المكون الرئيسي للثقافة الوطنية، بتحديد لغته، وتغيير مستويات تحليله.
ويتطلب الدفاع عن الهوية الثقافية ثانياً، كسر حدة الانبهار بالغرب، ومقاومة جذبه، وذلك برده إلى حدوده الطبيعية، والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية، فكل ثقافة مهما ادعت أنها عالمية تحت تأثير أجهزة الإعلام فإنها نشأت في بيئة محددة، وفي عصر تاريخي معين، ثم انتشرت خارج حدودها بفعل الهيمنة ووسائل الاتصال، فلماذا يطبق المركز مناهج علم اجتماع المعرفة والإنثروبولوجيا الثقافية على ثقافات الأطراف ويستثني نفسه منها؟ ألا يمكن أن يصبح الدارس مدروساً، والملاحِظ ملاحَظاً، والذات موضوعاً؟ ومن هنا تأتي أهمية إنشاء علم "الاستغراب" من أجل تحويل الغرب من كونه مصدراً للعلم كي يصبح موضوعاً للعلم فيتم القضاء على أسطورة الثقافة العالمية المنتشرة خارج حدودها نظرياً، قيم التنوير داخلها، ونقيضها خارجها، وبهذا تتحرر الأنا من عقدة الخوف، وتنشئ لها مشروعها المعرفي المستقل ويكون لها طموحها العلمي، حيث تعيد الأنا التوازن لحوار الحضارات وتنتهي الأشكال الجديدة للهيمنة. إن الإنسانية أوسع رحاباً من أن تحصر في تاريخ الغرب الحديث..
ويمكن التخفيف من غلواء العولمة ثالثاً عن طريق قدرة الأنا على الإبداع بالتفاعل مع ماضيها وحاضرها، بين ثقافتها وثقافات العصر ولكن ليس قبل عودة ثقتها بذاتها.. وليس مثل الانبهار بالآخر كنقطة جذب لها وإطار مرجعي لثقافتها، التفاعل مع الواقع الخصب، وإحضار الماضي والمستقبل في الحاضر هو السبيل للمزج العضوي بين الخصوصية والعولمة وصهرهما في أتون الواقع الجديد ومتطلبات العصر..
هذا وقد أنهى المؤتمر الحضاري الدولي الخامس "تراثنا الواقع والمستقبل في ظل العولمة" أعماله في قصر الأونيسكو في بيروت بعدد من التوصيات أكد فيها على الجوانب السلبية للعولمة، ودعا للتوظيف الإيجابي منها في حياتنا المعاصرة والتشديد على الدفاع عن الخصوصيات الثقافية باعتبارها هوية وطنية تحمي حاضر الأمة ومستقبلها والدعوة إلى تقوية مؤسسات التعاون الإقليمي العربي المشتركة وتقوية الاهتمام بالشؤون التراثية وتعزيز التوعية بروائع الحضارة العربية والإسلامية. وتمّ في ختام المؤتمر الذي دامت أعماله ثلاثة أيام توزيع ميداليات على المشاركين
===============(9/188)
(9/189)
الإبداع الثقافي في مواجهة العولمة
الاثنين :15/07/2002
(الشبكة الإسلامية) دمشق ـ عبد الرحمن الحاج
معوقات وسائل الاتصال العربية في النهوض بالإبداع متعددة...أهمها حرية المبدع المنقوصة من خلال الرقابة الرسمية والاجتماعية، وعدم اهتمام السياسات الثقافية والإعلامية العربية اهتماما جديّا بالعملية الإبداعية، وعدم قدرة هذه الوسائل على الوصول إلى كل فرد لأسباب متعددة أهمها القدرة الاقتصادية وقصور المناهج التربوية" .. هذا ما قاله الباحث السوري حسين العودات في الندوة التي نظمتها اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عن "الإبداع الثقافي والإعلامي في مواجهة العولمة" في بيروت مؤخراً ، و التي شارك فيها باحثون ومفكرون كبار من مختلف أنحاء العالم العربي .
وكانت أوراق الندوة قد ناقشت في جلساتها موضوعات متعددة، فقدمت الدكتورة زهير كمال (فلسطين) ورقة حول "تعزيز دور المرأة في المجتمع والحياة الثقافية" أكدت فيها على الدور الفاعل الذي لعبته المرأة الفلسطينية في فلسطين منذ مطلع القرن، وقيامها بتعليم "المرأة" وتدريبها وتقديم الرعاية الصحية لها ولطفلها، وممارسة دورها النضالي في رفض الاحتلال الاستيطاني وتعزيز الصمود.
كما قدمت زهيدة درويش (لبنان) ورقة بعنوان "دور المرأة في الثقافة والمجتمع في ظل العولمة". توصلت فيها إلى أن على المرأة أن تسهم في إنتاج ثقافة تواكب العصر، وهذا لا يتم إلا بخروجها إلى الحياة والمجتمع وتوسيع أفقها.
مجيد دهمان (الجزائر) قدم ورقةً في محور "السياسات الثقافية والاتصالية للنهوض بالإبداع"، حث فيها الدول العربية على جعل الإبداع مطلباً حضارياً يتم التعبير عنه بواسطة سياسة رشيدة. ولا تستوفي تلك السياسة شروطها إلا عندما تجعل من السياسة الثقافية والاتصالية ركائز لها.
وقدم عبد الرحمن العامري (تونس) ورقةً حول "حماية الملكية الفكرية في عصر وسائل الاتصال الحديثة"، تناول فيها المفاهيم الأساسية لمفهوم حق المؤلف، الحقوق المادية والحقوق الأدبية والمصنفات المحمية. وقد خلص العامري إلى ضرورة أن تبذل الجهود لوضع حد للحالة غير القانونية في استهلاك مصنفات فكرية، واحترام حق المؤلفين والعمل على أن تسدد العائدات الناتجة عن استغلال مصنفاتهم، كل ذلك يمنح المؤلفين والمنتجين التشجيع الذين هم بحاجة إليه لإنتاج مصنفات جديدة وقيمة.
الدكتور ناصر شمام (تونس) تناول في ورقته "مفهوم الإبداع"؛ وسائطه ووسائل الاتصال وعولمة المعلومات، وتأثير الوسائل الحديثة على طرق إنتاج المبدع، والإبداع والاتصال في ارتباطهما بمنظومة حقوق الإنسان، والإبداع في مواجهة تحديات العولمة. وخلص شمام إلى "أن مجتمع المعلومات في ارتباطه بالإبداع هو فرصة تاريخية تتاح للمجتمعات الأقل نمواً لاختزال مراحل هامة في تحقيق توازنات داخلية وظهور مهن جديدة وبلوغ درجات أعلى من الرفاه والتموضع داخل البناء الاجتماعي".
تحدثت الباحثة موزةغباش (الإمارات) في محور "تشجيع الإبداع في المناهج التربوية وتعزيز مشاركة الشباب". غباش اعتبرت أن "الهدف العام للتنمية البشرية هو الارتفاع بنوعية الحياة، غير أن تعبير "نوعية الحياة الإنسانية" ليس له تعريف واضح؛ فهو يتحدد بمجموعة من العوامل المترابطة التي تشمل مجالات متعددة، منها الثقافة السائدة والحالة الصحية والأداء الاقتصادي والأحوال السياسية والاجتماعية وبناء القدرات البشرية والتطورات المؤسسية وغيرها. وقالت غباش: إن "لإبداع في المناهج التربوية موضوع له أبعاده المتعددة، فلا يمكن تناوله فيما يتعلق بالطالب أو التلميذ بمعزل عن الأستاذ أو المدرس مثلاً، أو بمعزل عن الوسيلة التعليمية بل والمحيط المدرسي عموما".
الدكتور أبو بكر باقادر (السعودية) اعتبر في ورقته "أن ديموقراطية التعليم وانتشاره يعد من أهم منجزات العصر الحديث... ولكن في خضم هذا الاندفاع وجب أن يميز بين التمدرس والتعليم، إذ يغلب على ما نتحدث عنه التمدرس، ونقصد به انتشار فرص الالتحاق بالمدارس النظامية.." وأكد باقادر: "أهمية وجود فلسفة تربوية متكاملة تسعى إلى تكوين ذوات قادرة على اكتساب المهارات الذهنية وتحظى بحس مشاعري إنساني، وتمتلك الحيوية والنشاط مما يمكنها من القدرة على الأداء والعمل بحيوية وجد".
اختتمت الندوة أعمالهها، وأصدر المجتمعون سلسلة مقترحات وتوصيات دعوا فيها "هيئات ووسائل الثقافة والتربية والإعلام للانفتاح على الثقافة العالمية، والعمل على إيصالها إلى المتلقّي العربي والتفاعل معها.. ودراسة ظاهرة العولمة الثقافية في إطار معايير واضحة وخطط مناسبة من شأنها مواجهة الضار والتعامل مع المفيد".
وأكدت التوصيات على ضرورة "العمل على تغيير صورة المرأة في المناهج والكتب المدرسية انطلاقاً من الاعتراف بدورها في بناء المجتمع وحقها في المشاركة في اتخاذ القرار ورسم السياسات وإلغاء كل تمييز ضدها".(9/190)
وطالبت التوصيات بأن "تعمد كل دولة عربية إلى إقرار سياسة شاملة من شأنها تشجيع الإبداع" و"إصدار تشريعات تسمح بتفرّغ المبدعين جزئياً أو كلياً ، مع حماية حقوقهم وترويج أعمالهم".
ودعت إلى"إعادة دراسة التراث الثقافي العربي دراسة نقدية بهدف تخليصه من شوائبه ، وإحياء التراث الفكري والفني، وتأهيله ليكون مصدر ثراء ومرجعية مفيدة للإبداع".
كما شدّدت التوصيات على أهمية "إعادة النظر بسياسات المهرجانات الثقافية وتخليصها من طابعها الاحتفالي لتكون ألصق بالمهمة الثقافية ولتشكل عاملاً مساعدًا لتشجيع الإبداع وتحويل معارض الكتب إلى مناسبة لنشاط ثقافي متطور ومتنوع وغني"
وأكدت على ضرورة إعادة النظر بمعايير الرقابة على الثقافة والإبداع والاعتراف "بحق الاتصال وحرية التعبير والحوار".
كما لفتت التوصيات إلى أهمية "اعتناء وسائل الإعلام والتربية باللغة العربية الفصحى، والعمل على تجنب استخدام العامية"، و"إعادة النظر بمناهج التربية ومهمات المدرسة العربية لتمكينها من رعاية وتنشيط الإبداع".
ودعت إلى "تشجيع ترجمة الأعمال الإبداعية العالمية إلى اللغة العربية.
كما دعت إلى "استخدام الانترنت للقيام بترقية النشر المتعدد الوسائط، ووضع خطة طويلة الأمد لتنفيذ مشروعات ترقيم مصادر التراث ووضعها على شبكة الإنترنت في مواقع موثوقة".
=============(9/191)
(9/192)
مسؤولية الإعلام الإسلامي في ظل العولمة
السبت :13/07/2002
(الشبكة الإسلامية) القاهرة- أحمد غانم
• الإعلامي المسلم ليس مجرد ناقل للأخبار لكنه في الأصل داعية وصاحب رسالة.
• نحتاج لسلطة تنفيذية تضع استراتيجية إعلامية إسلامية لمواجهة الإعلام الغربي.
• الدعاة بحاجة إلى تدريب على تقنيات الإعلام ووسائله المتطورة.
...........................
لا شك أن العبء الملقى على الفئة المثقفة في الأمة العربية ، وخاصة القائمين على أمر الإعلام الإسلامي ، كبير حيث إنه يتمثل في تحسين الصورة الذهنية السلبية عن الإسلام والمسلمين لدى غير المسلمين ، لا سيما في ظل المتغيرات الدولية والمحلية التي تفرض نفسها على الساحة والتي تزيد في مسئوليتهم الدقيقة ومهامهم الصعبة.
وهذا الأمر يتطلب منا الدقة المتناهية والإخلاص الكامل والتفاني في خدمة الإعلام الإسلامي؛ لأنه هو الطريق الأمثل لإعلام الجميع بحقائق هذا الدين الحنيف وأسسه التي قام عليها والتي جعلته صالحا لكل زمان ومكان من خلال الكلمة الطيبة التي تصنع إعلاما ناجحا في حياة الناس وتشغل جانب لا يستهان به في مساحة الزمن اليومي للأفراد.
هذا كله ما أكدت عليه دراسة جديدة للدكتور رشدي شحاته الأستاذ بجامعة حلوان جاءت تحت عنوان (مسؤولية الإعلام الإسلامي في ظل النظام العالمي الجديد) ، وطالب فيها بضرورة التنسيق بين مختلف الأجهزة التي تتحمل مسئولية الدعوة بخطط علمية متوازنة ومدروسة تحقق الانسجام والاتزان والتوافق لتحقيق الهدف المشترك والقضاء على الازدواجية والتضارب بين برامج مختلف أجهزة الدعوة الإسلامية.
وإذا أمكن للعالم الإسلامي أن ينهض بإعلامه الديني ويصل به إلى العالمية - وهو المطلوب - يكون قد حقق المقصود منه وأصبح له غاية وهدف يسعى إليهما بوسائل التقنية الحديثة التي جعلت العالم ، بقراراته، وكأنه قرية صغيرة يمكن السيطرة عليها إعلاميا في دقائق محدودة.
مقومات الإعلام الإسلامي
وأوضحت الدراسة أن الأمة الإسلامية ظلت واقفة موقف المتفرج على المتغيرات التي شملها النظام العالمي الجديد كأنه لا يعنيها في شئ ، واكتفت بإصدار التوصيات وعقد الاجتماعات والمؤتمرات، بينما تتعرض مصالحها للخطر بسبب تناقص الإقبال على المواد الأولية التي تنتجها، والسلع الصناعية والزراعية التي تكون مواردها المالية واليد العاملة التي تستعين بعمالتها في الخارج، والضيق الذي أصبح يفرض على تجارتها وصناعتها ونموها الاقتصادي وانكماش قدرتها على مواجهة الإعلام الخارجي الضخم الذي يتسلل من كل جانب ويعبث ببعض تقاليدها وشئونها القومية ومقدراتها الوطنية.
وتساءلت الدراسة كيف نمهد الطريق لتقديم عطاء الإسلام للبشرية في عصرها الجديد بالصورة التي تتناسب وجوهر وقيمة هذا العطاء ؟ مشيرة إلى أنه لا يحق لدولة أن تدعى أنها مستقلة إذا كانت وسائلها الإعلامية تحت سيطرة أجنبية ؛ إذ ظهر بوضوح أنه لا يمكن أن يقوم استقلال حقيقي وشامل دون وجود وسائل اتصال وطنية مستقلة تكون قادرة على حماية هذا الاستقلال وتعزيزه، فالخريطة الإعلامية الراهنة للعالم توضح أن التفاوت في السلطة والثراء بين شمال العالم وجنوبه كان له انعكاساته السلبية المباشرة على البنية الإعلامية والتدفق الإعلامي ؛ مما أدى إلى خلق أشكال متباينة من عدم المساواة والاختلال والتفاوت الإعلامي ، كما ازداد اتساع الفجوة بين من يملكون المعلومات ووسائل نشرها وتوزيعها وبين من يفتقرون إليها ، وكذلك تأكد الاختلال بين من يبثون المعلومات وبين من يتلقونها.
ومن ثم فلكي نصل إلى إعلام إسلامي قوي يحقق الهدف الأسمى ، وهو تحسين صورة الإسلام والمسلمين السلبية لدى الغرب غير المسلم ، ويقضي على عللنا كلها لابد من اتباع عدة خطوات يمكن نظمها في المطالب الآتية:
أولا: اختيار الكفاءات للعمل في مجال الإعلام الإسلامي
فالرسالة الإعلامية الإسلامية لكي تأخذ طريقها إلى الرأي العام العالمي يجب على القائمين عليها فهم آليات هذه الرسالة من خلال فهم خصائص النظام الإعلامي الجديد والجوانب التي تكتنفه حتى يمكن التعامل معه بذكاء وحذق وفق تخطيط علمي يأخذ في الاعتبار كافة المتغيرات التي تفرض نفسها على الساحة الدولية.
