4 ـ الاعتدال في الطعام والشراب فتصيب منهما ما تقيم به صلبها ، ويحفظ عليها صحتها ونشاطها ولياقة جسمها ، مستهدية بقول الله تعالى : } وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ { [ الأعراف :31] وبقول صلى الله عليه وسلم وهديه في الاعتدال بالطعام والشراب : : « ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ، فإذا كان لا محالة فاعلا ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه » رواه أحمد ([23][23]) وبقول عمر رضي الله عنه : ( إياكم والبطنة في الطعام والشراب ، فإنها مفسدة للجسد ، مورثة للسقم ، مكسلة عن الصلاة ، وعليكم بالقصد فيهما ، فإنه أصلح للجسد ، وأبعد عن السرف ، وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين ، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ") ([24][24])
5 ـ لمزاولة رياضة المشي يمكن أن تزاولها في منزلها ـ إن كان متسعاً ـ فإن لم يكن كذلك فيمكن مزاولتها في المنتزهات البرية البعيدة عن المدينة ، والبعيدة عن مضايقة الفضوليين.
6 ـ المواظبة على صيام النوافل إذا كانت بلا زوج ، وإذا كانت ذات زوج فلا تصوم وهو شاهد إلا بإذنه .
7 ـ الصلاة ؛ فكما أنها عبادة فهي تعد كما ذكره أهل الاختصاص رياضة نافعة للإنسان ، فالمرأة إذا أدت هذه العبادة جمعت بين الحسنيين [25][25].
الفصل الرابع
الحكم الشرعي لإدخال التربية البدنية
إذا علم ما تقدم تبين أن إدخال مادة التربية البدنية في مدارس البنات لا يجوز لما يلي :
1ـ روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : « صنفان من أهل النار لم أرهما ..وذكر : « ونساء كاسيات عاريات ، مميلات مائلات ، رؤسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا »([26][26])
ووجه الدلالة من الحديث : أن الفتيات في حصة التربية البدنية سيرتدين ملابس إما أن تكون ضيقة تحدد حجم الأعضاء أو تكون قصيرة أو شفافة فتدخل في هذا الوعيد الشديد الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ،والواقع الموجود في بعض الأندية القائمة في بعض المستشفيات والمراكز الطبية ومشاغل الخياطة ([27][27]) ونحوها تؤكد هذه القضية ، ففي مجلة أسرتنا عدد (40) ص 36 : تقول : ( أقولها بصراحة متناهية وبلا تردد أن أسوء ما في تلك الأندية هو اللباس الذي ترتديه عاملات وعضوات النادي ، فهو في أبسط صورة : عار للغاية ، وهي صفة عامة لكل الموجودات ، بنطلونات ضيقة وخفيفة وبلايز عارية وضيقة كذلك ، أما في المسابح والسونا فالأمر أشد وطأة ، غياب تام ..تام ..تام للحياء والستر ..!! كل شيء باللباس يشير إلى الاشمئزاز ويستفز النفس السوية ويخدش الحياء !! لا أخفيكم سرا أنني في بدء جولتي الميدانية دخلت ناديا وشاهدت منظر النساء وهن يسبحن فلم أستطع إكمال الجولة بنفس اليوم لعظم ما رأيت !!!! ومما يحز في النفس .. أن بعضها تضع لوحات تؤكد على مسألة الاحتشام والالتزام بالستر داخل النادي ، فإذا دخلت علمت أن القضية مجرد تغطية وتضليل ليس إلا ..فالكلام في واد والواقع في واد بعيد كل البعد . ) يقول الإمام النووي رحمه الله : ( هذا الحديث من معجزات النبوة ، فقد وقع هذان الصنفان وهما موجودان ، وفيه ذم هذين الصنفين ، قيل معناه : كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها ، وقيل معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهارا لحالها ونحوه . وقيل معناه تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها . وأما (مائلات ) فقيل معناه عن طاعة الله وما يلزمهن من حفظه ، ( مميلات ) أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم . وقيل ( مائلات ) يمشين متبخترات مميلات لأكتافهن . وقيل ( مائلات ) يمشطن المشطة المائلة وهي مشطة البغايا . ( مميلات ) يمشطن غيرهن تلك المشطة . ومعنى رؤسهن كأسنمة البخت : أن يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها.
2 ـ ما رواه أبو داود عن أبي المليح رحمه الله قال : دخل نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها فقالت : ممن أنتن ؟ قلن من أهل الشام ، قالت : لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات ؟ قلن : نعم ، قالت : أما أني سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى »([28][28])
ولا شك أن الطالبة في المدرسة تحتاج إلى نزع ثيابها لأداء الحركات بخفة وسهولة .
3 ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : لعن رسول ا صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال ،والمترجلات من النساء"رواه البخاري ([29][29]).
وجه الدلالة من الحديث : أن المرأة التي تمارس أنواع الرياضة الموجودة الآن في العالم العربي والغربي تخالف فطرتها وأنوثتها وتتشبه بالرجال في لباسهم وهيئاتهم وأخلاقهم وتصرفاتهم مما يعني دخولها في هذا الوعيد،قال ابن الأثير:( المترجلات من النساء يعني اللاتي يتشبهن بالرجال في زيَّهم وهيئتهم فأما في العلم والرأي فمحمود) ([30][30])(6/141)
4 ـ القاعدة الشرعية تقول : ( درء المفسدة الراجحة مقدم على جلب المصلحة المرجوحة ) وهي من مقاصد الشريعة ، وصورتها : إذا رجحت المفسدة على المصلحة في الشيء الواحد يجب تقديم درء المفسدة ، وتغليب حكمها على جلب المصلحة ، وهذه القاعدة متفق عليها بين أهل العلم دون خلاف ، والأصل فيها قول الله تعالى :] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا [ [البقرة:219] فالله تعالى ذكر في هذه الآية أن في الخمر منافع إلا إن الحكمة الإلهية والمصالح الشرعية تحرمها ، لأنها تشتمل على مفاسد وآثام أضعاف تلكم المنافع اليسيرة ،ولو سلمنا بوجود مصالح في التربية البدنية للفتيات إلا أننا بالنظر إلى ما يترتب عليها من مفاسد نجده أضعافا مضاعفة بالنسبة لتلكم المصالح القليلة النسبية التي لا تكاد تذكر ، لأن مفاسدها قد بلغت من الخطورة ما لا ينكره عاقل ممن يستطيع أن يفرق بين التمرة والجمرة !! خاصة مع وجود البدائل المناسبة .
5 ـ ومن الأدلة قاعدة ( سد الذرائع ) وقد أجمعت الأمة على سد الذرائع ، والذريعة ما أفضى إلى الحرام ، وكذلك ما كان مظنة للحرام ، ودليلها قوله تعالى :] وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[[الأنعام :108] فمنع من سب الأصنام عند من يعلم أنه يسب الله تعالى حينئذ ، وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على سد الذرائع بـ أربعة وعشرين وجهاً ([31][31])، وكذا ابن القيم رحمه الله بتسعة وتسعين دليلا([32][32]) ، وكذا نقل الإجماع عليها الإمام الشاطبي([33][33]) وغيره من أهل العلم .
ولا يخفى ما عليه واقع التربية البدنية في المجتمعات المسلمة ولذا يقال بالمنع سداً للذريعة المفضية إلى الحرام ..فمن يضمن أن يتوقف الأمر على هذه الحصة فقط ؟!! ، ومن يضمن أن هذه الحصة خالية من المحاذير الشرعية ؟ ومن يضمن ألا تصور بنات المسلمين وهن يلبسن ملابس الرياضة وتنشر صورهن في مجامع الفجار وأراذل الخلق ؟ وقد جاءت النصوص الشرعية في بيان أن المرأة فتنة للرجل بل هي أضر الفتن ، يقول صلى الله عليه وسلم :« ما تركت فتنة أضر على الرجال بعدي من النساء » متفق عليه ([34][34]). وقا صلى الله عليه وسلم : « إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون ؟ فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء » رواه مسلم ([35][35]).
فإذا ثبت ذلك فإن من الحكمة والتعقل أن يتريث الإنسان فيما يتعلق بقضايا المرأة وأن يتريث فيما يتعلق بها من أحكام سداً لكل ذريعة مفضية للحرام .
6ـ من القواعد الشرعية قاعدة : ( يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ) فيجوز للإمام أن يجبر من أحدث في الطريق العام ما يضره بإزالته وإن كان فيه ضرر عليه دفعاً للضرر العام ، وكذا يقال في مادة التربية البدنية ..يتحمل الضرر الخاص وهو عدم الحركة لدى شريحة محدودة من الطالبات لدفع الضرر العام وهو ما سيحصل من مفاسد في إقرارها ، علما أنه لن يكون هناك حتى الضرر الخاص لأن الفتاة يمكن أن تمارس الحركة والتمارين المناسبة في بيتها .
الفصل الخامس
شبهات حول الحكم الشرعي
الشبهة الأولى : قولهم ( لقد وجه رسولنا عليه الصلاة والسلام تعليم أولاد المسلمين السباحة والرماية وركوب الخيل ) ([36][36])
والجواب :
أولاً : الآثار التي تفيد هذا المعنى هي :
أ ) ما أخرجه البيهقي في الشعب 6/401 عن أبي رافع أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال :« حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية وأن لا يرزقه إلا طيباً » والحديث ضعيف ،وقد أورده الألباني في ضعيف الجامع الصغير (2732) .
ب ) عن بكر بن عبدالله بن الربيع الأنصاري أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال : « علموا أبناءكم السباحة والرماية ، ونعم لهو المؤمنة في بيتها المغزل ، وإذا دعاك أبواك فأجب أمك » أورده السيوطي في الجامع الصغير ( فيض القدير (4/327) وعزاه لابن مندة في المعرفة و رمز له بالحسن والصواب بطلان الحديث كما قال الذهبي في الميزان (2/231) : ( خبر باطل ) وضعفه العجلوني في كشف الخفاء (2/68) والألباني في ضعيف الجامع (3726)
ج ) عن ابن عمر مرفوعا : « علموا أبناءكم السباحة والرمي والمرأة المغزل »رواه البيهقي في الشعب 6/401 وقال : به عبيد العطار منكر الحديث .وقال الألباني في ضعيف الجامع ص546 : ضعيف جدا.
د ) عن جابر مرفوعا : « علموا بنيكم الرمي فإنه نكاية العدو » رواه الديلمي في مسنده ، قال الألباني في ضعيف الجامع ص546 : موضوع .
هـ ) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال عمر إلى أبي عبيد أن علموا صبيانكم العوم ، ومقاتلتكم الرمي ..» الحديث رواه ابن حبان (13/401) ورقمه (6037) وصححه وحسنه الأرنؤوط
ثانياً : من خلال هذا العرض السريع للآثار تبين :
أ ـ ضعف ما رفع إلى صلى الله عليه وسلم ولم يصح منها شيئا .
ب ـ صحة ما ورد عن عمر رضي الله عنه وهو موقوف عليه.(6/142)
ج ـ لو سلمنا صحة الأحاديث فإننا لا نسلم صحة الاستدلال بها لأن كلام صلى الله عليه وسلم موجه إلى الأبناء دون البنات فقال :« علموا أبناءكم » والابن يراد به الذكر ومما يؤكد ذلك قوله في عقب الحديث : « ونعم لهو المؤمنة في بيتها المغزل » وهكذا الآثار الباقية . لكن قد يعكر على هذا الاستدلال الحديث الأول لأن الولد يشمل الذكر والأنثى ، فيجاب عن ذلك : بأنه يجب حمل المطلق الذي هو ( أولادكم ) على المقيد الذي هو ( أبناءكم ) حسب القاعدة الأصولية المشهورة ، كما يؤكد ذلك تفسير عمر رضي الله عنه السابق في قوله ( صبيانكم ) وأيضا يؤكد ذلك واقع سلف الأمة الذين عرف عنهم شدة تمسكهم واتباعهم .
د ـ نحن لا نمانع أن تتعلم المرأة السباحة والرماية ونحوها مما يفيد إذا تولى هذا الأمر محرمها ؛ فإن كلام عمر رضي الله عنه ـ المتقدم ـ كان موجها إلى أولياء الأمور من آباء وأمهات فكل هذه الأمور مما يحتاجه الجميع ، ولكن يمكن أن تتعلمه المرأة بدون أن نحتاج إلى إدخال هذه المادة في مدارس البنات كما ذكرناه في البدائل.
الشبهة الثانية : قولهم (ورد عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول ا صلى الله عليه وسلم في سفر فسابقته فسبقته ويمكننا على هذا أن نقيس أن مسابقة في الجري وهو لا شك نوع من الرياضة لم يمنعه أو يحرمه الإسلام للمرأة )([37][37])
والجواب : نعم لم يحرمه الإسلام وهذا باتفاق العلماء إذا كان بلا عوض ،([38][38]) وقبل الخوض في التفاصيل لابد أن نعرف حديث عائشة الذي استدل به صاحب هذه الشبهة :
روى الإمام أحمد في مسنده ([39][39] )عن عائشة قالت خرجت مع صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن فقال للناس تقدموا فتقدموا ثم قال لي تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقته فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس تقدموا فتقدموا ثم قال تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول هذه بتلك "
ومن خلال الحديث تتضح الحقائق التالية :
أولاً : أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تسابق إلا زوجها r ولم يثبت أنها سابقت غيره .
ثانياً : أن صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يتقدموا حتى لا تقع أبصارهم عليهما .ولم يكن هذا الأمر عارضاً إنما كرر صلى الله عليه وسلم مرة أخرى عندما سابقها ثانية مما يدل على أهمية هذا الأمر و لزومه .
ثالثاً : ليس القصد من هذا السباق هو الرياضة لذاتها ، إنما القصد هو التودد والتحبب بين الزوجين ويدل على ذلك المقصد تكرار الرسو صلى الله عليه وسلم للسباق مع عائشة عندما حملت اللحم.
رابعاً : لو كان السباق مشروعا أمام الرجال الأجانب لما خُص الرجل بالرَمل في الطواف ،والسعي بقوة في بطن الوادي بين الصفا والمروة ومنعت منه المرأة إبقاء لحشمتها وحفاظا على حجابها ، وانعدام الفائدة منه.
الشبهة الثالثة: قولهم ( عند بدء تعليم المرأة في هذه البلاد واجه معارضة حادة من قبل الناس وعندما عرفوا قيمته تسابقوا إليه وسارعوا بتسجيل بناتهم ، وهكذا التربية البدنية )
والجواب :
أولاً : هناك فرق شاسع ،وبون عظيم بين الأمرين فمعارضة الناس في ذلك الوقت للتعليم ليس لذات التعليم وإنما لأنه لم يكن يوجد في العالم الإسلامي آنذاك تعليم سالم من المخالفات الشرعية حتى يجعل قاعدة يقاس عليها ..فحصلت المعارضة بسبب ذلك ، وعندما اكتشف الجميع أن التعليم سيكون بصورة شرعية سارع الجميع لتعليم بناتهم لعلمهم بمدى أهمية العلم ومكانته .
ثانياً :أن معارضة الناس في ذلك الوقت كان له ثمرة عظيمة ، ومنفعة جليلة ..وهي ما تنعم به هذه البلاد من تعليم نفاخر به العالم.. ففي أي دولة في العالم يوجد تعليم لا اختلاط فيه من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الجامعية ؟!! فاعتراضهم جعلنا ننعم بهذه النعمة التي نحمد الله تعالى عليها ونسأله أن تستمر على ذلك .
ثالثا : أن أفعال الناس ليست بحجة في شرع الله تعالى فكون الناس فعلوا أو تركوا لا يعني ذلك حكماً شرعياً بالحلال أو الحرام ، فالحق ما وافق الكتاب والسنة ،والباطل ما خالفهما ولو اجتمع عليه الناس فإبراهيم عليه السلام سماه الله أمة في قوله تعالى : } إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{ (النحل:120)(6/143)
مع أنه وحده عليه السلام لأنه على الحق وقومه على باطل ، ولو أصبحنا ننظر فيما صنع الناس لصنعنا مثلهم لظللنا وانحرفنا ، فكم من الناس من يرتكب المعاصي والذنوب ؟كم الذين لا يشهدون الصلاة جماعة ؟ كم الذين يأكلون الربا ؟ كم الذين يسمعون الغناء ؟ يقول الله تبارك وتعالى } وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ{ (يوسف:103) وقال :} وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ{ (الأنعام: من الآية116) . ولذلك صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على أن لا يكون الرجل منهم إمعة بل تكون له شخصيته وكيانه وله آراؤه وأفكاره عن حذيفة قال قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : ( لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا ) رواه الترمذي ([40][40])
ثالثاً : إن أضرار هذه المادة قد بدت لكل حاضر وباد ؛ حيث إن البلاد المجاورة قد سبقتنا إلى هذا البلاء ، وظهر أثرها على أخلاق وسلوكيات النساء مما يجعلنا في غنى عن الدخول في هذا النفق المظلم وكما قيل السعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ غيره به .([41][41])
رابعاً : الاحتجاج بالموقف من تعليم البنات في السابق ثم تسابقهم عليه هو أيضا حجة على الداعين إلى إدخال الرياضة في مناهج البنات ، فنحن نقول إن رفض دخول الرياضة لمدارس البنات واجه معارضة شديدة من بعض الناس وعندما يعرفون قيمة هذا الرفض ويرون فائدته سيؤيدوننا فيه .
إذن هذه الحجة تصلح لكل دعوى حقاً كانت أم باطلاً .
هذا ما تيسر جمعه والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
فتوى
فضيلة الشيخ عبد الكريم الخضير وفقه الله لكل خير.
تناولت وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة أن هناك اقتراحاً يهدف إلى دراسة إدخال التربية البدنية في مدارس تعليم البنات بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.ما حكم إدخال مثل هذه المادة في تعليم البنات؟أرجو التفصيل في هذه المسألة وتحريرها ليتجلى للكثير الحكم وفقكم الله لما يحبه ويرضاه،،، والله يحفظكم ويرعاكم.
الجواب : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن المطالبة بدراسة إدخال التربية البدنية في مدارس البنات، اتباع لخطوات الشيطان الذي نهينا عنه بقوله تعالى:
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ([البقرة:168]، وقوله جل وعلا: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ([البقرة:208]، وقوله: )وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( [الأنعام:142]، وقوله: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ([النور: من الآية21]، وقد بيّن الله لنا أتم بيان أن الشيطان لنا عدو وأمرنا أن نتخذه عدواً ،والشيطان حريص على إضلال بني آدم،كما أقسم بعزة الله جل وعلا قائلاً كما ذكره الله عنه:) فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ([صّ: من الآية82]، وإذا رأينا ما فعله الشيطان بالنسبة لهذه الرياضة المزعومة، من إيقاع العداوة والبغضاء ، والصد عن ذكر الله مما لا يخفى على أحد، ويكفينا ما مرت به الدول المجاورة، لما تجاوزوا أمر الله عز وجل واتبعوا خطوات الشيطان، فالخطوة الأولى أن تلعب الرياضة مع الحشمة وفي محيط النساء، ثم تنازلوا عن هذه الشروط شيئاً فشيئاً، إلى أن وصل الحد إلى وضع لا يرضاه مسلم عاقل غيور فضلاً عن متدين، وإذا كان الذكور مطالبين بالإعداد والاستعداد، فالنساء وظيفتهن القرار في البيوت وتربية الأجيال على التدين والخلق والفضائل والآداب الإسلامية، فالذي لا أشك فيه أن ممارسة الرياضة في المدارس بالنسبة للبنات حرام؛ نظراً لما تجر إليه من مفاسد لا تخفى على ذي لب،ولا تجوز المطالبة بها فضلاً عن إقرارها،
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
[1][1] ـ انظر : مجلة أقرأ عدد (208) بقلم : الجوهرة العنقري .
[2][2] ـ مصنف ابن أبي شيبة ورقمه (33653) . وقال في المجمع (5/323) :( رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح ) .
[3][3] ـ رواه البخاري ورقمه ( 2720) .
[4][4] ـ رواه النسائي ورقمه (2628) .
[5][5] ـ فتح الباري (6/89) .
[6][6] ـ أخرجه المروزي في ( السنة) ورقمه ( 123 ) . قال في المجمع (4/304) : (رواه أبو يعلي (3415، 3416) والبزار (1475) وفيه روح بن المسيب وثقه ابن معين والبزار وضعفه ابن حبان وابن عدي ).
[7][7] ـ رواه مسلم ورقمه ( 1809) .(6/144)
[8][8] ـ انظر : الجزيرة عدد (9727) بقلم عبد الله العجلان ، ونفس الفكرة في مجلة أقرأ عدد (208) بقلم جيهان الحكيم .
[9][9] ـ انظر سير أعلام النبلاء (5/78) وما بعده .
[10][10] ـ المجلة العربية ـ ذو الحجة ـ 1415هـ
[11][11] ـ جريدة الرياض ، الخميس 03 شوال 1424العدد 12942
[12][12] ـ رواه أحمد (4/132 ) والترمذي (2380) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
[13][13] ـ رواه أبو داود ورقمه (4010) من حديث عائشة رضي الله عنها .
[14][14] ـ رواه البخاري (5436) .
[15][15] ـ انظر : كتاب " دنيا " ص 30 مالك الأحمد .
[16][16] ـ انظر كلام الدكتورة هناء الزامل في مجلة أسرتنا عدد (40) ص 37 .
[17][17] ـ رواه مسلم ورقمه (2128) .
[18][18] ـ فتح الباري (10/204) .
(1) انظر : ص 18 .
[19][19] ـ ويمكن أن يوزع على الفتيات كتيب صحي يبين لهن التدريبات المهمة التي ينبغي عليهن الحرص عليها في البيت ليكسبن الرشاقة والابتعاد عن الترهل .. ويكون ذلك بإشراف متخصصين وشرعيين .
[20][20] ـ تأملات في عمل المرأة ص26
[21][21] ـ مجلة الأسرة عدد50 ص21
[22][22] ـ جريدة الرياض عدد (10883) .
[23][23] ـ رواه أحمد (4/132 ) والترمذي (2380) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
[24][24] ـ كنزل العمال 15/433) .
[25][25] ـ انظر : كتاب ( الصلاة والرياضة والبدن ) تأليف / عدنان الطرشة . ط / المكتب الإسلامي . فقد ذكر حقائق عن هذا الموضوع تهم القارئ الكريم.
[26][26] ـ رواه مسلم ورقمه (2128) .
[27][27] ـ هذه داخل بلاد الحرمين والله المستعان .
[28][28] ـ رواه أبو داود ورقمه (4010) من حديث عائشة رضي الله عنها .
[29][29] ـ رواه البخاري ورقمه (5436) .
[30][30] ـ النهاية في غريب الحديث (2/186) .
[31][31] ـ انظر : الفتاوى الكبرى (3/256) .
[32][32] ـ انظر : إعلام الموقعين (3/147ـ171) .
[33][33] ـ انظر : الموافقات (4/194ـ201) .
[34][34] ـ رواه البخاري ورقمه (4808) ومسلم ورقمه (2740) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما .
[35][35] ـ رواه مسلم ورقمه (2742) .
[36][36] ـ انظر : مجلة أقرأ عدد (208) .
[37][37] ـ انظر : مجلة أقرأ (208) .
[38][38] ـ انظر المسابقات وأحكامها في الشريعة الإسلامية ص 155
[39][39] ـ رواه أحمد ورقمه (6/264) وإسناده صحيح .
[40][40] ـ رواه الترمذي ورقمه ( 2012) و قال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
[41][41] ـ انظر على سبيل المثال : مجلة ( الفرح ) عدد (81) فقد بدت صورة الفتيات بملابس رياضية فاضحة ، أضف إلا ذلك الاختلاط الموجود !!! .
==============(6/145)
(6/146)
فتنة مسايرة الواقع
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإن من علامة توفيق الله عز وجل لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته الدنيا ؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه ، أو تزل قدمه بعد ثبوتها ، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن ، ويجأر إلى ربه عز وجل في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسُّنَّة غير مبدل ولا مغير .
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقق بعضها بعضاً ، وما إدخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن ، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن ، ولم ينج منها إلا من ثبته الله عز وجل وعصمه . نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم .
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها ، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات ، ومراعاة رضا الناس وسخطهم ، وهي فتنة لا يستهان بها ؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها ، والموفق من ثبته الله عز وجل كما قال تعالى : (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ) [إبراهيم : 27] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذه الآية : ( تحت هذه الآية كنز عظيم ، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ، ومن حرمه فقد حرم ) [1] .
وإذا كان الرسو صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه تبارك وتعالى : ( ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [الإسراء : 74] فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه تعالى ، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق وهو الله سبحانه وتعالى .
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى :
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار عياذاً بالله تعالى؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاؤوا من بعدهم من مشركي العرب ، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم السلام عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين ، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض بعضهم بعضاً بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم . وسجل الله عز وجل عن قوم نوح عليه الصلاة والسلام قولهم : (مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ) [المؤمنون : 24] .
وقال تعالى عن قوم هود : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) [الأعراف : 70] ، وقال تبارك وتعالى عن قوم صالح : (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) [ هود : 62] .
وقال سبحانه وتعالى عن قوم فرعون : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) [يونس : 78] ، وقال عن مشركي قريش : ( وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) [البقرة : 170] والآيات في ذلك كثيرة ، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك ، وقد بين الحق للناس ؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس ، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين ، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسو صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأنمحمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم ؟ نعوذ بالله تعالى من الخذلان .
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن من أهم الأسباب مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه، وكذلك الحال في سائر الناس المقلدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة لو بان لأحدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم ، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله تعالى شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسو صلى الله عليه وسلم : ( من التمس رضا الله في خط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) [2] .(6/147)
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة ، ومن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى : ( فكذلك صاحب الهوى إذا ضل قلبه وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه ) [3] .
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر ، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمةعن مسايرة الركب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساؤوا . ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه ؛ حيث قال : (لا تكونوا إمَّعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا ؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤوا فلا تظلموا ) [4] .
قال الشارح في تحفة الأحوذي : (الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك ؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه ، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان ) .
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله عز وجل وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة ؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفسدين وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسو صلى الله عليه وسلم : ( يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر ) [5] .
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه المستعصي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما ألفه الناس ، ويكفي في ذلك قول صلى الله عليه وسلم : ( فإن من ورائكم أيام الصبر . الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله وزادني غيره قال : يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم ) [6] .
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم ، وأخص بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة :
إن أهل العلم والدعاة إلى الله عز وجل لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة ؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور .. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات إرضاءاً للناس أو اتقاءاً لسخطهم أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل أو بغير تأويل ، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره ؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره ، وذلك بخلاف العالم أو الداعية ؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره ؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية .
إن الدعاة إلى الله عز وجل وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن الله تعالى فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها ؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم ، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسعى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله .
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها ، فهذه والله هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم ، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية ، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء الناس .(6/148)
إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن ، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة ؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله تعالى في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله عز وجل . وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول : ( وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه : تقيمه وتقعده ، ويحلم بها في منامه ، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري ؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها ، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب ، وينتهي باستجابة لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل العقيدة .
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي ، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها .
وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه ، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف ؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط ؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها فهذا تبذير للأموال ووضعها في غير موضعها والتبذير محرم في عرف الشرع ، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) [7] .
ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن .
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم ، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها ، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول ؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم .
وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا ، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط ، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه [8] .
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم ، ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله عز وجل نسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم ، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر وما أبرئ نفسي .
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي :
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية
وذلك أنه قد ظهرت في حياة الناس ومن سنوات عديدة كثير من العادات والممارسات الاجتماعية المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام الآثم على تزيينها للناس فوافقت قلوباً خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة ،ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع ، ومن أبرز هذه العادات والممارسات :
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار أمراً مألوفاً وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعاة وأهل العلم ، مع أن بعض هؤلاء الخدم كفرة أو فَسَقَة ، وأكثر الخادمات هن بلا محارم ، وخضع الناس للأمر الواقع ، وأصبحت ترى من ابتُلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر ولا أجنبيات ، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن ، وكذلك الحال مع الخادمين والسائقين ؛ حيث قد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم، وكأنهم مما ملكت اليمين ، وكل هذا ويا للأسف بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ ، وإذا نُصح الولي في ذلك قال : نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا ، ومن الصعب مقاومة ضغط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم وجيرانهم ! !(6/149)
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله ، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة .
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة ، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل ... إلخ . ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه ، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم أو اتقاءاً لسخطهم .
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل ممن رحم الله عز وجل من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله عز وجل فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد ، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر ، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل وتنكرها المروءة والغيرة ، وكأن الأمر تحول والعياذ بالله تعالى إلى شبه عبودية لبيوت
الأزياء ، يصعب الانفكاك عنها .
وعن هذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى : (هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً .هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم ، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها : أزياء الصباح ، وأزياء بعد
الظهر ، وأزياء المساء ، الأزياء القصيرة ، والأزياء الضيقة ، والأزياء المضحكة ! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ : من الذي يصنعه ؟ ومن الذي يقف وراءه ؟ تقف وراءه بيوت الأزياء ، وتقف وراءه شركات الإنتاج ! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها ! ) [9] .
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل
بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع ؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس ؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام ، لكن ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن ، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً .
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة . وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع ، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة ، أو يحتجون بقواعد الضرورة أو رفع الحرج أو الأخذ بالرخص ... إلخ ، ولا يخفىما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع ، والتحلل من أحكام الشريعةشيئاً فشيئاً ، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه .
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [10]ويقول أيضاً : ( إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه ... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة ،وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها ) [11] .(6/150)
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم ؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ( يحرم عليه أي على المفتي إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصودة ؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم ، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع ، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع ، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم ! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه ، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم ، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق ! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل ! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك ) [12] .
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها :
وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس ويبطؤ نصر الله عز وجل ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين ، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح ، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين ، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها بزعمهم مصالح كبيرة ! ! وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع ؛ فلا مصلحة ظاهرة
حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله عز وجل نبي صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير ؛ وذلك في قوله تعالى : ( وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) [الإسراء : 73 - 75] .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسو صلى الله عليه وسلم وأولها :
محاولة فتنته عما أوحى الله إليه ، ليفتري عليه غيره ، وهو الصادق الأمين .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى منها : مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم ، ومنها :
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله ،
ومنها : طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها ، ليذكِّر بفضل الله على الرسو صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق ، وعصمته من الفتنة . ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً ، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه ، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله .
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً ، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها ، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة ، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته ؛ لأنه يرى الأمر هيناً ؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية ، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق .
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها ! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق ، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلاً، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة ؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء ! [13] .
4- مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين :(6/151)
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول ويطول [14] ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفتنة وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة ؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر ، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من شرع الله عز وجل باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد أعمى وانبهار بإنجازاته المادية بل الهزيمة النفسية أمامه ؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم ، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره ، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك ؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد ! ! ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله : (هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري ) [15] .
ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول : ( لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام ؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب ؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة والأحاديث النبوية المتواترة قالوا : إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة ، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية ،ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق ! !
إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه .
ومن شذوذاتهم :
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار ، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك .
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب .
3 - موقفهم من المرأة ، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم ، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات ، يقول محمد عمارة : ( إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية ) والترابي يقصر الحجاب على نساء صلى الله عليه وسلم ، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها .
5- أحكام أهل الذمة :
كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا ! ! ) [16] .
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً : ( إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى ) .
ولذلك فإن التجديد عندهم يعني : هدم العلوم المعيارية : أي علوم التفسير المأثور وأصوله ، وعلم أصول الفقه ، وعلم مصطلح الحديث .
ويعني : رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر .
ويعني : رفض السنة غير التشريعية أي : فيما يخص شؤون الحكم والسياسة وأمور الحياة والمجتمع عموماً .
التجديد عندهم يعني : الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية ، التي تحقق الحرية والتقدم ، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة .
- الاجتهاد والتجديد عندهم يعني : تحقيق المصلحة وروح العصر [17] .
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً ، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة .
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها :
إن لمسايرة الواقع وما ألفه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لها الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره ، ومن أخطر هذه الآثار ما يلي :
1- الآثار الدنيوية : وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية وذوبان الشخصية الإسلامية ، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده ، وهذه كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة بخلاف المستسلم لشرع الله عز وجل الرافض لما سواه المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا سعيداً قانعاً مطمئناً ينظر : ماذا يرضي ربه فيفعله ، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم .(6/152)
2- الآثار الدينية : وهذه أخطر من سابقتها ؛ وذلك أن المساير لواقع الناس المخالف لشرع الله عز وجل يتحول بمضيِّ الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها ، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله عز وجل لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع ، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة ؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى ؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران أعاذنا الله من ذلك ؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها ، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها ؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [18] : وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى ، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى ، قال تعالى : (ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيما) [النساء : 66 - 68] وقال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [العنكبوت : 69] وقال تعالى : ( والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ * ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) [محمد : 4 - 6] ، وقال تعالى : (ثم كان عاقبة الذين أساؤٍوا السوأى ) [الروم : 10] ، وقال تعالى : ( كِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) [المائدة : 15 ، 16]، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ ) [الحديد : 28] ، وقال تعالى : (وفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) [الأعراف : 154] .
وما أجمل ما قاله سيد قطب رحمه الله تعالى في النقل السابق حيث قال : ( ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق ، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة ؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء ) .
الآثار الدعوية :
إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس ، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها ؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره ؟ ! وكلما كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون ؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة :
إنه لا ينجِّي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله عز وجل وقد قال لنبيه ومصطفا صلى الله عليه وسلم : ( ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [الإسراء : 74] فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله عز وجل وصدق العزيمة والأخذ بأسباب الثبات ومنها :
1- فعل الطاعات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قال عز وجل : ( ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً) [النساء : 66] فذكر سبحانه في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر وترك النواهي ، ويشير الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول : (فالخلق كلهم قسمان : موفق بالتثبيت ، ومخذول بترك التثبيت . ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أُمِر به العبد ، فبهما يثبِّت الله عبده ؛ فكل ما كان أثبت قولاً ، وأحسن
فعلاً كان أعظم تثبيتاً قال تعالى : ( ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً ، والقول الثابت هو القول الحق والصدق ) [19] .
2- مصاحبة الدعاة الصادقين الرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في الدعوة إلى الله تعالى وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم ، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل ناعق ، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه ؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة .
3- التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله عز وجل لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها ، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف .(6/153)
والمقصود : أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله تعالى . وينبغي على طالب العلم الشرعي والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع ، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس وتلمس الرخص والآراء الشاذة لهم .
4- إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير لأن السكوت على المخالفات وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات ومسايرة الناس فيها .
________________________
(1) بدائع التفسير ، 3/17 .
(2) رواه الترمذي ، ح/ 2338 .
(3) الموافقات للشاطبي ، 2/ 268 .
(4) تحفة الأحوذي ، 6/145 ، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب .
(5) رواه الترمذي ، ح/ 2186 .
(6) أخرجه أبي داود ، ح/ 3778 ، والترمذي في تفسير القرآن 2984 ، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004 .
(7) رواه الترمذي ، ح/ 2338 .
(8) في سبيل الدعوة الإسلامية ، للعلامة محمد أمين المصري ، ص 39 43 (باختصار) .
(9) في ظلال القرآن ، 2/ 1219 .
(10) الموافقات ، 2/ 128 .
(11) المصدر السابق ، ص / 247 .
(12) إعلام الموقعين ، 4/ 229 .
(13) في ظلال القرآن ، 3/ 245 .
(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع وكيف نشأ ومن هم رموزه فليرجع إلى كتاب : (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب) ، للأستاذ محمد حامد الناصر .
(15) العصرانية في حياتنا الاجتماعية ، ص 22 .
(16) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (بتصرف واختصار) .
(17) المصدر السابق ، ص 353 ، 354 .
(18) الفتاوى ، 14/245 .
(19) بدائع التفسير ، 1/17 .
مجلة البيان / العدد - 147التاريخ- ذو القعدة /1420 هـ .
=================(6/154)
(6/155)
الفيديو كليب العربي: 77% جنس و70% تغريب
2004/05/10
…
صابر مشهور **
دراسة الهوية العربية كما تعكسها أغاني الفيديو كليب (شاهد النتائج)
كشف مؤتمر عقد بالقاهرة عن وجود علاقة كبيرة بين أغاني الفيديو كليب ومحاولات العولمة التي تروج لنمط الحياة الغربية بشكل متعمد، وأظهر مؤتمر "الإعلام المعاصر والهوية الوطنية" الذي عقدته كلية الإعلام جامعة القاهرة في القترة من "4-6 مايو 2004 ارتفاع معدلات مشاهدة الشباب لأغاني الفيديو كليب؛ حيث أكد بحث أجراه الدكتور حسن علي بكلية آداب جامعة المنيا بعنوان "استخدامات الشباب الجامعي للقنوات الغنائية" أن 100% من الشباب الذين شملتهم العينة يشاهدون نانسي عجرم وإليسا رغم عدم قناعتهم بمشاهدتهما، في حين أكد 17% فقط من العينة متابعتهم لأغاني هاني شاكر. في الوقت الذي كشفت فيه الدراسة عن أن 40% ممن شملتهم العينة يتابعون أغاني الفيديو كليب رغما عن أسرهم.
وأكد الدكتور عاطف العبد الأستاذ بكلية الإعلام في كلمته بالمؤتمر (1)-(2) أن دراسات ميدانية أجريت على 100 أغنية شبابية احتوت على 7573 لقطة اتضح أنها تتضمن 2056 لقطة بها مشاهد راقصة، و1409 لقطات تركز على المناطق المثيرة، و2400 لقطة قريبة من مناطق مثيرة، و146 لقطة تلامس، و126 تشتمل على عناق.
في الوقت نفسه أظهر بحث للدكتور أشرف جلال المدرس بإعلام القاهرة بعنوان "الهوية العربية كما تعكسها أغاني الفيديو كليب وانعكاساتها على قيم الشباب (1)-(2)" أنه بتحليل 364 أغنية بثتها قنوات مزيكا، وروتانا، وأبو ظبي، ودريم1، والفضائية المصرية، والأولى المصرية بلغت نسبة اللقطات المثيرة 77%، والتي تتمثل في الرقص والحركة بنسبة 51%، وفي الملابس بنسبة 22%، وبإيماءات الوجه بنسبة 10%، وبالألفاظ بنسبة 10%، وفي فكرة الأغنية بنسبة 5%.
وأشارت الدراسة أيضا إلى أن عينة الأغاني تعكس البيئة الغربية بنسبة 70%، والبيئة العربية بنسبة 30%. وبلغت نسبة الرسائل بين الجنسين على قناة روتانا 76%، والتهنئة الأسرية 20%، والرسائل المتبادلة لنفس النوع 19%.
وغلبت القيم السلبية على القيم الواردة في الأغاني بنسبة 58%، منها نسبة 33% لقيم الخيانة، و25% للغدر، و22 للتجاهل وعدم التقدير، و5% للكراهية. بينما بلغت نسبة القيم الإيجابية 22% فقط، منها 31% عن الحب، 20% للوفاء، 13% للإخلاص، 13% للانتماء.
شباب فلسطين والفيديو كليب
ومن جانب آخر أظهرت دراسة عن مشاهدة الشباب الفلسطيني للقنوات الفضائية أن قناة الجزيرة هي القناة المفضلة لدى 65% من الشباب الفلسطيني الذين شملتهم العينة؛ بسبب اهتمامها بالأخبار والأوضاع السياسية بالمنطقة، فيما اعتبر 35% منهم أن القنوات الغنائية هي القنوات المفضلة لديهم، وعلى رأس هذه القنوات قناة MBC بنسبة 13%.
وأوضحت الدراسة التي قدمها د.حسين أبو شنب عن "اتجاهات الشباب الفلسطيني نحو الأغاني المصورة وعلاقتها بالهوية الفلسطينية" أن 33% من الشباب الفلسطيني المشمولين بالعينة لا يشاهدون القنوات الفضائية، و50% يشاهدونها أقل من ساعة، و27% يشاهدونها أكثر من ساعة.
وفسر الشباب الفلسطيني عدم مشاهدتهم القنوات الفضائية بسبب مخالفتها الإسلام بنسبة 35.5%، بينما أرجع 34% من العينة عدم المشاهدة إلى عدم الاقتناع بهذه القنوات، وأرجع 17% السبب لعدم الاهتمام بهذا اللون من القنوات، بينما اعتبر 10% من العينة أنها إضاعة للوقت.
وأظهرت الدراسة أن الشباب الفلسطيني لا يرغب في مشاهدة الأغاني المصورة (الفيديو كليب) على التلفزيون الفلسطيني. وجاءت قناة ميلودي في المركز الأول بنسبة 49% من متابعي الأغاني المصورة على الفضائيات، وروتانا بنسبة 21%، ودريم (1) بنسبة 12.5%.
يذكر أن المؤتمر أصدر توصيات بعمل ميثاق شرف إعلامي جديد للحد من الآثار السلبية التي تخلفها أغاني الفيديو كليب، وإنشاء مرصد إعلامي تكون مهمته متابعة ما تبثه الفضائيات من أغان وتنبيهها بالأخطاء المخالفة لميثاق الشرف الإعلامي.
============(6/156)
(6/157)
الفيديو كليب والجسد والعولمة *
2004/04/15
…
د . عبد الوهاب المسيري**
الفيديو كليب هو فيلم سينمائي قصير يحتوي على أغنية ، ورقص ، وشيء يشبه التمثيلية . كنا نستمع في الماضي للأغنية فنتأمل في كلماتها ولحنها وصوت المغني أو المغنية ثم نحكم عليها . وكانت معظم الأغنيات تتحدث عن الحب بين الرجل والمرأة (وبالعكس ). ومع هذا كان هناك أنواع أخرى من الأغاني : فكان هناك أغنية أو اثنتان تتحدث عن الأم ، أو عن علاقة الأم بابنتها ، أو عن الطبيعة ، أي عن علاقات إنسانية خارج إطار موضوع الحب بين الرجل والمرأة ، كما كان هناك أغان بالفصحى لبعض كبار الشعراء مثل شوقي ، والأخطل الصغير ، وإبراهيم ناجي .
ومن أحسن الأغنيات التي أتذكرها في هذا المضمار أغنية تسلم إيدين اللي اشتري لعبد المطلب ، وأغنية الصباح الجديد لعبد العزيز محمود ، وهي من شعر أبي القاسم الشابي وتلحين مدحت عاصم ، (ويبدو أن هذه الأغنية الرائعة قد فقدت حتى من أرشيف الإذاعة . ولعل أحد هواة التسجيلات القديمة عنده نسخة يرسلها للإذاعة لتحتفظ بها ، وربما لإحيائها )، وأغنية أسمهان ليالي الأنس في فيينا ، وطبعا لا يمكن أن ننسى بعض أغاني عبد الحليم حافظ مثل لا تلمني، وهذا التنوع كان يوجد بشكل ملحوظ في أغاني فيروز ، ولا يزال يسم أغنيات ماجدة الرومي، وإلى جانب هذا التنوع في الموضوعات ، كان هناك تنوع في أشكال الأغنية.
فكان هناك المونولوج الكوميدي (إسماعيل ياسين ـ ثريا حلمي )، وأغاني الديالوج التي اشتهر بها محمد فوزي ، والأوبريتات (مجنون ليلي )، وأغاني الأفلام غزل البنات وأغاني التمثيليات الإذاعية عوف الأصيل . وبالطبع كانت هناك الأغاني الوطنية التي كنا نسمعها طوال العام (وليس في يوم واحد في السنة لتذكرنا بما مضى !). كما كان هناك أغان دينية مثل أغنية فايدة كامل الشهيرة إلهي ليس لي إلاك عونا ، وأغنية أسمهان عليك صلاة الله وسلامه .
هذا التنوع اختفي تقريبا تماما ، فأغاني الفيديو كليب تنحصر في النوع الأول ، أي أغاني الحب بين الرجل والمرأة . ولكن يلاحظ أن الفيديو كليب لم يترك هذه الأغاني على حالها ، ففي الماضي مثل هذه الأغاني كانت مبهمة ومركبة ومتنوعة . انظر على سبيل المثال الأدوار القديمة مثل : كادني الهوى ، وغزال تركي ، وصلاة الزين ، وأغنية محمد قنديل يا غاليين عليا يا أهل إسكندرية، أو أغنية عبد العزيز السيد البيض الأمارة والسمر الحيارى ، وأغنية محمد العزبي عيون بهية ، وأغنية محمد رشدي قولوا لمأذون البلد ييجي يتمم فرحتي ، وأغنية نجاة الصغيرة كلمني عن بكرة وابعد عن امبارح ، وأغاني ليلي مراد (بحب اتنين سوى ـ شفت منام واحترت أنا فيه ـ الحب جميل للي عايش فيه )، وأغاني محمد عبد الوهاب (جفنه علم الغزل ـ عاشق الروح ـ الخطايا ) وأغاني عبد الحليم حافظ (سمراء ـ وأنا كل ما أقول التوبة يا بوي ) وأغاني أسمهان (دخلت مرة الجنينة ـ يا طيور )، وأم كلثوم (ما دام تحب بتنكر ليه ـ الأطلال ـ حانت الأقدار ).
فالفيدو كليب يؤكد جانبا واحدا من الأغاني وهو الجانب الجنسي . فالراقصات لا يتركن أي مجال لخيال المشاهد
ومثل معظم أغاني الحب بين الرجل والمرأة كانت معظم هذه الأغنيات تتضمن إيحاءات وإيماءات ورموزا جنسية ، أقول : إيحاءات وإيماءات ورموزا وحسب ، لأن البعد الجنسي كان دائما مستوعبا في أبعاد أخرى رومانسية ، وفي الصور المستخدمة أو في خلفية الأغنية (باستثناء بعض الأغنيات مثل ما قال لي وقلت له ، ومال لي وملت له لفريد الأطرش (والتي منع النحاس باشا رحمه الله إذاعتها ). كل هذا الإبهام والتركيب والتنوع اختفى تقريبا تماما ، فالفيدو كليب يؤكد جانبا واحدا من الأغاني وهو الجانب الجنسي . فالراقصات لا يتركن أي مجال لخيال المشاهد ، والصورة عادة أقوى من الكلمة ، فالكلمة (المجردة ) توجد مسافة بينها وبين المتلقي ، الأمر الذي يسمح له أن يتأمل في معناها ويتمعن في مغزاها ، أما الصورة (خاصة إذا كانت صورة حسناء نصف أو ربع عارية تقفز وتحرك كل ما يمكن تحريكه في جسدها بصورة غير موضوعية أو محايدة ).
نقول إن الصورة حسية ومباشرة ولا تترك مجالا للعقل أن يتأمل ، أو للجهاز العصبي أن يستريح قليلا ، بل تقتحم الإنسان اقتحاما . (هل يمكن أن تتصور أغنية مثل كادني الهوى أو دخلت مرة الجنينة وقد تحولت إلى فيديو كليب من النوع الجديد الراقص؟ ) .
مما يساعد الفيديو كليب على اقتحامنا ما أسميه الرقص الأفقي ، فكلنا يعرف الرقص الرأسي(6/158)
وبعد دراسة متأنية للفيديو كليب استغرقت ساعات طويلة لذيذة أمام التليفزيون أقلب من قناة راقصة إلى أخرى أكثر عريا ، اكتشفت أنه مما يساعد الفيديو كليب على اقتحامنا ما أسميه الرقص الأفقي ، فكلنا يعرف الرقص الرأسي ، وألفناه ، فقد شاهدناه في الأفلام وفي الفنادق (الخمس نجوم ) والكباريهات التي بلا نجوم ، ولكنه كان رقصا رأسيا دائما ، أما الرقص الأفقي فهو مختلف تماما إذ تنام الراقصة / المغنية على الأرض (وهي نصف أو ربع عارية ثم تحرك ما يمكن تحريكه في جسدها بصورة غير موضوعية أو محايدة ) لأسباب لا تغيب عن بال أي مشاهد . هذا الرقص أكثر وقعا وتأثيرا ، وهو يدهشنا تماما ، مما يجعلنا نستسلم لإغواء الصورة ونرفع الرايات البيضاء والخضراء والحمراء وكل الألوان الأخرى ، إذ كيف يمكن للمشاهد أن يتفكر أمام هذه الصور الملونة بالألوان الطبيعية وغير الطبيعية لهذه الحسناء المتحركة الأفقية .
والرقص البلدي يهدف للإثارة الجنسية بشكل واضح وصريح ، ولكننا كنا لا نراه إلا في الأفلام وفي الأفراح والليالي الملاح ، فهو جزء من عالم العوالم ، أي أننا كنا نعرفه بوصفه جزءا من عالم مستقل عن عالمنا ، قد نتمتع به وقد نرفضه ، ولكن في كلتا الحالتين هو ليس جزءا من عالمنا (حاولت سعاد حسني في خللي بالك من زوزو أن توسع من الإمكانات التعبيرية للرقص البلدي ، إذ قدمت مرثية عالم أمها الراقصة التقليدية من خلال رقصة حزينة في حين كان شفيق جلال يغني أغنية لا تبكي يا عين على اللي فات ولا اللي قلبه حجر ).
وفي تصوري أن هذه كانت المحاولة الأولى والأخيرة لفصل الرقص البلدي عن الإثارة الجنسية . وما تفعله الفيديو كليبات هو عكس ذلك تماما ، وتحاول إجازته من خلال عشرات الراقصات (الروسيات والمصريات والهنديات ... إلخ ) المتحركات ! ولكن الأهم من كل هذا هو ما أسميه عملية تطبيع الرقص والإثارة ، فالرقص يقدم في الفيديو كليب على أنه جزء من صميم حياتنا العادية اليومية . وبدل أن تذهب إلى الكباريهات جاءت هي إلينا . ولعل هذا ما حققه شريف صبري في أغنية روبي الأولى "إنت عارف ليه" حين ظهرت تسير في الشارع بشكل عادي جدا ببدلة الرقص ، ثم ظهرت بملابس عادية ، واستمرت في نفس الرقص البلدي .
إن عملية التطبيع هذه تحول راقصة الفيديو كليب إلى جزء من حياتنا اليومية العادية
ولكن نلاحظ أن الرقص البلدي هنا ليس رقص المحترفات وإنما يشبه الرقص الذي ترقصه بنات الناس الطيبين في الاجتماعات العائلية ، وبذا يتم هدم الحواجز بين حياتنا اليومية والرقص البلدي ، ويتم تطبيعه تماما . (ولعله لهذا السبب فشل الفيديو كليب الأخير للوسي ، فهو ينتمي لعالم الكباريهات الخالص ). ثم تم تعميق هذا الاتجاه في أغنية روبي الثانية ليه بيداري كده ، فهي تظهر بملابس رياضية وبفستان سهرة وبملابس تشبه ملابس فتيات المدارس المراهقات ثم ملابس أرملة ، ولكنها داخل كل هذه الملابس العادية تقوم بحركات أقل ما توصف به أنها غير عادية فهي حركات كده . وحتى لا يتوه المعني المقصود انظر إلى اللقطة الأخيرة في هذا الكليب . ويتم تأكيد هذا الاتجاه نحو التطبيع في الجزء الأخير من ليه بيداري كده فهو عبارة عن هوم فيديو ، أي فيديو عادي ، منزلي ، تظهر فيه روبي مرتدية ملابس عادية ، وتذهب إلى الكوافير ، عادي ، بل ويظهر وجهها في إحدى اللقطات في غاية البراءة (وليس كده ) وتبتسم وبراءة الأطفال في عينيها (وإن لم يمنع الأمر أن تذكرنا بعالم الرقص في لقطة عابرة من الهوم فيديو ). إن عملية التطبيع هذه تحول راقصة الفيديو كليب إلى جزء من حياتنا اليومية العادية ، وربما قدوة يقتدي بها أو مثلا أعلى يحتذى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله !
وهنا سيطرح الكثيرون علي هذا السؤال : لماذا تكتب عن هذه الأمور؟(6/159)
والرد بسيط للغاية ، هو أن مثل هذه الأمور تؤثر في الملايين ، وهي تبين مدى تغير إدراكنا لأنفسنا ولما حولنا ، ولوظيفة العواطف والجسد والجنس (وهي أمور من صميم وجودنا الإنساني ) . أذكر أنني حينما عدت من الولايات المتحدة أوائل السبعينيات ، كان أولادي يعرفون أقل من القليل عن الثقافة الشعبية المصرية بسبب نشأتهم في الولايات المتحدة . ثم فوجئت بابني الذي كان لا يزيد عمره على أربع سنوات يغني أغنية يا واد يا تقيل فقررت أن أعرف الحكاية حتى أعرف ماذا يحدث له ، وماذا يحدث للمجتمع المصري ككل !! وذهبت إلى فيلم خلي بالك من زوزو وشاهدته ومعي قلمي وأوراقي ، وكتبت دراسة نشرتها جريدة الأهرام في حينها بعنوان تأملات في الواد التقيل والقلب الكاروهات، حيث أشرت إلى المنظر الذي تقول فيه سعاد حسني : وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا كده أي أنها قررت أن تكون فاعلا لا متلقيا سلبيا . ثم شاهدت بعد سنتين مسلسلا تليفزيونيا يسمى مغامرات المعلم عماشة فكتبت مقالا في الطليعة بعنوان بين أحزان فاتن حمامة وأفراح المعلم عماشة، وقد بينت ساعتها أن أفلام فاتن حمامة كانت تمييزا واضحا بين فاتن حمامة ( العذراء ) وميمي شكيب ( الغانية ) ولكن المسلسل السابق ذكر كسر الحواجز بين الاثنين ، ففي أحد المناظر يجلس المعلم عماشة بين صحفية وراقصة ويعنبر لهما (أي يقبلهما حسب لغة المسلسل ) الواحدة بعد الأخرى ، وهنا يمكن أن نتساءل : هل هناك متتالية حلقاتها مترابطة بدأت بالمعلم عماشة ثم وصلت إلى روبي وأخواتها؟ وهل هذه المتتالية حتمية ، أم أننا يمكننا أن نفعل شيئا ما لنوقفها عن التحقق إن أردنا ذلك؟
إن الثقافة الشعبية ( والفيديو كليب من أهم أشكالها الآن ) تؤثر فينا ولا يمكن أن تترك مثل هذه الأمور لمقاولي الفنانين دون دراسة أو تحليل .
والمتعة في حالة الفيديو كليب متعة أساسا جنسية ولذا فهي متعة بسيطة أحادية تستبعد عالم الموسيقى والطرب وجمال الطبيعة وكل العلاقات الإنسانية الأخرى .
وهنا قد يطرح علي قارئ ماكر سؤالا آخر ، ألا تتمتع برؤية الفيديو كليب؟ والرد هو نعم أتمتع بها ، ولعل القارئ قد لاحظ أن وصفي للراقصات لم يكن محايدا أو موضوعيا ، فقد أشرت إلى أنهن حسناوات رقيقات لذيذات يتحركن رأسيا وأفقيا بشكل مستمر يثير الدهشة ويدير الرأس ( بما في ذلك رأسي بطبيعة الحال ) ويمكن أن أتحدث عن الديكور والماكياج وما يرتدين ( أو لا يرتدين ) من ملابس . يمكن أن أتحدث عن كل هذا بعين خبير غير متخصص ، ولكن هل القضية هي مدى ما يقدمه الفيديو كليب من متعة؟ ألا يتضمن السؤال تحيزا واضحا للمتعة الفردية وكأنها الهدف الوحيد من الحياة ، وكأن حياة الإنسان لا يوجد فيها أبعاد أخرى ، وكأن الفرد ( ومقدار ما يحصل عليه من لذة من خلال المشاهدة ) هو المرجعية الوحيدة والمطلقة . ولكن ماذا عن المجتمع والأسرة ، أليس من المفروض أن تكون الوحدة التحليلية هي المجتمع وتوجهه ومصلحته ، والأسرة وتماسكها ، وليس الفرد ولذته ومتعته؟ أوليس من حقنا كبشر (والإنسان كائن اجتماعي بالدرجة الأولى ) أن نطرح أسئلة أخرى تتناول جوانب أخرى من حياة البشر؟ وقد لاحظت أن كل من تناول ظاهرة الفيديو كليب قد ركز على ظاهرة العري وعلى "كده" وأنا بطبيعة الحال أتفق معهم في الرأي بخصوص العري والإباحية ، وبخصوص "كده" ولكنني أرى أن هذا يمثل جانبا واحدا من القضية ، إذ يمكننا أن نسأل عن أثر الفيديو كليب على نسيج المجتمع وعلى بناء الأسرة ، فالفيديو كليب لا يقدم مجرد أنثى تغني وترقص وتتعرى وتتلوى، بل إنه يعبر عن رؤية كاملة للحياة ، نقطة انطلاقها ـ كما أسلفنا ـ هو الفرد الذي يبحث عن متعته مهما كان الثمن .
والمتعة في حالة الفيديو كليب متعة أساسا جنسية ولذا فهي متعة بسيطة أحادية تستبعد عالم الموسيقى والطرب وجمال الطبيعة وكل العلاقات الإنسانية الأخرى . والفيديو كليب بتركيزه على هذا الجانب وحده يسهم في تصعيد السعار الجنسي (في مجتمع فيه أزمة زواج ) ولكن من المعروف أن تصعيد السعار الجنسي مرتبط تماما بتصعيد الشهوات الاستهلاكية ، وهذا ما أدركته تماما صناعة الإعلانات التليفزيونية ، فمعظم الإعلانات تلجأ إلى الجنس لبيع السلع ، فالسعار الجنسي يفصل الفرد عن مجتمعه وأسرته ، وعن أي منظومة قيمية اجتماعية ، فيحاول تحقيق ذاته من خلال منظومة المتعة الفردية والمنفعة الشخصية ، والتي تترجم نفسها عادة إلى استهلاك السلع والمزيد من السلع (في مجتمع تعيش غالبيته إما تحت خط الفقر أو فوقه ببضعة سنتيمترات وجنيهات خاصة بعد ارتفاع سعر الدولار ) .(6/160)
إن الفيديو كليب يختزل الأنثى (والإنسان ككل ) إلى بعد واحد هو جسده ، فيصبح الجسد هو المصدر الوحيد لهوايته ، وهي هوية ذات بعد واحد لا أبعاد لها ولا تنوع فيها (ومن هنا التكرار المميت في الفيديو كليب )، ولنقارن كده التي تقولها سعاد حسني بـ كده التي تقولها روبي بجسدها ، فكده التي قالتها سعاد حسني كانت عبارة عن إعلان استقلال الفتاة المصرية ورفضها أن تكون كائنا سلبيا في علاقتها بالرجل الذي تحبه ، فزوزو لا تبكي ولا تنهزم حينما تقع في غرام البطل وإنما تهز رأسها بطريقة غزلة لعوب وتقول : يا واد يا تقيل ، ثم تقرر اصطياده ، وتنط كما الزمبلك من كنبة لكرسي لترابيزة وتغني أغنية الأنثى الجديدة ، فتصف صاحبنا بأنه بارد كجراح بريطاني، هادي وراسي وكأنه أمين شرطة أو دبلوماسي (وكلاهما صاحب سلطة ومكر ودهاء ) وهو متحفظ للغاية يرد بالقطارة فكأنه الرجل الغامض (الشخصية الروائية الأفرنجية غير الحقيقية )، ويسير كأنه تمثال رمسيس الثاني (الفرعون المغرم بالتماثيل الضخمة ). والإشارات هنا تدل كلها على الذكورة والفحولة والضخامة والسيطرة ، ولكن السياق والنبرة العامة للأغنية يدلان على أن الغرض من التضخيم ليس التفخيم وإنما فضح ادعاءات الرجل المصري عن نفسه ، ولذلك فكل صور الفخامة تسبقها عبارات مثل ما تقولشي وبسلامته واسم الله ، وهي عبارات تشككنا في جدية هذه الصور وتحول الذكر الضخم إلى طفل صغير تتلاعب به هذه الأنثى الحقيقية . وحينما يقف أبو شوارب ويعلن أن الكون مش قد مقامه وأنه أطول واحد في الحارة نعرف أنه ضحية مؤامرة تشهير ضخمة وأن الفتاة الزمبلك قد نصبت له فخا ، وأوهمته أنه الصياد المفترس التقيل ، وهو في واقع الأمر ليس سوى صيدة سهلة ولقمة سائغة ، إنها تعلم أنه لا داعي للمقاومة فهو لن يغلبها رغم ضخامته الأسطورية ورغم ثقله التاريخي . كل هذا يقف على طرف النقيض من كده في أغنية روبي ، فهي إعلان أن الفتاة إن هي إلا جسد متحرك لذيذ ، واللي ما يشتري يتفرج . إنها في نهاية الأمر مفعول به ، رغم جاذبيتها الجنسية التي لا يمكن إنكارها ! (لماذا لم تتحرك حركات تحرير المرأة لامتهان الأنثى بهذه الطريقة؟ )
والإنسان الجسماني الاستهلاكي المنشغل بتحقيق متعته الشخصية يدور في دائرة ضيقة للغاية خارج أي منظومات قيمية اجتماعية أو أخلاقية ، ولذا نجد أن ولاءاته للمجتمع وللأسرة تتآكل بالتدريج ، كما أن انتماء مثل هذا الشخص لوطنه ضعيف للغاية إن لم يكن منعدما.
يمكننا أن نضع الفيديو كليب في سياق أوسع ، وهو سياق العولمة، فجوهر العولمة هو عملية تنميط العالم بحيث يصبح العالم بأسره وحدات متشابهة
والآن انظر لخلفية الفيديو كليب ستجد أنها لا أرض لها ولا وطن ، فأحيانا الخلفية هندية ، وأحيانا أخرى أمريكية ، وثالثة أوروبية ، والبنات في معظم الأحيان شقراوات ، وحتى لو كن من بنات البلد فما يرتدينه (أو لا يرتدينه ) من ملابس لا علاقة له بما نعرفه في حياتنا . كما أن أبطال الفيديو كليب عادة يركبون سيارات فارهة وأحيانا يظهرون في قصور ، وكل هذا بطبيعة الحال يصعد الشهوة الاستهلاكية ويضعف الانتماء .
بعد كل هذه المقدمات يمكننا أن نضع الفيديو كليب في سياق أوسع ، وهو سياق العولمة، فجوهر العولمة هو عملية تنميط العالم بحيث يصبح العالم بأسره وحدات متشابهة ، هي في جوهرها وحدات اقتصادية تم ترشيدها ، أي إخضاعها لقوانين مادية عامة مثل قوانين العرض والطلب، والإنسان الذي يتحرك في هذه الوحدات هو إنسان اقتصادي جسماني لا يتسم بأي خصوصية ، ليس له انتماء واضح ، ذاكرته التاريخية قد تم محوها ، وإلا لما أمكن فتح الحدود بحيث تتحرك السلع ورأس المال بلا حدود أو سدود أو قيود .
فالخصوصيات الثقافية والأخلاقية تعوق مثل هذا الانفتاح العالمي ، وفي غياب الانتماء والهوية والمنظومات القيمية والمرجعيات الأخلاقية والدينية تتساوى الأمور ، ويصبح من الصعب التمييز بين الجميل والقبيح ، وبين الخير والشر ، وبين العدل والظلم ، وتسود النسبية المطلقة ، وأهم تعبير أيديولوجي عن العولمة هو فلسفة ما بعد الحداثة التي يطلق عليها أيضا anti-foundationalism والتي يمكن ترجمتها حرفيا بعبارة ضد الأساس والتي يمكن ترجمتها بتصرف رفض المرجعيات ، مما يعني السقوط في اللاعقلانية الكاملة ، وقد وصف رورتي ما بعد الحداثة أنها تعني أن الإنسان لن يقدس شيئا حتى ولا نفسه ، فهي ليست معادية للدين والأخلاق وحسب ، بل معادية للإنسان ذاته .
هل يمكن ربط جسد راقصات الفيديو كليب بالنظام العالمي الجديد؟ والرد هو بالإيجاب(6/161)
وقد يضيق القارئ بهذا الكلام الكبير وقد يتساءل : وما علاقة كل هذا بروبي والفيديو كليب؟ هل يمكن ربط جسد راقصات الفيديو كليب بالنظام العالمي الجديد؟ والرد هو بالإيجاب ، فكل الأمور مترابطة ليس بشكل مباشر وليس بشكل عضوي ، ولكنها مترابطة . وقد شبه ليوتار الفيلسوف ما بعد الحداثي علاقة الإنسان بالواقع ، بعلاقة الرجل الساذج (أو المشاهد الساذج ) بالمرأة اللعوب : يظن أنه أمسك بها ، ولكنها تفلت منه دائما ، الأمر الذي يعني أن علاقة العقل بالواقع غير قائمة ، ويذهب كل من فريدريك نيتشه ورولان بات وجاك دريدا إلى أن تحطيم المقولات العقلية واللغوية هي عملية ذات طابع جنسي : ذوبان وسيولة . بل إن بعض دعاة ما بعد الحداثة ورفض المرجعيات يرون أن جسد المرأة ، هو مرجعية ذاته ، ولذا فهو تحد للعالم الثابت الذي له مركز ويمكن إدراكه عقليا .
وفي كتابها الشهير ضد التفسير (الذي يؤرخ لظهور ما بعد الحداثة بتاريخ نشره ) قالت سوزان سونتاج: إن أكبر تحد للثوابت والعقل هو الجسد . ولتلاحظ ما يحدث لعقلك وفهمك حينما تشاهد رقصة من النوع الأفقي ، وهذا الجسد لا علاقة له بأي خصوصية تاريخية أو ثقافية أو اجتماعية ، ولذا فهو يقوض الذاكرة الاجتماعية والتاريخية ، وهذا هو جوهر ما بعد الحداثة ، أي أن كل إنسان يعيش داخل ما يسمونه قصته الصغرى ، أي رؤيته للعالم ، أما القصة الكبرى الاجتماعية التاريخية التي تنضوي تحتها كل القصص الصغرى فلا وجود لها ، فتتساقط القيم والمرجعيات وتظهر الراقصة الرأسية والأفقية ، والشركات عابرة القارات التي تود أن يكون الإنسان حزمة نمطية من الرغبات الاقتصادية والجسمانية التي يمكن التنبؤ بسلوكها ، حتى يمكن التحكم في صاحبها وتوظيفه داخل منظومة السوق (والكباريه ).
وقد ظهرت فضيحة الفيديو كليبات بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين ، فبينما كانت الأمة بأسرها تعبر عن حزنها وعزمها وإصرارها ، كان الرقص الرأسي والأفقي شغال على ودنه ، وكأن جسد الراقصة هو البداية والنهاية ، بداية المتعة ونهاية التاريخ .
إن القنوات الفضائية التي تذيع الفيديو كليبات تصل إلى منازلنا وأحلامنا ، وتعيد صياغة رؤانا وصورتنا للآخرين ولأنفسنا ، ودافعها الوحيد هو الربح المادي ، وليس الاستنارة أو تعميق إدراك الناس لما حولهم ، فهي مشاريع رأسمالية طفيلية تبحث عن الربح الذي أدى إلى التنافس بين المخرجين والمغنين والممولين والذي لم تكن نتيجته الارتقاء بالمستوى الفني والجمالي ، وإنما المزيد من الإسفاف والاغتراب والعري الذي سيتزايد حتما مع الأيام ، ومن يود أن يعرف إلى أين نحن ذاهبون عليه أن يرى محطة MTV وبعض الفيديو كليبات الأمريكية التي تحول الإنسان إلى ما أسميه البروتين الإنساني المحض . عليه أن يعرف أن هناك مقهى في القاهرة (يسمى xEvlution أي التطور في اتجاه غير معلوم ) يقدم مشروبا يسمى Bluelesbian أي المساحقة الزرقاء ، وهي محاولة لتطبيع الشذوذ ، لا تختلف في جوهرها عن محاولة تطبيع الرقص والإثارة الجنسية وهذا أمر أقل ما يوصف به أنه مفزع .
هل من سبيل لوقف هذا التدهور المستمر؟ هنا قد يقول البعض إن في هذا تدخلا في حرية الفكر والفن
والآن السؤال هو : هل من سبيل لوقف هذا التدهور المستمر؟ هنا قد يقول البعض إن في هذا تدخلا في حرية الفكر والفن ، والرد على هذا أن الفيديو كليبات ليست فكرا وليست فنا ولا إبداعا ، وإنما هي شكل من أشكال البورنو الذي يهدف إلى استغلال الإنسان وتحقيق الربح . الفن العظيم يتناول موضوعات شتى من بينها الجنس ، ولكن الجنس (مثل العنف ) لا يقدم في حد ذاته وليس هو الهدف ، وإنما هو عنصر ضمن عناصر إنسانية أخرى ، فالفن العظيم (على عكس البورنو ) لا يهدف إلى الإثارة الجنسية وإنما إلى تعميق فهمنا للنفس البشرية . وإن كان أصحاب الفيديو كليب يطرحونه باعتباره فكرا أو فنا فعليهم الالتزام بشرطين : أولهما ألا يحققوا أي ربح مادي منه ، والآخر أن يثبتوا لنا اقتناعهم الكامل بهذا الفكر بأن يمارسوه في حياتهم الشخصية مع زوجاتهم وأمهاتهم وبناتهم وأبنائهم ، ولا أعتقد أن هناك من سيجد الشجاعة في نفسه أن يفعل ذلك .
والله أعلم .
==============(6/162)
(6/163)
غزو إعلامي" أجنبي عبر الفضائيات العربية
عجمان (الإمارات) - قدس برس- إسلام أون لاين.نت/ 8-3-2004
برنامج الأخ الأكبر تسبب في اندلاع المظاهرات بالبحرين
حذرت دراسة علمية من الأضرار البالغة التي قد تصيب العالم العربي جراء انتشار برامج "تليفزيون الواقع" المقتبسة من الغرب على القنوات الفضائية العربية والتي تجمع شبابا وفتيات في مكان واحد.
ودعت إلى إستراتيجية عربية للتصدي لما اعتبرته "غزوا أجنبيا" للإعلام العربي من خلال الفضائيات.
وأكدت الدراسة التي أصدرتها جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا في الإمارات ونقلتها وكالة "قدس برس" الإثنين 8-3-2004 أن هذه البرامج تسهم في "تعميق الانحراف الاجتماعي، وتدمير قيم الشباب الإيجابية وهويتهم الثقافية".
وجاءت تلك الدراسة لترصد تداعيات التجربة التي بدأتها عدد من القنوات الفضائية العربية منذ نحو العام وتركزت على عرض نسخ معربة من برامج أمريكية وأوربية، تقوم فكرتها على إقامة عدد من الفتيان والفتيات في منازل وسط ظروف محددة، أمام كاميرات تلفزيون، بينما يعيشون حياة طبيعية. ويتولى في هذه الأثناء مشاهدو هذه القنوات اختيار أفضل هؤلاء المشاركين؛ ليصبحوا مغنين أو راقصين.
"تعميق الغزو"
وأظهرت الدراسة، التي أعدها الدكتور ياس خضير البياتي، من كلية المعلومات والإعلام والعلاقات العامة بجامعة عجمان أن وسائل الإعلام العربية "شاركت بدور أساسي في تعميق الغزو الإعلامي الأجنبي، من خلال مدة ساعات البث المخصصة للمواد الأجنبية، وبروز ظاهرة البرامج الواقعية، أو ما يسمى (تلفزيون الواقع)، دون أن تأخذ بنظر الاعتبار قيم المجتمع العربي وتقاليده وأنماطه الاجتماعية".
من جهة أخرى، لاحظت الدراسة التي حملت اسم "الغزو الإعلامي والانحراف الاجتماعي: دراسة تحليلية لبرامج الفضائيات العربية" أن القاسم المشترك لبرامج القنوات الفضائية العربية هو المادة الترفيهية، وأفلام الجريمة والعنف والرعب والجنس، "أي أن ثقافة الصورة تطغى عليها أكثر"، مسببة "ظاهرة سلبية تتمثل بالاغتراب، والقلق، وإثارة الغريزة، والفردية، والعدوانية، ودافعية الانحراف، وسلطة المال والنساء، وحب الاستهلاك، والأنانية، والتمرد".
وأشار مُعِدّ الدراسة إلى أن هذه المفردات تؤثر على "إدراك الشباب وسلوكهم ومعارفهم، بحيث تتحول من صورة ذهنية إلى نشاط عملي، عن طريق المحاكاة والتقليد وعمليات التطويع الاجتماعي".
"اضطراب" اجتماعي
وحول المشكلات الاجتماعية المتوقع أن تنشأ بسبب تلك البرامج حذرت الدراسة من أنه "من المحتمل أن تخلق برامج الفضائيات العربية الاضطراب الاجتماعي، وعدم الاستقرار في العلاقات العامة الاجتماعية، وتنمية الفردية والروح الاستهلاكية، والهروب من التصدي لواقع الحياة، والاستسلام له، وتوطين العجز في النفوس، وإضعاف الروابط الأسرية وقيمها، وتعميق المشاعر الذاتية أكثر من الالتزام الجماعي، والانبهار بالموديل الأجنبي، على حساب الهوية الثقافية، وكذلك تراجع الانتماء، وازدياد اليأس والإحباط".
كما أشارت الدراسة "إلى ضرورة الانتباه إلى هذه الظاهرة، على أنها قد تحمل توجهات سياسية وفكرية ملغومة، تريد تدمير الواقع العربي، وثقافة المجتمع وقيمه".
وأثارت الدراسة تساؤلات حول شيوع هذه الظاهرة الإعلامية في الحياة العربية وتوقيتها، ووجدت أن العامل الأساسي "هو التسابق غير المشروع، على جذب الشباب، لأسباب تجارية مادية، ودخول المال العربي، بشكل سلبي، إلى الإنتاج الإعلامي والفني، دون اعتبارات للواقع الاجتماعي"، مشيرة إلى أن الاستثمار في هذا المجال أصبح يأخذ مداه السلبي في تعميق ثقافة الإثارة.
مواجهة عربية
واقترحت الدراسة وضع خطة إعلامية عربية لمواجهة هذه الظاهرة، موضحة أن المواجهة لا بد أن تستند على "خطة تتعلق بالطرق والوسائل الكفيلة للتقليل من طوفان المادة الإعلامية الأجنبية، في التلفزيون العربي، ومحاولة منع ظاهرة البرامج الواقعية التي لا ترتبط بقيم المجتمع وثقافته، مع أهمية تحصين الشباب سياسيا واجتماعيا وثقافيا وتربويا، وتعميق وعيه بمضامين الغزو وسلبياته، وتطوير وسائل إعلامه الوطنية ومضامينه، وإعطاء الشباب الفرصة للتعبير عن آرائهم وأفكارهم وتطلعاتهم، في وسائل الإعلام، وإشراكهم في صنع القرار الإعلامي، ومشاركتهم في إنتاج برامجهم صناعة وكتابة وتنفيذا".
كما أكدت الدراسة على ضرورة "اللجوء إلى التراث العربي الإسلامي باعتباره مصدرا ثريا لمواجهة تحديات وإفرازات العولمة، وعاملا مساعدا لتشكيل تجانس ذهني وروحي بين شباب الأمة".
انتقادات
وأثارت البرامج التي تنتمي إلى أسلوب تليفزيون الواقع -ومنها "ستار أكاديمي" و"على الهوا سوا" و"الرئيس -الأخ الأكبر"- جدلا واسعا في الأوساط الاجتماعية والسياسية والعربية.(6/164)
وساهم ضغط مارسته المعارضة البحرينية الأسبوع الماضي في وقف برنامج "الرئيس" الذي كانت تبثه محطة "إم بي سي"، وهو نسخة عربية عن برنامج أمريكي. أما برنامج "على الهوا سوا" فقد أخفق القائمون عليه في الوصول إلى الهدف النهائي، وهو تزويج إحدى المشاركات بأحد المشاهدين، مما أدى إلى توقفه.
وكان "ستار أكاديمي" النسخة العربية لبرنامج فرنسي، هو الأكثر جدلا بين تلك البرامج، حيث اعتبر المراقبون أنه تجاوز كل الخطوط الاجتماعية التي لم يستطع برنامج آخر تجاوزها، مما دفع عددا من علماء الدين إلى إصدار فتاوى تحرم مشاهدته والمشاركة فيه عبر رسائل الهاتف.
==============(6/165)
(6/166)
كيف ألغت وسائل الإعلام عقول الجماهير؟!
2003/09/16
…
غول الميديا
المخرج العالمي الكبير بيتر واتكنز هو أول من حذر من أخطار الحرب النووية والتلوث البيئي الناجم عن استخدام الطاقة النووية في فيلمه "لعبة الحرب" 1965، وأول من تكلم عن إفراط استخدام السلطة في الدول الديمقراطية الغربية في فيلمه "حديقة العقاب" 1970.
وهو أول من قدم دراسات حقيقية عن وسائل الإعلام وتأثيرها على الجمهور وإلغائها للتفاعلية وللعقلية النقدي لدى المواطن في العالم الغربي، وهو يقدم في هذا المقال رؤية واقعية لحالة العالم اليوم من حيث تأثير وسائل الإعلام على المواطن وضرورة إدراك هذا التأثير.
إنه يكلمنا عن الخفي والباطن في وسائل الإعلام، وكيف يمكننا إدراكه، والأهم ضرورة إدراكه، ورفضه من أجل الوصول لديمقراطية حقيقية، بل ومن أجل إنقاذ العالم من كوارث محدقة به!!
و"واتكنز" لمن لا يعرفه مولود في 29 أكتوبر 1935 في نوربيتون بإنجلترا، بدأ حياته مساعد منتج في مجال الإعلانات، ثم تحول إلى صناعة الأفلام في أواخر الخمسينيات، تعاقد في منتصف الستينيات مع "بي بي سي" على العمل كمخرج هاوٍ. وفي عام 1965 أخرج فيلم "لعبة الحرب" الذي استخدم فيه تقنية الجرافيك في التعبير عن كابوس الحرب النووية، وهو الفيلم الذي تم منعه من العرض. بعد ذلك تحقق في المسرح وفي إخراج الأفلام الوثائقية، ونال جائزة الأوسكار أفضل فيلم وثائقي عام 1966.
وعلى الرغم من أن واتكنز حقق نجاحًا كبيرا بفيلمه الروائي الطويل بريفيليدج عام 1967، فإنه سرعان ما عاد للأفلام الوثائقية، ومن أحدث أفلامه "ريزان" (1988)، وتدور أحداثه في 873 دقيقة (14 ساعة).
ومن أفلام واتكنز المهمة أيضا فيلم "الكوميون" الذي يتابع فيه بطريقة تليفزيونية حادثًا هامًّا في التاريخ الفرنسي، وهو صعود وسقوط حركة كميونة باريس خلال الثورة الفرنسية مستخدما 200 مواطن لإعادة بناء الأحداث التاريخية التي يقصد منها مخاطبة عصرنا الراهن ومناقشة دور الميديا والسلطة السياسية والمسئولية الذاتية.
وهذا ملخص وافٍ لمقال مهم له عنوانه: "الأزمة العالمية ووسائل الإعلام السمع بصرية وتقنيات تدريس وسائل الإعلام.. دراسة في انتقاد وسائل الإعلام وتأثيرها على الناس".
=============(6/167)
(6/168)
برامج.. صناعة النجم أم صناعة الوهم؟
2003/08/30
…
ماجد حبته
وهل وجد ما يأكله ورفض؟!
يأتي السؤال كرد مفحم على جملة شهيرة اعتدنا أن نجد من يعاير بها آخر: "يرحم الله والدك الذي مات جوعا".
واسمحوا لنا أن نستعير السؤال (الرد) لنعلق به على من انتقدوا حالة الهياج التي تبعت إخراج ملحم زين من التصفيات قبل النهائية لبرنامج سوبر ستار، وأيضا على من انتقدوا المظاهرات والمسيرات التي خرجت لتندد وتشجب وتستنكر قرارات لجان التحكيم، أما من ساءهم محاولة البعض إعطاء التصويت لصالح فلان أو ضد فلان مسحة سياسية، أو محاولة البعض الآخر الزج بأنظمة سياسية وتصوير الأمر كما لو كان كل ما حدث بضغوط منها، فنقول لهؤلاء: إن هذا الاحتمال ليس مستبعدا، وليس فيه أية غرابة، ولكن يبقى السؤال: وهل وجد الناس متنفسا آخر غير الكرة وتلك المسابقات ولم يعبروا عن آرائهم؟
في هذا الملف نضع نقاط الحذر فوق حروف اللامبالاة، فنحاول أن نستعيد معكم كيف انتشرت هذه النوعية من برامج سوبر ستار وستار ميكر وستوديو الفن.. وغيرها؟ وما الهدف الأساسي منها؟ كما نذكركم بالسلسلة الطويلة من عمليات "النصب" باسم اكتشاف المواهب الجديدة، والتي انتهت إلى تلك البرامج التي جعلت "النصب" ذا صفة شرعية.
كما نحاول أن نعرف سر انجذاب القطاع العريض من الشباب لهذه النوعية من البرامج وأوجه الشبه بينها وبين الحمى التي انتشرت منذ فترة: حمى مدارس الكرة!!
لا تعنينا هنا جنسية البرامج ولا القنوات التي تبث من خلالها، فكلها في عصر الفضائيات برامج عربية يشاهدها المواطنون العرب، وكلها قنوات عربية لا تحتكرها دولة ولا تقف عند حدود معينة.
كما أن هذه البرامج تعرض في أكثر من قناة، ولا تمتلكها قناة بعينها بل هي ملك لوكالات إعلانية، تسوق البرامج وتسوق ما بها من فواصل إعلانية، وتبيع أيضا ما قد يكون بها من أوهام.
وقبل كل ذلك وبعده فكلنا في الهم عرب، وكلنا ضحايا في قبضة محترفي "البروباجندا".
- - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الثاني ... 2
التغريب ... 2(6/169)
(6/170)
مطايا التغريب ... 2(6/171)
(6/172)
الحصاد المُر ... 4(6/173)
(6/174)
المنظمات الغربية هل هي طلائع استعمارية؟ ... 16(6/175)
(6/176)
المرأة السعودية . . واللجنة الأولمبية!! ... 24(6/177)
(6/178)
الأقليات الإسلامية . . واغتيال الهوية الثقافية ... 27(6/179)
(6/180)
شباب الروشنة .. إلي أين يمضي ?! ... 31(6/181)
(6/182)
الجزائر : اتجاه لجعل السبت والأحد إجازة إسبوعية بدلاً من الخميس والجمعة ... 36(6/183)
(6/184)
المسلمون في مواجهة الغزو الثقافي المعادي ... 40(6/185)
(6/186)
تقليد الغرب وأبعاده ... 45(6/187)
(6/188)
لماذا أخفق مشروع النهضة التغريبي ؟ ... 47(6/189)
(6/190)
الخروج من تحت الأنقاض ... 53(6/191)
(6/192)
العقول الفارغة !! ... 58(6/193)
(6/194)
جناية الاستغراب على الأدب العربي ... 61(6/195)
(6/196)
صورة الإسلام في الخطاب الغربي ( 8 ) ... 65(6/197)
(6/198)
واجبنا أمام الأخطار المحدقة ... 67(6/199)
(6/200)
خواطر مسلمة..في معركة السفور والحجاب ( 1- 3 ) ... 69(6/201)
(6/202)
خواطر مسلمة .. في معركة السفور والحجاب .. ( 2من3 ) ... 71(6/203)
(6/204)
خواطر مسلمة .. في معركة السفور والحجاب ( 3 - 3 ) ... 76(6/205)
(6/206)
في مواجهة التغريب قراءة في فكر عبد الله النديم وكتاباته ... 79(6/207)
(6/208)
خفافيش الظلام ... 84
=(6/209)
(6/210)
قراءات في علم الاستغراب ( 1 - 2 ) ... 89(6/211)
(6/212)
من سيكسب الجولة..؟ ... 95(6/213)
(6/214)
القسطية لا الديمقراطية ... 102(6/215)
(6/216)
حرية الفكر في شراك الاستبداد ... 110(6/217)
(6/218)
أثر القنوات الفضائية في تغريب المرأة (1- 2 ) ... 115(6/219)
(6/220)
أثر القنوات الفضائية في تغريب المرأة ( 2 - 2 ) ... 125(6/221)
(6/222)
قمة الثماني أيدت الخطة والناتو ترفضها ... 135(6/223)
(6/224)
ماذا تريد المنظمات الأجنبية من المرأة المسلمة في شمال نيجيريا ؟ ... 148(6/225)
(6/226)
( اليونسكو ) .. ودورها المشبوه .. ! - حقائق - ... 153(6/227)
(6/228)
خِيانة المثقّفين في السعوديّة ... 161(6/229)
(6/230)
معالم الأطروحة البربرية في الجزائر ... 167(6/231)
(6/232)
'الفيروس' الديمقراطي! ... 172(6/233)
(6/234)
بريد إبليس ... 175(6/235)
(6/236)
استضعاف الدين واستنبات التطرف ... 177(6/237)
(6/238)
سياج العفاف ... 180(6/239)
(6/240)
حركات التحرير في ثوبها الجديد ... 188(6/241)
(6/242)
الليبيراليون الجدد بين الأمركة والصهينة ... 202(6/243)
(6/244)
أساليب التبشير في المدارس وأثرها على الطفل المسلم ... 206(6/245)
(6/246)
كأس العالم .. وطقوس النصارى ... 212(6/247)
(6/248)
هل هذا وقت المهرجانات السينمائية الماجنة والحفلات الراقصة ؟! ... 213(6/249)
(6/250)
حتى لا ينهار السد !! ... 216(6/251)
(6/252)
إصلاح التعليم .. البعد الحقيقي ... 217(6/253)
(6/254)
التغريب في ديار الإسلام ... 219(6/255)
(6/256)
تحد جديد ... 225(6/257)
(6/258)
المسلمون في الغرب الفرص والمحاذير ... 227(6/259)
(6/260)
التعليم إلى أين ؟ ... 234(6/261)
(6/262)
حرب الأفكار ... 238(6/263)
(6/264)
حتى لا نؤتى من قبل الثقافة ... 242(6/265)
(6/266)
(6/267)
مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية ( 1 ) ... 244(6/268)
(6/269)
مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية ( 2 ) ... 251(6/270)
(6/271)
مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية ( 3 ) ... 260(6/272)
(6/273)
مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية (4) ... 267(6/274)
(6/275)
مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية ( 5 ) ... 272(6/276)
(6/277)
مسألة تجنيس المسلم بالجنسية الفرنسية ( 6 ) ... 278(6/278)
(6/279)
الإسلام الديمقراطي المدني ... 284(6/280)
(6/281)
مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي تحت القصف الأمريكي ... 291(6/282)
(6/283)
كفى رفقا بالقوارير على طريقتهم ... 299(6/284)
(6/285)
مناهج التعليم الجزائرية دون «تربية إسلامية» ... 304(6/286)
(6/287)
مسلمون مع وقف التنفيذ ... 306(6/288)
(6/289)
الجندر ... 308(6/290)
(6/291)
بروتوكولات حكماء واشنطن ... 324(6/292)
(6/293)
الأب لويس شيخو اليسوعي يحرف شعر أبي العتاهية ... 328(6/294)
(6/295)
التصدي للدعوة البربرية في الجزائر ... 334(6/296)
(6/297)
هل تصدق ؟ (زوجة قاسم أمين تغطي وجهها ! ودرية شفيق انتحرت! ) ... 338(6/298)
(6/299)
التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي ( 1- 2 ) ... 341(6/300)
(6/301)
التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي ( 2- 2 ) ... 356(6/302)
(6/303)
وفاة رفاعة الطهطاوي ـ رائد التغريب ... 371(6/304)
(6/305)
من المسؤول عن تغريب الأدب وتذويب هوية الأمة الثقافية ؟ ... 376(6/306)
(6/307)
الأفعى النفاقية ... 384(6/308)
(6/309)
المؤامرة على المرأة في مصر ... 388(6/310)
(6/311)
الديك يبيض ... 398(6/312)
(6/313)
الثقافة العارية ... 401(6/314)
(6/315)
لا .. للمرتدين ذهنيّاً ... 402(6/316)
(6/317)
أزمة أخلاق (1- 4 ) ... 405(6/318)
(6/319)
أزمة أخلاق ( 2- 4 ) ... 419(6/320)
(6/321)
حصاد المسلمين ... 434(6/322)
(6/323)
نموذج من الإرهاب في المناهج التعليمية الأميركية ... 439(6/324)
(6/325)
لماذا الإسلام هو الحل ... 441(6/326)
(6/327)
مناهجنا والإرهاب ... 445(6/328)
(6/329)
قصة حجاب " أمة الله " ... 449(6/330)
(6/331)
ماذا وراء تمجيد الزنادقة في التاريخ القديم والمعاصر؟ ... 452(6/332)
(6/333)
أكثر من 400 ألف موقع تبث الدعارة والجنس والمخدرات ... 460(6/334)
(6/335)
بين الأصولي والمأجور … ! ... 465(6/336)
(6/337)
قناة "الحرة": الإعلام في خدمة الحرب ... 467(6/338)
(6/339)
والآن ما هو دورنا ؟!!! ... 475(6/340)
(6/341)
ستار أكاديمي ... 478(6/342)
(6/343)
الثقافة العربية في مواجهة الهيمنة الأمريكية ... 480(6/344)
(6/345)
تسويق التبعية ... 487(6/346)
(6/347)
منتدى اقتصادي أم منتدى .... !! ... 490(6/348)
(6/349)
الطريق إلى الولد الصالح ... 492(6/350)
(6/351)
الأسرة في العصور الحديثة ... 507(6/352)
(6/353)
حمىّ الموضة: المعقول وغير المعقول ... 516(6/354)
(6/355)
الحجاب الحريري والعلمانية ... 519(6/356)
(6/357)
أنت الحكم ادخل الآن وكن الحكم الدين ممنوع والعتب مرفوع ... 521(6/358)
(6/359)
جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي 1 ... 523(6/360)
(6/361)
جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي(2) ... 547(6/362)
(6/363)
جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي (3/3 ) ... 571(6/364)
(6/365)
سوبر ستار العرب (ماذا قال عبد الباري عطوان) ... 596(6/366)
(6/367)
تغيير مناهجنا الدراسية إلى أين؟ ... 599(6/368)
(6/369)
الحرب الأمريكية على ساحة التعليم ... 609(6/370)
(6/371)
مناهجنا ومقرراتنا الشرعية التعليمية أمانة في أعناقنا جميعا ... 612(6/372)
(6/373)
مناهجنا تغيير أم تغريب ... 615(6/374)
(6/375)
المجلات الخليعة ومخاطرها ... 622(6/376)
(6/377)
حديث الذكريات ... 625(6/378)
(6/379)
المسلم الجديد ... 626(6/380)
(6/381)
رجل قميء.. امرأة جاهلة! ... 629(6/382)
(6/383)
الإسلام والغرب في وسائل الإعلام الغربية ... 630(6/384)
(6/385)
الإسلام.. لحظة حاسمة ... 633(6/386)
(6/387)
المرأة ومغالطة الحقائق ... 634(6/388)
(6/389)
العولمة.. ... 637(6/390)
(6/391)
الحضارة الغربية: ضجة عن الحرية .. ... 643
وممارسة للهيمنة الثقافية. ... 643(6/392)
(6/393)
ماذا يريدون من المسلم؟! ... 646(6/394)
(6/395)
من مزالق الدعاة ... 647(6/396)
(6/397)
دور المرأة المسلمة فى مواجهة التغريب ... 649(6/398)
(6/399)
أقوال منسية حول (التغريب) ... 654(6/400)
(6/401)
"مهاتير" لليابانيين: التغريب والأمركة ستحطمكم! ... 666(6/402)
(6/403)
العصرانيو ن و ضرورة الحجر عليهم ... 669(6/404)
(6/405)
تراث الغير ... 675(6/406)
(6/407)
جهاد العفة . . في مواجهة التغريب ... 680(6/408)
(6/409)
المسلمون فى بلجيكا بين هموم التغريب والهجمات العنصرية والتناقضات الأخلاقية ... 690(6/410)
(6/411)
التغريب ... 694(6/412)
(6/413)
التغريب بين اندماج الشباب وانصهارهم ... 704(6/414)
(6/415)
المصلحون والدعوة إلى التغريب ... 706(6/416)
(6/417)
نحن و التغريب في وسائل الإعلام ... 708(6/418)
(6/419)
لغتنا الجميلة وعاديات التغريب..! ... 710(6/420)
(6/421)
المرأة في دول الخليج ومطارق التغريب ... 712(6/422)
(6/423)
الحركة النسوية الغربية و أثرها في المجتمعات الإسلامية ... 715(6/424)
(6/425)
ماذا يريدون من المرأة..؟! ... 731(6/426)
(6/427)
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة ... 741(6/428)
(6/429)
المخرج من فِتنتَي التغريب والتخريب ... 755(6/430)
(6/431)
هموم ثقافية ... 762(6/432)
(6/433)
بأقلامهن ... 774(6/434)
(6/435)
ماذا يريدون من المرأة..؟! ... 779(6/436)
(6/437)
التغريب أخطر التحديات في وجه الإسلام ... 790(6/438)
(6/439)
التغريب في ديار الإسلام ... 804(6/440)
(6/441)
غول التغريب كسر قيوده ... 810(6/442)
(6/443)
فتياتنا بين التغريب والعفاف ... 816(6/444)
(6/445)
الفتيات السعوديات والابتعاث إلى الخارج ... 845(6/446)
(6/447)
كي لا نسقط في الهاوية ... 857(6/448)
(6/449)
دور المرأة المسلمة في مواجهة التغريب ... 872(6/450)
(6/451)
الوجه الآخر ... 877(6/452)
(6/453)
يا مصلحون : أوصدوا الأبواب أمام زحف التغريب ... 879(6/454)
(6/455)
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ). ... 885(6/456)
(6/457)
دور الشباب المسلم تجاه المد التغريبي ... 965(6/458)
(6/459)
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة بين حديث القرآن والواقع (1- 3) ... 974(6/460)
(6/461)
تعب السعداء والأشقياء ... 979(6/462)
(6/463)
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة بين حديث القرآن والواقع (1- 3) ... 989(6/464)
(6/465)
حرب العقائد والدرس المستفاد ... 994(6/466)
(6/467)
الحب في الله والبغض في الله ... 1000(6/468)
(6/469)
الأندية الرياضية النسائية ... 1018(6/470)
(6/471)
المرأة وكيد الأعداء ... 1021(6/472)
(6/473)
أورام البناء الثقافي ... 1025(6/474)
(6/475)
المسلمون والإدالة عليهم ... 1028(6/476)
(6/477)
الإختلاط بوابة الشرور ... 1036(6/478)
(6/479)
اختلاط النساء بالرجال الحكم والأدلة1 ... 1044(6/480)
(6/481)
نقد مقال قراءة في الذِّهنية السلفيَّة ... 1052(6/482)
(6/483)
مقتل حاكم العراق ... 1057(6/484)
(6/485)
هل صار الولاء والبراء محرجاً ؟ ... 1065(6/486)
(6/487)
الإختلاط فساد وانحطاط ... 1069(6/488)
(6/489)
مناهجنا تغيير أم تغريب ... 1080(6/490)
(6/491)
الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان ... 1087(6/492)
(6/493)
لماذا فشل مشروع النهضة التغريبي ؟ ... 1094(6/494)
(6/495)
موجة التقليد والتشبه وأصالة المسلمين وصحوتهم ... 1099(6/496)
(6/497)
الصحوة الإسلامية: الأسباب والحقيقة ... 1109(6/498)
(6/499)
أكذوبة حقوق الإنسان ... 1114(6/500)
(7/1)
أيصبح العدو اللدود صديقاً حميماً! ... 1117(7/2)
(7/3)
أزمة الهدر الفقهي ... 1153(7/4)
(7/5)
التسلح بالإعلام والسينما! ... 1161(7/6)
(7/7)
أزمة الحجاب.. على يد وزير الثقافة المصري ... 1166(7/8)
(7/9)
الاجتهاد والتجديد .. هل من مزيد؟! ... 1170(7/10)
(7/11)
هيئاتنا الدعويّة الخليجيّة: آن أوان فضائيّاتكم الدعويّة ... 1173(7/12)
(7/13)
علوم الشريعة في الجامعات: الواقع والآفاق (*) ... 1176(7/14)
(7/15)
الإعلام الإسلامي: الممارسة .. بين النظرية والواقع ... 1200(7/16)
(7/17)
أدعياء التنوير والعيش في الظلام ... 1216(7/18)
(7/19)
الحد الأدنى للحياة السليمة ... 1220(7/20)
(7/21)
صور من الصمود والإباء ... 1224(7/22)
(7/23)
إعلام (النخر الخفيّ) ... 1230(7/24)
(7/25)
لماذا المنهج؟ (1 ـ 2) ... 1231(7/26)
(7/27)
الصدام الجنسي للحضارات! ... 1242(7/28)
(7/29)
معركة الشريعة الإسلامية في مصر ... 1245(7/30)
(7/31)
الإعلامي الذي نحتاج ... 1249(7/32)
(7/33)
الخليط الإعتزالي ونقدهم للأصول ... 1250(7/34)
(7/35)
الكتابة... لقهر المجتمع!! ... 1252(7/36)
(7/37)
في علم الاستغراب: قراءة في كتاب (مقدمات الاستتباع) (2/2) ... 1255(7/38)
(7/39)
خواطر فكرية مبعثرة ... 1269(7/40)
(7/41)
الموالون للأجنبي.. أنتم أشد رهبة عليهم..! ... 1272(7/42)
(7/43)
ما بعد الجماعات ... 1273(7/44)
(7/45)
أفلام الكارتون .. نظرة فاحصة (1) ... 1283(7/46)
(7/47)
أفلام الكارتون .. نظرة فاحصة ( 2 ) ... 1286(7/48)
(7/49)
مذاهب الناس في الانتخابات ... 1290(7/50)
(7/51)
شموع دافئة .. لمشاعر باردة ... 1295(7/52)
(7/53)
الحاجة إلى معرفة الحضارة الغربية ... 1296(7/54)
(7/55)
الأزمة الدعويّة: إداريّة أكثر منها منهجيّة (1/2) ... 1300(7/56)
(7/57)
لماذا نخافُ النّقد؟ ... 1314(7/58)
(7/59)
مُحاوَلةُ احتلالِ العقلِ المسلمِ ... 1317(7/60)
(7/61)
البرامج المعربة وصناعة نجوم الضياع ... 1322(7/62)
(7/63)
ومضى عام ... 1331(7/64)
(7/65)
وطنيون بلا وطنية ... 1333(7/66)
(7/67)
أين الثقافة في ملتقى المثقفين العرب؟! ... 1335(7/68)
(7/69)
مفارقات في مسألة الإسلام والعنف ... 1339(7/70)
(7/71)
منظومة الأمن الخماسية ... 1342(7/72)
(7/73)
دعاة الانقلاب على مصدر الشرعية ... 1346(7/74)
(7/75)
حرب العراق..هموم مستقبلية (1/2) ... 1354(7/76)
(7/77)
الحرب الأمريكية على العراق أسبابها والموقف منها(1/2) ... 1364(7/78)
(7/79)
دوافع الحملة الإعلامية الأمريكية على المؤسسات الخيرية الإسلامية( 1) ... 1381(7/80)
(7/81)
تهميش الأمة:عطل مشاريع النهضة ... 1407(7/82)
(7/83)
المستنسخات الأتاتوركية ! ... 1413(7/84)
(7/85)
ابني و اللغة الأجنبية ... 1418(7/86)
(7/87)
ماذا بعد الحصار ؟! ... 1423(7/88)
(7/89)
( تعليم البنات إلى أين ؟ ) ... 1434(7/90)
(7/91)
ستائر الملح ورشات المطر ... 1447(7/92)
(7/93)
الارتباط الغربي بالخليج العربي ... 1450(7/94)
(7/95)
أخطاء في مقاومة تغريب المرأة ... 1458(7/96)
(7/97)
هذه آثارهم فاعرفوها ... 1466(7/98)
(7/99)
رسالة للدكتور / غازي القصيبي ... 1472(7/100)
(7/101)
تغريب المرأة...المشكلة والحل ... 1479(7/102)
(7/103)
تحذير حول عمل المرأة في المحلات التجارية ... 1485(7/104)
(7/105)
بين الإصلاح والإفساد ... 1487(7/106)
(7/107)
لا للسكرتيرة.. نعم للمعلمة والطبيبة ... 1495(7/108)
(7/109)
إعصار فيه غبار ... 1497(7/110)
(7/111)
جلسة على الرصيف مع أصدقاء "أرلا" ... 1503(7/112)
(7/113)
حالة العرب قبل وبعد البعثة ... 1505(7/114)
(7/115)
أين قَلَمُكِ ؟! ... 1512(7/116)
(7/117)
بيان حول حقوق المرأة ومنزلتها في الإسلام ... 1513(7/118)
(7/119)
غزوٌ من الخارج أم من الداخل ؟ ... 1524(7/120)
(7/121)
من نحن ومن الآخر؟! ... 1530(7/122)
(7/123)
ماذا ينقمون على المرأة في ظل الإسلام؟ ... 1544(7/124)
(7/125)
هل تأذن لي أن أقول الحقيقة ؟!! ... 1549(7/126)
(7/127)
علمتني الحياة : الحلقة العاشرة ... 1551(7/128)
(7/129)
الجمعيات النسوية والدور المشبوه ... 1556(7/130)
(7/131)
(7/132)
المرأةُ والولايات السيادية ... 1560(7/133)
(7/134)
5 – قوله تعالى : (( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)) (الزخرف:18) ([1]) . ... 1575(7/135)
(7/136)
حكم إمامة المرأة ... 1591(7/137)
(7/138)
دعاة التغريب ... 1618(7/139)
(7/140)
المرأة والموضة (1/3) ... 1620(7/141)
(7/142)
وقفات مع دعاة تحرير المرأة ... 1637(7/143)
(7/144)
علمتني الحياة : الحلقة التاسعة ... 1644(7/145)
(7/146)
حقيقة القوامة ودعاة التغريب ... 1648(7/147)
(7/148)
الغزو الفكري وآثاره على الأفراد والمجتمعات 1 / 2 ... 1654(7/149)
(7/150)
نعمة الأمن ... 1662(7/151)
(7/152)
لو غير أكّار قتلني !! ... 1669(7/153)
(7/154)
الأمن الفكري ... 1672(7/155)
(7/156)
إني أتعس امرأة ... 1677(7/157)
(7/158)
الجمعيات النسائية صلاح أم ...؟! ... 1678(7/159)
(7/160)
مبررات منع المرأة من قيادة السيارة ... 1681(7/161)
(7/162)
شبهة معاصرة ... 1719(7/163)
(7/164)
هم العدو فاحذرهم ... 1728(7/165)
(7/166)
أساليب العلمانيين في إفساد المرأة 2 / 2 ... 1737(7/167)
(7/168)
خطر الفتوى بلا علم ... 1746(7/169)
(7/170)
الغيرة على دين الله ... 1752(7/171)
(7/172)
الحجاب وأصول الإعتقاد ... 1760(7/173)
(7/174)
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة ... 1771(7/175)
(7/176)
التربية البدنية في المدارس النسائية ... 1805(7/177)
(7/178)
فتنة مسايرة الواقع ... 1829(7/179)
(7/180)
الفيديو كليب العربي: 77% جنس و70% تغريب ... 1846(7/181)
(7/182)
الفيديو كليب والجسد والعولمة * ... 1848(7/183)
(7/184)
غزو إعلامي" أجنبي عبر الفضائيات العربية ... 1858(7/185)
(7/186)
كيف ألغت وسائل الإعلام عقول الجماهير؟! ... 1861(7/187)
(7/188)
برامج.. صناعة النجم أم صناعة الوهم؟ ... 1862(7/189)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (3) العولمة
الباب الثالث
العولمة
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثالث
العولمة(8/1)
(8/2)
العولمة.. مقاومة وتفاعل
ما زال مصطلح (العولمة) من المصطلحات الغامضة التي لم تُحدَّد معالمها بدقة؛ على الرغم من كثرة الكتب والدراسات التي كتبت فيه. لكن يبدو أن هناك رأياً سائداً عند جمهرة من الساسة والمفكرين يشير إلى أن مصطلح (العولمة) قرين لمصطلح (الأمركة)، وهذا ما أشار إليه مؤلفا كتاب (فخ العولمة) عندما قالا: (إن ثمة جهوداً خارقة تبذل لكي يتخذ العالم صورة واحدة؛ ولا ريب في أن المحصلة النهائية لمثل هذا التطور ستكون في المجال الثقافي كما يتبناها ابن نيويورك الفنان «كورت روي ستون» بسيادة الصراخ والزعيق الأمريكي بمفرده في العالم أجمع)(1).
لقد انهارت أوروبا أمام الغزو السينمائي والتلفزيوني الأمريكي كما ذكر ذلك بعض المفكرين(2)، ولم يحمها شعار الاستثناء الثقافي الذي رفعه وزير الثقافة الفرنسي، وشعرت كثير من الدول بالقلق من هذه التحولات الثقافية والحضارية التي يشهدها العالم؛ حتى قال وزير الخارجية الكندي: (لئن كان الاحتكار أمراً سيئاً في صناعة استهلاكية؛ فإنه أسوأ إلى أقصى درجة في صناعة الثقافة؛ حيث لا يقتصر الأمر على تثبيت الأسعار، وإنما تثبيت الأفكار!).
فإذا كان هذا الانهيار والقلق قد حصل في الدول الكبرى التي تدرك خطورة العولمة؛ فما بالك في الدول المهزومة التي ترى أن نهضتها إنما تكون بالانسلاخ من هويتها، والوقوع في شرك التبعية، خاصة بعد إرهاب الأمركة الذي امتد هديره بعد أحداث نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر ليجرف بطوفانه ما بقي من كرامة الشعوب..؟!
إن سراب العولمة وأكاذيبها المتتالية ـ خاصة في المجال الاقتصادي ـ بدأت تتضح وتنكشف سوءاتها؛ ولهذا فإن مستقبل العولمة (الأمركة) أصبح مهدداً بالسقوط التدريجي، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي زلزلت الكيان الأمريكي وأسقطت هيبته.
----------------------
(1) فخ العولمة، ص 49.
(2) منهم: روجيه جارودي في كتابه: (أمريكا.. طليعة الانحطاط)، ص 114.
المصدر:http://www.albayan-magazine.com
=================(8/3)
(8/4)
الشرعي من العولمة
أ. د.ناصر بن سليمان العمر
يرفض قطاع عريض من البشر العولمة _كما سلف_ ولكن رفضه من قبل المسلمين أشد، وليس ذلك للتصور الذي يحاول أن يرسمه بعض الغربيين، فبعض مثقفيهم نمى إلى علمه أن الله هو الذي يشرع لعباده في نظر المسلمين فقرر متوهماً أنه"لا توجد بالنسبة إلى المسلم سلطة تشريعية بشرية، اللَّه هو الوحيد مصدر القانون"(1)، وردّد قوله هذا (لوي غارديه)، فقال:"اللَّه هو الشارع بامتياز"(2).
ولا شك أن المسلمين يؤمنون بأن التشريع من خصائص الربوبية"ألا له الخلق والأمر"(3)" أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله"(4)،"ولا يشرك في حكمه أحداً"(5)،قال العلامة الشنقيطي _رحمه الله_:"ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أم كونية قدرية، من خصائص الربوبية.. كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع رباً، وأشركه مع الله"(6).
ولكن ما يغفل عنه هؤلاء هو أن المقصود بهذا كل تشريع يتعبد به الناس، ولهذا قال: "من الدين" فكل ما شرعه الله دين لا تجوز مخالفته، وكل تشريع في الدين بغير دليل باطل يرد ولا يقبل"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(7)، ولا يعني هذا المنع من وضع قوانين تنظم الأمور الدنيوية والحياتية وتحكم الوسائل وفقاً للشرع فيما سُكت عن النص عليه، فضلاً عن عد ذلك مصادماً لتشريع الله كما قالت الكنيسة! ولكن يجب أن تكون تلك القوانيين والنظم تحت إطار تلك التشريعات الربانية والموجهات العامة والخاصة، وهذا ما فهمه من أنزل عليهم الوحي، وخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أشد هذه الأمة تمسكاً بما جاء به، ففي تاريخنا نجد أن أول من دون الدواوين، وجعلها على الطريقة الفارسية لإحصاء الأعطيات وتوزيع المرتبات لأصحابها حسب سابقتهم في الإسلام، وأول من استحدث التأريخ الهجري، وأول من وضع وزارة للمالية (بيتاً للمال)، هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
فالشارع الحكيم وضع أحكاماً عامة وخاصة في كثير من الأمور الحياتية الدنيوية، وأوكل مهمة سن الآليات التنفيذية والقضايا التنظيمة إلى البشر، بحسب ما يتوافر لهم من وسائل قادتهم إليها مبتكرات عصرهم، ما لم تخالف الشرع، وفي صحيح مسلم عن عائشة وأنس - رضي الله عنهما -أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"(8).
إن أمر هذه الأمة أمر عجب، فلم يكن هذا دأبها فيما مضى، وليست هذه سِمَتها، ولم يكن كذلك سَمْتها، بل كانت هي الأمة الرائدة، الأمة القائدة، فهل عقمت؟ أم ماذا حل بها؟ وما سر تغير حالها وتبدل شأنها؟
فلم يمنع الإسلام فيما يتعلق بأمور الدنيا وتنظيم المعاش من سن تشريعات ليست من الدين ولكنها تنظم أمر المعاش، شريطة أن تكون خاضعة للتشريعات الإلهية العامة والخاصة لا تناقضها، تقود إلى العمل بها لا تعارضها، وبناء على هذا فالإسلام يرفض العولمة لكونها غير خاضعة لتشريعاته السمحة، التي جاءت لهداية البشرية وإرشادها للطريق الأقوم، وهذا يعني أن رفض الإسلام للعولمة معللاً لاعتقاد المسلمين أن تشريع الخالق العليم أحكم"ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"(9)، وليس هذا الرفض رفضاً مجرداً عن التعليل أو تقديم البديل، ولكنه رفض مع تبين الطريق الأرشد، كما أنه ليس رفضاً مطلقاً لكافة تفاصيل العولمة وآلياتها، ولكن لما خالفت فيه التشريعات الربانية، بحجة تحصيل المصلحة الشخصية أو المحدودة على حساب مصلحة الأمم والمجتمعات.
والحقيقة التي لابد من الاعتراف بها، أن للعولمة قوانينها ونظمها، وهذه القوانين والنظم لابد لها من يحكمها، فمن يكون؟
لسان حال دعاة العولمة يقول: يحكمها الأقوى وفقاً للمصالح التي يراها، فيجيز ما أراد ويمنع ما أراد، ويقترح السبل والوسائل التنظيمية التي أراد.
وهذا ما يرفضه قطاع عريض، وتيارات متباينة من البشر، فليست مصلحة الأقوى أولى، وليست شريعة الغاب دستوراً يُرضى.
أما المسلمون فيقولون: يحكمها الأصلح للبشرية جمعاء، وهذا له شقان؛ شق نزل من السماء، وأهل الإسلام يؤمنون بأنه الأصلح، فعلى الأقل ليس لغيرهم أن يلزمهم بسواه، ولهم أن يدعوا الناس لهداه، وشق آخر لا يعارض ما جاء به الأنبياء، فهو محل نظر وتقييم ولكل رأيه الذي من حقه أن يبديه، ولكل نظامه الذي يرتئيه.
الفرق بين رفض العولمة والتعامل معها بسياسة الرفض:
إن رفض العولمة، لا يعني الانزواء في ركن قصي، مع المبالغة في إغماض العينيين، فهذا أمر لا يليق بأمة الرسالة، التي ابتعثها الله لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ومن الملحوظ على هذه الأمة في عصورها المتأخرة، مواقف السلب وعدم الإيجابية، فقد رضيت أن تكون في صفوف المتفرجين، وعلى هامش الحياة، فإذا ما وقع حدث ما أو كاد أن يقع، هبت تصرخ وتولول، وتنادي بالويل والثبور وعواقب الأمور.(8/5)
تأملت هذا الواقع فأزعجني ما أرى، وأقض مضجعي ما أشاهد، ثم ازددت يقينا أن سر قوة هذه الأمة، ومكمن عزها، ومنبع مجدها، هو في دينها وعقيدتها، ومدى التزامها بمبادئها، ولا يعود هذا إلى أصلها ونسبها ولغتها، كما تصور الواهمون ونادى المضللون.
لذا فإننا سنظل عالة على الأمم، كالأيتام على موائد اللئام، والخدم في قصور الأسياد، ما لم نعد إلى ديننا، ونعرف حقيقة عزنا ومجدنا"وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ"(10).
وهناك لن نقف مكتوفي الأيدي أمام مكائد الشرق ومؤامرات الغرب، بل سيهرع الشرق والغرب والشمال والجنوب يخطب ودنا، ويستجدي رضانا، ويتسول ما يفيض به كرمنا، مع أننا سنكون أكرم من أن ننتظر السائل حتى يسأل والمحتاج حتى يطلب، وسنجود بمهجنا وأرواحنا -فضلا عن أموالنا- في سبيل نشر عقيدتنا، وترسيخ مبادئنا، إذا أصر الظالمون إلا على الحيلولة بيننا وبين نشر الخيرية التي منحنا الله إياها.
إن هذه الأمة لم تعقم، ولن تعقم _بإذن الله_، والطريق أمامنا مفتوح، والسبيل سالك والمنهج واضح، فعلينا أن ننبذ الكسل والخمول:
لا تصحب الكسلان في حالاته *** كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة *** كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ولكن علينا أن ندرك أنه لا بد من تحمل الصعاب وبذل المهج والأرواح، وإلا:
فمن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر
وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجسام
وبذلك يكون يصدق فينا قول الله - عز وجل - :
"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ"(11).
وحتى يتحقق هذا الأمل الموعود لابد من العمل على محاور ثلاثة:
المحور الأول: تطوير النظم الإسلامية وآليات تفعيلها، ثم تطبيقها في المجتمعات الإسلامية، ومن ثم إخراجها للناس، ودعوتهم إليها.
المحور الثاني: بيان ما في العولمة الوافدة من مثالب، وبيان الحلول الشرعية، والبرامج الإسلامية التي يمكن أن تحل محلها، مع توضيح الوجه الذي جعلها تفضل غيرها.
المحور الثالث: تحصين المجتمع المسلم من مثالب العولمة، وما فيها من أخطاء.
وجماع هذا كله، بناء المجتمع المسلم، المؤهل في كافة المجالات، وعلى أكتاف هذا المجتمع تقوم الدول التي إن قالت سمع لها.
وقد شاركت في ندوة بجامعة أم القرى حول البث المباشر(12) وبعد انتهاء الندوة قام الأستاذ أحمد محمد جمال(13) فعلق على الندوة بكلام جيد، وكان مما قال:"إن الحل أو المواجهة ليست بأيدي الشعوب المستضعفة، كما لا يمكن ولا يجوز الانتظار حتى نصلح شأننا، ونقوم إعوجاجنا، ولكن الحل أو المواجهة بأيدي ولاة أمور المسلمين -على مد أقطارهم- فهم أصحاب السلطة المادية والسياسية والتنفيذية، وهم القادرون على التجمع والاتفاق على خطة للمواجهة الجماعية.
ولاة أمور المسلمين هم القادرون على المواجهة بالأسلوب الذي يتفقون عليه، سواء أكان....، أم بمقاطعة دبلوماسية واقتصادية وسياسية للدول صاحبة هذه الأقمار المعادية، أو انسحاب جماعي من المنظمات الدولية، أم بأية وسيلة حاسمة يتفقون عليها، ويبادرون بتنفيذه دون إبطاء ولا استثناء"(14).
وما ذكره الأستاذ أحمد من الحلول الحاسمة لأحد مظاهر العولمة (البث المباشر)، أتفق معه فيه على وجه الإجمال، ويصلح أن يقال حول مظاهر العولمة الأخرى، وإن كنا لا نتوقع حدوث ذلك، في واقعنا الحاضر، ولكن مع العمل الدؤوب في بناء المجتمعات، والجيل الذي يمثل مؤسسات الدولة وقطاعتها المختلفة، فسنصل إلى نتيجة، كما وصل سلفنا الصالح ونبينا الكريم، والذي بدأ دعوته فرداً.
على الرغم من الترحيب المصرح به وغير المصرح بالعولمة وضرورة اللحاق بركبها، من قبل كثير من المسؤولين العرب، مع هذا أقول لو صدقت النوايا، وسرنا في مشروع البناء، لأمكن تحقيق البرنامج الإسلامي والنزول به إلى أرض الواقع، بل ودعوة الآخرين إليه، وهذا ممكن عقلاً جائز وقوعه، ولكنكم قوم تستعجلون.
ــــــــــــــــــــــ
1 زاعمه هو (برنارد لويس)، وهو كما يقول عنه فهمي هويدي:"صاحب الموقع المشهود في معسكر الخصوم الذين يتحدثون عن الأمة باحتقار وازدراء شديدين".
2 الحياة الاجتماعية والسياسية في المدينة الإسلامية، مجلة المقاصد، العدد 12، ص137.
3 سورة الأعراف جزء من الآية: 54.
4 سورة الشورى: 21.
5 سورة الكهف جزء من الآية: 26.
6أضواء البيان 7/169.
7 حديث عائشة وهو متفق عليه انظر البخاري 2/959، ومسلم 3/1343.
8 صحيح مسلم 4/1836.
9 سورة الملك: 14.
10سورة المنافقون آية: 8.
11سورة آل عمران آية: 110.
12وذلك في 15-8 -1410 هـ، وقد شارك في الندوة كل من د/ عبد القادر طاش و د/ أحمد البناني، وذلك بدعوة من رئيس اللجنة الثقافية د/ عبد العزيز العقلا.
13الأستاذ بجامعة أم القرى والكاتب المعروف.(8/6)
14انظر مجلة التضامن الإسلامي عدد شوال 1410 هـ، حيث نشر هذا الكلام، وقد اقتصرت على مكان الشاهد.
http://www.almoslim.net المصدر:
-=================(8/7)
(8/8)
صفقة موانئ دبي . . عولمة باتجاه واحد !
د.فيصل القاسم
ساذج كل من يعتقد أن الهدف من العولمة جعل العالم قرية واحدة تتفاعل فيها الشعوب والثقافات سياسياً واقتصادياً وإعلامياً لصالح البشرية جمعاء. ربما كان ذلك صحيحاً لو أن الأمم المنصهرة في العولمة متساوية في الأهمية والتأثير وتريد أن تتحد وتستفيد من بعضها البعض في عالم أوسع. لكن بما أن العالم مقسم إلى جنوب متخلف وشمال متطور، فإن نتيجة الانصهار الكوني ستكون بلا شك في مصلحة الأقوياء خاصة وأنهم هم الذين يدفعون باتجاه إسقاط الحدود بين الدول وتحويل المعمورة إلى ساحة واحدة. لا عجب إذن أن تسمع البعض يقول إن العولمة ما هي سوى الامبريالية القديمة التي غيرت جلدها وشكلها كي تصبح أكثر قبولاً لدى العالم وخاصة لدى أولئك الذين يخشون على ثقافاتهم وهوياتهم وثرواتهم من الجشع الامبريالي والاستعمار الكوني.
وكي لا يعتقد البعض أن هذا الكلام ضرب من ضروب الثرثرة اليسارية السخيفة التي ما لبثت تحذر من الرأسمالية المتوحشة التي تحاول التهام العالم، فإن الذي يفضح مقاصد العولمة المزعومة هم سادتها، فهم الذين يبشروننا بعالم واحد متوحد من جهة ومن جهة أخرى يقيمون الحدود والجدران العازلة والعوائق الكأداء أمام الانفتاح العالمي وخاصة على الصعيدين الاقتصادي والثقافي وهما عصب التعولم المنشود. فقبل سنوات خرج علينا منظرو العولمة ليتحدثوا عن عالم جديد لا حدود فيه ولا سدود، تحكمه حالة انسياب كاملة للمعلومات والأفكار ورؤوس الأموال والبضائع والأشخاص وتتراجع فيه سيادات الدول أمام مشاريع الشركات. لكن يبدو أن المقصود بالشركات ليس كل شركات العالم بل الشركات الأمريكية والمتحالفة معها دون غيرها كي تصول وتجول على هواها دون حسيب أو رقيب.
لقد جاءت الحملة الأمريكية الهائلة ضد شركة موانئ دبي العالمية لتميط اللثام عن تلك الكذبة الكبرى المسماة العولمة أو التجارة الحرة. فقد عقدت الشركة صفقة مع السلطات الأمريكية تقوم الشركة الإماراتية بموجبها بإدارة موانىء نيويورك وميامي ونيوارك في نيوجيرسي وبلتيمور في مريلاند ونيو اورلينز في لويزيانا وفيلادلفيا في بنسلفانيا. وقد بلغت قيمة الصفقة حوالي سبعة مليارات دولار. لكن بما أن المطلوب من العولمة أن تتمثل في هيمنة الأقوياء على الضعفاء وسلبهم ونهبهم واستغلالهم فقد ثارت ثائرة الشركات الأمريكية. كيف تسمحون لشركة عربية أن تدير بعض موانئنا وتكسب الملايين من ورائها؟ هذا أمر مرفوض جملة وتفصيلاً. وهل صدقتم كذبة التجارة الحرة وسقوط الحواجز الاقتصادية والتجارية؟ فعلاً إنكم مغفلون. ألا تعلمون أن كل تلك التسميات الكبرى كالديمقراطية والعولمة ما هي إلا شعارات وهمية يستغلها سادة العالم لتمرير مشاريعهم وفرض هيمنتهم؟
لا ضير في أن تستبيح الأساطيل الأمريكية المياه الدولية، ولا ضير في أن تصبح أمريكا جارة لكل بلد في هذا العالم بفعل قواعدها العسكرية الممتدة حتى حدود الصين، ولا ضير في أن تغزو القوات الأمريكية بعض البلدان دون أي رادع، ولا ضير في أن تنهار الحدود أمام الشركات الأمريكية العابرة للقارات، ولا ضير في أن تستباح سيادة الدول بحجة التجارة الحرة، ولا ضير في أن تصبح كل موارد الطاقة في العالم تحت سيطرة العم سام، ولا ضير في أن تفرض المنتوجات الأمريكية على كل القارات تحت التهديد الاقتصادي والابتزاز التجاري، ولا ضير في أن تجتاح الثقافة الأمريكية كل بقاع الأرض. كل ذلك جزء من العولمة. أما أن تتجرأ شركة عربية على الاستثمار في بلاد سادة العولمة وتفوز بصفقة كبيرة فهذا رجس من عمل الشيطان. عليكم أن تفتحوا كل حدودكم أمامنا، لكن إياكم ثم إياكم أن تحاولوا عبور حدودنا.(8/9)
ولو اقتصر الأمر على الجانبين التجاري والاقتصادي لقلنا إن الرزق غال ولا بد من حمايته بالنواجذ ضد القادمين من وراء الحدود. لكن الأمر امتد إلى الإعلام لتصبح "السموات المفتوحة" خرافة جديرة بالازدراء والسخرية. فلا بأس أن تخترق وسائل الإعلام الغربية حدودنا وتفتك بعقول شباننا وشاباتنا بدعوى الانفتاح والتعولم، لكن عندما يصل بث بعض قنواتنا الفضائية العربية إلى أوروبا وأمريكا، فيتحرك سادة العولمة لسد السموات في ووجها ومنعها من الوصول إلى المشاهدين الغربيين تحت حجج واهية. وقد شاهدنا كيف تم منع بث فضائية المنار اللبنانية في أوروبا بعد أن أزاحوها من الأقمار الصناعية الغربية، ناهيك عن الضغوط الرهيبة على وسائل الإعلام العربية الأخرى. وهذا يؤكد ما ذهب إليه الكاتب والباحث نصر شمالي عندما تحدث عن "الحرب الذهنية" الأمريكية التي تتضمن شن حروب ثقافية مفتوحة ضد الشعوب. و"يتحقق ذلك عبر وسائل الإعلام التي تمتلكها الولايات المتحدة، والتي تملك القدرة علي الوصول إلى جميع الشعوب في أي مكان علي وجه الأرض، وهذه الوسائل الإعلامية تشمل الإعلام الإلكتروني إضافة إلى الإذاعة والتلفزة، وتشمل اتصالات الأقمار الصناعية، وتقنيات تسجيلات الفيديو، ووسائل الإرسال الإذاعي عبر الليزر والحزم البصرية، الأمر الذي سيمكّن من اختراق أذهان البشرية في العالم أجمع بفعالية! ويعتقد الأمريكيون أنهم يملكون من أدوات اختراق الذهن البشري العام، وتطويعه وتنظيمه على هواهم" بحيث يلهمون الثقافات الأجنبية بتبني أخلاقياتهم. والمرعب في الأمر أن هناك توجهاً أمريكياً حسب بعض الخطط الاستراتيجية لحرمان الآخرين من الوصول إلى الشعب الأمريكي. بعبارة أخرى فإن المطلوب ثقافياً وإعلامياً التأثير في الخارج لكن دون السماح لذلك الخارج أن يؤثر في الداخل الأمريكي الذي حسب التوجه المنشود يجب أن يبقى محمياً إعلامياً وثقافياً من أي تأثيرات خارجية. إنها الحمائية الثقافية في أجلى صورها، فمن جهة يريدون للعالم أن يستقبل إعلامهم وثقافتهم بصدر رحب بدعوى القرية الكونية الواحدة المنفتحة على بعضها البعض، ومن جهة أخرى يتصدون لأي جهة تحاول الوصول إلى عقول شعوبهم. وإذا ظن البعض أن العالم أصبح مفتوحاً للجميع من خلال وسائل الاتصال الحديثة فهذه إسطورة يجب دحضها. وقد رأينا كيف بدأ بعض المفكرين والإعلاميين الأمريكيين يضيقون ذرعاً بكذبة المجتمع المفتوح ويحاولون فضحها من خلال كشفهم للجهات المالكة لوسائل الإعلام والمعرفة في أمريكا التي لا يزيد عددها عن أصابع اليد.
ويحدثونك بعد كل ذلك عن العولمة الاقتصادية والتجارية والثقافية والإعلامية والانصهار الكوني! أليست بربكم عولمة باتجاه واحد إجباري؟
http://www.meshkat.net المصدر:
-===============(8/10)
(8/11)
دورة الألعاب الأولومبية . . وثنية معاصرة في ثياب ( العولمة )
رضا أحمد صمدي
لم يكن أحد ليدرك أن المسلم قد يتهاون في أخص خصوصيات إسلامه وهو التوحيد... ويتمادى في تدمير ركن المعتقد (وهو الكفر بالطاغوت) ليصل لدرجة الوثنيين وعباد الأصنام.
الطواغيت لها نماذج كثيرة، ولكن الطواغيت الأصيلة، التي عبدت من دون الله وأريد لها أن تكون آلهة من دون الله ورضيت هي بذلك، كيف يمكن لمسلم أن يرتضيها ويثني عليها أو يمشي في ركاب ممجديها؟؟؟
إنها دورة الألعاب الأولومبية..
فعلى ضفاف سهول الأولمب في بلاد الإغريق القديما وعلى مقربة من اثينا عاصمة الأغريق أقيم المعبد الأكبر لكبيرة آلهة الأغريق (زيوس) ونصب له صنم عظيم (اعتبره المؤرخون من عجائب الدنيا السبع) ثم نصب بجانب المعبد ملعبا ليتقرب الناس بالألعاب إلى هذا الإله.
وكان لهذا الإله (الطاغوت) عيد كل أربع سنوات، عظمه اليونان واعتبروه من أكبر أعيادهم المقدسة، فحرموه وحرموا الأشهر المحيطة به، وجعلوه موسما لكف الحرب بينهم.
. وأطلقوا فيه الشعلة رمزا لخلود الآلهة عندهم.
وكانت الراهبات (باللباس الأبيض) يصطففن لاستقبال اللاعبين في تلك الأعياد.. وكان الفائزين من اللاعبين يمجدون كآلهة..
هذه هي حقيقة الألعاب الأولومبية.. وثنية في وثنية، شرك في شرك، وبعثت في أواخر القرن التاسع عشر، ثم أحيتها الدول الغربية تعظيما للتراث الغربي الذي لا حضارة قديمة يمكن أن يفخروا بها أقدم من حضارة اليونان.. فكانت دورة الألعاب الأولومبية وثنية المنشأ غربية المبعث حتى جاءتها العولمة فصاغت لها الفلسفة المناسبة ليقبلها المسلم الموحد فهي دورة من أجل السلام... والحلقات الخمس (رمز الألعاب) هي القارات الخمس (وفي الحقيقة هي رمز لبعض الألعاب اليونانية وهي الحلقة)، والشعلة رمز للعدالة، وفي الحقيقة هي رمز لخلود آلهتهم التي يدعون من دون الله..
وما معنى أن يكون هناك قسم أوليبمي وتحديد لعقدها كل أربع سنوات وشعار الدورة هذا العام غصن الزيتون الذي كان علامة أو شعارا من شعارات اليونان القدماء..
كل هذا أليس كافيا لنقول: إن مشاهدة هذه الألعاب تمجيد للوثنية؟؟؟
http://www.saaid.net المصدر:
================(8/12)
(8/13)
عولمة العدالة: الطاقة النووية نموذجاً
عبد الحق بوقلقول* - الجزائر
14/2/1427هـ الموافق له 14/03/2006 م
منذ عدة أشهر تحرص كل من الولايات المتحدة وبريطانيا إلى جانب فرنسا (أعضاء دائمون بمجلس الأمن) بالارتكاز على مجهودات كبيرة تقدمها الوكالة الدولية للطاقة الذرية على إعادة تنشيط معاهدة عدم الانتشار النووي التي خرجت إلى النور في العام 1968، والتي تعني باختصار شديد رغبة الدول الكبرى في أن يكون العالم منقسماً إلى معسكرين اثنين: معسكر نووي وآخر محرّم عليه أي طموح من هذا النوع.
لقد سمحت الحملات الإعلامية والسياسية الكبيرة وغير المتسامحة التي خاضتها هذه الدول منذ عقود بأن يُفرض على عدد كبير من البلدان القبول بهذا الواقع، والالتزام به؛ بمعنى أنه يُحرّم على باقي الدول التفكير في الاستفادة بأي شكل من الأشكال من هذا النوع من الطاقة التي يمنحها اليورانيوم المخصب؛ لأن هذا الأخير يتيح فرصة تصنيع القنبلة النووية، وبالتالي فإن بلداً كالجزائر مثلاً التي رفضت التوقيع على نص المعاهدة سالفة الذكر لمدة (25) سنة كاملة بحجة حرصها على الاتفاق بأن يكون الحوض المتوسطي بكامله خالياً من أسلحة من هذا النوع؛ في إشارة واضحة إلى دولة الكيان الصهيوني، إلا أنها وأثناء سنوات الاقتتال الداخلي الذي عاشته في العقد الأخير وجدت نفسها وجهاً لوجه في مقابل حملة غربية تتحدث عن وجود طموحات نووية لديها، فاضطرت إلى الإمضاء تحت وطأة التصعيد، ولكن موقفاً كهذا لم يكن متوقعاً يوماً من قادة "إسرائيل "، والتي لا تمتلك ترسانة هائلة من الأسلحة غير التقليدية التي في مقدورها أن تدمر كوكب الأرض بكامله فحسب، ولكنها تتمكن على الرغم من ذلك من مخادعة الرأي العام العالمي، وتدير ظهرها لتوصيات المؤسسات الدولية من غير أن يشجب أحد مثل هذا الواقع، فضلاً عن أنه يغرق العالم الإسلامي كله في حالة من الحيرة والذهول والهلع أيضاً.
تذكير لا مناص منه:
القنبلة النووية في الواقع هي المرادف اللغوي لكلمات على وزن القوة والقدرة والعصمة والرعب بالنسبة للضحايا، وحري بنا أن نعرف أنه ومنذ بداية القرن الماضي، كانت آلية الانشطار الذري الشغل الشاغل لعدد كبير من العلماء، فكمية الحرارة المنبعثة من وقوع انشطار وحيد هي في الحقيقة مذهلة؛ فهي تماثل عشرة آلاف ضعف أي احتراق تقليدي آخر، ويعود الفضل في كيفية التوصل إلى التحكم في سلسلة الانشطار الذري إلى العالم الفيزيائي الإيطالي (إنريكو فيرمي) في 2 من شهر تشرين الأول/أكتوبر 1942، لقد كان ذلك الاكتشاف يعني لأول مرة في التاريخ البشري قدرة الإنسان على التحكم في الطاقات الهائلة.
إلا أن البدء الفعلي في الاستعمال السلمي لهذه الطاقة لم يقع إلا في العام 1973 بمناسبة أزمة النفط الشهيرة حين بُدئ في العمل على إقامة مفاعلات نووية لغرض إنتاج الطاقة الكهربائية، والتي يفوق عددها اليوم (450) مفاعلاً تمتلك الولايات المتحدة نصيب الأسد منها (120) وحدة، تليها فرنسا (59) التي تنتج ثلاثة أرباع احتياجاتها الكهربائية بهذه الطريقة.
الاستعمال الآخر للطاقة النووية يكمن في القيام بتحرير كل الطاقة في ظرف زمني قصير جداً من رتبة جزء من الثانية للحصول على ما يُعرف بالقنبلة الذرية، لقد كان (ألبرت آينشتين) و(إدوارد تيلر) (أب القنبلة الذرية) هما مَن حرضا الرئيس الأمريكي: هاري ترومان في العام 1945 على استعمال هذا "الاكتشاف" الجديد لأجل وضع نهاية للحرب العالمية الثانية، وهو ما وقع فعلاً بعد أن أمر هذا الأخير بقنبلة ناغازاكي ثم هيروشيما اليابانيتين (6 و 9 آب/أغسطس 1945) على الرغم من أن اليابانيين أبدوا استعدادهم للاستسلام.
تمر دورة تخصيب اليورانيوم باختصار على ثلاث مراحل: بداية بحرق اليورانيوم الخام للوصول إلى نتيجة على شكل عجين يدعى (Yellow Cake)، ثم مرحلة تحويل هذا الناتج إلى الحالة الغازية للحصول على ما يسمى (UF4) ثم (UF6) لتأتي بعدها المرحلة الأخيرة المتمثلة في الحصول على اليورانيوم المخصب الذي يمكن الوصول إليه على طريقتين: الطرد المركزي أو الانتشار الغازي، الطريقة الأولى والتي هي الخيار الذي يعتمده الإيرانيون تتم من خلال وضع الغاز في معدات مركزية الطرد، ثم تسريعها لتصل إلى درجة (600) دورة في الثانية.
بالمختصر إن لليورانيوم استعمالين متناقضين؛ ففي الوقت الذي يمكن الحصول على الطاقة الكهربائية من خلال مراقبة سلسلة التخصيب إلى درجة 3%، يتطلب الاستعمال الثاني تخصيباً كثيفاً لا يقل عن نسبة 90%.
القدرات النووية الإسرائيلية:(8/14)
انطلق المشروع النووي في دولة الكيان الغاصب في العام 1948 في وقت كانت هذه الدولة اسماً جديداً في قواميس الدبلوماسية الدولية، فضلاً عن أن الطاقة النووية لم تكن وقتها مجالاً واسعاً لأنها كانت لا تزال خاصة جداً، ولم يكن الاتحاد السوفييتي نفسه قد تمكن من كل حيثياتها بعد، ثم إن إسرائيل وبرفضها الإمضاء على معاهدة 1968 أكدت حرصها على العمل في سبيل التقدم ببرنامجها النووي من غير أية رقابة دولية، زيادة على أن شيمون بيريز - أبو المشروع النووي الإسرائيلي - أقر أخيراً أن فرنسا كانت مساهمة بقدر كبير في هذا الجهد الإسرائيلي.
كانت إسرائيل ومنذ العام 1967 تمتلك على الأقل قنبلتين اثنتين حركتهما بسرية خلال حرب الأيام الستة، وأما الطائرات المقاتلة التي كانت تستطيع نقلهما فلقد وصلتها من أمريكا، ثم إنه لمن المعروف الآن أيضاً أن إسرائيل فكرت في حرب 1973 في استعمال السلاح النووي التكتيكي لأجل وقف تقدم الدبابات السورية في الجولان المحتلة، زيادة على أنه وبناء على سياسة الاحتواء والمراقبة التي تنتهجها الولايات المتحدة وبدعم مباشر من هذه الأخيرة أقدمت المقاتلات الجوية الإسرائيلية في 07 حزيران/يونيو 1981 على تفجير المفاعل النووي العراقي "تموز"؛ لتفرض نفسها بالتالي في موقع المالك الوحيد لهذا السلاح على مستوى الشرق الأوسط.
حينما زار محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الواقع مقرها في العاصمة النمساوية فيينا تل أبيب في 07 تموز/يوليو 2004، أعلن هذا الأخير أنه لم يأت إلى هناك لأجل توبيخ إسرائيل على موقفها الرافض لأن تؤكد أو تنفي برامجها النووية، وعلى الرغم من هذا الموقف "الحيادي جداً، والمخزي إلى أبعد الحدود " من جانب هذا الشخص، لم يجد وزير خارجية الكيان سابقاً سيلفان شالوم من رد إلا القول: "إذا كان يتعين علينا فعل أي شيء مع البرادعي فإننا لن نطلب منه أكثر من مواصلة نشاطه لأجل دفع الإيرانيين إلى وقف جهودهم في سبيل تطوير السلاح النووي"?، ثم إن شارون نفسه - الذي بات الكثيرون من المتنورين يعددون محاسنه - لم يبد أي اعتراض على هذا التهكم الواضح الصادر من طرف وزيره، قبل أن تقرر الهيئة المانحة لجائزة نوبل العالمية للسلام أن تقدم مباركتها لهذه الوكالة ورئيسها بسبب تواطئهم وتسامحهم المفضوحين مع تل أبيب، وإن كانت العدالة تقتضي على الأقل منح تلك المبالغ لضحايا ناغازاكي وهيروشيما مثلاً.
من الثابت - الذي يبدو مسلمة عالمية - أن كل البلدان فيما عدا الدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي بطبيعة الحال، والتي تتفاوض فيما بينها بصورة داخلية عن كيفية قيام كل منها بالتفتيش داخل منشآتها الخاصة - أن إسرائيل هي دولة فوق القانون، وفوق طاقة ( وكالة البرادعي )!، في حين أن دولة أخرى كالعراق التي تسكنها ملايين النفوس البشرية تُنتهك سيادتها، ويُقتل فيها عشرات الألوف من الغلابى تحت ذريعة حيازة أسلحة ذات قدرات تدميرية شاملة لم تستطع الأقمار الصناعية - التي ترصد دبيب النمل - اكتشافها، وتحديد مواقعها، زيادة على أن دولتين أخريين هما سورية وإيران تُتهمان بذات التهمة، بمعنى أنهما قد تواجهان ذات المصير، في إمكاننا أن نفهم لماذا أعلن شارون في 7 أكتوبر 2003 غداة قيام طيرانه بقصف موقع قيل هو "لإرهابيين" فلسطينيين في سورية: "إننا سوف نضرب أعداءنا في أي مكان وبأية وسيلة"، هذا يعني أن إسرائيل تملك كل الحق في أن تضرب أي جهة في العالم بأسلحتها النووية، وبدعم لا مشروط من الإدارة البيضاوية.
تمتلك إسرائيل حالياً بناء على تقديرات تجريها مؤسسات بحثية في الغرب ما بين (200 - 400) رأس نووي، وعلى حسب المجلة الإنكليزية المتخصصة في شؤون الاستخبارات والأمن (جينس آنتيليجانس ريفيو) فإن الترسانة الإسرائيلية توازي ما يمثل (3850) ضعف القنبلة التي ألقيت على هيروشيما، وأما في مجال الوسائل المستعملة في هذا الصدد فإن الكيان يمتلك (300) مقاتلة من نوع (F16) أمريكية الصنع، بالإضافة إلى (25) مقاتلة (F15) بتجهيزات توجيه خاصة ومتطورة، إلى جانب أن الصاروخ النووي (بوباي تيربو) قد تم وضعه على ثلاث غواصات من نوع "الدلفين" التي حصلت عليها بين عامي 1999 و 2000 من الألمان، من غير أن ننسى إضافة ما لا يقل عن نحو (50) صاروخ باليستي (أريحا2) يتعدى مداها (1500) كيلومتر، في مقدور كل واحد منها أن يحمل رأساً نووية زنتها (1) طن، علاوة على أن الدولة العبرية تمتلك أيضا أقماراً تجسسية تولت هي بنفسها مهمة وضعها على المدار.(8/15)
تغيرت الأوضاع منذ العام 1998 حينما قرر اليمين الهندوسي الحاكم في نيودلهي أن يعزز علاقاته مع الأمريكيين والإسرائيليين في الميدان النووي من خلال استحداث محور واشنطن - تل أبيب - نيودلهي لتقوم دولة الكيان بعد هذا مباشرة بالتعاقد مع الهنود لمساعدتهم في سبيل تطوير قدراتهم النووية، قبل أن يقوم شارون في سبتمبر 2003 بزيارة نيودلهي في أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء إسرائيلي إلى تلك العاصمة منذ استقلالها عن التاج البريطاني في 1947، وفي مقابل هذا التصعيد الثنائي قامت باكستان بإجراء تجاربها التفجيرية أيضاً في خطوة تحذيرية لها أكثر من معنى قبل أن يقفز الجنرال برويز مشرف على السلطة في إسلام آباد، ويقيل رئيس الوزراء نواز شريف، ناقلاً بهذه المغامرة الدولة النووية المسلمة الوحيدة إلى معسكر الأمريكان، ولتصير القوة النووية الباكستانية وبالاً على الأمة بعد أن كان يُفترض أنها تجربة رائدة.
الأهم من هذا أنه و بناء على "الشراكة الإستراتيجية" التي عقدوها مع الهنود قررت الولايات المتحدة أن تقدم لتل أبيب مساعدات مالية إضافية، وصادق الكونغرس في نهاية العام 2005 على صك بقيمة (133) مليون دولار لفائدة إسرائيل حتى تتمكن هذه الأخيرة من تطوير الأبحاث فيما يتعلق بصاروخ (آرو)، إلى جانب منحة أخرى بقيمة (600) مليون دولار، زيادة على المساعدات المالية السنوية التي تتحصل عليها الدولة العبرية من واشنطن تحت ذريعة واهية تسمى "الدرع الصاروخي الإسرائيلي"؛ لأن الحقيقة البينة مفادها أن الولايات المتحدة إنما هي بصدد تسليح إسرائيل في مقابل إيران، والأموال ستتوجه من غير شك إلى مشاريع تصنيع وتطوير طائرات التجسس التي لا يقودها الطيارون، وإنما تُوجّه عن بعد من مقرات القيادة العامة لجيش الاحتلال، ثم إن هذه الأموال تستعمل أيضاً بقصد أن تقوم إسرائيل باقتناء المدرعات التي تنقل الجنود من الدول الأوروبية.
الطموحات النووية لكوريا الشمالية:
المباحثات سداسية الأطراف (الصين، الكوريتان، اليابان، الولايات المتحدة وروسيا) هي حالياً وخلافاً لما هو معلن في طريق مسدود منذ الاتفاق المتوصل إليه في شهر أيلول/سبتمبر الأخير، والذي على أساسه قبل نظام بيونغ يانغ التنازل عن مشاريعه النووية في مقابل مساعدات اقتصادية وضمانات أمنية، فعلى الرغم من أنه كان يُعدّ وقتها خطوة على الطريق الصحيح؛ لا يتطرق نص الوثيقة المتفق عليها إلى أي جدول زمني، ولا أي طريقة للتنفيذ، فكل شيء لا يزال قابلاً للتفاوض والاختلاف مجدداً.
لقد أعلنت كوريا الشمالية مثلما نعلم جميعنا أنها تمتلك قنبلتين ذريتين، والاتفاق لم يتطرق بالتفصيل لكيفية التخلص من هاتين القنبلتين، علاوة على أن بكين - التي هي في الواقع حليف استراتيجي لتلك الدولة - فعلت كل ما في وسعها في سبيل أن ينشغل العالم بغير الموضوع النووي لحليفتها الضعيفة بيونغ يانغ.
الحالة الإيرانية.. العدالة الدولية في أوضح صورها:
منذ ما يزيد عن السنتين ونصف السنة، تقود ثلاث دول أوروبية - بتحريض ودفع من واشنطن - حملة ضغط شعواء على طهران لأجل أن تقلع هذه الأخيرة عن كل طموحاتها النووية، على الرغم من أن طهران ما انفكت تؤكد منذ سنوات أن برنامجها ذو أهداف سلمية، وأن جهودها لا تطمح إلاّ إلى التمكن من استخدام الطاقة النووية في مجالات مدنية، فهي ووفقاً لبياناتها الرسمية ستشهد بعد نحو عشرين عاماً من الآن؛ كثافة سكانية تجاوز المئة مليون شخص، مما يعني ارتفاعاً كبيراً في الطلب الداخلي عندها على الطاقة، وعلى الرغم من أنها البلد الثالث عالمياً من ناحية الاحتياطات النفطية؛ إلا أن الدراسات تؤكد أنها وبعد هذه المدة سوف تكون مضطرة إلى استهلاك نصف ما تنتجه حقول النفط فيها.
لقد أعلنت إيران في العاشر من يناير الماضي عن نيتها في استئناف أبحاثها في ميدان تخصيب اليورانيوم، رافضة المقترح الروسي الخاص بإمكانية أن تتولى موسكو هذه المهمة فوق أراضيها الاتحادية، بعد أن حذّرها مجلس محافظي الوكالة الدولية في شهر نوفمبر الماضي من كل محاولة في هذا الاتجاه، بمعنى أن أي تصعيد من جانبها سوف يعني إحالة ملفها إلى مجلس الأمن، وهذا ما وقع مؤخراً بعد أن قال محافظو وكالة الطاقة ( أي وكالة البرادعي ): إن إيران أخلت بالشروط، بمعنى أنه وفي رأي الغرب تُعدّ تحدياً وتهديداً جدياً للأمن والسلام العالميين، فوصول إيران إلى تحقيق "الاكتفاء" النووي بحسب رأي الساسة الغربيين هو بداية تهديد شديد الخطورة لكامل منطقة الشرق الأوسط، ثم إنه تهديد أيضاً لمستقبل معاهدة الحد من الانتشار التي هي على المحك الآن، زيادة على أنه تهديد مباشر لأوروبا التي سوف تكون بعد هذا في متناول الصورايخ الإيرانية "شهاب".(8/16)
الحقيقة أن معاهدة عدم الانتشار هي اتفاق يعكس تماماً مدى الازدواجية والانتقائية في تطبيق مبادئ قيم العدالة والحرية التي تتغنى بها الدول الكبرى الغربية على وجه الخصوص؛ لأنها أُعدت بعد ما تم تحديد أعضاء النادي النووي بدقة شديدة، وفي الوقت الذي تقع فيه دولتان كإسرائيل وإيران في موقعين متشابهين كثيراً، تحرم المجموعة الدولية على الثانية أي طموح يجعلها في موقع موازٍ للأولى، بحجة قانونية مضحكة مفادها: أن إيران نفسها وقعت على نص المعاهدة، مما يجعلها تقع تحت طائل مقرراتها، على خلاف إسرائيل الرافضة للتوقيع، وهو ما يعني - ببساطة - أنها غير معنية بالقانون الدولي!!
ثم إنه وحتى لو أننا سلمنا بصدقية نص معاهدة حظر الانتشار؛ فإن المادة السادسة منها تتحدث صراحة على أن كل الدول ملزمة بالتعاون في سبيل التخلص النهائي من هذه الأسلحة التي تهدد كل ما حققته الحضارة الإنسانية حتى الآن، ولكن الواقع أنه لا وجود لأي دولة كبرى نستطيع القول بشأنها إنها كانت قد احترمت هذا الكلام، وهذه حكاية أخرى طويلة وشائكة.
لو قررت إيران عدم الرضوخ لهذه الضغوطات، وواصلت سياستها الحالية؛ فكل الحكومات الغربية مستعدة لأن تحرك وسائلها الدعائية والسياسية - وربما العسكرية - في سبيل فرض عقوبات على طهران، وفي هذه الحالة يمكننا أن نتوقع أن اللجوء إلى الحل العسكري من قبل أمريكا سوف يقع من غير حاجة "للاستئذان" من السيد عنان وهيئته الأممية!، فكل السيناريوهات جاهزة، ولا تنتظر إلا الأمر بالتنفيذ الذي قد يصلها في أي لحظة من البنتاغون، وسوف يخرج علينا الأمين العام للمنظمة الأممية كوفي عنان بعدها ليعلن لنا عن "انشغاله العميق" بما يحدث، من غير أن يخبرنا بالضرورة أن الهيئة التي يرأسها قد تقرر وضعها على رفوف أرشيف الدبلوماسية العالمية، ثم إنه أخيراً لن يتجرأ على أن يقول لنا إن تيودور هيرتزل - مؤسس الصهيونية الحديثة - كان قد قال قبل أكثر من قرن: "سوف نبني هنالك جداراً يفصل الغرب عن البربرية"، لقد بُني الجدار فهل تشكّون أننا المعنيون بنعت "البربرية"؟
______________________
* كاتب ومحلل سياسي من الجزائر
http://www.islamtoday.net:المصدر
=================(8/17)
(8/18)
ثلاث اوجه للعولمة
د. محمد السيد سليم
لا توجد رؤية واحدة لمفهوم العولمة سواء على مستوى الأدبيات العالمية، أو أدبيات الدول الإسلامية، أو حتى المفكرين في الدول الإسلامية. فالعالم الإسلامي هو جزء من المنظومة الفكرية العالمية تنتشر فيه مختلف الرؤى والمفاهيم المطروحة حول العولمة.
ويمكننا استخلاص ثلاث رؤى رئيسية للعولمة نستعرضها بإيجاز، مع محاولة تلمس أبعاد رؤى إسلامية للعولمة بداخل كل منها:
* رؤية "الليبرالية الجديدة" للعولمة: الرؤية الاندماجية
* نقد العولمة: مفهوم "الاستعمار الجديد"
*الرؤية "التفاعلية" للعولمة
رؤية "الليبرالية الجديدة" للعولمة: الرؤية الاندماجية
تتمثل الرؤية الأولى للعولمة فيما تطرحه المدرسة "الليبرالية الجديدة" من أفكار بخصوص التحولات في النسق العالمي بعد نهاية الحرب الباردة.
وجوهر هذه الرؤية هو الاعتقاد الصارم بأن العولمة ظاهرة إيجابية ينبغي على الجميع التكامل معها واللحاق بها لأنها عملية "حتمية" لا فكاك منها، مما جعل بعض الدارسين يطلق على تلك الرؤية "الهوس بالعولمة"، وطبقا لهذه الرؤية، فإن العولمة تعني ظهور اقتصاد عالمي مفتوح ومتكامل، ونشأة نسق عالمي جديد يتخطى نسق الدولة القومية ويفوض السلطة إلى الشركات متعددة الجنسية وغيرها من المؤسسات عابرة القوميات.
كذلك تفترض تلك الرؤية أن المتغيرات الاقتصادية في ظل العولمة قد أصبح لها الأولوية على المتغيرات السياسية والثقافية، كما أن المتغيرات الاقتصادية قد أنشأت شبكة من المصالح الاقتصادية العالمية المتكاملة جعلت بدورها من المتغيرات الأخرى أقل شأنا من ذي قبل.
من ناحية أخرى فإن هذه الرؤية والتي يعد الباحث الأمريكي "توماس فريدمان" من أبرز المدافعين عنها، تؤكد أن العولمة هي "نظام دولي جديد يعتمد على التكامل بين رأس المال والتكنولوجيا والمعلومات التي تتخطى الحدود القومية للدول بطريقة نشأ عنها سوق عالمية واحدة. ومن ثم فإن العولمة ظاهرة اقتصادية - تكنولوجية بالأساس.
وفي هذه الظاهرة التي تجسد طبيعة النظام الدولي في حقبة ما بعد الحرب الباردة، فإن قوة الدول لا تقاس بمتوسط الدخل الفردي، وإنما بعدد خطوط شبكة الإنترنت التي تستخدم في الدولة، وكيفية استخدام وفهم وتوجيه تلك المعلومات. كذلك فإن العولمة ظاهرة إيجابية تؤدي إلى ارتقاء الدول التي ترتبط بها، وانحطاط الدول التي قد تحاول الانفصال عنها.
وعلى أي حال فإن العولمة أمر واقع وحتمي فسواء أعجبتنا العولمة أم لم تعجبنا، فهذا لن يغير من الأمر شيئا، فأنا لم أبدأ العولمة، ولا أستطيع في الوقت ذاته إيقافها. فالعولمة صارت حتمية ينبغي على الجميع الارتباط بها، وإلا حكم على المعارضين بالفناء.
وأخيرا فإن العولمة ظاهرة تلقائية نشأت نتيجة الثورة الصناعية الثالثة وما أثمرته من تقدم تكنولوجي، وهى ليست بالضرورة ظاهرة مقصودة تدفعها قوى دولية معينة. كذلك فإن الحل أمام دول الجنوب، ومنها الدول الإسلامية، هو الاندماج الكامل مع قوى العولمة. وكلما زادت سرعة هذا الاندماج زادت المكاسب المحتملة أمام تلك الدول، وإلا فإن قوى العولمة ستسحق دول الجنوب.
وفي هذا الإطار فإنه لا ينبغي التردد طويلاً أمام الشروط التي تفرضها القوى الدافعة للعولمة.
ويمكن القول إن تركيا تعتبر من أبرز المدافعين عن تلك الرؤية للعولمة من بين الدول الإسلامية. وفي هذا الإطار يأتي سعيها الحثيث للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وقبول شروطه الاقتصادية والسياسية والثقافية لدخول الاتحاد، بل والتعاون معه عسكرياً كما حدث في المرحلة الأخيرة.
ويمكن القول إن هذه الرؤية هي التي تسود خطاب كثير من القيادات الرسمية في العالم الإسلامي عند تحليلهم للعولمة. وتجد هذه الرؤية تعبيراً عنها في فكر الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف.
نقد العولمة: مفهوم "الاستعمار الجديد"
ينتمي إلى هذه الرؤية عدد من المدارس الفكرية والتيارات السياسية الشعبية غير المتجانسة والتي تستمد أصولها من فلسفات متباينة، ولكنها تشترك في قاسم مشترك أعظم وهو انتقاد العولمة والتركيز على آثارها السلبية، وإن كان هذا التركيز يتم بدرجات متفاوتة.
ومن تلك المدارس الفكرية مدرسة "الواقعية الجديدة"، ومدرسة "نظرية التبعية"، والمدرسة الماركسية التقليدية بالإضافة إلى التيارات الشعبية الداعية إلى الحفاظ على البيئة، وانتقاد إهمال العولمة للبعد الاجتماعي لعملياتها الاقتصادية، وهي التيارات التي تندرج تحت مصطلح "شعب سياتل" إشارة إلى القوى الاجتماعية التي تظاهرت في مدينة سياتل بالولايات المتحدة احتجاجا على مؤتمر منظمة التجارة العالمية المنعقد في تلك المدينة نوفمبر عام 1999، ومن المعروف أن تلك المنظمة هي أبرز المحركات الاقتصادية لعملية العولمة.
ويرى أنصار الواقعية الجديدة أنه لا جديد تحت الشمس في ظل العولمة.
فالنظام الدولي للعولمة لم يغير من واقع أن الدولة القومية ما زالت هي الفاعل الرئيس في الساحة الدولية، كما أن عدم التكافؤ الدولي في ظل العولمة لم يقل، إنما ازداد.(8/19)
كذلك يرى أنصار مدرسة مقاومة "التبعية" أن العولمة عملية تشير إلى سعي القوى الرأسمالية إلى الهيمنة على أسواق الجنوب وإلحاق اقتصادات الجنوب باقتصادات قوى العولمة، وأن الحل لا يكون بالاندماج مع العولمة، وإنما بمحاولة الفكاك منها واللجوء إلى الاعتماد على الذات سواء على مستوى الدولة أو مستوى التعاون بين دول الجنوب.
ويعد محاضير محمد -رئيس وزراء ماليزيا- من أبرز المعبرين عن تلك الرؤية للعولمة.
فالعولمة في تقديره واجهة لإعادة استعمار الدول النامية. ففي خطابه أمام مؤتمر قمة الدول النامية الخمس عشرة المنعقد في جامايكا فبراير 1999 أشار إلى أن الدول الرأسمالية تسعى في إطار العولمة إلى إنشاء نظام سياسي واقتصادي واحد هو الرأسمالية مهما كانت النتائج. كما أنه في ظل تيار العولمة فإن الحديث عن الاقتصاد العالمي المتكامل والقرية العالمية، وعصر المعلوماتية وسهولة الانتقال يجب ألا يخفي أن الشركاء لن يكونوا متساويين. ففي ظل إزالة الحدود وأمام حركة رؤوس الأموال لتنتقل دون قيود فإن فقراء العالم الثالث وتجارتهم ليس مسموحا لهم بعبور الحدود إلى الدول الغنية، وستظل الحدود مغلقة كما هي. وفي ظل العولمة يستمر سباق التسلح، والضغط على الدول الفقيرة لشراء المزيد من الأسلحة لكي تعوض الدول المتقدمة ما أنفقته على البحث والتطوير العسكري. وفي ظل العولمة هناك ضغوط إعلامية لرفض أي نقد للعولمة.
لهذا فقد طالب بمحاولة الفكاك من قبضة القوى الدافعة للعولمة من خلال التعاون بين الدول الآسيوية وإنشاء صندوق النقد الآسيوي، ومن خلال اتباع إستراتيجية انتقائية عبر عنها بقوله: "قد تسقط الحدود مع المضي قدماً في العولمة لكن يمكننا أن نكون انتقائيين فيما يتعلق بشروط التجارة، والتوقيتات والنطاق. وليس هناك حاجة حقيقية لأن تسقط جميع الحدود أمام كل شيء وكل الناس في وقت محدد".
وتسود هذه الرؤية في كتابات المفكرين الإسلاميين مثل محمد عمارة وجمال البنا، حيث العولمة هي الوجه الآخر للهيمنة الغربية.
الرؤية "التفاعلية" للعولمة
تتحصل هذه الرؤية في أن العولمة هي أمر واقع ينبغي "التعامل" معه، وليس قبوله بكافة عناصره. ويقصد بالتعامل في هذا السياق الدخول في حوار حقيقي مع قوى العولمة بهدف الإقلال من الخسائر وتعظيم المكاسب. تفترض تلك الرؤية أن رفض العولمة، أو الدخول في "مواجهة" مع القوى الدافعة لها إنما ينطوي على مخاطر جسيمة.
بعبارة أخرى تركز تلك الرؤية على أهمية التعامل المتوازن مع القضايا التي تطرحها العولمة من خلال إستراتيجية تقوم على التعامل التدريجي، والربط من مختلف القضايا المطروحة.
فهذه الرؤية تنزع إلى فهم العولمة على أنها ظاهرة مركبة تتضمن أبعادا إيجابية يجب الاستفادة منها وأخرى سلبية ينبغي تفاديها. ففي مقابل الفرص الإيجابية التي أتاحتها العولمة، ومنها التطور الهائل في التكنولوجيا، وخاصة تكنولوجيا المعلومات، وزيادة تدفقات رؤوس الأموال، وانفتاح الأسواق، فإن هناك جوانب سلبية لهذه الفرص تبعث على الكثير من القلق المتمثل في استمرار مشاكل الفقر والجهل والديون وانتشار الأوبئة التي تهدد أمما بأكملها وتفشي ظاهرة تهميش المجتمعات النامية وحرمانها من جني ثمار العولمة مع ما يقترن بذلك من اتساع الفجوة التي تفصلها عن الفئات الأوفر حظاً.
وهاتان الصورتان وجهان متلازمان للعولمة ينبغي التعامل معهما. فمن الممكن خلال الحوار الإيجابي مع الدول الصناعية المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية التغلب على الآثار السلبية وتحقيق تكامل اقتصاديات الدول النامية مع الاقتصاد العالمي.
وفيما يتعلق بالقضايا الناجمة عن العولمة والتي يتعين على الدول النامية أن تتعامل معها، فإن هذه الرؤية تركز على صياغة أجندة جديدة للنظام الدولي من خلال الحوار الإيجابي المتوازن مع الدول المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية والأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة على أن يكون على قمة تلك الأجندة معالجة مشكلة الفقر، وحرية التجارة بشكل متكافئ بحيث تفتح الأسواق بشكل متبادل، مع وضع نظام تجاري عالمي منصف والتطبيق الكامل لاتفاقيات جولة أورجواي، وجذب رؤوس الأموال العالمية والاستثمارات إلى الدول النامية من خلال التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، وتطوير آليات لتمكين الدول النامية من مواجهة الأزمات المالية الدولية.
ومن ثم فإن القضايا الجوهرية المرتبطة بالعولمة في الرؤية المصرية على سبيل المثال هي بالأساس قضايا اقتصادية. وتجد هذه الرؤية تعبيرا لها في الخطاب السياسي الرسمي المصري حول العولمة.(8/20)
وتتضح هذه الرؤية كذلك، وإن كان بشكل أكثر ميلاً إلى انتقاد العولمة، في الرؤى الإيرانية التي ترى أن العولمة أنتجت آثارا سلبية على إيران ليس فقط في المجال الاقتصادي، وإنما في المجالين الأمني والثقافي كذلك. فالعولمة كما يقول المفكر الإيراني سجاد بور: "خلقت تهديدات جديدة ليس فقط بالنسبة لإيران ولكن لكل دول المنطقة ولكل دول العالم أيضا". فالعولمة الاقتصادية وسيطرة أدوات الاتصال والتقدم المذهل في وسائل نقل المعلومات، كل هذا يمكن أن يخلق شروخا عميقة في محيط الأمن الخارجي لإيران، كما أن العولمة "خلقت قواعد جديدة للأمن الخارجي وهذا يعد سببا لنشوء تهديدات جديدة كاملة لإيران". ويضيف "أن العولمة الثقافية لو اعتبرت محاولة لتوحيد الثقافات فإنها تعد بذلك تهديدا مباشرا للهوية الإسلامية الإيرانية".
ولكن سجاد بور يرى أن للعولمة نتائج إيجابية بالنسبة لإيران تتمثل في إمكانية دخول إيران كفاعل جديد في مجال تكنولوجيا المعلومات، كما أنها خلقت فرصا ملائمة للتعاون الإقليمي الاقتصادي، وأدت إلى انتشار الدبلوماسية متعددة الأطراف مما جعل لإيران وأعضاء المجتمع الدولي دورا مؤثرا في تشكيل القواعد الدولية الجديدة من خلال المؤتمرات الدولية المتعددة، مما خلق بدوره فرصاً جديدة لإيران.
ولدينا وثيقة إيرانية تعبر عن تلك الرؤية للعولمة وهى خطاب كمال خرازي وزير خارجية إيران في المؤتمر السابع والعشرين لوزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في كوالالمبور في يونيو سنة 2000. في هذا الخطاب أشار خرازي إلى أن العولمة أتت بتطوير في وسائل الاتصال؛ وإزالة الموانع التجارية، والتنمية الاقتصادية السريعة، وكلها تطورات إيجابية، لكنه أشار إلى أن "العولمة غير مقبولة" لأنها "تقدم مكاسبها وفوائدها بشكل غير عادل وغير منصف". إن ذلك محاولة لتبديل وجه السيطرة والاستيلاء والعنصرية ومحو الثقافات المختلفة لصالح ثقافة واحدة مسيطرة مهما كان اسمها.
وقد عبر خرازي عن تلك الرؤية في خطاب أمام مؤتمر قمة مجموعة الدول الثماني المنعقد في القاهرة في فبراير سنة 2001 فأشار إلى أن "العولمة لديها إمكانات كبيرة للإسهام الإيجابي للتنمية المستديمة والشاملة للبلدان النامية" لكن عندما تطبق على نحو أحادي فإن بوسعها أن تؤدي إلى مزيد من التهميش للبلدان النامية وتفاقم الفقر والجوع في الجنوب، وتوسيع الفجوة بين الغني والفقير، وأيضاً قد تزيد معاناة الكثير من مناطق هذا الكوكب ومواردها القليلة ونصيبها في التجارة العالمية.
من ناحية أخرى فالعولمة لا بد أن تثير قضايا اقتصادية مثل إصلاح النظام الاقتصادي الدولي بما يضمن مشاركة الدول النامية في اتخاذ القرار وتفادي الأزمات المالية والمشاركة الفعالة للدول النامية في المنتديات ومراكز تخطيط الاقتصاد العالمي بهذه المشاركة في البناء التجاري والمالي الدولي، وقضايا ثقافية مثل الحوار الحضاري العالمي لرفض الهيمنة الثقافية وبناء مجتمع مدني عالمي وهو ما عبر عنه خرازي في خطابه في كوالالمبور في يونيو سنة 2000 ثم في القاهرة في فبراير سنة 2001.
من الواضح إذن أنه لا توجد رؤية واحدة تسود دول الجنوب ولا الدول الإسلامية للعولمة، بل إن هذا التباين يمتد ليشمل مختلف الجماعات الثقافية ومؤسسات المجتمعين المدني وغير المدني.ويعكس ذلك اختلاف في ملامح التطور السياسي والاقتصادي للدول الإسلامية، ودرجات ارتباطها بالقوى الرأسمالية العالمية، والمشروعات الداخلية والإقليمية للنخبة السياسية الحاكمة، ومدى شعور تلك النخب والجماعات بالآثار المتباينة للعولمة.وهو ما يجعل من مهمة صياغة إستراتيجية إسلامية للتعامل مع العولمة مهمة معقدة.
http://www.aldaawah.com المصدر:
================(8/21)
(8/22)
حتى الجامعات غمرتها العولمة !
في كتابه G r amma r s of C r eation ت يقول (جورج ستاينر) ناقد الثقافة المقارنة، الذي يدرس حاليا في اكسفورد، تخيل أن نعشا أنزل لتوه إلى اللحد، ثم سمع صوت رنين الهاتف الجوال الخاص بالميت منبعثا من داخل القبر المحكم المغلق..إنه بحق أصدق تعبير عن عصرنا المحموم المكتظ، فالهواء من حولنا يبدو مشبعا بصرير يكاد يسمع، تحدثه موجة عارمة من الثرثرة التي تدور حول الأرض بسرعة خارقة.وكلما قل ما نريد أن نقوله، كلما ارتفعت الذرى التي تصلها تلك الموجة.
فالخصوصية، والعزلة، والحنين للماضي، والذكريات، والماضي، والتاريخ، كلها غارقة في هذه الموجة. ويشهد على ذلك التضخم في برامج الحوار الحي في الإذاعة والتليفزيون عبر القنوات الفضائية، وهذا الكم الهائل من رسائل الجوال التي تصلنا، والتحول إلى النصوص الأقرب إلى لغة الكلام في غرف الدردشة بالإنترنت، وكذلك الرسائل الإلكترونية التي تنهال علينا من أجهزة الحاسب الآلي، والصفير المستمر لماكينات الفاكس، ولعلنا نذكر زمنا كان يقال لنا فيه (اسكت فالجدران لها آذان)! لقد مورس فن الصمت في بعض البلدان وفي بلدان الكتلة الشرقية سابقا، والذي كان يهدف إلى الهروب من أذن المراقبين أو تنصت أجهزة الأمن.
إن موجة الثرثرة التي تغمر العالم اليوم ليست، فيما يعتقد إلا الوجه المقابل لفشل اللغة، والتشكك في قدرتها على التعبير، والتي كانت واضحة بالفعل في الأدب العربي القديم.
إن هاجس كون اللغة لم تعد قادرة على الاستجابة لبدايات القرن الحالي، أو التلاؤم مع التجربة الإنسانية، وأن فسادها من خلال الخذلان السياسي، وغوغائية الاستهلاك الضخم، كما يقول أستاذ الأدب الألماني، وولفجانج فروهوالد سوف يحولها إلى أداة للانغماس في البوهيمية.
وبنفس القدر الذي أصبح عليه تاريخ العلم ذاته تاريخ انسحاب اللغة، وتاريخ التشكك في اللغة وفي التجربة اللغوية، والذي وضح فيه الابتعاد المخيف لمجالات أكثر اجتماعية، واقتصادية، وسياسية وثقافية، وعلمية عن (لفظية) الثقافة (والذي يرمز له الآن بالتحول الرمزي في ثقافتنا) تتغير الجامعة أيضا.
فالجامعة، قبل كل شيء، معرضة لمتطلبات السوق غير المنطقية، والأيديولوجية تأخذ شكل نظرية اقتصاديات الأعمال التي تحولت إلى أيديولوجية.