ويزيد من أهمية ذلك أن هذه الرسالة الإعلامية - الإسلامية- تختلف عن غيرها ، فهي رسالة منطقية تقوم على الحكمة وتستند إلى البرهان في مخاطبة الجماهير المسلمة وغير المسلمة وتجعل العقل رائدها إلى ما جاء به رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، فالعمل في مجال الدعوة الإسلامية والإعلام الإسلامي يحتاج إلى رجال لديهم الدقة المتناهية ومعرفة الدين وعلومه لكي يمكن نشرها من خلال كلمات متناسقة وموضوعات وبرامج هادفة لها مفعولها المقنع والمؤثر.(9/193)
ولا يخفى هنا أن بساطة تعاليم الإسلام ووضوحها تعد من أبرز العوامل الفعالة في نشر الرسالة في مختلف المجالات وبين ومختلف الأوساط قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}؛ ولذلك يتطلب الإعلام الإسلامي اختيار الكفاءات الإعلامية للعمل به، على أن تتوافر لديهم الدراية بمتطلبات الدين الإسلامي والقضايا الفكرية التي يثيرها أعداؤه والجاهلون من أبنائه.
ويجب أن يتوفر في الإعلامي المسلم الإلمام بالثقافة الإسلامية والإحاطة التامة بمصادر التشريع الإسلامي المتفق عليها ، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، والمختلف فيها مثل : "الاستصحاب، الاستحسان،المصالح المرسلة، وقول الصحابي .. الخ".
بالإضافة إلى ذلك يجب أن يكون متعدد المواهب ولديه سرعة توصيل المعلومات بطريقة سهلة بعيدة عن الغموض؛ حتى تجعل المتلقي لا يتسرب إليه الملل ليتمكن من تحقيق الهدف من الإعلام الإسلامي وهو نشر تعاليم الدين وتحقيق مصالح المسلمين جميعا في كافة أنحاء العالم.
إن قنوات الاتصال الدولية تستطيع أن تقدم الإسلام بصورته الصحيحة لهؤلاء الذين أساءوا فهم هذه العقيدة وناصبوها العداء دون فهم.
وإذا كان البعض يرى أننا غير مؤهلين حالياً لتقديم رسالتنا إلى من يتفوقون علينا علميا وتكنولوجيا واقتصاديا وعسكريا فإن هذا رأي يجانبه الصواب؛ فحين خرج الدعاة من بادية العرب لا يملكون من متاع الدنيا إلا قوة الإيمان حقق الله على أيديهم ما لم يتحقق على أيدي غيرهم ممن توافرت لهم أسباب القوة والمنعة والثراء.
ولذلك فإن رجال الإعلام الديني ـ بما يقدمونه من مواد ـ هم في حقيقة أمرهم دعاة ومبلغون وليسوا مجرد نقلة للأخبار أو باحثين عنها، فهم مع مشاركتهم سائر الإعلاميين في طبيعة العمل إلا إنهم يتميزون عن الكثير منهم بما يحقق قول الله سبحانه وتعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}؛ ومن ثم فإن الإعلامي المسلم ليس هو فقط قناة توصيل جيدة بين كل من رجال الفكر والعمل وبين الجماهير المتلقية ، بل إن له ـ بحكم تمييز رسالته الإعلاميةـ دورًا أكثر إيجابية في بلورة الفكر إلى الناحية الإسلامية ونشره بما يحقق الغرض المرجو منه.
ثانيا: التدريب المستمر للكفاءات
فإذا أردنا أن نصل إلى إعلام إسلامي قوي يظهر خصائص هذه الشريعة الإسلامية ومبادئها وأركانها فيجب ـ بالإضافة إلى اختيار الكفاءات للعمل بالإعلام الإسلامي أن يتم تدريبهم -باستمرار- عن طريق عقد الدورات التدريبية وإلقاء المحاضرات من المختصين وفى الأماكن المختصة كل في مجاله، حين يكون الإعلامي الداعية على صلة بكل ما هو جديد على الساحة الدولية فيكون مستعداً للتوجيه وتبصير الناس به بدلا من اختلافهم وتخبطهم.
بل من الأفضل أن يترك الإعلامي عمله بعض الأوقات ليتلقى مزيداً من العلم ثم يعود إلى عمله مرة أخرى، ويجب على الإعلام الإسلامي أن يمتنع عن معالجة الموضوعات الماثلة أمامه إذا كان المكلفون بذلك يفتقرون إلى المعطيات الدافعة لمعالجته ؛ لأن الإقدام على مثل تلك الممارسات يعد تهوراً وسلوكا لا يقبله الإسلام البتة.. قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}.
فقيام الإعلام الإسلامي بدوره التنويري والدفاعي يتطلب إعداد كوادر إعلامية قادرة على مخاطبة الرأي العام العالمي؛ لأن تأهيل هذه العناصر يعد البداية الصحيحة لنجاح هذه الاستراتيجية الإعلامية، كما يتطلب تقوية مضمون الرسالة الإعلامية الحالية وجود أجهزة الاتصال في العالم الإسلامي كي تعمل على تحصين الجماهير المسلمة ضد سلبيات البث المباشر التي تحمله القنوات الفضائية وشبكة المعلومات الدولية ودرء الأخطار الناجمة عن هذه القنوات التي قد كثيرا ما تخلط السم بالعسل وتقدمه للمتلقي المسلم مستخدمة في ذلك كل أساليب التشويق والإثارة.
ولكي تتحمل هذه الكفاءات المسئولية التي ستلقى على عاتقها يجب القيام بتدريبها وإلمامها بكافة دقائق الأمور وإجراء اختبارات لها وافتراض مشكلات للعمل على حلها وذلك بطريقة مستمرة ومتصلة تكون في شكل لقاءات دورية ، وللغة دور بارز في هذا المجال والاختيار الدقيق والتدريب الجيد الفعال ؛ لأن العالم من حولنا تتعدد لغاته ونحن في حاجة إلى هذا التعدد كي تعمل الأقلام بلغاتها المختلفة من أجل هدف واضح ومشترك ألا وهو (الدعوة الإسلامية).
وهذه الاعتبارات جميعاً تفترض أن ينتقل الإعلام الديني من حدود المسجد في اتجاه المدرسة والصحيفة والمصنع والنادي الرياضي والجامعات والبنوك وغيرها ، وهذا يؤكد أننا لسنا بحاجة إلى مزيد من الكلمات لكننا بحاجة إلى سلطة تنفيذية لوضع رؤية شاملة لاستراتيجية إعلامية إسلامية تتصدى لهجمة الغرب بكافة مستوياتها والعمل على توحيد صفوف المسلمين .
وتقترح الدراسة ثلاثة طرق لتدريب القيادات الإعلامية الإسلامية:
1. إنشاء إدارة للتدريب يتلقى فيها القائمون على العمل الإعلامي الإسلامي محاضرات شتى في الدراسات الإنسانية والإسلامية يلقيها كبار المفكرين والدعاة.(9/194)
2. عمل مسابقات دورية في جملة من الكتب النافعة يتقدم إليها العاملون بحقل الإعلام الإسلامي ويمنحون عليها مكافآت مادية وأدبية، وقصر البعثات إلى الخارج على من يتفوق في هذه المسابقات.
3. تدريب الإعلامي الإسلامي على كيفية مخاطبة جميع المسلمين في مختلف المستويات والأماكن ، ففيهم الأمي ونصف المتعلم والمثقف ثقافة عالية ، كما يجب عليه تطويع الأنماط المختلفة من الثقافات للمضمون الديني حتى يكون هناك عائد من العملية الإعلامية ، وكل هذا لا يتحقق إلا بوضع خطة للتنسيق الشامل بين مختلف وسائل الإعلام وبين كافة الأنشطة العلمية والفكرية والتربوية في كل بلد إسلامي بحيث يتم استيعاب كل ما هو متصل بالعقل والقلب والسلوك في إطار إسلامي يخدم قضايا المجتمع ويساعد الإعلام الديني في تأدية رسالته نحوها والتأكيد على أن الإسلام ليس رؤية اعتقاديه فحسب وإنما هو طريقة في التفكير وأسلوب في العيش وخطة في التعامل بل وله أيضا دور هام وفعال بالنسبة للتيارات الوافدة علينا في كل بلد إسلامي فيما يسمى بالغزو الفكر.
ثالثا: استخدام تكنولوجيا الاتصالات في خدمة الدعوة
إذا عقدنا مقارنة من خلال الأرقام بين ما نمتلكه كمسلمين من تكنولوجيا في مجال الإعلام وبين ما يمتلكه الغرب سنجد الآتي:
على صعيد الإعلام المرئي تتحدث إحدى الدراسات عن حاجة القنوات العربية لبث أكثر من 300 ألف ساعة سنويًا، في حين أن الإنتاج التليفزيوني والسينمائي بمختلف أشكاله من الرياضة إلى البرامج الدينية مرورًا بالأعمال الدرامية لا يغطي أكثر من 25% فقط ، وهذه التغطية شبه منفصلة عن البحث العلمي بل وتساهم في تكريس التوجه الاستهلاكي للإنسان العربي والمسلم .
وتؤكد بعض بحوث اليونسكو أن التلفزات العربية تستورد من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا بحدود 60 % من مجموع البرامج، ويبقى 90% من هذه البرامج التي تعرض عبر الفضائيات العربية لتجسيد موضوعات تتعلق بالعنف والإدمان على المخدرات والشذوذ الجنسي وطمس التاريخ وعولمة القيم الخاطئة ، وتقدر نسبة البرامج المخصصة للشباب والأطفال تحديدا بـ52,3% في المتوسط ، ولا يتعدى مؤشر مجموع البرامج الثقافية من 10 إلى 15 %.
وعلى صعيد الإعلام المسموع فالدول الصناعية الكبرى تتحكم في 90% من الموجات الإذاعية في العالم ، كما توجد أربع وكالات فحسب تبث 80% من أخبار العالم هي الأسوشيتدبرس(17 مليون) كلمة يومياً واليوناتيدبرس ( (11مليون كلمة وهما أمريكيتان ، وأيضا رويتر البريطانية (مليونا ونصف) وفرنس برس( (3,351000كلمة .. وتخصص جميع هذه الوكالات العملاقة ما معدله 20% فقط للعالم النامي كله. بينما وكالة أنباء الشرق الأوسط التي تعد من أقدم الوكالات العربية فهي لا تبث أكر من 158 ألف كلمة فقط ، لكنه رقم غير زهيد أمام وكالة الأنباء الإسلامية العالمية (أنبا) التي لا يتعدى بثها 20 صفحة يومياً تترجم للإنجليزية والفرنسية .
وفي عهد النظام العالمي الجديد يتصدر إذاعة صوت أمريكا بأكثر من ألف ساعة أسبوعيا بـ42 لغة في العالم ، بينما تبث إذاعة الفاتيكان على 6 موجات بـ 30 لغة منذ عام 1931 ولها تعاون مع 40 إذاعة تنصيرية تبث في مجموعها أكثر من 1000 ساعة في الأسبوع .
وفي الإعلام المقروء يمتلك اليهود والحركة الصهيونية العالمية أكثر من 954 صحيفة ومجلة تصدر في 77 دولة ، منها 344 في الولايات المتحدة و348 في أوربا و118 في أمريكا اللاتينية و 42 في أفريقيا و53 في كندا و5 في تركيا و3 في الهند ، بينما تبث صوت إسرائيل عبر محطات 15 موجة و 16 لغة بمعدل 300 ساعة أسبوعياً.
وبانتشار الإنترنت تزداد الحاجة إلى التعاون الفضائي بين دول العالم الإسلامي الذي أصبح أكثر ضرورة من ذي قبل لمواجهة مستجدات ثورة الاتصال التي يشهدها العالم ، حيث تتعرض أمتنا الإسلامية لاختبار شاق في ظل التطور التكنولوجي السريع والمتلاحق ، فلا خيار لأمتنا الإسلامية غير التقدم ومواكبة العصر حتى لا نكون أسرى مفاهيم تقليدية لم تعد صالحة لزماننا ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين .
إن أمتنا الإسلامية اليوم في أمس الحاجة ـ وخاصة في ظل البث المباشر وما تحمله الأقمار الصناعية من برامج وافدة قد لا يتفق محتوى بعضها مع عاداتنا ـ إلى وسيلة نعبر من خلالها عن ثقافة أمتنا ونبل شخصيتنا الحضارية وتلقي الضوء على إنجازاتنا والتصدي لما يشوه صورة ديننا الحنيف عن جهل أو عن قصد.
رابعا: كشف زيف الإعلام الغربي(9/195)
لقد لعب الإعلام الغربي دوره في إقامة الصراع بين العروبة والإسلام ، وكان هدفه هو إذابة الشخصية الإسلامية وإلغاء خصائصها الذاتية من خلال حملاته الإعلامية المنظمة ليشوه الإسلام كدين والمسلمين كأتباع ـ خاصة عند الحديث عن حقوق الإنسان وأوضاع المرأة وتعدد الزوجات وغير ذلك ـ مما يضخم مسؤولية الإعلام الإسلامي في مواجهة هذه الأكاذيب المضللة خاصة، وأن العالم الآن يشهد تطورًا متلاحقا وسريعا في وسائل الاتصال كان آخرها إطلاق القمر الصناعي المصري (نايل سات) ليكون إلى جانب الأقمار الأخرى التي تمتلكها الأمة الإسلامية لتقضي على حواجز المكان والزمان ، ولتقدَم آراؤنا إلى العالم ، وأصبح من واجب الإعلام الديني تسليط الأضواء على مختلف التيارات في العالم، وتقديم التراث الإسلامي في مواجهتها ، وتبصير المسلمين في دولهم بأهمية جمع وتوحيد الصف والاعتصام بحبل الله، وإبراز الأخطار التي تهددهم عن طريق اتباع الإعلام الغربي لسياسة (فرق تسد) .. كما أن الإعلام الإسلامي مطالب بحث الدول الغربية على استحداث قوانين للرقابة على المؤلفات التي تسيء إلى الرسل والأنبياء وتنال منهم بالجرح والطعن بما يثير مشاعر المسلمين ويجعل الساخطين يعبرون عن شجبهم لمثل هذه المهانات بطريقة قد لا تتفق مع العقل الغربي فتسوء العلاقات وينشب الخلاف بين الغرب المسيحي والشرق المسلم.
=============(9/196)
(9/197)
مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية
الأحد :21/04/2002
(الشبكة الإسلامية) مراسلة القاهرة
هذا الكتاب للمفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة لا يهدف إلى المقارنة بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية فقط لينتصر للفكرة الإسلامية على الفكر المادي الغربي، بل ولإظهار الأصالة والتجديدية في الثقافة الإسلامية في مقابل النزعة المادية الإلحادية في الثقافة الغربية، وأن العيب والضعف ليس في ثقافتنا (نحن)، وإنما في (الإنسان) الذي لابد أن يعي أن أول خطوات السمو والارتقاء واستعادة (الأستاذية) أن نحدد نقاط القوة والفرص المتاحة أمامنا في هذا العالم المليء بالتحديات. ويستعرض أبعاد العولمة التي لا تستهدف فقط الاحتلال والغزو وامتصاص الموارد، وإنما (تأييد) هذا الغزو باحتلال العقول وإذابة الآخر، وخاصة الآخر الإسلامي في حضارة تعلى شأن المادة وتنزع منحي لا دينيا.
ويؤكد الكتاب أنه بالرغم من شراسة التحديات وعظم المخاطر، فبالإمكان مواجهتها والتعامل معها بتغيير أنفسنا أولا ، والاعتماد على مواردنا الضخمة وطاقاتنا المعطلة، ثم بالحوار مع الإنسان الغربي الذي ليست لنا معه مشكلة، والذي يمثل إمكانية صداقة ومعاونة بالنسبة لقضايانا، فإذا عرضنا عليه بضاعتنا بمنطق العقل والعدل والمصلحة في قضية العولمة قد يكتشف أنه هو نفسه - معنا - ضحية لمخاطر التوحش الرأسمالي الذي تهددنا عولمته.
تحرير مضامين المصطلحات
يشير الدكتور عمارة إلى وجود خلط في دوائرنا الفكرية والإعلامية بين مصطلح العولمة ومصطلح العالمية، وهو خلط يزيف المضامين ويخلط الأوراق التي لا يجوز فيها الاختلاط، الأمر الذي يستوجب البدء في تحرير وتحديد مضمون كل منهما.
مفهوم العالمية: ويعرفه بأنه نزعة إنسانية وتوجه نحو التفاعل بين الحضارات والتلاقح بين الثقافات والمقارنة بين الأنساق الفكرية، والتعاون والتساند والتكامل والتعارف بين الأمم والشعوب، ويرعى العالم منتدى حضارات بينها مساحات كبيرة من المشترك الإنساني العام، ولكل منها هوية ثقافية تتميز بها، ومصالح وطنية وقومية وحضارية واقتصادية وأمنية لابد من مراعاتها في إطار توازن المصالح، وليس توازن القوى بين الأمم والحضارات.
فالناس في سعيهم شتى (إن سعيكم لشتى) [الليل:4]، ذلك هو المفهوم الإسلامي للعالمية: نزوع عالمي يرى التعدد والتنوع والاختلاف القاعدة والقانون، ويؤمن أن التفاعل هو الوسط العدل بين العولمة وبين التبعية، فتصبح الصورة الحضارية للعالم هي صورة منتدى الحضارات.
ويتميز المفهوم الإسلامي للعالمية عن نظيره الغربي ليس فقط في وقتنا الراهن، وإنما منذ فجر الحضارة الأوروبية الغربية، فالنزعة المركزية لصيقة بالنموذج الحضاري الغربي منذ العصر الروماني الذي رأى أصحابه أن الإنسان هو الروماني الحر وحده، وما عداه برابرة، وأن ما يتدين به الروماني هو الدين الوحيد، وما عداه واجب الاستئصال، ثم واصلت هذه النزعة المركزية الغربية صراعها مع الآخر طوال عصر استعمار الغرب للأمم والبلاد والحضارات غير الغربية، وتم هذا الصراع والاستئصال على مختلف الصعد والميادين والجبهات بتحويل العالم إلى هامش للأمن الأوروبي الغربي، وتسخير الشعوب المستعمرة وإمكاناتها وقودا في هذه الحروب الاستعمارية، كما كان الرومان والفرس يصنعون قديما مع الغساسنة والمناذرة في النظام العالمي القديم.
مفهوم العولمة: ويتساءل الدكتور عمارة: إذا كان هذا هو مفهوم العالمية في الرؤية الإسلامية، وفي الرؤية الغربية، فما هو الجديد المفاهيمي الذي يطرحه مصطلح العولمة الذي طرأ على الساحة الفكرية منذ سنوات؟
ويجيب بالقول: إن الجديد في العولمة الغربية عن العالمية الغربية هو جديد في الدرجة، وليس في النوع، فنحن أمام تصاعد في درجة النزعة المركزية الغربية، وتصاعد في حدة التطبيق الغربي لها، وأسباب هذا الجديد هو التطورات الموضوعية الجديدة التي طرأت على العالم، ومن ثم على علاقة النظام الغربي بالعالم غير الغربي.
فالعولمة الغربية هي طور جديد على طريق النزعة المركزية الغربية والعالمية بمفهومها الغربي، إنها طور الاجتياح الذي يطمع في صب العالم داخل القالب الغربي على مختلف الصعد والميادين الاقتصادية والسياسية والقيمية والثقافية والعسكرية والتشريعية...إلخ إلخ.
إنها مرحلة الطوفان الغربي الذي هو - في الدعاوي الغربية - نهاية التاريخ، ومن لم يركب في سفينة النموذج الحضاري الغربي طوعا، فخطوط الصراع والإكراه معه وضده تحددها خطوط الثقافات والحضارات.
ويذكر أن العالمية - حتى بمفهومها الغربي - ونظرا لملابسات التناقضات التي صاحبتها لم تكن تحرمنا من هامش الاختيار أن هذه العولمة التي مثلت وتمثل طور وحدة القبضة الغربية، وثورة التقنيات التي جعلت العالم أشبه ما يكون بالقرية الكونية، مما يؤدي إلى تصاعد مخاطر الاختلالات في موازين القوى على حساب الأمم والحضارات المستضعفة.(9/198)
ويؤكد الدكتور عمارة أن العولمة - زعامة أمريكية الآن - تسعي لصب العالم في قالب الحضارة المهيمنة، فيما يشبه الاجتياح الطوفاني الذي لا يترك ميدانا من الميادين إلا ويريد أن يطاله ويحتويه، وخاصة إذا وجد فيه فراغا يغري بالاحتواء.
ففي الاقتصاد: يذكر الدكتور عمارة أن هناك عولمة الخلل الفاحش الذي تمثله الليبرالية الرأسمالية المتوحشة بين الشمال والجنوب، والذي بلغ في الظلم الاجتماعي أفقا غير مسبوقة، فأبناء حضارة الشمال والذين يمثلون 20% من سكان المعمورة يملكون ويستهلكون 86% من الإنتاج العالمي، حتى أن 225 فردا منهم يملكون ما يوازي ملكية 2.5 مليار ا من أبناء الجنوب أي قرابة نصف البشرية، بل إن ثلاثة أفراد في أمريكا تبلغ ثروتهم مثل ثروة 48 دولة من أعضاء الأمم المتحدة أي نحو ثلث أعضاء المنظمة العالمية.
وإذا كانت ديون العالم الثالث أي 80% من البشرية قد بلغت سنة 1997 حوالي 950 مليار دولار تقتطع فوائدها - مجرد الفوائد - أربعة أضعاف ما تنفقه دول العالم الثالث، على الصحة والتعليم مجتمعين، فإن صورة هذه المأساة لا تفهم إلا إذا علمنا أن الشركات متعددة الجنسيات التي تعولم هذا الاقتصاد تقترض الدولارات من "وول ستريت"هي المال والأعمال في نيويورك بفائدة قدرها 6%، ثم تقترض هذه الدولارات لبلاد الجنوب بفائدة تتراوح ما بين 20% و50% الأمر الذي جعل استدانة الجنوب من الشمال تبلغ حد تمويل الجنوب للشمال لا العكس، وتنمية الجنوب للشمال بدلا من العكس، فقرض قصير الأجل لمصر بلغت قيمته 4 ملايين دولار أصبحت قيمته الإجمالية مع الفوائد عند اكتمال سداده 25 مليونا، فضلا عن قصر المعونات على المشروعات غير الإنتاجية، وبالذات تلك التي تخدم تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ناهيك عن أن هذه الديون ترهن إرادة الأمة لدى صانع القرار الأمريكي، وتحول الاستقلال الوطني إلى مجرد علم ونشيد، تلك هي المعضلة الاقتصادية التي يريدون عولمتها.
العولمة السياسية
ويؤكد الدكتور عمارة أن العولمة في بعدها السياسي، إنما تسعى إلى تهميش دور المنظمات الدولية لحساب تعظيم الهيمنة العالمية لمؤسسات الدولة الأمريكية، فمجلس الأمن القومي الأمريكي يكاد أن يحل محل مجلس الأمن الدولي، وقضايا شئون العالم الإسلامي قد عهد بها إلى لوبي صهيوني أمريكي، والسيادة الوطنية تتآكل لحساب التدخل الأمريكي، وفي انتقاض هذه السيادة الوطنية للدول تستغل أوراق الأقليات في العالم الإسلامي، وتحول شرائح من غلاة العلمانيين في بلادنا للتبشير بهذه الاتجاهات حتى ليكتب كاتب نصراني في صحيفة يسارية مجاهرا بتأييده للتدخل الأمريكي الدولي في شئون مصر الداخلية بدعوى أن ممارسة ضغوط خارجية على الدولة كي تحافظ على حقوق مواطنيها واحترام المواثيق الدولية هو أمر مشروع تمام ا، بل ويدافع عن التفريط في السيادة الوطنية وليس في سيادة قوى الهيمنة التي احترفت العنصرية واضطهاد الأمم والشعوب، وهذا نموذج واحد لما يحدث عندما تتحول السياسة الأمريكية إلى السياسة العالمية، ويصبح لعولمة السياسة وانتقاص السيادة والتدخل في شئوننا الداخلية دعاة وكتاب ودراسات وأدبيات.
العولمة التشريعية
ويذكر الدكتور عمارة أن هذه العولمة السياسية يدعمها ويقنن لها عولمة تشريعية يمارسها الكونجرس الأمريكي الذي لم تعد تشريعاته وقفا عند حدوده الوطنية، كما هو شأن كل برلمانات العالم، وإنما أصبح هذا الكونجرس يشرع للعالم بأسره، فيصدر القوانين التي تصنف الدول دولة مارقة ودولة طيبة، ودول محاصرة، وأخرى غير محاصرة، ودول يجوز فيها الاستثمار، وأخرى تفرض عليها المقاطعة، ودول تضطهد الأقليات الدينية فتستحق العقاب الأمريكي والعالمي ودول بريئة من هذا الاتهام، ودول يستحق إنسانها التمتع بحقوق الإنسان، ومنها حق تقرير المصير حتى ولو كان تعدادها أقل من مليون - في تيمور الشرقية - وأخرى لا يستحق إنسانها شيئا من ذلك حتى ولو بلغ تعدادها عشرات الملايين، كما هو الحال في كشمير والفلبين وبورما والبوسنة وكوسوفا وفلسطين.
بل وتصل هذه العولمة التشريعية إلى حد إصدار القوانين الأمريكية واعتماد الميزانيات العلنية لتغيير نظم الحكم التي لا ترضى عنها العولمة الأمريكية مثل إصدار الكونجرس الأمريكي لقانون تحرير العراق أي قلب نظام الحكم في بلد عضو بالأمم المتحدة.
العولمة العسكرية
وغير هذه العولمة الاقتصادية والسياسية والتشريعية هناك العولمة العسكرية التي تفرض كل ألوان وأبعاد العولمة على من تحدثه نفسه بالتمرد أو العصيان، فمن لم تردعه التحذيرات والعقوبات تردعه الصواريخ والمقاتلات.(9/199)
وإذا كان شاذا - بكل المقاييس - أن تأتي الطائرات الأمريكية والبريطانية عبر القارات، ومن وراء المحيطات لتضرب شعب العراق ومنشآته بحجة الدفاع عن النفس، نفس الذين وطنهم وراء القارات والمحيطات، فإن هذا الشذوذ يتم تقنينه وعولمته عندما تجتمع دول حلف شمال الأطلنطي في عيد تأسيسه الخمسين بأمريكا، في أبريل سنة 1999، فهذا الحلف الذي تكون في أبريل سنة 1949 في ظل النظام العالمي ثنائي القطبية، قد نص ميثاقه على أن مهامه خاصة بالدفاع عن أرض الدول المشتركة فيه لكن العولمة العسكرية قد غيرت مهام هذا الحلف وطورتها فجعلتها الدفاع عن مصالح، ليس فقط أرض الدول المشتركة فيه.
وهكذا امتدت الذراع العسكرية للعولمة الغربية تحت القيادة الأمريكية إلى حيث يريدون، وأصبحت مبررات من مثل الأصولية الإسلامية، والتطرف، واضطهاد الأقليات المسيحية، وأسلحة الدمار الشامل، وبرامج التسلح النووي، والتي جعلتها العولمة من خصائص الدول العربية والإسلامية دون غيرها من الدول، أصبحت هذه المبررات أبوابا مشروعة للتدخل العسكري والعولمي في شئون الدول المتمردة على بيت الطاعة الأمريكي.
عولمة القيم الغربية
ويقول الدكتور عمارة: إنه إذا كانت العولمة العسكرية هي أداة التأييد للعولمة الاقتصادية والسياسية والتشريعية، فإن عولمة القيم والثقافة هي سبيل التأييد لذوبان الحضارات غير الغربية في النموذج الحضاري الغربي، فاحتلال العقل كان دائما وأبدا السبيل لتأييد احتلال الأرض ونهب الثروة دونما حاجة إلى نفقات القواعد العسكرية وتكاليف الجيوش.
ويضرب د. عمارة الأمثلة بالقول: إن الأسرة قيمة من القيم الإسلامية - بل الإنسانية - وصلاحها يبني صلاح الأمة والاجتماع، ولكن وثيقة مؤتمر السكان تسعي لعولمة التحلل والتفكك الأسري الذي نخر ونخر في عظام المجتمعات الغربية التي عزفت عن الزواج واستبدلته بالرفقة، وتسعي هذه الوثيقة لعولمة منظومة القيم الغربية المدمرة للأسرة، وتدعو صراحة وبإلحاح الحكومات والمنظمات الحكومية الدولية والمنظمات غير الحكومية المعنية، ووكالات التمويل والمؤسسات البحثية إلى إعطاء أولوية للبحوث الحيوية المتعلقة بتغيير الهياكل الأسرية.
وإذا كان الإسلام قد سن سنة المساواة بين الإناث والذكور في الخلق والتكريم والتكليف والحساب والجزاء مع الحرص على توزيع للعمل يحافظ على فطرة التمايز بين الذكورة والأنوثة، فجعل هذه المساواة هي مساواة الشقين المتكاملين، وليس الندين المتماثلين فإن وثيقة مؤتمر السكان تسعي إلى انقلاب في علاقات المرأة بالرجل فبدلا من تبني مصطلح المساواة تتحدث عن تمكين المرأة.
وإذا كانت العفة قيمة من القيم الإسلامية - بل والإنسانية - وإذا كان الإحصان بالزواج الشرعي هو السبيل لتحويل الغرائز الجنسية والأشواق العاطفية إلى حياة بناءة وراقية في المجتمع السوي، فإن وثيقة مؤتمر السكان تتحدث عن المتعة الجنسية المأمونة، والمسئولة وليس عن المتعة الجنسية الشرعية والمشروعية والحلال مع اعتبار هذا النشاط الجنسي البشري حقا طبيعيا وإنسانيا عاما من حقوق الجسد كالغذاء وغير مقصور على المتزوجين زواجا شرعيا.
عولمة الثقافة الحداثية
وإذا كان الإسلام يعتمد للتطور والتقدم - في الفكر والثقافة - منهاج التجديد الذي يصحب الثوابت الإسلامية (يجدد في المتغيرات وفقه الواقع وفقه الأحكام والنظم والمؤسسات على النحو الذي يجعل ثقافة الأمة إسلامية دائما وأبدا عبر الزمان والمكان، ويجعلها كذلك متطورة ومواكبة لكل المستجدات، حتى لقد جعل الإسلام من هذا المنهاج التجديدي سنة من سنن الفكر لا تبديل لها ولا تحويل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها" [رواه أبو داود].
إذا كان هذا هو منهاج الإسلام في الفكر والثقافة، فإن العولمة الأمريكية تعولم وتعمم وتعرض ثقافة الحداثة الغربية التي أقامت وتقيم قطيعة معرفية مع الموروث، والموروث الديني على وجه الخصوص، فمنذ عصر التنوير الغربي - الوضعي والعلماني والمادي - أقامت ثقافة الحداثة قطيعة مع الله والغيب والدين عندما تمحور حول الإنسان بدلا من الله، وعندما جعلت الإنسان طبيعيا بدلا من أن يكون ربانيا نفخ الله فيه من روحه واتخذه خليفة له للنهوض برسالة العمران.
ويذكر الدكتور عمارة أن علماء المسلمين قد كشفوا هذه النزعة اللادينية - الدهرية في ثقافة الحداثة الغربية منذ فجر يقظتنا الحديثة، والاحتكاك مع هذه الحداثة الوافدة على بلادنا في ركاب الاستعمار مثل: عبد الرحمن الجبرتي الذي كتب بعمق وعبقرية معلقا على دعاوى بونابرت فقال:" وإن إسلامهم نصب، فلقد خالفوا النصارى والمسلمين، ولم يتمسكوا من الأديان بدين، وهم دهرية معطلون، وللمعاد والحشر منكرون وللنبوة والرسالة جاحدون".