فلقد دخلت أيديولوجية القيمة مقابل المال الجامعات على مستوى العالم كوباء سرطاني. وقد أعلنت جريدة الجارديان الأسبوعية عن طرح كتاب (رون بارنيت) في الأسواق. هذا الكتاب يقيم الدليل على كيف أن أيديولوجية المبيعات قد اكتسبت لنفسها قدما راسخة في الجامعات البريطانية. وتثبت كيف أن بعض الأفكار، مثل المقاولات، والجودة، والتنافس، والإدارة، قد غيرت عادات وتقاليد الجامعات. ويعتقد (بارنيت) أن هذه القيم الجديدة تتحدى الهوية التاريخية، والقيم التقليدية للجامعة، إن الجامعة، على مستوى العالم لا تمر بمجرد أزمة، ولكنها في قلب عملية تحول تتزايد بسرعة رهيبة، وهي عملية قد غيرت الهوية التي تطورت عبر 1700 سنة، وتتحرك في اتجاه تجارة وبيع العقليات، وإلى معنى من معاني الانتماء إلى تعليم وتدريب السوق، هذا السوق حول العلاقة بين الأستاذ والطالب إلى علاقة مندوب المبيعات والزبون (بما في ذلك كل حقوق الثقة في المنتج، وتعدد قنوات تقديم الشكاوى)، إنه أمر يهدد المهمة الثقافية لمؤسسة الجامعة.
إن المبدأ الأساسي للجامعة بأشكالها المختلفة باختلاف البلدان، نشأت كلها من فكرة أساسية في العصور الوسطى.
فالجامعة تقوم على العلاقة بين الأستاذ والطالب، والتي تتم عن طريق اللغة، ويقول (وولفجانج فروهوالد):
إن الجامعة الحديثة تقوم على العديد من الأسس:
(1) مفهوم العلم غير الكامل والذي لن يكتمل أبدا
(2) العلاقة بين الأستاذ والطالب، التي تنشأ من العلاقة الندية بين الباحث القديم والباحث الجديد عن العلم
(3) المتابعة التي يمارسها الطالب على الأستاذ (من خلال اهتمامه بموضوعات الدراسة)، وتلك التي يمارسها الأستاذ على الطالب. فلو لم يجتمع الطلبة حول المدرس بمحض إرادتهم، قد يذهب المدرس إليهم للمساعدة في الوصول إلى أهدافه، بربط تجربته الخاصة بهم، بل قد تنتقل المعلومات في اتجاه واحد من الأقوى إلى الأضعف، ولكن بشكل أقل حيوية فكريا، وبعقلية أكثر انطلاقا وجرأة من جانب الطلاب، لتصل إلى كل الاتجاهات كما يشير لذلك (فون هامبولدت).
لا يجب أن ينظر إلى الجامعة على أنها مركز استهلاك، أو مركز تسوق، أو مكان تباع فيه المعرفة المغلفة تغليفا يجعلها سهلة التناول، والاستهلاك، والفحص، ولكن يجب أن ينظر إليها على أنها مؤسسة توفر مساحة للعقل حتى يعمل في حرية، ومكان يجتمع فيه المتمكن مع قليل الخبرة، والمتمرس مع المبتدئ، والمسن مع الشاب من الباحثين ليتناقشوا حول الأفكار، والمنهج، والحلول.(8/23)
فقد حققت الجامعة الأمريكية هذا النموذج من أنقى صوره، وهو ما كفل لها الريادة بين جامعات العالم حتى يومنا هذا، لذلك فللجامعات مهمة ثقافية تفوق في أهيمتها مهمتها التعليمية. فهي تتضمن النظرة الكلية للتجربة والموضوعية، أي المهام المساوية لذلك في الأهمية، والمتمثلة في اكتساب المعرفة، والوصول لحلول وتوجيهات فوق المحيط الهائل من الجهل، والذي يبدو في موضوع البحث في كل العصور، مجرد جزيرة، وليس كفارة، وبهذا المعنى فالجامعات جزء من (الثقافة الأخلاقية) لأي أمة، فهي المؤسسات العالمية المحلية.
يجب على الجامعة أن تلعب دورا يختلف تماما عن مجرد كونها مكان إنتاج لسلع خاصة. حتى وإن كان ذلك بسبب تجدد العلوم التي انزلقت إلى النزعة التجريبية والصمت، فقد أصبح لزاما على الجامعة أن تستغل إمكاناتها النظرية، التي لم تستغل بعد إلى حد كبير، خارج نطاق ألعاب اللغة، وتافه الفكر، لتبحث عن سبل وجسور عبر جبال البيانات، حتى تستطيع أن تقدم نظرية للعالم الذي أصبح غير شفاف، والذي لا نستطيع معه الآن أن ننظر إليه ككيان واحد.
http://www.aldaawah.com المصدر:
==============(8/24)
(8/25)
الثقافة الإسلامية في عصر العولمة (1- 2 )
سهيلة زين العابدين حمَّاد
إنَّ الموضوع الذي نحن بصدده جد خطير وهام؛ إذ لابد من هذه الوقفة مع واقع الثقافة في عالمنا الإسلامي الذي يواجه الآن كل تحديات أنواع العولمة (الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأدبية، واللغوية، والفكرية، والثقافية).
ومما لاشك فيه أنَّ هذه المجالات جميعها تكون عقيدة وفكر وثقافة الأمة التي من خلالها يتحدد سلوك أفرادها، وقرارات قاداتها.
وقراءة منا لواقع الثقافة في عالمنا الإسلامي، وحال مثقفيها نجد أنَّنا -للأسف الشديد- مهيئين تماماً لقبول العولمة، بل والذوبان في الآخر، وهذه ليست نظرة تشاؤمية، ولكن حاضرنا الثقافي هو الذي يشهد بهذا، فنحن منذ ظهور الإسلام حتى وقتنا الراهن كنا فريسة لمخططات الغرب التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة، ولابد لنا أن نكون صريحين وواقعين حتى لانخدع أنفسنا ونوهمها بحسن نية الآخر تجاهنا، وحتى لا نعطي للآخر حجماً أكبر من حجمه، أو نستهين بما يخططه ضدنا للتظاهر بأننا لسنا من ذوي نظرية التآمر التي نجح الغرب في أن يجعل عددًا كبيرًا من مثقفينا يعتنقها ليخطط ويحقق أهدافه دون أن توجه إليه أصابع الاتهام، ولنتقبل ما يخطط لنا دون إدراك أبعاد وخطورة هذه المخططات كما هو حاصل الآن، علينا أن نقرأ التاريخ، ونتعرف على حقيقة علاقة الشرق بالغرب، وأبعاد هذه العلاقة وأهدافها، ونتوقف عند علاقة الغرب بالإسلام وموقفه منه، ومخططاته لمواجهته، ونظرته للمسلمين عامة وللعرب بصورة خاصة، وما يفعله الآن معنا.
إنَّ ما يحدث ليس وليد التسعينيات من القرن العشرين ولكنه حصيلة قرون عديدة تصل إلى ما قبل عصور التاريخ، ومما ينبغي علينا أن نحذر من الغرب؛ لأنه يريد طمس هويتنا ومسخ شخصيتنا واقتلاعنا من جذورنا وإحلال ثقافته ودينه وعقيدته وأمراضه وانحلاله محل ديننا وثقافتنا وقيمنا وأخلاقياتنا، مع فرض هيمنته السياسية والاقتصادية والعسكرية علينا، وحرماننا من حق المعارضة وإبداء الرأي، والدفاع عن حقوقنا الشرعية. وجعلوا منا من أصبح يناهض كل ما هو إسلامي، ويطالب بإلغاء ثوابت الإسلام، وإسقاط الإسلام من دساتير الدول الإسلامية، وقصره على العبادات، ومنا من فقدوا ثقتهم في العقلية الإسلامية، وشككوا في قدرات المسلمين، ونسبة إنجازات المسلمين للغرب، ووصفوا الإسلاميين بسرقة أفكار الغربيين ونسبتها إليهم، بل نجد اللغة الإنجليزية قد أصبحت هي الأساسية في الدراسات الجامعية في جامعاتنا، ليس في العلوم التجريبية فقط، بل أصبحت لغة دراسة الاقتصاد والإدارة أيضاً.
كما نجد الغرب قد نجح في نسبة الإرهاب إلى الإسلام بشرائه لمجموعة من الأفاكين مستغلين حبهم للمال وحاجتهم إليه للقيام بأعمال إرهابية، ونسبتها إلى جماعات إسلامية، هم في الغالب وراء إيجادها وتكوينها، حتى أصبحت الحكومات الإسلامية تخشى من كل ما هو إسلامي.
أليس هذا هو واقعنا الآن؟
قد يقول قائل: الخطأ خطؤنا ونحن أوصلنا أنفسنا إلى ما نحن عليه الآن، وأنا أتفق مع هذا القائل، ولكن لكي نكون واقعيين لابد لنا أن نضع أيدينا على الأسباب التي أوصلتنا إلى الحال هذه، ومن وراءها؛ علَّنا نستطيع تلافيها. وهنا يتطلب منا أن نطرح هذه الأسئلة:
متى تعَّرف الغرب إلى الشرق؟ وماذا كانت طبيعة هذه العلاقة؟ وما أهدافها وغاياتها؟ وكيف كانت نظرة الغرب إلى الشرق؟ وما هو تأثيرها على الثقافة العربية والإسلامية؟
وسأبدأ بالإجابة عن السؤال الأول:
متى تعرَّف الغرب إلى الشرق:
لقد تعرَّف الغرب إلى الشرق عبر قرون طويلة، وعن طريق عدد كبير من الكتَّاب والرَّحالة والجغرافيين والمؤرخين، وقد اختلفت وسائل اتصال أوربا بالشرق باختلاف أهدافها وبواعثها من وراء هذا الاتصال، وقد بدأت بعلاقات تجارية ترجع إلى أيام الكنعانيين، ثمَّ تلتها علاقات حرب واحتلال في زمن الإسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد الذي وقف علماؤه لدراسة الشرق ليتمكن من غزوه. وهذه تعد البداية الحقيقية للاستشراق.
صورة الإسلام في أوربا من خلال الكنسية وكتابات المستشرقين:
وعندما ظهر الإسلام كثّفت الكنيسة جهودها لمهاجمة الإسلام والنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولقد ظهرت آراء ومواقف فظة ومشوبة بالعصبية في العقيدة الإسلامية، وقد أوضح المستشرق البريطاني ريتشارد سوذرن في كتابه "صورة الإسلام في أوربا في العصور الوسطى"، وكذلك نظيره نورمان دانيال في كتابه "العرب وأوربا في العصور الوسطى" تلك المواقف الفظة المشوبة بالعصبية ضد الإسلام ونبيه -محمّد صلى الله عليه وسلم ، وإلحاق فعال وصفات به هو منزه عنها، ولا تمت إلى الحقيقة والواقع بصلة، فقط ليشوهوا صورته وليصرفوا الناس عن الإيمان برسالته وبنبوته، وليفرغوا حقدهم عليه، والمجال لا يتسع لذكر ما نسبوه إليه باطلاً، ولكن يبين لنا هذا أنهم في تعاملهم معنا يخرجون عن جميع مبادئ وأسس الحوار العلمي الموضوعي المنطقي الذي يتظاهر به الغرب في نقاشه وحواره معنا.(8/26)
قد يقول قائل إن طريقتهم اختلفت مع مشارف القرن العشرين، ولا سيما في العقود الأخيرة منه، وأقول هنا من خلال دراستي للاستشراق، ولبعض المدارس الاستشراقية -وأهمها المدرسة البريطانية والفرنسية والألمانية، وغيرها- وموقفها من السيرة النبوية؛ وجدتها لم تخرج عن الإطار الذي رسمه المستشرقون الأوائل الذين كان معظمهم من رجال الكنيسة، وعند دراستي لمصادرهم وجدت أن كتابات أولئك المستشرقين هي مصادرهم الأساسية، أمَّا المصادر الإسلامية فما هي إلاَّ مجرد إطار لوضع الصورة التي رسمها المستشرقون الأوائل مع تخفيف حدة الهجوم المباشر بتغليفه بغلاف يوحي بالمنهجية العلمية والموضوعية، ولكن عندما تتفحص في المحصلة والنتيجة تجد أنها لا تخرج عن الصورة التي رسمها أولئك المتعصبون الحاقدون على الإسلام ونبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتؤكد ما أقوله أهداف الدراسات الاستشراقية ونتائجها.
أهداف الاستشراق ونتائجه:
نتيجة لكشف بعض الباحثين العرب- في مقدمتهم الدكتور إدوارد سعيد، والأستاذ عبد النبي أصطيف، والدكتور أنور عبد الملك- أمام الرأي العام العالمي أهداف ومناهج المستشرقين مبينين مثالبه وعيوبه فلقد تخلى المستشرقون رسمياً عن مصطلح "مستشرق" في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عقد في باريس صيف عام 1973م، وقال المستشرق الصهيوني البريطاني الأمريكي برنارد لويس: "فلنلق بمصطلح مستشرق في مزبلة التَّاريخ"، لكنهم لم يتخلوا عن مناهجهم، وقد أعلنوا هذا في ذات المؤتمر، واتخذوا من مراكز المعلومات مصطلحاً جديداً للاستشراق الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية لتمارس من خلاله على الشرق ولاسيما الشرق الإسلامي ودول العالم الثالث نوعاً جديداً من الاستعمار، وهو أخطر أنواع الاستعمار ولم يسبق للبشرية أن رأت مثيلاً له، وهذا الاستعمار هو "العولمة".
هذا و للاستشراق أهداف دينية وتنصيرية، وأهداف سياسية، وأهداف استعمارية عسكرية، وأهداف علمية، والحديث عن هذه الأهداف طويلة جدًا، لذا سأوجز الحديث عنها.
3/9/1424
28/10/2003
http://www.islamtoday.net المصدر:
==============(8/27)
(8/28)
الثقافة الإسلامية في عصر العولمة ( 2 - 2 )
سهيلة زين العابدين حمَّاد
توقفتُ في الحلقة الأولى من هذه المقالة عند أهداف الاستشراق التي سوف أوجزها في الآتي:
أولاً: الأهداف الدينية والتنصيرية:
1- لقد أسهمت الدراسات الاستشراقية في إيجاد الأرضية في كثير من بلاد المسلمين للدعوة التنصيرية، وقد كتب بعض المستشرقين ونظَّروا لكيفية التَّنصير مع المسلمين، مثل ما قام به المستشرق المُنصِّر القس صموئيل زويمر في معهده الذي أنشأه باسمه من قبل المؤتمر التَّنفيذي ليكون مركزاً للأبحاث مهمته إعداد الأبحاث وتدريب العاملين في صفوف المسلمين لتعزيز قضية تنصير المسلمين، وكذلك المستشرق البريطاني وليم موير، ويشهد على ذلك كتابه " شهادة القرآن على الكتب اليهودية والمسيحية " فهو كتاب تنصيري في المقام الأول. ومسلسل التنصير لم ينته بعد فلقد أعلن البابا في المجمع المسكوني الثاني الذي عقد عام 1965م خطته لتنصير العالم واقتلاع الإسلام مع قدوم الألفية الثالثة بحيث يتم استقبالها بلا إسلام، ولعل حملات التنصير المكثفة التي شهدتها إندونيسيا تعطينا مؤشراً لذلك، بل الأخطر من هذا وجود بعض المدارس التنصيرية في بعض دول الخليج العربي، ولعل كتاب " الغزو التبشيري النصراني في الكويت" لأحمد النجدي الدوسري يكشف أبعاد هذا المخطط، أيضاً النشاط التنصيري المكثف في الجنوب السوداني لإيجاد دولة مسيحية سودانية تمهيداً لاقتلاع الإسلام من السودان، وقد شرعوا بالفعل لتنفيذ هذا المخطط، كما نجحوا في تفتيت وحدة إندونيسيا، وقسَّموا تيمور إلى شرقية وغربية، بينما نجدهم وحَّدوا برلين الشرقية والغربية.
إنَّ مخطط تجزئة الدول الإسلامية وشطرها إلى شطرين: مسيحي وإسلامي، أو تقسيمها على أساس مذهبي أو عرقي كما هو مخطط للعراق، وغيرها من دول المنطقة، كل هذا يؤكد أنَّ هدف الغرب القضاء على الإسلام، وأن أساس الصراع بيننا وبين الغرب هو الدين الإسلامي في المقام الأول ويظهر هذا بوضوح في الحروب الصليبية، إذ خشي الغرب من المد الإسلامي، وعندما فشلت هذه الحملات، ولم تحقق أهدافها نشأ الاستشراق الذي ركَّز هجومه على القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه الإسلامي والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، واللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم، وكذلك دراسة الأدب العربي، والعمل على إحياء الفرق المنحرفة في تاريخ المسلمين كالباطنية، وقضوا السنوات في إخراج كتب ليؤثروا في المفاهيم الأساسية للإسلام، وذلك بثنائهم على البهائية والقاديانية، وقد أوجد الاستعمار البريطاني القاديانية، إذ أشاد بها لأنها كما زعم- جاءت بآراء حرة مستقلة ووصفها بالعقلانية، والاستنارة والتجديد ليخدع بها بعض المسلمين، وليشوه تعاليم الإسلام، وللأسف هناك أقلية من المسلمين تأثرت بفكر هذه الفرق المنحرفة واعتنقت عقائدها.
كما أسهم المستشرقون بقدر كبير في إحياء القوميات في العالم العربي خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، فقد نبَّش المستشرقون في الحضارات الجاهلية القديمة؛ لإحياء معارفها من ذلك: بعث الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا، والآشورية في العراق، والفارسية في إيران، والطورانية في تركيا، أمَّا الجزيرة العربية فلقد بحثوا في آثار السَّابقين، وأسموا دراستهم " التاريخ الحضاري للعرب قبل الإسلام "، وتعمدوا بذلك إظهار الحضارات القديمة ليطفئوا نور الإسلام، وأنَّ الإسلام ليس وحده هو الذي قدَّم الحضارة الإنسانية، وترتب على مثل هذه الدراسات الآتي:
ا- تحسين سمعة الجاهلية القديمة، وتمجيد رجالها.
ب- بث النعرات الانفصالية في الأمة الإسلامية.
ج-محاولة قطع صلة الأمة الإسلامية بماضيها الحقيقي الذي بدء بظهور الإسلام.
د- تهيئة بعض المسلمين لتقبل قيام حضارة لهم غير مهتدية بهدي الإسلام، كما نشأت في تلك الحضارات القديمة.(8/29)
- كما سعى المستشرقون في نشر بعض الأيدلوجيات الأجنبية في الأراضي الإسلامية كالشيوعية، فلقد أشاد المستشرق " بندلي جوزي" بالقرامطة، وأدعى أنَّهم والإسماعيلية الشيوعيين الأولون في الإسلام، وذلك في كتابه "من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام "، كما زعم المستشرق الفرنسي "جاك أوستري" أنَّ هناك بعض الشَّبه بين الإسلام والشيوعية من حيث عالميتها وتساميها على القوميات والعنصريات، وقد شبَّه كذلك نظام الدَّولة في الإسلام بنظام الدَّولة في النِّظام الشيوعي، وقد تأثر بهذه الكتابات بعض الكتاب المسلمين، وعملوا على نشرها مثل الكاتب الكبير "توفيق الحكيم" في سلسلة مقالاته التي نشرت في الأهرام "دفتر الجيب"، وذلك في الفترة من 21إبريل حتى 15سبتمبرعام 1981م، وقد قرَّر في هذه المقالات أنَّ الشيوعية تسير على مبدأ الإسلام في قوله - تعالى -(وفي أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم)، وأراد أن يثبت أنَّ المادة قد طغت على الإسلام عند تطبيقه لنظمه؛ ليجعل الإسلام لا يختلف عن الشيوعية من ناحية طغيان المادة، واتخذ من الإسلام وسيلة للدعوة لتطبيق الاشتراكية، والأخذ بالشيوعية، بل قال في كتابه شجرة الحكم السياسي صفحة 507: " أنَّ الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم كان يسارياً هو وسائر الأنبياء "، ونسمع الآن عن الإسلام اليساري الذي يتزعم دعوته الأستاذ حسن حنفي.
- كما شجَّع الاستشراق على نشر الليبرالية الغربية وتبعيتها في بلاد المسلمين، وقد حاول بعض المستشرقين أن يخدعوا بعض المسلمين، بأنهم إذا أرادوا التقدم واللحاق بركب الأمم الصناعية ما عليهم إلاَّ أن يتبنوا المنهج الأوربي الذي قام وفُرِض بعد نقض كتب العهد القديم والعهد الجديد "، وهي أقدس كتب لديهم وهم بهذا يريدون من المسلمين التجرؤ على كتاب الله ونقده، وللأسف فقد تأثر بعض الأساتذة المسلمين بهذه الدعوة في مقدمتهم الأستاذ الدكتور طه حسين، إذ دعا طلبته في كلية الآداب إلى نقد القرآن الكريم بوصفه كتاباً أدبياً، وأثار الشبهات حول كلمة كتاب وقرآن، وقال إنَّ الكتاب غير القرآن، وأنَّه كان موجوداً قبل نزول القرآن، وإنَّ القرآن صورة عربية منه، وأنَّه أخذ صوراً من الكتب التي قبله، ويقول: "إنَّ هناك قرآناً مكياً له أسلوب، وقرآنا مدنياً له أسلوب آخر، وإنَّ القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة والخلو من المنطق، أمَّا القسم المدني فيمتاز بمناقشة الخصوم بالحجة الهادئة، وهذا القول هو ما يردده المستشرقون، وفي مقدمتهم المستشرق اليهودي البريطاني دافيد صموئيل مرجليوث في كتابه "مقدمة الشعر الجاهلي" الذي ترجمه الدكتور طه حسين ونسبه إلى نفسه، مسمياً كتابه " الشعر الجاهلي"، والذي قال فيه بخلق القرآن، ثمَّ تراجع عن ذلك عندما وجد اعتراضاً على ذلك.
- قيام بعض المستشرقين برصد الحركات الإسلامية المعاصرة، ودراسة أحوالها وأوضاعها ليمكنوا صناع القرار في البلاد الغربية من مكافحتها، وبذل كافة الوسائل لإطفاء نورها، وهناك عدد من المستشرقين مثل: "هاملتون جيب"، و"ميشيل ريتشارد"، و"ألفريد سميث" وغيرهم كتبوا عدة دراسات عن هذه الحركات، ومن أحدث الدراسات عن هذه الحركات أعدها المستشرق الأمريكي جون سبوزيتو عن ظاهرة الصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي، وهي على صلة وثيقة بالبيت الأبيض الأمريكي.
إنَّ رجال الحكم الغربيين والإعلاميين حريصون على معرفة الحركات وزعمائها، وفي شهر مايو سنة 1992م صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية بولاية ماريلاند "بأنهم في هذا القرن أي القرن العشرين قد أخيفوا بثلاث تيارات: الشيوعية، والنَّازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنَّازية ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية"، فمن أخطر دراسات المستشرقين عن الإسلام وأهله الدراسات التي تحذر الغرب من قدرات الإسلام الكامنة، وتنبيه الغربيين إلى ثروات المسلمين الهائلة ليخطط الغرب مواصلة سيطرته على بلاد المسلمين، ومن أخطر الدراسات الاستشراقية تلك التي أعدها المستشرق الألماني "باول شمتز" باسم "الإسلام قوة الغد العالمية".
إنَّ مقولة نائب الرئيس الأمريكي عن الإسلام في التسعينيات من القرن العشرين تعيد إلى أذهاننا مقولة رئيس الوزراء البريطاني "جلاد ستون" في أواخر القرن التاسع عشر، أي قبل حوالي قرن من الزمان؛ إذ أعلن رئيس الوزراء البريطاني في مجلس العموم البريطاني وقد أمسك بيمينه كتاب الله - عز وجل -، وصاح في أعضاء البرلمان وقال: "إنَّ العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولابد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر، أولهما هذا الكتاب، وسكت قليلاً، بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال: هذه الكعبة ".
أليس هذا أكبر دليل على أنَّ الغرب لم ولن يغير موقفه من الإسلام والمسلمين؟(8/30)
إنَّ دور المستشرقين لم يتوقف عند هذا الحد، إذ نجدهم مهدوا وساعدوا على الاستعمار منذ عصر الإسكندر الأكبر، ونابليون بونابرت، حتى أواخر القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، سواء كانوا رحالة أو قناصل أو جواسيس، أو منصِّرين.
ثانياً: الأهداف السياسية والاستعمارية والعسكرية:
ممَّا ينبغي التوقف عنده والتأكيد عليه أنَّ نشاط المستشرقين والخبراء الأمريكيين بشؤون الشرق الأوسط يشكل جزءًا رئيساً من نظام التخطيط للعمل الإسرائيلي والأمريكي في المنطقة العربية، وهذا ينبهنا إلى حقيقة هامة، وهي أنَّ الاستشراق يقوم في عصرنا الراهن على مخطط تحدده المصالح الأمريكية والصهيونية في الشرق الأوسط، كما لعب الاستشراق الأوربي من قبل، والاستعمار الإنجليزي بدور في خدمة الأهداف الصهيونية بإنشاء صندوق اكتشاف فلسطين، وإعلاء شأن اليهود مع التقليل من شأن العرب المسلمين، والذي سهَّل للصهيونية تحقيق أهدافها من خلال الاستشراق وجود أكثر من أربعين يهودي في المدارس الاستشراقية الأوربية والأمريكية، ومن أكبر مستشرقيها مثل: جولد تسهير، وشاخت، وكارل بروكلمان، ولويس ماسينون، ومكسيم ردونسون، ومرجليوث، وبرنارد لويس.
ولا ننسى أنَّ بعض المستشرقين أوجدوا النظرية العرقية ليبرروا الاستعمار، ووصفوا العقلية العربية بأنَّها عقلية ذرية غير قادرة على التجميع والقيادة، وممن قالوا بهذا القول المستشرق البريطاني هاملتون جيب، وملف الاستشراق حافل بهذه المواقف التي تدين الحركة الاستشراقية، والتي بسببها أصبح مصطلح الاستشراق مشبوهاً، وأعلن المستشرقون تخلصهم منه ورميه في مزبلة التاريخ، واستبداله بمراكز المعلومات التي تقوم بنفس دور الاستشراق القديم، ولكن في ثوب جديد.
ثانياً: الأهداف العلمية والتمهيد للعولمة الثقافية:
ومما ينبغي لفت الانتباه إليه أن الاستشراق قام بدور كبير في التمهيد للعولمة الثقافية باحتواء كثير من المسلمين ثقافياً عن طريق خدمة المستشرقين للتراث وتحقيقه ونشره وفهرسته، وما إلى ذلك حيث أصبح كل باحث مسلم لا يستغني عن بعض جهودهم في أبحاثه ومكتباته، فيعتمد عليها أو يتناولها بالدراسة، وتأثر بها شعر أو لم يشعر، ويرجع هذا إلى نجاح الاستشراق في السيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، وعلى الرغم من أن بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد إلاَّ أنها في النهاية، وبكل المقاييس تبقى مظهراً من مظاهر الاحتواء الثَّقافي، وقد نجم عن هذا الاحتواء الآتي:
أ-شعور كثير من المسلمين بضعفهم، ونقص إمكاناتهم، وتأخرهم عن غيرهم في العصر الحديث، ونسبة كل الإيجابيات إلى الغرب.
ب-تبعية كثير من الكتَّاب والباحثين فكرياً لهم، ودفاعهم عن مبادئهم ومناهجهم.
ج- وضع أسس لمنهج البحث والتفكير المادي، فكتبوا وبحثوا ونقدوا في ضوء هذا المنهج، كما نجدهم قد طبَّقوا المناهج الفكرية المادية على كثير من علومنا الإسلامية سواءً في التفسير المادي للتاريخ، أو في كتاباتهم عن القرآن الكريم والرسولل صلى الله عليه وسلم فدَّعموا شهادتهم في هذه الجوانب الفكرية باسم المنهج العلمي، ممَّا أدى إلى رواجها واستسلام كثير من الكتاب لها ودفاع بعض المسلمين عنها.
د- لقد رسَّخ المستشرقون مبدأ العلمانية وصدَّروه إلى عالمنا الإسلامي سواء في الجانب الفكري والسياسي، فأصبح من المسلمين من تبنوا مبدأ العلمانية، بل نجد هناك بعض الدول الإسلامية قد تبنت العلمانية، وأعلنت أنَّها دولة علمانية، أو هناك من المسلمين من ينادي بعلمانية السياسة، ونحن لو رجعنا إلى أصل نشأة هذه الدعوة نجد أنَّ المستشرقين ممن روَّجوا لها ودعوا إليها، ولا ننسى أثر ميكافلي في ترسيخ العلمانية السِّياسية، وتجريد السياسة من معاني الدِّين والأخلاق وتبرير الوسائل باسم الغايات.
ه-دعوة المستشرقين إلى الحرية الفكرية المزعومة التي دعوا إليها، ولم يلتزموا بها في بحوثهم وكتاباتهم؛ إذ نجدهم صوروا المفكرين الإسلاميين مجرد نقلة للتراث اليوناني الفلسفي بناءً على نظرتهم العنصرية المقسمة للشعوب إلى: ساميين، وآريين. فالساميون ومنهم العرب لا قدرة لهم على التفكير الفلسفي، وتناول الأمور المجردة بخلاف الشعوب الآرية، كما صرَّح بذلك رينان في كتابه " تاريخ اللغات السامية "، وكذلك "جوتيه" في كتابه " المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية ".
و-كان الاستشراق وراء طرح ونشر مصطلحات متعددة في الجانبين الأدبي والنقدي مثل "الحداثة" و " البنيوية" و "الأبستولوجيا المعرفية" و "والوجودية" و "النثرية" في مجالات الأدب، ولقد كشفت الباحثة البريطانية فرانسيس ستونور سوندرز في كتابها "بعنوان "التكاليف؟ -الصادر في يوليو عام 1999م- قيام الحكومة الأمريكية عبر وكالة المخابرات المركزية لإيجاد مدارس وتيارات ثقافية كاملة ومنها تيار الحداثة، ودعم مجلة الحوار العربية وغيرها، فتجرأ بعض الأدباء والشعراء على الذات الإلهية، فأدونيس كتب قصائد بعنوان " الإله الأعمى، و " الإله الميت "، ويقول في هذه القصيدة: " وبدلت إله الحجر الأعمى وإله الأيام السبعة بإله ميت "(8/31)
(1)، وأعلن كرهه لله، بل ادعى الألوهية في قصيدة " الخيانة "
وأنا ذاك الإله
الإله الذي سيبارك أرض الجريمة
وصلاح عبد الصبور قال في شعره " الشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم "
(2)، وقال في قصيدة " الإله الصغير":
ورقصنا وإلهي للضحى خداً…لخد
ثمَّ نمنا وإلهي بين أمواج وورد
ويقول ذات الشاعر في قصيدة " الناس في بلادي ":
كم أنت قاس موحش يا أيها الإله
(3)وأمل دنقل مجَّد الشيطان فقال في قصيدة له:
المجد للشيطان ……معبود الرياح
من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم "
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال " لا " فلم يمت
وظلَّ روحاً أبدية الألم.
والأمثلة كثيرة لا حصر لها، ولكن ما ذكرته يبين لنا سمة الشعر الحداثي، ومقومات الحداثة القائمة على فصل العقيدة عن الفكر والأدب آخذة بمذهب " الفن للفن، متبنية مذاهب فكرية لا تمت للدين الإسلامي بصلة، بل تدعو إلى الإلحاد وإلغاء العقل، وإحياء فكر الفرق الباطنية من دعاة الحلولية والتناسخ، كما أوجد المستشرقون في الساحة مصطلح "الأصولية " و " السلفية " لتغييب اسم الإسلام.
ز-لم يقتصر المستشرقون في بحوثهم على علم واحد، وإنَّما تناولوا مختلف العلوم، وللأسف لم يلتزموا بالحيدة والموضوعية في أغلب بحوثهم، إذ نجدهم سلكوا سبل التحريف والتشويه في دراساتهم عن القرآن الكريم والطعن في مصدره، وكذلك الطعن والتشكيك في السنة المطهرة وصحتها، وامتد التشويه إلى نبي الإسلام محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وحسبنا قول المستشرق البريطاني وليم موير: "إنَّ سيف محمَّد والقرآن هي أكثر الأعداء الذين عرفهم العالم حتى الآن عناداً ضد الحضارة والحرية الحقيقية ".
ح-تأليف الكتب والمراجع والموسوعات العلمية في موضوعات مختلفة عن الإسلام ونظمه مع التحريف الخفي، والتزييف المتعمد في الوقائع التاريخية، وفي نقل النصوص من القرآن والسنة، وبيان سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإصدار النشرات الدورية والمجلات العلمية الخاصة ببحوثهم عن الإسلام والمسلمين، وإلقاء المحاضرات والخطب في الجمعيات العلمية، وفي كل مكان، ونشر مقالات وبحوث في الصحف والمجلات الواسعة الانتشار، وخاصة في أوساط المثقفين، وترجمة كتبهم ومراجعهم وموسوعاتهم إلى اللغة العربية، ويكفي أن نعرف أنَّ هناك وأقسام عديدة مستقلة للدراسات الشرقية في الجامعات العلمية في الغرب كله، وأنَّ في القارة الأمريكية وحدها حوالي تسعة آلاف مركز للبحوث والدراسات الشرقية عامة، ومنها حوالي خمسين مركزاً خاصاً بالعالم الإسلامي، وأنَّه منذ مئة وخمسين عاماً، وحتى الآن يصدر في أوربا بلغاتها المختلفة كتاب كل يوم عن الإسلام، فقد صدر ستون ألف كتاب بين سنة 1800-1950م. أي عبر قرن ونصف، ويصدر المستشرقون الآن ثلاثمائة مجلة متنوعة بمختلف اللغات في تراث الإسلام، وأنَّ المستشرقين عقدوا خلال قرن واحد ثلاثين مؤتمراً مثل: مؤتمر"أكسفورد" الذي ضمّ تسعمائة عالم.
وما هذا إلاَّ خطة لتهيئة الرأي العام لقبول الغزو العسكري والاقتصادي والثقافي الغربي لبلاد الإسلام من جهة، ولدراسة أحوال العالم الإسلامي، وكل ما يتعلق بشؤونه ليساعدهم ذلك على السيطرة وبسط النفوذ من جهة أخرى.
كل هذا كان إعداداً وتمهيداً لتقبلنا لما هو آت، وهو " العولمة "، بل لخضوعنا لما تفرضه علينا العولمة، وعدم إعطائنا فرصة للقبول أو الرفض، فنحن ما بين عشية وضحاها وجدنا أنفسنا أمام العولمة الدينية -من خلال فرض الحوار الإسلامي المسيحي- والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية في آن واحد، ووجدنا أنفسنا قد فقدنا القدرة حتى على شجب ما تتعرض له الأمة الإسلامية من عدوان ومحاولات إبادة، بعدما فقدنا القدرة عن المشاركة في القتال للدفاع عن ما يتعرض له المسلمون من غزو، فلقد شوهوا مفهوم الجهاد في الإسلام، فصوروا الجهاد في سبيل الله ومقاومة الاحتلال والعدوان إرهاباً، وقتلوا روح الجهاد في نفوس المسلمين بعد اتفاقية كامب ديفيد، وخداعنا بأسطورة السلام مع الذين لا يعرفون السلام، ولا يحترمون العهود والمواثيق، ولا يلتزمون بها.
أخطار العولمة السياسية(8/32)
والطَّامة الكبرى أن "العولمة" السياسية سوف تلغي دور الدولة والحكومة، وأنَّ النظام الاقتصادي العالمي الجديد المفروض علينا سوف يجعل البلاد النامية التي نصنف نحن ضمنها مراكز للتلوث الصناعي، إذ يخطط الكبار نقل مصانعهم إلى بلادنا لحماية بيئاتهم من التلوث الصناعي، مع استغلال العمالة في هذه البلاد لرخصها، ولكن دون أن تنقل لنا تقنية الصناعة أو جعلها في أيدينا، وهذا ما تدرسه الآن بريطانيا لطلبتها وتعِدُّهم لتنفيذه، كما أنَّ النظام المالي الجديد سيتيح المجال أمام المضاربين لضرب اقتصادنا كما حصل في إندونيسيا وماليزيا، كما أنَّ النظام الاقتصادي الجديد سوف يفتح باب الاستثمار على مصراعيه، وهذا يعني أن الصهاينة سيدخلون أسواقنا ويتحكمون في اقتصادنا كما دخلوا بيوتنا من خلال التمويل الأجنبي للجمعيات النسائية الأهلية، والاتفاقيات الدولية -كاتفاقية إزالة أشكال التمييز ضد المرأة التي وقع عليها عدد من الدول الإسلامية-، ومؤتمرات المرأة العالمية، وأصبحوا يفرضوا علينا الخروج عن ثوابت الإسلام مع توعدهم لعلماء الدين إن اعترضوا على ما يفرض علينا من توصيات مؤتمرات المرأة العالمية بسن قوانين دولية تطبق على الجميع، وخاصة القوانين التي تسمح بالانفلات الجنسي تحت مسمى " الصحة الجسدية " أو " الصحة الجنسية"، والتي تتضمن إقرار الإجهاض كوسيلة من وسائل منع الحمل إلى جانب الحرية الجنسية الانفلاتية.
----------------------------------------
1- ديوان أدونيس: المجلد الأول، ص346.
2- ديوان صلاح عبد الصبور: قصيدة الحزين، ص 38.
3- قصيدة كلمات سبارتكوس لأمل دنقل.
10/9/1424
04/11/2003
http://www.islamtoday.net المصدر:
==========(8/33)
(8/34)
العولمة الاقتصادية
إن الظاهرة المعروفة بعولمة الاقتصاد، التي كان هناك ميلٌ لتجاهلها في أثناء سنوات النمو المرتفع وخلال النصف الثاني في الثمانينيات أصبحت الآن تحتل عناوين الصفحات الأولى.
بَيْد أن ذلك ليس تطوراً حديثاً، وإنما استجابة لضرورات الحجم والتنافسية قامت شركات من بلدان كثيرة منذ فترة طويلة بترسيخ نفسها في مناطق العالم ذات النمو الاقتصادي القوي.
وقد ساعدت العولمة الاقتصادية استراتيجيات دول تلك المناطق على النمو الاقتصادي وفتح أسواق جديدة ورفع قيود سعر الصرف وتحرير حركة رؤوس الأموال.
ما أدى إلى زيادة التجارة في السلع المصنّعة على حساب المنتجات الأولية الزراعية والتعدينية ومنتجات الطاقة، وارتفعت نسبة هذه السلع من التجارة الكلية من 50% في السبعينيات إلى 70% في التسعينيات.
إن الاستثمارات في ظل العولمة الاقتصادية كما تشير كثير من الدراسات والأبحاث والتقارير يمكن أن توسع التجارة والأسواق مما يشجِّع التنمية الاقتصادية المستدامة داخل الوطن، وهذه التنمية يمكن أن تسهم في تحسين الظروف المعيشية في البلدان النامية ودعم برامج التنمية البشرية.
ثم إن هناك الكثير ممّن يعملون في صناعة أو أخرى وفي ظل الاستثمارات المفتوحة، سيكون بمقدور كثير منهم العمل في مجال السفريات والسمسرة والعقارات وما إلى ذلك ومع نجاح تلك الاستثمارات وستكون هناك زيادة متوقعة في حجم العمالة الماهرة.
وعلى الرغم من ذلك فإن الصورة ليست ناصعة على الإطلاق، إذ قد تحدث بعض العقبات أو الآثار غير المحمودة في مجالات معينة، وربما تعيق عمل صناعة معينة أو تجارة معينة.
إن كل التغييرات في حاجة إلى وقت، والتغييرات الكبرى تتطلب وقتاً طويلاً.
فخلال انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتوظيف في >هافانا< العام 1948م، اجتمعت الدول الكبرى الشريكة في التجارة العالمية واتفقت على صياغة ميثاق منظمة التجارة الدولية (WTO) ومنظمة التجارة الدولية أنشئت للإشراف على تطبيق اتفاقية (الجات) ووضع أسس التعاون بين (الجات) والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتنسيق السياسات التجارية في الدول الأعضاء.
وقد ذكر بعض الاقتصاديين أنه قد يترتب على إنشاء منظمة التجارة العالمية آثار كثيرة وبخاصة في مجالي الاستثمارات والصناعات الوطنية، مثل:
1 ـ الانفتاح على العالم الخارجي دون حماية جمركية للصناعات الوطنية.
2 ـ تحرير التجارة من كل قيود تعوقها، وإتاحة المنافسة التامة التي تهدف إلى تحسين الأداء، وجودة الإنتاج.
3 ـ اشتداد حدة المنافسة بين الصناعات الوطنية والصناعات الأجنبية.
4 ـ حصول المستهلك على أقصى درجات الإشباع لحاجاته ورغباته بأقل تكلفة ممكنة، على حساب الولاء الوطني.
http://alwaei.com المصدر:
=============(8/35)
(8/36)
هذه صورة للعولمة
د. محمد بن عبد الرحمن أبو سيف الجهني
الحمد لله وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
هذه صورة التقطها تصوري من مقروءاته ومسموعاته ومرئياته أعرضها للناظرين:
يراد للعولمة أن تكون ملّة عامة تجتمع عليها جميع شعوب الأرض، تعطيها ولاءها الملِّي العام، تجتمع عليه وتتعايش به.
وهذه مع كونها رغبة تبدو مغرقة في الخيال لاستحالة نزع ولاء مختلف الناس لمعتقداتهم، وجمعهم على ولاء لملّة واحدة، إذ قال خالقهم: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" [هود: 118]. إلا أن ذلك استُدْرك بإظهار أخذ الملل المتباينة التي تعتنقها الشعوب بعين الاعتبار، ولكن مع إحالتها إلى ثقافات تظهر خصوصياتها من غير أن تمنع اندراجها في تعايش منضبط بضوابط العولمة، ويتأطر بأطرها ويستبقي الولاء العام لها.
واستُدْرك أيضًا بحركة عملٍ مغرقة في الجديّة والإتقان، تقوم على دراسات تفصيلية تجمع دقائق المعلومات وتستقرئ دلالالتها، وتستجلي أغوارها وتستظهر معالمها وتحلل أبعادها، وتؤلف بين متوافقها وتميز بين متباينها وتستنبط طرق التعامل معها وتستنبئ مختلف المتوقعات، ثم تضع الخطط المتعددة المناسبة لكل حالٍ متوقعةٍ، ثم تتتبع النتائج بدراسات تقريرية توضع عليها خطط عمل تتلافى الأخطاء، وتستدرك الإخفاقات وتستديم النجاحات.
وقد أنشئت لحركة العمل هذه مؤسسات، واستُغلت مؤسسات.
فمما أُنشئ: المؤسسات التبشيرية التي من أهم أعمالها المسح وجمع المعلومات وإعداد البيانات للعمل بعيد المدى، وإشاعة معتقدات التبشير للعمل قريب المدى.
والمؤسسات الإعلامية التي من أهم أعمالها تلقين المبادئ، وإشاعة الأفكار وتهيئة الساحة.
ومما استُغل: هيئة الأمم المتحدة؛ فاستخدمت مؤسساتها في عقد التعهدات والمواثيق وجمع التواقيع عليها ومتابعة الالتزام بها، وفي إقامة المؤتمرات للتمهيد لإقرار التحولات الثقافية والتشريعية.
والمراكز الاستخباراتية؛ فاستخدمت في عمليات المسح، وجمع التقارير وإجراء الدراسات واقتراح الخطط.
وفي الطريق إلى العولمة اتخذت وسائل وركزت دعائم.
أما الوسائل: فاستهدفت أمرين:
الأول: إنشاء روح قبول العولمة والإقبال عليها، وذلك بإشاعة قدر من العلاقات العامة، يجمع مختلف أهل الملل على روح إخاء ومودة متحررة من ضوابط مللهم.
واتُّخذت (الرياضة) وسيلة فاعلة لتحقيق هذا الهدف.
فالرياضة - بدوراتها المختلفة وأولمبياتها المتنقلة بين دول العالم، وما يرافقها من زخم إعلامي فاعل - أحدثت تعايشًا بين شعوب العالم متحررًا من التباين الملي والثقافي، بإشاعة الروح والأخلاق الرياضية التي تنتمي في ولائها لقوانين الفيفا تجتمع عليها وتصدر عنها.
فالمسلم والكافر المسيحي والكافر البوذي وغيرهم يجتمعون في حميمية رياضية، يتنافسون مجتهدين للوصول إلى الكؤوس وتحصيل الميداليات، لا تلحظ فرقًا يميِّز أحدهم عن الآخر أو خصوصية يبرزونها إلا ألوان الأعلام على أجسادهم، ولا شريعة يدينون لها إلا أحكام الفيفا.
وأحكام الفيفا هي الملة الرياضية التي تأخذ بتلابيب الحركة الرياضية في العالم، حتى إنه لا عبرة لأي حركة رياضية في أي مدينة في أي دولة من العالم ما لم تكن مسجلة في كشوفات الفيفا وتحمل تصريحها.
وفي الرياضة يتبلور نموذج حي للعولمة في هيئتها النهائية.
الثاني: نزع روح رفض العولمة والإعراض عنها، وذلك بالتركيز على الفرد، وربطه بشهواته، وتدريبه على التمرد على الروابط الثقافية التي ينتمي إليها وتربطه بأهل ملته خاصة، وإغرائه بروابط تدفعه إلى الانتماء إلى كل ما يشبع شهواته من أي ملَّة كان.
واتُّخذت (الإباحية) وسيلةً فاعلة لتحقيق هذا الهدف.
فأغرق العالم بإعلام إباحي ينشر ثقافة الحرية العاطفية والجنسية المتحررة من قيود الدين والتقليد والعادة إلا قيدًا واحدًا هو قيد التراضي بين طرفي العملية العاطفية والجنسية؛ فلا يُقبل التحرش والاغتصاب، وهو القيد الذي تحل طاقاته الإثارات الصارخة التي تجري مجرى الدم في الطرفين، التي يروجها الإعلام ويلقن الطرفين معها ثقافة الحرية الفردية في ملة العولمة، ويرفد ذلك توفير وسائل ممارسة تلك القاذورات:
- من وسائل اتصال عديدة كالمحادثات في الإنترنت.
- وأماكن ممارسة الرذائل، كالخمارات ودور الدعارة والملاهي الليلية.
- وسن القوانين التي تحتضن هذه الممارسات، وتحرسها بسلطة من سلطان العولمة، كقانون الإجهاض.
وأما الدعائم فاستهدفت أمورًا:
الأول: ربط العالم أجمع بمختلف ملله بمصالح مشتركة لا تقوم حياة الشعوب إلا بها، وتديرها جهة واحدة يبتدئ منها وينتهي إليها سائر شأن هذه المصالح.
واتُّخذ (الاقتصاد) دعامةً ليس ثمة أثبت منها لتحقيق هذا الهدف، إذ هو عصب الحياة.
وهاهي دول العالم تلهث لهاثًا شاقًا للانضمام إلى (منظمة التجارة العالمية) التي تجمع أعضاءها على الولاء لملةٍ اقتصادية عولمية تلغي كثيرًا من خصائص الملل التي ينتمون إليها، وتلحق ما تتبناه بهوية العولمة، فلا تبقى له خصوصية يتميز بها.(8/37)
وإنما يدفع دول العالم إلى هذا اللهاث أن المنظمة العولمية هذه أمسكت بزمام الاقتصاد العالمي، حتى بدا أن مصالح الشعوب لا تتم إلا بالانضمام إليها، والولاء لملّتها، وإلا فليصارع الرافض الممتنع البقاء.
الثاني: نشر الحرية الفكرية والدينية في كل مجتمع، ومنع غلبة دين أو فكر في أي مجتمع، ورد الشرائع التي يجري عليها عمل كل مجتمع إلى مجموع ما فيه من ديانات وأفكار.
واتخذت (الديمقراطية) دعامة تُثبت هذا الهدف.
فالديمقراطية نظام ثقافي يقوم على تمكين كل أصحاب دين أو فكر من ممارسة شعائره ونشر تعاليمه والدعوة إلى مبادئه، وتكوين قاعدة شعبية له من أفراد المجتمع، وذلك في ظل حزب يشكله ويتخذ مقرًا له، وهيئة تتولى إدارته وتأسيس مطبوعات دورية ونشرات دعائية، والقيام بسائر النشاطات الثقافية التي يمارس من خلالها عرض ثقافته والدعوة إليها، وفي الديمقراطية مجلس تشريعي يسمى (البرلمان) إليه يرد سنُّ القوانين وتشريع الأحكام التي تكون شريعة المجتمع، تفرض على أفراده يلتزمونها ويتحاكمون إليها. وهذا البرلمان يتكون من مقاعد يشغلها المنتخبون من مرشحي الأحزاب، تقسم بينهم بنسب تعادل النسب التي يشغلها كل حزب في المجتمع. يجتمع هؤلاء ويقترح من شاء ما شاء من قوانين للمجتمع، ويعرض اقتراحه بعد مداولات على التصويت، فإن فاز بأغلبية أصوات أعضاء البرلمان اعتمد قانونًا يخرج للمجتمع للعمل به والتحاكم إليه، يخرج تشريعًا يحمل هوية شعبية مشتركة، لا هوية أي دين أو فكر اقترحه أو أعطى صوتًا له.
وعليه فليس للمجتمع ملة إلا ملة العولمة في نظامها المسمى بالديمقراطية، وكل ملة تنتهي في هذا النظام عند اقتراح تشريعاتها في برلمانه، فإن فازت أو شيء منها بأغلبية الأصوات استحالت شريعة شعبية ديمقراطية.
وأي حزب أراد أن تغلب في المجتمع تشريعات ثقافته فعليه ممارسة أكبر جهد لتكوين أكبر قاعدة شعبية له، لعله يحظى بأكبر عدد من مقاعد البرلمان، فيستطيع تمرير مقترحاته بأغلبية الأصوات، ثم هي بعد هذا لن تنسب إليه ولن تحمل اسمه.
الثالث: تعميم نظام دولة في كل مجتمع يحكم شؤونها بتمكين ثقافة الديمقراطية وممارستها عمليًا ورعايتها وحراستها وحماية حماها، فلا تتمكن أي ملة أو فكر من الإفلات من سلطة هذا النظام وتولي زمام الأمور.
واتخذت (العلمانية) دعامة تثبت هذا الهدف.
والعلمانية هي السلطة التي أقصت سلطة الكنيسة في المجتمع الغربي، وعزلتْ الدين عن الدولة وقيدته بالفرد، جعلته حريته التي لا تتجاوزه إلى غيره، فهي في أصلها حركة تمرد على التدين بدينٍ؛ إذ هي (اللادينية)، وما دام الأمر على هذا فليس خير منها للعولمة في سياسة المجتمعات، وقمع تسلط الديانات فيها، وهي السلطة التي تمنح التصريح لإنشاء الأحزاب أو تمنعه، وهي التي تراقب وتشرف على حركة الأحزاب وممارساتها، وتنظم انتخابات المجلس التشريعي، وتنفذ القوانين التي يصدرها.
الرابع: تمكين تمييع الأديان وإزالة خصوصياتها بضم شعائرها بعضها إلى بعض لتكوين شعائر موحدة للعالم، والتقريب بين شرائعها للخلوص إلى شريعة موحدة للعالم.
واتخذت (وحدة الأديان) دعامة تثبت هذا الهدف.
والدعوة إلى وحدة الأديان والتقريب بينها دعوة غير خافية ولا مجهولة، فهي قائمة على قدم وساق منذ زمن ليس بالقريب، ولا تسل عن كثرة المؤتمرات والندوات الدورية في الشرق والغرب تتوالى فيها الدراسات للتقريب بين المسيحية والإسلام.
وفي الفاتيكان مركز لأرشفة الدراسات في التقريب، وتسهيل الاطلاع عليها واستفادة الباحثين منها.
ولا تسلْ عن شعار (الإبراهيمية) الذي استحدثه دعاة الوحدة، والصلاة الإبراهيمية التي رعتها الأمم المتحدة، وهي خليط من صلاة المسلمين والنصارى اليهود، ولا عن الدعوة إلى طبع القرآن مع الكتاب المقدس في مطبوعة واحدة مجتمعة بين دفتين، ولا عن إنشاء المبنى الواحد المشتمل على المسجد والكنيسة ودار الأوبرا، وشعار "الإبراهيمية" ناشئ عن دعوى أن الأديان السماوية الثلاثة تجتمع في الانتساب إلى إبراهيم - عليه السلام - فلا وجه للتفريق بينها.
هذا، وتقف هذه الصورة للعولمة بوسائلها ودعائمها أمام خلفية تطل من ورائها على النحو التالي:
أصل فكر هذه الملة (العولمة)، ومنشأ منهجها وُلد من رحم معاناة النصارى من سلطان الكنيسة، ولم تكن صورتها في البدء إلا تنحية الدين عن القيادة في المجتمع الغربي في فكر سمي بالعلمانية، ثم أثمرتْ الدراسات الاستشراقية العمل على تعميم هذا الفكر والمنهج في العالم الإسلامي، وتمكين ذلك بخدمته بالوسائل والدعائم المذكورة، وبإدراج بقية العالم فيه ليخلص الكون لهذا المنهج فلا يند منه شيء عنه.(8/38)
والدراسات الاستشراقية إنما أنشئت لتخدم أمرين: أحدهما: حاجة الغرب وضرورته لثروات الشرق الإسلامي، ونزعة الغرب بتاريخ قيصريته وغاراته الصليبية للحصول على تلك الثروات بيد عليا عزيزة لا سفلى ذليلة، ولا يكون ذلك إلا بسيادة على تلك الثروات لا تكون بالاحتلال العسكري المباشر؛ لأنه يثير التمرد ويؤدي إلى الصراع، فتتكدر السيادة أو تزال، ولكن بسيادة مستقرة دائمة آمنة، ولا سيادة تحقق ذلك كالسيادة الفكرية الروحية التي تضمن تبعية عقول أصحاب الثروات وسلوكهم للغرب، والسيادة الاقتصادية التي تضمن تعلق أسباب حياتهم بالولاء للسياسات الغربية.
والأمر الثاني في مقاصد الدراسات الاستشراقية هو التوصل إلى وسائل المواجهة الفعّالة لخطر الإسلام على الغرب الصليبي الخطر الذي لا يعوق طموح السيادة الصليبية فحسب، بل ويؤذن بإزالة ثقافتها ووجودها.
وقد سبق في تجارب صراع الصليبية مع عدوها هذا ما أظهر -بجلاء لا ريب معه ولا شك وراءه - أن الجند والسلاح والاحتلال، وإن أزالت في حينٍ دولة الإسلام إلا أنها لم ولن تستأصل شأفته، فهو يبقى حيًا ظاهرًا يغالب ظروفه بقوةٍ ذاتيةٍ شامخةٍ لا يضره من خذله.
وقد تيقنت تلك الدراسات أن خطر الإسلام يكمن في ذاته عقيدة ومنهجًا، فهو حيث كان سليمًا من القوادح كانت قوته واستشرت خطورته، فالحرب معه ذاته، وكلما أمكن تحريفه بالشبهات والصد عنه بالشهوات كلما أمكنت السلامة من خطره، ثم إن من أسرار قوته عالميته، فهو يخاطب كل فرد في كل عصر على كل شبر، ويجد خطابه القبول التام الواثق المتيقن؛ لأنه حاجة كل فرد ومنهج كل عصر وعمارة كل شبر، فكلما أمكن تحييده وتمييعه ومنع تميزه عن أي منهج يضاده، وجعله فردًا في مجموعة له ما لها وعليه ما عليها كلما أمكنت السلامة من خطره.
وأثمرت تلك الدراسات أن معالجة خطر الإسلام إنما تكون بما عولج به سلطان الكنيسة، بالعلمانية اللا دينية، ولما كان الإسلام عالمي المنهج والخطاب جابهوه بعالمية الإقصاء والاحتواء حتى لا تبقى له كوة يطل منها، ولكن من غير إثارة تلفت النظر، ولا صراعٍ يذكي روح المقاومة والدفاع، بل بسحر بيان وكهانة شيطان، بمنهج يعد ويمنّي ويضل ويأتي من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال حتى يغيّر أمر الله ويغوي عن طريقه المستقيم، فكانت (العولمة) بوسائلها ودعائمها ذلك السحر وتلك الكهانة.
وابحث عن الإسلام في ظل العولمة ستجده حرية فردية، فإن ترقّى فحزب في جملة أحزاب، فإن ترقّى فمقعد وصوت في برلمان، ثم ليس له وراء ذلك جنس وجود.
وإذا علمت أن الإسلام دين الله وقد تكفل بحفظه، فاعلم أن (العولمة) حرب مع الله.
وإذا كنت مؤمنًا، وتصوَّرت عاقبة تلك الحرب استبشرت ولا بد.
ولينظر العاقل إلى أي الحزبين يركن.
والحمد لله في الأولى والآخرة لا شريك له.
2/12/1425
13/01/2005
http://www.islamtoday.net المصدر:
===============(8/39)
(8/40)
دول أم كتل ؟
د. عبد الكريم بكار
نحن نعيش في عصر جديد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ما في هذا شك ولا ريب. ونحن مطالبون باكتشاف ملامح هذا العصر، وما يفرضه من متطلبات وتداعيات. وحين نتمكن من ذلك فإن الخطوة التالية تتمثل في إعادة برمجة وهندسة أحلامنا ورغباتنا وطموحاتنا بما تسمح به الظروف الجديدة، وإلا فإن تحقيق ما نصبو إليه يصبح بعيد المنال، ويصبح العمل من أجله نوعاً من هدر الوقت والجهد.
تقوم العولمة بعملية خلع وتفكيك واسعة النطاق، إنها تخلع الفرد من أسرته، والأسرة من مجتمعها، والمجتمع من أمته. وخلال هذا الخلع يحدث نوع من التهميش لكثير من القوى الجامعة والضابطة والمسيطرة؛ وذلك من أجل تكوين كتل ضخمة تكون لها السيطرة والنفوذ على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.
العولمة تهمِّش فعلاً مجالات الحركة أمام الدول والحكومات من أجل تسهيل حركة الشركات العملاقة ذات الجنسيات المتعددة أو العابرة للقارات. ولهذا فإن من الممكن القول إننا نشهد اليوم إعادة تركيب العالم على الصعيد السياسي بطرق غير مباشرة.
نحن نحلم منذ زمن بعيد بأن يكون للمسلمين في العالم دولة واحدة، تجعل منهم قوة ضاربة، وتحمي بلدانهم من التآكل الداخلي والغزو الخارجي. وهذا الحلم ينبغي أن يظل موجوداً، لكن تحقيقه اليوم أو في مدى الثلاثين سنة القادمة يبدو بعيداً للغاية..إننا نحب أن يكون لنا شيء هو أعظم بكثير من (الإمبراطورية) لكن في زمان يقاوم بناء الإمبراطوريات.وكلنا يشاهد الصعوبات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحاول توسيع نفوذها بما يشبه محاولة تشكيل إمبراطورية جديدة.ومن هنا فإن هناك من يقول: في المستقبل غير البعيد لن يكون هناك دول كبرى تفرض هيمنتها وتبسط سلطانها؛ ولكن سيكون هناك كتل ومجموعات عملاقة تفرض شروطها على الدول العظمى. والسبب في هذا أن الأموال والأعمال التي كانت تتركز في الدول العظمى، وتكوِّن من ثَم عناصر القوة فيها، باتت تتحرك في الأرض، وبات المستفيدون منها ينتمون إلى دول شتى. ويقدم جنوب شرق آسيا مثالاً على ذلك؛ حيث إن كثيراً من الشركات العملاقة باتت تهيئ فرص عمل كثيرة جداً لأبناء تلك المنطقة، وترتقي بقدراتهم الفنية، كما أنها تنقل اليوم الكثير من الخبرات التقنية خارج حدود أوطانها، مما يحرم الدول المسيطرة في العالم الكثير من امتيازاتها، ولكن تأثير هذا لا يظهر إلا بعد مدة.
ليس للعولمة قيادة مركزية وإن كان هناك من يحاول إخضاعها لرغباته ومصالحه، ولكن كل المشاركين في العولمة يتحركون على قواعد السوق وفي إطار التوجهات الليبرالية والرأسمالية، ومن هنا فإن العولمة تصنع وسائل انتشارها، وتستخدم وسائل موجودة، لكنها لا تستطيع في معظم الأحيان منع الضعفاء والمهمشين من استخدام تلك الوسائل لأهداف مضادة لأهداف العولمة ومصالحها؛ وهذا هو شأن الأفكار وشأن الوسائل، إنه المطاوعة للاستخدامات المختلفة.
انطلاقاً من كل ما تقدم فإن لمّ شعث أمة الإسلام في هذه الحقبة من التاريخ ينبغي أن يقوم على تكوين كيانات ذات طبيعة اختصاصية وعلى كتل ممتدة، يسهم فيها على قدر الوسعة والطاقة كل من يستطيع المساهمة على مستوى الحكومات والهيئات والمؤسسات والأفراد. ويمكن أن ترتكز البدايات على مواقع الإنترنت. نحن لا نريد تشكيل قوة ضاربة، ولكن نريد أن نقوي جسم الأمة ومعالجة المشكلات التي يعاني منها الكثير من أبنائها؛ وحين تتاح الفرصة لاجتماع الأجزاء القوية، فإنه يكون لوحدة الأمة معنى ودلالة وآثار... أما اجتماع المرضى والضعفاء والمفلسين، فإنه لا يولد في العادة إلا المزيد من التوتر والمزيد من الشعور باليأس والإحباط.
وهذه بعض الأمثلة لما يمكن أن يتم:
1 - موقع عملاق علىِ الإنترنت ترعاه جهة أو هيئة يخصص لجمع معلومات عن العالم الإسلامي: سكانه واقتصاده وأحوال مجتمعاته والتقاليد والعادات السائدة في كل بلد؛ إلى جانب توفير معلومات عن التعليم في كل بلد وكذلك الصناعة والزراعة... إن كثيراً من تباعد المسلمين عن بعضهم يعود إلى عدم توفر معلومات كافية عن العالم الإسلامي. والصعب دائماً هو البداية، وبعد ذلك تذلل العقبات، ويكثر العاملون والمتطوعون؛ ولا سيما أن لدينا أعداداً كبيرة من الشباب المتحمس والراغب في عمل شيء لكنه عملياً لا يقدم أي شيء.
2 - تكتل اقتصادي أو نادٍ لرجال الأعمال المسلمين يتبادلون فيه الخبرات، ويُجرون من خلاله الدراسات، ويعقدون الصفقات، وينشرون المعلومات عن الاستثمارات والفرص المتاحة في البلدان الإسلامية، ويقومون بإنجاز المشروعات الكبيرة التي تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة.
3 - إيجاد اتحاد عالمي يعمل على تحسين صورة الإسلام في العالم، ودفع الافتراءات الموجهة ضده.
4 - إقامة أكبر عدد ممكن من الروابط بين الشرائح الاجتماعية وبين المهن والقطاعات المختلفة، مثل اتحاد الشباب المسلم، واتحاد الأسرة المسلمة، واتحاد المعلمين المسلمين، ومثل ذلك للأطباء والمهندسين والمفكرين والناشرين وغيرهم.(8/41)
لا شك أن الطريق إلى تحقيق هذا ليس معبّداً، لكنه ليس مغلقاً، وحين نفكر بواقعية، ونعقد العزم على أن لا نضيع الممكن في طلب المستحيل؛ فإننا سنندفع بكل قوة في هذا الاتجاه. المهم أن نبدأ.
ومن الله - تعالى - الحَوْل والطَّوْل.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
==============(8/42)
(8/43)
نوادي نخب العولمة
يحيى اليحياوي *
-1-
لنخب العولمة نواديها ومحمياتها ومجالها الخاص بها يلتقي المنتمون إليها بجنباتها لمناقشة أمر أو تدبير شأن أو للتسامر العفوي دونما حرج أو تعكير صفو.
هم يتجاذبون إليها من كل ذي صوب وحدب، من عالم الأعمال والمال والاقتصاد، من عالم السياسة والاستراتيجيا والحرب، من عالم الإعلام والإعلان والإشهار كما من عالم الكتابة والفكر والشعر لا فيصل بينهم في الوظيفة يذكر ما داموا مجتمعين على خلفية من وفاق تام حول النظرة إلى قضايا الكون في حاضره كما في المستقبل.
والمقصود بنخب العولمة هنا لا يحيل فقط على الشركات العالمية الكبرى ذوات السلطات الواسعة في تحديد حال اقتصاد العالم ومآله (تحتكم بعضها على أرقام معاملات يتجاوز النواتج القومية الخام للعديد من الدول) ولا على الدول الكبرى التي تقوم (وإن بطرق غير مباشرة على الشركات إياها) بل وأيضا وبالأساس على مجموعات الفكر والبحث والتنظير التي تقوم على إنتاج الرمز (نظريات وطروحات وتصورات) وتعمل على ترويجها لتغدو بسلطة العنف أو بوسائط السلطة الناعمة " عقيدة الكون " تمثلا وسلوكا ونظم حكم.
والمقصود بالنوادي إنما تلك " الفضاءات المغلقة " ذات الأبواب الموصدة التي يعمل خلفها باحثون وخبراء من جنسيات وأطياف علمية مختلفة يجتمعون بدورات (أو عندما يتطلب الأمر ذلك) لتوصيف مكامن الخلل بالكون وصياغة الوصفة التي من شأنها وفق تصورهم، علاج ذات المكامن أو التخفيف من أعبائها.
لا يقتصر الأمر هنا على مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية التي أقامتها هذه الشركة الكبرى أو تلك، هذه الدولة الكبرى أو تلك بغرض استقطاب "أوكار الفكر" من هذا المجال أو ذاك، بل ويتعداه إلى النوادي العالمية التي تستوظف الشبكات في تواصلها وتبادل الأفكار فيما بين منضويها أو تقيم لهم الملتقيات الدورية بغرض اللقاء المباشر وحسم ما قد يعلق من أمور ومن قضايا.
هي نواد غير رسمية لا يستطيع المرء تحديد سلطها بدقة ليس فقط كونها تتجاوز الدول القطرية والحدود الوطنية، ولكن أيضا لأنها تحيل على فضاء غير محدد المعالم حتى وإن تسنى للمرء تعيين بعض من عناصره وأعضائه:
* فأعضاؤها غير معروفين (حتى وإن عرف بعضهم). وهم لا يمثلون جماهيرا ولا هم منتدبون من لدن دولة قائمة السيادة ولا تم انتخابهم من لدن هذه الجهة أو تلك للتعبير عن صوتها أو التفكير في حل مشاكلها الآنية والمستقبلية.
*والمنخرطين فيها لا رقابة عليهم تذكر فيما يتراءى لهم مناطق ومجالات للبحث والتفكير إذ بإمكانهم الانتقال دونما حرج من الاقتصادي والسياسي إلى الاجتماعي والثقافي، ومن الذاتي الخاص إلى العام الشامل، ومن الاقتصاد السياسي للمناطق والجماعات الضيقة إلى اقتصاد العولمة بفروعه المختلفة وتشعباته.
*والمنضوون تحت لواء ذوات النوادي لا يعمدون إلى الشفافية والوضوح في إبلاغ آرائهم وتصريف مقترحاتهم (حتى وإن تجرأ بعضهم على نشر ما يعتقد)، بل تراهم يلجأون بغرض التأثير على الأقل، إلى استعمال قنوات غير رسمية، غامضة وملتوية يتعذر معها على المرء العادي معرفة قوتهم الحقيقية وعلى المختص تقييم درجة ذات القوة في صناعة القرار أو التأثير على الذين يحررون صيغته النهائية مضمونا وشكلا.
إنها بالتالي، وبمحصلة أولية على الأقل، نخب ونواد تجتمع وتشتغل خارج إطار السلط المؤسسة التي من المفروض أنها مفوضة للتقرير في حاضر الكون ومستقبله، وتجتمع وتشتغل دونما تفويض شعبي لديها وتجتمع وتشتغل دونما رقابة ديموقراطية مباشرة على أعمالها.
إنها صورة طبق الأصل لسياق وحركية العولمة التي لا قدرة للمرء في ظلها على الإبداء برأيه بشأن قراراتها أو صيرورتها في الزمن أو في المكان.
-2-
ليس بمقدور المرء (ولا بمستطاع غيره من مستويات) تحديد عدد هذه المنتديات ولا تعيين أماكن انعقادها ولا حصر حجم أعضائها أو المنتسبين إليها، إذ هي بردهات الدول الكبرى وضمن هياكل الشركات العابرة للقارات ومن بنيان الجامعات ومراكز البحوث والدراسات وما سوى ذلك.
لكنها، وإن توزعت نقط تواجدها وتفرعت ضروب اشتغالها، فإنها تلتقي انتظاما ودورية بمحافل سنوية كبرى لعل أكبرها وأكثرها موسطة إعلامية ملتقى دافوس السنوي.
والواقع أنه لأكثر من ثلاثين سنة مضت يستقطب منتجع دافوس السويسري أهم صناع السياسة والمال والأعمال والفكر من مختلف بقاع الكون في إطار الاجتماع السنوي لما أضحى "المنتدى الاقتصادي العالمي".
هم يعبرون عن " روح دافوس" حيث يتوحدن "الزمن العالمي" كل يناير من كل سنة ويتقلص المكان...حيث لا أثر لأماكن التسلية المتاحة في مؤتمرات أخرى اللهم إلا سبل التزلج المحصورة المدة والمجال.(8/44)
لا تلتقي نخب منتدى دافوس للمتاجرة المباشرة (حتى وإن كانت إمكانات الحصول على عقود متوفرة) ولا تحتكم على جدول أعمال محدد لا مجال للالتئام إذا استنفذت بنوده وفض اللقاء، ولا تلتقي لغرض الحوار من أجل الحوار... لا نعتقد أنها تلتئم لهذه الأغراض (حتى وإن كانت غير مستبعدة)... إنها تستهدف غايتين اثنتين لا طبيعة براغماتية مباشرة بصلبهما:
* فهي تتغيأ "إثارة وعي" المسيرين السياسيين والاقتصاديين المجتمعين (سيما الأعضاء الجدد ضمنهم) إزاء الشروط العامة والآليات القمينة بتصريف فلسفة العولمة القائمة (أو المراد لها القيام) ونشر المبادئ النيوليبيرالية التي تبني لها في الشكل كما في الجوهر.
إنها تتغيأ نشر "القيم" الكبرى التي تبني لذات الفلسفة المنظومة والسياق وتحدد لها الأدوات والسبل.
*وهي تتطلع لنشر " تمثل للعالم" كما تؤمن به أو يبدو لها أنه "الأسمى" قياسا إلى تمثلات أخرى تخال لها أنها من مرتبة دنيا أو لا قيمة لها حتى.
إنه تمثل للعالم يدفع بأطروحة وجود "مصلحة عامة كونية" للكل واجب الدفاع عنها والدفع بها حتى في تباين بنيات الدول والحكومات واختلاف مستويات التنمية الاقتصادية التي بلغتها.
بالتالي، فنخب العولمة بالحالة الأولى كما بالثانية، إنما تعبر عن "أممية لرأس المال" من الواجب توسيع فضاء إشعاعها لتطال شتى بقاع الأرض.
هي كذلك دون شك، لكنها أيضا "أممية للفكر الواحد" لا يتراءى من بديل عنها إلا ضرورة السير في ركبها وتطويع البنى والمؤسسات، الأفراد والجماعات كي لا تبقى عصية على صهر ما تنتجه ذات الأممية من أفكار وتصورات، من معتقدات وسلوكيات ... حتى الشاذ منها، الغير قابل للتطبيق بفضاءات أخرى لها ذاتيتها وخصوصياتها.
ولئن لم يكن يصدر عن منتدى دافوس قرارات ذات صبغة تنفيذية أو محمية بقوة قاهرة تستلزم تطبيقها، فإنها أفكار وتصورات غالبا ما تعمد المنظمات الدولية الكبرى إلى ترجمتها ببرامجها وسياساتها لتغدو تدريجيا ولكأنها تتوفر على منطوق الإكراه البدني بالنسبة لدول العالم وحكوماته وشعوبه.
-3-
لا يستطيع أحد أن يتجنب الاعتقاد بأن المنتديات العالمية الكبرى (وفي مقدمتها منتدى دافوس السنوي) إنما هي وبكل المقاييس "سلط خفية" وإلى حد بعيد موازية لسلطات الدول والحكومات.
إنها سلط "ناعمة" تدفع بمنطق أولوية الفكر ومركزية النقاش والحوار، لكنها لا تفتأ تضحو سلطة خشنة عندما تتحول ذات الأفكار ومواضيع ذات النقاش والحوار إلى سياسات اقتصادية واجتماعية قد لا يسلم منها الفرد ولا الجماعة.
لهذا الاعتبار (ولربما دون سواه) تتزايد المعارضة بشأنها وترتفع أصوات المناهضات ضدها والاحتجاج على اجتماعاتها من لدن العديد من منظمات المجتمع المدني والمدافعين عن البيئة وعن حقوق الإنسان وعما سوى ذلك.
والحقيقة أن مسلسلات مناهضة المنتديات العالمية من قبيل منتدى دافوس إنما تتأتى من ثلاثة اعتبارات تعود بانتظام وقوة كلما تسنى لهذه المنتديات الانعقاد أو تم التعرف على مكان إقامة "ضيوفها":
* الأمر الأول ويتعلق بطبيعة هؤلاء وصفتهم ومستوى الانتداب لديهم للنطق باسم هذه الجهة أو تلك.
فعلى الرغم من وجود رؤساء دول وحكومات منتخبين يعبرون (على المدى القصير تحديدا) عن سياسات بلدانهم، فإن الغالبية العظمى من هؤلاء غير مخولين (على المدى الطويل) لصياغة "سياسات الكون" ولا لهم الصفة الشرعية للتقرير باسم مئات الملايين من البشر الذين هم مادة ذات السياسات ومكمنها بداية وبنهاية المطاف.
إن الذي غدا يقرر مكان هؤلاء وبالنيابة عنهم، على المدى القصير والمتوسط، إنما هي الشركات المتعددة الجنسيات التي تدغم مصالح العالم في مصالحها. وهي الدول الكبرى التي عبر هذه الشركات او غيرها، تصيغ سياسات لأفراد وجماعات لم تنتدبها لذلك و لا فوضت لها أمر النطق باسمها.
إنها مسألة مشروعية لطالما دفع بها مناهضو هذه المنتديات ونددوا بمبدأ الوصاية الذي يجره خلفه شكلا ومضمونا.
* الأمر الثاني ويرتبط بالنخبوية الكبيرة التي تطبع ليس فقط صفة الحاضرين بمنتجع دافوس (من الرئيس الأمريكي إلى آخر رئيس بإفريقيا) بل وأيضا مداولاتها وما يصدر عنها من بيانات وتوصيات.
إنها بالمحصلة ملتقيات لا يبعث القائمون عليها بدعوات الحضور (فما بالك بالحديث أو المحاضرة) إلا للذين يتبنون نفس المنظومة الفكرية أو طال بهم مدى رفضها فاضحت القابلية لديهم قائمة للانضمام إليها.
إنها تشبه نوادي الشركات والمؤسسات القطرية التي لا يدخل في عضويتها إلا العاملون بها أو المتعاطفون مع تصوراتها أو الذين لهم صلة بذلك من قريب أو بعيد.
* أما الأمر الثالث فيكمن في غياب الشفافية الذي يميز أعمال هذه المنتديات (وهي في خلوة بجبال الألب) يخال للمرء معها أن الذي يحاك هناك إنما هو مؤامرة على الكون يتواطؤ الفاعل في خضمها مع المفعول به زمنا وفي المكان.(8/45)
إنها كذلك وأكثر، فيما نعتقد، ليس فقط لما ذكرناه من أسباب ودفوعات، بل وأيضا كونها تعمل في معزل عن تطلعات الجماهير ورغبات الشعوب... لذلك تأسست على أنقاضها (بموازاتها أعني) منتديات مناهضة لها لعل أبرزها "المنتدى الاجتماعي العالمي" الذي ينطلق بموازاتها وبجدول أعمال مناف لجدولها لكن دونما إعمال من لدنه لمبدأي النخبوية والسرية.
------------------------------------
(*)- كاتب وأكاديمي من المغرب
http://al-shaab.o r g المصدر:
-=============(8/46)
(8/47)
تأثير العولمة على وضعيات المرأة المسلمة
أحمد شهاب
مدخل:
يتعرض العالم منذ فترة ليست بالوجيزة إلى تغيرات عميقة على مستوى العلاقات، وموارد القوة، وانتقال الصورة، وصناعة الرموز والشخوص، وتطور ملحوظ على آليات تصدير الأفكار والثقافات، كما البضائع والتقنيات، وتبدل حاد في الأولويات والأهداف والقيم، بما ينطوي على صياغة جديدة لعالم راهن مفاصل لعالم ما قبل العولمة.
إذ تضاءلت الفواصل بين الأمم والشعوب، وضُربت الخصوصيات الثقافية في خاصرتها، وبدا أن ثمة هوية جديدة تتخلق لإنسان ما بعد العولمة، وهي ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (الهوية الهلامية)، كنتاج ملموس لطرقات العولمة على الخصوصيات الثقافية للبلدان المستقبلة، الأمر الذي ترتب عليه تغيير في الأذواق والأحاسيس والوجدان، وتحويل الأشياء إلى سلعة تأخذ قيمتها من خلال مقاييس الثقافة المرسلة، التي تفرض نماذجها على الثقافات المستقبلة، فتتشوه المعالم التي تميز كل جماعة بشرية عن الأخرى.
يذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الهوية الجديدة، المتخلقة بسبب الحركة العولمية - وإن كانت "هلامية" في مراحلها الأولى - تُبشر بالتفاؤل، فهي سرعان ما ستتحول إلى "هوية عالمية مشتركة"، مما يتيح لسيادة حالة من التوافق الثقافي والقيمي بين الجميع، وهذا ما يرى عدد من البحَّاثة الغربيين أنه قد تحقق فعلاً مع انتشار قيم الحياة الغربية، وسيادة ثقافتها "المرسلة" وفرض أنماطها على العالم.
ويشارك عدد من أهل الرأي في العالمين العربي والإسلامي أندادهم الغربيين التفاؤل إذا أحسن المسلمون الاستفادة، وتفاعلوا إيجابياً مع العولمة كحركة إنسانية عامة، فلا انسحاق تحت عجلاتها ولا رفض لكل معطياتها وثمراتها، وتأتي على رأس القضايا التي تتأثر سلباً وإيجاباً بمدى تفاعل ثقافتنا مع الثقافة الإنسانية، وضعيات المرأة على المستوى الاقتصادي و السياسي والاجتماعي والثقافي.
سيكون للعولمة أثر واسع على طبيعة دور المرأة، من خلال تطوير وعي المرأة عولمياً، بصفتها أحد أعضاء هذا المجتمع الإنساني الكبير المستهدف بالبرامج الموجهة، وأيضاً من خلال تهيئة ظروف (استثنائية) للمرأة لتأخذ دوراً عملياً، وتقدم إسهاماتها إلى جانب الرجل في العملية التنموية من خلال أبعادها المختلفة.
سنعرض في هذه الدراسة بعضاً من تأثيرات العولمة - الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية - على وضعيات المرأة المسلمة، سواء في بُعدها الإيجابي أو السلبي، في محاولة لتلمس الفرص التي يمكن للمرأة المسلمة أن تستثمرها لصالحها في العصر العولمي، والعقبات التي خلفتها هذه الظاهرة والأمل بتجاوزها في المنظور القريب.
* تأثير العولمة على الوضع الاقتصادي للمرأة:
تعد العولمة الاقتصادية أحد أبرز مظاهر العولمة وأكثرها تجلياً، حيث ابتدأت الفكرة بسعي منظم لدمج أسواق العالم، عبر توسيع حقول الاستثمارات المباشرة بين مختلف الدول، وتسهيل حركة انتقال رؤوس الأموال والقوى العاملة بعيداً عن الحواجز الجغرافية المعهودة. ويمكن اعتبار "السوق المالية" المفتوحة أحد أبرز التعبيرات العملية لحركة رأس المال بين أسواق العالم بانسيابية فريدة، وما يتطلبه ذلك من تدفق حر للمعلومات، وتبادل الاتصالات بفعالية تواصلية ملفتة للنظر.
وتأتي ولادة الشركات المتعددة الجنسيات كإفراز طبيعي للحركة المالية العالمية المفتوحة، والتي انطلقت لتحقيق مصالح مشتركة في "نقاط الاستثمار" المختلفة، سرعان ما تحولت إلى إمبراطوريات مالية ضخمة تتحكم بالأسواق العالمية، وترسم معالم حركتها، وتلعب دوراً أساسياً في تحديد مستقبل نموها.
لقد بشر الكثيرون بنتائج العولمة الاقتصادية، واعتبرها البعض بوابة تحرير السوق من أزماته المحلية الداخلية، وتحريره من هيمنة "الجهات الكبيرة" على "الجهات الصغيرة"، وهو الأمر الذي سوف يساهم بنظرهم في دفع الموارد البشرية والمادية نحو المواقع الإنتاجية، بما يعنيه ذلك من إشباع الاحتياجات المتزايدة للناس.
لقد أتاح الانفتاح الاقتصادي فرصاً ضخمة للاستثمار، ويعتقد أن وضع المرأة في عصر العولمة في بعض الحالات شهد تحسناً ملحوظاً، حيث أتيحت الفرصة لعدد كبير من النساء لدخول عالم الاستثمار، والتواصل مع قطاع كبير من الشركات والأنظمة الاقتصادية، إن سهولة الاتصال كأحد أبرز تجليات العولمة سمح للمرأة بتقصي مختلف الفرص الاقتصادية واكتساب خبرات كانت محصورة على الذكور فقط، كما مكنها من معرفة ما ينبغي عمله وما ينبغي الامتناع عنه في السياسات والبرامج الاقتصادية.(8/48)
إن أحد أهم أسباب تعثر دور المرأة العربية والمسلمة في المجال الاقتصادي حرمانها من التعليم، وتضييق فرص اكتسابها للمهارات المعرفية المتقدمة، ويعود ذلك لأسباب تتعلق بالعادات والتقاليد، أو بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية، فالثابت أن المرأة هي الأقوى تمثيلاً بين الفئات المحرومة، ويعتقد أن سرعة وسهولة تدفق المعلومات كأحد أهم سمات العولمة، أدت إلى إحداث تغييرات جوهرية في هذه القناعات، وبدا أن الكثير من المجتمعات اليوم، أضحت أكثر تسامحاً حيال تعليم المرأة، وبالتالي تجاه عملها، مما ساعد المرأة على دخول ميدان الإنتاج بصورة أكبر، وثمة تزايد في الإقبال النسائي على انتقاء المسار العلمي التخصصي، فنجد أن "المرأة العربية لها تمثيل مرتفع في الأعمال المهنية في عشر على الأقل من دولنا الـ22، ففي مصر مثلاً نجد أن ما يقرب من 45% من الوظائف في مجالات الطب والوظائف الأكاديمية ووسائل الإعلام تشغلها طبيبات وأستاذات وصحفيات ومذيعات، والآن أصبح نصف الطلبة الملتحقين بالجامعات من الفتيات، بل إن عدد النساء المشتغلات بالاقتصاد في مصر أكثر من عدد الرجال، وهو ما تشهد عليه كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة"(1).
إلا أنه في ظل العولمة اتجه العالم نحو استقطاب شديد في الفقر، الذي اتسعت دائرته بشكل مخيف (يعاني 840 مليون نسمة من الجوع، و 2 بليون آخرين يعانون من سوء التغذية)، والضحايا يتركزون في الجنوب، بينما الشمال يتضاعف فيه مستوى دخل الفرد، والمؤشر في تصاعد مستمر، وأحد أهم أسباب هذا التباين الحاد بين شعوب العالم، هو تركيز التنافس العولمي بين الشركات على تحقيق أكبر قدر من الأرباح، دون الالتفات إلى ما يعقب ذلك من انتقاص لحقوق الآخرين.
وهو ما أشار إليه تقرير التنمية البشرية لعام 1999م، الذي يرى أن "الرعاية البشرية مهددة لأن السوق العالمية التنافسية الموجودة الآن، تفرض ضغوطاً على ما يلزم لأعمال الرعاية من وقت وموارد وحوافز، وهي أعمال بدونها لا ينتعش الأفراد، ومن الممكن أن ينهار التماسك الاجتماعي". وسبقت الإشارة إلى أن أكثر الفئات المتضررة من هذه النتائج هي "المرأة"، لكونها لا تزال تصنف إلى جانب الأطفال والقصر وكبار السن من الفئات الأضعف اجتماعياً.
أحد المآخذ على السوق العولمية، أن مستوى المخاطر مرتفع، ولا تتوفر ضمانات كافية لحماية العمال وصون حقوقهم، ويعود ذلك إلى طبيعة السوق العولمية التي لا تزال سوقاً غير رسمية، ولما كانت وظائف النساء هي غالباً في السوق غير الرسمية، فإن معاناة المرأة ستكون أشد من معاناة الرجل(2)، لكون المنافسة بين الشركات تتركز في تعيين العمال بمرتبات منخفضة، أو عبر تنامي عقود الباطن، وتشير إحصاءات البنك الدولي إلى أن عمل النساء العربيات في السوق غير الرسمي تفوق أعداد الرجال.
وبالنظر إلى أن العولمة تعتمد على السبق في ميدان التنافسيات الاقتصادية، وتحقيق أكبر معدل من الربح بأقصر وأسرع الطرق، فإنها لم تلتفت إلى العدالة في تجارب التنمية، وهو ما نتج عنه زيادة الهوة بين الأغنياء والفقراء. صحيح أن التقدم التكنولوجي استطاع أن يحقق زيادة في الدخل، لكن صحيح أيضاً أن هذه الزيادة لم تكن لصالح الجميع، بل صبت لفائدة فئات محددة، وقد لوحظ ذلك من استمرار ارتفاع نسبة الوفيات بين النساء، واستمرار معدلات الأمية، وضعف مشاركة المرأة العربية في مجال الصناعات.
أفاقت الشعوب في العصر العولمي على واقع تضخم المشكلات والأزمات الاقتصادية في بعض البلدان النامية، وأدت بعض السياسات المتبعة إلى زيادة نسب البطالة، ويعود ذلك في بعض أسبابه إلى أن تنامي الشركات المتعددة الجنسية بإمكاناتها الضخمة، يؤدي إلى تلاشي المشاريع الاقتصادية المتوسطة والصغيرة، وتسريح العشرات من الأيدي العاملة.
إن انفتاح السوق العالمي لم ينتهِ إلى توفير الأمن الاقتصادي لجميع الفئات، فكثيراً ما تتعرض الفئات الاجتماعية الضعيفة وفي مقدمتهم النساء، وكبار السن، وذوو التعليم المتدني إلى أضرار بالغة السوء، فبرامج الإصلاح الهيكلي والخصخصة أدت إلى فقدان الكثير من هذه الفئات لوظائفها، نتيجة تآكل القطاع العام في معظم الدول العربية، فالسياسيات التنموية في الدول العربية، أعطت للنساء فرصاً جيدة في القطاع العام من حيث الأجور، لكنها لم تحقق الشيء ذاته في القطاع الخاص، باستثناء دول الخليج حيث لا يزال القطاع العام يحتفظ بقوته.(8/49)
من العوائق التي تقف أمام تقدم المرأة في سوق العمل، مخاوف بعض الجهات من أثر دخول المرأة على فرص عمل الرجل، وعلى مستوى دخله الفردي، وتطرح العديد من الجهات الدينية المحافظة هذه المخاوف، مستعينة بها لتدعيم موقفها من أهمية عودة المرأة إلى المنزل، وضرورة عزوفها عن العمل خارج بيت الأسرة، ويتخذون منه مبرراً لتشجيع الدولة على تهميش حق المرأة في العمل، لإتاحة الفرصة لعمل الرجل وزيادة دخله، لكن حسب تقديرات البنك الدولي(3) فإن الدول تحقق مستويات أعلى من الدخل الفردي، من خلال مشاركة النساء في قوة العمل، إذ لم تلحظ الإحصاءات الرسمية أن البطالة قد ازدادت بدخول المرأة إلى سوق العمل.
* تأثير العولمة على الوضع السياسي للمرأة
تصاعد الحديث عن حقوق المرأة بصورة ملفتة للنظر خلال السنوات الأخيرة، رغم أن الحديث عن حقوق المرأة السياسية لم يغب عن الطرح بشكل عام، لكنه شهد اهتماماً أكبر مع انتقال التجارب بين بلدان العالم، وتبوُّؤ المرأة مناصب ومواقع سياسية وإدارية وفنية في العديد من البلدان المتقدمة، مما شجع "دعاة حقوق المرأة" على تكثيف المطالبات نحو تحقيق المساواة على المستوى الوطني مع الرجل، وإفساح الفرصة لها أسوة بغيرها في البلدان المتقدمة، ودفعها للمساهمة في الارتقاء بالواقع السياسي والإداري.
وقد لاحظت أن عدد البحوث والدراسات التي عكفت على معالجة هذا الموضوع قد تضاعف بصورة ملفتة، بحيث لا ينقضي يوم إلا وقد حررت دراسة أو مقالة في هذا الشأن، سواء ما يتعلق منها بالدعوة إلى إقرار حقوق المرأة السياسية، كالإصدار الرابع لتجمع الباحثات اللبنانيات والموسوم بـ(موقع المرأة السياسي في لبنان والعالم العربي)(4)، ومثل (المشاركة السياسية للمرأة في الأردن وبعض الدول العربية)(5)، أو الدراسات والبحوث التي تناقش الأدلة الشرعية الهادية لحقوق المرأة السياسية، وأبرزها ما كتبه الشيخ محمد مهدي شمس الدين في (مسائل حرجة في فقه المرأة، أهلية المرأة لتولي السلطة)(6)، ومثل (عشر عوائق أمام حقوق النساء في الاسلام)(7)، أو حتى الكتابات التي تنقض هذه الحقوق، مثل الكتاب الذي أصدره الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في هذا الصدد، والمعنون بـ(حكم تولي المرأة الولايات العامة والاشتراك في المجالس التشريعية نائبة وناخبة)(8).
وخلال شهر مايو من العام المنصرم أثارت مقالة عرضها الشيخ محمد سليمان الأشقر تحت عنوان (نظرة في الأدلة الشرعية حول مشاركة المرأة في الوظائف الرئاسية والمجالس النيابية ونحوها)(9)، ردود أفعال ملفتة أفردت لها صحيفة الوطن جزءاً من صفحاتها، وكانت مادة جيدة كشفت عن شدة الالتباس في تصور الإسلاميين حول حقوق المرأة السياسية، والتي مالت بين التشكيك في تلك الأدلة أو تدعيمها بصورة مطلقة، لكنها على صعيد آخر أشارت إلى تصاعد التنبه الاجتماعي نحو قضية مشاركة المرأة وضرورتها.
ولا يمكن إغفال العلاقة بين حجم الانفتاح بين دول العالم، وبين ارتفاع نسب المطالبة، بالمزيد من الحقوق السياسية النسائية، ودور الانفتاح في تحويل الآمال والتصورات العامة إلى برامج وخطط ومحاولات مدروسة، وقد ساهمت العولمة وسرعة انتقال المعلومة، في اتساع رقعة الداعين والداعمين لحقوق المرأة السياسية، إذ لم تعد الآراء السائدة في المجتمعات التقليدية هي وحدها المعتبرة والقادرة على تحريك الجمهور، بل زاحمتها آراء جديدة لمجتمعات أكثر تحرراً قدمت مساهمات بارزة أدت إلى إحداث تغييرات ملحوظة في القناعات المتوارثة، وأضعفت من الرأي السائد، وحولت الأنظار إلى زوايا أخرى أكثر اتساعاً وموضوعية.
إن اطلاع المجتمعات التقليدية على تجارب الآخرين، ورؤيتهم لثمرات الديموقراطية، والدور الفاعل الذي لعبته المرأة في العديد من المجتمعات، ساهم في تعزيز هذه المطالبات، وفند الكثير من المخاوف والقلق المبالغ به من الديموقراطية ومشاركة المرأة السياسية، فأصبحت الأدلة ترفق بأمثلة ونماذج حية، تتحرك في مجتمعات إنسانية، قد لا تختلف من حيث ظروفها الاجتماعية والسياسية، دون أن ينفي ذلك صحة الممارسة أو جدوى تطبيقاتها.
من جهة أخرى أتاحت العولمة للدول العظمى -بما وفرته من تبريرات للتدخل في شؤون الدول الأخرى- ممارسة المزيد من الضغوط في سبيل نشر الديموقراطية، وصيانة حقوق الإنسان، ومنح المرأة كامل حقوقها.
من الناحية الإيجابية، فإن الخطاب السياسي في عصر العولمة ساهم في تأكيد حضور المرأة في العملية التنموية كما الرجل دون تمييز بينهما، ودمج مساهماتها في حركة التنمية الشاملة، وإن لاحظ المدقق أن درجة هذه المساهمة تختلف من دولة إلى أخرى، حسب اتفاق أو عدم اتفاق الدول مع السياسات الأمنية الغربية، بما يوحي بحالة أقرب إلى الانتقائية، على أن ذلك لا يقلل من تأثير موجة التحولات الديموقراطية حتى على تلك الدول غير المستهدفة بنشاط البرنامج الإصلاحي في عصر العولمة.(8/50)
إذ لا تكاد الدول أن تصمد طويلاً أمام ضغوط المطالبات اليومية بالإصلاح والانفتاح، خاصة أن هذه المطالب تتفاعل مع المجتمعات بصورة مباشرة عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، ففي سنة 1990م أدت تلك الضغوط إلى حصول المرأة في ثمان دول على الأقل على بعض المناصب الوزارية(10)، وفي عام 1999م نالت المرأة القطرية حق الاقتراع والترشيح للمجالس المحلية، وفي العام نفسه جاءت الرغبة الأميرية في الكويت بمشاركة المرأة في الانتخاب والترشيح، لكنها تعرقلت نتيجة وقوف غالبية أعضاء مجلس الأمة موقفاً مضاداً لحقوق المرأة السياسية، وبحلول سنة 2000م ضم الملك البحريني عدداً من النساء لعضوية اللجنة الوطنية العليا لوضع ميثاق العمل الوطني، والذي أكد من خلاله على حق المرأة في الانتخاب والترشيح، ثم أتبعها بخطوة متقدمة أخرى، بإنشاء المجلس الأعلى للمرأة في أغسطس 2001م، وهو جهاز استشاري هدفه مساعدة حكومة البحرين في رسم السياسات المتعلقة بالمرأة، وفي سنة 2003م استجاب الرئيس المصري لمناشدات الجمعيات الحقوقية بالسماح للمرأة المصرية منح جنسيتها لأولادها، وفي 2004م تقدمت المملكة العربية السعودية خطوة لافتة في هذا المضمار، إذ سمحت للمرأة ولأول مرة بالمشاركة في الحوار القومي والمنتدى الاقتصادي العالمي.
كما وفرت "المواقع الحوارية" في شبكة الإنترنت للمرأة فرصة نادرة للتعبير عن رأيها بكل سهولة ويسر، وإن لاحظ بعض المتابعين أن المرأة العربية لا تزال تتخفى خلف أسماء مستعارة نظراً للتحفظات الاجتماعية الشديدة على مشاركتها، وعلى إبداء وجهة نظرها بصورة علنية. وسمح تطور وسائل الاتصال بتكثيف اتصال المرأة مع أصحاب الرأي من كُتَّاب الصحافة والإعلاميين وأساتذة الجامعات، والتعبير عن وجهات نظرها في شتى المجالات السياسية والاجتماعية، وخلال السنوات الخمس الأخيرة استطاعت العديد من النسوة نشر إنتاجهن العلمي والأدبي والسياسي والديني عبر مواقع الإنترنت، ودشنت بعض الكاتبات والناشطات مواقع خاصة بهن، متجاوزات حزمة العراقيل التي تقف أمام حركة النشر النسائية في الصحف المطبوعة.
غير أنه من الخطأ الجزم بأن الانفتاح الإعلامي وتطور وسائل الاتصال، يقف دائماً في صف تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان ودعم قضايا المرأة، فالتفاتة سريعة إلى وسائل الاتصال والإعلام تكشف عن دور سلبي، موجه من قبل السلطات السياسية أو القوى الاقتصادية، يعيق في أحيان كثيرة التطور الديموقراطي، ويقف عثرة أمام (قضايا المرأة)، ويتستر على ممارسات سادية ضد الإنسان وحقوقه، وإن كان هذا الدور متوقعاً على مستوى وسائل الإعلام في العالم العربي، فهو أيضاً ليس غائباً تماماً في الدول الغربية، فقد وصلت ملكية وسائل الإعلام في بعض أعرق الديموقراطيات، إلى ما يعتبره البعض مستوى خطيراً من التمركز والاحتكار.
ففي المملكة المتحدة "تصل نسبة الانتشار الإعلامي لمؤسسات روبرت مردوخ إلى 37% من معدل تداول الصحف الوطنية اليومية، كما نجد أن الصحف الوطنية التي يمتلكها روبرت هيرسانت -وقد دخل السجن لتعاونه مع النازي أثناء الحرب - تمثل ما يزيد على ثلث الصحف الوطنية المتداولة في فرنسا، وفي إيطاليا فإن رئيس الوزراء الملياردير سيليفيو بيرلسكوني، يمتلك القنوات التلفزيونية التجارية الثلاث التي تحتل موقع القمة، إضافة إلى شبكة تلفزيونية أخرى مدفوعة الاشتراك، وعدد من الصحف والمجلات، وقامت هذه الأدوات بدعم حزبه السياسي اليميني الذي وصل إلى السلطة"(11).
ووفقاً لاستقصاء للرأي العام في نهاية 1999م، فإن 59% من الفرنسيين غير مقتنعين باستقلال الصحافيين عن السلطة وعن الأحزاب السياسية، و 79% من الإنجليز يعتبرون أن كتابات الصحافيين لا تستحق الثقة التي يمحضهم إياها القراء، و56% من الأمريكيين كانوا يجدون في العام 1997م أن الوقائع التي ترويها وسائل الإعلام غير صحيحة، ولذلك انخفضت نسبة الأمريكيين الذين كانوا يشاهدون نشرة الأخبار المسائية بانتظام، من 60% عام 1993م إلى 38% عام 1998م(12).
وهو ما يؤكد تضاعف الحاجة إلى دفع المرأة العربية والمسلمة، في اتجاه ترجمة تطلعاتها السياسية إلى تغييرات حقيقية تصب في خانة المشاركة الإيجابية في الحراك السياسي المحلي، وعدم الاتكاء على الضغوط القادمة من الخارج، أو الاعتماد على التحولات العولمية فحسب، لكون هذه التحولات لا تزال في طور التشكل والنضال في سبيل تحقيقها، وقد أشار تقرير المكتب الإقليمي للدول العربية لصندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة، إلى "أنه على الرغم من أن هناك تقدماً عالمياً بصدد المشاركة الفاعلة للمرأة في العمل السياسي، إلا أن مشاركة المرأة العربية تتسم بدرجة أكبر من البطء وعدم التنظيم"(13)، على المرأة أن تدلي برأيها، وتؤدي دورها بفعالية عالية، عبر اقتراح الاستراتيجيات الملائمة لإخراج الأكثرية الصامتة التي تلازم الصمت من صمتها، وإدخالها إلى دائرة الضوء.(8/51)
ويقترح تقرير تقدم المرأة العربية لسنة 2004م(14)، صياغة سياسات تتسم بالاستجابة لاحتياجات المرأة من أجل تعزيز مشاركتها، ويشمل ذلك:
1- إصلاح النظم الانتخابية.
2- تطبيق تدابير التمييز الإيجابي لصالح المرأة.
3- تطبيق آليات محددة لدعم القيادات النسائية.
4- بناء قدرات ومهارات القيادات النسائية.
5- تعزيز دور الإعلام في رسم صورة إيجابية للمرأة ومشاركتها في العمل السياسي، وفي مواقع صنع القرار في مختلف القطاعات(15).
* تأثير العولمة على الوضع الاجتماعي للمرأة:
لعقود طويلة لعبت الأسرة إلى جانب المدرسة ودور العبادة دوراً أساسياً في تكوين مدارك الإنسان، وتحديد القيم التي يجب عليه أن يتمسك بها، فشكل ذلك قالباً معدّاً سلفاً تحت مسمى العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية، إلا أن ذلك الوضع قد تبدل بصورة كبيرة جداً في السنوات الأخيرة، حيث دخلت وسائل الاتصال وأجهزة الإعلام المختلفة، كموجه بالغ الأثر في حياة الأفراد، وتشكيل نمط تفكيرهم وسلوكهم العام.
لقد خلقت وسائط الاتصال نمطاً جديداً من العلاقات، يقوم على فرض علاقات حميمة بدرجة ما مع إنسان كوني بعيد جغرافياً، يحمل قيماً وعادات مختلفة وأحياناً متناقضة تماماً، مع ما يحمله الفرد الآخر، وفي الوقت ذاته ساهمت هذه الوسائط، في تخفيض "درجة التآلف" في العلاقات الأسرية، بالصورة التي يمكن وصفها بأن القريب جسداً بعيد نفسياً وفكرياً، والبعيد جسداً قريب روحياً وسلوكياً في أحيان كثيرة، ولعل أبلغ تعبير عما آلت إليه الأمور، هو كتاب عالم الاجتماع ديفيد كوبر "موت الأسرة"(16)، استدل فيه على أن الأسرة بطابعها الكلاسيكي قد ماتت، من خلال موت روحها الإنسانية وافتقادها للعاطفة.
لا ندعي أن المرأة هي المتضرر الوحيد من آثار التدهور الاجتماعي لدور الأسرة، لكنها الطرف الأكثر تضرراً، نظراً لما يحيط بوضع المرأة من ملابسات شديدة التعقيد، مثل العادات والتقاليد والنظرات الاجتماعية، إذ تميل النظرة الاجتماعية للمرأة في حال تفكك الأسرة إلى النظرة السوداوية(17)، فكل الإسقاطات السلبية تقع عادة على كاهل المرأة الأم والمرأة الزوجة والأخت والبنت، بينما لا تكاد تطال تلك السلبيات نظيرها الرجل بالقدر ذاته، وقد وصل كل من د. منى الصواف و?د. قتيبة الجلبي، إلى تحديد العوامل الاجتماعية التي تشكل الاضطراب النفسي عند المرأة العربية، في تسع نقاط(18):
(1) المرأة العربية شريك غير مشارك مع الرجل.
(2) اعتماد المرأة العربية على الآخرين.
(3) عدم الاستقلالية والاعتماد على النفس.
(4) فرض العزل وعدم اختلاط الجنسين، في مجالات يكون الاختلاط فيها مقبولاً.
(5) جعل المرأة الجنس الضعيف بدلاً من الجنس الناعم.
(6) أن يكون اعتمادها النفسي وكبرياؤها صادراً من الرجل وليس منها.
(7) المرأة الشريك ذو أقل الصلاحيات في الشركة.
(8) تقييم المرأة من قبل افتراضات مسبقة متحيزة.
(9) المرأة كزوجة ثانية.
ولا تزال مجتمعاتنا العربية أقرب إلى استيراد مشكلات وأزمات العولمة، لكنها بعيدة عن مكتسباتها وثمراتها(19)، إنها بكلمة واضحة لا تزال مجتمعات نمطية عند تعاملها مع الحداثة ومتوالياتها، تستسلم لمنتجات الغرب المتقدم، وتصر على تقليدية أفكارها وعاداتها الاجتماعية، وإن كانت بالية وبعيدة عن قيم الدين ومتطلبات الحاضر، ويذهب الدكتور باقر النجار إلى أن "عمليات العولمة أو آلياتها، قد وظفت لإعادة إحياء أشكال جديدة لعلاقات إنسانية قديمة، أو ما قبل حداثية، وساهمت في خلق حالة اجتماعية جديدة، يتساكن فيها القديم مع الجديد، وتتعمق من خلالها مشكلات اجتماعية جديدة وأخرى طارئة، أبرزها تلك التي أصابت بنية الأسرة ووظائفها"(20).
يمكن على سبيل المثال، الاستعانة بوضع المرأة المطلقة في مجتمعاتنا بصورة عامة، للتعرف على مقدار تشعب تأثيرات العولمة في قضية واحدة، فمن جهة أدت العولمة إلى تضاعف حدة التفكك الأسري، وانتشار حالات الطلاق بصورة واضحة، وهو ما انتبه إليه بعض الراصدين لآثار العولمة، ومن جهة أخرى فإن المطلقة" حسب التقاليد والأعراف الاجتماعية، واستجابة للنظرة المحافظة، يتم التضييق عليها، ويُحد من حركتها الاجتماعية والعلمية، وإن كان ذلك مناقضاً للدين ومخالفاً لما مارسه أئمة الإسلام.
وفي العديد من الحالات حرمت المرأة المطلقة من إتمام تعليمها، أو قُطع أمامها مشوار ممارسة أدوار تنموية، كان يمكن لها أن تساهم بها قبل وقوع الطلاق، وباسم الرعاية الأسرية يتم محاصرتها في دائرة المنزل، والعلاقات الخاصة المقتصرة على الأسرة، وإذا عرفنا أن معدلات الطلاق في المجتمعات العربية مرتفعة، وفي تصاعد مستمر(21)، أدركنا خطورة سيادة نظرة الشك والريبة والحرمان عليها وعلى المجتمع ككل، فهو يعني أن أعداداً كبيرة من الطاقات سوف تكون معطلة، أو ربما تؤدي أدواراً أقرب إلى السلبية.(8/52)
أحب أن أتوقف هنا قليلاً، عند (وضعيات المرأة الاجتماعية) بصورة عامة في المجتمعات العربية، والتي يغلب عليها الرغبة في عزل النساء بسبب العرف الاجتماعي، أو بسبب سيادة الفهم السلفي للدين، ومن أبرز الذين ناقشوا هذه المسألة باستفاضة جريئة، الشيخ محمد الغزالي الذي استنكر أن يتم التعامل مع المرأة "كبندول الساعة، إلى أقصى اليمين تارة، وإلى أقصى اليسار تارة أخرى، ولا يستقر مطلقاً عند الحد الوسط الذي يطلبه الإسلام"(22).
ويحمل الغزالي في كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" على بعض علماء الدين، ممن يصفهم بأنهم "يكرهون وجه المرأة، ويحمّلونها مسؤولية خروج آدم من الجنة، كما زعم اليهود في كتبهم، ويرون الدين إمساك النساء في البيوت حتى يتوفاهن الموت". ويرى أن "هؤلاء العلماء القاصرين لو كانوا على عهد الرسول (ص)، لطالبوه بطرد السيدتين اللتين حضرتا بيعة العقبة الكبرى، وقالوا له: ما للنساء وهذه الشؤون، ولو كانوا موجودين عند فتح مكة لقالوا له: حسبك بيعة الرجال، ولو كانوا مع نبي الله سليمان وهو يكتب خطابه لبلقيس {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} لقالوا له: عدل هذه الصيغة فإنها تعترف بتوليها منصب الملك، اكتب بعزلها أولاً ثم تفاهم مع الرجال وحدهم"(23).
ويساعد على تأكيد هذا المنحى الانعزالي دور المرأة المحوري في تعميق الروابط الأسرية، إذ تتكفل المرأة عادة بإشاعة حالة من الدفء الأسري الضروري لاستمرار مؤسسة الأسرة فاعلة ونشطة، لكنه في الوقت ذاته يؤدي إلى استهلاك جل وقتها في ميدان "الخدمة المنزلية" و "الخدمة الزوجية"، ولا تزال فكرة تنظيم الوقت، وخلق حالة من التوازن بين دور المرأة الأسري الخاص، وبين دورها الاجتماعي العام، من الأمور الغائبة بصورة شبه تامة.
إلى جانب استثناء أو عطالة هذا القطاع النسائي الكبير، يُستثنى قطاع آخر لا يقل أهمية وهو قطاع "الطالبات"، ومع العلم بأن دور الطلاب لا يزال غائباً في العملية التنموية بصورة عامة، فإن هذه الهامشية تتضاعف في أوساط الطالبات، وهو ما يمكن أن ينتهي بنا إلى تحصيل نتيجة بالغة السوداوية، مؤداها "موت المرأة"، أي فقدان مساهمة قطاع كبير من النساء في العملية التنموية، وقد يروق ذلك لبعض التوجهات الدينية المتشددة، والتي تلتقي مع العادات والأعراف الاجتماعية التقليدية، التي تنظر بازدراء إلى مشاركة المرأة في الحياة العامة.
لكن أمام هذا البعد السلبي لتأثيرات العولمة على وضع المرأة الاجتماعي، فإن العولمة تقدم من جانب آخر خدمة غير مسبوقة لتحسين وضعها الاجتماعي، ولو أحسنت المرأة الاستفادة من هذه المعطيات فسيكون بإمكانها أن تبدل الصورة المنطبعة عنها تماماً.
فلقد بدأت بعض الأفكار التي تخدم وضع المرأة بالتسلل، بفعل "الاتصال الكوني" بين شعوب العالم، وعملت هذه الأفكار على تعزيز مكانة المرأة إلى جانب الرجل، حيث ساهم تسليط وسائل الإعلام على فاعلية المرأة الغربية، ووجودها في كافة الحقول المعرفية والعلمية والصحافية والسياسية، على تحسين نظرة المجتمعات العربية والإسلامية للمرأة، وزيادة ثقتها بإمكانية بل وضرورة أن تضطلع المرأة المسلمة بأدوار إيجابية وفاعلة كنظيرتها الغربية، دون أن يستدعي ذلك التنازل عن القيم الدينية والمبادئ الاجتماعية السليمة.
والأمل معقود على عدد من المجتمعات، التي استطاعت المرأة فيها أن تنقل بعض التجارب الكونية إلى الواقع المحلي، فكانت أكثر إصراراً من أي وقت مضى على تسجيل حضورها في مختلف الأنشطة، والنزول إلى ساحة الإنتاج والتعبير عن معاناتها بصوت مسموع، والاستفادة من تقنيات الاتصال الحديثة والتطور التكنولوجي المتسارع.
* تأثير العولمة على الوضع الثقافي للمرأة
اتصالاً بما سبق، يمكن القول: إن تحسين الأوضاع الاجتماعية للمرأة، يمكنه أن يساهم في دفع العملية التنموية في العالم العربي بمختلف أبعادها، ولنا أن نتفاءل إيجابياً مع حركة الضغوط المتواصلة في هذا الجانب، رغم جملة العوائق التي عرضناها آنفاً.
المهتمون بشؤون العولمة(24) في العالم العربي، يعتقدون أن "التحدي الثقافي" هو من أبرز تحديات العصر، مما يضع التنمية الثقافية على رأس المهام التنموية، التي ينبغي للمعنيين من مهتمين وبحاثة وعلماء، إيلاؤها الاهتمام المناسب بها.
هذا الاهتمام يتراوح في عرف المفكرين العرب، بين الدعوة إلى إحداث قطيعة معرفية تامة مع العولمة، لما تسببه من أخطار داهمة، قد تعصف بالثقافة العربية والإسلامية، وما بين الافتنان بالثقافة الغربية، والعمل على التماهي معها بصورة كاملة.(8/53)
إن خطورة أي من وجهتي النظر السالفتين، تتبين من خلال معرفة النتائج التي يريد علماء العولمة بلوغها، فهم في المجمل يتحركون لبسط مفهوم الثقافة بالمفرد، وما يلازم ذلك من فرض قيم تلك الثقافة الواحدة على الآخرين، وإلغاء الخصوصيات الثقافية أو التنكر لها، وإن لم تخلُ الساحة الغربية من أقلام جادة وناقدة، حذرت من خطورة هذا التنميط الثقافي، وأكدت على حقيقة وجود ثقافات متعددة، مثل "زيجمونت بومان" عالم الاجتماع الثقافي البريطاني الجنسية، ومثل "نعوم تشومسكي" عالم اللغويات الأمريكي الجنسية.
ولا شك أن عولمة الثقافة بمعنى إلغاء كافة الثقافات غير الغربية أو غير الأمريكية تحديداً، يثير مخاوف متصاعدة عند كافة الأطراف الأخرى، ويترتب على تلك المخاوف إعاقة مجهودات التنمية العالمية، وسيادة حالة من الترقب والرغبة في إنزال أكبر قدر من الإضرار بالثقافة المهيمنة (صراع الثقافات)، وهو دفاع متوقع ومشروع عن الهوية والذات، في المقابل فإن منهج القطيعة يبدو متعذراً إلى درجة المحال، لاسيما وأن "حقائق الواقع العالمي" تشير إلى هيمنة غربية - أمريكية بالخصوص، على التقنيات الحديثة المصدرة للبرامج والمواد الثقافية والترفيهية (كتب - أفلام - سينما - برامج تلفزيون)، وفي الوقت ذاته تتحدث إحصاءات منظمة اليونسكو أن ثلث إجمالي البث في سوريا ومصر، ونصف البث في تونس والجزائر هو من البرامج المستوردة.
وفي سياق الهم الثقافي في عصر العولمة، تبرز بقوة مشكلة تضاؤل الاهتمام بالمسألة الثقافية في العالم بصفة عامة، فمن بين الأبواب الخمسة لحقوق الإنسان، الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والمدنية، حظيت الحقوق الثقافية بالقدر الأقل من الاهتمام، فلجنة حقوق الإنسان لم تتبن أول قرار لها عن الحقوق الثقافية إلا في عام 2002م، ومحوره "تشجيع تمتع الجميع بالحقوق الثقافية، واحترام الهويات الثقافية المختلفة". وظلت الحقوق الثقافية في نظر الكثيرين كماليات يتم التوجه لها بعد إحقاق الحقوق الأخرى(25).
وسعياً لتحقيق التنمية في العالم، ركّز المهتمون بالقضايا التنموية على البعد الاقتصادي، لخدمة المعوزين ورفع الفقر والحرمان، وتحركت الجهود لتنمية الديموقراطية، وإحقاق حقوق الإنسان، وتوسعة المشاركة السياسية، ودعم التوجهات التنموية في مجالي الصحة والتعليم، لكن هذه الجهود لم تضع الكثير من الرؤى حول حق الناس في الحفاظ على هويتهم الثقافية، وحقهم في العيش بكرامة وعدالة مهما كانت اختياراتهم الثقافية، وقد عبَّر تقرير التنمية البشرية الأخير عن قلقه من فقدان الإنسان لاحترام تقدير الآخرين، أو الاستبعاد لمجرد انتمائه وهويته الثقافية.
وفي سبيل تعزيز هذه الحقوق، تصدى التقرير(26) لتفنيد عدد من الخرافات التي تتخذ كمبرر لعدم الاعتراف والاعتناء بالهويات الثقافية المختلفة، مثل القول بتعارض هويات الناس العرقية مع ولائهم للدولة، أو القول بجنوح المجموعة العرقية لخوض نزاعات عنيفة فيما بينها نتيجة لتضارب القيم، أو القول إن البلدان المتعددة العرقيات أقل قدرة على النمو، منتهياً إلى أهمية وضع سياسات متعددة الثقافات، تعترف بالاختلافات بين المجموعات، لمعالجة الإجحافات ذات الجذور التاريخية والمترسخة اجتماعياً.
بالنسبة للعالم الإسلامي، فإن خيار التفاعل الإيجابي القادر على انتقاء الجيد، واستبعاد المواد الرديئة، والعمل على اقتحام ميدان الإنتاج والمنافسة العالمية، هو الخيار الوحيد الملائم لمواكبتهم الحركة العولمية المتسارعة، ولذلك شروط ومتطلبات لا تزال غير متحصلة في العالم العربي، ومن أهم هذه المتطلبات الغائبة هي "البنية الثقافية" الصالحة للنمو والإنتاج، فثمة عجز داخلي مرده سيادة "ثقافة متأكسدة" غير قابلة للتفاعل المثمر مع العصر، تتصدرها فتاوى وآراء فقهية تقليدية، وعادات وتقاليد بالية، ومنظومة مفاهيمية تقدس قيم الاستهلاك وتقتل روح الإبداع، وتقف عقبة كأداء أمام الدخول في ميدان التنافس المعرفي.
ولعل المرأة هي الأكثر تأثراً من غياب "البنية الثقافية" الصالحة، فهي لا تزال ضحية الأفهام البشرية الخاطئة في العالمين العربي والإسلامي، وهو ما يؤكد ضرورة إسراع المرأة في تقديم مساهماتها النوعية لرسم الهوية الثقافية الجديدة المتناسبة مع طموحاتها العريضة، وبما يعمق من دورها في كافة المجالات التنموية.
وبالنظر إلى حجم أعداد النساء وطبيعة أدوارهن الراهنة، فيمكن للمرأة اليوم أن تدير نظرها عن الأدوار الهامشية، وأن تلعب دوراً أصيلاً في تحريك عجلة التغيير في مجتمعها، لو استجابت للفرص الإيجابية التي توفرها طفرة التواصل الكوني، وعلى سبيل العناية يمكن للمرأة أن تسد فجوة هائلة ومتسعة في ميدان البحث العلمي والدراسات الفكرية والتخصصية، فإحدى أهم العوائق التي تقف حائلاً أمام تقدم العالم العربي والإسلامي، قلة أعداد البحاثة وأهل الاختصاص، فعدد مراكز الدراسات والأبحاث على طول وعرض العالم العربي تقارب الـ 600 مركزاً، أما عدد البحاثة فهو لا يتجاوز 371 من كل مليون شخص.(8/54)
هذه الفجوة الهائلة بين الواقع والمطلوب، يمكن للمرأة لو توجهت إلى حقول البحث أن تردمها تماماً، لا سيما وأن الأرقام تشير إلى أن 70% من عدد خريجي الجامعات العربية هم من الإناث، وعلى سبيل المثال بلغت نسبة الإناث في الجامعة الكويتية 69%(27)، وفي المملكة العربية السعودية فاقت نسبة الإناث نسبة البنين حيث بلغت (58. 4%)(28)، أما في عمان (جامعة السلطان قابوس) فبلغت نسبة الخريجات 53. 6% من إجمالي عدد المتخرجين في عام 2000م(29)، وفي فلسطين بلغت 51% من مجموع الملتحقين في كليات المجتمع المتوسطة، و 42. 5% من الملتحقين في التعليم الجامعي. وقد ارتفعت نسبة النساء الملتحقات في علم الحاسوب إلى 37% من مجموع الملتحقين(30)، وفي الإمارات بلغ عدد الخريجات حتى الدفعة التاسعة عشرة التي تم تخريجها في شهر مايو 2000م (18 ألفاً و228 خريجة) من مختلف كليات الجامعة(31)، أما عدد الإناث البحرينيات الحاصلات على المؤهل الجامعي فبلغ 8620 نسمة في العام 2001م مقابل 3735 امرأة في 1991م، وإن عددهن زاد على عدد الذكور والبالغ عام 2001م حوالي 8049 رجلاً(32)، بما يعنيه ذلك من توفر القابلية عند النساء للدخول في حقول التنمية بمختلف أبعادها بنسبة معقولة، إذاً أين تذهب هذه الأعداد الهائلة من الخريجات؟ وما هو مقدار مساهماتهن في الحقل العلمي أو الحقول التنموية الأخرى؟.
الإجابة ربما تثير قلق المعنيين بشؤون التنمية في العالم العربي، فازدياد انخراط النساء العربيات والمسلمات في حقل التعليم العالي، لم ينعكس إيجابياً على تضاعف مشاركتهن الفعلية في القوة العاملة، أو مشاريع التنمية، فمستوى أداء المرأة في معظم الدول لم يصل بعد إلى الدرجة التي يظهر أثر تعليمها على التنمية، حتى المكاسب التي تساق عند الحديث عن تحرير المرأة فعادة ما يقودها الرجل، ورغم أننا لا نجد أية غضاضة في هذا الأمر، إلا أنه يشير إلى حجم تقصير النساء في هذا المضمار، قياساً بما يمكن أن تؤديه المرأة فعلاً في سبيل تعزيز حقوقها ومكتسباتها التنموية.
* مهام ختامية:
شهدت نظرة المجتمعات العربية والإسلامية في عصر العولمة، تغيرات مهمة -كما عرضنا- على كافة الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بعضها على مستوى الفرص المتاحة، وأخرى على مستوى النظرة السائدة عن المرأة وأدوارها، ويمكن لمجتمعاتنا أن تستثمر هذه التغيرات لصالحها إذا استطاعت أن ترسم لها هدفاً واضحاً في مجال استثمار العنصر النسائي لصالح التنمية الشاملة، على اعتبار أن الهوية الإسلامية تعزز مكانة ودور المرأة، ولا تتعارض مع الرغبة في الاستفادة من فرص الانفتاح العالمي، ودون غض النظر عن التحديات الحقيقية، التي تخلقها العولمة أمام مجتمعاتنا اليوم.
إن أهم ما ينبغي عمله الآن، وبصفة عاجلة لمواجهة التحديات التي تواجه المرأة في عصر العولمة:
1- توجيه وعي المرأة نحو حقوقها السياسية والاجتماعية.
2- رفع وعي المجتمع بحقوق المرأة ومكانتها.
3- التأكيد على ضرورة التوازن بين دور المرأة داخل البيت وخارجه. التوازن بين دورها في بناء الأسرة السليمة المتماسكة، وبين جهودها الرامية إلى النهوض بالمجتمع.
4- مصالحة المؤسسة الدينية مع حقوق المرأة، في بعض البلدان الإسلامية، التي لا تزال تحمل مفاهيم معادية لدور المرأة السياسي والاجتماعي، والتأكيد على موافقة الدين الإسلامي لفاعلية المرأة في المجتمع.
5- إن تحقيق تنمية المرأة في بعديها الاجتماعي والاقتصادي، يتطلب تغييراً جذرياً في الكثير من المفاهيم الثقافية السائدة، وهو ما يتطلب بذل جهود بحثية معمقة متلازمة مع إعلام فاعل لتحقيق الهدف المأمول.
6- تدريب وتأهيل المرأة وإعدادها على كيفية استخدام الخطاب السياسي والاستفادة من القاعدة المعلوماتية.
7- تأمين بيئة عمل المرأة لا سيما في جانبها السياسي.
8- تعزيز مكانة النساء في الهيكل الاقتصادي، واعتبار المرأة عضواً رئيسياً في سوق العمل، يسهم وجودها في النمو الاقتصادي.
9- وقف ومقاومة الصورة السلبية التي يعرضها الإعلام العولمي للمرأة بوصفها رمزاً للجنس والمتعة.
10- تفعيل دور المنظمات النسائية غير الحكومية، والتأكيد على دور النساء في تنمية العمل الأهلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) سوزان المبارك، الكلمة الافتتاحية للمؤتمر الرابع للتنمية العالمية الذي عقد في القاهرة تحت عنوان "العولمة والعدالة".
(2) سوزان المبارك، مصدر سابق.(8/55)
(3) "تتحمل النساء والفتيات أكبر التكاليف المباشرة لانعدام المساواة بين الجنسين. ولكن هذه التكاليف تضر على نطاق واسع بقطاعات المجتمع كافة، وتضر في النهاية بالجميع. وتؤدي التباينات بين الجنسين إلى انخفاض إنتاجية العمالة، وانخفاض كفاءة تخصيص وتوزيع العمالة بين الأسر وعلى مستوى الاقتصاد. كما تؤدي أيضاً إلى التوزيع غير المنصف للموارد، وإلى جوانب الفقر الأخرى التي لا تتعلق بالمال -مثل غياب الأمن وانعدام الفرص وعدم تمكين المواطنين من أسباب القوة- الأمر الذي يقلل من مستوى جودة الحياة لدى الرجال والنساء والأطفال على حد سواء". المصدر: مؤشرات التنمية في العالم 2004م البنك الدولي.
(4) موقع المرأة في المجال السياسي في لبنان والعالم العربي، الكتاب الرابع 1997-1998، منسق الكتاب: منى فياض، المستشارون: فريد الخازن، نهى بيومي، منى خلف، منشورات تجمع الباحثات اللبنانيات.
(5) د. بارعة النقشبندي، (المشاركة السياسية للمرأة في الأردن وبعض الدول العربية)، رسالة دكتوراه.
(6) الشيخ محمد مهدي شمس الدين، مسائل حرجة في فقه المرأة. كتاب الستر والنظر، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.
(7) محمد سيف عبد الله العديني، لملتقى المرأة للدراسات والتدريب (WF r T)، سنة 2004م.
(8) الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، كتاب "حكم تولي المرأة الولايات العامة والاشتراك في المجالس التشريعية نائبة وناخبة"، المصدر: http://www.salafi.net/books/hbook52.html.
(9) اطلع على صحيفة الوطن الكويتية، تاريخ 29/5/2004م. كذلك المقابلة التي أجراها رئيس تحرير صحيفة الوطن الكويتية مع د. محمد سليمان الأشقر، والمنشورة بتاريخ 31/5/2004م. (ولذلك جلد عمر - رضي الله عنه - أبا بكرة ثمانين جلدة حد القذف بالزنى. ثم قال له: تب أقبل شهادتك، فأبى أن يتوب، وأسقط عمر - رضي الله عنه - بعد ذلك شهادته، فكان أبو بكرة بعد ذلك إذا استشهد على شيء يأبى أن يشهد، ويقول: إن المؤمنين قد أبطلوا شهادتي.
وقد قال الله - تعالى - في آية لاحقة: {لَوْلاَ جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النور 13). أي أنهم في حكم الله - تعالى -كاذبون لا يثبت بقولهم حق. هكذا حكم الله - تعالى -على من قذف محصناً، وهذا منطبق على أبي بكرة، فإن الآية تدمغه بالفسق وبالكذب، وهذا يقتضي رد ما رواه عن النبي (ص) مما انفرد به كهذا الحديث العجيب "لن يفلح قوم تملكهم امرأة" فينبغي أن يضم هذا الحديث إلى الأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي (ص). المصدر بتاريخ 29/5/2004م.
(10) مصر، الأردن، سوريا، الجزائر، تونس، موريتانيا، السودان، جزر القمر.
(11) سليمان إبراهيم العسكري، إعلام العولمة قيم جديدة، أم انكفاء على الذات؟، مجلة العربي، العدد 517، ديسمبر 2001.
(12) العالم الأوروبي والأمريكي والصراع العربي - الإسرائيلي، قراءة في الأرقام. جورج فرشخ، نقله عن كتاب "طغيان الاتصال" لـ(انياسيو راموئير)، مجلة "الموند ديبلوماتيك".
(13) "تمهيد الطريق نحو التمكين" صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة 2002م.
(14) تقدم المرأة العربية 2004م - نسق واحد، أربعة مجالات وأكثر من 140 مليون امرأة.
(15) تقدم المرأة العربية، مصدر سابق ص 289.
(16) سمير عبد الرحمن الشميري، المرأة في زمن العولمة، كلية التربية، جامعة عدن.
(17) فقد جرى ربط مقام المرأة بدور استهلاكي ومقام الرجل بدور إنتاجي.
(18) منى الصواف - قتيبة الجلبي، الصحة النفسية للمرأة العربية، مؤسسة حورس الدولية للنشر و التوزيع.
(19) انظر حول عولمة المشاكل والأزمات، أحمد شهاب، نحو تناول علمي لمفهوم العولمة، مجلة الكلمة، العدد 25.
(20) محمد باقر النجار، تحديات العولمة ومستقبل الأسرة في الخليج العربي: قراءة أولية، ورقة مقدمة لـ"ندوة التحولات الدولية الراهنة وتأثيرها على مستقبل الخليج" المنعقدة في الفترة من 5-7 يناير 2003م.
(21) تشير الأرقام في دول الخليج العربي على سبيل المثال إلى تنامي ظاهرة الطلاق خلال العقود الثلاثة الماضية، في الكويت تمثل حالات الطلاق ما نسبته 25% عام 1980م، و 31% عام 1995م، ثم ما نسبته 32. 8% عام 1999م. وفي البحرين ارتفعت نسبة الطلاق في المجتمع بما نسبته 41. 3% خلال الفترة الممتدة من 1977م إلى 2001م. محمد باقر النجار، مصدر سابق.
(22) الشيخ محمد الغزالي، من هنا نعلم، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع 2000م.
(23) الشيخ محمد الغزالي، السُّنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، القاهرة: دار الشروق، 1989م.
(24) راجع كتاب "صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة"، د. محمد الشبيني، دار العلم للملايين - بيروت، 2002م.
(25) تقرير التنمية البشرية للعام 2004م، المصدر: stamatopoulou 2002، kymlicka 2004 ; and A r izpe.2004.
(26) تقرير التنمية البشرية لعام 2004، انظر ص 3، 4، 5، 9.(8/56)
(27) يشير التقرير الصادر عن وزارة التخطيط حول "المرأة الكويتية والمشاركة المجتمعية" الصادر في فبراير/ شباط 2002م أن نسبة الإناث في الجامعة الكويتية بلغت 69%، المصدر: قناة الجزيرة، المعرفة. http://www.aljazee r a.net/N r /exe r es/AB609AAC-BF94-4584-9382-FDCFE747DEBB.htm
(28) عبد الله بن علي الحصين، وكيل كليات البنات بوزارة التربية والتعليم لـ(صحيفةالرياض) في 7 ربيع الأول 1424هـ.
(29) عبد الستار خليف "النهوض بالمرأة ومشاركتها في التنمية"، صحيفة الوطن العمانية، 10 أكتوبر 1994م.
(30) المصدر: موقع جامعة بيرزيت: http://home.bi r zeit.edu/dsp/DSPNEW/a r abic/phd r /ahd r -zahi r a.html
(31) حسب المقابلة المنشورة في صحيفة البيان الإماراتية مع الشيخة فاطمة بنت مبارك قرينة رئيس الدولة الراحل فإن عدد خريجات جامعة الإمارات حتى الدفعة التاسعة عشرة التي تم تخريجها في شهر مايو 2000م (18 ألفاً و228 خريجة) من مختلف كليات الجامعة، ومن كليات التقنية العليا الدفعة الثامنة التي تضم 1056 خريجة ليرتفع بذلك عدد الخريجات من كليات التقنية العليا منذ إنشائها في أكتوبر 1998م إلى 3375 خريجة، المصدر: جريدة البيان، تاريخ 23/12/2000م.
(32) صحيفة البيان الإماراتية 9 ديسمبر 2001م.
http://kalema.net المصدر:
===========(8/57)
(8/58)
سياسة مواجهة تحديات العولمة ضد المرأة والمجتمع 1 - 2
أفراح بنت علي الحميضي
إنَّ خطورة التحدِّيات التي جاءت في رِكاب العولمة والقائمة على تذويب الفوارق الدينية وكسر الحواجز الاجتماعية ومحاولة إزالة الحدود الجغرافية لتسهيل مرور المعلومات وإشاعة أنماط السلوكيات الغربية ممَّا يؤدي إلى تمييع الثوابت العقدية والأخلاقية، ومن ثمَّ تحويلها إلى حرية مُطلقة في المعتقد، وبالتالي الوصول إلى الهدف الذي تسعى له العولمة، وهو زيادة معدَّلات التشابه بين سائر الجماعات والمجتمعات، وذلك من خلال توحيد الرغبات والتطلعات وطرق النظر إلى الذات والآخر، ومن خلال توحيد الأذواق والعادات الاستهلاكية.
إنَّ خطورة ذلك أنَّ الذي يقود تلك العملية هو الطرف الأقوى في معادلة العولمة، ولذلك فإنَّ مبادئه هي التي ستسود، وبما أنَّ العولمة لا تسير في طريق واحد بل تمضي وبشراسة منطلقة في كل اتجاه متخطية كل الحواجز، فإنَّ أثرها يعمّ جميع النواحي الدينية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، وينتج عن ذلك عولمة سياسية واقتصادية واجتماعية وتوجيه للأفكار والثقافات. وخطورة أخرى هي أنَّ الأمم المتخلِّفة أو المتوسطة التنمية هي التي تُذاب أو تذوب حين تخترقها العولمة. وحين تمضي قوافل العولمة الاقتصادية تنهب الطريق لمزيد من الضغط الاقتصادي على الدول الفقيرة، فإنَّ المعادلة الاقتصادية تنقلب. فبينما كان الاقتصاد فيما مضى في خدمة العقيدة والسياسة والإستراتيجية، نجد في ظل العولمة قد أضحى ذلك كلَّه في خدمة الاقتصاد 4. إنَّ من الخطورة محاولة العولمة تبنِّي الحرية المُطلقة بلا أية ضوابط، ممَّا قد يؤثِّر حتماً على قيم المجتمعات ويؤدي إلى استبدالها بمفاهيم غربية مؤدلجة طارئة، وبالتالي ستؤثِّر تلك الحرية على استقلالية الأمم الفكرية، إذ تحاول العولمة في إطار ذلك تهجين الأفكار وتحويل المجتمعات عمَّا ألفته من أخلاق وما تعارفت عليه من تقاليد وأعراف، ووسيلة العولمة في ذلك محاولة اقتحام المجتمعات الإسلامية بأساليب لها طابع الحداثة والتقدُّم، وفي ذات الوقت تعمل على نسف كل قديم صالح ليحلَّ محلَّه جديد لا يلتقي مع الدين5 كما أنَّ وسيلة العولمة في ذلك السرعة في حركة الانتشار والتهميش المستمر للاعتبارات والمعطيات المحلية، وحيث إنَّ التشكيل الثقافي والحضاري الغربي هو المحيط الذي وُلدت ونشأت فيه العولمة الحديثة، فإنَّ العولمة لأجل ذلك ليست مُطلقة ولا بريئة ولا محايدة، ذلك أنَّها وقد وُلدت من رحم الغرب الذي ينكر مرجعية الوحي ويدفع إلى اعتماد المرجعيات البشرية المتناقضة.
وإنَّ اختراق العولمة للمجتمعات أمراً خطيراً، إذ بذلك الاختراق تفقد المجتمعات هويتها المميَّزة لها مما يسهِّل ذوبانها في بحر العولمة، ذلك أنَّ المطلوب من المجتمعات المسلمة أن تتنازل عن هويِّتها وخصوصيتها الثقافية حتى تقترب من المفاهيم الكونية التي تنشرها العولمة، وإلاَّ فالنبذ والتهميش سيكون مصيرها، أمَّا المفاهيم التي تخترقها العولمة في النطاق الاجتماعي، فيشمل أنماط السلوك، الأسرة، المرأة، الرعاية الاجتماعية، قضايا حقوق الإنسان...الخ وأسلوبها مع سائر المجتمعات عامَّة ومع المجتمع المسلم خاصة، يعتمد على تهميش المفاهيم العقدية والشرائع السماوية وفي نفس الوقت تبذر مفاهيم جوفاء.
إنَّ خطورة العولمة كما أوجزت تستدعي تضافر الجهود من أجل مواجهتها، ذلك أنَّنا إذا كنا حقيقة لا نستطيع رفضها، فعلى الأقل نستطيع أن نحسِّن وضعنا وموقفنا في هذه المعمورة من خلال ركائز أساسية تشكِّل أولويات في سياسة المواجهة، وهذه الركائز هي:
أولاً: تنمية حسّ الممانعة والصمود:
وتنمية هذا الحسّ على المستوى الفردي والجماعي يستلزم عدم الاستسلام للمنهجيات الرأسمالية ونشر الوعي بالعولمة، طبيعتها ومجالاتها وتأثيراتها، وتنمية ذلك الحسّ يتطلَّب رفض سياسات الاستسلام والعزلة، وسياسة الانتفاضات السريعة والمؤقتة.
ثانياً: تدعيم الأمن الثقافي:
ويتأتَّى ذلك من خلال العلاقة الواعية مع الثقافة ومحاولة إيصالها لكل أفراد المجتمع لتشكِّل درعاً يصمد تجاه كلّ عمليات العولمة، وأيضاً من خلال تنمية الوعي الذاتي بغرس المفاهيم الثقافية الذاتية، وذلك عن طريق التربية الأسرية ومناهج التعليم ووسائل الإعلام. ولتحقيق الأمن الثقافي والاجتماعي لا بدَّ من السعي بخطوات حثيثة لمجابهة ما تقوم به العولمة من تنميط الأذواق والأعراف من خلال تجذير الفروق الفردية بيننا وبين ما تدعو له العولمة، ووضع أساس بيِّن وركيزة واضحة لتوضيح خصوصية الرؤية الإسلامية للحياة والموت، الدنيا والآخرة، العلاقة عموماً بالخالق، الحلال، الحرام، وحدة الأمَّة الإسلامية.
إنَّ تحقيق ذلك كلّه سيؤدي إلى تقوية إرادة التمنُّع عن الذوبان الثقافي والاجتماعي في تيَّار العولمة وفق خصوصية تتميَّز بها الأمَّة الإسلامية نابعة من قوله - تعالى -: (كُنتم خير أمُّة أُخرجت للناس)
ثالثاً: وضع إطار عملي لتطوير الواقع:
ويشمل ذلك:(8/59)
أ/ إعادة بناء البنى الإدارية والاقتصادية والسياسية بشكل يقضي على اليباس الإداري من أجل خطوات قويَّة للتكيُّف مع العالم بشكل إيجابي.
ب/ بلورة استراتيجية عملية فعَّالة للاستفادة من كل الفرص التي توفِّرها العولمة والعمل على التمكين لحضور إسلامي فعَّال في مسيرة العولمة.
ج/ إعادة بناء النُظُم التعليمية والتربوية بحيث تكون منسجمة مع متطلّبات التنمية الشاملة، وفي إطار ذلك فلا بدَّ أن تشمل تربية النشء إبراز القدوات التي تتخذها الناشئة مسباراً لسلوكيَّاتها. إنَّ مواجهة العولمة تتطلَّب العطاء المجَّاني من كافَّة أفراد المجتمع، ذلك أنَّ وضع مجالات التربية في أضعف موقف ممَّا يسهِّل الهجمة الشرسة فيُصبح المجتمع المهاجم كجيش فقد سلاحه.
رابعاً: توفير الإطار المرجعي:
إنَّ تلك الركيزة ضرورية لتقييم الأسس والمفاهيم والسلوكيات التي تقوم عليها العولمة، ونحن كأمَّة إسلامية لا نستطيع أن نكون إطاراً مرجعياً بعيداً عن الإيمان بالله واليوم الآخر والقيم الإسلامية.
لمَّا كانت العولمة تتَّخذ كما ذكرت مسارات عديدة عدَّة، إذ تهجم بلا هوادة، فإنَّ المسار الاجتماعي كان من أبرز المسارات التي وطأته بأقدامها، كيف وأنَّ تأثيراتها تطال الأسرة، المرأة، القيم والعادات والتقاليد. وقد سعت العولمة عبر أقنية المرأة والعنف والفقر والرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة والعمل، هادفة بذلك إلى تحطيم الرؤى المحلية الخاصة بمعالجة تلك القضايا، وفارضة رؤية موحَّدة تخالف الخصوصيات وتعارض القيم والدين، ولكي نتمكَّن من مواجهة تيَّار العولمة بخصوص تلك القضايا، فإنَّ تضافر الجهود لوضع إطار عملي يسعى إلى مجابهة ما قد تفرضه العولمة من محاولات لدمج المجتمعات في إطارها هو الحل الأمثل.
وفي هذا الإطار فإنَّ علينا أن نؤكِّد أنَّ رؤيتنا للأشياء لابدَّ أن تتم من خلال منظارنا المتوافق مع قيمنا، لا من خلال رؤية الآخرين، كما لا بدَّ أن نراعي تميُّزنا كأمّة لها الخيرية، فإنَّ هذا هو السبيل الأقوم للحفاظ علينا من الإذابة في بحر النمطية والعولمة.
فبالنسبة لقضايا الفقر:
فعلى الرغم من أنَّ العولمة لا تقدِّم سوى وعوداً جوفاء لحل مشاكل الفقر، فإنَّ الملاحظ أنَّ مشكلة الفقر ستتزايد من خلال المشروع الكوكبي، ذلك أنَّ الأغنياء لا يقدِّمون في إطار التسارع العظيم للربح إلا مزيداً من المستهلكين ومزيداً من الفقراء، حيث أنَّ النهم العظيم للربح يجعل مزيداً من الفقراء يُداسون تحت عجلة العولمة الاقتصادية.
وبهذا الخصوص فإنَّ على المجتمعات الإسلامية مواجهة تلك المشكلة من خلال:
على مستوى العالم الإسلامي:
ـ دعم البنك الإسلامي للتنمية ليدعم مشروعات التنمية في البلاد الإسلامية، ممَّا لا يدع مجالاً لمحاولات البنك الدولي بالتدخُّل في الدول، ذلك أنَّ أمام الدول النامية والفقيرة خيارين: إمَّا الاستفادة من الميزات المقدَّمة من المؤسسات المالية العالمية، إذا ما التزمت بالشروط المُعلنة مقابل تدخُّل تلك المؤسسات في الكثير من خصوصياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وإمَّا المحافظة على سيادة الدولة ورفض أي تدخُّل في شؤونها، مما يجعلها رهناً للفقر والانعزال.
ـ تهيئة الفرص لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية، مما يؤدي إلى إنشاء السوق الإسلامية المشتركة، وبالتالي يقلل من وقوع الاقتصاد الإسلامي تحت رحمة البضائع الأجنبية ويدعم الاكتفاء الذاتي.
ـ إبراز المشروع الإسلامي فيما يخصُّ مواجهة الفقر عبر مبدأ التكافل الاجتماعي (الزكاة، الصدقات، صلة الرحم المادية... الخ).
على مستوى الدولة:
ـ أن تقوم الدول الإسلامية بتوفير سعر ملائم للمواد الاستهلاكية، ومن المناسب أن تدعم الدول في مجتمعاتها إنشاء جمعيات استهلاكية تعاونية يسهم بها الفقراء ومحدودي الدخل.
ـ إقامة المشروعات وأماكن التسوُّق والورش والمزارع والأنشطة الصغيرة، وهي المشروعات التي ظلَّت على مدار التاريخ أبواب رزق مرضية للشريحة الأضعف في المجتمع، ولتحقيق ذلك فعلى الدولة منح قطع أراضٍ لذوي الدخل المحدود أو لراغبي القيام بأعمال لا تحتاج لرؤوس أموال كبيرة ومساعدتهم عن طريق الإقراض المالي وعن طريق سنِّ القوانين التي تعينهم على الصمود في وجه الطغيان الرأسمالي، ومن المفيد أن تشترط الدولة عند ترسية مشروعاتها تخصيص جزء من تنفيذ تلك المشروعات لأصحاب الأعمال الصغيرة دعماً لهم.
وبالنسبة لقضايا التعليم:
إنَّنا بحاجة لخوض بحر العولمة والتمكين لأنفسنا في المشروع الكوكبي العملاق من خلال تدعيم البرامج التربوية والتعليمية ومسايرة التطورات العالمية في وسائل وتقنيات التعليم، وإلاَّ فإنَّ مكاننا في المنظومة العالمية سيكون في آخر الركب، حيث نحبو وقد وصل محرِّكو العولمة إلى آخر السباق يوجِّهون ويسيطرون ويحرِّكون من يرغبون، ويتأتَّى ذلك من خلال:
ـ دعم مشروع التعليم للجميع في كافة البلاد الإسلامية، فلا يكون من حقِّ الطبقة المترفة أو الغنية فقط.(8/60)
ـ تحسين أوضاع البحث العلمي في البلاد الإسلامية، فمن المؤسف أنَّ أوضاع البحث العلمي محبطة في عالمنا الإسلامي، فبينما نجد أنَّ حصيلة:
البرازيل 42 بحث لكل مليون شخص
وفرنسا 840 بحث لكل مليون شخص
وسويسرا 1878 بحث لكل مليون شخص
نجد أنَّ العالم العربي بأسره 26 بحث لكل مليون شخص 14.
وهي حصيلة لا تؤهلنا لمكانة أسمى في المجال الكوكبي، ولذلك فنحن بحاجة إلى:
• الاهتمام بالمشاريع العلمية البحثية دعماً وتشجيعاً ونشراً وتمويلاً.
• تحسين أوضاع البحث العلمي عن طريق تغيير المناهج الدراسية وأن تتحوَّل من التلقين والحفظ إلى الفهم والبحث وإجراء التجارب، ممَّا يؤدي إلى تنمية روح البحث وملكة النقد لدى الطلاب، ولتحقيق ذلك فلابدَّ من تزويد المدارس والمعاهد بالورش والمعامل والمختبرات. كما إنَّ دعم التعليم التقني والتوسع فيه أفقياً ورأسياً مما يجعل التعليم التقني هو القاعدة.
• إعادة بلورة الأهداف العليا لتعلمي الفتاة بحيث يكون الهدف الرئيسي هو إعداد الفتاة لتؤدي عملها داخل مملكتها، لا أن يكون الهدف الرئيسي هو أداء عملها خارج منزلها.
وبالنسبة لقضايا الرعاية الاجتماعية:
إنَّ الإفراز الأسوأ الذي ستفرزه العولمة هو سحق المحتاجين اجتماعيا للرعاية من المعاقين وكبار السن والأرامل والأيتام والمطلّقات، حيث تقوم العولمة على نظرية أساسية هي أنَّ الكبار يسيطرون والصغار يذوبون، وأنَّ الأقوياء والضعفاء يُستعبدون، والأصحَّاء يعيشون والضعفاء يموتون، وفي ذلك فإنَّ احتمالية تأثُّر مستوى الرعاية الاجتماعية لمن يحتاجها هو المنتظر في خضم تلك الهجمة، حيث أنَّ الفئات التي لا فائدة منها في الإنتاج الاقتصادي فإنَّ أية رعاية لها لن يُجنى من خلالها أي ربح، وبالتالي فإنَّ مستويات تلك الرعاية ستتأثَّر من خلال الاندماج الكوكبي. ولمجابهة تلك النتيجة السيئة فإنَّ على الدول المسارعة لـ:
ـ دعم المشاريع الخيرية والربحية فيما يخص رعاية ذوي الحاجات الخاصة.
ـ دعم الأرامل والمطلَّقات والأيتام بتوفير أفضل الضمانات الاجتماعية لهم.
ـ نشر الوعي إعلامياً فيما يخصُّ استثارة دعم أصحاب رؤوس الأموال في إنشاء دور التربية ودور الحضانة الاجتماعية ودعمها معنوياً ومادياً.
ـ التوسُّع الأفقي في نشر الرعاية الاجتماعية، وألاَّ تكون خاصة بالمدن الكبيرة، فإنَّ المحتاجين للرعاية الاجتماعية ينتشرون على الأغلب في المدن والقرى البعيدة عن مراكز الاهتمام السياسي والاقتصادي.
وبالنسبة للصحة:
ففي إطار الخوض النهم للكسب المتسارع تتساقط قضايا الصحة والبيئة، حيث لا يهتم مؤيدو المشروع الكوكبي بما يطال الأفراد من تردٍ صحي والأجواء من تردٍ بيئي، وهو أمر ملحوظ، إذ حين تدوس عجلة العولمة على القيم والسلوكيات تخرج الأمراض التي لم تحدث في الأمم من قبلنا. وإذ ينتشر دخان المصانع تتلوث البيئات بما يؤثِّر على الصحة العامة وتنتشر الأوبئة. وإذ يقوم الطامعون في الكسب بالبحث عن أسهل وسيلة للتخلُّص من نفايات مصانعهم، فإنَّ البحار تكون ملاذاً لها فتتلوَّث مياه الشرب وأغذية البشر. وإذا كانت الدول التي تسمِّى الكبرى وتدير دفَّة العولمة لم تستطع أن تحقق أمناً صحياً وبيئياً شاملاً وهي زعيمة العولمة، فإنَّ الدول النامية والدول الإسلامية منها ستقع في مأزق إذا لم تراع ذلك الجانب وتحقق التوازن بين التطوُّر الاقتصادي والرعاية الصحية، ويتبع ذلك الاهتمام بالنواحي الآتية:
ـ إنشاء المشافي التي لا تهدف إلى الربح وإنَّما تتقاضى رسوماً لتشغيلها ويدخل في ذلك دعم المستشفيات الخيرية بالأطباء المتطوِّعين.
ـ دعم الأبحاث فيما يخصُّ الأمراض الوبائية والمستعصية والمزمنة، وذلك من خلال إقامة المعاهد البحثية الملحقة بالمستشفيات.
ـ زيادة الاهتمام بتلوث البيئة وطرق الوقاية.
ـ تكثيف إجراءات الطب الوقائي ودعم مجالات التوعية الصحية والبيئية.
ـ دعم مكافحة المخدرات والمهدئات بكافة صنوفها.
ـ توفير أقصى حد من الرعاية الصحية للطفل والمرأة عن طريق إنشاء مشافي الأمومة التي توفِّر خدمات عالية في مجالات مختلفة في كافة المناطق.
ـ نشر الخدمات الصحية رأسياً وأفقياً.
ـ التأكيد عند خصخصة القطاع الصحي أن يكون للدولة يد في وضع الأنظمة واقتراح الأسعار لئلا تكون خدمات ذلك القطاع وفقاً للعرض والطلب، مما ينتج عنه تردِّي الخدمات.
وبالنسبة لقضايا حقوق الإنسان:(8/61)
إنَّ أبرز ما أنتجته العولمة السياسية، التركيز على قضايا حقوق الإنسان باعتبارها قضايا تهم المجتمع الدولي وتعطيه الحق في اتخاذ إجراءات تأديبية ضد من يتعدَّى على هذه الحقوق، وهو أمر جعل حماية تلك الحقوق تفقد قيمتها بالاستغلال الحاصل لها في التدخُّل بشؤون الدول، وبما أنَّ الإطار الإنساني للشرعة العالمية لحقوق الإنسان متوافق مع القيم والفلسفات الغربية للإنسان والحياة، مما يوحي أنَّ تلك الحقوق تتخذ صبغة موحَّدة يجب فرضها أو إملاؤها على سائر الشعوب والحضارات باسم حقوق الإنسان. فإنَّ تلك المسألة تُعدُّ إفرازاً سيئاً للعولمة ومحاولة إلغاء الآخر بثقافاته ونظمه وسلوكياته، ولكي لا تُعدُّ تلك الشرعة الدولية مجازاً لمرور تدخلات الدول الكبرى في السياسات الداخلية للدول الإسلامية، فإنَّ من المناسب التأكيد على:
ـ صلاحية الشريعة الإسلامية كقانون لحقوق الإنسان وقانوناً للأحوال الشخصية.
ـ التأكيد على ما يتيحه الإسلام من مساواة بين مختلف الأفراد في حقِّهم الإنساني وحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية.
ـ رفض أي مبرر لتدخُّل القوى الكبرى في الدول بحجّة حماية حقوق الإنسان، ومن المناسب عدَّ ذلك معارضاً لسيادة الدولة.
ـ قيام وسائل الإعلام بدورها في تحصين المجتمعات المسلمة ضد فرض النموذج الغربي عليها فيما يخص الحريات وحقوق الإنسان.
11-ربيع ثاني-1426 هـ
19-مايو-2005
http://www.lahaonline.com المصدر:
===========(8/62)
(8/63)
سياسة مواجهة تحديات العولمة ضد المرأة والمجتمع 2 - 2
أفراح بنت علي الحميضي
المرأة في المشروع الكوكبي:
لم يغفل مسيّرو مشروع الكوكبي أنَّ المرأة هي أهمُّ قناة يجب أن تستغل من أجل تمهيد الأجواء للاجتياح العولمي ووسيلة العولمة في ذلك عدد من المجالات لعلَّنا نهتم بمجالين استغلتهما العولمة، وهما عمل المرأة وقضية العنف ضد المرأة، ولمجابهة ذلك الاستغلال الملحوظ، من المناسب أن نتعرَّض لما يجب التأكيد عليه في هذين المجالين:
1/ عمل المرأة:
ـ لا بدَّ من التأكيد على:
أ ـ أنَّ عمل المرأة طارئ وليس حتمياً، وفي ذلك لابدَّ من الوقوف بحزم ضد محاولات الرأسماليين والمنظمات الدولية جعل عمل المرأة قاعدة وعملها في بيتها شاذاً، فهذا قلب للأصل الفطري والفطرة السويَّة وفيه خدمة لمصالحهم من جهتين:
1/ دعم القوى البشرية لديهم.
2/ صرف المرأة عن وظيفتها السامية بتقليل فترة مكوثها في البيت، ممَّا يساعد على تقليل فرص تحصين الأطفال ضد ملوِّثات التربية.
ب ـ التأكيد على سلامة الموقع الذي تمارس فيه المرأة عملها من حيث طبيعته وخلوِّه من المحرَّمات الشرعية.
ـ توسيع أوعية العمل أمام المرأة المسلمة في إطار تعاليم الإسلام وأخلاقه 16.
ـ دعم مشاريع اقتصادية إسلامية تقوم على بنية اقتصادية قوية من أجل توظيف الآلاف من النساء الفقيرات اللاتي تعتمد أسرهن عليهن في كثير من الدول الإسلامية، بحيث تحافظ تلك المشاريع على كيانهن كنساء مسلمات، مما لا يضطرهن للعمل وفق ظروف صحية ونفسية وجسمية صعبة في مصانع ومشاريع خاضعة لكبار الرأسماليين، حيث تُعامل النساء كالآلات البشرية بجوار الآلات الحديدية.
ـ وأخيراً اتخاذ نهج المملكة أسلوباً وأنموذجاً فيما يخص عمل المرأة.
2/ العنف ضد المرأة:
حقيقة إنَّنا لا يجب أن نكون هنا مدافعين عمَّا يحدث في المجتمعات من عنف تجاه المرأة أو الطفل، إنَّما يجب أن نشير أنَّنا لسنا مجتمعاً يخلو من هذه القضايا، لكنّنا نعدها أخطاءً، وهي قد وقعت حتى في عهد النبوة (لقد طاف بأبيات محمد نساء كثيرات يشتكين أزواجهن، ليس أولئك بخياركم) كما قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء وحدده في القرآن الكريم بحالة معيّنة ومشروطة، لكننا هنا ندافع وبقوة عن الرؤية الإسلامية في معالجة تلك القضية من خلال منظارنا الإسلامي، لا منظار دول العولمة، وبهذا الخصوص:
أ/ تحديد مفهوم العنف ضد المرأة، فهل يُعدّ عنفاً في مجتمعنا إجبار الزوج زوجته على ممارستهما حياتهما الزوجية كما جاء في مؤتمر بكين البند رقم (13) وكما جاء في المؤتمر نفسه بند (125)..(التنديد بكل ممارسات العنف ضد المرأة ومطالبة الحكومات بعدم وضع الاعتبارات التقليدية أو الدينية موضع التنفيذ).
ب/ لماذا لا يُعدُّ عنفاً ما تمارسه صناعة السينما، حيث أعادت السينما صياغة المرأة في الوجدان العام ونزعت عنها مكانها وعرَّتها من إنسانيتها وكينونتها الحضارية بعد أن عرَّتها من ملابسها وتدخَّلت في خصوصياتها الثقافية والاجتماعية، لماذا لا يُعدّ ذلك عنفاً ضد المرأة كإنسان وككيان له ذاكرة وله وعي وله خصوصية.
ج/ لماذا لا تُعدّ صناعة الأزياء (الموضة) نوعاً من العنف ضد المرأة، ذلك أنَّها صناعة لا تقل عنفاً وشراسة عن صناعة السينما، حيث تقترب عروض الأزياء من الإباحية الصريحة، إذ يتفنّن أبطال تلك الصناعة في طمس الشخصية الإنسانية والاجتماعية للمرأة، وتتحوَّل المرأة من عالم الحياة الخاصة والطمأنينة، إلى عالم الحياة العامة والسوق والهرولة والقلق.
د/ ولماذا لا تُعدّ صناعة مستحضرات التجميل نوعاً من العنف الموجَّه للمرأة حيث جعلت هذه الصناعة المرأة هدفاً أساسياً لها من خلال آلاف المساحيق والعطور وخلافه، مما جعلها سوقاً متجددة كل عام.
هـ/ ولماذا لا تُعدُّ مسابقات ملكات الجمال عنفاً موجهاً لإنسانية المرأة حيث تعامل المرأة كجسد يثير الشهوة المحرَّمة.
و/ ولماذا لا تُعدّ صناعة الإعلانات عنفاً موجهاً ضد المرأة، حيث تُستخدم المرأة لتصعيد الرغبات الاستهلاكية عند الرجل والمرأة، كما قد تعاملت صناعة الإعلانات مع المرأة باعتبارها جسداً مادياً محضاً موضوعاً للرغبة المادية المباشرة.
إذا كانت العولمة تنادي بإيقاف العنف ضد المرأة، فنحن ننادي بذلك، لكنّنا لا نريد الجسر الذي يعبرون منه أن نهرول خلفهم عبره، فلا بدَّ أن نأخذ موقفاً واضحاً تجاه اتفاقية إلغاء التمييز ضد المرأة، فما في هذه الاتفاقية من خير فقد سبق الإسلام له، وما فيها من باطل فهو عنصرية وتمييز تغافلوا عنه وعنصرية يريدون نشرها من خلال نشر ثقافتهم هم وإلغاء ثقافة الآخر يعززها شعورهم الوهمي بالتفوق، بل إنَّ بعضاً من بنود هذه الاتفاقية تُعدُّ عنفاً ضد المرأة، فكيف تُلزم المرأة بالعمل في جميع الأعمال بما فيها المحاجر والمناجم أو إلزامها بالعمل في الأعمال الليلية؟
ويمارس البنك الدولي وحكومات الدول الغربية ضغوطاً على دول العالم الثالث للتوقيع على تلك الاتفاقية18، ألا يُعدُّ ذلك عنصرية؟(8/64)
من خلال هذا المحور فإنَّ مواجهتنا لما تفرضه العولمة من تحدِّيات ضد المرأة والمجتمع لابدَّ أن ينبع من إحساس الجميع دولاً وأفراد بأنَّ المجابهة لابدَّ أن تتوازن مع التحدِّيات أو تتفوَّق عليها، وإلا فإنَّ التهميش ثمَّ الإلغاء والذوبان هو النتيجة.
وحفظ الله أمّتنا.
17-ربيع ثاني-1426 هـ
25-مايو-2005
http://www.lahaonline.com المصدر:
=============(8/65)
(8/66)
العولمة 1 - 2الظاهرة والتحديات
د. بدران بن الحسن (*)
ظاهرة العولمة:
تعد العولمة أهم ظاهرة تشهدها الحضارة الإنسانية والتاريخ العالمي في وقتنا الحاضر، وهي مصب لمجرى التاريخ الذي طالما سارت به سننه ليصل بنا إلى تقدم بشري في مختلف مجالات الحياة بطريقة أصبح الوجود الإنساني شديد التشابك والارتباط.
كما أن العولمة مسار من عملية أوسع ينخرط من خلالها الشعوب والدول عبر القارات والأقاليم في ترابط وعلاقات أوثق، أفرزت نمطا من العلاقات ومجموعة من القيم، وأظهرت للوجود نوعا من المؤسسات المشتركة لم تكن معهودة من قبل.
ولعل الطابع التكنولوجي والاقتصادي والإعلامي للعولمة زاد من أثرها الثقافي والاجتماعي والسياسي، فصارت الأرض كلها تقوم مبادئ السوق والتبادل التجاري والإعلامي والتكنولوجي، وانتهت بموجبه كثير من مفاهيم الاستقلال والصياغات المحلية لمفردات الحياة، وتشكل وعي بالوجود المشترك، الذي يصنعه البعض ويستهلك مفرزاته البعض الآخر.
تحديات العولمة:
إن العولمة تواجهنا بمجموعة من التحديات في مختلف المستويات، وفي مقالنا هذا نحاول أن نتناول أهم ثلاثة مستويات تواجهنا فيها تحديات كبرى في عصر العولمة، هذه المستويات هي: المستوى المعرفي والمستوى الأخلاقي والمستوى الكوني.
1. تحدي النموذج المعرفي:
إن النسق المعرفي الغربي الذي يؤطر المعرفة ويثريها بمقولاته، والرؤية الغربية لله - عز وجل - والكون وللكون والحياة هي التي تسيطر على توجهات أغلبية شعوب الأرض الآن، وتحاصر ثمرات هذا المنهج وعي الإنسان وفكره وسلوكه ورغباته، حتى تكاد تأسر رؤية الإنسانية للوجود، فأصبحت الحضارة الغربية "قانون العصر" المهيمن(1).
فالغرب أتلف قداسة الوجود في النفوس والضمائر والثقافة، بسبب منشأ ثقافتها التي أطلقت عليها اسم العلمية، والتي أخضعت كل شيء وكل فكرة إلى مقاييس الكم منذ عهد ديكارت. ذلك أن المادية المتمركزة، والكمية التي أشيع عنها أنها هي العلم وهي المنهج العلمي الصحيح، صارت معيارا لقيا مدى صحة أو علمية أي فكرة أو شيء في هذا الوجود.
فالتطور الهائل الذي عرفته العلوم الطبيعية والتكنولوجية وحتى الإنسانية، قائم على الفكر المادي، والفلسفة المادية التي طغت على الحضارة المعاصرة، سواء في أصولها النظرية أو في تطبيقاتها الاجتماعية والسياسية.
فصار المجال العقائدي وفق النظرة المادية الوضعية من قبيل الشأن الشخصي الذي لا يخضع لمنطق البرهان الاستدلالي العقلي، وبالتالي لا يمكن اعتباره علما، وفي هذا يقول أنجلز: "إن أي عقيدة دينية ليست سوى انعكاسة خرافية في ذهن الإنسان للقوات الخارجية التي تسيطر على حياته اليومية، وفي ذلك الانعكاس تكتسي القوات الأرضية شبح قوات لاهوتية"(2).
فالمنهج المعرفي الغربي مادي في أساسه، متمركز على المادة، وبالتالي فهي تنكر الغيب وما يتصل به من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وترفض الحضارة الغربية وفق منهجا العلمي أي مصدر آخر للمعرفة خارج عن نطاق الفحص الحسي المادي، الخاضع للتجربة المخبرية أو المشاهدة.
وبما أنها مادية فإنها تخضع كل شيء لقوانين المادة من تحول وتغير، ولا يوجد هناك ما يسمى ثابت مثل القيم والأخلاق، لأنها ليست أشياء يمكن تقديرها بالكم، فالصدق بما انه لا يمكن وزنه ولا قياسه بالكمية أو بالأرقام فهو - في المفهوم الغربي - شيء مفتعل وغير موجود، ولا ثمرة من ورائه.
والعلوم الإنسانية في طابعها العلماني الحديث وزخم الاكتشافات الخارقة والمكتسبات الهائلة التي أحرزت عليها أدت من حيث أبعادها الأخلاقية والروحية والإنسانية إلى متاهات عقائدية. فسلبت الإنسان من مكوناته الأساسية التي ترتفع بها فطرته البشرية، وتعتدل بها نفسيته، وتتزكى بها عقليته ويتسامى بها ضميره وروحه(3).
2. تحدي الأزمة الأخلاقية:
من أهم التحديات التي تواجهنا بها العولمة تحدي الفساد الأخلاقي الذي يكتسح العالم بفعل غياب بعد الأخلاق في الحياة المعاصرة، والقيمة الخلقية أرقى من السلوك التجاري الذي يظهر في تصرفات الكثير، وليس الغاية من ذلك نداء الضمير بقدر ما هو بروتوكولات وإتكيت وبالتعبير الغربي (Ethics)، وهناك فرق بين الخلق الذي هو ألصق بالفطرة ونداء الضمير والتزام التقوى، وبين الإثيكس بالمفهوم الغربي الذي يراعي المظهر الشكلي دون الجوهر.(8/67)
لقد غدت الأخلاق بالمفهوم الغربي ذات بعد نفعي تجاري، فالرجل لا يكذب لأن سمعته تتأثر، فإذا لم تتأثر فليس في الأمر تثريب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التحلل من القيم صار موضة، وعلامة على الحضارة الغربية التي هتكت الأستار وعرّت الإنسان، وتجاوزت في إباحيتها كل وصف، وهذا الذي دفع كثيراً من الشباب إلى الاستقالة الاجتماعية من الحياة؛ إما عن طريق الانتحار بطرقه المختلفة، وإما بالانغماس في عالم الرذيلة والمخدرات والفجور، مما أصبح يهدد الأسرة بالانهيار والتفكك، ويقضي على قيم التآلف والرحمة والعطف، وكل القيم الروحية التي تفتح أمام الإنسان أبواب الأمل في الحياة الكريمة، وتخفف عنه آلام حضارة البعد الواحد.
وللأخلاق دورها الريادي في تحقيق سعادة البشرية، وفي صياغة وجهة البنيان الاجتماعي، وتزويده بالمبررات الغيبية اللازمة لحفظ التوازن بين مطالب النفس وتطلعات الروح، وبين زخم الحركية الاجتماعية.
يقول مالك بن نبي في موقع الأخلاق من البناء الاجتماعي: "إن القيمة الأخلاقية لها أهميتها في الحفاظ على البناء الاجتماعي والحضاري، إذ تحمي البنيان الاجتماعي من التفكك وتعطيه قيمة فوق أرضية، وتدفع النفَس الحضاري إلى الاستمرار في الإنجاز وتزوده بالمبررات التي هي أسمي من الكسب المادي وحياة الترف. ومن هنا ندرك سر القيمة الأخلاقية التي خص بها محمد صلى الله عليه وسلم الفضائل الخلقية باعتبارها قوة جوهرية في تكوين الحضارات"(4).
3. تحدي الفساد الكوني:
إن المجتمع الغربي والعالم كله يدفع حاليا ثمن الثورة الصناعية...وملاحظة سريعة لبعض الإحصاءات تشير إلى التدهور الخطير الذي أحدثته هذه الثورة في الطاقة الإنتاجية للطبيعة، وفي ازدياد التلوث، لدرجة تهدد الجنس البشري... فالغابات مثلاً بدأت تضمحل بمعدل 16 مليون هكتار سنوياً، ويفقد العالم 24 مليار طن من تربته السطحية، وتختفي العديد من المناطق الرعوية، وانخفض مستوى المسطحات المائية نتيجة للضخ الجائر لمياه الري... وتشير تقديرات الاتحاد العالمي لصون الطبيعة أن 1283000 جنس نباتي وحيواني مهدد بالانقراض، وإلى اختفاء 30 ألف نوع سنويا"(5).
كما أن تكنولوجيا القتل الجديدة تهدد بقتل البشر وغيرهم من الكائنات الحية، وأن الأسلحة الكيميائية، والبكتيرية الفيروسية، والنووية، من أحدث تقنيات هذه التكنولوجيا القاتلة للحياة على كوكب الأرض.
لقد حقق الإنسان الذروة فيما يستطيع به أن يدمر كل الكائنات الحية على الأرض والبحار... إن قنبلتي هيروشيما وناكازاكي وما أحدثتاه من الدمار... وحادثة محطة القوى النووية في تشيرنوبيل، قد أظهرت كيف يمكن حين لا يتم التحكم، في آلية محطة القوى النووية، أن تقتل المواد النووية المتفجرة الشديدة السريعة كل إنسان بالقرب منها، وتسبب دماراً إشعاعياً بالغ الخطورة للناس والكائنات الحية التي تعيش على مسافات بعيدة، بل حتى في القارات البعيدة(6).
و"إذا نظرنا إلى مخزون الولايات المتحدة وروسيا الذي يصل إلى مئة ألف سلاح نووي، تبلغ قوة كثير منها أكبر من القنبلتين اللتين ألقيتا على اليابان آلاف المرات، فإذا انفجر حتى جزء قليل منها فليس هناك احتمال أن يبقى على قيد الحياة أي كائن من الكائنات الثديية، كما سوف تقاسي الكائنات الأخرى من أضرار مرعبة، ولن يصبح العالم قابلاً للحياة بالنسبة للجميع"(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) دكتوراه في دراسة الحضارة والفلسفة، رئيس قسم البحوث في متحف الفنون والآثار الإسلامية بماليزيا، رئيس تحرير مجلة (المقدمة).
(1) انظر مقالنا: الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية رؤية معرفية، إسلامية المعرفة، العدد الرابع، ذو القعدة 1416هـ/ أبريل 1996م، ص 211-225.
(2) نقلاً عن أحمد عروة، العلم والدين مناهج ومفاهيم، ط1، دار الفكر، دمشق، 1407هـ/1987م، ص10.
(3) نفس المرجع، ص153. بتصرف.
(4) وجهة العالم الإسلامي، ص30.
(5) منذر سليمان، "مقولة هتنغتون.. صدام للحضارات أم دعوة للتطهير الحضاري؟ "، الحوار، نيسان/ أبريل1997، ص24.
(6) سير روي كالن، عالم يفيض بسكانه، ترجمة: ليلى الجبالي، سلسلة عالم المعرفة (213)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1996م، ص ص147-149، بتصرف.
(7) المرجع نفسه، ص149.
4/6/1426
http://www.almoslim.net المصدر:
============(8/68)
(8/69)
العولمة 2 - 2وعي الذات سبيل النجاة
د. بدران بن الحسن
في ظل هذه التحديات في مستواها العلمي، والسياسي، والاجتماعي، والحضاري، وبخصائص العولمة المتميزة بارتباط المصير الإنساني ببعضه البعض، وبإفلاس الأديان الأخرى أمام تحديات العلم، وهيمنة النموذج الغربي، الذي أصبغ فوضاه على العالم، فأصبحت أزمته أزمة عالمية، تأثرت بها كل الأمم والمجتمعات، إضافة إلى أزمتنا الخاصة بنا. وفي سبيل مواجهة التحديات التي يطرحها عصر العالمية، سواء على مستوى تحدي النموذج المعرفي، أو تحدي الأزمة الأخلاقية، أو تحدي الفساد الكوني.