ولقد صاغ الطهطاوي ثقافة القطيعة مع الله والغيب والدين والبراعة في العلوم الدنيوية شعر ا قال فيه:
أيوجد مثل باريس ديار .... شموس العلم فيها لا تغيب
وليل الكفر ليس له صباح ....أما هذا وحقكم عجيب(9/200)
أما جمال الدين الأفغاني فقد أفاض في الحديث عن دهرية هذه الثقافة الحداثية التنويرية الأوروبية التي أحيا فلاسفة تنويرها، وخاصة فولتير وروسو دهرية أبيقولا الأمر الذي جعل الثورة الفرنسية وبالا على الثقافة الفرنسية المتواصلة مع النصرانية، ولقد كشف عبد الله النديم الطابع الإلحادي لهذه الثقافة الحداثية، وتحدث عن هذا الفريق من كتاب "المقتطف"، واصفا إياهم بأنهم أعداء الله وأنبيائه.
ويقول الدكتور عمارة: إذا كان الاستعمار الغربي في مرحلة الغزو المسلح قد حاول فرض هذه الثقافة الحداثية علينا بحد السيف وبحق الفتح، فإن هذا الفرض لثقافة الحداثة والقطيعة مع الإسلام هو ما تسعي إليه العولمة الغربية هذه الأيام ليس بواسطة الفتح المسلح، كما كان الحال إبان الاستعمار التقليدي، وإنما بواسطة شرائح الغلو العلماني في بلادنا.
العولمة اللغوية
ومع عولمة القيم الغربية وثقافة الحداثة تتم أيضا عولمة اللغات الغربية لتزيح اللغات الوطنية والقومية عن عروشها، وإذا كانت الفرنسة والجلنزة والروسنة قد بدأت مع الاستعمار الغربي الحديث ولازالت بصماتها السوداء باقية في ثقافتنا وإعلامنا ولغة خطابنا وشركاتنا ولافتات متاجرنا، فضلا عن مدارسنا وجامعاتنا، فإن العولمة الاقتصادية التي تحولنا إلى عمالة في الشركات الغربية عابرة القارات والجنسيات، وإلى مستوردين وموزعين ومستهلكين لمنتجات تلك الشركات ستفرض علينا بحكم العمل والاستهلاك إحلال لغات تلك الشركات، وأسماء سلعها محل لغتنا الوطنية والقومية حتى تصبح بلادنا سوبر ماركت لا علاقة لما فيه بلغاتنا بما في ذلك العربية لسان الإسلام ولغة القرآن الكريم.
العولمة الدينية
ويلفت الدكتور عمارة الانتباه إلى أن هذه ليست جميع أبعاد العولمة، حيث يتبقى هناك - وهذا هو الأخطر - العولمة الدينية التي تعمل على تنصير المسلمين طموحا إلى إلغاء أمتنا الإسلامية وحضارتنا، وطي صفحة الإسلام من سجل الوجود.
وإذا كان الوعد الإلهي قد جعل ويجعل هذا الهدف المجنون مستحيلا " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" [الحجر:9]، فإنه يجب أن نفرق بين حفظ الدين وبين إقامة الدين، فالله تعإلى قد وعد بحفظ القرآن ديوان الدين الإسلامي لكن إقامة هذا الدين هي تكليفنا نحن ومهمتنا نحن، وهذا هو الذي يتعرض لامتحان عسير للعولمة على جبهة التنصير، وإذا كانت الأرثوذكسية السلافية الغريبة تمارس هذه المهمة غير المقدسة عن طريق الإبادة والتطهير العرقي - الديني، والمقابر الجماعية التي تدفن فيها المسلمين من البلقان إلى القوقاز، فإن الكنيسة الكاثوليكية الغربية قد أعلنت الحرب لتنصير المسلمين، بدلا من تنصير بيتها الأوروبي الذي انحدر إلى الإلحاد واللأدرية، فرفعت شعار أفريقيا نصرانية سنة 2000، فلما خيب الله آمالها لم ترعوي، وإنما زحزحت التاريخ إلى سنة 2025م.
أما البروتستنتية الغربية فإن بروتوكولات قساوسة التنصير فيها قد تبلورت في مؤتمر كلورادو بأمريكا في مايو سنة 1978 تلك التي تقول: "إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تتناقض مصادره الأصلية مع أسس النصرانية والنظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعيا وسياسيا، ونحن بحاجة إلى مئات المراكز للتركيز على الإسلام لفهمه ولاختراقه في صدق ودهاء".
هكذا تتم العولمة والاجتياح على كل الجبهات، ومختلف الميادين من الاقتصاد والسياسة إلى القيم والثقافة، وحتى الدين مرور ا بالعسكرية والتشريعات واللغات.
والآن .. ما العمل؟
وفي الجزء الخاتم من الكتاب يتحدث الدكتور عمارة بروح مؤمنة مستبشرة قائلا : إن أعظم المخاطر وشراسة التحديات لا تعني أن الصورة قاتمة، ولا أننا أمام طريق مسدود، وإنما تكون نقطة البداية في مواجهة مخاطر العولمة، والتعامل معها هو أن تعي قوى اليقظة والأصالة الوطنية والقومية الإسلامية في عالم الإسلام حقائق الموقف دونما تهوين ولا تهويل، وأن تحدد نقاط قوتها والفرص المتاحة أمامها في مواجهة هذه التحديات، أي أن تعي حقائق وقوى وتضاريس الموقف الداخلي والخارجي على السواء.
ويؤكد الدكتور عمارة أن مشكلتنا ليس مع الغرب، وإنما مع المشروع الغربي والأمريكي بالدرجة الأولى، وقفازه الصهيوني على أرض فلسطين، وبذلك يمكننا الاستعانة على المشروع الغربي، وبالذات جوانبه المعادية، بما في الغرب من إمكانات وطاقات يمكن الاستفادة منها والاستعانة بها أو على الأقل تحييدها.
ويضيف أن عالم الإسلام ومعه حضارات الجنوب تملك من الإمكانات ما يغري المخلصين والواعين بترتيبها وتعظيمها، والعالم الإسلامي وحده يمتلك وطنا مساحته 37 مليونا من الكيلو مترات المربعة تعيش فيه أمة يبلغ تعدادها نحو ربع البشرية 1.384.800.000 نسمة غير الإمكانات الروحية
الحضارية والثقافية التي يملكها العالم الإسلامي.(9/201)
أما الخطوة الأولى على هذا الطريق الشاق، والذي هو الطوق الوحيد لنجاة هذه الأمة فهي الوعي بحقائق الواقع، وما في هذا الواقع من فرص ومن مخاطر، واستخدام هذا الوعي في تجديد الفكر الإسلامي، وفي الإبداع بمختلف ميادين هذا الفكر ليكون لأشواقنا النهضوية (دليل العمل) الذي ينير لطلائع الأمة الطريق.
وإذا كانت العولمة تعني صب العالم في قالب الحضارة الغربية المهيمنة اقتصاد ا وسياسة وقيم ا وثقافة، فإن العالمية الإسلامية والإنسانية تريد العالم منتدى حضارات تتفاعل فيما هو مشترك إنساني عام، وتتمايز في الهويات الحضارية والخصوصيات الثقافية لتتدافع الأمم، وتتسابق وتتعارف بدلا من الصراع والهيمنة والقهر والاستغلال وصدق الله العظيم: " ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " [يوسف:87].
==============(9/202)
(9/203)
اللغة العربية أمام تحديات العولمة
الثلاثاء:16/04/2002
(الشبكة الإسلامية) - بيروت
نظم معهد الدعوة الجامعي للدراسات الإسلامية مؤخراً مؤتمراً كبيراً حضره أكثر من مئتي شخصية فكرية ولغوية من 12 بلداً عربياً وإسلامياً عن اللغة العربية في مواجهة تحديات العولمة.
" لقد أصاب اللغة العربية الركود عدة قرون " هذه العبارة التي قالها رئيس المعهد الدكتور عبد الناصر الجبري في كلمته الافتتاحية تشير إلى الدافع وراء إعادة الاهتمام بالتجديد اللغوي والعناية بالعربية ، فالقرن العشرين يمثل " تحديات كثيرة أمام الأمة ، فهناك تهديدات لهويتها وثقافتها ولغتها ، تتطلب منا الوعي في ظلِّ تعميم عصر التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات والعولمة الثقافية واللغوية والسياسية والاقتصادية " على حد تعبير الجبري .
الوزير اللبناني للتعليم عبد الرحيم مراد أكدّ في كلمته أننا " نشكو من أزمة لغوية على جميع الصعد ، تنظيراً وتعليماً ، نحواً ومعجماً ، استخداماً وتوثيقاً ، إبداعاً ونقداً ثم جاءت تكنولوجيا المعلومات لتضيف إلى ذلك بعداً فنياً ، متعلقاً بمعالجة اللغة العربية آلياً بواسطة الكمبيوتر الأمر الذي كشف عن قصور العدة المعرفية لدى كثير من اللغويين في وقت أصبحت فيه معالجة اللغة آلياً بواسطة الكمبيوتر هي محور تكنولوجيا المعلوماتية " .
ودعا الوزير مراد إلى إقامة مجتمع لغوي عربي موحد تكون له سلطة التشريع اللغوي وبنك للمعلومات لدعم البحث اللغوي الحديث بالإضافة إلى وسيلة برمجة آلية لمعالجة النصوص العربية وبحوث أساسية وتطبيقية لكتابة قواعد النحو لتسهيل معالجة الأمر آلياً.
ممثل مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني ، مفتي طرابلس والشمال الشيخ طه الصابونجي رأى أننا أمام هجمة عالمية إلغائية ترفع ذراعاً باسم العولمة وأخرى باسم الصراع الحضاري .
أما رئيس قسم الترجمة في وزارة الثقافة السورية الدكتور حسين حموي فأكد أن اللغة العربية لغة حية ومتواترة ومنفتحة على الحضارات القديمة والجديدة استطاعت منذ آلاف السنين أن تشكل خطابها الحضاري وتحاور به الثقافات الإنسانية الأخرى عن طريق العقلانية والموضوعية والوعي والحقيقة والحرية والقيم والكرامة وتنشيط الفكر والثقافة والعلم والإبداع، لافتاً بالمقابل إلى أن الفكر العربي الأصيل لا يخاف من تطور العقل والنقد والعلوم والقيم والالتزام أنما يعمل بالالتزام على إنتاج ثقافي متطور.
كلمة الضيوف ألقاها أمين عام المجمع اللغوي في بغداد الدكتور أحمد مطلوب الذي أشار إلى أن الحفاظ على سلامة اللغة العربية وتمتينها لتستوعب المستجدات و اجب كل عربي ومسلم ، ولا يكفي الاعتزاز بها فحسب وإنما لابد من عمل مثمر متواصل ويتم ذلك بوسائل منها نشر الوعي اللغوي بوسائل الإعلام المختلفة وإعادة النظر في مناهج تدريسها وتعريب التعليم في جميع مراحله ومشاركة المجامع العربية واتحادها مشاركة فعالة في العناية باللغة العربية وتوحيد المصطلحات العلمية والألفاظ الحضارية وإصدار تشريع يصون اللغة العربية وعقد المؤتمرات القومية والقطرية للوقوف على مسيرة تدريس اللغة العربية.
جلسات المؤتمر بحثت في اليوم الأول للمؤتمر قضايا " الذات العربية بين المكونات والمقومات " و" اللغة العربية بين الديمومة وتحديات العولمة " .
وفي اليوم الثاني بحثت في " سبل تجدد اللغة العربية ، صراع اللغات وحوار الحضارات " وقدمت في المؤتمر بحوث تناولت " تجدد اللغة " وتحديات العولمة وأزمة تعريب المصطلح ودور وسائل التقنية في تطوير تعليم اللغة العربية وآثارها في تحدي العولمة ، وتيسير العربية والترجمة والتقنيات العلمية ، وقضية اللهجات العامية ودور الدعاية والإعلام في التخطيط ونشر الوعي اللغوي بالعربية الفصيحة.
هذا وأعلن البيان الختامي لمؤتمر " اللغة العربية أمام تحديات العولمة " عن إنشاء مجلس تأسيسي من رجالات اللغة في البلاد العربية ومن يرغب من الدول الإسلامية للاهتمام وخدمة هذه اللغة ، ينعقد في لبنان دورياً وعندما تدعو الحاجة ، وأوصى بتعزيز مهام المجامع اللغوية العربية والدعوة إلى توحيد جهودها وتنسيق أعمالها في سبيل النهوض بالعربية ومواكبتها للعصر.
وأمل المشاركون من أجهزة الإعلام العربية في لبنان وخارجه بالعناية بسلامة اللغة العربية في النطق والتعبير ، ودعوا إلى وضع برامج علمية لإدخال المعلوماتية في مجال اللغة العربية ، والإفادة من الشبكة العلمية والثورة الحاسوبية والإلكترونية في تحسين وضع العربية والنهوض بها في مجالات البحث العلمي والتدريس والتخطيط.
ووجهوا الدعوة للناشرين لحمل رسالة النشر العلمية والثقافية وتجنب أحادية الكسب التجاري على حساب النص العلمي الدقيق ، وطالبوا بتشجيع إحياء التراث وتعزيز روح الاعتزاز به بعد دراسته والإطلاع عليه.(9/204)
وأكدت التوصيات على ضرورة إعادة النظر في مناهج تعليم اللغة العربية واعتماد التعليم الذي يقوم على تنمية المهارات اللغوية وتيسير طرق تعليمها مع قواعدها، والعمل على تصحيح الأخطاء الشائعة عند متكلمي العربية وكاتبيها لضمان سلامة النطق والتعبير، والاهتمام بأبناء الجاليات العربية في الخارج بإنشاء المدارس العربية حفاظاً على هويتهم العربية والإسلامية.
ووجه المؤتمرون تحية إجلال للانتفاضة الفلسطينية المظفرة ودعوا القادة العرب من ملوك وأمراء ورؤساء إلى اتخاذ أقصى ما يمكن من إجراءات سياسية واقتصادية وعسكرية لدعم الفلسطينيين لتحرير الأرض وإعادة المقدسات ودحر الصهاينة وما يرتكبون من جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني الشقيق.
وحيا المشاركون الدولة اللبنانية على احتضانها للمقاومة الإسلامية والوطنية
=============(9/205)
(9/206)
تحت ضغط العولمة سويسرا تنضم إلى الأمم المتحدة
الاثنين :08/04/2002
(الشبكة الإسلامية) رسالة لندن
يبدو أن العولمة بدأت تدق أبواب الدول التي كانت تظن أن حيادها وعدم انضمامها للأمم المتحدة سيعفيها من آثار العولمة ومتطلباتها، فإذا بالعولمة تجذبها من رقبتها إلى آتونها الصاخب في الأمم المتحدة .. فالاستفتاء الشعبي الذي أجري في سويسرا يوم الأحد الماضي ليس بالحدث العابر في تاريخ هذا البلد. فالموافقة الصعبة التي أبداها السويسريون لانضمام بلادهم إلى الأمم المتحدة تكشف عن تراجعهم عن قناعات تقليدية راسخة، تحت وطأة الكثير من المتغيرات التي أفاقوا عليها في السنوات الأخيرة.
فالسويسريون الذين حسبوا لعهد طويل أنّ بإمكانهم العيش في قلب العالم وبمعزل عنه في الوقت ذاته؛ انتابتهم الهواجس في الآونة الأخيرة وهم يرون بلادهم وقد تحولت إلى جزيرة صغيرة في محيط القارة الموحدة.
وإذا كان الفخر بالاستقرار الاقتصادي للبلاد هو أحد البواعث المفهومة على التمسك بسياسة الحياد الصارمة والاستغناء عن الدخول في أطر وتحالفات دولية أو إقليمية؛ فإنّ الصورة الزاهية للاقتصاد السويسري لم تعد في حقيقة الأمر كما كانت عليه حتى سنوات قليلة خلت.