في هذا كله، ما هو دورنا؟ وما العمل الذي يقوم به المسلم حتى يحفظ ذاته من الذوبان؟
وكيف يساهم في حل أزمة الإنسانية التي تنتظر منقذاً، يرفعها من مهاوي الإخفاق والجدل الوضعي وأوهام المادية، إلى مستوى نور الهدي الرباني، واستقامة المنهج، ووضوح الرؤية القائمة على التوحيد لله - عز وجل -؟
لا شك أن المأزق العالمي، الذي تعيشه الإنسانية إن على مستوى الروح أو المادة أو العقل وإن على مستوى الحضارة بعمومها، لا يمكن مواجهتها بالانكفاء على الذات، أو بالاستقالة من مجال صناعة التاريخ، كما "لا يمكن مواجهته بانفعال عاطفي بالإسلام، أو إيمان نظري بقدرة الإسلام على حل مشكلات البشرية، وأنه صالح لكل زمان ومكان"(1).
وإذا كان العالم اليوم موحد في مصيره، ويتوجه نحو تجميع قواه في صورة مصير مشترك، قد يصاغ على غير ما نرغب، وأن البشرية صارت تعمر الأرض، وكأنها في عمارة واحدة تتقاسم طوابقها الأمم، تربطهم وشائج، مهما كانت هذه الوشائج. فما هو دورنا نحن؟
فهل نتمثل قول الشاعر:
وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد
أم هل نتبع سنن من سبقنا إلى الحضارة والتقدم، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلناه(2)؟ أم هل يكون لنا دور؟ فنوطن أنفسنا، جاء في الحديث: "لا يكون أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس فأحسنوا وإن أساؤوا تتجنبوا إساءتهم"(3)، وننقذ سفينة البشرية من الغرق، وننجو وينجو معنا غيرنا، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها..."(4).
إن أي دور للمسلم في هذا العصر، لا يمكن تصوره إلا دوراً قائماً على ركائز نحسبها مهمة، هذه الركائز تضبط هذا الدور، وتؤصله، وتحقق فيه الفعالية، وتمنحه الوعي، وتجعله عملاً محققاً للقدوة العلمية والعملية. هذا الدور يقوم على نظرية واضحة عمادها الوحي إطاراً وتصوراً، والواقع ممارسة وإعماراً.
ومن أهم هذه الركائز التي تشكل ضامنا لتجاوز التحديات والحفاظ على كينونتنا الحضارية نجد الوعي بالذات الإسلامية، والوعي بخارطة الواقع الحضاري، وتكامل الأصالة والفعالية، ودخول التاريخ من باب الواجب، وتقديم نموذج عملي للإسلام مثلما كان على عهد السلف الصالح.
والوعي بالذات الإسلامية أمر ضروري، ومهم ودونه لا يمكن أن نحل مشكلاتنا، ولا أن نبلِّغ الهداية إلى الآخرين، ورسالتنا في عصر العالمية تتحدد بمدى فهمنا وتمثلنا للقيم الإسلامية، ولا يمكن أن نحقق التغيير المطلوب إذا لم نرتفع إلى مستوى الإسلام؛ لأننا لكي يتحقق التغيير في محيطنا يجب أن يتحقق أولا في أنفسنا، وبذلك تتوافر شروط رسالة المسلم في هذا العصر، وإلا فإن المسلم لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين.
ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي التغيير، والتغيير يقتضي تغيير ما بالنفوس أولا، إذا كان منهج الرسالة يقتضي هذا، فإننا نستطيع أن نتكلم عن وسائل الرسالة أو الطرق العملية لتطبيق هذه الرسالة كي تفي بمهمتها، ألا وهي الإنقاذ أو مواجهة حالة إنقاذ أو حالة طوارئ تخص المسلم وتخص الإنسانية عامة. عندها يجب على كل مسلم أن يحقق بمفرده شروطاً ثلاثة: أن يعرف نفسه، وأن يعرف الآخرين، وأن يعرف الآخرين بنفسه ولكن في الصورة المحببة(5). والأمر هنا يتمثل في الانسجام مع أهداف وغايات الرسالة الإسلامية، والتطابق معها، على مستوى التصور العقدي، وعلى مستوى الممارسة العملية.
والوعي بالذات الإسلامية يعني تحقيق وتمثل المثل الإسلامية، وأن يعيشها الفرد المسلم والمجموع، وأن تصبح صبغة لمفردات الحياة اليومية للمسلم، وليس فقط التلفظ بعبارات التوحيد والتوكل والرضا والإتقان للأعمال، وغيرها.(8/70)
فالتوحيد الذي هو جوهر الذات الإسلامية، ينبغي أن يحياه المسلم في أبعاده الاجتماعية والنفسية والعلمية، فعلى المستوى النفسي يربط المسلم مصيره وأمله وتوجهاته وأهدافه بالله - عز وجل -، فيخلص التوجه إلى الله، ليحقق وحدته من التمزق، وعلى المستوى الاجتماعي تنتفي مظاهر الصراع والتناقض ويكون توجه المجتمع نحو التكامل والتآلف، فتحكمه مبادئ الاستخلاف والإعمار والتسخير والعبودية لله - عز وجل -، وعلى المستوى العلمي يتحقق لدى المسلم وحدة الحقيقة، وانسجام سنن الله في الكتاب وفي الأنفس والآفاق والتاريخ، فلا يحدث عنده تناقض بين الوحي والكون، ولا بين الوحي والعلم؛ لأن الوحي هدي صادق، والعلم توجه صادق بحثا عن الحقيقة.
لهذا، فإن الوعي بالذات الإسلامية يقتضي أن يحياها المسلم ويحقق بها غايات الحق من الخلق، كما كان الجيل الأول رضوان الله عليهم، إذ كانوا قرآنا يمشي، فالمسألة لا تتمثل في تلقين أو في إعادة تلقين المسلم عقيدته؛ ولكنها تتمثل في إعادة تلقينه استخدامها وفعاليتها في الحياة(6).
ثم أن مواجهة أي غزو فكري تتطلب هذا الوعي بالذات، حتى يميز المسلم بين تفوق ذاته الإسلامية، وقصور مصدر هذا الغزو، وبالتالي تحقيق الحصانة من الغزو، والقضاء على عنصر القابلية للاستضعاف والغزو.
فقبل أن نواجه الغزو الفكري، لا بد من بناء شخصيتنا، وتحصين أنفسنا، لنصبح ممنوعين من تأثير الغزو، ليس عندنا قابلية له... وإذا تحصنا، لم يعد للغزو تأثير فينا.. ولهذا لا بد لنا إذا رغبنا ألا تؤثر فينا مخططات المتربصين، أن نبني شخصيتنا بحيث تكون مصبوغة بصبغة الإسلام، وموسومة بميسم الإيمان(7).
والوعي بالذات الإسلامية يستتبعه ويرتبط به ويكمله الوعي بالخريطة الحضارية للمجتمع الإنساني الراهن الذي يتشكل من حضارات، وكل حضارة تعبر عن نموذج حياتي متميز عن غيره، وفهم الحضارة مقرون بوعي مذهبيتها ونظامها الفكري ومشروعها الاجتماعي ومنهجيتها المعرفية التطبيقية(8).
كما أنه من الواضح أن الضمير الإنساني في هذا العصر لم يعد يتكون في إطار الوطن والإقليم، بل إن الضمير الإنساني إنما صار يتكون على ضوء الحوادث العالمية التي لا يستطيع أن يتخلص من تبعاتها، فإن مصير أي جماعة إنسانية يتحدد جزء منه خارج حدودها الجغرافية. فثقافة العالم أصبحت تتحدد أخلاقياً وتاريخياً داخل تخطيط عالمي(9).
خاصة مع التطور الذي دفعت به الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتلاهما من تطورات وأحداث عالمية أحدثت تأثيراً في وعي الإنسان واهتماماته ولم يعد وعيه يتشكل بشكل انعزالي عن المؤثرات الخارجية، ومن هنا فالوعي بها، ووضعها في الحسبان يمكن من التفاعل الإيجابي معها. لذلك فإن المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي(10).
ولم يعد من المستساغ علمياً وواقعياً الغفلة عن ما يجري من حولنا في القرية العالمية، وإلا فإن وعينا سيصيبه الضمور، ونجهل المعالم التي تتحرك على منحاها أحداث التاريخ، فالمستوى الشخصي للمسلم حتى ولو نما نمواً نسبياً، يمكن أن يبدو في حالة تضاؤل، بقدر ما ينمو تطور الآخرين بسرعة أكثر، والواقع أن الوعي الاجتماعي الذي كان يتكون منذ حين في دائرة محدودة أمام منظر محدد عموماً، بنطاق بلاد معينة هي الوطن، قد أصبح يتكون اليوم في إطار أكثر امتداداً بدرجة لا تضارع، وفي منظر أكثر انفساحاً.
فالوعي بالذات الإسلامية والوعي بخارطة الوجود الحضاري الإنساني يتشكل ويتطور وينضج باتساع دائرة الاهتمام التي يوليها كل منا عنايته، فبالنسبة لفرد من الجزائر ودوائر وعيه المتعاقبة من الجزائر إلى العالم العربي إلى العالم الإسلامي وصولاً إلى الدائرة الإنسانية، يمكن أن يتشكل وعيه حسب اتساع دوائر الاهتمام فبقدر ما يعي فيه الفرد المولود في الجزائر أو السعودية مثلاً دائرته ويتخطى إلى الوعي بمشاكل العالم العربي واتجاهاته وآماله، بقدر ما يكتمل وعيه ذاته وينمو مستواه الشخصي، وبقدر ما يتخطى دائرة داخلية إلى أخرى خارجية بقدر ما ينمو عالم أفكاره؛ وعندما يبلغ وعيه الاكتمال المتطابق مع الدائرة العالمية يكون مستواه الشخصي قد بلغ أقصى اكتماله، بحيث ينبث حضوره في سائر أجزاء المعمورة.
لهذا فالاهتمام بالآخرين يفرضه واجب ديني إسلامي لمعرفة مصير المسلمين في العالم وكيفية الحفاظ على وجودهم الديني والحضاري وبعث حضارتهم من جديد، ويفرضه المنطق الإنساني، وتحتمه التداخلات بين الشعوب والأمم في عصر العولمة، كما أن في حياة الشعوب التي تواجه في عصر العولمة مشكلات خاصة بكيانها، ومشكلات مشتركة، تعبير عن امتداد كيانها في عالم الآخرين، وتأثير العامل التكنولوجي الذي صاغ بالنسبة لكل شعب ضرورات من نوع خاص تفرض على حياته التزامات ومسؤوليات جديدة في نطاق أوسع من نطاقه التاريخي الجغرافي المعتاد(11).
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) فريدة صادق زوزو، البعد المقاصدي في فقه عمر بن الخطاب وأثره في المذهب المالكي، رسالة ماجستير غير منشورة، ص13.(8/71)
(2) الحديث: " لتتبعن سنن من كان قبلكم... "
(3) انظر: كنز العمال، رقم43035، ط5، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401هـ/1981م، ج15/ص772؛ والترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان والعفو، رقم2075، وقال حسن غريب، تحفة الأحوذي للمباركفوري، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ج6/ص145؛ وانظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للشيخ القاري، كتاب الآداب، الفصل الثاني، رقم5129، عن حذيفة، المكتبة التجارية، مكة المكرمة، ج8/ص853. كما أخرجه الهيثمي في الزوائد عن ابن مسعود بلفظ آخر، انظر: مجمع الزوائد، باب القياس والتقليد، ط2، دار الكتاب العربي، ج1/ص180.
(4) الحديث أخرجه البخاري، كتاب الشركة، باب(6)، هل يقرع في القسمة؟ والاستفهام فيه، رقم2493، انظر: فتح الباري، المكتبة السلفية، القاهرة، ج5/ص157.
(5) دور المسلم ورسالته، ص ص58-59.
(6) قضايا كبرى، ط1، دار الفكر، دمشق، 1991م، ص123.
(7) أحمد عبد الرحيم السائح، في الغزو الفكري، ص ص79-80.
(8) عبد العزيز برغوث، الوعي المعرفي القرآني ومنهجية التغيير الحضاري، مخطوط، ص90.
(9) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص121.
(10) مشكلة الثقافة، ص116.
(11) مالك بن نبي، تأملات، دار الفكر، دمشق، 1988م، ص ص 7-8.
11/6/1426
http://www.almoslim.net المصدر:
=============(8/72)
(8/73)
أربعة آراء في العولمة
مازن هاشم
اجتمع أربعة رهط يتناقشون في مسألة العولمة، وانقسم هذا المجلس تلقائياً إلى أربعة أقسام، ناظر في التاريخ وناظر في الفقه وناظر في السياسة الحركة وطالب علم يتصيد الحكمة، وقام كلّ يدلي بحجته ويتحفظ على رأي الفريق الآخر، وما يلي بيان رأيهم وملخص حججهم.
قال الأول:
العولمة والتنمية مسائل هامة، وما هي إلا تمظهر لمنطلقات فكرية وأسس مفهوماتية، وإنه لمن ضياع الوقت أن نناقش الفروع والأعراض، بل يجب علينا أن نغوص في الأعماق والخلفيات.
إن مفهوم التنمية هو امتداد للنظرة العلمانية منذ أن أطلّت بقرنها في القرن الثامن عشر الميلادي، إنها تلك النظرة الشرهة نحو الكون والوجود التي نحّت الإله والقيم جانباً وأرادت الانطلاق من غير قيد ولا شرط، تأكل بنهم وتتمتع كما يتمتع الأنعام. إنها تلك النظرة التي تريد أن تُسيطر وُتخضع وتستأثر؛ إنها قبل كل شيئ وجهة في تصور الوجود: الوجود جماد، الوجود ليس فيه روح ولم يخلق لهدف...إنه ذاك الوجود الدارويني الذي تمكن الإنسان فيه أن يرتقي إلى قمة الهرم الغذائي بحيث يسمح لمن تحته أن يأكل بعضه بعضاً ولكنه متمكّن في القمة يلتهم الجميع...
إنها النظرة التي ترى أن الإنسان قد أثبت نفسه في هذا الوجود، ومكنته الصدفة أو الذكاء أو كليهما أن يرتقي ويتطور في حين فشلت باقي السلالات الحيوانية. ولكن نجاح السلالة البشرية من بين الحيوانات الأخرى ليس نجاحاً مطلقاً إذ أن وجوده محكوم بمعضلتين: الأولى هي أن عند البشر شهوات لا تشبع، والثانية أن موارد الأرض محدودة. إن هذين المبدأين (النهم والندرة) هما اللذان يشخصان الأرضية التحتية لمفاهيم التنمية والعولمة.
لقد كان لهذا البشر النهم في عالم الندرة أن يفجر طاقاته باتجاه إشباع أكبر لشراهته في بقعته الأرضية محدودة الموارد والتي تمكن من السيطرة عليها... وبذلك كان عليه حتماً أن يوسع البقعة التي يسيطر عليها لأن بتوسيعها تزداد الموارد. ولا بد أيضاً من تصعيد مستوى الاستخراج من موارد الأرض لكي تنتج أكبر قدر ممكن من المتاع. ولكن تصعيد مستوى الاستخراج من الأرض يحتاج إلى سواعد عاملة وطاقات منفّذة.. ويلزم تحصيل هذا بأرخص الأسعار... وهكذا استهلت حركة الشره الثقافي-الاقتصادي القرون الماضية باستجلاب الرقيق ليكونوا وقود آلة الاستخراج هذه، وما يزال يتابع هذا الخط بالـ (الجات) الجديدة... وما يزال صراخ هذا التوجه يتعالى: أريد عمالة رخيصة... أريد نفطاً رخيصاً... أريد سوقاً مفتوحة بلا عوائق.
وتبلورت هذه النظرة في مفاهيم أصبحت عملة التداول الفكري: التنمية والتقدم والانفتاح؛ والركود والتخلف والانغلاق. ثم شفعت هذه المفاهيم بنزعة جبرية. التنمية ممكنة للأبد وخط التقدم صاعد إلى الأعلى باستمرار... والإنسان يحطم يومياً الحواجز التي أمامه... والسعادة الأبدية ليست إلا على مرمى النظر... لقد كتب إنسان القرن العشرين والواحد والعشرين نهاية التاريخ! وليس ثمة شيء ينتظر إلا مزيداً من التقدم الذي تتضاعف سرعة نموه.
ويتابع هذا التوجه متبختراً فيقول: لقد كانت بعض المفاهيم العقدية أساس هذا النصر الذي حققناه. لقد كان التخلص من سطوة الإله حلماً يدغدغ الإنسان منذ الأزل. ولقد تجرأ أحياناً على التمرد وأماته الرعب أحياناً أخرى. ولكن ها نحن حققنا الفوز النهائي بضربة قاضية. فشكراً للأجيال الجريئة الأولى التي مكنتنا من هذا الفوز. على أنه يجب أن لا يغلبنا الشعور بالأمن، فما زال هناك من الهمج من يتشكك في سجل إنجازاتنا الباهرة. إن عبء الإنسان المتقدم عبء كبير ارتضينا أن نحمله ونضطلع به. وإنه محتم علينا أن نستعمل ما أمكننا من الوسائل لتأديب الرجعيين المتخلفين الذين مازالوا يحلمون بعوالم مثالية ومبادئ متسامية. إن واجبنا الأخلاقي أن نزيل هذه الأعشاب الضارة من وجه الإنسانية، وأن نمكن لثقافة التقدم والرقي أن ترسخ. ولا يمكن تحقيق هذا إلا بعد أن نعولم عاداته وذوقه وطرق لباسه ومعاشه، فنحن نريد أن يعمّ ما وصلنا إليه الجميع.
قال الثاني:
لن أخفي عليكم أني لا أستسيغ شيئاً مما قاله فيلسوف الزمان، وفي الدين غنى عن التعقيد المتعب. بل إن مثل هذا الكلام ليلهينا عن مهمتنا الكبرى في إصلاح أنفسنا واستعادة أمجادنا. لقد صلحت نفوس أجدادنا فصلح حالهم. إن خطر العولمة يتحدد بالذات في أنه يهدد إيماننا ويحاربنا بالفضائيات والأفلام والموسيقى.
إن واجبنا الأكيد أن نحمي أنفسنا من هذا الأخطبوط.. أن نغلق المنافذ الشيطانية التي يدخل علينا منها، وأن نبني مجتمعنا من خلال التربية السديدة في حلقات العلم. إن علينا أن نحيي تراثنا ونفتخر به.. وهل يمكن لأمة أن تنهض إذا لم تغترف من تراثها الأصيل.(8/74)
لكن أرجوا ألا تسيؤا فهمي.. إن التقدم الذي أحرزه الفرنجة تقدم باهر.. وإننا نحن المسلمون الواثقون لا يخيفنا هذا التقدم فقد حققنا مثله في تاريخنا. ثم إن في الغرب نفسه أمراض تكاد تفتك به، وتعرفون قصة الأمراض الجنسية عندهم... والأرض لله يورثها من يشاء، ولا بد أن تسقط حضارته لقمة سائغة في أفواه أهل الله يوماً ما، ونسأله - تعالى -أن يعجّل في هذا. وعلى كل حال لا يهمنا ما سيحدث في حياتنا القصيرة، فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة.
أعود فأؤكد أن الخطر هو في تربية الفرد والمجتمع بشكل لا ينبهر فيه بالإنجازات الحضارية الغربية، ولابد لنا من أن نحمي أنفسنا من سلبيات الغرب وأن نستفيد من إيجابياته. وهذا لا يتم إلا بتطوير الضوابط والأحكام اللازمة لهذا العصر. إن الشريعة الباهرة استطاعت أن تعيش أربعة عشر قرناً وهي غنية بالأقوال والمذاهب وتتسع للتغيرات. إن الذنب ذنبنا في عدم فهم الشريعة فهماً عصرياً وعدم تأصيل مواقفنا وفق أصول فقهنا المجيد. إن علينا أن نغربل آثار العولمة السيئة لتصبح متماشية مع الشريعة.
قال الثالث:
أعذروني يا إخوتي.. فإن كليكما يتكلمان في خيال لا يتصل بالواقع الذي نعيش فيه، ولا يمكن أن يرفع أمتنا الجريحة مما ابتليت به. ربما يصح بعض الذي تقولون، ولكن لا يهمني هذا. إن الذي يجب علينا أن نفعله هو ((العمل))؛ نعم العمل من خلال هذا الواقع المفروض وتسخير كل الوسائل في إحداث تغيير في واقع الناس المرّ.
إن العولمة يا أخوة تحدٍّ وفرصة.. إنها تحدٍ لأن وراءها إمكانات ضخمة وشركات ومؤسسات. ولكن من قال أنه لا يستطاع فعل شيئ؟! ولماذا نتناسى أن عند المسلمين إمكانات ضخمة علينا أن نعرف كيف نسخرها لمصلحة بلادنا ولمصلحة المسلمين. إن علينا الانتقال من التغني بالمبادئ إلى الجهاد في البرامج. ولن ينفعك إذا صورت العولمة وحشاً مخيفاً أو وسيلة مفيدة. إن الذي ينفع هو وضع الخطوات العملية للتأثير فيها. وها هي أقوام أخرى واجهت التحدي وتقدمت نسبياً. إن علينا أن نكون أذكياء ونعرف كيف نخترق الحواجز من خلال الثغرات الموجودة في أي منظومة مهيمنة، وإن الباب الذي تتصورونه أصماً موصداً ليس بكذلك. وإن تضارب المصالح واختلاف المآرب بين الأقوياء يدع فرصة للضعيف أن يعمل بفاعلية تفوق قوته بآلاف المرات.
إن علينا الثقة بأنفسنا والتوكل بالمباشرة بالعمل.. ولن يغنينا مزيد فلسفات فقد شبعنا منها، وإنه لو افترضنا أنها بلسم سحري فإن عامة الأمة تئن في جراحها ولا يمكن أن تسمع لمن لا يستجيب إلى شكواها المباشرة. إن حالتنا إسعافية لا تحتمل التأمل وتقليب وجهات النظر... فلنهبّ جميعاً للعمل في حاجات المسلمين. ولنكن صرحاء، فإنه لن يحل مشاكلنا صلاح النفوس، وإن كان ذلك يسرنا ويباركنا... وكم من قوم ملأتهم الذنوب ووصلوا إلى ما يبغون بالعمل المنظم وبالتخطيط الاستراتيجي. إن الرؤية الاستراتيجية هي تلك التي تكتشف مواقع القوى ونقاط التأثير. وما دامت جهودنا محدودة فإن أولى بها أن توظف في تلك المواطن الحساسة.
إن من شأننا أن نتعلم المهارات الحديثة ونتقن العلوم ونصل إلى أعلى المراتب في المنظومة العالمية وأن نبني المؤسسات الموازية. وهذا عين الواقعية، ولا يفل الحديد إلا الحديد. إن علينا أن نبني مؤسسات على طراز حديث يناسب العصر ومنطقه. ولقد أشار الأخ الفقيه الى خطورة الإعلام، ولا يخفى على أحد أثر صناعة الأفلام وما شابهها. إنها الخطاب الذي يصل كل بقعة في العالم ويشكل ويصوغ أذهان وعواطف الصغار والكبار. وهذا مثال جيد على جبهة حساسة يمكننا المواجهة فيها بشكل قوي.
بل دعني أشير إلى أن التفكير الاستراتيجي يذهب إلى أكثر من هذا بحيث يموقع نفسه ليستفيد من حركة الغير ولو لم يكن صديقاً، ويترقب القوى التي تمشي إلى طريق الارتطام لتسنح فرصة التسلل إلى مواقع أعلى والقفز إلى مشارف لم يكن يُطمع بها. ولنتذكر أولاً وآخراً أن هذه الدنيا لا تسير وفق حسن النيات ولا شطحات العقول وإنما تدفع بالحرب والمكر والخديعة.
قال الرابع:
مهلاً يا إخوتي، ولماذا تختلفون بهذا الشكل؟ وإني لطالب علم أحاول أن أجد في طرح كل منكم ما يمكن الاتفاق عليه؟ إن النظرة التاريخية تفتح العيون وتحرك العقول حقاً، فلا بد أن نفهم العولمة ضمن منظور زمني ممتد يحيط بأبعاد هذا المشروع الحضاري المحكوم برؤية كلية وتتصور وفهم مخصوص للوجود والكون. وبالطبع فيجب أن لا ينقلب هذا الكلام العميق إلى سبحة تعفي من العمل المبصر بعيد الرؤية.(8/75)
وأما أنت محبّ السياسة فبارك الله بفألك وتطلعك، لكن يلزم بعض التوضيح لكي لا تنقلب النيات والامكانيات إلى شعارات. وذلك لأن الاقتناع بضرورة العمل والتوجيه نحوه لا يعني بالضرورة أن نتاجه سوف يكون في صالح الشعار المرفوع! ويحدث ذلك عندما لا نتدبر ملياً الآثار بعيدة المدى ولا ندرس مستتبعات آليات الوصول. إن الفخ الكبير الذي يمكن أن يقع فيه هذا الطرح هو أنه يفترض نفسه مسبقاً أنه يفهم الإشكال والحل بآن واحد، وأن ليس عليه إلا المباشرة بالعمل. والكلام في الاستراتيجيات يمكن أن يتحول إلى شعار يُرفع ليبرر حركات رد الفعل والاستسلام للواقع المفروض. إذ أنه كيف نضمن أن لا ينقلب تصور العمل الاستراتيجي إلى براغماتية مستعجلة ليس عندها الصبر على طول الطريق؟
ثم إن المقابلة بالمثل قد تجر إلى إخفاق محقق بسبب التفاوت الكبير في القدرات. ولنأخذ مثال الأفلام الذي ضرب، فهل بالاستطاعة إنتاج أفلام موازية لاتقان أفلامهم وهي تكلف الملايين؟ وهل يمكن إخراج أفلام ناجحة بلا أدب أصيل؟ إن الأدب المتين المستند إلى قاعدة فكرية سليمة هو الذي يمكّن من الانتاج النوعي؛ والعكس بالعكس. وإني لأفهم أن الرؤية الاستراتيجية هنا هي التي تعطي الأولوية لـ(الحركة) على مستوى الأدب، لا الـ(حركة) العملية البحتة. فالهرع نحو إخراج أي فيلم واعتماد الترجمة والتقليد و(دبلجة) إنتاج الآخر تحت شعار الانفتاح والإيجابية يغلب أن يعطي نتاجاً ذا نوعية ثقافية متدنية بغض النظر عن نجاحه.
بل لعله يصح القول بأن مواجهة الغالب بغير ما غلب به هو الأقرب للصواب. يعني مواجهته بغير أدواته، لأنه لن يبرح ألا يكون متفوقاً فيما أتقنه وطوره. ثم إن المقابلة بالمثل قد تنتهي عملياً بأن يتحول المخالف إلى جزء لا يتجزأ من تلك الحركة الضخمة. وذلك أنه إذا اتبعنا وسائل الغير بحذافيرها وتحركنا ضمن منظومته فسوف نجد أنفسنا تحت حاجة حركية وضرورة واقعية أن نعمل من خلال تلك الآليات ذاتها وأن نقبلها وأن ندخلها ضميرنا وأن نخترع لها المسوغات الفكرية، لأنه بدون ذلك لا يمكن أن يكون لنا فاعلية في التعامل معها. والخلاصة أني أرى بعض الصواب في فكرة العمل الاستراتيجي، لكن أخشى أن يفرّغه الاستعجال من معناه.
وأخيراً ألا يلزم أن يستحضر الطرحَ الفقهيَ بأن القضية ليست مشكلة فردية تنحصر بإصلاح النفوس. إن التحدي الذي يواجهنا ليس تحدي أفراد بل هو تحدي منظومة قوية تلتهم ما تجده أمامها وتحوله إلى وقود يزيد في قوتها. وإن دعوى التأصيل يمكن أن تتحول إلى تبرير للواقع، مع الإعراض عن الواقع والعيش مع الرضى أو التذمر- وفق الشروط المفروضة من منظومة كبرى. ولا يعدو النشاط المطلوب حينذاك أن يكون تخريجاً للحيل الشرعية للتعايش مع ما ُيدّعى بأنه مرفوض.
وساد صمت قطعه سلام الانصراف، فما رأيك أخي القارئ الكريم؟
* باحث مهتم في دراسة سنن الاجتماع
http://www.al r ashad.o r g المصدر:
===========(8/76)
(8/77)
(1) دردشة ثقافية .. نهاية العولمة ؟
بقلم :د.صلاح عبد المتعال
samotal50@hotmail.com
أردت من العودة الى( دردشة ثقافية ) التى كنت أكتبها أحيانا فى صحبفة الشعب قبل تعطيلها بسبب كيد وعند النظام الحاكم وحزبه الوطنى ؛ هو كسر الملل السياسى الذى بات مخيما على مناخ الحياة السياسية فى مصر ، وجعل الحديث عن أخطر قضايا الإصلاح أشبه بإسطوانة مشروخة تخرج منها الأصوات الشاذة لمحتكرى السياسة من أقطاب الحزب الحاكم والمنافقين وحاملى المباخر من بعض الوصوليين المثقفين زعما والإعلاميين ارتزاقا .
وليعذرنى القارئ على هذه الخاطرة التى جاءت عفو الخاطر قبل الدردشة الثقافية والخوض فى موضوع العولمة ومايحيط به من أصوات تمجده كقدر محتوم لا فكاك منه ، ومن أراء وإتجاهات معاكسة تفضح أبعاده الحقيقية باعتباره تجسيدا لرأسمالية متوحشة وموجات متتابعة من غزوات اقتصادية وسياسية وثقافية تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وأضرابها من الحلفاء الغربيين .
ولنبدأ بطرح مفهوم العولمة وأبعاده كمصطلح مستحدث ولكنه بدآ شيوعه منذ نهاية القرن الماضى ومطلع القرن الحالى حيث لا يقتصرالنطق به على المثقفين والمتخصصين . فالتواصل الاقتصادى المتزايد بين مختلف دول العالم أدى الى حصول ثورة سياسية واجتماعية عميقة ،وهي من المنظور الرأسمالى عبارة عن تكامل الاقتصاديات الوطنية و تحويل السوق العالمية إلى " سوق أممية "، و أنها تعبّر عن تقدم وانجاز هام من إنجازات الرأسمالية .وهى من المنظورالمعارض ؛ عملية " التهام " رؤوس الأموال بعضها البعض، و إخضاعها لصالح الرأسمال الأقوى فهى من الزاوية اقتصادية ـ عبارة عن عملية إدماج الرأسمال الضعيف في آخر أكثر قوة، مع فارق واحد هو أن مثل هذا الاندماج في عصر الإنتاج السلعي يتم بطريقة قسرية، تحت أسم قانون التنافس والعولمة الراهنة ليست بدعة أو مستحدثة ، بل كان لها مثيل فى السابق منذ أن تواصلت الشعوب بعد الاكتشافات الجغرافية وتطورات العلاقات بين الدول الاستعمارية والأخرى المستعمرة حيث مثلت ثرواتها رصيدا متجددا لرؤوس أموال الدول المستعمرة من الغرب الأوروبى فى نفس الوقت مثلت الدول الذى سلب استقلالها أسواقا لمنتجات رؤوس الأموال الغربية . فاذا كان تاريخ العولمة ليس مفصولا عن تاريخ التوسع الأوروبى والاكتشافات الجغرافية والرحلات وبعثات التبشير فى ربوع القارات الخمس فقد كان ذلك بمثابة بروفة تاريخية لمشروع العولمة الذى أطل علينا من الغرب الأمريكى .
لقد تعرضت مشروعات العولمة الأولى لسقطات أدت الى فشلها بسبب الحروب الأهلية والصراعات المذهبية بين مختلف بلدان أوروبا مما أدى الىانتهاء وحدتها الدينية وعولمتها الاقتصادية خاصة بعد الركود الاقتصادى المفاجئ الذى أعقب الازدهار الحضاري والاقتصادى فى مطلع القرن العشرين بشكل لم تشهده أوروربا فى تاريخها كله من قبل ؛ الا أن الاستعمار التقليدى ظل باسطا نفوذه وسيطرته وحرمان الدول الضعيفة اقتصاديا من استقلالها السياسي حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية . وبعد صحوة الشعوب المستعمرة خاصة فى الدول العربية ونيلها وغيرها من البلاد المستعمرة الاستقلال . (للحديث بقية )
==================(8/78)
(8/79)
دردشة ثقافية .. نهاية العولمة ؟ ( 2 )
صلاح عبد المتعال
كان جنين العولمة الحالية آخذا في النمو وبدأ يستبدل لغة القوة بإطلاق مسميات التكافل الاقتصادي بين الدول القوية والأخرى الضعيفة وأن هذا التكافل بعيد عن مآخذ القوة وقريب تماما من الطابع السلمي ومن ثم يتضح الفرق، حسب ما يزعمون، بين الاستعمار الذي كان يحصل خلال مرحلة ما يسمى بالرأسمالية الصناعية، وبين ما يسمونه " العولمة التقدمية " التي يجري تطبيقها في زمن الرأسمالية ما بعد الصناعية عملية تحول الرأسمالية إلى إمبريالية بحد ذاتها هي عملية خروج الرأسمال المالي الاحتكاري للدول الرأسمالية المتطورة إلى الأسواق العالمية، بهدف " التهام "رؤوس الأموال الوطنية وإخضاع اقتصاديات البلدان الأقل تطوراً في المجال الصناعي.هذا بدوره يؤدي إلى تدمير الصناعة الوطنية والقطاع الزراعي لتلك البلدان، إلى نهب ثرواتها الطبيعية، الاستغلال المزدوج، وبالتالي إلى الانحطاط الاجتماعي والموات الجماعي للشغيلة الفقراء.. وهكذا فان" التهام " رؤوس الأموال الوطنية و إخضاع اقتصاديات الدول النامية، يمكن أن يتم بوسائل سلمية وغير سلمية، أي عسكرية.
لا يمكن أن تنفصل العولمة الرأسمالية الأمريكية الجشعة عن سياق الثقافة والنفوذ الصهيوني لإسرائيل الذي التحمت أوصاله مع الزيغ الفكري للمسيحية الصهيونية والذي يتبناه الجناح اليميني المحافظ للسياسة الأمريكية الراهنة. ويمكن أن نلاحظ كيف استطاعت هذه السياسة أن(تؤدلج) أو تمذهب (توجهاتها بذلك الزيغ الفكري الذي اعتمد على تصورات وأساطير دينية حول وقوع معركة هرمجيدون المرتقبة بقيادة السيد المسيح ضد أعدائهم وذلك بين سنوات 2000 و2007. أنهم يخلطون أوراق معتقداتهم المزيفة بأوراق مصالحهم الأمريكية الإسرائيلية. ومن ثم فإن العولمة الأمريكية لا تكتفي بتعميق دوافع الاستغلال والجشع الرأسمالي بل بإلهاب السذج بمشاعر وأفكار دينية مغلوطة تلتقي مع الفكر العدوان الصهيوني الذي تقوم به إسرائيل تحت تأييد وحماية أمريكية. فالعولمة الأمريكية لا تشكل مجرد هيمنة وبسط نفوذ اقتصادي وثقافي بوسائل أقنعة (اتفاقية الجات ومعونات ومنح وقروض أمريكية للدول النامية) ومن بينها الدول العربية؛ بل تمثل هذه العولمة قمة العدوان الفاضح بعد ان ضاقت بها السبل والوسائل السلمية والدبلوماسية. فكان مسلسل الغزو لأفغانستان والعراق ومساندة المذابح ضد الفلسطينيين ومشروع التدخل في دارفور
السودان والتهديد المستمر لسوريا وإيران.
على هدى ما سبق هناك عدد من التساؤلات محورية؛ علينا أن نطرح بعضا منها إزاء المقولات الذائعة الصيت بسبب التفوق الاعلامي والعلمي والإنتاجي وتفجّر ثورة المعلومات والاتصالات.
هل العولمة الجديدة قدر محتوم لا مفر منه بخيراته وشروره؟
هل تحمل العولمة المستحدثة علامة " أمريكية الصنع "؟
هل العولمة الأمريكية الصنع ستنهي الدولة القومية الحديثة لكي تحل محلها كيان امبراطوري يشمل العالم كله؟ (للحديث بقية)
http://al-shaab.o r g المصدر:
=============(8/80)
(8/81)
دردشة ثقافية .. نهاية العولمة ؟ ( 4 )
صلاح عبد المتعال
غالبا ما يعتقد أن هذا المسار الجديد ' مسار العولمة يشكل ظاهرة لا رجوع عنها ' وأنها الطريق الوحيد للمستقبل ولكن المنظور التاريخي من وجهة نظر (هارولد جيمس) في كتابه نهاية العولمة 2002 وغيره يملى علينا ضرورة الحذر من إطلاق مثل هذا التعميم باعتبار أن التجارب التاريخية للعولمة أو أشباهها تشير إلى أن لكل عولمة في التاريخ لها خصوصيتها كما يري (جيمس) وبالتالي فلا نستطيع أن نقول بأن ما حصل في الماضي سوف يحصل في المستقبل بالضرورة فالتاريخ لا يكرر نفسه بنفس الطريقة ' أو بشكل كامل ومماثل ولكن لا نستطيع أن نهمل دروس التاريخ.
إن المقصود بتوقعات نهاية العولمة ليس العولمة بإطلاق في القرية الكونية للعالم التي أتخمت بثورة المعلومات وتقنيات الاتصالات وشاعت ملكيتها واستخداماتها على أطراف المعمورة ولم تقتصر أسرار فنون المعرفة لها (Know How) على الولايات المتحدة. إنما المقصود هو نهاية عولمة الرأسمالية الأمريكية المتوحشة التي لا يقف في طريق تحقيق مقاصدها الاستغلالية أي حائل فوسيلتها الاختراق بالقوى العسكرية إن ضاقت عليها السبل بالوسائل السلمية.
ألا توجد صيغة أكثر إنسانية وعدالة للعولمة؟ ألا توجد قواسم مشتركة بين مصطلحي العالمية والعولمة. حيث يستوعب الأول (العالمية )المردود الحضاري لكل الثقافات والمدنيات وأنساق القيم والأخلاقيات الإنسانية وكل الأفكار والمعارف والعلوم النافعة للمجتمع الإنساني بتنوعاته شعوبه وأعراقة وقومياته. فالعالمية رغم بعدها الإنساني الشامل فإنها لا تنكر السمات القومية لشعب من الشعوب وتحترم خصائصه؛ بينما يوحى مصطلح العولمة بانه نظام مصنوع هبط لتهديد القوميات بقصد انتهاك السيادة لحدود الدول خاصة الدول النامية وإذابة مصائر الأضعف فى مصالح الأقوى. كما تحمل العولمة قسمات و أفكار ومذهبيات (ايديولوجيات) صانعيها التي ستحمل بالضرورة تناقضات وصراعات المصالح والأفكار بين الأقوى والأضعف من الشعوب. ألم تحمل الديانات السماوية الكبرى وخاتمها الإسلام سمة العالمية بقصد التوحيد والتقارب والتعارف بين البشر و جعل تقوى القلوب والإحسان والإتقان في العمل ونبذ العداوة والتآخي بين البشر جميعا هو دستور العلاقة بين الناس. أما العولمة الجديدة التي خرجت من العباءة الغربية الأمريكية فنها تسير عكس العالمية بمضمونها الفطري والإنساني وتصطنع مواقف الصراع على المصالح مرجّحة مصالحها ولو على حساب القيم الإنسانية والأخلاق وسحق المعارضين إلى درجة الإفناء.
ستختلف الحجج والبراهين بالنسبة لاحتمالات نهاية العولمة الجديدة إنما الكفة راجحة الآن إزاء مؤشرات زوال العولمة الرأسمالية الأمريكية الجشعة؛ فربما كانت (سياتل) هي بداية القرن الواحد والعشرين فالمظاهرات الضخمة التي حصلت ضد النظام الاقتصادي العالمي الذي تحاول أمريكا ترسيخه كانت تعنى أن المعركة أصبحت مفتوحة بين الظرفين وربما كان ذلك هو بداية نهاية العولمة. نقول ذلك وبخاصة أن معظم المتظاهرين كانوا من أبناء الدول الغنية لا الفقيرة.
فربما دمرت الرأسمالية الجشعة نفسها بنفسها بسبب تناقضاتها الداخلية الحادة. ألم تر كيف أدت الأزمات المصرفية الكبيرة في دول النمور الآسيوية 1977 وكادت أن تؤدى إلى انهيار اقتصادها ؟ ألم تر فضيحة شركة (اينرون) الأمريكية التي ذهبت بفضيحتها المليارات مع أدراج الرياح. ثمة سبب آ خر سوف يؤدى إلى انهيار العولمة الرأسمالية الأمريكية الجشعة هو إهدار العدالة وتكريس الظلم والتفاوت الاجتماعي بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب. وقد زاد هذا التفاوت عن حده في السنوات الأخيرة بدلا من أن ينقص. وقد يؤدى هذا الوضع إلى الانفجارات والاضطرابات والقلاقل وهو حتما سوف يزعزع النظام العالمي الجديد الذي يحاول الغرب فرضه على العالم بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. ومهما يكن من الأمر فان العولمة الحالية سوف تنهار وتنتهي إذا ما استمرت على هذا النحو من احتقار ملايين الفقراء في العالم. فهذه العولمة التي بدأت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين كانت فد انهارت سابقتها في بحلول الانهيار الاقتصادي العالمي في مطلع الثلاثينيات ونشوب الحرب العالمية الثانية في نهايتها حتى منتصف الأربعينيات. ومن ثم فكل نظام جائر مهدد بالانهيار قربت ساعته أم بعدت.
http://al-shaab.o r g المصدر:
==============(8/82)
(8/83)
قيادة العولمة
أ. د. عبد الكريم بكار
هل يعقل أن تكون هذه الحركة الهائلة نحو تعميم الأفكار والنظم والأشياء، وهذه الحركة بتجنيس أذواق الأمم وتوحيد أنماط حياتها في الإنتاج والاستهلاك والنظر إلى الذات والآخر.
هل يعقل أن يجري كل ذلك على نحو عفوي، وبدافع من الحرص على جني المكاسب وتوسيع العمل التجاري؟ أو أن المسألة عبارة عن مؤامرة كبرى تديرها الدول الغنية - ولا سيما أمريكا - ضد الشعوب الفقيرة والضعيفة؟
هناك اجتهادات كثيرة في الإجابة على هذه التساؤلات؛ وسنحاول هنا تكوين رؤية موضوعية متوازنة حيال هذه المسألة الحيوية في قضية العولمة.
اعتقد ابتداءً أن تيار العولمة الذي عمّ كل شبر في الأرض - على درجات متفاوتة - هو بمثابة نهر عظيم له ملايين الينابيع الصغيرة والمتفجرة في أنحاء عديدة من الأرض، ومن غير الممكن لأي دولة مهما فعلت أن تسد تلك الينابيع، ولا أن تغير مجرى ذلك النهر، وأنشطة العولمة هي أكبر بكثير من أن تتحكم فيها دولة، بل إنه يمكن القول: إن ما تفعله شركة كبرى من نشر للعولمة قد تعجز عنه دول عديدة، لا يعني هذا - بالطبع - أن مساهمة الدول والشركات والجهات العلمية والتقنية متساوية في حجم المشاركة، كما لا يعني أن لا تجري عمليات تخطيط سرية لتوجيه العولمة، أو اتخاذها أداة ضغط في بعض الأحيان، كما لا يعني أن التوازن العالمي في العديد من المجالات يتم دون أيد خفية تسعى فيه، لكن مع هذا وذاك أرجو أن يسمح لي القارئ الكريم بتوضيح ثلاث نقاط في غاية الأهمية في هذا الشأن:
الأولى: هي أن قيادة العولمة تتم على نحو جوهري من قبل الغرب، ومن يتحرك في فلكه مثل اليابان وبعض دول جنوب شرق آسيا، وأعتقد أن هذا ليس موضع جدل كبير؛ إذ أن الذي نقل العولمة إلى بؤرة الاهتمام العالمي ليس أفكاراً موجودة في بطون الكتب، أو شعارات يهتف بها بعض الناس هنا وهناك، وإنما هو تجليات وتجسيدات للتقدم العلمي والتقني والتنظيمي الذي أحرزته على نحو جوهري الدول الصناعية الكبرى، كما أنه تعبيرات عن القوى الاقتصادية والمالية التي تملكها بعض الدول؛ وانطلاقاً من هذا فإن من الواضح جداً أن براءات الاختراع والتجديدات التقنية، بالإضافة إلى الثروات الهائلة ورؤوس الأموال الضخمة ليس متوطنة في العالم النامي أو العالم الإسلامي، وإنما في أمريكا واليابان وأوروبا وكندا، وإذا استعرضنا أوضاع الـ (40) ألف شركة المتعددة الجنسية وجدنا أن أكثر من 90% منها يتوطن في الدول التي ذكرناها، وهذه الشركات هي التي تخطط للعولمة، وهي التي تقوم بتنفيذ ما تخطط له، ومن المؤسف أنه ليس للدول الإسلامية بين هذا العدد الضخم من الشركات سوى النزر اليسير، مع أن المسلمين يقتربون من أن يكونوا ربع سكان الأرض!
وهكذا فمن الناحية النظرية سيكون في إمكان كل الأمم والشعوب أن تسهم في حركة العولمة والتأثير في مساراتها، أما على المستوى العلمي فإن الذين يفعلون ذلك هم أولئك الذين يعفون ويصنعون ويملكون.
الثانية: هي أن كثيراً من الباحثين يرون أن ما يسمى بـ" العولمة " ينبغي أن يسمى " أمركة "، حيث أن الذي يسيطر على قرارات المنظمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الدولية هي الولايات المتحدة الأمريكية. فصوتها هو الأقوى، والثقافة الشعبية الأمريكية هي الأقوى والأسرع انتشاراً في العالم..وهذا كله يعطي المسوغ لهذا الرأي، لكن الموضوع يحتاج إلى نظرة أكثر عمقاً وأكثر اتزاناً؛ فنحن نعتقد أن العولمة ظاهرة مستقلة، لها آلياتها الخاصة وانحطاط أمريكا واليابان - مثلاً، أو تقلص نفوذها العالمي لن يلغي العولمة، وإنما قد يغير في بعض ملامحها، إن المركز الأساس لأنشطة العولمة هو الاقتصاد.
وإن للولايات المتحدة شركاء أقوياء في المجال الاقتصادي فالناتج القومي لأوروبا الغربية أكبر من الناتج القومي للولايات المتحدة، كما أن اليابان تتمتع بمركز اقتصادي متقدم جداً، واقتصادها مع اقتصادات جنوب شرق آسيا أضخم من الاقتصاد الأمريكي، والصين " العملاق القادم " تحقق نمواً اقتصاديا عاليا، ونفوذها في حركة العولمة يزداد يوماً بعد يوم، لكان هذا كله لا ينفي أن الولايات المتحدة هي أقوى مساهم في قيادة العولمة، ومهما ساءت أحوالها فربما ظلت تحتفظ بموقع مهم في الأنشطة الدولية إلى وقت بعيد إذا خسرت الموقع الأهم.ويكفي أن نعلم لاكتشاف قوة أمريكا في أنشطة العولمة أن ناتجها القومي قد بلغ عام 1997 م نحو (7100) مليار دولار، على حين بلغ ناتج اليابان نحواً من (4964) وناتج فرنسا (1451) وناتج مصر (46) مليار دولار. وأمريكا بلد الخيرات والثروات، فسكانها الذين يناهزون 280 مليون نسمة يأكلون ويصدرون من وراء جهد 3% فقط منهم يشتغلون في الزراعة، ولديها شركات عملاقة يزيد حجم مبيعات بعضها على (130) مليار دولار في السنة.(8/84)
أما في المجال الثقافي فإن للولايات المتحدة تفوقاً واضحاً جداً على منافسيها الاقتصاديين في مجالات الثقافة الشعبية، ولا سيما صناعة الأفلام وشؤون اللهو والطرب، وقد ورد في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن أمريكا تصدر إلى أوروبا سنوياً مليوناً ومائتي ألف ساعة من البرامج التلفازية، وهذا الكم الهائل من ساعات البث كاف لتشغيل أكثر من 130 محطة تلفازية على مدار الساعة. وفي دراسة لليونسكو ما يفيد أن البث الأمريكي في تلفازات العالم يتجاوز 75% على حين تتوزع النسبة الباقية على هيئات الإنتاج الوطني الأوروبي وغيره، أما قطاع الإنتاج السينمائي الأمريكي فهو يمثل 85% من الإنتاج العالمي، كما هو الحال في عام 1996 م.
الثالثة: إن الخلفية العقدية والفكرية والتاريخية والثقافية للدول والشعوب التي تقود العولمة خلفية مادية دنيوية علمانية، فمهما اختلف اليابانيون مع الأمريكيين أو الكنديين أو الأوروبيين فإن الذي يجمع هؤلاء جميعاً هو أنهم يتحركون بوحي من عقائد وأخلاق وضعية، لا تعطي " الدار الآخرة " اعتباراً يذكر، ولا ريب أن المؤثرين الأساسيين في عولمة الكوكب هم الأمريكيون الأوروبيون ولهؤلاء أجداد من اليونانيين يلقبون بـ " السوفسطائيين " كانوا يؤمنون بين ما يراه الفلاسفة الغربيون اليوم من مبادئ المنفعة والقوة، وقد كانوا يؤمنون أن العدالة تسير مع مصلحة الأقوى وجوداً وعدماً، وكان أرسطو الفيلسوف اليوناني الشهير يرى أن الحرب جائزة في حالة واحدة، هي حالة اصطياد الأرقاء. ولا ننس ما انغمس فيه الغربيون من عمليات إبادة منهجية لم يعرفها تاريخ البشرية من قبل، على نحو ما فعلوا في إبادة سكان " الأمريكيتين " وفي عمليات نقل السود من أفريقيا إلى بلادهم، ونقل العناصر البشرية غير المرغوب فيها اجتماعياً إلى جيوب استيطانية، ومن أجل تحقيق مكاسب اقتصادية ضخمة خاض الغرب ضد الصين حرب الأفيون الأولى والثانية، ولماذا نذهب بعيداً وقد عانينا على مدى قرن ونصف من الاستعمار العسكري الأوروبي على امتداد العالم الإسلامي.
وهذه الاعتبارات في تصوري كافية للوقوف على قيادة العولمة ومدى تحكم الغرب فيها.
ولا ننس أن هذه الوضعية قد تتغير بحسب الدول التي يكتب لها النفوذ السياسي والثقافي في المستقبل. والله المستعان.
http://www.tttt4.com المصدر:
==============(8/85)
(8/86)
العولمة من خلال رؤية إسلامية
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدهُ ونَستعينُهُ ونستغفره، ونعوذ بالله مِنْ شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مِنْ يَهدِه اللهُ فَلَا مُضل لَهُ، وَمَنْ يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ? [آل عمران: 102].
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا? [النساء: 1].
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا? [الأحزاب: 70، 71].
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهداهم، واقتفى أثرَهم إلى يوم الدين.
أما بعد :
فالحديثُ في السنوات الأخيرة تكرر حول عنوان كثيرًا ما يظهر؛ إما في عناوين الكتب، أو في الطُّرُوحات الأخرى؛ كالمجلات والصحف والوسائل الإعلامية، وهذه الطُّرُوحات المتنوعة المتعددة كثيرًا ما تتحدث عن هذه القضية التي سنعرض لجانب منها؛ ألا وهي: " العولمة "، وسنُرَكِّز عليها في إطار "نَظراتُنا لها من خلال المنهج الإسلامي".
تعريف العَوْلَمة
إنَّ العولمة من خلال تعريف سهل ميسر هي : جَعْلُ العالَم واحدًا.
فهي مُشتقَّة من العالَم؛ فهي تَفاعُل وانْفِعالٌ يقصد إلى جَعْل العالَم واحدًا في تَوَجُّهاتِه وأحواله الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وهذه الدعوة التي اتَّخَذت اسم " العولمة " لا تقتصر على الطَّرْح الفكري أو الإعلامي فقط، وإنما تُمَارس الطَّرْح العملي في حياة الأمم والشعوب، ويُهِمُّنا نحن المسلمين أثرها ومؤثراتها علينا وعلى ديننا وعقيدتنا وأخلاقنا.
ونحن نعلم بادئ ذي بَدْء أَنَّ الإسلام نفسَه دِينٌ عالَمي، فلو استَعَرْنا المصطلح لَقُلْنا: إنَّ دِين الله سبحانه وتعالى يسعى إلى عولَمةِ العالَم، لكنْ من خلال أصول تُسْعِد الإنسانَ في الدنيا والآخرة، من خلال منهج رباني دَعَت إليه رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومِن ثَمَّ فتاريخ الرُّسل وعقيدتهم ومنطلقاتهم واحدة، فَلَمَّا خُتِمت الرسالات بنبينا صلى الله عليه وسلم جعلها الله للعالمين جميعًا: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا? [سبأ: 28]؛ ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ? [الأنبياء: 107].
وبالفِعْلِ انْطَلَق الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم مَشْرقًا ومَغرِبًا، ينشرون دين الله سبحانه وتعالى، حتى إنهم لَمَّا قابلتهم البحار قال قائلهم: لو أنني أعلم أن بلادًا خَلْف هذا البحر لركبتُ إليها ؛ ماذا يقصد؟!!
إِنَّه نشرٌ لدين الله سبحانه وتعالى، وإخراجٌ لهم من النَّار إلى الجنة، ومن عبودية العباد إلى عبودية رب العباد تبارك وتعالى، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ومِنْ ثَمَّ فمِثل هذه الدعوة بمجردها تَطْمَح إليها جميع الأمم؛ فالشيوعية حاولت أن تكون عالمية ولكنها جُوبِهت، والاستعمار الحديث - وأعني به في القرن الماضي - حاول أن يَفرض نفسه على العالم كله، لكنه واجَهَ مقاومات وفشل إلى حد كبير، فالمحاولة الأخيرة التي نعيشها في السنوات الأخيرة هي محاولة ضمن تاريخ ونُسُق عاشته قوى وأمم أرادت أن تفرض فِكْرَها وعقيدتها وأخلاقها ونظام حياتها فيمن تستطيع أن تفرضها عليه.
خُطُورةُ العَوْلَمة في وَاقِعِنا المُعَاصِر
وأَخْطَرُ ما في العولمة التي نعايشها في هذه السنوات الأخيرة أنها قامت على خمسة أَذْرُع، وهذه الأذرع في الحقيقة أدَّتْ إلى ما نعايشه اليوم من خطر أحسَّتْ به غالبيةُ الدول؛ إسلاميةً كانت أو غير إسلامية، لكنَّ الإحساس بالخطر كان من جانب المسلمين أكبر لأمر؛ وهو أن هذه العولمة وإنْ وُجِّهت إلى دول العالم كلها؛ إلا أنها موجهة إلى العالم الإسلامي بشكل واضح وصريح.
العَوْلَمة وأَذْرُعُها الخَمْسة!!
الأول : " الذراع العسكري ".
ويُقْصَد به القوة العسكرية الضاربة التي تريد أنْ تَفرض العولمة من خلال هذه القوة، وقد سمَّاها بعض رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية من عشر سنين بـ" العصا الغليظة ".(8/87)
وسمى شَعْبَه هناك بـ" شعب الله المختار" الذي أرسله الله إلى العالمين؛ ليبثوا وينشروا فيهم الديمقراطيةَ أو الحريةَ، وحقوقَ الإنسان والرخاءَ الاقتصادي ونحو ذلك، فهذه العصا الغليظة بمنجزاتها العسكرية المتنوعة - سواء منها ما يتعلق بالسلاح النووي والبيولوجي، أو بأسلحتها المتنوعة المختلفة الأخرى المعروفة - هم يَسعَوْن بهذه القوى العسكرية إلى أنْ يفرضوا عولَمتهم.
الثاني : " الذراع السياسي " .
ويكون استخدامه من خلال السيطرة على المنظمات السياسية العالمية وتوجيهها الوجهة التي يريدونها، ومن ثَمَّ نجد أن هذه التوجهات والمنظمات السياسية العالمية تسير وتُقَاد بطريقة معينة، وتفرض من خلال ضغوطها وشروطها ونظمها ومواثيقها على دول العالم الأخرى السير في الركب؛ شاءوا أم أبوا !!
ومن ثَمَّ استخدم الغرب هذه الذراع لفرض هذه العولمة مع الأذرع الأخرى التي سنوردها هاهنا.
الثالث : " الذراع الاقتصادي".
ويستخدم أيضًا من خلال المنظمات العالمية، وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية والبنوك العالمية الكبرى، والشركات العالمية، ومن خلالها يحاولون أن يُعَوْلِموا العالم، ويسيطروا عليه اقتصاديًّا، ونَعْلَم أهمية القضية الاقتصادية فيما يتعلق بحياة الأمم والشعوب؛ فتَجِدُ مثلًا بعض هذه القوى الاقتصادية أو الشركات تستطيع بقدرتها المالية أن تبتلع دولًا، وهذا الابتلاع مقتضاه أن هذه الدول تصبح مدينة خاضعة تُمْلِي عليها النظم والحياة، وتسير من خلال استعمار اقتصادي، والتجارب متعددة، وما جرى لشرق آسيا حين حاولوا أن ينهضوا اقتصاديًّا - بما سُمُّوا بالنُّمور هناك - جَعَلَتْ أعداء الله ( يتدخلون في أمور هذه الدول من خلال الناحية الاقتصادية، ويخترقون شركاتها وأسسها الاقتصادية، ثم بطُرُق معينة يلعبون بالاقتصاد لينهار السوق في ساعات محدودة!!
كيف سار هذا؟!
إِنَّه استخدام لهذه الذراع الاقتصادية؛ لأجل إخضاع كل من لا يسير على الطريق الذي لا يريدونه، وإذا ما برزت قوة اقتصادية حاولوا تدميرها بقواهم الاقتصادية الأخرى.
الرابع : " الذراع التقني والعلمي ".
ونستطيع أن نعتبرها من أهم هذه الأذرع؛ لأنَّ أثرها كان كبيرًا، فأعداءُ الله في السابق حاولوا عولمة العالم واستعمار العالم الإسلامي، لكنْ ما كانت التقنية العلمية - المتمثلة في الاتصالات ووسائل الإعلام والشبكات العنكبوتية والمحطات الفضائية وغيرها من الوسائل - ما كانت مؤثرةً وبالغةَ الدقة كما هو الحال في السنوات المتأخرة؛ فهذه التقنية العالية عند الغرب جعلته بالفعل يستخدم هذه الذراع بكل ما يملك من قوة لِفَرض العولمة على غيره من دول العالم الثالث ومنها العالم الإسلامي، وهي قضية واضحة مثل الشمس؛ لأنَّ هذه التقنيات فعلًا قد اخترقت الحُجُبَ، وأصبحت الدول التي كانت تَظن أنها تحيط نفسها بسُور من الجمارك مثلًا أو من غيرها؛ لتمنع وصول ما لا تريده إليها، أصبحت من خلال هذه التقنية تَرِد إلى بلادها وبيوتها، ومن خلال هذه الوسائل التقنية الدقيقة؛ لتخترق الحواجز والحجب، وتَنْفُذ لتنشر ما تريده من فكر وعقيدة وأخلاق ونظم .. إلى آخره.
فهذه الذراع التقنية المتطورة، والتي تتطور بسرعة، استطاعوا أن ينفذوا من خلالها، وهذا النفوذ الخطير هو الذي عَجَّل بالمتغيرات الكبيرة في كثير من بلاد العالم، ومنها بلاد العالم الإسلامي.
الخامس : " الذراع العقدي والثقافي والفكري ".
وهي من أخطر هذه الأذرع، وما الأذرع السابقة إلا لأجل أن تُمَكِّن هذا الذراع من أن يصل إلى الدول الأخرى، ويَنْفُذ في داخل المجتمعات من خلال وسائل متعددة، لينشر فيها عقيدة الغرب، ومنطلقاته الفكرية وثقافته، وحضارته ونظمه وأخلاقه وحياته، وهذا هو الخطر الأكبر .
هذه العولمة الثقافية والفكرية والعقدية حاولت أن تَنْفُذ، وتَنْقُل ما عند الغرب من حياة على مختَلف وجوهها إلى تلك الدول؛ مُعَوْلِمة لها، وفارضة عليها ما تريد؛ لتحقق بذلك جميع أهدافها، ومن ثَمَّ فإن هذه الذراع الخطيرة التي نعيشها نحن المسلمين بشكل أوضح؛ لأنَّ عقيدتَنا وإسلامَنا ودينَنا وشريعتَنا متميزةٌ، لها خصوصيتها الدقيقة الواضحة، أي أنه عند شعوب أخرى ربما لا يُهِمُّها أن تَنْتَقل من إلحادٍ إلى إلحاد، أو من كُفرٍ إلى كفر؛ لا يُهمها أن تَنْتَقل من مظاهر حضارية إلى مظاهر حضارية أخرى مختلفة، لا يهمها أن تنتقل مِن نظام وتشريع إلى نُظُمٍ أخرى مختلفة عنها، أما نحن المسلمين فلا؛ فالأمر عندنا خطير وكبير ومُهِمٌّ جدًّا.
آثَارُ العَوْلَمة في الجَانِب العَقَدي والثَّقافي والفِكْري
ومِنْ ثَمَّ فإن التفصيل في هذه الذراع وأثرها مهم جدًّا؛ ونحن نَقِف مع بعض آثارها باختصار:
[1] الانْحِراف العَقَدي(8/88)
إنَّ من الآثار المتعلِّقة بهذه الذراع العقدية والفكرية والثقافية هو ما يتعلق بالعقيدة ، ونعني بها: أَنَّ حضارة الغرب أصلًا تقوم على الإلحاد، فهي حضارة مادية كافرة، وهي في ظل العولمة تَنْقُل إلينا نحن المسلمين عقيدتها، وإلحادها وماديتها، وهذا أمر واضح المعالم؛ فبلاد أوروبا اليوم تعيش على أصل كبير جدًّا يقوم على ركيزتين:
الركيزة الأولى: هي العلمانية الشاملة.
فهذه هي حياة الغرب، حتى وهُمْ يُدَعِّمون التنصير، ويدعمون الخدمات التي تقدمها الجهات الدينية وغيرها، لكنها حضارة قائمة بأصلها على العلمانية الشاملة.
الركيزة الثانية: أنها تنطلق من الحياة المادية، فالحياة عندهم هي أكل وشرب واقتصاد ?مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا? [الجاثية: 24].
هذانِ الركيزتان يَبرز من خلالهما - بصورة كبيرة جدًّا - الهدف من كون الغرب يريد أن يُعَوْلِمَ العالمَ الآخر، ومنه العالم الإسلامي؛ فإِنَّه ينقل إليه هذه الأصول الإلحادية الكبرى.
ولكَ أَنْ تتصور حياة الغرب القائمة على الكفر بالله ، سواء كان إلحاداً أو ودينٌ محرَّف..
عبادة المسيح..! عبادة العُزَيْر..! أديان إلحادية أخرى وَثَنِية..!
فهذه هي التشكيلة الغربية سواء ما كان منها فلسفة معاصرة من اشتراكية أو شيوعية، أو من يكون منها مرتبطًا بِنَزَعات دينيةٍ سابقةٍ، لكنها تقوم على الكفر بالله سبحانه وتعالى ، وهي بِمُجْملها يريد العالم أن ينقلها إلينا نحن المسلمين عن طريق العولمة.
[2] الانْحِراف في النُّظُم والتَّشْرِيع
ومما أثر ت فيها العولمة أيضًا: نُظُم الحياة التي نسميها نحن بالشريعة، فالعدو يريد أيضًا من خلال هذه الذراع أن يفرض علينا نُظُمَهُ وحياته، فحياة الغرب ونظمه تختلف تمامًا عن حياتنا نحن المسلمين القائمة على أساس العقيدة التي تَنْبَثِق منها شريعة متكاملة تشمل جميع شئون الحياة، أي أَنَّ الْمُسلم لا يمكن أن يخرج في أي شأنٍ مِنْ شئونه عن شريعة الله سبحانه وتعالى الكاملة: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا? [المائدة: 3].
والحقيقةُ أنَّ هذا المظهر من أخطر المظاهر؛ لأنَّ مظهر الحياة الغربية بنظمه لَمَّا تَعَوْلَم وانتشر في العالم - ونحن من هذا العالم - فإِنَّنَا نحن المسلمين نكون في هذه الحالة ممن يرتضي نظمًا غربية ونتخلى عن دينه وشريعته، وكما قال علماء السلف الصالح قديمًا: (مَا مِنْ بِدْعَةٍ تَحْيَا إِلَّا وَتَمُوتُ فِي مُقَابِلَهَا سُنَّةٌ) ، فكذلك أيضًا: مَا مِنْ نُظُم حياة تُسْتَوْرَد إلا ويقابِلُها انحسارٌ في شريعة الإسلام بالنسبة لنا نحن المسلمين؛ وبالطبع فنلاحظ أننا نَفْصِل تمام الفصل بين الشريعة المبنية على أصول عندنا نحن المسلمين وبين القضايا الإدارية البَحْتة، فنحن نتكلم اليوم عن الْأُوْلَى بشكلٍ أساسي، ونتكلم عن الثانية التي تَقْدُم إلينا بأصولها وجذورها.
[3] الانْحِراف الأخْلاقِي
كذلك أيضًا بالنسبة للأخلاق ومعرفة الآثار الأخلاقية للعولمة في بلاد العالم الإسلامي؛ فالفسادُ الأخلاقي المتنوِّع تجد أن هذه الذراع الثقافية بالفعل تؤثِّر وبشكل مباشر، وأظن أن هذا الأمر واضح تمام الوضوح، وأمثلتها كثيرة جدًّا، ونذكر منها :
• المرأة :
وخَصَّصْناها لأنَّها - فِعْلًا - مِيدانٌ ضخم لحرب الإسلام والمسلمين وتَغْيِير أحوالهم؛ فجاءت العولمة بالنسبة للمرأة لتؤَثِّر على كثير مما يتعلق بحياة المرأة المسلمة، سواء ما يتعلق منها بدينها، وأهدافها، وغاياتها، أو بمظاهر الأخلاق والتصرفات، أو بالألبسة والأزياء وغيرها.
• اللغة العربية :
إِنَّ اللغة العربية هي لغة القرآن، فالعولمة الآن تحاول أن تطغى لتجعل لغة العالم هي اللغة الأجنبية، وبالأخص اللغة الإنجليزية، وكثيرٌ من شبابنا اليوم بدأت طموحاته متأثرة بعوامل عِدَّة، يرى أَنَّ النمو الحضاري لن يكون إِلَّا بأنْ يكون صاحب لغة أجنبية يُتْقِنها!!
وإتقانها - والحالة هذه - سيكون على حساب لغته العربية، فكيف إذا تطور الأمر ليكون منهج المدارس الابتدائية وما بعدها؟!
كيف إذا تطور الأمر لتنشأ المدارس العالمية التي تُدَرِّس أحيانا باللغة الأجنبية؟!
كيف إذا تطور الأمر إذا صار الخطاب الإعلامي في كثير من أحواله لا يكون إلا باللغة الأجنبية؟!
ونحن نعلم أَنَّه في الشبكة العنكبوتية لا تكاد تَذْكُر اللغة العربية، أما المواقع التي تُعَدُّ بالملايين باللغات الأخرى وعلى رأسها اللغة الإنجليزية، فهذا التَّصَلُّب اللغوي هو مظهر خطير جدًّا من مظاهر العولمة الفكرية والثقافية.(8/89)
وينتج عن ذلك بالفعل عدةُ مؤثرات تتعلق بالأسرة وبالشباب وبالتعليم، تتعلق بحياة الإنسان وخصوصياته؛ هذه الأمور وغيرها هي من المظاهر الخطيرة بالنسبة للعولمة، وكثير من الناس - وإِنْ طُرِحَت عليه العولمة الاقتصادية أو السياسية أو غيرها - إِلَّا أَنَّه يرى أن الخطر الأكبر حين تكون العولمة فكرية ثقافية أخلاقية؛ لأن الأمم إذا دُمِّرَت من الداخل فإنها ستكون قد انتهت، إذا خَرِبت قلوبُها وعقيدتها وأخلاقها وأهدافها في الحياة، فإنها ستكون غنيمةً سهلة لأعدائها.
إنَّ الأَذْرُع الْأُوْلَى كافَّةً؛ السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والتقني، كلها جاء لتُسْتَخدم لفرض هذا المظهر والذراع الخطير، ألا وهو الخطر العقدي والفكري والثقافي على العالم الإسلامي.
العَوْلَمة والدَّعَوات البَاطِلة
هناك مظاهر عالمية أحيانًا تجدها تُقَادُ مِنْ قِبَل الغرب القوي المسيطر، والعالم الإسلامي يعاني ما يعاني منها؛ ومن أمثلة ذلك:
دعوى " حقوق الإنسان " :
فهي في المنهج الإسلامي منضبطة بالضابط الشرعي.
أما اليوم فانظر كيف تدور قضايَا حقوق الإنسان عالميًا ليُفرض المنهج الغربي؛ حتى وهو يَكيل بمكيالين مَفْضوحَيْنِ أمام العالم كله، إنها قضية تُطرح عالميًّا وتتعلق بحقوق الإنسان، والعالم الإسلامي يتلقى مثل هذه الطروحات ولا يدري كيف يتعامل معها؛ طُرُوحات لحقوق إنسان مبنية على المنهج الغربي والإلحاد الغربي، بالرغم من أنَّ لدينا منهج مُؤصِّل ونظيف في حقوق الإنسان، ثم تأتي حقوق الإنسان أو المنظمات العالمية لتبني منطلقاتها على المساواة التامة ، ومقتضى هذا أنه لا فَرْقَ بين دِين ودِين، لا فرق بين من يعبد الأحجار، وبين من يَعبد الواحد القهار؛ فكل هؤلاء سواسِية، وفي منهج الإسلام العظيم لا يمكن أن يستوي هؤلاء: ?لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ?[الحشر: 20].
?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[ القلم: 35، 36].
وهكذا عندما تأتي الطُّروحات العالمية، مثل: المساواة بين المرأة والرجل، وهي قضية تخالف الطبيعة؛ فربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: ?وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى? [الليل: 1-3].
فالليلُ ليلٌ والنهار نهارٌ؛ هذا له طبيعته، وهذا له طبيعته، كذلك أيضًا الذَّكر له طبيعته والأُنْثى لها طبيعتها، فعندما تأتي مثل هذه الدعوات لتنادي بالمساواة، يأتي المنهج الإسلامي ليقول: لا.
فالبديل هو العدل، والعدل أحيانًا يكون بالمساواة، وأحياناً يكون بعدم المساواة، ولو قال قائل: تجب المساواة بين المجرم وغير المجرم!! لكان جميع الناس يعترضون على مثل هذا الطرح، وهل هناك أعظم إجرامًا ممن يكفر بالله سبحانه وتعالى ويلحد لنساويه بالمؤمن العابد لله تبارك وتعالى؟!
دعوى " تقارب الأديان العالمية " :
والمقصودُ بها عولمة هذه الأديان؛ ليخضع الإسلام لها، فعندما تأتي المؤتمرات العالمية كمؤتمر " السكان "، أو " المرأة "، أو غيره .. تجد أَنَّ هذه المؤتمرات تفرض حياة الغرب وثقافته، ونظمه.
والعالم الأخر أو الثالث، ومنه العالم الإسلامي يستجيب ويُوَقِّع ولا يعترض، وليس هذا للجميع، بل فيهم من يعتذر عن مثل ذلك، لكنَّ الغاية لِمِثل هؤلاء هي أن يتحول هذا المؤتمر المنبثق من قضايا غريبة ليفرض على المسلمين في حياتهم ودينهم وتعليمهم وأخلاقهم.
هذه الأذرع الخمسة للعولمة قد أَوْجَدت حالةً في العالم كله ومنه العالم الإسلامي، هذه الحالة سارت مسار نقاش وطروحات متعددة؛ لأن الكل يَحس بها ويراها ويعايشها..
مَوْقِفُ المُجتَمَعَات مِنْ العَوْلَمَة؟!
لقد بَرَزَت مواقف عِدَّة لِفِئَاتٍ عِدَّة مِنْ هَذِهِ العَوْلَمة نُشِير إِلَيها باختصار، ونُفَصِّل فيما نراه أصولًا ومنطلقات في الموقف من العولمة .
الفئة الأولى : وقفت بالنسبة للعالم الإسلامي من العولمة موقفَ المرحِّب بها الداعي إليها؛ ففَتَحَتْ لها ذراعيها، وهَلَّلَتْ لها، وصارت تنتظر سرعةَ تأثيرها في بلاد المسلمين، وهذا النوع يشمل غالبية أصحاب الأفكار المنحرفة في داخل العالم الإسلامي؛ كأصحاب التوجهات الاشتراكية، واليسارية، والقومية، والعلمانية، وأصحاب الحداثة الفكرية على مختلف مدارسها..
فكُلُّ هؤلاء يرحبون بالعولمة، ورأوا أنها ستكون وسيلةً لتحديث بلاد العالم الإسلامي وتغييرها، وهؤلاءِ إنما رحَّبوا بها لأنهم يَعيشون غربةً في بلاد المسلمين، يَعيشون صراعَ نُخَبٍ عربية ترى أنها هي الأعلى فكرًا وثقافةً .. إلى آخره.(8/90)
لكنها تَصطدم مع أصول المجتمع وقضاياه وأُسُسه الإسلامية والعقدية، وهذا الصراع برزت مظاهرُه أكبرَ فأكبرَ من خلال المرحلة الماضية بالنسبة للصحوة الإسلامية التي بدأت بعد هزيمة (67)(1)، ومِن ثَمَّ فإن أصحاب هذه الأفكار لَمَّا أقبلَتْ هذه العولمة بأَذْرُعتها وجدوها مخرجًا له، وهذا المخرَج جعلهم يُرحِّبون بهذه الحضارة وعولمتها وفسادها وإفسادها، وتَبِعَهم على ذلك جمهرةٌ من العامة أصحاب الشهوات والفجور؛ فهم يريدون هذه العولمة ليأخذوا منها ما يشاءون بحسب ما تريده شهواتهم.
فهذا النوع من المفكرين والمثقفين رحَّبوا بالغرب، وبكل ما يأتي من الغرب، وليسوا بِدْعًا؛ فقد سَبَقهم قبل سبعين وثمانين سنة مِن أساتذتهم مَن أتى بنفس الفكرة لَمَّا استعمر الغرب العالم الإسلامي بعد سقوط الدولة العثمانية ، فكانت هناك دعوات لأدباء ومفكرين في ذلك الوقت تنادي بأن نكون قطعة من أوروبا، وبأن نتحول إلى جزء من الحضارة الغربية؛ رافضين لدينهم وإسلامهم وعقيدتهم وتراثهم.
الفئة الثانية : هي الفئة التي رَفضت العولمة، وهذه الفئة رأَتْ أَنَّ العولمة مظهر من مظاهر الاستعمار والاستعباد، وأنها خطر على الأمة، فرفضتها واعتزلتها اعتزالًا تامًّا؛ وهذا النوع من العجيب أنه انقسم - وإن كانوا قلةً - نوعانِ متضادانِ:
النوع الأول: من الأخيار الذين رأوا أن خطر هذه العولمة يقتضي العزلة؛ عليكَ بخاصة نفسك.
وهذا بلا شك إنِ اسْتطاعه فردٌ أو فردانِ، لكنْ من الناحية العملية؛ ففيه صعوبات كبيرة جدًّا، خاصَّةً في هذه الأحوال التي نعيشها .
النوع الثاني: هو فئات من أصحاب التوجهات اليسارية وغيرها الذين رأوا في العولمة استعمارًا رأسماليًّا ؛ فرفضوها من منطلقات يسارية إلحادية.
الفئة الثالثة : وَهُم بعض الذين طرحوا هذه القضية ، وحاولوا أن يعالجوا وضعها؛ فانتهوا إلى حلٍّ هم يسمونه وسطًا ؛ وأعني به الحلَّ الْمُلَفَّق بين " الحضارة الغربية والإسلام "!!
بمعنى : أن هؤلاء رأوا أَنَّه لا يمكن أن نقاوم العولمة بالقرآن والسنة، أو بكتب الفقهاء المتقدمين، وقال هؤلاء: لا يمكن أن نواجه حضارة المحطات الفضائية والإنترنت والاتصالات والإعلام والسرعة .. إلى آخره بتلك!!
إذًا؛ فما هو الحل عندهم؟
جاء في أُطْرُوحاتِهم أَنْ لَا نَتَخلى عن أصولنا، لكنْ أيضًا يمكن أن نواكب هذه المتغيرات لنجد لها مساحات معينة في المنهج والفكر الإسلامي وفي الفتاوى الإسلامية، في كلام الفقهاء، وأحيانًا في شذوذات الفقهاء، في رخصهم وهكذا..
عملوا نوعًا من الدمج والجمع بين هذينِ؛ ليتَوَصَّلوا إلى منهج عصراني يتواكب مع الحالة المعاصرة والعولمة التي نصطلي بنارها في هذه السنوات الأخيرة.
إنَّ هذا النموذج أيضًا ليس بِدْعًا؛ فقد سَبَقه إليه أيضًا نموذجٌ آخرُ قبلَ سبعين أو ثمانين سنة لَمَّا جاء الاستعمار إلى العالم الإسلامي، فهناك فئات أرادت أن تجمع بين الإسلام والحضارة الغربية، وأن تخضع لكثير من الأمور الحضارية الغربية بعض الأصول والقواعد الإسلامية والشرعية، وجمعوا بينهما بما يسمى بـ" المدرسة العقلية الحديثة "، لكنها في النهاية لم تنجح، والسببُ في ذلك هو أن هذا الطَّرْح المبني على تنازلاتٍ، وإخضاع أصول الدين وقواعده لتلك الأحوال المعاصرة من باب مجاملتها.
كل ذلك يؤدي في النهاية إلى أن يَعتَزَّ الغرب بطرحه، ويؤدي إلى أن يكون المسلم المتبَنِّي لذلك أن يَضْعُف انتماؤُه لأصولِه، فهو بذلك يشبه إلى حد كبير علماءَ الكلام الذين كانوا في الزمن الأول.
كان في الزمن الأول وفق الكتاب والسنة والعقيدة الصافية، ثم تُرْجِمت الفلسفة اليونانية، فاطلعوا عليها وأُعْجِبوا بها، فلمَّا أُعْجِبوا بها أرادوا أن يجمعوا بين أصولهم الإسلامية وبين الفلسفة اليونانية الإلحادية، فحدث الخَلْط بينهما، ونَتَج ما سُمِّي بـ" علم الكلام "، الذي أصوله فلسفية، ومُزَيَّن ومُزَرْكَش بما يوافقه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وما الذي أنتجه علم الكلام هذا؟
كان أحد أسباب تأخُّر العالم الإسلامي؛ لأنه شغلهم في مناقشات لا مساس لها بالواقع والحياة العملية، فأصبح علماء الكلام كما قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا للفلاسفة كسروا، ولا للإسلام نصروا)(2).
فانتبهوا إلى العبارة!! لأن الفلاسفة تسلطوا عليهم لَمَّا وافقوهم على بعض أصولهم.
كذلك أيضًا التوجهات العصرية في هذه الأيام؛ فلو أنها - واللهِ- كَسَرَتِ الغربَ وأَحْرَجَتْه، واستطاعت أن تنتج لنا - فعلًا - توجهاتٍ فيها الاستقلال، ولو أنه فيه ما فيه؛ لقلنا واللهِ: نعم .. هذه جهود لها ثمرتها ونحترمها؛ لكنها طُرُوحات أَطْمَعت فينا الغرب مرةً ثانيةً؛ وأيما دولة إسلامية أو عالِم أو مفكر إسلامي قدِّم تنازلاته بهذه الطريقة إلا وجعل أعداءَ الله سبحانه وتعالى يطمعون فيه وفي دينه؛ ليقوم بتنازلات أكثر فأكثر.
الطَّرْحُ المُعاصِر " اسْتِسْلام المَغْلُوب "!!(8/91)
ومِنْ هنا فإنَّ هذا الطَّرْح - الذي نسميه نحن بالطرح المعاصر - خطورَتُه تأتي مِنْ أَنَّه ينظر إلى القضية من خلال تنازلاتٍ يجب أَنْ يُقَدِّمها لعدوٍ غَالبٍ ظالِم مُسَيْطِر، أي: أَنَّه استسلام المغلوب؛ هذا الوضع سيجعل هذا الطاغي الظالم يطالب بتنازلاتٍ أكثرَ فأكثرَ؛ مع أنه في دين الله سبحانه وتعالى الأمر واضح تمام الوضوح؛ يقول الله - تبارك وتعالى- فيه ? وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ?[البقرة: 120].
البلاد العَلْمانية اليوم في كثير من العالم الإسلامي، أليست بعلمانيتها قد لَحِقت برَكْب علمانية الغرب؟!
الجواب: بلى.
وهل الغرب اليوم يحترمها ويُقَدِّرها؟!
الجواب: لا؛ فهو لا يزال يعتبرها شرقيةً، ويطلب منها المزيد من الخضوع، لا يزال يَسْخر منها ويحتقرها، لا يزال يقول بصوت عالٍ: إن الديمقراطية وحقوق الإنسان هي للغرب وليست لهؤلاء؛ إذا كنا قَدَّمْنا لأعدائنا وتنازلنا لهم إلى حد أن نُقَدِّم لهم العلمانية ونفرضها ونحارب دين الله من أجل ذلك، ومع ذلك فالغرب لا يرضاه، وإنما يريد المزيد من التبعية والتبعية حتى يكون الدهس بالأقدام؛ أي: إلغاء الهوية من جميع جوانبها، فكذلك أيضًا نقوله لمن يريد أن يَطْرح طُرُوحات معاصرة؛ فنقول له: إنَّ هذا الطرح في النهاية لن يُرْضِي الغرب، ولن تكون - والحالة هذه - ممن ثبت وبَقِيتَ على منهجك وعلى أصول دينك.
مَوَاقِفُنا تِجاهَ " العَوْلَمَة "
إنَّ مَوْقِفنا من هذه العولمة اليوم ينبغي أن يكون موقفًا مدروسًا، واسمحوا لي في هذه الفقرة الأخيرة أن أطرح جملة من المنطلقات التي يجب أن ننطلق منها في موقفنا من العولمة:
أولا : أن نحدد منذ البداية طبيعة الدين الإسلامي في موقفه من " الجديد " :
بمعنى: أننا لا يجوز لنا أن ننظر إلى قضية العلم والإسلام على أنها صراع، فقد وُجِد الصراع نعم في الغرب بين الدين والعلم؛ لأن الدين محرَّف، أما عندنا نحن المسلمين فلا يمكن من أن يوجد صراع، لا يمكن أن يكون في دين الله من كتاب الله والسنة الصحيحة ما يخالف نظرية غربية صحيحة أبدًا، فلا صراع بين الدين والعلم، ولا تَعارُض بين العقل والنقل في المنهج الإسلامي؛ لأن كليهما من الله ?أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأمْرُ?[الأعراف: 54].
فالحضارةُ المعاصرة هل هي التي اخترعت؟!
بالطبع لا؛ فهي تعمل في مخلوقات الله عز وجل، واللهُ هو الذي جعل في هذه المواد القابليةَ للتصنيع وليس الغربُ، ولهذا فَإِنَّ غاية الغرب أَنَّه يكتشف، حتى الإنسان خلقه اللهُ، غاية ما عنده من العلم أَنَّه يكتشف طبيًّا خليةً كان جاهلًا بها آلاف السنين، لكنَّ الخلقَ خَلْقُ اللهِ.
وكذلك كتابُ الله وسنةُ صلى الله عليه وسلم التي هي وحيٌ، فهما عندنا يجب ألا نوجِد الصراع بينهما؛ لأنه لا يوجد في المنهج الإسلامي.
فهذا المنطَلق من هذه القضية مهم جدًّا؛ حتى نعلم كيف يتميز الإسلام عن غيره في نظرته للحياة؟
الإسلام دين الله الحقُّ، فالقضيةُ فيه منفصلة، فهو ليس دين يقول لك: اجلس في المسجد إذا أردت العبادة وانتهى الأمر؛ فهو ليس دين رهبنة، ولا صوفية ولا غيرها من المناهج التي تريد أن تعزل الإنسان عن الحياة، بل بالعكس، فديننا دين علم يبني حضارة، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
ثانيا : أن نواجه عولمة الغرب بالعودة إلى الذات :
العودة إلى ما عندنا من أصول ؛ إلى كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم وما يَنْبَثِق عنهما من عقيدة وشريعة.
وقد يقول قائل: وهل هذه العودة ممكنة مع هذه العولمة الطاغية؟!
فأقول: هناك دول أخرى كافرة مثل اليابان؛ دولة وثنية ومتطورة صناعيًّا، وبالفعل واجهت العولمة كغيرها، أتدرون كيف واجهتها؟!
واجهتها بأن عادت إلى أصولها وجذورها وهي كافرة؛ حتى لُغَتها، ويخبرني أحد الأطباء ويقول لي: " جاء فريق طبي ياباني ليُجري عملية في مستشفى الملك فهد في الرياض، وجلسنا نحن معه في أثناء العملية، وأشدُّ ما أَحْرَجَنا أنه في أثناء العملية لا يعرف اللغة الإنجليزية؛ حتى المِقص والقطن كنا نحاول أن نُفْهِمه إياها بالإنجليزية، فكان لا يعرفها ".
فسبحان الله!! فلاحظ كيف يعتزُّ بلُغَته، وكيف يبني حضارة من خلال لُغَته.
ويقول لي هذا الأستاذ: " واللهِ في الجامعة في اليابان كنتُ قد بحثتُ عن كتاب بالإنجليزية لأقرأ فيه وما وجدتُ؛ بل كلها مترجمة إلى اللغة اليابانية ".
فأقول: سبحان الله!! دولة وثنية تواجه العولمة وتعود إلى أصولها وتؤصل. فأين نحن منها؟!
ونحن المسلمون لدينا دين وعقيدة وشريعة، بل بعض دول أوروبا مثل فرنسا وألمانيا ترفض عولمة أمريكا، وترفض عولمة اللغة الإنجليزية وحضارة أمريكا؛ لأنها لها أصولها وتراثها ولغتها، فإذا كانت هذه الدول نفسها تعود إلى أصولها وجذورها مواجِهةً لهذه العولمة، فما بالُنا نحن المسلمين؟!(8/92)
إنَّ المنطلق الثاني الأساسي حقيقةً بالنسبة لنا نحن المسلمين في مواجهة هذه العولمة هو فعلًا أنْ نسارِع إلى أن نواجه عولمة الغرب بالتأصيل، والعودة إلى أصولنا وجذورنا وإلى ديننا، وليس بالانسياح أمام ثقافة هؤلاء الأعداء وفكرهم وعقائدهم.
ثالثًا : الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية في مواجهة هذه العولمة :
ونحن نَعْلَم علم اليقين أن قوة العدو مهما كبرت وكثر عددها وعدتها، إلا أنها في ميزان الصراع بين الحق والباطل حين يكون المسلمون حاملين لدينهم الحق لا يمكن أن يُنظر إليها على ميزان المساواة، فتاريخُ المسلمين من أوله إلى آخره وانتصاراتهم كلها مبنيَّة على قلة المسلمين وضعفهم في العدد والعُدَّة وعلى كثرة عدوهم؛ فكذلك أيضًا بالنسبة لقوة هذه العولمة وتأثيرها؛ فإننا نستطيع أن نواجهها بأمرينِ:
• الأخذ بالأسباب الشرعية. • الأخذ بالأسباب المادية.
فربُّنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: ?وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ? [الأنفال: 60]، وبالإمكان أن نحول تقنية هذه العولمة بضوابط إلى أن تكون وسيلةً لنا نحن؛ لنقاوم هذه العولمة، ونعيد تأصيل حياتنا ومناهجنا.
رابعًا : مواجهة عولمة الغرب بعالمية الإسلام :
والحقيقةُ أنَّ هذا خيارٌ عالمي بالنسبة لنا نحن المسلمين؛ أَنْ نواجه عولمة الغرب بِأنْ نَنْشُر وندعو بكل الوسائل إلى عالمية الإسلام.
وهذه الدعوة يجب أن يُلاحَظ فيها الأمور التالية :
1- أنه لا مكان للقوميات والجاهليات في بلاد المسلمين :
فإنَّ أمةٌ الإسلام، أمةٌ واحدة، وهي لا يمكن أن تدعو إلى عالمية الإسلام في الغرب ما لم تكن أيضًا بلاد المسلمين يجمعها فقط رابطٌ واحد؛ هو رابط الإسلام، ومن هنا فإن الدعوات القومية والوطنية والمادية الجاهلية وغيرها هي بالفعل بالنسبة لنا نحن المسلمين تنتهي إلى أن يتفرد الغرب بعولمته من هذه الدولة إلى تلك الدولة؛ لتكون في النهاية أشتاتًا ممزَّقة بين أنياب الغرب الذي لا يَرْحم.
2- نحن ندعو إلى عالمية الإسلام في مقابل عولمة الغرب :
نُقَدِّمه ونحن نَثِق بهذا الإسلام وبهذا الدين، والإنسان الذي لا يَثِق بدينه لا يمكن أن يُقَدِّمه؛ فالمهزومُ الذي يرى عدوَّه هو الأقوى والمنتَصِر، ويُعْجب به وبحضارته وفِكْرِه لا يمكن أن يقاوِم أبدًا، فضلًا أن يقدِّم البديل.
ومِن هنا فلا بُدَّ أن ننطَلِق من الثقة في الذات؛ ففي زمن صلى الله عليه وسلم تَحزَّبت الأحزاب على المسلمين من كل ناحية، فماذا فعل المسلمون؟ قال الله تعالى: ?وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا?[الأحزاب: 22]؛ فانظر إلى المنهج! فعولمة الغرب يجب أن تَزِيدكَ ثقةً في إسلامِكَ، وليس رَكْضًا ولَهْثًا أمام الزُّبالات من أفكار الغرب.
3- أن نقدم النموذج لتطبيق الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة :
ومِنْ ثَمَّ فلا مكانَ للعلمانية في بلاد العالم الإسلامي، فإذا أردنا أن نواجه هذه العولمة فعلينا أن نقدِّم النموذج الصحيح، وإذا صَدَقْنا - وأعني بذلك جميع فئات الأمة - في العودة لديننا وتحكيمه، فسَنُقدِّم - فعلًا - النموذج؛ لأن دين الله لا يمكن إلا أن يكون صالحًا لكل زمان ومكان.
4- اليقين بأن المستقبل للإسلام :
فالإسلامُ ينتشرُ وينتصر؛ فالرسو صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب وهم ينتظرون الأحزاب مُقْبِلين على المسلمين لِيدمِّرُوهم في ساعةٍ كان r في أثناء حَفْر الخندق في قصة الصخرة يُبشِّرُهم بفتح كنوز كِسْرى وقيصر واليمن ، إنه يبيِّن لهم أنه مهما حُورِب الإسلام، ومهما تَحزَّب عليه أعداؤُه؛ إلا أن المستقبل للإسلام.
وواللهِ؛ إِنَّ هذا لَيُرَى اليوم رَأْيَ العين، فالإسلام يَنْتشر ويَقوَى في كل مكان.
ووالله؛ إنكَ لتَعْجب أنكَ لَتَجِدُ في بعض المسلمين ضعفًا وخَورًا وتنازلاتٍ في نفس اللحظة التي ينتصر فيها الإسلام وينتشر هنا وهناك. لِمَ؟!
لأنه دين الله الحق، ورسول ا صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث الصحيح أَنَّ رُوما ستُفْتَح(3)؛ روما عاصمة النصرانية سيَفْتَحُها المسلمون، وهذا خبرُ مَن لا يَنطق عن الهوى r، وقال في الحديث الآخر: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)(4).
إِذًا؛ ننطلقُ من خلال إدراكنا أَنَّ المستقبل للإسلام، وأَنَّه لا مستقبل للبشرية حقيقيًّا وحياةً حقيقيةً إلا بالإسلام.
5- أن نقدم عالمية الإسلام ونحن نُوقِن أنه هو البديل لعولمة الغرب وحضارته الزائفة:
إِنَّ حضارة الغرب هي حضارة تحمل في طَيَّاتها عواملَ انهيارها وفسادها، وما رأيُكم بحضارةٍ تقوم على الإلحاد، وعبادة الإنسان؟!
ما رأيكم بحضارة تقوم على الأخلاق النفعية؟!
فمُنْذُ خمسين أو ستين سنة يُطَنْطِن الغرب بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فلمَّا تعارضت مع مصالحه صار يَدْهَسُها بالأقدام!!
فهل هذه حضارة تقدِّم للعالم ؟!
لا يمكن.(8/93)
ما رأيكم بحضارة الانحراف الخُلُقي والإيدز؟!
حضارة يُقِرُّ البرلمان - الذي يُمَثِّل الشعبَ - الشذوذَ الجنسي، ويضع له نظامه، ويحترم أصحابه!!
حضارة تُقِرُّ بقضية الخيانة الزوجية بين الطرفين!!
حضارة عُرْي!!
حضارة مادة!!
صحيحٌ أنَّ لها عنوانًا مظهرِيًّا وهو: (القوة سياسيةً كانت أو عسكريةً)؛ لكنها في داخلها يَنخر فيها الفسادُ، ولا أَسْتثني من ذلك دول أوروبا كلها، ولهذا لا يَشْعر بهذه الحقيقة إلا المسلمُ الذي أَسْلَم من بلاد أوروبا؛ هو الذي يُحِس بالفارق الكبير بين ما يقرأه ويُحِسُّه ويشعره عن الإسلام، وبين الحضارة الغربية بكل ما فيها من مظاهر جوفاء خَدَّاعة.
يُخْبِرني أحدُ الإخوة ويقول:
" بعضُ البَعثات الدَّعَوية في فرنسَا كان لهم جهودٌ، فأَسْلَم على يديهم رجلٌ مفكِّرٌ فرنسيٌّ، ويقول بأنه رجلٌ فاضلٌ وأَسْلم، فيقول: دَعَوْناه إلى إحدى دول الخليج للزيارة، فزَارَنا، ووَضَعْنا له حفلةً ضخمةً في إحدى الصالات حتى نلتقي به ونسأله، فجَهَّزْناها وحَضَر الحاضرون، وجاء هذا الأخُ على المنَصَّة وبجانبه المقدِّم، وإذا به يقول للمُتَرْجِم: قل لهؤلاء الحاضرين لا سلامَ عليكم ولا رحمةً ولا بركةً، فتَلَعْثَم المترجِم!!
فالأخوة قد فَرِحوا به ويريدون أن يسمعوا منه ويسمع منهم، وإذا به يُجابِهُ بهذه الكلمة الغريبة!!
فأعاد عليه مرةً ثانيةً وقال له: قل لهم أقول لكم لا سلامَ عليكم ولا بركةً ولا رحمةً، فتَلَعْثَم، فقال: قُلْهَا؛ لا تتردد، أنا أعني ما أقول، فقال : أخوكم في الله يقولُ لا سلامَ عليكم ولا بركةً ولا رحمةً، فضَجَّت القاعة؛ كيف يحدث هذا؟!
ولكنه سُرْعانَ ما تكلَّم وقال لهم: اسمعوني، أنا جِئْتُكم من بلاد الغرب وهداني الله للإسلام، أين أنتم منذ عشرين وثلاثين سنة وأربعين سنة؟!
أين أنتم ومعكم هذا النور المبين؟! لماذا لا تقدموه لنا؟!
أنا ماتت أمي، وماتت أختي وأقاربي على غير الإسلام، فأين أنتم من هذا النور؟
لماذا لا تقدِّمُونه لنا في بلاد الغرب؟! "
إِنَّ حَرْبَ الغرب للمسلمين وتشويههم، يمكن أن نَنْفذ من خلالها، لكن بشرط أن نُقَدِّم هذا الإسلام للناس حضارةً ليس لها بديل.
في عالم اليوم حضارة قابلة للانهيار؛ لأنها منهارة من الداخل، فالبديل ما هو؟
البديل لن يكون إلا بالإسلام؛ لأنه - فعلًا - دِينُ الله الذي ارتضاهُ، دينُ العبودية للواحد القهار، دين السعادة للإنسان في الدنيا وفي الآخرة.
وهو - واللهِ - لَدَوْرٌ عظيم بالنسبة لنا نحن المسلمين، يجب أن يُنَبِّه له العلماء والدعاة ورجال الصحوة وطلاب العلم، وكلُّ مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة يدرك ويعلم أنه على ثَغْرة من ثغور الإسلام.
فاللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبَلِك في ظل عولمةٍ طاغية لا تَرْحم.
أسأل الله تعالى أن يُعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأنْ يجعلنا من أنصار هذا الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المحتويات
الموضوع الصفحة
مقدمة ........................................................................
تعريف العولمة .................................................................
خطورة العولمة في واقعنا المعاصر ................................................
العولمة وأذرعها الخمسة ........................................................
الأول : الذراع العسكري .....................................................
الثاني : الذراع السياسي .......................................................
الثالث : الذراع الاقتصادي ....................................................
الرابع : التقني العلمي .........................................................
الخامس : العقدي والثقافي والفكري ............................................
آثَارُ العَوْلَمة في الجَانِب العَقَدي والثَّقافي والفِكْري ...............................
1- الانْحِراف العَقَدي ........................................................
2 - الانْحِراف في النُّظُم والتَّشْرِيع ............................................
3- الانْحِراف الأخْلاقِي .......................................................
العَوْلَمة والدَّعَوات البَاطِلة .....................................................
دعوى " حقوق الإنسان " ....................................................
دعوى " تقارب الأديان العالمية " ...............................................
موْقِف المجتمعات مِنْ هَذِهِ العَوْلَمَة؟! ............................................
الطَّرْحُ المُعاصِر " اسْتِسْلام المَغْلُوب "!! .........................................
مَوَاقِفُنا تِجاهَ " العَوْلَمَة " ......................................................
المحتويات .....................................................................
(1) يُقْصَد : حرب (5 / يونيو / 1967) .(8/94)
(2) مجموع الفتاوى( 16/300) ، ودرء التعارض(3/345) .
(3) [صحيح] أخرجه أحمد [2/176]، والدارمي [1/126]، وابن أبي شيبة في المصنف [2 /47/ 153] وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة [1/33/4] .
(4) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند (4 / 103) ، والحاكم في المستدرك (4/ 477) وغيرهما من حديث تميم الداري رضي الله عنه ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي بقوله : على شرط البخاري ومسلم .
==============(8/95)
(8/96)
كي لا نسقط في الهاوية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد أخفق العلمانيون في محاولتهم إقناع الأمة بأفكارهم، واستمروا على اختلاف اتجاهاتهم شراذم قليلة معزولة لا تمت إلى عامة الأمة بِصِلَةٍ، وبعد فترة طويلة اتجهوا إلى تطوير استراتيجيتهم؛ فمن محاولة التأثير على الأفكار إلى محاولة تغيير السلوك والأخلاق وتفكيك الأسرة وإفساد المجتمع وطمس هويته من داخله، والقيام بتفريغ عقول الأمة من قيمها وإغراقها بالشهوات من دون ضابط شرعي أو حاجز أخلاقي.
والمتأمل في واقع الأمة اليوم يلمس نجاحًا كبيرًا تحقق للقوم في هذا الاتجاه، وكان المدخل الكبير والباب العريض الذي ولجوا منه إلى ذلك هو التأثير على المرأة دفاعًا عن حريتها وإرجاعًا لحقوقها المهدرة ـ فيما زعموا ـ.
ويعود هذا النجاح إلى أسباب عديدة يمكن إجمالها في جوانب ثلاثة:
الأول: أسباب تعود إلى المرأة والمجتمع، وأهمها:
- الجهل المفرط في أوساط كثير من النساء بقيم الإسلام وأحكامه ومقاصده، وقد زاد من خطورة هذا الأمر عمليات التشويه التي يمارسها العلمانيون تجاه التشريعات الإسلامية المتعلقة بالمرأة عن طريق تناولها بشكل مجزأ يجعلها بعيدة عن التشريعات التي وردت في سياقها، مع إغفال متعمد لبيان مقاصد الإسلام من تشريعها؛ بهدف إظهار قصورها وتجاوز العصر لها ووقوفها حجر عثرة في طريق نيل المرأة لحريتها وحقوقها.
- ظاهرة ضعف الإيمان لدى كثير من النساء نتيجة عدم قيام المؤسسات التربوية في المجتمعات الإسلامية بالدور المنوط بها تجاه هذا الأمر، وتركها الحبل على الغارب لصواحب السوء وذوي الشهوات ليقوموا عبر الوسائل المختلفة بالسيطرة على عقل المرأة ومشاعرها ومن ثَمَّ تحديد اتجاهاتها وتوجيه ميولها حسب ما يشتهون.
- غفلة كثير من النساء عن حقيقة رسالتهن في الحياة، والدور المنوط بهن في بناء الأمة وصيانتها من عوامل الزيغ والانحراف.
- قيام بعض النساء المترفات بتبني دعوات العلمانيين وبروزهن واجهة لكثير من الأنشطة المقامة، وتوفيرهن للدعم المعنوي والمادي الذي تحتاجه بعض الأنشطة،إضافة إلى تغريرهن بقطاع عريض من النساء اللاتي جرت العادة بقيامهن بتقليد مترفات المجتمع وكبرياته لعظم جهلهن وضعف إيمانهن.
- أن جزءًا كبيرًا من المحافظة الظاهرة لدى كثيرات يعود إلى أعراف قبلية وتقاليد اجتماعية متوافقة مع الشرع دون أن يكون لها بعدٌ إيماني في نفوس كثيرات، ومن المعلوم أن الأعراف والتقاليد ليس لها طابع الثبات بل هي قابلة للتبدل بمرور الوقت خصوصًا متى تغيرت أوضاع المجتمع: علمًا وجهلاً، غنىً وفقرًا، انفتاحًا وانغلاقًا، ويتسارع هذا التغير حين توجد جهات تخطط للتغيير وتستخدم سبلاً ملتوية تحتفي فيها بالقديم ـ إذا احتفت ـ معتبرة إياه تراثًا لعصر مضى، وتلمِّع فيها ما تريد نشره وتجعله من متطلبات التقدم وعلامات الرقي والنهضة.
- الانحراف العام والانحطاط الشامل الذي أصاب المجتمع المسلم في كثير من جوانب الحياة المختلفة،والذي بدوره كان له أكبر الأثر في ضعف كثير من النساء وقيامهن بالتفاعل مع الطروحات العلمانية بشكل ظاهر.
الثاني: أسباب تعود إلى العلمانيين، وأهمها:
- عملهم بهدوء وبأساليب خافتة حرصًا على عدم الدخول في مواجهات مكشوفة، وسعيهم إلى تحقيق أغراضهم المشبوهة عن طريق لافتات وشعارات مقبولة، مع الحرص على الاستفادة بأقصى مدى ممكن من بعض أهل العلم وبعض المحسوبين على الدعوة لقبول أعمالهم من قِبَل العامة وتسويغها أمامهم شرعًا من جهة، ولإحداث شرخ في صفوف العلماء والدعاة من جهة أخرى.
- استفادتهم من مرحلة الضعف والهوان التي تمر بها الأمة، ومن قوة الغرب النصراني - حيث يرتبطون به ويعملون على تحقيق مصالحه بصورة فجة - والذي يضغط بقوة في سبيل فرض حضارته وهيمنة قيمه وشيوع سلوكياته في المنطقة تحت مسميات مختلفة كالعولمة والديموقراطية ودعاوى حقوق الإنسان وحرية المرأة وحرية الاعتقاد إلى آخر القائمة.
- إبرازهم لصور الظلم التي تقع على المرأة في مجتمعاتنا، واتخاذها موضوعاً ومدخلاً للحديث عنها بهدف تحقيق مآربهم وإشاعة السلوكيات والأخلاق التي يروجون لها ويدعون النساء إلى تطبيقها.
- العمل على زعزعة الثقة بين العلماء والدعاة من جهة والمرأة من جهة أخرى بهدف إيجاد فجوة بينها وبين الدين، وذلك عن طريق وصمهم لأهل العلم والدعوة بالتخلف والجمود وعدم عيش الواقع وإدراك متطلبات العصر والوقوف حجر عثرة في طريق نهضة المرأة ورقيها، والتسبب في صور الظلم الحاصلة عليها في بعض مجتمعاتنا الإسلامية.
استهواء المرأة وإغرائها وتزيين ما يشتهون لها عن طريق الاستفادة من بعض الخصائص التي تتمتع بها إجمالاً كقوة العاطفة وسرعة التأثر وضعف الخبرة في مجريات الحياة ومكائدها،وحب التزين والرغبة في الترفيه.
- تحسين صورتهم لدى المرأة وكسب ثقتها عن طريق إقامة بعض المؤسسات الطوعية التي تقدم بعض الأنشطة الاجتماعية والجمعيات التي ترفع عقيرتها بالمطالبة بحقوق المرأة وإنصاف المجتمع لها.(8/97)
- الاستفادة من الخلاف الفقهي وشذوذات بعض أهل العلم في بعض المسائل الشرعية المتعلقة بالمرأة في محاولة إيجاد مسوغات شرعية لما يدعون المرأة إليه عن طريق التلفيق بين تلك الآراء والأخذ من كل عالم فتواه التي تخدم أهواءهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى سعيهم إلى الاستفادة من ذلك في تشويه صورة بعض أهل العلم والدعوة، وزعزعة الثقة بينهم وبين المرأة عن طريق ضرب آراء بعض أهل العلم ببعض، ووصم أصحاب الاجتهادات التي لا تتوافق مع أهوائهم بالتشدد والجمود وإرادة التعسير على المرأة وكبتها والتضييق عليها.
- التدرج في تحقيق أهدافهم؛ فمن المطالبة بحقوق مشروعة هي من صميم قيم الإسلام وتعاليمه إلى مزج ذلك بحقوق تتناقض مع قيم الإسلام إلى العمل على إحلال قيم الغرب وتقاليده محل قيم الأمة وتقاليدها ومطالبة أفراد المجتمع بتغيير هويتهم للوصول إلى الوضع المرتجى لهم.
- سعيهم إلى الفصل بين ما يزعمون أنه الدين الصحيح الذي يرفعون شعار التمسك به والدفاع عنه، وبين العلماء والدعاة الذين يزعم العلمانيون بأن دعوتهم للمرأة ليست من الدين الصحيح في شيء وإنما هي مجرد تشدد وتحكم في المرأة بأمر لا أصل له في الدين.
- تضخيم أخطاء العلماء والدعاة ونسبة بعض الشنائع زوراً إليهم، والاستفادة من ذلك في عملية التشويه وزيادة الفجوة بينهم وبين بعض نساء المجتمع،وفي المقابل تضخيم العلمانيين لأعمالهم والمنكرات التي يروجونها لتضخيم وزنهم في المجتمع،ولتصوير أن جل النساء معهم، ولتيئيس العلماء والدعاة من إمكانية الإصلاح.
الثالث: أسباب تعود إلى العلماء والدعاة، وأهمها:
- ضعف مستوى الجهود والأنشطة العلمية والدعوية الموجهة للمرأة، وقلتها وعدم كفايتها لسد احتياج الساحة، وذلك يعود في ظني إلى قلة الاهتمام وضعف عملية التخطيط وتشتت الأفكار والجهود وعدم التركيز مما أدى إلى عدم استثمار الطاقات بصورة مرضية.
- عدم وجود طروحات متكاملة لقضية المرأة والقيام بطرح النظرة الشرعية مجزأة مما يفقدها قيمتها ويظهرها ـ في كثير من الأحيان ـ بأنها غير صالحة للتطبيق؛ لأنها تتصادم مع جوانب من الواقع المعاش؛ علماً بأن الواقع السيئ للمرأة يرجع إلى عدم أخذها بالتوجيه الشرعي في كافة جوانبه.
- مجاملة بعض العلماء والدعاة للواقع السيئ، ومحاولتهم التعايش مع رغبات بعض أفراد المجتمع المتجهة نحو التغريب، وقيامهم بإصدار الفتاوى المتسقة مع ذلك.
- الرتابة والتقليدية في جل البرامج والأنشطة العلمية والدعوية الموجهة للمرأة، وعدم وجود إبداع أو تجديد فيها مما أدى إلى ضعف التفاعل معها وقلة الإقبال عليها من كثير من النساء.
- عدم أخذ زمام المبادرة في التعامل مع القضايا والأحداث، والتفاعل حسب ردود الأفعال دون أن يكون هناك مشاركة في صنعها أو تأثير في تحديد اتجاهها في غالب الأحيان، وهو مما أفرغ الساحة الاجتماعية أمام العلمانيين، ومكنهم من فعل ما يحلو لهم تخطيطًا وتنفيذًا وتوجيهًا وقطفًا للثمار بما يخدم مصالحهم ويحقق أغراضهم.
- عدم بيان أهل العلم والدعوة لدائرة المباح المتعلق بالمرأة بشكل جيد، وأخذهم لها بالأمثل عن طريق طرحهم للأفكار وتبنيهم للحلول المثلى في كثير من المواقف والقضايا بطريقة يفهم منها بأنها الطرح الشرعي الوحيد في الجانب المتناول.
وقضية الأخذ بالأمثل من الأمور التي لا يطيقها سوى قلة من الصالحات، أما غيرهن من نساء الأمة فقد وسَّع الله عليهن بما أباحه لهن، وواجب العلماء بيانه، وعدم التثريب على من أخذت به ما دامت لم تتعد حدود الله و لم تنتهك محارمه.
- عدم مراعاة بعض الدعاة لتعدد الفتوى ووجود خلاف بين أهل العلم في بعض المسائل الاجتهادية، وقيامهم بمحاولة إلزام المرأة برأي معين مع أنها ليست مكلفة شرعاً إلا بتقليد الأوثق لديها في دينه من أهل العلم لا صاحب رأي أو بلد بعينه.
- حساسية بعض الدعاة المفرطة في التعامل مع المرأة وقضاياها، وانغلاقهم الشديد الذي يمنعهم في أحيان كثيرة من تناول الأمور بموضوعية؛ مما جعل الأمور تتجاوزهم بشكل أدى إلى انفتاح صارخ غير منضبط.
- الخلط بين الأعراف والتقاليد والمنهج، وعدم تمييز بعض العلماء والدعاة بين الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة والمبنية على نصوص الشرع وقواعده وبين آرائهم التي تكون مبنية على أعراف وتقاليد اجتماعية، ولا ريب في أن لهم الحق كغيرهم من أبناء المجتمع في أن يتخذوا ما يشاؤون من مواقف تجاه أعراف المجتمع وتقاليده التي لا تتعارض مع الشرع، وأن يحاولوا إقناع من يشاؤون بمواقفهم تلك كما يحاول غيرهم، لكن الواجب عليهم إيضاح أن تلك الآراء مردها إلى العرف والتقاليد من غير محاولة إلباسها لباساً شرعياً متكلَّفاً فيه، وأن لكل أحد أن يتخذ الموقف الذي يشاء ما دام رأيه غير متعارض مع الشرع، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية الثابتة التي يجب على الناس التزامها كل حسب وسعه وطاقته.(8/98)
- التعميم: بعض من الدعاة يقومون بمحاربة المشاريع والأنشطة النسوية التي تتضمن بعض المخالفات الشرعية في المجتمع بشكل مطلق بدل محاولة مد جسور التفاهم والثقة مع أصحاب تلك المشاريع وتنمية جوانب الخير لديهم، والقيام بترشيد مناشطهم وتوجيهها الوجهة السليمة، مما يدفع القائمين عليها ـ من ذوي النفوذ ورجال الأعمال ـ في أكثر الأوقات إلى استخدام كافة ما يملكون من أوراق لمضي الأمر على ما يريدون.
- هيمنة الأعراف والتقاليد وخوف بعض الدعاة من تجاوزها؛ إلى جانب إغفال بعض المناشط الملائمة للمرأة التي أثبتت نجاحها في مجتمعات أخرى وفسح المجال أمام العلمانيين ليسدوا الفراغ الذي تعاني منه نساء المجتمع من خلال البرامج والأنشطة التي يقيمونها.
- عدم إدراك كثير من العلماء والدعاة لطبيعة التحول الذي حصل في عقلية النساء وسلوكياتهن واحتياجاتهن في وقتنا وحجم ذلك، واستصحابهم لواقع المجتمع في زمن ماض، أو تعميمهم لواقع بيئاتهم الخاصة على البيئة العامة مما جعلهم لا يشعرون بأهمية إعطاء دعوة المرأة أولوية ومزيد عناية.
- إغفال العناية بالجوانب التي فطر الله المرأة على الاهتمام بها كأمر الزينة والجمال، والأمور التي لكثير من النساء تعلق قوي بها في وقتنا كالترفيه بحيث لم يتم تقديم برامج ومشاريع حيوية مباحة في هذا المجال تسد حاجة المرأة وتقطع الطريق على العلمانيين الذين يكثرون من الولوج إلى المرأة عبر هذه البوابة ولا يجدون أدنى منافسة من العلماء والدعاة حيالها.
- ضعف الرصد والمتابعة لجهود العلمانيين وأنشطتهم مع عدم المعرفة بكثير من أعمالهم إلا بعد وقوعها مما يؤخر من مواجهتها ويجعل العلماء والدعاة يتعاملون مع آثارها ويتناسون ـ في الغالب ـ أهدافها والأسباب التي هُيِّئت لنجاحها وشجعت القوم على المضي فيها.
- ضعف كثير من العلماء والدعاة في بناء العلاقات وتكوين الصلات والقيام بواجبهتم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ـ تعالى ـ بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، مما هيأ الفرصة للعلمانيين لكسب كثير من ذوي النفوذ ومثقفي المجتمع ورجال الأعمال لخدمة طروحاتهم ودعم مشاريعهم مع أنهم ليسوا منهم.
الانفصام لدى بعض الدعاة بين النظرية والتطبيق في التعامل مع المرأة فبينما يوجد لدى جلهم إدراك نظري جيد لما يجب أن تكون عليه الأمور، نجد ممارسة سيئة لدى كثيرين تمشياً مع الأوضاع البيئية ورغبة في الراحة وعدم المعاناة في مواجهة شيء من ذلك.
كيف ندافع العلمانيين؟
تعد النجاحات التي حققها العلمانيون في مجال المرأة ثمرة التقصير والغفلة التي عانى منها قطاع كبير من العلماء والدعاة وتيار الصحوة، وعليه فإن المدخل الصحيح للمدافعة يقتضي استشعار الخطر وإدراك ضخامة المسؤولية والتفكير بموضوعية والتنفيذ بجدية للخطوات المراد تحويلها إلى واقع، وما لم يتم ذلك فإن الخطر سيستفحل والخرق سيتسع على الراقع، ولن يجدي عندها كثير من خطوات الحل المؤثرة والمتاحة الآن.
وقبل أن أتطرق إلى ذكر بعض السبل التي يمكن بواسطتها مدافعة القوم وكبح جماحهم أو التخفيف من شرهم، لا بد من ذكر بعض القواعد والمنطلقات التي لا بد من استيعابها قبل الدخول في مواجهة معهم، ومنها:
- لا بد من التوكل التام على الله وصدق اللجوء إليه والاستعانة به والتضرع بين يديه وطلب عونه وتسديده مع الأخذ بالأسباب وإعداد العدة، وذلك لأن من ينصره الله فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له كما قال ـ تعالى ـ: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) [آل عمران: 160].
- الاعتناء بالوضوح الإسلامي في الطرح، والمطالبة بجلاء لكافة أفراد المجتمع بتحقيق العبودية الحقة لله ـ تعالى ـ والانقياد التام له والتسليم لشرعه وعدم الخروج عن أمره والتأكيد على الدعاة بعدم إخفاء حقيقة دعوتهم في طروحاتهم سعياً في استصلاح جوانب الانحراف في المجتمع، وإقامةً للحجة على العباد وإبراءاً للذمة أمام الله ـ تعالى ـ.
الحذر من التفلت الشرعي الذي يقع فيه بعض الدعاة أثناء طروحاتهم عن المرأة، ومع إدراك أن الدافع لبعضهم قد يكون الحرص على الدعوة والسعي إلى تقريب الكثيرات إلى الإسلام؛ إلا أنه قد فاتهم تذكُّر أن الانضباط بالشرع شرط لصحة العمل وأن الغاية مهما كانت شريفة لا تسوِّغ الوسيلة، وأن الباري ـ عز وجل ـ لا يُتقرب إليه بمعصيته ومخالفة أمره بل بطاعته وامتثال شرعه.
- التوجه إلى التخطيط الجاد والمتكامل في دعوة المرأة وتربيتها، والمبني على إدراك عميق للماضي ومعايشة للحاضر واستشراف للمستقبل، وترك الارتجال والعفوية وسطحية التفكير والتنبه إلى أن ذلك وإن قُبِلَ في أزمنة ماضية فإنه غير مقبول بحال اليوم نظراً لضخامة الاستهداف للمرأة والعمق في التخطيط والدقة في التنفيذ لدى العلمانيين، والحذر من أن ينشغل العلماء والدعاة بردود الأفعال تجاه قضايا وأحداث جزئية يصنعها العلمانيون تتصف بالإثارة والهامشية على حساب قضايا جوهرية سواء في جهة البناء والتربية أم في جهة مواجهة القوم ودفع أخطارهم.(8/99)
- العمل على طرح مبادرات إصلاحية جذرية تتسم بالعمق والشمول والواقعية بدلاً من الحلول الترقيعية وتجزئة القضايا بشكل يمكن العلمانيين من التلاعب بالأمر والمزايدة فيه بالدعوة إلى إصلاحات جزئية هامشية لها بريق تستغل في تخدير فئات كثيرة من المجتمع وتحييدهم عن الوقوف في صف العلماء والدعاة والذين يسعون إلى القيام بإجراء إصلاحات جوهرية في القضايا والمجالات الأساسية.
- الاعتناء بالقيام بإجراء تقييم شامل لأنشطة الدعاة وبرامجهم المختلفة والموجهة إلى المرأة، ومراجعتها من حيث الكم والكيف، ويتأكد ذلك اليوم نظراً لتغير الاحتياجات وتبدل الأحوال وتطور الإمكانات، وما لم يتم ذلك وتهيأ له الفرص الكفيلة بالنجاح فإن الزمن سيتجاوز أنشطة الدعاة وبرامجهم، ويجعلهم كمن يوصل الرسائل بين البلدان عبر الأقدام والدواب في زمن الأقمار الصناعية و الإنترنت.
- توحيد الصفوف ولمّ الجهود وسعة الصدر لرأي أهل العلم الأثبات المخالف في مسائل الاجتهاد، والتطاوع فيما لا إثم فيه، والمحاورة بالتي هي أحسن، وحسن الظن بالآخرين، والتماس العذر لهم، ومغفرة زلاتهم، والتجاوز عن هفواتهم... من أهم المهمات التي على العلماء والدعاة العناية بها؛ لأن الاختلاف شر والفرقة عذاب، وتضرر الدعوة من كون بأسها بينها وعدوها من داخلها أعظم عليها جداً من تربص أعدائها بها وكيدهم لها.
-إدراك الدعاة لحقيقة الوضع وأنهم في صراع مع قوم ينتمون إلى جهات تريد اجتثاث قيم الإسلام وأخلاقياته وإحلال قيم وأخلاقيات حضارة أخرى تناقضها مكانها، وعليه فالواجب عليهم طول النفَس وبعد النظر ومحاسبة الذات وإدراك صعوبة الطريق وأن الهدم أسهل من البناء وتهيئة النفْس لتحمل الهزيمة والمواصلة بعدها لأن العاقبة للمتقين، ومعرفة أن الانتصار الحقيقي يكمن في الثبات على المبدأ، أما شيوع المبدأ فالداعية يسعى له ويجد في سبيل ذلك، ولكن ليس من شأنه تحققه، وله أسوة بالأنبياء ـ عليهم السلام ـ إذ قتل بعضهم وطرد آخرون، ويأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي ومعه سواد كثير قد سد الأفق.
- أهمية أن تتجه برامج الدعاة إلى تربية كافة شرائح النساء في المجتمع والبناء الصحيح لشخصياتهن وبخاصة تلك التي لم تؤثر فيها طروحات العلمانيين بعدُ، أو أن تأثيرهم محدود فيها، وأن تشتمل تلك البرامج على جرعات تحصينية ضد أساليب العلمانيين في الطرح، وذلك لأن الوقاية خير من العلاج وما استدفع الشر بمثل الاستعاذة بالله منه، والتعرف عليه للحذر من التلبس به.
- الإقرار بوقوع صور متعددة من الظلم الواقع على المرأة في مجتمعاتنا بسبب الجهل بالشرع وعدم تطبيقه، وهو ما يجب إفهامه للمرأة التي يريد العلمانيون تشويه صورة الإسلام في ذهنها، والإسلام لا يتحمل نتاج البعد عنه.
- الاعتناء بتحلي صغار شباب الصحوة بصفات الحكمة والصبر والحلم والروية وعدم الاستعجال، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والتعامل مع الأحداث بعقل لا بعاطفة مجردة، ومشاورة أهل العلم والخبرة في سبل مدافعة العلمانيين حتى لا تُجَر الصحوة إلى مواقف غير محمودة العواقب، وبخاصة أنه لا توجد لدى (القوم) أي معايير أخلاقية تمنعهم من فعل أي شيء في سبيل تحقيق أغراضهم ومآربهم.
إقامة تعاون إيجابي في المجالات الدعوية والتربوية بين البيئات والمناطق المختلفة يتم بواسطته تبادل الأفكار والخبرات، والبدء في البرامج المختلفة من حيث انتهى الآخرون، وهذا ولا شك سيشجع على مزيد انطلاق، ويوسع دائرة الاختيار أمام الدعاة ويمنع من هدر الطاقات والإمكانات في إقامة برامج ثبت إخفاقها متى امتلك الدعاة الشجاعة الأدبية للتراجع عن أنشطتهم ذات العائد الدعوي والتربوي الأقل، وتجاوز المألوف مما لا بعد شرعياً له وتحمل الضغوط البيئية الناتجة عن ذلك.
سبل المدافعة:
السبل المقترحة لمدافعة العلمانيين في مجال المرأة كثيرة، ومن أبرزها:
أولاً: سبل تتعلق بالمرأة والمجتمع ومن أبرزها:
العناية بتأهيل المرأة وبناء شخصيتها بناءاً متكاملاً في كافة الجوانب التي تحتاجها و من أبرز ذلك:
أ- تعميق قضية الهوية والانتماء لهذا الدين لديها وتوضيح مقتضيات ذلك ولوازمه كوجوب المحبة الكاملة لله، والانقياد التام لشرعه فيما وافق هوى العبد وفيما خالفه، "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"(1).
ب - تجلية رسالة المرأة المسلمة في الحياة والدور المنوط بها في عصرنا في سبيل نهضة الأمة ورقيها واستعادتها لعزتها، والسبل المعينة لها على أداء ذلك.
ج - العناية بالجوانب الإيمانية والعبادية لدى المرأة، وتزويدها بالعلم الشرعي، وبخاصة فيما تحتاج إليه ولا يسعها جهله في مراحل حياتها المختلفة.
د - رفع مستوى ثقافة المرأة وتحبيبها بالقراءة وتدريبها على ممارسة التثقيف الذاتي والاستفادة من الوسائل التقنية المتاحة في ذلك.(8/100)
هـ - رفع مستوى وعي المرأة وإدراكها لواقعها والتغيرات الضخمة الحاصلة فيه، وما يحاك ضد الأمة عموماً والمرأة خصوصاً من مخططات تهدف إلى إبعادها عن دينها، وتهميش دورها في الحياة بشكل يجعلها تعيش في عزلة شعورية عن حاضرها.
و - الرقي باهتمامات المرأة وتعميقها وإبعادها عن السطحية، وتعويدها على الجدية وترتيب الأولويات وعدم الانشغال بالترهات والتوافه.
- تقرير الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة، نحو: كون الأصل قرارها في البيت، والتزام الحجاب، وعدم إبداء الزينة والتبرج تبرج الجاهلية الأولى، ودعوة المرأة إلى التزامها.
- رصد المشكلات التي تعاني المرأة منها في كافة الجوانب المختلفة، والسعي إلى تلافيها والتقليل من نتائجها السلبية.
- العناية بوقت المرأة وشغله بالمفيد واقتراح السبل الملائمة لتحقيق ذلك(2).
- تقوية البناء الأسري وبخاصة في المجال الدعوي؛ إذ إن للدعوة العائلية أهمية فائقة في تعليم المرأة دينها وتحصينها ضد طروحات العلمانيين ومكائدهم.
- تفعيل دور المرأة في مواجهة مخططات العلمنة الساعية لإفسادها، وتشجيعها على القيام بدعوة بنات جنسها؛ لأنها الأعرف بمجتمعاتهن والأكثر تأثيراً فيهن والأقدر على الاتصال بهن والبيان لهن فيما يخصهن، مع أهمية العناية بجانب التحفيز لها وإيجاد الدوافع لديها لمواصلة نشاطها الدعوي حتى لا تفتر أو تصاب باليأس والإحباط نتيجة طول المسير ومشقته(3).
- مطالبة النساء بالعناية ببيئاتهن الخاصة ـ أزواجاً وأولاداً ـ والقيام بالدور المنشود منهن في استصلاحها وإمدادهن بالوسائل والآليات والسبل المناسبة، وخاصة فيما تجهله المرأة مما يناسب في خطابها للرجال من محارمها؛ لأنهن الأكثر دراية بها، والأقدر على توجيهها والتأثير فيها متى استخدمن الحكمة. تفعيل دور الصالحات في المجتمع وإفساح المجال وفتح القنوات والميادين الملائمة أمامهن، ومحاولة إعداد بعض المتميزات ـ علماً وتفكيراً وسلوكاً ـ ثم إبرازهن بصفتهن قدوات لنساء المجتمع.
- توعية المجتمع بأهمية دور المرأة في نهضة الأمة ورقيها، ومطالبة أفراده بمؤازرتها والتواصي برفع صور الظلم المختلفة عنها والموجودة في بعض البيئات، وترك اللامبالاة والغفلة والتهميش للمرأة الذي يقع فيه بعض الأفراد، اقتداءاً بنبينا r في تعامله مع المرأة.
ثانياً: سبل تتعلق بمجابهة العلمانيين، ومن أهمها:
- إبانة أهداف العلمانيين والتي من أبرزها:
أ - التشكيك بالأصول وإزاحة ثوابت الأمة العقدية وأسسها الفكرية والسلوكية وإحلال حضارة الغرب وقيمه مكانها.
ب - إخراج المرأة عن العبودية لله ـ عز وجل ـ والاستمساك بشرعه، وجعلها مجرد متاع في مسارح الرذيلة وملاهي الخنا ووسائل الإعلان وأوراق الصحف والمجلات وشاشات التلفزة والقنوات الفضائية.
ج - الدعوة إلى التفلت الديني والفوضى الاجتماعية تحت مسمى الحرية والمساواة.
د - إيضاح أن حقيقة الحقوق المزعومة التي يطالبون بإعطائها للمرأة حق الإلحاد والزنا والعري والحمل السفاح والشذوذ الجنسي سالكين طريقة التلميع للوسائل والتزوير للحقائق والإظهار للباطل بمظهر أخاذ.
- تتبع العلمانيين وكشف تاريخهم ودراسة إنتاجهم الفكري ورصد أنشطتهم ووزنها بميزان الشرع وإبانة ما فيها مما يتناقض مع ثوابت الأمة والسعي إلى زعزعتها لكي يتم فضح القوم وكشف انعزالهم عن قيم الإسلام وحضارته، وارتباطهم خدمة وتربية وفكراً وسلوكاً بجهات خارجية معادية تسعى إلى استئصال هوية الأمة وإحلال قيمها مكانها، وذلك من شأنه أن يمكن العلماء والدعاة من نقل الطرف الآخر من مرحلة الهجوم إلى الدفاع.
- تتبع مداخلهم النفسية وأنشطتهم الجاذبة لكثير من النساء والعمل على الحد منها والتخفيف من آثارها وإيجاد بدائل إسلامية عنها.
- العمل على استمالة القريبين فيهم من الحق ودعوتهم والعمل على كسبهم إلى جانب الموقف الشرعي الصحيح.
- تحديد الشبهات التي يثيرونها حول النظام الإسلامي في مجال المرأة مما يتخذونه وسيلة لتشكيك المرأة في دينها وزعزة عقيدتها، والقيام بتفنيدها(4) والإثبات ـ عقلاً وواقعاً - أن النظام الإسلامي هو الطريق الأمثل لحماية المرأة من الظلم وصيانة المجتمع من الفساد، وإعطاء كل ذي حق حقه.
- بيان حقيقة واقع المرأة في الغرب وكشف ضخامة الأمراض والمشكلات التي تواجهها على كافة الأصعدة(5)، وفي ذلك أعظم تعرية للعلمانيين والذين يطالبون المرأة في مجتمعاتنا بمحاكاة المرأة الغربية والسير على منوالها إن هي أرادت سلوك طريق التقدم والمضي في دروب الحضارة ـ كما زعموا ـ.
ثالثاً: سبل تتعلق بالعلماء والدعاة، ومن أهمها:
-إدراك الواقع إدراكاً جيداً وتحليل جوانب القوة والضعف لدى الطرفين(6)، والاستفادة من ذلك في تحديد أهداف المرحلة والسبل المثلى للمدافعة. إبانة حقيقة النظام الإسلامي في معاملة المرأة، وتجلية محاسنه وإزالة الشبهات التي تثار حوله؛ لأنه لن يدحض الظلام إلا النور كما قال ـ تعالى ـ: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء: 18].(8/101)
- إيضاح الاختلاف الجذري بين النظام الإسلامي وواقع المجتمعات الغربية، والذي من أبرزه:
أ - أن الأسرة في النظام الإسلامي تعد اللبنة الأولى في تكوين المجتمع؛ بينما يعد الفرد في الغرب هو الركيزة الأساس.
ب - أن العلاقة بين الجنسين في النظام الإسلامي علاقة تكامل وتلاحم وحرص من كلا الطرفين على مصالح الآخر كحرصه على مصالحه، وطبيعة العلاقة في كثير من أرجاء الغرب اليوم قائمة على التنافس والتنافر بين الجنسين وحرص كل من الطرفين ـ وبخاصة المرأة التي تشعر بالاستضعاف ـ على فرض هيمنته على الآخر.
ج - أن النظام الإسلامي يعطي المرأة حقوقها الشرعية كاملة وفي المقابل يطالبها بالقيام بالواجبات الشرعية التي يفرضها عليها والتي لا تقوم الحياة السوية إلا بها، وفي الغرب نجد أن كثيراً منهم ـ يتبعهم العلمانيون في بلداننا ـ يوهمون المرأة بسعيهم لإعطائها حقوقاً هي في واقع الأمر بوابتهم الرئيسة لاستعبادها واستخدامها استخداماً جسدياً قذراً بعيداً عن مراعاة متطلبات روح المرأة وعقلها وقيم المجتمع وأخلاقياته.
- إقامة لجان ومراكز أبحاث مهمتها العناية بالجوانب الإعلامية وإبراز جهود العلماء والدعاة ـ أفراداً ومؤسسات ـ في قطاع المرأة عموماً والأسرة خصوصاً في الجوانب المختلفة: العلمية، الاجتماعية والصحية، وإعداد المعلومات والإحصائيات عنها، ونشر ذلك بشكل دوري عبر وسائل الإعلام لإظهار ضخامة الجهد المبذول وضآلة ما يقوم به العلمانيون مقارنة بها.
- العناية بالنساء في البيئات الخاصة بالدعاة تعليماً وتربية؛ نظراً لإمكانية التأثير القوي والاتصال المباشر لكي يتم تلافي الإهمال غير المتعمد لها الناتج عن الانشغال بالبيئة الخارجية وإبراز قدوات نسائية للمرأة ذات عمق في التفكير وجدية في الاهتمامات وقوة في الأخذ بالإسلام.
- تفعيل دور العلماء والواجهات الاجتماعية الخيرة ـ ذكوراً وإناثاً ـ وكافة أفراد المجتمع ومطالبتهم بالقيام بالدور المنشود منهم في مواجهة طروحات العلمانيين ودفع خطرهم، استفادةً منهم من جهة وتوسيعاً لدائرة المعركة من جهة أخرى بدلاً من جعلها كما يريد العلمانيون بينهم وبين الدعاة فقط.
- زيادة المناشط الدعوية والاجتماعية وتحسينها والاعتناء بتناول الموضوعات المختلفة التي تحتاجها المرأة مع الحرص على التجديد في الأساليب والإبداع في الوسائل لضمان تفاعل المرأة معها بشكل أكبر.
- توثيق الصلة بالمثقفين ورجال الأعمال ومد الجسور معهم لترشيد أعمالهم من جهة والحيلولة دون أن تكون عوناً للعلمانيين على إفساد المرأة من جهة أخرى، وللتنسيق معهم في اقتحام مجالات جديدة تحتاجها المرأة كصناعة الترويح والملابس ونحوها وفق الضوابط الشرعية.
- توسيع دائرة الانفتاح الدعوي على كافة مجتمعات النساء: ملتزمات وغير ملتزمات، مثقفات وعاميات، متزوجات وغير متزوجات، أمهات وأخوات وبنات، وعدم قصر النشاط على فئة دون أخرى.
- اقتحام ميادين وقنوات دعوية جديدة في مجال المرأة، ومن أهم ذلك:
أ - قيام العلماء والدعاة بإنشاء جمعيات تنادي بالحقوق الشرعية للمرأة لقطع الطريق على العلمانيين الذين يَلِجُون من هذا الباب لتحقيق مآربهم.
ب -إقامة مراكز أبحاث نسوية خاصة بشؤون المرأة.
ج - إنشاء مؤسسات إنتاج ودور نشر متخصصة بقضايا المرأة ودعوتها.
العمل على تغيير هيكلة تعليم المرأة ليناسب وضعية المرأة ورسالتها في الحياة، والسعي لتطوير المناهج وفتح التخصصات التي تساعدها على القيام بدورها الأساس المنوط بها زوجةً وأماً ومربية.
وختاماً: فلا بد من إدراك أن الخطب جسيم، ويحتاج إلى استعانة صادقة بالله ـ تعالى ـ وعمل جاد، وتضافر قوي لكافة جهود المخلصين؛ وإلا فإن العاقبة ستكون وخيمة والمصير غير محمود، وعندها سيهيئ الله لدينه جيلاً ينصره ويقوم بأمره، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تاريخ بغداد للخطيب: 4/963، شرح السنة للبغوي: 1/312، وصححه النووي في الأربعين واستبعد ذلك جداً ابن رجب في جامع العلوم والحكم: 2/493، وقال الحافظ في الفتح: 31/203: (أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات).
(2) من الأمور الهامة التي ينبغي تحريض المرأة على ممارستها: العبادة والذكر، مدارسة القرآن والأحاديث النبوية، القراءة المبرمجة، الاستماع إلى الأشرطة النافعة، إدارة المشاريع النسوية التعليمية والاجتماعية ودعمها، التعرف على الأرامل والأسر المحتاجة ومساعدتها، تعلم الأعمال المهنية والأنشطتة الملائمة من خياطة وحاسوب وأشغال فنية ومسائل الأمومة والاهتمام بالطفل ونحو ذلك.
(3) من أهم الحوافز التي ينبغي العناية بها: بيان ما أعد الله للداعين للهدى، وإيجاد الشعور بالتحدي ببيان ضخامة الاستهداف العلماني الموجه للمرأة، وذكر نماذج متميزة لبعض داعيات الحق وأخرى لداعيات الضلال.
(4) من أبرز الجوانب التي يكثر القوم من الطعن فيها: أحكام التعدد والميراث والحجاب والخلوة والاختلاط، ومسائل القوامة والولاية والطلاق.(8/102)
(5) من الأمور التي لا بد للدعاة من الحديث عنها في هذا المجال: نسب العفة والزواج والطلاق والأولاد غير الشرعيين والخيانة الزوجية في الغرب، ومشكلات العنوسة والخروج عن الفطرة والتحرش بالمرأة والأمراض الجنسية والنفسية والتفكك الأسري وواقع الأبناء بعد خروج المرأة للعمل والمعاناة التي تلقاها الفتاة حتى تتزوج هناك، ومسائل النفقة والمعاملة التي تلقاها المرأة الغربية في أطوار حياتها المختلفة: أماً وأختاً وابنةً وزوجةً ومسنةً، متزوجة ومطلقة وأرملة.
(6) من أبرز جوانب قوة العلماء والدعاة: جلاء الحق الذي يدعون إليه، وعمق انتمائهم إليه، والعاطفة في المجتمع نحو الدين، وكراهية أفراده لأعدائه والعاملين لحساب جهات خارجية تريد تقويضه، والعودة الصادقة لكثيرات من نساء المجتمع نحو الالتزام بالإسلام عقيدة وسلوكاً.
===============(8/103)
(8/104)
أبناؤنا في ظل الواقع المفتون
يقول صلى الله عليه وسلم ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع به شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن ) رواه البخاري...
فتنٌ كقطع الليل المظلم، تُحيط بنا من كل جانب، وتُعرضُ علينا ليل نهار..
مُلهياتٌ ومحرمات... مُستنقعاتٌ للشهوات... محطاتٌ ممقوتة وفضائيات...تنشر شباكها هنا وهناك... جميعها يستهدف عقول شبابنا وفتياتنا.
وفي ظل هذه الفتن ، يقف الكثير منّا حائراً متسائلاً :
* كيف نربي أبنائنا تربية أسلامية صحيحة في ظل هذا الواقع المفتون...؟
* كيف يمكن أن نُنشئ جيلاً قوياً بعزيمته وأرادته وعقيدته كجيل علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم وأرضاهم....؟؟
* كيف نبث حمل هم الإسلام، وحمل لوائه في نفوس أبنائنا...؟؟
أسئلة تطول ..... وفي هذا اللقاء نحاول أن نُجيب على بعضاً منها سائلين الله النفع والفائدة للجميع.....
ويسعدنا أن تكون ضيفتنا الأستاذة / أحلام الضبيعي ، محاضرة في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود...
************
س1- ما هي أنواع الفتن......وأيهما أشد ضرراً على الأبناء..؟؟
للفتن أنواع كثيرة ، وقد ورد ذكر الفتن في كثير من أحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم ، والملاحظ في هذه الأحاديث أنه قد ذكر فيها أمهات الفتن التي تكون في كل زمان ، وتندرج تحتها فتن فرعية تخرج بأثواب جديدة في كل زمان .
من أبرز الفتن المنتشرة في زماننا هذا : فتنة المال - فتنة الصحة والجمال - فتنة الفراغ - فتنة الانفتاح الثقافي والفكري ( العولمة ) ، وهذه الأخيرة هي أخطر فتنة على الأبناء إذا انضمت إليها الفتن السابقة .
************
س2- عقيدة هذا الجيل هشة...سهلة الانكسار والتغير....عكس ما عليه جيل الصحابة والسلف الصالح......فما الأسباب؟؟
الأسباب كثيرة في ذلك لعل من أبرزها :
1) ضعف الوازع الديني لدى بعض المجتمعات .
2) قلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
3) الزهد في تعلم العلم الشرعي والتوجه إلى العلوم الدنيوية البحتة بحجة أنها أضمن للمستقبل كما يزعمون .
4) تساهل الوالدين وغلبة العاطفة عليهما بحيث لا ينكران على الأبناء سوء التصرف وقلة الاهتمام بالدين .
5) عدم الحرص على تعليم الأبناء العقيدة وأمور الدين.
6) الثقة العمياء التي يوليها الوالدان للأبناء والدفاع الضاري عنهما إذا بدر منهما أمور تخل بالدين والحياء.
************
س3- تعزيز المفهوم العقدي مطلوب من الآباء تجاه أبنائهم..... في نظرك متى يبدأ الآباء بتطبيق هذا المفهوم على الأبناء؟؟
يجب أن يبدأ تطبيق المفهوم العقدي منذ الصغر أي منذ أن يبدأ الطفل بنطق بعض الحروف والكلمات يحاول الوالدان أن يلقناه الشهادة باستمرار لأن الطفل وهو صغير يكون مستعدا للتلقين فيستقبل كل ما يعطى سواء كان خيرا أو شرا ولا يسأل عن المعاني والأسباب ، خاصة في فترة السنتين إلى الخمس سنوات على العكس من الطفل من سن ست سنوات فما فوق فإنه في هذا السن يبدأ بالسؤال عن كل شيء خاصة إذا كان مستوى ذكاؤه مرتفع.
************
س4- ما هي الأساسيات التي لا بُد من الوالدين أن يُزودا بها أبنائهم منذ بداية نشأتهم؟؟
الأساسيات هي ما أمرنا به الرسو صلى الله عليه وسلم من التأذين في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى ، وعدم الكذب عليه حتى لا يتعلم هذا الخلق الذميم وأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وضربه عليها إذا بلغ العاشرة ولم يحافظ عليها ، والتفريق بين الأبناء في المضاجع ، وآداب الاستئذان ، وتعليمه أساسيات العقيدة ( من ربك ما دينك من نبيك ) ، أين الله ، كل هذه الأمور التي كان الرسو صلى الله عليه وسلم يعلمها ويطبقها .
إضافة إلى عدم إيقاع الأبناء في الحيرة من أمرهم وذلك بسبب تناقض الوالدين فتجد بعض الآباء والأمهات يقولون ما لا يفعلون فيجب على الوالدين أن يعلما الأبناء ويطبقا في نفس الوقت حتى يرسخ المبدأ العقدي في ذهن الأبناء.
************
س5- كيف نتعامل مع الأخطاء والتجاوزات الشرعية التي تصدر من أبنائنا..؟؟
الأخطاء الشرعية إذا صدرت أول مرة من الأبناء فيجب التعامل معها بكل رفق فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه فيعلم الأبناء في البداية أن هذا العمل لا يجوز وأنه يغضب الله سبحانه وتعالى ويبين له ما هو الفعل البديل الذي يجب عليه أن يقوله أو يفعله لأن هذه الطريقة كان ينتهجها الرسو صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم مثل قوله : (( لا تقولوا ما شاء الله وشئت وقولوا ما شاء الله وحده )) ، هذا التصرف يقي الوالدين من سؤال ابنيهما : إذن ماذا أفعل أو ماذا أقول ؟
ومسألة مهمة أيضا يجب التنبيه لها وهي أن كل أب وأم لهما أن يعرفا ما هي طبيعة ابنيهما هل هو من النوع الذي يقبل النصح مباشرة ؟ أو أنه يتضايق من هذا الأمر فيضطر الوالدان أن ينتهجا مسلكا آخر في النصح والتوجيه كأسلوب القصة مثلا أو التلميح أو غير ذلك من الأساليب.(8/105)
ويبينا له أيضا أن كثيرا من الناس يقعون في أخطاء ولكنهم إذا علموا ووجهوا فإنهم يتراجعون ويتوبون إلى الله وإن الله يقبل توبة عباده ، وأن هذا الذنب إذا تركه وتاب منه فإنه لا يضره بإذن الله تعالى ، مع العلم أن الأبناء ليسو كلهم سواء فإن منهم من يتقبل بمجرد أن تنصح أمامه أحد ومنهم من يحتاج إلى النصح مرة ومنهم مرتين وهكذا .
************
س6- يعيش أبناء هذا الجيل في غمرةٍ من الفتن....وموجٌ من المغريات، كيف يمكن التصدي لها؟؟
هذا الأمر يتصدى له بالعلم الشرعي فنحرص كل الحرص على حث الأبناء على تعلم العلم الشرعي كعلم العقيدة وما يتبعه من علوم كتعلم المذاهب المعاصرة المخالفة للعقيدة الصحيحة ، وما هي بالتحديد نقاط المخالفة فيها حتى يحذروا ، فالأبناء يسمعون بالشيوعية والعولمة والليبرالية وغيرها من المذاهب الهدامة ولا يعلمون ما المراد بها ، لذا فإنه يجب إعطاء الابن نبذة تناسب سنه وفكره وعقله وفهمه وثقافته حتى يعرفها ويكون على حذر منها .
ثم يبدأ الابن - إذا كبر وكان ذكيا - يبحث هو بنفسه ويقرأ ويحذر.
ويجب أن يبين للابن أن أكثر هذه المذاهب تتوجه إلى طبقة الشباب في المجتمعات فتعرض لهم أفكارها الهدامة بطريقة مغرية حتى ينخدعوا وينضموا إليهم ويكونوا من دعاتهم وهم لا يعلمون.
************
س7- الفراغ....والتقليد الأعمى..... من المسائل التي لا يفقه ضررها الكثير....كيف عالجت الشريعة الإسلامية هذه المسائل؟؟
عالجت الشريعة هذه المسائل بالبيان والتوضيح والتحذير والتنبيه فقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )) فبين r أن الفراغ نعمة من الله إلا أن صاحبها مغبون فيها أي مغلوب فيها وليس بغالب ففي ذلك حث على استغلال أوقات الفراغ لأنها لا تتوفر للمسلم في كل مرة وإذا توفرت فإنها قد تضره ولا تنفعه .
أما عن التقليد الأعمى فقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه )) فهذا تحذير من تقليد الكفار بجميع أصنافهم لأن تقليدهم يؤدي إلى التشبه بهم في دينهم : (( ومن تشبه بقوم فهو منهم )) .
************
س8- في زمن الانفتاح الفضائي...كيف يمكن أن نزرع في نفوس أبنائنا المراقبة الذاتية؟؟
بتذكيرهم بالجنة والنار، فعندما يتصور الابن نعيم الجنة، وعذاب جهنم فإنه سيبتعد تلقائيا عن هذه الأمور حتى لا يحرم نعيم الجنة ولا يعذب بنار جهنم.
كذلك يبين للابن بأن للمعصية شؤم في الحياة وإنه كلما زادت مراقبته لله بعدم النظر إلى هذه القنوات فإنه سيزداد توفيقا من الله وهداية ورزقا وصلاحا.
************
س9- يبرر بعض الشباب والفتيات أن ما يقعون فيه من تجاوزاتٍ شرعية يعود سببها للمجتمع الزاخر بالفتن والتي طغت عليه من كل جانب....في حين يصعب عليهم مجاهدة النفس............ما رأيك في هذا التبرير؟؟
بالطبع هذا المبرر غير صحيح وإنما هو من أتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء وضعف الوازع الديني وقلة مراقبة الله سبحانه أو انعدامها تماما عند بعض الشباب والفتيات .
************
س10- يُقال " أن الفتاة سريعة الانجذاب للمغريات أكثر من الشباب...لذا كانت الرقابة عليها أكثر من قِبل المجتمع".....هل هذه المقولة صحيحة...وإن كانت كذلك فما الأسباب....؟؟
هذه المقولة لا تؤخذ على إطلاقها فهي تصدق على شريحة معينة من الفتيات ولا تصدق على الباقيات الصالحات منهن ومعلوم أن الأصل في المرأة قرارها في البيت ، ولكن هذه المقولة لا تنطبق على الفتيات فقط بل تنطبق على شريحة معينة أيضا من الفتيان ، فكما أن الفتيات يحتجن إلى رقابة فكذلك الفتيان لأنهم سريعي الانجذاب للمغريات كذلك .
************
س11- كيف يمكن تحصين أبناؤنا ضد الفتن...بحيث نُنشئ جيلٌ مسلم، متمسك بهويته الإسلامية، ومُحبٌ لله ورسول صلى الله عليه وسلم ؟؟
نحصنهم بأن نعلمهم سير الصحابة نساء ورجالا خاصة الشباب منهم لبيان كيف أنهم كانوا على قوة كبيرة من الصمود أمام المغريات أو التهديد والوعيد كقصة سعد بن أبي وقاص ومصعب بن عمير وخبيب بن عدي وغيرهم كثير رضي الله عنهم جميعا .
************
س12- رسالة توجهينها إلى:
• الآباء والأمهات.
• المعلمون والمربون.
• العلماء والدعاة.
الرسالة الأولى: إلى الآباء والأمهات:
الأب والأم هما الصرح التعليمي الأول الذي يتخرج منه الطفل إلى هذه الحياة فيجب عليهما أن يتقيا الله في جميع شؤون حياتهما حتى يسقيا تلك البذرة الصغيرة التي نشأت بينهما بالدين والصلاح والهداية وتطبيق كل ما أمر الله به سبحانه ورسول صلى الله عليه وسلم برعاية الطفل وتربيته .
الرسالة الثانية: إلى المربين والمعلمون:
إنهم الصرح التعليمي الثاني الذي يخرج إليه الطفل فينشأ بعد ذلك عضوا صالحا في المجتمع لأنهم يرون أمامهم معلمين صالحين ، فكم من شاب وفتاة تأثروا تأثرا كبيرا بمعلميهم أكثر من تأثرهم بوالديهم وهذا معروف ملموس في كثير من المجتمعات .
الرسالة الثالثة: إلى العلماء والدعاة:(8/106)
العلماء والدعاة نعمة من الله أنعم بها على عباده فهم الذين يعلمون الناس الخير والصلاح والاستقامة لذا فيجب عليهم التنبه والالتفات إلى شريحة الشباب والفتيات خاصة أكثر من غيرهم لأنهم هم الأكثر في المجتمعات الإسلامية لقول صلى الله عليه وسلم : (( نحن أمة فتية )) فهم دعاة وعلماء المستقبل فإذا صلحت هذه الشريحة صلح أكثر المجتمع وقل فيه الفساد والعصيان بإذن الله تعالى .
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
************
ختاماً:-
نشكر الأستاذة / أحلام الضبيعي على ما أدلت به من توجيهاتٌ وفوائد في هذا اللقاء.
ولا ننسى أن الشباب والفتيات هم عماد هذه الأمة، فبصلاحهم تسير القافلة بأمان بإذن الله تعالى، ولذا أدرك الأعداء أهمية هذا، فأشهروا أسلحتهم ونشروها بكل ما لديهم من قوة...فعلى الوالدين أن يدركوا مهمتهم كمسؤلين ، وينجزوها بكل أمانة وصدق... ويقفوا كالحصن المنيع في وجه تيار الفتن والتي تقود أبناؤنا نحو الهاوية دون وعي أو تفكير....ولنتذكر قول الشاعر:
ومن رعى غنماً في أرض مضيعة
…
ونام عنها ، تولى رعيها الأسدُ !!!
هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
===============(8/107)
(8/108)
ظاهرة الهجوم على منهج السلف (1-2)
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن الهجوم على منهج ومذهب السلف ليس جديداً، بل هو قديم قدم نشوء البدع والافتراق في هذه الأمة، حيث كانت كل طائفة ترى في مذهبها الحق وتعادي من يخالفه، ولما كان السلف هم الوسط المخالفين لأهل الغلو والجفاء والإفراط والتفريط نالهم من كافة الطوائف المنحرفة ما نالهم، وصبت عليهم كل فئة حادت عن الطريق المستقيم غضبها.
وكان ذلك - من فضل الله - سبباً في رسوخ الحق وعلوه ونشره، وفي رفعة رجاله الحاملين للوائه وذيوع ذكرهم في الأمة وقبولهم عند الناس، مع ما لهم عند ربهم من مزيد الأجر والحسنات وحسن الثواب.
والنبي _ r_ لما أخبر عن اتباع هذه الأمة من سبقها من الأمم وافتراقها كما افترقت أمر بإتباع ما كان عليه هو وأصحابه وأمر بإتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده وأمر بالعض عليها بالنواجذ ونهى عن البدع والمحدثات في الدين، وكل هذا لأجل خطورة مثل هذا الافتراق والبدع.
ولما كانت كل طائفة تدعي أن مذهبها الحق وأنه يقوم على دلائل الكتاب والسنة أو على الأقل لا تعارضها جاء الأمر مع اتباع سنته وما كان علي صلى الله عليه وسلم باتباع أصحابه وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وفي هذا بيان لمسألة - قد يغفل عنها البعض - خاصة في الأزمنة المتأخرة فيظن أنه ينبغي الرجوع إلى الكتاب والسنة دون الالتفات إلى ما وقع من افتراق في هذه الأمة ونشوء طوائف في كل زمن وعصر، وأن تجاوزها شرط لوحدة الأمة الإسلامية في دينها وعقيدتها.
وهذا كلام طيب وحسن وهو أمنية كل مسلم ولكن شرطه أن تتخلى كل فرقة وطائفة عن معتقداتها المنحرفة لترجع إلى ما جاء في الكتاب والسنة دون تحريف أو تأويل أو إلحاد.
أما والواقع غير ذلك فلا بدّ من تمييز منهج السلف عن مناهج غيرهم كما فعل الأئمة منذ عهد الصحابة - رضوان الله عليهم - وإلى يومنا، ولا بد من نشره والدفاع عنه والرد على المنحرفين وأهل البدع جميعاً، ونصحهم وأمرهم بالتوبة والرجوع إلى الله وتحذير الأمة كلها من هذه البدع والضلالات، مع بيان العقيدة الصحيحة وشرحها وتوضيحها لهم، والردود والمناقشات بحسب أحوال هذه البدع وانتشارها وعموم خطرها.
والخلاصة:
1- أن النبي _ r_ أخبر عن تقليد هذه الأمة لغيرها وعن افتراقها وقد وقع هذا فلا داعي لإنكار ما ورد في ذلك، خاصة ممن يريد جمعها بأيّ شكل وعلى أي منهج.
2- أنه لا تعارض بين الشرع والقدر - كما قرر ذلك الأئمة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بل نؤمن بهما جميعاً فنؤمن ونصدق ما جاءت به الأخبار من الافتراق في هذه الأمة، ونتبع الشرع في اجتنابها والإعراض عن بدعها واتباع ما كان عليه الرسو صلى الله عليه وسلم وصحابته والقرون المفضلة.
أما من أراد أن يلغي الشرع باعتبار الافتراق أمراً قدرياً فنرضى بهذه الفرق ونقبلها، أو أراد أن يلغي القدر وينفي وجود هذا الافتراق لأن الله لا يحبه ولا يحبه رسول صلى الله عليه وسلم فهذا من الخطأ البيّن الذي يجب أن يحذره الجميع وخاصة طلاب العلم.
3- عقيدة ومنهج السلف باقيان إلى آخر الزمان كما أخبرنا رسول ا صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور أنه لا تزال طائفة من أمته باقية على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى، وهذا مع ما سبقت الإشارة إليه من الأمر باتباع أصحابه وسنة الخلفاء الراشدين، فيه الدلالة القاطعة على وجوب اتباع منهج السلف في كل وقت ومنه وقتنا هذا في فتنه وعولمته ومتغيراته.
وقد عجبت لعبارة شيخ الإسلام ابن تيمية حين ذكر في أول العقيدة الواسطية ما يفيد هذا حيث قال: "أما بعد فهذا اعتقاد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة إلى يوم القيامة، فقوله : إلى قيام الساعة تنبيه للأمة في زمنه، وهو تنبيه لنا في هذه الأيام مقتضاه أن الحق واحد باق، لا يتغير ولا يتبدل".
4- وعلى هذا فما يجري في هذه الأيام من هجوم على منهج السلف هو جزء من سنة الله تبارك وتعالى في الصراع بين الحق والباطل، وهي سنة باقية ولا تتغير ولا تتبدل.
5- والصراع قد يشتد في زمان دون زمان أو في مكان دون مكان حسب قوة الباطل وحسب قيام أهل الحق بما أوجب الله عليهم، ولكن العاقبة للمتقين المتبعين لسنة نبيهم r - نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعلنا منهم -.
وهذه الكلمات المختصرات جعلتها في ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أسباب الهجوم على مذهب السلف.
القسم الثاني : مظاهر الهجوم على منهج السلف.
القسم الثالث : العلاج ووسائله.
وأسأل الله أن ينفع بها.
القسم الأول: أسباب الهجوم على مذهب السلف:
لقد عظمت الحملة في هذه الأيام على منهج وعقيدة السلف الصالح واشتد أوارها إلى حدّ لم نعهده في زماننا المتأخر - خاصة في بلاد الحرمين المملكة -.
وأسباب ذلك معلومة لا تخفى، ولا بأس من أن نشير إليها باختصار من باب التذكير، ويمكن تقسيمها إلى أسباب عامة وأسباب خاصة:(8/109)
أولاً: الأسباب العامة:
1- سنة الله في الصراع بين الحق والباطل.
2- اتباع الهوى.
3- التباس الحق بالباطل لدى بعض الناس [فتن الشبهات].
4- ضعف التقوى وكثرة التفريط وانتشار المنكرات [فتن الشهوات].
5- الجهل، والخوض في مسائل الدين بلا علم.
6- عدم القيام بالواجب من جانب بعض أهل العلم والدعوة.
7- عداوة اليهود والنصارى والملحدين والمنافقين والعلمانيين ورؤوس البدع للمسلمين عامة ولأهل السنة خاصة.
8- العولمة ووسائل الإعلام والاتصال التي ساهمت في نشر الباطل وفشوه ودخوله إلى كافة بلاد المسلمين ومدنهم وقراهم وبيوتهم إلا ما عصم الله. [مع ملاحظة أن بعضها ساهم في نشر الخير والعقيدة الصحيحة والدفاع عنها].
ثانياً: الأسباب الخاصة:
1- تنامي ظاهرتي الإفراط والتفريط: فمن جهة ظهور الغلو عند البعض وعدم ضبط مسائل الإيمان والكفر، وما ترتب على ذلك وغيره من وقوع التفجيرات التي أفرحت أعداء هذه العقيدة في داخل المملكة وخارجها، ومن جهة ظهور التفريط عند بعض ممن تأثر بمذاهب المرجئة حتى أخلوا بمسائل الإيمان وربما صحح بعضهم دين اليهود والنصارى والمشركين. ومن ذلك التفريط الخطير غلو العلمانيين في نشر مبادئهم الإلحادية وحربهم على ثوابت الدين وأصوله.
2- الحرب العالمية الصليبية على الإسلام ركزت على عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة - ولم تطل الحرب أهل البدع من الرافضة والصوفية ومن شاكلهم - وقد تركزت الحرب بشكل أخص على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعلى هذه البلاد المنتسبة إليها - وخاصة بعد أحداث نيويورك.
3- ظهور العلمانيين والحداثيين وأهل البدع [لأسباب معروفة] وعلو صوتهم في كثير من وسائل الإعلام ومجاهرتهم بالكثير من أفكارهم دون رادع - مما شجعهم على المضيّ سريعاً في نشر أفكارهم ومذاهبهم.
4- الناظر في الموقف الرسمي مما يجري يرى الليونة والضعف - وقد يقول البعض إنه تخلٍّ - عن أعظم ميزة تميزت بها هذه البلاد وهي العقيدة السلفية الصحيحة والتي لا يخفى تاريخها في هذه البلاد منذ عشرات ومئات السنين.
وهذا شجع الملاحدة وأهل الأهواء وأصحاب البدع على أن تعلو أصواتهم في نشر ضلالاتهم في الرد والطعن في عقيدة أهل السنة والجماعة ومصادرها وعلمائها قديماً وحديثاً.كما أنه أصاب أهل السنة بالضعف والوهن.
5- وجود عدد من المنتكسين والناكصين على أعقابهم - لأسباب كثيرة - حيث حمل هؤلاء لواء الهجوم على العقيدة والشريعة وأصولهما وقواعد العلم الشرعي المعروفة.
وقد استخدم العلمانيون والمفسدون هؤلاء شر استخدام فروّجوا لهم في وسائل الإعلام وكرروا وأعادوا وزادوا وعملوا على تحويلهم إلى ظاهرة فكرية يحاربون بها دين الله عموماً وعقيدة ومنهج السلف خصوصاً.
6- ظهور المدرسة [العصرانية] - مدرسة أهل الأهواء - حيث تبنى بعض أسس هذه المدرسة من قد ينتسب إلى العقيدة الصحيحة ممن تأثر بهذه المدرسة، فصار بعض هؤلاء يروجون لهذه المدرسة في بعض مقولاتها وأسسها.
وهذه المدرسة من أخطر المدارس على الإسلام وقد أدرك هذا العلمانيون وأهل البدع المعروفون من الرافضة والصوفية ونحوهم، فوطدوا العلاقة مع هذه المدرسة وصاروا ينشرون فكرها، ويعلون من شأن كل من تأثر بها أو تبنى بعض مقولاتها.
7- تراجع بعض من كان ينتسب إلى عقيدة السلف من تبنيها، وفي المقابل صار يظهر الميل وأحياناً الانتساب إلى ما يخالفها، فهذا يظهر مذهب المعتزلة وذاك يقول بمذهب الأشاعرة، وهذا يدعو إلى التصوف ويراه حقاً...الخ
القسم الثاني: مظاهر الهجوم على منهج السلف:
من خلال ما سبق ذكره من الأسباب الخاصة والعامة تظهر جملة من مظاهر الهجوم على عقيدة ومنهج السلف - رحمهم الله - بشكل عام.
ويمكن أن تذكر هنا جملة من هذه المظاهر لعلها تكفي في إعطاء التصور الواضح للمشكلة، وأما الإحاطة بذلك أو بجله، فمما يُعلم صعوبته.
فمن هذه المظاهر:
أ/ عالمياً أخذ الهجوم على منهاج السلف وعقيدتهم - أو على الإسلام - لكن يقصد به من يعتمد هذا المنهج - شكلاً لم يعهد من قبل [بسبب وسائل الإعلام المتقدمة]. وقد اتخذ هذا المحاور التالية:
المحور الأول: الهجوم الصليبي والغربي على الإسلام واتهام أتباعه بالتطرف والأصولية والإرهاب... إلخ. وتتبع مظاهر ذلك مما لا يمكن حصره، ولكن يكفي فيه أن الإسلام صار متهماً في عقيدته وفي شريعته، وفي أعلامه، وفي مظاهره [من سمت إسلامي، وحجاب، ولحية،...إلخ]، وفي نشاطاته الإسلامية، وفي جمعياته الخيرية... ولم يسلم من هذا إلا أهل البدع المرضيّ عنهم من جانب الصليبيين.
المحور الثاني: وسائل الإعلام - وخاصة المحطات الفضائية - التي تتبع إما أهل البدع وأما أن أصحابها أذناب للغرب الكافر من العلمانيين والمنافقين والمفسدين في الأرض، فقد شنت هذه الوسائل حروباً متتالية وبأساليب متنوعة على عقيدة السلف ومصادرها ورجالها وأئمتها.
ونماذج ذلك ظاهرة للعيان في تلك المحطات التي تبث بالعربية لتنشر الفكر المنحرف والبدعي وتحارب بشكل صريح الإسلام وعقيدة السلف.(8/110)
المحور الثالث: إعادة التجمعات والروابط الجاهلية على مستوى الأمة، حيث إنه بعد الفشل الذريع للأفكار العلمانية من يسارية وقومية ونحوها في المرحلة السابقة [ولا تزال والحمد لله] أخذت بعض القوى من أجل حرب الإسلام وعقيدته الصحيحة تعيد تنظيم صفوفها أو ابتداع منظومات فكرية جديدة.
1 - فهناك مراكز بحوث في لندن وبيروت وعمان وغيرها يقوم عليها أناس مشبوهون، حيث عرف عنهم تبني قواعد وأسس مخالفة للعقيدة والمنهج الصحيح.
2 - ومؤسسة الفكر العربي تنشأ في ظل هذه الظروف وتمول ويشرف عليها أناس معروفون في حقدهم وحربهم للعقيدة الصحيحة...
3ـ إضافة إلى مراكز البحوث والدراسات العلمانية التي كانت موجودة سابقاً، فأعادت ترتيب أمورها مدعومة مادياً بشكل قوي من قوى صليبية وعلمانية وغيرها.
ب/ ومن المظاهر: الشدة والقسوة في الهجوم على عقيدة ومنهج السلف، في هذه البلاد حيث بلغت حداً لم يعهد من قبل، وجرأة لم ير مثيل لها فيما سبق.
ومن أمثلة ذلك:
- اتهام عقيدة السلف بأنها تكفيرية إرهابية - هكذا -.
- اتهام الأئمة المعروفين المعتبرين بذلك.
- الدعوة الصريحة إلى إلغاء بعض أصولها - كالولاء والبراء، ونواقض الإسلام.
- الدعوة الصريحة إلى إحياء الآثار الجاهلية وغيرها والدعوة إلى إعادة بناء الأضرحة على القبور.
- سب العقيدة بأنها تفرقنا وتمزقنا والدعوة إلى وطنية جاهلية مفرغة من العقيدة.
- الدعوة الصريحة إلى العلمانية والليبرالية الغربية وتبنيها.
- تحدي الأمة في المسائل المتعلقة بالمرأة ودعوتها قولاً وفعلاً إلى التمرد على دينها وشريعتها.
- التبجح بالفكر الحداثي والافتخار به، والتسابق إلى الإعلان عن رواده ودعاته وتنافسهم في ذلك.
- مدح الحضارة الغربية وثقافتها وفكرها ونظمها بشكل لا أظن أنه وقع قبل ذلك.
وهكذا.. والأمثلة لا تكاد تنتهي.
ج/ ظهور أهل البدع وعلوّ صوتهم وتحديهم للأمة:
1 - فالرافضة لا يخفى أمرهم على أحد لا من ناحية أهدافهم أو خططهم ولا من ناحية أعمالهم وأفعالهم.
[والكلام حولهم يطول: ولعل فيما كتب عنهم من ملفات ما يكفي لبيان حالهم وخطرهم].
2 - والصوفية بدؤوا يظهرون المخفيّ عندهم، وصاروا يعملون بكل ما أوتوا من وسائل لاستباق كل عائق حتى ينشروا تصوفهم وخرافاتهم بل وشركياتهم الصريحة.
ويمكن أن نذكر هنا ما يلي من نشاطهم:
1) الدعوة إلى التصوف صارت علناً لا يتدسس بها أصحابها.
2) نشر مقالاتهم وحججهم وشبههم على صفحات الصحف مثل المدينة وعكاظ والوطن..
3) إقامة الموالد والمناسبات الصوفية علناً في البيوت والاستراحات.
4) السعي إلى إحياء الآثار في مكة والمدينة والدعوة إلى تعظيمها والتبرك بها.
5) العداء السافر من كثير منهم لأهل السنة أصحاب العقيدة السلفية ورميها بما سبق أن رُميت به من التهم.
6) وآخر قصص جرأتهم ما جرى أخيراً في النادي الأدبي في المدينة النبوية حيث ألقيت محاضرة تدعو إلى إحياء الآثار والتبرك بها.
3 - والأشاعرة أخذوا يدعون إلى مذهبهم داخل شباب أهل السنة، ويحمل لواء ذلك أشاعرة كانوا يخفون مذهبهم ثم أظهروه، وأناس تمشعروا بعد أن كانوا سلفيين.
والملاحظ أن هذا الصنف من أهل البدع عادوا إلى ما عُرف عن شيوخهم من التصاقهم بالصوفية، ودعوتهم إلى الأصول الكلامية، والعداء لأهل السلف ولكتبهم قديماً وحديثاً، مع المهادنة لبقية أهل البدع، كما أن حرصهم على نشر كتب الأشاعرة نشط كثيراً.
4 - مدرسة الاعتزال والتجهم تعود هنا وهناك، وتُنشر كتبها وآراؤها التي يتبناها للأسف جمهرة من العقلانيين والعلمانيين وغيرهم.
د/ ظهور أصحاب الفكر المنحرف - في هذه البلاد - من الحداثيين والعلمانيين على مختلف مدارسهم المعروفة من ماركسية وقومية وبعثية وحداثية وليبرالية وغيرها.
وقد عملوا على :
إظهار رموزهم - دون خجل - على أنهم رواد الفكر والثقافة والتوجيه في المجتمع، كما عملوا على استقطاب عدد كبير من المتأثرين بهم من الشباب والصحفيين وتجييشهم بأساليب مختلفة حتى يسايروا الخط الذي يسيرون عليه. ومما يؤسف له أن يقع هؤلاء فريسة لهذه الأفكار المنحرفة عن وعي وعن غير وعي. وهذا تشخيص لما يجري، وإلا فهم يتحملون مسؤولية ما يكتبون.
[وهؤلاء كالرافضة والصوفية يحتاجون إلى من يتتبع أفكارهم ونشاطهم، وهناك جهود في هذا ولكنها قليلة إذا ما قورنت بعظم خطرهم على الأمة وعلى العقيدة والشريعة ].
ونحن هنا نشير إلى أبرز مظاهر نشر فكرهم وحربهم للدين عقيدة وشريعة وخلقاً كما يلي:
1 - أغلب هؤلاء العلمانيين كانوا أصحاب تنظيمات سرية كانت معروفة في السابق في البلاد العربية ومنها ما كانوا يسمونه فرع الخليج العربي [البحرين - عمان - الكويت - السعودية].
وأبرز هذه التنظيمات [الشيوعيون، والبعثيون، وحركة القوميين العرب، والناصريون، والقوميون القدامى، الوحدويون]. والحداثيون هم خليط من هؤلاء، وإن كانوا في الغالب ينتمون إلى التيارين: الشيوعي والليبرالي الغربي.
وأغلب هؤلاء غلب عليهم الفكر الثوري واليساري.(8/111)
وهناك التيار الغربي العلماني الليبرالي ويقود هذا مجموعة من الدارسين في الغرب الذين تشربوا فكره وأصبحوا من أدواته.
والملاحظ أن هؤلاء يعيدون ترتيب صفوفهم وشيئاً من تنظيماتهم السابقة، ويتحالف بعضهم مع بعض، وينتقل الواحد منهم في لحظة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ما دامت المصلحة الشخصية تقتضي ذلك.
2 - بدؤوا يجاهرون بأفكارهم ويفاخرون بتاريخهم السابق من شيوعي وبعثي وغيره.
[ونحن نخشى أن يأتي اليوم الذي يقف فيه الواحد من هؤلاء أمام وسيلة إعلامية رسمية ليشرح بكل فخر قصة انتسابه للفكر الشيوعي ودخوله في تنظيمه، وقصة انتسابه لتنظيم البعث أو الناصرية وغيرها كما فعل بعثيوا العراق وسوريا وشيوعيوا عدن وغيرهم حين صارت لهم سلطة ودولة].
3 - حولوا مراكز نفوذهم إلى منابر لنشر أفكارهم المنحرفة ومحاربة من يخالفهم وهذا واضح جداً في بعض الصحف، وغيرها التي شنوا من خلالها حرباً لا هوادة فيها على العقيدة ومنهج السلف وشريعة الإسلام.
4 - استولوا من جديد - بطريقة ثورية انقلابية - على أغلب إن لم نقل كافة الأندية الأدبية في المملكة عن طريق نفوذهم في وزارة الإعلام وما فوقها.
5 - شنوا حملة شعواء على الشريعة، وإقامة الحدود، وعلى القضاء والقضاة والإفتاء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكم سخروا من كثير من القضايا - آخرها موضوع هلال رمضان.
6 - عملوا على تعطيل الأحكام الشرعية التي أصدرت على أصحابهم من الزنادقة وأشباههم لأنهم يريدون إضعاف قاعدة الحسبة على هؤلاء وهو الإحالة للقضاء، ولأنهم يضعون خط دفاع عنهم؛ لأنه لو نفذت الأحكام فالدور عليهم.
7 - استولوا على المهرجانات الثقافية: كالجنادرية، ومعرض الكتاب والمناسبات الثقافية، وحاولوا من خلال معارض الكتاب الدولية، ومن خلال المراقبين في الإعلام إدخال كتب الفساد والانحلال والفكر المنحرف على مختلف مدارسه، إلى هذه البلاد ونشرها وبيعها.وفي مقابل ذلك حاربوا الكتاب الإسلامي ومنعوا الكثير منها من الفسح والدخول إلى المملكة.
8 - وفي الشبكات العنكبوتية لهم مواقعهم الصريحة في العلمنة والإلحاد وحرب الدين والاستهزاء الصراح به.
وصاروا ينشرون فيها ما لا يستطيعون نشره في صحفهم ووسائل إعلامهم المعروفة.
9 - أما أخطر مجالات عملهم التغريبي والإفسادي للعقيدة وللأمة فهو المثلث العلماني الخطير، وهو:
أ - التعليم. ومحاولة إفراغه من محتواه الإسلامي إلى تعليم علماني، وما الهجوم على المناهج الشرعية ونقد عملية الحفظ، والدعوة إلى الاختلاط وابتعاث الشباب إلى بلاد الغرب، وطلب إلغاء سياسة التعليم، والدعوة إلى إلغاء التخصصات الشرعية من الجامعات والدعوة إلى حذف مقررات الإسلام واللغة العربية من التخصصات العلمية... إلا جزء من هذه الحرب.
ب - الإعلام. وقد قفز هؤلاء بوسائل الإعلام قفزات إفسادية سريعة تشتمل على نشر الأغاني والتبرج والاختلاط في البرامج وعلى نشر الفكر المنحرف، والهجوم بأشكال متفاوتة على الدين، وهذا في الإعلام الرسمي أما الصحف والإعلام الخارجي فحدث ولا حرج عن عبث هؤلاء بدين الأمة وعقيدتها وشريعتها وأخلاقها.
ج - المرأة. وقد رموا بثقلهم حتى تتحول إلى قضية يومية في كافة وسائل الإعلام، وأصبح إفساد المرأة وتبرجها واختلاطها بالرجال وتمردها على دينها وعلى ولي أمرها مطالب تتكرر عند هؤلاء كل ساعة وفي أية مناسبة.
10 - الدعوة إلى الوطنية والحوار الوطني بعد إفراغها من العقيدة. وقد تحول ذلك - وللأسف - إلى تمكين لأصحاب البدع وربان العلمنة أن يعلنوا عن آرائهم ومذاهبهم الفاسدة بكل جرأة.
11 - وأخطر ما يفعله العلمانيون وأصحاب هذه التيارات محاولات شق الصف الإسلامي من خلال:
1) الاستهزاء بالمشايخ والقضاة وهيئة كبار العلماء والإفتاء ورميهم بالجمود والتحجر والسخرية منهم.
2) إعلاء شأن كل من ينتسب إلى العلم إذا كان صاحب شواذ في أقواله وفتاويه، ونقل كلامه الذي يناسبهم ومدحه والثناء عليه، وإذا كان هذا يقال في الصحف علناً فماذا هم قائلون للشيخ إذا انفردوا به؟
3) تبني المدارس الإسلامية المنحرفة فهم يعظمون الرافضة ويلينون للصوفية، ويعلون من شأن المدارس العقلانية العصرانية ويرفعون شأن كل من ينتسب إليها.
4) الهجوم على المشايخ والدعاة الصادقين والحط من شأنهم في كل مناسبة، والتمكين من الردود عليهم.
وهذا واضح في الردود على المشايخ صالح الفوزان، وصالح اللحيدان، وسماحة المفتي، وبعض الدعاة.
هـ/ ومن مظاهر هذه الحرب على العقيدة:
1 - تشجيع الناكصين على أعقابهم حتى صاروا كتّاباً في صحف متعددة وضيوف منتديات إذاعية وتلفزيونية يستضاف هؤلاء على أنهم من كبار الكتاب والمفكرين وقد ركز هؤلاء الناكصون على أعقابهم على أمور:
أ - إظهار تجاربهم الشخصية السابقة بمظهر ساقط وسافل لما كانوا مستقيمين.
ب - الكذب على أهل الخير واختلاق الحكايات التي لم تقع وكل ذلك من باب التشويه لأهل الدين.
جـ - إبراز نكوصهم على أنه مراجعات فكرية عقلانية وتصوير ذلك على أنه عودة إلى المنهج الصحيح مع أنه منهج منحرف ساقط.(8/112)
د - شن الهجوم على العقيدة وحملتها في كل مناسبة وصارت مقالاتهم متخصصة في هذه الجوانب ولا تكاد تقرأ مقالة لواحد من هؤلاء أو تسمع له مقابلة أو مشاركة في ندوة إلا ولبّها وموضوعها الرئيس الهجوم على الثوابت والاستهزاء بالدين وبأهله والرفع من شأن كل صاحب بدعة وضلالة وفكر منحرف.
هـ - التعاون والتفاعل من العلمانيين في هذه المجالات فكل منهم يمدح الآخر ويرفع من شأنه تشابهت قلوبهم.
2 - ومن المظاهر المؤلمة - في المدة الأخيرة - وجود بعض من ينتسب إلى العلم أو من الشباب الذين نشؤوا على العقيدة الصحيحة - الذين مالوا أو تبنوا بعض مناهج أهل البدع.
مثل من مال إلى الصوفية وصار من دعاة هذا المذهب وهو يشعر أو لا يشعر.
ومثل من مال إلى المدرسة العصرانية وصار يقدم أفكاراً توافق أصولهم.
ومثل من مال إلى مذهب الأشاعرة وصار يدعو إلى مذهبهم ويغض من مذهب أهل السنة.
ويؤسفنا أن أهل البدع فرحوا بهذه الفئة وطاروا بها وبأقوالها في كل ناد، وصاروا يحتجون بهؤلاء على صحة مذاهبهم وبطلان مذهب وعقيدة أهل السنة.
ويا ليت هؤلاء - إن كانوا يفقهون ويريدون حقاً أن يدافعوا عن دينهم وعقيدتهم - يدركون مقدار جنايتهم على أمتهم وعلى عقيدة السلف والصف الإسلامي الذي فتحوا فيه ثغرات وثغرات، والله المستعان.
==============(8/113)
(8/114)
أطفالنا في خطر
جاءتني طفلتي الصغيرة مستنكرة على إحدى صديقاتها في الروضة رسم سحاب وفوقه صورة تزعم أنها "الله" - تعالى الله علواً كبيراً - وبقدر ما كانت طفلتي مستنكرة لهذا الأمر الشنيع تفاعلت معها وبينت لها خطر تشبيه الله تعالى بأحد من خلقه وأنه ليس كمثله شيء، فلا يصفه الواصفون ولا يمكن لأحد تخيله فهو الكبير ، المتعال ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، سبحانه وتعالى ، وبسّطت لها فهم هذه الأمور بقدر ما استطعت
ولكني وقفت برهة لأعرف سبب تصرف هذه الطفلة والذي سبقه تصرفات مشابهة من بعض الطالبات أثناء اشتغالي بالتدريس في المراحل الأولية ، حيث تأملت ما حولي من المؤثرات ومن الوسائل التي أطلقنا لها العنان لتصنع في أولادنا ما تريد فتوصلت إلى نتيجة وهي أن " أبناءنا في خطر" !! خطر عقدي وأخلاقي إن لم تتداركهم رحمة الله تعالى ، ثم حرص الأبوين وتكريس الجهود في حسن التربية والتوجيه.
ومن هذه المؤثرات: القنوات الفضائية بجميع برامجها الموجهة للأطفال.. والتي يقضي الأطفال معظم أوقاتهم أمامها دون حسيب ولا رقيب ! والبرامج التلفزيونية والأفلام الكرتونية ، والتي أظهرت الدراسات أن 29.6% منها يتناول موضوعات جنسية ، و27.4% تعالج العنف والإجرام ، و 15% تدور حول الحب بمعناه الشهواني !
يقول الدكتور (ستيفن بانا) الطبيب بجامعة كولومبيا: " إذا كان السجن هو جامعة الجريمة ، فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث " !!
يقول الدكتور شاكر مصطفى في كتاب ( بصمات على ولدي) : " أبناؤنا أبناء وسائل الإعلام التي افترست الأسرة لدينا افتراساً... "
من ناحية أخرى فإن كثيرا من المواقع التي خصصت للأطفال على شبكة الإنترنت تقدم ما يضر الأطفال أكثر مما ينفعهم ، مما يستوجب متابعة الوالدين لا سيما وأن كثيراً من الأطفال أصبحوا يعرفون كيفية الدخول على هذه المواقع ويتبادلون فيما بينهم أسماءها وعناوينها .
ولا ننسى هذا الكم الهائل من المجلات والقصص الموجهة للأطفال بالأسلوب العامي الركيك والتي تحمل بين طياتها محو الفضيلة وغرس الرذيلة وتعليم الجريمة والعنف.
إلى غير ذلك من وسائل إعلام هدامة تستهدف فلذات أكبادنا، والطفل - كما يؤكد خبراء التربية - ذو خيال واسع يتأثر كثيراً بما يسمعه ويشاهده في طفولته وخصوصاً المبكرة.
بالأمس القريب اكتشف الناصحون أن أطفالنا أصبحوا يلعبون القمار، ويعشقون " البوكيمون " !! وقبله نادي المصلحون بخطورة جهاز " البلاي ستيشن" الذي لم يدع بيت إلا دخله - إلا من رحم الله - بما يحويه من مظاهر الشرك والسجود للأصنام ونشر الصليب وخزعبلات السحر والشعوذة والقمار والموسيقى ومشاهد العري والفساد بالإضافة إلى أضراره الصحية كما أثبتها الأطباء والتي من أهمها مرض "الصرع" !!
أن أطفالنا يرون من خلال هذه الوسائل ما يهدم عقائدهم فيسمعون صوت الرعد ثم تنكشف السماء عن كائن أو دجاجة معها طبل، ويرون العاصفة تسير بأمر "شرشبيل" ويرون الأفلام الفضائية التي تتحدث عن الكواكب الأخرى وما تحويه من الحديث عن المستقبل بتخرصات لا أساس لها ويرون خلالها أشباح تظهر ليس لها تفسير عقدي .. إنهم يتعلمون من خلالها مشاهد السحر والشعوذة والكهانة حتى البرامج التعليمية لا تخلو من هذه اللقطات .. !!
كل ذلك ونحن في غفلة نهدر أموالنا، ونضحي بأبنائنا وثمار قلوبنا على مذبحة العولمة، والمسح الأخلاقي ومخططات الماسونية باسم التحرر والتقدم.
ومن هنا كان لا بد من الوعي والعمل لصد هذا الكم الهائل والسيل الجارف من هذا الغثاء، بأعمال إسلامية نقية وجهود فردية وجماعية لإنقاذ أطفالنا من هذا الخطر الداهم وذلك من خلال :
•تقوية البناء الأسري ، ودعم دور الأسرة في مجال التربية وتنفيذ الخطط الهادفة المتنوعة، وتكثيف التوعية والتأصيل العقدي لأولادنا والقرب منهم، وبذل الوقت والجهد في إصلاحهم والجلوس معهم، وصرفهم عن هذه الوسائل وتطهير المنازل منها ، وتقديم البديل المناسب .
•إنشاء مدارس ومعاهد إسلامية لتخريج الدعاة والداعيات المتميزين والمتفاعلين مع قضايا العصر .
•تكثيف البرامج الدعوية الخاصة بالأطفال والمراهقين، واحتواء الناشئة في فترات الصيف في مراكز صيفية موجهة ، ودور نسائية ، وغيرها من المؤسسات لصد هذه الحملات الإعلامية المكثفة .
•تنظيم الجهود وتكثيفها لإخراج أعمال إسلامية مميزة للأطفال ترفيهية، وتعليمية مقروءة ومسموعة ومرئية وعمل الدعاية اللازمة لها.
•بث الوعي لدى معلمي ومعلمات المرحلة الابتدائية بأهمية هذه المرحلة ، وحثهم على غرس العقائد في قلوب التلاميذ ، وتوعيتهم بهذا الخطر المحدق.
•إعداد دورات تربوية للآباء والأمهات والمربين.
•إعداد مسابقات من قبل المدارس ومكاتب الدعوة وغيرها مخصصة للأطفال وتعد لها الجوائز القيمة ، وتنتقى موضوعاتها بحيث تحقق الهدف المنشود .
•توعية أفراد المجتمع بأخطار هذه الأجهزة والوسائل وأهداف الأعداء وأساليب مكرهم ، وبيان مسئولية كل فرد في موقعه فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
===========(8/115)
(8/116)
أورام البناء الثقافي
فحين تنبض الثقافة بهمّ الأمة، وحين تمدّ الأمة الثقافة بمقومات صمودها وعوامل بقائها وأصالة منبتها ونبل مخبرها، وإذا توثَّقت العلاقة بين الطرفين؛ كان ذلك مدعاة لسيادتهما جميعاً، وإذا تهاوت تلك العلاقة فلا بقاء لواحدة دون الأخرى. وحينما يكون للأمة رسالة يحملها مثقفوها عبر أقنية الاتصال لإبلاغها دعوة للخير للعالم أجمع، يعيشون آنذاك حالة من الهمّ والقلق لأجلها. وإذا انتفى ذلك وفضل المثقفون سلك طريق غير معبَّد وأسلوب غير ممهَّد وطريقة ومنهج مرسوم بالعبثية والمصلحة الفردية، عند ذاك يظهر الخلل بين الجذر والساق، بين الأمة والثقافة، فلا الساق بقادر على السمو والعلو، ولا الجذر يستطيع وهبه مقومات شموخه، وتغدو العلاقة حالة من العقوق. وفي هذه الوريقات أضع مبضع الجراح على ورم البناء الثقافي، مستحثة المثقفين والمثقفات لمهمة استئصاله قبل أن يتشعَّب فيهلك الجسم الواهن.
الورم الأول: الفجوة الواسعة بين المثقف المحلي ومطالب ورغبات وهموم وتطور المجتمع، والمعنى المقصود: اتساع المسافة الزمنية بين المراحل التاريخية للتطور الثقافي، وهو أمرٌ قد يُلبس بعض المثقفين التهمة حين يقفزون قفزات واسعة متجاهلين المراحل التي يمرّ بها المجتمع دون وعي بأنَّ قفزاتهم قد تبعد بهم عن أرض الواقع.
الورم الثاني: ضعف الجانب الإبداعي لدى المثقف المحلي، حتى غدت التكرارية والتلقي من الآخرين سمت بعض المثقفين.
الورم الثالث: انتفاء الهمّ الثقافي الذي يدافع عنه المثقف ويسعى لإجلائه، فقد يدور في دائرة من النرجسية والخيالية أو العبثية أو الحداثية وما بعدها، وهذا الانتفاء يجعل مساهمات المثقف هزيلة ضعيفة لا تصمد أمام تيارات العولمة وأعاصير التغريب.
الورم الرابع: وضع حدود بين الثقافة العربية والإسلامية، وهي حدود تدلُّ على ضيق أفق واضعيها في فهمهم الشامل لمفهوم الثقافة الإسلامية؛ ممَّا يؤدي إلى تهميش الأصول الثابتة التي ترتكز عليها الثقافة الإسلامية، وبالتالي تحييد قضية الولاء والبراء.
الورم الخامس: استلهام تجارب وثقافات الآخرين دون غربلة لما ينالنا ويمسّ ثوابتنا، ويدخل في ذلك أيضاً المحاور الثقافية التي يدور حولها النص والمصطلحات والجمل التي تعارض أسسنا وقيمنا.
الورم السادس: سعى بعض المثقفين إلى الإيهام بأنَّ هناك خطاباً أنثوياً خاصاً مع ما يجرَّه ذلك من رفض لصيغ الأمر والنهي الواردة في الشرع، والتي يدخل في محتواها الجنسين؛ إذ طالما ـ في فهمهم ـ أنَّ للأنثى خطاباً يوجه لها، فهي غير ملزمة بالخطاب الآخر، وفي ذلك نكسة وعصيان.
الورم السابع: شعور بعض المثقفين أنَّ العادات والتقاليد عنصر كبح لإبداعاتهم، ولهذا فهم يستغلون الفرص للخروج من إطاراتها إلى عوالم أوسع ومجالات أفسح للتقليد والالتحاق بركب الآخر، حتى وإن قاده ذاك الآخر إلى مصير منبوذ، فلا هو ابن أمته، ولم يشأ الآخر أن يتبناه.
الورم الثامن: عدم إدراك بعض المثقفين للحدود التي يجب أن يقفوا عندها في محاولاتهم التجديدية وكتاباتهم الأدبية والتاريخية، بل وحتى العلمية، فهناك حدود لا تمس وثوابت لا تجس، يجب أن يقفوا عندها؛ فالذات الإلهية والعبادات والقرآن وسيرة الرسول وتراجم الصحابة والتابعين وعاداتنا الأصيلة ولغتنا العربية ليست مجالات للتغيير والتبديل والعبث.
الورم التاسع: حصر مفهوم الثقافة بالدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية، واعتقاد ذلك يُحجم مفهوم الثقافة ويضيّق أفق المثقف الذي هو إنسان مبدع.
الورم العاشر: المثقف مجدد، وهو إذا حمل همّ بيئته كان مفجراً لآمالهم معالجاً لأولادهم. وكثير من المثقفين لا يكونوا مماثلين للنابغة الجعدي أو الذبياني، وإنَّما تبدأ سيرهم الثقافية في صغرهم، فتتولاهم أسرهم رعاية واستنباتاً ورياً حتى تنهض هاماتهم الثقافية وتسمو سوقهم الإبداعية الإيجابية، ولا يتأتى ذلك إلا إذا أدركت أسرهم أنَّ مجتمعاً بلا ثقافة إيجابية أو مثقفين إيجابيين، سيستسلمون بلا وعي تحت وقع الإعجاب بالآخر.
الورم الحادي عشر: استعجال كثير من المبتدئين نشر إنتاجهم دون وعي لمدى نضجهم وكفاءتهم، ومن ثم قد تتلقاهم وسائل الإعلام بالدعاية والتلميع دون أن يكون ذاك المثقف قد حوى تجربة ثرة تمكنه أن يعرضها حيث يشمخ مغزاها ويسمو معناها مثلما يعلو إطارها اللفظي وبناؤها الشكلي.
الورم الثاني عشر: تجاوز بعض المثقفين أطر مجتمعهم، متناسين أنَّ الثقافة نتاج عقول الأمة، وهي أعظم راسم للهوية ومحدد للبناء المستقبل. وبمعنى أدق: كثير من المثقفين يتناسون أنَّ تمايز الثقافات يعني تمايز الأمم، وهو أمرٌ ينعكس على تمايز وجودها على الخارطة التاريخية.(8/117)
الورم الثالث عشر: سعى بعض المثقفين إلى العالمية ولو على حساب غموض تصرفهم وأطروحاتهم وعروضهم، فيفضلون كونهم في هوامش مجتمعهم على أن تكون نصوصهم الثقافية في هوامش العالم، مما يعكس وجود فجوة هائلة بينهم وبين الجماهير، فلا هم الذين أخذوا بيد الجماهير إلى العالمية وفق ثوابت وأصول، ولا هم الذين استطاعوا أن يدخلوا العالمية تحت مظلة ثقافية واضحة قادرة على الصمود. يقول شوقي عبدالأمير: "أنا لا أعترض أن يُقال عن شعري إنَّه شعري نخبوي؛ لأنَّه لديَّ هم في القصيدة، وحتى يواكب هذا الهم أي قارئ يجب أن يكون لديّ حقيبة معينة. أنا لا أعتقد أنَّ مهمتي كشاعر هو تحميس الجماهير أو إرضاؤهم، ولا أظن أنَّ الهدف العميق للشعر هو مواكبة الشعب بكل شيعاته وطوائفه بأحاسيسهم اليومية وعواطفهم المباشرة، هذا صعب في مشروعي الشعري الذي الهدف منه تأسيس رؤيا جديدة للعالم.. نحن مطالبون بأن نأخذ بعين الاعتبار بكتابة نص جديد، وإلا سنظل على هامش العالم، فالشاعر إما أن يقع على هامش المجتمع الذي هو فيه، أو يقع النص الشعري على هامش العالم، أنا أفضل أن أشتغل في هامش المجتمع من أجل نصّ شعري يقع في قلب السؤال الحضاري لا العكس" اهـ. (نقلاً عن: مجلة اليمامة، ع1592 ص266،265). وبعد، فإذا كان ذلك حصيلة فحص مبدئي للبناء الثقافي لجعله صامداً أمام محاولات فرض العولمة الثقافية، فإنني أخلص إلى بعض التوصيات:
* من الضرورة أن يولد المثقف في مجتمع ويرضع من مجتمعه وتنبثق أفكاره منه، وحيث تكون علاقته بالمجتمعات الأخرى والثقافات المغايرة علاقة احتكاك وصقل، لا ذوبان.
* من وظائف المثقف أن يجدِّد نفسه ويكثر من الإطلاع، وأن يُدعم بين جوانحه موضوعاً يُسير أطروحاته ومناقشاته، على أن ينبع ذلك الموضوع من حاجات بيئته.
* مثلما يدافع ساسة فرنسا وبريطانيا عن الثقافتين الفرنسية والإنجليزية من ذوبان بعضهما في بعض؛ يجب أن يقف مثقفونا نفس الموقف من الثقافة الإسلامية، بل إنَّ الأمر يجب أن يتعدى الدفاع إلى عرضها كنموذج خلاص من الضحالة الفكرية التي تفرق العالم، كيف وهي تحوي من مقومات الصمود ما لم يتوفر لغيرها، ومن المتوقع إذا دفعها أبناؤها إلى جدار العولمة أن تكون اللبنة الظاهرة فيه؟
* ضرورة أن يدرك المثقفون عامة، وأصحاب النظريات الثقافية خاصة، أنَّ لهم أن يمارسوا إبداعاتهم التجديدية في كل شيء إلا الثوابت.
* على المسارعين إلى العالمية أن يدركوا أنَّ الأدب الإنجليزي العالمي لم يكن عالمياً، إلا بعد أن ذاب في المحلية الإنجليزية، والأدب الفرنسي العالمي لم يكن عالمياً إلا بعد أن خرج من بوتقة اللغة الفرنسية، أو ليس حرياً بنا أن ندخل العالمية تحت مظلة الثقافة الإسلامية؟
وحفظ الله أمتنا.
============(8/118)
(8/119)
قلق من انخفاض عدد اليهود في العالم وخطر الحركات الاسلامية
نور الإسلام_ وكالات_ 8/10/2006_ يستعد دينيس روس رئيس مجلس ادارة " معهد تخطيط السياسة للشعب اليهودي " التابع للوكالة اليهودية، ورئيس مجلس التوجيه المهني فيه لتقديم التقرير السنوي الثالث الصادر عن المركز لرئيس الوزراء الصهيوني إيهود اولمرت. وسيطلع روس أولمرت على معطيات توصف في إسرائيل بأنها " مقلقة جداً " حول تناقص عدد اليهود في العالم والخطر الديموغرافي الناجم عن إمكانية فقدان اليهود لأغلبيتهم العددية في اسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة؛ إلى جانب تحذير من خطر الحركات الإسلامية في العالم ودورها في تفشي اللاسامية كما يزعم التقرير. فقد حذر التقرير السنوي الثالث للمعهد من مغبة التداعيات الخطيرة لتناقص عدد اليهود في العالم، والذي لم لا يتجاوز حالياً 13 مليون نسمة، بناء على معطيات الوكالة اليهودية. وأشار التقرير إلى أن إسرائيل تضم أكبر تجمع سكاني لليهود في العالم حيث يعيش فيها 5.3 مليون نسمة. وحسب المعطيات التي يوردها التقرير فإن عدد اليهود في العالم ينمو بنسبة قليلة جدا تؤول إلى الصفر سنويا. واعتبر التقرير أن المسؤول بشكل أساسي عن تدني عدد اليهود هو التعريف الذي تضعه الديانة اليهودية لمن هو يهودي، حيث يعتبر الانسان يهودياً إن كان قد ولد لأم يهودية، بغض النظر عن ديانة والده. وأشار التقرير الى أن اعتماد هذا التعريف ساهم في توجه عدد كبير من اليهود الى التحلل من اليهودية والاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، سيما في الولايات المتحدة. وينوه التقرير الى أن هذه القضية ظهرت بقوة مع موجات الهجرة الضخمة إلى اسرائيل التي بدأت في العام 1990 واستمرت حتى العام 1999، حين هاجر إلى إسرائيل مليون مهاجر، إذ أن المؤسسة الدينية لم تعترف بيهودية حوالي ثلث المهاجرين، إلى أن اضطر قسما كبيرا منهم للشروع بعملية تهويد جديدة، وحتى الآن هناك 300 ألف شخص في إسرائيل يعتبرون أنفسهم يهودا وترفضهم المؤسسة الدينية، وهناك قرابة 29 ألف مهاجر ضمن عائلات يهودية، حافظوا أو انتقلوا للديانة المسيحية، ولكنهم "ينعمون" بقانون الهجرة القائم. ويضيف التقرير أن عدد اليهود (المعترف بهم) في الولايات المتحدة 5,27 مليون نسمة، ولكن لو اعترف بيهودية اولئك الذين آباءهم يهود لكان عدد اليهود اليوم في الولايات المتحدة عشرة ملايين نسمة. وحسب معطيات الوكالة الصهيونية فإنه في العام 1970 كان عدد اليهود في العالم 12,633 مليون يهودي، ليصل هذا العدد في العام الجاري 2006، إلى 13,08 مليون نسمة، أي أن مجمل الزيادة خلال 36 عاما لم تتجاوز 3,6% فقط، في حين أن عدد سكان العالم في هذه الفترة ازداد بنسبة تتراوح ما بين 60% الى 70% على الأرجح. ويتبين من الإحصائيات، أن عدد اليهود في العام الجاري في إسرائيل بلغ أكثر بقليل من 5,3 مليون نسمة، وهذا ضعف عدد اليهود الذين عاشوا في إسرائيل في العام 1970، والذي بلغ حوالي 2,58 مليون نسمة، وهذا الارتفاع ناجم بقدر كبير عن الهجرة اليهودية الى أرض فلسطين.ويشير التقرير الى أنه خلال السنوات الخمسة عشرة الأخيرة لوحدها ازداد عدد اليهود في إسرائيل بفعل الهجلرة بحوالي 1,2 مليون نسمة. وأشار التقرير الى معطى بالغ الخطورة بالنسبة لليهود في إسرائيل وهو ان نسبة التكاثر الطبيعي لليهود في إسرائيل هي 1,5%، مقابل 2,6% لدى فلسطينيي 48. أما عدد اليهود في إسرائيل في العام 2020 فتتوقع الوكالة الصهيونية ان يرتفع إلى 6,228 مليون نسمة، أي بزيادة 17,3%. ولا يتوقع التقرير يبدو هجرات يهودية ضخمة أخرى إلى إسرائيل، وهذا لأن 90% من اليهود في العالم يعيشون في دول المستوى المعيشي فيها أعلى من المستوى في إسرائيل. أما عدد يهود الولايات المتحدة فقد تراجع من 5,44 مليون نسمة في العام 1970 إلى 5,275 مليون نسمة في العام الحالي 2006، وهذا التراجع ناجم بالأساس، وبنسبة كبيرة، عن انصهار اليهود في مجتمعهم الأمريكي، ونسبة ضئيلة منهم هاجرت إلى الكيان الصهيوني. ونوه التقرير الى أن فرنسا تضم ثالث اكبر تجمع لليهود في العالم، حيث يتواجد هناك 492 ألف يهودي، مسجلين تراجعا بحوالي 38 ألف نسمة عن العام 1970، ثم تأتي بريطانيا حيث يعيش اقل بقليل من 300 ألف يهودي، بعد ان كانوا 390 ألفا في العام 70. إلا أن أكبر عملية نزوح لليهود من أوطانهم كانت في دول الاتحاد السوفييتي السابق، التي هاجر منها منذ العام 1990 وحتى اليوم قرابة مليون يهودي، ففي حين عاش في الاتحاد السوفييتي في العام 1970 حوالي 2,151 مليون نسمة، فإن عددهم في دول الاتحاد اليوم لا يتعدى 366 ألف يهودي، بمعنى انه إلى جانب الهجرة الضخمة، هناك عدد أكبرمن اليهود انصهر في مجتمعه، ومنهم أيضا من هاجر إلى دول أوروبية، وبشكل خاص ألمانيا. ويعبر المعهد عن "قلقه"، من غياب سياسة ديمغرافية تهدف إلى تحسين وتيرة تزايد عدد اليهود في العالم بشكل أكبر، ومن بين ما يوصيه المعهد، تشجيع العائلات اليهودية على إنجاب طفل ثالث أو رابع.
خطر الحركات الإسلامية(8/120)
يعبر التقرير بشكل واضح عن قلقه من تداعيات الحرب الأمريكية على العراق. ويضيف " إن الوضع في العراق يثير انتقادات حادة متنامية في الولايات المتحدة، وعلى الأغلب سيكون لها انعكاسات على السياسة المستقبلية للولايات المتحدة، بما في ذلك سياستها في الشرق الأوسط، فعدم الاستقرار في العراق قد يحوله إلى أكبر بيئة للمجموعات المتطرفة العالمية، وأن يتحول العراق أيضا إلى حالة اختبارية لقدرات الغرب، ولهذا الأمر انعكاسات كثيرة على المستقبل ومن ضمن ذلك على الكيان الصهيوني.
ويشير التقرير الى القنبلة الموقوتة المتمثلة في ازدياد عدد المسلمين في دول الاتحاد الاوروبي. ويضيف " إن عدد المهاجرين المسلمين يزداد في الغرب، وصعوبات استيعابهم إلى جانب تطرفهم الديني، يشكل مشكلة ذات انعكاسات متوقعة على الجاليات اليهودية".. ويواصل التقرير " إن التغير المركزي في العمليات التفجيرية الأخيرة التي وقعت في بريطانيا وإسبانيا وهولندا وأماكن أخرى في أوروبا يكمن في حقيقة ان هذه التفجيرات تم تنفيذها بمساعدة وتخطيط مسلمين أوروبيين، أبناء الجيل الثاني للمهاجرين الذين ولدوا ونشأوا في أوروبا".. ويهاجم التقرير الدين الاسلامي قائلاً " أن المساهمة الأساسية للإسلام المحافظ في تنمية اللا سامية تكمن في الدعاية المعادية لليهود من النوع القديم ضمن: سلسلة كتب ومواقع انترنت ومواعظ في المساجد، والقصة المحزنة حول علاقة النبي محمد بيهود المنطقة العربية، ومكانة اليهود كدين أقلية وضيع في الشريعة". . ويواصل التقرير مزاعمه "إن المعركة المعادية لليهود تتسع، وتشمل في هذه الفترة "برتوكولات حكماء صهيون"، التي تظهر بحلل جديدة في الشاشات العربية تقريبا سنويا، وتنتشر الكتب في الأحياء الإسلامية في أوروبا"..
كما يدعو التقرير بإسهاب الى مواصلة احياء ذكر ى ما اسماه ب " المحرقة " التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، ويوصي التقرير بتنظيم حملات دعائية واعلامية لتذكير العالم بالمحرقة عن طريق زيادة النصب التذكارية والمعاهد والمتاحف التي تخلد ذكراها.
التكامل مع اسرائيل على صعيد العلاقات الخارجية:
يدعو التقرير الى أن يواصل اليهود لعب دوراً مؤثراً على الأحداث في العالم. ويضيف التقرير " فهناك فرصة ليتحول الشعب اليهودي إلى لاعب هام أكثر بالشكل الذي يلائم أجواء العولمة، هذا من جانب، ومن جانب آخر (استغلال) كِبَر حجم وظيفة الحضارات على الصعيدين العالمي والدولي. ويحث التقرير على تعزيز علاقات اليهود ومنظماتهم بقوى عظمى صاعدة، وتحديداً الصين واستغلال الفرص لتحسين العلاقات مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي. ويحث التقرير على ضرورة استغلال التطورات السكانية في الولايات المتحدة سيما ازدياد عدد الأمريكيين من أصول أسبانية ومحاولة كسب اليهود لهم. ويدعو التقرير الى رفع مستوى عمل المنظمات اليهودية أمام الأمم المتحدة وتنظيمات دولية "من أجل الحصول على إنجازات أفضل".
==============(8/121)
(8/122)
السعوديات قابضات على الجمر!!!
أنى لأتساءل وحق لي هذا التساؤل فأنا امرأة سعودية تحمل بين جنابتها حباً لهذا الوطن الذي كان وسيبقى مهداً لنشر الدين الإسلامي .
وتساؤلي : هل حقوق المرأة السعودية صُمت عنها الآذان , وكُممت منها الأفواه, وأغلقت دونها القضبان !! فلامناص.... إلا أن تقف أحداهن على جسر الملك فهد على الحدود مع البحرين حاملة لوحة تطالب فيها بحقوقنا المهضومة!!
ولكن تساؤلي سمج وجه " حقوق المرأة" في عيني , وأثقل حديثها في مسمعي !! لأن الكاتبة المعنية (وجيهة الحويدر) وهى المعروفة بأطروحاتها الفجة من القهر الأنثوي لنسائنا ,والقمع الذكورى لهنّ !!قد استمرأتها , واستعذبت طعمها , واستطابت مذاقها.. وهى في الحقيقة أطروحات لو كشفنا عنها لوجدناها خراباً وأسطراً يباباً ..لاتهب فيها ريح ولا يتحرك فيها شجر؟؟؟ معللةً ما يصيبنا بسبب التعصب الديني لمرجعياتنا الدينية السنية ؟؟؟!!! واليك ما في أطروحاتها:
(1)اتهامها للمرأة السعودية :
• تقول عن المرأة السعودية "أشباه نساء , مؤودات حتى النخاع"
• "بداخل كل امرأة سعودية صنفين من الخوف داخلياً وخارجياً, أما الداخلي فمصدره سلطة الأسرة أو القبيلة وغالباً ما يتجسد ذلك الخوف في شخص ولى أمرها , السعوديات مستضعفات مهما علا شأنهن"مقال مالذى تخشاه المرأة السعودية.
• " لم أعرف أنها إنسان , لم يعلمني أحد أنها إنسان, الإنسان لايخلق من ضلع أعوج وليس نجساً بعض الأيام" مقال: هل المرأة إنسان؟
• " اذا كانت إنسانا لماذا لم ينصفها ربها في شيء مقال: هل المرأة إنسان؟
• المرأة حسب تفسيرات الذكور" عورة" طوال الوقت, و"نجسة" في بعض الأوقات, لكنها "حرث" للرجل يأتيها متى شاء , المرأة " ناقصة عقل ودين"مقال: من أين تبدأ الدائرة؟
• الوعود التي أعطيت لكن ياسعوديات كثيرة بينما حالكن ما زال مزري ومتردي منذ عقود؟ مقال: الى متى ستنتظرن ياسعوديات؟
• لأن أرواح النساء السعوديات رخيصة برخص التراب , لذلك تزهق دون ان يلتفت إليها أحد؟ مقال: الى متى ستنتظرن ياسعوديات؟
• الأفارقة الأمريكيون عبيد وأيدي عاملة مجانية، حالهم كحال معظم النساء السعوديات لا يملكن حتى أجسادهن. مقال: فضوها سيرة.
(2) اتهامها لثوابتنا الدينية:
*السلطة الدينية هى التي تتحكم فى أكثر قضايا المرأة , وتشدد القبضة عليها. مقال: مالذى تخشاه المرأة السعودية.
*وتقول "المرأة السعودية تصارع الويلات من ثلاث مؤسسات: الأسرية , الدينية,السياسية محاطة طوال حياتها بأسوار البيت والنقاب, ونقط التفتيش, والخطوط الحمراء. مجلة شعاع الإلكترونية. 2005-08-29 (3)دعوتها لتبنى المواثيق الدولية:
فقد قالت "اذا أرادت المرأة العربية ان تخرج من الدائرة المغلقة عليها ان تنطلق من المواثيق الدولية التى تعنى بحقوق المرأة" في كلمة لحفل جمعية المرأة البحرينية بتاريخ 10 مارس 2005.
وهذه المؤتمرات الدولية هى التي نصت مؤخرا على ترسيخ مفهوم الجندر(Gende r Identity) وهو مصطلح مضلل وقد ظهر لأول مرة في وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان 1994 في (51) موضعا، وفي وثيقة بكين 1995، حيث تكرر مصطلح الجندر (233) مرة.
ومن أهدافهم:
*إلغاء دور الأب في الأسرة من خلال رفض (السلطة الأبوية),
*رفض الأسرة والزواج,
*ملكية المرأة لجسدها,
*رفض الأمومة والإنجاب,
*إباحة الإجهاض,
*الشذوذ الجنسي,
* بناء الأسرة اللانمطية,
* عولمة المرأة.
ولقد انعكس هذا المفهوم "للحرية" في المواثيق التي صدرت عن هذه اللجنة CEDAW
يجعل معارضة الشذوذ الجنسي -حتى ولو برسم كاريكاتيري - عملا يعرض صاحبها للمساءلة القانونية، لكون هذه المعارضة مُعارضة لحقوق الإنسان . فالأطروحات في كتابات وجيهة الحويدر مما يطبل له هؤلاء ويزمرون للدلالة على سوء أوضاع المرأة السعودية!!!
قامت اليونيفم (صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة) بتدشين شبكة معلوماتية حديثة خاصة بالمرأة تدعى "شبكة المرأة العربية". ويتكون الموقع من صفحات إلكترونية باللغتين العربية والانجليزية تحتوى على أحدث الدراسات والأبحاث .
فماذا كان نصيب المرأة السعودية !!
لقد قاموا بنشر مجموعة قصصية لهيام المفلح" حروف مسروقة" بتاريخ ونشرتها أيضا الميدل ايست , 2003-03-04
فماذا تقول فيها الكاتبة: والتي ترينا أزمة المرأة العربية ـ في عيني الكاتبة- حيث يعاملها المجتمع على أنها" شيء" وليس إنسانا يشعر, ويحس, وله وجوده المتحقق والمختلف ..
حين ولدت ابنتي أخبرتني الوجوه المقطبة حولي اننى ولدت "شيء" غير مرغوب فيه..وحين تعي ابنتي ما حولها آمل الا تكتشف أنها " شيء" غير مرغوب فيه "زقزق الولد في صحراء بيتي ..
شهادات التقدير، وأوسمة الرضا، وبطاقات الحب تقاطرت عليَّ تهنئني بهذا الإنجاز الرائع ..
أحاطوني برعاية ذوّبت جزءاً من إحساسي بالهامشية ..
فهذه محاولات مفضوحة من هذه المنظمات للانتقاص من السعوديات, وطرح ادعاءات خالية من الصحة ساهم فيها السعوديات أنفسهن للأسف, مع علمهن بما يكنه الغرب للسعوديات من عداء خاص متهماً الأسلام بأنه قمع حقوقها , وقهر إنسانيتها!! :(8/123)
• تقول أخرى" لم يريدون تغييب دورها في الحياة باعتبارها عار على مجتمعها وان صوتها وصورتها عورة ولهذا يجب أن تقبر وهي على قيد الحياة حتى لا يراها الآخر ؟ مقال لنوال اليوسف :ماذا يريدون من المرأة السعودية؟
• شخصية المرأة السعودية، محصورة في نمطية تقليدية، منعتها منذ البداية من المشاركة الفعلية في القاعدة الأساسية لبناء المجتمع. يمكن القول انه وبالرغم من التعليم الذي حظيت به المرأة السعودية، الا انها لم تقترب من مفهوم الوعي بمعناه الحضاري التطوري !!ثريا الشهري مقال : المرأة السعودية بين التنظير والتطبيق .
• أما هذه التي ترى أنها حققت بصمة في الساحة السعودية لمدة عشرين سنة فقالت:انا أستخدم الجنس للوصول الى أغراض نبيلة, ويجب ان نعلم الجنس في المدارس من المرحلة الإعدادية؟؟ زينب حفني برنامج اضاءات 29-ربيع الثاني 1427
هذا شيء من أطروحات بعضهن الجادة!!! , والتي تساهم في احتواء بعضاً من جوانب أزمات المرأة كالبطالة, والفقر , والعنوسة , والطلاق ,.؟
وأنا لا أدعى الكمال للمرأة السعودية , نعم لديها نصيبها من المشكلات والهموم بل ان مشاكلها وهمومها لا تعدو أن تكون جزء لا يتجزأ من مشاكل أخواتها العربيات
منها:
العنوسه: أكدت دراسات صادرة عن وزارة التخطيط أن ظاهرة العنوسة امتدت لتشمل حوالي الثلث من الفتيات في سن الزواج , وأن عدد اللواتي تجاوزن سن الثلاثين بلغ مليون و529 فتاة.
الطلاق: في السعودية صاحبة اكبر كثافة سكانية في الخليج فقد وصلت نسب الطلاق في الرياض وحدها إلي 35,3%.
قلة فرص العمل :ففي تقرير عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار أن هناك ثلاثة ملايين امرأة عاطلة عن العمل في السعودية.
العنف المنزلي:فبحسب التقرير الصادر عن البنك الدولي أن 20% من النساء في العالم تعرضن للعنف المنزلي؟؟فلا يمكن بحال من الأحوال تبرئة المرأة السعودية من هذا العنف والصادر دوماً عن فئة معينة من الرجال؟؟ وجميعها نسب قد تكون مألوفة اذا ما قورنت بما تعانيه أخواتها فى الدول المجاورة فهذه جرائم الشرف أكبر دليل !!
ففي باكستان وفقاً لهيئة حقوق الإنسان والدعم القانوني شهدت خمس السنوات الماضية مقتل (4770) فتاة باسم جرائم الشرف!
وإحراق (1570) امرأة!
وفي فلسطين: في تقرير لوزارة المرأة أن (71) جريمة قتل للنساء على خلفية جريمة الشرف!
وفي سوريا: في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة تُصنّف فيه سورية بين أكثر خمس دول في العالم تُرتكب فيها جرائم الشرف!.
ومع ذلك لا نسمع من يكتب عنهن بالشكل المأساوي الذي نراه فى السعوديات؟!!
أما واقعها :
التعليم: حققت السعودية منذ الستينات تقدما كبيرا في مجال تعليم الإناث. بلغ عدد الخريجات من الجامعات والمعاهد النسوية في البلاد ما يقل عن 78000 امرأة فى عام2000 , وفى التعليم بلغت المرتبة الثامنة بنسبة 62.8% تليها السورية في المرتبة التاسعة , والتونسية في المرتبة العاشرة , ومن ثم المصرية.
وقد اختار معهد العالم العربي بباريس الفيزيائية السعودية البروفيسور( ريم الطويرقي (أستاذة الفيزياء وقال رئيس الأبحاث بالمركز القومي للبحوث ورئيس المرصد الفلكي الفرنسي، المشرف العلمي على التظاهرة برينو عبدالحق كيدردوني قال: يأتي هذا التكريم للتأكيد على دور المرأة السعودية بالذات في هذا الحقل المعرفي الصعب.(جريدة الوطن 1805(
الاقتصاد: ووفقا لمنظمة العفو الدولية تمتلك النساء 390ر16 مصلحة تجارية، فيما تمتلك الإناث 40 %بالمائة من الثروة الخاصة في المملكة أكد تقرير للمؤسسة السعودية للاستثمار ان سيدات الأعمال فى الاقتصاد السعودي يقدرن بنحو 2500 ,وفى الانتخابات الأخيرة للغرفة التجارية فى جدة ترشحت امرأتان للعضوية فيها. . التعليم الديني: تلاقى مدارس التحفيظ إقبالا كبيراً من النساء فقد بلغ إجمالي مدارس تحفيظ القرآن الكريم النسائية بمنطقة الرياض 226مدرسة يدرس بها 53.000طالبة ويدرسهم أكثر من (2269) معلمة وإدارية.
الأحزاب السياسية: ترى المرأة ان الخوض فى التجربة السياسية لا طائل منه مع قدم تجارب المرأة فى الدول العربية ففي مصر مثلاً لم تقبل الأحزاب علي ترشيح السيدات في قوائمها في الانتخابات البرلمانية مع تزايد إقبال المرأة علي الترشيح من 87 سيدة عام 1995 إلي 121 سيدة عام2000 ومع ذلك ظلت ترشيحات الأحزاب للسيدات اقرب إلي الصفر ؟؟؟, كما لم تسجل المرأة الكويتية أى نجاح فى الأيام الماضية ؟؟
ومع كل هذه الإنجازات ستبقى المرأة السعودية إنسانة كاملة الأهلية , ومحترمة كزوجة , ومربية صانعة للأبطال. صانت سمعتها عن الأغاليط ,وعفّت جسدها عن الأنظار, تخفق لها القلوب تقديراً وإجلالا, شامخة في وجه كل الصعوبات التي تواجهها من أعداءها في الخارج ,وبعض بنات جنسها في الداخل , أفلا نعتبرها بعد ذلك من القابضات على الجمر؟!!!
==============(8/124)
(8/125)
منظمة التجارة العالمية وآثارها الثقافية
وموقف المملكة فيها
أولاً : تعريف عام بالمنظمة :
• نشأت المنظمة مع نهاية الجولة الثامنة من مفاوضات اتفاقية الجات GATT ( جولة الأورجواي : 1986 ـ 1994م ) والتي انتهت في مراكش لتبدأ عملها في 1/1/1995م باسم منظمة التجارة العالمية (WTO) ، فهي الوريث الحقيقي لاتفاقية الجات ( الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة )، التي نشأت عام 1947م فأصبحت المنظمة الجديدة هي المنظم والمنفذ والمراقب الوحيد لأحكام والتزامات واتفاقيات التجارة الدولية.
• تهدف المنظمة إلى تحرير التجارة الدولية بواسطة إيجاد نظام تجاري دولي متعدد الأطراف معتمد على قوى السوق ( العرض والطلب ) ، من خلال إزالة القيود والعوائق التي تمنع تدفق حركة التجارة عبر الدول معتمدة على مبادئ رئيسية هي : تجارة بدون تمييز ( شرط المعاملة الوطنية ، شرط الدولة الأولى بالرعاية ) ، تجارة حرة من خلال التفاوض ( خفض أو إلغاء الرسوم الجمركية والقيود الكمية وفتح الأسواق ) ، تعامل تجاري قابل للتوقع ( تثبيت الالتزامات والشفافية ).
• تغطي المنظمة بأحكامها واتفاقياتها مجالات وأنشطة كثيرة ومتنوعة أكثر مما كانت اتفاقية الجات تغطيها وهي : تجارة السلع وعددها / 7177 / سلعة وتحكمها اتفاقية الـ(GATT94) ، وتجارة الخدمات وتشمل 12 قطاعاً رئيسيا و155 قطاعاً فرعيا وتحكمها اتفاقية الـ(GATS) ، وحقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة بالإحالة إلى أربع اتفاقيات رئيسية متعلقة بهذه الحقوق من خلال اتفاقية الـ(T r IPS) وهذه الاتفاقيات الثلاث هي محور اتفاقات منظمة التجارة العالمية(WTO) .
• يحتوي النظام الأساسي للمنظمة على أكثر من 60 اتفاقية ومبدأ وملحق ومذكرة تفاهم ( مطبوعة حاليا في 34 مجلداً ) ، وأهمها (28) اتفاقية متعددة الأطراف تشمل : ( في مجال السلع : الزراعة ، المنسوجات والملابس ، العوائق الفنية أمام التجارة ، الصحة والصحة النباتية ، الفحص قبل الشحن ، شهادات المنشأ ، تراخيص الاستيراد ، الإجراءات الوقائية الخاصة ، مكافحة الإغراق، التجارة ، وفي مجال الخدمات (6 اتفاقيات ) ، وكذلك مجال حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة وغيرها .
• منظمة مستقلة وليست إحدى منظمات الأمم المتحدة ، يحكمها أعضاؤها ومقرها الرئيسي في جنيف وليس لها فروع ، ويعمل فيها حاليا ( 600 ) موظف ، وميزانيتها السنوية تتجاوز / 160/ مليون فرنك سويسري ( حوالي 130 مليون دولار ) ، ويتم تمويلها من خلال اشتراكات الدول الأعضاء .
• يبلغ عدد الأعضاء الحاليين 150 دولة ، منها 127 دولة كانت أعضاء في اتفاقية الجات و23 دولة انضمت فيما بعد وفق أسلوب التفاوض ، وآخر دولتين انضمتا قبل توقيع المملكة هما نيبال وكمبوديا ، وآخر دولة انضمت للمنظمة بعد المملكة هي مملكة تنجا في قارة أوقيانا .
• أعلى سلطة في المنظمة هي المؤتمر الوزاري (Ministe r ial Confe r ecnce ) والذي يمثله وزراء التجارة والاقتصاد في الدول الأعضاء ، ويختص هذا المؤتمر باتخاذ القرارات الحاسمة للمنظمة وينعقد كل سنتين ، ويعمل كحكومة للعالم في مجال التجارة .
• للمنظمة مجلس عام أو مجلس عمومي (Gene r al Council ) يقوم مقام المؤتمر الوزاري في فترات عدم انعقاده ، وأمانة عامة (سكرتارية) ، ومدير عام ، وله أربعة نواب ، يتفرع من المجلس العام ثلاثة مجالس رئيسية ، وهي مجلس التجارة في السلع ، ومجلس التجارة في الخدمات ، ومجلس خاص بالأمور التجارية المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية ، ويتبع لهذه المجالس العديد من اللجان ومجموعات العمل .
• يجتمع المجلس العام على هيئتين : هيئة جهاز لمراجعة السياسات التجارية ومتابعة المراجعات العادية للسياسات التجارية لكل دولة ، وهيئة جهاز لفض المنازعات التجارية ومتابعة إجراءات حسم المنازعات ، و تؤكد المنظمة على أهمية الحلول الودية بين الدول في المنازعات التجارية ، ولذلك فإن ما يقارب ثلثي القضايا المرفوعة للمنظمة تحل ودياً .
• عقدت المنظمة حتى تاريخه ستة مؤتمرات وزارية الأول في سنغافورة(1996م)، والثاني في جنيف (1998م) والثالث في سياتل (1999م) والرابع في الدوحة (2001م) والخامس في كانكون بالمكسيك ( 2003م ) والسادس في هونج كونج 2005 م ، ويعتبر المؤتمر الوزاري الثالث في سياتل ( 1999م ) ، والمؤتمر الوزاري الخامس ( كانكون 2003م ) من المؤتمرات الفاشلة للمنظمة ، ولم يتم خلالهما اتخاذ أي قرارات حاسمة ، وكان السبب الرئيسي في ذلك تكتل الدول النامية وتنسيق مواقفها أمام تعنت وممارسات الدول المتقدمة ، ورفضها تقديم أي تنازلات في الكثير من القضايا التي تهم الدول النامية .(8/126)
• يعتبر المؤتمر الوزاري الرابع في الدوحة ( 9 ــ 14/11/2001م ) أهم مؤتمرات المنظمة ، حيث تم الاتفاق خلاله على إطلاق مفاوضات شاملة في الكثير من المواضيع ( 21 موضوعاً ) سميت (أجندة الدوحة للتنمية) ، وشكلت لها لجان خاصة ترجع إلى لجنة عامة سميت بلجنة المفاوضات التجارية الشاملة ( TNC ) وهدفها المزيد من تحرير التجارة بطرح مبادرات جديدة أخرى كمعايير العمل / والتجارة والبيئة / والتجارة والاستثمار / وخدمات الطاقة / وتسهيل التجارة / والتجارة والصحة / والتجارة والتقنية / والقواعد الاقتصادية .
• يوجد حالياً اثنتا عشرة دولة عربية عضواً في المنظمة وهي: ( المغرب ، تونس ، مصر، موريتانيا ، جيبوتي ، الكويت ، الإمارات العربية المتحدة ، قطر ، البحرين، الأردن ، وعمان ، وأخيراً السعودية) ، وهناك 24 دولة تفاوض حالياً للانضمام للمنظمة منها أربع دول عربية وهي : ( لبنان ، الجزائر ، السودان ، اليمن) .
• الدول الراغبة في الانضمام تتقدم بطلب للمنظمة ، وعند الموافقة المبدئية يطلب منها تقديم وثيقة شاملة عن سياسيات الدول التجارية والمالية والاستثمارية وحماية حقوق الملكية الفكرية والنظام القضائي العام وطرق التقاضي وسبل التظلم كما تقدم أعضاء فريق التفاوض الذين يجب أن يكونوا من موظفي الدولة الرسميين .
• بعد ذلك يتم تشكيل فريق عمل من ممثلي الدول الراغبة في المشاركة ممن تربطها علاقات تجارية مميزة مع الدول الراغبة في الانضمام ويحدد له رئيس ، وذلك للإشراف على عملية المفاوضات ، ومناقشة تقرير فريق العمل ( وثيقة أو برتوكول الانضمام ) ويختلف عدد الدول في فريق العمل حسب الثقل الاقتصادي للعضو المستجد فبينما كان فريق العمل المعني بانضمام تايوان 26 دولة وعمان 23 دولة والأردن 19 دولة كان العدد في حالة روسيا 63 دولة ، والصين 58 دولة ، والسعودية 52 دولة ، وخلال فترة المفاوضات تمنح الدولة صفة مراقب لحضور اجتماعات لجان المنظمة ومؤتمراتها .
• الانضمام للمنظمة يمر عبر ثلاثة مسارات تفاوضية متوازية ، فبعد تقديم المعلومات اللازمة عن جميع أوجه الاقتصاد والأنظمة وتقديم العروض الأولية الخاصة بالنفاذ لسوق السلع والخدمات تجري مفاوضات بين مجموعة من الدول الأعضاء وبين الدولة المستجدة تسمى مفاوضات عديدة الأطراف ( plu r ilale r al ) للتأكد من تطابق أنظمتها مع اتفاقيات المنظمة الأساسية ، وفي نفس الوقت تجري المفاوضات الثنائية ( Bilate r al) بشأن هذه العروض حتى يتم الاتفاق النهائي الذي يوضع في وثيقة تسمى الجداول الموحدة النهائية للالتزامات في السلع والخدمات ، يُضمن في تقرير فريق العمل الذي يتم إقراره من خلال مفاوضات متعددة الأطراف مع جميع الدول الأعضاء ( multilate r al) بحيث يتضمن بروتوكول الانضمام الوثائق الثلاث المعبرة عن نتائج المفاوضات الثلاث المتفق عليها وهذه الوثائق هي : جداول عروض السلع والخدمات الموحدة للالتزامات( Unified Schedules of Commitments )/ وتقرير فريق العمل ( Wo r k Pa r ty r epo r t ) / والأنظمة واللوائح التنفيذية الصادرة عن الدولة ( Legislation ) .
• تتركز رغبات الدول الأعضاء في المنظمة أثناء المفاوضات مع الدولة المستجدة على فئات السلع التي تنتجها هذه الدول ، حيث تتركز طلبات الوفد الأمريكي عادة على القمح والشعير والذرة والمعدات الثقيلة والأجهزة والطائرات والسيارات ، والإتحاد الأوربي على منتجات اللحوم والألبان والحديد والصلب والمنسوجات ، وسويسرا على الساعات والمجوهرات ، والهند وسريلانكا وتايلاند على الشاي والأرز والفواكه ، واليابان وكوريا وماليزيا على الأجهزة الكهربائية والإلكترونيات والمعادن والأخشاب ، والنرويج على الأسماك ، وتركيا على المنسوجات والسجاد ، ونيوزلندا واستراليا على المواد الغذائية والحبوب وهكذا بقية الدول.
• أصبحت متطلبات الانضمام للمنظمة الجديدة أكثر تعقيداً وأشد تكلفة وذلك لأن الدول المؤسسة لهذه المنظمة خاضت (8) جولات من المفاوضات الشاملة الشاقة عبر نصف قرن (1948-1994م) حتى نجحت في الاتفاق على النظام التجاري العالمي الذي يعظم لها مكاسبها التجارية ويحقق لها النفاذ للأسواق ، ولذا فإن الدول المتأخرة مطالبة بالانصياع لأحكام هذه الاتفاقيات وتقديم التزامات وخوض مفاوضات طوية وشاقة ، فبينما احتاجت الكويت التي انضمت عام (1952م) إلى يوم واحد فقط نجد أن الصين مثلاً استغرقت 15 سنة ، وتايوان 12 سنة وروسيا 10سنوات والجزائر مازالت تفاوض منذ 15 سنة ، أما السعودية فاستغرقت 8 سنوات ، عقد خلالها فريق العمل المكلف بالتفاوض معها 14 اجتماعاً بدأت في مايو 1996م ، وانتهت في أكتوبر 2005 م .(8/127)
• ومن حيث الالتزامات نجد أن الكويت التي انضمت مبكراً لاتفاقية الجات قبل المنظمة ثبتت رسومها الجمركية على كافة السلع عند مستوى 100% بينما اضطرت قطر والإمارات اللتان انضمتا للمنظمة عام (1995م) و (1996م) على التوالي تثبيت سقوفها الجمركية عند مستوى لا يزيد في المتوسط عن 15% وفي مجال الخدمات التزمت البحرين التي انضمت عام (1995م) بفتح 44% من سوق الخدمات للاستثمار الأجنبي في حين عمان التي انضمت عام (1999م) فتحت بنسبة 72% ، أما الأردن والصين اللتان انضمتا عام 2001م فبنسبة 86% ، وقل مثل ذلك في حق استخدام "معايير الحاجة الاقتصادية" في محال الخدمات التي حصل عليها الاتحاد الأوربي بينما لم تحصل عليها الدول المتأخرة في الانضمام .
• المنظمة بهذا العدد من الدول الأعضاء تشكل حوالي 80% من مجموع دول العالم وتستحوذ على 89% من التجارة الدولية في قطاعات السلع والخدمات والأفكار ، وعلى 90% من التعاملات المالية و 93% من خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات و 97% من حقوق الملكية الفكرية و 92% من الخدمات المالية والتأمين ، و 90% من خطوط الملاحة الجوية و 88% من مشتروات العالم في الطاقة والألمنيوم والحديد والبتركيماويات .
• والمنظمة بهذا الهدف - وهو تحرير النظام التجاري الدولي - تعتبر الضلع الثالث من أضلاع مثلث العولمة الاقتصادية مع صندوق النقد الدولي (IMF) الذي يشرف على تحرير النظام النقدي الدولي والسياسات النقدية ( أسعار الصرف / موازين المدفوعات / العجز والمديونية الخارجية / أسعار الفوائد / السقوف الائتمانية للبنوك ) ومع البنك الدولي للإنشاء والتعمير (IB r D) والذي يشرف على تحرير النظام المالي الدولي ومساعدة الدول النامية ( تقديم قروض طويلة الأجل / التخصيص / الاستخدام الأمثل للموارد ) .
ثانياً : مجالات التجارة الدولية وموقف المملكة فيها :
مجالات التجارة الدولية لدى المنظمة تتضمن ثلاثة قطاعات هي : قطاع السلع و قطاع الخدمات و قطاع الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية ، وفيما يلي تعريف مختصر لهذه القطاعات ، وبيان موجز لموقف المملكة فيها حسب ما ورد في وثائق بروتوكول اتفاق المملكة مع المنظمة :-
1- قطاع السلع :
• السلع الصناعية والزراعية المصنفة لدى المنظمة تبلغ 7177 سلعة ، وتحكم تجارة السلع الاتفاقية العامة بالتعريفات الجمركية والتجارة(الجات1994GATT ).
• يخضع تنظيم التجارة الدولية في قطاع السلع إلى 20 اتفاقية و 3 مذكرات تفاهم وعلى رأسها الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة ( الجات 47 ) والتي أبرمت بين الأطراف المتعاقدة عام (1947م) وعدلت لتكون إحدى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية ( الجات 94 ) عام 1994م .
• من أبرز المشكلات بين الدول المتقدمة والدول النامية في تجارة السلع ؛ أن الدول المتقدمة تطالب الدول النامية بتخفيض السقوف الجمركية على الواردات الزراعية بينما تطالب الدول النامية الدول المتقدمة بتخفيض الدعم الزراعي وعدم دعم الصادرات .
• ستنخفض الرسوم الجمركية على 12% من عدد السلع البالغة 7177 خلال خمس سنوات من انضمام المملكة وعددها 870 سلعة ، 6% منها من البداية والباقي خلال خمس سنوات تدريجياً .
• من البداية ستنخفض رسوم بعض السلع من فئة20% إلى 15% مثل البلاستيك والورق والحديد والأثاث ، وإلى 10 % مثل زيوت المحركات ، وإلى 8% مثل الحلويات و الشوكولاتة وأنابيب الحديد.
• بعد خمس سنوات سيتم تخفيض الرسوم الجمركية من فئة 20 % وفئة 12% إلى 6.5 % مثل الأسمدة والبويات والصابون والعطور ومنتجات البلاستيك .
• التزمت المملكة بالإعفاء من الرسوم الجمركية لبعض السلع مثل المواد الصيدلانية وأجهزة تقنية المعلومات وبعد ثلاث سنوات سيتم إعفاء أجهزة الحاسب الآلي ولوازمها وأجهزة الاتصالات الهاتفية ( ثابت وجوال) .
• سوف تلغى جميع الرسوم النوعية ، التي كانت تطبق كحد أدنى للتحصيل الجمركي على بعض السلع باستثناء الدجاج والبيض والتبغ .
• تبلغ السلع الزراعية 1320 سلعة تعادل 18 % من إجمالي السلع منها 165 سلعة صنفتها المملكة سلعاً حساسة نجحت في تحديد سقوف جمركية جيدة لها وهي أهم السلع الزراعية الرئيسية التي تم الاستثمار فيها خلال السنوات الماضية مثل التمور / القمح / الدجاج اللاحم / بيض المائدة / الحليب طويل الأجل / بعض الخضار والفاكهة.
• *90% من السلع الزراعية تزيد رسومها الجمركية الملتزم بها مع المنظمة " المثبتة " على الرسوم المطبقة ، ويبلغ متوسط الرسوم على السلع الزراعية حوالي 15% وهذا يزيد على الرسوم المطبقة بمقدار الضعف .
• بعض الرسوم الجمركية المطبقة على بعض السلع أقل من التزام المملكة تجاهها مع المنظمة والتوجه لعدم رفعها إلا عند الحاجة وبالتنسيق مع دول مجلس التعاون الخليجي ، كما يوجد 223 سلعة رسومها المطبقة صفر بينما لا يوجد سوى ثلاث سلع مثبتة مع المنظمة بصفر .
2- قطاع الخدمات :(8/128)
• الخدمات هي الأنشطة التجارية في سلع غير حسية ( غير مجسدة ) مثل الاتصالات والتعليم والبنوك وتحكمها الاتفاقية العامة في الخدمات (GATS).
• قطاع الخدمات يغطي جميع الأنشطة الخدمية فيما عدا التي تقع في نطاق صلاحيات الحكومة مثل خدمات المصارف المركزية ، والتأمينات الاجتماعية ، ومعاشات التقاعد والتي لا تقدم على أساس تجاري ولا تنافس الخدمات التي يقدمها الآخرون ، ويصنف قطاع الخدمات لدى المنظمة إلى 12 قطاعا رئيسيا و155 قطاعا فرعيا وأكبر نسبة في فتح أسواق الخدمات حصل في الدول المتقدمة كاستراليا وسويسرا وأمريكا ثم الاتحاد الأوربي والأقل نسبة حصل في الدول النامية مثل مصر والهند وإندونيسيا والأرجنتين وأما في المملكة فقد تم فتح 11 قطاعا رئيسا و 111 قطاعا فرعيا في اتفاق المملكة مع المنظمة وتم حجب الباقي لأسباب دينية وأمنية وصحية وبيئية استنادا إلى المادة (14 ) من اتفاقية الجاتس (GATTS ).
• قطاعات الخدمات الرئيسية هي : خدمات الاتصالات ومن ضمنها الاتصالات الهاتفية والسمعية والبصرية والبريد / خدمات الإنشاءات وما يتعلق بها من خدمات هندسية /خدمات الأعمال ومن ضمنها الخدمات المهنية والعقارية وخدمات التأجير / خدمات التوزيع ومن ضمنها خدمات البيع بالوكالة وتجارة الجملة والتجزئة وعقود الامتياز / الخدمات التربوية وتشمل التعليم بكافة مراحله وتعليم الكبار / الخدمات البيئية ومنها خدمات الصرف الصحي وتصريف النفايات والنظافة الصحية / الخدمات المالية ومن ضمنها التأمين والبنوك / الصحة والخدمات الاجتماعية ذات العلاقة / خدمات السياحة والسفر وما يتعلق بها / الخدمات الثقافية والترفيهية والرياضية / خدمات النقل ومن ضمنها النقل البحري والبري والجوي / خدمات أخرى غير واردة في أي قطاع مثل الخدمات المتصلة بالتجارة الإلكترونية ومثل إدارة الموارد الطبيعية كالطاقة ، والخدمات المقدمة من أجهزة حكومية مثل إدارة الجوازات ، شؤون الطيران المدني ، كذلك القواعد واللوائح الخاصة بالهجرة من بلد إلى آخر .
• تبلغ نسبة مساهمة قطاع الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي في العالم 40% في المتوسط ، وفي الدول النامية 50% بينما في السعودية 40% وهي نسبة تقل بكثير عن مثيلاتها في الدول الصناعية التي تصل إلى 70% حسب إحصائيات عام ( 2005م ) ويتوقع أن ترتفع هذه النسبة في المملكة تدريجياً بعد الانضمام .
• مثلت التجارة العالمية في الخدمات نحو 23% من إجمالي حجم التجارة العالمية ( سلع وخدمات ) حيث بلغت قيمة الصادرات العالمية من الخدمات عام 2005م نحو (1440) مليار دولار ، وتشير إحصائيات المنظمة في منتصف عام 2003م إلى أن المملكة أحرزت المركز (21) بين الدول في واردات الخدمات لتصل إلى (18.3) مليار دولار وبذلك تحتل المملكة المركز الأول عربياً والمركز الثاني- بعد تركيا - إسلامياً في واردات الخدمات .
• أهم الالتزامات المحددة على القطاعات الرئيسية والفرعية في الخدمات في اتفاق المملكة مع المنظمة هي:
- خدمات الأعمال : الملكية الأجنبية في الخدمات المهنية تصل إلى 75% ( الخدمات القانونية / المحاسبية / الهندسية / الطبية ) ، عدم حضور المحامين الأجانب للمرافعة في المحاكم .
- خدمات الاتصال : الملكية الأجنبية في خدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية من 49% - 70% حسب نوع الخدمة .
- خدمات التوزيع : الملكية الأجنبية 51% ترفع إلى 75% بعد ثلاث سنوات ، وبحد أدنى لرأس المال الأجنبي 20 مليون ريال لكل خدمة ، وبما لا يزيد عن منفذ واحد في كل حي ، مع تدريب 15% من السعوديين كل عام ، ويبقى وضع الوكلاء بالعمولة كما هو .
- الخدمات المالية : الملكية الأجنبية 60% (المصارف ، شركات التأمين).
- السفر والسياحة وما له علاقة : التراخيص حسب الحاجة الاقتصادية للبلد .
- خدمات النقل : لم يتم فتح خدمات النقل البري والجوي للاستثمار الأجنبي وقصره على السعوديين لأسباب أمنية واستثناء مصر وتركيا وسوريا ولبنان وتونس من مبدأ الدولة الأولى بالرعاية في نشاط النقل البري حيث تتمتع هذه الدول باستثناءات إضافية وفق اتفاقيات ثنائية.
- الخدمات الترفيهية والثقافية والرياضية : تم فتح خدمات الحدائق العامة والمنتزهات فقط وحجبت خدمات التسلية ووكالات الأنباء والمكتبات والمتاحف والرياضة .
- الخدمات المصنفة بخدمات أخرى تم حجبها لأسباب أمنية وسياديّة .
• التزامات أفقية في قطاع الخدمات :
- الوجود التجاري للخدمات الأجنبية يتم وفقاً لنظام الشركات المساهمة أو ذات المسؤولية المحدودة ، أما خدمات الأعمال فوفقاً لنظام الشركات المهنية .
- جميع مقدمي الخدمات يلزمهم الحصول على التراخيص للعمل التجاري من الهيئة العامة للاستثمار .
- تطبيق الأنظمة واللوائح المحلية على جميع الخدمات الرئيسية والفرعية .
- لا تزيد نسبة العمالة الأجنبية على 25% من إجمالي القوى العاملة في الشركة الأجنبية العاملة في المملكة ، وقصر وظائف الاستقبال ، و إدارة التوظيف ، والمحاسبين ، ورجال الأمن ، والعلاقات العامة ، على السعوديين .(8/129)
- يستطيع المستثمرون الأجانب الاستفادة من جميع الخدمات في المملكة عدا بعض الخدمات المعانة (الخدمات الصحية ، قروض البنك العقاري ، إعانات التعليم ونحوها) ، كما يمكن للشركات الأجنبية المصرح لها تملك العقار وفق نظام تملك العقار لغير السعوديين .
- وجود المستثمرين الأجانب في المملكة غير مقيد ، باستثناء ذوي الإقامات المؤقتة ، فرجال الأعمال الزائرون مدة إقامتهم 180 يوما ، والعاملون في الشركة سنتان قابلة للتجديد ، ومقدمو الخدمات وفق عقود تجارية مؤقتة 180 يوما قابلة للتجديد .
3- قطاع حقوق الملكية الفكرية:
• يقصد بالملكية الفكرية منح أصحاب الأفكار الحق في تملكها والاستفادة المادية منها عن طريق حمايتها خلال فترة معينة ومنع الآخرين من التعدي عليها دون موافقة أو ترخيص من مالكها وقد صارت إحدى مجالات التجارة الدولية خلال مفاوضات جولة الأورجواي التي انتهت بإعلان منظمة التجارة العالمية في مراكش وتضمينها اتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية " تربسT r IPS"
• تنحصر هذه الاتفاقية في مجالات ثمانية هي : حقوق المؤلف والحقوق المتعلقة بها / العلامات التجارية / المؤشرات الجغرافية/ المعلومات السرية ( الأسرار التجارية ) / النماذج الصناعية ومدة الحماية 10 سنوات / براءات الاختراع ومدة الحماية 20 سنة/ التصميمات التخطيطية للدوائر المتكاملة ومدة الحماية 10 سنوات / الأصناف النباتية ومدة الحماية من 20-25 سنة.
• هناك لجنة دائمة لحقوق الملكية الفكرية في المملكة من الجهات ذوات العلاقة برئاسة وزارة التجارة والصناعة وقد عملت كإحدى اللجان الفنية في مفاوضات الانضمام .
• هذه الاتفاقية عبارة عن إحالة إلى الالتزام بأحكام عدد من الاتفاقيات الدولية في هذا المجال وهي :
- اتفاقية ( باريس ) لحماية الملكية الصناعية .
- اتفاقية (بيرن ) لحماية المصنفات الأدبية والفنية .
- معاهدة الملكية الفكرية المتصلة بالدوائر المتكاملة .
- التفاهم بشأن تسوية المنازعات من الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة(GATT 94 )
ثالثاً :الاستثناءات المتعلقة بالهوية التي حصلت عليها المملكة :
جاءت جميع نتائج مفاوضات المملكة للانضمام في ثلاث وثائق رسمية هي :
1- وثيقة تقرير فريق العمل wtaccsau61 .
2- وثيقة الجداول الموحدة للسلع wtaccsau61add1 .
3- وثيقة الجداول الموحدة للخدمات wyaccsau61add2.
وهذه الوثائق الثلاث التي تتجاوز عدد صفحاتها 600 صفحة هي الوثائق الرسمية الوحيدة للانضمام ، وليس هناك أي وثائق أو اتفاقات أخرى غير هذه الوثائق ، ويمكن الإطلاع عليها من خلال موقع المنظمة على شبكة الانترنت www.wto.o r g ، وجميعها متعلق بالاقتصاد والتجارة والاستثمار وما يتصل بها من إجراءات وأنظمة ولوائح ، وليس فيها ما يتعارض بشكل مباشر مع الشريعة الإسلامية ، ولا ما يخل بالأمن والصحة والبيئة ، حيث تم الاستفادة من المادة(20) من اتفاقية الجات والمادة ( 14) من اتفاقية الجاتس للحصول على الحماية اللازمة .
من جانب آخر ليس لأحكام والتزامات الانضمام أي علاقة بأمور أخرى اجتماعية أو دينية بشكل مباشر مثل إنشاء دور للعبادة أو وضع الهيئات الدينية والخيرية أو وضع المرأة أو حقوق العمال ، ولم يتم التطرق خلال المفاوضات لجميع لهذه الموضوعات بشكل رسمي وعلى العموم فقد حظيت المملكة في انضمامها لمنظمة التجارة العالمية على بعض الاستثناءات لهويتها الإسلامية ويتضح ذلك من خلال الاستثناءات التالية :
1) في قطاع السلع :
منع استيراد السلع المحرمة (65 سلعة) تمثل الخمور بأنواعها ولحوم الخنزير ومشتقاتها ولحوم الضفادع وجميع الأغذية المحتوية على دماء الحيوانات ، وعدم قبول أي رسوم جمركية عليها حتى ولو كانت مرتفعة جداً .
2) في قطاع الخدمات :
تم استثناء أحد الخدمات الرئيسية المسماة بـ(خدمات أخرى) وعدد من الخدمات الفرعية لأسباب دينية وأخلاقية وأمنية وصحية استناداً إلى الفقرة رقم (14) من اتفاقية الجاتس GATS (الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات) وأهم ذلك :-
أ - فيما يتعلق بخدمات الأعمال السمعية والبصرية Audio- Visual Wo r ks في خدمات الاتصالات ، لم يتم فتح خدمات النشر والمطابع والإنتاج السينمائي والتلفزيوني للاستثمار الأجنبي.
ب - تم حجب أنشطة صالات القمار والبارات والأندية الليلية من الخدمات الثقافية والترفيهية والرياضية والتي تصنف ضمن نشاط فرعي يسمى التسلية ، ولم يفتح سوى خدمات الحدائق العامة والمنتزهات من الخدمات الترفيهية .
جـ - تم استثناء الخدمات الاجتماعية من الصحة والخدمات ذات العلاقة نظراً لحساسيتها في مجتمع مسلم محافظ كمجتمع المملكة.
د- لم يتم فتح خدمات الحج والعمرة للأجانب ، حيث تقتصر هذه الخدمة على السعوديين فقط .
هـ - تم فتح نشاط التأمين في الخدمات المالية أمام الاستثمار الأجنبي وفق نظام التأمين التعاوني (ولا يخفى أن المسمى تأميناً تعاونياً ما هو إلاّ محض تأمين تجاري في الغالب وهناك جهود لتصحيح الوضع).(8/130)
و- تقديم الخدمات الرئيسية والفرعية لجميع المستثمرين وفق الأنظمة والضوابط والإجراءات المحلية.
ز- جميع المستثمرين الأجانب عليهم دفع الضرائب المقررة على أرباحهم، أما المستثمرون السعوديون فعليهم دفع الزكاة الشرعية فقط ، ماعدا الاستثمار في الغاز وإنتاج الزيت والمواد الهيدروكربونية ، فإن الجميع يخضع لنظام الضريبة.
3) في قطاع حقوق الملكية الفكرية :
تضمنت أنظمة ولوائح حقوق الملكية الفكرية التي تم إعدادها لمتطلبات الانضمام نصوصاً بعدم التزام المملكة بحماية ما يتعارض في تلك الحقوق مع أحكام الشريعة الإسلامية ، ومن ذلك :
أ - عدم حماية المؤشرات الجغرافية للخمور والمشروبات الكحولية لأنها سلع محرمة .
ب - تم حذف الخمور والمشروبات الكحولية من قائمة تصنيف السلع والخدمات الملحقة بنظام العلامات التجارية .
ج - نصت المادة الرابعة في نظام براءات الاختراع على عدم منح الحماية إذا كان الاستغلال التجاري مخالفاً للشريعة الإسلامية ، وكذلك ورد في المادة الثانية من نظام العلامات التجارية .
رابعاً : انضمام المملكة بين المكاسب والتكاليف :
لا جدال في أن انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية يحمل مكاسب وتكاليف فالمكاسب هي الاستثناءات التي حصلت عليها المملكة وعددها 59 والتكاليف هي الالتزامات التي قدمتها المملكة وعددها 58 ومن أمثلة الالتزامات :
إبقاء الضرائب على أرباح الشركات الأجنبية على حالها وهو 20% دون رفع وكذلك تخفيض الدعم الزراعي المباشر بحدود 13.3% في مدى عشر سنوات , ومن أمثلة الاستثناءات :
بقاء قروض البنوك الصناعية والزراعية وكذلك الإبقاء على إعفاء مدخلات الإنتاج المستورد من التعرفة الجمركية ، ولذا فالجدل قائم في أي من المكاسب والتكاليف أعظم ، وفيما يلي بيان ذلك :
1- المكاسب:
يرى البعض أن مكاسب الانضمام أكثر من تكاليفه ، ويمكن عرض أهم المكاسب في النقاط التالية:
أ - وجود المملكة داخل المنظمة سينعكس عليها إيجابياً من الناحية الاقتصادية ، لأن الانضمام يعطيها القدرة - بمشاركة بعض الدول المستفيدة - على توجيه مسارات القرارات وتفعيل سبل إطلاق المبادرات والتفاوض بشأن مصالحها، من خلال مشاركة فعالة في جميع القضايا التي تطرحها المنظمة للنقاش، مستفيدة من النظام التجاري العالمي ومنها هيئة حسم المنازعات للدفاع عن مصالح المملكة الاقتصادية ومن أهم ذلك تحرير استثناء النفط ومشتقاته من قبل عشرين دولة ( منها أمريكا واليابان وكندا والبحرين والكويت..............الخ ) .
ب - سيتوسع نطاق التبادل التجاري بين المملكة والدول الأخرى الأعضاء وسينفتح اقتصاد المملكة على الاقتصاد العالمي بشكل أكبر، بحيث تتمكن الصادرات السعودية من النفاذ بسهولة إلى أسواق الدول ا?عضاء في المنظمة ، ?ن الرسوم الجمركية ستكون منخفضة أو ملغاة مع عدم التمييز في المعاملة بينها وبين منتجات أي عضو آخر، وعلى هذا فإن الصادرات السعودية سوف تزداد إلى ا?سواق العالمية وكأمثلة على ذلك فإن الصين ارتفعت صادراتها بمقدار 20% سنوياً وعمان 15% والأردن 10% بعد دخول هذه الدول إلى المنظمة .
جـ- إن عضوية المملكة في المنظمة ستحسن مناخ الاستثمار وستدعم برنامج ا?صلاح الاقتصادي الذي تنفذه الحكومة حاليا، لأنها ستجد نفسها ملزمة بتطبيق مبادئ المنظمة ومن ضمنها مبدأ الشفافية ، ووضوح الأنظمة والإجراءات ، وتوفير الحماية اللازمة ، ومنها حماية الحقوق الفكرية ، الذي سوف يحفز الابتكار والإبداع ،فلقد أصدرت المملكة 42 نظاما جديدا مع لوائحها التنفيذية كمتطلب للانضمام ومن أهمها أنظمة حقوق الملكية الفكرية وأنظمة القضاء الإجرائية ، ومن جهة أخرى فإن إضفاء المزيد من الانفتاح على السوق السعودية أمام السلع والخدمات ا?جنبية من شأنه التعجيل بعملية الخصصة وتعزيز مناخ المنافسة مما يحسن الإنتاجية ويخفض الأسعار ويقلل الفساد الإداري والمالي .
د - حصول المملكة على استثناءات في جداول الخدمات والسلع وحقوق الملكية الفكرية فلم يفتح المجال الرئيسي المصنف تحت اسم " خدمات أخرى " لأسباب أمنية وسياديّة ، وحجبت عدد من المجالات الفرعية مثل نشاط التسلية لأسباب دينية وأخلاقية ومنع استيراد السلع المحرمة ، وتحديد نسبة العمالة ا?جنبية بما لا يزيد عن 25% من إجمالي العاملين ، وتطبيق الزكاة الشرعية على المستثمر السعودي في معظم مجالات الاستثمار وعدم حماية الحقوق الفكرية فيما يتعارض مع أحكام الشريعة الاسلامية ، سيخفف من الآثار الثقافية السلبية للانضمام .
هـ- سيكون المستهلك مستفيداً من هذا الانضمام حيث ستتوفر أمامه خيارات أكبر من السلع والخدمات بأسعار أقل وجودة أعلى ، وستزيد ثقته في السلع المتوفرة التي سينحسر عنها الغش التجاري والتقليد والتلاعب با?سعار، حيث تخضع السلع المحلية وا?جنبية إلى قواعد وضوابط قوية.(8/131)
و - فتح ا?نشطة الخدمية أمام الاستثمار الأجنبي سيثري الاقتصاد السعودي ، وسيضمن تدفق ا?موال والتقنية والخبرة في هذه الخدمات ويضاعف القيمة المضافة المحلية وكأمثلة على ذلك فإن القيمة المضافة في أسواق الصين والأردن من جراء تدفق الاستثمار الأجنبي بلغت 22% ، 17% على الترتيب بعد انضمامهما للمنظمة ، وسيسهم الانضمام في تنشيط القطاع الخاص، ويحقق التنوع في الاقتصاد المحلي، كما أنه يساعد على تأمين مزيد من فرص العمل لليد العاملة المتنامية مما يقلل من نسبة البطالة .
ز - الإبقاء على الوضع القائم لبعض السياسات والبرامج التنموية مثل تسعيرة الغاز، ووضع بعض المؤسسات المملوكة للدولة مثل الصوامع ( ومؤسسات أخرى غيرها ) ، والصناديق الاقراضية ( كصندوق التنمية الزراعي والصناعي ) ، والسياسات العامة الزراعية الداخلة تحت ما يسمى بالصندوق الأخضر (G r een Box) والتي تشمل بناء السدود ومكافحة الآفات والأبحاث والتطوير ونحو ذلك ، وتحديد نسبة العمالة الأجنبية بـ 25% ، وتدريب العمالة الوطنية ومجالات دعم أخرى مسموح بها من خلال أنظمة المنظمة أو حصلت عليه المملكة بالمفاوضات مع المنظمة ، كل ذلك من المكاسب للاقتصاد والتجارة المحلية .
2- التكاليف :
يتخوف البعض من آثار انضمام المملكة إلى المنظمة ، ? سيما على المدى المتوسط والبعيد، حيث إن هذه ا?ثار لن تظهر بشكل واضح في المدى القصير؛فالتأثير سيحدث بشكل تراكمي ، ومن ثم يمكن القول إن التكاليف تتزايد بمرور الوقت بعد الانضمام ففي دراسة قدمت لمنتدى الرياض الاقتصادي الثاني تبين أن 91% ممن شملهم الاستفتاء يعتقدون بأن تكاليف الانضمام أكبر بكثير من المكاسب وأن 90% من موردي الخدمات يرون أن قطاع الخدمات سوف يتأثر سلباً وأن 77% منهم لا يؤيدون الانضمام ، وفيما يلي ذكر لبعض هذه التكاليف :
أ - ارتفاع أسعار السلع المحمية بحقوق الملكية الفكرية، مثل: برامج الحاسب الآلي، و ا?دوية ، والحبوب المعدلة جينياً ، لأن القيود على استيراد المملكة للتقنية الحديثة ستزداد تعقيداً في ظل اتفاقيات المنظمة ، حيث ستلجأ كثير من الشركات المالكة لهذه التقنية إلى الحد من بيعها إلا بمبالغ باهظة.
ب - سيصبح للشركات ا?جنبية وجود قوي في السوق المحلية، خاصة في مجال الخدمات ، وهذا بدوره سينعكس سلباً على بعض الشركات والمؤسسات المحلية الصغيرة التي سُتجبر على الخروج من السوق لعدم قدرتها على المنافسة.
جـ - تقليص الدعم المباشر للصادرات الزراعية والصناعية وارتفاع نسبة الملكية الأجنبية في بعض الخدمات و تقلص القائمة السلبية مع الوقت ، ومنح حق المفاوض الأول لبعض الدول على بعض السلع حسب المادة 28 من اتفاقية الجات 94( 2817 سلعة من 7559 سلعة ) سيزيد من أعباء وتكاليف الانضمام على التجارة المحلية .
د - التوجه في المفاوضات الحالية وفق " أجندة الدوحة للتنمية " لتخفيض الرسوم الجمركية على السلع الزراعية والصناعية وتخفيض الدعم الزراعي وزيادة النفاذ لأسواق الخدمات والالتزام باتفاقات جديدة على حساب الاتفاقات السابقة مما يؤثر على الالتزامات والاستثناءات التي حصلت عليها المملكة حال الانضمام .
هـ - فتح بعض قطاعات الخدمات للاستثمار ا?جنبي ونفاذ السلع قد يترتب عليه آثار ثقافية بما تحمل من أنماط اجتماعية وسلوكية غير مرغوبة، وينطبق ذلك خصوصا على قطاع التعليم الذي فتح بلا قيود خاصة ما قبل الجامعي إذ تحمل المدارس ا?جنبية آثارها الثقافية والسلوكية التي تتعارض مع سياسة التعليم الوطنية.
هذه أهم المكاسب والتكاليف ويبقى الجدل قائماً في أي منهما أعظم،فيمكن أن يقال:- من الممكن تفادي هذه السلبيات بالاستعداد الجيد وإنشاء التكتلات الاقتصادية المحلية ا?قليمية، ودمج الشركات الوطنية مع بعضها البعض بما يحقق مزايا نسبية للإنتاج المحلي ، ومنع ظهور آثار ثقافية سلبية بتطبيق الأنظمة المحلية والضوابط المقررة . ويعزو البعض أن سبب المخاوف من آثار الانضمام إلى المنظمة ناجم عن غياب الدراسات وا?بحاث العلمية في هذا المجال التي تشرح طبيعة المنظمة ونشاطها ومميزات الانضمام إليها وسلبياتها ففي دراسة منتدى الرياض الاقتصادي الثاني أجاب 95% بأنهم يجهلون مبادئ واتفاقيات المنظمة ، والسبب الآخر لهذه المخاوف يعود إلى تصور البعض بأن المملكة قد قدمت تنازلات تتعلق بالقيم والثوابت الدينية والاجتماعية ، وهو أمر مبالغ فيه ، وفي كل ا?حوال فإن المادة (15) من اتفاقية المنظمة تعطي الحق ?ي دولة أن تنسحب من المنظمة في الحالات التي يثبت فيها أن قوانين المنظمة وقراراتها تسعى للنيل من سيادة الدولة العضو أو التدخل في شئونها الداخلية .
خامساً : أهم التحديات التي تواجه خطط التنمية والقطاعات التجارية في المملكة :
1 ) التحديات التي تواجه المملكة في التنمية :
- النفط يشكل 87% من إجمالي الصادرات فهو مصدر الدخل الرئيس .
- المواد المصنعة ونصف المصنعة تشكل 95% من إجمالي الواردات .
- تصنف المملكة في المركز الخامس بين أبطأ الدول في النمو الاقتصادي .(8/132)
- وفي المركز السابع عشر بين أعلى الدول نسبة في نمو عدد السكان .
- وفي المركز السادس عشر بين أقل الدول استخداماً للعمالة المحلية .
- وفي المركز الخامس والستون بين الدول في تطوير الموارد البشرية .
- وليست ضمن الدول التي تهتم بالبحث العلمي حتى في المجالات التي تحتل فيها المراكز الأولى كالنفط وتحلية المياة .
- وليست من الدول التي تصدر الخدمات بل هي المستهلك الأكبر ضمن الدول النامية .
- ويختفي اسم المملكة من قائمة الدول التي تحتل أفضل المراكز في قطاعات الاتصالات واستخدام الدوائر الالكترونية العددية واستخدام الأقمار الصناعية والمناطق الحرة .
- تراجع مستوى التعليم وازدحام الجامعات وعدم وجود إستراتيجية واضحة للتعليم الفني والتدريب المهني والإخفاق في اعتماد وسائل علمية في توطين العمالة .
- زيادة أعباء الديون الداخلية لتصل إلى نسب عالية من قيمة النتاج المحلي الإجمالي وانخفاض مستوى دخل الفرد في العقدين السابقين .
- وهناك تحدٍ آخر هو المحافظة على الموارد الطبيعية وترشيد استهلاكها خاصة النفط والماء وحفظ حق الأجيال فيها .
2 ) التحديات التي تواجه القطاعات التجارية في المملكة :
- البطء في تطبيق الأنظمة و إجراءات التقاضي وضعف نظام التحكيم وتأخير إنفاذ الأحكام والقرارات وعدم وجود محاكم متخصصة لبعض الأنشطة التجارية ففي الدراسة المشار إليها سابقاً ظهر أن 100% ممن شملهم الاستفتاء من موردي الخدمات السعودية يعتقدون بأن مستوى القوانين والتشريعات الحالية في المملكة لا تضمن غطاء الحماية لأنشطة منشآتهم الخدمية .
- البيروقراطية الحكومية خاصة في الخدمات بقطاعاتها المتعددة حيث لا يوجد جهة واحدة مسؤولة عن التعامل مع هذا النوع من التجارة ، وإنما تتوزع المسؤولية بين عدد كبير من الجهات الحكومية مما يضاعف من حجم هذه المشكلة .
- ضعف مستوى المعرفة بمبادئ واتفاقيات المنظمة والفرص المتاحة ومواقع المنافسة الحادة / وعدم وجود مراكز وبوابات الكترونية كافية للاستفسارات ، وقد سبق ذكر نتائج دراسة ملتقى الرياض الاقتصادي الثاني بأن 95% ممن شملهم الاستفتاء يجهلون مبادئ واتفاقات المنظمة .
- ضعف كفاءة الأجهزة الحكومية اللازمة لتحقيق المشاركة الفعالة في النظام التجاري العالمي / عدم وجود آليات رسمية وشعبية لحماية الأنشطة التجارية من المخالفات ولمراقبة تطبيق الأنظمة المحلية والعالمية / وعدم كفاءة الموجود منها لمتطلبات الانضمام / وقلة برامج تدريب الكوادر الكافية للقيام بهذه المهام .
- ضعف الشفافية والإفصاح عن ما يخص الجوانب القانونية والإجرائية والتعاقدية من القرارات والأنظمة والتعاميم والأحكام و القصور في نشرها ، وعدم وجود مركز استفسار مدعم بقاعدة بيانات بما يتيح الرد على الاستفسارات وموافاة المنظمة بأي تعديلات تطرأ عليها .
- قلة الدراسات الاقتصادية المتخصصة لتوضيح نقاط القوة ونقاط الضعف في الأسواق المحلية المفتوحة للاستثمار الأجنبي ومن ثم اقتراح السبل المثلى للتعامل مع مبادئ النظام التجاري العالمي وكيفية استثمار الفرص المتاحة والميزات النسبية في الأسواق المحلية والأسواق العالمية .
- إمكانية تقليص المكاسب التي حصلت عليها المملكة في حالة سير المفاوضات المستقبلية حسب أجندة الدوحة والتي تهدف إلى مزيد من تحرير التجارة حسب وجهة نظر الدول المتقدمة .
- احتمال إثارة أسعار الوقود المنخفضة محلياً بالمقارنة بسعر البرميل عالمياً من قبل الدول الأعضاء أو بعضها باعتبار أن أسعار الوقود لها أثر بالغ في سعر بيع المنتج النهائي وعلاقة هذا السعر بأسعار ذات المنتجات في تلك الدول مثل قطاع الكهرباء والماء حيث يعتمدان بشكل كبير على الوقود من النفط ، وقطاعات صناعية أخرى مثل الألمونيوم والأسمنت والأسمدة والبتركيماويات .
- المملكة ليست بحاجة إلى تدفق أموال الاستثمار الأجنبي لأنها مصدرة لرؤوس الأموال للخارج فالتحدي هو في كيفية الاستفادة من الاستثمار الأجنبي في الحصول على التقنيات لتطوير القطاعات المحلية المختلفة .
سادساًً : الميزات النسبية التي تتمتع بها المملكة :
تتمتع المملكة بالمزايا النسبية التنافسية التالية :
أولاً : تختص المملكة بكونها مهبط الوحي وقبلة (25%) من سكان العالم وفيها الحرمان الشريفان ، وبالتالي :
1 ) تمثل المملكة المركز المناسب لقيام السوق الإسلامية المشتركة لتحقق الأهداف التالية :
أ - إنشاء المصارف الإسلامية والبنوك التمويلية الشرعية وتطوير آليات الأسواق المالية .
ب تأسيس شركات تأمين وإعادة تأمين تعاونية متوافقة مع فتاوى المجامع الفقهية .
ج وضع نظام معلوماتي متطور لتشجيع التجارة البينية بين الدول الإسلامية .
د -إقامة اتحادات جمركية وتكتلات تجارية وتحالفات صناعية بين الدول الاسلامية .
2 ) إمكانية استقطاب العلماء العرب والمسلمين في كافة المجالات ومن جميع الدول وتوطينهم لتحقيق الأهداف التالية :
أ إنشاء معاهد التقنية ومراكز الأبحاث .
ب نقل المعرفة وتوطين التقنية .(8/133)
ج توفير الخبراء المسلمين المؤهلين والعمالة المسلمة المدربة في كافة المجالات .
ثانياً : تمتلك المملكة (30%) من المخزون النفطي العالمي . وتحتل المركز الأول في إنتاج النفط وتصديره والمركز التاسع في إنتاج الغاز ، وبالتالي :
1 ) تمثل المملكة المركز المناسب لقيام المنشآت البحثية والتدريبية التالية :
أ معاهد أبحاث الطاقة النظرية والعملية في كافة مجالات الطاقة .
ب معاهد وكليات للتعليم العالي والدراسات العليا في مجال الطاقة .
ج- مراكز التدريب الفني والتعليم المهني في حقل النفط ومشتقاته والغاز واستخداماته .
2 ) قدرة المملكة على اختيار الشركات الكبرى العاملة في نفس المجال والتعاون معها في تحقيق التكامل الصناعي من خلال :
أ إنتاج النفط والغاز وتكريرهما .
ب تطوير الصناعات البتروكيماوية .
ج تسويق هذه المنتجات في الأسواق العالمية .
د توطين التقنية في هذا المجال .
هـ- إقامة مصانع إنتاج أجهزة حفر الآبار وتكرير النفط وإنتاج الغاز وقطع غيارها .
و إقامة المشاريع الصناعية التي تعتمد مقومات تصنيع منتجاتها على الطاقة للاستفادة من هذه الميزة النسبية مثل إنتاج الألمنيوم والحديد و الزجاج و المعادن الفلزية ونحوها .
ثالثاً : تتمتع المملكة بموقع جغرافي مميز حيث يحدها شرقاً دول المجموعة الآسيوية التي تتمتع بالعمالة الفنية المدربة ويحدها غرباً دول الاتحاد الأوربي التي تتمتع بالتقنية والخبرة والمعرفة وبالتالي تستطيع المملكة استغلال موقعها المتميز عن طريق :
1. استخدام التقنية الغربية والعمالة الشرقية المدربة لتصنيع المنتجات اللازمة للأسواق العالمية .
2. استغلال خطوط الملاحة بين المشرق والمغرب في إقامة المناطق الحرة .
3. إنشاء المناطق الاقتصادية في المملكة على غرار المدن الصناعية .
4. تطوير مرافق محطات القوى الكهربية في المملكة عن طريق استخدام النفط والغاز لتوليد الطاقة الكهربية وتصديره لدول الجوار في الجهات الأربع عبر خطوط الكهرباء ذات الجهد العالي .
5. بناء مرافق متقدمة لخطوط السكة الحديدية لنقل الركاب والبضائع والمنتجات من وإلى مختلف مناطق المملكة وخارجها .
رابعاً : تحتل المملكة المركز (30) بين دول العالم من حيث القوة الشرائية كما تحتل المركز (29) من حيث قيمة الناتج المحلي الإجمالي . وبالتالي :
1. تستطيع المملكة تعظيم مكاسبها عن طريق تخصيص منشآتها الحكومية في أجواء منافسة حرة وعادلة ومن ثم تشجيعها على إبرام صفقات تحالف إستراتيجية (St r ategic Alliances) مع المنشآت العالمية المماثلة للاستفادة من قوة المملكة الشرائية وقدرتها على النفاذ لأسواق الغير .
2. إمكانية استرجاع رؤوس الأموال المهاجرة (Capital r epat r iation) وتشجيع الاستثمار الوطني والاستفادة من الاستثمار الأجنبي في نقل التقنيات وتطوير الانتفاع من زيادة القيمة المضافة المحلية .
3. توفير فرص العمل للمواطنين وتدريبهم على رأس العمل وبناء قاعدة اقتصادية محلية ذات مركز مرموق لتتفاعل مع التوجه العالمي لتحرير التجارة وتسخير مواردها للصالح العام مباشرة .
4. إعطاء أولوية لترسيخ مبادئ التجارة الإلكترونية وتنميتها في ظل اتفاقيات تقنية المعلومات (214سلعة) في قطاع السلع و اتفاقية الاتصالات الأساسية في قطاع الخدمات.
سابعاً : الآثار المتوقعة على بعض الجوانب الثقافية :
? يمكن الفصل بين تأثير انضمام السعودية لمنظمة التجارة العالمية وتأثير ظاهرة العولمة التي تلقي بظلالها على جوانب الحياة الثقافية في السعودية في المرحلة القائمة و القادمة، والمرتبطة بمتغيرات كبيرة على صعيد تطور تقنيات الاتصالات والانترنت، وتركيز الخطاب السياسي الغربي(ا?مريكي خصوصا) على نشر ثقافة المجتمع المدني بالمفهوم الغربي ، وتزايد التدخل من جانب الو?يات المتحدة والدول الغربية في قضايا التعليم في السعودية خصوصاً ( والعالم ا?سلامي عموماً ) بحجة الإصلاح ، وشيوع نظرة غربية متعالية تتهم ا?سلام بالتحيز ضد المرأة وإهدار حقوقها .
وبالرغم من أن كثيراً من الخبراء الغربيين يميلون إلى تجريد العولمة من أي مضامين ثقافية فضلاً عن منظمة التجارة العالمية ، ولا يرون فيهما إلا تجارةً حرةً ، وأسواقاً عالميةً مفتوحةً، ومؤسسات مالية لا تعوقها القيود، وحوارا عالميا حراً غير مباشر عبر الحدود من خلال شبكة الاتصالات والانترنت أو مباشراً عبر المؤتمرات الدولية واجتماعات لجان المؤسسات والاتفاقيات الدولية ، وهم بعد ذلك يفسرون معارضة الدول النامية للتحرير الكامل للتجارة بتدني مهارات العمل لدى مواطني تلك الدول نتيجة لانخفاض مستويات التعليم وسوء مخرجاته وضعف الشفافية ، لكن في المقابل يتخوف باحثو وخبراء العالم الثالث من الأبعاد الكامنة في تحرير التجارة ، ولاسيما بالنسبة لتعميم قيم السوق وثقافة الاستهلاك والمادية المفرطة، التي تزخر بها الثقافة الغربية عموما وا?مريكية خصوصا، والخوف من السيطرة الاقتصادية ، وما تجلبه معها من قيم ثقافية غربية .(8/134)
ويخطئ البعض عندما يظن أن الخشية من تعميم النمط الثقافي ا?مريكي أو" أمركة العالم" قاصرة على الدول النامية فقط ، فدولة كفرنسا بكل ثقلها الثقافي رفعت أثناء مفاوضات الجات شعار "الاستثناء الثقافي " الذي يعني عدم معاملة المنتجات الثقافية وا?علامية باعتبارها سلعا اقتصادية تباع وتشترى في سوق عالمي متنافس ،وإنما باعتبارها منتجا يحمل رسالة ثقافية بحتة، بل إن فرنسا أصدرت قانونا توجيهيا عام 1997 م ، يلزم القنوات التليفزيونية الفرنسية بأن تكون 60% من برامجها التي تبثها من أصل أوروبي،وهو قانون موجه أساسا ضد ا?نتاج السينمائي والتليفزيوني ا?مريكي، وتمثل فرنسا اتجاها داخل المجتمع ا?وروبي يدعو إلى إيقاف مسيرة "أمركة أوروبا" .
والواقع أن ا?ثار الثقافية لمسألة تحرير التجارة لا يمكن أن ُترصد بسهولة ، لأن أساس وجود المنظمة وقوانينها هو اقتصادي ، والأمر الثاني أن الآثار الثقافية لا تظهر مبكراً ، وإنما تحتاج إلى زمن طويل نسبياً حتى تظهر، والدراسات الاستشرافية لمثل هذه الآثار غير متوفرة ، ونحن هنا نرصد بعض المؤشرات التي تسهم في تكوين ملامح عامة عنها ، وسنهتم فيما يلي برصد بعض القضايا الخاصة بالسعودية .
1- التعليم ا?جنبي
يمثل التعليم بكافة مراحله معظم قطاع الخدمات التربوية التي تم الاتفاق على تحريرها في اتفاق المملكة مع المنظمة بلا استثناءات أو قيود في إطار اتفاقية الخدمات (GATS) ، وقد تم فتح هذا المجال للاستثمار الأجنبي ، وفتح هذا المجال بهذه الصورة مثير للجدل فهو من أخطر المجالات التي تتحفظ الدول عادة في فتحه فالدول النامية التي تقع المملكة ضمن منظومتها لم يفتحه منها سوى 20% منها ، بل إن عدداً من الدول المتقدمة لم تفتحه بهذه الصورة التي حصلت مع المملكة ، وبلغت نسبة الدول التي فتحت هذا المجال من مجموع دول المنظمة 31% ولذا يبقى السؤال قائماً كيف حصل هذا ؟
ومعلوم أن أحد أوجه تميز التعليم في المملكة كونه ينبع من عنايته بغرس الهوية ا?سلامية في نفوس الطلاب منذ نعومة أظفارهم حتى بلوغهم مرحلة التعليم الجامعي من خلال المنهج والمدرس والبيئة التعليمية ، وغني عن البيان ما للبيئة التعليمية من تأثير على الهوية ، حيث تضطلع بمهمة ترسيخ مقومات الهوية ، وأهمها العقيدة واللغة والثقافة والتاريخ و تحصين أبناء المجتمع ضد ما يتعرض له من تشويه لهويته ، والرقي بالمجتمع من خلال تطوير مخرجات المناهج الدراسية استجابة لمتطلبات التنمية و تحديات العصر .
وفي المملكة تعليم أجنبي في المستوى قبل الجامعي، حيث بلغ عدد المدارس ا?جنبية 170 مدرسة (منها 40 مدرسة في مدينة الرياض ) ، وثمة شكاوى عديدة من ا?ساليب التي تتبعها هذه المدارس فيما يتعلق بالتجاوزات الشرعية ، والمتوقع أن يزداد الأمر سوأ في حالة دخول مستثمرين أجانب إلى هذا المجال .
ومن ناحية أخرى قد تركز تلك المدارس على اللغات ا?جنبية في تدريس مقرراتها مستغلة رغبة البعض في ذلك ، وهو أمر يؤدي في الغالب إلى إضعاف اللغة ا?م للطالب، وغني عن البيان ما تتعرض له اللغة العربية من أزمة خانقة بسبب تخلف طرق تدريسها وتقصير المتخصصين في العناية بها ، ومن شأن انتشار المدارس ا?جنبية أن يزيد من إعراض الطلاب عن اللغة العربية،وترسيخ شعور لديهم بأن اللغة الانجليزية هي لغة العصر والعلم والبحث التي تعكس رقي المتحدث بها وسعة اطلاعه ، ومن المهم هنا التنبيه إلى الفرق بين تعلم اللغات ا?جنبية وإتقانها الذي يبقى أمرا مطلوبا للبعض في مراحل متقدمة ، وبين تعليم الناشئة اللغات الأجنبية في مراحل تعليمهم ا?ولى وإلزامهم بذلك بما ينطوي عليه من إهمال للغة العربية وفقدان للهوية .
وحيث تم فتح هذا المجال فينبغي أن نفرق بين المستويين الجامعي وما قبل الجامعي ، فما قبل الجامعي خطير جداً لأنه تعليم عام في مراحل بناء الهوية فإذا صعب استثناؤه فعلى الأقل يقيد بأن تكون الإدارة من قبل وزارة التربية والتعليم ولا يكتفى بالمدير فقط مع التأكيد على تطبيق الأنظمة المحلية والحزم في التزام الضوابط المرعية أما الجامعي فيمكن أن يستثمر هذا المجال المفتوح والذي أصبح أمراً واقعاً في التخصصات التقنية والطبيعية للنهوض بمستوى التعليم العالي في المملكة شريطة وجود نظام إشراف ومتابعة فعال على المؤسسات ا?جنبية ، وإيجاد الأنظمة الكفيلة بجعل عمل هذه المؤسسات يصب في صالح البلد من خلال اشتراط توفير التخصصات الناقصة والمطلوبة للمملكة، وا?سهام في تنمية البحث المحلي ، وتقديم المنح الدراسية للمتفوقين والمحتاجين، وعدم تنحية اللغة العربية في التدريس والبحث ، مع التزام الجامعات بالأنظمة المحلية من منع الاختلاط وضبط المحتوى . وعند توفر هذه الشروط تقل إمكانية حدوث اختراق ثقافي .
2- مقاطعة إسرائيل
يتكون نظام مقاطعة إسرائيل على مواد تدور حول حظر التعامل مع إسرائيل أو استيراد البضائع والسلع والمنتجات ا?سرائيلية بكافة أنواعها، وحظر تبادلها أو الاتجار فيها داخل المملكة وحظر التعامل مع الشركات التي تتعامل مع إسرائيل .(8/135)
لكن المملكة قررت بعد توقيع اتفاقات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في سبتمبر 1993 م ، استجابة لقرار مجلس وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في دورته التحضيرية الثالثة والخمسين التي عقدت في نوفمبر 1994 م إيقاف المقاطعة للكيان ا?سرائيلي من الدرجتين الثانية والثالثة ، وصدر في هذا المعنى قرار مجلس الوزراء السعودي رقم 5 بتاريخ 14/1/1416 هـ.
و قبيل انضمام المملكة إلى منظمة التجارة مباشرة شرعت مصادر أمريكية وإسرائيلية في الترويج لأنباء تفيد أن المملكة تعهدت في اتفاقها الثنائي للتجارة مع الولايات المتحدة الذي ُأبرم في 5/8 /1426 هـ بأن تتاجر مع كل أعضاء المنظمة ومنها إسرائيل ، غير أن مصادر سعودية قالت إن الانضمام للمنظمة يفرض على المملكة أن تتعامل مع جميع الدول ا?عضاء إلا أن التعامل مع إسرائيل والشركات ا?مريكية المتعاملة معها سيخضع ?حكام خاصة جدا تم الاتفاق عليها بين الجانبين السعودي وا?مريكي، وفي حدود النص المعلن من الاتفاقية السعودية الأمريكية لم تأت على ذكر إسرائيل لا من قريب ولا من بعيد، وبعد انضمام المملكة للمنظمة بقي الموقف من المقاطعة كما هو في قرار مجلس وزراء خارجية دول مجلس التعاون المشار إليه سابقاً ، وهو بقاء المقاطعة من الدرجة الأولى وهو عدم التعامل المباشر مع إسرائيل فقط أسوة بأمريكا التي ما زالت تقاطع كوبا مع أنهما عضوان في المنظمة حيث أن قانون المنظمة يسمح بذلك ، واستمر سريان إلغاء المقاطعة من الدرجتين الثانية والثالثة وهما التعامل مع الشركات أو الدول المتعاملة مع إسرائيل .
أما بند مقاطعة الدول المتعاملة مع إسرائيل فهو بند لم ينفذ أصلا ، أما بند مقاطعة الشركات فقد ألغي منذ ذلك التاريخ ومثاله شركة فورد للسيارات وشركة الكوكاكولا التي تمت مقاطعتهما لعقود ثم ظهرتا في الأسواق الخليجية بعد إلغاء المقاطعة بعد توقيع اتفاقية أوسلو ، هناك حالة رابعة وهي مخرجات الاستثمار الإسرائيلي في الدول الأخرى ومنها دول عربية وإسلامية ، وكذلك الاستثمار المختلط مع إسرائيليين في البلدان الأخرى ، ستجد المملكة نفسها ملزمة بفتح أسواقها لهذه المخرجات سواء كانت سلعا أو خدمات باعتبار أنها غير إسرائيلية المنشأ حسب التزام المملكة مع دول المنظمة ، وفي حالة ظهور السلع أو الخدمات الإسرائيلية المنشأ أو الاستثمار ، فينبغي أن يقوم الشعب بمقاطعة هذه البضائع والخدمات ، ويحتسب على من يجلبها من رجال الأعمال وهذه المواقف الشعبية لا علاقة للمنظمة بها ، ومن الضروري المبادرة بإيجاد آليات من خلال مؤسسات المجتمع لمقاومة التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل والتحذير منه ، وبيان الموقف الشرعي من ذلك .
3- دور المرأة
شهدت السنوات الماضية صدور العديد من القرارات الداخلية تتعلق بالمرأة ، كان أبرزها قرار مجلس الوزراء في 31/5/2004الذي تضمن زيادة فرص ومجالات العمل أمام المرأة بإصدار تراخيص للنساء لمزاولة الأنشطة الاقتصادية بدون عوائق . وهو قرار جاء بعد إزالة شرط وجود وكيل شرعي لكي تمارس المرأة العمل التجاري، وكذلك قرار الحكومة بأن تنشئ الجهات الحكومية التي تقدم خدمات ذات علاقة بالمرأة وحدات وأقساما نسائية بحسب ما تقتضيه حاجة العمل فيها. كما تم تخصيص فعاليات الجولة الثالثة للحوار الوطني الذي نظمه مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني في المدينة النبوية لمناقشة قضية (المرأة:حقوقها وواجباتها) في 14/6/2004 م والذي جاءت توصياته في الحدود المعقولة ، وتم السماح للمرأة السعودية بالمشاركة في انتخابات الغرف التجارية ، بالرغم أنه يلزم من ذلك الاختلاط بين الجنسين الذي تحظره الأنظمة والتعليمات .
وبالرغم من عدم وجود علاقة مباشرة بين قوانين المنظمة وقضية المرأة إلا أن هناك توجهاً لتوسيع مشاركة المرأة السعودية بعد الانضمام مدعوما بقرارت إدارية وممارسات رسمية ، وبالرغم من أن قرارات توسيع عمل المرأة نصت على الفصل بين الجنسين وعدم الاختلاط غير أننا نشهد دفعاً قوياً نحو تطبيع الاختلاط بين الجنسين في مواقع عديدة وتشجيعاً لذلك من قبل بعض وسائل الاعلام والصحف المحلية ، ومن ذلك الاختلاط الذي يحصل في غالب البنوك في الإدارات العامة وفي الأعمال غير المواجهة للجمهور .
هذه التطورات تأتي استجابة للتأثير الكبير لضغوط البيئة الدولية المطالبة بالإصلاح - حسب رؤيتها الغربية - حيث أصبحت قضية المرأة على رأس اهتمامات بعض المنظمات الدولية وا?قليمية خصوصا تلك التي ُتعنى بالشؤون الاجتماعية والتنموية والحقوقية من منظور علماني غربي .
المصدر الثاني الذي سيفتح المجال أمام المرأة هو ما يمكن أن تجلبه الاستثمارات الأجنبية من أيدِ عاملة نسائية من خلال نسبة الـ25 % المسموح بها حسب اتفاق المملكة مع المنظمة وسواء كانت هذه العناصر النسائية من الداخل أو الخارج فإنها قد تساهم في تغيير سمت بيئة العمل المحلية والتأثير السلبي على مبدأ الفصل بين الجنسين خاصة إذا لم يلتزم بالضوابط المحلية مع ضعف الرقابة أو تهاونها .
4- حقوق المستثمرين(8/136)
في سياق انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية لم تسمح المملكة بإنشاء دور عبادة أو كنائس لغير المسلمين للنصوص الشرعية الواضحة في هذا المجال، مع أن كثيراً من أسئلة الوفود المفاوضة تعلقت بهذا الجانب، وكان الفريق المفاوض يعتمد في إجاباته على أمرين:
أ أن الأنظمة الداخلية لا تسمح بوجود مثل هذه الدور.
ب أن حرية ا?ديان مسألة لم تتطرق لها اتفاقيات منظمة التجارة العالمية.
وقد كان الموقف الرسمي تجاه هذه القضية منذ البداية واضحا وجيدا .
ومن المتوقع أن انضمام المملكة إلى المنظمة يفتح الباب لطرح قضية العلاقة مع غير المسلمين من زوايا عديدة ، فالسماح بزيادة أعداد المستثمرين قد يشجع المطالبة في وقت لاحق بإنشاء دور للعبادة ، وممارسة طقوس ذات بعد ديني وإبراز أعياد دخيلة على أهل الإسلام باعتبار أن هذه من حقوق المستثمرين ، الذين قد يستغلون شيوع مسألة انتقاد أوضاع الحريات الدينية في السعودية من قبل بعض منظمات حقوق ا?نسان الغربية و كذلك في تقارير لجنة الحريات الدينية التابعة للكونجرس ا?مريكي لإثارة المطالبات في هذا الشأن ، ولذا فأهمية الوعي بهذه القضية والحذر من التهاون فيها ودعم الموقف الرسمي المعلن تجاه هذه القضية أمر مطلوب ، والمسارعة في الاحتساب على أي بادرة في هذا الجانب ، والحذر من التساهل في بيان الموقف الشرعي منها لأن بقاء هذه الجزيرة خالية من وجود ديني غير الإسلام أحد خصائصها المعلومة .
5- الجوانب التنظيمية والقضائية
كان أحد أهم الجوانب التي كانت مسار المفاوضات مع المملكة، هو مدى تطابق أنظمة المملكة مع اتفاقيات المنظمة المختلفة، وبناء على ذلك صدر قرار مجلس الوزراء رقم (66) وتاريخ 17/3/1421هـ القاضي بأن تقوم جميع الأجهزة الحكومية بمراجعة جميع الأنظمة ذات العلاقة بما يتفق مع ما يقتضيه انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية، ورفع ما يتم التوصل إليه لاستكمال الإجراءات النظامية اللازمة وإعداد الدراسات التي تبين المكاسب والتكاليف المترتبة على الانضمام والتهيئة لمرحلة ما بعد الانضمام.
كما نص القرار على تشكيل لجنة فرعية للتحضير للجنة الوزارية المكلفة بمهمة متابعة جميع ما يتخذ من قرارات وما يرسم من سياسات وقواعد في النظام التجاري العالمي، وذلك بالقيام بمراجعة مستمرة لما يتم التوصل إليه من قبل فريق التفاوض السعودي.
وبناءاً على ذلك فقد حُدثت بعض الأنظمة الموجودة استجابة لشروط المنظمة ومنها على سبيل المثال :-
أ - نظام العلامات التجارية.
ب- نظام حق المؤلف.
جـ- نظام براءة الاختراع.
كما استحدثت أنظمة لم تكن موجودة بالأصل مثل:
أ - نظام الأسرار التجارية .
ب - الاستثمار الأجنبي .
وهذه الأنظمة استحدثت قبل التوقيع النهائي لانضمام المملكة إلى المنظمة لكنها تمت كمتطلبات واستعداد للانضمام ، وبعض هذه الأنظمة لا يخلو من مخالفات شرعية خاصة المتعلقة بالاستثمار وسوق المال بسبب عدم حسم مسألة الربا في المعاملات التجارية والمالية .
كما صدر مرسوم بإعادة هيكلة القضاء بشكل جذري ومع ما فيه من إيجابيات إدارية وتنظيمية إلا أنه استثنيت فيه مزيد من اللجان الإدارية ذوات الاختصاص القضائي من القضاء الشرعي مثل نظام الاستثمار الأجنبي والتأمين وسوق المال بالإضافة إلى اللجان السابقة مما يعني مزيدا من تكريس ازدواجية القضاء .
6- الجوانب الأخلاقية والسلوكية :-
كان من ضمن التحديات التي تواجهها المملكة في سياق انفتاحها التجاري والتنموي هو أنها بلد محافظ لا يسمح بأماكن اللهو والترفيه المحرم شرعاً ، وقد أدى وجود الأجانب من غير المسلمين إلى مغافلة المجتمع وإقامة أماكن للهو وشاع بينهم تجارة الخمور ، ونشأت تجمعات سكنية للأجانب لا تخلو من هذه المخالفات المحرمة ، ويخشى أن تزداد هذه التجمعات التي يتاح فيها اللهو غير البريء بمقدار ازدياد عدد المستثمرين الأجانب والاستثمار الأجنبي، والأسوأ هو أن يتمكن بعض السعوديين وغيرهم من المسلمين من الوصول إلى هذه الأماكن بحكم علاقة العمل والتجارة مع سكان هذه التجمعات ، مما يُيسر الوصول إلى اللهو المحرم وتطبيعه في المجتمع .
ثامناً : اقتراحات لمواجهة الآثار السلبية الثقافية والاقتصادية المحتملة :
1 - الآثار الثقافية
- دراسة منظمة التجارة العالمية من كافة جوانبها الثقافية والاجتماعية وضرورة وجود دراسات تبين هذه الآثار ووسائل تلافيها وهذا لن يتم إلاّ بوجود متخصصين فيها من أصحاب الاهتمام بالثقافة الإسلامية .
- استثمار الانضمام إلى المنظمة ومبادئ حرية التجارة لتطوير مؤسسات الاقتصاد الإسلامي وتكثيرها وتحسين مخرجاتها وتقديمها كبديل لمؤسسات الاقتصاد الربوي ، وهذا لن يتم إلاّ بوجود متخصصين في المنظمة والتجارة الدولية من أصحاب الاختصاص بالاقتصاد الإسلامي .(8/137)
- تأصيل قواعد العلاقات الدولية وتنظيم التجارة الدولية على ضوء قواعد السياسة الشرعية وضوابط مشروعية الانضمام إلى المنظمات الدولية للمحافظة على الهوية الاسلامية في خضم عولمة التجارة الدولية وما تحمله من أنماط ثقافية واجتماعية وهذا لن يتم الا بوجود المتخصصين في القانون و التنظيم الدوليين من أصحاب التخصص في السياسة الشرعية.
- العناية بالدراسات الفقهية المتعلقة بالتجارة الدولية كالإغراق والغبن واحتكار السلع والغش التجاري وغير ذلك من المباحث الفقهية ذات العلاقة وإعادة دراستها على ضوء التطورات الاقتصادية المعاصرة ونشرها من خلال المجامع الفقهية و الهيئات الشرعية.
- التجارة كانت وسيلة للدعوة إلى الإسلام في البلدان غير المسلمة في السابق فينبغي العناية بهذا الجانب ، من قبل المستثمرين المسلمين عموماً والسعوديين خصوصاً الذين سينفذون إلى الأسواق العالمية من خلال اتفاقية الخدمات خاصة قطاع التعليم .
- الحذر من بعض أصحاب التوجهات المنحرفة التي تريد أن تستثمر انضمام المملكة إلى المنظمة في تغريب المجتمع بحجة الاندماج في النظام العالمي والعولمة وبيان الموقف الرشيد في كيفية استثمار ايجابيات الواقع العالمي الجديد مع المحافظة على الهوية الاسلامية .
- رصد التغيرات السلبية في المجتمع من جراء الانفتاح والتعولم ، من أجل الاحتساب عليها مبكرا وتقوية الحس الاحتسابي في الوسط التجاري وتفعيل الدعاوى الاحتسابية فإن الدفع أسهل من الرفع.
- تطوير المؤسسات والهيئات الشرعية الرسمية والشعبية كالمجامع الفقهية ولجان الفتوى والهيئات الشرعية في المؤسسات المالية والإعلامية والاجتماعية من اجل ضبط حركة التنمية في الجوانب الشرعية وأهمية مواكبة هذه الأجهزة لذلك من حيث السرعة والتأهيل.
- تطوير التعليم وتحسين مخرجاته سواء كان تعليماً شرعياً أو تعليماً طبيعياً وسواء كان عاماً أو جامعياً في الميدانين الرسمي و الأهلي والحذر من أن يكون التعليم المحلي متخلفاً عن التعليم المؤسس باستثمار اجنبي .
- تخليص المؤسسات المالية والمصرفية من الربا لمخالفته للشريعة أولاً ثم لمخالفته للدستور ( نظام الحكم ) والذي كان سببا في ازدواجية الهوية الثقافية للبلد وما ترتب على ذلك من ازدواجية في النظام القضائي السعودي واعادة جميع اللجان الادارية وذات الاختصاص القضائي الى مظلة القضاء الشرعي .
- تشجيع تخفيض الجمارك وإلغاءها لأنه يتفق مع مقاصد الشارع في تحريم المكوس .
2 - الآثار الاقتصادية
أ - تطوير البيئة القانونية والقضائية والتشريعية الحالية من أجل ضمان غطاء قانوني لحماية أنشطة المؤسسات الخدمية المحلية ، وسرعة تطبيق الهيكلة القضائية الجديدة ، وتسهيل إجراءات التقاضي ودعم المؤسسات القضائية بمزيد من القضاة المؤهلين .
ب- تطبيق الأنظمة وسرعة إجراءات التقاضي وإنفاذ الأحكام والقرارات وإيجاد المحاكم المتخصصة / تقليص البيروقراطية الحكومية / تدريب العمالة المحلية من خلال برامج تدريبية فعالة ، ففي دراسة ملتقى الرياض الاقتصادي الثاني كانت نسبة من يعتقد أن هذه تحديات لسوق الخدمات هي 53% ، 55% ، 60% على التوالي .
ج- رفع مستوى المعرفة بمبادئ واتفاقيات المنظمة والفرص المتاحة ومواقع المنافسة الحادة / وإنشاء مراكز و بوابات الكترونية للاستفسارات .
د إيجاد آليات لحماية الأنشطة التجارية من المخالفات / وإيجاد الهيئات الرقابية لمراقبة مدى الانضباط بقواعد وأنظمة التجارة داخلياً وخارجياً / وتدريب الكوادر الكافية للقيام بهذه المهام.
هـ- توفير الشفافية والإفصاح عن جميع ما يخص الجوانب القانونية والإجرائية والتعاقدية من القرارات والأنظمة والتعاميم والأحكام ونشرها ، وإنشاء مركز استفسار مدعم بقاعدة بيانات بما يتيح الرد على الاستفسارات .
و إعداد الدراسات الاقتصادية المتخصصة لتوضيح نقاط القوة ونقاط الضعف في الأسواق المحلية المفتوحة للاستثمار الأجنبي واقتراح السبل المثلى للتعامل مع مبادئ النظام التجاري العالمي وكيفية استثمار الفرص المتاحة والميزات النسبية في الأسواق المحلية والأسواق العالمية .
ز إنشاء التكتلات ( الاتحادات الجمركية / الأسواق الحرة ) لتبادل عناصر الإنتاج من سلع وخدمات وتقنية وحقوق ملكية فكرية بحرية تامة والاستفادة من المادة (5) من اتفاقية الجاتس التي تستثني دول التكتل من تطبيق مبدأ حق الدولة الأولى بالرعاية مع الدول خارج التكتل .
ح تطوير الأجهزة الحكومية ذات العلاقة كالإدارات الجمركية لأنها صارت مسئولة عن تنفيذ عدد من الاتفاقيات التجارية واستحداث أجهزة جديدة تعنى بالتجارة الخارجية وتأهيل العاملين فيها لتحقيق المشاركة الفعالة في النظام التجاري العالمي ولمواجهة تحديات انضمام المملكة إلى المنظمة .
ط- دراسة الآثار التجارية السلبية والإيجابية على بعض الدول التي مضى على انضمامها مدة كافية للاستفادة من ذلك ، واستشراف المستقبل لتعظيم المصالح وتقليل المفاسد .
خلاصة الموقف:(8/138)
مما سبق يتبين أن المملكة حصلت على استثناءات جيدة فيما يتعلق بالهوية الإسلامية من خلال استثناء السلع المحرمة وعدم فتح أنشطة الخدمات المحرمة واشتراط عدم مخالفة الشريعة في أنظمة حقوق الملكية الفكرية ، ويبقى بعد ذلك مدى الالتزام بهذه الاستثناءات والمكتسبات من قبل أجهزة المراقبة على الحدود أو داخل الأجهزة الحكومية والمحاسبة على المخالفات ، أما في ما يخص المسألة التجارية فهناك استثناءات (مكاسب) وهناك التزامات (تكاليف) متعادلة إلى حد ما ولكن نظراً لأن سوق المملكة مفتوح من قبل والتعرفة الجمركية لمعظم السلع المطبقة أقل من المثبتة مما يرشح قدرة السوق السعودي على امتصاص آثار الالتزامات السلبية ، أما إذا أحسن الاستفادة من قوانين المنظمة ووظفت الموارد توظيفا جيداً واستثمرت المزايا النسبية للمملكة فسيكون انضمام المملكة إلى المنظمة مفيدا من الناحية التجارية .
أما الآثار الثقافية التي يخشى منها فهي خطيرة إذا تم الاختراق الثقافي من خلال أنشطة ومتطلبات الاستثمار وانفتاح الأسواق الذي سيحدث مثل هذه الآثار تدريجياً إلا أنه يمكن التقليل منها بالحزم في تطبيق الأنظمة والتعليمات المحلية ، وتمكين أجهزة الرقابة الإدارية والاحتسابية من مراقبة مخالفة الضوابط العامة ومنع ذلك سواء حصلت من أجانب أو من سعوديين وعدم إعطاء الأجانب - خاصة الغربيين - تمييزاً على الآخرين عندما يتجاوزون النظام العام .
المراجع:
• أوراق منتدى الرياض الاقتصادي الثاني ( 2- 4 ذي القعدة1426هـ).
• أوراق المنتدى الاقتصادي الرابع لدول مجلس التعاون الخليجي ( دبي 17-21 ديسمبر 2005 ).
• موقع وزارة التجارة والصناعة السعودية على الانترنت .
• موقع منظمة التجارة العالمية (WTO) على الانترنت وفيه وثائق انضمام المملكة إلى المنظمة .
• موقع محامون على شبكة الانترنت .WWW.MOHAMOON.COM
• أبحاث ومحاضرات مسجلة عن المنظمة د. فؤاد العلمي نائب رئيس الفريق السعودي المفاوض .
• مقالات منشورة وغير منشورة عن المنظمة د.عبدالله العبيد وكيل وزارة الزراعة وعضو الفريق المفاوض .
• كتب مطبوعة عن المنظمة .
=============(8/139)
(8/140)
غزَّة وابن تيمية والنشيد الوطني الصهيوني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه..أما بعد :
1) فقبل ثمانية قرون تقريبا ، مرّ العلامة المحقق أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله بغزّة ، وعقد في جامعها ( لعله العمري ) مجلسا علميا كبيرا ، فتعلق أهل غزّة به ، وسأله أميرها المنصوري أن يضع له برنامج عمل سياسي إسلامي ، فأجابه ابن تيمية رحمه الله إلى ذلك ، وحرّر له مشروعا متكاملا في هذا الشأن ، كتبه في ليلة واحدة ، وقدمه له صلاة الفجر ، واشتهر وانتشر تحت مسمى : (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) ، وهو الكتاب القيم المعروف المشهور ، الذي لا تخلو منه مكتبة طالب علم .. تذكرت هذا العالِم وقصته ، وأنا أفكِّر في ذلك الثغر الذي يحمل رقما قياسيا في الكثافة السكانية على مستوى العالم مع صغر مساحته ، وقلَّة موارده ، ومحاصرة أهله .
2) وغزة تاريخ إسلامي عريق دونه الشيخ عثمان الطباع في : إتحاف الأعزة في تاريخ غزة ، .. وغزّة هي غزّة التي عرفناها من قبل في فتوحات الفاروق رضي الله عنه ، ومرت بنا في ترجمة الإمام محمد بن إدريس الشافعي الغزي ، أحد أئمة الفقه الأربعة ، تلميذ الإمام مالك ، وشيخ الإمام أحمد رحمهم الله ..
وإنِّي لأتذكر غزّة بل فلسطين المحتلة كلّها ، كلّما قرأت أو سمعت أو تذكرت آخر سورة آل عمران ، لأنَّها جمعت خصالاً نراها رأي العين في الأسرة الفلسطينية الصابرة ، المصابرة ، المرابطة ، رجلا وطفلا وامرأة وعجوزا .. غزّة التي تكاد تتجاوز حدود المعقول في صمودها واستبسال أهلها وتضحياتهم ، بل تجاوزت حدود المألوف وقاربت تجاوز حدود المعقول ، حين نعلم أنَّ حوامل غزّة يساهمن في المقاومة بتبرعهن بنوع من الأحماض البولية الخاصة بالحوامل ، لأنها توفر لمصانع الأسلحة المحلية للمرابطين مواد أولية ليدافعوا بها عنهن !!
3) تذكرت غزّة وماضيها ، و تذكرت جميع الأراضي المحتلة في فلسطين والجولان ومزارع شبعا وغيرها ، ثم تذكرت دعوات التطبيع وما يصاحبها من جهد مأزور فيما يشبه التمهيد لتطبيع المسلم عقديا من خلال القدح الجائر والاعتداء السافر على مسلمات العقيدة الإسلامية ، ودلائل النصوص القرآنية القطعية ..
تذكرت تلك الجهود الخاسرة التي يتبنّاها كتّاب الخَوَر المهين في عالمنا العربي ، ما بين قاصد و جاهل ومستغفَل ، للنيل من عقيدة الولاء للمؤمنين وكأنّما هو جهد في تذليل الصعوبات العقدية أمام الغزاة المحتلين والصهاينة الغاصبين ، بوعي أو دون وعي لحقيقة المعركة ، التي يجسدها علناً النشيدُ الوطني للكيان الصهيوني :
" طالما في القلب تكمن .. نفس يهودية تتوق .. وللأمام نحو الشرق .. عين تنظر إلى صهيون .. أملنا لم يضع بعد .. حلم عمره ألفا سنة .. أن نكون أمّة حرّة على أرضنا .. أرض صهيون والقدس .. " .
أقول هذا ، لأنَّنا وجدنا من الكتاب العرب من يتعاطف مع جندي أسره مقاومون شرعيون على أرضهم - وهو الحق الذي تكفله قواعد القانون الدولي - تحت دعاوى الحرص على الفلسطينيين ، في حين أنني سمعت بعضهم من قبل يردد جملة : " إخواننا في فلسطين !! " إخواننا في فلسطين !! " على سبيل السخرية .. مستهجنا تعاطفنا مع إخواننا المسلمين ، داعيا إلى التقوقع في ظل العولمة ونبذ الأممية زَعَم ، وعدم التدخل فيما وراء الحدود . فيا ترى هل يظن هؤلاء أنَّ الجندي اليهودي المأسور ، دون الحدود أو يعلمون أنه وراءها ؟
4) لقد كانت صناديق الاقتراع التي نادى بها دعاة الديمقراطية امتحانا صعبا لهم .. فبعد عدد من النتائج غير المرضية لهم في عدد من البلدان ، حاولوا تدجين الأمة إعلاميا ثم طالبوا بوضع الصناديق لها مرّة بعد مرّة ، وكان مكان اختبارهم الأخير للأمة ، هو أقسى مواقع معاناتها ، فتمَّت : انتخابات المجلس التشريعي في السلطة الفلسطينية ؛ وما إن ظهرت النتائج الأولية حتى تهامس الظلمة من الإفرنج ، فلم نلبث أن سمعنا صراخ (الشرعية الدولية وحقوق الإنسان) - التي طالما يطالبون خصومهم برعايتها ، في مثل حالة الصين وكوريا الشمالية - سمعناها تصرخ في فلسطين تحت أقدام واضعيها ، وتنتهك دون قدرتهم على تبرير منطقي لما يجري منهم تجاهها ، فحوصر الشعب الفلسطيني الذي كانوا يقدّمون صورة الحرص عليه في قالب (الديمقراطية) ، وبلغ الأمر بأدعياء الديمقراطية ، والمتباكين على حقوق الإنسان ، أن يتآمروا على الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة بمنعه من استلام أجرة عَرَق الجبين ، التي يشتري بها - وليس منها - حليب المولود ، وغذاء الطفل ، وقوت الإنسان.
لقد أزالت هذه الانتخابات ، بقايا أوراق التوت عن سوءات دعاة الشرق الأوسط الكبير ، وبصقت في وجوه المبشرين برغده وعدالته وتفوق حقوق الإنسان فيه .
لم لا ؟ ألم ير الناس كيف حوصرت حكومةٌ منتخبة في انتخابات لم يشكك أحد في نزاهتها ، مع محاولاتٍ جرت لتدارك النتيجة ولو في اللحظة الأخيرة .(8/141)
لقد شهد العالم كيف خلت - ولم تكن من قبل كذلك - خزينة المالية الفلسطينية قبيل تسليمها للحكومة المنتخبة بفواق ناقة ، وكأنَّ أموال الأمة وأرزاق الناس ، ومستحقات اليتامى محلّ عبث سياسي .. والإمعان في الحصار بمنع البنوك من التعامل مع الحكومة المنتخبة - التي حصلت على أصوات لم يحصل على مثلها المرشحون في أعرق الأحزاب السياسية الغربية - بعيد إعلان النتائج .
ثم رأى العالم بالصوت والصورة كيف يُجلب قوت الشعب للشعب تهريبا ، عبر منفذ بري حدودي وحيد بين غزة ومصر ، في معاطف وزراءَ في حكومة شرعية !
إنَّ هذا الظلم والجور والتعامل غير الحضاري - ذاته - ذكرني رسالة أبي العباس ابن تيمية رحمه الله إلى ملك قبرص التي يطالبه فيها بإطلاق سراح أسرى المسلمين ، ويحذره فيها من عقوبة الظلم وسنة الله في الظالمين دولا وأفرادا .
5) ظنّ الخصوم أنّ الأمة هزمت واستسلمت ، ولكن الوهم تبدّد ، ولنا في التاريخ معتبر ، فلقد تيقنوا فيما بعد أنَّها لم تمت وإنَّما كانت مسترخية ، وربما كان منها من أخذته سِنة من النوم ، تحت شعارات القومية العربية الزائفة ، والشعارات الثورية الفارغة ، في ظاهرة صوتية لخصتها للجيل الذي لم يشهدها ، تصريحات وزير الإعلام العراقي الذي غطّى غبارُ القصف آثار أقدامه قبل أن يغادر بغداد هاربا و هو يتحدّث عن الصدّ والصمود إلى آخر نطفة دم ..
لقد رُكِلَت الأمة عام النكسة ، فاستيقظت وصحت ، واكتشفت سرّ هزيمتها الحديثة ثم سرّ نصرها القديم الذي قامت عليه دولتها الأولى وما تلاها من دول الإسلام ، وحتى هذه الأحقاب المتأخرة التي تحالف فيها الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله ، في دليل مادي ملموس على سبب النصر الإلهي ؛ ولعلّ هذا سرَّ التضايق من الصحوة ، ومن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومن قبلهما ابن تيمية إيَّاه - رحمهم الله - وكأنَّ ظَلَمَة الإفرنج ومساندي المغتصب ، يستشرفون آثار تراث هؤلاء القادة وتجربتهم في مستقبل القضية .. إنَّ ظلمة الإفرنج ومن خُدِع بهم أو وافقهم من بني جلدتنا ، يريدون من الأمة أن تموت لا أن تغرق في النوم فقط ؛ ليسرحوا ويمرحوا خارج وحي الله ، في ليبرالية مخزية ، لا تعرف دينا ولو كان الإسلام ، ولا ثابتا ولو كان عقيدة التوحيد ، ولا أصلاً يقينياً منصوصا ولو كان الولاء في أواسط الحجرات والبراء في أواخر المجادِلة .
وما علم هؤلاء أنَّ من النّوم نوماً كهفياً يصحو فيه المضطهدون على زغاريد النصر ومباهج الاحتفاء .
6) إنَّ من المؤسف أن نرى التطبيع الإعلامي في إعلام العرب والمسلمين يسابق التطبيع السياسي في ظل أجواء لا تسمح لذي حياء أن يتكلم . ولكن يا ترى ماذا يستطيع أن يقول دعاة التطبيع ( الصلح الدائم الذي يتم بمقتضاه الدخول في جملة من الاتفاقات متنوعة الجوانب بما في ذلك الجانب الثقافي والاقتصادي والأمني وغيرها ) مع هذا الكيان الصهيوني الغاصب المحتل ، الذي لم يحترم شيخا ولم يرحم طفلا ، ولم يقدر - ولو إنسانيا - وضع امرأة حامل ! ليضعها وجنينها في عنابر قذرة ، خلف قضبان ظالمة ، ومعاملة جائرة .. ما الذي يمكنهم قوله ، ولِمَ صَمَت بعضهم عن الحديث في الحدث ، وانكفأ بعضهم على إثارة قضايا داخلية محسومة شرعا ونظاما ، وفعل بعضهم الأسوأ بما تقدم ذكره ..
7) وهنا لا يفوتني أن أهمس في آذان المخلصين من الدعاة والكتاب بأنَّنا يجب أن ندرك الفرق بين الصلح مع اليهود في فلسطين بالمعنى القانوني الدولي ، وبين ما قد يضطر إليه الإخوة في الحكومة الفلسطينية الحالية من الدخول في مفاوضات والوصول إلى اتفاق هدنة سواء كان ذلك في العاجل أو الآجل ، فلنفترض أنَّ الإخوة في القيادة الفلسطينية الحالية - وهم ما بين علماء و طلبة علم أو رادّون إليهم - سلكوا هذا المسلك ، فهل يسوغ التثريب عليهم ، فضلا عن تخوينهم والنيل منهم ؟ كلّا فثمة فرق بين مسألة الصلح الدائم الذي أجمع العلماء على منعه ـ العلماء السابقون ـ ، واتفق على تجريمه في قضية فلسطين العلماء المعاصرون ، وبين عقد هدنة مؤقتة أو مطلقة في نظر مصلحي ممن يملك آلة الاجتهاد وتقدير المصلحة المرعية في الشرع .
وبسبب الخلط في فهم هذه المسألة ، غلط بعض الناس على شيخنا العلامة / عبد العزيز بن باز - رحمه الله - حين نسبوا إليه جواز الصلح مع اليهود بالمفهوم العرفي الدولي (الصلح المؤبّد) مع أنَّه قد أوضح ما عناه وبيّنه بقوله : " الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكا أبديا ، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة ، أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة ."( مجلة البحوث الإسلامية : العدد (48) ص : 130-132 ) .
8) قد يصاب بعض الناس من أهل الغيرة والحمية ، وخاصة الشباب بنوع من الإحباط أو اليأس وهم يشهدون هذا الحدث وأمثاله ، وحق لهم أن يتألموا .. ولكن ربما تصرف بعضهم تصرفاتٍ غير مشروعة ، لا يرجعون فيها لعالم معتبر ، ولا سياسي حاذق .(8/142)
ولهؤلاء يقال : السكينة السكينة .. يمكنكم أن تصنعوا شيئا في نصرة المسلمين بطرق مشروعة مرجوة النفع مأمونة العواقب ، إزاء ما يجري من حصار إخواننا في غزة على سبيل المثال .
وإذا ما استبعدنا استخدام جميع الوسائل القانونية المعترف بها في سبيل مطالبة العدو بالعدالة ، ومراعاة القوانين الإنسانية الموافقة للشرع ، على المستوى الرسمي والمؤسسي في العالم العربي والإسلامي - وهي أمور يفقهها أهل الشأن - فإنَّ بإمكاننا كأفراد أن نقوم بجهود نصرة شرعية قانونية مؤثِّرة إن شاء الله تعالى ، ولو لم يكن فوريا .
وهذه بعض الأمثلة للوسائل المشروعة المتاحة أذكرها على سبيل التنبيه لا الحصر :
فالمثال الأول : الدعاء لإخواننا في غزّة والقنوت لنازلتهم ، وقد أفتى بذلك في هذه القضية بالذات سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ حفظه الله لكل من سأله ، واصفا ذلك بأنّه أيسر ما يمكننا تقديمه من نصرة .
كيف وقد وجدنا في الأنباء أنَّ حاخامات يهود يدعون إلى الصلاة من أجل تحرير جندي ظالم ، ويقومون على أرض مطار غزة في محاولة لتثبيت الغزاة الغاصبين ، فما أهوننا إن لم نرفع أيدينا إلى الله عز وجل نطلب منه الغوث لأهلنا في غزة ، ونتضرع إليه طلبا للطفه سبحانه بالأجنة في بطون الحوامل ، والصغار في أحضان الأمهات ، والشيوخ في زنازين الصهاينة ، والمصابين والمرضى في عنابر المشافي وغرف الإنعاش .
والثاني : الكشف الإعلامي للحقائق المتعلقة بأسرانا في فلسطين ، أعداداً وأوضاعا ، وأحوالا ، فليزر من يروم نصرة إخوتنا في فلسطين - على سبيل المثال - مواقع الأسرى على الشبكة العالمية ، وليحكِ منها للناس بعض ما يجد من معاناة امرأة أو طفل أسير أو شيخ قد بلغ من الكبر عتيا ! أو مولود فلسطيني ولد أسيرا في عنابر السجون الصهيونية الظالمة ! فربما رقّ مؤمن فانتصر بالدعاء الذي قد لا يرد ، أو اطلع ذو مالٍ فاتقى الله في ماله وبذل ، أو قرأ خصم فارعوى ورجع ، أو بلغ من هو أوعى من قاريء . ومثله كشف الحقائق المتعلقة باللاجئين الذين يحل محلهم ظلما وعدوانا قطعان المستوطنين في المغتصبات الصهيونية الظالمة .
الثالث : إبراز كل ما يتعلق بجهود المقاطعة الشعبية وأسبابها المشروعة ، من خلال مواقع المقاطعة الشعبية للكيان الصهيوني على الشبكة العالمية وغيرها ، ومنها مواقع عديدة معروفة ومليئة بالحقائق الميدانية ، والمزيد من الأفكار العملية المشروعة التي تحتاج إلى مزيد تفعيل ، لتساهم في بقاء القضية الإسلامية حية في نفوس الأمة ، وتوعية الرأي العام العالمي بها من خلال عرض كل جديد وتوضيحه مدعما بالوثائق والأدلة . وعدم نسيان الحقائق المتعلقة بالجهود الصهيونية في محاولة هدم المسجد الأقصى ، وما يجري منهم تحته من أعمال حفر وتنقيب ، وخلخلة لمبانيه ، وامتهان لأرضه ، وتهديد بذلك على أيدي العصابات الصهيونية شديدة التطرف ، وكذا محاولاتهم السيئة في تغيير التركيبة السكانية في القدس المحتلة .
الرابع : كشف خطوات التطبيع الظالم ، والإفادة في ذلك من إحصائيات المواقع الموثوقة التي أنشأتها المؤسسات الإسلامية والعربية في البلاد التي تضرر أهلها من التطبيع ، ولم يجنوا منه غير الفساد في الاقتصاد والزرع والنسل ، وتيسير الاختراق الصهيوني للبلاد العربية والإسلامية ومؤسساتها الحيوية المهمة . ولنلق الضوء على خطوات التطبيع الإعلامي ، كترداد الأسماء والمصطلحات العبرية ، مثل : (حاجز إيريز) بدل معبر بيت حانون ؛ و(حائط المبكى) بدل حائط البراق ؛ و(إيلات) بدل أم الرشراش ، و(أشكيلون) بدل عسقلان ، و(تل أبيب) بدل تل الربيع .. و (الأراضي الفلسطينية) بدل فلسطين ، إقرارا ضمنيا بأنَّ ما تبقى حق ليهود ! و (إسرائيل) للإشارة للكيان اليهودي الصهيوني المحتل أو للأراضي المحتلة عام 1948م ، والإيحاء بأنَّ هذا الجزء المحتل صار حقاً ليهود ، لا يجوز حتى التفاوض عليه ، بخلاف الأراضي المحتلة عام 1967م فلا زالت تستحق أن يُتفاوض عليها !( ينظر للمزيد : مصطلحات يهودية احذروها - مركز بيت المقدس) .(8/143)
الخامس : المساهمة في إيصال طلبات أُسَرِ الأسرى الفلسطينيين وما يعانيه المأسورون ، إلى منظمات حقوق الإنسان فإنَّ الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر كما في الصحيح ، ومطالبة هذه المنظمات بالمزيد من الجهود في سبيل إحسان معاملة الأسرى وإطلاق سراحهم ، بيانا للحقيقة ، ومحاولة في التأثير على الرأي العام العالمي ، وقطعا للطريق على تباكي الصهاينة أمامها واستعطافهم لها من خلال قضايا نادرة أو مختلقة أو مدعومة بحبل من الناس . وفي هذا مساندة للجهود الرسمية المخلصة ، كالذي جرى في مجلس حقوق الإنسان في الأيام الماضية القريبة ، حين تمكنت الدول العربية والإسلامية الأعضاء فيه من تمرير قرار يؤكد إعادة طرح موضوع الانتهاكات في الأراضي العربية المحتلة على المجلس في المستقبل ، وتنظيم دورة خاصة حول الموضوع ، من خلال التصويت الذي حسم الموقف بعد تباكي اليهود وأعوانهم ، وقد اعترفت سويسرا موطن اتفاقيات جنيف بانتهاك الكيان الصهيوني للقانون الإنساني بإنزال"عقاب جماعي" بالفلسطينيين في غزة ، مع أنها صوتت ضد القرار السابق .
هذه أمثلة لبعض الأمور التي يمكننا أن نقوم بها دون عناء بصورة مشروعة مأمونة .
نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين ، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين للقيام بكل ما يطيقون من جهد في نصرة الحق وأهله ، ورفع الظلم عن إخواننا المسلمين في كل مكان .
هذا والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .
=============(8/144)
(8/145)
آهات الطبيبات ..بين أروقة المستشفيات
حدث :
فالبرغم من الصعوبات والعقبات التي واجهتها في بعض تلك القطاعات إلا أنها أثبتت جدارتها وأهميتها بالمجتمع ، ولم تستلم لأية صعوبة مهما كانت شدتها .
ومن هذه القطاعات التي برزت فيها المرأة السعودية (( القطاع الطبي )) وتقدمت فيه بشكل واضح ولأهمية وجود الكادر النسائي في هذا القطاع الحيوي الإنساني .. فردت (( المتميزة ـ عدد 40)) صفحاتها للعاملات في هذا القطاع الحيوي ليبثثن معاناتهن ويوضحن الصعوبات التي تعترض طريقهن .. ثم الشروع من خلال المختصين والعلماء الربانيين بالحلول الناجحة - بإذن الله- للمرحلة القادمة .. إن شاء الله .
تقرير:
ما بين شرف المهنة والتحديات ..
التقينا بعدد لا بأس به ممن يشغلن وظائف بالقطاع الطبي أو سبق أن عملن به فكان أن تحدثت كل واحدة منهن بكل صعوبة واجهتها أو ما زالت تواجهها ، والتي تحد من إنجازاتها واستمرارها بهذا المجال الهام .. بداية كان لنا لقاء منيرة محمد - طبيبة عامة في إحدى المستشفيات الحكومية بالرياض - تحدثت معنا عن معاناتها وفي عينيها تساؤلات كثيرة ، حيث قالت : مع أن نظرة المجتمع للمرأة العامة بالقطاع الطبي بشكل عام ، والطبية بشكل خاص في تحسن واضح إلا أن فرص الزواج منها لا تزال قليلة مقارنة بالموظفات الأخريات في المجالات الأخرى (( وتضيف )) دائماً أوجه لنفسي تساؤلات كثيرة عن سبب عزوف بعض الرجال أو بالأصح أغلبهم عن الزواج من الطبيبة !!
فأنا مثلاً بلغت سن الأربعين ولم يتقدم لي أحدى سوى نادراً ولم يكتب الله لي النصيب !!
وتشاركها زميلتها نهي عبد الله - طبيبة العيون - حيث تقول : على الرغم من أننا في القرن الواحد والعشرين إلا أننا نرى أعداداً لا بأس من المعارضين لالتحاق المرأة السعودية بالطب ، فمثلاً أنا ما زلت أذوق الأمرين من نظرة أقاربي لي بأنني فتاة متمردة لا تستحق الاحترام !! وأضافت قائلة : ومن المشاكل كذلك التي تعانيها الطبيبة بشكل عام ساعات الدوام الطويلة ، وكثرة المناوبات .. وتتفق معها طبيبة الأسنان نادية محمد حيث تقول : بالفعل والله إن ساعات الدوام طويلة جداً جداً ، والمناوبات كثيرة أيضاً وذلك يؤثر على أسرتي وأبنائي وتلبية احتياجاتهم
وتضيف .. لو كان هناك مراعاة وتقدير لطبيعة المرأة وظروفها ، وأنها أم وزوجة لما عشنا الأمرين ما بين حبنا لمهنتنا ، وما بين القيام بواجباتنا الأسرية .
كما التقينا بالممرضة التي رمزت لاسمها بـ ( ن. ل) . فتحدثت لنا قائلة : الزواج ومهنة التمريض خيارين يرى مجتمعي أنه يجب علي اختيار أحدهما ، وليس من حقي الجمع بينهما !! هذا ما ابتدأت به حديثها معنا وأضافت : لا أعلم لماذا كثير من الناس ينظرون للممرضة السعودية نظرة ازدراء ، ويعممون حكمهم بأن كل ممرضة ، أو بالأصح كل من تعمل بالمستشفيات فتاة منحلة أخلاقياً ، ولا تحافظ على حجابها ، فأنا مثلاً ولله الحمد محافظة على حجابي وأحاول قدر استطاعتي أن لا أختلط بالرجال كثيراً ، وأختصر أكثر تعاملي مع النساء اللاتي من المؤكد يفضلن الممرضة على الممرض .
أغيثونا من داء الاختلاط
لا يغفل عاقل عن الآثار السلبية الناتجة من الاختلاط .. (( إنّه داء عضال أغيثونا )) هذا ما ابتدأت به سارة السعد حديثها وهي موظفة سابقة في إحدى المستشفيات بالرياض .
وأضافت : لولا ما كنت أعاني من الاختلاط بالرجال لما تركت وظيفتي رغم حاجتي لها ، فقد واجهت عدة مضايقات سواء من الموظفين ، أو من المرضى - هداهم الله - لذا فضلت ترك العمل خوفاً على نفسي من الفتنة.
أما منى العتيبي - مترجمة في إحدى المستشفيات بالرياض - فتقول : هناك عدة مشاكل تواجهها المرأة العاملة بالقطاع الطبي بشكل عام وأواجهها أنا بشكل خاص وهي :
- طول فترة الدوام فتسع ساعات طويلة جداً بحيث لا يبقى وقت للعلاقات الأسرية أو حتى التواصل مع عائلتي إلا بشكل قليل .
- الاختلاط وإن قل .
- النظرة السلبية من المجتمع للمرأة العاملة في مجال مختلط .
- انعدام الأمان الوظيفي (( بالنسبة لي خوفاً من انتهاء العقد )) .
- نظام الشركات التي تهضم حق الموظفة من حيث التقاعد ، الإجازات ساعات العمل .
- المواصلات وما أدراك ما المواصلات .
- كما التقينا بهدى ناصر كانت طالبة في كلية الطب ثم تركتها .. سألناها عن سبب عدم مواصلتها رغم شغفها منذ صغرها بالالتحاق بالطب حيث قالت : كنت أحلم منذ صغري بأن أكون طبية أطفال ولتفوقي الدراسي وحصولي على نسبة عالية أهليتي للالتحاق بكلية الطب ، ولتحمسي الشديد لم أعير اهتماماً بأنني سأختلط بالرجال كثيراً سوءاً أثناء دراستي أو حتى بعد التخرج والالتحاق بالعمل ، لكن عند ما وصلت لمرحلة التطبيق العملي وبدأت أخالط الرجال ، بدأ ينتابني شيء من الخوف خاصة عند ما أرى بعض زميلاتي يتسابقن ليحزن على إعجاب زملائنا الطلبة والأساتذة ، فخفت على نفسي من أن أتبع هواي وأتنازل عن حجابي ، لذا قررت وبكل حزم أن أقطع طريق مواصلتي للتخصص الذي أحبه - محتسبة الأجر عند الله - وألتحق بتخصص آخر ، وها أنا الآن أدرس بجامعة الإمام ..(8/146)
وللرجال رأي
وعن سبب عزوف بعض الرجال من الزواج بالطبيبة أو من يعملن بالقطاع الطبي قال فهد القحطاني :
هناك سببين برأيي أديا إلى عزوف بعض الرجال من الزواج بالطبيبة وهما : تعالي بعض الطبيبات على بعض المتقدمين لهن خاصة إذا كانوا أقل منهن من ناحية المستوى التعليمي والوظيفي ، فأنا مثلاً تقدمت لواحدة من قريباتي تعمل طبيبة ورفضتني لأن شاهدتي ثانوية !!
والسبب الآخر يرجع لأوقات الدوام وطول ساعات العمل .
ويوافقه الرأي خالد ناصر حيث قال : أرى أن ساعات الدوام بالنسبة للطبيبة طويلة جداً مقارنة بالموظفات اللاتي يعملن في قطاعات أخرى ، لذا يفضل بعض الرجال اختيار من كانت ساعات عملها مناسبة ، حيث تستطيع أن توفق بين عملها وبيتها .
أما تركي إبراهيم فيقول : في رأيي أن السبب يرجع إلى خوف الرجل من الشعور بالدونية وعدم الإمساك بزمام الأمور ، وخشيته كذلك من تعاليها عليه خاصة عند ما يرزق بأبناء سيجد صعوبة من إنهاء العلاقة خوفاً عليهم من التشتت ، فيضطر إلى التنازل عن موقعه داخل المنزل من أجل استمرار الحياة .
ويقول عبد العزيز عبد الله .. رغم قناعتي بالدور الهام الذي تقوم به كل طبيبة وممرضة إلا أنني لا أفضل الارتباط بمن تعمل بالقطاع الطبي وعن السبب قال :
لأن غيرتي لا تسمح لي بأن أرى زوجتي تخالط الرجال .. وأضاف : لا أعلم لماذا لا تخصص وزارة الصحة مستشفيات خاصة بالرجال وأخرى خاصة للنساء.؟ مع أن دولتنا تسعى جاهدة لتوفير سبل الراحة لمواطنيها .
نظرة المجتمع ومدى تغيرها
في السابق كان المجتمع ينظر لكل من تعمل بالقطاع الطبي نظرة دونية قاصرة ، مهما كانت مكانتها لكونها تعمل في مكان مختلط مع الرجال ، أو لعدم ثقتهم بإمكانيات المرأة .. ترى هل ما زالت تلك النظرة موجودة في عصرنا .. عصر العولمة أم أنها زالت ؟
سؤال طرحناه على الدكتور سليمان الغديان - الأخصائي النفسي - حيث أجاب قائلاً : في تصوري أن نظرة المجتمع تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ينظر إلى المرأة العاملة في المستشفيات نظرة تقدير واحترام لأنها اتجهت إلى هذا المجال لخدمة دينها ، ووطنها ، عن طريق مساعدة وعلاج بنات وطنها ، والاستغناء عن الأجنبيات ، وهذه النظرة برأيي تمثل شريحة كبيرة من المجتمع .
أما القسم الثاني : فينظرون للمرأة العاملة بالقطاع الطبي نظرة سلبية وهم قلة من أفراد المجتمع .
كما طرحانا تساؤلنا على الأستاذة هدى بخاري - الأخصائية الاجتماعية - وأجابت قائلة :
أصبح هناك تفهماً ووعياً أكثر من المجتمع على مختلف شرائحه بطبيعة دور المرأة التي تعمل في المجال الطبي ، فلم يعد ينُظر لمن تعمل في هذا المجال نظرة دونية كما في السابق ، وذلك لأن المرأة أصحبت تحقق نتائج مبهرة ، وأثبتت كفاءتها ، وحسن أدائها ، مع عدم التفريق بكونها امرأة والقيم الاجتماعية السائدة في المجتمع ، مما أدى إلى ثقة الأسرة والمجتمع بالمرأة العامة في المجال الطبي .
وتحدثت معنا الدكتور بدرية الدبل - أستاذ مشارك واستشارية في طب الأسرة والمجتمع - قائلة :
أعتقد أن هناك تغير واضح في نظرة المجتمع للمرأة العاملة بالقطاع الطبي ، ففي السابق كان عدد الطبيبات السعوديات في المجتمع قليلاً ولم يألف المجتمع خروج المرأة للعمل في هذا القاطع ، ولكن في الوقت الحاضر ازداد أعداد الطبيبات ، على جانب أنهن أثبتن جدارتهن في معظم التخصصات ، بل البعض منهن قد تميزن في مجال تخصصهن ، ليس على مستوى المملكة فقط بل قد تعدى حدود الوطن .
ساعات الدوام
لأن طول ساعات الدوام من أبرز المشاكل التي تواجهها كل امرأة تعمل بالقطاع الطبي . وهي مشكلة تحد من قدراتها على التواصل مع مجتمعها ، والتوفيق بين متطلبات عملها وأسرتها .. ناقشنا الآثار النفسية والاجتماعية ، والحلول التي يمكن طرحها لمعالجة هذه المشكلة مع نخبة من المتخصصين في هذا المجال ..
فابتدأنا الحديث مع الدكتور الغديان عن آثار طوال ساعات الدوام النفسية على المرأة العاملة بالقطاع الطبي فتحدث إلينا قائلاً :
إن من أكثر الآثار النفسية شيوعاً لدى المرأة في المجال الصحي .
القلق والاكتئاب والوساوس ، والسبب الرئيسي لهذه الاضطرابات يعود على عدم قدرة المرأة على إيجاد التوازن بين احتياجاتها ومتطلباتها الخاصة والأسرية وبين متطلبات العمل .
ومع استمرار هذه الآثار النفسية على المرأة تظهر آثارها على الجسد ، وذلك على شكل اضطرابات سيكوسماتيه ، مثل الصداع النفسي ، القولون العصبي ، قرحة المعدة .
التأثير الاجتماعي فيضيف الدكتور سليمان قائلاً :
إن أبرز أثر من آثار طول ساعات الدوام يظهر في انعزال المرأة العاملة في القطاع الصحي عن المجتمع ، ويتضح ذلك في قلة علاقتها بأقاربها مما يجعلها تفقد تواصل الآخرين معها بسبب انعزالها عنهم .
وتضيف الأستاذة هدى حول طول فترات الدوام لمن تعمل بالقطاع الطبي قائلة :(8/147)
إن الأنظمة واللوائح المشرعة للعمل عند ما وضعت لم يكن يتجاوز عدد العاملات أصابع اليد واليوم العدد كبير جداً ؛ لذا لا بد أن يعاد النظر في كثير من الأنظمة المشرعة لعمل المرأة ليس على مستوى الدوام وعدد ساعاته فقط ، بل في نوحي أخرى كساعات الرضاعة والالتزامات الأسرية ، وما يناط بها من دور في تربية الأبناء .
وتضيف أيضاً .. إن تعد الفرص الوظيفية قليلة ، وتكاد تكون محصورة في مجال التعليم - وهو الغالب - والمجال الطبي الذي يتطلب نوعاً من الخصوصية من حيث عدد الساعات ، أو المناوبات حتى يتسنى لمن يعملن التوفيق بين متطلبات عملهن ومتطلبات أسرهن .
وتوافقها الدكتور - نهى طبيبة العيون - قائلة : إن الحل للحد من مشكلة طول ساعات الدوام يتمثل في زيادة عدد العاملات بالقطاع الطبي ، ومن ثم التقليل من ساعات الدوام والمناوبات ، فبدل من أن تكون 9 ساعات تكون 6 ساعات .
وتضيف : فلو تم زيادة عدد العاملات سواء من طبيبات ، أو ممرضات ، أو إداريات ، لن يؤثر ذلك في تكديس عدد كبير من المراجعين والمرضى عند ما يقلل من ساعات الدوام .
وكم أتمنى من المسئولين مراعاة طبيعة المرأة ، واحتياجاتها ، وظروفها والوقوف على كل مشكلة تحد من عطائها وراحتها .
داء خطير بين أروقة المستشفيات
ولأن الاختلاط هو أكبر داء في عالم الطب كان معه وقفات ...
ابتداء برأي الشرع ومروراً بآثاره ، وانتهاءً بحلول لعلاجه .
وعن رأي الشرع قال الشيخ الدكتور يوسف الأحمد :
هناك أدلة واضحة في القرآن والسنة تدل على حرمة الاختلاط منها :
قوله تعالى : (( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )) (( والأحزاب : 53)) .
ومن السنة حديث عقبة بن عامر أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال : (( إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو .. قال : الحمو الموت )) متفق عليه .
وما يحدث في المستشفيات من اختلاط، مخالفة صريحة لتحذير النبي صلى الله عليه وسلم
وحديث عبد الله بن مسعود عن صلى الله عليه وسلم قال : (( المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان )) وحديث ابن عمر قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم )) لو تركنا هذا الباب للنساء )) قال نافع فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات .
كما أن صلى الله عليه وسلم نهى عن دخول الرجال على النساء ، وفي المسجد لا يجوز للمرأة أن تؤم الرجال ، ولا تؤذن لهم ولا تقيم .
وجعل صلى الله عليه وسلم صفوف الرجال في الأمام وصفوف النساء في الخلف ، ونظم الخروج من المسجد ، يخرج النساء أولاً بعد السلام مباشرة قبل قيام الإمام ، وما كان الناس يقومون حتى يقوم صلى الله عليه وسلم ، بل كان النساء ينصرفن فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف الرسول عليه أفضل الصلاة وأجل التسليم .
ولما حصل الاختلاط مرة في الطريق نهى عنه صلى الله عليه وسلم وبين كيف يكون الحال إذا تقابل رجال ونساء في الطريق ، وأن النساء يكون لهن حافات الطريق ، وخصص عليه الصلاة والسلام باباً للنساء في المسجد .
وأضاف .. ولنلاحظ أن هذا كان في الإتيان للمساجد ، وفي زمن صلى الله عليه وسلم والصحابة ، والنساء في غاية الحشمة والحجاب ، وهذه بعضاً من الأدلة الظاهرة على حرمة الاختلاط لمن تجرد في ابتغاء الحق ، وللأسف أصحاب الهوى لا ينفعهم شيء .
سلبيات لا يغفل عنها إلا مكابر
وعن الآثار السلبية للاختلاط قال : الدكتور سليمان الغديان . ..
إن الاختلاط بين الرجال والنساء في ميدان العمل له آثاراً سلبية كبيرة سواء كان ذلك على الشخص ذاته ، أو العمل لا يغفل عنا إلا مكابر أو جاهل ، ومن أهم هذه السلبيات هي مشكلة التحرش الجنسي ، ويظهر التحرش من خلال ثلاث صور :
1- تحرش لفظي : حيث يستخدم عبارات غير لائقة لها دلالات جنسية .
2- تحرش فعلي : نتيجة للاحتكاك المباشر بين الجنسين الرجل والمرأة في ميدان العمل .
3- الاغتصاب : وهو وقوع الفعل الجنسي .
وأضاف .. إن مشكلة التحرش الجنسي من أهم المشاكل التي تواجه المؤسسات التي يتم فيها الاختلاط ، وهناك دراسات ليست من المجتمع الإسلامي بل من المجتمع الغربي كذلك تؤكد خطورة الاختلاط الذي ينبع منه مشكلة التحرش الجنسي ، حيث تشير الدراسات الأمريكية إلى أن التحرش الجنسي هي المشكلة الأساسية للعاملين في مجال التمريض التي تتعرض له الممرضات من الأطباء 88.5% ، زملاء العمل 83.% المرضى 75% ، والزوار 73% .
ويوافقه بذلك الشيخ الأحمد حيث قال : هناك عدة آثار سلبية نتجت عن الاختلاط أهمها التحرش الجنسي بالطبيبات والعاملات والمريضات ،وقد أخبرني بذلك عدد من الاستشاريين والإداريين في مستشفيات مختلفة .
وقد سمعت منهم قصصاً يشيب لها الرأس ويتفطر لها قلب المؤمن .
وأضاف .. إن المجتمعات الغربية تئن بسبب كثرة حمل السفاح وكثرة الإجهاض والأرقام والدراسات لمعدل الاغتصاب والتحرش في الغرب لا تنقطع الصحف والمجلات عن ذكرها ، وكل ذلك بسبب الاختلاط .(8/148)
ويضيف : ومن آثار الاختلاط كذلك الوقوع في التبرج من بعض النساء ، وعدم التزامها بالحجاب الساتر فالمرأة ضعيفة يستشرفها الشيطان إذا خرجت بين الرجال كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم
الحلول .. وأمنيات التطبيق
وحول ما إذا كان هناك إمكانية القضاء على الاختلاط أو حتى التقليل من مخاطره قال الشيخ الدكتور يوسف :
هناك حلول أطرحها على المتفائلين بتغيير الوضع في المستشفيات وهي أن يكون التصحيح على مرحلتين :
المرحلة الأولى : على المدى القريب .
المرحلة الثانية : على المدى البعيد .
أما المدى البعيد فهو ما نادى به سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومن قبله سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ، كذلك ، وهو إيجاد مستشفى خاص بالنساء وآخر بالرجال ويبدأ ذلك من دراسة الطب فيكون هناك كلية خاصة للنساء وأخرى للرجال ، ومستشفى تعليمي للنساء وآخر للرجال .
أما عن الحل الذي يكون على المدى القريب فيكون بأمور :
أولاً : وجود القناعة الشرعية بحرمة الاختلاط بالأدلة الشرعية ، وتكرار الوعي فيه بين العاملين في الميدان الطبي وغيرهم .
ثانياً : أن يقوم ببيان ذلك للأطباء وطلاب الطب فلا بد أن يسمع طالب الطب من أستاذه الصالح عن حرمة الاختلاط ، وأن هذا الواقع لا بد من إصلاحه ، وهذه أفضل طريقة لتخلص طلاب الطب من عقدة الانهزامية في طرح القضايا الشرعية ، نظرياً أو عملياً كموضوع منع الاختلاط ، وحفظ العورات .
ثالثاً : التدرج في منع الاختلاط :
إن الأطباء يحتاجون أن يتدرجوا مع أنفسهم في منع الاختلاط لطول ما نشأوا عليه ، لذا من الأفضل على الأطباء الأخيار أن يضعوا تخطيطاً متدرجاً حتى يتقبله الكثير من الأطباء والعاملين بشكل عام بالقطاع الطبي
وعن كيفية التدرج في منع الاختلاط قال الأحمد :
هناك أمور يسهل منع الاختلاط فيها فعلى سبيل المثال الدروس النظرية التي يقدمها أساتذة الطب للطالبات ، واجتماعات الأقسام اليومية أو الدورية أو المحاضرات الطبية ، تكون من خلال شبكة ولا أعلم ما المانع أن تكون من وراء حجاب كما أمر الله تعالى !!
و من الأمور اليسيرة كذلك التي يسهل منع الاختلاط بها :
قسم العمليات فلو يتم تخصيص غرف للمريضات ، وأخرى للرجال ، والغرف الخاصة بالنساء لا يدخلها إلا نساء من طبيبات وفنيات وممرضات وما دعت إليه الضرورة من الرجال .
ومن التدرج أيضاً إلزام الطبيبات والفنيات والممرضات المسلمات وغير المسلمات بلباس ساتر وموحد في لونه وصفته ، وأن يكون التزامها بذلك في تقويمها الإداري أو الدراسي إن كانت طالبة .
وهذا كله كما بينت على سبيل التدرج وليس هو الأمر المنشور .
رابعاً : السعي في إنشاء كليات طب النساء والولادة كما هو الحال في كليات طب الأسنان ، وقد طبق في اليابان هذا النظام حيث بلغت كليات طب النساء والولادة سبعة عشر كلية ولا يدخلها إلا الطالبات فقط .
خامساً : الانتفاع بفتاوى أهل العلم ونشرها بين طلاب الطب والعاملين في المستشفيات .