فالشعور بانعكاسات العولمة على الكيانات الاقتصادية الصغيرة بدا طاغياً، ولعلّ هذا تحديداً ما جعل سويسرا من بين الدول التي تنشط فيها الحركات المناهضة للعولمة الاقتصادية. ولكن الثمن الباهظ كان قد دفعه الاقتصاد السويسري في العام المنصرم، بإفلاس شركة الطيران السويسري العريقة "سويس إير"، بعد أن بقيت بمنأى عن تحالفات الحيتان في سوق النقل الجوي واكتفت بالشراكة مع خطوط طيران متواضعة الحجم.
وكان ملاحظاً بالتالي أنّ انهيار الشركة التي تجمع بين الفخامة والانضباط والرونق الخاص؛ قد أثار حساسية السويسريين أكثر من أي شيء آخر، فالأمر يتعلق هنا بشركة رائدة لخصت قصة النجاح الاقتصادي لهذا البلد الواقع بين أحضان الألب.
وبعد أن ارتبطت العلامة التجارية لـ"سويس إير" بالإيحاءات الرمزية لبلد تقليدي وثري وفاخر ومنضبط في الوقت ذاته؛ أصبح مشهد طائراتها المصطفة في مطارات البلاد باعثاً على الأسى والحسرة، ومثيراً لرومانسية الماضي وأشجانه.
وليس ببعيد عن هذا التدهور؛ عرفت الصورة التقليدية الحسنة للاتحاد السويسري الكثير من التداعيات التي خدشتها في السنوات الأخيرة. إذ أنّ حملات التعويض عن قضايا " الحسابات المنسية" و"الذهب النازي" والمنسوبة للمصارف السويسرية إبان الحقبة الهتلرية في ألمانيا؛ أثارت الشكوك في الخارج بشأن موارد الثراء التي ينعم بها هذا الشعب هادئ الطباع.
أما صورة سويسرا المحايدة والإنسانية التي برزت بقوة من خلال أدائها السياسي خلال الحرب العالمية الثانية، التي أحرقت الأخضر واليابس من حولها؛ فقد بهتت كثيراً بعد أن خرجت قبل سنتين لجنة المؤرخين المختصة بالتحقق من هذه الممارسات، والمعروفة بلجنة بيرغيه، بتقاريرها التي تدين بعض السياسات التي اتبعتها السلطات السويسرية آنذاك.
وذهبت اللجنة المذكورة إلى أنّ سويسرا لم تفتح حدودها لاستقبال كلِّ اليهود الذين فرّوا من النازية، رغم استقبالها لأعداد غفيرة من اللاجئين اليهود بالفعل في تلك الحقبة.
والمؤكد أنّ هذه الملاحظات التي أثارت جدلاً عارماً، تعني الكثير بالنسبة لبلد يفخر بإيوائه الفارين من الاضطهاد.
في ظل هذه التطورات الهامة كانت تحولات لا تقل أهمية تجري في الظل؛ فقد اكتشف السويسريون العالم كما لم يعرفوه من قبل؛ من خلال الفرص التي أتاحتها ثورة الاتصالات وتقنيات الإعلام المستحدثة. ولا ريب في أنّ هذا يعني الكثير بالنسبة للمواطن السويسري التقليدي الذي يفضل الاستماع إلى إذاعته المحلية التي تنطق باللهجة الدارجة في الكانتون الذي يقطن فيه، ويمنح الأولوية لقراءة الصحف المناطقية التي لا تبدي اكتراثاً كبيراً بما يجري خلف الجبل الذي يسكن على سفحه.
وقد احتك السويسريون بثقافات جديدة عن كثب، ليس فقط من خلال ازدهار الحركة الثقافية والتعليمية في بلادهم، أو عبر انتعاش السياحة السويسرية إلى أنحاء العالم؛ ولكن من خلال وجود مليون أجنبي في هذا البلد أيضاً.
وقد كانت للخبرات الجديدة مع "الآخرين" مضاعفاتها الماثلة في انتعاش اليمين السياسي المعادي للأجانب واللاجئين، وفي تصاعد الجدل في بعض الكانتونات السويسرية الناطقة بالألمانية بشأن كيفية التصرف مع أبناء الأجانب في المدارس ، الذين يُنظر إليهم في العادة على أنهم يعرقلون تعلم أبناء السويسريين للغتهم الأم، بل وربما على أنهم محدودو الذكاء.
ولكن في المحصلة ظهر بجلاء تام كيف تركت التطورات التي عرفها السويسريون آثارها على اختيارهم في استفتاء الأحد الماضي، فالانضمام إلى الأمم المتحدة لم يعد قضية تحتمل مزيداً من التلكؤ والانتظار، حتى وإن جاءت الموافقة على مضض.
أما الأهم؛ فهو أنّ السويسريين قد يضطرون في السنوات المقبلة إلى مراجعة موقفهم الرافض لعضوية الاتحاد الأوروبي أيضاً، وهو خيار أشد وطأة على نفوسهم على كل حال.
=============(9/207)
(9/208)
عولمة المرأة
الثلاثاء:19/03/2002
(الشبكة الإسلامية) كمال حبيب
عولمة المرأة أي جعلها كائناً عالمياً يمكن وصفه بأنه كائن فوق الحكومات أو كائن عابر للقارات.. ولجعلها كائناً عالمياً كان لا بد من عقد المؤتمرات الدولية وتوقيع المعاهدات والاتفاقيات العالمية التي تلزم الحكومات بحقوق هذا الكائن، وتمثل توصيات المؤتمرات الدولية والمعاهدات والاتفاقيات العالمية المرجعية العالمية الجديدة التي يمكن وصفها بأنها "أيديولوجية نسوية" لها قوة الأيديولوجيات السياسية التي عرفها القرن الماضي ثم انهارت وخبت وماتت.
وكما كان يحدث بالنسبة للأيديولوجيات السياسية والفكرية فإن الأيديولوجية النسوية الجديدة يراد لها أن يكون معتنقوها في كل العالم وفي كل الدول والشعوب وفي كل الأعمال؛ فإنها الوسيلة الجديدة لغزو العالم وشعوبه، وهي الدين الجديد الذي يُراد للعالم أن يتوحد خلفه ويدين به : بيد أن الخطر في هذه الأيديولوجية والدين الجديد يكمن في أن الذي يُبشر بها ويدعو إليها هو النظام العالمي الجديد الذي حقق ما اعتبره انتصاراً نهائياً وعالمياً للفكر الغربي العلماني، ويريد أن يفرض هذا الدين والأيديولوجية بالقوة على العالم كله بحيث تكون هناك قوة عالمية واحدة ومرجعية كونية واحدة وإنسان عالمي واحد، وتنهار كل الحدود والقيود والحصون أمام هذه القوة العالمية
الجديدة والمنفردة بحيث تصبح إرادتها ورغباتها ومصالحها مُسلَّماً بها ومُرحَّباً بقدومها بلا أي عوائق من الدين أو اللغة أو اللون أو الجنس أو القومية أو الثقافة. أي أن المرجعية الكونية الجديدة هي بديل لكل ما عرفته الأمم والأجناس البشرية من ثقافات وتاريخ وصراعات وأفكار؛ بحيث يغدو كل هذا ذكرى بلا قيمة ولا معنى، وتصبح القيمة والمعنى في المرجعية الكونية البديلة والجديدة التي يتحوَّل البشر جميعاً فيها عبيداً للإله الذي قررها، وهو النظام العالمي الجديد.
كما أن خطر هذه الأيديولوجية البديلة يتمثل أيضاً في اقتحام مناطق كان يُنظر إليها باعتبارها خاصة أو شخصية وينظم أوضاعها بشكل أساسٍ الدينُ والتقاليد والأعراف المحلية والثقافات الخاصة، أي أن الاقتحام والهدم لهذه الأيديولوجية ينال مناطق متصلة بالهوية والثقافة والوجود وهي محور الكيان الإنساني والوجود البشري. ويقف وراء هذه الأيديولوجية فكر شيطاني يريد أن يجعل من الأخلاق فوضى ومن الفاحشة شيوعاً وذيوعاً.
وتستمد النسوية الجديدة جذورها الفكرية من الماركسية الحديثة "حيث تعتبر أن خطأ الماركسية القديمة هو اللجوء إلى الأساليب الاقتصادية لبناء مجتمع لا طبقي؛ بينما اللجوء إلى الأساليب الاجتماعية هو السبيل الوحيد لمجتمع خالٍ من الطبقات والميول الطبقية، وتمثل "الأسرة" والأمومة في نظر "الماركسية الحديثة" التي تستمد النسوية أفكارها منها تمثل السبب وراء نظام طبقي جنسي يقهر المرأة لا يرجع إلا لدورها في الحمل والأمومة.
وإذا كانت السنن الكونية الطبيعية عندهم هي التي اقتضت هذا الاختلاف البيولوجي فلا بد من الثورة على هذه السنن الطبيعية والتخلص منها بحيث تصبح الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة فروقاً اجتماعية متصلة بالأدوار التي يؤديها كلٌّ من الرجل والمرأة وليست متصلة بالخواص البيولوجية لكل منهما؛ ومن ثَمَّ فإذا قام الرجل بوظيفة المرأة وقامت المرأة بوظيفة الرجل فإنه لن يكون هناك ذكر وأنثى وإنما سيكون هناك نوع "جندر" وهذا النوع هو الذي سيحدد طبيعة دوره في الحياة بحيث يجوز للأنثى أن تمارس دور الذكر والعكس، وبحيث لا تكون هناك أسرة بالمعنى التقليدي ولا أبناء ولا رجل ولا امرأة، وإنما أسر جديدة شاذة وأبناءٌ نتاج للتلقيح الصناعي؛ فأي فكر شيطاني ذلك الذي تتبناه "النسوية الجديدة"؟! وأي قوة تجعل من الأمم المتحدة وأمريكا والغرب تتبنى هذا الفكر الشيطاني لفرضه على العالم؟!! إنها تعبير عن إرادة لا نقول علمانية وإنما إلحادية لتحويل الوجود البشري وجوداً بلا قيمة ولا معنى تنتفي معه العناية من استخلاف الله للإنسان في الأرض. وفي الواقع فإن هذا الفكر الإجرامي ليس خطراً على المجتمعات الإسلامية فحسب ولكنه خطر على الحضارة الإنسانية ذاتها؛ لكن المجتمعات الإسلامية تأتي في القلب من معتقد هذا المخطط الإجرامي البديل والجديد.
أدوات المرجعية الجديدة:(9/209)
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم إرساؤه عام 1948 م ، يمثل البذرة الأولى لهذه المرجعية الجديدة التي طرحت موضوع الأسرة والمرأة قضية عالمية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن ضجيج القضايا السياسية والاقتصادية على دول العالم الثالث في هذا الوقت غطى على الجانب الاجتماعي والثقافي المتصل بالأسرة والمرأة والأحوال الشخصية؛ فمنذ عام 1950م حاولت الأمم المتحدة عقد الدورة الأولى لمؤتمراتها الدولية حول المرأة والأسرة بعنوان: "تنظيم الأسرة" لكن الحكومة المصرية في العهد الملكي قاومته بقوة، وأخفق المؤتمر الذي كان يترأسه ماركسيٌّ صهيوني، ثم عاودت الأمم المتحدة مرة ثانية تطلعها في بناء المرجعية النسوية الجديدة، فعقدت مؤتمراً في المكسيك عام 1957م ودعت فيه إلى حرية الإجهاض للمرأة والحرية الجنسية للمراهقين والأطفال وتنظيم الأسرة لضبط عدد السكان في العالم الثالث، وأخفق هذا المؤتمر أيضاً، ثم عقد مؤتمر في "نيروبي" عام 1985م بعنوان: "استراتيجيات التطلع إلى الأمام من أجل تقدم المرأة" ثم كان مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية الذي عقد في سبتمبر 1994م، وأخيراً كان مؤتمر المرأة في بكين الذي عُقد عام 1995م تحت عنوان: "المساواة والتنمية والسلم" وهو المؤتمر الذي ختمت به الأمم المتحدة القرن الماضي، وانتهت إلى الشكل النهائي للمرجعية الجديدة والبديلة التي يراد فرضها على العالم والتي تهدف بكلمة واحدة إلى "عولمة المرأة".
وعولمة المرأة هو الجانب الاجتماعي والثقافي في "العولمة" الذي تسعى الأمم المتحدة وأمريكا وأوروبا إلى فرضه على بقية العالم خاصة العالم الثالث. والتوصيات والوثائق التي توقع عليها الدول والحكومات الأعضاء في الأمم المتحدة تعتبر ملزمة لها، كما أن الأمم المتحدة تقوم بكل هيئاتها ومؤسساتها بتنفيذ ما جاء في توصيات هذه المؤتمرات الدولية ووثائقها بما في ذلك المراقبة والمتابعة لمدى التزام الدول والحكومات بها. كما أن المنظمات غير الحكومية الممثلة في الأمم المتحدة تمثل قوة ضغط في دولها لمراقبة التزام هذه الدول بقرارات الأمم المتحدة وتوصياتها ومتابعة ذلك، وهي في هذا تشبه "جواسيس للأمم المتحدة" في دولها.
ولا تكتفي الأمم المتحدة بذلك وإنما تعقد مؤتمرات مع الأطراف الحكومية والمنظمات غير الحكومية كل سنة أو سنتين للتأكد من الالتزام الحكومي بالمرجعية الكونية البديلة والخضوع للنظام العالمي الجديد؛ فهناك مؤتمر سنوي يطلق عليه مؤتمر السكان + 1 أو + 2 أو + 3 وهكذا حتى يأتي موعد المؤتمر الدولي القادم للسكان عام 2004م. وأيضاً بالنسبة لمؤتمر بكين(1) قد عُقد بكين + 4 في الهند وسوف يعقد مؤتمر للمرأة أيضاً عام 2005م أي بعد عشر سنوات من مؤتمر المرأة الذي عُقد في بكين، أي أن هناك آلية دولية لها طابع الفرض والإلزام والمتابعة تتدخل في الشؤون الداخلية للدول لتطلب منها الالتزام بما وقعت عليه؛ وهذه الآلية يمكن أن تمارس الإرهاب بفرض العقوبات الدولية على الدول التي ترى الأمم المتحدة أنها غير ملتزمة؛ كما أن هذه الآلية تمارس الإغراء بمنح معونات أو قروض أو ما شابه إذا التزمت بمقررات الشرعية الجديدة.
ومن ثَمَّ فإن ما يجري في مصر أو المغرب أو الأردن بشأن تغيير قوانين الأحوال الشخصية أو العقوبات هو جزء من الالتزام بالأجندة الدولية التي وافقت هذه الدول عليها في المؤتمرات الدولية وليس تعبيراً عن حاجة داخلية لشعوب هذه الدول. فحق المرأة في فسخ عقد الزواج، وحقها في السفر هي وأولادها بلا قيود، وحقها في المواطنة الذي يستخدم ستاراً لمساواتها مع الرجل في الإرث والطلاق وعدم الخضوع لسلطة أي رفض القوامة وإقامة علاقات ود وصداقة خارج نطاق البيت والعائلة، كل هذه القضايا كانت مطروحة باعتبارها جزءاً من أجندة دولية للتسليم بالدخول في طاعة النظام العالمي الجديد والإقرار بالالتزام بالدين النسوي البديل.
وفي الواقع فإن كل ما سيحدث في هذا الإطار سيكون مثل تأسيس "المجلس القومي للمرأة" في مصر الذي يضم الوجوه النسوية المصرية التي تدعو للأيديولوجية الجديدة بلا خجل أو حياء.
وهذه الوجوه النسوية هي انعكاس للفكر الغربي النسوي؛ حيث تشعر تجاه المرأة الغربية بالنقص، وتشعر أن الالتحاق الفكري بها سوف يعوض هذا النقص لهن كما يبلغ النقص بهذه الوجوه حد كراهية الدين الإسلامي ونظمه الاجتماعية وقوانينه في الاجتماع والأسرة ؛ وهم في ذلك أشبه "باللامنتمي" ومن ثَمَّ فهذه الوجوه تعبر عن حالة نفسية مرضية؛ ورفعها إلى مستوى التخطيط والحديث عن قضايا المرأة ليس سوى خضوع للقوى الدولية الخارجية التي تحب أن يعبر عن أوضاع المرأة في العالم الإسلامي النسوةُ اللاتي يرددن الأفكار الغربية ويبشرن بالأيديولوجية النسوية الجديدة.
وثيقة بكين .. مفردات المرجعية الجديدة :(9/210)
وبالعودة إلى وثيقة بكين التي تمثل منتهى الفكر النسوي الجديد نجد مخططاً واضحاً لتدمير الأسرة والمرأة، وتدمير الحضارة البشرية ذاتها، ويبدو لنا أن الحضارة الغربية تريد أن تدمر الحضارات الأخرى وعلى رأسها الحضارة الإسلامية بعد أن شارفت هي على الهلاك والتدمير والفوضى بسبب خضوعها للأفكار النسوية والشذوذ الجنسي والأخلاقي .
ومن المؤكد أن الجانب الثقافي والاجتماعي الذي يراد فرضه على الحضارات الأخرى والإسلامية على رأسها هو جزءٌ مما أطلق عليه "صموئيل هنتنجتون": "صراع الحضارات" هذه الوثيقة وهي في حقيقتها تمثل مخططاً تحاول فرض مصطلح "النوع Gende r " بدلاً من كلمة Sex والتي تشير إلى الذكر والأنثى أما النوع فمعناه رفض حقيقة أن الوضع البيولوجي هو المصير لكل فرد، ورفض حقيقة أن اختلاف الذكر والأنثى هو من صنع الله عز وجل وإنما الاختلاف ناتج عن التنشئة الاجتماعية والأسرية والبيئة التي يتحكم فيها الرجل. وتتضمن هذه النزعة فرض فكرة حق الإنسان في تغيير هويته الجنسية وأدواره المترتبة عليها، ومن ثَمَّ الاعتراف رسمياً بالشواذ والمخنثين والمطالبة بإدراج حقوقهم الانحرافية ضمن حقوق الإنسان ومنها حقهم في الزواج وتكوين أسر والحصول على أطفال بالتبني أو تأجير البطون. وتطالب الوثيقة بحق المرأة والفتاة في التمتع بحرية جنسية آمنة مع من تشاء وفي أي سن تشاء وليس بالضرورة في إطار الزواج الشرعي ؛ فالمهم هو تقديم المشورة والنصيحة لتكون هذه العلاقات (الآثمة) مأمونة العواقب سواء من ناحية الإنجاب أو من ناحية الإصابة بمرض الإيدز.
وتطالب "وثيقة بكين" الحكومات بإعطاء الأولوية لتعزيز تمتع المرأة والرجل بالكامل وعلى قدم المساواة بجميع حقوق الإنسان والحريات بدون أي نوع من التميز وحماية ذلك، ويدخل ضمن هذه الحقوق والحرياتِ: الحرياتُ الجنسية بتنويعاتها المختلفة والتحكم في الحمل والإجهاض وكل ما يخالف الشرائع السماوية، وتطالب الوثيقة الحكومات بالاهتمام بتلبية الحاجات التثقيفية والخدمية للمراهقين ليتمكنوا من معالجة الجانب الجنسي في حياتهم معالجة إيجابية ومسؤولة، وتطالب بحق المراهقات الحوامل في مواصلة التعليم دون إدانة لهذا الحمل السِّفَاح.
ولا تتحدث "وثيقة بكين" عن الزواج من حيث إنه رباط شرعي يجمع الرجل والمرأة في إطار اجتماعي هو الأسرة؛ وإنما ترى أن الزواج المبكتر يعوق المرأة، ومن ثَمَّ فهي تطالب برفع سن الزواج وتحريم الزواج المبكر. ولا ترد كلمة "الوالدين" إلا مصحوبة بعبارة "أو كل من تقع عليه مسؤولية الأطفال مسؤولية قانونية" في إشارة إلى مختلف أنواع الأسر المثلية، ولا تستخدم الوثيقة عبارة الزوج وإنما الشريك أو الزميل.
وتخاطب وثيقة بكين المرأة الفرد وليست المرأة التي هي نواة الأسرة، ولذا فالمرأة العاملة هي المرأة المعتبرة؛ أمَّا المرأة العاملة داخل البيت ربة الأسرة فيُنظر إليها باعتبارها متخلفة وخارج السياق الدولي الجديد؛ لأنها لا تمارس عملاً بمقابل، ولأنها ربطت نفسها بالزوج والأولاد والأسرة، ولذا فعبارة: "الأمومة" وردت حوالي ست مرات؛ بينما كلمة: "جندر" جاءت ستين مرة وجاءت كلمة "جنس" في مواضع كثيرة. إن وثيقة بكين التي أصبحت "مقررات بكين" ووقعت عليها 180 دولة هي أساس المرجعية الكونية البديلة والتي أشارت بوضوح إلى أن الدين يقف عائقاً أمام تحقيق هذه المقررات، ولذا ناشدت المقرراتُ المؤسساتِ الدينيةَ لكي تساعد على تحويل مقررات مؤتمر بكين إلى واقع أي أن تصبح المؤسسات الدينية أحد أدوات المرجعية الكونية الجديدة التي يتبناها النظام العالمي ويسعى لفرضها على العالم.
وهنا لا بد من تأمُّل دور بعض المؤسسات الدينية الإسلامية في الموافقة على تمرير المطالب التي تفرضها الأجندة الدولية مثل حق الزوجة في السفر بدون إذن الزوج وكذا الأولاد القُصَّر بما في ذلك البنات. والمثير أن تستخدم الوثيقة كلمة (المساواة) للتعبير عن إزالة الاختلافات بين الرجل والمرأة، وتستخدم (التنمية) للتعبير عن الحرية الجنسية والانفلات الأخلاقي، وتستخدم كلمة (السلم) لمطالبة الحكومات بخفض نفقاتها العسكرية وتحويل الإنفاق إلى خطط التخريب والتدمير للأيديولوجية النسوية الجديدة؛ حيث تلزم مقررات بكين الحكومات المحلية بتنفيذ الأهداف الاستراتيجية للنظام العالمي الجديد فيما يتصل بإقرار الأيديولوجية النسوية الجديدة، وذلك بمساعدة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
هذه هي المفردات الجديدة والمقررات التي يسعى النظام العالمي الجديد لفرضها أيديولوجية كونية على العالم. وبالطبع فإنه يستهدف من وراء ذلك ضرب مواطن القوة في الحضارات المختلفة معه.(9/211)
وبالنسبة للحضارة الإسلامية فلا يزال الدين الإسلامي يمثل مرجعية للناس ونظاماً لحياتهم خاصة في مسائل الأسرة والأحوال الشخصية وفي مسائل الفكر والثقافة والاعتقاد وهو ما يزعج الأمم المتحدة والغرب ؛ إذ إن المسلمين يمثلون ملياراً وربع مليار نسمة، والعالم الإسلامي بإمكاناته وثرواته وأهله يهدد النظام العالمي الجديد بفقدان سيطرته عليه ما بقي الإسلام حاكماً للجوانب الاجتماعية والثقافية وللهوية، ولذا لا بد من تسديد الضرب إلى الصميم للقضاء على الهوية الإسلامية وعلى النظم الاجتماعية التي أثبتت أنها القلعة التي حمت العالم الإسلامي من السقوط والانهيار، ولذا فإن الصراع مع الغرب انتقل من السياسي والاقتصادي إلى الديني والثقافي والاجتماعي المتصل بالهوية والوجود؛ وهو ما يتطلب وعياً جديداً وأدوات جديدة ؛ كما يتطلب يقظة ومقاومة.
إن الإنسان: الرجل، والمرأة، والأطفال، والأسرة هم المقصودون بالهجمة العالمية الجديدة وهم المقصودون بالمرجعية الكونية البديلة للنظام العالمي الجديد؛ وعلى عالمنا الإسلامي أن ينتفض ويستيقظ ؛ فإن وجودنا مرتبط بمدى ارتباطنا بكلمة: "مسلمين" اسماً وفعلا ً؛ وإلاَّ فالاستبدال كما قال تعالى : (( وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )) [محمد: 83]
==============(9/212)
(9/213)
ثقافة العولمة
الجمعة :08/02/2002
(الشبكة الإسلامية) أحمد العلي
لم يكن انشغال الإنسان بشؤون الحياة الراهنة كما كان عليه الحال في الماضي القريب أو البعيد، وذلك نتيجة ظهور مجموعة من المعطيات تأتي في أولها ظاهرة العولمة التي أخذت حيزاً أكبر من مساحة البث الإعلامي الموجه عبر وسائله المختلفة ، والضجيج الهادف إلى الانتشار والهيمنة ـ شبه الشاملة ـ بشكل جديد ومغاير تماما لكل الإحداثيات السابقة واللاحقة على خبرات ومقدرات وطاقات الأمم والشعوب ، وبخاصة الضعيفة، وعرض وتسويق الأهداف المغرضة وفق أساليب متعددة الغايات وبرؤية مبيتة يشتم فيها الخبث بعينه عبر أبعاد متنامية ومفاصل متحركة ترمي إلى تحقيق أقصى درجات المكاسب المعنوية والأرباح المادية المنظورة بدقة والمبطنة بحذق بغية جني ثمار المعمورة بما فيها ومن عليها وما يدور في فضاءاتها العادية لمشيئة الرأس المدبر المدمر من خلال مفاتيح الترويج والتحكم عن بعد، المثيرة للغرائز والمشتتة للأفكار والمغرية للذوائق البشرية المشلولة الأطراف في بعض المواضع المحكومة بقدر الواقع الصدئ على اختلاف مستوياتها وتعدد اتجاهاتها وتنوع تياراتها وتلون مشاربها .
وأمام مجريات الأحداث نجد لدى الجانب المستهدف ردود فعل إيقاعاتها معطلة وأصواتها مبحوحة وإمكاناتها هشة على جميع الأصعدة ، وبخاصة في مجالات الفكر والثقافة والأدب، الأمر الذي بات يشكل حالة متعاظمة من القلق على المستقبل وخطورة كبيرة على حياة المجتمعات الإنسانية التي بدأت ملامحها تفقد الكثير من مصداقيتهاالأخلاقية وقيمها النبيلة، بعد أن أصبحت المساحة مفتوحة الأبواب على شتى أنواع الاحتمالات ومغلفة بأشكال وألوان وتراكيب فظيعة المحتوى وواسعة الطيف، مصدرها العولمة الملطخة بالمفاجآت المدهشة والمذهلة، وبعصر تحكمه الفوضى نتيجة الإرهاصات الضاغطة والملمعة فوق العادة والمتعارف عليها التي تتقاذفها على مدار الساعة، بل في اللحظة، تقنيات البث والاتصال والتصنت والتردد عبر الفضائيات التي طالبت بمقبلاتها الطازجة كل مناحي الحياة، بقصد التعرية والتزييف ودس السموم في شرايينها عن سابق معرفة وبإصرار لتخريب جوهر الإنسان المتمثل بالعقل والروح، بل التعدي على الأعراف وتلويث الطينة الآدمية من رأسها إلى أخمص قدميها من غزو مرتكزاتها المتأثلة بالجذور والممتدة إلى التاريخ والتراث والحضارة التي لا يمكن تجاوزها بسهولة أو طمسها أبدا عن التهم الجاهزة والمضللة أو اختلاق النزاعات بالغطرسة كما نراها ونسمعها في الوقت الراهن المعاش .
فخصوصيات المجتمعات والأمم والشعوب المتشكلة عبر العصور وتوالي الدهور وتعاقب الأجيال من قيم ومبادئ وحريات وآراء من شأنها بناء الحضارة الإنسانية وتعزيز الاستقرار والأمن والسلام بين البشرية، لا يمكن تجاهلها بأي شكل من الأشكال أو تغليب الارتجال والانفعال الطائش على العقل كما هي حال الواقع في وجود الأورام والبثور و الاحتقانات في أنحاء عدة من الجسد المسجي في جميع الاتجاهات في الكرة الأرضية المتموضع على شبكة العنكبوت ، حيث تنتابه الفتن والحروب والمجاعات التي تسوّر التخوم وتقضم الأخضر واليابس وتهرس أحلام الإنسان وتأكل طموحاته وآماله وتفقد عالم اليوم توازنه بعدما تخلى عن الكثير من مقومات الحياة وسلوكياتها الإيجابية وراح يتلطى على أبواب القرن الحادي والعشرين بعكاز العولمة الذي قد يلقي به في أتونها إذا لم يعد إلى لغة العقل والمنطق التي لا تجانب حقيقة الكون منذ فجر التكوين .
.................
مجلة: " العالم ".
=============(9/214)
(9/215)
منتدى العولمة يبدأ أعماله في نيويورك
الجمعة :01/02/2002
(الشبكة الإسلامية) بي بي سي - وكالات
يبدأ المنتدى الاقتصادي العالمي أعماله في قلب مدينة نيويورك المزدحمة، بعد أن جرت العادة على عقده في منتجع دافوس السويسري الهادئ .
وكان مؤسس المنتدى كلاوس شواب قد قرر عقد هذه الدورة من المنتدى في نيوروك تضامنا معها عقب أحداث 11 سبتمبر التي دمرت مركز التجارة العالمي وقتلت نحو أربعة آلاف شخص .
إلا أن ارتفاع تكاليف الوساطة المالية سنويا مع وجود آلاف من المحتجين فيما يعتبرونه مقهى لتجاذب أطراف الحديث للصفوة العالمية جعل الحكومة المحلية في المدينة تنظر لاستضافة المنتدى على أنها عبء عليها. فمن المتوقع أن يتجمع آلاف المحتجين في نيويورك أثناء انعقاد المنتدى.
وستبقى فرق شرطة مكافحة الشغب قريبة من مقر المنتدى وتعهد قائد شرطة نيويورك بإلقاء القبض على المتظاهرين إذا ارتكبوا حتى أبسط المخالفات .
ويسعى المنظمون لاستغلال الموقع الجديد للمنتدى لإضفاء مناخ جديد على أعماله . ورفع شعار "القيادة في أوقات عصيبة" ليعكس الشعور العام بفقدان الأمان عقب الهجمات والمنعطف الحاد نحو الانحدار في الاقتصاد العالمي .
ولكن ضمن هذا الإطار ينبغي على المشاركين مواجهة فكرتين أساسيتين: فمن ناحية ألقت الحرب ضد ما يسمى الإرهاب الضوء على الوجه الهش للأسلوب الذي يعمل به العالم اقتصاديا، وأيضا كما يقول بعض المشاركين، على الحاجة لتضييق الفجوة بين الفقراء والأغنياء .
ولكن حالة الاقتصاد العالمي المحفوفة بالمخاطر تساهم في تركيز عقول وأفكار المشاركين على كيفية إخراج دولهم أو مؤسساتهم من البئر العميقة التي وجدوا أنفسهم فيها.
ويخشى بعض المشاركين - من ذوي النفوذ - ان يفضل القادة الساسة من الدول الغنية غض البصر عن العلاقة بين الاضطرابات و التفاوت الاقتصادي بين البلدان.
وفي لقاء مع صحيفة الهيرالد تربيون حذر رئيس البنك الدولي جيمس ولفينسون من ضرورة توسيع نطاق المساعدات الممنوحة للدول الفقيرة على نحو كبير.
فقبل ثلاثة أشهر تقاسم ولفنسون منصة الخطابة مع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ووزير الخزانة البريطاني جوردونبراون ، للدعوة إلى مضاعفة المساعدات من حجمها المتواضع حاليا إلى مئة مليار دولار سنويا. إلا ان كلا من الكونجرس الأمريكي والبيت الأبيض يعارضان هذه الفكرة .
وقال ولفينسن إن إنفاق المزيد من الأموال لمحاربة الفقر ليست مجرد التزام اخلاقي ، بل انه يصب في صالح القادة السياسيين والماليين في العالم الذين يجتمعون في نيويورك لانه أيضا ضمان ضد وقوع مزيد من الإرهاب في المستقبل .