سادساً : الانتفاع بالتعاميم الإدارية الصادرة من وزارة الصحة والكليات الطبية وهي كثيرة ولله الحمد وعلى رأسها تعميم رئيس مجلس الوزراء وفقه الله رقم 759/8 في 5/10/1420 هـ المتضمن اعتماد منع الاختلاط بين النساء والرجال في الإدارات الحكومية ، أو غيرها من المؤسسات العامة أو الخاصة ، أو الشركات ، أو المهن ونحوها ، ومحاسبة المخالف كرامة للأمة وإبعاداً لها عن أسباب الفتن والشرور كما في نص التعميم .
===============(8/149)
(8/150)
المبادرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..
إخوةَّ الإسلام (المبادرة) لفظٌ جميل ، ومعنى عظيم توحي بالجديةَّ ، وتشعر بالعزيمة ، وتنبيءُ عن علوّ الهمة والمتأملُ في كتاب اللهِ وفي السُّنة النبوية يجد ( المبادرة ) أو ما يماثلها وتقاربها من الألفاظ (كالمسارعة ، والمسابقة) كثيرةً ، ولكن (المسارعة) في القرآن أكثر و (المبادرة) في الحديث أكثر ، أما (المسابقة) فقد وردت فيهما على السواء ( نظرة النعيم 8 / 3388 ) .
وأهل اللغةِ يقولون : المسارعة إلى الشيء المبادرة إليه ( لسان العرب 8 / 151 ) .
وقد تجتمع لفظةُ (المسارعة) و(المسابقة) في آيةٍ واحدة ويوصف بذلك أصحاب الإيمان والخشية كما في قوله تعالى : ((أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)) (سورة المؤمنون :61) .
فما الفرقُ هنا بين المسارعة والمسابقة ؟
قال المفسرون : يسارعون أي يسابقون مَنْ سابقهم إليها ، ومعنى : (سابقون) السبقُّ إلى أوقاتِها ، وكلَّ من تقدم في شيء فهو سابقُ إليه (تفسير القرطبي 12 : 133) (نظرة النعيم 8 :3394) .
أيها المسلمون المبادرة والمسارعة إلى الخيرات أمرٌ دعى إليه القرآن، وحثَّ عليه الإسلام قال تعالى : ((فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ )) (سورة البقرة :148) ، ((وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ )) (سورة آل عمران : 133) .
وفي ذلك حثٌ واستعجال على جميع الطاعات ( القرطبي 4 / 203 )
وقال عليه الصلاة والسلام : (( بادروا بالأعمال )) , ((والتؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)) صححه الحاكم ووافقه الذهبي )
فكيف حالُنا مع المبادرة ؟ وكيف كان حالُ أسلافنا ؟
لماذا يعترينا الضعفٌ أحياناً في المبادرة ؟ وما هي الأمورُ المعينةُ على المبادرة ؟
لقد شهد تاريخُنا المجيد ألواناً من المبادرات الخيّرة ودلل أسلافنا على أنهم أهلُ مبادراتٍ ومسارعةِ إلى الخيرات
وهذا محمدٌ r صاحبُ المبادرات وإمامُ المسارعين للخيرات .. ومن يقرأُ سيرتَه يقف على الكثير من المبادرات لم يتوقف عنها في العهد المكي مع شدة وطأة الكفار وألوان المطاردة والحصار .. وها هو يدعو الخلق إلى الإسلام وهو محصورٌ في الشَّعب .. ويفتح الفرص لأصحابه للدعوة حتى ولو كان خارج إطارِ مكة .. والهجرتان إلى الحبشة نماذجُ عالية للمبادرة والدعوة .. أما دعوتُه العربَ r في المواسم .. ثم ذهابه إلى الطائف لدعوة ثقيف فكلُّ ذلك أدلةٌ واضحة على قيمة المبادرة ) في السيرة ثم كانت الهجرة للمدينة وما استتبعها من جهادٍ ودعوة مرحلةً متميزةً في المبادرات النبوية .
أجل لقد بادر وحيَّد اليهود بمعاهداتٍ شرقوا بها حتى نقضوها .. وبادر إلى بعث البعوث التعليمية والدعوية في المدينة وما جاورها ، ومهما نزل بالمسلمين من مصائب وابتلاءات لهذه البعوث والمعارك فقد أدت هذه المبادراتُ دورَها وطار صيتُ الإسلام في أرض العرب كلَّها .. بل تجاوزت مبادراتُ الرسو صلى الله عليه وسلم أرض العربِ لتصل إلى أرض الروم وفارس يوم أن بعث صلى الله عليه وسلم الرُسل وكتب الكتب لملوك الأرض يدعوهم إلى الله ويشرحُ لهم الإسلام ولم ينس قريشاً إذ بادرها بالحديبية ، وفتح مكة ودخل الناسُ في دين الله أفواجاً .
وفي فترة وجيزة من الزمن تغيرت الحياة في الجزيرة .. وبدأ العدُّ التنازلي للأمم المسيطرةِ حينها .. ولم يمت رسول ا صلى الله عليه وسلم حتى أرسل سرية (مؤتة) إلى أرض الروم .. وبلغت دعوته كِسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وهرقل .. ومن يدينُ بدينهم أو يتبعُ لسلطانِهم .. ثم كان صحابته رضوان الله عليه من بعده (مسارعين ومبادرين ) وكان حركة الفتح الإسلامي وأعدادُ الداخلين في الإسلام شاهداً حياً على هذه المبادرة .
وهكذا استمر المسلمون بعدهم يدعون ويُعلمون ويُسيَّرون الجيوش حتى بلغ الإسلامُ شأوا بعيداً ، ودخل العربُ والعجمُ في دين الله أفواجاً .
إن المتأمل في مبادرات المسلمين يرى أنها لم تكن قصراً على القادة بل شملت القاعدة ، ولم تكن خاصةً بالكبار بل شارك فيها الشباب ، ولم يتخل الضعفاء المعذورون بل شاركوا الأقوياء .. وكان للمرأة نصيبُها من المبادرة ولم تكن قصراً على الرجال ، وإن مجتمعاً يُشارك جميع أفراده بالمبادرات الخيرة لمجتمعٌ خليق بالتقدير والبقاء .. ودونكم هذه النماذج للمبادرات .
فأبو بكر صِّديقُ الأمة ، وصاحبُ المبادرات في كل ميدان في الصدقة والجهاد ، والصوم والصلاة ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول : ((من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دُعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خيرٌ ، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقةِ دُعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهلِ الصيام دُعي من باب الصيام وباب الريان فقال أبو بكر : ما على هذا الذي يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة وقال : هل يُدعى منها كلِّها أحدٌ يا رسول الله ؟ قال : نعم ، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)) ( الصحيح ح 3666 ، الفتح 7 /19) .(8/151)
إنها مبادرةٌ وطموح ، وهمَّةٌ عالية تدعو أبا بكر للتفكير في الإسهام في مجالات الخير كلَّها ، وإنما تجتمع أعمالُ البرِّ وأنواع المبادرات في عظائم الرجال كأبي بكر الصديق رضي الله عنه .
وفي صحيح البخاري ( كذلك ) قال صلى الله عليه وسلم : ((من يحْفرُ بئر رُومة فله الجنة)) فحفرها عثمان رضي الله عنه ، وقال :(( من جهَّز جيش العسرة فله الجنة )) فجهزه عثمان رضي الله عنه ( الفتح 7 / 52 )
أجل لقد ورد أن عثمان رضي الله عنه اشترى بئر رومة بخمسة وثلاثين ألف درهم فجعلها للمسلمين ، وأن عثمان رضي الله عنه جهز المسلمين بثلاثمائة بعير وفي رواية أنه جاء بألف دينار في ثوبه فصبَّها في حجر صلى الله عليه وسلم حين جهز جيش العسرة حتى قال صلى الله عليه وسلم : (( ما على عثمان مِن عملٍ بعد اليوم )) ( الفتح 7 / 408 ) أو (( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم )) .
للهِ درك يا عثمان وكذلك فالتكن المبادرات في خدمة الإسلام والمسلمين .
على أن المبادرات لا ترتبط بالغنى والجاه ، وليست قصراً على الأكابر والمشهورين ، بل يصنعها الشباب وإن كان شهرتهم أقلَّ من غيرهم .. ودونكم هذه المبادرة الطموحة .. فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : إني لواقفٌ يوم بدر في الصف ، فنظراتُ عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثةٍ أسنانهما فتمنيتُ أن أكون بين أضلعَ منهما (أقوى) فغمزني أحُدهما فقال يا عمَّ أتعرفُ أبا جهل ؟ فقلتُ : نعم ، وما حاجُتك إليه ؟ قال : أُخبرتُ أنه يسبُّ رسول ا صلى الله عليه وسلم ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموتُ الأعجلُ منا ، فتعجبتُ لذلك ، فغمزني الآخرُ فقال لي أيضاً مثلها ، فلم أنشب أن نظرتُ إلى أبي جهلٍ وهو يجول في الناس ، فقلت ألا تريان ؟ هذا صاحُبكم الذي تسألان عنه ، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه .. الحديث (البداية والنهاية 3 / 316) .
تأملوا في همِّة هذين الشابين وطموحهما ونجاحتهما في مبادرتهما ، وإذا كانت تلك همة شباب هذا الجيل وغلمانهم فلا تسأل عمن فوقهم .
ويكفيك أن تعلم أن من هِمم أصحاب الأعذار وأولي الضرر ما يكشف عن مبادرات القوم ... وهذا عمرو بن الجموح يُصرُّ على أن يطأ بعرجته الجنة فيستأذن الرسو صلى الله عليه وسلم في الجهاد في ( أحد ) فيأذن له فيُقاتل ثم يكون في عداد الشهداء .
وابن أم مكتوم الأعمى يُصر على أن يحمل راية المسلمين غازياً معهم ويقول : ادفعوا إليَّ اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفرَّ وأقيموني بين الصفين ( سير أعلام النبلاء 1 / 364 ) .
وبقي أن تعلم من همم النساء ومبادراتهن أن منهن من أسلمت في ظروف المحنة والشدة بمكة ، وثبتت على إسلامها ،بل هاجرت إلى المدينة ولم يستطع أهلُها أن يردوها كما صنعت أمُّ كلثوم بنتُ عقبة بن معيط رضي الله عنها وفيها وأمثالها نزل قول الله تعالى : ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)) (سورة الممتحنة / 10) ( سير أعلام النبلاء 2 / 276 ) .
ومنهن من تطلعت إلى الجهاد على ثبج البحر فاستشهدت حيث طلبت كأمِّ حرام حين غزت مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنهما فصرعتها دابتُها فدقت عنقها وذلك في غزوة قبرص زمن عثمان رضي الله عنه ( سير أعلام النبلاء 2 / 316 ) .
وكانت من قبل قالت لرسول ا صلى الله عليه وسلم وهو يحدثها عن قوم يركبون البحر غُزاةً في سبيل الله ادع الله أن يجعلني منهم ، قال ((أنت من الأولين)) فكانت منهم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ((وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا )) (سورة البقرة / 148) .
الخطبة الثانية
إخوة الإيمان لا حصر لمبادرات المسلمين على امتدادِ تاريخهم حتى أصبحت هذه المبادراتُ سمةً لهم ولأجيالهم وما عادت المبادراتُ في زمن أسلافنا مبادرات فردية بل كانت صفةً لازمةً للمجتمع والأمة ، ولذا برزَ العلماءُ في شتى الفنون واشتهر عددُ من قادة الجهاد ولمعت أسماءُ لا تُحصى في الفتوح والثغور، وكثر العُبَّادُ والزهاد ، وانتشر المحتسبون والوعاظ ، وكان المنفقون والمحسنون، ورحل الدعاةُ على كل صقع يحتاج إلى الدعوة والبيان، وكان عزُّ الإسلام هماً للصغير و الكبير والذكر والأنثى والأمير والمأمور .
وإلى زماننا هذا ولا يزال في الأمة خير كثير ، ورغم الحصار والتضييق فلا تزال المبادرات تترى ، وكلما خُيل للأعداءِ أنهم ضيقوا الخناق على الإسلام والمسلمين وإذا بخالقهم يجعل لهم من الضيق مخرجاً ومن المِحن منحا
إلا أن ثمة نفراً من المسلمين خُيل لهم أن فُرص الخير تقلَّصت وأن مساحة المبادرات قلّت وخوفهم الشيطان من مكرِ الأعداء ، وأوهمهم أن الجولة لغيرِهم ، واللهُ يقول : ((إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) (سورة آل عمران/ 175) .(8/152)
وآخرون من المسلمين ظنوا أنهم يكفيهم أن يعيشوا على مبادرات سلفت لغيرهم ، ونسي هؤلاء أن الزمان يتجدد ، وأن الجديدَ يعتق ، وأن الدعوة تحتاجُ على الدوام إلى متابعةٍ وتجديد ، وأن المبادرات إلى الخيرات لم تتوقف في التاريخ ولا ينبغي أن تتوقف .
إن قيم الإسلام الأساسية، وأصوله الثابتة ليست مجالاً للمزايدة والتطوير .. ولكن الوسائل التي تُبلغ بها هذه الثوابت قابلةُ للتجديد _ حسب ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان _ وما لم يُمس أصلُ من أصول الإسلام . فالتحدي قائمٌ في تطوير الأداءِ .. وتجديد ما عتق من الوسائل ، وإذا كنا نرفض منهج الذين يزعمون الإصلاح ويرون أن كلَّ شيء قابلٌ للتجديد _ حتى وإن خالف نصوص الوحيين _ فنحن كذلك نرفض منهج الجمود على القديم حتى وإن كان تحديثاً في الوسائل وتطويراً في الأداء ، ومسايرةً للواقع بما لا يُعارض ثابتاًً في الدين أو نصاً من نصوص الشريعة .
إن الجمودَ وعدمَ معرفة فقه الواقع معوق عن المبادرات الخيرة وإن الجهل بتاريخ الأمم وتجاربهم معوق عن التجديد والمبادرة .
ومعرفةُ هذه التجاربِ وتقويمها والإفادةُ من الصالح منها سبيل ومعينُ على المبادرات النافعة ..
إن من يستقرأ تاريخ المسلمين _ في عصور العزة والتمكين يرى أن هؤلاء تمكنوا من الإفادة من تجارب من سبقهم ، لكنهم احتفظوا بأصالتهم وعزتهم ، فاستفادوا من النظم ، ولم يخضعوا أو يذلوا أو يضعفوا أمام أصحاب هذه النظم إلا حينما ضعفت الأمة ووقع الخلل في رجالها
نعم نحن أمةُ لا ترفض الاستفادة من تجارب وحضارة الأمم الأخرى ، ولكنها تأبى على الذوبان والتأثر ، وكلما كانت الأمة قويةً كلما كانت كذلك ، وأمامنا في التاريخ تجربتان حريتان بالتأمل والدراسة ، كانت الأولى في زمن النبوة والخلافة الراشدة ، حيث حُفر الخندق ودُونت الدواوين ، وبقيت الأمة محافظةً على سمتها متميزةً في منهجها ، مستفيدةً من تجارب غيرها .
ثم كانت التجربة الثانية في زمن المأمون العباسي حيث حركة الترجمة ونقلُ علوم الآخرين .. وحين لم تكن الأمةُ على مستوى التحدي فقد أصابت هذه التجربة الأمة بلوثاتِ فكرية وانحرافاتٍ سلوكية حيث بزغ فجرُ الكلام ، ونجم التشيعُ والاعتزال ، واتسع نطاقُ أهل الأهواء ، ونشأ للناس _ كما يقول الذهبي _ علمٌ جديدٌ مردٍ مهلك لا يُلائم علمُ النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين ، وكانت الأمة في عافية منه .. وامتحن الناس على دينهم .. ( تذكرة الحفاظ 1 / 328 ) .
واليوم يعيش المسلمون مأزقاً صعباً ، حيث يُريد لهم أعداؤهم أن يصلحوا أوضاعهم لكن على منهج لا يستقم مع إسلامهم .. ويُراد لهم أن يتحضروا ولكن الثمن فقدُ هويتهم ، ويُراد لهم أن يغيروا نمط حياتهم ولكن البديل نمطٌ وسلوكياتُ أعدائهم .. إنه تحدٍ لا بد أن ندرك مخاطره وهو يسير باتجاه العولمة الغازية .. ويهيء السبيل لاستعمار العقول والأفكار بعد استعمار البلاد ونهب الثروات ..
ليس يُهم أن يُفرض الإصلاح من الخارج أو من الداخل ، ولكن المهمَّ هو مدى قُرب هذا الإصلاح أو بُعده من شريعة الإسلام .. وليس يعنينا أن يتم التغييرُ في حياتنا على يد (جورج) أو باسم (عبد الله ومحمد) ولكن الذي يعنينا ألا تستهدف القِيمُ بالتغيير .. وألا يُتعرض للثوابت بالنقض والإبرام وأن يصير المنكرُ معروفاً ، والباطل حقاً _ فذلك فهم منكوس للإصلاح ...
إن رياحاً عاتيةً تهبُ على منطقتنا .. بل وعلى عالمنا الإسلامي ولم يعد خافياً أن ثمة مخططاتٍ تطبخ في دهاليز الغرب ويُراد لها أن تطبق على دولنا ومجتمعاتنا .. بل عادت قضايانا مجالاً لمزايدةِ الناخبين في الغرب ، ولم يخفِ الساسة هناك تعاطفهم مع الصهاينة لأن هذا التعاطف مؤثر على أصوات الناخبين ، وسواء كان المرشح يهودياً صرفاً أو متهوداً ..
وبإزاء هذه الأوضاع المتردية والتحالفات المريبة ، والمخططات الظاهرة والخفية ، على المسلمين أن يدركوا حجم الخطر وأن يستعدوا لهذه النوازل وأن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يتشاوروا في أمرهم ، وأن لا تكون الشُقة بين الحاكم والمحكوم والعالم والعامي ، وأن يحذروا من يعيشون بين أظهرهم وهواهم مع أسيادهم .
وإذ1 كان الهجوم على المسلمين كاسحاً .. فنصيب أهل السنة منه كبير .. وقد أحاطت بهم المخاطر من كل صوب ، وهم مستهدفون من أكثر من عدو .. وعليهم أن يستعينوا بالله وحده فهو فارج الكربات .. وعليهم أن يُراجعوا أنفسهم ، فما أصابهم من مصيبة فبما كسبت أيديهم .
وعليهم أن يركنوا إلى الله فهو ركن شديد وأن يبادروا بالأعمال الصالحة ، وأن يفكروا على الدوام بالمبادرات النافعة فالماء يئسن إذا ركد، والقافلة تسير ، وعالمُ اليوم يُقدر الأقوياء ويسحق الضعفاء ، وإذا كان الإسلام قوياً في نظمه وتشريعاته فعلى المسلمين أن يكونوا على مستوى إسلامهم ، وألا يهنوا ويحزنوا وهم الأعلون إن كانوا مؤمنين
==============(8/153)
(8/154)
غزوٌ من الخارج أم من الداخل ؟
لا غرابة أن نرى أو نسمع أو نشاهد شيئاً من عداوة الكفار، تختلف أديانهم وأهدافهم، ولكن المستغرب حقاً أن نُهدد من داخل بيوتنا، وأن تُشن حملات ظالمة وجائرة على ديننا وقيمنا من أبناءِ جلدتنا، وممن ينتسبون إلى إسلامِنا، أولئك لا بد من الحذرِ منهم والوعي بمخططهم وأهدافهم، ومعرفة منطلقاتِهم، والتعرفِ على أساليبهم في المكرِ والمخادعة، ورسم معالم للموقف منهم، وحماية البلاد والعباد من آثارهم، أجل، لقد بليت الأمةُ بالمنافقين في سالِف تاريخها وعزِّ سلطانها، ونجح المسلمون حينها في كشفِ هؤلاء وتجاوزوا محنتهم، حتى عاد هؤلاء والمنافقون يعتذرون ويحلفون وهم كاذبون، واليوم تتجدد النازلةُ بالمسلمين بهؤلاء، وتتسعُ دائرةُ العداوةِ، ويكثر الإرجافُ والاستهزاء، وتُبلى الأمةُ بهؤلاء المعوِّقين، ويتكرر الموقفُ المسارعُ للكفار، (( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ )) (المائدة:52).
ويكثرُ اللمزُ بالمطوعين والسخريةُ بهم وبإسلامهم، وهؤلاء الصنفُ من الناس يركبون كلَّ موجة وكلَّ وسيلة تُحقق لهم أهدافَهم، فهم قوميون - مع ضيق عطن القومية- حين يشتد عودُ القومية، ثم تراهم ينقلبون على القومية- ولو كانت في سبيل الدفاع عن الحدود والحرمات - وينسلخون منها كما تنسلخ الحيَّة من جلدها، وربما بلغ بهم التخلي عن ( الهوية ) حداً مجَّدوا معه الغُزاة ورحبوا بالمستعمرين، أيُعقل هذا من مربي ؟!!
أفا يقبل هذا الترحيب بالمستعمر الكافر من مسلم ؟!!
ولولا كلماتُ القوم ما صدّقنا، وهذا أحد المحسوبين علينا ودون خجل يقول: ( إنني من أكثر الناس تفاؤلاً بقدوم أمريكا إلى العراق، وعندي أسبابٌ عديدةٌ، أولها إن أمريكا لم تدخل بلداً إلا وحسَّنت من أوضاعِه، إلى أن يقول: إنني واثقٌ أن أمريكا ستلعب في منطقتنا دورَ المعلمِ الحازم الذي يريد النجاحَ لتلاميذه حتى لو تطلب ذلك درساً قاسياً، إن العالم العربي لن يتغيَّر من تلقاءِ نفسِه، لذلك أقول: أهلاً بالنموذج الأمريكي الحرّ، (( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) ( البقرة:216) .
جريدة الشرق الأوسط 3 / 4 / 2002 م ، عبد العزيز الدخيل ) ..
لست أدري كيف تجرأ الكاتب هذه الجرأة، وكيف تجرأت الشرق الأوسطُ على نقل مقال المسوّق للاستعمار ؟
إننا أمام شريحةٍ في المجتمع غريبةٍ في فِكرها، متطرفةٍ في طرحها، جريئةٍ في استفزازها، ومهما تعددت مُسمياتُ هؤلاء أو اختلف الناسُ في تصنيفهم بين عَلماني وعَصراني ، وعقلاني أو حداثي أو مستغرب، فالمهم أن نعرف انتماءَهم وجذورَهم الفكرية، ومن اعترافاتهم نَدينهم، وحتى لا نتجنى عليهم هذا أحد أصحابِ هذه المدرسةِ يربط بين ثقافتهم وثقافة الغرب وتاريخهم، ويقول: إن الحديث عن حَداثةٍِ عربية مشروطٌ تاريخياً بوجود سابق للحداثة الغربية، وبامتداد قنواتِ للتواصل بين الثقافتين » [ القائل : محمد برادة، والمصدر د. عبد الرحمن الزنيدي: العصرانية في حياتنا الاجتماعية ص 27 ] ..
و( العلمانية ) التي يُوصفون بها أحياناً، لا يكتفون بالانتماء إليها، بل ويبلغ الهوسُ بهم وبها حداً يتهمون ( القرآن الكريم ) بالعلمنة ؟ ويقول قائلهم: إن الدراسة المُعمّقةَ للقرآن الكريم تُبين أنه عَلماني المنحى، وإنما حوَّله المسلمون إلى وجهة دينية ؟! [ القائل : حسن حنفي ، انظر د. الزنيدي : العصرانية ص 44 ]
وهؤلاء القوم لا يكتفون بالانخداع والمخادعةِ لمنهج التغريب بل يصرون - مع ذلك - على نقد المناهج التي قام عليها التراثُ الإسلامي ويقول أحدُ كُبرائِهم:
« كي نؤمن بفعالية المنهج العلمي الغربي لا بد أن ننقد المناهجَ التي قام عليها التراثُ عند المسلمينَ قيمتَها في دائرة المنهجية القائمةِ اليوم » ؟ [ محمد عابد الجابري ، نقل العقل العربي ، د. الزنيدي ، العصرانية ص 44 ]
إن نظرتَهم تلك للإسلام والقرآن، وارتباطَهم بحضارةِ الغرب وثقافتهِ، وتسويقَهم لفكرِه وترحيبَهم بغزوه - كلُ ذلك يجعلنا نتبين هويّة القوم وجذورَهم التاريخية، فلا ننخدع بطروحاتِهم الزاعمة للإصلاح، ولا نُغَرَّ بمقدماتِهم القائلة « في ضوء شريعتنا الإسلامية » أو « وفيما لا يتعارض مع ثوابتنا وقيمنا » أو من مثل قولهم « في إطار قيمِ المجتمعِ ومبادئه » إنها عبارات خادعة، وذرٌ للرماد في العيون ، واستغفالٌ للبسطاء !
أجل لا بد أن نعيَ وندرك ونتدارك الأمرَ قبل فواتِ الأوان، ففي مجتمعنا ناقوسُ خطر، وحصونُنا تُهدد من داخلها، وفينا سما عون لهم، بل ومروِّجون لبضاعتهم ومستبشرون بغزوهم، فهل بعد هذا من خطر !!(8/155)
إنَّ هذه الشريحةَ في مجتمعنا- وإن قلَّ عددُها- لها امتدادٌ خارجي، ولذا تراهم ينشطون أثر حينما يقترب أسيادُهم من بلاد المسلمين، وتراهم يرقصون على الجراح النازفة ويتلذذون بالمآسي النازلة ، وبالتالي فهم لا يهددون هويتنا الإسلامية فحسب، بل ويهددون كياننَا الاجتماعي والسياسي، ويطمع الغرب ويُراهن على استخدام هؤلاء في فرصِ سلسلاتهم في الشرق الأوسط ، فقد ذكر مسؤولٌ في أحد مراكزِ البحث في ( واشنطن ) أن المركزَ يعمل لاختيار عددٍ من الشخصيات الإصلاحية، ودعوتها إلى واشنطن للتعاون معها - في سبيل الترويج لمبادرة أمريكا لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط خلال الأشهر القادمة، وأن تلك الشخصيات ستحصل على حمايةٍ ضمنية من خلال حصولها على دعمٍ سياسي وإعلامي سيفرضها على الساحةِ السياسية
( جريدة الحياة ) .
وهؤلاء ومرةً أخرى بلا حياءٍ ولا خوفٍ يقولون مستبشرين ومبشرين بالحملة الأمريكية على بلاد المسلمين: « وإذا كانت الحملة الفرنسية على مصر ومشرقِ العرب، أو الصدمة الأولى قبل قرنين من الزمان تقريباً - قد قدمت العرب للحداثة، وقدمت الحداثة للعرب، فإن الحملة الأمريكية سوف تقدم العرب للعولمة، وتقدم العولمة للعرب على أوسع نطاق »
( تركي الحمد ، الشرق الأوسط ) ..
إنهم باختصار خطرٌ يتهددنا من الداخل، وخَطرٌ يُهيئ السبلَ للمستعمر، ويبشرَ ويمهد الطريق للغزو الخارجي، ولا غرابة بعد هذا أن تكون حملاتُهم الشعواءُ ضد مناهِجنا الدراسية، ومطالباتُهم المتكررة بالتغيير، وإذا حققوا شيئاً من نجاحاتهم على حين غفلةٍ منا فهل يستطيعون تحقيقَ نجاحاتٍ أخرى ؟ .
إنهم لا يحملون على علماء الأمة ورموزِ الصحوةِ الإسلامية، بل يهددون المجتمعَ بأسره، فإذا صدرت فتوى معتبرةٌ شنَّوا على المفتي حرباً لا هوادةَ فيها كما حصل مع المفتي في بيانه عن فتوى جده الاقتصادي، وإذا نجح نشاط إسلامي أجلبوا عليه، واتهموا القائمين به - كما حصل في تعليقهم على مخيم جُدّه الرسمي .
المرأة لم تسلم من مكرهم، فهم يريدونها سافرةً مختلطة، وغايةُ أمانيهم أن تكون المرأة المسلمة كالمرأة الغربية في ضياعها وحيرتها وشقائها ؟
والإعلام في بلادنا خرجوا به عن حدود السياسة المرسومة، وتجاوزوا بنودَه وموادَه المقررةَ، وتربعوا على ناصيته فلا يُتيحون الفرصةَ إلا قليلاً لمن يخالفهم وينقدُ مسارَهم، أو يطرح طرحاً معتدلاً ونزيهاً.
بل زادوا وتجرؤا على نقدِ السياسات العليا للدولة ليخلخلوها ويطرحوا البديلَ عنها، كما حصل من أحدهم في نقد السياسة العليا للتعليم، حينما استغرب أن يكون من أهداف ( المرحلة المتوسطة ) : حفزُ همةِ الطالب لاستعادة أمجادِ أمتِه المسلمة التي ينتمي إليها ؟ واستغرب كذلك أن تُخصص سبعة أهداف ( في المرحلة الثانوية ) للجوانب الإسلامية ؟ [ جريدة الوطن 17 شوال 1424 هـ عدد 1168 ] ..
غريب هذا الطرح في زمنٍ باتت الأممُ تعتزَّ بهويتها - وتُعمق الانتماء لفكرها في مناهج أبنائها، ولكن الأغربَ أن يُسمح لهذا الطرح الفجَّ - وأن يُغفل عن الأهدافِ من ورائه ؟ وأن تزيد لهجةَ هؤلاء ليسوِّق للفكرِ العفن القادم من الغرب، وحين لا يخفى أن الغرب باشر غزوَ العرب والمسلمين إعلامياً عبر إذاعة ( سوا ) ومجلة ( أهلاً )، وأخيراً أطلقت الإدارة الأمريكية قناة ( الحرّة ) الفضائية الإخبارية وباللغة العربية - فقد يخفى على البعض أن بعضَ هؤلاء المرجفين المطبلين سَخر في مقالةِ له باللذين يرفضون ( قناة الحرّة )، وقال : أمةٍ تخشى من محطةٍ فضائية مهما كان لونَها ومصدرها هي أمة خائفةٌ ومترددة ، ودعا إلى النظر إلى هذه القناة باعتبارها إضافةً جديدةً للحرية التي نحتاجها مثل حاجتنا للهواء النقي، وفي المقابل يرفضُ هذا المُطبل كلَّ ما تبثه القنوات الفضائية إذا كانت ضد الهيمنة الأمريكية .
أليس هذا بذلٍ وهوان وانتكاس في المفاهيم والقيم ؟! [ د.نورة السعد ، الرياض ، 28/12/ 1424 هـ ]
إذاَ نحن أمام هجمةٍ شرسة على ثقافتنا وقيمنا، وأمام تسويقٍ مفضوح للبضاعة المزجاةِ لأعدائنا، تتكئ هذه الهجمة على الإعلام، وتسخر من مناهجِ التعليم، وتسعى جاهدةً لإفسادِ المرأة ، وترشق بسهامها الموتورة أهلَ الخير، ولا يسلم من نقدها المسؤولون والمنظرون للسياسات العليا في البلاد ، إنها خلخلةً للكيانِ كله، واستهدافٌ للمؤسسات التربوية والدعوية، وتمهيدٌ للغزاة، ومجاهرةٌ بالفسوق وإعلان للتطرف، وتلويحٌ للإرهاب .
فكيف يكون الموقف، وبماذا يُنقذ العباد، وتسلم البِلاد ؟
1- لا بد أولاً من الوعي واستشعار هذهِ المخاطر، ومعرفة أصحابِ اللحن في القول، ورصد التوجهات، والتعرف على الصِّلات والارتباطات.(8/156)
2- ولا بد ثانياً من النصح والمصارحة لهؤلاء، فقد يكون من بين هؤلاء مُغترٌ فيعود إلى رشده، أو جاهلٌ مستغرق في خيالاته، وتجاربُ من سبقه توقفه على الحقيقة، وهذه تجربةٌ شجاعةٌ يقول صاحبها - بعد أن هداه الله - « اندفع الفكرُ المتغرب يُشهر حرباً شاملةً على الإسلامِ وأهله ، ظاناً أن في ذلك تحريراً للشعب وللمرأة ، وإطلاقاً للعقل، ولكنَّه ما درى أن تلكَ الحربَ تأتي بنتائج عكسيةٍ تماماً، إذا بالشعب يُحطِّم ويُشل، وإذا بالمرأة تتيه وتضيع، وإذا بالعائلة تتمزق وتتخبط، وإذا بالعقل يصبح مغلولاً إلى الغرب، وإذا بالاستقلال تبعيةً ، وإذا بالتقدم الاجتماعي مزيداً من التخلف ، ثم وصلت الأمور إلى أن يُعلن ذلك الفِكرُ نفسَه أننا نعيش زمنَ الانحطاطِ العربي ؟! [ منير شفيق ، الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر ص 148، 149 / عن د.الزنيدي ، العصرانية س 47 ]
3- ولا بد من تكاتف الجهود مع كل مخلص لحماية البلاد والعباد من خطرِ هؤلاء، مع اعتبار أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن » واعتبار أن المركبة واحدة والسلامةُ للجميع .
4- لا بد من مشاريع عمليةٍ، ومثابرة في الإعلام والتعليم والتربية والتوجيه والدعوة، وأن تكون شاملةً للمرأة والرجل، والطفل والكبير والمثقف والعادي.
5- لا بد من وضع حدٍ للنقد الصارخ لسياسات الدولة العليا، وفي مقدمتها السياسةُ التعليمية والإعلامية، وإن الإصلاحَ مطلب ولكن تجريدها من عمقها الإسلامي وأهدافها العليا أمرٌ مرفوض .
6- الارتقاء بمستوى وعي الناس عموماً والخيرين خصوصاً، والجرأة في تصحيح الأخطاء وتطوير الأعمال والمؤسسات حتى تكون المشاريع الإسلامية على مستوى التحدي والقدرة على الجذب والتأثير.
7- ربط الجسور مع كل جهدٍ خيِّر ، والتعاون مع كل عاملٍ مخلص، وأهمية التواصل مع الآخرين، وعدم الانكفاء على الذات، فمظلة الدين واسعة، وهاجسُ حماية الوطن من المؤثرات الخارجية والداخلية هدف يشمل شريحةً كبرى في المجتمع .
8- تعميم توعيةِ الناس بالانحرافات الفكرية والأخلاقية في وسائلِ الإعلام عموماً، والتنبيه إلى مخاطرِها الواقعة والمستقبلية، واستنهاض الجميع للاحتساب على المنكر والأمر بالمعروف، فليس أضرَّ على الناس من قومٍ يُلبسون عليهم دينهم ويزيفون وعيهم ؟
9- التواصل مع ولاة الأمرِ من الأمراء والعلماء وأهل الفكر، وأصحاب المال والجاه والمسؤولية، والتشاور معهم في وضعِ حدٍ للمبطلين .
10- التعامل مع الأحداث والمستفزات بحكمةٍ وعمق، فلا نُخدع ولا نُستفز، ولا نتعرف بردود الأفعال، ولا نقابل الخطأ بخطأٍ آخر.
===========(8/157)
(8/158)
المجاعةُ في النيجر..مسؤولية من؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واصلي الله وأُسلم على الهادي البشير والسراج المنير نبينا محمد وعلى أله وأصحابه أجمعين أما بعد..
هي الدنيا أفراح وأتراح, وأحزان ومسرات , لهو ولعب وزينة وتفاخر في الأموال والأولاد
مركب ذلول لكنها سريعة التقلب ,كثيرة التغير, تبدو أوراقها خضراءُ جميلة لكنها سرعان ما تصفّر وتيبس وتتساقط ,وربما سقطت أوراقها الخضراءُ فجأة على غير توقع.
تنام بالليل على حال وأخبار.. وتستيقظ على حال وأخبارٌ أخرى .
قولو لي من سلم من عواديها ..ومن اطمأن في مركبها, ومن نجا من خدوشها ومَن تجاوز حٌفرها أو كان بمعزل عن ُكدرها..
إنها الدنيا ..متاع الغرور,سريعة العبور,
يبتلي الله فيها أقوماً بالأسقام والأمراض- فيحصد المرضُ جماعاتٍ يغيّبون في اللحود.. ويُؤخذ أقوام على حين غرة وهم مكتملون في صحتهم ساربون في معاشهم.. فتحل بهم الكوارث.. زلازلٌ وبراكين وفيضانات مدمرة تقف أمامها قدرات البشر مهما كانت قويةً ضعيفةً عاجزة.
سبحان الله هل من مُدكر.. موتٌ بالآلاف نتيجة إعصار مدمر أوفيضانات عظيمة.
والماء مصدر حياة ونما - لكنه يعود بقدرة الله وسيلة تدميرٍ وفناء..
كم في هذه الأحداث من نُذر ((وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ))
كم في الكون من ظلم وظلمات, وراءها الظلوم الجهول, ورَّبك يغار, ولا يرضى الظلم ولا يحب الظالمين, وينتقم للمظلومين
((يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)) (الإنفطار : 6) ؟ الست في كل يوم تنام وتقوم على قوارع وعظائم مالها من كاشف إلا الحيُّ القيوم!
يا ابن آدم انك كادح إلى ربك كدحاً وملاقيه .. فهل ستأخذ كتابك بيمينك .. أم سيكون الكتاب وراء ظهرك؟
هل تٌذكرك النوازل بغيرك .؟ مايمكن أن يقع لك؟ أم تراه يكفيك أن تتسلى بسماع الأحداث ورؤية المشاهد .. وكأنك بمعزل !! فلا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
إن الله يبتلي عباده بالسراء ليرى شكرهم ,ويبتليَهم بالضراء ليرى صبرهم ((وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)) (الأنبياء : 35) .
((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) (البقرة : 156,155) .
عباد الله : دولةٌ مسلمةُُ وشعب ُ مسلم, وإخوانٌٌ لنا في العقيدة يعانون اليوم من جفافِِ قاتل ومسغبة , مؤلمة,جفافٌٌ وتصحر وقلة في الأمطار وهلاك في الزروع والضروع, وموجات من الجراد تقضي على الأخضر واليابس ,وزحف في الرمال في بيئة صحراوية ساهمت كذلك في إهلاك الكثير من المحاصيل..
إنها حالة بؤس يعيشها إخواننا المسلمون في النيجر وما أدراك مالنيجر؟
دولة أفريقية يحدها من الشمال ليبيا والجزائر , ومن الجنوب نيجيريا وبنين ومن الشرق تشاد , ومن الغرب مالي وبوركينا فاسو , وعدد سكانها يزيد على أحد عشر مليون (حسب تعداد 2003م)
ويدين بالإسلام ثمانٌ وتسعون بالمائة 98% من السكان , وضعها الاقتصادي متدني .. ويزيد في حالات الجفاف وقلة الإمطار كما هو الحال.حيث يعمل معظم سكان النيجر في الزراعة والرعي , ويؤكد البنك الدولي في تقريره عن النيجر أن أكثر من ستين بالمائة منهم يعيشون بدولار واحد في اليوم.!
الأزمة المتداعية في النيجر وما حولها - تعتبر من أكبر الأزمات في البلاد وتعد المجاعة الحالية من أسوا المجاعات التي تواجه شعب النيجر منذ عام 1984م. لقي مجموعة من الأطفال حتفهم ,ولا تسأل عن هلاك الزروع والمواشي - أما عامة الشعب النيجري فقد بات يُنافس الحيوان على أكل أوراق الشجر- وإن كان بعضها ساماً ومُرا ! لكنهم يعمدون إلى غليه حتى تخف ّ سمومه ومرارته!
وينافسون النمل في أخذ الحبوب المُدخرةِ في بيوت النمل.
إنها أزمةٌ متفاقمة, تشير الإحصاءات إلى أن ثمانمائة ألف طفل يعانون المجاعة , منهم أكثر من خمسمائة ألف في حالة خطره , ولا تسأل عن انتشار الأمراض هناك كالكوليرا والسل والإسهال والحصبة والملاريا مما زاد عدد الوفيات .
ولقد بلغ إجمالي القرى المتضررة قرابة ثلاثة ألاف قرية من أصل عشرة آلاف قرية تحتويها الدولة , ويسكن هذه القرى قرابة أربعة ملاين نسمه , أي أكثر من 40% من سكان البلاد .
ونظراً لخطورة الوضع فقد وجه رئيس الوزراء في النيجر في 28 مايو 2005م نداء الاستغاثة للمجتمع الدولي للحصول على عون غذائي عاجل ¸كما وجهت منظمات الأمم المتحدة تحذيراً للمجتمع الدولي من احتمال وقوع كارثة صامته في النيجر . ويصف مدير برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة في النيجر مايحدث هناك بأنه ( واحده من أسوأ المجاعات التي رأيتها في حياتي )(8/159)
وتقول منظمة أطباء بلا حدود أن ثلاثة أطفال يموتون يوميا في بعض مراكزها بالنيجر بسبب المجاعة أو سوء التغذية .
أنها أزمة تتفاقم وشبح مخيف ليس للفقر والمرض بل وللموت أيضاً..... والسؤال أين المسلمون عن إخوانهم المسلمين؟؟
عبادة الله : ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) ( الإنفطار : 13) .
ومن صفات الأبرار إنهم (( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)) (الإنسان : 8) .
ويروعك الأمر حين تعلم تواجداً سريعاً للمنظمات الغربية , ويروعك الأمر أكثر حين تعلم شيئاً من أهداف هذه المنظمات والجمعيات الغربية - إنهم يغيثون ويُنَصِرون ويُساهمون في صنع الأزمات حين يُحاصرون المؤسسات الأخرى ويجمدون أرصدتها .
وهل تعلم أن جزءً من أزمة النيجر الواقعة نتيجة تغييب أدوار الجمعيات والهيئات والمنظمات الإسلامية الاغاثية والدعوية , وهكذا يهلك الناس بدعاوى الإرهاب وكذلك تبدُ نتائج الحصار للقطاع الخيري.
انها جرائم يموت لها الأطفال الرضع .. ويتهاوى مرضى الشيوخ الرٌّكع , ولا تسلم منها المرأة والشباب فضلاً عن الشجر والحيوان .
كم يٌجرمُ أولئك الذين يمنعون الخير في الإنسانية و بشكل عام وفي حق المسلمين على وجه الخصوص .
ولكن المسلمين لا يسلمون من مسؤولية الإغاثة والنصرة والله يقول لهم ((وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)) ( الحج : 28) .
و المصطفى صلى الله عليه وسلم يناديهم يقول لهم (( فكو العاني واطعموا الجائع وعودوا المريض )) رواه البخاري ح 3046(الفتح / 167) .
ولا يُعذرون بسياسات القوم الكافرين الذين يحاولون عزلهم عن إخوانهم المسلمين والله يقول (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )) ( الحجرات : 10) .
وعجب ولا عجب ونحن في زمن العجائب, شعوب ترمي زوائد المحاصيل الزراعية كالحبوب والثمار في البحر حتى تحافظ على قيمتها دون انخفاض..
وشعوب أخرى لاتجد ما تأكله حتى يضطرها الجوع و الإبلاس إلى أكل ورق الشجر ,بل ومزاحمة النمل على طعامها ..
شعوب تموت من الجوع وأخرى تصيبها الأمراض من التخمة ! إنها مُفارقات عجيبة .. وفي زمن الوعي والمعرفة والعولمة والدعوات الإنسانية الجوفاء
آهٍ على أزمنة الصدق.. وآهٍ على مجتمعات الرحمة..
وسلام على الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..
وتحية لدينٍ يٌعلم أصحابه أن رجلاً سقى كلباً يلهث من شدة العطش فغفر الله له,
ياأمة المليار : أو تزيد أليس عيباً أن يوجد فينا معدم أو بائس أو محاصر أو مظلوم؟
أي بلاءٍ يعيشه إخواننا المسلمون في النيجر فأين نحن منهم؟
يُحدث أحد شهود العيان الذين زاروا النيجر ووقفوا على المجاعة هناك : ويقول لقد رأيت بنفسي قدور القوم وهي خضراء من طبخ الأعشاب حيث أصبح طعام الحيوانات طعاماً للإنسان .. والغنيُّ من القوم من يجد مِلحاً يضعه مع الماء؟والملحُ فقط!
ويقول ولقد حملت بنفسي أطفالاً على هيئة هياكل عظمية من الجوع وسوء التغذية .. والحال أشد مع الأطفال الرضع .. فلا أهلوهم يجدون قيمة الحليب الصناعي فيشترونه ولا في ثدي أمهاتهم حليباً يُرضِعن منه الأطفال .. وأين يتكون اللبن في ثدي أم لا تجد ماتأكل سوى الحشائش !!
أنها نازلة تحتاج من المسلمين عامة إلى التفاته وإغاثة .. وبلادنا في قائمة الركب عادةً تغيث الملهوف وتطعم الجائع وتعين المتضررين والأمل أن نسمع قريباً تحركاً رسمياً و شعبياً لإغاثة هذا الشعب المسلم والرأفة بالأطفال والنساء والشيوخ بل وبعامه من به حاجة للغوث والنصرة .
وإذا بالغ الغرب في حملته الإعلامية في إغاثة هؤلاء المنكوبين وكان ضجيجاً إعلاميا أكثر منه واقعاً ملموساً كما يقول أهل النيجر فينبغي أن يكون واقع المساعدات الإسلامية كبيرا , وينبغي أن يكون الأعلام الإسلامي حاضراً ومصوراً دقيقاً لحجم هذه الكارثة .. وحين تتواجد المنظمات الغربية هناك فالمنظمات والهيئات والجمعيات الإسلامية أولى وأحرى بالوجود والمساندة .
يحتاج أهل النيجر ويتطلعون إلى فتح جسر جوي لهم ينقل حاجتهم من الطعام ويُوفرُ لهم المعونات الأخرى .. ويحتاجون إلى دعم ومساندة من الموسرين لحفر آبار تعوضهم عن نقص الأمطار .
كما يحتاجون إلى فتح مراكز للتعليم والدعوة هناك , فكارثة النيجر ليست هي الجوع والجفاف والتصحر فحسب , فثمة كوارث في الجهل والأمية , وثمة جفاف وتصحر في جوانب العلم والمعرفة وإذا كانت الفرنسية هي اللغة الرسمية , فينبغي أن يساهم الخيرون والموسرون بفتح معاهد لتعليم العربية, لغة القران لأبناء وبنات المسلمين, وفتح مدارس ومعاهد وكليات لتعليم المسلمين هناك لأمور دينهم ودنياهم وحمايتهم من المخاطر المحدقة بهم كالتنصير والعلمنة والانحراف الفكري ....(8/160)
وتشير بعض التقارير أن ثمّة مخططات للغرب بتقسيم النيجر وإيجاد دول نصرانية هناك .. إننا نهيب بالمسلمين عموماً والقادرين خصوصاًً على مد يد العون لهؤلاء المتضررين .... وحمايتهم من مخاطر الآخرين ونهيب بالجمعيات والهيئات والمنظمات الإسلامية لتواجدها وممارسة دورها الفعال ولا ننسى أن نقدم تحية عطرة للجمعيات والهيئات والمنظمات الإسلامية العاملة هناك ¸وان كانت قليله والشكر والتقدير للرجال الذين زاروا تلك المناطق المنكوبة وقدموا للمسلمين خبراً وتقريراً عنها .
وإذا كانت الأزمة تتفاقم والمستقبل لأهل النيجر مخيف فلا تزال الفرص مواتيةً للإغاثة والدعم والمساندة.. وبارك الله في كل جهد يبذل , وخلف الله على كل منفق , وهيئة الإغاثة , والندوة العالمية ,ولجنة الأعمار ,وجمعية د.السميط لمسلمي أفريقيا, وجمعية العون المباشر .. ونحوها.. كل أولئك يستقبلون تبرعاتكم لإيصالها للمستحقين.. ومن عمل صالحاً فلنفسه . (( وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )) ( محمد : 38) .
اللهم أطعم جياع المسلمين, وكن لهم عوناً ونصيراً . اللهم أصلح أحوال المسلمين, وألّف بين قلوبهم, واجمع كلمتهم على الحق,وأهدهم سُبل السلام . اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا أو بلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره ,وتدبيره تدميراً عليه يا حي ياقيوم .
اللهم نفّس كرب المكروبين من المسلمين , واشف مرضاهم , وعاف مُبتلاهم , واهد ضالهم , وثبت هُداتهم على الحق إلى أن يلقوك يارب العالمين,
ربنا ظلمنا أنفسنا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب
==============(8/161)
(8/162)
الغزو الفكري وآثاره على الأفراد والمجتمعات 1 / 2
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أما بعد :
فمنذ أشرقت شمس الإسلام وأعداؤه يكيدون له المؤامرة تلو المؤامرة ، فاستخدموا كثيراً من الوسائل ونوعوا العديد من الخطط ، فتارة بالقوة ، وتارة بالحيلة ، نجحوا أحياناً وفشلوا أحياناً أخرى ، وهكذا الصراع بين الحق والباطل.
وعصرنا الحاضر ما هو إلا حلقة في سلسلة التداول بين الإسلام وأعدائه ؛ إلا أن الأعداء هذه المرة ابتكروا أسلوباً جديداً ؛ حيث ابتعدوا عن الاعتماد على القوة وحدها ولجأوا إلى محاربة الإسلام بالفكر فكان ما يسمى بالغزو الفكري .
ولا شك أن لهذا الغزو الجديد خطورته ووسائله ، وله أهدافه و آثاره ، مما جعل الغيورين من أبناء المسلمين يتنادون بوجوب مجابهته ومحاربته ، وكشف زيفه وبيان مغازيه .
ومن المحاولات الرامية إلى مواجهة هذا الغزو عقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات الإرشادية ، وكتابة الكتب والمقالات ومنها هذه المقالات والتي هي بعنوان (الغزو الفكري وآثاره) .
أولا: تعريف الغزو الفكري :
الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام مما يتعلق بالعقيدة , وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك [1].
فالغزو الفكري إذاً مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تدخل على الفكر الإسلامي هدفها السيطرة على هذا الفكر أو على الأقل حرفه عن وجهته الصحيحة.
نشأة الغزو الفكري:
بعد فشل الحروب الصليبية وعدم استطاعة الصليبين السيطرة على المسلمين بالوسائل العسكرية تنادى مفكروهم وقوادهم إلى ضرورة استحداث أسلوب آخر يكفل لهم تحقيق أهدافهم, فكان هذا الأسلوب المطلوب هو الغزو الفكري.
يقول لويس التاسع ملك فرنسا بعد أن وقع في الأسر وبقي سجيناً في المنصورة يقول(إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده, فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم) [2].
وبالفعل بدأت الحملات الصليبية ولكن هذا المرة عن طريق الفكر وبالفكر, واستخدمت الوسائل المتعددة والأساليب الكثيرة لتحقيق ما يريدون, سواء كان ذلك عن طريق الوسائل التعليمية أو عن طريق الوسائل الاقتصادية أو عن طريق الوسائل الاجتماعية أو عن طريق الوسائل السياسية, مما سيأتي الكلام عنه مفصلا عند الكلام على وسائل الغزو الفكري.
ثانياً: أهداف الغزو الفكري:
- السيطرة السياسية على بلاد المسلمين:
قد ذكرت أن نشأة الغزو الفكري كان بعد فشل السيطرة العسكرية, فحتى يتم لهم ما يريدون من الاستيلاء على البلاد الإسلامية بدأوا بالغزو الفكري.
والسيطرة السياسية تنقسم إلى قسمين أو يمكن أن تأتى على وجهتين:
الوجهة الأولى:
الاحتلال المباشر لبلاد المسلمين كما حصل في وقت ما يسمى بالاستعمار, حيث تدخل الجيوش الغازية إلى البلد المسلم, وتبسط نفوذها عليه, كالاستعمار البرتغالي لمنطقة الخليج ثم انحساره عنها ليحل محله الاستعمار الهولندي ثم الاستعمار البريطاني, وكان هذا الاستعمار يهدف في ما يهدف إليه إعطاء الغطاء السياسي اللازم لحركات الغزو الفكري.
الوجهة الثانية:
الاحتلال غير المباشر لبلاد المسلمين بأن يجعلوا من حكامها تابعين لهم لا يخرجون عن أرادتهم وطوعهم ولا ينفذون إلا ما يريدون, وقد حدث هذا بعد خروج المحتل ولكنه أبقى نفوذه ووصايته, فبعد اكتشاف النفط في دول الخليج بادرت بريطانيا إلى اخذ التعهدات من حكام تلك الدول ألا يمنحوا امتياز التنقيب عن النفط لشركات أو أشخاص دون مشورتها([3]).
- الاستغلال الاقتصادي:
لا تقوم البلدان إلا على اقتصاد قوي, والاقتصاد يحتاج إلى موارد اقتصادية, وبلدان العالم الإسلامي في الغالب تحتوي على موارد اقتصادية هائلة سال لها لعاب الدول الغربية مما جعلها تحاول جاهدة استغلال هذه الموارد, فكان في بداية الأمر أن فرضت الدول المستعمرة شروطا واتفاقيات تبيح لها التصرف في ثروات الشعوب الإسلامية سواء كانت هذه الاتفاقيات مفروضة بالقوة أو كانت بقوة غير مباشرة كمعاهدات الحماية بأن تتعهد الدولة القوية بحماية الدولة المسلمة الضعيفة مقابل ابتزازها اقتصادياً, ولأن القوة ربما تولد القوة والهجوم يولد الدفاع, لذا رأت الدول القوية أن منطق القوة قد لا يستمر لها وأن الدولة المسلمة ربما أفاقت وقاومت, لذا لجأت هذه القوى إلى الغزو الفكري الذي يحقق لهم ما يريدون دون إثارة حفيظة المسلمين وحنقهم.
- إبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم:(8/163)
أدرك الغزاه أن المسلمين وإن كانوا في ضعف وهوان وتشتت وانقسام إلا أنهم يملكون سلاحاً قوياً يستطيعون به الانتصار على عدوهم متى ما استخدموه لذا حرصوا اشد الحرص على إبعادهم عن هذا السلاح وعن مصدر قوتهم, فبدءوا بمحاربة العقيدة الإسلامية ومحاولة إبعادها عن حياة المسلمين, لا عن طريق ذمها في البداية وبشكل مباشر فهذا يثير المسلمين عليهم ويرجع المسلمين إلى عقيدهم, ولكن عن طريق دس السم في العسل كما يقال, وبطرق ملتوية غير مباشرة, فحاولوا التشكيك في العقيدة أو في جوانب منها فإن لم ينجحوا في ذلك فعلى الأقل عملوا على زعزعة ثقة بعض المسلمين بعقيدتهم.
وقد لجأوا في ذلك إلى أساليب كثيرة أحيانا تحت مسمى التدرج وعدم التعصب وأحيانا تحت مسمى البحث العلمي وأحيانا تحت مسمى التقارب العقدي للأديان وهكذا,,,,
وسيأتي الكلام عن الأساليب التي اتخذوها.
ثالثاً: وسائل الغزو الفكري:
- التدخل في مناهج التعليم:
من أخطر وسائل الغزو الفكري, لأنه على مناهج التعليم يتربى الجيل, ومناهج التعليم على قسمين:
القسم الأول:
قسم تتولى الدولة وضعه أو بمعنى آخر يضعه أناس ولكن تحت إشراف الدولة, ويتم الغزو الفكري في هذا القسم بما يبذله العلمانيون من جهد في تغيير المناهج ولهم في ذلك أساليب ووسائل يخادعون بها دولتهم ومجتمعهم, حتى يتم لهم ما يريدون, يقدمون التقارير ونتائج الندوات والمؤتمرات المبرمجة سلفاً لشيء معين وكلها تنصب في ضرورة التغيير, وأن المناهج الحالية لا تلبي حاجة المجتمع أو حاجة السوق كما يعبر عنه أحيانا, وأحيانا تتهم أنها سبب في توليد الإرهاب, وأنها تنمي الكراهة والبغض عند الطلاب ضد الكفار, الذين اصبحوا أصدقاء وأعوان, وهكذا, ولا بأس إذا أرادوا شيئاً معيناً أن يحركوا بعض الصحفيين ليكتبوا في الصحف عن ضرورة التغيير وعن حاجة المجتمع, وعن عدم قدرة المناهج الموجودة على مواكبة العصر.
وأحياناً يمكن أن يكون الغزو في هذا القسم تحت ضغوط مباشرة من الغزاة الحقيقيين, ويستخدمون لهذه الضغوط وسائل متعددة ليس المجال مجال ذكرها.
- القسم الثاني:
قسم لا تتولى الدولة وضعه ، وإشرافها عليه غير مباشر, وهذا يتمثل في الجامعات, وبعض المدارس الخاصة والمدارس الأجنبية.
ويتم الغزو الفكري فيها باختيار مناهج تضعف فيها المواد الدينية ويركز على غيرها, ثم هذه المواد تدرس بعيداً عن الدين, وربما كان فيها من الانحراف الفكري ما يشوش على أفكار الطالب ، وربما درست نظريات وأفكار لعلماء غربيين مليئة بالانحراف, دع عنك النظريات العلمية في مواد العلوم الطبيعية كما تسمى, وإنما نقصد العلوم الاجتماعية, كعلم الاجتماع ، و علم النفس, وغيرهما.
وربما درست للطلاب أشياء مخالفة للدين فيدرس الربا على أنه فوائد ، ويدرسون كيفية حساب الفائدة, حتى إنه يلقى في روع الطالب أن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا.
وربما يوكل للأستاذ الجامعي وضع المنهج وقد لا يكون على مستوى المسؤولية.
- المدارس الخاصة والأجنبية ، ومنها الجامعات الغربية المقامة في بلاد المسلمين :
وذلك لأنها لا تخضع في مناهجها ومدرسيها للدولة بشكل مباشر, وبالتالي تكون مجالاًََََََ خصباً لبث ما يريدون, كما أن هذه المدارس قد تتعدد فيها الديانات ولاسيما المدارس الأجنبية مما يخفي عند الطالب المسلم عقيدة الولاء والبراء أو يضعفها ؛ لأنه يرى أستاذه نصرانياً وزميله كذلك وهو يعاشرهم ويعيش معهم مما يضعف البراء من الكفار.
كما أن هذه المدارس ربما تمارس أنشطة غير منهجية فيها مخالفات للدين.
من أخطر آثار هذه المدارس أنها تجذب الأنظار إليها بما تملكه من وسائل تعليمية عالية, وبما تتمتع به من تنظيم إداري فائق, كما أنها تهتم باللغات الأخرى ، مما يجعلها محط أنظار فئات خاصة من المجتمع, هذه الفئات تتخرج من هذه المدارس لتتولى المناصب في مجتمعاتهم ، مما يجعلهم سنداً بعد ذلك لقادة الغزو الفكري.
- تقليل الاهتمام بمواد الدين:
ويتم ذلك بما يلي:
- تقليصها في الجدول الدراسي.
- دعوى صعوبتها, وصعوبة فهمها.
- جعلها في آخر الجدول اليومي, مما يجعلها في وقت تعب وملل.
- التقليل من شأن مدرسها.
- دعوى أنها لا تلبي حاجة المجتمع.
- دعوى أن الطالب ربما يستفيدها من خارج المدرسة.
- جعلها مادة لا يترتب عليها نجاح الطالب, وإنما للفائدة فقط.
- جمع مواد الدينية كلها تحت مسمى واحد كأن تسمى مادة الثقافة الإسلامية مثلاً, أو مادة إسلامية, أو دين أو تربية إسلامية وهكذا.
- حصر الدين في المواد الشرعية وإخراج العلوم الأخرى
كالاقتصاد والاجتماع وعلم النفس و العلوم الإدارية والعلوم التطبيقية.
- تدريس المواد غير الشرعية بعيداً عن الدين فالاقتصاد بعيد عن الإسلام أو فيه مخالفات شرعية كثيرة, وعلم الاجتماع كذلك , وعلم النفس كذلك , والعلوم التطبيقية لا تربط بقدرة الله ، وإنما الطبيعة هي كل شيئ ..
- تقسيم المدارس أو التخصصات إلى دينية وغيرها
مما يولد الشعور عند الطالب أن الدين لا يصلح في التخصصات الأخرى.(8/164)
- تهيئة الفرص الوظيفة لخريجي الأقسام غير الشرعية, وتقليل هذه الفرص بالنسبة لخريجي الأقسام الشرعية, مما يجعل الطالب لا يحرص على دخول هذه الأقسام.
- هدم اللغة العربية: ويتم هذا بما يلي:
- الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية بدعوى أن الحركات لا تكتب.
- الدعوة إلى العامية والبعد عن الفصحى.
- دعوى صعوبة اللغة العربية وعدم قدرة النشء على تعلمها.
- الدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية, وربما للصغار مما يفسد لغتهم الأصلية.
- تشويه التاريخ الإسلامي: ويتم هذا بما يلي:
- تصوير أن الإسلام لم يعش إلا في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين, وما بعده انحرف المسلمون عن الإسلام.
- إبراز مظاهر الانحراف التي حدثت في عصور الإسلام, وجعلها هي الأصل والأساس ، وبالذات الانحرافات السياسية.
- إلصاق التهم السيئة بنوايا الفاتحين, وبنوايا المصلحين ، كاتهام الفتوحات الإسلامية بأنها نوع من الاستعمار.
- تمثيل المواقف الإسلامية أو المعارك بتشويه متعمد, فهذا القائد يحب ابنة الخصم أو يحب أخرى ، وعلاقات الحب تمثل مع عدم وجود مستند تاريخي لها ، وكتابات جورجي زيدان في التاريخ الإسلامي شاهد على ذلك.
- الاختلاط:
وهذا يكون في مسلك التعليم وفي غيرة, فأما في التعليم فيتم في البداية في الروضة ، وفي المختبرات في الجامعات ونحوها ، ثم في المراحل الأولية من الدراسة الابتدائية ، ثم يتطور بعد ذلك إلى ما هو أكثر.
هذا في المدارس الحكومية وأما المدارس الأجنبية فالأمر مختلف فالاختلاط فيها ظاهر سواء بين الطلاب والطالبات أو بين المدرسين والطالبات أو بين المدرسات والطلاب أو بين المدرسين والمدرسات.
وأما غير التعليم فالاختلاط يكون في المستشفيات ، وفي الحدائق ، وفي مطاعم العوائل ، وفي الأسواق ، وفي المنتزهات وغيرها.
- الابتعاث:
ويعني إرسال أولاد المسلمين إلى البلاد الكافرة للتعلم هناك وهذا قد تضطر له الدول الإسلامية لتتعلم العلوم التي سبقتنا فيها البلاد الكافرة, ولكن الإشكال حينما يفتح الابتعاث على مصراعيه لكل أحد ، وبدون ضوابط ولا عوامل حماية للمبتعثين, فيذهب المبتعث ويرجع بفكر غير الذي ذهب به.
- الدعوة إلى تعلم اللغة خلال الصيف في مدارسهم ومعاهدهم في بلادهم الكافرة, فيذهب الشاب إلى هناك ، وربما سكن مع عائلة كافرة ، مما يجعل فرصة تأثره بأفكارهم ومعتقداتهم سانحة, وربما احتقر بلاده وتعاليم دينه.
- نشر الأفكار الهدامة التي تدعو إليها بعض المؤتمرات والمنظمات والجمعيات العالمية.
- الحديث عن أعيادهم ، ونشر ما يحدث فيها كعيد الميلاد وعيد الحب.
- الدعوات إلى الفرق والأديان الباطلة.
- زعم التقريب بين الأديان, والدعوة إلى الندوات والمحاضرات والمؤتمرات لمناقشة هذه القضية.
- محاولة نشر الكتب أو الكتيبات أو النشرات التي تدعو إلى أديان باطلة أو تشكك في الدين الإسلامي.
- الدخول من باب الأدب لحرف الفكر الإسلامي, فتارة عن طريق الحداثة ، وتارة عن طريق القصص الغرامية, وتارة عن طريق فكر مخالف للدين بدعوى الحرية الفكرية.
- نشر الأدبيات المنحرفة وتمجيد أصحابها, سواء كان عن طريق القصة أو الشعر أو غيرها, وكتاب في جريدة شاهد على ذلك.
- ترجمة غير المفيد من اللغات الأخرى فلا تترجم الكتب العلمية المفيدة و إنما تترجم الغراميات ، أو التي تحمل الأفكار العلمانية أو الإلحادية.
- استغلال الإذاعة أو التلفزيون أو القناة الفضائية لبث الأفكار التي يريدون.
- استغلال العادات والتقاليد:
ويتم عن طريقين:
أ- استغلال واقع خاطئ يعيشه المجتمع المسلم أفرزته العادات والتقاليد البعيدة عن الإسلام, فيقوم هؤلاء باستغلال هذا الوضع ويهاجمونه هجوماً شديداً لا لرد الناس إلى الحق ولكن للشطوح بهم بعيداً عن الدين.
- الطريق الثاني:
الحرص على جعل تعاليم الإسلام عادات وتقاليد مما يهون من شأنها ويسهل تركها, كالحجاب مثلاً.
- إفساد المرأة:
والدعوة إلى تغريبها وسفورها واختلاطها ، ولهم في ذلك طرق كثيرة ودعوات مغرضة ؛ لأنهم يعرفون أهمية المرأة ودورها في المجتمع.
- استغلال النكبات في العالم الإسلامي بدعوى تقديم العون للمنكوبين المحتاجين ، وهم في الحقيقة لا يقدمون العون إلا مع تقديم أفكارهم ومعتقداتهم.
- السيطرة على مصارف النقد ومحاربة الاقتصاد الإسلامي لإضعاف المسلمين ، وبالتالي السيطرة عليهم.
- تكثيف الدراسات الاستشراقية ، والاهتمام بها ؛ لتسهل السيطرة على العالم الإسلامي .
- القيام بالعمليات التنصيرية ، ورصد الأموال الطائلة ، والجهود الكبيرة لإنجاحها .
- اختراع مصطلح العولمة لإذابة الفكر الإسلامي ، بل ليس سراً أن نقول إن العولمة هو المصطلح الجديد للغزو الفكري .
- الضغوط الخارجية على الحكومات المسلمة لئلا تقف في وجه الغزو الفكري.
- الدعم السياسي للغزاة المحليين ممن هم على شاكلتهم, ولذا ليس سراً صلة حركات التغريب بالاستعمار وبالدول الكافرة بعد الاستعمار.
1 واقعنا المعاصر ص195.
2 المرجع السابق ص196.
3 الخليج العربي دراسة في الجغرافيا السياسية ص281.(8/165)
============(8/166)
(8/167)
مفهوم السياحة ومخاطرها
الحمدُ للهِ خلقَ الخلقَ لحكمةٍ جليلةٍ محددة، (( وَمَا خَلقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)) (سورة الذاريات :56).
وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له، فاوتَ بينَ الناسِ في مسعاهُم إلى ربِّهم في هذهِ الحياة، (( إِنَّ سَعْيَكُمْ لشَتَّى )) (سورة الليل:4).
وفاوتَ بينهم في منازلِ الآخرةِ، (( فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير)) (سورة الشورى:7).
وأشهدُ أنَّ محمداً عبُدهُ ورسولهُ، حماهُ ربُّهُ عن الضلالةِ والغوايةِ، (( مَا ضَل صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)) (سورة النجم:2).
اللهمَّ صلِ وسلم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ وارضِ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين، والتابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عبادَ الله :
اتقوا اللهَ حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلامِ بالعُروةِ الوثقى، وإيَّاكُم ومُحدثاتِ الأمور، ومُضِلاتِ الفتن، (( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ})) (سورة آل عمران: 101). (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ )) (سورة لقمان: 33).
أيُّها المسلمون:
وهبَكُم اللهُ نعماً وأَودَعُكم أماناتٍ، وسوفَ يسألُكُم عن صنيعِكم بها، فالصحةُ نعمةٌ وأمانة، والمالُ نعمةٌ وأمانة، والوقتُ والشبابُ ، والسمعُ والبصرُ والفؤادُ ونحوها من نعمِ الله، كُلَّها أماناتٍ استُودعتم إيَّاها، وستُسألُونَ عن نوعِ استخدامكم لها، وكلُكُم يقرأ قولهُ تعالى: (( إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) (سورة الإسراء: 36)، ويعي قولهُ صلى الله عليه وسلم ((لنْ تَزُول قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القِيامَةِ حَتَى يُسأل عَنْ أَربَع )) الحديث .
عباد الله :
ُذكرُ بهذه المسؤوليةِ على الدوام، وتشتدُ الحاجةُ أكثرَ وقتِ الفراغِ والإجازاتِ والعُطل، التي أعتادَ عددٌ من الناسِ السفرُ فيها، وقضاءَ الإجازةِ بنفسهِ أو بصحبةِ أهلهِ وأولادهِ، هُنا أو هناك، فإلى أينَ يذهَبُونَ ؟ وبماذا يقضُونَ فراغهم ؟ وكم يُنفِقُونَ ؟ وبماذا يُنفِقُون ؟ وكيفَ ذهبوا؟ وبمَ يرجِعُون ؟ إنَّها أسئلةٌ مهمة، وإيرادُها على النفسِ قبلَ السفرِ من العقلِ والحكمة، والاستفادةُ منها والعَملُ بمقتضى الشرعِ فيها أثناءَ السفرِ إلى العودة، مؤشرٌ للصلاحِ ودليلُ الديانة.
إنَّ حياتك أيُّها المسلمُ والمسلمةُ دقائقُ معدودة، وأنفاسٌ محددة، ولستَ تدري ولا غيركَ يدري - إلاَّ الله - ماذا تكسبُ غداً، ولا بأيِّ أرضٍ تموت، وإذا حفظكَ اللهُ - مُعظمُ الوقتِ - وجاهدتَ نفسَكَ عن مُقارفةِ الخنا والفجورِ والفسوقِ، فمنَ الحماقةِ أن تُحطِمَ هذا السياجُ الواقي، وترغبُ عن هذا الأمانُ الإلهي فترةً من حياتك، وقد يُختَمُ لكَ بها، فتكونُ الحسرةُ والندامة، إذ حلت بكَ سُوءُ الخاتمةِ، وتعرضتَ لمقتِ اللهِ وغضبه، إذا استُخدمت نعمُ اللهِ في معصيته، وليسَ يليقُ بكَ أن تأكلَ من رزقهِ وتعيشَ في أرضهِ، ثم أنتَ تُجَاهِرُهُ بالمعاصي، وهُو يَرَاكَ وإن لم تره.
إخوةَ الإسلام: ومصطلحُ السياحةِ مصطلحٌ يترددُ كثيراً، ولكنَّ الحديثَ عنهُ يكثرُ مع قُربِ الإجازةِ الصيفية، ورُبَما استهوت دعواتُهُ، بعضُ الناسِ غافلينَ عن حقيقتهِ ومخاطِرِه، فما مفهُومهِ في زمننا، وما هِي مخاطِرُهُ ؟ وما مفهومُ السياحةِ الأصيلُ في شرِيعتنا، وما سياحتُنا أهلُ الإسلام؟ وما هيَ خصائصُنا ومسؤولياتِنا في بلادِ الحرمين؟
ودعونَا نبدأُ الحديثَ عن أصلِ السياحةِ في الإسلام، وما المرادُ بالسائحينَ في كتابِ اللهِ وسنةِ رسولهِ r لقد وردت السياحةُ في كتابِ اللهِ وسنةِ رسول صلى الله عليه وسلم تحملُ معاني ساميةً، وارتبطَ وصفُ السائحينَ بنماذجَ عاليةٍ من البشر، يقولُ تعالى في وصفِ الذين اشترى اللهُ منهُم أنفسَهم وأموالهم بأنَّ لهُم الجنة: (( التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ)) (سورة التوبة:112).
وترددت عباراتُ العلماءِ في معنى السياحة، ومَنْ هُمُ السائحون؟ فقيلَ هُم الصائمون، واستدُلَ لهُ بقولهِ تعالى في وصفِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ((عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ)) (سورة التحريم:5) .
وبما وردَ في الحديثِ عن عائشةَ -رضي الله عنها- مرفوعاً: (( سِيَاحَةُ هَذهِ الأَمةُ الصِيَامُ )) .
وقيل السائحونَ: هُم المُجَاهدون، واستدلَ لهُ بقولهِ r -في الحديثِ الصحيح-: (( إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ )) ( وهو في صحيح سنن أبي داود2/472 ).(8/168)
وقيل السائحون : المُهاجِرون، وقيل: هُم الذين يُسافرون بطلبِ الحديثِ والعلم، وقيل: هُمُ الجائلُون بأفكارِهم في توحيدِ ربهم وملكوتهِ، وما خلقَ من العبرِ والعلاماتِ الدالةِ على توحيدهِ وتعظيمه.
قال القُرطُبي- رحمه الله- مرجحاً قلتُ: ( س ي ح ) يدلُ على صحةِ هذهِ الأقوال، فإنَّ السياحةَ أصلُها الذهابُ على وجهِ الأرضِ كما يسيحُ الماءُ، (الجامع لأحكام القرآن 8/270).
أيُّها المؤمنون :
وتأملوا ما جاءَ في سنةِ محمدٍ r عن مفهومِ السياحةِ، بل ونهِيهِ عن نوعٍ من السياحة، ففي سُننِ أبي داود، وفي كتابِ الجهادِ فيه (بابٌ في النهي عن السياحة)، ثُمَّ أوردَ المصنفُ فيه حديثُ أبي أمامةَ t أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله ائذن لي بالسياحةِ، قال النبيُ صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالى )) .
تُرى ما نوعُ هذه السياحةِ التي طلبها هذا الصحابي، وأرشدهُ النبيُ r إلى خيرٍ منها؟ لقد استأذنَ هذا الصحابي t في العُزلةِ عن الناسِ والتفرغَ للعبادةِ ومفارقةِ الأمصار، وسُكنى البراري والكهوفِ والجبال، فلم يأذن لهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما في ذلكَ من تركِ العلمِ والجهاد، ولِما فيهِ من بُعدٍ عن الجمعةِ والجماعة، ودلَّهُ على الجهادِ لأنَّ فيهِ ذروةُ سنامِ الإسلام، وكُبتاً للكفرِ والظلال، كذا قال العلماء (بذل المجهود 11/383، 384).
وقالوا: ولا تشرعُ العزلةُ إلاَّ في أيامِ الفتنِ والزلازلِ في الدينِ، (ابن كثير/ تفسير آية التوبة 2/635، 636).
إخوةَ الإسلام :
فإذا كانَ هذا توجيههُ r لمن رغبَ العزلةَ للعبادة، فكيفَ بمن يسيحُ في الأرضِ للفساد، وإهلاكِ الأوقاتِ، وتبذيرِ الأموالِ وانتهاكِ الحُرمات، والتفريطِ في الواجبات؟
إننا معاشرَ المسلمين أصحابُ رسالةٍ عظمى، ينبغي أن نعيها دائماً، ونسعى جاهدينَ لنشرِها وتبلِيغِها، وإنَّما أشرقَ الكونُ وغمَّ العدلُ، وانطوى بساطُ الظُلمِ يومَ أن أشرقت حضارتُنا ببعثةِ محمدٍ r بعد أن عاشت البشريةُ ردحاً من الزمن، تتقلبُ في الفوضى وتسُودُها الصراعاتُ النكدة، ويُخَيِمِّ الجهلُ والاستبدادُ في أرجائِها، وذلكَ على أثرِ فترةٍ من الرسلِ غابت فيها تعاليمُ السماء، وسادَ فيها خُزعبلاتِ الجاهليةِ الأولى !
واليومَ وقد ضعُفَ سُلطانُ المسلمين، وتسلّمَ رايةَ القيادةِ غيرُ المسلمين، شاعت مفاهيمُ الجاهليةِ المعاصرة، وسادَ العالمَ قتلٌ هنا، وتشريدٌ هناك، ظلمٌ وعُدوان، وفسادٌ في القيم، وانهيارٌ في الأخلاق، ومسخٌ في التصوراتِ، والأدهى والأمر إنَّ هذا الفسادُ مُقنن، تُستخدمُ لهُ مصطلحُ (العولمة) ويُعمِمُ شرُّه عبرَ (القنوات الفضائية).
ويُرمى الرافضونَ لهُ، والمدرِكُونَ لأبعادهِ ومخاطرهِ (بالتطرف والأصولية)، وتدرجُ السياحةُ والفنُ الرخيصُ والرياضة، والنجوميةُ الوهميةُ ونحوها من الفسادِ الخُلقي والفكري في قوالبه، والهدفُ تخديرُ الناسِ وإبعادُهم عن الهدفِ الأسمى لوجُودِهم في هذه الحياة، وحملُهم في عربةِ القطارِ ذاتَ النهايةِ البائسةِ من حيثُ يشعُرُونَ أو لا يشعُرُون.
معاشر المسلمين :
إنَّ الأخلاقَ والقيمَ العالية- في كلِّ أمةٍ أساسُ بقائِها، وهي بالنسبةِ لنا معاشرَ المسلمين جزءٌُ عظيم من ديننا، ومقوّمٌ أساسي من مقوماتِ حضارتِنا، وإذا أفلسنَا في هذا الجانبِ الخلقي، وقد غُلبنا من قبلُ في الجانبِ المادي التقني، فماذا يبقى لنا؟ أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم: (( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لعَلكُمْ تُفْلِحُونَ)) (سورة آل عمران:200).
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ عزَّ من أطاعهُ، وذُلِّ من عصاه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، يُمهل ولا يُهمل، ويُؤخِرُ العُقُوبةَ ولا يغفل، وأخذهُ أليمٌ شديد، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله، أخبرَ وهو الصادقُ الأمين (( ليَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ)) (البخاري مع الفتح 10/51).
اللهمَّ صلِّ وسلم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.
إخوةَ الإيمان :
وهكذا يتبينُ لكم في العرضِ السابقِ الفرقُ في مفهومِ السياحةِ في الإسلام، وما آلَ إليه مفهومُها في هذا الزمان.
أجل إنَّ سياحتنا- أهلَ الإسلام- صيامٌ وجهاد، وهجرةٌ ودعوة، ورحلةٌ للعلمِ نافعةٌ، وسيرٌ في مناكبِ الأرضِ، وتأملٌ في ملكوتهِ، وإدراكٌ لعظمتهِ، وإقرارٌ بتوحيدهِ، أمَّا السياحةُ عندَ غيرنا - وبمفهومِها المعاصر- فهي كأسٌ وغانية، ومرقصٌ وبار، حفلاتٌ صاخبة، ولقاءاتٌ مختلطةٌ على الشواطئ، وفي القواربِ صورٌ فاتنة، وتهتكٌ وسفور، تبذيرٌ للأموالِ، وفحشٌ في الأقوالِ، وضياعٌ للأوقاتِ، وإسقاطٌ للأخلاقِ، وقتلٌ للمكرُمَاتِ، وابتزازٌ بشعٌ للأموال، وتصديرٌ لزبالةِ الأفكارِ وردِيءُ الثقافات، وطريقٌ لانتشارِ الأمراضِ الفتَّاكةِ، والوقوعِ في شبكةِ المخدرات . ( انظر: جريدة الدعوة السعودية 10/2/1414هـ ) .(8/169)
وفوقَ ذلك كلهِ، وأعظمَ التشكيكُ في المعتقد، ونشاطُ ناصبي الخيامِ، فقد ذكرت إحدى الصحفِ ( شباكاً يُنصبُ لتنصيرِ المسلمين السائحين )، ثُمَّ ذكرتُ أنَّ هُناكَ مُنصِرين عرباً لتنصيرِ المُسلمين، رُبَمَّا جاءُوا من بلادِهم لهذهِ المهمة، وتلقُوا دروساً كنسيةً مطولةً لهذا الغرض ؟ ( جريدة المسلمون، عن الدعوةِ السعودية 10/2/1414هـ ) .
عباد الله :
ومما يُحزنُ القلبَ ويُعظمُ الخطبَ أن تتسللَ بعضُ هذه المفاهيمِ وتلك السلوكياتِ في السياحةِ المُعاصِرةِ إلى عالمنا الإسلامي، بل وقعَ ذلكَ أو جلُّهُ في أجزاءٍ من عالمنا، وذلكَ في مرحلةِ الضعفِ الروحي، والهزيمةِ الفكريةِ، وباتت السياحةُ تُمارسُ كرافدٍ اقتصادي، ومؤشرٍ للانفتاحِ على العالم، ولو كانَ ذلكَ على حسابِ الخُلقِ والدين، وإشاعةِ الفاحشةِ والرذيلة، واجتثاثِ القيم، وذبحِ الفضيلة.
أيُّها المسلمون: وحمى الله بلاد الحرمين - فيما مضى- من عقاقيرُ هذه السياحةِ المُصدرة، فلم تُستبح حماها، ولم يعبث السُوَّاحُ الأجانبُ بأرضها، بقي مجتمعُها أصيلاً محافظاً لم يخترقهُ الآخرونَ بسلوكياتِهم المشينة، وأفكارِهم المُنحلة وأمراضهم الفتَّاكة، وبقيَ الأمنُ فيها مستتباً، والناسُ يُتخطفُونَ من حِولِنا، والسياحةُ والسُوَّاح سببٌ من أسبابِ هذا الخللِ الأمني .
ولكنَّا - عباد الله - بدأَنا نسمعُ مؤخراً عن دعواتٍ للسياحةِ في بلادِنا تستهدفُ العائلاتِ في المملكةِ والخليج، كما أُعلنَ في الصحفِ، وفيها إعلانٌ لحفلاتٍ غنائِيةِ، وتلميعٌ لنجومٍ وهمية، بل جاءَ في إحدى الصُحف الخبرُ التالي:
بعد النجاحِ الكبيرِ الذي خرجَ بهِ مهرجانُ صيفِ أبها العامَ الماضي الذي عدّهُ البعضُ أكبر تجمعٍ فنيّ غنائي عربي لنجوم الساحة الفنية، فقد أقرت اللجنةُ برامجَ حفلاتِ مهرجان صيفِ هذا العامِ الغنائيةِ الكبيرة، التي سيكُونُ للجمهورِ موعدٌ معها ومع كبار مُبدَّعي الأغنيةِ، في المنطقةِ الذين سَيصنعُونَ صيفاً ساخناً مليئاً بالفنِّ والطربِ والثقافةِ العامة، (عكاظ عدد 11940 في 20/1/1420هـ).
أيُّها المسلمون :
ينبغي أن تتميزَ سياحتُنا عن سياحةِ الآخرين، وإذا نجحنَا في صرفِ الناسِ عن السفرِ للخارج، فذلك أمرٌ مرغوبٌ ومحمود، ولكن شريطةَ ألاَّ نقعَ في المحظورِ بأيِّ لونٍ من الألوان، فالحكُمُ الشرعيُّ في المُحرمِ واحد، وإن اختلفَ المكانُ أو الزمان .
ونحنُ في بلادِ الحرمينِ لنا خصوصيةٌ تُميزُنا عن غيرنا، فسلوكياتُِنا محلُ نظرٍ وتقديرِ العالم الإسلامي، وفينا قبلتُهم، وفي بلادِنا محيا ومبعثُ ومماتُ نبيهم، ومن أرضِنا انطلقت راياتُ الجهادِ وحملَ الفاتحونَ العِلمَ والحضارةَ الحقَّةِ للعالم، فكُنَّا بحقٍّ مصابيحُ الدُجى، ودعاةَ خيرٍ، وسطَّرنَا صحائفَ من ضياء، فما نسيَ الزمانُ ولا نسينا، وبلادُنا اليومَ مُؤهَلةً للقيادةِ من جديد، بإمكانَاتِها، وعُلمائِها، وموقعَ المُقدساتِ فيها، وسلامةَ الفكرِ، وصحةَ المعتقد فيها، وذلك في خضمِ حربِ الأفكارِ وصراعِ المعتقدات، ولئن عَجزنا أو قصَّرنا في حملِ ذلكَ للناسِ في دِيارِهم، فأقلَ الواجبِ أن نحفظَ هذا الكنْز الكبيرِ، ونحافظُ على هذا التاريخِ المجيدِ في بلادنا، حتى يتذكرهُ من وفدَ إلينا، وتبقى أرضُنا جُذوةً لإحياءِ المشاعرِ الإسلامية، لا أن نستبدلَ الذي هُو أدنى بالذي هو خير .
إنَّ بلادنا - والحمد لله - غنيةٌ بموارِدها الاقتصاديةِ الأخرى، وخيرٌ لنا أن نُنَميها ونزيدُ من فاعِليَّتِها، من أن نلجَ من بوابةِ السيَاحةِ الضيقةِ لدعمِ اقتصادنا، بل بإمكانِنَا أن نُجددَ في مفهومِ السياحةِ، ونقترحَ أنماطاً مشروعةً تستجلبُ الآخرينَ دُونَ أن تُأثرَ على دِينهم وأخلاقِهم .
إنَّها دعوةٌ للمسئولينَ ، والعلماءَ والمفكرينَ والأولياءَ، للمحافظةِ على أصالتنا، وحمايةِ بلادِنا ومُجتمعِنا من سُمُومِ الآخرين، عبر بوابةِ السياحةِ، وقد تزدادُ مُستقبلاً فتكونُ بوابةُ انحرافٍ خُلقي، وباعثةٍ لمشكلاتٍ أمنية، وطريقاً لانتشارِ الأدواءِ والأمراضِ الفتَّاكة ؟
إنني أُناشِدُ كلَّ غيورٍ، وصاحبَ مُواطنةٍ صالحةٍ للمساهمةِ في استدامةِ الأمنِ والإيمانِ في هذهِ البلادِ الطاهِرة، والبعدِ عن كلِّ أسبابِ الفسادِ والانحرافِ الخلقي، و صلى الله عليه وسلم جاء - يوم بُعث - ليُتممَ مكارمَ الأخلاق، وجاءت شريعتُهُ ناهيةً عن اللهوِ والغفلةِ، وضياعِ الأوقاتِ، وتبذيرِ الأموال، وكانَ فيما أُوحي إليه: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِل عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولئِكَ لهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)) (سورة لقمان:6).
سُئلَ ابنُ مسعودٍ t عن تأويلِ هذهِ الآية، فأقسمَ ثلاثاً هو الغناء، واللهِ الذي لا إلهَ إلاَّ هو، وكذا قالَ ابنُ عباس، وجابرُ، وعكرمةُ، وسعيد بنُ جبير، ومجاهدٌ ومكحول وغيرهم، (تفسير ابن كثير 3/703).
وفي السُنةِ النبويةِ تأكيدٌ على حُرمةِ الغناء، ففي صحيحِ البخاري: ((ليكُوننَّ من أمتي قومٌ يستحلونَ الحِرَ والحريرِ والخمرِ والمعازف)) (الفتح 10/51).(8/170)
وتأملوا كيفَ جُمعَ تحريمُ الغناءِ والمعازفِ مع تحريمِ الفروج، والحريرِ والخمر؟ وما فتئَ علماءُ الأمةِ الربانيون يُحذِرُونَ من فتنةِ وعبوديةِ الشهوات.
يقولُ الشافعي - رحمه الله -: (من لزمَ الشهواتِ لزمتهُ عبوديةُ أبناءِ الدنيا) (سير أعلام النبلاء 10/97).
ويقولُ ابنُ تيميةَ - رحمهُ الله -: (والعشقُ والشهواتُ إنَّما يُبتلى به أهلُ الإعراضِ عن الإخلاصِ لله، الذين فِيهم نوعٌ من الشركِ، وإلاَّ فأهلُ الإخلاصِ كما قال تعالى في حقِّ يوسفَ- عليه السلام-: (( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلصِينَ )) (سورة يوسف:24) (الفتاوى 15/421).
وأخيراً أحذر أخي المسلم، أختي المسلمة أن نكونَ ممن قالَ اللهُ فيهم: (( فَخَلفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلقَوْنَ غَيًّا)) (سورة مريم:59).
اللهمَّ احفظنا بحفظك، واكلأنَا برعايتك، وحبب إلينا الإيمانَ، وزينهُ في قُلوبِنا، وكره إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيان، واجعلنا من الراشدين .
اللهمَّ احفظ بلادَنا وبلادَ المُسلمِينَ من كلِّ سُوءٍ ومكرُوه.
===========(8/171)
(8/172)
القرآن الكريم في غوانتناموا تدنيس أم تكريس ؟
الحمدُ للهِ الذي أنزلَ على عبدهِ الكتابَ ولم يجعل لهُ عوجاً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ لهُ، نزَّلَ الفرقانَ على عبدهِ ليكونَ للعالمينَ نذيراً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ أوحى إليهِ ربُهُ بشأنِ القرآنِ، ((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)) .
أيُّها الأخوةُ المؤمنون :
نزلَ الوحيُ من السماءِ مُعظَّماً، وكانَ الوحيُ عمادَ شريعةِ الأنبياء، كانت صحفُ إبراهيمَ وموسى، وكانَ التوراةُ والإنجيلُ والزبورُ، ثُمَّ كانَ القرآنُ فرقاناً ومهيمناً ومصدقاً لما بين يديهِ من الكتابِ ومهيمناً عليه، (( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ )) (سورة المائدة / 48)
واندست الكتبُ السماويةُ وبقيَ القرآن الكريم محفوظاً علَّياً، {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} ((بل هو قرآن مجيد * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ)) ، ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) .
أجل إنَّ حفظَ القرآنِ معجرةٌ لمحمدٍ r ، ودليلٌ على أنَّ الإسلامَ رسالةُ اللهِ الأخيرةِ للبشر .
بالقرآنِ حُفظت أخبارُ الأنبياءِ ودعوتُهم مع أقوامهم، وبالقرآنِ كانتِ الإشارةُ إلى شرائعَ السماءِ بالقرآنِ قُصَّ أحسنَ القصصِ، وبالقرآنِ أُحكِمت الشرعيةُ فلا نسخَ ولا تبديلَ إلاَّ ما أتى اللهُ بخيرٍ منها أو مثلها، وفي حياةِ صلى الله عليه وسلم فقط وبعدَ موتِه انقطعَ الوحيُ من السماء، وتوارثت أمةُ الإسلامِ هذا القرآن تحفظهُ في الصدور، وتجدهُ مكتوباً في الألواحِ والمصاحفِ، ومهما أصابَ الأمةَ من نكباتٍ وخطوب، ومهما اجتاح العدوُّّ أرضها أو دمّرَ ما دمّرَ من حضارتِها، فقد بقيَ القرآنً شاهداً على التحدي، وبرهُاناً على الحفظِ والإعجازِ، لا يأتيهِ الباطلُ من بينَ يديهِ ولا من خلفهِ تنزيلٌ من حكيمٍ حميد .
وكُلَّما ضعفَ المسلمونَ عن القرآنِ هبَّت صيحاتٌ تُنادي بالعودةِ إلى كتابِ الله ، فينبعثُ للقرآنِ جيلٌ جديد، وتنبعثُ هممٌ لحفظهِ وتدريسهِ والعنايةِ به وبعلومه، وتنشأُ مؤسساتٌ ودورٌ، ومعاهدٌ وجامعات للقرآنِ
وعلى مرَّّّ العصورِ وللقرآن رجالٌ ونساءٌ يُحيُون الليلَ بالقرآنِ قراءةً وتدبراً، وبكاءً وخشوعاً.
وعلى اختلافِ الدولِ كانَ للقرآنِ سلطانٌ ، به يُساسُ الناسُ، وبأحكامهِ يُأخذون ، وبهديهِ يهتدون.
وعلى اختلافِ الأحوالِ حضراً وسفراً، وصحةً ومرضاً، كانَ القرآنُ للمسلمِ رفيقاً ومؤنساً، يتلوهُ المسلمُ قائماً وقاعداً وعلى جنب، وبقي القرآنُ خيرُ جليسٍ ومؤنسٍ في حالِ الغربةِ والوحشة، فالقرآنُ يُتلى في غياهبِ السجون، ويترنَمُ السُجناءُ بآياتهِ وهم في قبضةِ الأعداءِ يُسامُون سُوءَ العذاب، ويُعامَلونَ بوحشيةٍ مُفرطة، ويُعزِلُونَ عن أهليهم ومجتمعاتِهم في جُزرٍ بعيدةِ الأعماقِ، نائيةً عن الأمنِ والإيمانِ، هُناكَ في ((غوانتناموا)) يُسمعُ دويُّ للقرآن ويَنفسُ المكروبينَ عن أنفسهم بترتيلِ القرآن، ويُناجُونَ ربّّهم بالقرآنِ، ولكنَّ الظلمََ يتجاوزُ الحدودَ، وكرامةُ الإنسانِ تُهانُ إلى الأذقانِ، بل وشرائعُ السماءِ ووحيُ اللهِ تُنتهكُ إلى حدٍ لا تكادُ تصدقهُ العقول، وفي زمنٍ من العلمِ والعولمةِ، والزعمِ بتصديرِ الحريةِ والديمقراطية ؟
أجل لقد نشرت وسائلُ الأعلامِ العالميةِ - وفي مُقدِمتِها وسائلُ أعلامِ الغرب - عن انتهاكِ الجنودِ الأمريكانِ للقرآنِ في سجنِ غوانتناموا، مُزقَ القرآنُ وأُهينَ في المراحيض، وذلكَ كأسلوبٍ من أساليبِ الأذى والتعذيبِ للسُجَناءِ المسلمينَ هُناك،
ولكن الحادثُ أبعدُ مدى، وأوسعُ انتهاكاً، فهو تحدٍ سافرٍ للمسلمين، وهو استفزازٌ لمشاعرِ أكثرِ من مليارِ مسلم، وعلى أثرِهَا احتجت دولُ، وتظاهرت شعوبٌ وصدرت بياناتٌ واستنكاراتٌ، من هيئاتٍ ومجمّعاتٍ، ولجانٍ ومنظماتٍ إسلامية.
ولقد عبَّرت الأمانةُ العامةُ لمجمعِ الفقهِ الإسلامي بجدة، والمنبثقُ عن منظمةِ المؤتمرِ الإسلامي باسمِ شُعوبِ الأمةِ الإسلاميةِ وعلمائِها وفقهائِها عن سَخطِهم الشديد، واستنكارِهُم الكبير، لما نقلتهُ وكالاتُ الأنباءِ العالميةِ استناداً إلى مجلةِ (نيوزبك) الأمريكية، الصادرةُ في 9 مايو 2005 م من أخبارٍ مُزعجَةٍ حولَ قيامِ بعضِ جنودِ الجيشِ الأمريكي في قاعدةِ (غوانتناموا) الأمريكيةِ بكوبا، بتدنيسِ المُصحفِ الشريفِ، وإلقائهِ في المراحيضِ، قصدَ إيذاءِ السُجناءِ المسلمين، ومن ورَائهم من عامةِ المسلمينَ وأهلِ الدياناتِ الإلهيةِ المعترفينَ، بأنَّ الكتابَ المُنزل على الرسولِ r هو كمثلهِ من الكُتبِ المقدسةِ - التوراة والإنجيل - واجبٌ احترامُها وتقديسُها .
وأشارَ البيانُ إلى أنَّ هذا الانتهاكُ من أشدِّ المُوبقاتِ جُرماً ، ولا يمكنُ للمسلمينَ التسامُح فيه، ( جريدة الجزيرة 9 / 4 / 1426 هـ ) .
أيُّها المسلمون :(8/173)
ومع أهميةِ هذه البياناتِ المستنكِرةِ، فينبغي للمسلمينَ حكوماتٍ وشعوباً ألاَّ يقفُوا عند حدودِ التنديد، بل يُواصِلُوا استنكارَهم حتى تَوقعَ العقوبةُ الرادعةُ على المجرمينَ ومن ورائهم، وحتى يعلمَ العالمُ أنَّ الإسلامَ عزيزٌ في نفوسِ أتباعه، وأنَّ القرآنَ عظيمٌ في قلوبِ أهله، وأنَّ للمستضعفينَ من يُناصِرُهم ويُدافعُ عن حقُوقِهم وكرامتهم، فالسجناءُ المسلمونَ هُناكَ أُوذُوا وعُذِّبُوا، وانتُهكت حقُوقِهم وقد آنَ الأوانُ لنُصرتِهم والدفاعِ عنهم، وينبغي أن تٌعرَّى أنظمةُ الغربِ المُدَّعيةِ لحريةِ الأديان، والزاعمةِ لتأمينِ الديمقراطيةِ للشعوب ، وهاهيَ اليومَ تُمارِسُ العنصريةَ والاستبدادَ والانتهاك، بأبشعِ صُورِها ، وترسِمُ مشهداً موحشاً للغربِ وجنودهِ ، يتجاوزُ الإساءةَ للبشرِ إلى الإساءةِ وقلّة الأدبِ مع اللهِ وكلامهِ ووحيه، ويُطالُ ذلك شرائعَ السماءِ كلَّها .
اللهمَّ إنا نبرأُ إليكَ ممَّا صنعهُ المُجرِمُون، ونسألُكَ أن تسلّطَ عليهم من ينتقمُ منهم إنَّكَ قويٌ شديدٌ المحال .
وبالمناسبةِ نُذكِّرُ المسلمينَ وغيرَ المسلمينَ، ولا سيما من أهلِ الكتابِ أنَّ القرآنَ خضعت لعظمتهِ الأفئدة، وخرَّ للأذقانِ سُجداً أهلُ العلمِ من أهلِّ الكتاب حين تُلي عليهم، وسُجلَ الموقفُ الرهيبُ في القرآنِ، وتحدى اللهُ من أعرضَ عن القرآنِ ولم يُؤمن به، فقال تعالى مادحاً لأهلِ العلمِ من أهلِ الكتابِ ، وقادحاً على من كَذَّب بهِ وأعرضَ عنهُ من أهلِ الأوثانِ: (( قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا*)) ( سورة الإسراء 107 - 109)
قال السَعدي- رحمه الله-: (" وهؤلاءِ كالذينَ مَنَّ اللهُ عليهم من مُؤمني أهلِ الكتابِ كعبدُ اللهِ بن سلام وغيرهِ ممن أسلمَ في وقتَ النبي- صلى الله عليه وسلم -، بعد ذلك ( تفسير السعدي 4 / 322 )
والمشهدُ هُنا يفوقُ الوصفَ ولا تكفي الألفاظُ لتصويرِ الموقفِ، فتنسكبُ الدموعُ معبرةً عمَّا يجيشُ في الصدورِ،
أينَ هؤلاءَ المُدَنِسُونَ للقرآنِ؟ والمُمَزِقُونَ لما أُنزلَ على الرسولِ r ممن سبقَهم من نصارى، قال اللهُ عنهم: (( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) ( سورة المائدة / 83) اللهمَّ اجعلنا من أهلِ القرآنِ، وممن يُعظِمونَ القرآن .
الخطبة الثانية
إخوةَ الإسلام :
القرآنُ في غُوانتناموا تدنيسٌ أم تكريس ؟
هل ما نُسبَ إلى الجنودِ الأمريكانِ هُناكَ تدنيسٌ للمصحفِ الشريفِ أم تكريسٌ للعدوانِ على المسلمينِ بشكلٍ عام ؟
أهُوَ تدنيسٌ للمصحفِ كما صنعُوا أم هُو تكريسٌ للاهتمامِ بهِ من قبلِ المسلمينَ كما ينبغي، فالمسلمونَ يُدرِكُونَ أنَّ القرآنَ هادٍ لا يَضِلُّ، وناصحٌ لا يغشُّ، ومحدثٌ لا يكذبُ، فيه زيادةٌ من هُدى ونقصٌ من عمى ، وشفاءٌ من عي، شافعٌ مُشفع، وقائِلٌ مصدق .
إنَّ المسلمينَ لا ينبغي أن ينطلِقُوا في عِنايتهم بالقرآنِ من ردودِ الأفعالِ، ولكن مِثلَ هذهِ الأحداثِ المُؤسفةِ تُذكِرُهُم بواجِبِهم تجاهَ القرآنِ تعلماً وتعليماً، وعنايةً ودعماً ، ودعوةً ونشراً للقرآن .
إنَّ حادثةَ تدنيسِ القرآنِ هُناكَ تُذكِرُ المسلمينَ بموقفِ أعدائِهم من القرآنِ والإسلام، وتُنبِهُهُم إلى تعظيمِ اللهِ بتعظيم كتابِه، وإغاظةِ الأعداءِ بالعودةِ للإسلامِ وحَمْلِ القرآن.
ولقد فَهمَ السابِقُونَ أنَّ القرآنََ رسائلُ من ربِهم، فكانُوا يتدبرُونَهُ بالليلِ، ويتفقدُونَهُ بالنهار- وكذلك ينبغي أن يفهَمَ اللاحِقُونَ من المسلمين - ( كما أثُرَ عن الحسنِ بن علي- رضي الله عنهما- ) التبيان للنووي / 28 ) .
أيُّها المسلمُون: وقفةٌ ومصارحةٌ، ماذا وراءَ احتجاجِنا وغضبتِنا لما يصنَعُهُ الأعداءُ بالقرآن ؟
وشكراً لك أيُّها المسلمُ وأنتَ مُثابٌ حين تغضبُ للهِ، وتدافعُ عن القرآنِ، ولكن قُل لي بصراحةٍ ما وردَكَ اليومي من القرآنِ حين تغضبُ للقرآن ؟ وكيفَ تعظيمُكَ لأحكامِ القرآنِ حينَ تُدافِعُ عن القرآن ؟ وما مدى عِنايَتُكَ بتعليمِ وتحفيظِ أبنائِك للقرآن ؟ (( وخيرُكُم من تعلمَ القرآن )) .(8/174)
يا أيُّها المُوسِرُونَ والمقتدِرُونَ، وهل يدعُوكُم هجومُ الأعداءِ على القرآنِ على البذلِ من أجلِ القرآن، تشجيعاً للحفظةِ ودعماً لحلقِ القرآن، وجمعياتِ تحفيظهِ، وتوزيعاً للمُصحَفِ لمن بهِ حاجةً إليه، وحينَ تُشكرُ وزارةُ الشُؤونِ الإسلاميةِ مُمثَّلَةً في مُجمَّعِ الملكِ فهد لطباعةِ المصحفِ الشريف، ورابطةُ العالمِ الإسلامي ممثلةً بلجنةِ الأعجاز للقرآن ، وسواهُمَا من الهيئاتِ والمُنظَماتِ الإسلاميةِ العالميةِ المعنيةِ بالقرآن، فهل يُزاد من طباعةِ المصحفِ وتوزيعهِ؟ إذ لا تزالُ الحاجةُ قائمةً ولا يزالُ في المسلمينَ من يتعاقَبُونَ على المصحفِ الواحد ؟
وهل يا تُرى تزدادُ العنايةُ بترجمةِ معاني القرآنِ بعددٍ من اللغاتِ، ليصلَ القرآنُ لكلِّ راغبٍ في البحثِ عن الحقيقةِ، والوقوفِ على الجوهرةِ الثمينةِ، وهل من مشاريعَ أُخرى لخدمةِ كتابِ الله ؟
وإذ نسمعُ بينَ الفينةِ والأُخرى عن مُسابقَاتٍ محليةٍ أو عالميةٍ في القرآن، ونحي هذه البوادرُ الطيبة، فكم نتمنى أن تَرحلَ هذه المسابقاتِ للمسلمينَ في بلادِهم ليتيَسَرَ لأكبرِ عددٍ من أبناءِ المسلمينَ الاستفادةُ من هذهِ المسابقات، وكم هُو طُموحٌ لو زِيد في مدارسِ ومعاهدِ وكلياتِ القرآنِ في مشرقِ العالمِ ومغربه، ليبلغَ القرآنُ ما بلغَ الليلُ والنهار .
أيُّها المسلمون :
مشاريعٌ كثيرةٌ يُمكنُ أن يُفكّرَ بها المسلمونَ ويدعَمُوها في سبيلِ تعليمِ القرآن، وحينها ينتشرُ الهُدى، ويكونُ الشفاءُ بالقرآنِ، ويَعمَّ النورُ وتُنوَّرُ البصائرُ، وتَعمُّ البشائرُ، وتعلُو الفضيلةُ، وتنساحُ الحكمةُ، ويرتبطُ الناسُ بحبلِ الله ، ويفرحَ المُؤمنون بفضلِهِ وبرحمتهِ، وذلك خيرٌ ممَّا يجمعون، وحينها ينقلبُ السحرُ على الساحرِ، وينقلبُ المكرُوهُ إلى محبوبٍ، ويعلمُ الأعداءُ أنَّ للقرآنِ وزناً عندَ المسلمين، وأنَّ التحدي والاستفزاز يدعُو المسلمينَ إلى مزيدِ الاستمساكِ بالقرآنِ وتعظيمهِ ونشره .
أيُّها المُؤمنونَ :
على أنَّ حادثةَ تمزيقِ المُصحَفِ في غُوانتناموا - تلفتُ نظرَ المسلمينَ إلى ما يلقاهُ أخوانُهم المسلمونَ المعتقلونَ هُناكَ من إهانةٍ وتعذيبِ، آنَ الأوانُ لأن تنتهي، وينصرَ المسلمونَ إخوانَهم المستضعفينَ هُناك، فثمةَ تأوهاتٍ تُذهبُ أدراجَ الرياح، وثمةَ أنينٍ وحنينٍ لا يُسمعُ في لجِّ البحار، وثمةَ ظُلمٍ تعفِيهِ الأمواجُ كالجبالِ، ولكنَّ الله يسمعُهُ من فوقِ سبعِ سماوات، أما آنَ للظُلمِ أن يُرفع، وللمظلومينَ أن يُنصرُوا ؟!
لقد أُفرجَ عن عددٍ من المُعتقلين لاحتجاجِ هيئاتٍ، أو مدافعةِ مُحامِين، وبقيَ أعدادٌ من المسلمينَ ينتظرونَ فرجُ السماءِ وشفاعةُ الأقرباءِ، اللهمَّ فارجَ الكربات، نفِّس عن من سُجنَ ظلماً وعدواناً، اللهمَّ آنس وحشتَهُم ، وثبت قُلوبَهم على الحق، وأنزل عليهمُ السكينةَ والرحمة، وأخرجهُم من الظلمِ والظُلماتِ سالمين غانمين.
اللهمَّ اجعلنا من أهلِ القرآنِ الذينَ هُم أهلُكَ وخاصتك، وانصر أهلَ القرآنِ على من دنسوهُ، اللهمَّ من أرادَنا وأرادَ إسلامنا وبلادَنا بسوءٍ فأشغلهُ بنفسه، واجعل كيدهُ في نحره، واجعل تدبيرهُ تدميراً عليهم، اللهمَّ أعزَّ الإسلام وانصرِ المسلمين، ودمّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمناً مُطمئناً وسائرَ بلادَ المسلمين .
============(8/175)
(8/176)
مبررات منع المرأة من قيادة السيارة
مبررات
منع المرأة من قيادة المركبات
من المنظور التربوي الإسلامي
تأليف
د . عدنان حسن باحارث
آية وحديث
قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((رُويْدَك يا أنْجَشَةُ لا تكْسِرِ القَوَارِيرَ)) [صحيح البخاري].
مقدمة البحث
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن ظروف الحياة الاجتماعية المعاصرة تختلف عن فترات زمنية ماضية في العديد من جوانبها، فقد أصبح التجديد، والتطور، والتغير سمات بارزة لطبيعة الحياة المعاصرة، ولم تعد لدى غالب فئات المجتمع تلك القناعات السابقة التي كانت تحدُّ من عنف تيار التغيير الجارف. وقد أسهمت الطبيعة المتسارعة للحياة المعاصرة في زعزعة كثير من الثوابت الأخلاقية والعرفية، وشارك في ذلك التقدم التقني الهائل، وما رافقه من الإنتاج الصناعي المذهل، الذي انفتحت أمامه أسواق العالم التجارية ـ رغبة ورهبة ـ في الوقت الذي لم يكن للأمة المسلمة ـ ضمن هذه المنظومة العالمية المتسارعة، والتطور العلمي والتقني ـ أيُّ دور جاد في هذا البناء الحضاري المعاصر يُخوِّلها فرضَ معاييرها الاعتقادية والأخلاقية، أو حتى لاحترامها والاعتراف بها ضمن ثقافات الأمم المتغلبة، مما أوقع الأمة المسلمة في شباك مصالح الآخرين المادية والفكرية، وزاد بالتالي من تمزُّقها وتفككها.
ولقد عاشت الأمة زمنًا ليس بالقصير تقاوم رياح التغريب، وتدفع عن نفسها موجات التغيير، إلا أن هذا الصمود وتلك المقاومة لم تدم طويلاً، حتى أخذت حصون الأمة تتداعى، ومعاقلها تتهاوى أمام قوى الغزو الفكري الجارف. حتى بلغت الأمة عصر العولمة، والانفتاح الثقافي العالمي الذي لم يكن ليبقي للأمة خصوصية تتميز بها، أو أصلاً تلوذ به، حتى وصل الداء إلى أخصِّ خصوصيات الأمة الاجتماعية، وأهم ما يُميِّزها ـ اجتماعيًا ـ عن غيرها وهي قضية المرأة، ونوع الحياة التي يجب أن تحياها.
لقد أدرك الغربيون أن تغيير نمط الحياة الاجتماعية للأمة المسلمة لا يمكن أن يتم إلا من خلال تغيير أسلوب وأهداف تربية المرأة المسلمة، فكانت الهجمة ـ منذ فترة ليست قصيرة ـ على الوضع الاجتماعي للمرأة المسلمة في غاية القسوة، توَّجتها ـ في السنوات الأخيرة ـ مجموعة من المؤتمرات العالمية والندوات المحلية تُؤصِّل من خلال توصياتها توجهات عالمية عامة توحِّد نهج تربية المرأة في جميع أقطار العالم، وتُذيب الفوارق الثقافية، والأنماط الاجتماعية لتصب نساء العالم في قوالب ثقافية من شكل واحد، لا يفرِّق بينهن سوى ما تفرضه الجينات الوراثية من الألوان والأشكال.
ولقد عانت المملكة العربية السعودية منذ زمن ـ ولا سيما في الفترة الأخيرة ([1]) ـ من هجمات شرسة تستهدف الشريعة الإسلامية، ونمط الحياة الاجتماعية المحافظ، مما جعلها مقصودة من الدول الغربية ومنظماتها الإنسانية بالنقد والإساءة، تحت ستار حقوق الإنسان، مستهدفة بذلك وضع المرأة في بلاد الحرمين، وحقوقها المسلوبة ـ حسب زعمهم ـ في شكل لباسها، وأسلوب سفرها، ونوع ارتباطها الأسري، ومجالات عملها، وغيرها من قضايا المرأة المسلمة الحيوية.
وقد كان من بين هذه الانتقادات الموجهة إلى بلاد الحرمين حرمان المرأة من حق قيادة المركبات أو ما يسمى اليوم بالسيارات، بحجة أنه أصبح حقًا عامًا تستمتع به كل امرأة راغبة في الدول الأخرى. دون نظر جاد لعواقب الأمور، وطبيعة المرأة، والخصوصية التي تتميز بها بلاد الحرمين الشريفين.
ولقد كان هذا الموضوع موضع اهتمام الباحث منذ زمن، ولا سيما بعد أن احتدم الصراع عبر وسائل الإعلام بين المشجعين والمانعين، رغبة في بيان وجه الصواب ضمن المنهج التربوي الإسلامي، الذي يعتمد الكتاب والسنة أساسًا للانطلاقة الفكرية والعلمية.
مشكلة البحث:
تتلخص مشكلة البحث المطروحة للدراسة في الإجابة عن السؤال الرئيس الآتي:
ما مبررات منع المرأة من قيادة المركبات من المنظور التربوي الإسلامي؟
ويتفرع عن هذا السؤال الرئيس مجموعة من الأسئلة الفرعية التي يسعى البحث للإجابة عنها وهي على النحو الآتي:
1. ما المبرر الفقهي لمنع المرأة من قيادة المركبات ؟
2. ما المبرر الأخلاقي لمنع المرأة من قيادة المركبات ؟
3. ما المبرر الصحي لمنع المرأة من قيادة المركبات ؟
4. ما المبرر الفطري لمنع المرأة من قيادة المركبات؟
5. ما المبرر الاقتصادي لمنع المرأة من قيادة المركبات؟
6. ما المبرر التاريخي لمنع المرأة من قيادة المركبات؟
أهمية البحث:(8/177)
تعاني الأمة المسلمة المعاصرة مشكلات اجتماعية واقتصادية كبيرة، وتأتي قضايا المرأة بطبيعتها وخصوصيتها في نظام الاجتماع الإسلامي لتضع الأمة المسلمة في حرج أمام العالم من حولها وهو يخوض في نظامه العالمي الجديد؛ ليصهر الشعوب المستضعفة في قوالب ثقافية عالمية متشابهة.
ولئن كانت قضية قيادة المرأة للمركبات أو السيارات ـ ضمن هذه الموجة العالمية ـ لا تعدو أن تكون جزئية ضمن قضايا كثيرة وكبيرة متعلقة بالمرأة إلا أنها حلقة من حلقات تماسك المجتمع، بانحلالها تنحل حلقات أخرى كثيرة، تنتهي بهتك خصوصيات المرأة المسلمة، ودخول المجتمع المحافظ في قضايا اجتماعية جديدة ومتشعبة كان بالإمكان تفاديها، والوقائع والشواهد التي تدل على ذلك في كثير من الدول العربية والإسلامية لا تخفى.
والبحث في هذه المسألة يلقي الضوء بصورة علمية موثقة ـ ضمن التوجه التربوي الإسلامي ـ على المبررات التي من أجلها ترجَّع اختيار المنع من قيادة المرأة للسيارة، مما يدعم قرار وزارة الداخلية بالمملكة العربية السعودية في منع المرأة من مزاولة هذه المهارة، ويضيف البحث في هذا الميدان موضوعًا لم يسبق بحثه تربويًا - في حد علم الباحث- كما سيتضح من واقع الدراسات العربية السابقة، ومن جملة ما تقدم تظهر أهمية البحث.
أهداف البحث:
يهدف البحث من خلال فقراته إلى تحقيق الغايات الآتية:
1. إلقاء الضوء على المبررات المختلفة لمنع المرأة من قيادة المركبات.
2. الوقوف على التوجيه التربوي الإسلامي في مسألة قيادة المرأة للمركبات.
3. تحقيق القناعة الفكرية لدى المرأة المسلمة وأوليائها بعدم المطالبة بقيادة المركبات.
4. دعم قرار وزارة الداخلية بالمملكة العربية السعودية في منع المرأة من قيادة المركبات.
منهج البحث:
يتشعب البحث في العديد من الميادين العلمية التي تتطلب استخدام أكثر من منهج لمعالجة مشكلة البحث والإجابة على تساؤلاته، فقد استخدم الباحث المنهج الاستنباطي الذي يعد أهم المناهج المستخدمة في بحوث التربية الإسلامية، وذلك في معالجة الناحية الشرعية من البحث، وما يتعلق بها من النصوص والمنقولات الشرعية المختلفة. كما استخدم الباحث المنهج الوصفي الذي يعد أوسع المناهج التربوية استخدامًا، وذلك في معالجة المبرر الأخلاقي، والصحي، والفطري، والاقتصادي.
وأما المبرر التاريخي فقد استخدم الباحث لمعالجته المنهج التاريخي فيما يتعلق بتاريخ قيادة المرأة للمراكب.
الدراسات السابقة([2]):
1. دراسة محمد عيسى فهيم وآخران (1405هـ) بعنوان: "السلوك المزعج الصادر عن السائقين في أثناء القيادة ـ دراسة ميدانية بمدينة مكة المكرمة". كان هدف الباحثين التعرف على رأي أصحاب السيارات تجاه تصرفات السائقين المزعجة ومدى تكرارها، مع تحديد علاقة كل من العمر والمستوى التعليمي ونوع السيارة والجنسية والخبرة بمهارة القيادة إلى إدراك السائق للسلوك المزعج الصادر عن غيره من السائقين، ودرجة الشعور بهذا السلوك المزعج. وكانت عينة الدراسة مجموعة من السائقين من فئات عمرية وثقافية مختلفة داخل مكة المكرمة، حيث وُجِّهت إليهم استبانة مكونة من خمس وثلاثين فقرة، تستطلع إدراك: مدى انزعاجهم من السلوك القيادي المزعج، حيث اتضح من النتائج أن المستجيبين على وعي كامل بما يجري من السلوك المزعج في أثناء القيادة، ويتمتعون في غالبيتهم بوعي جيد بأنظمة المرور، وقد أعقب الباحثون الدراسة بمجموعة من التوصيات.
2. دراسة عبد الله النافع وخالد السيف (1408هـ) بعنوان: "تحليل الخصائص النفسية والاجتماعية المتعلقة بسلوك قيادات السيارات بالمملكة". وقد استهدفت الدراسة التعرف على الخصائص النفسية والاجتماعية التي تميز سلوك قيادة السيارات في المملكة، مع تحليل وتقويم لهذه الخصائص، وتحديد أكثرها ارتباطًا بسلوك القيادة غير الآمن المسبب للحوادث المرورية. وقد استخدم الباحثان أربع استبانات لجمع المعلومات الأساسية للمبحوثين، وطبيعة سلوك قيادة السيارات، ونوع سمات الشخصية، والمعلومات المرورية. وقد كانت عينة الدراسة من الذكور، شاملة لمناطق المملكة من فئات متنوعة. وقد توصلت الدراسة إلى نتائج من أهمها: وجود ميل نحو المخاطرة في القيادة لدى السائقين بالمملكة خاصة من الشباب، مع مخالفة للأنظمة المرورية، وعدم مراعاة أسباب السلامة، وقد ذيلت الدراسة بمجموعة من التوصيات والمقترحات للأفراد والجهات المعنية بالحركة المرورية.(8/178)
3. دراسة ناصر عبد الله الصالح (1408هـ) بعنوان: "حوادث المرور بمدينة مكة المكرمة ـ العلاقة المكانية والاتجاهات الزمانية". وتهدف الدراسة إلى تحليل أسباب الحوادث في مكة المكرمة في ظل التوسع الهائل في أعداد السيارات وطبيعة ظروف منطقة المشاعر المقدسة. وقد اعتمد الباحث في جمع البيانات على إحصاءات إدارة المرور خلال السنوات الثلاث: 1403، 1404، 1405هـ. حيث اتضح من الدراسة كثرة الحوادث في فترات المواسم، والإجازات الرسمية. كما أظهرت الدراسة وجود علاقة بين كثرة الحوادث وخطورتها وعدد السائقين دون سن 18 سنة، وأن أكثر الحوادث تقع من السعوديين والمتعلمين والعزاب، كما بينت الدراسة كثرة حوادث النهار عن حوادث الليل، ثم أعقب الباحث دراسته مجموعة من التوصيات.
4. دراسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1410هـ) بعنوان: "حوادث السيارات وبيان ما يترتب عليها بالنسبة لحق الله وحق عباده". وقد كان هدف الدراسة معالجة أربع قضايا رئيسة هي: تصادم السيارات بعضها مع بعض، ما تحدثه بعض السيارات من دعس أو انقلاب، بيان ما يترتب على حوادث السيارات من العقوبات لمخالفة أنظمة المرور، وأخيرًا توزيع الجزاء على من اشتركوا في وقوع الحادث. وقد كشفت الدراسة عن وجود كم هائل من الذخيرة الفقهية العلمية في تراث الأمة الإسلامية حول قضايا حوادث التصادم وما يترتب عليها من أحكام الجنايات والغرامات والعقوبات. وقد عرضت الدراسة مجموعة من أمثلة الحوادث وما يترتب عليها من الأحكام الشرعية والعقوبات.
5. دراسة محمد المنجي (1993هـ) بعنوان: "دعوى تعويض حوادث السيارات" حيث شملت الدراسة قضايا كثيرة متعلقة بحوادث السيارات، والدعاوى المدنية ضد شركات التأمين. حيث عالج الباحث في فصول دراسته الجنائية، والتنظيم القانوني للدعوى ضد شركة التأمين، والحكم بالتعريض. حيث فصَّل الباحث في هذه المسائل من الجهة القانونية، وقد كان الدافع من وراء هذه الدراسة شدة حاجة الناس في العصر الحديث إلى تناول مثل هذه القضايا الشائكة الملحة بين المتضررين من حوادث السيارات وشركات التأمين، في وقت أصبحت فيه السيارات جزءًا من حياة الناس تلاحقهم بأضرارها وحوادثها في كل مكان.
6. دراسة عبد العزيز أحمد دياب (1416هـ) بعنوان: "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج". حيث كان الدافع من وراء هذا البحث كثرة الحوادث في المملكة العربية السعودية في العقدين الأخيرين كنتيجة للنمو الاقتصادي المتسارع، وما ينجم عنها من هدر للثروة واستنزاف للطاقات. وقد سعى الباحث إلى دراسة إحصائيات الحوادث المرورية في المملكة خلال الفترة من 1977م وحتى 1991م. وقد توصل الباحث إلى أن المتغيرات المستقلة التي تسهم بدرجة عالية من الثقة في تحديد الحوادث المرورية في المملكة هي: الدخل، وثمن السيارة، ووعي السائق، والحالة الفنية للسيارة، ووقت القيادة.
7. دراسة جهاد محمد قربة (1420هـ) بعنوان: "طبيعة العلاقات المجالية للحوادث المرورية داخل الوسط الحضري لمدينة الشارقة ـ دراسة تحليلية لفترة التوسع 1987م ـ 1992م". وقد سعى الباحث من خلال دراسته إلى التعرف على الحوادث المرورية التي تحدث داخل المجال الحضري لمدينة الشارقة، والوقوف على الأسباب الرئيسة وراء وقوع هذه الحوادث. وقد اعتمد في جمع البيانات العلمية على الإحصاءات والمحاضر الصادرة عن إدارة مرور إمارة الشارقة. وقد توصل الباحث إلى أن التوسع العمراني الذي شهدته المدينة كان سببًا رئيسًا في كثرة وقوع الحوادث. ثم أعقب دراسته بمجموعة من التوصيات المتعلقة بالتدريب والتوجيه، وأخرى بالتخطيط الحضري للمدينة.
8. دراسة عامر ناصر المطير (1421هـ) بعنوان: "قيادة التلاميذ للسيارات وأثرها على الحركة المرورية في المملكة العربية السعودية". تناول الباحث في دراسته مشكلة قيادة التلاميذ للسيارات وحوادثهم المرورية في مدينة الرياض، حيث أعد الباحث استبانة تم توزيعها على عينة من طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية بلغت 900 طالب من مدينة الرياض. وقد أسفرت الدراسة على أن ما نسبته 54% من طلاب المرحلة الإعدادية و87% من طلاب المرحلة الثانوية يقودون السيارات، وأن نسبة كبيرة منهم يرتكبون حوادث ومخالفات مرورية كثيرة، وأن نسبة تصل إلى ربع العينة من طلاب الثانوية تتعمد ارتكاب الخطأ المروري. كما اتضح من الدراسة أن مدينة الرياض تأتي في المرتبة الأولى من حيث عدد صغار السن دون 18 سنة المشتركين في حوادث المرور.
9. دراسة محمد حسين منصور (د. ت) بعنوان: "تدخل السيارة في حادث المرور ـ مناط مسؤولية القائد". تناول الباحث في دراسته استعراض وسائل النقل المختلفة وطبيعة حادث المرور، وتدخل السيارة فيه سواء كانت المتحركة أو الساكنة، وحوادث فتح باب السيارة، إلى قضايا قانونية أخرى متعلقة بمسألة التأمين، وأضرار الحوادث.
التعليق على الدراسات السابقة:(8/179)
من خلال الاستعراض الموجز للدراسات العربية السابقة التي وقف عليها الباحث في ضوء الموضوع المختار للدراسة الحالية اتضح أن هذه الدراسات في جملتها لم تتعرض لموضوع قيادة المرأة للمركبات، وأنها تشترك مع الدراسة الحالية في مسألة قيادة السيارات وما يتعلق بها من الحوادث، والآثار المترتبة على ذلك من الناحية الشرعية والاقتصادية والقانونية. فالدراسات: الثالثة والسابعة والثامنة جغرافية التخصص، والدراستان الخامسة والتاسعة تنحو منحنى قانونيًا، والدراسة الرابعة فقهية شرعية، والدراسة السادسة اقتصادية التوجه. إلا أن الدراستين الأولى والثانية أقرب الدراسات إلى موضوع الدراسة الحالية لطبيعتهما التربوية.
وهذه النتيجة التي ظهرت من خلال استعراض الدراسات السابقة: تعزز لدى الباحث اختيار الموضوع باعتباره دراسة جديدة لم يُسبق إليها من الناحية التربوية الإسلامية على الأقل.
* * *
مبررات منع المرأة من قيادة المركبات
من المنظور التربوي الإسلامي
تعتبر المواصلات من أهم المشكلات التي تواجه المرأة العاملة في هذا العصر، ولا سيما بعد التوسع الهائل في تشغيل النساء الذي شهده سوق العمل ضمن خطط التنمية المتعاقبة التي توصي بمشاركة النساء في التنمية الشاملة؛ ولهذا يضيق بعض النساء العاملات والمتحمسون لهن في البلاد المحافظة بالمنع من مزاولة المرأة قيادة السيارة، ويشعرن بالضيم، فلا يزلن يطالبن بذلك، دون نظر جاد لعواقب الأمور ([3]).
ورغم أن مهارة قيادة المركبات الصغيرة من حاجات هذا العصر المهمة ([4]): فإنها لا تبلغ عند المرأة المسلمة درجة الضرورة التي تبلغها عند رب الأسرة، بل ولا تبلغ درجة الحاجة التي تبلغها عند الشاب العَزَب الذي لا يقوم على أسرة، فهي في حقها في الأعم الأغلب من باب التحسينيات التي لا تتضرر بنقصها، والنادر ـ كما هو معروف ـ لا حكم له ([5])؛ ولهذا يُلاحظ في البلاد التي تسمح للمرأة بالقياةدة توافر السيارات لدى الشباب أكثر بكثير من توافرها لدى الفتيات ([6])، كما أن إتقان مهارتها يكاد يكون عامًا لدى غالب طلاب المرحلة الثانوية وكثير من طلاب المرحلة الإعدادية، حتى إن الشاب منهم يشعر بأن السيارة جزء من حياته، وعدم امتلاكها يمثل له نوعًا من الحرمان ([7]).
ورغم أن غالب دول العالم تسمح للنساء بممارسة هذه المهارة دون حرج، ورغم إتقان كثير منهن لها بصورة كبيرة ([8])، ورغم ممارسة جمع منهن لهذه المهارات في بعض الأرياف خارج المدن ([9]): فإن المختار في هذه القضية المنع، حتى في البلاد التي سمحت بها، واعتادها بعض النساء، فإن الأولى تركها، وإفراغ الوسع في تجنُّبها ([10])، لا لكون مهارة القيادة محرمة في ذاتها ولكن لما يمكن أن تفضي إليه من المحظورات المتعددة. ولعل فيما يلي من المبررات ما يجلي هذا التوجه ويقوي اختياره:
أولاً: المبرر الفقهي ([11]) لمنع المرأة من قيادة المركبات:
ويظهر هذا المبرر في كون الشريعة مبناها على جلب المصالح ودفع المفاسد، فما غلبت مصلحته أباحته، وما غلبت مفسدته منعته ([12]). فالمأمورات والمنهيات في الشريعة تشتمل كل منهما على مصالح ومضار، والحكم في كل منها على الأغلب ([13]). يقول ابن عبد السلام: "المصالح المحضة قليلة وكذلك المفاسد المحضة، والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد... والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما رجحت مفسدته على مصلحته"([14]). وهذه المسألة في تقديم الجهة الغالبة: من مسائل الإجماع عند العلماء، الثابتة بالكتاب والسنة والعقل، خاصة في هذا العصر الذي اختلطت فيه المصالح بالمفاسد بصورة كبيرة ([15]).
ومن هنا جاء باب سد الذرائع المفضية إلى المفاسد ([16])، أو المؤدية إلى إهمال أوامر الشرع، أو التحايل عليها ولو بغير قصد ([17])، فإن "سد الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته: منع المباحات التي يُتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات... ولا يقتصر ذلك على مواضع الاشتباه والاحتياط؛ وإنما يشمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام"([18])، فالشارع الحكيم إذا حرَّم أمرًا حرَّم الوسائل المفضية إليه ([19])؛ فإن "الوسائل تبعٌ للغايات في الحكم"([20])، و"وسائل الحرام" ([21])، و"ما أفضى إلى حرام حرام".([22])(8/180)
والمسألة الفرعية التي يختلف في حكمها الناس: يُؤخذ فيها بالإجماع، فإن لم يُوجد، أخذ بالأحوط، ثم بالأوثق دليلاً، ثم يُؤخذ بقول من يُظن أنه أفضل وأعلم ([23]). ولا شك أن ترك المرأة لقيادة السيارة في هذا العصر هو الأحوط على أقل تقدير؛ فإن"فعل ما يُخاف منه الضرر إذا لم يكن محرماً فلا أقَلَّ أن يكون مكروهاً"([24])، حتى وإن تكلف رب الأسرة مهام نقل نسائه، أو اضطر لجلب الرجل الأجنبي لتولي هذه المهمة ـ كما هو حاصل في بعض البلاد ([25])ـ فإن هذا في العموم أهون الشرين، وأخف الضررين؛ لأن الضرر الخاص الذي تكلفه هذا الأب وأمثاله، وما يمكن أن يحصل من الرجل الأجنبي يُتحمل في سبيل دفع الضرر العام ([26]) الذي يمكن أن يعم المجتمع بتوسيع دائرة قيادة النساء للسيارات، فإن المفسدة العامة المنع فيها أشد من المفسدة الخاصة ([27]).
كما أن الفقهاء لا يعتبرون الطريق خلوة، فإنما الخلوة: الأمن من اطلاع الناس ([28])؛ بحيث يجتمع رجل بامرأة "في مكان لا يمكن أن يطلع عليهما فيه أحد، كغرفة أغلقت أبوابها ونوافذها وأرخيت ستورها"([29])، أو في فلاة لا يصلهما فيها أحد. ويُستأنس في هذا المقام بما نقله المروزي عن الإمام أحمد رحمهما الله حين سُئل عن: "الكحال يخلو بالمرأة وقد انصرف من عنده النساء، هل هذه الخلوة منهي عنها؟ قال: أليس هو على ظهر الطريق، قيل: بلى، قال: إنما الخلوة تكون في البيت"([30]). ثم إن مبدأ خدمة الرجل الأجنبي في السفر حين يركب النساء الهوادج كان أمرًا معلومًا منذ القديم، وقد كانت النساء زمن رسول ا صلى الله عليه وسلم يُحملن في الهوادج، ويقوم الرجال على خدمتهن وحمل هوادجهن ([31]). ولا يفهم من هذا التهاون في مسألة خلوة السائق بالمرأة ، فإن المفروض تقليل هذه الفرص، وضبطها قدر المستطاع؛ بل إن بعض العلماء([32]) يرى أن ركوب المرأة وحدها مع السائق الأجنبي أخطر من الخلوة في البيت ؛ لكونه يستطيع أن يذهب بها حيث شاء. وقد عالجت بعض الأسر في البلاد التي يُسمح فيها بقيادة المرأة للسيارات مشكلة الخلوة بطريقة عجيبة حيث جلبت من بعض البلدان الأجنبية نساء سائقات. يتولين هذه المهام بدلاً من الرجال الأجانب ([33]).
ثانيًا: المبرر الأخلاقي لمنع المراة من قيادة المركبات:
وتظهر قوة هذا المبرر من حيث المفاسد الكثيرة التي يمكن أن تترتب على انطلاق النساء والفتيات بهذه المركبات الخاصة من: هجران المنزل، والسفر بغير محرم، والتعرض للمضايقات، والاختلاط بالأجانب، والتوسع في مجالات عمل المرأة المتعلقة بشؤون النساء السائقات، إضافة إلى مشكلات صيانة مركباتهن ضمن أجواء لا تناسب المرأة المسلمة، مع الاضطرار لكشف الوجوه، إلى مفاسد كثيرة يمكن أن تحدث إذا استمرأ المجتمع صورة المرأة السائقة ([34])؛ فإن غالب التغيرات الاجتماعية التنازلية تبدأ باليسير ثم تنتهي بما لا قِبَل للمجتمع به، وكما قيل: معظم النار من مستصغر الشرر؛ ففي بريطانيا قبل خمسين سنة تقريبًا كانت المرأة لا تحصل على رخصة القيادة إلا بعد إذن زوجها ([35])، ثم ما لبث أن فتح لهن الباب على مصراعية. وفي إحدى البلاد المحافظة كانت المرأة لا تركب المواصلات العامة الصغيرة إلا مع محرم لها، ثم تبدل الوضع وتوسع الأمر دون نكير ([36]). وهكذا طبائع الناس تنتقل من الأهون إلى الأشد بالتدريج حتى يصبح الممنوع مرغوبًا فيه، والسيارة كمركبة متحركة داخل المجتمع ليست حصنًا للمرأة من أن تُنال بسوء، أو تتعرض للفتنة، أو تعرض غيرها للافتتان، ولا سيما عندما تتعطل مركبتها في أماكن لا تأمن فيها المرأة على نفسها.
ثالثًا: المبرر الصحي لمنع المراة من قيادة المركبات:
ومبنى هذا المبرر أن الشريعة تنهى عن التعرض للهلاك؛ إذ حفظ النفس من
مقاصدها ([37])، وقيادة المرأة للسيارة يعرضها للتلف ([38])، فإن السيارة آلة عنيفة لا تناسب طبيعة الإناث، وقد أكدت ذلك دراسة بريطانية على مجموعة من النساء السائقات، حيث توصلت إلى "أن 58% منهن يتوفين قبل الأربعين، و 60% منهن يصبن بأمراض نفسية، وقالت الدراسة: إن قيادة المرأة للسيارة لا تليق ولا تتناسب معها"([39]). ولا تزال هذه الآلة تتصف بالعنف حتى بعد تطورها، فإن حوادثها على المستوى العالمي في غاية القسوة، وغالبًا ما يتعرض لها العُزَّاب من الشباب، والنساء المبتدئات، وينفرد الشباب بأعنف وأشد حوادثها ([40]). وقد أشارت الإحصاءات أن نسبة ضحايا حوادث المرور في دول الخليج تفوق نسبتها في أمريكا وبريطانيا ([41])؛ حيث يهلك في كل ساعة سبعة أشخاص في دول مجلس التعاون الخليجي ([42])، ويهلك في المملكة العربية السعودية وحدها ـ التي سجلت أعلى معدل لحوادث السير في العالم ـ حوالي سبعة أشخاص يوميًا ([43]).(8/181)
وبلغ عدد الحوادث في العالم العربي خلال عام 2000م نصف مليون حادث، نجم عنها اثنان وستون ألف قتيل ([44]). ولا شك أن توسع النساء في هذه الممارسة سوف يزيد من نسبة تعرضهن للهلاك، مما يجعل هذه المهارة خطيرة على شخص المرأة، وعلى دورها التناسلي الذي يستوجب مزيدًا من السكون والاستقرار ([45])، إلى جانب ما يحدثه هذا التوسع من استنزاف للبيئة وتلويثها ([46]).
ويحاول بعض المتحمسين لتمرير موضوع قيادة المرأة للسيارة بضبطه من خلال منعهن من السفر بسيارتهن خارج المدن، والسماح لهن بقيادتها في فترات النهار دون الليل ([47]). وقد اتضح من خلال بعض الدراسات المحلية بالمملكة العربية السعودية أن 79% من حوادث السيارات تحصل داخل المدن، و65% منها تحصل في فترات النهار، كما أن
65% من هذه الحوادث تشارك فيها سيارات من الحجم الصغير ([48])، وهو الحجم المناسب من السيارات المرشح للمرأة. ويضاف إلى كل هذا وجود تلك العلاقة القوية بين ارتفاع درجة حرارة الجو وزيادة عدد الحوادث ([49])، ومن المعلوم أن دول الخليج من أكثر دول العالم ارتفاعًا في درجات الحرارة. ولما كان غالب حوادث السيارة "تقع في الوقت الذي يجب أن يكون فيه الإنسان في أعمق فترات النوم"([50])؛ فإن مزيدًا من الحوادث المرورية سيكون من نصيب المرأة العاملة السائقة؛ لكونها أكثر فئات المجتمع على الإطلاق جهدًا، أقلهن نومًا ([51]). ثم إن متغير التعليم والزواج لا دخل لهما في التقليل من حوادث السيارات؛ فقد دلت إحدى الدراسات في المملكة العربية السعودية على أن أكثر من 76% من السائقين المشتركين في حوادث المرور من المتعلمين، وأكثر من 53% منهم من المتزوجين؛ مما يدل على أن التعليم والزواج لم يخففا من أزمة الحوادث المرورية ([52]).
رابعًا: المبرر الفطري لمنع المرأة من قيادة المركبات:
وتظهر حجة هذا المبرر من حيث رقة جهاز الأنثى العصبي الذي لا يساعدها على حسن الأداء ([53])، وسرعة ارتباكها في أثناء القيادة لأبسط الأسباب ([54])، إلى جانب الخوف الذي ينتابها عادة من المسافات الطويلة ([55])، والخوف أيضًا من المناطق المفتوحة، الذي يزيد عند الإناث كلما كبرت أعمارهن ([56])، وهو ما يُسمى برهاب الساح، وهو نوع من الخوف ينتاب بعض الناس من المناطق المزدحمة والمفتوحة ([57])، إلى جانب ضعف قدراتهن على تعلم المفاهيم الجغرافية، كالمواقع والأماكن وتقدير الحيز الفراغي المرئي والمسافات، وقلة خبرات السفر لديهن؛ ولهذا يُلاحظ أن الإناث أقل قدرة على تعلم المفاهيم الجغرافية من المذكور ([58]). ولا شك أن هذه القضايا الفطرية مهمة لإتقان مهارة القيادة.
وأهم من هذا كله الضعف الصحي العام الذي لا تنفك عنه المرأة في العموم من آثار الدورة الشهرية، ومضاعفات النفاس وفترة الحمل، من حيث: الانفعالات النفسية، وارتفاع الضغط، وكثرة الصداع، والتوتر، والقلق، والتذبذب، والكآبة، وحدة المزاج، والآلام العامة خاصة في الحوض والظهر، والغثيان، وما يصيب عامة النساء الحوامل من الاضطرابات النفسية، وما يرافق ذلك من انكماش فطري طبيعي في حجم الدماغ عندهن في أثناء الحمل، وما يصاحب ذلك من ضعف الذاكرة، وصعوبة التذكر. إلى جانب تأثير هذه الأعراض على الاتزان العام، مما قد يدفع المرأة في هذه الظروف الفطرية إلى شيء من العنف والعجلة في بعض المواقف ([59])؛ ولهذا يشير العديد من الدراسات والإحصاءات المختلفة إلى ارتفاع نسبة تعرض المرأة أكثر من الرجل للاضطرابات النفسية، وحدة الانفعال، والانهيارات النفسية خاصة في هذه الفترات الفيسيولوجية، وبعد الولادة، وفي سن اليأس، وبعد عمليات الإجهاض ([60]). ومن المعلوم أن واحدة من هذه الأعراض الجسمية لا تسمح للرجل واقعيًا ولا نظاميًا بالقيادة، فكيف بها مجتمعة؟ ولا شك أن ما بين ربع إلى ثلث النساء على الأقل يقعن تحت هذه التأثيرات الفطرية بصورة دائمة، بمعنى أن ثلث النساء في المجتمع لا يصلحن ـ تحت ضغط هذه الطبيعة الفطرية وتأثيراتها الجسمية ـ لقيادة السيارات. ولعل هذه الأسباب كانت وراء قلَّة أعداد النساء السائقات في العالم مقارنة بأعداد الرجال.(8/182)
ولعل أعظم من هذا وأخطر: التأثير السلبي لنزيف الدماء الطبيعية على حاستي السمع والبصر عند النساء ([61]) ـ أهم عناصر هذه المهارة ـ ولهذا يُلاحظ كثرة حوادث النساء المرورية في العموم ، ولاسيما في أثناء فترة الحيض وما قبلها بقليل ،حيث تزيد لديهن العصبية، وتكثر لديهن الغفلة والنسيان والشرود الذهني، وهن في العموم يعانين من نقص في الاتزان النفسي والفسيولوجي، يجعلهن أكثر تعرضاً للسآمة والتعب، وأقل انتباهاً وتركيزاً، وأميل للتوتر والقلق، ولاسيما المرأة العاملة، التي تجمع بين العمل الوظيفي ومسؤولياتها المنزلية ؛ لذا فإن أكثر النساء أكثر تعرضاً لعصاب قيادة المركبات - أكثر من الذكور ([62])، مما يجعل قضية القيادة بالنسبة لهن في غاية الحرج. ومن المعلوم أن السائق هو همزة الوصل بين المركبة والطريق، وصفاته الوراثية والمكتسبة ومهارته وخبرته تلعب أدوارًا رئيسة في حصول الحوادث، وقد ثبت يقينًا من خلال الواقع أن السائق يتحمل أكثر أسباب الحوادث المرورية ([63])، وهي مرتبطة - إلى حد كبير - بشخصيه، فقيادة السيارة تشكل ضغطاً على نفس قائدها حين يحتاج إلى طاقات نفسية وذهنية وجسمية، تمكنه من التعامل مع الطريق وشكله، وما يحويه من متغيرات كالسيارات الأخرى، والمارة، وإشارات المرور، وظروف الازدحام، وهذا يتطلب من السائق درجة عالية من الانتباه ، والتركيز، والتوازن النفسي ، وقدرة جيدة على الحركة التلقائية السريعة التي تحصل بالخبرة والمران ، وتأتي بعفوية دون قصد.([64])
ولعل هذه الأسباب الفطرية في عنصر النساء كانت السبب في رفع قيمة التأمين على السيارات التي تمتلكها النساء ([65])، ومن المعلوم أن شركات تأمين السيارات تراعي ظروف الشخص المتقدم لطلب التأمين؛ ولهذا تزيد من قيمته على الأشخاص المطلقين ([66])؛ لكونهم في الغالب يعيشون حالة من التوتر النفسي الذي يعد سببًا رئيسًا في وقوع الحوادث.
خامسًا: المبرر الاقتصادي لمنع المرأة من قيادة المركبات:
ويظهر هذا المبرر من الناحية الفقهية في حالات حوادث المرور وما يقع فيها من الجنايات؛ حيث تُعفى المرأة مطلقًا من المشاركة في دية المقتول خطأ حتى وإن كانت هي الجانية، في حين يشترك الجاني البالغ من الذكور ـ على خلاف بين الفقهاء ـ مع باقي العاقلة من القرابات في دفع دية القتل الخطأ ([67])، بل وتستمتع المرأة مع الورثة في الحصول على نصيبها من دية زوجها ([68])، في الوقت الذي لا تُكلَّف فيه مع العاقلة بشيء، وهذا فيه إجحاف اقتصادي بحق رجال الأسرة من العصبات إذا مُكِّنت الفتيات من ممارسة أسباب العطب، خاصة إذا شعرن بالأمان من مغبة تحمل الغرامة المالية، ومن المعلوم أن الأصل في إلزام العاقلة دفع الدية في حال القتل الخطأ ـ مع ما فيه من التعاون ـ هو تأديبها لتقصيرها في كفِّ المستهترين والطائشين المنتمين إليها من العبث بأمن المجتمع، مما يدفعها ـ بصورة تضامنية جماعية ـ لحفظ سفهائها، ومن يُتوقع منهم الخطأ الذي يُكلفها الغرامات المالية ([69]).
وأما الزعم بأن مسألة الدية في مثل هذه الجنايات قد انحلت اليوم من خلال التأمين التجاري فلا حاجة إلى نظام العاقلة؛ فإن هذا النوع من التأمين القائم اليوم في المعاملات التجارية ممنوع شرعاً ([70]) , والضرر ـ كما هو معلوم شرعاً ـ لا يُزال بضرر, والخطأ لا يُعالج بخطأ.كما أن التأمين التعاوني ـ الغائب من المعاملات الاقتصادية المعاصرة ـ لو عُمل به في مثل هذه الجنايات - بالشروط الشرعية- لكان جلُّ ميزانياته تُنفق في جنايات النساء السائقات ـ ولا سيما المبتدئات منهن ـ والشباب المتهور، مما يُجحف من جديد بباقي المساهمين، من الحريصين على سلامة المجتمع وأمنه. ولهذا لن يرضوا بمشاركة هذه الفئات المتوقع منها الضرر بصورة كبيرة في صندوق تأمينهم التعاوني، مما سيضطر هذه الفئات ـ من جديد ـ للرجوع مرة أخرى بأزماتها الجنائية إلى العاقلة والعصبات، مما يُعطي لنظام العاقلة أهميته الاقتصادية والتعاونية، ودوره التربوي التوجيهي في الحياة الإسلامية ([71]).(8/183)
وفي الجانب الآخر من المسألة الاقتصادية: استهلاك الثروة في هذه المراكب، وتجميد الأموال فيها، والاستنزاف المالي في مصروفاتها، وخسائرها التي تُقدر في دول الخليج ببليون دولار، وفي المملكة وحدها بملياري ريال، إضافة إلى ضغط الحركة المرورية في البلاد النامية التي لا تتسع طرقها لمراكب الرجال فضلاً عن مراكب النساء والفتيات، خاصة بعد أن ثبت أن ازدحام الطرق من أعظم أسباب كثرة الحوادث ([72]). وفي بلد مثل المملكة العربية السعودية زاد عدد السيارات تسعة أضعاف ما بين عامي 1395هـ و 1411هـ ([73])، وأعجب من هذا ما أشارت إليه الإدارة العامة للمرور بالمملكة أن واقع عدد السيارات عام 1405هـ تضاعف عما كان عليه عام 1391هـ ثمانية وعشرين ضعفًا ([74])، وأعجب من هذا وأغرب ما أشارت إليه إحدى الدراسات أن عدد السيارات في المملكة تضاعف 38 مرة في الفترة ما بين عام 1391هـ وعام 1413هـ، كما أشارت الدراسة إلى أن ما بين كل 1000 شخص في المملكة هناك 350 شخصًا يمتلكون سيارة خاصة، رغم أن النساء لا يقدن فيها السيارات، في حين يملك في بريطانيا السيارة الخاصة من كل 1000 شخص 306 شخص ([75]).
"وبالرغم من التوسع الهائل في المملكة في إنشاء الطرق داخل المدن وخارجها فإن هذا التوسع لا يُواكب الزيادة الهائلة في أعداد السيارات ووسائل النقل الأخرى، وهذا قد سبب ـ ولا شك ـ الكثير من الاختناقات المرورية والزحام الشديد في المواصلات خاصة في المدن الكبيرة كجدة والرياض"([76]). فهاتان المدينتان مع مدينة الدمام تستوعب ثلث سكان المملكة تقريباً ([77]). ولا شك أن لو سُمح للنساء بالقيادة لزاد عدد السيارات بصورة كبيرة لا تستوعبها الطرق، في الوقت الذي يُهدد فيه العالم ـ ولا سيما في الدول الصناعية ـ بزيادة عدد السيارات والتلوث البيئي. ومن المعلوم أن سحر السيارة الجديدة في هذا العصر مظهر من مظاهر الترف الذي يتنافس فيه الناس ([78])، وسوف يكون في غاية القوة والترف إذا شارك النساء في هذه المنافسة الاجتماعية الأخَّاذة؛ لكونهن ـ بالفطرة ـ مأخوذات بعواطفهن، مشدودات برغباتهن. فلن يكون امتلاك السيارة عن حاجة بقدر ما يكون للمفاخرة والاستكثار، وقد دلَّ البحث الميداني في دول الخليج على أن عدد السيارات للأسرة الواحدة يزيد عند الأسر التي لا يشارك نساؤها في قوى العمل، وتقل أعدادها في الأسر التي يشارك نساؤها في قوى العمل ([79])؛ مما يدل على أن امتلاك السيارة ليس هو دائمًا للحاجة؛ فإن المرأة العاملة التي يقل لدى أسرتها عدد السيارات قد تكون أحوج إليها من غير العاملة التي يكثر لدى أسرتها عدد السيارات.
سادسًا: المبرر التاريخي لمنع المرأة من قيادة المركبات:
يعتمد المؤيدون لقيادة المرأة للسيارة على المبرر التاريخي رغم أنه لا يُؤيد توجههم؛ فعلى الرغم من الفارق الكبير بين طبيعة وظروف قيادة السيارة وقيادة الدواب فإن النساء منذ القديم لم يكنَّ من أهل الخيل والفروسية إنما الخيل من مطايا الرجال ([80])، وقد كان من المستغرب ركوب النساء للخيل في بلاد زنجبار في القرن التاسع عشر،([81]) والسيارات الخاصة أشبه مراكب هذا العصر بها ([82])، فهي من هذه الجهة متعلقة بالرجولة إلى حد كبير ([83]). ولهذا لا يجد الباحث ذكرًا للنساء عند ذكر الخيل والفروسية؛ لما اشتمل عليه ركوب الخيل من البطولة والطلب والهرب، ومواقع القتال من الكر والفر ([84])، مما لا يناسب الطبيعة الأنثوية، بل إن بعض القبائل في القديم كانت تُحرِّم على النساء ركوب الخيل لمعتقدات وأخلاق اجتماعية كانوا يرونها ([85]).(8/184)
وأما البغال ـ مع كونها ليست من المراكب الآمنة بصورة مطلقة ـ فقد نُقل عن بعض نساء السلف ركوبها وهنَّ مستورات بستور أو في بواطن الهوادج ([86])، إلا أن الإبل كانت من أوسع مراكب النساء العربيات وألطفها بأحوالهن، ومع هذا لم يكنَّ ـ في الغالب ـ ينفردن بركوبها، فقد ارتبط ركوبهن عليها بالهوادج المستورة، التي يتولى قيادتها عادة ساقة الإبل من الرجال ([87])؛ ولهذا ارتبط الهودج بالمرأة في تنقلها وأسفارها ([88])، وحتى على مستوى التعريف اللغوي والاصطلاحي فالهودج مركوب المرأة ([89])، وأبعد من هذا تفسير رؤية الهودج في المنام بالمرأة عند مفسري الأحلام ([90]). ومما يُشير إلى هذا أيضًا ويؤيده جواب التابعي أبي ثفال المري حين سُئل عن خروج المرأة؟ فقال: "لأي شيء تخرج؟ والله لا تنفر في النفير ولا تسوق البعير"([91])، ولما استأذنت عائشة رضي الله عنها رسول ا صلى الله عليه وسلم في العمرة أردفها أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما خلفه على الدابة، ولم تنفرد بركوبها وحدها ([92])، ومن المعلوم أن سائق إبل النساء يتلطف في سيره، ولا يشتد عليهن خوفًا من سقوطهن لقلة ثباتهن على الدواب ([93])؛ فقد وصفهن رسول ا صلى الله عليه وسلم بالقوارير ([94])، يعني أنهن كالزجاج، "يُسْرع إليها الكسر، ولا تقبل الجبْر"([95]). وقد وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها اعتناء الرجال، وقيامهم على بعيرها وهودجها فتقول: "وكنت إذا رُحِّل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتيني القوم ويحملونني، فيأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به"([96])، وفي خبر الإفك لما تأخرت عن الركب، وأدركها صفوان بن المعطَّل رضي الله عنه قالت: "ثم قرَّب البعير فقال: اركبي، واستأخر عني فركبت، فأخذ برأس البعير وانطلق سريعًا يطلب الناس"([97])، يعني أنها لم تنفرد بقيادة البعير رغم وقوعها في مثل هذا الموقف الحرج، في خلوة مع شخص أجنبي، وما ترتب على مرافقته لها ـ بعد ذلك ـ من أزمة اجتماعية خطيرة. وفي هذا المعنى يصف الأخطل ـ شاعر الأمويين ([98]) ـ رحيل النساء على الإبل حين يسوقهن الحادي، وقد رُحِّلت مراكبهن فيقول:
لبثن قليلاً في الديار وعُوليتْ على النُجْب للبيض الحسان مراكب
إذا ما حدا الحادي المجدُّ تدافعت بهن المطايا واستُحثَّ النجايب ([99])
وهذا كلُّه يُشير ـ في الجملة ـ إلى أن مهارة القيادة للآليات أو للدواب مرتبطة بالذكور ارتباطًا وثيقًا؛ بل إن المرأة المعاصرة لم تقد السيارة في أوروبا إلا قبل زمن يسير؛ فإلى الثلاثينات من القرن العشرين الميلادي كانت السيارة حكرًا على الرجل، ووسيلته لجذب المرأة وإغرائها بالزواج ([100])، إلا أنه ذُكر أن صانع أول سيارة في ألمانيا عام 1888م سمح لزوجته أن تقودها لأول مرة أمام الجماهير ([101]). وهذا الخبر إن صحَّ لا يعدو أن يكون لطيفة من اللطائف الأوروبية؛ وإلا فإن تحريك عجلة القيادة إلى عهد قريب جدًا كان شديدًا على الرجل المكتمل البنية فضلاً عن أن يكون سهلاً بيد المرأة العادية.
* * *
الخاتمة
إن هذه المبررات المتعددة لكفِّ النساء عن مزاولة مهارة قيادة السيارات لا تُجيز ـ في الجانب الآخر ـ للمرأة المسلمة أن يُقتطع من عرضها وشرفها في المواصلات العامة المزدحمة بالأجساد المتراكمة كما هو حاصل في كثير من البلاد النامية ([102])؛ وإنما الهدف من كل هذا ربط المرأة بحصن البيت من الجهة المالية عن طريق تطوير التنمية الاقتصادية العائلية، من خلال الصناعات المنزلية التي أثبتت جدواها الاقتصادية ([103])، مع الاستفادة من فرص العمل المتاحة عبر شبكات الإنترنت التي أصبحت واقعًا في كثير من بلاد العالم ([104])، فلا تحتاج للكسب خارج نطاق الأسرة. وربطها أيضًا بالبيت من الجهة المعرفية من خلال التعليم عن بعد بوسائله المختلفة، فقد أصبح هذا النوع من التعليم واقعًا عالميًا مقبولاً ([105])، فلا يبقى للمرأة خارج المنزل إلا ما لا بد لها منه من الحاجات والمصالح.(8/185)
وإلى جانب ذلك لا بد أيضًا ـ ضمن ظروف الحياة الواقعية ـ من التوسع في وسائل النقل العام من الحافلات الكبيرة ونحوها؛ بحيث تصبح أكثر جدوى وراحة وأمانًا بالنسبة للمرأة المحتاجة للخروج، كالمعلمة والطالبة ونحوهما. إلا أن الواقع يشهد بقصور وسائل النقل العام؛ ففي بلد كالمملكة العربية السعودية لا يزيد النقل العام عن استيعاب 7% فقط من حركة الرحلات المرورية، في الوقت الذي يستوعب فيه النقل العام في أوروبا 40% من هذه الرحلات المرورية ([106])، حتى إن مدينة مثل الرياض لا يتولى فيها النقل المدرسي العام أكثر من 1% من أعداد الطلاب ([107])، في حين لا يُسمح لطلاب المدارس في اليابان الانتقال إلى مدارسهم بسياراتهم الخاصة، ولا حتى بالدراجات النارية ([108])، إنما بالنقل العام، وفي سنغافورة تتبنى الدولة سياسة متشددة في استخدام السيارات الخاصة، وتفرض قيودًا عليها، رغبة في توجيه الناس نحو النقل العام ([109])؛ ولهذا جاء في توصيات الندوة العلمية الأربعين المنعقدة في الرياض عام 1417هـ حول أساليب ووسائل الحد من حوادث المرور، والتي شاركت فيها ثلاث عشرة دولة عربية ما نصه: "ضرورة التوسع في وسائل النقل الجماعية في المدن العربية، وتوفيرها بأسعار مشجعة، لحمل ساكني المدن على استخدامها بمختلف فئاتهم من موظفين وطلاب وغيرهم"([110])، فلا بد أن تكون توصية كهذه ضمن اهتمامات المسؤولين، بحيث تفعَّل بصورة جادة لتحقيق هدف التخفيف من كثرة السيارات، وإقناع المجتمع ـ ولا سيما النساء ـ باستخدام وسائل النقل العام، وفي الوقت نفسه تُغنيهنَّ عن السعي في المطالبة بقيادة السيارات الخاصة التي تزيد من أعداد السيارات، وبالتالي تزيد من احتمالات وقوع الحوادث، إلى مشكلات أخرى تقدم ذكرها.
إن مما ينبغي أن تدركه المرأة والنساء عمومًا أن هناك تقبلاً اجتماعيًا خطيرًا نحو قيام المرأة بأدوار الرجل التي كانت إلى عهد قريب مناطة به كالعمل للكسب، وعلاج الأبناء، والترفيه عنهم، ونحوها من الأعمال، فقد أصبح المجتمع المعاصر يتقبل اتكال الرجل على زوجته في هذه المهمات ([111])، فلا يعدو تولي المرأة قيادة السيارة أن تكون تكليفًا جديدًا لمهمات أخرى تنحط عن كاهل الرجل لتنوء بأعبائها المرأة، مقابل استمتاعها بمهارة قيادة السيارة.
نتائج البحث:
من خلال فقرات الدراسة توصل الباحث إلى العديد من النتائج ومن أهمها:
1. الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم، ومن حق السلطان المسلم أن يمنع النساء من قيادة المركبات سدًا للذرائع المفضية إلى المفاسد.
2. لا تعتبر السيارة الخاصة مهما كانت صالحة حصنًا للمرأة من أن تنال بسوء، إلى جانب ما يترتب على انطلاقها بها من انفلات اجتماعي لا يوافق توجيه الإسلام لها بالقرار والالتفات إلى المنزل.
3. السيارة آلة عنيفة في طبيعتها وبنائها لا تناسب الطبيعة الأنثوية والدور المناط بها المتطلب لمزيد من السكون والهدوء، إلى جانب مخاطرها وقسوة حوادثها.
4. الجانب الفطري في طبيعة خلْقة المرأة وظروفها الجسمية والنفسية لا يسمح لها بتحمل مسؤولية القيادة، والمخاطرة بنفسها وبغيرها.
5. تعود أسباب كثير من الحوادث إلى ضيق الشوارع عن استيعاب السيارات، كما أن حجم التلوث البيئي مرتبط بكثرتها أيضًا، وفي السماح للنساء بقيادة السيارات زيادة في أعدادها المسببة للحوادث من جهة، وزيادة في تلويث البيئة من جهة أخرى. إلى جانب أن النساء لسن من العاقلة التي تتحمل في حال القتل الخطأ الغرامات المالية التي يتحملها البالغون من الرجال، هذا فيه إجحاف بالرجال إذا مكِّنوا النساء من أسباب العطب والضرر.
6. المرأة عبر التاريخ لم تكن من أهل الفروسية والخيل وإنما ارتبطت منذ القديم بركوب الإبل في الهوادج المستورة، وتولى الرجل منذ ذلك الزمن خدمتها في الأسفار وحمل هودجها عند الترحال، فلا يصح ـ بناء على ذلك ـ اعتبار ركوب المرأة في القديم على الإبل كقيادتها للسيارة في هذا العصر.
7. وجود بدائل عصرية يمكن من خلالها إغناء النساء عن قيادة المركبات من خلال وسائل النقل العام الكبيرة وإحياء الصناعات المنزلية، والاستفادة من وسائل التعليم عن بعد.
8. شح الدراسات العملية في موضوع قيادة المرأة للسيارات مما يتطلب مزيدًا من البحث في الموضوع والوقوف على دراسات أجنبية للتأكيد على صحة القرار بالمنع.
كتبه
د. عدنان حسن باحارث
السعودية ـ مكة المكرمة
ص. ب 6525
هاتف: 5501569
فاكس: 5663677
جوال: 055532605
البريد الالكتروني
Adnan3456@hotmail.com
المراجع
1. أحمد، عبد الرحمن يسري (1417هـ). تنمية الصناعات الصغيرة ومشكلات تمويلها. (د. ط). الإسكندرية: الدار الجامعية.
2. إدريس، عبد الفتاح محمود (1414هـ). أحكام العورة في الفقه الإسلامي ـ بحث مقارن. (د.م): (د. ن).
3. أسعد، يوسف ميخائيل (د. ت). الشخصية القوية. (د. ط). مصر: دار غريب.(8/186)
4. الأسود، أبو محمد الأعرابي الغندجاني (د. ت). أسماء خليل العرب وأنسابها وذكر فرسانها. تحقيق محمد علي سلطاني. (د.ط). بيروت: الشركة المتحدة للتوزيع.
5. أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية (1418هـ). "توصيات الندوة العلمية الأربعين". الندوة العلمية الأربعون بعنوان: أساليب ووسائل الحد من حوادث المرور ـ الرياض 1417هـ. أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض.
6. الألباني، محمد ناصر الدين (1409هـ). صحيح سنن النسائي. بيروت: المكتب الإسلامي.
7. أيوب، ياسر (1995م). الانفجار الجنسي في مصر. القاهرة. دار سفنكس للطباعة والنشر.
8. البار، محمد علي (1402هـ). خلق الإنسان بين الطب والقرآن. ط 3. جدة: الدار السعودية.
9. ابن باز، عبد العزيز عبد الله (1416هـ). مجموع فتاوى ومقالات متنوعة. جمع محمد سعد الشويعر. ط2. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
10. باشا، حسان شمسي (1413هـ). النوم والأرق والأحلام بين الطب والقرآن. ط 2. جدة: دار المنارة.
11. باول، دوغلاس (1422هـ). تسع خرافات عن الشيخوخة. ترجمة هالة النابلسي. الرياض: مكتبة العبيكان.
12. البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (1410هـ). صحيح البخاري. تحقيق مصطفى ديب البغا. ط 4. دمشق: دار ابن كثير.
13. البدر، محمود عبد العزيز (1412هـ). "الإعلام التربوي في دول الخليج العربية". وقائع اجتماع مسؤولي الإعلام التربوي في دول الخليج العربية ـ قطر 19 ـ 20/5/ 1412هـ. مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض.
14. البرديسي، محمد زكريا (1407هـ). أصول الفقه. ط3. بيروت: دار الفكر.
15. البرهاني، محمد هشام (1406هـ). سد الذرائع في الشريعة الإسلامية. بيروت: مطبعة الريحاني.
16. ابن بطال، أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (1420هـ). شرح صحيح البخاري. تحقيق ياسر إبراهيم. الرياض: دار الرشد.
17. بكار، عبد الكريم (1418هـ). مدخل إلى التنمية المتكاملة ـ رؤية إسلامية. الرياض: دار المسلم.
18. بكار، نادية أحمد (1421هـ). "مدى وعي معلمات الجغرافيا بقضية سوء فهم المفاهيم الجغرافية". مجلة رسالة التربية وعلم النفس. العدد (12). الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية، الرياض.
19. البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس (د. ت). كشاف القناع عن متن الإقناع. (د. ط). بيروت: عالم الكتب.
20. بوحجي، هناء (1998م يونيه 29). "البحرين تمنع المنقبات من قيادة السيارات". صحيفة الشرق الأوسط. العدد (7153). لندن.
21. البورنو، محمد صدقي (1415ه). الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية. ط 3. الرياض: مكتبة التوبة.
22. البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسن بن علي النيسابوري (1344هـ). السنن الكبرى. بيروت: دار المعرفة.
23. بيوشامب، إدوارد (1420هـ). التعليم الياباني والتعليم الأمريكي ـ دراسة مقارنة. ترجمة محمد طه علي. الرياض. دار المعرفة للتنمية البشرية.
24. الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (د. ت). الجامع الصحيح. تحقيق أحمد محمد شاكر وآخران. (د.م): دار إحياء التراث العربي.
25. تيس، سي. ود. بيركس (1397هـ). "دور المرأة في الريف العماني". مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية. العدد (10). جامعة الكويت، الكويت.
26. ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني (د. ت). مجموع الفتاوى. ترتيب عبد الرحمن محمد العاصمي النجدي. (د. ط). الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين، مكة المكرمة.
27. الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (1997م). البغال. تحقيق علي بن ملحم. ط2. بيروت: دار الهلال.
28. جبر، يحيى عبد الرؤوف (1421هـ). "مشروع تلفزة الأيام الدراسية". مجلة رسالة الخليج العربي. العدد (42). مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض.
29. الجراية، أنور (1994م). "الشخصية". مجلة الثقافة النفسية. العدد (17). مركز الدراسات النفسية والنفسية الجسدية، بيروت: دار النهضة العربية.
30. ابن جزي، أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم الكلبي الغرناطي (1406هـ). الخيل. تحقيق محمد العربي الخطابي. (د. ط). بيروت: دار الغرب الإسلامي.
31. الجوهري، محمد فائق (1418هـ). العادة السرية عند الرجل والمرأة. ط 2. الرياض: أضواء السلف.
32. أبو جيب، سعدي (1985م). موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي. (د. ط). إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر.
33. الحاكم، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري (د. ت). المستدرك. (د. ط). بيروت: دار المعرفة.
34. الحربي، سعد شارع (1415هـ). الأحكام الخاصة بالمرأة. الرياض: دار المسلم.
35. ابن حجر، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (1398هـ). فتح الباري بشرح صحيح البخاري. تحقيق طه عبد الرؤوف سعد وآخران. (د. ط). القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية.
36. ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد الظاهري الأندلسي (1408هـ). المحلى بالآثار. تحقيق عبد الغفار البنداري. (د. ط). بيروت: دار الكتب العلمية.(8/187)
37. حسون، تماضر زهري (1414هـ). تأثير عمل المرأة على تماسك الأسرة في المجتمع العربي. المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، وزارة الداخلية، الرياض.
38. الحسيني، عائشة (1409هـ). إعداد وتنمية القيادات الإدارية النسائية في قطاع التعليم العاليم بالمملكة العربية السعودية. جدة: دار البيان.
39. الحسيني، عائشة (1985م). "التخطيط للاحتياجات من الكفاءات الإدارية النسائية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة نظرية ميدانية". المؤتمر الإقليمي الثالث للمرأة في الخليج والجزيرة العربية 1984م. لجنة تنسيق العمل النسائي في الخليج والجزيرة العربية، الكويت.
40. الحفني، عبد المنعم (1412هـ). الموسوعة النفسية الجنسية. القاهرة: مكتبة مدبولي.
41. الدباغ، فخري (1983م). أصول الطب النفسي. ط 3. بيروت: دار الطليعة.
42. حمود، رفيقة سليم (1417هـ). المرأة المصرية ـ مشكلات الحاضر وتحديات المستقبل. القاهرة: دار الأمين.
43. خلف، سليمان نجم (1998م). "العولمة والهوية الثقافية ـ تصور نظري لدراسة نموذج مجتمع الخليج والجزيرة العربية". المجلة العربية للعلوم الإنسانية. العدد (61). جامعة الكويت، الكويت.
44. الدربندي، عبد الرحمن سليمان (د. ت). المرأة العراقية المعاصرة. وزارة التربية، العراق.
45. الدويك، يوسف راتب (1405هـ). "الرياضة في الإسلام". مجلة التربية. العدد (72). قطر.
46. دياب، عبد العزيز أحمد (1416هـ). "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج". مجلة جامعة الملك عبد العزيز ـ الاقتصاد والإدارة. (د.ع). المجلد التاسع، جامعة الملك عبد العزيز، جدة.
47. الرازي، أبو بكر محمد بن زكريا (1421هـ). الحاوي في الطب. تحقيق محمد محمد إسماعيل. بيروت: دار الكتب العلمية.
48. رشاد، نادية محمد (د. ت). التربية الصحية والأمان. (د. ط) الإسكندرية: منشأة المعارف.
49. الزحيلي، وهبة (1405هـ). الفقه الإسلامي وأدلته. ط2. دمشق: دار الفكر.
50. الزرقاء، مصطفى أحمد (1408هـ). الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها. دمشق: دار القلم.
51. الزركلي، خير الدين (1980م). الأعلام. ط 5. بيروت: دار العلم للملايين.
52. السالم، زغلولة (1997م). صورة المرأة العربية في الدراما المتلفزة. (د. ط). عمان: دار آرام.
53. السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل (د. ت). شرح كتاب السير الكبير. تحقيق صلاح الدين المنجد. (د. ط). (د. م): (د.ن).
54. السعدي، عبد الرحمن ناصر (1415هـ). الفتاوى السعدية. بيروت: عالم الكتب.
55. السفاريني، أبو العون شمس الدين محمد بن أحمد النابلسي الحنبلي (د. ت). غداء الألباب. (د. ط). (د.م): مؤسسة قرطبة.
56. أبو سنة، أحمد فهمي (1412هـ). العرف والعادة في رأي الفقهاء. ط2. (د. م): (د. ن).
57. الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي (د. ت). الموافقات. عناية عبد الله دراز ومحمد عبد الله دراز: (د. ط). بيروت: دار المعرفة.
58. ابن شبة، أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري (د. ت). تاريخ المدينة المنورة. تحقيق فهيم محمد شلتوت. (د. ط). (د. م): (د. ن).
59. الشربيني، محمد الخطيب (د. ت). مغني المحتاج. (د. ط). بيروت: دار الفكر.
60. شريف، سعيدة (1419هـ ربيع الآخر 27). "حوادث السير.. حرب صامتة في المغرب". صحيفة الشرق الأوسط. العدد (6204). لندن.
61. شعبان، زكي الدين (1394هـ). أصول الفقه الإسلامي. ط3. بيروت: دار القلم.
62. الشيباني، عبد الله بن أحمد ـ محمد بن حنبل المروزي (1421هـ). فضائل عثمان بن عثمان. جدة: دار ماجد عسيري.
63. شيخاني، سمير (1416هـ). سجل الأيام. بيروت: دار الجيل.
64. الصالح، ناصر عبد الله (1408هـ). حوادث المرور بمدينة مكة المكرمة ـ العلاقات المكانية والاتجاهات الزمانية. (د. ط). مركز بحوث العلوم الاجتماعية، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
65. الصوفي، محمد سالم (1418هـ). "الشباب الباحث عن الموت". مجلة المجتمع. العدد (1261). جمعية الإصلاح الاجتماعي، الكويت.
66. الصنيع، عبد الله علي (1415هـ). دراسات في قضايا المدن المعاصرة والتحضر بأقلام نخبة من العلماء الأفاضل. جدة: دار المجتمع.
67. الظفيري, عبد الوهاب محمد(1421هـ). "النساء المعيلات للأسرة في حالة غياب الأب ـ نموذج أسر الشهداء". مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية. العدد (98). جامعة الكويت، الكويت.
68. ابن عابدين، محمد أمين (1412هـ). حاشية رد المحتار. ط 2. بيروت: دار الفكر.
69. العالم، إسماعيل أحمد (2000م). "الصور الحركية ومجالاتها في شعر الأخطل". المجلة العربية للعلوم الإنسانية، العدد (71). جامعة الكويت، الكويت.
70. عبد الخالق، أحمد محمد وعويد سلطان المشعان (1419هـ). "المخاوف الشائعة لدى الأطفال والمراهقين الكويتيين ومدى تأثرها بالعدوان العراقي". مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية. العدد (89). جامعة الكويت، الكويت.(8/188)
71. ابن عبدالسلام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (د. ت). قواعد الأحكام في مصالح الأنام. تحقيق محمود التلاميد الشنقيطي. (د. ط). بيروت: دار المعرفة.
72. عبد العال، جمال عبد المحسن (1418هـ). "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها". الندوة العلمية الأربعون بعنوان: أساليب ووسائل الحد من حوادث المرور ـ الرياض 1417هـ. أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض.
73. عبد الفتاح، فاطمة (1414هـ). الحياة الاجتماعية في الشعر الجاهلي. (د. ط). بيروت: دار الفكر.
74. العريني، محمد ناصر (1420هـ). المرأة بين تكريم الإسلام ودعاوي التحرير. ط 2. الرياض: مطبعة سفير.
75. علي، بدر الدين (1410هـ). قضاء وقت الفراغ لدى الشباب العربي. (د. ط). المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض.
76. عياض، أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي (1419هـ). إكمال المعلم بفوائد مسلم. تحقيق يحيى إسماعيل، المنصورة: دار الوفاء.
77. العيسوي، عبد الرحمن (1419هـ). علم نفس الشواذ والصحة النفسية. بيروت: دار الراتب الجامعية.
78. عيسى، مصباح الحاج (1407هـ). "استخدام الهاتف والشاشة الإلكترونية في التعليم عن بعد بدول الخليج العربية". المجلة العربية لبحوث التعليم العالي. العدد (6). المركز العربي لبحوث التعليم العالي، دمشق.
79. الغامدي، علي سعيد (1418هـ). "تقنية المستقبل في مواجهة مشكلة المرور". الندوة العلمية الأربعون بعنوان: أساليب ووسائل الحد من حوادث المرور ـ الرياض 1417هـ. أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض.
80. فهيم، محمد عيسى وآخران (1405هـ). السلوك المزعج الصادر عن السائقين أثناء القيادة ـ دراسة ميدانية بمدينة مكة المكرمة. (د. ط). مركز البحوث التربوية والنفسية، كلية التربية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
81. القاري، نور الدين علي بن سلطان الهروي (د. ت) شرح عين العلم وزين الحلم. (د. ط). القاهرة. مكتبة الثقافة الدينية.
([1]) انظر: المحرر. قطوف رمضان 1422هـ. ص 6 ـ 10.
([2]) الدراسات مرتبة حسب سنة النشر.
([3]) انظر: أ ـ الحسيني، عائشة. إعداد وتنمية القيادات الإدارية النسائية في قطاع التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية. ص 113.
ب ـ الحسيني، عائشة. "التخطيط للاحتياجات من الكفاءات الإدارية النسائية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة نظرية ميدانية" ج 1، ص 406.
ج ـ المحرر. قطوف شعبان 1421هـ . ص 95.
([4]) أسعد، يوسف ميخائيل. الشخصية القوية. ص 218.
([5]) انظر: البرهاني، محمد هشام. سد الذرائع في الشريعة الإسلامية. ص 334.
([6]) انظر: علي، بدر الدين. قضاء وقت الفراغ لدى الشباب العربي. ص 85 و 158.
([7]) انظر: المطير، عامر ناصر. "قيادة التلاميذ للسيارات وأثرها على الحركة المرورية في المملكة العربية السعودية" ص 49 و 54.
([8]) انظر: الدربندي، عبد الرحمن سليمان. المرأة العراقية المعاصرة. ج 1، ص 184 ـ 185.
([9]) انظر: تيس، سي. و د. بيركس. "دور المرأة في الريف العماني" ص 106 ـ 107.
([10]) تبقى للضرورة حدودها التي تُقدر بقدرها للنساء المضطرات للقيادة في بعض البلاد.
([11]) المقصود بالمبرر الفقهي هنا: هو المعنى الاصطلاحي الخاص لكلمة "الفقه" وهو الجانب العملي التطبيقي من الشريعة الإسلامية المنزلة، وحكم الفقهاء في مسألة قيادة المرأة للمركبات بناء على المصادر الفقهية.
([12]) البرديسي، محمد زكريا. أصول الفقه. ص 308.
([13]) انظر: ابن تيمية. مجموع الفتاوى. ج 1، ص 265.
([14]) ابن عبد السلام. قواعد الأحكام في مصالح الأنام. ج 1. ص 12.
([15]) الوكيل، محمد. فقه الأولويات ـ دراسة في الضوابط. ص 225.
([16]) الشاطبي. الموافقات. ج 4، ص 199.
([17]) الزرقاء، مصطفى أحمد. الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها. ص 45.
([18]) منظمة المؤتمر الإسلامي. قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي. ص 209 (بتصرف).
([19]) ابن القيم. إعلام الموقعين عن رب العالمين. ج 3. ص 135.
([20]) الإدريسي، عبدالواحد. القواعد الفقهية من خلال كتاب المغني لابن قدامة. ص 428.
([21]) المرجع السابق. ص 430.
([22]) المرجع السابق. ص 430.
([23]) القاري. شرح عين العلم وزين الحلم. ج 1، ص 47.
([24]) الإدريسي، عبدالواحد. القواعد الفقهية من خلال كتاب المغني لابن قدامة. ص 427.
([25]) انظر: ولي، نور بيكم محمد. دراسة استطلاعية عن كيفية ودواعي اعتماد الأسرة السعودية على السائقين المستقدمين ص 68، 158 ـ 159.
([26]) انظر: البورنو، محمد صدقي. الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية. ص 206.
([27]) البرهاني، محمد هشام. سد الذرائع في الشريعة الإسلامية. ص 210.
([28]) إدريس، عبد الفتاح محمود. أحكام العورة في الفقه الإسلامي ـ بحث مقارن. ج2، ص 569.
([29]) قلعه جي، محمد رواس وحامد صادق قنيبي. معجم لغة الفقهاء. ص 200.
([30]) السفاريني. غذاء الألباب. ج 2، ص 22.
([31]) انظر: أ ـ عياض. إكمال المعلم بفوائد مسلم. ج 8, ص 287 ـ 288.(8/189)
ب ـ ابن بطال. شرح صحيح البخاري. ج 8، ص 39.
([32]) مثل: ابن إبراهيم. فتاوى ابن إبراهيم. ج10 ، ص 52 - 54.
([33]) خلف، سليمان نجم. "العولمة والهوية الثقافية ـ تصور نظري لدراسة نموذج مجتمع الخليج والجزيرة العربية" ص 75.
([34]) انظر: أ ـ ابن باز، عبد العزيز عبد الله. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة. ج 3، ص 351 ـ 353.
ب ـ المسند، محمد. فتاوى المرأة. ص 192 ـ 194.
جـ ـ المجدوب، أحمد علي. اغتصاب النساء في المجتمعات القديمة والمعاصرة. ص 201 ـ 202.
د ـ العريني، محمد ناصر. المرأة بين تكريم الإسلام ودعاة التحرير. ص 65 ـ 78.
بوحجي، هناء. "البحرين تمنع المنقبات من قيادة السيارات" ص 28.
([35]) الموسى، عبد الرسول. "الوظيفة كأحد إفرازات التحضر في الكويت" ص 128.
([36]) الحسيني، عائشة. إعداد وتنمية القيادات الإدارية النسائية في قطاع التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية. ص 113.
([37]) انظر: شعبان، زكي الدين. أصول الفقه الإسلامي. ص 386 ـ 387.
([38]) انظر: المحرر. قطوف جمادى الأولى 1419هـ. ص 9.
([39]) المحرر. "سياقة المرأة للسيارة تقصر العمر" ص 1.
([40]) انظر: أ. النافع، عبد الله وخالد السيف. تحليل الخصائص النفسية والاجتماعية المتعلقة بسلوك قيادات السيارات بالمملكة. ص 49 ـ 50، 60.
ب ـ الصالح، ناصر عبد الله. حوادث المرور بمدينة مكة المكرمة ـ العلاقات المكانية والاتجاهات الزمانية. ص 35.
جـ ـ دياب، عبد العزيز أحمد. "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج" ص 6 ـ 7.
([41]) المحرر. قطوف صفر 1419هـ. ص 123.
([42]) الغامدي، علي سعيد. "تقنية المستقبل في مواجهة مشكلة المرور" ص 70.
([43]) انظر: أ ـ الصنيع، عبد الله علي. دراسات في قضايا المدن المعاصرة والتحضر بأقلام نخبة من العلماء الأفاضل. ص 217.
ب ـ المحرر. قطوف ربيع الثاني 1423هـ. ص 123.
([44]) المحرر. قطوف ربيع الثاني 1422هـ. ص 112.
([45]) الرازي. الحاوي في الطب. ج 3، ص 1456.
([46]) بكار، عبد الكريم. مدخل إلى التنمية المتكاملة ـ رؤية إسلامية ص 355.
([47]) انظر: المحرر. قطوف شعبان 1421هـ. ص 96.
([48]) انظر: أ ـ دياب، عبد العزيز أحمد. "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج" ص 10 ـ 11.
ب ـ عبد العال، جمال عبد المحسن. "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها" ص 22.
([49]) العيسوي، عبد الرحمن. علم نفس الشواذ والصحة النفسية ص 269.
([50]) باشا، حسان شمسي. النوم والأرق والأحلام بين الطب والقرآن. ص 48.
([51]) انظر: أ ـ حسون، تماضر زهري. تأثير عمل المرأة على تماسك الأسرة في المجتمع العربي. ص 66 ـ 67، 152 ـ 153.
ب ـ يونس، منى. "اعتراضات المرأة العاملة على العمل ـ بحث استطلاعي" ص 209 ـ 211.
([52]) عبد العال، جمال عبد المحسن. "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها" ص 28.
([53]) انظر: كحالة، عمر رضا. المرأة في القديم والحديث. ج 3، ص 62.
([54]) الصوفي، محمد سالم. "الشباب الباحث عن الموت" ص 10.
([55]) انظر: عبد الخالق، أحمد ومحمد وعويد سلطان المشعان. "المخاوف الشائعة لدى الأطفال والمراهقين الكويتيين ومدى تأثرها بالعدوان العراقي" ص 328.
([56]) محمد، عادل شكري وفريح عويد العنزي. "دراسة إنمائية لبعض المتغيرات الباثولوجية لدى فئات عمرية متباينة" ص 115.
([57]) النابلسي، محمد أحمد. "رهاب الساح ـ دراسة حالة واستراتيجية علاج" ص 186.
([58]) انظر: أ ـ الجراية، أنور. "الشخصية" ص 50.
ب ـ السالم. زغلولة. صورة المرأة العربية في الدراما المتلفزة. ص 66 و 70.
جـ ـ بكار، نادية أحمد. "مدى وعي معلمات الجغرافيا بقضية سوء فهم المناهج الجغرافية"ص 67، 88.
د ـ باول، دوغلاس. تسع خرافات عن الشيخوخة. ص 102.
([59]) انظر: أ ـ الدباغ ، فخري. أصول الطب النفساني. ص 214 و 253 و 346.
ب ـ المالكي، موزة. "علم النفس حول العالم العدد (31)". ص 17.
([60]) النابلسي، محمد أحمد، "الاضطرابات النفسية لدى المرأة" ص 64 و 66 ـ 67.
([61]) انظر: أ ـ البار، محمد علي. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. ص 103.
ب ـ رشاد، نادية محمد. التربية الصحية والأمان. ص 73.
([62]) الحنفي، عبد المنعم. الموسوعة النفسية الجنسية. ص 809.
([63]) انظر: أ ـ دياب، عبد العزيز أحمد. "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج" ص 4 و 6.
ب ـ قربة، جهاد محمد. "طبيعة العلاقات المجالية للحوادث المرورية داخل الوسط الحضري لمدينة الشارقة ـ دراسة تحليلية لفترة التوسع 1987 ـ 1992م". ص 103 ـ 104.
([64]) أ - الحفني، عبد المنعم. الموسوعة النفسية- علم النفس والطب النفسي. ص 136 - 138.
ب- الحفني، عبد المنعم. الموسوعة النفسية- علم النفس والطب النفسي. ص 140.
([65]) معلومة غير موثقة بالمراجع منقولة من بعض أهل الخبرة ممن عاش في بعض الدول الغربية.
([66]) انظر: المسيري، عبد الوهاب. "الفكر الغربي ـ مشروع رؤية نقدية" . ص 133.(8/190)
([67]) انظر: أ ـ ابن حزم. المحلى بالآثار. ج 11، ص 273 ـ 276.
ب ـ الكاساني. بدائع الصنائع. ج 7، ص 255 ـ 257.
ج ـ النووي. صحيح مسلم بشرح النووي. ج 11، ص 176 ـ 177.
د ـ الشربيني. مغني المحتاج. ج 4، ص 95.
هـ ـ المرداوي. الإنصاف. ج 10، ص 124.
و ـ القرطبي. الجامع لأحكام القرآن. ج 5. ص 326.
ز ـ ابن حجر. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. ج 26، ص 80 ـ 81.
حـ ـ ابن عابدين. حاشية رد المختار. ج 6، ص 564 و 642 ـ 643.
ط ـ البهوتي. كشاف القناع. ج 6، ص 61.
ي ـ زحيلي، وهبة. الفقه الإسلامي وأدلته. ج 6، ص 322 ـ 323.
ك ـ أبو جيب، سعدي. موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي. ج 1، ص 426.
ل ـ الحربي، سعد شارع. الأحكام الخاصة بالمرأة ص 421.
([68]) انظر: الترمذي. الجامع الصحيح. رقم (2110). ج 4، ص 425 ـ 426. (حديث حسن صحيح).
([69]) انظر: أ ـ السعدي، عبد الرحمن ناصر. الفتاوى السعدية. ص 83.
ب ـ أبو سنة، أحمد فهمي. العرف والعادة في رأي الفقهاء. ص 242 ـ 244.
([70]) انظر: منظمة المؤتمر الإسلامي. قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي. ص 20.
([71]) أدى ظهور التأمين الإلزامي على رخص القيادة في المملكة إلى إحجام كثير من أفراد القبائل عن الإسهام المالي المعتاد في صناديقهم التعاونية، مما أثار جدلاً مع رؤساء قبائلهم. انظر: المحرر. قطوف ذو الحجة 1423هـ. ص 124.
([72]) انظر: أ ـ الصنيع، عبد الله علي. دراسات في قضايا المدن المعاصرة والتحضر بأقلام نخبة من العلماء الأفاضل. ص 267 ـ 272.
ب ـ عبد العال، جمال عبد المحسن. "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها". ص 14.
ج ـ شريف، سعيدة. "حوادث السير.. حرب صامتة في المغرب" ص 15.
د - المحرر. "حوادث السير تقتل ثلاثة أشخاص كل يوم في لبنان". ص 15.
([73]) دياب، عبد العزيز أحمد. "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج". ص 8.
([74]) انظر: النافع، عبد الله وخالد السيف. تحليل الخصائص النفسية والاجتماعية المتعلقة بسلوك قيادات السيارات في المملكة. ص 4.
([75]) عبد العال، جمال عبد المحسن. "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها" ص 17 ـ 19.
([76]) فهيم، محمد عيسى وآخران: "السلوك المزعج الصادر عن السائقين أثناء القيادة ـ دراسة ميدانية بمدينة مكة المكرمة". ص 6. (بتصرف).
([77]) الوهيد، محمد سليمان. "القيم الاجتماعية وأثرها في مشكلة المرور". ص 43.
([78]) أ ـ المجرن، عباس علي "محددات الطلب العالمي على الجازولين" ص 96 ـ 97.
ب ـ مارتن، هانس بيتر وهارالد شومان. فخ العولمة. ص 73 ـ 74.
([79]) القدسي، سليمان. سياسات أسواق العمالة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. ص 19 ـ 20.
([80]) انظر: أ ـ السرخسي. شرح كتاب السير الكبير. ج 1، ص 136 ـ 137.
ب ـ قطب، سيد. في ظلال القرآن. ج 1، ص 580.
جـ ـ هامرتن، جون وآخرون. تاريخ العالم. ج 5، ص 377 ـ 398.
([81]) انظر: أشكناني، زبيدة علي. "مذكرات أميرة عربية- الإثنوغرافيا والسيرة الذاتية". ص 132.
([82]) الدويك، يوسف راتب. "الرياضة في الإسلام" ص 121.
([83]) انظر: معاليقي، عبد اللطيف. المراهقة ـ أزمة هوية أم أزمة حضارية. ص 146 ـ 147.
([84]) انظر: أ ـ الجاحظ. البغال. ص 24.
ب ـ ابن جزي. الخيل. ص 296 ـ 302.
جـ ـ الأسود. أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها. ص 15 ـ 20 و 291 ـ 319.
([85]) انظر: الجوهري، محمد فائق. العادة السرية عند الرجال والمرأة. ص 25.
([86]) انظر: أ ـ ابن شبَّه. تاريخ المدينة المنورة. ج 4، ص 1311 ـ 1313.
ب ـ الجاحظ. البغال. ص 26 و 31 و 47 ـ 52.
جـ ـ الشيباني. فضائل عثمان بن عفان. ص 136.
([87]) انظر: أ ـ البخاري. صحيح البخاري. ص (3251). ج 3، ص 1266 ورقم (3910). ج 4،
ص 1517.
ب ـ الحاكم. المستدرك. ج 4، ص 42 ـ 43. (حديث فيه إرسال... وقد رُوي بإسناد صحيح... مختصرًا).
جـ ـ البيهقي. السنن الكبرى. ج 4، ص 34 ـ 35.
د ـ المقريزي. إمتاع الأسماع. ص 114.
هـ ـ ابن منظور. لسان العرب. ج 2، ص 389. (هدج).
و ـ ابن حجر. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. ج 19، ص 150.
ز ـ الزركلي. الأعلام. ج 3، ص 114 ـ 115.
([88]) انظر: أ ـ النسائي. سنن النسائي. ج 5، ص 120. (صحيح) الألباني، محمد ناصر الدين. صحيح سنن النسائي. ج 2، ص 560.
ب ـ عياض. إكمال المعلم بفوائد مسلم. ج 4، ص 369.
جـ ـ محمد، طارق عوض الله. الجمع والتوضيح لمرويات الإمام البخاري وأحكامه في غير الجامع الصحيح. ج 1، ص 514.
د ـ عبد الفتاح، فاطمة. الحياة الاجتماعية في الشعر الجاهلي. ص 104.
([89]) انظر: أ ـ ابن منظور. لسان العرب. ج 2، ص 389. (هدج).
ب ـ قلعه جي، محمد رواس وحامد صادق قنيبي. معجم لغة الفقهاء. ص 496.
([90]) انظر: النابلسي. تعطير الأنام في تعبير المنام. ص 466.
([91]) المرزبان. المروءة. ص 58.
([92]) انظر: ابن بطال. شرح صحيح البخاري. ج 5، ص 147.
([93]) انظر: عياض. إكمال المعلم بفوائد مسلم. ج 7، ص 287.
([94]) مسلم. صحيح مسلم. رقم (2323). ج 4، ص 1811.(8/191)
([95]) ابن منظور. لسان العرب. ج 5، ص 87. (قرر).
([96]) ابن شبَّه. تاريخ المدينة المنورة. ج 1، ص 329.
([97]) نفسه. ج 1، ص 330.
([98]) ترجمة الأخطل غياث بن غوث. انظر: الزركلي. الأعلام. ج 5، ص 123.
([99]) العالم، إسماعيل أحمد. "الصور الحركية ومجالاتها في شعر الأخطل" ص 189 ـ 190.
([100]) انظر: المحرر. "علم النفس حول العالم العدد (17)". ص 20.
([101]) شيخاني، سمير. سجل الأيام. ج 3، ص 229.
([102]) انظر: أ ـ المجدوب، أحمد علي. اغتصاب النساء في المجتمعات القديمة والمعاصرة. ص 54.
ب ـ أيوب، ياسر. الانفجار الجنسي في مصر. ص 179.
جـ ـ حمود، رفيقة سليم. المرأة المصرية ـ مشكلات الحاضر وتحديات المستقبل. ص 72.
([103]) أحمد، عبد الرحمن يسري. تنمية الصناعات الصغيرة ومشكلات تمويلها. ص 25.
([104]) انظر: أ ـ المحرر. "تعويم أفكار في الكويت لرفع معدل تشغيل النساء". ص 11.
ب ـ المحرر. "فرص وظيفية للمرأة بأسلوب العمل من بعد". ص 17.
([105]) انظر: أ ـ البدر، محمد عبد العزيز. "الإعلام التربوي في دول الخليج العربية". ص 49.
ب ـ عيسى، مصباح الحاج. "استخدام الهاتف والشاشة الإلكترونية في التعليم عن بعد بدول الخليج العربية". ص 51 ـ 54.
جـ ـ جبر، يحيى عبد الرؤوف. "مشروع تلفزة الأيام الدراسية". ص 30 ـ 31.
([106]) عبد العال، جمال عبد المحسن. "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها" ص 22 ـ 24.
([107]) المطير، عامر ناصر. "قيادة التلاميذ للسيارات وأثرها على الحركة المرورية في المملكة العربية السعودية".
ص 49.
([108]) بيوشامب، إدوارد. التعليم الياباني والتعليم الأمريكي ـ دراسة مقارنة. ص 28.
([109]) المجرن، عباس علي. "محددات الطلب العالمي على الجازولين". ص 110 ـ 111.
([110]) أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية. "توصيات الندوة العلمية الأربعين". ص 156.
([111]) الظفيري، عبد الوهاب محمد. "النساء المعيلات للأسرة في حالة غياب الأب ـ نموذج أسر الشهداء". ص 34.
=============(8/192)
(8/193)
من فقه الائتلاف
يعيش العالم الإسلامي اليوم على قمم الحضارة والمدنية، ولكنه يعيش أيضاً في ظل أعتى الحروب القِيمية الطاحنة.
كان الإسلام بقوته والمسلمون بضعفهم أول مستهدف في هذه الحرب، إلاّ أنَّ الناظر يعجب كيف يكون هذا بين تلك القوى الضخمة وما يُواجههم من إمكانات ضئيلة بالمقياس البشري، ولكن ما أن ينظر إلى الكفة الأخرى فيدرك جانب القوة عند المسلمين، إنَّ المسلمين وإن لم يملكوا العتاد والقوة فإنَّهم يملكون رصيداً هائلاً من القيم التي عادة ما تَرْجحُ بكفة الميزان.
من هنا كان العمل الإسلامي يتربعُ على كرسي القيادة في الصف الإسلامي، فلا عجب أن تعقد اللقاءات والمؤتمرات للتباحث في هذا الشأن، ومن الوعي والسبق أن يكون محور التباحث حول سبل الاتفاق وعوامل الافتراق في العمل الإسلامي.
العمل الإسلامي - كغيره من الأعمال - قائمٌ على أساسٍ بشري يعتريهِ ما يعتري أعمال البشر من القصور والتقصير.
ولأن كان العمل الإسلامي قد خطى خطواتٍ فاعلةٍ فيما مضى، إلاَّ أنَّ التحديات المعاصرة تفرضُ مزيداً من التأمل وإعادة النظر مرةً بعد مرة.
العالم اليوم بمؤسساته السياسية والاقتصادية يسعى حثيثاً نحو التكتل والتجمع، ولو على أدنى مستوى من دواعي الشراكة والعولمة، أبرز مظاهر هذا التكتل، وسنة الله الكونية أنَّ الاجتماع قوةً والفرقة ضعفٌ وخور، وقد كان يقالُ الكثرة تغلب الشجاعة، وأولى الناس بالاجتماع أهل الحق ليبلغوا ما أُمروا به من البلاغ، وليقوموا بواجبِ الرسل الذين اتحدت كلمتهم (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) (الأنبياء:25) .
وهم أبناء لعائلات أبوهم واحد وأمهاتهم شتى.
وهذا الإجماع والاجتماع العالمي على الإسلام، وهذه الفريات المتواليةِ على المسلمين وقيمهم، فرصةً لجمعِ الشتات ووحدة الصف، إذ أنَّ الفريةَ التي لا تقتلكُ تقويك.
وقد كانت الآمالُ تولدُ من أرحام الآمال، وقد قال الله فيما أنزل على عبده:
(( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)) (الشرح: 7,6) .
فجعل اليسر قرين العسر، ولن يغلب عسر يسرين.
إنَّ الدارس لتاريخ الأمم والشعوب يرى أنها مرت بنوبات فتور وركود، لكنها ما أن تتحد على كلمةٍ سواء، حتى تستعيد عافيتها وعزها.
تأبي الرماح إذا اجتمعن تكسرا *** وإذا افترقن تكسرت آحادا
والمشروعات النهضوية هي أبنيةٌ ضخمة لا تتقيد بمحدوديةِ عمر إنسانٍ واحد، بل ولا حتى بلدٍ واحد، فما لم تُعتمَد استراتيجية إكمالِ ما بُدِء وتحسين ما أُنشئ، فستظلُ محاولاتٍ مبعثرةٍ آيلةٍ للسقوط في أيِّ ظرف.
وحينما تتقاطع المشروعات الإسلامية تتحولُ مع الزمن من مهامِ البناء إلى مهام انتهاز الفرص، للإجهاز على الخصمِ والإطاحة به، وأولُّ خاسرٍ في هذه المعركةِ القيم التي بُنيت عليها تلك المشروعات، أمَّا إذا تآلفت وتصالحت قام البنيان الشامخ وصارت أمةَ البنيان المرصوص.
ولقد حثَّ الشارعُ على الاجتماع ونبذَ الفرقة والخصام، ففي شعائرِ الدين الظاهرةِ تلحظُ هذا المعنى بجلاء؛ فالصلاةُ والحج والصوم والجمعة والعيدين وغيرها قامت على الاجتماع والتوحد.
وحثَّ الشارعُ على لزومِ طاعةِ من ولاهُ اللهُ الأمر، ورتَّبَ على الطاعة أجراً، وحذَّر أشدَّ التحذير من شقِ هذه العصا، بل من مات مفارقاً للجماعةِ مات ميتةً جاهلية، أما إذا اشتدت الكروبُ وضاقت السبلُ فتأكد هذه الدعوة.
ألا ترى أنَّ الله أكد في سورة الأنفال التي كان ابن عباس- رضي الله عنه- يقول: تلك سورةُ بدرٍ أكد فيها على الاجتماع، (( يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) (لأنفال:1) .
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (لأنفال: 47,46).
وكان من أولَ المشروعات المحمدية في المدينة، المؤآخاةُ التي تجاوزت حدود الحياة إلى الموت، فكان التوارثُ بين الإخوةِ في الله مشروعاً ثم نسخ.
وكان أول عملٍ قام به محمد- صلى الله عليه وسلم - في المدينة بناءَ المسجد؛ ليكون المركز الإسلامي الذي ينطلقُ منه إشعاعَ النور والهدى.
إنَّ التكتلات البشرية - أياً ما كانت - فهي تتمحورُ حول قاعدةٍ من المسلماتِ التي لا تقبلُ الجدل، واللهُ تعالى لما أمرَ بالاعتصام أمرَ بأن يكونَ ذلك بحبله (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )) (آل عمران: من الآية103) .
وأشدَّ من تُلهبهِ نارَ الفرقة والافتراق، هم الأتباع، وهؤلاءِ هم السوادُ الأعظم، وهم القيمة الفاعلة في أممهم.(8/194)
وفي سبيل تحقيقِ هذا التوافق وتنميتهِ، لا بدَّ من معرفةِ دواعي الافتراقِ، ووضع اليد عليها، فصرف الدواء إنما يكون بعد تشخيص الداء. ومعرفتنا للأسباب هي في ذات الوقت علاج؛ لأننا متى ما شئنا أن نخلي الساقية من الماء فلنبادر إلى ما يمدّها فنوقفه.
والتجردُ لله من الحظوظ والشهوات، خاصةً ما خفي منها، كحب الترأس والظهور، من أعمقِ الأسس في هذا الشأن، فلم يمنع عمر وكبار الصحابةِ رضوان الله عليهم أن يراجعوا الحق لما استبان لهم على لسان أبي بكر- رضي الله عنه-، ولمَّا اختلف الصحابة في بدرٍ، وأمر الله بالإصلاح ثنَّى ذلك بصفات المؤمنين (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)) (لأنفال:3) .
والولاءِ والبراء عقدٌ شرعي لا يشترطُ فيه مطلقُ التوافقُ، فالله سمَّى الطائفتين المقتتلتين باسم الإيمان، ثُمَّ أعقب تلك الآيةِ بالأمر بالإصلاح بين الإخوة المؤمنين، وأمر هُنا أيضاً بالتقوى.
إنَّ كثيراً من الخلافِ المسببِ للافتراق، خلافٌ حول مسائلَ يسعُ الخلاف فيها، ولا تعدُ أن تكون وجهاتِ نظرٍ قابلةٍ للأخذ والرد، وهذا الحماسُ المفرط للاجتهادات يُؤدي في أحيانٍ كثيرةٍ إلى شقاقٍ وفرقة.
ولا بدَّ في سبيلِ توحيدِ الصفِ من وجود قياداتٍ علميةٍ راشدة، تكونُ محطَّ ثقةٍ، فينفتلُ منها المختلفون بنفوسٍ مرضية.
أيُّها الأخوة: إنَّه إذا لم يمكن التوافق فلا أقل من السير في خطوطٍ متوازيةٍ، إن لم تتفق فلا أقل من أن لا تتقاطع، وقاعدة الشريعة العامة أنَّهُ لا واجب مع العجز، وأن التكليف بقدر الوسع.
إنَّ إثارةَ فقه الائتلاف على مستوى المؤسسات والأفراد، أمرٌ بات من ضرورياتِ العمل الإسلامي، ونحنُ اليوم بأمسِ الحاجة إلى تداولِ هذا الفقه وبكثافة.
وإنَّ الذي بيني وبين بين بني أخي *** وبين بني عمي لمختلف جداً
فإن أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم *** وإن نهشوا عرضي وفرت له عرضاً
ولا أحملُ الحقدَ القديمِ عليهم *** وليس رئيس القومِ من يحمل الحقدا
وهنا أمرٌ مهمٌ إذ لا بدَّ من التفكير بجديةٍ في واقعِ الجيلِ الصاعد حيال فقه التوافق والاختلاف، حتى لا تتكرر الأخطاء، ولا نزال بحمد الله نرى نماذجاً لمشروعاتٍ جادة قامت على الاتحاد، فأفلحت في مسيرتها، وجنت ثمارَ زرعها.
ولا بدَّ في هذا الصدد من تأملِ هدي القرآن والسنة في الأمر بالعدل مع الصديق والعدو، ومن قراءةٍ متأنيةٍ في السيرةِ النبويةِ وتراجمِ السلف، وهدي العلماء في الائتلاف.
إن العدل سمةٌ مميزةٌ لشريعتنا، عاش في كنفها البرُّ والفاجرُ، والمسلمُ والكافرُ، كل هؤلاءِ بالعدل يُحكمون ولا يُظلمون، حتى وإن أبغضنا الكافر فنحنُ مأمورون بالعدل معه، ذلك توجيهُ ربنا في كتابه العزيز: (( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )) (المائدة: من الآية8) .
قال ابن تيمية- رحمه الله- : وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغضٌ مأمورٌ به، فإذا كان البغضُ الذي أمرَ اللهُ به قد نُهيَ صاحبهُ أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغضِ مسلمٍ بتأويلٍ وشبهةٍ أو بهوى نفس ؟ فهو أحقُّ أن لا يُظلم، بل يُعدل عليه[1].
لقد فاق المسلمون في تاريخنا المجيد غيرهم في العدل، وتجاوزوا بعدلهم أهل الملة من المسلمين إلى أهل الذمة من اليهود والنصارى.
ويُذكر أنَّ عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- كتب إلى واليهِ على البصرة يقول له: ["ثم انظر من قِبَلك من أهل الذمة قد كَبُرت سِنُّه، وضعفت قوته وولّت عنه المكاسبُ، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحهُ وذلك أنَّهُ بلغني أنَّ أميرَ المؤمنين عمرَ- رضي الله عنه- مرّ بشيخٍ من أهلِ الذمةِ يسألُ على أبوابِ الناسِ فقال: ما أنصفناك إن كنَّا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيّعناك في كِبرك، ثم أجري من بيتِ المال ما يصلحه" [2].
إنَّ من مظاهر العدل قبول الحقِّ ممن جاء به، فالعبرةُ بالقولِ لا بالقائل، وفي قصةِ الشيطان مع أبي هريرة- رضي الله عنه- حين وكَّلهُ الرسول- صلى الله عليه وسلم - بحفظِ زكاة رمضان، ومجيءِ الشيطان إليه أكثرَ من مرة، حتى علّمه أن يقرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه، وأنَّهُ بذلك يكونُ محفوظاً من اللهِ ولا يقربه شيطانٌ حتى يصبح، في هذه القصة صدَّق الرسول- صلى الله عليه وسلم - القول وإن صدرَ من الشيطان، حيثُ قال: ((أما إنَّه قد صدقك وهو كذوب)) ([3]).
ومن فقه هذا الحديث وفوائده - كما قال ابن حجر رحمه الله - : إنَّ الحكمة قد يتلقّاها الفاجرُ فلا ينتفع بها، وتؤخذُ عنه فينتفعُ بها، وإنَّ الكافرَ قد يصدقُ ببعض ما يصدقُ به المؤمن، ولا يكون بذلك مؤمناً، وبأنَّ الكذّاب قد يصدُقُ [4].(8/195)
وفي هذا الصدد يُذكرُ من وصايا ابن مسعود- رضي الله عنه- قوله لرجلٍ قال له: أوصني بكلماتٍ جوامع، فكان ممَّا أوصاهُ به أن قال: ومن أتاك بحقٍّ فاقبلْ منه وإن كان بعيداً بغيضاً، ومن أتاك بالباطلِ فاردُدْه وإن كان قريباً حبيباً [5].
إننا حين نفقدُ هذا الميزانَ في قبول الحقِّ قد نرفض حقاً، لأنَّه جاءَ من شخصٍ نبغضه أو لا نهواه، أو لا نرتضي منهجهُ بشكلٍ عام، علماً بأنَّ قبول الحق الذي جاء به لا يعني موافقته في كل شيء، ولا الرضى عنه فيما يخطئُ فيه، وقد يضطرنا هذا الخلل في العدلِ في قبول الحقّ ورفض الباطل، لقبول زلّة خطأٍ من شخصِ نحبه، ونرتضي منهجهِ علماً بأنَّ رفضنا لهذه الزلَّة والخطأ منه، لا يعني بغضهُ ولا الانتقاص من قدره، ولا رفض بقية الحقِّ الذي جاء به.
إنَّه العدل الذي ينبغي أن نأخذ أنفسنا به، ونتمنى بهِ أن يُجري الله الحقَّ على ألسنتنا وألسنة خصومنا، وكم هو عظيمٌ الإمامُ الشافعيُّ- رحمه الله- حين قال: (ما ناظرت أحداً إلاَّ قلتُ: اللهمّ أجرِ الحقّ على قلبه ولسانه، فإن كان الحقُّ معي اتبعني، وإن كان الحقُّ معه اتبعته) [6].
وأين هذا يا مسلمون ممن يتمنون انحراف خصومهم، أو يرمون مخالفيهم بالباطل، ويتهمونهم وينفّرون الناس منهم وهم مسلمون، بل قد يكونون علماء، وقد يكون ما معهم من الحق أكثر من خصومهم، فإلى الله المشتكى، وكم يتلاعبُ الشيطان أحياناً ببعض المحبين، وكم يخطئُ هؤلاء وينسفون قواعد العدل وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعاً، وكم نظلم أنفسنا ونظلم غيرنا بتصنيف هذا، وتجريح ذاك، واتهام ثالث وإشعال معارك وهمية بين نفرٍ من المسلمين، الكاسبُ الأول والأخير منها هم الأعداء المتربِّصون والخاسر الأكبر هم المعتدون الفاقدون للعدل والإنصاف.
وإن كانت الخسارة تعمُّ والفتنة تقع على المسلمين! وأين نحنُ من هذا الموقف البديع والعدلِ حتى مع غير المسلمين يقدمه لنا شيخُ الإسلام ابن تيمية بسلوكه العمليِّ، فهو حين سعى بإطلاق سراح أسرى المسلمين من التتار أصرَّ كذلك على إطلاق سراح المأسورين من أهل الذمة قائلاً لمسؤول التتر: " بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمَتنا، فإنا نفكُّهم ولا ندعُ أسيراً لا من أهل الملَّة ولا من أهل الذمة" [7] .
فإذا أنصفَ هذا العالمُ الربّاني وعدلَ مع غير المسلمين، وكان سبباً لفكّ أسرهم، فماذا يقولُ من يسعى للوقيعة بإخوانه المسلمين ويتمنّى الضُّرَّ لهم بشكلٍ أو بآخر؟
إن من قواعد الائتلاف إنصاف عامة المسلمين وخاصتهم.. فكيف السبيلُ لهذا الإنصاف؟
إن مما لا شك فيه أن المسلمين - قديماً وحديثاً - يتفاوتون في مراتب الإيمان، فهناك من هم في الذروة من الإيمان، وهُناك من هُم في أدنى درجات الإيمان، وهناك طائفةٌ في الوسط بين هؤلاءِ وأولئك، ولكن الجميع تجمعهم رابطةُ الإسلام، وحسابهم على الله، وما لم يخرج المسلم من الملة، فإنَّ لهُ حقاً في الموالاةِ على قدر إيمانه.
وما من شكٍ كذلك أنَّ الفرقة الناجية من خيرةِ المسلمين، وهم أهلُ السنة والجماعة الذين قالوا وعملوا بالكتاب والسُّنة.
ولكن دائرةَ المؤمنين تتسعُ لتشملَ غيرَ الفرقة الناجية من عُصاة المسلمين، ومن وجد عندهم نوع انحراف لكنهم في دائرة الإسلام، وهذا ما نصَّ عليه الشيخُ ابن تيمية- رحمه الله- حين قال: "وإذا قال المؤمن : (( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ )) (الحشر: من الآية10) .
يقصد كل من سبقهُ من قرونِ الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويلِ تأوّله فخالف السنة، أو أذنب ذنباً، فإنَّهُ من إخوانه الذين سبقوهُ بالإيمان، فيدخلُ في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقةً، فإنَّهُ ما من فرقةٍ إلاَّ وفيها خلقٌ كثيرٌ ليسوا كفاراً، بل مؤمنون فيهم ضلالٌ وذنبٌ، يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاةُ المؤمنين" [8].
[1] منهاج السنة: 5/127.
[2] أحكام أهل الذمة لابن القيم، تحقيق صبحي الصالح 1/38.
[3] رواه البخاري برقم 2311.
[4]الفتح 4/616 ح 2311.
[5] الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 4/586، عن كتاب "فقه الائتلاف" محمود الخزندار ص98.
[6] عن فقه الائتلاف ص104.
[7] حياة شيخ الإسلام، محمد بهجت البيطار ص15، عن الرسالة القبرصية، فقه الائتلاف: 47.
[8] منهاج السنة: 5/240، 241 عن فقه الائتلاف: 186.
===============(8/196)
(8/197)
أسس الانتصار على الأعداء
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102) . (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) (النساء:1) . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) (الأحزاب:70-71) .
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد ، أيَّها المسلمون :
فإن أمة الإسلام في هذه الأيام تعيش وتواجه متغيراتٍ كثيرة ، لأسبابٍ منها: وجود الانفتاح الإعلامي العالمي، وعولمة الغرب، وتفرق المسلمين وتنوع مناهجهم، سواءً فيما يدعون إليه، أو في كيفية مواجهة أعداء الدين على مختلف مللهم ونحلهم. وطوائف أهل البدع الضالة على تفاوت درجاتها في الضلالة.
ومواجهة ذلك المواجهة الصحيحة، تكون بقوة الحق الواضح المستبين ، بالتأصيل العلمي والمنهجي في حياة المسلمين عامة وأهل العلم والدعوة إلى الله خاصة، وهذا الذي سار عليه سلفنا الصالح منذُ زمن الصحابة- رضي الله عنهم- ومن جاء بعدهم، من أئمة الهدى في القرون المفضلة وما بعدها.
أيها الأخوة في الله : إن أي انحرافٍ عن منهجهم- بتنازلاتٍ عن أصول الدين ومسلماته، أو بالتقاربِ مع طوائفِ الضلالِ والبدع، أو الرضا براياتٍ جاهليةٍ علمانية، لتحقيق مصالح قومية ونحوها، أو تبني أطروحاتٍ كلاميةٍ عقلانيةٍ منحرفة من أجل التقاربِ مع حضارة الغربِ وثقافته، وعدم الصدام معها- أو غير ذلك من ألوان الانحراف، فلن يزيدنا إلا تفرقاً وضعفاً وهزيمة أمام أعدائنا.
وعلى ذلك فالدعوة إلى العودة إلى منهاج السلف الصالح علماً وعملاً، وسلوكاً ومنهجاً، هو الواجب عند اختلاف الأمة وتفرقها، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفصيل ذلك يطول، وقد كُتبت فيه والحمد لله دراسات متعددة.
عباد الله :
ولعلي أشير- في هذه العجالة- إلى جملةٍ من الأسس التي لابد منها، أهمها:
اليقين القاطع الذي لا يتزعزع بصلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، ومنه هذا العصر الذي نعيشه، بعولمته، وتقنياته، وقوة أعداء الإسلام المادية، وضعف المسلمين وتأخرهم.
وليس هذا من باب الأماني، ولا من باب التعلق بمطلق الغيبيات الذي يحاول التيار العلماني أن يفسر به الحلول الإسلامية المؤصلة، ولكنه حقائق هذا الدين علماً وعملاً، وتاريخاً وحضارةً وتجربة، وشهاداتٍ من الأعداء تلجمُ أفواه هؤلاء الذين ما فتئوا يطعنون في هذا الدين وحقائقه العقدية والشرعية الكاملة، وها هي تجاربهم العلمانية- على مختلف مدارسها الفكرية- وعلى مدار قرابة المائة عام، لم تقدم فكراً مؤصلا، ولا مواجهةً لحضارة الغرب، ولا نصراً على الأعداء، ولا حياةً هنيئةً لشعوبهم المسكينة، بل جرت الأمة إلى ألوانٍ من الهزائم العسكرية والسياسية، والثقافية والاجتماعية والتقنية، ونحن في مزيد.
ولكن ينبغي أن يعلم جميع من يحبُّ هذا الدين، ويفرح بالانتساب إليه، ويرى فيه الحلول المثلى لواقعنا، أن هذا لا يكفي، وأن مجرد العواطف الجياشة لا تصنعُ شيئاً بمجردها.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله الذي أعزَّنا بالدين، وجعلنا خيرَ أمةٍ أخرجت للعامين، وأشهد ألا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له، ولي المؤمنين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله سيدُ الأولين والآخرين- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الدعاة المجاهدين وسلم- تسليما.
فأيها المسلمون :
لابد- إن كنا جادين في أخذ هذا الدين بقوة- من أمورٍ ثلاثة:
الأول : العودة الصادقة إلى هذا الدين والثبات عليه، ونعني بذلك أن تعود الأمة
إلى إسلامها، عقيدةً وشريعةً ومنهاج حياة، وثقةً بهذا الدين وصلاحيته، وأن تأخذه بقوةٍ وصدق مع ربها تبارك وتعالى، وأن لا يزيدها عداءَ الأعداء واتهاماتهم وأقاويلهم إلا ثباتاً على هذا الدين، وثقةً به وتمسكاً بحبل الله المتين.
ومن ثم فلا مجال في هذه الأمة- إن أردنا العودة حقاً وصدفاً- للمشككين والمرتابين والمنافقين، فضلاً عن الملاحدة والزنادقة المعلنين رفضهم لهذا الدين.(8/198)
الثاني : اليقين التام بأن هذا الدين حق، لأنَّه من عند الله تعالى، الملك الحق المبين،الذي أرسل خاتم رسله محمداً e، لتكون رسالته ناسخةً لما سبقها من الديانات، فدين اليهود أو النصارى لو فرض أن أهله تخلوا عن كل كفرٍ وشرك، عرفوا به ولم يؤمن!ا ويتبعوا محمداً e، فهم على ضلالٍ وكفرٍ بحكم رب العالمين، قال تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85).
ويتبع ذلك اليقين بأن الله ناصرُ هذا الدين، وأهله المتمسكين به كما أمر وشرع،وقد جاءت السنة النبوية الصحيحة مبينةً بقاءَ هذا الدين وأتباعه، ونصرهم إلى أن تقوم الساعة، وعليه فالمستقبل- على كل الأحوال- لدين الإسلام.
وعلى المسلمين أن يعوا هذه الحقائق، وهم يقدمون دينهم إلى العالمين جميعاً، هدى ونوراً ورحمة وإنقاذاً لهم من عذاب الله تعالى، وأن يتمسكوا به وهم يواجهون أصناف الكفار والأعداء، على مختلف عقائدهم ومللهم ونحلهم.
الثالث : الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وهذا يقتضي:
أ - العمل بهذا الدين وتطبيقه في واقع حياتنا الخاصة والعامة، علماً وعملاً، عقيدةً وشريعة، عبادةً ومعاملات ،حكاماً ومحكومين،ولنعلم أنه مالم نعمل بهذا في خاصة أنفسنا نحن المسلمين، فلن نستطيع تقديم هذا الدين للآخرين ودعوتهم إليه.
ب- الأخذ بالأسباب المادية التي أمر بها شرعنا الحنيف، فهي في النهاية شرعيةٌ مادية، وذلك بأن نأخذ بأسباب ووسائل القوةِ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ، وذلك في جميع المجالات المختلفة الاجتماعيةِ والزراعيةِ، والصناعيةِ والاقتصادية،والتقنية على مختلف فروعها.
وديننا والحمد لله لم يعرف- قديماً أو حديثاً- الصراعَ بين حقائقهِ الثابتة، والعلمُ المادي الصحيح النافع !! وإن كانت التيارات العلمانية في العالم الإسلامي- تقليداً لظروف علمانيةَ الغرب، وصراع الكنيسة والعلم عندهم، تحاول أن تنقل الصراع نفسهُ إلى عالم الإسلام والمسلمين، نظراً لبغضها وحقدها على دين الإسلام، وجهل بعضهم به.
ودين الإسلام إنما يحاربُ إلحاد الغرب وزندقته،وانحرافه وتحلله وضلاله، واستعماره وظلمه، وحربه الضروس ضد الإسلام أمام التقدم العلمي المادي النافع- على مختلف تخصصاته وفروعه- فهو من أكبر الداعين إليه .
وها هي شواهد حضارة الإسلام تدلُ على ذلك.
اللهم أعز الإسلام وأنصر المسلمين ...
=============(8/199)
(8/200)
صور الأسرى العراقيين
يقول الله عز وجل : (( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) (الإنسان:3) إنَّما هما سبيلان لا ثالث لهما, كفرٌ أو إسلام, شكرٌ أو جحود, والبشرية كلَها منقسمة بين هذين المعسكرين, فالإسلام له ثقافته ونظمه وثوابته, ونظرته للإنسان والحياة والكون, وغير المسلمين بكل فئاتهم ومللهم ونحلهم, يُمثلون معسكر الكفر وقيمه وثقافته, يقول عز وجل: (( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)) فليس ثمة اختيار وسط بين الطريقين, منذُ أن أشرقت شمس الإسلام, وفرقاءَ الكفر تحاربه وتناوئه, وتحاولُ إطفاء نوره (( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)).
إنَّ الكفرَ في حقيقتهِ ظُلمٌ وقسوةٌ وطغيان, إذ أنه مؤسس على إيذاءِ الله وظلمِ النفس, وتكذيب الرسل والكتب, وهضم الآخرين, (( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )) ظلم للحقيقةِ الكبرى لوحدانية الله, ومن ظلم الحق البين, وآذى خالقه الذي برأه, وظلم نفسهُ التي بين جنبيه من تورط في هذه الجرائم, فلن يعدلَ مع أحدٍ, ولن يرقَ لمخلوق, ولن يحترم حقاً ولا حقيقة, ودونكم شواهد ذلك, من تصرفات العالم الحر, ودعاة التسامح والانفتاح, دونكم هذه الفظائع التي ترتكب في العراق, وقد طارت وسائلُ الإعلامِ بغيضٍ من فيض, وقليلٍ من كثير, ولكنَّها نماذج يفضح الله أدعياء القيم والمباديء الزائفة.(8/201)
إنَّ ما رأيتموه في وسائل الإعلام قليل, إنَّ التصرفات الهمجية الوحشية, التي يمارسُها الصليبيون في العراقِ ضدَّ الأسرى, إنَّها تعبيرٌ صادقٌ, وتمثيلٌ واضح, لثقافةِ أمةٍ ارتكست في الكُفر بالله, ومضت تزعمُ الحضارة, وتنعق بقيم العدلِ والرحمةِ والنزاهة, إنَّ صورَ الأسرى الذين تسحق إنسانيتهم في العراق, وتنتهك آدميتهم, ويدمرون من داخلهم بلا رحمة, ودون مُسوغ, إنَّما هي واحدة من شواهدِ الانحطاطِ في أخلاق الغُزاة ، بإضافة إلى هذه الصور ما تقومُ به شركاتهم هُناك, من أكبرِ عمليات لصوصية, تشهدُها البشرية منذُ تاريخها, من نهب لما فوق الأرض وما تحتها من خيرات ومقدرات, واجعل معها ما يمارسهُ الجيش البربري من حصارٍ آثم للحقائق, واغتيال لصادقِ الأنباء, يستبيحون في سبيله قتلَ الصحافيين, وتهديد القنوات, بل وتهديد الدول التي تستضيفُها, ويجنُّ جُنونهم إن ظهرت صورة أو تصريح أو خبر دون أن يكون من إعدادهم و إخراجهم, كل ذلك تمارسه أكبر دول الصليب, التي تعد ما وصلت إلى مثلٍ ومباديء, هو نهاية التاريخ, وقمة ما يمكن أن تصل له الإنسانية, وتعد نفسها رمز الحرية, فإنَّ صور الأسرى أيُّها المسلمون جاءت متناغمةً منسجمةً مع تصرفاتهم, بل مع تاريخهم مع الهُنود الحمر, والشعوب السوداء, فالمسألةُ ليست تجاوراً فردياً, يمكن درءَه باعتذارٍ لذ ق, أو تصريحٍ مراوغ, إنَّها ثقافة متأصلة, ومنهج ثابت في التعامل مع الآخر كما يقولون, وكل هذه الصنائع التي تُخجلُ الإنسانية, وتزري بالبشرية, لا عجب منها ولا جديد فيها, فهذا هو الكفرُ في أوضحِ صوره، فكيف يعدلُ الكافر وقد جار على ربه؟! وكيف يرحمُ ونبأنا اللهُ بخبثه وهو خالقه, إنَّه ميِّتُ القلبِ, كيف يلينُ قلبهُ وقد قسا, حتى صارَ كالحجارةِ أو أشد قسوةً, كيف ترقُ قُلوبهم وقد شهدوا على أنفسهم, " وقالوا قُلوبُنا غلف, " أما شُعورُهم تجاهنا فهو مفضوحٌ مكشوف, (( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر)) (( وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ )) , (( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوء)) فمثل هذه الجرائم البشعة لا تفاجئُنا ولا نستغربُها, ولكن الذي لا نفهمهُ نعجبُ منه, أن يقومَ فئاتٌ من أبنائنا وإخواننا يسوقونَ لهذه الأمم التي هذه ممارساتها, فلله كيف ينخدعون بأمةٍ فضحها القرآن, وظهرت مخازيها على العيان, . كيف يريدون لأمةِ الإسلامِ أن تخرُجَ من النور إلى الظلمات, ومن عدلِ الإسلام إلى جورِ الأديان, رفقاً بأمتكم أيَّها المتنورون, فتلك الحضارة التي تُنشدون, أولئك هم القوم على حقيقتهم, قد فضحهمُ كفرهم بالله وبغضهم لعباده, إنَّها فرصة للمخدوعين أن يُؤدبوا إلى دين الله, فما مرت البشريةُ ولا جربت ديناً خيراً منه, أما دعاةُ التغريب, ووُكلاءُ الغربِ المحليين, الذين يُدركون حقائقَ الأمورِ, مع ذلك يدفعون أمتهم دفع من لا يرحم إلى مستنقعات الكفر, فنقولُ لهم إلى أين ؟ أين تذهبون بنا؟ فما نراهُ في العراق من استباحةٍ لحقِّ الإنسان في أرضه وماله, ودينهِ وخُلقهِ وحيائه, بل في آدميتهِ, وما نشهدهُ في فلسطين من عداوةٍ للإنسانِ والشجر, والثمرِ والماءِ والحياةِ والأحياء, كل تلك هي نماذج الحضارة التي تسوقونَها, والقيم التي ترجون لها, إنَّ أمريكا التي تُبارك هذه الفظائع, هي ذاتها التي تُريدُ أن تُعلمنا كيف تحترم الآخر, وكيف تحترم العدالةَ؟ وكيف نضمن حريةَ الرأيِ والتعبير؟ وكيفَ نحفظُ للإنسانِ حقهُ, حتى وإن كان أسيراً أو متهماً, ماذا لدى العلمانية البذيئة، التي آذتنا في قِيمنا وأخلاقنَا وثوابتنا, وأزرت على نسائنا حشمتهنَّ, ولمزت تعليمنا ومعلمينا، وشنَّعت بمساجدنا ودعاتنا, ماذا لديها لتُقدمه غير مخازي سادتهم الصليبيين .
ما أشبهَ الليلة بالبارحة!! بالأمس سقطت الشيوعية, وكان سقوطاً مدوياً, وحامل الخزيِّ بمن كانوا ينعقون بمبادئها وظلوا, واليوم وأمام أعين العالمِ المخدوع, تتهادى منظومة القيم, التي كانت في الأمس رأس ماليةً, تُبشر بها وتهدد من يرفضها, هي ذي اليوم تنكشف في كوبا وأفغانستان, والعراقَ وفلسطين, بل هي قلب بلادهم, تنكبوا قيمهم بما آمنوا من قبل, فأينَ دعاة الانفتاح؟ على أيِّ شيءٍ تريدون الانفتاح؟ وأينَ المنادون بالتعددية؟ أينَ المبادئُ التي تستحقُ أن تُزاحم قيم الإسلام ؟! الله أكبر, ليس على وجه الأرضِ حضارة تطاول حضارةَ الإسلام, وكيف لنظم يصنعُها البشر, ويلفقها الخلق أن تزاحم ديناً أنزلهُ الله .(8/202)
لم نكن بحاجةٍ إلى صورٍ تُنشر, وأخبارٍ تُذاع, أو تحليلاتٍ تُكتبُ, حتى نفهمُ أعداءَنا، وما حاجتنا لذلك, وقد نبئنا القرآن العظيم بمواقفهم معنا, ومشاعرهم تجاهنا, وكيف تحدثنا أنفسنا أن أعيننا لهم, وقد أنزل الله علينا في كتابه : (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) (الأنعام:153) , وقال سبحانه : (( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (لأعراف:3) , وقال عز وجل: ((وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ) (القصص:86) .
واعلموا أنَّ هذه الانتكاسات الحضارية, والانهيارات القيمة, التي يُمنَّى بها أعداؤنا, إنَّما هي مقدمات الفناء, ودلائل الزوال, ولذلك أوجِّهُ خطابي للدُعاة وحملةِ الحق, فالله عز وجل قد أرادَ هذا الدين لكلِ البشر, بل لكلا الإنس والجن, فقال سبحانه: (( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ )) فرسالةُ الإسلام ومنهجه, ونظامهِ وثقافته, هي هبةُ اللهِ للبشرية جمعاءْ : (( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً )) .
فالإسلام: هو النظام العالمي, وهو الثقافة الكونية التي أرادها الله لخلقه, فلا شيءَ يستحقُ العولمة غيره, والبشرية بأمسِ الحاجة لهديه ونوره, ومهمتنا هي إقامة هذا الدين, والدعوة إليه, والتبشير بسيادته, والتوطئة لقيادته, فالبشرية تُعاني من تخبط القيادة الكفرية, وتُقاسي بطشها وصلفِها واستبدادها, ولا خلاصَ لها إلاَّ بهذا الدين, فالإسلامُ: هو الدينُ الذي يملكُ المشروعُ الحضاري الإنساني العالمي المتكامل, فهو دينُ الرحمة والعدل والقسط, هو دينُ الحرية والنزاهة والصدق, تاريخهُ مليءٌ بشواهدِ الرُقي والتذوق, ولا سبيلَ لنشرِ هذا الدين إلاَّ بالانخراطِ الكامل في مشاريعِ الدعوةِ, والتأكيد على شرعةِ الجهاد, والجهاد رُغمَ الألم الذي نقاسيه من عدونا الحالي, لن يكونَ للانتقامِ والثأرِ والتشفِّي, الجهاد لا يقوم إلاَّ للدعوةِ, ولا يسيرُ إلاَّ بالرحمة والعدلِ, الجهاد ما شرعه الله إلاَّ لنشر الإسلام, وإقامة سلطان الله, وتمكين البشر من ممارسةِ حرياتهم الدينية, ثمَّ على دُعاةِ الإسلام أن لا تستغرقهم جزئيات الأحداث, وعارض القضايا, فليست قضيتنا مع الصليبيين, إنَّ ذلك الرئيس المنافون له يحكمهم, إذ أنَّ ذلك الحزب المتغطرس يقودهم, وليست مُشكلتنا مع اليهود في حزبٍ أو قائدٍ, أو قضية اغتيال شيخٍ أو طفلٍ, مشكلتنا مع أولئك وهؤلاءِ أنَّهم كُفَّار, يُريدون فرض كُفرهم, ونحنُ مسلمون مأمورون بتبليغ ديننا.
==============(8/203)
(8/204)
لا عزة لنا إلا بالإسلام
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن أمة الإسلام في هذه الأيام تعيش وتواجه متغيراتٍ كثيرة ، لأسبابٍ منها: وجود الانفتاح الإعلامي العالمي، وعولمة الغرب، وتفرق المسلمين وتنوع مناهجهم، سواءً فيما يدعون إليه، أو في كيفية مواجهة أعداء الدين على مختلف مللهم ونحلهم. وطوائف أهل البدع الضالة على تفاوت درجاتها في الضلالة.
ومواجهة ذلك المواجهة الصحيحة، تكون بقوة الحق الواضح المستبين ، بالتأصيل العلمي والمنهجي في حياة المسلمين عامة وأهل العلم والدعوة إلى الله خاصة، وهذا الذي سار عليه سلفنا الصالح منذُ زمن الصحابة- رضي الله عنهم- ومن جاء بعدهم، من أئمة الهدى في القرون المفضلة وما بعدها.
وأي انحرافٍ عن منهجهم- بتنازلاتٍ عن أصول الدين ومسلماته، أو بالتقاربِ مع طوائفِ الضلالِ والبدع، أو الرضا براياتٍ جاهليةٍ علمانية، لتحقيق مصالح قومية ونحوها، أو تبني أطروحاتٍ كلاميةٍ عقلانيةٍ منحرفة من أجل التقاربِ مع حضارة الغربِ وثقافته، وعدم الصدام معها- أو غير ذلك من ألوان الانحراف، فلن يزيدنا إلا تفرقاً وضعفاً وهزيمة أمام أعدائنا.
وعلى ذلك فالدعوة إلى العودة إلى منهاج السلف الصالح علماً وعملاً، وسلوكاً ومنهجاً، هو الواجب عند اختلاف الأمة وتفرقها، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفصيل ذلك يطول، وقد كُتبت فيه والحمد لله دراسات متعددة.
ولكني أشير- في هذه العجالة- إلى جملةٍ من الأسس التي لابد منها، أهمها:
اليقين القاطع الذي لا يتزعزع بصلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، ومنه هذا العصر الذي نعيشه، بعولمته، وتقنياته، وقوة أعداء الإسلام المادية، وضعف المسلمين وتأخرهم.
وليس هذا من باب الأماني، ولا من باب التعلق بمطلق الغيبيات الذي يحاول التيار العلماني أن يفسر به الحلول الإسلامية المؤصلة، ولكنه حقائق هذا الدين علماً وعملاً، وتاريخاً وحضارةً وتجربة، وشهاداتٍ من الأعداء تلجمُ أفواه هؤلاء الذين ما فتئوا يطعنون في هذا الدين وحقائقه العقدية والشرعية الكاملة، وها هي تجاربهم العلمانية- على مختلف مدارسها الفكرية- وعلى مدار قرابة المائة عام، لم تقدم فكراً مؤصلا، ولا مواجهةً لحضارة الغرب، ولا نصراً على الأعداء، ولا حياةً هنيئةً لشعوبهم المسكينة، بل جرت الأمة إلى ألوانٍ من الهزائم العسكرية والسياسية، والثقافية والاجتماعية والتقنية، ونحن في مزيد.
ولكن ينبغي أن يعلم جميع من يحبُّ هذا الدين، ويفرح بالانتساب إليه، ويرى
فيه الحلول المثلى لواقعنا، أن هذا لا يكفي، وأن مجرد العواطف الجياشة لا تصنعُ شيئاً بمجردها.
بل لابد- إن كنا جادين في أخذ هذا الدين بقوة- من أمورٍ ثلاثة:
الأول : العودة الصادقة إلى هذا الدين والثبات عليه، ونعني بذلك أن تعود الأمة
إلى إسلامها، عقيدةً وشريعةً ومنهاج حياة، وثقةً بهذا الدين وصلاحيته، وأن تأخذه بقوةٍ وصدق مع ربها تبارك وتعالى، وأن لا يزيدها عداءَ الأعداء واتهاماتهم وأقاويلهم إلا ثباتاً على هذا الدين، وثقةً به وتمسكاً بحبل الله المتين.
ومن ثم فلا مجال في هذه الأمة- إن أردنا العودة حقاً وصدفاً- للمشككين والمرتابين والمنافقين، فضلاً عن الملاحدة والزنادقة المعلنين رفضهم لهذا الدين.
الثاني : اليقين التام بأن هذا الدين حق، لأنَّه من عند الله تعالى، الملك الحق المبين،الذي أرسل خاتم رسله محمداً e، لتكون رسالته ناسخةً لما سبقها من الديانات، فدين اليهود أو النصارى لو فرض أن أهله تخلوا عن كل كفرٍ وشرك، عرفوا به ولم يؤمن!ا ويتبعوا محمداً e، فهم على ضلالٍ وكفرٍ بحكم رب العالمين، قال تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85).
ويتبع ذلك اليقين بأن الله ناصرُ هذا الدين، وأهله المتمسكين به كما أمر وشرع،وقد جاءت السنة النبوية الصحيحة مبينةً بقاءَ هذا الدين وأتباعه، ونصرهم إلى أن تقوم الساعة، وعليه فالمستقبل- على كل الأحوال- لدين الإسلام.
وعلى المسلمين أن يعوا هذه الحقائق، وهم يقدمون دينهم إلى العالمين جميعاً، هدى ونوراً ورحمة وإنقاذاً لهم من عذاب الله تعالى، وأن يتمسكوا به وهم يواجهون أصناف الكفار والأعداء، على مختلف عقائدهم ومللهم ونحلهم.
الثالث : الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وهذا يقتضي:
أ - العمل بهذا الدين وتطبيقه في واقع حياتنا الخاصة والعامة، علماً وعملاً، عقيدةً وشريعة، عبادةً ومعاملات ،حكاماً ومحكومين،ولنعلم أنه مالم نعمل بهذا في خاصة أنفسنا نحن المسلمين، فلن نستطيع تقديم هذا الدين للآخرين ودعوتهم إليه.
ب -الأخذ بالأسباب المادية التي أمر بها شرعنا الحنيف، فهي في النهاية شرعيةٌ مادية، وذلك بأن نأخذ بأسباب ووسائل القوةِ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ، وذلك في جميع المجالات المختلفة الاجتماعيةِ والزراعيةِ، والصناعيةِ والاقتصادية،والتقنية على مختلف فروعها.(8/205)
وديننا والحمد لله لم يعرف- قديماً أو حديثاً- الصراعَ بين حقائقهِ الثابتة، والعلمُ المادي الصحيح النافع !! وإن كانت التيارات العلمانية في العالم الإسلامي- تقليداً لظروف علمانيةَ الغرب، وصراع الكنيسة والعلم عندهم، تحاول أن تنقل الصراع نفسهُ إلى عالم الإسلام والمسلمين، نظراً لبغضها وحقدها على دين الإسلام، وجهل بعضهم به.
ودين الإسلام إنما يحاربُ إلحاد الغرب وزندقته،وانحرافه وتحلله وضلاله، واستعماره وظلمه، وحربه الضروس ضد الإسلام أمام التقدم العلمي المادي النافع- على مختلف تخصصاته وفروعه- فهو من أكبر الداعين إليه .
وها هي شواهد حضارة الإسلام تدلُ على ذلك.
===============(8/206)
(8/207)
القوامة .. دكتاتورية وتسلط أم تهذيب وتبسط؟
* ما هي القوامة؟
*سبب قوامة الرجل على المرأة
*هل تعني القوامة إلغاء شخصية المرأة؟
*القوامة: دكتاتورية وتسلط أم تهذيب وتبسط؟
*استجابة المرأة الزوجة سرّ نجاح زواجها!
*هل قوامة الرجل على المرأة مقصورة على الحياة العائلية؟
الحمد لله رب العالمين على نعمه وآلائه المتوالية، وأصلي وأسلم على نبيه الأمين الذي هدى البشرية والإنسانية لدين رب العالمين، وبعد:
فقد خلق الله ـ الإنسان، وجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، وحثنا على التعارف، فقال سبحانه : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)) ،وبيَّن تعالى أنَّ ميزان كرامة الإنسان لديه، ذكراً وأنثى، هو التقوى، فقال سبحانه : (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )) ( [الحجرات/13) .
وكتاب الله تعالى جاء بتحقيق مصالح الناس، ودرء المفاسد عنهم، في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: (( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )) [فصلت:43،42].
وقال تعالى : (( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ )) [النحل:90].
وقال جلَّ في علاه: (( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ )) [الأنعام:38].
ومن هذه الأمور التي جاء الشرع المطهر ببيانها بياناً وافياً (في القرآن والسنة)، ثم أفاض علماء الأمة في شرحها وتفسير مجملها للناس: أمر" القوامة"، فقد قال الله تعالى: (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)) ( [النساء/ 35،34].
ماهي القوامة؟
لا شك أنه تعالى أثبت في القرآن قوامة الرجل على المرأة،والنقاش مع الذين يدورون في رحى الخلاف:التحديد لماهية القوامة،وكيف يقوم الرجل على امرأته؟ وما معنى القوامة هذه؟
والحمد لله فإنَّ أهل العلم السابقين تكلموا عن ذلك ،وشرحوا النصوص الربانية القرآنية بكل تحقيق وتدقيق، فأحسنوا وأبدعوا في إيصال معانيها وفوائدها النفيسة، ولا ريب أنهم أعلم بمقصود الآية منَّا؛لأنهم قريبون من عهد النبوة، ولأنَّ كثيراً منهم تلقى العلم عن الصحابة والتابعين، فسألوهم عن مراد الله ورسوله في كل آية، ثم إنَّ الرسول تكلم عن القرون التي عاشوا فيها فمدحها وأثنى عليها، فقال: "خير أمتي القرن الذي بُعثتُ فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يخلف قوم يحبون السَّمن، يشهدون قبل أن يُستشهدوا " (1)
وقد تكلم المفسرون في شرح آية القوامة السابقة كلاماً بديعاً، وهاأنذا ألتقط شيئاً من درر كلامهم في شرحهم لماهية القوامة وكيفيتها:
قال ابن كثير في تفسيره عن هذه الآية:
(( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء)) أي: الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء)) : يعني: أمراء:عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة لأهله، حافظة لماله،وكذا قال مقاتل والسدي والضحاك..وقال الشعبي في هذه الآية: (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء)) قال: " الصداق الذي أعطاها... (2)
وقال الشوكاني في تفسيره عن هذه الآية الكريمة:
"والمراد: أنَّهم يقومون بالذب عنهن، كما تقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعية، وهم أيضاً يقومون بما يحتجن إليه من النفقة، والكسوة، والمسكن، وجاء بصيغة المبالغة قوله: (( قَوَّامُونَ)) ليدل على أصالتهم في هذا الأمر" اهـ.
وقال أبوبكر العربي في كتابه "أحكام القرآن":
"قوله: (( قَوَّامُونَ)) يقال: قوَّام وقيِّم، وهو فعال وفيعل من قام، المعنى هو أمين عليها، يتولى أمرها، ويصلحها في حالها، قاله ابن عباس، وعليها له الطاعة.. ثم قال عندما ذكر القوامة: "فعليه أن يبذل المهر والنفقة، ويحسن العشرة، ويحجبها، ويأمرها بطاعة الله، ويرغب إليها شعائر الإسلام من صلاة وصيام إذا وجبا على المسلمين، وعليها الحفظ لماله، والإحسان إلى أهله، والالتزام لأمره في الحجة وغيرها إلا بإذنه، وقبول قوله في الطاعات" اهـ.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره:(8/208)
"يخبر الله تعالى أنَّ : (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء))أي: قوَّامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه، وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهم بذلك، وقوَّامون عليهن أيضاً، بالإنفاق عليهن،والكسوة، والمسكن" اهـ.
وبمجموع كلام هؤلاء المفسرين نستنتج أنَّ معنى القوامة يدور على خمسة أشياء:
1ـ أنَّ الرجل كالرئيس على المرأة والحاكم عليها والأمير.
2ـ مؤدبها إذا اعوجت وأخطأت وضلَّت طريق الهدى.
3ـ أنَّ الرجل يبذل لها المهر والصداق.
4ـ أنَّ الرجل يتولى أمرها ويصلح حالها، ويحسن عشرتها، ويأمرها بالاحتجاب عن الأجانب ،وأهل الشر والفتنة.
5ـإلزامهن بحقوق الله تعالى،بالمحافظة على فرائضه، والكف عما نهى عنه.
وقد يتساءل البعض لماذا كانت القوامة قد اختص بها الرجل على المرأة ولم يكن ذلك بالعكس،فيقال:ذكرابن العربي ـ رحمه الله ـ في تفسيره أحكام القرآن (3) أنَّ سبب تفضيل الرجل على المرأة في القوامة"وذلك لثلاثة أشياء:
الأول : كمال العقل والتمييز.
الثاني : كمال الدين والطاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرعلى العموم، وغير ذلك، وهذا الذي بيَّن صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للبّ الرجل الحازم منكن. قلن: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: أليس إحداكن تمكث الليالي لا تصلي ولا تصوم، فذلك من نقصان عقلها". وقد نصَّ الله سبحانه على ذلك بالنقص، فقال: )) أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى((.
الثالث : بذلهُ لها المال من الصداق والنفقة، وقد نصَّ الله عليها ها هنا" اهـ.
قال الشوكاني (4) في قوله تعالى: (( بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ )) قال: (( بِمَا فَضَّلَ اللّهُ)) للسببية، والضمير في قوله: (( بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ (( للرجال والنساء، أي: إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضَّلهم به من كون فيهم الخلفاء، والسلاطين، والحكام، والأمراء، والغزاة، وغير ذلك من الأمور.
قوله: (( وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ )) أي: وبسبب ما أنفقوا من أموالهم، وما مصدرية، أو موصولة، وكذلك هي في قوله: (( بِمَا فَضَّلَ اللّهُ)) ومن تبعيضية، والمراد: ما أنفقوه في الإنفاق على النساء، وبما دفعوه في مهورهن من أموالهم، وكذلك ما ينفقونه في الجهاد، وما يلزمهم في العقل".
وقال الشيخ محمد رشيد رضا (5): "وسبب ذلك أنَّ الله تعالى فضَّل الرجال على النساء في أصل الخلقة، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة، فكان التفاوت في التكاليف والأحكام أثر التفاوت في الفطرة والاستعداد، ومن ثم سبب آخر كسبي، يدعم السبب الفطري، وهو ما أنفق الرجال على النساء من أموالهم، فإنَّ في المهور تعويضاً للنساء ومكافأة على دخولهن بعقد الزوجية تحت رياسة الرجال، فالشريعة كرَّمت المرأة إذ فرضت لها مكافأة عن أمر تقتضيه الفطرة ونظام المعيشة، وهو أن يكون زوجها قيِّماً عليها، فجعل هذا الأمر من قبيل الأمور العرفية التي يتواضع النَّاس عليها بالعقود لأجل المصلحة، كأنَّ المرأة تنازلت باختيارها عن المساواة التامة وسمحت له بأن يكون للرجل عليها درجة واحدة هي درجة القوامة والرياسة، ورضت بعوض مالي عنها... ".
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره عن آية : (( بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) : "أي: بسبب فضل الرجال على النساء،وأفضالهم عليهم..فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة؛ من كون الولايات مختص بالرجال، والنبوة والرسالة، واختصاصهم بكثير من العبادات، كالجهاد،والأعياد،والجمع، وبما خصَّهم الله به من العقل، والرزانة، والصبر، والجَلَد، الذي ليس للنساء مثله، وكذلك خصَّهم بالنفقات على الزوجات، بل وكثير من النفقات يختص بهاالرجال، ويتميزون عن النساء. (6)
ولعلّ هذا سر قوله : (( وَبِمَا أَنفَقُواْ)) وحذف المفعول، ليدلّ على عموم النفقة، فعلم من هذا كله أنَّ الرجل كالوالي والسيد لامرأته، وهي عنده عانية أسيرة، فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به..." اهـ.
وبعد هذا التتبع والاستقراء، نستنبط من كلام هؤلاء العلماء سبب قوامة الرجل على المرأة :
1ـ كمال عقل الرجل وتمييزه.
2ـ كمال دينه كله ؛فطبيعة التي خلق عليها جعلت تكليفه أكثر من المرأة .
3ـ إعطاء المرأة صداقها ومهرها، والنفقة عليها.
4ـ أن الرجال عادة يكون منهم الأنبياء والرسل والخلفاء والغزاة والأمراء.
5ـ أنَّ الرجل بطبيعته أقوى من المرأة قوة بدنية،ونفسية، فهو يتحمَّل المشاق والمتاعب والأعباء.
وهنا سؤال قد يتبادر إلى الذهن وهو هل تعني القوامة إلغاء شخصية المرأة؟(8/209)
قال سيد قطب ـ رحمه الله ـ: "ينبغي أن نقول: إنَّ هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني، ولا إلغاء وضعها المدني.. وإنَّما هي وظيفة داخل كيان الأسرة لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها، ووجود القيم في مؤسسة ما ؛لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها، فقد حدَّد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله"(7)
القوامة : دكتاتورية وتسلط أم تهذيب وتبسط؟
يسيء بعض الناس فهم آية (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء)) فهذا الرجل تجده يشتم ويلطم ويضرب زوجته المسكينة، ثم إذا اعترضت عليه يقول:قال تعالى: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء)) ،وقد يكون لا يحفظ من القرآن إلا القليل منه مع هذه الآية؛ لأنَّها ـ بزعمه ـ آية واضحة في أنَّ الرجل قوَّام على زوجته فليفعل بها ما شاء.
وهذا فهم سقيم، وتأويل فاسد؛ فإنَّ معنى الآية ليس هكذا،بل المعنى ما سبق بيانه في تفاسير العلماء.
لذلك بعض النساء قد تحصل لهن ردة فعل أمام هذه التأويلات الخاطئة، فلا يثبتن للرجل القوامة، بل قد نجد نساء بدورهن يؤولن هذه الآية تأويلاً مضحكاً وغريباً، كأن يرين أنَّ هذه الآية مناسبة للعصر الذي كان يعيشه الرسو صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، أمَّا الآن (في عصر العولمة) فإنَّ النساء يستطعن أن يستقللن ببيوتهن وآرائهن.
وقد حدَّثني أحد الإخوة الذين ذهبوا للدراسة في "باكستان" بأنه توجد بعض المناطق في تلك البلاد المرأة فيها هي التي تدفع المهر للرجل، وهي التي تقود به في السيارة، وهي التي تحاسب عند محل "البنزين" وعند السوق ونحوها.. فالله المستعان!
وعود على بدء: فإنَّ قوامة الرجل على المرأة تعني تهذيبها وأمرها بما تطيق وتستطيع ، وليس من القوامة: الظلم والتسلط.
وقد قال تعالى: )) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ(( [التحريم:6] فالقوامة هنا تعليم الرجل امرأته وأولاده دين الله؛ حتى يقيهم نار يوم القيامة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم ( خياركم خياركم لنسائهم" وقال صلى الله عليه وسلم "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهله). (8)
وقال عليه الصلاة والسلام كما رواه عنه ابن عمر: ( كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيِّته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته) .(9) وفي هذا الحديث أنَّ الرجل راع، وكذلك أنَّ المرأة راعية فهي ترعى الأبناء وترعى زوجها وتحفظ بيتها من كل سوء ومنكر.
وقا صلى الله عليه وسلم : ( استوصوا بالنساء خيراً، فإنَّ المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً ) (10).
ففي هذا الحديث ما يدل على أنَّ القوامة تعني الأمر بالمعروف بمحبة وألفة، والنهي عن المنكر برفق وتلطف، لا بغلظة وتعسف.
إن المرأة بطبيعة الحال والخلقة التي ركبها الله فيها ضعيفة، ولذا فإنَّ الله أسقط عنها الجهاد والقضاء وسائر الولايات، كالولاية في النكاح، وقد خصَّ الدين الإسلامي الرجال بفروض وأسقطها عن النساء، مثل الجمع والجماعات والأذان والإقامة، وجعل الطلاق بيد الرجل لا بيدها.
بل إنَّ الميراث جعل الله الرجل له حظ الأنثيين، وليس ذلك ظلم في الإسلام للمرأة ومصادرة حقوقها، بل هو العدل والإنصاف؛ لأنَّه تدبير من عزيز عدل رحيم رؤوف حكيم ـ سبحانه وبحمده ـ، ومن الحكم التي نلتمسها في جعل الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين أنَّ الرجل صاحب نفقات، فهو الذي ينفق على أهله، والمرأة لا تنفق في بيت زوجها ـ إلا برضا الطرفين ـ والرجل مشاغله كثيرة، والمرأة ليست كذلك، بل إنَّ الله أمرها بالقرار في البيت، فقال: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)) إلى غير ذلك من الحكم. وقد تكون الحكمة في ذلك تعبدية، ولذا فإنَّ سبب نزول قول الله تعالى: (( وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)) ( [النساء/32].
وسبب نزولها ما رواه مجاهد (11) قال: قالت أم سلمة: أي رسول الله: أيغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث؟ فنزلت: (( وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ ))(8/210)
كما أن المرأة - بحكم ضعفها التكويني الطبيعي- تحتاج لمن يقوم عليها ويكرمها بهذا القيام،حتى بلغ ببعض النساء في الغرب إلى أن تعطي الرجل المهر حتى تكن-هي- تحت رئاسته!، فهل هذا إلا بدافع الفطرة التي جُبل عليها الإنسان؟!
* استسلام الزوجة سرّ نجاح زواجها!
هذا عنوان كتاب ألَّفته امرأة أمريكية تبلغ من العمر (32) سنة، اسمها "لوردا دويل"، يقول الأستاذ "جاسم المطوع" ( في مجلة المجتمع(12) بمقالٍ لهُ بعنوان: "القوامة على الطريقة الأمريكية ) :
".. وفكرة هذا الكتاب أنَّها عرضت فيه تجربتها الشخصية مع زوجها، وكيف كانت متسلطة تريد أن تتحكَّم في كل شيء وباستمرار، إلى أن بدت تشعر بأنَّ زوجها في طريقه إلى الفشل، واكتشفت ذلك عندما شعرت بأنَّ زوجها بدأ يتهرَّب منها، ثم غيَّرت منهجها في الحياة إلى الحوار الهادئ معه وعدم التدخل في كل شؤونه وعدم مضايقته، والمسارعة إلى السمع والطاعة في كل ما يطلبه، وتقول للزوجات: كفوا عن التحكم في حياة أزواجكن..!"
إنَّ هذا الكلام قد ذكره الله من قبل (1400) سنة، ولكن الكفار لا يعلمون (( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) (الروم:7)
وقد قيل قديماً: "والحق ما شهدت به الأعداء".
ويقول الدكتور "عبد الله وكيل الشيخ" في كتابه "المرأة وكيد الأعداء": "أمَّا قوامة الرجل، فالمرأة أحوج إليها من الرجل؛ لأنَّ المرأة لا تشعر بالسعادة وهي في كنف رجل تساويه أو تستعلي عليه، حتى لقد ذهبت إحداهن إلى القاضي تطلب طلاقها من زوجها، وحجتها في ذلك أنَّها سئمت من نمط الحياة مع هذا الرجل الذي لم تسمع له رأياً مستقلاً، ولم يقل لها يوماً من الأيام كلمة: "لا"، أو "هكذا يجب أن تفعلي"، فقال لها القاضي مستغرباً: أليس في هذا الموقف من زوجك ما يعزز دعوة المرأة إلى الحرية والمساواة؟ فصرخت قائلة: كلا.. كلا.. أنا لا أريد منافساً، بل أريد زوجاً يحكمني ويقودني"(13)اهـ.
فيا سبحان الله! من هذه المرأة التي تعرف حق قوامة الزوج على زوجته وإن لم يفعل معها زوجها تلك القوامة؟
وهكذا المرأة الصالحة التي تستسلم لأوامر زوجها إن كانت بطاعة الله عز وجل ولا تحاول أن تعصيه، وقد ورد عن الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" (14)
ومن اللطيف الظريف ما ذكره الشيخ "مازن الفريح" في كتابه أسرة بلا مشاكل: (قال الزوج لصاحبه: من عشرين لم أرَ ما يغضبني من أهلي.. فقال صاحبه متعجباً: وكيف ذلك؟ قال الزوج: من أول ليلة دخلت على امرأتي، قمت إليها فمددت يدي نحوها، فقالت: على رسلك يا أبا أمية.. كما أنت، ثم قالت: الحمد لله وصلاة على رسول الله.. إني لامرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك، فبيِّن لي ما تحبه فآتيه، وما تكره فأتركه، ثم قالت: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك.
قال الزوج لصاحبه: فأحوجتني والله إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله وأصلي على النبي وآله وأسلم، وبعد:
فإنك قلتِ كلاماً إن ثَبَتِّ عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجةً عليك.. أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا.. وما رأيت من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها، فقالت: كيف محبتك لزيارة أهلي؟ قال: ما أحب أن يملني أصهاري.. (يعني لا يريدها أن تكثر من الزيارة) فقالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك فآذن له ؟ ومن تكره فأكره؟ قلت: بنو فلان قومٌ صالحون، وبنو فلان قوم سوء.. قال الزوج لصاحبه : فبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها حولاً لا أرى إلا ما أحب.. فلما كان رأس الحول.. جئت من عملي.. وإذا بأمَّ الزوجة في بيتي فقالت أم الزوجة لي: كيف رأيت زوجتك ؟ قلت: خير زوجة.. قالت: يا أبا أمية.. والله ما حاز الرجال في بيوتهم شراً من المرأة المدللة.. فأدب ما شئت أن تؤدب، وهذب ما شئت أن تهذب.. قال الزوج: فمكثت معي عشرين عاماً لم أعتب عليها في شيء إلا مرة وكنت لها ظالماً ).
قال الشيخ مازن الفريح: "ما أسعدها من حياة.. والله لا أدري أأعجب من الزوجة وكياستها، أم من الأم وتربيتها، أم من الزوج وحكمته؟! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
*هل قوامة الرجل على المرأة مقصورة على الحياة العائلية؟
أي: هل قوامة الرجل على المرأة مقتصرة على الحياة العائلية فقط أم على غيرها من أمور الخلافة والقضاء والسلطة وغيرها.
والجواب على ذلك أن يُقال: إنَّ قوامة الرجل على المرأة ليست مقتصرة على الحياة العائلية، بل على كل شيء، فمثلاً الخلافة لا يجوز للمرأة أن تتولاها، وقد قال الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" ما نصَّه: "ولا خلاف بين أحد أنَّها لا تجوز للمرأة". (15)
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي - رحمه الله-في قوله تعالى : (( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )) : "فالدرجة هي القوامة، وهي ليست مقصورة على الحياة العائلية، لأنَّ قوامة الدولة أخطر شأناً من قوامة البيت، ولأنَّ النص القرآني لم يقيد هذه القوامة بالبيوت".(8/211)
ثم قال: )إنَّ قوامة الرجال على النساء لا تقتصر على البيوت بدليل أنَّه لم يذكر البيوت في الآية، فهي إذاً قوامة عامة لسائر البيوت كذلك، ثمَّ إذا جعل الله قوامة على المرأة المفردة في بيتها فهل يظن بالله أن يجعل قوامة على ملايين في حين أنه لم يجعلها لها على بيت هو بيتها( (16)
وإن أقوى الأدلة في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن صلى الله عليه وسلم حين علم أنَ أهل فارس قد ملِّكوا عليهم بنت كسرى قال:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" (17)
والعجب من أناس يقولون عن هذا الحديث: هذا مقيَّد بزمان صلى الله عليه وسلم الذي كان الحكم فيه لأبي جهل استبدادياً أمَّا الآن فلا. والله المستعان.
بل إن الهدهد ( الغيور على التوحيد) عندما رأى الملكة بلقيس تحكم قوماً جاء عند سليمان عليه السلام وقال له : (( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)) (النمل:23) .
فبعد ذلك جاء سليمان وأبطل حكمها ودخلت تحت ولايته وقالت: (( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) (النمل: من الآية44) .
بعد أن قال سليمان: (( أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)) (النمل: من الآية38).
ولذا فإنَّ رسول ا صلى الله عليه وسلم لم يُوَلِّ المرأة في حياته ولا أوصى بعد مماته بأن تتولى المرأة أي منصب رفيع.
ولذا يتبين لنا،أنَّ من ينادي بتحرير المرأة وأنَّ لها أن تتولى مناصب في الدولة ويكون تحتها أناس من الرجال تدير شؤونهم قد أخطؤوا خطأً بيناً، وخالفوا هذه النصوص الواردة في ذلك
ولقد ألف أحد المفكرين العالميين وهو"بليرداجو" ـ رئيس مدرسة التحليل النفسي العلمي، ومقرها سويسرا ـ كتاباً اسمه "المرأة: بحث في سيكولوجيا الأعماق" وذكر في هذا الكتاب أنَّ أهم خدعة خدعت بها المرأة في هذا العصر هي التحرر والحرية، وفي الواقع أنَّ المرأة ولو علت وادعي أنَّها متحررة وتمارس شؤونها بنفسها فإنَّما هي قد سقطت أكثر في عبودية الرجل.
فتأملي ـ أختاه ـ رعاك الله، واعلمي أنَّ الخير كل الخير في إخلاص الوجه والعبادة لله وحده، واتباع نبيه محمَّد r، والرضا بأحكام الله تعالى وأحكام رسول صلى الله عليه وسلم ، وقد قال تعالى: )) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)) [النور:52،51]
ولنحذر جميعاً من دعاة السوء والفتنة والشر والرذيلة ( ولتعرفنهم في لحن القول).
لا يخدعنك عن دين الهدى نفر*لم يرزقوا في التماس الحق تأييدا
عمي القلوب عروا عن كل قائدة *لأنهم كفروا بالله تقليدا
وابتعدي عن كل ما يمسُّ عرضك من الدعوة إلى التبرج،أو الاختلاط، أو التنكر لفطرتكِ التي فُطرتِ عليها، وذودي عن حريتك وحقك بقلمك ولسانك، ورُدِّي عليهم في الجرائد والمجلات ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإنَّ دين الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه.
من الدين كشف الستر عن كل كاذب*وعن كل بدعي أتى بالعجائب
ولولا رجال مؤمنون لهدمت* صوامع دين الله من كل جانب
وأقول لكل من قرأ ماكتبت ـ رجلاً كان أو امرأة ـ: ليؤدِّ كل منكم حقوق الله عزّ وجل التي فرضها ؛ فمن الرجل القوامة والأمر بالمعروف بمعروف والنهي عن المنكر بلا غضب ومنكر، ومن المرأة أداء حقوق زوجها عليها.
وأختم بكلام للعلامة ابن بازـ رحمه الله ـ ونصٌّه:"ومعلوم أنَّ الذي جعل الرجال قوامين على النساء هو الله عزّ وجل في قوله تعالى في سورة النساء: (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)) فالطعن في قوامة الرجال على النساء اعتراض على الله عزّ وجل، وطعن في كتابه الكريم وفي شريعته الحكيمة، وذلك كفر أكبر بإجماع علماء الإسلام، كما نصَّ على ذلك غير واحد من أهل العلم..) اهـ (18).
هذا وأسأله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعاً ممن يقف عن حدوده ، وطبق شرائعه،وأن يهدينا سواء السبيل، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
1- رواه مسلم (انظر صحيح الجامع الصغير:1/622 ـ 624 فقد ذكر روايات عدة في هذا الموضوع) .
2- من تفسير ابن كثير .
3- ذكرها في مجلد 1/416) .
4- فتح القدير" (1/414) .
5- تفسير المنار(6/5) .
7- (ص142) .
8- في ظلال القرآن2/652.
9- رواه الترمذي وصححه الألباني .
10- رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني .
11- متفق عليه .
12- رواه الطبري، والإمام أحمد، والحاكم، وغيرهم .
13- العدد:14/10/1422هـ .
14- ص(25)
15- حديثٌ صحيح صححه الإمام الألباني وغيره ، ينظر سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم:3366
(15)4/129) وذكر الإمام الماوردي نحو هذا الكلام في كتابه (الأحكام السلطانية ص46).(8/212)
-16ذكره في كتابه (نظرية الإسلام وهديه ص319) .
17- فتح الباري 8/159 حديث( 4425). .
18-مجلة البحوث العلمية، العدد 32 سنة 1412هـ
=============(8/213)
(8/214)
البديل الإسلامي بين الانضباط والتسيب
بسم الله الرحمن الرحيم
(حدَّثتني إحدى الصالحات أنَّ ثلاث فتيات في مدرستها اتفقن على قيام الليل ـ ولكن من نوع آخرـ إنَّ برنامج ستار أكاديمي قد خلب لبَّهم ، وسحر فكرهم ، ولأجل ذا فقد تواعدن على أن يقسِّمن الليل إلى ثلاثة أثلاث كلُّ واحدة منهن تنظر في هذا البرنامج وتقوم بتسجيله ، ثمَّ تتصل على زميلتها بعد أن تنتهي ورديتها في ملازمة التسجيل لهذا البرنامج وتقوم الثانية بهذا الدور، وهكذا العمل مع الزميلة الثالثة إلى أن ينتهي البرنامج)
بهذا المنطق يتفاعل الكثير من الشباب والفتيات المنتسبين للإسلام حين يريدوا مشاهدة هذه البرامج الهابطة، والتي بثَّت أخيراً عبر الفضائيات، وجعلت لدى الشباب نوعاً من الهوس لإعجابهم بهذه البرامج المباشرة ، وكأنَّها مغناطيس يجذبهم بقوَّة وقهر، وليس لهم إلَّا تلبية رغبات النفس، وخطرات الروح.
أما آن للمصلحين أن يفيقوا من نومهم العميق، لإنقاذ شبابنا وفتياتنا من مأساة فكرية وشهوانية تعصف بهم ذات اليمين وذات الشمال ، وقد جعلتهم يتطايرون على الشَّاشات كالفراش وهم لا يشعرون!!
ودعونا أيها الفضلاء أن نراجع أنفسنا ، وننقد ذاتنا !فجزى الله علمائنا خيراً حين أفتوا بتحريم هذه البرامج ، وبينوا بلا لبس أو غموض حكم مشاهدتها ، والنظر إليها ، فقد أثَّرت تلك الفتاوى في البعض وأقلعوا عن مشاهدتها ـ ولله الحمد والمنَّة ـ
ولكن هل نكتفي بهذا، ومازال الكمُّ الهائل من شباب الأمَّة يشاهدون ويصفِّقون ، ويحلمون في منامهم ويقظتهم في ذكريات البرنامج الشبابي!
ألا يوجد لدينا حلولٌ وافرة ، وأكفٌ رفيقة ليِّنة تحتضن الشباب والفتيات في برامج إسلامية مشوقة ، ومشاريع تربوية وترفيهية ، وبدائل عن تلك المُثُلِ منضبطة بميزان الشريعة؟
أين أصحاب الحلول المنتجة ، أين أهل الثراء والمال والغنى ، أين أصحاب الأفكار الإبداعية ، والمشاريع الابتكارية؟
أين هم من الذي يحاك لشباب هذه الأمَّة ، ويخاط لهم وينسج في مواخير الفساد ، وأندية الظلام، والكواليس الخفية لتعليمهم دروساً في العربدة والشهوات؟
ترى لو أنَّ جيشاً عرمرماً أحاط ببلدة من بلاد الإسلام ، وأثخن فيها وأكثر من القتل والتعذيب لأبناء الإسلام ، ثمَّ خرج علينا رجل يبيِّن خبث هذا العدو ومكره، وحذَّر المسلمين من استقباله أو احتضانه... ثمَّ وقف إلى هذا الحد، واكتفى بهذا القدر.
هل سيؤدِّي هذا إلى دحر العدو وإنقاذ النَّاس؟ أم أنَّ هناك لوازم ينبغي إضافتها على ذلك الحدث!!
وبعد:
فإنَّ المراقب لهذه الأوضاع ، وتلك الأحداث ، ينبغي عليه أن يعرف أنَّ من أسباب وجوده في هذه الأرض دعوة الناس لدين ربِّ العالمين ، وتقريبه إلى قلوبهم،فليست كلًّ الدعوة بالمحاضرات ولا بالخطب، وليست كلُّها بالدروس أو الفتاوى فحسب ، بل لا بد من استخدام جميع الوسائل المشروعة والمتاحة فالدعوة إلى الله لا تحدُّ بحدود ، ولا تقيد بقيود.
وحيث أنَّني شرعت في المقصد فإنِّ من الأولويات الهامة للعمل في حقل الدعوة الإسلامية ؛ الفهم الناضج لدى طلَّبة العلم، ومتعلمي الشريعة بالذات، ليخرجوا لنا بمحصِّلات مدروسة، ونتائج محروسة في فقه البديل الإسلامي المواكب لروح هذا العصر ومتطلباته ، وكيفية إنقاذ هذه الأمَّة المنكوبة من الأزمات التي تحلُّ بها سواء أكانت تعليمية أو تربوية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية وغيرها من ألوان المشاكل، وأشكال المحن.
والعالم الحق هو من وصفه الإمام أبو العباس ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بأنَّه( الذي يعرف الحق، ويرحم الخلق) وأنَّه(كلَّما اتسعت معرفته بالشريعة وروحها ، كان أرحم بالعباد وأعظم الناس تيسيراً عليهم ورفقاً بهم).
وحين يتأمل الإنسان الهدي الربَّاني في القرآن الكريم يجد أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ ما حرَّم على عباده شيئاً إلَّا وأبدلهم عوضاً عنه ما هو خير منه ، بل وصل ذلك إلى الألفاظ فإنَّه تعالى قال ( يا أيُّها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) البقرة(104) فقد نهاهم ـ تعالى ـ عن ذلك لأنَّ فيه شبهاً بيهود حين كانوا يقولون ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم ويقصدون بذلك السخرية به ـ عليه الصلاة والسلام ـ فنهى الله صحابة رسوله أن يقولوا هذه الكلمة لمحمد صلى الله عليه وسلم وأبدلهم بأن يقولوا له(انظرنا).
كذلك من تدبر سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد ذلك واضحاً في منهجيته في التربية والتعليم، فإنَّه كان إذا حرَّم شيئاً أتى بالبديل المشروع مقابل ذلك الأمر المُحَرَّم لأنَّه يعلم أنَّ النفوس ضعيفة ، ومجبولة على حبِّ العوض والبديل ، وخذ أمثلة على ذلك/(8/215)
فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له: النبي صلى الله عليه وسلم من أين هذا ؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء ، فبعت منه صاعين بصاع لنُطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال ـ عليه السلام ـ أوَّه أوَّه عين الربا عين الربا لاتفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثمَّ اشتره) رواه البخاري(2201) ومسلم (1593)
أتأملت أيها المبارك كيف أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين حرَّم فعل بلال ـ رضي الله عنه ـ نقله نقلة توعوية بديلة ومشروعة قبالة ذلك الأمر المحرم، وتلك صفة العالم الرباني ، والبصير بالواقع الذي حوله ولهذا قال الإمام ابن القيِّم في ذلك:(من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه،وكانت حاجته تدعوه إليه ،أن يدلَّه على ما هو عوض له منه،فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح ، وهذا لا يتأتى إلَّا من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه ، فمثاله في العلماء مثال الطبيب النَّاصح في الأطباء يحمي العليل عمَّا يضره ، ويصف له ما ينفعه ، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّهَ قال:(ما بعث الله من نبي إلأَّ كان حقَّاً عليه أن يدلَّ أمَّته على خير ما يعلمه لهم ، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ) وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم ، ورأيت شيخنا ـ قدَّس الله روحه ـ يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه ، ومن تأمَّل فتاويه وجد ذلك ظاهراً فيها ) أعلام الموقعين (4/121ـ 122) و سأنقل كلاماً للشيخ ابن تيمية في ذات الموضوع الذي مدحه به تلميذه ابن القيِّم حيث قال ابن تيمية:(إذا أراد تعريف الطريق الَّتي يُنَالُ بها الحلال ، والاحتيال للتخلص من المأثم بطريق مشروع يقصد به ما شرع له ، فهذا هو الذي كانوا يفتون به ـ أي السَّلف الصالح ـ، وهو من الدعاء إلى الخير، والدَّلالة عليه ، كما قال صلى الله عليه وسلم بع الجمع بالدراهم، ثمَّ ابتع بالدراهم جنيباً) وكما قال عبد الرحمن بن عوف لعمر الخطَّاب:( إنَّ أوراقنا تُزيَّفُ علينا أفنزيد عليها ونأخذ ما هو أجود منها؟ قال: لا ولكن ائت النقيع فاشتر بها سلعة ، ثمَّ بعها بما شئت) بيان الدليل على بطلان التحليل / صـ133.
ومن الأمثلة على ذلك من هدي المصطفى ـ عليه الصَّلاة والسلام ـ في أنَّه إذا منع شيئاً فتح لمن منعه باباً آخر من الأمر المشروع، والبديل المنضبط بمعيار الشَّريعة، ما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية ، فقال: (قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية ، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما : يوم النحر، ويوم الفطر) أخرجه أحمد في المسند(3/103ـ178ـ235) وأبو داود(1134) والنَّسائي(3/179) بسندٍ صحيح.(واليومان الَّذين يلعبون فيهما أهل الجاهلية هما / يوم النيروز ويوم المهرجان . وللمزيد انظر/ عون المعبود(3/485) للعظيم آبادي)
أرأيت ـ أخي القارئ ـ إلى هديه ـ عليه الصلاة والسَّلام ـ في ذلك، حيث أنَّه لا يرضى بوقوع المنكر، ولا أن يؤلف ، ولكنَّه ـ عليه الصلاة و السَّلام ـ يبيِّن خطر الشيء المحرَّم، ومن ثمَّ يبين البديل الشرعي عن ما حرَّمه الله ، ومن هنا فطن علماء الإسلام لتوضيح هذه القضيَّة في مدوناتهم ، ورسائلهم ومنهم شيخ الإسلام / ابن تيمية ـ طيَّب الله ثراه ـ فقد بيَّن بأنَّ المبتلى بالمنكر أو البدعة فإنَّه يتوجب على ناصحه أن يدعوه للإقلاع عن هذا الأمر المحرَّم ولو كان في ظاهره الخير، ومثَّل لذلك ابن تيمية، بالبدعة فقال:(إذا كانت في البدعة من الخير فعوِّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلَّا بشيء...فالنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنَّما الترك مقصود لغيره) اقتضاء الصراط المستقيم(2/125)(8/216)
ومن هذا المنطلق فإنَّ البحث المضني من العالم أو المربي أو المفكر لما يخدم به أمَّة الإسلام من برامج جذَّابة تكون بديلاً عن ما هو متاح ويستطاع الوصول إليه بأسرع الوسائل، وأدنى السبل ؛ من الضرورة بمكان وخاصَّة في هذا العصر الراهن فأمتنا تحتاج لبدائل كثيرة في عدَّة مضمارات ، وتحتاج للبدائل المفيدة عن القنوات الفاسدة التي تنشر الغثَّ بلا سمين ، وتلهي النَّاس عن دين ربِّ العالمين ، وإيقاعهم بفتن الشبهات أو الشهوات ، وما البرامج الأخيرة التي نشرت في هذه القنوات الفضائحية كسوبر ستار، وستاركلوب ، وستار أكاديمي ، وتحدي الخوف، وغيرها إلَّا شاهداً قويَّا على أنَّ أهل العلمنة والكفر والفجور يريدون إلهاء الأمة وشبابها عن قضاياها الكبرى ، وشؤونها المصيرية ، بل كانت تعرض بعض هذه البرامج العاهرة في الوقت الذي تضرب فيه بلاد الرافدين (العراق) بالصواريخ ، وتقصف بالطائرات ، وتجتاح بالدبَّابات والمجنزرات ، وكذلك في فلسطين المباركة في أزمة الحصار المشدد على مدنها وقراها ، وعمليات الاغتيال الصهيوني لقادة الجهاد والصمود ، في الوقت الذي كان فيه كثير من شباب العالم الإسلامي قد أطلق بصره ، وأرخى سمعه لما يعرض في هذه الفضائيات من مشاهد مخزية ، يستحيا والله من ذكرها.
إنَّ شباب وفتيات المسلمين اليوم يعانون من أزمة الفراغ المدقع ، فليس لهم من الأعمال التي تشغلهم أيُّ أثر ، ولذا يحاول الكثير منهم أن يفرَّ إلى هذه الشاشة ويسمِّر عينيه صوبها ، لعَّلَّهم يلبون بعض رغبات النفس وهواها ، وكما هو معلوم فإنَّ الفراغ للرجال غفلة ، وللنساء غلمةـ أي تحريك للشهوة ـ وصدق من قال:
لقد هاج الفراغ عليه شغلاً وأسباب البلاء من الفراغ
وإذا كنَّا قد علمنا مكمن الدَّاء ، وموطن الخلل ، فليت دعاة الإصلاح والتغيير أن يستشعروا المسؤولية الفردية والجماعية ، والتأهل للإنقاذ وللمشاريع الإصلاحيَّة لهذا الشباب التائه، الذي قلَّ من أخذ بيده ، وبيَّن له طريق النَّجاة ، والحلول المثمرة ، والبدائل النافعة والإيجابيَّة.
في الوقت نفسه فنحن لا نريد حلولاً مستوردة من الغرب الكافر، ولا بدائل غير شرعيَّة ، أو فيها تنازلات عن سنَّة خير البرية ، فمعاذ الله أن ينصح بذلك وقد قال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ شيئاً من هذا القبيل ثمَّ أعقبه قائلاً:(لكن لا يجوز لأحدٍ أن يغيِّر شيئاً من الشريعة لأجل أحد) اقتضاء الصراط المستقيم(2/133)
بيد أنَّ من أراد أن يحمل نفسه على تجنُّب البدائل المباحة ، والالتزام بالأوامر والنَّواهي الشرعية فله ذلك ، وصاحب العزمات يأخذ بالأقوى ، وقد يكون في جانبه أفضل ، إلَّا أنَّ عليه أن لا يقارن نفسه بغيره من الناس ، ويفرض رأيه على ضعفاء الدين ، وقليلي الإيمان ، ومن المعلوم بأنَّه إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع.
ولن يستطيع الداعية بقدر ما أوتي من فصاحة وإقناع أن يصنع ذلك المجتمع المثالي المتخيل في الذهن ، وخاصَّة أننا نعيش في هذا العصر المنفتح ، والذي تعجُّ فيه الفوضى الفكرية ، والمتنوعات الثقافيَّة ، وكلٌّ منها تضغط بطرف على العقول والأمزجة محاولة أن تقنعها بمثلها ومبادئها.
فمهمَّة الدعاة إذاً أن يأتوا البيت من بابه ، ويضعوا الحقَّ في نصابه، ويرشدوا أبناء هذا الجيل مبيِّنين لهم مخطَّطات الغرب، ووسائل المجرمين بالإطاحة بهذا الجيل عن غاياته النَّبيلة وأهدافه السَّامية.
وثمة نقاط أحبُّ أن أذكِّر بها نفسي ومن سلك طريق الدعوة ، وكل قارئ لهذا المقال ، يجدر التنبيه إليها ، والتلويح بها/
1ـ يجدر بدعاة الإسلام وأهل التربية أن لا يخاطبوا الناس من برج عاج ، أو صومعة فكرية ، بل ينزلوا في ميدان الناس ، وواقع البشرية ، ويتداخلوا معهم ، ويتأملوه حقَّ التأمل فما كان فيه من خير أثنوا عليه وأشادوا به ، وما كان فيه من خطأ فلينبهوا الناس له، ويرسموا لهم طريق الصلاح ، ويزنوا جميع الأمور بمعيار الشريعة ، ويعطوهم البدائل المباحة بقدر الإمكان ، وإيجاد الحلول والمخارج الشرعيَّة،لا الحيل الباطلة البدعيَّة.
فأمَّا التشديد على الناس في أمورهم فهذا لا يليق بدعاة الحق والرشاد، بل هو أمر يحسنه كلُّ أحد ، وقد قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ(إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التَّشدد فيحسنه كلُّ أحد) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر(1/784) وقال الإمام أحمد بن حنبل:(من أفتى ليس ينبغي أن يحمل النَّاس على مذهبه ويشدِّد عليهم) الآداب الشرعية لابن مفلح(2/45) ولا يعني ذلك أن نكون مماثلين لدعاة العصرنة والمسايرة لهذا العصر، والتراجع تحت ضغط الواقع ، والَّذين يتبنون تتبع رخص العلماء وزلَّاتهم ويبنون عليها أحكاماً يقنِّنونها للناس حتَّى يتعاملوا بها فإنَّ هذا غير هذا ، ولاشكَّ أنَّ التفريط أخٌ للإفراط ، فالمطلوب أن يكون الدَّاعية وسطياً في فتاويه وآرائه على وسطيَّة أهل السنَّة والجماعة ورحم الله من قال:
عليك بأوساط الأمور فإنَّها نجاةً ولا تركب ذلولاً ولا صعبا(8/217)
ولهذا فإنَّ العالم الذي جمع بين العلم والتربية لن يغفل عن دراسة نفسيَّات النَّاس ، وإعطاء كلَّ ذي حقٍ حقَّه من الحكم الملائم له، ورضي الله عن الإمام ابن تيمية حين علَّق على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كلُّ لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلَّا رميه بقوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته امرأته فإنَّهنَّ من الحق) أخرجه ابن ماجه (2/940) والنَّسائي ،أنظره مع شرح السيوطي(6/185) بسند صحيح.
فقد علَّق ابن تيمية على هذا الحديث تعليقاً نفيساً مبيناً خلاف ما يعتقده البعض من قارئي هذا الحديث بأنَّ كلمة (الباطل) فيه يعني (المحرَّم) فقال:
( والباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة، فهذا يرخص للنفس الَّتي لا تصبر على ما ينفع ، وهذا الحقُّ في القدر الذي يحتاج إليه في الأوقات الَّتي تقتضي ذلك: الأعياد والأعراس وقدوم الغائب ونحو ذلك) الاستقامة(1/277) ـ وقد كان في هذا الموطن يتكلَّم عن ضرب الدف وأنَّه للنساء فقط وأنَّ الرجال لم يكن منهم أحد يفعل ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم ولهذا ذكر ابن تيمية أثراً عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ يقول: إنِّي لأستجمُّ نفسي بالشَّيء من الباطل،لأستعين به على الحق) مجموع الفتاوى(28/368)
ومن هنا نستنتج أنَّ معرفة الدَّاعية لنفسيات المدعوين وأهل المعصية ومراعاتها كلٌ بحسبه، بأنَّه من أهمِّ المهمات ليتدرج معهم في إزالة ما لديهم من قصور ديني ، فهو خبير بأنَّ الخروج عن المألوفات من أشق الأشياء على النفوس ، ولذا فإنَّه يعطيهم من البدائل المباحة الَّتي تجعلهم يتناسون ما كانوا عليه، متدرجاً بهم بهذه الطريقة إلى مرحلة القناعة والطمأنينة بما هم فيه،ومن أقوى ما يحتجُّ به لذلك ، ما قاله عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه يوماً منكراً عليه عدم إسراعه في إزالة كلِّ بقايا الانحراف والمظالم والتعفية على آثارها ورد الأمور إلى سنن الراشدين:
مالك يا أبتِ لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي، لو أنَّ القدور غلت بي وبك في الحق!!
وتأمل كيف كان جواب الأب الفقيه عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ(لا تعجل يا بني ، فإنَّ الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين وحرَّمها في الثالثة ، وإنِّي أخاف أن أحمل النَّاس على الحقِّ جملة فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة) الموافقات للشاطبي(2/94)
ولهذا فإنَّ التدرج في الوصول إلى الحقِّ بهذه التربية سببٌ أكيد لقناعة المدعوين ، وليأخذوا بهذه الأحكام بتمام الرضى والفهم العميق لمقاصد الشريعة الإسلامية، قال الإمام ابن القيِّم(إنَّ حكمة هذا التدريج ؛ التربية على قبول الأحكام ، والإذعان لها ، والانقياد لها شيئاً فشيئاً) بدائع الفوائد(3/184)
2ـ التشجيع للشباب المخلصين بإيجاد البدائل الشرعية، وإنتاج المشاريع والبرامج المعينة والجذَّابة لمن ابتلي بمتابعة الصور الهابطة ، والأصوات المحرَّمة، وإنَّ من أهمِّ الأمور في ذلك بثُّ روح الإبداع والتفكير،والابتكار والطُّموح لصناعة البدائل وإيجادها والموافقة لروح الشَّريعة والاستفادة من المعطيات الجديدة، وتنمية الحس لأهمية الإطلاع والقراءة ، وكسر جميع الحواجز الَّتي تحول للإتيان بالجديد، وبورك في الشباب الطَّامحينا.
وما قتل البعض منَّا إلَّا الترديد لتلك المقولتين القائلتين ، ليس بالإمكان أحسن مما كان ، وما ترك الأولون للآخرون شيئاً ، فإنَّ هاتين المقولتين أصبحتا سمَّاً يلوكه كلُّ يائس أو كسول أو رجل ألف التقليد، مع الضَّحالة العلمية والعقم الفكري ( وحين يكون هناك جدب ثقافي ، وضحالة فكرية فإنَّ الإنسان لا يهتدي إلى كثير من البدائل الَّتي تتاح لأهل الثَّراء الفكري) من كتاب / خطوة نحو التفكير القويم ـ ثلاثون ملمحاً في أخطاء التفكير وعيوبه لعبد الكريم بكَّارصـ59.
وقد أحسن الأستاذ المفكِّر جمال سلطان ـ وفقه الله ـ حين كتب( فإذا لم يكن لدى الأمة ومشروعها الحضاري ، بديل جاد ومتفوق يمتلك الجاذبية الفنِّية العالية ، ويتحرك على تقنيات فنِّية رفيعتة المستوى ،أو إذا لم يكن بمقدور المشروع الحضاري أن يحقق موازنة جديدة بين النشاط العلمي، والنشاط الترفيهي، أو لم يكن بمقدوره إعادة صياغة المدركات العامَّة للأمة ، بما يحقق وعياً جديداً لمفهوم الوقت ، وتقسيمه وقيمته ودوره ، أو تباين ذلك كلِّه بين الأمم ، حسب متطلَّباتها الإنسانية ، وحسب مناهجها الفكرية العقائدية (الآيديولوجية) وحسب مكانتها الحضارية ، وحسب تحدياتها التاريخية والمستقبلية ، أي أنَّه ـ بوجه عام ـ إذا لم يكن لدى المشروع الحضاري خططه وبرامجه للسيطرة على وقت الفراغ فسيكون ذلك بمثابة تأشيرة دخول مفتوحة للتَّيارات الثقافية والقيمة والأخلاقية والأجنبية ، لكي تنفذ إلى صميم الأمَّة من خلال ثقب (وقت الفراغ)) مقدمات في سبيل مشروعنا الحضاري صـ62ـ63.(8/218)
3ـ عدم الدوران في فلك الذات ، وإغلاق منافذ البصيرة في وجه أيِّ جديد بحجَّة أنَّ هذه العولمة المعاصرة أكثرها شرٌ وفساد ، بل ينبغي أن ننفتح على كلِّ جديد ونوازنه بالشرع فما وافقه فحيَّ هلا ، وما خالفه فإن استطعنا أن نبيد مادَّة الحرام منه فعلنا، وإن لم نستطع فلنضرب به عرض الحائط ولا نبالي، ورحم الله من قال:
والشرع ميزان الأمور كلها وشاهد لأصلها وفرعها
ومن جميل كلام أبو حفص النيسابوري(من لم يزن أفعاله وأقواله كلَّ وقت بالكتاب والسنَّة ، ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال) الاستقامة لابن تيمية /96ـ99.
شاهد ذلك أنَّه قبل أن نحكم على أي شيء فعلينا أن نعرف حقيقته وماهيته ، ثم يُطلق الحكم الشرعي المناسب له ، والقاعدة الأصولية تقول / الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
4ـ لا يعني أنَّه إذا نودي بإيجاد البديل المنضبط ، أن يكون هذا ديدن الدعاة ، بل ينبغي أن ينادي الدعاة بأنَّه ليس كلُّ شيء حرِّم يستطاع أن يؤتى ببدائل تحل عنه، وأنَّ هذا البديل الذي استهلك العقل البشري في التفكير لإيجاده ، ليس شرطاً أن يكون فيه كلُّ مظاهر اللذَّة والمتعة عن الشيء المحرَّم، إلَّا أنَّه ينبغي أن تكون فيه مادَّة تصرف من تعلقت نفسه بالماضي ، وتكون فيه روح شفَّافة جذَّابة ليتعلق بها.
لكن من المهم جدَّاً أن يواكب هذا التغيير لتلك النفس البشرية التي نشأت من قريب على طاعة الله بأن تربى هذه النفس على طاعة الله ، وأن يكون ديدنها لأوامر الله ونواهيه بكلمة (سمعنا وأطعنا) و إذا كان البديل ليس على مستوى درجة الجاذبية لما ألفته النفس في الماضي ، أو في أيام الجاهلية فلا يعني ذلك أن ترجع النفس لماضيها ، لأنَّ ذلك من تبديل نعمة الله على العبد والتنكر لها.
بل يكون على لسان المسلم الأثر المعروف ( من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه) وهذا التعويض كما ذكر علماء الشريعة إمَّا أن يكون في الحياة الدنيا، أو أن يكون ذلك في دار الآخرة وجنَّة الرضوان.
5ـ أن يتعدى الدعاة والمصلحون مرحلة المدافعة والتحذير، إلى مرحلة المواجهة والتبشير، ولقد كانت هذه وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه فقال:(بشِّروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا) أخرجه البخاري في كتاب العلم(2001) ، ومسلم في كتاب الجهاد(251)
فالعقلية الإسلامية تحتاج في هذا الزمن الصعب أن تكون داعية خير وتبشير، أمَّا مجرد النقد اللاذع، والإبقاء على هذا المنهج فلن يوصل المسلمين إلى مرحلة سبَّاقة ، بل يجعلهم ذلك يرجعون للوراء لأنهم لم يعرفوا كيف يواجهوا هذا العصر بتقنياته، وما هي اللغة المناسبة له ، ولذا فإنَّ المثل القائل بأنَّ إيقاد شمعة خير من لعن الظلام ؛ مثل رائع، يحتاجه دعاة هذا العصر، فإنَّ مجرد التشكي من أبناء هذا الزمان وهذا الدهر لن يفيد شيئاً ، والغريب أنَّ كثيراً من الشباب الصالح قد صار ديدنه في بعض اللقاءات التحدث بمآسي هذا الجيل ، على حدِّ قول الشاعر:
كلُّ من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن
لكنَّ القليل من يحاول أن ينقي الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، ويبين الخلل والاهتراءات التي حلَّت في وسطه ، محاولاً التغيير والإصلاح بالحكمة الحسنة والكلمة الطيبة، حتى يتم المقصود، وينال المراد.
إننا نحتاج حاجة ماسة لإعادة النظر في الطرق التربوية التي أَلِفَهَا بعض المربين أكثر من أربعة عقود من هذا الزمان ، أو وسائل الدعوة التقليدية والتي كانت منذ عشرات السنين وبقي الكثير على نمطها.
نحتاج لوسائل البلاغ المبين ، ولجميع المنابر التي نتواجه بها مع أبناء الجيل المسلم ، والاستفادة من المعطيات الحديثة التي تتناسب مع طبيعتنا الشرعية ، ومثلنا العقدية ( ومن خلال معرفتنا بسنن الله ـ تعالى ـ والتي تبرز لنا طبائع الأشياء ، يرتقي لدينا ما أسميه بـ(فقه الطرق المسدودة ) وهو فقه عظيم لا نجده في أي كتاب ، وإنَّما في سفر الوجود الهائل والمترامي ، حيث إننا من خلال الممارسة العملية نكتشف الهائل والمترامي، وما لا يمكن الوصول إليه ، وبذلك الاكتشاف نقترب من معرفة ما هو متاح ، كما أنَّنا نوفر على أنفسنا عناء (الحرث في البحر) حيث ألف الكثيرون منَّا تبديد الجهد والوقت والمال في محاولات الوصول إلى أشياء ليس إلى الحصول عليها أي سبيل) جزء من كلام الدكتور:عبدالكريم بكَّار في كتابه تشكيل عقلية إسلامية معاصرة صـ78.
إنَّ الداعية ـ باختصار ـ من ينفع أمته ، ويبين لها طرق الخير، فهو كما قال الشاعر:
واضح المنهج يسعى دون غش أو نفاق
راضي النفس، كبير القلب، يدعو للوفاق
قلبه المؤمن بالخالق مشدود الوثاق
نبضه الذاكر يمتد إلى السبع الطباق(8/219)
7ـ وقبل الختام فهناك تنبيه/وهو في الحقيقة أمر وقع فيه بعض الأخوة الدُّعاة ـ هداهم الله ـ في قضيَّة البديل،فالمراقب لبعض البدائل التي أتيح نشرها داخل الأوساط الإسلامية يجد أنَّها قد تجاوزت ـ وللأسف ـ الحدود الشرعية، وصار فيها من التنازلات عن الشريعة الشيء الذي ينذر بوقوع حالة مكارثية ممن لهم توجهات إسلامية ، فأكثرهم لم يدرسوا هذا الدين على حقيقته ، وإن كانوا من(محبي الإسلام) ولا شك ، لكنهم يتصرفون بعض التصرفات المخلة بهذا الدين ، لأنَّ كثيراً منهم ينتج إنتاجه الإعلامي أو الاقتصادي أو التربوي ولا يستشير إلَّا أمثاله من قليلي العلم ، وضحلي المعرفة في الجذور الإسلامية ، أضف على ذلك قلَّة استشارتهم لأهل العلم وفقهاء الشريعة الربانيين، في عرض مثل هذه المنتجات، وأخذ آرائهم تجاهها، ومن ذلك :
1ـ ما يسمى بفيديو كليب فقد شاهد البعض من طلبة العلم مثل هذه البرامج ، وما يعرض فيها من الأناشيد وما يصاحبها من تكسر وتميع ، وحركات لا تمت إلى الرجولة بصلة ، بل فيها من مشابهة بعض الفسقة من المغنين في حركات الرجل وضرباتها الخفيفة على الأرض ، أو حركات اليد والتي تدغدغ مشاعر الرجال فضلاً عن الفتيات ( المراهقات) ثمَّ يسمَّى هذا العمل إنتاجاً إعلامياً (إسلامياً).
فهل هذا من البديل الذي اشتُرِطَ أن يكون منضبطاً بميزان الشريعة ، ومأموناً لجميع شرائح المجتمع؟!
2ـ ما صار يصاحب بعض أشرطة الأناشيد الإسلامية من ضرب بالدف ويرافقه أصوات الصلاصل والمزاهر والخلاخيل ، دع عنك أن يرافق بعضها الضرب بالطبل ، والجهاز المسمى بجهاز(السامبر)، وأجهزة الكمبيوتر والتي سجِّل في بعضها بعض النغمات من الكمنجة ، والبيانو، كلُّ ذلك بحجة أنَّ هذا من البديل [الإسلامي] وأنَّه إذا لم نضع مثل هذه الملحقات مع الأناشيد فإنَّ السامعين للأناشيد الإسلامية سيكون تعدادهم قليلاً!! وأنَّ أفضل وسيلة لجذبهم هي هذه الطريقة ولأجل الارتقاء بالفنِّ الإسلامي البديع!!
والإجابة عن هذه الحجَّة الباطلة قد يطول ولكنَّنا نقول: إنَّ من أراد أن يقدِّم للناس بديلاً مشروعاً فعليه بأن يتقي الله ـ سبحانه وتعالى ـ ويرضيه قبل إرضاء إيِّ طرف من الناس، وليتذكر المرء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ، ومن أسخط النَّاس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس) أخرجه ابن حبَّان بسند جيد ـ انظر:السلسلة الصحيحة (2311)
والحقيقة أنَّ هؤلاء القوم المنتسبون للدعوة ويصاحبون في أعمالهم ما حرَّم الله بحجة اجتماع الناس عليهم وللمصلحة العقلية الموهومة فإنَّهم وكما قيل في المثل: يريد أن يطبَّ زكاماً فيحدث جذاماً ، فلا هم للبديل نصروا ، ولا للمعصية كسروا ـ نسأل الله لنا ولهم الهداية ـ.
3ـ لا شكَّ أنَّ العالم الإسلامي اليوم ، يحتاج لمصارف إسلامية ، وبنوك تتعامل مع الطبقات البشرية بالشريعة الإسلامية، ونحن نحمد الله ـ تعالى ـ أن صار لهذه البنوك وجوداً ولو كان بطيئاً في شوارع بعض الدول الإسلامية والتي تلبي رغبات التجَّار، وتعين المساكين وتقدِّم لهم البذل والمعونة ، وتقرضهم القروض التي لا تجر نفعاً ، وتتعامل مع من يريد تنمية ماله بالمعاملات المشروعة كالمضاربة والمشاركة والمساهمات التجارية.
بيد أنَّ هناك ـ وللأسف ـ بنوكاً أرادت أن تسوق بضاعتها بزيادة (الإسلامي) على كلمة ( البنك) للتغرير بعوام المسلمين ، وعقول البسطاء والمساكين ، ليتعاملوا معهم ويشتركوا في معاملاتهم المالية وأكثرها ـ عياذاً بالله ـ من أبواب الحيل الباطلة ، والتي يتمُّ معظم معاملاتها المصرفية بالتحايل على أبواب الشريعة، جاعلين زلَّات العلماء المتقدمين ، ورخص المعاصرين المتساهلين ديدنهم في الترويج للالتحاق بهم والتعامل معهم.
فيا سبحان الله !! وهل أصبحت البدائل المسماة إسلامية بهذا الشكل المرعب ، وأصبح البعض الذي ليس له من الثقافة الإسلامية رصيداً ولو يسيراً، يسوِّق لما يريد فعله ويضيف عليه كلمة (إسلامية) أو(إسلامي)أو على ( الشريعة الإسلامية) على طرفة السمك المذبوح على الطريقة الإسلامية! وإذا كان البعض هكذا؛ فليحذروا من عقوبة تحلُّ بهم من الله ـ عزَّ وجل ـ ونقمة شديدة يوم القيامة إن لم يتوبوا ويتداركوا أمرهم.
4ـ ومن ذلك بعض فتاوى المنتسبين للعلم والدعوة بأنَّه يجوز للمرأة أن تشترك مع الرجل في التمثيل على شاشات الرائي(التلفاز) بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال( النساء شقائق الرجال) ، وأنَّ المرأة نصف المجتمع ولها دورها فيه ، فلا بأس عليها أن تشارك في التمثيل بشرط أن يكون (إسلامياً).
والحقيقة أنَّ هذا يفتح باباً كبيراً لأهل العلمنة والفسق في محاولة التدرج بمن أردن التمثيل من النساء المنتسبات للخير والدعوة في مهاوٍ توقعهم في الردى، وفي أصعب الظروف ، وأحلك المواقف ، هذا عدا أكثر من عشرة مخالفات شرعية في هذا الباب.(8/220)
5ـ ومن ذلك ما يسمَّى بالأفلام المدبلجة ، والتي أنتجتها بعض الشركات الإعلامية الكافرة،أو الشركات الفاسقة ، فما كان من البعض إلَّا وأن حذف منها أصوات الأغاني والموسيقي، وظّنََّ أنَّ تسمية هذه الأفلام بأفلام إسلامية هو الهدف الرئيس ، مع أنَّ البعض من هذه الأشرطة فيها من التلوثات العقدية، والآراء الهدَّامة ما يقشعرُّ له البدن ، ويهتز له الفؤاد، من بعض الألفاظ الشركية ، والعادات المخالفة للقيم الإسلامية ، كالشرب بالشمال، والنوم على البطن ، وعدم تشميت العاطس، والسخرية بمن ابتلي بسمنة أو داءٍ في جسده ، ومظاهر الاختلاط بين الرجال والنساء، وعرض بعض صور النساء كاشفات لشيء من شعورهن وإبراز بعض مفاتن جسدهن ، ومع ذلك تبقى أشرطة إسلامية !!
فأين المراقبة الإعلامية المتخصصة ، وأين المراجعة والتدقيق الشرعي على مثل هذه الأشرطة المد بلجة؟
بل ظهرت بعض الأفلام الإسلامية !! يقمن فيها فتيات جميلات قد قارب أكثرهنَّ البلوغ في السنِّ العاشرة والحادية عشرة ، يقمن بالإنشاد الإسلامي، مع بعض حركات الرقص المرافقة لإيقاع الدف ، ويكون بالطبع معهن بعض الأحداث الفتيان ينشدون جميعاً عند بحر، أو تلٍّ ، وتقدِّم إحدى الفتيات وردة حمراء لأحد الأحداث الذكور وهي تبتسم ابتسامة ساحرة!!
حدَّثني بذلك ـ والله ـ جمع من الشباب الذين كانوا على طريق الغواية ثمَّ منَّ الله عليهم بهدايته ـ سبحانه ـ فأقلعوا عمَّا حرَّم الله ، وقالوا لي جميعاً اشترينا هذه الأشرطة من التسجيلات الإسلامية! ورأينا أناسا يشترونها! وكنَّا نتناوب على مشاهدة هذه الأفلام! لما فيها من الصور (الإسلامية)!!!
بل قرأت لأحد هؤلاء المنتسبين للإسلام مقالاً كتبه في إحدى الجرائد يطالب فيه بديسكو إسلامي! وما أدري والله ماذا زوَّر أمثال هؤلاء في صدورهم بعد ذلك من البرامج(الاستسلامية للواقع).
وصدق من قال في هذا الزمن:
زمان رأينا فيه كلَّ العجائب وأصبحت الأذناب فوق الذوائب
والآن...أساءل أصحاب هذه البدائل الظالمة...أسائلهم بالله العلي العظيم أذلك كلُّه من باب البديل الإسلامي المنضبط ، عن أشرطة الفسق والمعصية؟ (إنَّ هذا لشيء عجاب)
لقد تعدى الأمر حدَّه ، وخرج عن أصله ، وبلغ السيل الزبى ، والله المستعان..
فليتدارك أمثال هؤلاء القوم منهجهم ، وليصلحوا أمرهم ، وليتوبوا إلى ربهم ، ويعودوا إلى بارئهم ، ولا يكونوا سبباً لإفساد الشباب ، وهم يظنون أنهم مصلحون.
ونبقى نقول نعم للبديل ولكنْ بالضوابط الشرعية، والالتزامات العقدية ، وتحت استشارة أهل الشريعة، ولا للبديل المتسيب ، والذي شطَّ عن الصواب ، وانخرط في دوائر الانفلات ، وأُقْحِمَ في الشبهات, فإنَّ هذا ليس له مكان في قلوب أهل الإيمان، ويبقى الحقُّ عليه دلائل الإشعاع الربَّاني ، والباطل عليه دلائل التحايل العصياني.( فأمَّا الزَّبد فيذهب جفاءً ،وأمَّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب اللَّه الأمثال)ومن الله الحول والطول ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم أجمعين .والحمد لله رب العالمين..
كتبه
خباب بن مروان الحمد
============(8/221)
(8/222)
كيف نستثمر المعركة؟
بعد التحولات الخطرة والجولات المتعاقبة هنا سؤال أو عدة أسئلة تطرح، وتحتاج الإجابة إلى رويِّة وتفحص، ليس فراراً من الواقع، أو تسلية للنفس حين يقع المصاب، كلا؛ بل هو تلمس للحكمة الربانية فيما تكره النفوس ، إذ يقول تعالى " فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" [النساء: 19] وقوله تعالى " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" [البقرة:216] وهو تصديق لخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
والسؤال يقول: كيف نستثمر المعركة؟ أو ما هي مكاسبنا وخسائر أعدائنا؟ ومرة أخرى لا بد من الواقعية، والقول بأن هناك خسائر لحقت وستلحق المسلمين في هذه الحرب على العراق، وثمة مكاسب لعدونا حققها وقد يُحقق غيرها، ولكن السؤال المطروح استثمار أمثل لنتائج المعركة، وتلمس واعٍ للمكاسب تحت ركام الخسائر، وما من شك أن لكل معركة مكاسب ظاهرة وأخرى خفية، وما من شك كذلك أن مكاسبنا خسارة لعدونا والعكس، والمتأمل في التاريخ الماضي والحاضر يرى صوراً للنصر رآها الناس بعد حين لمن ظنوه منهزماً ، وأذكَّر بنموذجين: الأول: في مؤتة حين قابل المسلمون الروم والنصارى بعدد وعُدَّة غير متكافئة ومع ذلك ثبت المسلمون - وإن استشهد أمراؤهم الثلاثة- وقتل من قتل من المسلمين، واستطاع سيف الله المسلول خالد -رضي الله عنه- أن ينحاز بالبقية الباقية من المسلمين، ويفتح الله عليه ما لم يفتح على أصحابه، ومهما اختلفت عبارات السلف في تقييم نتائج المعركة (بين نصر أو هزيمة أو انحياز) فقد استطاع المسلمون أن يستثمروا المعركة لصالحهم، إذ تحطمت هيبة الروم في نفوسهم، وخبروا أساليب قتالهم، وتعرفوا على نقاط القوة والضعف في جيشهم، ولذا جاء بعث أسامة تأكيداً على قوة المسلمين وعدم خوفهم من الروم، ثم جاءت معركة اليرموك بعد برهاناً على تفوق المسلمين وسقوط دولة الروم على أيديهم.
أما النموذج الحديث: فيمثله تجربة اليابان، حين كانت كارثة هيروشيما ونجازاكي على أيدي الغربيين، ولكن اليابانيين وإن هزموا عسكرياً؛ فقد انتصروا علميا ًوتقنياً واقتصادياً، ونفضوا غبار المعركة وأزاحوا ذل الهزيمة وشقوا طريقاً أخرى للنجاح، وإذا وقع هذا لغير المسلمين؛ أفيعجز المسلمون عن استثمار الفرص، وتحويل الهزيمة إلى نصر؟!.
إن من الإيجابية أن يصبر المسلم على ما يلقى من أذى، وفي الوقت نفسه يفتش عن الجوانب المضيئة- وسط الظلام وفوق الركام - ليتقوى بها ويتسلى، ويُنتج ويستثمر الفرص، ويتجاوز دائرة الإحباط واليأس والقعود والسلبية إلى محيط الأمل والإنتاج والعمل والإيجابية.
ومن هذا المنطلق تعالوا بنا لنقف على شيء من مكاسبنا وخسائرهم في الحرب ولا شك أن مكاسبنا خسائر لأعدائنا، ومكاسبهم خسارة علينا .
01 تقاربنا وفرقتهم، لا شك أن المسلمين يعيشون حالة من الفرقة والتشرذم لا يُحسدون عليها، ولكن الأحداث يمكن أن تضيَّق هذه الهوة، وكفيلة - إذا ما استثمرت- لتوحيد الكلمة وجمع طاقة الأمة، فالخطر يحيط بها، والمخطط يستهدفها برمتها، وفرقتها وتناقضاتها أمضى سلاح يلعب به أعداؤها، وهو مذهب لريحها ومضعف لقوتها وحين تجتمع أو تتقارب تبدأ الطريق الصحيح لمقارعة عدوها. ولا شك أن عاطفة المسلم في المشرق حين تلتقي مع عاطفة المسلم في المغرب شيء عظيم، وهذا ما بدأنا نلمسه في هذه الحروب الظالمة الغاشمة، والمؤمل أن تُنمى هذه المشاعر وتُستثمر.
وفي المقابل كشفت الأحداث عن خلل وفرقة في المواقف بين أعدائنا، ومهما كانت مصالحهم وتبريراتهم فهي خرق في سفينتهم، وهي سهم يصيب القوم ويمكن أن يبيدهم، والمسلمون مطالبون باستثمار هذا الصدع لصالح قضاياهم.
02 وفي الحرب هزيمة لمبادئ القوم، وسقوط لشعاراتهم، وإخفاق لمؤسساتهم وهيئاتهم، فالحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان - وما شابهها- باتت مصطلحات مُحنطة من مخلفات الماضي، ومجلس الأمن يحتضر، وهيئة الأمم المتحدة تُركل بأقدامهم .
وهكذا تتسارع في السقوط مصطلحات وهيئات طالما اتكأ عليها الغرب في اتخاذ القرار، وروّج لها في سبيل العولمة والنفوذ والاستعمار، فهل يقيم المسلمون بديلاً صالحاً عن هذه المؤسسات والشعارات في أجواء صراع الحضارات ومقارعة الثقافات؟
03 كما أن من خسائر الغرب في هذه الحرب أنها وسَّعت دائرة الكره لهم ولمبادئهم، وكثّرت من سواد الرافضين لأفكارهم ومبادراتهم، وإذا شهدت عواصمهم موجة من الغضب والمظاهرات المنكرة للحرب، والمطالبة بمحاكمة مجرميها؛ فلا شك أن في تلك الخسارة لهم مكسباً للمسلمين ورصيداً يُضاف إلى رصيدهم، فهل يستثمروه؟ وإذا كان هذا تعبيراً من القوم عن كره الحرب ومجرميها فلا تسأل عن كره المسلمين لهم.(8/223)
04 ومن مكاسبنا في الحرب أنها صدّقت رؤيا الغيورين من أهل الدعوة والإصلاح، الذين طالما حذروا أمتهم من مكائد اليهود والنصارى وحربهم للإسلام والمسلمين، فجاءت الأحداث الراهنة شاهداً على صدق مقولتهم وبرهاناً على نصحهم لأمتهم، وبالتالي فهم محل ثقتها وعيبةُ نُصِحها، وينبغي أن تسمع الأمة لنصحهم مستقبلاً، وأن تستضيء بآرائهم في كشف عداوة الأعداء ومكرهم .
وفي المقابل كشفت الأحداث الوحشية في التدمير عن زيف الدعاوى، والتي طالما خدع بها المتأمركون والعلمانيون وأدلاء الطريق وأهل النفاق أمتهم حين ضللوها فترة من الزمن، وحسَّنوا لها التشبث بالنموذج الغربي في ممارسة الحياة، فهل يستيقظ هؤلاء، وتحذر الأمة أمثالهم مستقبلاً لاسيما وقد خيّب أسيادهم ظنهم فيهم، وكشفوا عن ظلمهم وطغيانهم؟
05 ومن خسائر الغرب في الحرب أنها أفقدت الثقة بآلاتهم العسكرية، فهي لا تستخدم لتأمين العدل والسلام كما يقولون؛ بل استخدمت بشكل سلبي للتدمير والاحتلال لا تفرق هذه الآلة المدمرة بين مدني أو عسكري، بل ربما تقصَّدت المدنيين الإعلاميين، الذين لا يروقون للغرب فيما ينقلون من أخبار، وكشفت الحرب عن تأسيس خطير لمبدأ التدخل في شؤون الدول، بما يعيد للأذهان حقبة الاستعمار البائدة، وهذا النمط الصارخ للتغيير بلغة السلاح مهما حقق اليوم من نتائج للقوم؛ فسيوقظ في الأمة روح الجهاد والمقاومة للمستعمر مستقبلاً.
06 وإذا كانت هذه الخسارة لهم على مستوى الآلة العسكرية، فقد مُنوا بخسارة إعلامية، وآلتهم الإعلامية كشفت كذباً وتزويراً للحقائق وخداعاً للشعوب واستخفافا بالعقول، وهو ما كان الغرب يروج لخلافة، ويزعمون المصداقية لإعلامهم، وسيكتشف العالم كم حجبت هذه الآلة الإعلامية من حقائق، وكم ضللت، وهذا سقوط مريع لإعلامهم وعلى المسلمين أن يستثمروه لصالحهم.
07 ومن مكاسب المسلمين في هذه الحرب أنها أحيت في نفوسهم مشاعر العزة بالإسلام، فقد كانت الضربة من الوحشية واللؤم بحيث أيقظت نيام المسلمين، وأذكت مشاعر الغافلين، وبات المسلمون - عربُهم وعجمهم- يشعرون بأنهم وحدهم هدف الحاضر والمستقبل لهؤلاء، ويشعرون في مقابل ذلك أن تأمين دولة اليهود في المنطقة هدفٌ يراد للغرب، ولذا فسيعمَّق ذلك شعوراً بالكره لليهود والنصارى المتحالفين، ويحيي ما ذبل من مفاهيم الولاء والبراء عند المسلمين. وبات يتردد على الألسنة كثيراً عداوة اليهود والنصارى للمسلمين، وأحسّ المُفرَّطون من المسلمين بحاجتهم إلى التوبة والعودة إلى الدين، ولم يعد الحديث عن الجهاد للغزاة المستعمرين حديثاً نظرياً؛ بل واقعاً ملموساً، ولقد كان حمق القوم وصلفهم سبباً في إشعال هذا الفتيل، وبدلاً أن يحذروا مجاهداً واحداً، فإذا بهم يواجهون أسراباً من المجاهدين المتطوعين .
08 ومن مكاسبنا في الحرب تعميق الوعي بشكل كبير في أفراد الأمة المسلمة، فقد تكشفت الحقائق والمخططات أكثر من ذي قبل، وكانت الحرب بصلفها وتسارعها وما صاحبها من تصريحات وأهداف أكبر وسيلة للتعبير وكشف الخطط، الأمر الذي كان يحتاج - قبل الحرب- إلى كم من المحاضرات والندوات والكتب المؤلفة حتى يقتنع عوام المسلمين والمنخدعين منهم، ولكن الحرب جاءت لتقصر مسافة الوعي، وجاءت الحرب لتصنف الناس، وتكشف عن المواقف والتحالفات المريبة، وظهرت على جانب راية الصليب راياتٌ للكذب والنفاق، والتدليس والخداع "وما ربك بغافل عما يعملون" .
09 ومن مكاسبنا في الحرب أن الفرصة للدعوة مواتية في الدعوة للدين الحق، وكشف محاولة الأعداء لتشويه صورة الإسلام، ونبي الإسلام، وبلاد المسلمين وتعرية عقيدة اليهود والنصارى وحقدهم على الإسلام، ودعوة المسلمين للتمسك بدينهم في ظل هذه الهجمة الصليبية الصهيونية الشرسة، إلى غير ذلك من مفردات الدعوة باتت الآذان مهيأة لسماعها أكثر من ذي قبل، فهل يا ترى يستثمر المسلمون عامة، والدعاة والعلماء والمفكرون المسلمون خاصة هذه الفرصة المواتية للدعوة؟.
10 ومن مكاسبنا في ظل هذه الهجمة أن كثيراً من المفاهيم والأنماط والسلوكيات الاجتماعية سيُعاد النظر فيها، أعني تلك التي صُدَّرت لنا من الغرب على مستوى الرجل والمرأة وعلى مستوى المثقفين وغيرهم، فالكره للغرب سيسري على كره صادراتهم الفكرية وأنماط حياتهم الاجتماعية، ولا مجال اليوم وغداً لمن كانوا ينظرون للغرب عامة ولأمريكا خاصة على أنها قبلة الفكر، ونموذج القيم، فقد كشف القوم عن حقيقتهم، وآن الأوان للمسلمين أن يعتزوا بقيمهم الإسلامية، وأنماط حياتهم الاجتماعية.(8/224)
11 ومن مكاسبنا في الحرب أنها كشفت عن تفاعلات جيدة، ومواقف مشكورة لدى أفراد الأمة المسلمة، فهذا يستنكر وآخر يتحسر، وثالث يقنت داعياً، ورابع يكتب في جريدة، أو يتحدث في إذاعة أو يظهر في قناة مرئية، وكل أولئك يُسهم في النصح والدعوة حسب ما يسر الله له، ومهما كانت هذه المواقف دون مستوى المأمول من الأمة، فهي إسهامات تحسب، وهي بدايات تشجع، والموفق من سدده الله، وآثر الحق على الخلق، وأرضى الله وإن سخط الناس عنه، فالكلمة أمانة ومسؤولية وفي التنزيل "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"، "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا"، وبكل حال تبقى هذه الإسهامات وغيرها نماذج للتفاعل مع قضايا الأمة، يمكن لها أن تتطور وتتعمق أكثر في المستقبل، إذا ثُمنت وشجعت وقيمت واستُنفرت لها طاقات الأمة .
12 التفكير الجماعي والمشورة، والتفكير بأساليب للخروج من الأزمة غانمين، وليس مجرد سالمين.. هذه إيجابية طالما غفل عنها المسلمون، إذ اعتادوا على التفكير الأحادي، والمشاريع الفردية، وهذه مع أهميتها إلا أن المشورة على الخير والتعاون على البر والتقوى من سمات المسلمين ودينهم، ولقد كان لهذه الأزمات أثر في تحريكها وتقريب وجهات النظر، وتشديد بعض المسلمين لبعض في ما يعملون أو يدعون، والمأمول أن تزيد هذه الإيجابية، وأن يستمر هذا التعاون على الخير والمشورة لصالح الإسلام وقضايا المسلمين فالمؤمنون إخوة، والمسلم أخو المسلم
13 وأخيراً- وليس آخراً - دعوة للمساهمة! فأنت مدعو أخي المسلم للمساهمة في استثمار الأزمة ورد مكائد الأعداء عن الأمة، فماذا قدمت؟ هل ساهمت بكلمة طيبة؟ هل تقدمت بمقترح مفيد؟ هل فكرت في مشروع دعوي نافع ؟ هل أعنت ملهوفاً؟ هل دعوت - من قلب- لمكروب؟ أي نوع من المساهمة قدمت لنفسك ولأمتك؟ هل يكفي أو يصح أن تقول لا أستطيع على شيء؟ هل ترضى أن تكون رقماً هامشياً في أمتك؟ وهل يكفيك أن تدير موجات المذياع بحثاً عن آخر الأخبار - ثم ماذا؟
أو تنظر بسلبية إلى المشاهد الدامية في القنوات عن إخوانك المسلمين وهم يحاصرون ويقتلون وتحتل أرضهم ويُسطى على مقدراتهم؟ إنها دعوة للمساهمة، ومن عمل صالحاً فلنفسه، والإسلام مسؤوليتنا جميعاً، وكيد الأعداء يستهدفنا جميعاً، وحقوق المسلمين علينا جميعاً .
=============(8/225)
(8/226)
نور الإسلام …الآن أيهم أشد عداوة
…
وزراء الخارجية العرب يعقدون اجتماعا طارئا بشأن غزة سعودي يخترع مكيفا يخفض استهلاك الكهرباء والماء ملف عن موضوع السينما وآثاره أحب ابنة خالتي وأحادثها !! على المسلم أن يتنازل عن حظوظ نفسه
…القائمة البريدية اشتراك إلغاء الإشتراك …
عنوان الفتوى …شبهات حول تحريم الربا
المفتي …د . يوسف بن عبد الله الشبيلي
رقم الفتوى …14080
تاريخ الفتوى …3/1/1427 هـ -- 2006-02-01
تصنيف الفتوى …
السؤال …
إنني طالب مقيم في أمريكا وخلال إقامتي ناقشت بعض المسلمين الذين يجعلون العقل هو الحكم في قبول أدلة الشرع فاخذوا يناقشوا في حرمة الريا وأن الحال الان في العالم من العولمة و البورصة العالمية تستلزم التعامل بالفوائد ولقد حاولت تبين لهم عظم حرمة الربا ولكن للأسف من غير فائدة أرجو من سماحتكم توجيهي في طريقة مناقشتهم والكتب التي تنصح في قراءتها لمناقسة مثل هذا الصنف من الناس . وجزاكم الله خيراً .
الجواب …
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :
فمن الممكن مناقشة هؤلاء من خلال عدة محاور :
الأول : بيان ما يجب على المسلم تجاه النصوص الشرعية من التسليم والإنقياد لحكم الله ، وأن المؤمن لا يكون مؤمناً حقاً حتى يحكم النصوص الشرعية سواء وافقت عقله القاصر وهواه أو لم توافقه ، وأن من مقتضى الإيمان بالله أن يسلم العبد لحكمه ، يقول سبحانه :" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما " .
الثاني : على العبد أن يوقن دوماً أن حكم الله فيه غاية المصلحة والخير الدنيوي والأخروي للعباد ، وأن العبد إذا ظهر له خلاف ذلك فإنما هو لقصوره البشري ، لأن الله تعالى هو واضع هذه الأحكام ، وهو أدرى بمصالح العباد من أنفسهم ، يقول تعالى : " ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون " .
الثالث : وأما كون النظام السائد في الأسواق العالمية هو نظام الفائدة فهذا لا يعني أنه أفضل من النظام الإقتصادي الإسلامي ، لأن إنتشار نظام الفائدة كان له أسبابه ومبرراته ، ومنها الدعم الكبير الذي حظي به هذا النظام من قبل المؤسسات الرأسمالية وأصحاب النفوذ والسلطة ، وهم المستفيد الأول منه ، وصاحب ذلك ضعف سياسي عند المسلمين نتج عنه غياب أو إنحسار البدائل الشرعية المناسبة ، وكون الدول الرأسمالية قد حققت قدراً أكبر من الرفاهية مقارنة بالدول الأخرى لا يرجع ذلك بالضرورة إلى نجاح نظامها الاقتصادي ، فثمة عدة عوامل ساعدت على ذلك من أهمها : الإستقرار السياسي ، وبناء مؤسسات المجتمع المدني من سلطة تشريعية وقضائية وتنفيذية على نحو تفوقت فيه على كثير من الدول ، والأهم من ذلك هو ابتزازها لخيرات الشعوب الأخرى ، وتسخيرها لكافة إمكانياتها العسكرية والسياسية والإستخباراتية ، لدعم نظامها الإقتصادي ، تحت مسميات متعددة ، فتارة بإسم الإستعمار ، وتارة بالضغوط الخارجية ، وأحياناً بالحصار الإقتصادي ، ومكافحة الإرهاب ، وأحياناً بدعوى الإصلاح الإداري ..، وقل ما شئت من المسميات التي لا تنطوي على عاقل ، ويدرك اللبيب أن المقصود منها هو التضييق على بقية الدول وامتصاص خيراتها وإجهاض أي محاولة لمنافسة الدول الاستعمارية .
الرابع : ولا يخفى على الناظر بتمعن ما سببه النظام الرأسمالي من ويلات ونكبات على الشعوب والمجتمعات ، حيث نجد دولاً برمتها تنهار اقتصادياتها في أيام معدودة بسبب الجو الملائم لمثل ذلك الذي أوجده هذا النظام ، كما يكفي أن نعرف أن أكثر من نصف سكان الأرض - في ظل النظام الرأسمالي - يعيشون تحت خط الفقر ، وأن 5% فقط من العالم تعادل ثروتهم ثروة بقية العالم ، بل نجد المؤشرات الاقتصادية داخل الدول الرأسمالية نفسها تشير إلى أن كفة الأغنياء في تصاعد مستمر على حساب الفقراء ، ومرد ذلك إلى الآلية التي يسير عليها النظام الرأسمالي والتي من شأنها أن تزيد الغني عنىً والفقير فقرا ، فكيف يؤمل بعد ذلك أن يعم الرخاء بسيادة هذا النظام في العالم .
الخامس : وقد ظهرت بعض البدائل المتفقة مع االشريعة الإسلامية في العقدين الماضيين في البلدان الغربية نفسها ، فظهر ما يعرف ب " صناديق الاستثمار " ( Investment funds ) وهي في الحقيقة مبنية على نظام المشاركة في الربح والخسارة الذي عرفه الإسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرناً ، وقد حققت تلك الصناديق نجاحاً منقطع النظير على حساب نظام الفائدة ، مما حدا بكثير من الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا إلى أن تجعلها من ضمن الأعمال الأساسية التي تمارسها البنوك التجارية ، بعد أن كان مترسخاً في الأذهان لقرون متعددة أن دور المصارف يقتصر على الإقراض بالفوائد ، ويكفي أن نعرف أن القيمة السوقية لصناديق الاستثمار في أمريكا وحدها تزيد عن ثلاثة ترليونات دولار ، وفي اعتقادي أن صناديق الاستثمار خطوة في الاتجاه الصحيح للتخلص من نظام الفائدة والاعتماد على الاستثمار بنظام الربح المبني على عقد المشاركة .(8/227)
السادس : وإتماماً للفائدة أشير إلى مقارنة سريعة بين نظام الربح المبني على المشاركة ، ونظام الفائدة المبني على عقد القرض ، فقد جاء تحريم الفائدة الربوية وإباحة الربح ، في الشريعة الإسلامية ، لتحقيق مقاصد عظيمة ، ومصالح كبيرة تعود بالخير على البشرية جمعاء ، دفعاً للظلم عنهم ، وتحقيقاً للعدل بينهم ، إلا أن الإنسان ذلك الظلوم الجهول بما يعتري فطرته من الانتكاس والغفلة ، لا يتوانى عن الخضوع ذليلاً لكل ما يشرعه أهل الأرض بما تحمله تلك التشريعات من ظلم وجور وطغيان .
فالإسلام حين حرم الفائدة فإنما حرمها لما تنطوي عليه من الظلم والفساد بين العباد ، وحين أباح الربح فلما فيه من العدل والإصلاح بين الناس ، ولنتأمل في بعض الآثار الاقتصادية لكل منهما :
1- فالربح يحقق الأهداف التنموية للبلاد على عكس ما تؤديه الفائدة ، ذلك أنه من المعروف أنه فيما عدا بعض القروض التنموية الممنوحة من هيئات متخصصة فإن سوق القروض يعد سوقاً قصير الأجل بمعنى أن المقرضين في الغالب يتحاشون الإقراض طويل الأجل خوفاً من تقلب أسعار الفائدة أو تدني القوة الشرائية للنقود أو التغير في معدلات الصرف .
لذلك يبدو التعارض قائماً بين أهداف المقرضين وسلوكهم وبين الحاجة للاستثمار طويل الأجل في معظم المجالات الاقتصادية الحيوية ، والتي لا تتحقق إلا باعتبار الربح معياراً للإنتاج.
2- ونظام الربح يضمن تحول رأس المال في المجتمع إلى رأس مال منتج يساهم في المشروعات الصناعية والزراعية وغير ذلك ، بينما في نظام الفائدة يودع الناس فائض أموالهم النقدية في البنوك مقابل فائدة منخفضة السعر يقررها البنك لودائعهم ، ثم يقوم بتحويل هذه الأموال إلى خارج البلاد واقتضاء فوائد مضمونة عليها ، دون أن تشارك هذه الأموال في التنميةالاقتصادية .
3- الربح عامل توزيع للموارد الاقتصادية بخلاف الفائدة التي تعتبر أداة رديئة ومضللة
في تخصيص الموارد ، وذلك لأن آلية الربح تشجع على توجيه الأموال إلى الاستثمارات الأعلى جدوى والأكثر إدراراً للعائد ، بينما تتحيز الفائدة بصفة رئيسية للمشروعات الكبيرة التي تحصل بحجة ملاءتها على قروض أكبر بسعر فائدة أقل ، بصرف النظر عن إنتاجيتها ، مما يساعد على تركيز الثروات في بد قلة قليلة من المرابين .
4- ولأن الربح ناتج عن ارتباط المال بالعمل فالتدفقات النقدية التي تتحقق وفقاً لهذا
النظام مرتبطة بتدفقات مقابله من السلع والخدمات الضرورية للمجتمع ، وذلك بخلاف نظام الفائدة حيث تنطوي عمليات منح الائتمان في المصارف التقليدية على زيادة كمية النقود المعروضة بما يسمح بمزيد من الضغوط التضخميه .
5 - أن البنوك في استغلالها للودائع بنظام الفائدة إنما تخلق نقوداً مصطنعة هي ما يسمونه بالائتمان التجاري ، وهي بهذا تغتصب وظيفة الدولة المشروعة في خلق النقود بما يحف هذه الوظيفة من مسئوليات ، ولا ينفرد بهذا الرأي علماء المسلمين بل قد أجمع كثير من علماء الاقتصاد في الغرب على أن الائتمان الذي تقدمه البنوك سواء كان في قروض الاستهلاك أو الانتاج من شأنه أن يزعزع النظام الاقتصادي لأن التعامل في البلاد الرأسمالية لم يعد بالذهب أو بالفضة أو بأوراق النقد إلا في القليل النادر ، أما أكثر التعامل فيجرى بالشيكات والثابت بحكم الواقع أن البنوك تميل في أوقات الرخاء إلى التوسع في الإقراض بفتح الاعتمادات التي تربو على رصيدها أضعافاً مضاعفه ، وميلها في أوقات الركود إلى الإحجام عنه وإرغام المقترضين على السداد ، فهذا البسط والقبض الذي تتحكم فيه إرادة القائمين على
المصارف الربوية هو من أهم العوامل التي تهز الكيان الاقتصادي ويفضي إلى تتابع الأزمات.
6- ولا ينقضي عجب الإنسان حين نعلم أن من علماء المسلمين المتقدمين من تحدث عن الأضرار الاقتصادية للربا وكأنما هو يصف حالة التخبط التي يعيشها العالم الاقتصادي اليوم :
فيقول الإمام الغزالي رحمه الله : ( إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة الربا من تحصيل درهم زائد نقداً أو آجلاً خف عليه اكتساب المعيشة فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعة وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق ، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعة والإعمار ).(8/228)
ويتحدث ابن القيم عن الضرر الناشئ عند الاسترباح بالنقود وحكمة تحريم ربا الفضل فيقول : ( والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال ، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الحلف ويشتد الضرر كما رأيت حد فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ، فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد منها التوصل إلى السلع، فإذا صارت في نفسها سلعة تقصد لأعيانها فسد أمر الناس ).
وفي تفسير المنار : ( وثم وجد آخر لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزاناً لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم فإذا تحول هذا وصار النقد مقصوداً بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال ) .
وختاماً فهذه بعض أسماء الكتب المفيدة في الموضوع :
1- نحو نظام نقدي عادل / للدكتور محمد عمر شبابرا ، وهو من مطبوعات المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، وهذا المعهد موجود عندكم في أمريكا ، وعنوانه على الشبكة العالمية هو : http://www.iiit.o r g
2- موسوعة الاقتصاد الإسلامي للدكتور / محمد عبدالمنعم جمال
3- بالإضافة إلى عدد من المطبوعات لدى معهد العلوم الإسلامية والعربية في أمريكا ، وهو موجود في ولاية فرجينيا ، وعنوانه على الشبكة العالمية : www.iiasa.o r g وبإمكانك الاتصال بهم على الرقم : 7032073901 وسيقومون بإذن الله بتزويدك بما تحتاج إليه من كتب
================(8/229)
(8/230)
الحرب والمصارعة على الطريقة الأمريكية
د. جبر البيتاوي*
16 ربيع الأول 1426هـ الموافق له: 25 أبريل 2005م
يبدو بأن التفكير السقيم لإدارة أمريكا للسلام وللحروب مع خصومها قد انتقل لمظاهر شتى في الحياة الأمريكية، منها طريقتها في المصارعة الأمريكية التي لا تسير على أي قانون رياضي يقيدها - فضلاً على المخالفات الشرعية التي تحيط بها -.
لهذا نرى المصارعة الأمريكية تبيح للمتخاصمين استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في التغلب على الآخر، وهي طريقة لا نظير لها في العالم، فالمصارعة كغيرها من الألعاب الرياضية تهدف إلى تقوية الروح والجسد للرياضيين، ونشر المحبة بين الأفراد والجماعات، إلاّ مصارعة العم سام فهي تهدف إلى القضاء على الآخرين بكل الوسائل الممكنة.
واللافت للنظر بأن كل المصارعين في حلبات المصارعة الأمريكية بدأوا في التفلت من كل قوانين المصارعة، الأقوياء منهم والضعفاء على حد سواء.
تقوم الإدارة الأمريكية في حروبها مع معارضيها، على استخدام كل ما وصلت إليها تقنياتها من أسلحة فتاكة ومتطورة، منه ما هو مسموح دولياً ومنه ما هو محرم من استخدام لليورنانيوم المنضب إلى إلقاء القنابل والصواريخ النووية كالتي استخدمتها ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وما تستخدمه الآن في العراق وأفغانستان من أسلحة محرمة دولياً، فالإدارة الأمريكية ترى في نفسها شرطي العالم، والآمر والناهي، والحارس على نظامها العالمي الجديد، هذا النظام يقوم على أساس إجبار كل الشعوب والأمم على الرضوخ والاستجابة لرغباتها وطريقة حياتها.
ولأن هذه الإدارة رعاها ربها [ إله الخير في نظرها ] يجيز لها استعمال القوة المشروعة وغير المشروعة في سبيل ترويض غيرها، واخضاعها لسلام العم سام، هذا السلام يقوم على تحرير الشعوب من الأنظمة غير الموالية لها، من أنظمة الشر حسب مفهومها.
ومن هنا فإن هذه الإدارة الخيرة - حسب تصورها - تعتبر مقاومة الشعب الفلسطيني لاحتلال إسرائيل لأرضه عملاً إرهابياً وغير مشروع، والمشروع هو ما يقوم به الطرف الإسرائيلي من قتل وحصار وتدمير للفلسطينيين، وكذا المقاومة العراقية إرهاباً كذلك.
وباختصار هذه الإدارة سمحت لنفسها سن قانون يبيح لها إبادة كل من يخرج على حظيرة الطاعة الأمريكية، وكل من يخالفها.
ولكن على الإدارة الأمريكية أن تعلم بأن استخدام هذه الأساليب العدوانية من استعمال لأسلحة الدمار الشامل والمحرمة دولياً، إلى البحث والتفتيش عن كل الطرق في الانتصار على خصومها؛ سيجعل خصومها يلجأون إلى وسائلها وطرقها التي تستخدمها في القتال والحروب.
ونحن العرب والمسلمون أصحاب حضارة عريقة تنتمي إلى أمة عظيمة قدمت للبشرية الكثير من معارف وعلوم أسهمت في تطور حياة الإنسان مع غيرها من الشعوب الأخرى.
فأمتنا هذه قد صحت من نومها العميق، وهاهي الآن تريد فك القيود التي وضعتها في الأغلال من قبل أمريكا وأعوانها، وهي ترى اليوم بأن عدوان الإدارة الأمريكية والبريطانية - ومن شايههما - هو عدوان على كل العرب والمسلمين كما هو الحال في أفغانستان وفلسطين والعراق وغيرها.
وترى كذلك بأن هذا العدوان السافر يقصد إلى القضاء على كرامتها المهدورة من قبل المتسلطين على رقابها، ولهذا فإن هذه الأمة اليوم مصممة على رد العدوان، والوقوف في وجه الطامعين في خيراتها ووجودها وكيانها مهما كلفها من تضحيات، فهي تتطلع للعزة والسيادة والسؤدد، فكما قاومت أمة العرب والإسلام كل الغزاة والمستكبرين من التتار وحملات الفرنج والروم على مر العصور وانتصرت عليهم؛ فهي اليوم أكثر تصميماً وإرادة في دحر المحتلين والغزاة الجدد، وهي ترى في نفسها وريثة الأنبياء والمرسلين وكل الخيرين في الأرض، وأن أعداءها هم الأشرار والمستبدون، ولذا فنحن أصحاب حق وأعداؤنا هم أصحاب الباطل، والحق منتصر لا محالة.
__________________
* جامعة النجاح الوطنية - نابلس
المصدر : http://www.islammemo.cc/filz/one_news.asp?IDNews=590
===============(8/231)
(8/232)
العولمة الإعلامية
ناصر العمر
إن العولمة منظومة متكاملة يرتبط فيها الجانب السياسيُّ بالجانب الاِقتصادي، والجانبان معاً يتكاملان مع الجانب الاجتماعي والثقافي، ولا يكاد يستقل جانبٌ بذاته، ولكن آلة ذلك كله التي لاتنفصل البتة عن أي شكل من أشكال العولمة هو الإعلام بوسائله المتعدد، فمهما رأيت صوراً لعولمة ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، فاقطع بأنها جاءت محمولة عبر آلية إعلامية.
فنجاح مروجي ثقافاتهم واقتصادياتهم وسياساتهم بل وحروبهم، كان من أعظم أسبابه نجاحهم في عولمة إعلامهم.
وإذا كان حافظ إبراهيم قال منذ عشرات السنين:
لكل زمان مضى آية *** وآية هذا الزمان الصحف
فاليوم لم تعد الصحف هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة، بل تعددت قنوات ووسائل الاتصال حتى حار الإنسان فيها، واتخذت أشكالاً عدة أبرزها ما يلي:
1- الإذاعات:
وهي أوسع القنوات الإعلامية انتشاراً للأسباب التالية:
(أ) أنه يشترك فيها المتعلم، والعامي، والصغير والكبير، والرجل والمرأة.
(ب) قلة تكلفتها المادية، بخلاف كثير من وسائل الإعلام الأخرى، فما على المرء إلا أن يشتري جهاز راديو حسب إمكاناته المادية، حتى لو لم يملك إلا دريهمات معدودة، فسيجد ما يلائمه منها، مما يحوي عدة موجات.
آلة ذلك كله التي لاتنفصل البتة عن أي شكل من أشكال العولمة هو الإعلام بوسائله المتعدد، فمهما رأيت صوراً لعولمة ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، فاقطع بأنها جاءت محمولة عبر آلية إعلامية.
(جـ) سهولة الاستعمال، فيستطيع الإنسان أن يستمع إلى الراديو في أي مكان كان ما لم يوجد حاجز طبيعي.
(د) طول مدة الإرسال، وكثرة الإذاعات؛ فالإرسال الإذاعي يستمر ساعات طويلة في أغلب الإذاعات، وهناك إذاعات يستمر إرسالها (24) ساعة متصلة.
(هـ) عدم وجود رقابة على الإذاعات، ويستطيع المستمع أن ينتقل من إذاعة إلى أخرى دون حسيب أو رقيب من البشر.
ولهذا فقد لعبت الإذاعات دوراً مهماً في حياة الناس، ولا تزال مع التقدم الهائل في الوسائل الإعلامية الأخرى تحتل مكانة بارزة، وتؤثر تأثيراً واضحاً.
ويكفي أن أشير إلى أن هناك عدداً من الإذاعات العالمية استحوذت على أغلب المستمعين، وعلى رأسها ثلاث إذاعات، وهي:
1- إذاعة لندن.
2- صوت أمريكا.
3- مونت كارلو.
وقد كشفت الأحداث المختلفة تأثير تلك الإذاعات، وتسابق الناس للاستماع إليها، ومازالت الدول المصدرة للثقافة تطلق إذاعاتها الموجهة للعالم العربي، وقد أطلقت الولايات المتحدة قبل أشهر محطة إذاعة جديدة باللغة العربية باسم [إذاعة سوا]، تشرف عليها [صوت أمريكا] موجهة للعالم العربي، وذكر مسؤولون أمريكيون أنهم بصدد مغازلة الشباب العربي الغاضب والقلق والشباب المسلم بشكل عام، وتبث على مدار 24 الساعة، وقد كانت الحكومة الأمريكية قد بدأت التخطيط للمحطة منذ ستة أشهر، حيث أطلق عليها اسم الشيفرة [مبادرة 911]، وتم رصد 30 مليون دولار كنفقات لمدة ستة أشهر لشبكة إذاعية جديدة تستهدف الشباب العربي، وفي الوقت نفسه بذلت لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي جهوداً مكثفة لمضاعفة نفقات البث الإذاعي الأمريكي؛ التي تبلغ 479 مليون دولار لتغطية كل العالم الإسلامي من نيجيريا إلى إندونيسيا، وفي هذا الإطار دفعت لجنة المخصصات في مجلس النواب الأمريكي الأموال الطائلة بزيادة قدرها 19 مليون دولار؛ لإحياء محطات إذاعية منفصلة خاصة بأفغانستان
2- الصحف، والمجلات، والدوريات، والنشرات:
وقد تربعت الصحافة على عرش التأثير زمناً طويلاً، حتى أصبحت في وقت من الأوقات تسمى السلطة الرابعة.
واليوم تبوأت الصحافة مكانة أسمى، وتأثيراً أقوى، حتى أصبح الملوك والرؤساء يخطبون ود رؤساء التحرير، ويتقربون منهم، ويغدقون عليهم العطايا، والهبات رجاء وخوفاً، بل تعدى الأمر إلى صغار المحررين، والمبتدئين من المراسلين، وأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يستغني عن مطالعة الصحف، والمجلات يومياً، بل الكثير منهم لا يتناول فطوره إلا بعد الاطلاع على صحف اليوم.
3- التلفزيون والفيديو:
على الرغم مما تقوم به الوسائل الإعلامية الأخرى، فإن تأثيرها -رغم قوته- لا يتعدى 30% من قوة تأثير التلفزيون والفيديو، وقد أثبتت الدراسات، والبحوث العلمية التي أجريت حول مدى تأثير التلفزيون والفيديو أن تأثيرهما لا تقاربه أي وسيلة أخرى، وستتضح هذه الحقيقة من خلال هذا الكتاب، وذلك للأسباب التالية:
(أ) انتشار هذا الجهاز حتى أنه قل أن يخلو منه بيت، أو يسلم من مشاهدته إنسان.
(ب) عدد الساعات التي يقضيها المرء عند التلفزيون والفيديو، فقد ذكر الدكتور حمود البدر(2) أن الدراسات، والأبحاث أثبتت أن بعض الطلاب عندما يتخرج من المرحلة الثانوية يكون قد أمضى أمام جهاز التلفزيون قرابة (15) ألف ساعة، بينما لا يكون أمضى في حجرات الدراسة أكثر من (10800) ساعة على أقصى تقدير(3) أي في حالة كونه مواظباً على الدراسة محدود الغياب.
ومعدل حضور بعض الطلاب في الجامعة (600) ساعة سنويا، بينما متوسط جلوسه عند التلفزيون (1000) ساعة سنويا.(8/233)
(جـ) طول مدة البث يومياً، واستمراره جميع أيام الأسبوع دون عطلة، أو إجازة.
(د) الحالة النفسية للمتلقي، حيث إن المشاهد للتلفزيون، أو الفيديو يكون في حالة نفسية جيدة راغباً للمشاهدة مستعداً للتلقي، متلذذاً بما يرى، بخلاف الطالب في المدرسة، ومهما كانت حالة الطالب من الارتياح لأستاذ من الأساتذة، أو مادة من المواد، فإنها لا تصل إلى حالة مشاهد يرى فيلماً غريزياً، أو حلقة من حلقات المصارعة، أو مبارة من مباريات كرة القدم.
(د) إن أسلوب عرض البرامج، والتمثليات بلغ الذروة في الإخراج، واستخدام التقنية مع التشويق، والإغراء وحسن العرض مما يجعل المشاهد أسيراً لها مع قوة التأثير.
(هـ) إن الراديو يدرك بحاسة السمع، والصحافة تدرك بحاسة البصر، أما التلفزيون فتشترك فيه حاستان هما السمع والبصر، مما يجعل تأثيره أكثر، ولقد تطور التلفزيون تطوراً مذهلاً، ووصل إلى تقنية عالية الجودة.