وأضاف قوله " لا يمكنك كسب الحرب ضد الإرهاب دون ان تكسب السلام ".
ومن المقرر ان يلقي أمين عام الأمم المتحدة كوفي عنان كلمة يوم الاثنين أمام المنتدى يقول المسؤولون بالمنظمة الدولية انهاستركز حول إبلاغ زعماء العالم بانهم يتجاهلون مشكلة الفقر العالمي ومخاطرها.
وقد ازدادت أزمة الدول الفقيرة حدة بعد ان قرر اوليسيجون اوباسانجو رئيس نيجيريا عدم المشاركة في المنتدى في آخر لحظة بسبب الانفجار الضخم الذي وقع في لاجوس وأودى بحياة اكثر من 600 شخص.
كما ان وزير خارجية إيران كمال خرازي لن يحضر المنتدى . ويقول المسؤولون إن ما دفعه لاتخاذ هذا القرار هو وصف الرئيس الأمريكي بوش إيران بأنها جزء من محور الشر في العالم في خطابه الأخير .
ويقول منتقدو المنتدى إن تلك الرسائل والأقوال تتكرر كل عام في نفس المناسبة.
-=============(9/216)
(9/217)
العولمة وصراع الحضارات
الاثنين :14/01/2002
(الشبكة الإسلامية) أ. د. جعفر شيخ إدريس - رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
{أُذِنَ للّذِينَ يُقَاتَلُونَ بأنهم ظُلِمُوا وإنَّ الله على نَصرِهِم لقَدِيرٌ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 39،40].
الصراع سنة ماضية، والصراع بين الحضارات إنما هو في جوهره صراع بين معتقدات لا بين طبقات ولا عرقيات. فأصحاب الطبقة الواحدة، والمنتمون إلى قومية واحدة بل قبيلة واحدة قد يقتل بعضهم بعضاً إذا اختلفت معتقداتهم.
على هذا تدل الآية الكريمة التي تشير إلى اعتداء أناس من قبيلة ، هي أشرف قبائل العرب ، على أناس آخرين من هذه القبيلة نفسها؛ لأنهم خالفوهم في معتقدهم. وهذا هو الذي توصل إليه دارسو الحضارات من الغربيين؛ فإنهم يكادون أن يكونوا مجمعين على أن الحضارة وإن تكونت من عناصر كثيرة إلا أن أهم عنصر فيها هو العنصر الثقافي، وأن أهم عنصر في الثقافة هو الدين. ويلاحظون أن كبرى الحضارات كانت إلى حد كبير مرتكزة على أديان.
فما الحضارة؟ وما الثقافة؟ وما العولمة؟ وما علاقة الصراع بين الحضارات بها؟
الحضارة والثقافة والعولمة
كلمات الحضارة والمدنية والثقافة والعولمة ـ وإن كانت عربية ـ إلا أنها جعلت في استعمالنا الحديث رموزاً تدل على المعاني والمفهومات نفسها التي تدل عليها الكلمات الغربية التي جعلناها ترجمة لها. فلننظر في تلك المعاني والمفهومات كما هي عند أهلها.
وأنسب ما نبدأ به هو الأمريكي هنتنجتون أول من أشاع تعبير صراع الحضارات في مقال مشهور نشر في صيف عام 1993م في مجلة Fo r eign Affai r s بهذا العنوان، ثم نشر موسعاً في كتاب بالعنوان نفسه.
ينقل هنتنجتون عن عدد كبير من العلماء الغربيين تعريفهم لما أطلقنا عليه كلمة المدنية أو الحضارة civilization ، والفرق بينها وبين ما نسميه ثقافة cultu r e؛ فما الحضارة أو المدنية وما الثقافة؟
يمكن أن نلخص مجمل أقوال من نقل عنهم هنتنجتون في مفهوم الحضارة والثقافة فيما يلي:
يضع المفكرون الألمان حداً فاصلاً بين الحضارة والثقافة، فالحضارة عندهم تشمل التقنية وسائر العوامل المادية، أما الثقافة فتشمل قيم المجتمع ومثله العليا وخاصياته الفكرية والفنية والخلقية الكبرى.
لكن سائر المفكرين الغربيين خالفوا الألمان في هذا؛ فهم يرون أن الحضارة والثقافة كليهما تشيران إلى منهاج حياة أمة من الناس، وأن الحضارة إنما هي الثقافة مكبرة، وأن كليهما يشمل القيم والمعايير والمؤسسات وطرائق التفكير السائدة في أمة من الناس، وأن الدين هو أهم العناصر المكونة للحضارة، وأن الحضارة ليست متطابقة مع العرق؛ فأصحاب العرق الواحد قد ينتمون إلى حضارات مختلفة، كما أن الحضارة الواحدة ـ كالحضارة الإسلامية ـ قد تضم مجتمعات مختلفة الأعراق والألوان والأشكال.
والحضارة هي أوسع وحدة ثقافية؛ فأهل قرية إيطالية مثلاً قد يتميزون ثقافياً عن قرية إيطالية أخرى لكنهم يشتركون في ثقافة إيطالية تميزهم عن أهل القرى الألمانية. والألمان والإيطاليون ينتمون إلى ثقافة أوروبية تميزهم عن الجماعات الصينية والهندية. هذا الذي يجمع الأوروبيين هو حضارتهم التي تميزهم عن الحضارات الصينية والهندية. فالحضارة هي أعلى تجمُّع ثقافي للناس، وأوسع مستوى للهوية الثقافية لهم. وليس فوق الانتماء الحضاري للناس إلا انتماؤهم إلى الجنس البشري.
أما العولمة فيمكن أن نقول إنها في أساسها تصيير المحلي عالمياً؛ فهي وصف لعمل مستمر تدل عليه كلمة Globalization لكنها في الوقت نفسه وصف لبعض نتائج هذا التعولم.
النتيجة النهائية المثالية للتعولم أن تكون للعالم كله لغة أو لغات مشتركة، وأن تكون التجارة فيه مفتوحة ومتيسرة بين كل بلدان العالم، وأن يسود فيه نظام اقتصادي واحد، ونظام سياسي واحد، وأن تسود فيه عقيدة واحدة، وأن تكون للناس فيه قيم مشتركة في مسائل كحقوق الإنسان والعلاقة بين الجنسين، وأن يكون هنالك أدب عالمي يتذوقه الناس كلهم، وأن يسود فيه تبعاً لذلك نظام تعليمي واحد، وهكذا. وأن تكون كل هذه الأمور التي تعولمت مناسبة للناس من حيث كونهم بشراً، ومساعدة لهم على تحقيق طموحاتهم المادية والروحية، أي تكون للعالم حضارة عالمية واحدة.
هذا هو الهدف النهائي المثالي، لكن العولمة قد تكون ناقصة، وقد تكون تامة من غير أن تكون مناسبة للبشر بل مفروضة عليهم لظروف طارئة.
المهتمون بقضية العولمة متفقون تقريباً على أنه وإن كانت الكلمة جديدة إلا أن ما تصفه ليس بجديد، بل يرى بعضهم أن السير نحو هذه العالمية بدأ منذ مئات السنين.
فإذا كانت هذه هي العولمة فما وسائلها التي تجعلها ممكنة وتحركها؟
يذكر بعض المؤرخين أنه كان للعولمة في الماضي سببان رئيسان هما الهجرة والغزو.(9/218)
ولكن لنا أن نسأل: لماذا يهاجر الناس، ولماذا تغزو بعض البلاد بعضاً؟ إنهم يفعلون ذلك؛ لأنهم يرونه ـ بحسب قيمهم ـ في مصلحتهم المادية أو الروحية. هذا إذن هو الدافع الأول المحرك للهجرة أو الغزو أو أي نوع آخر من أنواع الاتصال بين أمة وأمة. لكن الناس إنما يقررون الهجرة إلى مكان معين أو غزو أمة معينة بحسب ما يصلهم من معلومات عنها، وبحسب إمكانية الوصول إليها. هذان إذن عاملان آخران هما المعلومات ووسائل الانتقال؛ وهذان يعتمدان كثيراً على مستوى التقنية الذي تصل إليه الأمة المهاجرة أو الغازية أو الساعية لأي نوع آخر من أنواع العلاقات أو التأثير.
دوافع أمة لغزو أمة أخرى أو هجرة بعضهم إليها هي في غالبها دوافع اقتصادية، لكن بعضها قد يكون ثقافياً. والأمران متشابكان؛ فحتى الغازي لأسباب اقتصادية ينقل معه ثقافته وقد يفرضها على المهزومين إذا كان غازياً ذا إمكانات كبيرة، وقد يتأثر بثقافة من غزاهم، بل وقد يتبناها ويترك ثقافته، وقد يكون التأثر والتأثير متبادلاً. والمهاجر أو الغازي لأسباب ثقافية قد يستفيد فوائد اقتصادية، وقد يحدث لثقافته التي هاجر من أجلها ما يحدث للمهاجر.
كان غزو المسلمين للعالم مثالاً للغزو بدافع حضاري؛ فقد كانوا يعدون أنفسهم أصحاب رسالة موجهة للعالم كله كلفوا هم بتبليغها إليه بالوسائل السلمية ما أمكن، وإلا باللجوء إلى الحرب. لكن حتى المسلمين الذين كانوا يهاجرون طلباً للرزق كانت مهمتهم الرسالية ماثلة أمامهم، فأثروا في البلاد التي هاجروا إليها تأثيراً كبيراً، فنقلوا إليها ـ كما نقل الغزاة قبلهم ـ دينهم ولغتهم ولم يتأثروا بهم إلا في أمور لا تتعارض مع دينهم، بل قد يكون بعضها من مقتضيات الدعوة إليه، كتعلم لغتهم.
أما المسلمون الذين يهاجرون إلى البلاد الغربية في أيامنا هذه فإنهم يفعلون ذلك لأسباب في غالبيتها العظمى اقتصادية، وتجربتهم تدل على أن الغالبية العظمى منهم تفقد هويتها الثقافية ـ لغة ومظهراً وديناً ـ وتذوب في المجتمعات الغربية. لكن أكثر ما يحتفظون به ويؤثرون به في تلك المجتمعات هو طعامهم. غير أن قلة من هؤلاء الذين هاجروا لأسباب اقتصادية كانت ـ مع القلة التي تسافر لأسباب دعوية أو دراسية ـ سبباً في قبول بعض الغربيين للإسلام، وفي انتشار بعض المظاهر الإسلامية كالمساجد والمدارس والمكتبات والحجاب.
أما الغربيون الذين ذهبوا إلى العالم الإسلامي غزاة أو لأسباب اقتصادية فإن قلة قليلة منهم هي التي تأثرت بالثقافة الإسلامية أو اعتنقت الإسلام. ولذلك كان دخول بضعة آلاف من الجنود الأمريكان في الإسلام في المدة القصيرة التي قضوها في السعودية إبان حرب الخليج أمراً ملفتاً للنظر شاذاً عن القاعدة. لكن دخول غير الغربيين المهاجرين إلى العالم الإسلامي كان ولا يزال أمراً معتاداً.
أما غزو الغرب للعالم فقد كان في أساسه لأسباب اقتصادية، لكن الدافع الرسالي كان أيضاً حاضراً فيه حضوراً بيناً. فالغربيون كانوا يرون أن لهم رسالة هي أن يحضِّروا العالم ويجعلوه نصرانياً. وهم يرون أن حضارتهم تفوق الحضارات الأخرى لما تمتاز به من عقلانية لا توجد في غيرها، وأن هذه الميزة هي التي تؤهلها لأن تكون الحضارة العالمية. يرى أحد الأساتذة الأرجنتينيين أن أحسن من يعبر عن هذا الاعتقاد هو هيجل وينقل عنه قوله: «إن الروح الألمانية هي روح العالم الجديد». ويقول: إن هيجل يرى أن الروح الأوروبية التي هي روح ألمانيا هي الحقيقة المطلقة التي تحقق نفسها بنفسها من غير أن تكون مدينة لأحد سواها. ويقول ـ أعني الكاتب ـ: إن هذه القضية ـ يعني قضية هيجل ـ لم تفرض نفسها على أوروبا والولايات المتحدة فحسب؛ بل على كل المجال الفكري لأطراف العالم(1). ويقول أستاذ بجامعة ديوك الأمريكية: «إنه لأمر عجيب وإنها لحركة في غاية التعصب العنصري أن تعتقد أوروبا أن عليها منذ عام 1500م أن تحضِّر عالماً ظلت فيه منذ قرون حضارات (مثل الحضارة الصينية والهندية والإسلامية...) قبل أن تجعل من نفسها مركزاً جديداً للعالم باسم النصرانية وأوروبا زمرة من الجماعات الهمجية الصاعدة»، وأحسن من عبر عن الجمع بين الدافعين الاقتصادي والحضاري هو المؤرخ الأسباني الذي سوغ ذهابه وزملاءه لغزو الجزر الهندية بقوله: «خدمة لله ولصاحب الجلالة، ولنقل النور إلى أولئك الجالسين في الظلام، ولنصير أغنياء كما أن كل إنسان يريد أن يصير».
استطاعت أوروبا أن تفرض نفسها وكثيراً من جوانب حضارتها على تلك الحضارات بالغزو والاحتلال والاستعمار، ثم بوسائل الإعلام والضغوط الاقتصادية، والتهديدات العسكرية.
يقول مؤرخهم المعاصر بشيء من الزهو:(9/219)
«إن التغيير الذي حدث في تاريخ العالم بعد عام 1500م لم يكن له سابقة. لم يحدث من قبل ذلك أبداً أن انتشرت حضارة واحدة في أرجاء الأرض كلها؛ فمنذ أقدم مسارح ما قبل التاريخ المشاهدة كان الميل دائماً نحو التنوع. أما الآن فإن التيار الثقافي بدأ يتحول. إن جوهر ما كان يحدث كان بادياً حتى منذ أواخر القرن الثامن عشر. فالأمم الأوروبية ـ بما فيها روسيا ـ كانت في ذلك الوقت قد ادعت لنفسها أكثر من نصف سطح الأرض، وكانت ـ بدرجات متفاوتة ـ قد سيطرت بالفعل على ما يقرب من ثلثه. ففي غرب الكرة الأرضية كانوا قد ازدرعوا جماعات مستوطنة تكفي بأعدادها الكبيرة لإنشاء مراكز حضارية جديدة؛ فقد خرجت أمة جديدة من المقاطعات البريطانية السابقة في أمريكا الشمالية، وفي الجنوب استطاع الأسبان أن يحطموا حضارتين ناضجتين ليغرسوا حضارتهم».
ثم يذكر أنه كان هنالك في ذلك التاريخ ما يقرب من عشرين ألف هولندي في جنوب أفريقيا، وأن أستراليا كانت قد بدأت تستقبل مستوطنيها الجدد. وأن الزائر الأوروبي لشرق أفريقيا وإيران والهند وأندونيسيا كان سيجد فيها أوروبيين جاؤوا ليتاجروا ثم ليرجعوا إلى بلادهم في المدى القريب أو البعيد ليستمتعوا بالأرباح التي حققوها.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان الاستعمار الغربي قد شمل أفريقيا كلها، وأحكم سيطرته على شبه القارة الهندية وبقية آسيا. وفي أوائل القرن العشرين أخضع الشرق الأوسط كله ـ عدا تركيا ـ لسيطرته المباشرة، ومع نهاية عام 1920م كانت الإمبراطورية العثمانية قد قسمت بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. في غضون هذا التوسع قضى الغرب قضاءً كاملاً على حضارتي (Meso ame r ican) و (Andean)، وأخضعت الحضارات الهندية والإسلامية وأخضعت أفريقيا. وتوغل في الصين وجعلت تابعة للنفوذ الغربي لمدة أربعمئة عام تمثلت العلاقة بين الحضارات في خضوع المجتمعات غير الغربية للحضارة الغربية.