ولقد كان المشاهد أسير قناة واحدة، أو قناتين، وعلى كل الأحول لا تتعدى القنوات التي تبث من بلده، أو من الدول المجاورة إن كان بثها قويا خمس قنوات.
ثم جاء الفيديو، وأتاح للمشاهد فرصة الاستمرار في مشاهدة ما يرغب من أفلام دون أن يكون أسير ما يبث في التلفاز ضمن إطار ضيق.
أما الآن فقد بدأ البث التلفزيوني العالمي، مما يفتح الباب على مصراعيه، ويجعل تأثير التلفزيون فيما مضى محدوداً إذا قورن بالمرحلة المقبلة والانفتاح المذهل
http://www.fin3go.com المصدر :
=============(8/234)
(8/235)
الطروحات النسوية العولمية تجليات للاستعمار الجديد
أجرى الحوار : الهيثم زعفان
المهندسة «كاميليا حلمي» ـ المدير التنفيذي لمكتب اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل في القاهرة التابعة للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، تخرجت في كلية الهندسة جامعة الإسكندرية، واشتعلت بالعمل الخيري منذ الثمانينيات، ثم اهتمت بقضية المرأة والطفل، حضرت العديد من المؤتمرات الدولية والإقليمية. متزوجة من مهندس ولديها ثلاثة من الأولاد. وكان للبيان معها هذا الحوار:
البيان:من خلال اهتمامكم بالحركة النسوية وتطوراتها المتسارعة في السياق العولمي ما رأيكم فيما يجري باسم المرأة الآن؟
*الطرح النسوي العولمي هو أحد أبرز تجليات الموجة الجديدة من الاستعمار التي تتبنى مسالك ملتوية، وتتزيف بقضايا براقة مثل: قضية المرأة على المستوى الأممي؛ فاليوم يسعى الغرب جاهداً إلى تفكيك المؤسسات التي تقوم على توريث الإسلام للأجيال، وقد نجح من قبل في تحييد الدولة بمؤسساتها تجاه الدين، وبقيت الأسرة حجر عثرة في طريقه، والمرأة كأم هي حجر الزاوية في الأسرة والعنصر الأهم في تنشئة الأجيال، وحتى لا تستثار الشعوب أمكن توظيف هيئة الأمم المتحدة كمنظمة تنضوي تحتها كل الدول في هذا السبيل، وقد صدرت عنها عدة وثائق وفعاليات لو طبقت ـ لا قدر الله ـ لتحقق لهم ما أرادوا، وقد سخرت كل المؤسسات الدولية لدفع الدول لتبني هذا الفكر في شكل قيم وقوانين وسياسات تدفع بالمجتمعات نحو تبني وتطبيق المفاهيم والقيم النسوية الشاذة عن مدارك البشرية كلها، والسعي في تنشئة الأجيال الجديدة على تلك المفاهيم.
البيان:هل يمكن القول إن تبنّي الأمم المتحدة هذه القضية قد بدأ مع مؤتمر القاهرة للسكان؟
* التبني الأممي للفكر النسوي بدأ يتبلور مبكراً منذ عام 1948م، وتجلّى في مؤتمرات عدة للمرأة، وفي وثائق منها السيداو، لكنه اصطدم بوعينا، وتجلّت لنا خطورته في مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994م، ثم استشرت في بكين 1995م، وما تبعهما من مؤتمرات وتفاعلات، حيث بدأت الأجندة النسوية العولمية في إعلان مطالبها بوضوح وصراحة، وضمنت وثيقة القاهرة للسكان بعضاً من ذلك، بما أحدث صدمة كبيرة ورد فعل قوي من الأزهر، وحين أخفقوا في نيل المشروعية ضمناً من الأزهر، ذهبوا إلى بكين ليحققوا ما أرادوا.
البيان: وما وجه التغير في هذين المؤتمرَين عما قبلهما؟
* قبل المؤتمرَين كان الفكر النسوي فكراً نخبوياً، لكن بعد هذين المؤتمرَين استهدف الفكر ثقافة الجماهير وعامة الناس من خلال تبنّي آليات للتغيير في الأوضاع الاجتماعية بصورة مستفزة، وقد اكتسبت تلك الأفكار والمطالب سلطة الأمم المتحدة، وحققت اعتراف الدول بها والتوقيع عليها من قبْل، ثم جاء المؤتمرَان ليكشفا المخبوء، ويطرحا برامج معلنة للتطبيق، من إباحة الإجهاض، والشذوذ، والممارسات الجنسية للمراهقين، إلى طرح فكرة التمييز ضد المرأة كشعار برّاق ومعمَّى، يحمل في طياته مضامين تهدد المجتمعات، ولما أبى الأزهر أن يكون لهم ذلك، سارعوا بالمؤتمر اللاحق في بكين ـ أقصى الأرض ـ وقد رأينا كيف شاركت فيه مئات من المنظمات السحاقية والشاذة، وكيف باتت مطالبهم مشروعة ومضمنة في الوثائق الدولية كجزء من الحقوق في وثائق المرأة والطفل وغيرها.
البيان: «العنف ضد المرأة» و«التمييز ضد المرأة» و«تمكين المرأة» و«المساواة» قيم يطرحها الخطاب النسوي كقيم مطلقة، كيف هي مضامين هذه الشعارات؟
* نحن أصبحنا نتعامل بصورة يومية مع ألفاظ من غير أن ندرك معناها وفي هذا خطورة كبيرة؛ فتمكين المرأة كما قلنا يعني إقصاء الرجل، وتسويد المرأة وما يحمله ذلك من إجراءات تحقق هذه القيمة من التمكين السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي. أما التمييز ضد المرأة فهو لفظ فضفاض يدخل تحته أي لون من ألوان الاعتراض أو الإعاقة التي تقف دون تمكين المرأة.
أما العنف ضد المرأة فيعرَّف في وثائق الأمم المتحدة على أنه: «أي تفريق في التعامل بين الرجل والمرأة لمجرد كونها امرأة وكونه رجلاً، وعلى هذا فطاعة المرأة لزوجها وتربيتها لأولادها ومكوثها داخل البيت لرعاية الأسرة، وكون العصمة بيد الرجل والقوامة كذلك كل هذا عنف، أي أن العنف هو أي انتقاص من الحقوق التي حددتها الأمم المتحدة للمرأة، و (السيداو) تعطي المرأة الحرية المطلقة، وتتعامل معها وكأنها كائن يحيا منعزلاًَ ليس في أسرة وإنما في صحراء، له حقوق دون أن يكون عليها واجبات، وهذا ما نشهده وسنشهده في واقعنا العربي من خلال سلسلة من القوانين التي بدأت تجد سبيلها للتطبيق.
البيان: هل فكر (الفيمينزم) حين تسعى لتقديس المرأة بهذا الشكل ترسخ لمعاداة للرجل؟(8/236)
* الـ «Feminism» أو الاتجاه الراديكالي يتبنى مبدأ الاستغناء عن الرجل، أو مبدأ استئصال الرجل، وتمركز العالم حول الأنثى، ويحلمون بعالم من النساء فقط بلا رجال، لدرجة أنهم أنشؤوا جمعية تحمل اسم «تقطيع أوصال الرجال» هذا الطرح يشمل كل صور الاستغناء اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وجنسياً، ويستعيضون عن الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي بحركات أو تيارات تمكين للمرأة، وعن الجانب الجنسي بالسحاق والعلاقات المثلية، بمعنى التجاوز المطلق للرجل والتمكين المطلق للمرأة في مواقع صنع القرار؛ ولهذا فكل ما يقف في وجه هذا التمكين هو تمييز ـ وفق ما يقصدونه بالتمييز ـ ضد المرأة، وهذا تمييز سلبي مرفوض في نظرهم، ولو كان حكماً من أحكام الشريعة، كما أن أي تمييز لصالح المرأة هو تمييز إيجابي كما تنص وثائق المرأة، بمعنى أنه ليس هناك مانع أن نميز لصالح المرأة؛ إذن المسألة لا تعني حتى المساواة التي يبشروننا بها، ولو كانوا يبحثون عن العدالة لأعطوا لكل من الرجل والمرأة حقوقه، ونحن مع أن يأخذ كل منهما حقوقه، ويتحمل مسؤولياته، لكنهم يحلمون بعالم خالٍ من الرجال، ولهذا نسمع عن التمكين الاقتصادي والاجتماعي، وأيضاً الاستغناء الجنسي طبعاً بديله أن ينتشر الشذوذ، ويصبح الشذوذ بالنسبة للمرأة منظماً ومشرعاً، وليس مجرد انحلال خلقي، لكي تتعود أن تستغني عن الرجل وعن الأسرة تماماً في حياتها، وتستغني كذلك عنه في الإنجاب من خلال الاستنساخ الذي هو من أجل الاستغناء عن الرجل، وأول طفلة مستنسخة كانت من جمعية (فيمينزم) وهم الذين أشرفوا على هذه العملية؛ فبالاستمرارية البشرية عبر الاستنساخ تستطيع الاستغناء كلياً عن الرجل وعن كل ما يرتبط به..! هذا الفكر لو عم فسيفني البشرية كلها.
البيان: لكن هل يمكن أن تستغني الحركة النسوية بذاتها عن الرجل؟
* لا، بل حتى من واقع فكر الفيمينزم ما زال الرجل هو الذي يقود العالم، ويتحكم في المؤسسات والدول، ما زال هو المسيطر، هم يعترفون أن هناك فقراً في الكفاءات من النساء اللاتي يستطعن أن يسيرن العالم.
البيان: تعد ثقافة الجندر تطوراً نوعياً في الطرح النسوي، كيف ترصدين تسرُّب هذه الثقافة إلى وعينا اليوم؟
* الـGende r هو ما يعبر عنه بـ «النوع»، ويعني: «إلغاء أي تفرقة تترتب على الاختلاف الجنسي بين الذكر والأنثى»، هذا اللفظ تحول من كونه مصطلحاً مفرداً إلى منظومة تحمل أكثر من 60 مصطلحاً تنبثق عنه ـ وهي في ازدياد ـ بحيث تغطي مختلف جوانب الحياة من خلال ما يسمى: «إدماج الجندر في كل مؤسسات العالم وكل مؤسسات الدولة» (Gende r Main Enst r ing) سواء المؤسسات الحكومية أو المؤسسات الخيرية.. بحيث يدمغ كل مناشط الحياة بمفاهيم الجندر، وهناك مفاهيم اجتماعية، اقتصادية، سياسية... إلخ كلها مبنية على الجندر.
فلو أريد تطبيق «الجندر» على الجوانب الاجتماعية فسنجد «النوع الاجتماعي» Social Gende r وما يتشعب عنه من مصطلحات اجتماعية كلها مضافة إلى جندر، ولو أخذنا مثالاً تطبيقياً حول ما يعرف بـ «العلاقات الجندرية»Gende r Lotion فهم في الغرب كانوا يتصورون العلاقات بين أفراد الأسرة من خلال منطق القوة Powe r Relation؛ فالرجل أقوى من المرأة، ولهذا فهو الذي يسيطر على البيت. أما في الجندر فلا يعترفون بوجود فوارق مطلقاً بين الرجل والمرأة، ومن ثم فكل ما ينبني على الفوارق فهو نوع من الظلم وفق رؤيتهم يجب إزالته؛ وعليه تتماثل المرأة مع الرجل في كل شيء.
البيان: وهل هناك تطبيقات لهذه الثقافة؟
* هناك تقسيم وظيفي كامل وفق الجندر؛ بحيث يقوم كلا الطرفين بجميع الأعمال مناصفة وبصورة متساوية، فلا تختص الأنوثة برعاية الأطفال وأعمال البيت، بل تقوم العلاقة على نِدِّية تامة وتقسيم حرفي للوظائف مناصفة؛ فإذا ما أرضعت الأم طفلها مرتين فيجب على الأب أن يقوم بنفس العدد من ذات المهمة، هذا ضمن مفهوم مساواة الجندر.
وإذا كان لا مزية لفرد على آخر داخل الأسرة فلا سلطة إذن لطرف على آخر؛ فالأخت الكبرى ليس لها أي سلطة على الأخت الصغرى، فتزول مختلف الفوارق، الآدميون كلهم صاروا أشبه بآلات «Machine».. ! بلا مشاعر ولا أحاسيس ولا خصائص نفسية أو جسمية؛ فكل ذلك لا وجود له أو لا تأثير له على الاختلاف الوظيفي.
البيان: وهل يمكن أن نجد لمثل هذا التطرف تطبيقاً داخل المجتمعات؟
* الأمر تجاوز التنظير الفكري والنشر الثقافي إلى اختراق بنية المجتمعات لصبها على هذه الصورة نظرياً وعملياً في وقت واحد، هناك سعي لتطوير وتفعيل هذا الطرح، وهم ينطلقون من مسلَّمة أن المجتمع بقيمه هو الذي يبني التفرقة بين الذكر والأنثى، وليس مجرد الاختلاف الجسدي؛ ولهذا فهناك سلسلة متشابكة من القوانين والقيم والرسائل الإعلامية والمضامين التربوية والإجراءات والسياسات التي تفرض من خلال الاتفاقيات والمؤتمرات الدولية، والتي تمتد عبر مؤسسات للمجتمع المدني ذات صلاحيات كبيرة داخل المجتمعات تتيح فرصاً كبيرة أمام هذا الطرح في اختراق بنيتنا الثقافية والاجتماعية.(8/237)
البيان: لكن نفي الاختلاف مطلقاً له آثار خطيرة ومخالف لناموس الخلائق كلها!
* الجندر يعمل على محو فكرة التكامل الوظيفي القائم على الاختلاف الفطري داخل المجتمع من خلال بناء منظور جديد لصورة كل من المرأة والرجل والعلاقة بينهما، ولذلك لا بد من هدم جميع القيم والتخلي عنها من دون استثناء، فينبغي إزالة كل صور التفريق، في التنشئة، في التسمية، في اللباس، في التعامل، في كل شيء حتى العلاقات الجنسية ينبغي عدم التفرقة، وإذا انتفت التفرقة فلا فرق بين الزواج في ظل الأسرة الشرعية وبين العلاقات المثلية الشاذة؛ فجميع الأطراف متساوون في كل الحقوق طبقاً لمساواة الجندرGende r Equality، والتي تترجم عندنا خطأ على أنه شيء آخر تماماً: «المساواة بين الرجل والمرأة»، بينما هي تحمل نفس المضامين لو تأملنا.
البيان: هل يمكن القول إن الحركة النسوية نجحت في تسخير المؤسسات الدولية لأغراضها؟
* اللجنة المضطلعة بشؤون المرأة داخل الأمم المتحدة والتي تعرف بـ (لجنة مركز المرأة) جميع أعضائها من الاتجاه النسوي الراديكالي (الحركة الأنثوية المتطرفة)، وهي التي تتخذ الإجراءات وبيدها القرار، وهي التي تضع الأجندة وتتابع تطبيقها.
البيان: إذن الثورة الأممية في صف الشواذ تنال شرعيتها من هذا المدخل!
* نعم! وقد بدأت تداعيات هذا تظهر في مؤتمر نيويورك 2000م، حين أصدر الأمين العام قراراً بمساواة المتزوجين الشواذ بالتقليديين ـ لا يقول: الطبيعيين، ولكن يقول التقليديين، ولا يعترف أن الشواذ غير طبيعيين ـ والمساواة تكون في الميراث والضرائب والتأمين، وسائر الحقوق المدنية المعطاة لأي مواطن، وتصبح العلاقة علاقة شرعية تتمتع بكافة الحقوق ودون أي تجريم لأي شكل من العلاقات.
البيان: وماذا عن اعتراضات الدول العربية والإسلامية على هذه القضايا؟
* الدول العربية والإسلامية اعترضت على هذا الطرح، لكن المشكلة أن الاعتراض يأتي في بعض التفاصيل، دون الانتباه إلى أن العلاقات الجندريةGende r Equality هي الإطار الكلي الذي سيظل يحكم الأمور، فتظل رغم تحفظاتك تدور في الحلقة التي وضعوك فيها، ويبقى الهدف الرئيسي كما هو؛ أن يعيش الشواذ بالمساواة في المجتمع، ويأخذوا حقوقهم؛ بينما أنت تتحفظ على الميراث وعلى بعض التفاصيل، نحن نريد من الوفود العربية والإسلامية أن يكون تحفظهم على أصل الوثيقة لا على بعض تفاصيلها.
البيان: وهل لوجودكم باعتباركم منظمة إسلامية جدوى داخل الأمم المتحدة في ظل قوانين تسن من قِبَل قلة في مقابل إذعان أو ضعف الخيارات أمام الوفود الرسمية؟
* اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل تُعد إحدى اللجان الاستشارية المعتمدة من الأمم المتحدة، ومشاركتها يعد دعماً لمواقف الوفود الإسلامية، ووجود اللجنة وغيرها من المؤسسات الإسلامية مهم للغاية من هذا الجانب، كما أنه يتيح لنا موقعاً لمعرفة ما يجري وخلفياته، بالإضافة إلى أنه باب جيد لفهم الأجندات المفروضة وما ينبغي أن يكون معها، واللجنة منذ حصولها على عضوية المجلس الاقتصادي والاجتماعي ـ أحد هياكل الأمم المتحدة ـ وهي تعمل على الحد من المقررات التي من شأنها الإضرار بالأسرة والقيم المرتبطة بها، كما نسعى من خلال المؤتمرات لبيان القيم الاجتماعية في الإسلام للجميع، والتعريف بالموقف الإسلامي من قضايا الأسرة والمرأة، والتأكيد على دعم التوجه الإسلامي باعتباره خصوصية ثقافية لم يفهمها كثير من الغربيين على حقيقتها بعد، وقد حققنا ـ بفضل الله ـ بعض النتائج الطيبة من خلال إضافة بعض الفقرات في بعض الوثائق، وكان لنا دورنا ـ بفضل الله ـ في إلغاء التوقيع على وثيقة إدماج الرجال والصبية في تفعيل «مساواة الجندر»، هذه الوثيقة ولو نجحت ـ لا قدر الله ـ لكان لها آثار كبيرة وخطيرة على المجتمعات عموماً، كما كان لنا دورنا في دعم المواقف الرسمية العربية الإسلامية المعارضة لمقررات «بكين». أما عن الطموحات فهي كبيرة، وكذلك نحن نلنا رئاسة غرفة الشرق الأوسط بالأغلبية، وانتخب منا رئيس لهذه الغرفة.
وقد انتهت اللجنة الإسلامية للمرأة والطفل من وضع «ميثاق الطفل في الإسلام» كوثيقة تجلّي مكانة الطفل في الإسلام والتدابير التي وضعها الإسلام لحماية الطفولة، وقد سجل هذا الميثاق في منظمة المؤتمر الإسلامي تمهيداً لتسجيله في الأمم المتحدة، والذي يمكن أن يعد مرجعية للدول الإسلامية في مجال الطفولة.
البيان: وماذا عن المضايقات؟
* المضايقات تعرقل بعضاً من جهودنا، لكنها تزيدنا إصراراً وتمسكاً بمواقفنا.
البيان: وما دور «ائتلاف المنظمات الإسلامية» الذي شاركتم بتأسيسه، وما طبيعته؟(8/238)
* «ائتلاف المنظمات الإسلامية» هو ائتلاف يضم عدداً من المنظمات الإسلامية على مستوى العالم على اختلاف الهويات والانتماءات والتيارات الفكرية، ويتبنى قضية الأسرة والحفاظ عليها، ويسعى إلى إبراز موقف عالمي إسلامي من قضية المرأة والأسرة، وقد نلنا تأييداً كبيراً من منظمات حماية الأسرة والمنظمات الكاثوليكية الرافضة للفكر النسوي، ونسعى خلال الفترة المقبلة إلى ترجمة هذا الموقف في شكل وثيقة إسلامية عالمية عن المرأة والأسرة في الإسلام، وأملنا كبير أن يتسع الائتلاف ليضم كل المؤسسات الإسلامية العاملة حتى يتعضد موقفنا عالمياً.
وحاجتنا إلى دعم وتأييد أي جمعية وأي مؤسسة وأي منظمة كبيرة وماسة، حتى ولو كان نشاطها في غير المجال النسوي؛ لأن قضية الأسرة مسؤولية الجميع، وليس في هذا الانضمام أدنى مشكلة؛ فالائتلاف عبارة عن جسد بغير رأس يتزعمه، وأسماء المنظمات مرتبة تحت العنوان الكبير بدون تمايز.
البيان: كثيراً ما يثار أن النسخة العربية من وثائق الأمم المتحدة لا تعبر تعبيراً دقيقاً عن كثير من النقاط، وهذا أحسبه موجوداً في وثائق المرأة، وأحياناً يكون الفرق شاسعاً؟ هل يتاح للدول العربية أن تلتزم بالنسخة العربية دون الإنجليزية؟
* التوقيع يتم على النسخة الإنجليزية؛ أما النسخة العربية فهي غير دقيقة، وتخالف في عباراتها كثيراً من العبارات المنصوص عليها في النسخة الإنجليزية، ولهذا فالنسخة العربية ليس لها حجية في الأمم المتحدة، وعلى هذا ينبغي الرجوع إلى النسخة الإنجليزية إذا ما أردنا أن نعرف ماذا يريدون من هذه الاتفاقيات، مثلاً لفظ «Gende r Equality» والذي مُرِّر في بكين تم إحلاله مكان لفظ «sex»، يترجم في العربية: أنه يعني: «المساواة بين الجنسين»، «Sex Education» أي: «تعليم الجنس»، ويترجم على أنه «الثقافة الجنسية»، والذي يعد لفظاً مخففاً لا يحمل نفس الحساسية التي يحملها لفظ التعليم في بلادنا، بينما هو يحمل نفس المضامين، وهم يتحدثون الآن عما هو أكثر من التعليم؛ يتحدثون عن: «خدمات الصحة الإنجابية» التي يدخل فيها تعليم الجنس والثقافة الجنسية وتوزيع وسائل منع الحمل على المراهقين في المدارس، وما يعرف بالإجهاض الآمن (الذي يتم بصورة قانونية)، وقد شهدنا بيان ذلك في مؤتمر الأمم المتحدة 2001م عن حقوق الطفل. والطفولة بنص الوثيقة ممتدة إلى 18 سنة، كل هذا سيحدث في بلادنا لو وقعنا على الوثيقة.
البيان: كيف تجري متابعة تطبيق الدول للاتفاقيات من قِبَل الأمم المتحدة؟
* بالنسبة إلى اتفاقية (سيداو) مثلاً أنت كدولة بمجرد توقيعك عليها تُلزم بعد سنة من تاريخ التوقيع أن تقدم تقريراً شاملاً توضح فيه واقعك من سيداو، ثم تلزم بتقديم تقرير دوري كل أربع سنوات إلى لجنة سيداو، وتقسم دول العالم على جلسات دورية خلال السنوات الأربع؛ بحيث تناقش في كل جلسة خمسة تقارير أو ستة، ويقوم بصياغة التقرير المؤسسة الرسمية التي ترعى قضية المرأة داخل كل دولة، وتجري الصياغة وفق نظام مُعَدّ من اليونيسيف، والتقرير الرسمي يراعي التحفظات التي وضعتها الدولة، لكن هناك تقريراً آخر يقدم يعرف بتقرير «الظل»، ويعده ائتلاف سيداو داخل كل دولة، وهو عبارة عن مجموعة منظمات مدنية تأخذ دعماً وتمويلاً خارجياً، ويسعى هذا الائتلاف إلى تطبيق «مقررات بكين» دون أي تحفظات، وأول بند في توصيات تقرير الظل رفع التحفظات بالكامل عن السيداو.
وكلا التقريرين يعدد ما تحقق وما لم يتحقق، وغالباً ما يتهم تقرير «الظل» الحكومة بالإخفاق والتواني في تطبيق المقررات. ولا نعجب إذا ما علمنا أن كل تقرير لا بد أن يسبقه مجموعة من الإجراءات والقوانين والسياسات التي تسجل في التقرير، وهو من خلال هذه التقارير يدرس طبائع الشعوب قبل أن يطبق المقررات، ولكن ينبغي للدول الإسلامية أن يكون لها موقف جديد من السيداو؛ بحيث ترفضها وكل ما ينبني عليها من اتفاقيات، وإلا فسنرى ما لا يحمد عقباه في مجتمعاتنا، وقد بدأنا نرى بعض ذلك.
ذو القعدة 1425هـ * ديسمبر/يناير 2005م
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
==============(8/239)
(8/240)
العولمة ومستقبل العالم الإسلامي
د. فتحي يكن(*
d r yakan*etscape.net
تعريف العولمة:هناك تعريفات كثيرة، لا أريد أن أتناولها جميعاً، وإنما أريد أن أتناول العولمة من الجانب الذي يهمنا، على اعتبار أننا دعاة وأئمة وخطباء. العولمة هي حالة تطبيع عالمي، ثقافياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، وأمنياً، وعسكرياً.
والتطبيع يتردد على الأسماع كثيراً، حيث يطرق أسماعنا أن العدو الصهيوني يريد أن يُطبّع المنطقة. فالتطبيع سياسة الاختراق للآخر، وعندما نُخترق من قبل الآخر فمعنى هذا أننا بدأنا نتطّبع بمشروع الآخر.
والعولمة تعني تحقيق عالمية الأمر، ولو قسراً ومن غير تدرج، إنها تعني اقتحام المجتمعات والشعوب والدول اقتحاماً قسرياً، وبدون سابق تحضير أو استئذان فهي نوع من الهيمنة...
ومن الذي يهيمن على الآخر؟ إنه الذي يمتلك القدرات والتقنيات العالمية: وسائل الاتصال وسائل الإعلام مراكز المعلومات الإنترنت الفضائيات الأسلحة الحسية والمعنوية... وأما الضعيف فإنه لا يستطيع أن يهيمن على العالم.
والعولمة على الصعيد الاقتصادي تعني (رسملة) العالم في ظل هيمنة النظام الدولي الأحادي على العالم، وبخاصة الأفراد الأفكار المعلومات النقود المؤسسات السلوك الخدمات المنتجات.
والعولمة من وجهة نظر أخرى حركة لا يمكن لأحد أن يعزل نفسه خارجها، أو أن ينأى عن تأثيراتها.
فهي اقتصادياً، رساميل تتحرك دون قيد أو شرط. وهي بشرياً، أشخاص يملكون سلطة عابرة لكل الحدود.
ففي الثاني والعشرين من أبريل 1997م نشرت شركة ميريل لينش الاستشارية والمالية (جيميني) دراسة توضح أن ثروة أغنى أفراد العالم حوالي ستة ملايين إنسان ارتفعت إلى 16 تريليون دولار عام 1996م وتوشك أن تصل إلى 24 تريليون دولار مع نهاية هذا القرن، وهذا المبلغ يعادل مجموع دخل 2.3 مليار إنسان ( الأفقر في العالم ) مضروباً في ثلاث مرات.
وفي تقرير للأمم المتحدة ذكر أن 358 مليارديراً من كبار الأثرياء في العالم يحصلون على ربح صافٍ قدره 760 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل دخل 45% من سكان العالم، أي أن 20 % من كبار أغنياء العالم يقتسمون فيما بينهم 80% من الإنتاج العالمي.
والعولمة مصطلح ظاهره الرحمة وباطنه فيه العذاب الشديد.
إنها أشبه بالمصطلحات الأخرى المثيلة: العصرنة، العقلنة، الأمركة، الفرنسة، الصهينة... وصولاً إلى الشيطنة...
ومشكلتنا أننا مجتمعات استهلاكية، مشرعة الأبواب أمام كل المستوردات وإن كانت سمّاً زعافاً!!
وهذا يعني انتقال الآخر إلينا وليس انتقالنا إلى الآخر...
يعني تأثرنا بالآخر وليس تأثيرنا في الآخر.
يعني عالمية ما عندهم وليس ما عندنا!!
إنه أشبه بالاجتياح...اجتياح الكبير للصغير، والقوي للضعيف، والغني للفقير... اجتياح مشاريع الآخرين لحضارتنا وثقافتنا، وتراثنا.. إنها استرقاق كلي ولكن تحت غطاء عصري مزيف، وشعار براق مكذوب!
إنها السقوط في الأفخاخ المنصوبة، وبالتالي ضياع الهوية والشخصية.
وينبغي هنا أن نفرّق بين العولمة والعالمية: فالإسلام دين عالمي، ويحمل مشروعاً عالمياً، إنما لا يعولم العالم على غرار ما تفعله القوى الصهيونية والأمريكية بمعنى أنه لا يفرض ثقافته وفكره قسراً على الآخر.
والطامة الكبرى أن العولمة لا تواجهنا بشكل صريح، ولو كان كذلك فيمكن أن نحترز منها، ونتصدى لها، لكن العولمة تتسلل تسللاً إلى واقعنا، وهنا مكمن الخطر.
أدوات ووسائل العولمة
تقف وراء العولمة أسباب ووسائل كثيرة، متطورة، ومتكاثرة من ذلك:
وسائل الاتصال(الإنترنت، الهاتف بأنواعه، الثابت والمتحرك، التلكس، الفاكس).
وسائل الإعلام: ( المرئي "الأرضي الفضائي"، المسموع، المقروء "صحف مجلات وكالات أنباء").
وسائل التثقيف: (المعاهد والجامعات، مراكز البحوث والمعلوماتية، دور النشر، الكتب) ،(الأفلام).
القوى ذات التأثير العالمي
هنالك ثلاث قوى رئيسة ذات تأثير وفاعلية عالمية، بالرغم من تفاوت حجمها، وهي:
أولاً: الرأسمالية والمتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية.
ثانياً: الصهيونية.
ثالثاً: الإسلام والمتمثل بالعالم الإسلامي عموماً والساحة الإسلامية خصوصاً، والذي يخطط للعصر الإسلامي.
ونتناول ذلك بالتفصيل في الاعداد القادمة إن شاء الله.
العولمة ومستقبل العالم الإسلامي (2 من4)
العولمة الأمريكية (الرأسمالية)
د. فتحي يكن(*
d r yakan*etscape.net
تعني العمل على تعميم النمط الحضاري الأمريكي على بلدان العالم وشعوبه، بقصد الهيمنة على الاقتصاد والسياسة والثقافة والأفكار والسلوك، يقول (صادق جلال العظم) المفكر السوري: (إنها حقبة التحول الرأسمالي العميق للبشرية جمعاء في ظل هيمنة الدولة المركزية وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ".
إن هذه الأمركة تستخدم في عولمتها كل الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، والمؤسسات المالية لصندوق النقد الدولي، ووكالات الأمم المتحدة العاملة في مجال التنمية والثقافة، ومختلف وسائل الإعلام، وأجهزة المخابرات وما سبق أن أشرنا إليه تحت عنوان أدوات ووسائل العولمة.(8/241)
نماذج من (العولمة الأمريكية):
كان المثل الشائع قديماً (إن الإنسان ابن بيئته) أما اليوم فقد غدا الإنسان ابن البيئة العالمية، تكونه وتصنعه بصمات الأغرار والأغراب من هنا وهناك، حتى ليكاد يفقد خصائصه التراثية والوراثية. فبصمات العولمة الأمريكية باتت واسعة المساحة وعميقة الأثر وعلى كل صعيد:
صعيد الأزياء التي تتنافس في صناعتها مئات مؤسسات التصميم مثل (بيير غاردان، وفير ساتشي، وإيف سانت لوران، وكوكوبروكو، وغيرها) إضافة إلى الصرعة العالمية المسماة (جينز)، كما تقوم بعرضها مئات عارضات الأزياء.. ومعظم المعروض من الساقط والفاحش.
صعيد الأطعمة والأشربة التي لم تترك مدينة من العالم إلا دخلتها، منها على سبيل المثال (بيتزا هات، كنتاكي شيكن، ماكدونالدز، هامبرجر وغيرها)، حتى يكاد شبابنا لا يأكلون من مطابخ آبائهم وبيوتهم.. هذا نوع من أنواع التطبيع.
لقد تعارفنا أن نشرب على سبيل المثال : ماء السوس والتمر هندي، وشراب الليمون.. اليوم ماذا نشرب؟ (البيبسي كولا والكوكا كولا والسفن أب.. وغيرها) بغض النظر عن المشروبات المحرمة...
صعيد العطور ومستحضرات التجميل وأدوات تغيير خلق الله.
ففي لبنان مثلاً ومن خلال العولمة العطرية ظهرت عشرات، بل مئات من العطور الأجنبية، نتسوقها وتغزو بلادنا.
نحن لسنا ضد العطور، فالعطر سنة من سنن نبينا المصطفى {: "حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة" (أخرجه أحمد في مسنده)... لكن عندما يصبح العطر نوعاً من أنواع التطبيع، واختراقاً لعاداتنا، فهنا مكمن الخطر.
صعيد الحلاقة وقصّات وموديلات الشعر التي عصفت بالأجيال في كل أنحاء الأرض مثل (البونكي والهيبيز والمارينز وغيرها)... لسنا نحن الذين نحدد موديلات الشعر، بل كلما ظهرت صرعة من الصرعات العالمية، إذا بالشباب المسلم يقتفون آثارها، إنه اختراق في كل شيء.
صعيد صناعة الأفلام السينمائية الجنسيَّة والأسطورية والخرافية وغيرها والتي تتصدرها وتتقدمها هوليوود ذات الشركات المتعددة والمتخصصة.
وأنا أسأل: أمام قصف الفضائيات التي لا تغلق 24ساعة، تقصف أفكارنا ومعتقداتنا، ومقدساتنا، أخلاقنا، وقيمنا، وعاداتنا، وتقاليدنا. أسأل الأئمة والخطباء: ماذا تفعل خطبة الخطيب يوم الجمعة أمام هذا القصف الدائم؟! وما حال الأجيال التي تُصنع صناعة مائعة من خلال ما يعرض عليها من مجون وفجور وجريمة مركبة..؟! فأي جيل هذا الذي سيبني أمتنا؟ أي جيل هذا الذي سيواجه المؤامرات التي تشن على أمتنا؟
نحن ننام، ولكن الشياطين لا ينامون.. هذا نوع من أنواع التطبيع في المجال الإعلامي..
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)(الروم).
صعيد سياسات التبشير والتنصير على مثل ما يجري في الكثير من الدول الإفريقية والآسيوية تحت ضغط الفاقة والعوز.
صعيد الغناء والطرب والموسيقى والرقص مما أدى إلى نشأة أجيال أصبح (مايكل جاكسون ومادونا وسبيس غيرلز وجورج مايكل) مثلها العليا..
صعيد العولمة الرياضية وتفاقم بدعة (المونديال) وضياع شخصية الأجيال في حملة المراهنات على هذا الفريق الرياضي أو ذاك.
صعيد تحريك الفتن والحروب الأهلية والتطهير العرقي والتحولات الديموجرافية (البوسنة والهرسك، كوسوفا..).
صعيد انتقال الأزمات الاقتصادية والسياسية والمالية والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان النامية.. إضافة إلى اصطناع المشكلات الأمنية وتبنّي سياسة الاغتيالات والانقلابات، (إندونيسيا، ماليزيا، لبنان، العراق..).
صعيد تفتيت البنى السياسية والاجتماعية على قاعدة (فرِّق تسُد) التي اعتمدها هنري كيسنجر ثم كريستوفر وزيرا خارجية الولايات المتحدة.
العولمة ومستقبل العالم الإسلامي (3 من4)
العولمة الصهيونية
د. فتحي يكن(*
d r yakan*etscape.net
تهدف العولمة الصهيونية إلى تمكين (اليهود) من الإمساك بمقدرات العالم وبخاصة الثقافية منها والاقتصادية عبر التدخُّل الهائل في حركة البورصة العالمية، وامتلاك أضخم الشركات العالمية (كشركة روكفلر) مثلاً.
إن عدداً من بروتوكولات حكماء صهيون تنص بصراحة صهينة العملة العالمية:
يقول البروتوكول الخامس عشر: "يجب أن يكون الدولار في المائة سنة القادمة عملة العالم". ولا يخفى على أحد أن الدولار صناعة يهودية ظاهرها أمريكي (انظر الدراسة) ولقد تحقق ذلك، ومن خلاله تحكَّم اليهود بمقدرات العالم..
والبروتوكول العشرون يقول: "إن استيلاءنا على ثروات العالم عن طريق الأسهم والسندات سيضطر الحكومات إلى طلب العون المالي منّا".
أما الصهينة الاجتماعية والثقافية فيشير إليها البروتوكول العاشر حيث يقول: "سنوصل العالم بدهائنا وألاعيبنا إلى أقصى درجات التمزُّق والانحلال، حتى يعطونا حاكماً عالمياً واحداً يستطيع أن يوحدّنا ويمحق كل الحدود والقوميّات والأديان".
نماذج من العولمة الصهيونية:
إن بصمات العولمة الصهيونية شديدة التخريب عميقة الإفساد في معظم المجتمعات البشرية..
فهي من وراء الترويج للأفكار والفلسفات الإلحادية والعلمانية.(8/242)
وهي من وراء تأسيس ورعاية نوادي عبادة الشيطان في العالم.
وهي من وراء الانهيارات الاقتصادية والإفقار المخطط والمنظم للشعوب.
وهي المصنّعة الأولى لأفلام الدعارة ومجلاتها وأدواتها ومراكزها. ومن الأمثلة على ذلك تشجيعها للسلطة الفلسطينية على إقامة كازينو للقمار في أريحا هو (كازينو الواحة)، وتسميتها أريحا (بمدينة الخطايا)، حيث أقيم على أرض وقف إسلامي يعود لعائلة الحسيني. والأغرب من هذا امتناع الكيان الصهيوني عن إقامة الكازينو عنده لأن التعاليم اليهودية تمنع لعب القمار على أراضيه. وهذا ما دفعه إلى إنشاء مصنع للفوسفات في المنطقة المجاورة، في حين نصبت السلطة الفلسطينية 250 ماكينة قمار!
وهي المحركة الأساسية للفتن الداخلية، والحروب الأهلية، والصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية والإثنية (البوسنة والهرسك، الشيشان، السودان، الأكراد، كشمير، الصومال، أريتريا، أوغندا وغيرها).
وهي المالكة أو المساهمة بقوّة في شركات النقل والشحن والتأمين العالمية (لويدز).
نتيجة العولمة:
والآن ما هي النتيجة؟
النتيجة أن يتطبع العالم بكل تفاصيل حياته بالحضارة الغربية تبعاً لمنطق ابن خلدون الذي يقول: "المغلوب يُقلد دائماً الغالب" و"الضعيف يُقلد القوي".
عولمة الرياضة (المونديال).
عولمة الرأسمالية كنظام اقتصادي.
وعولمة الديمقراطية كنظام سياسي.
وعولمة العلمانية كمنهج اعتقادي.
وعولمة العنصرية كسياسة اجتماعية.
وعولمة الزواج المدني والزواج المثلي، والشذوذ.
عولمة تجارة وتعاطي المخدرات.
عولمة الانحراف الجنسي ونتائجه المرضية (الإيدز، الدعارة، الأطفال).
عولمة الانحراف الأخلاقي، الجريمة على أنواعها، ويشهد لذلك ما حصل في لبنان مؤخراً.
عولمة عبادة الشيطان.
عولمة الأغذية الغربية.
عولمة الفن الغربي - الموسيقى- الأغاني- المرح.
عولمة الإعلام الغربي.
عولمة العطور الغربية.
عولمة العملة الغربية.
عولمة الصناعة الغربية.
عولمة تفكك الأسرة.
عولمة جسد المرأة (مؤتمر بكين).
عولمة العقاقير: فياجرا المهدئات الملونات أدوات المكياج.. الخ.
العولمة ومستقبل العالم الإسلامي (4 من4 )
المشروع الإسلامي
د. فتحي يكن(*
d r yakan*etscape.net
بعد أن استعرضنا سمات وقسمات العولمة الحديثة، وأشرنا إلى، أخطارها وآثارها على العالم بشكل عام، وعلى العالم العربي والإسلامي بشكل خاص. نطرح الأسئلة التالية في وجه المشروع (القومي العربي) وفي وجه (المشروع الإسلامي)، وفي وجه الأنظمة العربية والإسلامية، كما في وجه الشعوب العربية والإسلامية:
ما العمل حيال العولمة الأمريكية؟
ما العمل حيال العولمة الصهيونية؟
هل من بديل عربي أو مشروع عربي مضاد؟
وهل من بديل إسلامي أو مشروع إسلامي مضاد؟
هل قدر الأمة العربية والإسلامية أن تكون مستسلمة أمام استراتيجية التطبيع الأمريكي والصهيوني، أم أن بإمكانها القيام بخطوة في مواجهة ما يعطّل دورها، وينهب طاقاتها وإمكاناتها وثرواتها، ثم يعمل على تشويه شخصيتها وطمس هويتها؟
إن غياب المشروع العربي، وبالتالي غياب المشروع الإسلامي العالمي هو الذي ساعد على فتح أبواب المجتمعات العربية والإسلامية على مصاريعها أمام (عولمة الاختراق والغزو) خاصة بعد إسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية، والتي كانت على علاتها وضعفها، سياجاً يحمي الأمة من عاديات المؤامرات الداخلية والخارجية، وبسقوطها باتت الثغور مشرعة بلا حماة، والحصون مهددة من داخلها.. وكان الطوفان!!
ومن يومها كان اجتياح القوميات على أنواعها والشعوبيات على تنوعها، كما كان اجتياح الحركات التبشيرية والاستشراقية والتغريبية والشيوعية والعلمانية.. إلخ..
مواقع القرار وأثرها على العولمة: ومن حين سقوط موقع القرار الإسلامي، بدأت رحلة عولمة القوانين والتشريعات، وعولمة المناهج والسياسات، وعولمة التقاليد والموروثات، كما سبق وبيّنا في موضع سابق.
مواقع المال والصناعة والسياحة وأثرها في العولمة: ومن يوم قيام الثورة الصناعية خارج خريطة العالم العربي والإسلامي، بات هذا العالم (عالماً ثالثاً) أي عالماً متخلّفاً استهلاكياً لا حركة فيه ولا إنتاج.
ولقد فعلت الصناعة كماً ونوعاً فعلها الكبير في تكوين وصياغة وقيادة أنظمة وشعوب العالم النامي. فضلاً عن استغلال ثروات هذا العالم، كالثروة النفطية على سبيل المثال. وما يقال عن هذا القطاع يقال عن قطاع السياحة كذلك..
مواقع الإعلام وأثرها في العولمة: أما موقع الإعلام ووسائله فقد وضعت الصهيونية والصليبية يدها عليها منذ القدم (راجع كتابنا: المكائد الدولية على العالم الإسلامي).
مواقع التعليم ومراكز المعلومات: وما يقال عن مواقع الإعلام يقال عن مواقع التعليم ومراكز الدراسات والمعلوماتية؛ فإن معظمها واقع ضمن دائرة سيطرة وتسخير الآخرين.
المنظمات الدولية وأثرها في العولمة:(8/243)
أما المنظمات الدولية كهيئة الأمم المتحدة، وما ينبثق عنها ويتفرّع منها من أجهزة ومؤسسات ومراكز، كاليونسكو فقد بقيت منذ نشأتها خارج دائرة التأثير العربي والإسلامي، بل إنها سخرت من قبل الغرب والصهيونية ضد مصالح العرب والمسلمين. (راجع كتابنا: المكائد الدولية..).
المواقع العسكرية والأمنية وأثرها في العولمة: ثم إن امتلاك الأسلحة النووية والإستراتيجية من قبل الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، وما تبع ذلك من تشكيل الأحلاف العسكرية كحلف شمال الأطلسي، إضافة إلى بناء المؤسسات والأجهزة الأمنية، كوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) وغيرها، مكّن المشروع الأمريكي من فرض هيمنته على مختلف أقطار العالم.
المشروع الإسلامي والتسخير: لقد عمل الغرب على تسخير كل الوسائل والمواقع من أجل اختراق وتطبيع المجتمعات البشرية، ومن أجل إحكام سيطرته على العالم شعوباً وأنظمة.
من هنا كان مطلوباً من العالم الإسلامي العمل على امتلاك كل وسائل العصر وتسخيرها في إطار عولمة المشروع الإسلامي وتقديم الإسلام كبديل حضاري للبشرية جمعاء. والعالم الإسلامي كما نعلم يمتلك قدرات هائلة إنما جلّها مستغل من قبل الآخرين أو معطّل.
العولمة ومستقبل العالم الإسلامي (4من 4 )
ملامح العولمة الإسلامية
د. فتحي يكن(*
d r yakan*etscape.net
العولمة الإسلامية تعني نقل الحضارة الإسلامية إلى العالم.. الحضارة ذات البعد الإنساني التي لا تماثلها حضارة أخرى.
إن عالمية الإسلام صفة أساسية في هذا الدين بدليل قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)(الأنبياء) وقوله: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا (سبأ 28).
وعالمية هذا الدين إلى جانب خصائصه الأخرى الإنسانية جعلته ينساب في المجتمعات البشرية انسياباً طبيعياً، تتلقفه العقول والقلوب، تؤمن به عن طواعية، وتعتنقه عن قناعة.
لم تكن عالمية الإسلام حالة استكراه للغير، أو نتيجة إلغاء للآخر ذلك أن منهجيته تنص على أنه لا إكراه في الدين (البقرة 256).
ولم تكن عالمية الإسلام حالة اتساع حربي وهيمنة عسكرية، وإنما كانت نتيجة دخول الناس في دين الله أفواجاً.
ومن خلال ذلك عمَّت حضارة الإسلام واستمرت على هذا النحو حقبات طويلة من الزمن، بقدر التزام المسلمين بهذه القيم والمواصفات:
مواصفات عقائدية: من خلال عقيدة التوحيد وقدرتها الإقناعية والفطرية، وما تتركه في النفوس من ارتياح وطمأنينة: ألا بذكر الله تطمئن القلوب 28 (الرعد).
مواصفات تشريعية: من خلال خصائص التشريع الإسلامي وتميزه بالربانية والفطرية، والتوازن والشمول والعالمية والمرونة والواقعية.
من خلال الدفاع عن الحريات، (حقوق الإنسان ونشر العدالة والمساواة).
من خلال النظام الاقتصادي العادل.
من خلال النظام الجنائي الرادع.
مواصفات أخلاقية: من خلال تطابق المظهر مع الجوهر، والشعار مع المضمون، والعلم مع العمل.
من خلال حيازة العلوم والنبوغ فيها (الفلك، الطب... الخ).
من خلال الأخلاق الحربية وإنسانية الممارسة العسكرية (وصايا الخلفاء والأمراء والفاتحين).
من خلال الخطاب الحضاري.
من خلال التزام العهود والمواثيق (لا يجوز في ديننا الضرر).
من خلال الأخلاق التجارية (سمحٌ إذا باع، سمحٌ إذا اشترى).
إن مستقبل العالم الإسلامي في مواجهة تلك التحديات تحدده الاعتبارات التالية:
أولاً: إمكان نجاح المسلمين في إقامة وحدة سياسية واقتصادية، وعسكرية فيما بينهم.
ثانياً: إمكان نجاح المسلمين في تطوير إمكاناتهم العلمية والتقنية والمالية، والاستفادة من ثرواتهم النفطية والمعدنية وغيرها.
ثالثاً: إمكان نجاح المسلمين في التحرر من التبعية والولاء للغير وللقوى الأجنبية.
رابعاً: إمكان نجاح المسلمين في إعادة بناء أنفسهم، كأمة دعوة تحمل رسالة الإسلام إلى العالمين. فهي لا تكتفي بإطلاق زفرات الحوقلة وآهات اليأس والإحباط، وإنما تتحضر وتتهيأ، لتكون بديلاً حضارياً يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
والحمد لله رب العالمين.
==============(8/244)
(8/245)
عولمة الوباء والتلوث أيضا
إبراهيم غرايبة
تظهر دراسات وتقارير دوليّة كثيرة جداً أن العولمة الرأسماليّة في حالتها القائمة والسائدة تهدّد على نحو خطير الدول والمجتمعات والبيئة والكون، ويصل حجم هذا التهديد إلى الكارثة والخطر، كما تكشف شبكات جماعات المناهضة للعولمة الرأسماليّة عن معلومات مذهلة حول ما تلحقه الأنشطة التابعة للعولمة الرأسماليّة من تدمير فظيع يلحق باقتصادات الدول والمجتمعات، وثقافتها ونمط حياتها ومواردها، وأنظمتها الاجتماعيّة والسياسية، والصحة والبيئة والهواء والأنهار والأرض والغابات والصحارى والبحار والمحيطات والجزر وجوف الأرض والموارد العالميّة.
فقد رافق العولمة الاقتصاديّة والإعلاميّة موجات من الأوبئة والمشكلات البيئيّة تسربت وانتشرت في العالم بنفس الآليات والأدوات التي فرضت لتسهيل مرور السلع والأموال، فقد كان للشركات الكبرى التي أُطلق لها العنان في أرجاء العالم دور كبير في تدمير البيئة في العالم ومن أمثلة ذلك: تدمير طبقة الأوزون من خلال إنتاج مبيد "بروميد الميثيل" الذي يساهم في تدمير طبقة الأوزون، ولا تزال هذه الشركات تقف حجرة عثرة أمام تطبيق بنود بروتوكول مونتريال الخاصة بمنع إنتاج هذه المواد.
وتساهم منتجات أخرى أيضا للشركات الكبرى مثل المواد الكيماوية شديدة الخطورة، والتي لا تتحلّل طبيعياً في البيئة، و تؤدي إلى تسمّم الكائنات الحيّة، والمخلفات المشعة، وتقوم كثير من الأنشطة التعدينيّة والصناعيّة على إزالة الغابات.
وتأثرت الزراعة كغيرها من النشاطات الأخرى، تأثرت بسياسات الرأسمالية التجارية والسوق المفتوح، فأصبح قطاع الزراعة مُطالباً بإنتاج مواد غذائية بتكاليف منخفضة، وأهم مظاهر هذه العولمة في الزراعة ظهور الهندسة الوراثيّة.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الهندسة الوراثيّة ستساعد في تقليل تكلفة الغذاء وإتاحته للفقراء، ومقاومة شحّ المياه والتصحّر في الزراعة، ولكنها أخضعت الدول الفقيرة والنامية لتبعيّة في إنتاج البذور، وقضت في الوقت نفسه على البذور التقليديّة التي كانت مستخدمة، حتى إن البعض سمّى هذه الحالة بِ" الاستعمار الجينيّ".
وعندما طرحت الشركات الأوروبية والأمريكية طعامها المعدل المعالج وراثياً قوبلت الفكرة باستياء كبير وهجوم وصل في بريطانيا لحد الهجوم على مزارع الطعام المعالج وإزالة النباتات من الأرض، ونفس المصير لاقته الشركات الأمريكية التي دفعت ملايين الدولارات لتطوير تلك الأبحاث، ورفض المستهلكون تناول ذلك الطعام، وأعلن الأطباء عن احتمالات إصابة الإنسان بالخلل الجيني، وألزمت إدارة الطعام و الدواء الأمريكية الشركات والمزارعين بعدة إجراءات توضيحيّة قبل بيع ذلك الطعام.
وعندما أرادت تلك الشركات تصديره رفضته أوروبا طبعاً، وكذلك آسيا، فكانت السوق المناسبة والملائمة لهذا النوع من الطعام هو أفريقيا الجائعة، ولكن أفريقيا لا تملك ثمناً لأي طعام، فلماذا لا يُقدّم لهم الطعام كمعونات إنسانية؟ وبذلك تضرب الشركات عصفورين بحجر واحد، فتطعم الجوعى وتختبر طعامها اختباراً مباشراً، و عن طريق غطاء شرعي هو الأمم المتحدة التي تبحث عن أي جهة تقدم عوناً لمئات الآلاف من الأفارقة الذي يعانون من المجاعة و أمراض سوء التغذية.
قدمت الولايات المتحدة الأمريكية للأمم المتحدة كميات من الذرة ومنتجاتها في شكل معونات بقيمة (111) مليون دولار أمريكي، وكان 30% منها عبارة عن ذرة مهجنة وراثياً، ووزّعتها الهيئة الدولية بالفعل على الجوعى في السودان والكونغو وإثيوبيا والصومال وعدة دول أفريقية أخرى، ولم يكن لدى برنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة التابع للأمم المتحدة علم بها، بل لم يناقش أحد الأمر.
وبنظرة على الوضع الصحي في العالم في زمن العولمة نكتشف الكثير من الحقائق المؤلمة:
حوالي (11) مليون طفل دون السن الخامسة يلقون حتفهم في البلدان النامية.
أكثر من 40 % من العبء العالمي الناتج عن الأمراض الذي يعود إلى مخاطر البيئة يقع عل كاهل الأطفال دون الخامسة.
يُتوّفى ما يتراوح بين (5-6) ملايين شخص في البلدان النامية سنوياً بسبب الأمراض المنقولة عن طريق المياه و تلّوث الهواء.
تساهم الأحوال البيئيّة المتدنيّة بنسبة 25 % من كافة الأمراض التي يمكن الوقاية منها في العالم اليوم.
أُصيب أكثر من (60) مليون شخص بفيروس نقص المناعة البشرية الإيدز.
يُصاب (8. 8) مليون شخص بالسلّ سنوياً و يدفع (1. 7) مليون شخص حياتهم ثمناً له.
خسائر الملاريا في أفريقيا تتجاوز (13) مليار دولار أمريكي.
وانتشرت أيضا الأمراض التي تصيب الحيوانات ولها تماسّ مباشر مع البشر.(8/246)
وتتسبب سبع دول صناعية في إطلاق أكثر من 70% من غاز ثاني أكسيد الكربون في العالم، والولايات المتحدة التي تشكل أقل من 4% من سكان العالم تطلق أكثر من 25% من الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، وهذا يحتاج إلى جهد عالمي لخفض إطلاق الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وكان بروتوكول (كيوتو) الذي رفضت الولايات المتحدة أن توقع عليه التزاماً دولياً عالمياً لمعالجة سخونة الأرض.
واستخدمت التقنية والإرادة السياسية لتحويل طبيعة الأراضي والشعوب في الإنتاج، كما حدث في الصين على سبيل المثال ودول أخرى كثيرة، فتوطّن جماعات الرّحل قسراً، أو تزرع الصحراء بمحاصيل لا تناسبها، أو يُعاد التنظيم الاجتماعي والسياسي لشعوب ومجتمعات درجت على إدارة نفسها بطريقة مختلفة، وفقد الناس تقريباً المعرفة بنظم الزراعة والإنتاج التقليدية، واستخدمت التقنية الحديثة بطريقة غير مناسبة مثل الإسراف في استخدام الأسمدة والمواد الكيماوية مما أدّى إلى مخاطر صحيّة وبيئيّة مكلفة، واعتبر الملايين الذين شُرّدوا أو فقدوا مواطنهم ومصادر رزقهم، بسبب السدود والمشروعات المختلفة مجرد أفراد تضاربت اهتماماتهم مع الاحتياجات التي حددتها الدولة للمجتمع القومي.
وفي جزيرة غينيا الجديدة، حيث يوجد أكبر تنوّع ثقافي وبيولوجي في العالم أدّت مشروعات استخراج النفط والمعادن إلى حرمان الناس من أراضيهم دون تعويض، وجرت صراعات مسلحة مدمرة، وحُوّل معظم السكان إلى حالة بؤس اجتماعي واقتصادي، ولم يستفيدوا شيئاً من مشروعات الذهب والنحاس والنفط، وتلوّثت الأنهار بالسموم والكيماويات، وكذلك السهول الزراعية والغابات، وقُضِي على الأسماك والحياة البريّة من حيوانات ونباتات مختلفة.
وقد دُفعت تعويضات نقدية للسكان أدّت إلى نتائج معقّدة في حياتهم؛ فقد تحوّلت إلى نمط استهلاكي، وازدادت المهور والهجرة إلى المدن واستهلاك الكحول..وتجاهلت الشركة التي تدير المناجم النتائج البيئية المدمرة لمشروعاتها، واعتبرت أن التعويض النقدي يكفي لإخراجها من المسؤولية.
وأظهرت تقارير منظمة الأغذية والزراعة الدوليّة أن العولمة والتحرّر الاقتصادي تزيد من التصحّر والتلوّث، وبخاصة من الأنشطة القائمة على قطع الأشجار، كما يحدث على نطاق واسع في المناطق الاستوائية، والاعتداء على الأراضي الزراعيّة، ويمكن باتّباع سياسات عادلة أن تضبط عمليات تصنيع وتجارة الأخشاب دون الإضرار بالاقتصادات القائمة عليها.
وهذا غيض من فيض، فمتابعة الكتب والتقارير والدراسات حول أخطار العولمة الرأسمالية والاقتصادية تكاد تفوق قدرة الباحث المتخصص والمتفرغ.
2/2/1426
12/03/2005
http://www.islamtoday.net المصدر :
============(8/247)
(8/248)
التربية الخلقية بين الإسلام والعولمة
سليمان بن قاسم العيد *
إن أخلاق الأفراد لن تكون بمعزل عن التغير في ظل العولمة، ولا شك في أن التربية الخلقية من أوليات التربية لدى المؤسسات التربوية العالمية على اختلاف أديانها وثقافتها للحفاظ على هويتها، فالأخلاق جزء من هوية الأمة، وتقوم التربية في تلك المؤسسات وفق الضوابط والأسس التي تحددها أديانها وثقافتها، ولا نتصور أمة من الأمم لا تعتني بالتربية الخلقية للنشء فيها، وإلا فإن معنى ذلك انهيار الأمة وزوالها، يقول الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فبالأخلاق تبقى الأمم وبعدمها تزول، كما لا تأمن المجتمعات ولا تسود الألفة بين أفرادها، ولا ينمو اقتصادها إلا إذا كانت شعوبها على قدر كاف من التربية الخلقية.
ولقد عني الإسلام بالتربية الخلقية عناية شديدة، ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا"، وقوله: "إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقا".
فإنه ما من خلق فاضل إلا وحث عليه الإسلام وليس هناك من خلق سيئ إلا وقد حذر منه، ولا غرابة في ذلك فالإسلام دين شامل لنواحي الحياة، قال - تعالى -: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ).
وإذا نظرنا إلى هدف العولمة من التربية الخلقية؛ نجد غاية ذلك إعداد الفرد ليعيش مع غيره ويستمتع بهذه الحياة الدنيا فقط، أما التربية الخلقية الإسلامية فتهدف إلى ما هو أبعد من ذلك فهي تهدف إلى تحقيق غاية كريمة للفرد مع الجماعة في هذه الحياة، وكذلك تحقيق رضوان الله - سبحانه وتعالى - والفوز بالنعيم والنجاة من الجحيم يوم القيامة.
ولا شك في أن التربية الخلقية تحتاج إلى مقومات تقوم عليها وتكون سندا لها، فمن تلك المقومات وجود القواعد والضوابط التي تنظم تلك الأخلاق والتي تحدد أطرها وتبين نظمها وتحدد الحسن منها من السيئ، كما تحدد الجزاء على حسنها والعقاب على سيئها، ولا شك في أن هذا التنظيم موجود بالإسلام بصورة النصوص الشرعية، أما في غيره فإن هذا الإجراء التنظيمي يتمثل فيما يضعه البشر من القواعد والنظم أو العرف السائد فيما بينهم، وذلك كله محتمل للصواب والخطأ، إضافة إلى قصور النظرة البشرية ومحدوديتها.
ومنها الدوافع والموانع، أما الدوافع فهي تلك الأمور التي تدفع الفرد للتحلي بتلك الأخلاق، وهذا نجده في التربية الإسلامية بشكل واضح؛ كطلب رضا الله - سبحانه وتعالى - والفوز بالجنة، لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: "تقوى الله وحسن الخلق". أما الموانع فهي الأمور التي تجعل الفرد يمتنع عن الأخلاق السيئة.
ومن المقومات: وجود القدوة الخلقية المثلى، وهذه القدوة في التربية الإسلامية تتمثل في شخصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن كان غير حي فإن تفاصيل خلقه حية محفوظة للعالم مع بعده منه صلى الله عليه وسلم ، فالأمم التي لا تؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الزمن لا تمتلك قدوة عالمية في هذا المجال.
ويضاف إلى تلك المقومات: موافقتها للفطرة البشرية، فإن العولمة لا تدرك ذلك، فكم هي الأخلاق التي تسود العالم وهي مخالفة للفطرة البشرية، ولكن التربية الخلقية الإسلامية لا يمكن أن تقر خلقا مخالفا لفطرة البشر.
فالتربية الخلقية الإسلامية إذاً هي التربية التي تمتلك المقومات العالمية والأهداف السامية، وبالتالي هي التي يجب أن تسود العالم، ولكن متى؟
إذا أدرك المسلمون ذلك وكانوا دعاة بأخلاقهم، قبل أن يكونوا دعاة بأقوالهم.
_____________________
*أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية التربية جامعة الملك سعود
17/04/1425
05/06/2004
http://www.lahaonline.com المصدر :
=============(8/249)
(8/250)
حقيقة الدعوة إلى المجتمع المدني، وما وراءها من أهداف
أحمد خضر
احتفل العالم العربي احتفالاً بهيجاً بما يُسمى بالمجتمع المدني. ومع كل الضجة التي أثيرت وتثار حول هذا المفهوم الجديد الذي بدأ يحتل موقعه في بلادنا؛ فإنه لا يهمنا فيه إلا مسألة واحدة وهي: العلاقة بين المجتمع المدني وسلامة البناء العقدي للمجتمع.
يقتنع كثير من الناس بأن المجتمع المدني لا يخرج عن حدود هذا التعريف الذي وضعه له سعد الدين إبراهيم وهو: «مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة؛ لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة بقيم ومعايير الاحترام والتآخي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف، وتشمل تنظيمات المجتمع المدني كلاًّ من: الجمعيات والروابط والنقابات والأحزاب والأندية؛ أي: كل ما هو غير حكومي، وكل ما هو غير عائلي أو إرثي» [1].
إن هذا المفهوم في تصورنا قاصر ومخادع، ويجب علينا أن نبحث عن أصوله وجذوره في البلاد التي نشأ فيها قبل أن يستورد منها ويصاغ في بلادنا بصورة تجعله مقبولاً.
«المجتمع المدني» مصطلح غامض ومتعدد المعاني، يمكن تطويعه في خدمة عدة أغراض؛ فهو مصطلح قادر على أن يجمع أي شيء بكل شيء، نشأ عبر تطور تاريخي طويل يحمل في طياته فروقاً وتناقضات هي السر في غموضه. وصفه بعض الناس بأنه حساء المتسولين، جمع أعقاب النظريات المختلفة، والحقب الزمانية المتعاقبة، وأنه تسمية جديدة لأحلام قديمة. وأكد بعض آخر أنه ذو تاريخ مشبوه نسي الناس بمرور الزمن أنه مجتمع الأرستقراطية، وأنه قد صيغ لاستبعاد طبقات شعبية معينة، لكنه يُقدم الآن بكثير من الزخرف ليعمِّي بريقُه عن كل ما عداه، وكأنه الحل السحري لجميع مشاكل المجتمع الاقتصادية والاجتماعية وغيرها [2].
ترجع الجذور اللادينية للمفهوم في الغرب إلى (توماس هوبز) الذي رأى فيه تعبيراً عن انتقال مبدأ السيادة من السماء (الحكم بالحق الإلهي) إلى الأرض (الحكم على أساس العقد الاجتماعي)، فأدانته جامعة أكسفورد في عام 1683م؛ لأنه استخلص كل سلطة مدنية من أصل مجتمعي دنيوي ولم يسندها إلى الحق الإلهي، وجعل هذه السلطة كائناً اصطناعياً أي (إلهاً) من صنع البشر. ويعرَّف (العقد الاجتماعي) بأنه: «تجريد عقلاني مؤسس على الافتراض أن الفرد هو ذات مزودة بأداة حرة، وأن المجتمع عبارة عن تعاقد بين مثل هذه الذوات، وأن شرعية الدولة قائمة على هذا التعاقد وليس على الإرادة السماوية»[3].
أكد الباحثون عن مفهوم المجتمع المدني في دوائر المعارف، أن كلمة (مدني) ترتبط بالمواطن، وأن أهم معانيها: غير إكليريكي أي غير لاهوتي، وبمعنى واضح تماماً: (غير ديني) [4]. أما القانون الذي تسنُّه وتفسره وتطبقه سلطات المجتمع المدني فهو القانون الطبيعي أو قانون العقل. وقوانين الطبيعة عند دعاة المجتمع المدني هي قوانين العقل الأزلية - سبحانه -]. أما (الله) عندهم فهو هذا العقل الذي يسكن القانون الطبيعي [وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً (الإسراء: 43). وعمل العقل الأساسي عندهم هو التقدير والحساب الواعي لكيفية الوصول إلى أهداف، أما التزام العقل بنظام كوني للأشياء فهذا ليس من مهامه [5].
استقبل هذا المفهوم في الغرب بالطبول والمزمامير، وأصبح سلعة رائجة في الصناعة الأكاديمية بعد أن اهتزت مفاهيم الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية، وبوجه خاص بعد تحدي حركة التضامن العمالية التي ضمت ملايين العمال والمثقفين للنظام في بولندا في نهاية السبعينيات، ولهذا يتحدث الباحثون عما يسمونه بالمجتمع المدني الأول: ذلك المجتمع الذي سعت إليه النخبة الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والمجتمع المدني الثاني: وهو المجتمع الذي تبنته في الثمانينيات بعض القوى في بلدان أوروبا الشرقية وبخاصة في بولندا و أمريكا اللاتينية ثم العالم العربي [6].(8/251)
إن مفهوم المجتمع المدني مفهوم غربي مستورد وُلد ونشأ في ظل الصراع السياسي والاجتماعي الذي عرفه المجتمع الأوروبي منذ القرن السابع عشر، وتلازم نشوؤه مع التشكيلة الرأسمالية الغربية، مما يعني أنه مفهوم دخيل على الفكر العربي والإسلامي ولا تاريخ له في هذا الفكر، ولا زال هذا المفهوم كالجنين الذي هو في طور التكوين تختلف تفسيراته وتضطرب وتختلط ويسودها الغموض والضبابية بين المروِّجين له من المثقفين في بلادنا [7] حتى في أشد الدول استهلاكاً له. ولم يتعرف هؤلاء المثقفون على هذا المفهوم بحد ذاته، وإنما جاء هذا التعرف عبر اهتماماتهم بالأفكار الماركسية المحدثة القادمة من المجتمعات الأوروبية التي نشط فيها هذا المفهوم بعد غفوة طويلة، خاصة بعد أن تأكد لهم عدم مصداقية المفاهيم الماركسية القديمة كالصراع الطبقي وغيرها [8]، وقد تبناه هؤلاء المثقفون باعتباره حجر الزاوية في كل ما يعتقدون أنه تحوُّل ديمقراطي حقيقي في البلاد العربية على حد قولهم. والغريب في الأمر أنهم حاولوا التنقيب عن تماثلات وتشابهات للمفهوم في التراث الإسلامي، فهداهم تفكيرهم إلى تصور أن الجذور الأولى لهذا المفهوم ترجع إلى ما يسمونه بـ « وثيقة المدينة » أو « الصحيفة » التي اعتبروها « دستور المدينة » التي افتتح بها النبي صلى الله عليه وسلم إقامته في المدينة بهدف تدعيم ما يسمونه بـ « البناء الداخلي الجديد » الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع لبناته الأولى في المدينة، وقد بلغت بهم السطحية وكراهية الشريعة أن تصوروا أن هذه الصحيفة تبين أن الإسلام ممثلاً في الرسول صلى الله عليه وسلم قد أدار الحكم وشؤون البلاد وفق صيغ وقوانين وضعية؛ ومن ثم فإن نظام الحكم في الإسلام متروك للبشر وفقاً لحاجاتهم وظروفهم والعصر الذي يعيشون فيه [9].
والذي نتصوره هو أن فكرة « المجتمع المدني » التي يُروَّج لها في بلادنا اليوم ليست إلا تقليعة أو موضة جديدة ظهرت في غير أوانها على حد تعبير بشارة أنشئت من أجلها مراكز أبحاث ونشرات إخبارية ودوريات علمية ومؤتمرات وندوات، تبناها مثقفون علمانيون من أصحاب التطلعات الاجتماعية والطموحات الشخصية الذين جرفتهم موضة التيار السائد (المجتمع المدني) دون تفكير في السؤال الهام: لماذا سارع المثقفون الآن إلى تبني هذا المفهوم؟
والجواب في تصورنا للأسباب الآتية:
أولاً: المثقفون نخب مشتغلة بالتنافس على الوكالات؛ فكما توجد حروب على الحصول على الوكالات الأجنبية في الاقتصاد فكذلك يوجد تنافس بين النخب الثقافية على وكالات الأفكار، وبخاصة أن مؤسسات المجتمع المدني يتم تمويلها بأموال المساعدات الغربية؛ فمؤسسات المجتمع المدني تقوم بإرسال أخبار الأوضاع الداخلية للبلاد إلى الخارج، وتراقب الانتخابات في الدوائر العمالية والنقابات، كما تستفيد من تقارير هذه المؤسسات وخاصة تلك العاملة في مجالات التنمية والصحة والمرأة والأقليات في الاختراق المعرفي، أو ما تسميه (ثناء المصري): اختراق النقاط المنعزلة البعيدة في جسد المجتمع، وإدماج البلاد في السوق الرأسمالي وتدعيم عملية التطبيع مع إسرائيل كما كشفت عن جانب من ذلك أحداث مركز ابن خلدون الأخيرة في مصر. ومما يدعم هذا الرأي أن ثقافة النخبة كما يعترف أصحابها بأنفسهم ليست واقعاً أو حقيقة صلبة إنما هي متغير معرض دائماً ليد المصالح الخفية، وحسابات النظام والقوة [10].
ثانياً: وجد المثقفون أنهم حينما يتحدثون عن المجتمع المدني يتحدثون عن أنفسهم وعن الطبقات الاجتماعية التي يتواصلون معها؛ لأن الإرادة الخاصة لبسطاء الناس لا تنسجم مع الرأي العام الذي يمثله هؤلاء المثقفون ويحاولون عرضه على اعتبار أنه مجتمع مدني، كما أن توافر مستوى معيشي لائق بالجماهير هو شرط لتطور مجتمع مدني كامل، وهذا الهدف مستحيل التطبيق طالما بقيت هذه الجماهير في ظروف أدنى من مستوى الفقر، مما يعني بوضوح أنها مستثناة من المجتمع المدني [11].
ثالثاً: وهو السبب الأكثر أهمية حيث إنه يكمن في أنهم شعروا بشدة الحاجة إلى هذا المفهوم لمواجهة الخطاب الإسلامي. يقول بشارة: « إن ازدياد استخدام المثقفين العرب لمفهوم المجتمع المدني راجع إلى الحاجة لوضع أيديولوجية جديدة بيد خطاب التحديث الفاشل في الوطن العربي في مواجهة الخطاب الإسلامي، ليس الهدف إذن فهماً أفضل لآليات تطور المجتمع المدني، وإنما أداة في مكافحة المد الإسلامي » [12]، ولهذا قام مثقفونا باستحضار المناقشات الدائرة في العالم الغربي منذ ثمانينيات الأزمة البولندية عن دور المجتمع المدني في مواجهة الدولة الشمولية، لعلها تفيدهم في مواجهة المد الإسلامي، ذلك المد الذي حاصر العلمانيين واضطرهم إلى الهروب إلى أنفاق القومية واليسارية، فلم تسعفهم؛ وبدلاً من الاعتراف بالإخفاق راحوا يحسمون المعركة في نفق آخر هو نفق (المجتمع المدني).(8/252)
ولا زال أهل هذه الشريحة من المثقفين في بلادنا داخل هذا النفق يتمسكون بما يسميه (بشارة) بتقليعة المجتمع المدني، وهم موقنون تماماً بأن المفاهيم المرتبطة بالمجتمع المدني تصطدم تماماً مع قيم المجتمع الإسلامي.
إن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه المجتمع المدني هو الفرد الجزئي وعليه يصبح المجتمع المدني تركيبة من أعضاء مستقلين لكل منهم نظرة خاصة للأشياء ويعمل أساساً من أجل غاياته الخاصة، وينظم الإنسان حياته في المجتمع المدني ليس على الروابط العائلية وقدسية البنى الاجتماعية وإنما على المصالح الخاصة، أي على كسر علاقات التعاطف وأصل العائلة، فتكون النتيجة هي قيام مصالح جزئية متنافرة ليس بينها لغة مشتركة [13]. ويسوِّغ دعاة المجتمع المدني ذلك بالقول: بأن الجزئي هو نفسه الكلي وأن المصلحة الذاتية للفرد هي نفسها مبدأ مشترك يصهر الناس جميعاً في بوتقة واحدة [14].
ومن أهم مقومات المجتمع المدني مبدأ الحرية الفردية والمواطنة القومية، ويتضمن مفهوم المواطنة القضاء على كل الانتماءات القديمة دينية كانت أم غير ذلك، كما يتأسس على حق المواطنة حرية المعتقد، وفصل الدين عن الدولة، وحرية الرأي والتعبير مهما كان مخالفاً لانتماءات غالبية الناس العقدية؛ فعلى كل إنسان أن يسوي أموره مع (الله) بطريقته الخاصة. وفي هذا المجتمع تختفي مفاهيم الفرد المؤمن، وغير المؤمن والرجل والمرأة، والحر والعبد، وتستبدل جميعها بمفهوم الفرد المواطن [15].
أما العلمانية فهي مفهوم لا ينفصل كلية عن المجتمع المدني؛ بحيث يصعب الحديث جدياً عن قضايا المجتمع المدني دون تناول العلمانية ليس باعتبارها جزءاً من منظومات المفاهيم التي تشكل حقل هذا المجتمع المدني وفضاءه، بل لأنها تشكل الجذر الذي تنحدر تحته كل القضايا المرتبطة به [16]. ويقر العلمانيون بأن العلمانية في بلادنا لا تمتلك ولا تستهدف بناء مشروعها الخاص بقدر ما تعبر عن رفض ما يسمونه بالتصور السلفي الديني، وعن الارتباط الوثيق بين المجتمع المدني والعلمانية. يقول محمد كامل الخطيب: « فالعلمانية تبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى سبيلاً مفتوحاً، وربما جيداً لإنقاذ المجتمع العربي من تفتته وتخلفه وربما تبعيته سواء للماضي أو للحاضر الأمريكي الأوروبي، والمجتمع المدني هو القادر على أن يكون متماسكاً وعادلاً، وفي هذا تعلن العلمانية أنها لم تخفق؛ لأن في إخفاقها الموت الحضاري وربما الوجودي لهذا المجتمع، ولأن في إخفاقها العودة إلى مجتمع الملل والطوائف » كما يرتبط مفهوم المجتمع المدني بمفهوم الديمقراطية التي لا انفصال بينها وبين العلمانية في المجتمع المدني؛ بحيث لا يمكن الدفاع عن الديمقراطية كما يقول كمال عبد اللطيف بدون الدفاع عن العلمانية، وكما يقول ناصيف نصار: « الدفاع عن الفلسفة الديمقراطية يكون دفاعاً ناقصاً أو مبتوراً إذا أسقط من الحساب قضية العلمانية » [17]؛ فالديمقراطية تقوم على مبدأ السلطة التعاقدية وتقول بالاختيار العلماني. وتبين مقولة صريحة لعزيز العظمة كيف نستغل الديمقراطية لنبذ الدين يقول العظمة: « إنه لا امتلاك لأسس الديمقراطية إلا بانفكاك الفكر والحياة عن الارتهان للمطلق، والتخلي عن محاولات إدغام المستقبل بالماضي، وترجمة مبادئ ومفاهيم الحاضر المعاصر إلى لغة تنتمي إلى سياق تاريخي تام الاختلاف » [18].
يرى العلمانيون أن التمسك بالعقيدة (تعصب) يؤثر سلبياً على العلاقات داخل المجتمع المدني الذي يفترض التعدد والتنوع وحتى الاختلاف في مقوماته، ويقولون: « التعصب في جوهره نفي للآخر وإقصاء لرأيه وصوته، وتمركز حول العقيدة أو الأيديولوجيا والذات يمنع صاحبه من امتلاك أي تصور من الحقيقة يقع خارجه، وهو يفترض أحادية الحقيقة والانفراد بامتلاكها، كما يفترض تقديم إجابات جاهزة على الأسئلة المطروحة والإشكاليات القائمة. والتعصب بهذا المعنى يقتل الحافز للبحث والتفتيش عن إجابات جديدة أو حتى لصياغة الأسئلة القديمة بأشكال مبتكرة، أي أنه يساهم في تكريس السائد والمعروف والتقليدي، ويصادر على المختلف والمغيب والمبتكر » [19]. وهذه العبارات تشير بشكل أو بآخر إلى رفضهم التمسك بالعقيدة؛ لأن هذا التمسك الذي يسمونه (تعصباً) لن يسمح بأي اختراق لتصوراتهم وأفكارهم التي من شأنها التأثير على البناء العقدي للمجتمع.
وكما لا تنفصل العلمانية عن الديمقراطية في المجتمع المدني فإنها لا تنفصل كذلك عن (العقلانية)؛ فجميع هذه المفاهيم دروع مهمتها الأساسية الحيلولة دون اختراق العقيدة لبناء المجتمع المدني الجديد. وعن العقلانية وارتباطها بالمجتمع المدني ومقاومتهما للعقيدة يقول دعاة المجتمع المدني إن العقلانية هي: « تحرير العقل من المسبقات والأوهام والمطلق؛ فالعلمانية إذ تقيم سلطة العقل إنما تعلن نسبية الحقيقة وتاريخيتها وتغيرها، بل وإمكانات تجاوزها لفتح آفاق وإمكانيات للمعرفة الموضوعية عبر الانتقال من الأيديولوجيا إلى العلم ومن التبرير إلى التفسير » [20].(8/253)
والذي يهمنا هنا هو أن دعاة المجتمع المدني قد انتهوا إلى حقيقة هامة أوردها طيب تيزيني على لسانأبو حلاوة اعتبرها جماع القول في مسألة المجتمع المدني مؤداها: «لا يحسبن أحد أن المجتمع المدني هو الحل الناجز لكل القضايا والمشكلات التي تعيشها المجتمعات المعاصرة ومنها مجتمعنا العربي، وهو ليس مفهوماً خلاصياً أو وصفة يمكن تعاطيها وتداولها من تجاوز الراهن المأزوم إلى مستقبل، إنه بصيغة أدق: حقل للتنافس وفضاء للصراع، وميدان لعمل القوى الاجتماعية ذات المصالح والرؤى والمواقف المختلفة بل والمتناقضة» [21].
والسؤال الآن: إذا لم يكن في المجتمع المدني الحل الناجز لكل قضايانا ومشاكلنا التي نعيشها، ونظرنا إلى العقيدة على أنها أوهام ومسبقات وارتهان للمطلق ورفضنا ربط الحاضر بالماضي فأين يكون الحل إذن؟
وإذا كان المجتمع المدني حقلاً للتنافس والصراع، وميداناً لعمل القوى المتعارضة ذات المصالح والرؤى المتباينة، والكل يعمل فيه من أجل غاياته الخاصة ولا قدسية فيه للروابط العائلية والاجتماعية؛ فأين ومتى تتحقق وحدة المجتمع وتماسكه؟
-------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) تطور المجتمع المدني في مصر، أماني قنديل، عالم الفكر، المجلد 27، العدد: 3، ص97.
(2) تمويل وتطبيع، قصة الجمعيات الأهلية غير الحكومية، ثناء المصري، سينا للنشر، 1998م، ص 165.
(3) المجتمع المدني، بشارة عزمي، دراسة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998م، ص 245.
(4) المصدر السابق، ص 69.
(5) المصدر السابق، ص 128.
(6) المجتمع المدني بين النظرية والممارسة، الحبيب الجنحاني، عالم الفكر، المجلد 27، العدد (3)، يناير مارس 1999م، ص 33.
(7) المثقفون العرب، من سلطة الدولة إلى المجتمع المدني، بو علي ياسين، عالم الفكر، العدد السابق، ص 45.
(8) إشكالية المجتمع المدني، النشأة، التطوير، التجليات، كريم أبو حلاوة، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى 1998م، ص 6.
(9) المصدر السابق، ص 107.
(10) المجتمع المدني، بشارة عزمي، دراسة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998م، ص238 و 287.
(11) المصدر السابق، ص 121.
(12) المصدر السابق، ص 271.
(13) المجتمع المدني، بشارة عزمي، دراسة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998م، ص 139.
(14) إشكالية المجتمع المدني، النشأة، التطوير، التجليات، كريم أبو حلاوة، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى 1998م، ص 64.
(15) المصدر السابق، ص 30.
(16) المصدر السابق، ص 12.
(17) المصدر السابق، ص120.
(18) المصدر السابق، ص 129.
(19) المصدر السابق، ص 115.
(20) المصدر السابق، ص 149.
(21) المصدر السابق، ص 8.
http://www.alkashf.net المصدر:
============(8/254)
(8/255)
الصين.. العملاق الاقتصادي القادم
معمر الخليل
9/2/1426هـ
تعد الصين واليابان والولايات المتحدة من أسرع ثلاث اقتصاديات منتجة في العالم.
إلا أن الصين تعد - اقتصادياً - الأسرع نمواً من بين تلك الدول، إذ حافظت خلال العقدين الماضيين على متوسط نمو قدره 9.5% في العام الواحد.
وفيما بدأت الديون المالية والمشاكل الاقتصادية ترهقان اقتصاد الولايات المتحدة واليابان؛ تبدو الصين متجهة بقوة لأن تحتل مكانة متقدمة عالمياً في مراكز الاقتصاد، قد تجعلها تتبوأ المركز الأول خلال السنوات القادمة.
فالصين اليوم تعد سادس أكبر اقتصاد في العالم (الولايات المتحدة أولها، تليها اليابان)، وهي ثالث أكبر شريك تجاري مع الولايات المتحدة بعد كندا والمكسيك.
إلا أنه وطبقاً لإحصائيات ودراسات من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) فإن الصين عملياً تعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم، نسبة إلى أساس معادلة القوة الشرائية، وهو يتعلق بما تنتجه الصين في الواقع بدلاً من المضاربات بأسعار العملات وأسعار الدولار.
وبحسب إحصاءات الـ(CIA) فإن إجمالي الدخل المحلي للولايات المتحدة يتم احتسابه عبر حساب القيمة الكلية لجميع الخدمات والسلع التي أنتجتها الولايات المتحدة خلال عام واحد، وبناء عليه فإن أكبر اقتصاد في العالم هو الولايات المتحدة بواقع 10.4 ترليون دولار، وثاني أكبر اقتصاد في العالم هو الصين بواقع 5.7 ترليون دولار.
وهذا يعني أن إجمالي الدخل لـ1.3 بليون شخص في الصين يعادل 4385 دولاراً للفرد الواحد.
مخاوف أمريكية من الاقتصاد الصيني:
خلال الأعوام بين 1992 - 2003م كانت اليابان تعد أكبر شريك تجاري مع الصين، إلا أن اليابان تراجعت إلى المركز الثالث بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة خلال العام 2004م.
وقد وصل حجم تجارة الصين خلال عام 2004م إلى 1.2 ترليون دولار، وهو يعد ثالث أضخم تجارة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة وألمانيا، محتلاً مركزاً متقدماً أمام اليابان التي بلغ حجم تجارتها العالمية مبلغ 1.07 ترليون دولار، واحتل التبادل التجاري للصين مع الولايات المتحدة نسبة 34% من حجم التجارة الصينية عام 2004م، محولة شواطئ لوس أنجلوس بكاليفورنيا وشواطئ أوكلاند خلية عمل للتبادل التجاري الصيني.
وأبرز ما شهده عام 2004م في التجارة الصينية هو بروز الاتحاد الأوروبي كأكبر شريك اقتصادي مع الصين، حيث برز ككتلة اقتصادية مقابل الكتلة الأمريكية اليابانية، وفق ما ترى صحيفة الفايننشال تايمز الأمريكية، التي تؤكد أن الصين التي دخلت منظمة التجارة العالمية قبل 3 سنوات فقط (عام 2001م) لم يعد نفوذها هاماً بل حاسماً في كثير من الأمور، مشيرة إلى أن معظم الكومبيوترات المباعة في الولايات المتحدة مصنوعة في الصين، بالإضافة لملايين مشغلات الأقراص الـ(DVD) والتلفزيونات وغيرها.
وحسب الإحصاءات الرقمية لحجم التجارة الصينية مع دول العالم فقد بلغت عام 2004م، (177.2) بليون دولار مع الاتحاد الأوروبي، و(169.6) بليون دولار مع أمريكا، و(167.8) مع اليابان.
دول العالم الاقتصادية تدرك تنامي الثقل الاقتصادي للصين في العالم، إلا أن الولايات المتحدة واليابان تنظران بعين القلق نحو معدلات النمو الاقتصادية وأثرها على توازن القوى العالمية.
وحسب توقعات وكالة الاستخبارات الأمريكية فإن إجمالي حجم الناتج القومي الصيني سوف يعادل الناتج القومي لليابان في عام 2009م، وسيقفز إلى معدلات تساوي ضعف الناتج القومي الألماني خلال عام 2017م، وسيواصل صعوده نحو معدلات الناتج القومي الأمريكي عام 2042م.
إلا أن (نائب الرئيس السابق لقسم البنك الدولي للصين) جافيد بركي يتوقع أنه خلال العام 2025م سيصل الناتج القومي الصيني مبلغ 25 ترليون دولار، وبالتالي سيصبح أكبر اقتصاد في العالم، متقدماً على الاقتصاد الأمريكي البالغ (20 ترليون دولار)، والهند (13 ترليون دولار).
وتأتي توقعات بركي على أساس احتفاظ الاقتصاد الصيني بنسبة نمو سنوية تقدر بـ6% خلال العقدين القادمين.
توقعات بنمو صيني وتدهور ياباني:
وحسب توقعات بركي التي نشر جزءاً منها مجلة (آسيا تايمز)؛ فإن الاقتصاد الياباني سوف يعاني من تدهور حتمي، بسبب انكماش أعداد اليابانيين ابتداءً من عام 2010م، إذ طبقاً لتقارير وزارة الشؤون الداخلية اليابانية فإن عدد الرجال في اليابان هبط بنسبة 0.01% خلال عام 2004م، وبناءً عليه فإن خبراء الإحصاء يتوقعون أنه بنهاية القرن الحالي سيكون عدد سكان اليابان قد هبط إلى الثلثين.
وعلى عكس ذلك فإن أعداد الصينيين سوف تستقر عند 1.4 بليون نسمة خلال السنوات القادمة.
وتشير صحيفة النيويورك تايمز إلى أن السياسة الحكومية الصينية التي تطبق في مناطق واسعة من الصين تحتم على أي عائلة عدم إنجاب أكثر من ابن واحد، وأنه حسب الإحصاءات الصينية فإن نسبة الذكور إلى الإناث في الصين بلغت 129 ذكراً لكل 100 بنت، وترتفع هذه النسبة إلى 147 ذكراً لكل 100 بنت لدى العائلات التي تنجب طفلاً ثانياً أو ثالثاً.(8/256)
لذلك فإن النمو الاقتصادي المحلي للصين من المتوقع له أن يستمر في التقدم، خاصة وأن الصين لا تعاني من ديون خارجية، على عكس الولايات المتحدة واليابان اللتين تقيدهما ديون كبيرة خلال المدة القادمة.
كما يوجد آلاف الشركات الصغيرة التي تقوم بإنتاج ملايين القطع والسلع والبضائع، يتم بيعها في أسواق عائلية، دون أن تسجّل في الإحصاءات الرسمية الصينية.
كما تعاني الولايات المتحدة من تزايد حجم الإنفاق الحكومي والعسكري (خاصة بعد احتلال أفغانستان والعراق)، كما تؤدي أي مشكلة تعاني منها دول جنوب شرق آسيا (التي ترتبط عملاتها بالدولار) إلى تفاقم مشكلة الدولار الذي هبط إلى مستويات متدنية خلال المدة الماضية.
ورغم أن اليابان تمتلك أكبر احتياطي من العملات الأجنبية في العالم، تقدر بنحو (841 بليون دولار) إلا أن الصين بدأت تمتلك (609.9 بليون دولار) منذ مطلع عام 2004م بسبب الفائض التجاري مع الولايات المتحدة، وإذا استمر الوضع كذلك فإنه وخلال زمن بسيط ستكون الصين أكبر دولة تمتلك احتياطياً من العملات الخارجية في العالم.
يقول الصحفي الأميركي "جيمس إف. هوج" في مقال سابق له:" إن وضع الصين لا ينتهي عند هذا الحد، فاقتصاد الصين (التي تلعب دوراً بارزاً في الاقتصاد الدولي) يرتبط على نحو وثيق بالنظام الدولي العالمي، فالصين ما هي إلا قاطرة تقود اقتصادات الدول الآسيوية المتعافية من أزمة التسعينيات"، ويتابع هوج بالقول: " لقد أصبحت اليابان على سبيل المثال المستفيد الأول من تنامي اقتصاد الصين، وتدل إحصاءاتها الاقتصادية على ذلك، فتشير الأرقام الرسمية الأخيرة إلى أن معدل الدخل القومي الحقيقي كان قد زاد بمعدل 6.4 % في الربع الأخير من العام 2003م، وهو المعدّل الأعلى منذ العام 1990م، وقد خرجت اليابان - بفضل الصين - من عقد التوعّك الاقتصادي الذي مرّت وما زالت تمر به، إلا أن جدوى هذا مرهون بمدى صمود اقتصاد الصين".
ومن ناحية أخرى فإن الصين تعد من أوائل الدول التي تتمتع بوجود استثمارات أجنبية لديها، بلغت في المتوسط 35 بليون دولار في العام، وهي نسبة أعلى بكثير من أي دولة أخرى.
صعوبات محتملة:
رغم ما يحققه الاقتصاد الصيني من انتعاش مستمر إلا أن بعض الخبراء يرون أن الأرقام السابقة لا تعني أن الاقتصاد الصيني لا يعاني من عقبات أو صعوبات، أو أنه يسير في طريق سهل ويسير.
حيث يواجه الاقتصاد الصيني بعض العقبات التي تؤثر سلباً على نمو اقتصاده إلى حد ما، والتي تتمثل في ارتفاع أسعار النفط نظراً لزيادة الطلب الصيني عليه بشدة خلال العام الماضي 2004م، إضافة إلى أن الصين تمثل ربع الطلب العالمي على النحاس والألومنيوم والزنك، حيث أشادت شركات المعادن بالنتائج الإيجابية التي سجّلتها بفضل ارتفاع الطلب الصيني على هذه المعادن، وسط ضعف شديد في الطلب من جانب الأسواق الغربية.
وتشير الإحصاءات إلى نمو سريع في العلاقات بين كل من الصين وإفريقيا، موضحة كم الاستفادة التي جنتها دول هذه القارة من شراكتها مع الاقتصاد القوي.
وفي المقابل تأتي التجارة البريطانية لتسجل نتائج ضعيفة، حيث قُدّرت قيمة صادراتها العام الماضي بأقل من 2.4 مليار إسترليني، أي بنسبة 1.2%، ووارداتها بأكثر من عشرة مليارات إسترليني، مما أسفر عن عجز يُقدّر بثمانية مليارات إسترليني.
كذلك فإن الأمور السياسية التي باتت تدفع إلى التوتر بالعلاقة الصينية مع تايوان أصبحت تشكل مخاطر محتملة على الصين، كما تواجه الصين دولة أخرى يتوقع أن تبلغ معدلات النمو فيها حداً يقودها إلى تبوأ المنصب الأول عالمياً من حيث حجم الناتج المحلي وهي الهند.
إذ تستمر الهند في تحقيق معدل اقتصادي تصاعدي يقترب من نسبة 8% سنوياً، وهو ما يشير إلى إمكانية أن تحقق الهند قفزات تنافسية مع الصين خلال السنوات القادمة.
المصدر : http://www.almoslim.net/figh_wagi3/show_ r epo r t_main.cfm?id=576
============(8/257)
(8/258)
عن العولمة
إدواردو غاليانو*
ترجمة: هشام الميلوي
ليست العولمة ظاهرة جديدة، بل إنها نزوع أتانا من بعيد غير أنه في السنوات الأخيرة بدأ إيقاعها يتسارع كثيراً نتيجةً للتقدم الهائل الذي عرفته وسائل الاتصال والتواصل، وكذلك للتطور المماثل الذي شهده تركيز رأس المال على المستوى الدولي والعالمي. لكن ومع ذلك ليس من المناسب الخلط بين العولمة والعالمية، فإحداهما تأكيد لكونية الشرط الإنساني، تأكيد للعواطف، المخاوف، الحاجات والأحلام. أما الأخرى فهي أكثر اختلافاً وتشبه ممحاة للحدود من أجل حرية رأس المال. فالأولى تعني حرية تنقل الأشخاص، والأخرى ترمي إلى حرية تنقل الأموال وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة، والتي تم شطبها افتراضياً أمام رؤوس الأموال والبضائع، ولكن في المقابل أقامت حائط برلين مجدداً أو سور الصين أمام تنقل الأشخاص.
حق تقرير المصير في الطعام
إن العلامة المميزة للعولمة هي عملية النفي المستمر التي تخضع لها الشركات، فماكدونالدز مثلاً تفتح خمس مطاعم جديدة يومياً في العالم، وكان سقوط الروس أمام زحف ماكدونالدز في الساحة الحمراء بموسكو، عندما ذاب الستار المسمى بالحديدي؛ إيذاناً بأن الماكدنة الكونية فرضت أيضاً طعاماً من لدائن بلاستيكية في الجهات الأربع من المعمور، لكن في الوقت ذاته كان ظهور الماكدونالدز بمثابة شرخ وجرح مفتوح في جسم أحد الحقوق الأساسية للإنسان: حق تقرير المصير في الطعام. فالبطن وعاء الروح وبابه الفم، قل لي كيف تأكل أقل لك من أنت، الطعام هو طريقة الأكل، وطريقة الطبخ هي أحد معالم الهوية الثقافية المهمة، لا يهم الكمية التي تأكل، فالطريقة أهم أيضاً لدى الشعوب الفقيرة التي تأكل قليلاً أو لا شيء تقريباً، لكنهم يحتفظون بتقاليدهم عندما يتحول هذا القليل من الأكل إلى نوع من الطقوس اليومية.
ضد التنميط:
أفضل ما في هذا العالم، هو عدد العوالم التي يحتوي عليها. هذا التعدد الثقافي والذي يعد إرثاً للإنسانية يعبر عن نفسه من خلال طريقة الأكل والتفكير، الإحساس، الكلام، والرقص والغناء، يهدده نزوع واتجاه متسارع نحو تنميط وتوحيد العادات، لكنها تواجه في الوقت ذاته ردات فعل في اتجاه الاختلاف بجهد أبدي خارق. إن تحقيق الاختلاف الثقافي والاجتماعي والحفاظ عليه هو ما يمنح الإنسانية وجهاً واحداً بل أوجهاً متعددة في الوقت نفسه. وأمام هذا الهجوم من المجانسة ظهرت ردود فعل مناسبة وملائمة وأخرى مجنونة أتت من التعصب الديني وأشكال أخرى من محاولات فرض الهوية اليائسة.
أقول: ليس مفروضاً علينا ولا هو بقدر محتوم أن نعيش في عالم لا نملك فيه سوى خيارين اثنين: الموت جوعاً أو الموت ضجراً.
الهوية تتحرك:
الهوية الثقافية ليست مزهرية ساكنة في إحدى واجهات المتاحف، بل على العكس تماماً فهي في حركة دائمة وتغير مستمر وتتحدى واقعاً ديناميكياً. فأنا هو أنا، لكن أنا أيضاً هو ما أقوم به من تغير لكي أصبح أنا. فكما في النقاء العرقي لا وجود للنقاء الثقافي، ولحسن الحظ كلاهما يختلط بأشياء خارجية. إن ما يميز ويعرف إنتاجاً ثقافياً ما ـ كتاب، الرقص أو حتى طريقة لعب كرة القدم ـ ليس في أصله بل في مضمونه، المشروب الكوبي المعروف لا يحتوي في عناصره المكونة على أي عنصر داخل كوبا، الشراب البارد والسكر كما الليمون من جزر الكانارياس، ومع ذلك فالمشروب هو كوبي والفطائر الأندلسية عربية الأصل، والعجائن الإيطالية أتت من الصين، ليس هناك شيء يأخذ قيمته من أصله. المهم ما تفعله به وما تضمنه والمقياس الذي تستعمله كل جماعة من أجل تمثل هويتها في رمز من الرموز وفي طريقة العيش واللعب والغناء والحب.
وهذا هو الأجمل في العالم، اندماج مستمر يمنحنا إجابات جديدة لتحديات جديدة، لكن وكما أسلفت هناك اتجاه شك فيه - نتيجة العولمة المفروضة- نحو التنميط على مستوى كبير من خلال تركز السلطة بيد وسائل الاتصال المهيمنة.
آمال الإنترنت ووسائل الاتصال:
ألم يتقلص الحق في التعبير -المعترف به في كل الدساتير- إلى الحق في الاستماع فقط؟ والأمر كذلك بالنسبة للحق في الكلام؟ لكن كم عدد الذين لهم الحق في الكلام؟ تجب معالجة هذه الأسئلة بعمق بفضل >حزوم< التعدد الثقافي.
إن الفضاءات المستقلة في عالم الاتصال، قد تقلصت مساحاتها بشكل كبير. إن الوسائل المهيمنة اليوم على الإعلام هي تلك التي لا تفرض فقط المعلومة والخبر الملفق، وإنما تفرض رؤية وحيدة للعالم، كيف يمكن تحويل وتقليص ملايين العيون إلى عينين فقط لوجه واحد مهيمن على العالم.(8/259)
إن انطلاقة الإنترنت التي بدأت وعداً جديداً للقرن الحادي والعشرين، هي إحدى التناقضات التي تغذي الآمال. لقد ولدت شبكة الإنترنت من ضرورة ربط العالم بالمخططات العسكرية أي إنها جاءت لخدمة الحرب والموت، واليوم تشكل مجمعاً للأصوات التي لم تكن تجد من قبل مكاناً للتعبير والانتشار، واليوم يمتلكون شبكات ووسائل للاتصال، لكنها تخدم التجارة العالمية والتضليل أيضاً، وقد فتحت آفاقاً أوسع من دون شك وأكثر حرية، استفاد منها الإعلام المستقل الذي لم يجد إلا أبواباً مقفلة في الوسائل الأخرى كالتلفزيون والصحافة.
الأهداف والوسائل:
في اليونان القديمة كانوا يدينون بشدة القتل بالسكين والمقصلة. فعندما كانت تحدث جريمة، كان الناس يرمون بالسكين في النهر، واليوم نعلم أن هناك الوسائل من جهة، والأهداف التي تتناسب مع هذه الوسائل من جهة أخرى. ففي العالم المأساة هي فرض التلفزيون التجاري والنموذج الأمريكي كألمانيا، الدانمارك وهولندا. فلقد اكتملت مهمة التلفزيون الموجه لأهداف مختلفة تماماً على قاعدة الملك العمومي والمنفعة العامة، وفي المقابل هنا تم فرض النموذج الأمريكي للتلفزيون التجاري حيث كل ما يباع جيد وما لا يباع هو سيئ؟
معركة السكان الأصليين:
واحد من أهم الأسرار العضلية وإحدى أكبر مصادر الطاقة لهذه الأراضي هم أناسها. إن استعادة قوة حركات السكان الأصليين وحيوية القيم التي يتمثلونها تأتي من قيمة أساسية هي قيمة التوحد مع الطبيعة، وهي رمز لقيم جماعية لحياة مشتركة غير متمركزة حول الجشع، قيم أتت من الماضي لكنها تتحدث مع الطبيعة ولديها الكثير لتقوله للإنسانية. واليوم تجد لها صدى واسعاً لأنها هي ما تحتاجه الإنسانية لإسعادها اليوم، في عالم أواصر التكافل جرحت وانقطعت بشكل فظيع، وعالم متمركز حول الذات وقيم >لينجو من يستطيع<، و>كل مسؤول عن نفسه.
عن الإنسان والأرض:
على مدى خمسة قرون، تم ترويض أمريكا اللاتينية على عزل الإنسان عن الطبيعة، والإنسان هنا هو المرأة والرجل، الطبيعة من جهة والشخصية الإنسانية من جهة أخرى، العالم كله عرف وشهد الطلاق نفسه.
الكثير من السكان الأصليين الذين تم حرقهم أحياء بتهمة ذنب عبادة الأوثان، لم يكونوا أكثر من أخصائيي علم بيئة، والذين طبقوا علم البيئة هذا الوحيد المحترم في نظري، علم بيئة يوحد بين الإنسان والطبيعة، الوحدة بين الطبيعة والروح الجماعية، هما المفتاحان اللذان يفسران سر استمرار القيم الأصلية التقليدية على رغم خمسة قرون من الاضطهاد والازدراء.
على مر القرون، صُوِّرت الطبيعة دائماً على أنها حيوان غريب وغادر يجب ترويضه، واليوم حيث أصبحنا جميعاً من الخضر بفعل حملة دعائية إشهارية مبنية على الأقوال لا الأفعال، حَوَّلنا الطبيعة إلى شيء يجب حمايته، لكن ظلت هذه الطبيعة مفارقة لنا على أية حال، و مازالت موضوعاً للسيطرة وجني الأرباح.
أصبح من الضروري استدعاء إحساس السكان الأصليين من أجل إعادة التوحد مع الطبيعة، الطبيعة ليست منظراً ريفياً خلاباً بل هي نحن والمكان الذي نعيش فيه، ولا أعني بالطبيعة فقط الغابات وإنما ذلك التصور المفتوح لها والذي امتلكه السكان الأصليون الأمريكيون، وهي مقدسة لأن هنالك إحساس بسرعة ردة فعلها وانقلاب أي عمل أو جريمة بحقها علينا، وإن كانت هذه الجرائم تتحول إلى انتحارات جماعية، وهو ما نشاهده في المدن الكبرى لأمريكا اللاتينية، النسخ السيئة لمدن العالم المتقدم حيث يصعب التجوال والتنفس.
إننا نعيش اليوم في عالم هواؤه مسموم، ماؤه مسموم وأرضه مسمومة، وفوق هذا كله، الروح أيضا تسممت، ليتنا نستطيع استرجاع طاقتنا للعلاج.
الذاكرة منجنيقاً:
كنت دائم التساؤل خاصة أيام وليالي الحرب والحب: هل ستسعفنا الذاكرة بأن نظل سعداء؟ إلى الآن لم أحصل على إجابة شافية. تحكي رواية لكاتبة أمريكية عن جد التقى بحفيده وكان الجد فاقداً للذاكرة، وأخذت أفكاره لون الماء، كما إن الحفيد ولد حديثاً وبالتالي فلا ذاكرة له أيضاً، عندما قرأت الرواية قلت: هذه هي السعادة الكاملة، لكنني لا أريدها بهذه الطريقة. أريد سعادة تنبثق من الذاكرة لأحارب بها سعادة تأتي من التجارب. لا أتصور الذاكرة مرساةً حديديةً أو منجنيقاً يرمي باللهب النارية، ليست ذاكرة خط الوصول وإنما الذاكرة بوصفها نقطة انطلاق.
هناك تقليد أصيل في أمريكا اللاتينية في جزر المحيط الهادي، وفي كندا والمناطق الأخرى كشياباس في المكسيك، مفاده أن الحرفي الذي يوشك على التقاعد بسبب الأيدي التي بدأت ترتجف والعيون التي لم تعد ترى إلا قليلاً، يقوم بتسليم أروع إناء خزفي له في طقوس تشبه المراسيم الدينية للمهني المبتدئ الذي يعيد بدوره ثقبها وإعادة صنعها قبل وضعها في ورشته الخاصة، هذه هي الذاكرة التي أؤمن بها حقاً.
صورة ذاتية:(8/260)
كل كتاباتي صعبة، ومن الصعب القول إنها خيال. ما يعجبني هو السرد. أشعر بأني راوٍ، أتلقى وآخذ لأعطي. هناك ذهاب وإياب. أسمع صوتاً وأحوله إلى أصوات متعددة عبر فعل الإبداع في شكل رواية وفي كتب تجمع ما بين كل الأساليب والأجناس، أحاول خلق جنس مركب غير التصنيفات التقليدية يجمع بين النص، الرواية، الشعر، السرد اليومي، أحاول طرح رسالة كاملة لاعتقادي بأن هذا التركيب يعبر عن اللغة الإنسانية.
لا حدود فاصلة بين الصحافة والأدب. الأدب مجموعة من الرسائل التي ينتجها مجتمع ما في شكل معين. الصحفي المتمرس يستطيع أن يبلغ مستوى رفيعاً من الأدب، كما يتبين ذلك في العديد من الأمثلة كخوصي هارفي وكارلوس كيخاتو وردوولفو والش.
كنت دائماً أرى نفسي صحفياً ولست مستعداً للتخلي عن المهنة، لأنه عندما يدخل المرء في العالم العجيب للتحرير لا يستطيع أحد إخراجه منه، فالصحافة لها فضائلها وميزاتها: تعامل الاختصار. وترغمك على التركيب وهو أمر مهم لشخص يود كتابة ركام من الأشياء. ترغمك على الخروج من عالمك الصغير إلى الواقع الرحب لترقص رقصة الآخرين وتستمع لهم، كما إن لها مساوئ: فالأولوية للسرعة دائماً وفي أحيان كثيرة أذهب طويلاً مع كلمة أو عبارة وأمضي ثلاث ساعات بحثاً عن أخرى، وهذا ترف لا تستطيع الصحافة منحه لي.
عن الحلم واليقظة:
هدفي هو محاولة إخراج الواقع المقنع الذي نراه ولا نستطيع فهمه في الوقت نفسه. إنه واقع اليقظة والحلم، واقع كاذب وأحياناً كذَّاب. وأيضاً حامل لحقائق عدة نادراً ما يلتفت إليها. ليست هناك وصفة سحرية لتغيير هذا الواقع. ولتغييره يجب أن نتعلم أولاً طرق تحمله، وهذا هو المشكل. فنحن عميان لأننا تعودنا أن نرى بعيون الآخرين دائماً، لقد حولتنا مرآة العولمة إلى بقعة زئبق. مجرد بقعة.
عن كرة القدم:
الكل يولد في هذا البلد وهو يصيح: هدف. ولهذا هناك دائماً ضجيج في دور الولادة. أردت في الماضي أن أصبح لاعب كرة القدم كما هو شأن كل الأطفال في الأورغواي، لعبت في الثامنة من العمر وكنت لاعباً سيئاً لاصطدامي بحظي العاثر، فأنا والكرة لم نستطع التفاهم. كانت هناك حالة حب من طرف واحد، وأيضاً مأساة من جانب آخر، عندما يقوم أحد المنافسين بحركة جميلة كنت أهنئه وهو ذنب لا يغتفر في قواعد كرة القدم الحديثة والمعولمة.
ــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
* يُعَدُّ الكاتب إدواردو غاليانو من الأورغواي أحد أبرز الأصوات المضادة للتيار العام والسائد بأمريكا الشمالية خاصة كما يحلو للاتينيين تسمية الولايات المتحدة به حتى لا يصادر حقهم في قارة يتم غالباً اختزالها في الولايات المتحدة، وله العديد من الأعمال المترجمة سواء الأدبية منها أو السياسية، نذكر منها: العروق المفتوحة لأمريكا اللاتينية (1971)، ثلاثية ذاكرة النار (1982)، وقد حصل كتابه هذا على جائزة الكتاب من جامعة واشنطن سنة 1989 ومن وزارة الثقافة بالأورغواي، كما يساند إدواردو غاليانو الحركات المناهضة للعولمة بحضوره الفكري ومشاركته في مجلات عالمية وجرائد مثل لوموند ديبلوماتيك.
http://d33938.u27.hostingangle.com المصدر:
=============(8/261)
(8/262)
المستقبل وأمريكا
محمد العبدة
2/1/1426
الكتابة عن أمريكا ضرورية في هذه الأيام، ليس لأنها دولة كبرى يحسب لها ألف حساب، بل لأنها تحولت إلى دولة نهّابة، وحولت العالم إلى بؤر في النزاعات والمشاكل، دولة تريد استعمار الزمن أي استعمار المستقبل - كما يصفها الكاتب المكسيكي (اوكتافيو باز)-؛ لأنها أمة ليست قائمة على التاريخ كما هو حال الأمم الأخرى، أي ليس لها ماض تعتز به، وبعض الناس في بلادنا يرون أن كثرة الحديث عن أمريكا هو في باب (نظرية المؤامرة)، أو هو كلام عاطفي حماسي، ولكن الواقع يفرض نفسه وهو غير ما يعترضون، فهيمنة أمريكا وحبها للسيطرة أصبح واضحاً.
شيء من أصول العقل الأمريكي:
1- تشكل مقولة: الصراع والبقاء للأقوى أحد أعمدة التصور الأمريكي لعلاقة الإنسان بالإنسان، ولكن في حالات مؤقتة يمكن أن يتنازل الأمريكي إلى مبدأ (المصالح المتبادلة)، ومبدأ البقاء للأقوى مأخوذ من نظرية (دارون) البيولوجية، ولكنهم جعلوها دارونية اجتماعية، فالناس الذين يهلكون في الحروب هم الضعفاء، وهم عناصر التخلف، والمنتصرون هم الأصلح للتقدم، "ونتيجة لشيوع هذا المبدأ صارت القوة عند الأمريكي جمالاً وزينة، وهو معجب بالأقوياء إلى درجة تعميه عن قيمة العدل والإنسانية، وهذا ما يبرر إبادة الهنود الحمر؛ لأن هذا تنظيف للأرض من الإنسان المتوحش!!".
ومن المنظرين لهذا المبدأ في أمريكا: جون فسك، وهنري كيسنجر، وبرجنسكي، وألفين توفلر، وهذا الأخير يعد (المعرفة) هي أقوى سلاح لبقاء أمريكا متفوقة.
2- يلعب الدين في أمريكا دوراً أكبر بكثير مما تتصوره غالبية المراقبين في الخارج، والتعاطف الأمريكي مع إسرائيل ينطلق من تآلف ديني قائم على (الكتاب المقدس)، وإن جرى تغطيته بالحديث عن الديموقراطية المشتركة، وكل تعلق بآمال تغيير أمريكا موقفها من هذا التعاطف هو سراب وأوهام؛ لأن إسرائيل بالنسبة لهم امتداد (ديني - حضاري) يحمل ملامح المشروع الغربي، بل إن المهاجرين في إنكلترا في القرن السابع عشر شبهوا خروجهم إلى الأرض الجديدة (أمريكا) مثل الخروج الجماعي لبني إسرائيل من مصر، تقول إحدى الجماعات المسيحية العاملة في أمريكا، والتي يرأسها الكاهن (جيري فولويل): "لا توجد أمة اضطهدت اليهود إلا وعاقبها الإله، وإن الله سيرسل للتشريد والذبح والأسر كل من يحاول منع تجمع شعب إسرائيل في أرضه"، "وحين يكون لأمريكا مطامع سياسية واقتصادية تكون البعثات التبشيرية إحدى أدواتها كما حدث في جنوب السودان، وكما يحدث الآن في إندونيسيا".
ويقول السياسي والدبلوماسي عادل أرسلان في مذكراته: "قلت وما زلت أقول: إن الولايات المتحدة في قوتها المادية كالطفل يلعب بقطعة سلاح، ولولا دولاراتها لانبرى لها الكثيرون فأظهروا مساوئ سياستها، أنا لا أشك في أن روزفلت كان قادراً على حل قضية (دانزيغ) بين ألمانيا وبولونيا، وعلى الحيلولة دون الحرب، ولكنه كان خاضعاً لليهود، بل حرض على الحرب..".
3- تحولت أمريكا إلى دولة (نهابة) ليس عندها معايير أخلاقية وإنسانية، يجسد هذا طائرات الأباتشي والصواريخ العابرة للقارات، وقد كشف الرئيس (نيكسون) صراحة عن أهداف أمريكا بقوله: "لا نذهب إلى هناك دفاعاً عن الديمقراطية، ولا نذهب لمحاربة الديكتاتورية، إننا نذهب وعلينا الذهاب إلى هناك؛ لأننا لن نسمح بأن تمس مصالحنا الحيوية"، وليس بلا معنى أن نعلم أن كل وزراء الخارجية الأمريكية في عام 1953- 1990م كانوا مرتبطين مباشرة أو مداورة بالشركات النفطية".
يتساءل مؤلف كتاب (ما بعد الإمبراطورية): لماذا لم تعد هذه الدولة العظمى متسامحة وعقلانية، لماذا أصبحت على هذا القدر من الإصرار على الإضرار بالاستقرار العالمي، هل لأنها بالغة القوة، أو لأنها على العكس من ذلك تشعر بأن العالم يخرج عن سيطرتها، إن أمريكا تخاف من العزلة، وأن تجد نفسها وحيدة في عالم لم يعد بحاجة إليها..".
هل تتحول أمريكا إلى إمبراطورية؟
رغم حجم الآلة العسكرية الأمريكية ولكن هناك شك حول الموهبة العسكرية للولايات المتحدة، يذكر (الخبير العسكري البريطاني) ليدل هارت أن سلوك الجيوش الأمريكية في الحرب العالمية الثانية كان بيروقراطياً، وفي فيتنام لم يكن أداؤها مرضياً، أما في حرب الخليج فقد تم الانتصار على الجيش العراقي الذي كان منهكاً، وكانت خرافة المقولة التي روّج لها الإعلام أنه من أقوى الجيوش في العالم، ويرى الباحث (تيد) أن من شروط الإمبراطورية معاملة الشعوب المغلوبة بالتساوي مع المواطنين، ولكن هذه المساواة عند أمريكا هي الاضطهاد للجميع، ويضرب (تيد) مثالاً على القدرة على المساواة بين الشعوب بالإمبراطورية العربية (حسب تعبيره) التي يفسر توسعها بمبدأ المغالاة في المساواة الذي يعتمده الدين الإسلامي، بينما نرى الازدواجية الأنجلوسكسونية موجودة وخاصة في أمريكا ونظرتها إلى الآخر: السود، الهنود، الأسبان.(8/263)
والزعامة تحتاج إلى درجة عالية من الالتزام الثقافي والإشباع الوطني، بينما الثقافة السائدة في أمريكا تتركز حول اللهو والهروبية الاجتماعية، والخوف الذي زرعته حكومة (بوش الابن)، وحين يتم فقدان الثقة بالنفس فلا يبقى سوى هوس الأمن، والعجيب أن المحافظين الجدد هم لا يحبون هذه التسمية؛ لأنهم ليسوا محافظين، بل يعدون أنفسهم أصحاب رسالة تجديدية؟!! العجيب أن هذه الرسالة الديمقراطية وتعميمها على مستوى العالم أجمع ولو بالقوة هي تناقض صارخ بما تمارسه أمريكا في العراق وأفغانستان، وفي كل الدول العربية، وإذا كان الشعب العراقي وقع تحت ظلم صدام؛ فإنه انتقل من ظلم مختل إلى ظلم منظم، ومن ظلم يحمل العصا إلى ظلم يحمل الدساتير والمجالس المعنية والسفارة الكبيرة، من استبداد الفرد إلى استبداد باسم التحالف متعدد الجنسيات.
أمريكا والمستقبل:
هل من المحتمل ظهور قوة عالمية تنافس أمريكا؟
الجواب عند (برجينسكي) المنظر لمستقبل أمريكا أنه لا يحتمل ظهور أي تحد منفرد لمنافسة زعامة أمريكا على المدى القريب، ولكن مفكرين آخرين يقولون: إن أمريكا وأوروبا الغربية صارتا تجدان صعوبة في مواجهة النتائج الحضارية لطغيان مبدأ اللذة في المجتمع، والتردي الحاد في القيم، وقد شعر المؤرخ (هانز كوهن) بالقلق من أن الغرب يمكن أن يكون قد أجهد واستنفد.
إن محاولة تركيز القوة في يد دولة واحدة تهيمن على العالم هي محاولة فاشلة، فالمعرفة أصبحت أكثر انتشاراً وأكثر مشاركة، والقوة الاقتصادية أكثر توزعاً، وهناك عقبة حقيقية أمام أمريكا وهي: روسيا، اليابان، أوروبا، الصين، وإذا كانت بريطانيا تخطط للانضمام إلى منطقة (اليورو) فهذا سيشكل ضربة كبيرة لنيويورك، وإن العجرفة التي تمارسها أمريكا هي التي مارسها الاتحاد السوفيتي على أوروبا الشرقية وكانت أحد أسباب انهياره، وهي عجرفة الرومان قديماً، والعجرفة مؤشر على بداية الانهيار "، ومع حاجة الولايات المتحدة إلى تعزيز قدرتها العسكرية لابد لها من التخلي عن دورها في التطوير العلمي والتطور الاقتصادي، ومع ميلها لفرض إرادتها دولياً لابد لها من المزيد من الاستعداء من مختلف الأطراف، وتعريض نفسها لمزيد من المواجهات".
وهكذا تمر الولايات المتحدة بوقت عصيب، فحكومتها في أيدي أشخاص لا يتصرفون بعقلانية أو بأخلاقية، وستضع هذه الحكومة الولايات المتحدة على طريق منهك طويل.
المصدر : http://www.almoslim.net/a r ticles/show_a r ticle_main.cfm?id=675
=============(8/264)
(8/265)
نهاية العولمة
هشام الميلوي
جون غراي *
سوف نتذكر دائماً أن العشرية الفاصلة بين سقوط حائط برلين والهجوم على برجي نيويورك على أنها كانت حقبة للتضليل والخداع بامتياز. الغرب صفق كثيراً لانهيار الشيوعية ـ جوهر الإيديولوجية المثالية في أوربا ـ وعده انتصاراً للقيم الغربية. إن انهيار الاتحاد السوفياتي كان إيذاناً بسقوط أسوء التجارب المثالية والكارثية في التاريخ. لكنها استقبلت في الغرب بوصفها فرصة تاريخية للبدء بمشروع يوتوبي آخر وأوسع؛ ـ السوق العالمية الحرة ـ. وكان على العالم إذن أن يأخذ صورة وشكل الحداثة الغربية، صورة شرعت بإيديولوجيا السوق الخالية من أي واقعية إنسانية. مع الهجوم على نيويورك وواشنطن تعرضت المفاهيم التوافقية -والتي كانت ترى في العولمة حدثاً تاريخياً وقدراً لا راد له- إلى التهشم، وعدنا إلى الأرضية الكلاسيكية للتاريخ حيث الحروب لا تقوم على الإيديولوجيات وإنما على أساس التاريخ، العرق، الأرض وبالسيطرة على الموارد الطبيعية.
إن الذين هاجموا مبنى البنتاغون مستخدمين في ذلك السكاكين الصغيرة والمحمولة وكذا الطائرات أسلحةً، من الممكن أن يكون هناك من تبناهم أو حتى مولهم، لكن لا يوجد هناك سبب واحد يدفع نحو الاعتقاد بأنهم تحركوا بأمر حكومة ما. لقد كانوا جنوداً من نوع جديد تماماً من جنود الحرب، وجزءاً مكوناً أساساً من ضعف الدول المرتبطة بالعولمة، فالحرب خرجت هي الأخرى من سيطرة الحكومات. إن احتكار وتنظيم العنف هو أحد أسس سلطة الدولة الحديثة، والدولة التي نمت ببطء وبعد عناء كبير لا تجد نفسها بمأمن أينما وجد العنف بكل أشكاله، إلا أن الغريب والعام في الوقت نفسه هو هذه السرعة وهذا الاتساع الذي اختفت فيه الدولة تقريباً خلال العشرية الأخيرة الماضية، عهد عولمة ينوء فيه العالم بدول منهارة، وفي هذا الجزء نصارع الحرب بأسلحة غير عادية من النزاعات السياسية والجماعات الدينية والعشائرية تميل إلى وحشية صارخة لا توجد سلطة تستطيع فرض السلام.
تبين هذه الأحداث الجانب الأسود من العولمة، والتي لطالما حاول مؤيدوها مراقبتها وتدبيرها وتبين أن تكون حتى المجتمعات الغنية ليست بمنأى عن عدوى انهيار الدول والنوع الجديد من الحروب التي باتت تجتاح كل أرجاء العالم. وكان هذا واضحاً منذ زمن مع تدفق المهاجرين من الدول الفقيرة وطالبي اللجوء السياسي والاقتصادي الذين بضغطهم على حدود الدول الغنية يشهدون على تناقضات السوق العالمية الحرة. فالتجارة ورأس المال يتحركان بحرية كاملة عبر العالم، لكن حركة العمل جد محدودة على عكس دولة رجال الأعمال في نهاية القرن 19 حيث كانت الحواجز شبه منعدمة، وهذا تناقض آخر لا يرصده المدافعون عن السوق العالمية ولكنه سيكون أكثر حدة في السنوات القادمة.
مع الهجوم على نيويورك وواشنطن لم يعد أحد يستطيع تجاهل انهيار بنيات الحكومات والتي تُعَدُّ إحدى المنتوجات الموازية للعولمة، عن الأسلحة القديمة والمهترئة القادمة من أكثر المناطق تضرراً في العالم، برهنت على قدرتها على الوصول إلى قلب أغنى وأقوى دولة في العالم. ثم إن عنف الضربة هو مثال عما يسميه المحللون العسكريون >الرعب اللامتماثل< أو بعبارة أخرى قدرة سلاح الضعيف على مواجهة القوي والذي بدا للعيان أن القوي هو أضعف مما نتخيل، إن فقدان هذا القوي للقدرة ليس جديداً، لقد بدا واضحاً أثناء >الحرب على المخدرات< فتجارة المخدرات - إلى جانب النفط والسلاح - في أحد ثلاث مكونات للتجارة العالمية شأنها شأن الجريمة المنظمة فقد انتعشت هذه التجارة في سياسة التحرير التي أبدعتها العولمة المالية، أصدرت الدولة الأغنى في العالم ملايير في حرب دون طائل ضد صناعة معولمة وعالمية، لذا فإن الحرب الجديدة على الإرهاب واقتلاعه ستكون صعبة المنال لأن تدارك الآثار السيئة لتجارة المخدرات وتقليص الخسائر تَمَّ عبر تنقيتها وشرعنتها، ولا يوجد حل مماثل لعلاج الإرهاب وإرهاب العولمة.
إن العمليات الإرهابية وتدمير المراكز التجارية لم تعكس فقط مدى الدمار وفقدان الأرواح ووهن الأمن ووكالات الاستخبارات بقدر ما أزاحت المعتقدات التي أسست للسوق العالمية. في الماضي كان المستثمرون يعرفون بأن العالم سيظل مكاناً خطيراً بألوان الثورات والحرب قد تعصف بأرباحهم في أية لحظة. لكن خلال العشرية الأخيرة، وبفعل تأثير النظريات المضحكة عن >نهاية التاريخ< التي دفعت للاعتقاد بأن تقدم التجارة الليبرالية لا تقاوم فإن الأسواق المالية قد حددت سعر وثمن هذا الاعتقاد من خلال الأزمة الأسيوية والعجز الروسي سنة 1998 وسقوط الرأسمال للمدى الطويل. هذا كله أزاح الاعتقاد الأعمى في الأسواق والعولمة نفسها.(8/266)
من المهم هنا التذكير كيف أن العولمة قدمت وعوداً أو أحلاماً ما بتحويل العالم إلى سوق حر كوني لا يعير اهتماماً للتاريخ وللقيم ولعمق الاختلافات ومرارة الصراعات حيث جمعت كل الثقافات في حضارة كونية واحدة. والغريب كيف أن فلسفة السوق الليبرالية والعولمة تشبه إلى حد كبير الماركسية، فهما في الأصل ديانتان علمانيتان حيث الآمال والرغبات المسيحية منحت ضياءً لهما، كلاهما ينظر إلى التاريخ على أنه نتيجة تطور الأجناس التي اكتسبت المعرفة والثروة وأشعت في حضارة كونية ونظرت إلى الكائن البشري انطلاقاً من مبررات اقتصادية. فهم إما منتجون أو مستهلكون ـ في العمق ـ مع القيم والحاجات نفسها. وأصبح الدين على الطريقة القديمة ظاهرة هامشية مصيرها الانقراض أو الزندقة داخل دائرة أو طبقة خاصة حين لن يستطيع إثارة السياسات والثغرات والحروب المشتعلة. أما تاريخ الجرائم والمآسي فالإشارة إليها تجد أصولها في الطبيعة البشرية. فهي أخطاء يمكن إصلاحها بتحقيق تربية أفضل ومؤسسات سياسية ومستوى عيش أحسن. غير أن الخلاف بين الماركسيين والسوق الحرة هو حول النظام الاقتصادي الأفضل فهم على قلب رجل واحد. عقيدة التنوير هذه تلقى استجابة كبرى ـ بالنظر إلى عدد المثقفين الذين بشروا بها، ولكنها في الوقت نفسه تشكل نوعاً من الدوغماتية والتبشيرية (Missiona r y site).
بالنسبة لليبرالية السوق ـ كما بالنسبة للماركسيين ـ هناك طريقة وحيدة للتحديث، على كل المجتمعات تبني السوق الحرة، وإذا كانت ديانتهم ونظام العائلة لديهم يعيقان هذا الأمر فإن المشكل يكون في غاية السوء ولكنه مشكلهم على أية حال. وإذا كانت القيم الفردانية التي يتطلبها السوق الحر تتماشى وتتناسب مع مستوى عالٍ من التفاوت الاجتماعي ومعدل مرتفع من الجريمة فليكن، فهذا ثمن وضريبة التقدم، وإذا كانت دول بأكملها تنهار حسناً، >لا يمكنك صنع العجة دون كسر البيض<. خلال التسعينات كان تأثير هذه الفلسفة العقلانية لأصولية السوق كبيراً لما يحصل عليه من دعم الصندوق النقد الدولي (FMI) كما تخطئ وتضل الطريق عندما تشغل سلطتها لفرض سياسات (وصفات) متطابقة على دول تختلف بدرجة كبيرة من حيث التاريخ، لأن عرَّابي البنك الدولي وصندوق النقد لا يرون إلا طريقاً واحدة للحداثة يجب فرضها على الجميع.
لقد وضعت أحداث 11 سبتمبر علامة استفهام على فكرة الحداثة، هل هي حقيقة تلك العلبة التي تضم المجتمعات البشرية والتي آجلاً أم عاجلاً ستجمع على القيم نفسها النظرة للعالم؟ قد يبدو هذا سؤالاً أكاديمياً لكنه اليوم يكتسي أهمية عملية ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في أغلب بلدان الغرب أيضاً. إن الاعتقاد بأن الحداثة ضرورة تاريخية لا يمكن لأي مجتمع تجاهله لأنه يجعل من الصعب إدراك هذا النزاع المضاد اتجاه الغرب. لقد قدنا ـ بزعامة الولايات المتحدة ـ الدول الغنية على أساس فرضية أن الشعوب تريد العيش مثلما نعيش وبالنتيجة فشلنا في الاعتراف بردة فعلهم الثقافية والإحساس بالظلم والرفض الحقيقي للحداثة الغربية. ما نحتاج إليه وباستعجال هو محاولة وضع أسس تعايش حضاري بين الثقافات والنظم التي ستظل دائماً مختلفة.
على مدى السنوات القادمة ستضطر المؤسسات العابرة للقارات والتي ساهمت بإنشاء السوق الكونية الحرة إلى القبول بدور أكثر تواضعاً وإلا ستفقد الكثير. إن مفهوم التجارة والثروة الذي يرتكز على: دعه يعمل دعه يمر؛ لا أساس له في التاريخ. إن الحرب البادرة ـ وهي فترة مراقبة سيولة لأورثوذكسية السوق الحرة فإن الرأسمالية لا تحتاج إلى سوق حرة واسعة للازدهار بل إلى محيط آمن، بعيد عن تهديد الحروب الواسعة وإلى قوانين آمنة لاستمرار العمال، وهي أمور لا يمكن أن تهيئها البنيات الهشة للسوق الحرة الكونية، بل على العكس تماماً إن فرض نمط وحيد من العيش سيولد صراعاً وعدم أمن وكلما كان ذلك ممكنا فإن القوانين المتعلقة بحركة رؤوس الأموال يجب أن توقع بحضور كل الأطراف المعنية وبين دول ذات سيادة في حين يجب ترك تلك التي تريد البقاء خارج السوق الكونية بسلام وترك حريتها في تصور الحداثة أو ألَّا تتحدث بالذل وبالتالي فلن تهدد الدول الأخرى، فحتى الدول غير المتسامحة يجب التسامح معها.
عالم متحرر من القيود وأكثر تجزئة ومعولم جزئياً سيكون بالتأكيد عالماً أقل ارتباطاً ومختلفاً لكنه أيضاً سيكون عالماً أكثر أمناً.
_____________
الهوامش:
?* بروفسور السياسة في جامعة أكسفورد وأستاذ الفكر الأوربي بمدرسة لندن للاقتصاد، ينشر مقالاته بانتظام في كل من جريدة الجارديان والتايمز البريطانيتين..صاحب كتاب الفجر الكاذب: أوهام الرأسمالية العالمية.
http://d33938.u27.hostingangle.com المصدر:
=============(8/267)
(8/268)
علي بوخمسين
جاء الخطاب الأمريكي تجاه الشرق الأوسط الكبير تجلياً لعلاقات القوة القائمة فيما بعد الحرب الباردة، فالقوة لا تعبر عن نفسها إلا من خلال علاقاتها بالقوى الأخرى، وليس ثمة خطاب يمكن تأسيسه إلا من خلال موقعه على رقعة التشابك بين القوى، ليس في وسع الولايات المتحدة (مثلاً) الإعلان عن مشروع للإصلاح في الصين، لأن خطابها حيال هذا البلد يبقى متموضعاً في أرضية توازن القوة ومستنداً إلى معادلات الممكن والممتنع، وفي السنوات العشرة الأخيرة انحرف الخطاب الأمريكي الموجه للصين عن مساره التصاعدي المعهود منحدراً في طريق تنازلي على وتيرة تعكس نمو وتصاعد القوة الصينية في التقنية والاقتصاد.
كان على الخطاب الأمريكي تجاه الصين أن يتخلى عن نبرته لأن الشروط الموضوعية المنتجة له على صعيد الواقع المتحقق أصابها التغيير وإلا أصبح خطاباً ديماغوجياً لا قيمة له، وفي الجانب الآخر فإن الشروط التي تمنح الخطاب الأمريكي تجاه الشرق الأوسط آمريته وعنفوانه هي حقائق ماثلة وتجربة يومية حية لا تنتهي في العراق أو أفغانستان أو فلسطين ولكنها تبدأ في ما يؤسس للموقف العربي الإسلامي ويحدد موقعه الحضاري المزاح عن دائرة الفعل والتأثير، فلقد كان لابد لخروج هذا العالم من التاريخ والزمن أن يأخذ طابعاً تراكمياً على مستوى العجز الذي جعل المنطقة برمتها تتحول إلى مريض العالم، فاقد الوعي، المستكين إلى مشارط (الحكماء) من الغرب والشرق، حيث توحي الوتيرة المتصاعدة لانهمار مشاريع الإصلاح على الشرق الأوسط بأن التشخيص المرضي لهذه المنطقة قد اكتسب إجماعاً على مستوى العالم بأكمله، حيث إن (الإصابة) الشرق أوسطية لا تنتمي إلى حالات الكمون الذي يمكن عزله ومحاصرته، فهي تتسرب عبر الشقوق والفجوات على جدران التحصينات التي تقام في وجهها لحماية (الحضارة)، تنفجر هنا وهناك وتثير الفزع في عالم (آمن)، من هنا اكتسبت (المشاريع الإصلاحية) الهاطلة من أمريكا إلى اللكسمبورج مشروعيتها، حيث يجري تحضير غرفة العمليات لفحص رجل العالم المريض وتشريح جسده على أيدي الثمانية الكبار في وقت قريب، ويبدو رجل العالم المريض مريضاً بحق، عاجزاً وكسيحاً، وجماع ما تسعفه به قواه المتهالكة أن يتمتم بالرفض وهو يدير وجهه إلى الحائط، وليس ثمة ما يعكس هذا الواقع مثل (وثيقة العهد) التي بلورتها الجامعة العربية تحت وطأة الوابل المتزايد لمشاريع التدخل الأجنبي المقنعة والمتسترة تحت ألقاب الإصلاح الذي تبلغ مواسمه ذراها وترتفع راياته فوق مهرجانات الأدبيات السياسية ليزود الخطابية العربية بأبجديتها المزوقة المغرقة في الإيهام (كما نشرتها جريدة الحياة 2004/3/11)، حيث تتداخل المعاني والحدود لتعيدنا إلى نقطة الصفر من تاريخ طويل لنضال الأقوال وحروب المنابر وذكرى الانتصارات الدونكشوتية، فالعقلانية المستنيرة التي كنا نعتقد إنها تسللت إلى الردهات المغلقة التي ينتج بين جدرانها القرار العربي والمسلم لم تكن سوى عبارات رتيبة عائمة على محيط لامتناه من احتمالات المعنى والتفسير، فضفاضة صممت بعناية لتحوي كل شيء ولا شيء، فجاءت اللغة التي كان ينتظر لها أن تمنح أمتنا جدارتها لمواجهة المعضل الأكثر خطورة وحسماً لتجسد بكل جلاء موقفاً متهالكاً، لا ينطق إلا بالواقع المتحقق على ساحة توازن القوى ومعادلات السيطرة في العالم المعاصر، عندما نقرأ أن الموقعين المنتظرين على هذه الوثيقة (استذكاراً للإنجاز التاريخي المتمثل في ميثاق جامعة الدول العربية) يؤكدون (تضامننا في تعزيز العلاقات والروابط بين الدول العربية وصولاً إلى التكامل من خلال تطوير التعاون العربي المشترك وتقوية قدراتنا الجماعية لضمان سيادة الأراضي العربية وأمنها وسلامتها وصونها) تصوروا!!! و(وعقدنا العزم على مواصلة خطوات الإصلاح) و(تهيئة الظروف الضرورية لإرساء التكامل الاقتصادي فيما بيننا على نحو يمكننا من المشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي).(8/269)
كله رائع وفخم وعلى قدر كبير من الحصافة والفطنة، ولكن كيف؟ متى وأين؟ تبقى كلها هائمة معلقة غائرة في كثافة الضباب، كيف يمكن لهذه العمومية المطلقة أن تحرر مشروع النهضة الحضاري المرتقب من عقاله، تفك أسره المزمن وتنتزعه من احتباسه وغيبوبته؟ كيف لها أن تخلص الأمة العربية من سلبياتها وتعبئ قواها، وتشحذ إمكانياتها ضمن منهجية وعقلانية ملائمة لمرحلتها التاريخية وتمايزها الإنساني والثقافي؟! كيف يكون للدهشة مكان؟ وأين يكمن موضع العجب؟! إذا أصبحت أمة كهذه تواجه أخطر مفاصل تاريخها بهذا القدر من الهلامية مستباحة لكل الانتهاكات، فاقدة لوعيها على مشرحة العالم والتاريخ، ومع ذلك فإن على وعينا أن يتصدى لشبكة الألغاز التي يقذفنا بها الالتفاف المفاجئ لمسار الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، فلا مجال لتخطي التساؤل عن مغزى أن تتم بسرعة فائقة زحزحة المنطقة من موقع الخصم الحضاري الذي ينبغي محاصرته إلى موقع الحليف المتوعك الذي ينبغي إحاطته بالعناية والحنو، من منطقة تنغرس جذور العداء للحرية والحضارة في عمق تربتها الثقافية، ونزوعها المتأصل، إلى منطقة تحمل (وعد) الحضارة في وطن الإنسانية المصانة والمحررة من همومها وأعبائها، وليس على الجواب أن يضرب بعيداً عن خارطة القوة، عن التبدلات المفاجئة بدورها وعن عملية الحراك السريعة التي شهدتها مواقع القوة في سنوات قليلة متتالية وسريعة، عن المياه الغزيرة المتدفقة تحت طبقة رقيقة لن تلبث أن تنبجس عن تيار هادر يعيد رسم مشهد علاقات القوة في العالم، ويعلن ميلاد العملاق الصيني وظهور الصين الصينية، لا الصين الماركسية، ولا حتى الصين الماوية، بل صين الصين التي لن تكون نسخة لأحد ولا صدى لصوت أحد، أو تابعاً متظللاً بعباءة أحد، هذه الصين المنبعثة على إيقاع سريع بعثرت في ضربة واحدة مرتكزات القراءات السابقة لمستقبل العالم المنظور، وأبرزت أمام الأمريكيين العيوب التي اتسم بها اختيارهم لخصمهم الحضاري الموهوم، الذي تلقفه الاستراتيجيون الأمريكيون بعد سبتمبر البغيض لإذكاء جذوة الحس الوطني وتعبئة روح الانتماء بعد اختفاء الخصم السوفياتي، وهو ما يمثل ضرورة استراتيجية لبلد يمتلك مشروعاً كونياً.
لقد حفل هذا الخيار بسلبيات خطيرة في بعدها الثقافي والإنساني وفي مستوى الاستجابة للتحدي الذي جرى افتعاله، من ناحية فإن هذا الخصم المفتقر إلى أبسط أبجديات الاستراتيجية والتخطيط، قد يستغرق الجهد الأمريكي ويستدرجه بعيداً عن تأكيد تفوقه التكنولوجي الحاسم، ويرغمه على الانخراط في الصراع وفق الشروط البدائية التي يتقنها، ويحد من تفاعله على مستوى المنافسة العالمية في حقول التقنية الفائقة، كما ينطوي الاختيار الخاطئ لهذا الخصم الحضاري على خطر تنامي النزعات الدينية المتطرفة واستقطابها المتسارع لقوى التمييز العنصري والعرقي، وأخطر من ذلك في الانتهاكات الجوهرية للدستور والحقوق المدنية التي أشاعت القلق في أوساط النخب الأمريكية من خلال القوانين التي أقرها الكونجرس فيما يشبه قوانين الطوارئ في دول العالم الموسوم بالتخلف.(8/270)
ومع التحولات الجذرية في الصين، والتي يجسد أكثرها خطورة وأهمية في بلورة العمل المؤسسي ونمو روح القيادة الجماعية وتبني العقلانية الإدارية وانحسار التسلط الإيديولوجي، مما ساعدها على تخطي معضلتها التاريخية المدمرة المتمثلة في التضخم، ومع استمرار النمو بمعدلات هي الأعلى في العالم، واتساع رقعة التنمية على الصعيد الجغرافي والإنساني لكي تشمل الأرياف، التي كان القائد التاريخي دينغ شاوبينغ قد أطلق منها تياره الإصلاحي الكبير، يتقدم كل ذلك القفزات التكنولوجية المثيرة التي توجها رجل الفضاء الصيني الأول وسط مزيج من الإعجاب والذهول، مع كل هذه التحولات المتسارعة في العالم الصيني الواسع ومع إدراك المؤسسة الأمريكية في تشكيلاتها المتعددة والمنبثة في عروق المجتمع بتهافت الخصم الحضاري المفتعل وما ينطوي عليه الصراع الدائر من التهديد المستتر وبعيد المدى، للأساس الحضاري والثقافي للمجتمع الأمريكي، فإن الأمريكيين يكتشفون بصورة مفاجئة الحقائق البسيطة التي وضعت أمامهم في أعقاب سبتمبر وأشاحوا بوجوههم عنها في حومة الغضب والهيجان، أن القوة وحدها لن تجتث الإرهاب والتطرف، إن جذوره تضرب في عمق التخلف والفاقة والاستبداد، في الظلم والتسلط الدولي والمحلي بأشكاله المختلفة، في تغييب الإنسان واستباحته وحرمانه وتدمير الطبيعة من حوله لصالح المتسلط المحلي المحتمي بمظلة الأجنبي والملتف بأرديته، وكانت أرض الواقع تنبت حقائق تملأ الأفق وتطلق الرياح التي تبعثر كل الأوراق وتفرض إعادة كل القراءات ومراجعة كل التأويلات، وها هم الأمريكيون يستجيبون لانحرافات موازين القوة، وحركة الإزاحة والزحزحة التي يجري تأكيدها، للعالم الجديد الذي يأخذ سمته في الانبعاث على خلفية الذهنية الأمريكية نفسها، العقلانية العملاتية المطلقة، رأسمالية الاقتصاد، العلم والتكنولوجيا، يترافق ذلك مع وعيهم المتزايد بخطأ خياراتهم في الصراع، ولكن استجاباتهم تأتي أمريكية الروح والشكل والمضمون، إنها استجابة الآمرية المتعالية والمتجاهلة للآخر، شؤونه وشجونه، معاناته وطموحه، أوجاعه ومآسيه، حيث يكشف المشروع الأمريكي عن مستوى القيمة في معادلات المخططين الأمريكيين لهذه المنطقة من العالم ذلك المستوى الذي يعكس موقع هذه المنطقة على خريطة القوة، فهذا المحيط الجغرافي والبشري الواسع بأبعاده الثقافية وتاريخه الممتد وحضاراته الأولى وإسهاماته الإنسانية الكبرى، تم اقتلاعه من وسطه الإنساني والتاريخي والثقافي وطمست كل الحقائق الماثلة على صفحة واقعه، كل التفجرات والأورام السرطانية على جسده، فلسطين وكشمير والصحراء الغربية وجنوب السودان وغيرها من البؤر التي امتدت لتشمل العراق وأفغانستان، جاء المشروع الأمريكي ليلحق هذا العالم الواسع باستراتيجيته الكونية طامساً ومتجاهلاً لطموحات شعوبه في بناء مشروعها الحضاري الخاص، إقامة أنظمتها الأمنية، صيانة استقلالها الوطني وثقافتها، جاء متلفعاً باطروحاته التقليدية، الديموقراطية والإنسان، المشروع الأمريكي اختزل الجغرافيا والبشر والتاريخ في صياغة مرتجلة تكشف فقط عن الارتباك الذي يعتري المخططين الأمريكيين، ذلك لأن محيط الفاقة الرازح تحت أثقال ساحقة من المعضلات والممتد من جبال الأطلس حتى سفوح الهيملايا بما في ذلك آسيا الوسطى والقوقاز، لا يمكن استئصال أدرانه المزمنة عبر خزانة الإسعاف التي حملها المشروع الأمريكي في عباراته العمومية واستعاراته المرتجلة، ولن يكون للمثاليات التي اطلقها مفعول من أي نوع، قبل أن تتجاوز المنطقة إشكالياتها المتجذرة في الاستراتيجية الأمريكية نفسها، قبل معالجة مسائل إنسانية أصبحت لطخة عار تشوه الجبين الناصع الذي تحاول الحضارة القائمة استعارته، ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذي يعانون من لا إنسانية البطش الإسرائيلي بينما يكابدون مستويات من العيش لم تعد لائقة بالبشر، وعشرات الملايين الآخرين من المشردين نتيجة الحروب والتفجرات والنزاعات التي تخدم أغراض الهيمنة الأجنبية، البشر البائسون الهائمون على وجوههم، ضحايا الخوف والاضطراب والاضطهاد المحلي، مظاهر العوز والفاقة ونقص التغذية وتلوث المياه والبيئة، كل الركام الهائل والمتكاثر الذي أنجبه تاريخ طويل من التقهقر والغزو وانتهاب الثروات من قبل الاستعمار الغربي وعملائه المحليين. إن المشروع الأمريكي يبدو ساذجاً وطفولياً إلى درجة النكتة في اختزاله وعموميته، انه مشروع مرتجل في سياق السياسة الأمريكية المعهودة المنبثقة دائماً وأبداً من مصالح متقلبة ونزقة، والمتأثرة بإرادة الحركة الصهيونية عندما تتعلق الأمور بالشرق الأوسط، فهذا المشروع لا يجهد نفسه كثيراً في إخفاء غايته الاستراتيجية القصوى، التي هي عزل المنطقة عن المصادر الحقيقية لمستقبلها الحضاري وقدراتها الكامنة لتجاوز أوضاعها الحالية، تلك الإمكانات التي يؤطرها كيانها الثقافي وهويتها العربية الإسلامية، يحولها إلى كتل بشرية فارغة من حس الانتماء والرابطة تخفق قلوب جماهيرها باللهفة إلى بريق (الحضارة) المنبعث عبر منارات(8/271)
الدولة العبرية.
2004/03/30 م
http://w r ite r s.al r iyadh.com.sa المصدر:
============(8/272)
(8/273)
الإصلاح من الداخل ؟ !
د . أسامة الغزإلى حرب
ليس بمقدور أحد الآن أن يشكك في جدية الولايات المتحدة وحلفائها في الحديث عن ' الإصلاح ' في العالمين العربي والإسلامي . تلك هي إحدي التحولات الكبرى التي تحدث في السياسة العالمية ، منذ 11 سبتمبر 2001. ففي سياق الاستراتيجية المعلنة ' للحرب على الإرهاب ' خاضت الولايات المتحدة الحرب في أفغانستان على تنظيم القاعدة في عام 2002، ثم قامت - في سياق تلك الاستراتيجية نفسها - بغزو العراق في 2003، والآن - في 2004 - تعلن الولايات المتحدة عن مشروع ' الشرق الأوسط الكبير ' الذي تستعد لمصادقة مجموعة الدول الثماني عليه في يونيو القادم . الحرب في أفغانستان والعراق كانت حربا على الخطر ' المباشر ' للإرهاب ، أي على فلول المنظمات الإسلامية المتطرفة التي عزت إلىها واشنطن القيام بأعمال 9/11، وعلى أي احتمال بأن تصل إلى أيديها أسلحة الدمار الشامل ( وهي الأسلحة التي لم تظهر أبدا في العراق !). أما مشروع الشرق الأوسط الكبير ، فيستهدف منع ظهور الإرهاب ، أو - مثلما جري القول الشائع - ' تجفيف منابع الإرهاب '! أي : إيجاد مجتمعات ديمقراطية ، مزدهرة اقتصاديا ، ومتفتحة ومتسامحة ثقافيا ، حتى لا تكون بيئة منتجة للإرهاب !
حسنا ، إن ما هو جديد في الواقع في هذا كله هو أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تضع على رأس أولوياتها المعلنة في منطقة الشرق الأوسط ، بناء الديمقراطية ، بعد سبتمبر 2001، أما قبل ذلك ، وربما طوال النصف الثاني من القرن العشرين كله على الأقل ، لم تكن تلك هي الأولويات الأمريكية في المنطقة ، حتى ولو كانت هي أولويتها في مناطق أخري من العالم . كانت الأولويات الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم العربي تتمثل في : ضمان الحصول على البترول ، وحماية أمن إسرائيل ، ثم الحيلولة دون سقوط المنطقة تحت السيطرة الشيوعية . ولم يكن أي من هذه الأهداف يستلزم ' نظما ديمقراطية ' بقدر ما كان يستلزم نظما قوية ، وصديقة للولايات المتحدة ، حتى ولو كانت نظما تقليدية محافظة ، أو عسكرية ديكتاتورية ! ومن الصحيح أن تلك العناصر كلها بدأت تتغير : فلم يعد تأمين تدفق البترول مشكلة ، وإسرائيل أصبحت أقوى دولة في المنطقة ، ذات ترسانة نووية هائلة ، وعلاقات سلمية مع أهم دولها ! أما الخطر الشيوعي فقد زال تماما مع سقوط الإتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية ! ولكن تلك التغيرات لم تدفع الولايات المتحدة للسعي إلى بناء الديمقراطية في المنطقة إلا بعد أن تلقت ضربة 9/11.
أما الأمر من وجهة نظرنا نحن أبناء المنطقة فكان مختلفا . فالسعي لتحديث وتطوير النظم السياسية كان على رأس أولويات النخبة في مصر والعالم العربي منذ أكثر من قرن ونصف ! وعرفت مصر الأحزاب السياسية منذ ما يقرب من مائة عام ، وتلازمت الدعوة من أجل الاستقلال الكامل - منذ العقد الثاني من القرن العشرين - مع الدعوة من أجل الدستور . وعندما تعثرت التجربة الديمقراطية شبه الليبرإلىة في بلادنا ، بعد الحرب الثانية ، لم تكن الولايات المتحدة عنصر دعم لها وإنما كانت عنصر تعويق ، بسبب مصالحها وأولوياتها .
غير أن الدرس الأهم الذي كنا نستخلصه عقب كل هزيمة أو انتكاسة - بعد 1948 وبعد 1967 - هو أن غياب الديمقراطية كان هو سبب الضعف الأساسي لنظمنا ومجتمعاتنا . ولم تكن مصادفة أن الدعوة للمجتمع المفتوح ، ودولة المؤسسات وحكم القانون ظهرت في مصر بقوة عام 1968، وكانت تلك هي الأساس الذي بني عليه السادات حركته - بعد 1973 - لتحويل مصر إلى التعدد الحزبي ، ثم سعي مبارك للسير على نفس الطريق خاصة من خلال حريات الصحافة والتعبير !
الآن ، وبعد 9/11 تعلن الولايات المتحدة مشروعاتها للتغيير الديمقراطي التي تعددت صورها طوال عامي 2002 و 2003 لتصل إلى طبعتها الأخيرة في مبادرة ( الشرق الأوسط الكبير )! ولا يمكن لأي إنسان عاقل مسئول في بلادنا أن يرفض الإصلاح الديمقراطي ، أو إصلاح نظم التعلىم أو غيرها من الإصلاحات الضرورية ..، ولكن الأمر البديهي في هذا كله ، هو أن من المستحيل أن يتم أي إصلاح حقيقي بالفرض أو الإملاء من الخارج ! قد يكون هناك حث وتشجيع على ذلك الإصلاح ، وقد تكون هناك مساعدة في تنفيذه ..، ولكن المبادرة بالإصلاح ، والقيام بالدور الرئيسي فيه ، هو أولا وأخيرا مهمة القوي ' الداخلية ' الأدري بشئون بلادها ، والأكثر وعيا بظروفها وأولوياتها .
غير أننا عندما نتحدث عن الإصلاح من الداخل ، فإننا نقصد تحديدا ثلاثة مستويات :(8/274)
- المستوي الأول : المستوي الوطني أو القطري ، بمعني : أن يتم الإصلاح من داخل ' البلد ' المعني ذاته ، على يد أبنائه الواعين بقضية الإصلاح ، الحريصين عليه . والإشكالية التي قد تثور على هذا المستوي هي : هل يتصور أن تقوم النظم السياسية ، المفترض أنها هي المستهدفة من التغيير .. بإجراء الإصلاح المنشود؟ والإجابة هي أن الانقسام بين من يسعون للإصلاح ومن يقاومونه في المجتمعات الوطنية ، ليس انقساما أفقيا بين حاكمين ومحكومين ، وإنما هو بالأحرى انقسام رأسي يشمل الحاكمين والمحكومين معا ، بمعني أن قوي الإصلاح يمكن أن تكون موجودة في داخل المؤسسات الحاكمة ، مثلما يمكن أن توجد خارجها في الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني .. الخ . والأمر نفسه ينطبق على القوي المقاومة للإصلاح والتي يمكن أن توجد في داخل وخارج المؤسسات الحاكمة . فهناك في المجتمع ، خارج إطار المؤسسات الحاكمة قوي لا تؤمن بالديمقراطية ، أو لا تعطيها الأولوية ! ومجيء الإصلاح على يد قوي من داخل المؤسسات والأحزاب الحاكمة ، ظاهرة عامة ، وربما كانت أبرز مظاهرها المعاصرة ، عمليات الإصلاح والتغيير الشامل التي عرفتها دول الكتلة الشرقية في تحولها تجاه الديمقراطية ، بما فيها الاتحاد السوفيتي ( أو روسيا ) نفسها ! وفي هذه الأخيرة مثلا ، جري الإصلاح الليبرإلى على يد قيادات وعناصر كانت هي نفسها أعضاء وكوادر في الحزب الشيوعي السوفيتي . ولا يغني عن وجود القوي الداخلية الساعية للإصلاح ، أي ضغط أو تدخل خارجي مهما كانت قوته .. بل إن هذا الضغط يمكن أن يولد بذاته رد فعل معاكسا ، أو أنه يمكن أن يستغل من جانب القوي المعادية للإصلاح لتشويه الدعوة الإصلاحية باعتبارها تدخلا خارجيا مرفوضا !
المستوي الثاني ، هو المستوي الإقليمي ، أي أن تتوافر في إقليم معين قوي وحوافز للإصلاح ، تدعم بعضها بعضا أكثر مما تتأثر بالضغوط من خارج الإقليم . وفي هذا السياق فإن وجود دولة تلعب دور ' النموذج ' للإصلاح والتقدم يمكن أن يكون قاطرة تشد بقية بلدان الإقليم الموجودة فيه ، كما يمكن أن تثير الرغبة في المنافسة والتفوق عليها من البلاد الأخري . وعلى سبيل المثال ، لا يمكن فصل التقدم الحادث في شرق وجنوب شرق آسيا عن الدور الذي لعبته أقطار معينة كنماذج ملهمة للمحاكاة والتنافس ، مثل اليابان ، ثم كوريا الجنوبية . ومن هذا المنظور - فإن وجود نموذج ناجح للتطوير الديمقراطي في الشرق الأوسط ، يمكن أن يشد معه الأقطار الأخري .
وليس خافيا أن بعض الدوائر في الولايات المتحدة الأمريكية تطرح - على سبيل المثال - النموذج التركي للتطور الديمقراطي في الشرق الأوسط ، ومع ذلك ، فإن ارتباط النموذج التركي بتراث وتعاليم كمال أتاتورك ، والدور الفريد للقوات المسلحة فيه ، فضلا عن التوجه السائد لدي النخبة التركية تجاه الغرب يقلل من وزن تركيا كنموذج يمكن تكراره . والأمر نفسه ينطبق على إيران ذات الخصوصية الشيعية الشديدة .. الخ . وفي هذا السياق ، فإن من المتصور أن مصر تمتلك من المقومات ، ما يؤهلها - أكثر من غيرها - للقيام بذلك الدور . وتراث مصر ، وتاريخها ، وثقلها الحضاري والبشري ، غالبا ما وضعها في موضع الريادة عربيا ، وإسلاميا ، وهو ما يؤهلها لأن تلعب هذا الدور ، إذا سارت قدما على طريق الإصلاح الديمقراطي .
المستوي الثالث ، للحديث عن الإصلاح من الداخل ، هو المستوي الثقافي والحضاري ، أي أن يكون الإصلاح معبرا عن الخصوصية الحضارية للمجتمعات المعنية ، ومتوافقا مع التوجه الرئيسي لثقافتها . ويعني هذا - بالنسبة للعالم العربي والشرق الأوسط - ضرورة حل التناقض المصطنع بين ' الإسلام ' و ' الديمقراطية '. حقا ، لقد عرفت بلاد إسلامية معينة صورة متقدمة من الديمقراطية ، مثل تركيا ، وماليزيا وإندونيسيا .. الخ .. ومع ذلك تظل صورة العالم الإسلامي مرتبطة بالنظم الاستبدادية اللاديمقراطية أكثر من أي شيء آخر . في مواجهة تلك الحقيقة المؤسفة ، لا مناص من أن يقدم المفكرون والقادة والعلماء المسلمون رؤى متماسكة ، مخالفة للرؤى التقليدية التي اصطنعت التناقض المزعوم بين الإسلام والديمقراطية ، أو التي تتصور وجود نظم حكم إسلامي ذا قدسية دينية ، غير قابل للمناقشة أو المراجعة !
http://www.siyassa.o r g.eg المصدر:
===========(8/275)
(8/276)
وثيقة أمريكية ترسم ملامح الشرق الأوسط الجديد
مصطفي بكري
تقسيم نفط المنطقة بين واشنطن وحليفاتها بنسب محددة:
انتهت الإدارة الأمريكية مؤخرا من إعداد 'وثيقة' جديدة أعدها مستشارو البيت الأبيض وترسم ملامح خطة واشنطن إزاء الشرق الأوسط الجديد في عامي 2003،. 2004 وتتضمن هذه الوثيقة ما أسمته بخطة اختفاء أعداء الديمقراطية والسلام من الشرق الأوسط، وهم بالترتيب حسب طرحها صدام حسين، ياسر عرفات، معمر القذافي، عمر البشير، بشار الأسد.
ومن الغريب أن هذه القائمة خلت من الإيرانيين، على اعتبار أن آخر ما تم التوصل إلىه هو تجنب العمل العسكري مع إيران خلال العامين القادمين، والعمل على تهيئة الظروف الداخلية في إيران لخلع حكم الملإلى.
وقد أقرت الوثيقة القيام بعمليات عسكرية مباشرة ضد كل من أسمتهم بأعداء الديمقراطية في الشرق الأوسط، شريطة أن تجري هذه لعمليات بتنسيق مشترك مع دول حلف الأطلسي للسيطرة على الشرق الأوسط.
وتكشف الوثيقة أن الرئيس الأمريكي جورج بوش كان قد طلب من مستشاريه بعد أسبوع من توليه الحكم أن يعدوا تقريرا عن الشرق الأوسط الجديد، وأنه قال لهم خلال اجتماعه بهم: إن العرب يجب أن يظلوا أصدقاء لنا، ولكن شريطة أن ندير نحن شئونهم الأمنية والاقتصادية، وأن تبقي 'إسرائيل' هي الأقوى أمنياً واقتصادياً.
وتقوم الوثيقة الأمريكية على فكرة الارتباط الأوربي الأمريكي، حيث جرى إبلاغ قادة دول حلف الاطلنطي بمضمونها، وسوف تكون مجالا للبحث خلال زيارة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير التي سيقوم بها إلى واشنطن في 31 يناير الجاري، كما أن قادة دول الحلف مطالبون بالرد عليها رسميا خلال الأسابيع القليلة القادمة.
وتوضح الوثيقة أسس هذا التحالف بين واشنطن ودول الحلف على الوجه التإلي:
إنشاء قواعد عسكرية متطورة لحلف الأطلنطي داخل الأراضي العراقية بعد اسقاط نظام حكم الرئيس صدام على أن يكون قوام هذه القوات 120 ألف جندي أمريكي أوربي.
تتولى هذه القوات المسئولية المباشرة عن التطبيق الديمقراطي في العراق وضمان استقراره، وتشكيل حكومة من عناصر المعارضة العراقية ذات الصلة.
إن مهمة هذه القوات لن تقتصر فقط على المهام الأمنية والعسكرية داخل العراق وإنما ستمتد إلى بقية دول المنطقة، حيث إن أمريكا قدمت تهديدا واضحا في هذه الوثيقة إلى دول حلف شمال الأطلسي عندما أشارت إلى أن الدول التي لن تشارك في حماية الأمن والنظام في المنطقة لن تستطيع الاستفادة من الفرص الاقتصادية الواسعة التي تتيحها المنطقة.
وحددت الوثيقة نسبة اقتسام الغنائم البترولية في الشرق الأوسط على الوجه التإلي:
40 % للولايات المتحدة لأنها ستتحمل النصيب الأكبر من القوات والمعدات العسكرية، وكذلك كل ما يتعلق بتنفيذ خطط الطوارئ الأمنية لمواجهة التحديات 'الإرهابية' الجديدة.
أما بقية ال60 % فستقسم بين دول حلف الأطلسي وغيرها، وهو أمر لا يزال محل خلاف بين الجانبين!!
وتشير الوثيقة من جانب آخر إلى ضرورات التوصل إلى فهم واحد ومشترك لحل النزاع العربي الإسرائيلي بحيث لا يجد العرب طرفا آخر وسيطا يوافقهم على كل أو بعض مطالبهم، فيضطرون لقبول ما هو مطروح عليهم، بما يضمن بقاء 'النزاع العربي الإسرائيلي' تحت السيطرة.
وفي هذا الصدد تقول الوثيقة حرفيا: 'لقد عانت منطقة الشرق الأوسط كثيرا بسبب أحداث هذا النزاع الذي ألقى بغيوم سوداء على المصالح المستقرة في هذه المنطقة، ولكن في العامين الأخيرين أصبح مؤكدا أن 'الإرهابيين' بدأوا يلعبون الدور الأكبر في تحويل دفة هذا الصراع، وأصبحت لهم الغلبة الأساسية حتى توارت الحكومة الشرعية الفلسطينية، كما بدا يقينا أن حكومة عرفات تدعم هذا الاتجاه 'الإرهابي' لأنها وجدت ضالتها في أن هذا النشاط 'الإرهابي' يعمل على إلحاق الخسائر الأمنية والاقتصادية بالإسرائيليين.
وتستكمل الوثيقة القول: 'لقد كان لدى عرفات تصور يشير إلى أن ذلك سيجبر الإسرائيليين على القبول بأفكاره، وتقديم تنازلات كبرى لصالحه، ولكن إذا عقدنا السلام على الأساس الذي يرتضيه عرفات، فإننا نكون قد دعونا إلى انتصار إرادة الإرهاب، وأفعال الإرهاب على منطق الحق والسلام، خاصة أننا قدمنا إلى عرفات النصائح مرارا وتكرارا بأن يسيطر على هذا الإرهاب، وأن يكون داعيا وبحق إلى إرساء أسس السلام مع الإسرائيليين بأشكال حقيقية من التعاون، وأنه في كل مرة كان يقدم دلائله وبدائله على أنه يشجع الإرهاب ولكن بطريق غير مباشر، إلى الدرجة التي استحال معها تحقيق السلام أو التقدم بخطوات تجاهه'.(8/277)
وتقول الوثيقة: 'إن الدول العربية الأخرى لم تكن على علم بالحقائق الكاملة عما يحدث داخل الأراضي الإسرائيلية، وكان لديهم وجه واحد من الحقيقة وهو أن 'إسرائيل' دولة معتدية، وقد حاولنا كثيرا أن نتفق على أن تكون هناك خطوات إضافية وحقيقية من أجل السلام إلا أنها كانت جميعا دون المستوى لأن عرفات كان أحد المشاركين فيها'. وتشير الوثيقة 'إلى أنه وبناء على التجربة الماضية لم يعد أمامنا في المرحلة القادمة سوى خيار واحد، هو أنه وبعد الانتهاء من حكم صدام وعودة الديمقراطية إلى العراق، فإن شعوب الشرق الأوسط لن تقبل باستمرار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وأن أحد التحديات الأساسية التي ستواجهنا في المرحلة القادمة هو استمرار المجموعات الفلسطينية في أعمالها 'الإرهابية' ضد إسرائيل وأمنها'.
وتقول الوثيقة: 'إذا أردنا أن نبقي هذا الوضع تحت السيطرة الأمنية فإن جزءا من القوات الأطلسية سيتحرك من الأراضي العراقية إلى داخل الأراضي الفلسطينية وسيكون ذلك بقرابة من 40 إلى 50 ألف جندي أطلسي، ستكون مهمتهم الأساسية مراقبة الأوضاع الأمنية بين الفلسطينيين والإسرائيليين لحين التوصل لسلام نهائي بين الجانبين'.
وتشير الوثيقة: 'إلى أن هذه المهمة قد تتطور في بعض الأحيان إلى التدخل الأمني العسكري المباشر ضد الجماعات 'الإرهابية' أو من يساندونها إذا قامت بأي نوع من العمليات 'الإرهابية' الجديدة ضد إسرائيل'.
وتقول الوثيقة: 'إن هذه القوات هي التي ستشرف على تنظيم إجراء انتخابات فلسطينية لاختيار قيادة بديلة عن عرفات، وأن عرفات سيكون وضعه في هذه الظروف الجديدة شبيها بوضع صدام حسين: شخصا غير مرغوب فيه، لأنه قام بتشجيع العمليات 'الإرهابية' وأضر كثيرا بالأمن الإسرائيلي على مدار السنوات الماضية، كما أنه غير مؤهل لإدارة المرحلة القادمة نظرا لطبيعتها الأمنية الحساسة بالإضافة إلى أنه سيقترن بها العمل بكل الطرق الممكنة على نشر مبادئ الديمقراطية واحتواء النزاعات والقيادات المدمرة في الشرق الأوسط التي تزيد معها حدة العمليات الإرهابية'!!
وتقول الوثيقة: 'إن أحد المبادىء الأساسية التي لا بد أن تمثل قاسما مشتركا لدينا هو أن يسود السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل على مراحل متدرجة:
أولها: أن يتم اختيار حكومة فلسطينية جديدة من خلال انتخابات حرة يتم الإشراف على كل خطواتها كاملا بمعرفة قيادات قوات الأطلسي، بما يضمن وجود الضوابط التنظيمية للعملية الانتخابية وأهمها التأكيد أن عرفات شخص غير معني بهذه الانتخابات، وأنه لا يمكن إجراء الانتخابات في ظل انتشار الجماعات 'الإرهابية' الفلسطينية فلابد من القضاء عليها أولا من خلال تحركات القوات الأطلسية المدعوة للقيام بحملات اعتقالات ومداهمات ومحاكمات لهذه العناصر، كما أنه يجب ضمان تفكيك البنية التحتية للمؤسسات 'الإرهابية' الفلسطينية واعتقال كافة قياداتها وعدم السماح بترشيح كل المعادين لعملية السلام مع إسرائيل.
ثانيها: أن من سيتم اختيارهم من ممثلي الشعب الفلسطيني سيدعون مباشرة للدخول في مفاوضات مع 'إسرائيل' وأن قيادات الأطلسي هي التي ستشرف على هذه المفاوضات، وتحييد دور الدول العربية.
ثالثها: بعد الانتهاء من هذه المرحلة التي سنتركها تتواصل سنتجه إلى ليبيا، حيث يرابض هناك واحد من أكثر الأنظمة 'ديكتاتورية' في العالم على حد وصف الوثيقة وأننا سنجد الدوافع والاعتبارات الكافية للتدخل في ليبيا لأنه بدون تقدير هذه الدوافع والاعتبارات فستكون لدينا مشكلة حقيقية في التعامل مع شعوب الشرق الأوسط'.
وتقول الوثيقة: 'إن نظام القذافي دعم المنظمات 'الإرهابية' في العديد من دول العالم وأنه قدم إلى العراق في عام 1998 (200) مليون دولار لشراء العديد من المواد المختبرية اللازمة لصناعة أسلحة الدمار الشامل، كما أنه كان ينفق كثيرا على العلماء العراقيين، وكان هدفه هو أنه عند التوصل إلى صناعة القنبلة النووية العراقية يتم الإعلان بعد عدة سنوات قادمة عن القنبلة النووية العربية حتى تكون هي الرادع لإسرائيل'.
وتزعم الوثيقة 'أن هناك العديد من الأدلة والمذكرات الأخرى التي أكدت أن القذافي سعي شخصيا إلى حيازة أسلحة الدمار الشامل، وأن هناك ما يقرب من 100 عالم ذري عربي يعملون في تصنيع بعض المواد النووية، وأن البرنامج الليبي مازال مستمرا إلا أنه يحمل طابع السرية التامة، كما أن مكونات هذا البرنامج أو أغراضه وآفاقه غير معروفة على الإطلاق'.
تخلص الوثيقة في هذه القضية إلى ضرورة الخلاص من النظام الليبي على نمط ما سيجري مع الرئيس صدام حسين..
وتقول الوثيقة: 'إننا سندعو في المراحل الأولى فرقا من التفتيش الدولي للبحث عن مصادر أسلحة الدمار الشامل الليبية، والأماكن التي تخزن فيها، وأننا نثق في أن القذافي سيضع عقبات كبرى أمام عمل لجان التفتيش الدولية، ولكن ما يجب أن نفعله هو ألا ندع فرصا كثيرة للقذافي مثل صدام، وأن يتم الانتهاء عسكريا من القذافي وفي أقل الخيارات الزمنية المتاحة'.(8/278)
وتقترح الوثيقة 'أن يتواجد في ليبيا عدد لا يزيد على 20 ألفا من قوات الأطلسي، وسيكون أحد مهامها الأساسية هو ضمان التطبيق الديمقراطي في ليبيا مثل العراق وفلسطين'.
وتقول الوثيقة: 'إننا على ثقة من أن العملية العسكرية في ليبيا قد تكون معقدة لاعتبارات تتعلق أساسا بمواقف الدول المجاورة خاصة مصر التي ترفض دائما اللجوء إلى القوة في تغيير النظام الليبي، إلا أن مصر أيضا، وعلى الرغم من صداقتها التقليدية لدول حلف الأطلسي، إلا أننا سنحتاج أن نطلب منها إجراء العديد من التغييرات المهمة التي لابد وأن تتوافق مع الاتجاهات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط'.
وتتحدث الوثيقة مطولا عن حقيقة دور القوات الأطلسية في المنطقة بعد مرحلة صدام، وهنا تقول الوثيقة: 'إن طبيعة دور القوات الأطلسية في المنطقة لا تقتصر فقط على مجرد إجراء ترتيبات أمنية أو ضمان مساندة الجماعات والأفكار الديمقراطية التي لابد أن تسود كل دول وأرجاء الشرق الأوسط، بل أيضا يجب أن تلعب دورا مهما في التنمية الاقتصادية، باعتبار أن الفقر يمثل عائقا أمام التطور الديمقراطي وسندا أساسيا لانتشار الإرهاب'.
وتقول الوثيقة: 'إذا كانت لا توجد مشكلة في إدارة برامج التنمية الاقتصادية، فإن إحدى المشكلات المهمة التي ستواجهنا في هذه المنطقة هي طبيعة الآليات التي يمكن من خلالها الاعتماد على إدارة برامج التنمية'.