ذلك ما كان حتى عام 1920م؛ فماذا حدث بعده؟ استمر الغرب في تفوقه التقني واستمر في تأثيره الكبير على كل مجتمعات العالم لا سيما بعد الطفرة التي حدثت في تقنية الاتصالات والانتقال والتي زادت في إمكانية العولمة.
تتمثل هذه الهيمنة الغربية الآن ـ كما لخصها كاتب أمريكي ـ في أن الأمم الغربية:
- تملك وتدير النظام المصرفي العالمي.
- وتسيطر على كل أنواع العملة الصعبة.
- وأنها هي الزبون العالمي الأول.
- وأنها هي التي توفر للعالم معظم بضائعه الجاهزة.
- وأنها تسيطر على أسواق الرأسمال العالمية.
- وأنها تمارس قدراً كبيراً من القيادة الأدبية في كثير من المجتمعات.
- وأن لها قدرة على التدخل العسكري العظيم.
- وأنها تسيطر على المضايق البحرية.
- وأنها تقوم بمعظم البحوث والتطوير للتقنية المتقدمة.
- وأنها المتحكمة في التعليم التقني الفائق.
- والمهيمنة على المدخل إلى الفضاء.
- وعلى صناعة الطيران.
- وعلى وسائل الاتصال العالمية.
- وعلى التقنية العالية لصناعة الأسلحة(1).
العولمة لم تكن ـ كما كان يرجى لها إذن ـ أن تسود في العالم ثقافة إنسانية تناسب كل الناس وتساعد على تعاونهم وتطورهم والاستفادة من خيرات بعضهم بعضاً. بل كادت العولمة وكاد التحديث أن يكون تغريباً بسبب هذا التفوق الغربي وعدم تسامح حضارته مع الحضارات الأخرى.
إلى متى سيستمر هذا التفوق وهذه الهيمنة الغربية؟
يرى كثير من المفكرين الغربيين أنها لن تستمر طويلاً ـ على الأقل بهذا القدر الكبير. لماذا؟ هذا موضوع كبير لا يسعنا هنا إلا أن نشير إليه مجرد إشارات، فنقول:
1 - لأن سبب تلك القوة لم يكن لمجرد أسباب داخلية في الحضارة الغربية، وإنما كان أيضاً لظروف خارجية مواتية. أما الآن فإن ظروفاً خارجية أخرى لا قِبَلَ للغرب بتغييرها جعلته يضعف ضعفاً نسبياً للازدياد النسبي في القوة الاقتصادية والتقنية لبلاد غير غربية.
2 - يزداد تقديرنا لأهمية هذا الضعف النسبي للقوة المادية للدول الغربية إذا ما تذكرنا ما يقوله كثير من مفكريها بأن السبب الأساس لسيطرتها لم يكن قيماً ولا فكراً ولا ديناً وإنما كان هذه القوة. يقرر هنتنجتون هذه الحقيقة في صراحة عجيبة إذ يقول: لم يغلب الغرب العالم بتفوق في أفكاره أو قيمه أو دينه (الذي لم تعتنقه إلا قلة من أبناء الحضارات الأخرى) وإنما غلب بتفوقه في العنف المنظم. إن الغربيين كثيراً ما ينسون هذه الحقيقة، لكن غير الغربيين لا ينسونها أبدا.
بيد أننا يمكن أن نستدرك على هنتنجتون ومن يرى رأيه بأن الغرب وإن لم يكن في نفس الأمر متفوقاً في تلك المجالات إلا أن أهله كانوا يعتقدون فيه هذا التفوق، وأن هذا الاعتقاد الباطل كان دافعهم، مع الدوافع الاقتصادية للخروج لغزو العالم كما ذكرنا سابقاً.
3 - أما الآن فإن هذا الضعف النسبي في القوة المادية للغرب يصحبه وربما سبقه فتور في الدافع الرسالي؛ فحماس الغربيين لدينهم المسيحي في بداية قرنهم الواحد والعشرين لم يعد كما كان في القرن الثامن عشر، ولم يطرأ هذا الفتور في الحماس الديني بسبب التأثر بالحضارات الأخرى في المكان الأول، وإنما كان في أساسه:(9/220)
- بسبب دراساتهم العلمية لأصول دينهم التاريخية، تلك الدراسات التي شككت في الثبوت التاريخي لكثير من نصوصه، والتي أثبتت أن في هذه النصوص تناقضاً ومخالفة لبعض الحقائق العلمية نشأ عنه انقسامهم إلى أصوليين ـ أكثرهم من العوام ـ يؤمنون بحرفية ما في كتابهم المقدس، وليبراليين يعتقدون أنه ما كل ما فيه من عند الله، وأنه تأثر بالظروف الثقافية للزمن الذي كتب فيه.
- ثم كان التطور في مجال العلوم الطبيعية سبباً آخر؛ لأن منهج هذه العلوم يقوم على عقلانية لا وجود لها في دينهم.
- ثم زاد من ضعف الإقبال على الدين أو الاهتمام به النظام السياسي العلماني الذي يفصله عن الدولة، بل وعن الحياة العامة كلها.
4 - كان كثير من المفكرين الغربيين يأملون في أن يحل العلم الطبيعي محل الدين، وينجح في حل مشاكل البشرية التي عجز الدين عن حلها. لكن تجربة الحربين العالميتين العظميين، واعتمادهما على التقنية الحربية التي وفرها العلم الطبيعي أضعفت من هذا الأمل. ثم كانت كارثة هيروشيما فاقتنع كثير من المفكرين والعوام الغربيين بأن العلم الطبيعي إنما هو سلاح يعتمد حسن استعماله أو سوؤه على قيم لا تؤخذ منه هو، فلا بد أن يكون لها مصدر آخر.
5 - والشيوعية ـ التي هي نتاج غربي ـ والتي تعلق بأوهامها الآلاف المؤلفة من الناس في الشرق والغرب، باءت هي الأخرى بإخفاق ذريع.
6 - لم يبق للغرب الآن مبدأ يتعلق به ويدافع عنه ويعتز به إلا الديمقراطية الليبرالية وما يصاحبها من نظام رأسمالي. لكن حتى هذين يجدان كثيراً من النقد والمراجعة لعدم وفائهما ببعض القيم الإنسانية، ولا سيما إنصاف الفقراء، ولما نتج عنهما من تعميق للروح الفردية وما يصحبها من مشكلات اجتماعية.
7 - الروح السائدة في الغرب الآن ليست روحاً متفائلة، بل إن التشاؤم قد يصل بهم إلى الحد الذي عبر عنه كاتب فرنسي أزعج ذلك الشعب وأثار تشاؤمه حين كتب يقول كما نقل عنه مؤلف إنجليزي: «إن أوروبا بدأت تدخل في عصر ظلام جديد يتميز بالأوبئة والمتسولين وانهيار المدن، وبعث الخرافة، وعودة التهديد القادم من الشرق ـ من آسيا ومن الإسلام»(1).
ولعلنا نستطيع أن نقول إنه حتى لو لم يطرأ هذا الفتور في حماس الغربيين لدينهم ولرسالتهم، فإنه ما كان لحضارتهم أن تصير حضارة عالمية إذا ما فقدت القوة المادية؛ لأنها لا تملك في نفسها مقومات العالمية. لكن هذا موضوع آخر لا يسعنا الدخول في تفاصيله الآن، غير أن كثيراً من هذا القصور سيتضح إذا ما أظهرنا بعض مقومات عالمية الإسلام؛ إذ بضدها تتميز الأشياء. إلى هذا نتجه الآن وبه نختم مقالنا هذا.
ما الذي يؤهل الحضارة الإسلامية لأن تكون حضارة عالمية؟
أرى أننا ينبغي أن نميز أولاً بين الإسلام والحضارة الإسلامية؛ لأنه إذا كانت الحضارة هي في جوهرها المعتقدات والقيم والتصورات المتمثلة فعلاً ـ أو قل إلى حد كبير ـ في واقع أمة من الأمم، فما كل ما جاء به الدين المنزل من عند الله متمثلاً في الأمة التي تعلن إيمانها به. فالدين دينان: دين منزل من عند الله لا يتغير ولا يتبدل {إنَّا نّحًنٍ نّزَّلًنّا الذٌَكًرّ وإنَّا لّهٍ لّحّافٌظٍونّ} [الحجر: 9] ودين متمثل في واقع الناس يقترب من الدين المنزل أو يبتعد عنه، ولا يطابقه إلا في الرسول الذي جاء به، والذي صدق عليه قول زوجه أم المؤمنين: «كان خلقه القرآن»(1)، أما غيره فمنهم من يقرب منه قرباً شديداً، ومنهم من يبتعد عنه بعداً كبيراً وإن كان منتسباً إليه. فالحضارة الإسلامية المتمثلة في واقع المسلمين تتأهل للعالمية بقدر قربها من الدين المنزل الذي تنتسب به. فما مقومات العالمية في هذا الدين؟ إنها مقومات كثيرة وعظيمة، لكننا نكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى بعضها:
1 - أنه بينما كان الرسل من أمثال موسى وعيسى ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ يرسلون إلى أقوامهم خاصة فإنمحمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة، أرسل رحمة للعالمين، وجعله الله خاتماً للنبيين. فحتى لو كان اليهود والنصارى المنتسبون إلى هذين الرسولين مستمسكين بدينهم الحق، لما جاز لهم أن يجعلوا منهما دينين عالميين بعد نزول الدين الخاتم؛ لأن الله ـ تعالى ـ إنما أرسل هذين الرسولين إلى قومهما خاصة وإلى فترة محدودة. فالمسلم المستمسك بدينه العارف بهذه الحقيقة يستبشر بالتطور الذي حدث في وسائل الاتصال والانتقال الذي جعل من العالم قرية واحدة كما يقولون. يستبشر به؛ لأنه يرى فيه تصديقاً لنبوةمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ فلا أحد غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان يمكن أن يعلم أن العالم سيتقارب هذا التقارب فلا يحتاج إلا إلى رسول واحد.(9/221)
2 - أن إمكانية تقريب المسافات أمر حاضر في حس المؤمن الذي يقرأ قوله ـ تعالى ـ: {سٍبًحّانّ الذٌي أّسًرّى بٌعّبًدٌهٌ لّيًلاْ مٌَنّ المّسًجٌدٌ الحّرّامٌ إلّى المّسًجٌدٌ الأّقًصّا الذٌي بّارّكًنّا حّوًلّهٍ} [الإسراء: 1]، وحين يذكر كيف أن المكذبين ب صلى الله عليه وسلم ضاقت أعطانهم عن أن يروا إمكان ذلك، وحسبوا أن الممكن محصور في المألوف. ويقرأ المؤمن في كتاب ربه أن رجلاً عنده علم من الكتاب استطاع أن ينقل عرشاً بأكمله في أقل من طرفة عين من اليمن إلى الشام، ثم يقرأ في كتاب ربه ما هو أعجب من ذلك أن الرسو صلى الله عليه وسلم عُرج به إلى السماء السابعة ورجع في ليلة واحدة؛ وهي مسافة لو قطعها مخلوق بسرعة الضوء لاستغرقت منه البلايين من السنين الضوئية. ويصدق المسلم قول رسوله صلى الله عليه وسلم «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها».
3 - أن هذا الدين هو فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ فهو يخاطبهم بوصفهم بشراً وضع الله في قلوبهم أساسه؛ فهو ليس بالأمر الغريب عليهم. وما أكثر الذين شعروا بهذا حين أسلموا وفاضت أعينهم مما عرفوا من الحق.
4 - ومما يزيد المسلم اقتناعاً بعالمية دينه أنه أثبت في الواقع أنه ليس بالدين الذي تحده ظروف جغرافية أو مناخية، أو زمانية أو ثقافية؛ فقد اعتنق هذا الدين أناس بينهم كل أنواع تلك الاختلافات، فلم يجدوا في شيء منها ما يحول بينهم وبين الإيمان به أو وجدانهم شيئاً غريباً عليهم. فالمسلمون في كل بقاع الأرض الآن أقرب إلى دينهم من النصارى أو اليهود لدينهم. فما زال المسلمون رغم كل تلك الظروف المختلفة يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، ويحجون إلى بيت الله الحرام، ويقرؤون الكتاب المنزل على رسولهم من غير تحريف ولا تبديل.
5 - وإذا كان تطور العلوم الطبيعية يقف الآن حجر عثرة في طريق بعض الأديان الباطلة، فإنه يقف شاهداً على صدق هذا الدين؛ لأنه لا يجد فيه ما يخالف شيئاً من حقائقه، بل يجد فيه تقريراً لبعض تلك الحقائق قبل أن يتمكن الإنسان من اكتشافها بوسائله البشرية. ولا يجد فيه مخالفة لمنهجه العقلاني التجريبي؛ إذ يجده ديناً لا يأتي بمحالات العقول، ولا ينكر ما يشهد به الحس. فإذا ما شعر الناس بأهمية الدين ـ كما يشعر بذلك كثير منهم الآن ـ وإذا ما صدهم عما عرفوه من أديان تناقضها المنطقي، أو مخالفتها للواقع المحسوس فسيجد ديناً فيه كل ما يريد من هدى واستقامة وراحة نفسية، وهو خال من تلك النقائص. فسيكون العلم الطبيعي بإذن الله ـ تعالى ـ سبباً من أسباب دخول الناس في هذا الدين على المستوى العالمي.
6 - والغرب وإن كان في مجموعه مهيمناً تلك الهيمنة التي ذكرناها سابقاً إلا أنه ليس شيئاً واحداً منسجماً متعاوناً، وإنما هو شعوب ودول وجماعات تختلف مصالحها ويثور التنافس والتحاسد بينها، ويرتاب بعضها من قوة بعضها ويخشى من سيطرتها.
إذا كانت تلك هي بعض المقومات التي تؤهل الإسلام ليكون دين القرية العالمية، ومركز حضارتها، فإن في واقع الأمة المنتمية إليه الآن ما يعرقل سيرها بدينها نحو تلك العالمية:
1 - أول تلك العوائق هو كون الحضارة الغربية قد نجحت في جعل بعض المنتسبين إليه عملاء لها في داخل الأوطان الإسلامية، ومكنت لهم فيها؛ فهم الذين قسموا الأمة وجعلوها متنازعة، وشغلوها بصراعات داخلية سياسية واجتماعية، فحالوا بذلك بينها وبين أن تسعى متكاتفة إلى الأخذ بأسباب التقدم المادي من علم طبيعي وتقنية وإنتاج؛ لأن وحدة الأمة ـ وإن كانت كافرة ـ شرط في هذا كما تشهد بذلك تجارب اليابان والأمم الغربية.
2 - وثانيها أن هذا النزاع كان وما يزال السبب في فقدان القدر اللازم من الحرية التي هي أيضاً شرط لذلك التقدم. لكن الغربيين الذين كانوا سبباً في فقدانها يعزون هذا الفقدان الآن إلى طبيعة العرب أو طبيعة الإسلام! وقديماً قال العربي: «رمتني بدائها وانسلَّت».
3 - وثالثها أن كثرة كاثرة من المنتمين إلى الإسلام قد حادوا عن جوهره التوحيدي، ففقدوا بذلك الشرط الذي علق الله ـ تعالى ـ نصره لهم عليه في مثل قوله ـ تعالى ـ: {وعّدّ اللَّهٍ الذٌينّ آمّنٍوا مٌنكٍمً وعّمٌلٍوا الصَّالٌحّاتٌ لّيّسًتّخًلٌفّنَّهٍمً فٌي الأّرًضٌ كّمّا اسًتّخًلّفّ الذٌينّ مٌن قّبًلٌهٌمً ولّيٍمّكٌَنّنَّ لّهٍمً دٌينّهٍمٍ الذٌي ارًتّضّى لّهٍمً ولّيٍبّدٌَلّنَّهٍم مٌَنً بّعًدٌ خّوًفٌهٌمً أّمًنْا يّعًبٍدٍونّنٌي لا يٍشًرٌكٍونّ بٌي شّيًئْا ومّن كّفّرّ بّعًدّ ذّلٌكّ فّأٍوًلّئٌكّ هٍمٍ الفّاسٌقٍونّ} [النور: 55].(9/222)