وتشير الوثيقة هنا إلى أن التعاون الاقتصادي الإقليمي سيمثل أحد الخيارات الأساسية للتعاون البناء في هذه المنطقة، وأن هذا التعاون يجب أن تشارك فيه كل الأطراف الإقليمية في المنطقة بما فيها 'إسرائيل' وأن ذلك سيكون تحت رعاية وتوجيه دول حلف الأطلسي، كما أن الحلف سيعمل على تنفيذ عدد من البرامج الاقتصادية الطموحة للتغلب على العديد من العوائق الاقتصادية التي تواجه العديد من دول المنطقة.
وتقول الوثيقة: 'إننا سنضمن من خلال أطر التعاون الإقليمي ضمان مرور أكبر عدد من الشركات الدولية الكبرى للاستثمار في المنطقة'
وبعد ليبيا يأتي الدور على السودان من خلال تذكية الخلافات بين الحكومة السودانية والجنوبيين.. الأمر الذي يدفع بقوات حلف الأطلسي للتدخل المباشر وإسقاط نظام البشير.
أما بالنسبة لسوريا فسوف يجري افتعال العديد من الأزمات معها، تارة بتوجيه الاتهام إليها بحيازة أسلحة دمار شامل وحصولها على أسلحة متقدمة من العراق، واحتضانها لمنظمات 'إرهابية' مما يدفع قوات الحلف للقيام بمهمة اسقاط نظام حكم الرئيس بشار وتولية حكومة تقبل بالسلام والتعاون مع 'إسرائيل' وتدخل ضمن منظومة الدول التي تسعي واشنطن إلى نشر مفاهيم ومبادئ 'الديمقراطية' على أراضيها.
إذن هذه هي الملامح الأساسية لما تضمنته الوثيقة الأمريكية التي تناقش حإلياً في أروقة حكومات دول حلف الأطلسي بهدف تطبيقها خلال عامي 2003،. 2004.
وفي هذا الإطار طلبت الولايات المتحدة من دول الحلف سرعة موافاتها بالردود النهائية للمشاركة في تنفيذ الخطة، حيث ترى واشنطن أن الدول التي ستوافق على التنفيذ العسكري معها هي الوحيدة التي سيكون لها حق الاستفادة من الميزات الاقتصادية في الشرق الأوسط.
http://www.elosboa.co.uk المصدر:
============(8/279)
(8/280)
نص مشروع الشرق الأوسط الكبير
فيما يلي نص مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي المقدم إلى قمة الدول الثماني المنعقد في الولايات المتحدة في يونيو 2004
يمثل "الشرق الأوسط الكبير" تحديا وفرصة فريدة للمجتمع الدولي. وساهمت "النواقص" الثلاثة التي حددها الكتاب العرب لتقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003 - الحرية، المعرفة، وتمكين النساء- في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الـ8. وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة. إن الإحصائيات التي تصف الوضع الحالي في "الشرق الأوسط الكبير" مروعة: (1)
- مجموع إجمالي الدخل المحلي لبلدان الجامعة العربية الـ22 هو أقل من نظيره في أسبانيا.
- حوالي 40 % من العرب البالغين- 65 مليون شخص- أميون، وتشكل النساء ثلثي هذا العدد.
- سيدخل أكثر من 50 مليونا من الشباب سوق العمل بحلول 2010، وسيدخلها 100 مليون بحلول 2020. وهناك حاجة لخلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص هؤلاء الوافدين الجدد إلى سوق العمل.
- إذا استمرت المعدلات الحالية للبطالة، سيبلغ معدل البطالة في المنطقة 25 مليونا بحلول 2010.
- يعيش ثلث المنطقة على أقل من دولارين في اليوم. ولتحسين مستويات المعيشة، يجب أن يزداد النمو الاقتصادي في المنطقة أكثر من الضعف من مستواه الحالي الذي هو دون 3 في المائة إلى 6 في المائة على الأقل.
- في إمكان 6، 1 في المائة فقط من السكان استخدام الإنترنت، وهو رقم أقل مما هو عليه في أي منطقة أخرى في العالم، بما في ذلك بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
- لا تشغل النساء سوى 5، 3 في المائة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية، بالمقارنة، على سبيل المثال، مع 4، 8 في المائة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
- عبر 51 في المائة من الشبان العرب الأكبر سنا عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى، وفقا لتقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002، والهدف المفضل لديهم هو البلدان الأوربية.
وتعكس هذه الإحصائيات أن المنطقة تقف عند مفترق طرق. ويمكن للشرق الأوسط الكبير أن يستمر على المسار ذاته، ليضيف كل عام المزيد من الشباب المفتقرين إلى مستويات لائقة من العمل والتعليم والمحرومين من حقوقهم السياسية. وسيمثل ذلك تهديدا مباشرا لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الـ8.
البديل هو الطريق إلى الإصلاح. ويمثل تقريرا التنمية البشرية العربية نداءات مقنعة وملحة للتحرك في الشرق الأوسط الكبير. وهي نداءات يرددها نشطاء وأكاديميون والقطاع الخاص في أرجاء المنطقة. وقد استجاب بعض الزعماء في الشرق الأوسط الكبير بالفعل لهذه النداءات واتخذوا خطوات في اتجاه الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وأيدت بلدان مجموعة الـ8، بدورها، هذه الجهود بمبادراتها الخاصة للإصلاح في منطقة الشرق الأوسط. وتبين "الشراكة الأوربية المتوسطية"، و"مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط"، وجهود إعادة الإعمار المتعددة الأطراف في أفغانستان والعراق التزام مجموعة الـ8 بالإصلاح في المنطقة.
إن التغيرات الديموغرافية المشار إليها أعلاه، وتحرير أفغانستان والعراق من نظامين قمعيين، ونشوء نبضات ديمقراطية في أرجاء المنطقة، بمجموعها، تتيح لمجموعة الـ8 فرصة تاريخية. وينبغي للمجموعة، في قمتها في سي آيلاند، أن تصوغ شراكة بعيدة المدى مع قادة الإصلاح في الشرق الأوسط الكبير، وتطلق ردا منسقا لتشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة.
ويمكن لمجموعة الـ8 أن تتفق على أولويات مشتركة للإصلاح تعالج النواقص التي حددها تقريرا الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية عبر:
- تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح.
- بناء مجتمع معرفي.
- توسيع الفرص الاقتصادية.
وتمثل أولويات الإصلاح هذه السبيل إلى تنمية المنطقة: فالديمقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق داخله التنمية، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية، والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة التنمية.
أولا: - تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح:
"توجد فجوة كبيرة بين البلدان العربية والمناطق الأخرى على صعيد الحكم القائم على المشاركة... ويضعف هذا النقص في الحرية التنمية البشرية، وهو احد التجليات الأكثر إيلاما للتخلف في التنمية السياسية". (تقرير التنمية البشرية، 2002)(8/281)
إن الديمقراطية والحرية ضروريتان لازدهار المبادرة الفردية، لكنهما مفقودتان إلى حد بعيد في أرجاء الشرق الأوسط الكبير. وفي تقرير "فريدوم هاوس" للعام 2003، كانت إسرائيل البلد الوحيد في الشرق الأوسط الكبير الذي صُنف بأنه "حر"، ووصفت أربعة بلدان أخرى فقط بأنها "حرة جزئيا". ولفت تقرير التنمية البشرية العربية إلى انه من بين سبع مناطق في العالم، حصلت البلدان العربية على أدنى درجة في الحرية في أواخر التسعينات. وأدرجت قواعد البيانات التي تقيس "التعبير عن الرأي والمساءلة" المنطقة العربية في المرتبة الأدنى في العالم. بالإضافة إلى ذلك، لا يتقدم العالم العربي إلا على أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على صعيد تمكين النساء. ولا تنسجم هذه المؤشرات المحبطة إطلاقا مع الرغبات التي يعبر عنها سكان المنطقة. في تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2003، على سبيل المثال، تصدر العرب لائحة من يؤيد، في أرجاء العالم، الرأي القائل بان "الديمقراطية أفضل من أي شكل آخر للحكم"، وعبروا عن أعلى مستوى لرفض الحكم الاستبدادي
ويمكن لمجموعة الـ8 أن تظهر تأييدها للإصلاح الديمقراطي في المنطقة عبر التزام ما يلي:
- مبادرة الانتخابات الحرة
في الفترة بين 2004 و 2006، أعلنت بلدان عدة في الشرق الأوسط الكبير(2) نيتها إجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية أو بلدية.
وبالتعاون مع تلك البلدان التي تظهر استعدادا جديا لإجراء انتخابات حرة ومنصفة، يمكن لمجموعة الـ8 أن تقدم بفاعلية مساعدات لمرحلة ما قبل الانتخابات بـ:
- تقديم مساعدات تقنية، عبر تبادل الزيارات أو الندوات، لإنشاء أو تعزيز لجان انتخابية مستقلة لمراقبة الانتخابات والاستجابة للشكاوى وتسلم التقارير.
- تقديم مساعدات تقنية لتسجيل الناخبين والتربية المدنية إلى الحكومات التي تطلب ذلك، مع تركيز خاص على الناخبات.
- الزيارات المتبادلة والتدريب على الصعيد البرلماني.
من أجل تعزيز دور البرلمانات في مقرطة البلدان، يمكن لمجموعة الـ8 أن ترعى تبادل زيارات لأعضاء البرلمانات، مع تركيز الاهتمام على صوغ التشريعات وتطبيق الإصلاح التشريعي والقانوني وتمثيل الناخبين.
- معاهد للتدريب على القيادة خاصة بالنساء:
تشغل النساء 5، 3 في المائة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية. ومن أجل زيادة مشاركة النساء في الحياة السياسية والمدنية، يمكن لمجموعة الـ8 أن ترعى معاهد تدريب خاصة بالنساء تقدم تدريبا على القيادة للنساء المهتمات بالمشاركة في التنافس الانتخابي على مواقع في الحكم أو إنشاء/تشغيل منظمة غير حكومية. ويمكن لهذه المعاهد أن تجمع بين قياديات من بلدان مجموعة الـ8 والمنطقة.
- المساعدة القانونية للناس العاديين:
في الوقت الذي نفذت فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة والبنك الدولي بالفعل مبادرات كثيرة لتشجيع الإصلاح القانوني والقضائي، فإن معظمها يجرى على المستوى الوطني في مجالات مثل التدريب القضائي والإدارة القضائية وإصلاح النظام القانوني. ويمكن لمبادرة من مجموعة الـ8 أن تكمل هذه الجهود بتركيز الانتباه على مستوى الناس العاديين في المجتمع، حيث يبدأ التحسس الحقيقي للعدالة. ويمكن لمجموعة الـ8 أن تنشئ وتمول مراكز يمكن للأفراد أن يحصلوا فيها على مشورة قانونية بشأن القانون المدني أو الجنائي أو الشريعة، ويتصلوا بمحامي الدفاع (وهي غير مألوفة إلى حد كبير في المنطقة). كما يمكن لهذه المراكز أن ترتبط بكليات الحقوق في المنطقة.
- مبادرة وسائل الإعلام المستقلة:
يلفت تقرير التنمية البشرية العربية إلى هناك أقل من 53 صحيفة لكل 1000 مواطن عربي، بالمقارنة مع 285 صحيفة لكل ألف شخص في البلدان المتطورة، وأن الصحف العربية التي يتم تداولها تميل إلى أن تكون ذات نوعية رديئة. ومعظم برامج التلفزيون في المنطقة تعود ملكيته إلى الدولة أو يخضع لسيطرتها، وغالبا ما تكون النوعية رديئة، إذ تفتقر البرامج إلى التقارير ذات الطابع التحليلي والتحقيقي. ويقود هذا النقص إلى غياب اهتمام الجمهور وتفاعله مع وسائل الإعلام المطبوعة، ويحد من المعلومات المتوافرة للجمهور. ولمعالجة ذلك، يمكن لمجموعة الـ8 أن:
- ترعى زيارات متبادلة للصحفيين في وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية.
- ترعى برامج تدريب لصحفيين مستقلين
- تقدم زمالات دراسية لطلاب كي يداوموا في مدارس للصحافة في المنطقة أو خارج البلاد، وتمول برامج لإيفاد صحفيين أو أساتذة صحافة لتنظيم ندوات تدريب بشأن قضايا مثل تغطية الانتخابات أو قضاء فصل دراسي في التدريس في مدارس بالمنطقة.
- الجهود المتعلقة بالشفافية/ مكافحة الفساد:
حدد البنك الدولي الفساد باعتباره العقبة المنفردة الكبرى في وجه التنمية، وقد أصبح متأصلا في الكثير من بلدان الشرق الأوسط الكبير. ويمكن لمجموعة الـ8:
- أن تشجع على تبني "مبادئ الشفافية ومكافحة الفساد" الخاصة بمجموعة الـ8.(8/282)
- أن تدعم علنا مبادرة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية/ برنامج الأمم المتحدة للتنمية في الشرق الأوسط - شمال أفريقيا، التي يناقش من خلالها رؤساء حكومات ومانحون وIFIs ومنظمات غير حكومية إستراتيجيات وطنية لمكافحة الفساد وتعزيز خضوع الحكومة للمساءلة.
- إطلاق واحد أو أكثر من البرامج التجريبية لمجموعة الـ8 حول الشفافية في المنطقة.
- المجتمع المدني
أخذا في الاعتبار أن القوة الدافعة للإصلاح الحقيقي في الشرق الأوسط الكبير يجب أن تأتي من الداخل، وبما أن أفضل الوسائل لتشجيع الإصلاح هي عبر منظمات تمثيلية، ينبغي لمجموعة الـ8 أن تشجع على تطوير منظمات فاعلة للمجتمع المدني في المنطقة. ويمكن لمجموعة الـ8 أن:
- تشجع حكومات المنطقة على السماح لمنظمات المجتمع المدني، ومن ضمنها المنظمات غير الحكومية الخاصة بحقوق الإنسان ووسائل الإعلام، على أن تعمل بحرية من دون مضايقة أو تقييدات.
- تزيد التمويل المباشر للمنظمات المهتمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان ووسائل الإعلام والنساء وغيرها من المنظمات غير الحكومية في المنطقة.
- تزيد القدرة التقنية لمنظمات غير الحكومية في المنطقة بزيادة التمويل للمنظمات المحلية (مثل "مؤسسة وستمنستر" في المملكة المتحدة أو "مؤسسة الدعم الوطني للديمقراطية" الأمريكية) لتقديم التدريب للمنظمات غير الحكومية في شأن كيفية وضع برنامج والتأثير على الحكومة وتطوير إستراتيجيات خاصة بوسائل الإعلام والناس العاديين لكسب التأييد. كما يمكن لهذه البرامج أن تتضمن تبادل الزيارات وإنشاء شبكات إقليمية.
- تمول منظمة غير حكومية يمكن أن تجمع بين خبراء قانونيين أو خبراء إعلاميين من المنطقة لصوغ تقويمات سنوية للجهود المبذولة من أجل الإصلاح القضائي أو حرية وسائل الإعلام في المنطقة. (يمكن بهذا الشأن الإقتداء بنموذج "تقرير التنمية البشرية العربية).
ثانيا: - بناء مجتمع معرفي:
"تمثل المعرفة الطريق إلى التنمية والانعتاق، خصوصا في عالم يتسم بعولمة مكثفة". (تقرير التنمية البشرية العربية، 2002)
لقد أخفقت منطقة الشرق الأوسط الكبير، التي كانت في وقت مضى مهد الاكتشاف العلمي والمعرفة، إلى حد بعيد، في مواكبة العالم الحالي ذي التوجه المعرفي. وتشكل الفجوة المعرفية التي تعانيها المنطقة ونزف الأدمغة المتواصل تحديا لآفاق التنمية فيها. ولا يمثل ما تنتجه البلدان العربية من الكتب سوى 1، 1 في المائة من الإجمالي العالمي (حيث تشكل الكتب الدينية أكثر من 15 في المائة منها). ويهاجر حوالي ربع كل خريجي الجامعات، وتستورد التكنولوجيا إلى حد كبير. ويبلغ عدد الكتب المترجمة إلى اللغة اليونانية (التي لا ينطق بها سوى 11 مليون شخص) خمسة أضعاف ما يترجم إلى اللغة العربية.
وبالاستناد على الجهود التي تبذل بالفعل في المنطقة، يمكن لمجموعة الـ8 أن تقدم مساعدات لمعالجة تحديات التعليم في المنطقة ومساعدة الطلاب على اكتساب المهارات الضرورية للنجاح في السوق المعولمة لعصرنا الحاضر.
- مبادرة التعليم الأساسي:
يعاني التعليم الأساسي في المنطقة من نقص (وتراجع) في التمويل الحكومي، بسبب تزايد الإقبال على التعليم متماشيا مع الضغوط السكانية، كما يعاني من اعتبارات ثقافية تقيد تعليم البنات. وفي مقدور مجموعة الـ8 السعي إلى مبادرة للتعليم الأولي في منطقة الشرق الأوسط الكبرى تشمل هذه العناصر:
- محو الأمية:
أطلقت الأمم المتحدة في 2003 "برنامج عقد مكافحة الأمية" تحت شعار "محو الأمية كحرية". ولمبادرة مجموعة الـ8 لمكافحة الأمية أن تتكامل مع برنامج الأمم المتحدة، من خلال التركيز على إنتاج جيل متحرر من الأمية في الشرق الأوسط خلال العقد المقبل، مع السعي إلى خفض نسبة الأمية في المنطقة إلى النصف بحلول 2010 وستركز مبادرة مجموعة الـ8، مثل برنامج الأمم المتحدة، على النساء والبنات. وإذا أخذنا في الاعتبار معاناة 65 مليونا من الراشدين في المنطقة من الأمية، يمكن لمبادرة مجموعة الـ8 أن تركز أيضا على محو الأمية بين الراشدين وتدريبهم من خلال برامج متنوعة، من مناهج تدريس على الإنترنت إلى تدريب المعلمين.
- فرق محو الأمية: يمكن لمجموعة الـ8، سعيا إلى تحسين مستوى القراءة والكتابة لدى الفتيات، إنشاء أو توسيع معاهد تدريب المعلمين مع التركيز على النساء. ولمعلمات المدارس والمختصات بالتعليم القيام في هذه المعاهد بتدريب النساء على مهنة التعليم (هناك دول تحرم تعليم الذكور للإناث)، لكي يركزن بدورهن على تعليم البنات القراءة وتوفير التعليم الأولي لهن. للبرنامج أيضا استخدام الإرشادات المتضمنة في برنامج "التعليم للجميع" التابع لـ"يونيسكو"، بهدف إعداد "فرق محو الأمية" التي يبلغ تعدادها بحلول 2008 مئة ألف معلمة.(8/283)
- الكتب التعليمية: يلاحظ تقرير التنمية البشرية العربية نقصا مهما في ترجمة الكتب الأساسية في الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع وعلوم الطبيعة، كما تلاحظ "الحالة المؤسفة للمكتبات" في الجامعات. ويمكن لكل من دول مجموعة الـ8 تمويل برنامج لترجمة مؤلفاتها "الكلاسيكية" في هذه الحقول، وأيضا، وحيث يكون ذلك مناسبا، تستطيع الدول أو دور النشر (في شراكة بين القطاعين العام والخاص) إعادة نشر الكتب الكلاسيكية العربية الخارجة عن التداول حاليا والتبرع بها إلى المدارس والجامعات والمكتبات العامة المحلية.
- مبادرة مدارس الاكتشاف: بدأ الأردن بتنفيذ مبادرته لإنشاء "مدارس الاكتشاف" حيث يتم استعمال التكنولوجيا المتقدمة ومناهج التعليم الحديثة. ولمجموعة الـ8 السعي إلى توسيع هذه الفكرة ونقلها إلى دول أخرى في المنطقة من طريق التمويل، من ضمنه من القطاع الخاص.
- إصلاح التعليم: ستقوم "المبادرة الأمريكية للشراكة في الشرق الأوسط" قبل قمة مجموعة الـ8 المقبلة (في آذار/ مارس أو نيسان/ أبريل) برعاية "قمة الشرق الأوسط لإصلاح التعليم"، التي ستكون ملتقى لتيارات الرأي العام المتطلعة إلى الإصلاح والقطاع الخاص وقادة الهيئات المدنية والاجتماعية في المنطقة ونظرائهم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، وذلك لتحديد المواقع والمواضيع التي تتطلب المعالجة، والتباحث في سبل التغلب على النواقص في حقل التعليم. ويمكن عقد القمة في ضيافة مجموعة الـ8 توخيا لتوسيع الدعم لمبادرة منطقة الشرق الأوسط الكبرى عشية عقد القمة.
- مبادرة التعليم في الإنترنت:
تحتل المنطقة المستوى الأدنى من حيث التواصل مع الإنترنت. ومن الضروري تماما تجسير "الهوة الرقمية" هذه بين المنطقة وبقية العالم نظرا إلى تزايد المعلومات المودعة على الإنترنت وأهمية الإنترنت بالنسبة للتعليم والمتاجرة ولدى مجموعة الـ8 القدرة على إطلاق شراكة بين القطاعين العام والخاص لتوفير الاتصال الكومبيوتري أو توسيعه في أنحاء المنطقة، وأيضا بين المدن والريف داخل البلد الواحد. وقد يكون من المناسب أكثر لبعض المناطق توفير الكومبيوترات في مكاتب البريد، مثلما يحصل في بلدات وقرى روسيا. وقد يركز المشروع أولا على بلدان الشرق الأوسط الأقل استخداما للكومبيوتر (العراق، أفغانستان، باكستان، اليمن، سورية، ليبيا، الجزائر، مصر، المغرب)، والسعي، ضمن الإمكانات المالية، إلى توفير الاتصال بالكومبيوتر إلى أكثر ما يمكن من المدارس ومكاتب البريد.
ومن الممكن أيضا ربط مبادرة تجهيز المدارس بالكومبيوتر بـ"بمبادرة فرق محو الأمية" المذكورة أعلاه، أي قيام مدرسي المعاهد بتدريب المعلمين المحليين على تطوير مناهج دراسية ووضعها على الإنترنت، في مشروع يتولى القطاع الخاص توفير معداته ويكون متاحا للمعلمين والطلبة.
- مبادرة تدريس إدارة الأعمال:
لمجموعة الـ8 في سياق السعي إلى تحسين مستوى إدارة الأعمال في عموم المنطقة إقامة الشراكات بين مدارس الأعمال في دول مجموعة الـ8 والمعاهد التعليمية (الجامعات والمعاهد المتخصصة) في المنطقة. وبمقدور مجموعة الـ8 تمويل هيئة التعليم والمواد التعليمية في هذه المعاهد المشتركة، التي تمتد برامجها من دورة تدريبية لمدة سنة للخريجين إلى دورات قصيرة تدور على مواضيع محددة، مثل إعداد خطط العمل للشركات أو إستراتيجيات التسويق.
النموذج لهذا النوع من المعاهد قد يكون معهد البحرين للمصارف والمال، وهو مؤسسة بمدير أمريكي ولها علاقة شراكة مع عدد من الجامعات الأمريكية.
- توسيع الفرص الاقتصادية:
تجسير الهوة الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير يتطلب تحولا اقتصاديا يشابه في مداه ذلك الذي عملت به الدول الشيوعية سابقا في أوربا الشرقية. وسيكون مفتاح التحول إطلاق قدرات القطاع الخاص في المنطقة، خصوصا مشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وسيكون نمو طبقة متمرسة في مجال الأعمال عنصرا مهما لنمو الديمقراطية والحرية. ويمكن لمجموعة الـ8 في هذا السياق اتخاذ الخطوات التالية:
- مبادرة تمويل النمو:
تقوية فاعلية القطاع المالي عنصر ضروري للتوصل إلى نسب أعلى للنمو وخلق فرص العمل. ولمجموعة الـ8 أن تسعى إلى إطلاق مبادرة مالية متكاملة تتضمن العناصر التالية:(8/284)
- إقراض المشاريع الصغيرة: هناك بعض المؤسسات المختصة بتمويل المشاريع الصغيرة في المنطقة لكن العاملين في هذا المجال لا يزالون يواجهون ثغرات مالية كبيرة. إذ لا يحصل على التمويل سوى خمسة في المائة من الساعين إليه، ولا يتم عموما تقديم أكثر من 0. 7 في المائة من مجموع المال المطلوب في هذا القطاع. وبإمكان مجموعة الـ8 المساعدة على تلافي هذا النقص من خلال تمويل المشاريع الصغيرة، مع التركيز على التمويل بهدف الربح، خصوصا للمشاريع التي تقوم بها النساء. مؤسسات الإقراض الصغير المربح قادرة على إدامة نفسها ولا تحتاج إلى تمويل إضافي للاستمرار والنمو. ونقدر أن في إمكان قرض من 400 مليون دولار إلى 500 مليون دولار يدفع على خمس سنوات مساعدة 1. 2 مليون ناشط اقتصادي على التخلص من الفقر، 750 ألفا منهم من النساء.
- مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير: باستطاعة مجموعة الـ8 المشاركة في تمويل مؤسسة على طراز "مؤسسة المال الدولية" للمساعدة على تنمية مشاريع الأعمال على المستويين المتوسط والكبير، بهدف التوصل إلى تكامل اقتصادي لمجال الأعمال في المنطقة. وربما الأفضل إدارة هذه المؤسسة من قبل مجموعة من قادة القطاع الخاص في مجموعة الـ8 يقدمون خبراتهم لمنطقة الشرق الأوسط الكبير.
- بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير: في إمكان مجموعة الـ8 ومشاركة مقرضين من منطقة الشرق الأوسط الكبير نفسها، إنشاء مؤسسة إقليمية للتنمية على غرار "البنك الأوربي للإعمار والتنمية" لمساعدة الدول الساعية إلى الإصلاح على توفير الاحتياجات الأولية للتنمية. كما تستطيع المؤسسة الجديدة توحيد القدرات المالية لدول المنطقة الأغنى وتركيزها على مشاريع لتوسيع انتشار التعليم والعناية الصحية والبنى التحتية الرئيسية. ولـ"بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير" هذا أن يكون مذخرا للمساعدة التكنولوجية وإستراتيجيات التنمية لبلدان المنطقة. اتخاذ قرارات الإقراض (أو المنح يجب أن تتحدد بحسب قدرة البلد المقترض على القيام بإصلاحات ملموسة).
- الشراكة من أجل نظام مالي أفضل: بمقدور مجموعة الـ8، توخيا لإصلاح الخدمات المالية في المنطقة وتحسين اندماج بلدانها في النظام المالي العالمي، أن تعرض مشاركتها في عمليات إصلاح النظم المالية في البلدان المتقدمة في المنطقة. وسيكون هدف المشاركة إطلاق حرية الخدمات المالية وتوسيعها في عموم المنطقة، من خلال تقديم تشكيلة من المساعدات التقنية والخبرات في مجال الأنظمة المالية مع التركيز على:
- تنفيذ خطط الإصلاح التي تخفض سيطرة الدولة على الخدمات المالية.
- رفع الحواجز على التعاملات المالية بين الدول.
- تحديث الخدمات المصرفية.
- تقديم وتحسين وتوسيع الوسائل المالية الداعمة لاقتصاد السوق.
- إنشاء الهياكل التنظيمية الداعمة لإطلاق حرية الخدمات المالية.
مبادرة التجارة:
إن حجم التبادل التجاري في الشرق الأوسط متدن جدا، إذ لا يشكل سوى 6 في المائة من كل التجارة العربية. ومعظم بلدان الشرق الأوسط الكبير تتعامل تجاريا مع بلدان خارج المنطقة، وتوصلت إلى اتفاقات تجارية تفضيلية مع أطراف بعيدة جدا بدلا من جيرانها. ونتيجة لذلك، أصبحت الحواجز الجمركية وغير الجمركية هي الشيء المعتاد، فيما لا تزال التجارة عبر الحدود شيئا نادرا. ويمكن لمجموعة الـ8 أن تنشئ مبادرة جديدة مصممة لتشجيع التجارة في الشرق الأوسط الكبير، تتألف من العناصر التالية:
- الانضمام/ التنفيذ على صعيد منظمة التجارة الدولية وتسهيل التجارة
يمكن لمجموعة الـ8 أن تزيد تركيزها على انضمام البلدان في المنطقة إلى منظمة التجارة الدولية. (3)
وستتضمن برامج محددة للمساعدة التقنية توفير مستشارين يعملون في البلد ذاته في شأن الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية وتحفيز التزام واسع من مجموعة الـ8 لتشجيع عملية الانضمام، بما في ذلك تركيز الاهتمام على تحديد وإزالة الحواجز غير الجمركية. وحالما ينجز الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية، سيتحول مركز الاهتمام إلى توقيع التزامات إضافية لمنظمة التجارة الدولية، مثل "الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية" و"اتفاق مشتريات الحكومة" وربط استمرار المساعدة التقنية بتنفيذ هذه الالتزامات الخاصة بمنظمة التجارة الدولية. ويمكن لهذه المساعدات التقنية أن تربط أيضا ببرنامج على صعيد المنطقة برعاية مجموعة الـ8 بشأن التسهيلات والجوانب اللوجستية المتعلقة بالرسوم الجمركية للحد من الحواجز الإدارية والمادية بوجه التبادل التجاري بين بلدان المنطقة.
- المناطق التجارية:
ستنشئ مجموعة الـ8 مناطق في الشرق الوسط الكبير للتركيز على تحسين التبادل التجاري في المنطقة والممارسات المتعلقة بالرسوم الجمركية. وستتيح هذه المناطق مجموعة متنوعة من الخدمات لدعم النشاط التجاري للقطاع الخاص والصلات بين المشاريع الخاصة، بما في ذلك "التسوق من منفذ واحد" للمستثمرين الأجانب، وصلات مع مكاتب الجمارك لتقليل الوقت الذي يستغرقه إنجاز معاملات النقل، وضوابط موحدة لتسهيل دخول وخروج السلع والخدمات من المنطقة.(8/285)
- مناطق رعاية الأعمال:
بالاستناد على النجاح الذي حققته مناطق التصدير ومناطق التجارة الخاصة في مناطق أخرى، يمكن لمجموعة الـ8 أن تساعد على إقامة مناطق محددة خصيصا في الشرق الأوسط الكبير تتولى تشجيع التعاون الإقليمي في تصميم وتصنيع وتسويق المنتجات ويمكن لمجموعة الـ8 أن تعرض منافذ محسنة إلى أسواقها لهذه المنتجات، وتقدم خبراتها في إنشاء هذه المناطق.
- منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير:
لتشجيع التعاون الإقليمي المحسن، يمكن لمجموعة الـ8 أن تنشئ "منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط" الذي سيجمع مسئولين كبارا من مجموعة الـ8 والشرق الأوسط الكبير (مع إمكان عقد اجتماعات جانبية لمسئولين وأفراد غير حكوميين من وسط رجال الأعمال) لمناقشة القضايا المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي.
ويمكن للمنبر أن يستند في شكل مرن على نموذج رابطة آسيا - المحيط الهادئ للتعاون الاقتصادي (أبيك)، وسيغطي قضايا اقتصادية إقليمية، من ضمنها القضايا المالية والتجارية وما يتعلق بالضوابط.
(1) يشير "الشرق الأوسط الكبير" إلى بلدان العالم العربي، زائدا باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وإسرائيل. (2) تخطط أفغانستان والجزائر والبحرين وإيران ولبنان والمغرب وقطر والسعودية وتونس وتركيا واليمن لإجراء انتخابات. (3) البلدان التي قدمت طلبا للانضمام إلى منظمة التجارة الدولية (شكلت لجنة عمل تابعة للمنظمة): الجزائر ولبنان والسعودية واليمن. بلدان قدمت طلبا للانضمام (لم يُنظر بعد في الطلب): أفغانستان وإيران وليبيا وسورية. بلدان طلبت منحها صفة مراقب: العراق. 22/02/2004
2004-05-24
=============(8/286)
(8/287)
قوة أمريكا العسكرية وهبوطها الاقتصادي ومرض الدولار المزمن
خالص جلبي
02/11/1425
الشرق الأوسط/ تتوالى شهادات خبراء الاقتصاد عن مستقبل مظلم للدولار الأمريكي، فعندما يفكر جيم أو نايل Jim O"Neill الخبير الاقتصادي في بنك جولدمان ساكس الاستثماري Goldman Sachs حول مستقبل الدولار لا يخرج إلا بالتشاؤم فيقول: «سوف يفقد الدولار المزيد من قيمته أمام اليورو، وسوف يصل سعر صرف اليورو مقابل الدولار إلى 1.2 أو 1.3 أو ربما 1.4»، وحصل الذي توقع الرجل قبل حدوثه ففي نوفمبر 2004م تراوح اليورو مقابل الدولار بين 1.3 و1.4، ويذهب إلى نفس التحليل ميشيل كلاوتر Micheal Klawitte r خبير العملات في بنك West LB في لندن، الذي يرى أن صعود اليورو سيرافقه حضيض في الدولار، وأن يصل اليورو إلى 1.4 دولار موضوع مفروغ منه out of Question، ويتعاظم الشك في البورصات في أداء أمريكا القوة الأعظم ليس في قوتها العسكرية لكن الاقتصادية، وينمو الخوف أن الاقتصاد الأمريكي ليس ذلك الصلب كما كان متوقعاً، وأن النمو الذي عاشه البلد سابقاً لربما يفاجأ بانهيار حاد.
ومرض الدولار مظهر لمرض أعمق عن قوة أداء الاقتصاد الأمريكي كما في مريض الملاريا فلا يعالج بـ (خافضات) الحرارة كما تفعل أمريكا بـ (تخفيض) الدولار؛ بل بجرعة كينين (مّر)، وعلى الأمريكيين تجرع (مرارة) الدواء من ادخار وتقشف وعرق جبين.
وأعجب ما في الأمر هو التناقض بين قوة أمريكا العسكرية وضعف الدولار، ومن الغرابة بمكان أن الأمة العسكرية الأشد بأساً (أمريكا) سوف ينال منها الاقتصاد، وقوة العضلات ليست دليل صحة دوماً.
وفي العادة يهرب الناس زمن الأزمات إلى الدولار كمنطقة أمان، ولكن الذي يحدث هو العكس؛ فلم يتحسن الدولار في حرب العراق بل هبط وما زال، وهناك العديد من الأمم ملأت احتياطياتها من (اليورو) الذي سطعت شمسه على العالمين، وبعد أن بدأ رحلته بخجل وتردد مع عام 2000 م لينزل إلى 0.9 من الدولار، ثم ليشد عزمه في رحلة صعود لا تتوقف ليصبح مع نوفمبر 2004م حوالي 1.34 من الدولار، أي أن العملة الأمريكية خسرت 40 % من قوتها تجاه اليورو، والرحلة الموجعة إلى القاع لم تنته بعد، وأحياناً يتساءل المرء: هل يمكن أن يصحو الإنسان من نومه ليرى مصير الدولار مثل مصير الدينار الأردني أو البات التايلندي حين خسفت به الأرض في ليلة واحدة فخسر نصف قيمته؟
وما يوقف الدولار عن الموت حالياً هو ارتباط بيع النفط بالدولار، ولو انفك النفط عن الدولار لقضي عليه عالمياً، وهذا يحكي قصة السياسة والمال، ومع أن النفط في معظمه ينبع من العالم الإسلامي، و8 % من بترول العالم يتدفق من حقلين في السعودية والكويت، ولكن البترول يباع بأرخص من الماء حتى اليوم.
وقديماً تنبه إلى هذه المشكلة الاقتصادية المفكر الجزائري (مالك بن نبي) فكتب في ضوء مؤتمر باندونغ في (الأفرو آسيوية) عن إيجاد منظمة اقتصادية تضم فقراء العالم الثالث فتتحكم بموارد ثرواتها، وولدت بعدها منظمة (الأوبيك)، وفي آخر كتاب له (المسلم في عالم الاقتصاد) قبل موته - وكنت برفقته شخصياً - حينما سافر إلى بيروت لتفقد طباعته كان الرجل يأمل بقيام كتلة مالية مستقلة عن الرأسمالية والشيوعية.
و(مهاتير) من ماليزيا دعا أيضاً إلى فكرة ربط البترول بالذهب، ويمكن أن يدخل إلى الميدان عملة إسلامية جديدة مستقلة عن الدولار، وهو يعني الاستقلال السياسي.
وبذا (تغول) الدولار، ولم يبق قيمة لعملة عربية، وفي السودان نسوا الجنيه ويتعاملون بالريال، ولكن لا الجنيه ولا الريال لهما قيمة، وفي الإنترنت ينقل عن المؤرخ الأمريكي (وليام كلارك) أن حرب العراق الأخيرة كانت من أجل حصر بيع البترول بالدولار؛ والدولار فقط، وهو أمر تفطن إليه طاغية بغداد الأسبق صدام المصدوم، وكانت رمية من غير رامٍ حين تخلى عن بيع البترول بالدولار، واستبدله باليورو.
وبالطبع فإن الكلام النظري سهل، وهو أن تعتمد دول الأوبيك بيع نفطها بسلة عملات، بحيث تخرج كتلة أو عمود اقتصادي جديد خارج عمود الين واليورو والدولار، فتحقق استقلالاً اقتصادياً، ودخلاً للثروة ثابتاً لا يخضع لمزاج الدولار الحاد المتقلب مثل أعاصير التيفون في مثلث الموت، وأمريكا تفعل هذا عن قصد عسى أن تدفع عن نفسها الموت الاقتصادي المقبل بخدع اقتصادية من تنزيل الدولار بين الحين والآخر، ولكن منذ أيام الاقتصادي (ريكاردو) فإن السوق يخضع لقوانين حديدية.
والاقتصاد العالمي يقوم على ثلاث: (السلع) و(الخدمات) و(النقد)، والنقد بدوره يستظل بدوره تحت قبة من ثلاث أعمدة من عملات رئيسية هي: الدولار الأمريكي، والين الياباني، واليورو الأوربي، ولذا رأينا الكثير من العملات ربطت نفسها على نحو انتحاري مع الدولار - كما هو الحال مع العديد من العملات العربية -، فتهبط مع هبوط النسر الأمريكي؛ وتحلق مع تحليقه، ولكن الهبوط قد يكسر الظهر أحياناً، ومن أسلم مصيره لغيره لم يأمن انقلاب الزمن عليه، ويقول المثل: " لا تودع مالك حيث لا تستطيع الوصول إليه "، وفي الإنجيل: "حيث مالك قلبك".(8/288)
ويتوقع (باول كيندي) في كتابه (سقوط القوى العظمى) أن أمريكا لن تخرج عن القدر التاريخي، ولسوف تهوي كما هوت إمبراطوريات كثيرة تحت نفس القانون الإمبريالي، وكان (سكيبيو) الروماني يعارض (كاتو) في تدمير (قرطاجنة) الذي كان يختم كل خطبة له بجملة (ديلندا است كارتا جو أي: دمروا قرطاجنة) لشعوره أن (وجود) قرطاجنة يحافظ على (وجود) روما، ويدفعها للنمو، ولكن القضاء عليها سوف ينهي معها روما بطريقة مختلفة بتشربها بالروح الإمبريالية، وهو رأي ذهب إليه أيضاً (توينبي) و(شبنجلر) بأن هزيمة معركة (زاما) على أبواب قرطاجة عام 202 قبل الميلاد قضت على الإمبراطوريتين معاً، فمع هلاك قرطاج انتهت (جمهورية) روما، وكانت مذبحة قرطاجة (هيروشيما) العصر القديم حينما قضت روما في 17 يوماً على 450 ألف نسمة من السكان، وهو أمر ذكره (تشرشل) في ظلمات الحرب العالمية الثانية وهو يوجه خطابه إلى الجمهور البريطاني قائلا:«لسنا الوحيدين في هذه المعمعة، فقد مرت قرطاجة بظروف مشابهة، فلم تستسلم ونحن نستلهم روحها في وجه النازي، ولسوف نحارب في كل مكان».
هل أمريكا في طريقها إلى الإفلاس الكبير؟
يستبعد ذلك فهي خمسون دولة مضغوطة في اقتصاد واحد، وتشرب ربع البترول العالمي (عشرين مليون من ثمانين مليون برميل يومياً، وحصة الفرد الأمريكي السنوية من استهلاك البترول 26 برميلاً مقابل 0.9 للهندي و1.8 للصيني)، وهي تنتج 38 % من مجمل التجارة العالمية، ولكنها مع ذلك تخضع لقوانين الاقتصاد، ومن يغفل عن قوانين الله فإن قوانين الله لا تغفل عنه.
ويتوقع (باول كينيدي) أن يتراجع اقتصادها من مجمل الإنتاج العالمي في القرن الواحد والعشرين من 40% إلى 18 %، وفي القرآن ((وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ))(الأعراف94 - 95) أي أن القرى يأخذ أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرَّعون، بمعنى أن الصدمة قد توقظ لتصحيح المسار، فإذا لم تستجب الأمم لهذا الإنذار حصل شيء عجيب وهو دخولها مرحلة كاذبة من تبديل السيئة بالحسنة، وإذا وقع هذا (عفواً) أي نسوا فلم يستفيدوا من الدرس، وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون، وقد نكون شهداء انهيار أمريكا بالاقتصاد أكثر من الحرب، (( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ))(الكهف:59).
وقد يأتي الوقت الذي يخاف الاقتصاديون، ويرتعب المودعون بأن الأخطار كبيرة فيسحبون أموالهم بالدولار، وعندها ستحدث الصدمة الكبرى وهو ما يخشاه المؤرخ الاقتصادي (هارولد جيمس) من جامعة (برينستون)، وتحذر مجلة (النيوزويك) قراءها الأمريكيين من التطورات الدرامية بقولها:«انسوا الحرب العراقية، انسوا النزاع الأطلنطي، إن أم المعارك تتربص بكم في جبهة أخرى».
المصدر : http://almokhtsa صلى الله عليه وسلم com/html/news/1425/11/02/7/744.php
============(8/289)
(8/290)
الاستحواذ على العقول .. أخطر من احتلال الأرض
شعبان عبد الرحمن (*)
«لكي نكسب الحرب ضد الإرهاب؛ فإن ذلك يتطلب منا أكثر من مجرد قوتنا العسكرية.. يتطلب منا اجتذاب شعوب العالم الإسلامي إلى قيمنا ومجتمعنا؛ إن كان لنا أن ننجح في تحقيق التفاهم والتوعية والاحترام المتبادل، وهو ما سيشكل الأسس لعلاقات سلمية مثمرة، وإن التبادلات (الطلابية) التي يقرها مشروعكم هي أقل السبل كلفة ـ عند أخذ المردود بعين الاعتبارـ لتشجيع العلاقات الشخصية والمؤسساتية التي من شأنها تعزيز أمننا القومي على المدى البعيد... ينبغي للولايات المتحدة أن ترد على الخطر الإرهابي على مستويات عدة، فنحن بحاجة لأن نضمن أن دفاعاتنا قوية وحدودنا آمنة».
هذه فقرات من الشهادة المطولة التي سجلها «كنتن كيث» مدير «الاتحاد من أجل تبادل ثقافي وتعليمي دولي»، وهو اتحاد يضم خمساً وستين منظمة، وله فروع في جميع الولايات الأمريكية.
الشهادة جاءت دعماً لمشروع القانون الذي تقدم به السيناتور «تيد كيندي» لمجلس الشيوخ الأمريكي في10/5/2002م نيابة عن عشرة آخرين من أعضاء المجلس، ويهدف إلى تحقيق المزيد من الاحتواء الثقافي لشباب العالم الإسلامي؛ لصناعة قادة المستقبل في العالم الإسلامي داخل المؤسسات الثقافية الأمريكية وبين العائلات الأمريكية؛ ضماناً لاستمرار مسلسل التبعية.
المشروع يحمل اسم «الجسور الثقافية لعام 2002م»، وتشرف عليه وزارة الخارجية صاحبة الباع الطويل في برامج التبادل الطلابي والتعليمي، ويطلب تخصيص خمسة وسبعين مليون دولار إضافية لميزانية برامج وزارة الخارجية التعليمية والثقافية الحالية في العالم الإسلامي، في الفترة من عام 2003م حتى نهاية السنة المالية 2007م، ويقترح تخصيص عشرين مليون دولار لإنشاء برنامج تبادل جديد لطلاب المرحلة الثانوية؛ لإفساح المجال أمام عينة خاصة من طلاب العالم الإسلامي المتفوقين للدراسة في مدارس حكومية أمريكية.
ويشترط المشروع المقترح أن يكون اختيار الطلاب من دول العالم الإسلامي بشكل تنافسي يثبت جدارتهم، وأن يراعى في الاختيار التنوع الجغرافي، والجنسي، وتنوع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية التي ينتمون إليها في المجتمع، وأن تتعاون وزارة الخارجية ـ كما تفعل في برامج مماثلة ـ مع المنظمات الأمريكية غير الحكومية ذات الخبرة في هذا الحقل عند انتقاء وتعيين المدارس والعائلات للطلبة (الوافدين)، وتبقى على اتصال وثيق مع المدارس الثانوية المختارة، والعائلات الأمريكية المضيفة، والمنظمات غير الحكومية؛ أثناء تواجد الطلاب في الولايات المتحدة.
ولم يفت مقدمي المشروع وضع بند مراقبة صارم للطلبة المختارين، فـ «التشريع سيعزز قدرتنا على غربلة الطلبة الأجانب ومراقبتهم، عبر اشتراط مزيد من الاتصال والتعاون بين وزارة الخارجية، ودائرة الهجرة والتجنس، والمعاهد العلمية التي يلتحق بها الطلبة الأجانب، وعبر سد الثغرات في برنامج مراقبة الطلبة الأجانب المعتمد حالياً».
فقد أثبتت - وفق مقدمي المشروع ـ برامج التبادل الثقافي والتعليمي مع دول العالم التي يسافر بموجبها خمسة آلاف أمريكي إلى الخارج، ويفد إلى الولايات المتحدة عن طريقها عشرون ألف أجنبي ـ أثبتت نجاحاً باهراً في الترويج للقيم الأمريكية.
هذا المشروع بقانون جاء انعكاساً لاهتمام البيت الأبيض نفسه، وكذلك اهتمام أركان الإدارة الأمريكية، كما جاء انعكاساً لاهتمام مراكز البحث التي تجد فيه ضرورة قومية لحماية الأمن القومي الأمريكي على المدى البعيد ضد ما يسمونه بالإرهاب (الصحوة الإسلامية).
الرئيس بوش الابن أشار أكثر من مرة إلى ضرورة مد يد الصداقة إلى الأطفال وخصوصاً في العالم الإسلامي، ففي كلمة له في أكتوبر 2001م أمام طلبة مدرسة «ثورغود مارشال» الابتدائية قال بوش:«إن أمريكا عازمة على إقامة علاقات ثقة وصداقة مع الشعوب في جميع أنحاء العالم، وخاصة مع أطفال العالم الإسلامي وشعوبه».
وفي هذا الصدد يقول مقدمو المشروع: «إن تشريعنا، ولتسهيل تحقيق هدف الرئيس في الوصول إلى الأطفال والتأثير فيهم، ينص على إنشاء برنامج جديد لطلاب المرحلة الثانوية، فلا يوجد في الوقت الحاضر أي برنامج فيدرالي لتيسير مثل هذا التبادل الطلابي بأعداد تتزايد على الدوام مع العالم الإسلامي.. وهناك فوائد كثيرة تتأتى من التواصل مع الطلبة أثناء مرحلة شبابهم وانفتاحهم لتشجيع الفهم الثقافي المتبادل، وعدم التعصب، والتسامح، فطلبة المرحلة الثانوية اليوم هم قادة الغد، وعلينا أن نبدأ العمل معهم اليوم لنصوغ مواقفهم من بلادنا».
وفي خطاب ألقاه «بول وولفوفتر» وكيل وزارة الدفاع في 3/5/2002م أمام مجلس الشؤون العالمية في كاليفورنيا أشار إلى الحاجة إلى التواصل مع الأصوات المنادية بالاعتدال في العالم الإسلامي، وإلى تشجيع هذه الأصوات ومد الجسور معها لتجاوز ما أسماه بالهوة الخطيرة بين الغرب والعالم الإسلامي. وقال: «إنه ينبغي على أمريكا أن تبدأ الآن.. فالهوة واسعة ولا تحتمل التأجيل».(8/291)
بيانات مؤسسة «جالوب» الأمريكية الشهيرة لاستطلاع الرأي عضدت أيضاً المشروع، فقد أجرت المؤسسة استطلاعاً واسعاً للرأي في تسع دول غالبيتها من المسلمين؛ عن مواقف الجماهير حيال السياسة الأمريكية، وكانت النتيجة هي رصد مشاعر عداء متصاعدة بين شعوب هذه الدول ضد الولايات المتحدة.. وهنا يؤكد السيناتور كيندي: «إننا سنعرض أنفسنا للخطر إن نحن تجاهلنا هذه المشاعر. أما إن حاولنا علاج المشكلة عبر تعليم القيم الأمريكية لطلبة العالم الإسلامي؛ فستكون أمامنا فرصة على المدى البعيد لتغيير المواقف السلبية، وهذه عملية طويلة، لقد علَّمنا الحادي عشر من سبتمبر أن علينا أن نبدأها الآن»!
وقد كانت الشهادة التي أدلى بها طالب مصري ـ حائز على منحة «فولبرايت» للتعليم بالولايات المتحدة ـ على خطورة ما يجري في الجامعات المصرية ضمن دفاعات مقدمي المشروع للمطالبة بالموافقة على مشروعهم.
فقد أفاد الطالب المصري في مقال نشرته له الواشنطن بوست في 20/1/2002م بأن جامعته المصرية أرض خصبة للباحثين عن أعضاء جدد يضمونهم إلى المنظمات الإرهابية أو المتطرفة!!
ولذا يشدد كيندي قائلاً: «التحدي الذي يواجهنا هو منح الطلاب فرصة للتعرف على جميع أوجه الحياة العائلية الأمريكية، وفهم قيمنا قبل أن يصلوا إلى تلك الدرجة» (الانضمام إلى الجماعات الإرهابية.. في زعمهم!).
أما وزارة الخارجية صاحبة الخبرة الطويلة في الإشراف على مثل هذه المشاريع فهي أشد حماساً له، وزير الخارجية كولن باول كان واضحاً في ذلك؛ ففي بيان ألقاه في أغسطس من عام 2001م حول «أسبوع التعليم» قال: «لا أستطيع التفكير بشيء أنفع لبلدنا من صداقة زعماء العالم المستقبليين (القادمين) الذين تلقوا دراساتهم هنا».
وتدير وزارة الخارجية حالياً العديد من برامج التبادل الثقافي والطلابي الناجحة لطلاب الجامعات والمرحلة الثانوية، مثل برنامج «تبادل قادة المستقبل» أو «فيلكس»، وهو البرنامج الذي يتم بمقتضاه سنوياً إحضار حوالي ألف طالب ـ تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة ـ من الدول حديثة الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي المنفك، إلى الولايات المتحدة للدراسة في مدرسة ثانوية لمدة عام، والإقامة مع عائلة أمريكية خلال ذلك العام، ومن بين هذه الدول ست دول غالبيتها العظمى من المسلمين، وهي: أذربيجان ـ كازاخستان ـ قيرغيزستان ـ طاجيكستان ـ تركمانستان ـ أوزبكستان.
تقول نتائج هذا البرنامج إنه بالغ التأثير في صياغة مواقف الطلبة الذين وقع عليهم الاختيار.
وتشير دراسة أجرتها الحكومة الأمريكية عام 1998م، قارنت فيها بين الطلبة الذين اشتركوا في البرنامج وغيرهم من زملائهم الذين لم يشتركوا، قائلة: «إن الشبان الذين اشتركوا أكثر انفتاحاً وتقبلاً للقيم الغربية والمثل الديمقراطية، كما أن هناك احتمالاً أكبر في أنهم يتطلعون إلى ممارسة دور قيادي في مجتمعهم».
وبناءً على النجاح الذي يحققه مشروع «فيلكس» يؤكد مقدمو المشروع الجديد أنهم صاغوا مشروعهم على نهجه.
وقد حصل مقدمو المشروع على دعم العديد من المؤسسات المعنية المهمة وموافقتها داخل الولايات المتحدة، وفي مقدمتها: رابطة التبادل الطلابي والثقافي الدولية، وأكاديمية التنمية التعليمية، والمجالس الأمريكية للتعليم الدولي، والمعهد الأمريكي للدراسة في الخارج، والمجلس القومي للزوار الدوليين، ومؤسسات المدن الشقيقة الدولية، والتعليم العالمي، ومجموعة الدراسة العالمية.
ولم يكتف السيناتور كيندي وهو يقدم مشروعه بهذا التأييد غير المسبوق في الداخل، وإنما لفت الانتباه لتأييد آخر في العالم الإسلامي يمكن أن يسهم بقوة في نجاح المشروع، فقد أشار إلى تأييد كثير من الدول الإسلامية للولايات المتحدة في حربها ضد ما تسميه بالإرهاب، وذكّر أعضاء المجلس بالآية القرآنية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، ولم يكمل الآية: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وانطلق من الكلمات التي ذكرها من الآية إلى اعتبارها مدخلاً جيداً لتسويق مشروعه دون مشاكل داخل العالم الإسلامي، فالآية ـ في رأيه ـ تدعو إلى التعارف ومد الجسور، والمشروع كذلك: «من شأنه بناء جسور توعية وتفاهم وتسامح بين الثقافات، ويساعد في جعل الشعب الأمريكي وشعوب العالم الإسلامي يفهم كل منهم الآخر حقاً.. ».
وهناك نقطة جديرة بالتسجيل هنا؛ وهي أن البيانات السالفة الذكر لم أطلع عليها في مطبوعة معارضة للسياسات الأمريكية مثلاً، وإنما مصدرها هو مصدر أمريكي رسمي، فقد وردت معظمها في «نشرة واشنطن العربية» (إصدار يوم 15/5/2002م) التي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية بصورة شبه يومية!
وهكذا.. بدأت الولايات المتحدة التحرك للإجابة عن السؤال الكبير المطروح منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر: لماذا يكرهنا العالم؟ أو بالأحرى: لماذا يكرهنا المسلمون؟(8/292)
الإجابة بالطبع لم تتحرك في اتجاه تغيير السياسات الأمريكية المجحفة بحق العالم الإسلامي وقضايا المسلمين، وإنما تتحرك كما نرى لسرقة عقول أجيالنا القادمة لتكون أمريكية!!
-------------
(*) كاتب صحفي، وسكرتير تحرير مجلة المجتمع الكويتية.
ذو القعدة 1423هـ * يناير 2003م
http://albayan-magazine.com المصدر:
===========(8/293)
(8/294)
تحت تأثير اللوبي اليهودي المحلي:
(إسرائيل) تغزو كازاخستان اقتصادياً، والتعاون يشمل النواحي العسكرية
يعود تاريخ الوجود اليهودي في كازاخستان إلى القرن الثامن عشر، ففي ذلك الوقت تم احتلالها من قبل روسيا، وكان ضمن صفوف الجيش الروسي المحتل عدد من العسكريين اليهود الذين آثروا الاستقرار هناك بعد انتهاء خدمتهم، وأدى هذا الأمر إلى تشكيل نواة للوجود اليهودي هناك، وازداد عدد اليهود في تلك الجمهورية خلال الحقبة الشيوعية حين نقل الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين آلاف اليهود إليها للعمل في المزارع الجماعية، كما قصدها أكثر من 100 ألف يهودي خلال الحرب العالمية الثانية هرباً من القوات الألمانية.
يقدر عدد اليهود في كازاخستان في الوقت الحالي بما يقارب 15 ألف شخص, علماً أن الآلاف كانوا قد هاجروا إلى فلسطين المحتلة خلال السنوات الخمسة عشرة الأخيرة.
ويتركز اليهود في كازاخستان في المدن الرئيسية مثل ألما - آتا (11 ألف شخص), قاراكندا, أستنا, جمبول, سيميبلاطنسك، تشمكنت وغيرها.
لم يكن لليهود في كازاخستان أي كيان اعتباري حتى وقت قريب، فقد كانت الشعائر وطقوس العبادة تؤدى بشكل انفرادي في المنازل، رغم وجود كنيس يهودي في العاصمة تم بناؤه عام 1882، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وقيام جمهورية كازاخستان المستقلة، أسّس اليهود عدداً من الجمعيات الهادفة إلى إقامة كيان واضح المعالم، وأقام اليهود عدداً من أماكن العبادة في أماكن تجمعاتهم الأساسية، وأسسوا أكثر من 20 جمعية تعمل على لمّ شملهم، وربطهم بحكومة (إسرائيل)، كما تم إنشاء 20 مدرسة تضم أكثر من 700 تلميذ, تركز مناهج التدريس فيها على مبادئ الدين اليهودي، واللغة والأدب العبري، إضافة إلى الثقافة والعادات والتقاليد اليهودية.
فقد صرح الحاخام الكازاخي مئير شيينر أن هذه المدارس تقدّم مذاقاً يهودياً لطلبتها، وتابع متسائلاً: كيف يمكن لشخص لا يعرف سوى القليل عن ثقافته أن يحب أو يحترم التقاليد اليهودية؟
ويقوم العديد من هذه المدارس بإقامة مخيمات صيفية لطلبتها يتم خلالها تدريبهم على ألعاب رياضية قاسية، تعتبر مقدمة لتدريب عسكري لاحق، وتتكفل الوكالة اليهودية لدعم (إسرائيل)، ولجنة التواصل اليهودي الأمريكي؛ تمويل هذه المخيمات التي تستقبل كذلك يهوداً من جمهورية قيرغيزستان المجاورة.
تشكيلات سياسية:
وتم تشكيل المؤتمر اليهودي لعموم كازاخستان في كانون الأول/ديسمبر 1999، وحضر الجلسة التأسيسية عدد من السياسيين الكازاخ، والسفير الأمريكي المعتمد لديها، وقد تم انتخاب رجل الأعمال ألكسندر مشكيفيتس رئيساً للمؤتمر. وفي آذار/مارس 2002 انتخب مشكيفيتس كذلك رئيساً للمؤتمر اليهودي الذي يضم الجاليات اليهودية في آسيا وأوروبا.
وكما هو معروف فإن مشكيفتس الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية يسيطر على ما يقارب من ربع الإنتاج القومي في الجمهورية، وهو من المقربين من الرئيس نزرباييف، ويقوم مشكيفيتس بتمويل بناء أماكن العبادة اليهودية في المدن الرئيسية في كازاخستان.
وتعتبر الجمعية الكازاخية للجاليات اليهودية الإطار الذي يجمع اليهود في كازاخستان، وتشرف الجمعية على أكثر من 20 مركزاً صحياً لليهود، وعدد من دور رعاية المسنين من أبناء الجالية، ومكتبة يغلب عليها الطابع اليهودي، ومسرحاً مخصصاً للأعمال الفنية اليهودية.
وتنشر الجالية اليهودية في كازاخستان أربع صحف ومجلة تستغلها أحسن الاستغلال في الترويج للدعاية الصهيونية، وتمجيد اليهود ودولة (إسرائيل)، وبالمقابل الإساءة للإسلام والفلسطينيين الذين تصفهم (بالإرهابيين).
وتعمل الوكالة اليهودية لنصرة (إسرائيل) على الحفاظ على الهوية اليهودية لليهود في كازاخستان من خلال مكتب فرعي أقامته في ألما آتا.
يصف الزعماء اليهود في كازاخستان علاقاتهم بالحكومة بالإيجابية، وكانوا قد أثنوا ثناء حسناً على الرئيس نور سلطان نزرباييف الذي قام شخصياً بتسليم الأرشيف الشخصي للحاخام اليهودي ليفي شنيرسون - المدفون في كازاخستان - والد ميناحيم ميندل شنيرسون أحد أبرز علماء الدين اليهود، لحفيده خلال زيارة الرئيس للولايات المتحدة عام 1999، أثناء تلك الزيارة وفي خطوة غير مسبوقة وتحت تأثير اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، طلب نزرباييف من مندوب كازاخستان في الأمم المتحدة التصويت ضد أي قرار يدين (إسرائيل).
وكان زعماء الجالية اليهودية في كازاخستان قد حاولوا توسيط الحكومة الكازاخية مع إيران لحل أزمة الجواسيس اليهود الذين اعتقلوا هناك، كما وعد الرئيس نزرباييف إسرائيل سنغر رئيس المؤتمر اليهودي العالمي بتوسيط رجال الدين الشيعة الكازاخ لدى (حزب الله) في محاولة للإفراج عن العسكريين الإسرائيليين المحتجزين لديه.
خدمة الكيان الصهيوني:(8/295)
ويعمل اليهود في كازاخستان كطابور خامس للحكومة الإسرائيلية، ويعملون ليل نهار على التقريب بين بلدهم القومي والكيان الصهيوني، فبعيد اعتراف دولة الكيان الصهيوني بجمهورية كازاخستان عملوا على قيام وزير الاتصالات الإسرائيلي بزيارة للعاصمة السابقة وذلك في أواسط كانون الثاني/يناير عام 1992 لبحث سبل تطوير العلاقات بين الجانبين، وخاصة في مجال الاتصالات، وفي شهر نيسان/أبريل من نفس العام قام وزير التجارة الكازاخي بزيارة جوابية تم خلالها توقيع اتفاقية لتطوير القطاع الزراعي، وتدريب الخبراء في هذا القطاع، وكذلك الاتفاق على تأسيس شركات تعنى بالتكنولوجيا الصناعية الحديثة, وبعد أسبوع على هذه الزيارة تم الإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين.
وتقدَّر قيمة الاستثمارات الإسرائيلية في كازاخستان بما يقارب 300 مليون دولار، وكان الكنيست الإسرائيلي قد وافق على قرار الحكومة بضمان الاستثمار الخاص للشركات الإسرائيلية العاملة في كازاخستان بنسبة 65%, ابتداء من شهر يونيو 1993، كما قام الكنيست بالمصادقة على تقديم قرض للحكومة الكازاخية هو الأول من نوعه في تاريخ الدولة العبرية.
وتقوم شركة الطيران الكازاخية بتسيير رحلة أسبوعية إلى مطار اللد حاملة على متن طائراتها رجال الأعمال، والسواح، والمهاجرين اليهود، ويقيم أكثر من 20 خبيراً إسرائيلياً بصورة دائمة في كازاخستان لتقديم استشارات للحكومة والقطاع الخاص.
أما أبرز الشركات الإسرائيلية العاملة في كازاخستان فهي:
1. شركة (ليفاييف غروب) العاملة في مجال الصناعات الكيميائية، ومناجم الذهب، واليورانيوم.
2. شركة (أورمات) النشطة في مجال الطاقة، وقد قامت الشركة مؤخراً بإهداء الحكومة الكازاخية مستشفى ميدانياً، وتعهدت بتمويل تدريب الأطباء الكازاخ في (إسرائيل).
3. شركة (غيلات) المختصة بالاتصالات، وتعتبر واحدة من أكبر الشركات العالمية في هذا المجال، ويغطي نشاطها القارات الخمس.
تعاون عسكري:
وسارعت شركات الإنشاءات الإسرائيلية لتقديم عروضها للحكومة الكازاخية عندما أعلنت عن نيتها بناء منشآت عسكرية على طول حدودها الجنوبية، أما الشركات العاملة في المجال العسكري فقد سال لعابها لدى إعلان كازاخستان عن نيّتها تحديث قوتها العسكرية، وتقدمت (شركة إلبيت) للأنظمة، وشركة الصناعات الجوية المملوكة للحكومة الإسرائيلية بعروض لتحديث الطائرات المروحية الروسية الصنع التي تملكها كازاخستان، إلا أن عدم وجود السيولة الكافية لدى الحكومة الكازاخية أرغمها على التقدم بعروض لتحديث جزء من هذه الطائرات مقابل الجزء الآخر، وهو عرض رحبت به الشركات الإسرائيلية.
وكانت (شركة صبتون المحدودة) إحدى أفرع (شركة أفريقيا - إسرائيل المحدودة للاستثمار) قد اشترت أكبر مصنع لمعالجة اليورانيوم في كازاخستان، في صفقة بلغت 300 ألف دولار، وأثارت العديد من الأسئلة، ذلك أن القيمة الحقيقية للمصنع كانت قد قدرت قبل الشراء بسنتين بمبلغ يزيد على 20 مليون دولار، ويعالج المصنع ما يتراوح بين 130 و150 طن من اليورانيوم الخام سنوياً، وذكر ليف ليفاييف مدير الشركة أن الصفقة تمت بعد لقائه بالرئيس نزرباييف والعديد من المسؤولين الكازاخ رفيعي المستوى.
وشهد عام 2000 ذروة النشاط الإسرائيلي في كازاخستان, ففي بداية آذار/ مارس من ذلك العام باشر (مركز التعاون الدولي) التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية (ماشاف) خطته الخمسية لتطوير مناطق قيزيل أرديني والمتعلقة بوقف التصحر عن طريق التشجير, استخدام البيوت البلاستيكية في الزراعة, تطوير مصادر المياه، ومد شبكات جديدة لتوصيل المياه إلى بحيرة باسكار المهددة بالجفاف، وزراعة آلاف الهكتارات عن طريق استغلال تلك المصادر, والحفاظ على البيئة, وغيرها من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية, مثل التوسع في إنشاء أحواض لتربية الأسماك، وحظائر لتربية الإبل، والاستفادة من ألبانها.
ويعمل المركز على التوسيع في زراعة القطن، ومكننة الزراعة باستخدام الآلات، وتطوير نظم الري الحديثة وخاصة الري بالتنقيط، ويقوم مركز ماشاف بتنفيذ القسم الأكبر من هذه المشاريع بتمويل أمريكي وأوروبي.
وفي 29 - 30 أيار/مايو من ذات العام عقد مؤتمر علمي تطبيقي للتعاون بين العلماء الكازاخ ونظرائهم الإسرائيليين برعاية أكاديمية العلوم الكازاخية, وزارة الطاقة, وزارة الصناعة والتجارة وجمعية كازاخستان - إسرائيل، ومركز التعاون الدولي ماشاف، ووكالة العون الأمريكية، تمت خلاله مناقشة سبل التعاون في مجالات الصحة العامة, الزراعة, الطب, الكيمياء, الأحياء, تطوير نظم الري الحديثة, والتعاون العلمي والتقني، إضافة إلى متابعة المشاريع في مجالات الطاقة, الإلكترونيات, الطب, التقنية الحيوية, الزراعة, الحفاظ على البيئة, السياحة والقطاع المصرفي.
النفط والتكنولوجيا:
واتفق المؤتمرون على تطبيق الاختراعات العلمية الكازاخية عن طريق مؤسسات إسرائيلية، وإنشاء مراكز أبحاث علمية مشتركة على غرار تلك القائمة بين (إسرائيل) والدول الأوروبية.(8/296)
وفي 22 - 29 من شهر أيار/مايو قام الدكتور الإسرائيلي أندريه وايزمان بعلاج عدد من المدمنين الكازاخ، وتدريب عدد من الأطباء المحليين على طرق علاج خاصة للتخلص من الإدمان ضمن فعاليات (القرن 21 دون إدمان)، والذي جرى في كازاخستان.
في محاولة منها لتثبيت أقدامها تسعى (إسرائيل) إلى التمركز في كازاخستان مستغلة أية فرصة تساعدها على ذلك، ورغم المنافسة الحادة فقد استطاعت (إسرائيل) التغلغل وتثبيت أقدامها في مجال الصناعات النفطية، وقامت شركة (ميتيك ميتال تكنولوجي) ببناء وتشغيل مصفاة لتكرير النفط طاقتها 400 ألف طن سنوياً قابلة للزيادة، ميزة هذا المشروع قربه من مصادر استخراج النفط, الأمر الذي يحول دون إعاقة الضخ، وقد قام بتمويل المشروع عدة مصارف تجارية من (إسرائيل) وكندا وتشيكيا، بضمان من الحكومة الكازاخية، ووزارة الصناعة والتجارة الإسرائيلية.
وقامت شركة كازاخ تيليكوم للاتصالات بتوقيع عقد مع شركة غيلات الإسرائيلية لتوصيل 250 مركز سكني بخدمات الهاتف والإنترنت، والتحويل المصرفي الإلكتروني بواسطة الأقمار الصناعية, و قد بلغت قيمة العقد عشرات ملايين الدولارات, واتفق الجانبان على أن يتبع ذلك مشاريع أخرى في المستقبل.
وقامت (إسرائيل) ببناء مصنع آلات لجمع القطن، و4 مصانع للزيوت النباتية، ومصنع لصهر الألومنيوم طاقته 250 ألف طن، ومصانع لإنتاج الإثيلين, والبولياثلين, والبوليكلورفينيل، وتسعى (إسرائيل) لتسويق إنتاج هذه المصانع في دول شرق أوسطية على اعتبارها كازاخية المنشأ.
ونظراً للصعوبات المالية التي تواجهها كازاخستان تتقاضى (إسرائيل) ثمناً لمشاريعها هناك من المواد الأولية كالقطن، والنفط، وأحجار كريمة، ومعادن، ومواد غذائية وغيرها.
وأخيراً أعلنت (إسرائيل) في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي عن إطلاق قمر صناعي للاتصالات من طراز (عاموس) من (قاعدة بايكانور الفضائية) في كازاخستان.
جشع وتلاعُب:
ورغم كافة التسهيلات التي تقدمها الحكومة الكازاخية للإسرائيليين فإن هؤلاء يسعون إلى جني الأرباح بأي طريقة، سواء كانت قانونية أو غير قانونية، هذا الجشع أدى إلى إحراق كل من شاؤول إيزنبيرج، ويوسي مايمان؛ وهما من كبار رجال الأعمال الإسرائيليين العاملين في كازاخستان، وقد أصيبا بحروق بالغة، أما آل ميلكينز الذين يعملون في مجالات الحبوب والمبيدات الزراعية؛ فقد تم طردهم من هناك، وقد رفعوا دعوى قضائية في تل أبيب ضد الحكومة الكازاخية حصلوا نتيجتها على تعويض بلغ عشرة ملايين دولار.
ولم يقتصر هذا الجشع على الأفراد فقد استمرت (إسرائيل) في العمل على إبقاء الميزان التجاري لصالحها، ولم تعمل على رفع الحواجز الجمركية بوجه الصادرات الكازاخية كما نصت الاتفاقيات التجارية بين البلدين.
وفي السياق نفسه تأتي دعوة رئيس المصرف المركزي الإسرائيلي بوروخوف - وهو يهودي من أصل أوزبيكي - الحكومة الإسرائيلية إلى المبادرة لتشكيل صندوق مشترك مع البنك الدولي للإنشاء والتطوير لتمويل مشاريع في آسيا الوسطى عامة وكازاخستان بشكل خاص، فهل يأمن البنك الذئب على غنمه؟
المصدر : http://www.fm-m.com/2004/ma r 2004/sto r y20.htm
============(8/297)
(8/298)
الإنترنت والعولمة ( 1 )
د.محمد عبدالرحمن غنيم
هل العولمة مرفوضة؟ ولماذا نرفضها؟ ولماذا كانت الإنترنت وسيلةً من وسائل العولمة؟ وما أثر ذلك على حياتنا وخصوصاً ثقافتنا التي يُشكِّل عمودَها الفقريَّ دينُنا الإسلام؟ وما الحلولُ المقترحة للدفاع عن وجودنا المعنويَّ - وهو دينُنا - ووجودنا الماديِّ الذي يتبع وجودَنا المعنويَّ، فيبقى ببقائه ويزولُ بزواله؟
وهل من سبيل أن ينقلبَ السحرُ على السَّاحرِ، فتكون الإنترنتُ - التي أراد الساحر الأمريكي أن تكون أداة لإذابتنا - أداة لرجوعنا إلى ديننا وثقافتنا؟ فكيف نجعلها أداةً قويةً في دعم حضارتنا وديننا، بل وجذب الطرف الآخر ليدخلَ في ديننا وحضارتنا، وكما في المَثَل العاميِّ (تِيجي تُصيده يصيدك) أو (مَن حفر حفرة لأخيه وقعَ فيها)؟
وسأحاول في هذه الفقرات وضع نقاط مختصرة هي رؤوس عناوين في هذه الموضوعات التي هي جديرة بأن يُؤلَّف فيها كتبٌ لا مقالةٌ ولكن ما لا يُدرك كُلُّه لا يُترك جُلُّه والله المستعان، فأقول:
أولاً: هل العولمة مرفوضة؟
والجواب على هذا السؤال يمكن أن يتضح بعد تعريف (العولمة)، وبيان الفرق بينها وبين (العالمية)، وكيف يتم التلبيس على الناس وترويج (العولمة) في ثوب (العالمية)، فما (العولمة)؟ وما (العالمية)؟ وما الفرق بينهما؟
(أ) العولمة: قد تعددت تعاريف العولمة، ولكني قد اخترت التعريف الذي يصدقه الواقع الذي تُطبقه الولايات المتحدة حاملة لواء العولمة عملياً، فالتطبيقُ والواقعُ خيرُ شاهدٍ لصحة هذا التعريف، فنقول:
(العولمة: هي الحالة التي تتم فيها عمليةُ تغيير الأنماطِ والنظم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ومجموعة القيم والعادات السائدة، وإزالة الفوارق الدينية والقومية والوطنية في إطار تدويل النظام الرأسمالي الحديث، وفق الرؤية الأمريكية المُهيمنة، والتي تزعم أنها سيدةُ الكون، وحاميةُ النظام العالمي الجديد)([1]).
ويعرفها الدكتور مصطفى محمود فيقول: (العولمة مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ الوطن من وطنيته وقوميته وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي، بحيث لا يبقى منه إلا خادم للقوى الكبرى).
ولو سألت إنساناً عامياً أن يصفَ لك أفعالَ الولايات المتحدة في العالم - وبخاصة في العالم الإسلامي والعربي - ستجده يشرح لك تلك المعاني التي يحويها التعريف المُتقدِّم دون أن يعرف ما العولمة أو يسمع عنها.
(ب) العالمية: إن الإسلام دين يتميز بالعالمية، والعالمية تعني: عالمية الهدف والغاية والوسيلة، ويرتكز الخطاب القرآني على توجيه رسالة عالمية للناس جميعاً، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء:107]، وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [سبأ:28]، ووصف الخالق - عز وجل - نفسه بأنه (رب العالمين).
(ج) الفرق بين (العولمة) التي جاءت بها الولايات المتحدة و(العالمية) التي جاءت من عند رب العالمين في ضمن رسالة خاتم النبيين والمرسلين:
ثمة فرق بين عالمية الإسلام والعولمة، فالإسلام يقوم على العدل وإنصاف المظلوم، ويرفض الاعتداء، ويعترف بحق الآخر في الدين والرأي المخالف، أما العولمة فتقوم على الظلم، وتفتقد للعدل، وتهدف لصالح الاستكبار الغربي، وضد مصالح الشعوب الفقيرة الأخرى، وفقاً لسياسة التبعية التي تُفسِّر العلاقةَ بين الغرب المتقدم وبين العالم الثالث المتأخر.
يقول أحدُ الكتاب الفرنسيين عن النظام الرأسمالي الأمريكي: (كلما ازداد هذا النظام الرأسمالي الجشع إمعاناً وانتشاراً بالعولمة ازدادت الانتفاضات والحروب العرْقية والقبلية والعنصرية والدينية للتفتيش عن الهوية القومية في المستقبل، وكلما تفشت المعلوماتية والأجهزة التلفزيونية والسلكية واللاسلكية تكبلت الأيدي بقيود العبودية، وازدادت مظاهرُ الوحدة والانعزال والخوف والهلع دون عائلة ولا قبيلة ولا وطن، وكلما ازداد معدل الحياة سوف تزداد وسائل القتل، وكلما ازدادت وسائل الرفاهية سوف تزداد أكثر فأكثر جرائم البربرية والعبودية).
ثم إن الإسلام يدعو إلى طلب العلم النافع الذي يُفيد الإنسان، ويُحقِّق الخير، ويُحق الحق، وكل ما جاءت به المدنية الحديثة من علوم ومخترعات وابتكارات مما فيها نفع للناس، ويحارب كُلَّ علم ضار فيه فساد الإنسان أو هلاكه، أو إشاعة الشر في حياته، بينما العولمة بخلاف ذلك، فرغم ما أنتجته من المخترعات والابتكارات إلا أنها ابتدعت علوماً ضارة أو ابتكرت ابتكارات مخربة للأخلاق والقيم، ومفسدة بل ومهلكة للإنسان، وحتى المخترعات النافعة في أصلها كالطائرات والإنترنت والتلفاز والمذياع استطاعت هذه الحضارة الخربة أن توجهها وجهة الشر والفساد حتى يصبح الاختراع ضرره أكبر من مصلحته ونفعه.(8/299)
وأيضاً ففتح المسلمين للعالم كان بدافع حضاري فريد، لقد كانوا يعدون أنفسهم أصحاب رسالة عالمية موجهة للناس كافة، كُلِّفوا هم بتبليغها إليهم بالوسائل السلمية، والذين كانوا من المسلمين يهاجرون إلى البلاد الأخرى بعضهم هاجر لدعوة الناس إلى الدين الحق, وكثير منهم إنما هاجر طلباً للرزق، وكانت مهمة الشهادة على الناس, وتبليغهم الإسلام ماثلة أمامهم، فأثروا في البلاد التي هاجروا إليها تأثيراً كبيراً, ونقلوا إليها دينهم وأخلاقهم وقيمهم ولغتهم، ولم يتأثروا بهم إلا في أمور لا تتعارض مع دينهم، بل قد يكون بعضها من مقتضيات الدعوة إليه، أما غزو الغرب للعالم فقد كان في أساسه لأسباب استعمارية, ولمصالح اقتصادية، وقائم على التعصب العنصري، وكان الغربيون أيضاً يرون أن لهم رسالة أخرى وهي: أن يجعلوا العالم نصرانياً، يكفر بالدين الحق الذي اختاره الله - تعالى- للبشرية.
ومما سبق تظهر الاختلافات جلية بين مفهوم "عالمية الإسلام" ومفهوم "العولمة"، فبينما تقوم الأولى (عالمية الإسلام) على رد العالمية لعالمية الجنس البشري، والقيم المطلقة، وتحترم خصوصيته، وتفرد الشعوب والثقافات المحلية، ترتكز الثانية (العولمة): على عملية نفي أو استبعاد لثقافات الأمم والشعوب، ومحاولة فرض ثقافة واحدة لدول تمتلك القوة المادية، وتهدف عبر العولمة لتحقيق مكاسب السوق لا منافع البشر.
ويؤكد الدكتور محسن عبد الحميد - أستاذ التربية بجامعة بغداد - على وجود فرق كبير بين المصطلحين (العالمية والعولمة) فيقول: (إن أبناء هذا العالم بمختلف قبائله وشعوبه ولغاته وملله ونحله يعيشون على هذه الأرض، ولذا فلا بد أن يتفاهموا فيما بينهم تمهيداً للتعاون الدائم على خير الجميع، ولا مانع من أن يأخذ بعضُهم من بعضٍ، ولا يجوز أن يفرض وبالإكراه بعضُهم على بعضٍ لغته أو دينه أو مبادئه أو موازينه، فالاختلاف في هذا الإطار طبيعي جداً، والتعاون ضروري أبداً لمنع الصدام والحروب والعدوان، ويضيف: إن تاريخ البشرية عامة وتاريخ الإسلام خاصة لم يرد فيه دليلٌ على أن المسلمين خطُّوا للبشرية طريقاً واحداً، ووجهة واحدة، وحكماً واحداً، ونظاماً وحداً، وعالماً واحداً، بقيادة واحدة، ليس بالإجبار والإكراه، بل اعترفوا بواقع الأديان واللغات والقوميات، وعاملوها معاملة كريمة، بلا خداع ولا سفه ولا طعن من الخلف، ولذلك عاش في المجتمع الإسلامي من أهل الملل الأخرى من اليهود والنصارى والصابئة والمجوس وغيرهم بأمان واطمئنان، وأما الأمم التي كانت تعيش خارج العالم الإسلامي فقد عقدت الدولة الإسلامية معها مواثيق ومعاهدات في قضايا الحياة المتنوعة، والتوجيه الأساس في بناء العلاقات الدولية في الإسلام قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 11.
وأما العولمة التي هي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية (GLOBALIZATION) فهي مصطلح يعني جعل العالم عالماً واحداً، مُوجَّهاً توجيهاً واحداً في إطار حضارة واحدة، ولذلك قد تُسمَّى "الكونية" أو "الكوكبة".
(د) هل العولمة مرفوضة؟
مما سبق من تعريف العولمة يتضح أنها محو لوجود الآخر المعنويِّ ثم الماديِّ، ولخصوصية الآخر، ولذلك سَمَّى بعضُهم (العولمة) بـ(الأمركة)، لأنها محاولة لمسخ الأطراف الأخرى إلى قرود وببغاوات أمريكية لا تعرف إلا كلمة (نعم)، وكل ما جاء من أمريكا فهو خير محض لا تشوبه شائبة، وكل ما دعا إلى تميز بدين أو قيم فهو مرفوض، ومن فضل الله علينا وعلى الناس أن الأدلة على خطورة العولمة كثيرة وواضحة لا تخفى إلا على عُمي البصيرة، ومنها:
1 ـ أن أي عاقل يتأمل في التعريف الذي قدمناه للعولمة لا يتردد في معرفة خطورتها أدنى تردد.(8/300)
2 ـ أن المتأمل في أفعال الولايات المتحدة صاحبة مذهب (العولمة) يرى أنها أكثر دولة تهديداً للسلم العالمي وللتقارب بين شعوب الأرض، وأن دعاوى العولمة البراقة المزينة قد كذبتها على أرض الواقع، فهي لا تمتنع عن انتهاك حرمة أي شعب، والتعدي على دينه وثقافته وأرضه، والنماذج في هذه الانتهاكات والإجرام متضافرة متواترة، وما هيروشيما ونجازاكي وفيتنام وأفغانستان والعراق وضرب السودان وليبيا ببعيد، ولقد ارتكبت الولايات المتحدة في هذه الدول جهاراً نهاراً أكبر الشرور والقتل والتشريد، وليست أفعالُ اليهود في فلسطين السليبة إلا جزءاً من فعل ومساندة ودعم أمريكا، ولا تظن أن الولايات المتحدة تُؤذي شعوبَ العالم وتتورع عن أذية شعبها بل لا تتأخر الولايات المتحدة عن تجريب الأسلحة على شعبها كغيره من الشعوب، فقد كُشف النقاب عن أن الجيش الأمريكي أجرى في عام (1979) تجارب داخل الولايات المتحدة على إمكانية استخدام ريش الديوك الرومية لشن حرب بيولوجية، وقد اعترف الجيش الأمريكي بأنه فيما بين 1949م و 1969 ثم تغطية (239) منطقة مأهولة بالولايات المتحدة من الساحل للساحل بدثار من الكائنات الحية الدقيقة خلال اختبارات مصممة لقياس أنماط الانتشار في الهواء، وتحديد المكان الأمثل لبثها، وعوامل أخرى، منها مدينة (مينابولس) حيث تم إطلاق كبريتيد الكادميوم الزنك (61) مرة في عام (1953م) في أربعة قطاعات من المدينة، وشمل ذلك تعرض الناس لكميات كبيرة منه، وتوصف هذه المادة بأنها خطرة لاحتوائها على (الكادميوم) وهي تُسبب تلفَ الرئة، والتهاباً حاداً في الكلى، وتحلل الكبد الدهني، ومن المناطق التي شهدت عمليات مماثلة، "واشنطن" و"سان فرانسيسكو" و"سان لويس" و"فلوريدا" و"شيكاغو".
هذه المعلومات وأفظع منها تجدها في كتاب (الدولة المارقة) (The r ogue state) الذي ألفه (ويليام بلوم) (William Blum) وصدر عن دار (Zed books) ببريطانيا، وترجمه كمال السيد للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، وهذا الكتاب يُمثِّل صدمة للكثيرين الذين لا يعرفون إلا قدراً ضئيلاً من الممارسات الأمريكية على شعبها وشعوب العالم، وصدمة لمحبي الولايات المتحدة الذين يعتقدون أنها المدافع الأول عن العالم الحر وحرية الإنسان، وصدمة للشعب الأمريكي الذي شارك ملايينَ البشر حول العالم في التعرض لتجارب على أسلحة الدمار الشامل خلال عقود من القرن الماضي في واشنطن العاصمة وكاليفورنيا وشيكاغو ضمن أكثر من (230) مدينة أمريكية تعرضت لتجارب أسلحة دمار شامل بيولوجية وكيماوية وذرية، والكتاب جاء على نسق مصطلح "الدول المارقة" الذي أطلقه بوش على بعض الدول التي كانت تعارض سياسات واشنطن كإيران وكوريا الشمالية والعراق (سابقاً!)، ويقع الكتاب في نحو (400) صفحة من الحجم الكبير، ويعتبر بحق صحيفة اتهام أجهد المؤلف (ويليام بلوم) فيها نفسه، وأجاد في محاولة تتبع مخالفات وجرائم الإدارات الأمريكية المتلاحقة مع توثيق هذه الشهادات والاتهامات؛ فارجع إليه، ويمكنك أن تطالع المزيد عن جرائم زعيمة العولمة في مجلة "المجتمع" العدد (1444) تحت عنوان: (حرب التقارير الرسمية بين واشنطن وبكين تكشف: انتهاك حقوق الإنسان في الولايات المتحدة) ص20- 25، وفي نفس العدد ص9 تحت عنوان: (هل تكون الولايات المتحدة الشريك المباشر في الجرائم الصهيونية؟)، وفي العدد (1580) ص32-.33 تحت عنوان: (صورة حية للمأساة الإنسانية داخل معتقل (دلتا) بجوانتانامو )، وفي العدد (1565) ص32-35 تحت عنوان: (كتاب (الدولة المارقة) صحيفة اتهام للولايات المتحدة) وغير ذلك، وعلى سبيل المثال في أثناء كتابتي هذا المقال اطلعت على خبر في "موقع مفكرة الإسلام" يؤكد ما ذكرته من عموم إجرام زعيمة العولمة وأنها لا ترحم شعبها ولا غير شعبها، قال الخبر الذي كان بتاريخ 17 من يناير 2004م (25 من ذي القعدة 1424هـ) من موقع مفكرة الإسلام قال:
"البنتاغون يستخدم جنود البحرية الأمريكية كفئران تجارب
مفكرة الإسلام: مازالت وزارة الدفاع الأمريكية 'البنتاجون' تواصل حجب وثائق عن اختبارات على أسلحة بيولوجية وكيماوية أُجريت في أثناء فترة الحرب الباردة واستخدمت فيها عدداً من جنود البحرية كفئران تجارب بشرية, وذلك بعد أن كانت قد أبلغت الكونجرس بأنها نشرت كل المعلومات الطبية المتعلقة بهذا الموضوع.
ورداً على تساؤلات صحفية بشأن إفادة أدلى بها عالم عسكري سابق الشهر الماضي كان قد خطط وأشرف على برنامج الاختبارات, اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية هذا الأسبوع بأنها مازالت تحتجز وثائق تُوضِّح نطاقَ ووسائل هذه الاختبارات.
وقالت الوزارة في بيان لها أن الوثائق والتقارير التخطيطية التفصيلية بالنسبة لكل الاختبارات تم تصنيفها على أنها سرية, لأنها تُحدِّد نقاط ضعف العربات والسفن العسكرية لعناصر الحرب الكيماوية والبيولوجية والقدرات الخاصة بنشر ونقل هذه العناصر.(8/301)
وأضاف البيانُ في بعض الحالات تم أخذ عينات من البحارة لقياس تعرضهم لعناصر يمكن تتبعها لمحاكاة العناصر الكيماوية والبيولوجية, مُوضِّحاً أن مشروع 112 ومشروع شيبورد هازارد أند ديفينس شملا 50 تجربة أجريت في الفترة ما بين 1962م و1973م.
وقد أجريت هذه التجارب في ألاسكا ومريلاند وفلوريدا وجورجيا وهاواي وأوتاوا وبنما وكندا وبريطانيا وعلى متن سفن في المحيطين الهادي والأطلنطي.
ونقلا عن ' واس' فقد أوضح بيان البنتاجون أن هذه التجارب السرية أجريت على نحو (5842) جندياً وبحاراً، معظهم كانوا غير عارفين بها.
وصُممت التجارب لتحديد فعالية العناصر البيولوجية والكيماوية في الحرب ووسائل حماية القوات من هجمات بها, كما تعرض عددٌ غير معروف من المدنيين أيضاً لهذه العناصر خلال إجراء بعض التجارب على القوات.
وفى معظم الحالات تم استخدام مواد من المفترض أنها غير ضارة لمحاكاة عناصر مثل الأنثراكس 'الجمرة الخبيثة' والإيكولى أو عناصر أخرى وذلك على الرغم من أنه تم في عدد من الحالات استخدام عناصر غازات الأعصاب المميتة ومنها غاز السارين.
ويقول العديد من المحاربين القدامى إنهم يعانون الآن من أمراض بسبب تعرضهم لهذه العناصر الكيماوية والبيولوجية ولكن إدارة شئون المحاربين القدامى بوزارة الدفاع الأمريكية رفضت أيَّة طلبات لتغطية تكاليف الرعاية الصحية لهم.
وبعد تحقيق استمر ثلاث سنوات وصفه مسئولون في البنتاجون بأنه شامل أصدرت وزارة الدفاع تقريراً عاماً عن هذه التجارب في شهر يونيو الماضي وأغلقت التحقيق ",,.
نقلاً من "موقع مفكرة الإسلام" وعنوانه: www.islammemo.cc
3 ـ أن كثيراً من الغربيين أنفسهم وغير الغربيين من الزعماء وقادة الفكر والرأي اكتشفوا ما في العولمة من خطر فحاولوا حماية بلادهم من هذه الحُمَّى، وصرَّحوا بأضرارِها على البلاد والعباد:
أ ـ فها هو ذا الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) يقول في كلمة ألقاها في (14 من يوليو 2000م) بمناسبة اليوم الوطني الفرنسي يقول: (إن العولمة بحاجة إلى ضبط، لأنها تنتج شروخاً اجتماعية كبيرة، وإن كانت عامل تقدم، فهي تُثير أيضاً مخاطر جدية ينبغي التفكير فيها جيداً، ومن هذه المخاطر ثلاثة:
1- أولها: أنها تزيد ظاهر الإقصاء الاجتماعي.
2 ـ وثانيها: أنها تنمي الجريمة العالمية.
3 ـ وثالثها: أنها تهدد أنظمتنا الاقتصادية).
ب ـ ويُحذِّر (مهاتير محمد) رئيس وزراء ماليزيا من العولمة في المجال الاقتصادي فيقول: (إن منظمة التجارة العالمية تسمح للدولة الغنية بابتلاع الدول الفقيرة).
ج ـ والكاتب الأمريكي الشهير (وليم جريدر) في كتابه الصادر عام 1977م بعنوان (عالم واحد.. مستعدون أم لا؟One wo r ld r eady o r no?) وصف العولمة بأنها: (آلة عجيبة نتجت عن الثورة الصناعية والتجارية العالمية، وأنها قادرة على الحصاد وعلى التدمير، وأنها تنطلق متجاهلةً الحدودَ الدولية المعروفة وبقدر ما هي منعشة فهي مُخيفة، فلا يوجد من يُمسك بدفة قيادتها، ومن ثَمَّ لا يُمكن التحكم في سرعتها ولا في اتجاهاتها).
والحقيقة أن الكلام في مفاسد العولمة وخطورتها كثير ضخم، وهو في هذا المقال كالمُقدِّمة فلا أطيل فيه، وأُحيلك على كتاب (فخ العولمة): لهانس بيترمارتين ـ وهارالد شومان، ترجمة وتقديم: عدنان عباس علي، ضمن سلسلة (عالم المعرفة) بتاريخ 15/8/2003م فإن فيه كفاية بإذن الله، والله الموفق.
والخلاصة: أن العولمة استعمار جديد بصورة جديدة تُريد السيطرة على العقول والقلوب والاقتصاد والسياسات والأوطان، ولا تُريد ترك شيء، فهي جَشِعة نَهِمة، فهل نستسلم لها؟.
____________________________________
[1] - العولمة: للدكتور صالح الرقب، الجامعة الإسلامية.
المصدر : HTTP://WWW.ISLAMSELECT.COM
============(8/302)
(8/303)
الإنترنت والعولمة ( 2 )
د.محمد عبدالرحمن غنيم
ثانياً: نأتي إلى بيت القصيد وهو علاقة الإنترنت بالعولمة، وهل الإنترنت وسيلة من وسائل عولمة الدول والناس؟
والجواب على ذلك في نقاط:
أ ـ ما الإنترنت؟ وما تعريفها؟
ـ الإنترنت (Inte r ent) هي اختصار أو نحت لكلمتين هما: (Inte r national) ومعناها: العالمية، و( Netwo r k) ومعناها: الشبكة فالترجمة لمزج كلمتين في كلمة (INTE r NET) هو: (الشبكة العالمية).
ويُطلق عليها: (النت The net).
ويُطلق على أهم خدماتها (الويب) أي الشبكة العنكبوتية وهي ترجمة للكلمات: (wo r ld wide web).
وتختصر بكلمة الويب (The web) أو (www).
والويب هو جزء من الإنترنت وأحد خدماتها ولكن يُطلق على الإنترنت من باب إطلاق اسم الجزء الأهم (الويب The web) على الكل وهو (الإنترنت INTE r NET).
واختلفوا في تعريفها لضخامتها واتساعها وتعدد جوانبها ولهذا يذكر ريتشاردج سميث ومارك جيبس([1]): أن تعريف الإنترنت يعتمد على عمل الشخص الذي يريد تعريفها تعريفاً يختلف عن ذلك التعريف الذي يُقدِّمه باحث آخر في مجال مهنيٍّ معين.
فخبراء الإنترنت ليسوا متفقين فيما بينهم على تعريف جامع مانع لها، إلا أن معظم المشاركين فيها متفقون على أنها شبكة عالمية للآلاف من الحواسيب الآلية المترابطة التي تُمرر المعلومات([2]).
وقد تم تعريف الإنترنت في الكتاب الصادر عن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة عام 1994م أنها: (شبكة اتصالات دولية، تتألف من مجموعة من شبكات الحواسيب تربط بين أكثر من (35) ألف شبكة من مختلف شبكات الحاسوب في العالم، وتُؤمِّن الاشتراك فيها لحوالي (33) مليون مستخدم من المجاميع أو الزمر، وهنالك أكثر من (100) دولة في العالم لديها نوعٌ ما من الارتباطِ وإمكانية الوصول إلى الشبكة)([3]).
وهذا تعريف قديم إذ لا شك أن الأعداد التي يحويها قد زادت زيادة عظيمة ففي السنوات الأخيرة وبخاصة بعد سنة (1996م) حدثت طفرة في (الإنترنت) وفي انتشارها بصورة أذهلت الخبراء، ويكفي أن تعريف الأمم المتحدة يذكر أن (100) دولة فقط هي المتصلة بالإنترنت، والآن ليس هناك دولة غير متصلة بالإنترنت! ويعجبني تعريفٌ للإنترنت من الناحية المعلوماتية والثقافية ـ وهو موضوع كلامنا- وهو: (الإنترنت: عبارة عن دائرة معارف عملاقة، يُمكن للمشتركين فيها الحصولُ على المعلومات حول أيَّ موضوعٍ معين في شكل نص مكتوب أو مرسوم أو خرائط أو التراسل عن طريق البريد الإلكتروني، لأنها تضم ملايين من أجهزة الحاسوب، تتبادل المعلومات فيها بينها، وتستخدم الحواسيب المرتبطة بالشبكة فيما يُعرف تقنياً بالبروتوكول (P r otocol) للنقل والسيطرة، ولغرض تأمين الاتصالات الشبكية)([4]).
ويُطلق على الإنترنت: شبكة الشبكات، ومنتدى عالمي، والطريق الإلكتروني السريع للمعلومات، بالإضافة لما ذكرته من إطلاق (النت)، و(الويب) و(الشبكة المعلوماتية)، و(الشبكة العنكبوتية) وغير ذلك.
ب ـ خطورة الإنترنت وقوتها:
تتميز الإنترنت بمميزات جعلتها من أقوى وسائل الثقافة والعولمة، ومن هذه المميزات:
1 ـ حوت الإنترنت أكبر مكتبة عرفتها البشرية: وقد كان يُضرب المثل بضخامة مكتبة الكونجرس، فإذا بمكتبة الكونجرس واحدة من ملايين المكتبات على الإنترنت، فهذا الفيضان المعلوماتي ليس له نظير، ولا تستطيع هيئة أو دولة أن تجمعه في مكان، فمكتبة الإنترنت شاركت فيها البشريةُ كُلُّها، فأصبحت غاية في الضخامة، ويُقدِّرها بعض الخبراء بثمانية مليارات صفحة، ويُقدِّر بعضُ الخبراء أن هذه المليارات هي قمة جبل الثلج وأن قاعدته لا يعلم حجمها إلا الله، وتسمى (الإنترنت الخفي)(Invisible inte r net).
2 ـ شمول واحتواء الإنترنت لكل وسائل الثقافة والإعلام: فأنت تجد في الإنترنت الكتاب والشريط والفيديو والصحف والتلفازَ والمذياعَ، فأصبحت الإنترنت تحوي آلاف الصحف والمجلات بل ملايين الصحف والمجلات، وآلاف المحطات، وملايين الكتب والمؤلفات، وملايين الصور وغير ذلك.
فالإنترنت هي التي ستحقق ـ إن شاء الله ـ قاعدة (الكل في واحد)، فهي التي ستجمع - إن شاء الله - كل وسائل الإعلام في جهاز صغير ربما سيكون هو (المحمول أو الجوال)(Mobile) في يوم من الأيام، فالتقنية التي تعد الآن تهيئ أن يدخل الناس بواسطة المحمول إلى الإنترنت، وهي وإن كانت قاصرة على بعض الخدمات الآن إلا أن التطور القادم سيجعل - إن شاء الله - كل الخدمات ممكنة، وما أحق الإنترنت بالمثل العربي المشهور (كل الصيد في جوف الفرا).
والفرا: هو الحمار الوحشي، وأصل هذا المثل أن ثلاثة خرجوا للصيد، فاصطاد أحدهم أرنباً، واصطاد الثاني غزالاً، واصطاد الثالث حماراً وحشياً (الفرا)، وأخذ صاحب الأرنب وصاحب الغزال يفتخران، فقال لهما صاحب الحمار الوحشي: (كل الصيد في جوف الفرا) فسكتا وصارت مثلاً، ومعناه أن كل ما صدتموه إنما هو شيء ضئيل بالنسبة لما صدته، وأن كل ما صدتماه إنما يسعه جوف الحمار الذي صدته (راجع في ذلك: "مجمع الأمثال" للميداني).(8/304)
واقرأ معي هذا الخبر الذي نقلته لك من موقع " المختصر " http://www.almokhtsa صلى الله عليه وسلم com/ يقول المختصر:
" يعد الأول من نوعه: كمبيوتر شخصي متكامل في حجم الكف" التاريخ: 04/12/1424
محيط / تعتزم إحدى الشركات الأمريكية الكبرى تطوير جهاز جديد يعد الأول من نوعه الذي يضم كل وظائف الكمبيوتر الشخصي في وحدة صغيرة لا تزيد عن كف اليد، ويمكن وضعها في جيب السترة الصغير. ويحمل الكمبيوتر الجديد اسم( MCC )، ولا تزيد أبعاده على (67 ×127 × 19) مم، ويمكن استخدامه مع أي شاشة كمبيوتر ولوحة مفاتيح، كما يمكن تحويله إلى كمبيوتر دفتري إذا ما تم تركيب شاشة تعمل باللمس، وفي داخل الكمبيوتر يوجد معالج قوي بسرعة (1) جيجا هيرتز وقرص صلب بسعة (256) ميجابايت، ويعمل الكمبيوتر بنسخة كاملة من نظام تشغيل ( ويندوز( xp ويستخدم الجهاز شرائح إليكترونية تتميز باستهلاك طاقة أقل، وهو يعمل ببطارية قابلة للشحن، أو يمكن توصيله بمصدر مباشر للطاقة الكهربائية، ويضم جهاز (MCC) العديد من المنافذ الضرورية مثل منافذ توصيل بلوحة مفاتيح وفأرة وسماعات خارجية وغيرها، كما أطلقت إحدى الشركات الأمريكية المتخصصة في عالم الإليكترونيات جهازاً جديداً يجمع بين الهاتف المحمول وكمبيوتر كفي ومحدد للمواقع عبر الأقمار الصناعية وقارىء للشفرات أيضاً، على غرار إنتاج جهاز كفي شامل يجمع بين وظائف أجهزة الهاتف والكمبيوتر المحمول، ويتميز الجهاز الجديد الذي يحمل اسم (Gotive H41) بصغر حجمه ورقة سمكه رغم إمكانياته الكبيرة المتعددة، فيعمل علي شبكات( GSM) بتردداتها المختلفة، كما أنه متوافق مع تكنولوجيا (GP r S) للاتصال السريع بالإنترنت، كما أنه مهيأ للتعامل مع تطبيقات الوسائط المتعددة خاصة الرسائل القصيرة بأنواعها، كما أنه يسجل الصوت الرقمي، ويضم الجهاز شاشة بللورية ملونة كبيرة تعرض أيضاً لوحة مفاتيح كاملة يمكن التحكم بها بأصابع اليد، وهي مجهزة لاستقبال صفحات الإنترنت كاملة بلغة( HTML) أما درجة تباينها فتصل إلى (240 × )640 بيكسل، ويعمل الجهاز بنظام تشغيل ( ويندوز (CE من ميكروسوفت، كما أنه يضم العديد من البرامج التي تشغل الفيديو وملفات الصوت وتعالج الصور الرقمية مثل بوكيت وورد وبوكيت إنترنت أكسبلورر وايندكس، كما يحتوي الجهاز على معالج قوي من إنتل طراز سترونج ارم، بالإضافة إلى وجود منفذ لإدخال بطاقة الذاكرة، وفي هذا الصدد كشفت شركة كومباك النقاب عن كمبيوتر كفي جديد يضم تقنية بلوتوث اللاسلكية بصورة مدمجة مسبقاً، كما يمكن استخدامه كهاتف محمول، بالإضافة إلى أنه يضم إصدارات مصغرة من تطبيقات مايكروسوفت، والكمبيوتر الذي يطلق عليه Compaq IPAQ H3870" مزود بمعالج "إنتل سترونج آرم" بسرعة 206 ميجاهيرتز، وذاكرة بحجم 64 ميجابايت، وعلى صعيد آخر وفي إطار كل ما هو جديد في عالم أجهزة الكمبيوتر المحمولة كشفت شركة " آي بي إم " النقاب عن طراز جديد من أجهزة الكمبيوتر المحمولة يطلق عليه " آر32 ثينك باد" يتميز بشكله الفريد، ودقته العالية في الأداء، وسعة تخزين عالية، بالإضافة إلى سرعة في تنفيذ الأوامر، ومتانته وتحمله للأعمال الكثيرة، كما كشفت شركة "إيسر "Ace r النقاب عن جهاز جديد لكمبيوتر محمول يحتوي على شاشة خارجية للعرض، ويمكن الاستفادة من هذه الشاشة في أغراض العرض المختلفة في المحاضرات والندوات، ويشار إلى أن وزن الجهاز يصل إلى ثلاثة أرطال، ويمكن لبطاريته العمل لمدة ثلاثة ساعات، ومن جانب آخر أعلنت شركة " إن تي تي دوكومو" أنها ستطرح كمبيوتر محمول ذو شاشة تصل إلى ثلاثة ونصف بوصة في اليابان خلال الخريف القادم، وسيتيح الجهاز الجديد الدخول على شبكة الإنترنت بما في ذلك الخدمات الموسيقية وصور الفيديو، وسيدار الجهاز بنظام التشغيل ( بوكيت بي سي 2002)، كما سيتضمن تطبيقات( ويندوز) الخاصة بتسجيل وتخزين صفحات الويب، حتى يمكن تصفحها دون الدخول على الشبكة، كما طورت إحدى الشركات الأمريكية كمبيوتر محمول جديد خفيف الوزن وصغير الحجم أطلقت عليه اسم " جو بوك " GoBook، وهو كمبيوتر لا يتأثر بالصدمات، ويتحمل درجة الحرارة المرتفعة، ودرجات البرودة التي تصل إلى تحت الصفر، كما أن مواصفاته ككمبيوتر محمول تتفوق علي منافسيه في الأسواق، وطرحت شركة يابانية كمبيوتر محمول قابل للطي، بحيث يمكن توجيه شاشته في أي اتجاه، فإذا تم طيه يتحول إلى دفتري يتأتى للجميع حمله بسهولة، هذا بالإضافة إلى إمكانية الكتابة على شاشته بقلم إليكتروني، ويعمل بنظام التشغيل ( ويندوز 2000( وفي كوريا، أطلقت شركة (سامسونج) الكورية كمبيوتر كفي لاسلكي جديد يمكن مستخدميه من استعراض الإنترنت والتحكم بكافة الأجهزة المنزلية المختلفة، وذلك لاحتوائه على شاشة بلورية سائلة بقياس 1.5 بوصة توفر صور عالية النقاء قادرة على استعراض البيانات بنقاء يماثل نقاء العرض في أجهزة الكمبيوتر الشخصية". انتهى النقل عن المختصر.(8/305)
قلت: والآن وإن كان بعض الناس يجدون صعوبة وبطئاً في تنزيل الملفات الصوتية والفيديوية، فإن هناك تطويراً كبيراً في المعامل والجامعات والشركات لتطوير ما يسمى (إنترنت2 inte r net2) وهذه الأخيرة فائقة السرعة.
يقول الدكتور مالك بن إبراهيم الأحمد في مقال له تحت عنوان: "العولمة.. مقاومة وتفاعل، العولمة في الإعلام":
أما الإنترنت فالشبكة القادمة والتي بدأ تطبيقها في بعض الجامعات الأمريكية ستصل سرعتها إلى (1000) ميجا بيت (2000 ضعف الشبكة الحالية، و (10000) ميجا بيت في غضون بضع سنوات، هذا يعني بثاً حياً عالي النقاوة للصورة المتحركة أو الصوت (تلفاز رقمي)، أما المواد المقروءة فيمكن نقلها في غضون بضع ثوان بدلاً من الدقائق حالياً، بمعنى أن الإنسان سيمكنه مشاهدة مئات القنوات التلفزيونية بنقاوة معقولة، وهو قابع في مكتبة أمام الكمبيوتر مع العلم أن هناك تجارب لبث تلفزيوني خاص بالإنترنت (ما زالت بصيغة متخلفة عن التلفاز العادي)، علماً أن الإنترنت هي مولود أمريكي ويرعاه الأمريكان والسيطرة فيه للشركات الأمريكية (خصوصاً الكبيرة منها والتي أصلاً لها وجود إعلامي نافذ دولياً).. "
بل وصلت الولايات المتحدة إلى ما يسمى " إنترنت 6 " وهو الجيل التالي للإنترنت, وهذا خبر أنقله لك من " موقع قناة الجزيرة "www.aljazee r a.net " بتاريخ: السبت 14/4/1424هـ الموافق 14/6/2003م على النحو التالي:
"البنتاغون ينتقل للجيل التالي للإنترنت"
قررت وزارة الدفاع الأميركية إجراء تغييرات شاملة لنظام تشغيل شبكة المعلومات الدولية الإنترنت بالوزارة والمستخدم منذ حوالي 30 عاماً، وأعلن جون ستينبت مسؤول المعلومات بالبنتاغون أن خطة التطوير تهدف لربط الأسلحة الأميركية العالية التقنية وأجهزة الاستشعار الميدانية وأنظمة الاتصالات الأخرى بنظام إنترنت حديث في غضون السنوات الخمس القادمة، وأقر ستينبت بأن النظام الحالي لا يفي باحتياجات القوات الأميركية، وليس آمناً بما فيه الكفاية حيث إنه عرضة لكشف المعلومات المستخدمة في بعض الاتصالات مثل مؤتمرات الفيديو، وأضاف أن هناك عيباً آخر في نظام الإنترنت بالبنتاغون يتمثل في نظام الترقيم الشبيه بالهاتف، وقال المسؤول إن النظام الجديد الذي سيعرف باسم "بروتوكول الإنترنت 6" سيقوم بربط المكونات الرئيسية لما يعرف بشبكة المعلومات العالمية لوزارة الدفاع الأميركية والتي تتضمن أجهزة استشعار، وأسلحة، وطائرات، وأنظمة اتصالات، وقوات متصلة رقمياً، وأوضح أنه يجب أن يوضع في الاعتبار الانتقال للنظام الجديد عند إتمام أي عمليات شراء بدءاً من الأول من أكتوبر/ تشرين الأول القادم."
3 ـ التفاعلية في الإنترنت: من أسباب فتنة الإنترنت ما فيها من تفاعلية مفتقدة في وسائل الإعلام الأخرى، فأنت - في الإنترنت - تستطيع التفاعل مع المواقع التي تدخلها، وتستطيع التحاور والإدلاء برأيك وفي غرف المحاورات الصوتية والمرئية تستطيع أن تتخاطب مع من تشاء في أي وقت تشاء بأي لغة تشاء.
ونتج عن هذا هروب بعض الناس من مجتمعاتهم، والانتماء إلى الإنترنت، مما نتج عنه مرض (إدمان الإنترنت).
والمستخدم كان إذا جلس أمام التلفاز والفضائيات والمذياع والصحف فهو أمام وسائل إعلام غير متفاعلة، لا تستطيع أن تبدي لها رأيك، أو أن تنتقد وإنما أنت متلق فقط، تتقبل المادة التي تعرض لك بدون خيار، فإن لم تُردها لا تملك إلا تركها فقط، دون تغييرها أو إبداء اعتراض..!
4 ـ الاستمرارية في الإنترنت ليلاً ونهاراً:
من خطورة الإنترنت وجذبها أنها بين يديك في أي وقت وتستطيع أن تستعيد أي مادة مكتوبة أو صوتية أو فيديوية أو غيرها في أي وقت من ليل أو نهار إلا أن يرفعها صاحبها أو واضعها، فالتلفاز أو المذياع إذا عرض لك مادة ثم انتهت لا تستطيع استعادتها إلا أن تكون قد سجلتها أثناء إذاعتها أو بثها، أو يكون القائمون على المحطة قد قرروا إعادة المادة، ولو أعادوها فمرة أو اثنتين على الأكثر ثم لا تستطيع الحصول عليها، ولا بذل ما تستطيع من جهد، فالإنترنت بجميع مادتها واقفة في انتظارك في اللحظة التي تجود فيها عليها بنظرة، فهي فاتحة ذراعيها تقول: (شُبِّيك لُبِّيك أنا بين يديك)!
5 ـ ضخامة عدد جمهور الإنترنت وازدياده بصفة مستمرة, ويكفي في التدليل على هذا الكلام أن أنقل لك هذا الخبر - وإن كان قديماً نوعاً ما - من موقع " الجزيرة نت "www.aljazee r a.net "الأربعاء 9/6/1422هـ الموافق 29/8/2001م
459 مليون من مستخدمي الإنترنت في العالم
أفادت دراسة أمريكية أن عدد مستخدمي شبكة الإنترنت في العالم زاد 30 مليون شخص في الربع الثاني من العام الحالي مقارنة بالربع الأول، وأوضحت الدراسة أن عدد المستخدمين ارتفع إلى 459 مليون شخص.
وذكرت الدراسة التي صدرت عن مؤسسة نيلسون لأبحاث الإنترنت أن نسبة عدد المستخدمين من الولايات المتحدة وكندا بلغت 40% بين زوار الإنترنت في العالم، إذ انخفضت بنسبة 1% عن الربع الأول.(8/306)
وأضافت أن نسبة المستخدمين في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا ظلت ثابتة عند 27%، تليها منطقة آسيا والباسيفيك بنسبة 22% بزيادة قدرها 2% عن الربع الأول، ثم تأتي منطقة أميركا اللاتينية بنسبة 4%.
وكانت مؤسسة نلسن قد ذكرت في تقرير لها في مايو/ أيار الماضي أن كوريا الجنوبية تأتي في مقدمة الدول من حيث عدد متصفحي الإنترنت حيث أمضى الزوار هناك قرابة 42 دقيقة على الشبكة في كل جلسة تصفح على أجهزة الكمبيوتر المنزلية الخاصة بهم في أبريل/ نيسان الماضي."
وهذا خبر آخر من موقع "الجزيرة نت " أيضاً يزيد كلامي تأكيداً المصدر:الفرنسية " الخميس 23/12/1422هـ الموافق 7/3/2002م
" نصف مليار مستخدم للإنترنت من المنازل نهاية العام الماضي"
وصل عدد الأشخاص الذين لديهم القدرة على استخدام شبكة الإنترنت من منازلهم في أنحاء العالم إلى نحو نصف مليار مع حلول نهاية العام الماضي، وأشار تقرير لمؤسسة تعنى بقياسات الإنترنت اليوم إلى أن عدد متصفحي الإنترنت من المنازل قفز بنسبة 5.1% بالمقارنة مع الفترة من يوليو/تموز حتى سبتمبر/أيلول الماضيين.
وذكرت مؤسسة نلسن/نتريتنغز أن حوالي 498 مليون شخص كان بإمكانهم تصفح الإنترنت من المنازل مع نهاية عام 2001، وأوضحت المؤسسة أن أكبر معدلات الزيادة تحققت في آسيا حيث ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت من المنازل بنسبة 5.6% في الشهور الثلاثة الأخيرة من عام 2001 م مقارنة مع الربع السابق من العام.
وقد جاء الأوروبيون في المركز الثاني بمعدل 4.9% يليهم الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية بنسبة زيادة بلغت 3.5% و3.3% على التوالي، في حين احتفظت أميركا الشمالية بمكانتها كصاحبة أكبر حصة من مستخدمي الإنترنت في العالم بنسبة بلغت 40%، وبلغت نسبة الاستخدام في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا معاً 27% وآسيا 22%.
ومن بين البلدان الثمانية التي تراقبها نلسن/نتريتنغز في آسيا حققت سنغافورة أعلى معدل لتصفح الإنترنت حيث يمكن لحوالي 60% من الأسر في الدولة التي يبلغ عدد سكانها أربعة ملايين نسمة الدخول إلى الشبكة العالمية.
وحلت كوريا الجنوبية وهونغ كونغ في المركزين الثاني والثالث بنسبة 58% و56% على التوالي، وجاءت الهند في المركز الأخير بنسبة 7% فقط إذ لا يزيد عدد مشتركي الإنترنت في الهند بسرعة بسبب القلة النسبية لعدد من يمكنهم شراء أجهزة الكمبيوتر الشخصي، كما أن تكاليف الدخول للشبكة يمكن أن تكون مرتفعة بالنسبة للكثيرين. المصدر:رويترز"
_____________________________
[1] - استخدام شبكة الإنترنت في المكتبات العربية (134).
[2] - راجع: (الوظيفة الإعلامية لشبكة الإنترنت) عبد الملك الدناني (39-40).
[3] - نقلاً من: (الوظيفة الإعلامية لشبكة الإنترنت) (36).
[4] - كيف تستعمل الإنترنت: ماريتا تريتر (12).
المصدر : http://www.islamselect.com
=============(8/307)
(8/308)
الإنترنت والعولمة ( 3 )
د. محمد عبدالرحمن غنيم
ج ـ والآن وقد تعرفنا على العولمة، وكذلك على الإنترنت، فما العلاقة بين العولمة والإنترنت؟ ولماذا وكيف كانت الإنترنت أداة ضخمة من أدوات العولمة؟
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الإنترنت أداة من أدوات العولمة، ومَعْلم من معالم العولمة، فهي ثمرة العولمة، وهي داعمة العولمة، وسبب الجزم بهذه المقولات هو:
أولاً: أن الإنترنت نشأت في أحضان داعية العولمة الولايات المتحدة، بل في أحضان مخابراتها، وكانت من ضمن الأسلحة التي تعدها الولايات المتحدة هروباً من أن يوجه إليها الاتحاد السوفيتي السابق (لا رحمه الله!) ضربة نووية، فقد نشأت الإنترنت في ظل التحوطات الإستراتيجية التي اتخذتها القيادة العسكرية الأمريكية ممثلة بوزارة الدفاع إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وذلك تحسباً من احتمال تدمير أي مركز من مراكز الاتصال الحاسوبي المعتمدة بضربة صاروخية سوفيتية، مما سيؤدي بالتالي إلى شلل الشبكة الحاسوبية بكاملها، وحرمان القيادة العسكرية الأمريكية من الإسناد المعلوماتي([1]).
والحقيقة أن العلاقة بين المخابرات الأمريكية والجيش والحكومة من ناحية والجامعات والأكاديميات والشركات من ناحية أخرى علاقة غريبة وغير معتادة في عالمنا العربي، وهذه العلاقة أنتجت اكتشافات كبيرة وعظيمة أفادت الدولة الأمريكية، فالهيئات الأكاديمية كالجامعات والمراكز العلمية والبحثية لديها الخبراء والمختصون، وأجهزة الدولة والمخابرات لديها الأموال، فهذه الأبحاث تتكلف المليارات من الدولارات ولذلك لا تستطيع أن تقوم بها كلية أو جامعة أو مركز بحث فضلاً عن الشركات الخاصة والأفراد وإنما لا بد أن تدعمها دولة، وهذا ما تقوم به الحكومة في الولايات المتحدة، وهذه العلاقة جديرة بدراسة جادة تكشف أبعادها!
ثانياً: السيطرة الاقتصادية والتقنية (التكنولوجية) للولايات المتحدة على الإنترنت:
وهذا ناتج من الذي قبله، ومن الثقل الاقتصادي والتقني للولايات المتحدة، فمن الأمور المسلمة أن أمريكا هي الدولة الأولى من دون منازع في السيطرة على الجانب الاقتصادي في الإنترنت من ناحيتي حجم النشاط والتقدم التقني، ويعتبر جميع الخبراء أن تكنولوجيا المعلومات تلعب اليوم الدور الأساسي في الاقتصاد الأمريكي، واستناداً إلى إحصائيات وزارة التجارة الأمريكية فإن حصة الاستثمارات في مجال معدات التكنولوجيا الرفيعة التي تقوم بها الشركات والمستهلكون من إجمالي النمو الاقتصادي في أمريكا بلغت (38%) منذ عام (1990م) وهي لا شك في تزايد مستمر.
وهناك دور للأجهزة العسكرية والمخابرات المركزية الأمريكية في تعزيز البحث والتطوير في الإلكترونيات وعلوم الحاسوب، ويذكر شيللر في عام (1992م) الإنفاق العسكري الضخم في هذا المجال وبتوجيه من الأجهزة العسكرية عبر مختبرات الشركات والجامعات والمختبرات الحكومية، وأن (70%) من الأبحاث الأكاديمية ممولة من وزارة الدفاع([2]).
ومن أهم المؤسسات الأمريكية المعنية بالعلم والتكنولوجيا والمعتمدة على التمويل العسكري الأمريكي:
1- مكتب البحث البحري.
2- شركة رند.
3- مؤسسة العلوم الوطنية.
4- لجنة الطاقة الذرية.
ويكفيك أن أكبر الشركات المنتجة لبرامج الحاسوب والإنترنت وكذلك لأجهزتها هي أمريكية، ومنها على سبيل المثال:
1- ميكروسوفت ( Mic r osoft ) عملاق البرمجيات، وكلنا يعرف الدوز والويندوز بنسخه المتعددة، وبأنواعه الشخصي والشبكي، ومتصفح الإنترنت (Inte r net Explo r e r )، والمجموعة المكتبية من الوورد، والإكسل، والبوربوينت، والإكسس، والفرونت باج..) (wo r d, Excel, Powe r Point, access, F r ontpage,..) وغيرها من البرامج، فكل هذا وغيره من إنتاج هذه الشركة.
2- آي بي إم: إن كانت ميكروسوفت هي الشركة الأولى في إنتاج البرامج (Softwo r e)، فشركة (I.B.M) هي الأولى في إنتاج معدات الحواسيب والإنترنت (Ha r dwa r e) بل هي أول شركة أنتجت الحاسوب الشخصي المسمى (PC) فأصبح الحاسوب في يد الناس بعد أن كان لا تمتلكه إلا الشركات، وكان كبير الحجم، ويحتاج إلى طاقة كبيرة وأجهزة تبريد، فاختراعها هذا ثورة في عالم الحواسيب!.
3- ديجيتال (Digital).
4- كومباك (Compaq).
5- ماكينتوش (Machintosh).
6- ديل: (Dell).
7- إنتل: (Intell).
8- إتش بي (HP)
وغير ذلك من الشركات التي يعسر إحصاؤها أو جمعها في مثل هذا المقال!.
ثالثاً: لغة الإنترنت الأساسية هي الإنجليزية، وهي بالطبع لغة الولايات المتحدة الأمريكية، فإذا كانت (الأرض بتتكلم عربي) كما في الأغنية المصرية لسيد درويش، فالإنترنت تتكلم الإنجليزية كما في الأغنية التكنولوجية لبيل جيتس([3]) وغيره.
ويكفي أن نعرف أنه ظهر في إحصاء: (أن (88%) من معطيات الإنترنت تُبث باللغة الإنجليزية، مقابل (9%) بالألمانية، و(2%) بالفرنسية، و(1%) يُوزَّع على بقية لغات المساكين ومنها العربية!.
ولا يخفى عليك أن اللغة هي أحد عناصر الثقافة والعولمة، وأن لغة العولمة هي الإنجليزية، ويتجه أصحاب العولمة إلى جعل الإنجليزية لغة العالم.(8/309)
رابعاً: محتوى الإنترنت:
ولا شك أن النتيجة واضحة إذا كانت السيطرة على الوجه المتقدم، فمن المتوقع أن تحشى الإنترنت بثقافة العولمة بدءاً من تعظيم الثقافة الأمريكية، والحياة الأمريكية، والرجل الأمريكي، والأنماط الأمريكية في الحياة، تدرجاً إلى الدخول معهم ومشاركتهم، وكذلك فجور هذه الحضارة فهو أبرز ما أظهرته على الإنترنت، فإن صفحات العري والخزي والدعارة بصورة لا يصدقها العقل ولا تخطر ببال الصالحين، فإن الإنترنت تعد مسرحاً لهذا ولغيره من الأفكار والأطروحات الزائفة بدءاً من الدعوة إلى عبادة الشيطان ووصولاً إلى عبادة الفروج، فصورة الحياة الأمريكية والأفكار الأمريكية بما فيها من انحرافات وزيغ وبعد شديد عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وبما فيها من فسق وفجور وعبادة اللذات، وبما فيها من خمور ومخدرات وعصابات المافيا وضياع ومتاهات تُذهل العاقل، فقد أصبحت الإنترنت مكاناً لعرض هذه البضاعة بل والإغراء بها والحث على المشاركة العملية فيها، فبالله عليك كم من إنسان مسكين أضاعوه وأفسدوا فطرته وعقله وحياته، ولم يرحموا حتى براءة الأطفال فتاجروا بهم، وانتهكوا أعراضهم، وعرضوهم كما تُعرض البضائع، وإن النساء الذين يزعمون أنهم يدافعون عنهن استخدموهم كما تُستخدم أخس السلع، وعرضوهن كما يعرض الجزار ذبيحته، فيالله كم من أعراض تنتهك، وكم من مسكينة كانت تود أن يجمعها بيت مع زوج تحبه وتحترمه فأصبحت تُقَّلب من يد إلى يد كما تُقلب أحقر البضاعة، وماذا أقول؟ إن ما يفعلونه يندى له جبين البشرية، فوالله لا أملك إلا أن أقول: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل) فوالله إن الأنعام لأشرف من هؤلاء الذين وصلوا إلى هذا الدرك السحيق مما لا تُسعف اللغة على وصفه..!
قال الدكتور مشعل بن عبدالله القدهي في بحثه المعنون بـ(المواقع الإباحية على شبكة الإنترنت وأثرها على الفرد والمجتمع ): "انتقال الداء إلى الإنترنت وتوغله في المنازل:(8/310)
إن حجم الإقبال على شبكة الإنترنت يتضاعف تقريباً كل مئة يوم، حيث صرحت وزارة التجارة الأمريكية بأن عدد الصفحات في النسيج العالمي بلغ 200 مليون صفحة في نهاية عام 1997 و440 مليون صفحة في نهاية عام 1998، وأن عدد رواد النسيج بلغوا 140 مليون في عام 1998م، ولقد أقر هذا العدد شركة جنيرال ماجيك ومجلة تايم، ولكن هناك من يرى أن هذا العدد فيه تحفظ، وأن العدد الحقيقي للصفحات في عام 1998 قد بلغ 650 مليون صفحة، ويتوقع لهذا العدد أن يزداد إلى 8 مليار في عام 2002م([4])، وعدد الصفحات الإباحية في الإنترنت تقدر بنحو 2.3% من حجم الصفحات الكلية في الإنترنت، وهذا العدد يُعدُّ صغيراً نسبياً إلا أنه لا يعطي الصورة الحقيقية لحجم المشكلة، وكمثال على ذلك يمكن أن يكون في مدينة واحدة مئة سوق ولكن أكثر الناس مقبلون على سوق واحد بين هذه المئة، وبالفعل نجد الأرقام تعضد هذه النظرية، فشركة (Playboy) الإباحية مثلاً تزعم بأن 4.7 مليون زائر يزور صفحاتهم في الأسبوع الواحد، وقامت بعض الشركات بدراسة عدد الزوار لصفحات الدعارة والإباحية في الإنترنت فوجدت شركة (WebSide Sto r y) أن بعض هذه الصفحات الإباحية يزورها 280034 زائر في اليوم الواحد، وهناك أكثر من مئة صفحة مشابهة تستقبل أكثر من 20000 زائر يومياً وأكثر من 2000 صفحة مشابهة تستقبل أكثر من 1400 زائر يومياً، وإن صفحة واحدة فقط من هذه الصفحات قد استقبلت خلال سنتين 43613508 زائر، وإن واحدة من هذه الجهات تزعم أن لديها أكثر من ثلاثمائة ألف صورة خليعة تم توزيعها أكثر من مليار مرة، ولقد قام باحثون في جامعة كارنيجي ميلون بإجراء دراسة إحصائية على 917410 صورة استرجعت 8.5 مليون مرة من 2000 مدينة في 40 دولة فوجدوا أن نصف الصور المستعادة من الإنترنت هي صور إباحية وأن 83.5% من الصور المتداولة في المجموعات الأخبارية هي صورٌ إباحية، وفي عملية إحصاء أجرتها مؤسسة زوجبي (Zogby) في مارس عام 2000 وجد أن أكثر من 20% من سكان أمريكا يزورون الصفحات الإباحية، ويقول الباحث ستيف واترز أنه غالباً ما تبدأ هذه العملية بفضول بريء ثم تتطور بعد ذلك إلى إدمان مع عواقب وخيمة كإفساد العلاقات الزوجية أو تبعات شرٍ من ذلك، وقد وجد التجار صعوبة فائقة في جمع الأموال عن طريق صفحات النسيج العالمي إلا في شريحة واحدة وهي شريحة صفحات الدعارة فإنها تجارة مربحة جداً، ويقبل الناس عليها بكثرة، ولو اضطروا لدفع الأموال الطائلة مقابل الحصول على هذه الخدمة، وفي سنة 1999 بلغ مجموع مشتريات مواد الدعارة في الإنترنت 8% من التجارة الإلكترونية والبالغ دخلها 18 مليار دولار، كما بلغ مجموع الأموال المنفقة على الدخول على الصفحات الإباحية 970 مليون دولار، ويتوقع أن ترتفع إلى 3 مليار دولار في عام 2003، وهذه الصفحات تتكاثر بشكل مهول تبلغ مئات الصفحات الإباحية الجديدة في الأسبوع الواحد، كثير منها تؤمن هذه الخدمة مجاناً، ولقد صرحت وزارة العدل الأمريكية قائلة: "لم يسبق في فترة من تاريخ وسائل الإعلام بأمريكا أن تفشى مثل هذا العدد الهائل الحالي من مواد الدعارة أمام هذه الكثرة من الأطفال في هذه الكثرة من البيوت من غير أي قيود"، كما تفيد الإحصاءات بأن 63% من المراهقين الذين يرتادون صفحات وصور الدعارة لا يدري أولياء أمورهم طبيعة ما يتصفحونه على الإنترنت، علماً بأن الدراسات تفيد أن أكثر مستخدمي المواد الإباحية تتراوح أعمارهم ما بين 12 و17 سنة، والصفحات الإباحية تمثل بلا منافس أكثر فئات صفحات الإنترنت بحثاً وطلباً "اهـ. نقلاً من موقع " الإيمان "www.aliman.o r g
خامساً: الحرية التي تغوص وتغرق فيها الإنترنت:
كسرت الإنترنت حاجز الرقابة التي تفرضها الدول على وسائل الإعلام كالتلفاز والمذياع والصحف وغيرها، فإذا أردت أن تنشئ موقعاً أو ألف موقع على الإنترنت، فلن تحتاج إلى تصريح، ولن تمر على مئة موظف لتحصل على تواقيعهم المباركة!، كل ما في الأمر احجز مساحة في أي خادم (Se r ve r ) في الدنيا، ثم بث ما تشاء، ويستطيع أن يستقبل بثك كل الناس، صحيح أن بعض الدول مازال لديها ما يسمى بالبروكسي أو التصفية (أو الفلترة) (Filte r ) ولكن هي في الغالب ضعيفة، ويستطيع المستخدم المتمرس للإنترنت أن يتجاوزها، ثم إن هذه التصفية (أو الفلترة) سيتم الضغط على الدول التي تقوم بها من قبل أصحاب العولمة حتى تلغيها بحجة حرية الشعوب أو تحرير الاقتصاد أو... أو... أو حتى بحجة اعتراض الحمير وقيامهم بمظاهره في جمهورية موزمبيق الغربية أو في القطب الشمالي أو في بلاد تركب الأفيال..!(8/311)
وبسبب الحرية التي تتمتع أو تعاني منها الإنترنت أضحت حياة الناس الشخصية ناهيك عن العامة عرضة للانتهاك والاقتحام على الإنترنت، فيمكن بالإنترنت الكشف عن أسرار الناس على نحو لم يسبق له مثيل مثل حساباتهم وحالتهم الصحية وحياتهم الخاصة، وهكذا طُرحت حرية الإنسان في إطار جديد، واختلت العلاقة بين الأشياء الخاصة للإنسان والأمور العامة، وهناك مخاطر أخلاقية للإنترنت من حيث وجود أخبار ومعلومات وأفلام خليعة أو إرهابية أو متصلة بالمخدرات أو البغاء، وهناك قضايا وحوادث وجرائم كثيرة حدثت خلال الفترة الماضية بالإنترنت، فمثلاً قام مجموعة من الأشخاص أطلقوا على أنفسهم أعضاء (طائفة بوابة السماء) في مدينة كاليفورنيا الأمريكية عام (1997م) بارتكاب عملية انتحار جماعية، أدت إلى وفاة (39) عضواً من خلال موقع قاموا ببنائه بالإنترنت تحت اسم (Heaven Gate) أي: بوابة السماء ـ بزعمهم ـ للتواصل مع جماعات أخرى متشابهة، واستغل زعيم الطائفة الإنترنت لغسل دماغ أتباعه، ومنها: تعرضت شركة (ميموري إكسبريس) البريطانية المتخصصة في بيع شرائح ذاكرة الكمبيوتر لحادثة اختلاس بالإنترنت، عندما تلقت طلباً لشراء شرائح من شركة تقيم موقعاً لها بالإنترنت، لتكتشف بعد ذلك أن الشيكات التي تم بموجبها تسديد ثمن السلع من دون رصيد، وخسرت بذلك نحو (45000) دولار أمريكي([5]).
وهذه الجرائم تستطيع أن تطالع منها المزيد بصفة مستمرة في مجلات الحاسوب والإنترنت مثل مجلة (لغة العصر) المصرية، ومجلة (إنترنت العالم العربي) الإماراتية، فقد كُتب في الأخيرة مقالات باسم (عالم إنترنت السفلى) (جرائم إنترنت) وغير ذلك من المجلات، وكانت وما زالت مجلة (لغة العصر) تقدم قصة جريمة من جرائم الإنترنت في كل عدد (شهرياً).
ولقد كانت هناك قضيتان، وهما قضية (الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران) وأنه حكم فرنسا مدة (14) عاماً وهو مصاب بالسرطان وأن له ابنة من الزنا تسمى (مازارين)، وقضية (الرئيس الأمريكي كلينتون وعلاقته مع مونيكا) هاتان القضيتان تكتَّم عليهما الإعلام في البداية، بل في قضية ميتران كان هناك حكم من المحكمة يمنع النشر، ولكن لم يمر أسبوع حتى كانت القضية معروضة على الإنترنت، ولم تستطع المحاكم أن تطبق عليها قرار المنع، وقد اعتبر نشر تقرير المحقق (كينث ستار) في الإنترنت (وهو التقرير الخاص بفضيحة كلينتون) اعتبر ذلك بأنه اللحظة الفاصلة لبلوغ الإنترنت المدى في الحرية، وأنها سوف تكشف للعالم كل الوقائع بلا تزيين، وبلغ عدد الأمريكيين الذين تابعوا تقرير المحقق (ستار) على الإنترنت عشرين مليوناً من الأمريكيين([6]).
ولا شك أن هذه الحرية على ما فيها من المفاسد إلا أنها كسرت احتكار الوكالات اليهودية لبث الأخبار، ويمكن أن تخدم هذه الحريةُ الدعوة إلى الدين الحق (الإسلام)، وهو ما سنتعرض له فيما بعد - إن شاء الله -!
(سادساً) استخدام الإنترنت في الأعمال التجارية:
لا شك أن العولمة الاقتصادية هي من أقوى أجنحة العولمة، والإنترنت تعتبر دعامة من دعامات العولمة الاقتصادية، ولذلك نشطت التجارة الإلكترونية وأصبحت الإنترنت من وسائل التبادل التجاري والترويج للسلع المختلفة، متخطية الحواجز والرقابة المفروضة من قبل بعض الدول، وتقدر الأرقام التجارية التي تحققت عام (1997م) بواسطة الإنترنت بنحو (875) مليون دولار، ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى (175) مليار دولار في عام (2002م)([7]).
ولذلك حرصت كل شركة على تواجدها على الإنترنت، بل بعض الشركات لا وجود مادي لها في الحقيقة، إلا أنها موجود في الفضاء السيبري (Cype r space) أي على الإنترنت، ولقد حققت بعض الشركات مليارات الدولارات على الإنترنت مثل شركة أمازون (www.amazon.com) وشركة ياهو (www.yahoo.com)، وجوجل (www.google.com)، وشركة إي باي (www.ebay.com) وغيرها من الشركات التي استفادت من الإنترنت.
سابعاً: إضعاف الإنترنت سيطرة الحكومات على شعوبها:
من الأهداف المتأخرة للعولمة إنشاء حكومة أو دولة عالمية واحدة، أو بمعنى آخر إضعاف بنية الدولة الحديثة في مختلف أنحاء العالم حتى تستطيع الدولة رائدة العولمة أن تتحكم في أحوال الدول الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بل والعسكرية، يقول الدناني في (الوظيفة الإعلامية للإنترنت)(120): (... يمكن أن تضعف (أي الإنترنت) الأنظمة الحاكمة في دول العالم، وقد فسر ذلك المفكر الأمريكي من أصل ياباني (فرنسيس) من خلال تسريب معلومات سرية عنهم، وهذا من أبرز نتائج ثورة الاتصالات الحديثة)، ومن أمثلة ذلك مجلة "عرب تايمز" على الإنترنت فإنها متخصصة في الكلام على الحكومات والرؤساء والوزراء والأمراء وغيرهم من علية القوم، وفيها ما هو كذب..!
ويقصد بالمفكر الأمريكي فرنسيس فوكاياما صاحب كتاب (نهاية العالم والإنسان الأخير) والذي بشر بالعولمة، وزعم أنها هي التطور الأخير الذي كانت تسعى إليه البشرية جمعاء على مدار الأزمنة، وأن الرأسمالية أصلح وأفضل ونهاية الأدوار!.(8/312)
عزيزي القارئ ـ هذا هو الوجه الأسود للإنترنت، فهل لها وجه أبيض، وهل يمكن أن نقلب السحر على الساحر، ونستخدم الإنترنت بعكس ما أراد لها صانعوها؟ وهذا موضوع مقالنا القادم - إن شاء الله -، وهو: (الدعوة إلى الله في الإنترنت).
______________________________
[1] - راجع تكملة القصة والتطور بعد هذه البداية في: (شبكة إنترنت) مصطفى السيد (19-21)، و(شبكة إنترنت) بهاء شاهين (8)، و(الوظيفة الإعلامية) للدناني (43-48).
[2] - الإعلام العالمي: فارس أشتي (104).
[3] - بيل جيتس: رئيس مجلس إدارة شركة ميكروسوفت، وأغنى رجل في العالم، ونموذج من نماذج الرأسمالية الأمريكية الصارخة! وتبلغ ثروته (58) مليار دولار ! هل تستطيع عدها, وقد قام بعض هواة الإنترنت بعمل مواقع للكلام على ثروة بيل جيتس!
[4] - ونحن الآن في عام (2004م)، فماذا يكون حجم الإنترنت؟!
[5] - راجع: (الوظيفة الإعلامية لشبكة الإنترنت) (118-119).
[6] - مجلة (المشاهد السياسي) عدد (137) (13/10/1998م).
[7] - راجع: (الوظيفة الإعلامية لشبكة الإنترنت) (112-113).
المصدر :http://www.islamselect.com
============(8/313)
(8/314)
رمضان يتحدى العولمة
د. نهى قاطرجي
رمضان جديد يطل على أمة الإسلام وأهل الإسلام في مزيد من التقهقر والانقسام نتيجة الأحداث السياسية الجارية في العالم، فبين فريق مؤيد للقوى الدولية التي تفرض نفسها إلهاً جديداً على الدول والشعوب تحكمهم وتخضعهم لسياساتها وتتدخل في شئونهم الداخلية، وبين فريق آخر رافض لسياسة الذل والمهانة وما يتبع ذلك من إلغاء للشخصية الإسلامية الحرة التي لا تؤمن إلا بوجود رب واحد يحكم هذا الكون وفق دستور وسنن ثابتة.
وفي ظل هذا التناقض تفكرت في رمضان هذا العام ورأيت فيه معانٍ جديدة لم تظهر لي سابقاً، ورأيت في هذا الشهر خطاباً جديداً متحدياً يمكن أن يستنبط منه إثبات جديد على وحدانية الخالق ونفاذ حكمه على العالم الذي أوجده.
وخطاب التحدي هذا لا ينحصر في رمضان وحده بل يمكن للمتفكر أن يلحظه في كل العبادات على الإطلاق، وإن كان في رمضان أكثر وضوحاً، فإذا تفكرنا في الحج مثلاً نجد في مظاهر الانقياد والأخوة والتعاون لإرادة الله - سبحانه و تعالى - تحدياً للعولمة التي تدعو إلى الفردية ونبذ الآخر، إلا أن هذا التعاون لا نلمسه عند المسلمين كافة وذلك لكون هذه العبادة غير مفروضة إلا على من استطاع إليها سبيلاً.
أما عبادة الصوم في رمضان فإنها تتميز بتنوع العبادة وشموليتها، ويتجلى هذه التنوع بصيام الليل وقيام النهار والصدقة والتعاون وغير ذلك مما سيتم الحديث عنه لاحقاً إن شاء الله - تعالى -، كما تتجلى الشمولية في قدرة هذا الشهر على توحيد المسلمين في أنحاء العالم كافة، وتجديد ولائهم، حتى العصاة منهم، لله الواحد مثبتين بذلك عالمية الإسلام التي لا يمكن أن ينافسه فيها أية عقيدة أو فكر بشري مهما بلغت درجة رقيها وتقدمها.
من هنا جاءت خواطري هذه حول كيفية تحدي رمضان للعولمة.
ففي رمضان إثبات لحاكمية الله - سبحانه و- تعالى - على العباد، فالمسلم في هذا الشهر يجدد انتماءه لله الواحد القهار، الحاكم بأمره، السّان لكافة القوانين الدنيوية والأخروية، المرتكزة على قاعدتي الطاعة والعبادة، لقوله - تعالى -: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)، الذاريات: 56-57، والمبنية على حرية الاختيار التي لا تحرم المختار حقه في التمتع بالحياة الدنيوية مع تحمله لما يترتب على ذلك من ثواب وجزاء وذلك على القاعدة المستقاة من قوله - تعالى -: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي): البقرة: 256.
وهذا الأمر هو على نقيض حاكمية العولمة التي تفرض سيطرتها على الإنسان بالقوة والإكراه، فارضة عليه طاعة قوانين وضعية لا تؤمن له أدنى مستويات العيش الكريم من جهة، وتساعد غيره على إحكام سيطرته على موارده البشرية والمادية من جهة أخرى، وذلك دون أي مقابل لهذه الطاعة اللّهم إلا مزيداً من الانكسار والذل والحرمان.
وفي رمضان أيضاً تحد كبير للعولمة الفكرية التي تبث أفكاراً غربية تروج لفكرة التمتع بالشهوات المادية والجسدية دون أية ضوابط أو تحمل للمسئولية، مدّعين أن إطلاق العنان للشهوات يساعد على حصول الإنسان على حريته وسعادته، في حين أن الصوم يثبت أن السعادة والحرية الحقيقيتين لا تكون بالتمتع بالشهوات بل في الترفع عنها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال:"ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، و ثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه"، رواه الترمذي.
لهذا جاءت أقوال بعض العلماء في الماضي والحاضر تؤكد على أن السعادة ليست في التمتع بالشهوات وإنما في ضبطها ووضعها الموضع الصحيح الذي لا يحط من إنسانية الإنسان، فقد قال أحد علماء الإسلام:"إن السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه". وأكبر دليل معاصر على عدم وجود ترابط بين المادة والسعادة ما أشار إليه أحد علماء الغرب وهو"روبرت رايت الباحث في جامعة بنسلفانيا"من أنه لا تلازم بين مسار المال والرخاء المادي مع السعادة،إذ تبين أن الدول الفقيرة أكثر سعادة من الدول الغنية التي تتمتع بكل أسباب الرفاه المادي.
وفي رمضان أيضاً تحد كبير للعولمة الاقتصادية التي تسعى لفرض نظام موحد قائم على الفردية ونبذ الآخر وإغراقه بالديون والضرائب التي تزيده تبعية وفقراً في الوقت نفسه الذي تزيده هو استغلالاً وغنى، وهذا الكلام ينطبق مع الفكرة"الأساسية للرأسمالية التي تقوم على القول بأنه من لا يستطيع كسب قوته ينبغي أن يموت!!! وهناك أصوات في الغرب الاقتصادي تنادى بأن المليار من فقراء العالم الثالث، كما يطلق على المجتمعات ذات الاقتصاد المتخلف، زائدون عن الحاجة لذا يجب الخلاص منهم لأن البقاء هو للأقوى".
لهذا جاء الصوم في هذا الشهر لينقد هذه النظرية وليثبت حق الفقير بمال الغني إن كان عن طريق الصدقة أو عن طريق الزكاة، فقال - تعالى -: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)، الذاريات، آية 19. وقال أيضاً: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)،التوبة، 103.(8/315)
هذا ويوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسؤولية التي تقع على عاتق المؤمن بتوجيهه للمؤمن أن يتصدق بفضل ماله على أخيه، فقال صلى الله عليه وسلم :"من كان معه فضل ظَهر فليَعُد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له"رواه مسلم.
وإذا كان هذا الحكم عاماً في كل الأوقات فهو أشد رسوخاً في شهر رمضان حيث تكثر فيه الأحاديث التي تشجع على إفطار الصائم والتصدق على الفقراء والمساكين، وقد ورد في السنة النبوية الشريفة عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواداً وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان يأتيه جبريل فيتدارسان القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"، رواه البخاري.
هذا من ناحية الصدقة وإطعام الفقير والسكين، أما بالنسبة للزكاة فإن في قيام كثير من المسلمين بأداء فريضة الزكاة في مثل هذا الوقت من كل عام مساهمة في رفع الضيم عن الفقير وابن السبيل ومساهمة في إعمار وتنشيط بعض المرافق الضرورية من أجل رفع مستوى حياة المسلم وإشعاره بإنسانيته.
وفي رمضان أيضاً تحد آخر للعولمة الاجتماعية التي تسعى إلى عزل الإنسان عن أسرته ومجتمعه، فيأتي الاجتماع العائلي على الطعام ليوحّد العائلة المفتتة من جديد، وليظهر تمسك المسلم بنظامه الاجتماعي القائم على حب أفراد العائلة لبعضهم البعض، وسعيهم لمرضاة رب العالمين وحده الذي حدد لهم أهدافهم في الحياة.
فإذا أخذنا المرأة التي هي ركن البيت المسلم نجدها في رمضان أكثر تحدياً لنظام العولمة الذي يحاول ان يفرض عليها مبادئه الداعية إلى رفض نظام الأسرة التقليدي القائم على القوامة والطاعة وما إلى ذلك من مفاهيم تسعى إلى تقويض بنى الأسرة، فنجد المرأة في هذا الشهر مهما كان انشغالها تسعى إلى تأمين اللقمة الطيبة لعائلتها دون أي مبالاة بمن يجد في العمل المنزلي إنقاصاً لكرامتها.
وإذا أخذنا الزوج ورب الأسرة وجدنا في اجتماعه اليومي بأسرته وتركه العمل والجري وراء لقمة العيش تأكيداً على مبدأ المودة والرحمة التي تبنى عليها الأسرة المسلمة، وينعكس هذا اللقاء اليومي لمدة شهر راحة واطمئناناً على أفراد الأسرة وخاصة الأولاد الذين قد يعانون من قلة هذه اللقاءات خلال السنة، وصدق الشاعر حين قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلّت أو أباً مشغولا
كما تأتي العلاقات الاجتماعية بين أفراد المسلمين وتزاورهم وتوادهم في رمضان، لِيُثبت أهمية تماسك المسلمين فيما بينهم وتراصهم الذي حث عليه الإسلام، ويتجلى هذا الأمر في تصرفات المسلم المتنوعة، والتي منها:
1- امتلاء المساجد ودور العبادات بالمسلمين من مختلف الأعمار والجنسيات مثبتين المساواة بين المسلمين كافة، قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -:"الناس سواسية كأسنان المشط لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى"، ومثبتين أيضاً تمسكهم بالجماعة التي بيّن فضائلها رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بقوله:"ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان. فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، رواه أبو داود.
2- امتناع المسلم عن إيذاء أخيه المسلم أو الإساءة إليه ولو بالكلمة، وقد جاء هذا النهي على لسان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - الذي قال:"إذا كان أحدكم صائماً، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم"، أخرجه مسلم.
3- مسارعة المؤمن إلى إدخال الفرح والسرور على قلوب الآخرين عبر أي عمل خيري تطوعي، وإن كان عن طريق إطعام الضيف في رمضان، كل ذلك بهدف اكتساب الثواب في الدنيا والآخرة، قال - عليه الصلاة والسلام - مبيناّ فضل من فطّر صائماً:"من فطّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئ"، رواه الترمذي.
هذا وقد بين الشهيد سيد قطب فرح الإنسان وسعادته بعطاء الآخرين بقوله:"بالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف الذي نجده عندما نستطيع أن ندخل العزاء أو الفرح إلى نفوس الآخرين".
هذا الفرح بالعطاء أثبته علماء الغرب ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يحدّدون هذا العطاء بدولارات قليلة وذلك تخفيفاً لعقدة الذنب التي قد يمكن أن يشعروها تجاه الفقراء، وقال"روبرت رايت": إذا وجدت أنك لا تستطيع النعاس حزناً على حال عمال أُغلق مصنعهم في سري لانكا وأصبحوا بلا عمل نتيجة لبطء طفيف طرأ على العولمة، هناك سبل يمكن اتباعها لتخفيف إحساسك بالانزعاج من ذلك، ومن هذه السبل أن تتبرع ببعض النقود للمؤسسات الخيرية التي توزع الطعام والغذاء على الشرائح الأشد فقراُ في العالم".
http://www.saaid.net المصدر:
-============(8/316)
(8/317)
في محاولة لنقد خطاب العولمة
د. سالم آل عبد الرحمن
على الرغم من مظاهر الاتفاق والتعاون المكثفة بين الولايات المتحدة وأوربا في المجالات السياسية والاقتصادية إلا أن حدة التنافس بين أوربا مجتمعة وأمريكا تظهر بشكل حاد في السباق الاقتصادي والتجاري وامتلاك النفوذ الأوسع في حركة الاقتصاد العالمي..
فيظهر الوطن العربي من بين أبرز مناطق التنافس.. فأوربا تحاول جذب الوطن العربي إلى مشروع تعاوني في إطار سياسة عولمة الاقتصاد يسمى مشروع دول (البحر المتوسط)، حيث عقد لهذا المشروع مؤتمر في (برشلونة) بقصد تأسيس مشاريع تعاونية أوربية - متوسطية مع الدول العربية الواقعة على البحر المتوسط في مقابل كل دول أوربا، وفي ذلك تسعى أوربا لإبعاد الولايات المتحدة عن الدخول في هذه المشاريع.
بالمقابل تسعى الولايات المتحدة لإقامة (السوق الشرق أوسطية) لتتأكد من خلالها السيطرة والحضور الأمريكيان لما لهذه السوق من تأثيرات على التكتلات الدولية أو الإقليمية الأخرى.
فالولايات المتحدة ووفقاً لمنطق مصالحها وأهدافها المرغوبة لا تريد التفريط بالمنطقة التي ورثتها وفق منطق الهيمنة عن الاستعمار البريطاني والأوربي في آسيا وأفريقيا منذ نهاية الخمسينيات.
على هذا الأساس فإن دول المجموعة الأوربية تدرك أبعاد الاستراتيجية الأمريكية فلم تكن متحمسة لقمة عمان في إطار (مشروع الشرق أوسطية) ذلك لأنها ستضع إمكاناتها المالية في خدمة المصالح الأمريكية دون منافع، فجاء رد الفعل الأوربي لأجل مواجهة التنافس الأمريكي بعد أقل من شهرين من عقد مؤتمر عمان.
إن الموقف الأمريكي لا يزال مصمماً في تحقيق السبق عبر مشروعه في (الشرق أوسطية) بالاستفادة من المشاكل الاقتصادية والسياسية التي لا يزال الاتحاد الأوربي يواجهها.. ذلك لأن التفكير الأمريكي رغم التظاهر بالتأييد للاندماج الأوربي إلا أن حقيقة الأمر تؤكد بأن الولايات المتحدة تسعى في إطار الشرق أوسطية إلى احتواء أوربا ومنعها من التحول إلى قطب وقوة عالمية قادرة على إعادة الحركة لمبدأ توازن المصالح والقوى الذي أصابه الجمود بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.
ورب سائل يسأل ما هي المظاهر والسياسات التي يقاس فيها على قضية السعي الأمريكي لاحتواء الاندماج الأوربي؟.
وأمر بات واضحاً في ذلك الهدف الأمريكي من خلال الإصرار على هامشية الدور الأوربي فيما يسمى بعملية السلام في الشرق الأوسط سواء في مسار المفاوضات الثنائية أو في التحضيرات لاجتماعات القمة الاقتصادية وإداراتها.. وتبرز هذه المظاهر بشكل جلي في تعمد الولايات المتحدة التعامل مع قضية البوسنة والهرسك وإيرلندا بناء على مبادرات أمريكية والتوصل إلى اتفاقية تحت الإشراف الأمريكي علماً بأنها أزمات في القارة الأوربية.
إذاً فإن الهدف من التواجد العالمي الأمريكي وخصوصاً في أوربا إنما هو رسالة للأوربيين بأن الولايات المتحدة هي القوة العالمية القادرة على ضمان الأمن والسلام العالميين ليس في منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط ولكن في أوربا أيضاً.
وبشكل عام فإن الأنظار الأوربية الطامحة نحو الجنوب في كل من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا تحاول جعل النشاط الأوربي مع العالم الخارجي يتجه نحو الجنوب وليس شرق أوربا، فالتفكير الأوربي يتجه نحو تشكيل سوق لدول البحر المتوسط مع الاتحاد الأوربي تشمل كل دول أوربا بالانفتاح على الأقطار العربية (لبنان، سورية، فلسطين، مصر، تونس، ليبيا، الجزائر، المغرب، موريتانيا، والأردن).
وقد عبر عن الشعور بحدة التنافس الأوربي الأمريكي وزير الخارجية الفرنسي في قمة (برشلونة) حيث قال: إن ثقل الولايات المتحدة جعل المتوسط بحراً خاضعاً للنفوذ الخارجي وللمرة الأولى.
لذلك تسعى أوربا جاهدة لإقناع مجموعة من الأقطار العربية لتشكيل مؤسسات السوق تحت مظلة الفضاء الأوربي الذي يضم بلدان الاتحاد الأوربي الخمسة عشر بلداً ومعها شركاء المتوسط الاثني عشر بلداً، والعولمة الاقتصادية لإمكانات الدول الداخلة في المشروع (البحر متوسطية) حسب المنطق الأوربي، فهي منطقة تجارة حرة لأربعين دولة بـ (800) مليون نسمة، إضافة إلى معالجة شؤون الأمن والهجرة، و (الإرهاب)، وانتشار أسلحة الدمار الشامل وتنظيم شؤون التجارة ومشاريع النفط والغاز ودعم (الديموقراطية)، ودعم (حقوق الإنسان) بحيث ينتظم ذلك كله في ميثاق ومؤسسات على شاكلة (مؤتمر الأمن والتعاون الأوربي).(8/318)
وعموماً فإن الرغبة الأوربية ما زالت تصطدم ببعض العراقيل التي من شأنها أن تجعل المشروع مجرد دعاية ودعوة إعلانات، وذلك بسبب صعوبة تحديد الإطار الجغرافي الذي يشمل الأطراف المعنية بالمشروع، فأحياناً يفهم بأن المشروع موجه إلى دول الاتحاد المغاربي (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، وموريتانيا)، في مقابل أسبانيا وفرنسا وإيطاليا ومالطا والبرتغال من أوربا، وأحياناً يشمل المشروع كل الأقطار العربية، فضلاً عن كون المشروع لم يبلغ من التفاعل والاتصالات سوى تبادل الآراء، كما لا توجد أي من القوى الأوربية الكبرى التي تدعمه بعكس دعم المشروع الشرق أوسطي من قبل الولايات المتحدة وعدد مهم من دول المنطقة. كما أن الدراسات في المشروع الشرق أوسطي ودراسات الجدوى لا بل تحديد المشاريع المقترحة والأرصدة وتسمية البنوك قد تمت الإشارة إليها في مشروع الشرق أوسطي.
وتحاول أوربا إقناع الأقطار العربية لتحويل التعاون الثنائي المشتت إلى شراكة ثابتة ومنظمة في إطار هيكلي يقوم على التبادل الحر، ورغم أن تأثيرات هذا التبادل سلبية على الأقطار العربية في المرحلة الأولى، ولكن - حسب الرؤية الأوربية - وعلى المدى البعيد يسمح بتخفيف أسعار وكلفة المواد المستوردة خصوصاً في مجال التصنيع، وترغب أوربا الأقطار العربية بفتح الباب أمام الاستثمارات الأوربية التي تؤدي إلى النمو الاقتصادي، فتحاول أوربا تبعاً لذلك إغراء الأقطار العربية بتقديم مبلغ بالعملة الأوربية يوازي سبعة بلايين دولار مساعدات موزعة على خمس سنوات لـ (12) دولة تضم: (تركيا، إسرائيل، قبرص، ومالطا، إضافة إلى الأقطار العربية) ومبلغ آخر يوازي المبلغ المذكور قروضاً يحددها البنك الأوربي، وهذه العملية تهيئ لأوربا استعادة دورها المفقود في المنطقة وتحويل الشراكة الاقتصادية لاحقاً إلى شراكة سياسية وأمنية.
ومن خلال التمعن والمقارنة بين (الشرق أوسطية) و (البحر أوسطية) نجد بوضوح حدة التنافس القائمة بين الولايات المتحدة وأوربا.. وفي نتيجتها النهائية وأهدافها بعيدة المدى فإن تلك المشاريع تؤدي إلى تشكيل وضع جديد في خارطة الوطن العربي بحيث ينفصل المغرب العربي عن عمقه في أقطار المشرق العربي.
وسواء كانت صيغة العولمة الاقتصادية للمنطقة بتأسيس التكتلات العالمية الاقتصادية نوعاً من التنافس أو نوعاً من الاقتسام فإنها تستهدف بلا أدنى شك النظام العربي - الإسلامي وتحويله من نظام قائم على الركائز الحضارية والثقافية والدينية إلى مجرد نظام يتحور وفق النظريات الاقتصادية وبالتالي تحويل شعبه إلى مجرد ناطقين باللغة العربية.
إن سياسة (العولمة) الاقتصادية في المنطقة تظهر بوسائلها التشطيرية التي تجزئ الوطن العربي بأشكال جديدة (فوق ما هو عليه الآن!) بحيث يصعب على المدى البعيد إعادتها في إطار التوحد والاندماج على المستوى العربي الإسلامي، وبذلك فإن فلسفة المشاريع هذه تؤدي إلى انقسام العرب بين فضاءين متنافسين هما: الفضاء الأوربي الذي يضع تحت جناحيه الأقطار في المغرب العربي، والفضاء الأمريكي والذي يسيطر على أقطار المشرق والخليج العربي، وبذلك تصبح الأقطار العربية في الجزء الغربي منافسة للأقطار العربية في الجزء الشرقي.. في إطار التنافس الدولي الأوربي الأمريكي.. مما يعني وعلى المدى البعيد استهداف كل ما تبقى من عناصر قوة هذه الأمة وتشتيت طاقاتها وإمكاناتها.
إننا بحاجة إلى المشروع العربي - الإسلامي النهضوي الذي يعتمد المصالح الشاملة العليا، وينطلق من أرضية الحد الأدنى للمرونة الواقعية التي تؤكد على الثوابت العقائدية، وتتمسك بمتطلبات الحد الأدنى من الحضور والنهوض العربي الإسلامي المشترك.
إننا بحاجة إلى استراتيجية جديدة قوية نستطيع بفضلها أن نصل إلى مستوى جديد من القدرة على أن نسوس التغيير.. وفق عقيدة تؤمن بأن الصعوبات و(التحديات) يجب أن تحفزنا على التحدي لا أن يصيبنا الشلل، والفتور!.
إننا بحاجة إلى تخطي حالة الإحباط، وتفجير عناصر القوة في مجتمعنا العربي المسلم وفي عقلنا المركب لتجاوز المعوقات (الذاتية والموضوعية) من غير انضواء تحت هذه الخيمة أو تلك (ولا شرقية ولا غربية) ولنصمم مشروعنا الريادي الآن في سويعات الأيام المتبقية أمامنا.. للعمل الموحد بعد أن نؤمن بأهمية الابتعاد المطلق عن دوائر التنافس الدولي المتسارع اليوم، وبأهمية انبثاق التعاون العربي - الإسلامي وبأسرع ما يمكن، ذلك لأن عملية التكافؤ في المصالح لا يمكن ضمانها إلا في إطار ذلك التعاون والذي يمكن أن يظهر بصيغة (سوق عربية إسلامية) قادرة على المنافسة وفرض المطالب التنافسية في الفضاءات الخارجية والتكتلات الاقتصادية، وبذلك تضمن الأمة عنصر وحدتها وإرادتها في الاختيار والقرار.
ذو الحجة 1420 / مارس (آذار) 2000
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
===========(8/319)
(8/320)
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العالم
حسن الرشيدي
إذا انتظرنا إلى أن يتحقق التهديد فسننتظر طويلاً.
هذا قول بوش أمام البرلمان الألماني يستعجل إطلاق ما اسماه باستراتيجية الضربات الوقائية، وهي استراتيجية جديدة تحاول الولايات المتحدة أن تتبناها لتحقق بها مزيداً من التوسع والهيمنة في العالم.
هذه النزعة ازدادت ضراوة مع وصول بوش الابن للإدارة، ولكنها بدأت تتبلور مع نهاية الحرب الباردة عندما راحت تتفشى طروحات الهيمنة المكشوفة والاعتماد على القوة المتفوقة كواحدة من أهم أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، ولم يخف الرئيس بوش وطاقمه في الإدارة منذ البداية نزوعه إلى احتضان هذا التوجه، بل انتماءه لهذا الخندق حين سارع لرفع لواء التفرد والتفوق باعتبارهما حقاً وامتيازاً خاصين بالولايات المتحدة لكونها القوة العظمى الوحيدة على الساحة الدولية، وتجلى ذلك في رفض واشنطن الانضمام لعديد من الاتفاقيات الدولية، أو الانسحاب من عدد منها.
ولذلك فإن فهم هذه التغيرات في السلوك الأمريكي في العالم والتغيرات التي تطرأ على استراتيجيات توجيه الدفة العالمية مهم لاستيعاب الحقائق والأحداث السياسية استيعاباً شاملاً عميقاً ومعرفة إلى أي الاتجاهات تتمدد.
ولعل التهديدات الأمريكية بضرب العراق هي خير تطبيق لتلك الاستراتيجية الجديدة؛ ولذلك يلزم المتابع لما سيجري في العراق بل ما يتم التخطيط له بالنسبة لهذه المنطقة في العالم الإلمام بهذه الاستراتيجية.
ولإدراك أبعاد هذه الاستراتيجية لا بد من اتباع منهج تحليلي يضع في حسبانه عدة محاور:
أولاً: معنى الاستراتيجية.
ثانياً: الاستراتيجيات الأمريكية قبل بروز الاستراتيجية الجديدة لمعرفة مدى التطور في الفكر الاستراتيجي الأمريكي.
ثالثاً: معنى استراتيجية الضربات الوقائية، ومتى بدأت الإدارة الأمريكية في تبنيها، والظروف المصاحبة لانطلاقها، وأثرها على الموقف الدولي.
(*) الاستراتيجية:
وإذا كانت الاستراتيجية تتمثل في التعرّف على أفضل طريقة لبلوغ الهدف والتوصّل إلى أنجع طريق يؤدي إليه في أحسن الظروف الممكنة من خلال استغلال نقاط القوة والتغلّب على مناطق الضعف فإنّها أيضاً تتطلّب القيام بخيارات حول أقوى الأفكار التي ستمثل المحور الأساسي للجهود التي ستخضع إليها الأهداف والوسائل والأولويات.
بينما يجري تعريف الاستراتيجية في أدبيات كثيرة على أنها فن توظيف عناصر القوة للأمة أو الأمم لتحقيق أهداف الأمة أو التحالف في السلم والحرب، وهو أيضاً فن القيادة العسكرية في ساحة المعركة، ومن هنا نجد الربط بين الاستراتيجية وقوة الدفاع.
وفي تعريف لمركز الدراسات الاستراتيجية ومقره جنيف ينظر للاستراتيجية على أنها نظرة عمل لتصميم وبناء حاضر يتيح إنجاز أهداف في المستقبل؛ بمعنى أنها تستوعب مستقبلها فتشرع إليه من حاضرها؛ فهي عملية إيجاد معطيات للواقع وهنا بالذات تظهر الحاجة إلى التحليل والتأمل وملاحقة الظواهر وإخضاعها للربط المتفاعل وليس الربط المجزأ والآلي.
ولذلك فإن الاستراتيجية تعنى بحقيقتين جديدتين هما: الأهداف المتوخاة، والقدرة.
(*) استراتيجية الصراع:
وهي تعني أيضاً أن أفضل تصرف يقوم به طرف مشارك في صراع ما كان مبنياً على تصرفات الطرف الآخر؛ فهي تركز على أن تصرفات طرف إنما يبنيها على توقعاته وتنبؤاته لما ستكون عليه تصرفات الطرف الآخر، وبناء على تلك التنبؤات يصوغ استراتيجيته ويحدد تصرفاته ويتخذ قراراته من أجل التأثير في تصرفات وقرارات الخصم؛ فجوهر الاستراتيجية إذن يقوم على التأثير في قرارات الخصم وخياراته؛ وتحقيق ذلك إنما يتم بالتأثير في توقعاته لما ستكون عليه قراراتنا أي قرارات الطرف الأول؛ وذلك بمواجهته بدليل مقنع بأن سلوكنا سيقرر في ضوء سلوكه؛ وعناصر الاستراتيجية بناء على ذلك التعريف هي فهم المسألة موضوع الصراع وتحديد أطرافها ومحاولة إدراك مصالح كل طرف.
(*) الاستراتيجيات الأمريكية قبل الحرب الباردة:
وبناء على تلك التعريفات السابقة فقد كانت الاستراتيجية الأميركية قبل عام 1947م لا تستند إلى أسس ثابتة، وكانت مزيجاً من الخطط العسكرية التي دافعت عن فكرة إقامة دولة فيدرالية تلم الولايات المشكِّلة لها تحت جناح دستور وهيكل، ودخلت أمريكا الحرب العالمية الثانية خلواً من أية استراتيجيات سوى الانضمام إلى ركب الدول الكبيرة، فاشتركت في الأحلاف التي قامت ضد المعسكر النازي آنذاك؛ فمبادئ مثل القدر المرموق أو المصلحة الذاتية المستنيرة، ومبدأ منرو وخطاب مسيرة الراية ومبدأ الحرب العادلة فهذه المسميات أقرب إلى فكر متعمق في الوجدان الأمريكي كميراث عن الآباء المؤسسين أكثر من اعتباره فكراً استراتيجياً مؤسسياً سياسياً.
(*) الاستراتيجيات الأمريكية في الحرب الباردة:
ولكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الولايات المتحدة في وضع الانفراد بالهيمنة على العالم كهدف نهائي تسعى إليه، ومن خلاله توجه استراتيجياتها الدولية، فقدم جورج كينان عام 1947م أولى هذه الاستراتيجيات التي تركزت على نظرية الاحتواء.(8/321)
وأهم أسس هذه الاستراتيجية كانت مواجهة ما وصفه صانعو السياسة الأميركية بالتهديد الذي كان الاتحاد السوفييتي العامل الأهم والعدو الأخطر بالنسبة لراسمي أسس هذه الاستراتيجية.
وقد سادت استراتيجية الاحتواء في السنين التي تلت الحرب العالمية الثانية، وعدت الاستراتيجية الأمريكية الرئيسية في حقبة الحرب الباردة، وقد تعاملت هذه الاستراتيجية مع العالم في حقبة ثنائية الأقطاب: الولايات المتحدة وحلفائها ضد الاتحاد السوفييتي وحلفائه، وكانت تهدف لمنع الاتحاد السوفييتي من توسيع مدى تأثيره ليس فقط في نطاق الولايات المتحدة وحلفائها، وإنما أيضاً في نطاق الدول غير الحليفة معها أيضاً، ولدعم هذه الاستراتيجية أوكلت الولايات المتحدة للقوات العسكرية وقف التوسع الشيوعي في كوريا وفيتنام، وتحت هذه الاستراتيجية واجهت الولايات المتحدة قيادات التمرد الشيوعي في عدد من دول العالم المتطورة، كما دعمت المجاهدين الأفغان في حربهم ضد الجيش السوفييتي الذي احتل أفغانستان في الثمانينيات، ونجد في تعريف السياسيين الأميركيين لهذه النظرية أن السياسة الخارجية ارتبطت بالاستراتيجية الأميركية في تحقيق هدف واحد هو القضاء على المد الشيوعي، ولكن المد الشيوعي بحد ذاته كان هدفاً فرعياً؛ لأن الهدف الحقيقي للاستراتيجية الأمريكية كان الحفاظ على مصالحها في بقاع العالم المختلفة، وليس غريباً أن نجد صناع السياسة الأميركية يضعون على جدران مكاتبهم خرائط تضم أكثر من أربعين بلداً تمثل المصالح الأميركية مثلما تمثل ما أسمته الولايات بمناطق الديون القومية بمعنى المناطق التي التزمت تجاهها أمريكا بالدفاع عنها دفاعاً عن مصالحها هي.
سعى الرؤساء الأميركيون وفق هذه الاستراتيجية إلى إيجاد تحالفات استراتيجية لضمان تحقيق المصالح الأمريكية بعيداً عن سياسة الحروب وسباقات التسلح، وسعت الولايات المتحدة منذ الخمسينيات لوضع سياسة قومية متماسكة، تماشياً مع مبدأ ترومان إلى توضيح استراتيجية الاحتواء والاعتراف بالحرب الباردة كوضع من أوضاع العلاقات الدولية، وقام أيزنهاور بتحديد تلك الاستراتيجية، واعترفت الإدارة الأميركية منذ كيندي حتى جونسون بالاستراتيجية الاندفاعية التي هدفت للتوازن النووي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وهو مبدأ نيكسون الذي تابع الرئيس فورد الالتزام به في التفاوض مع الخصوم المحتملين، وطرح مبدأ الشراكة مع الأصدقاء والحلفاء.
ثاني هذه الاستراتيجيات التي وظفتها الولايات المتحدة في حربها الباردة كانت استراتيجية الردع التي سادت لفترة طويلة منطق الفعل السياسي الأميركي؛ وعليها بنيت الترسانة الضخمة التي جاءت نتيجة للحرب الباردة وسباق التسلح النووي.
واستراتيجية الردع تعتمد على منطق الرد بهجوم مدمر على فعل عسكري نووي يهدف للتدمير، ووفق ويدي وولت الخبير الاستراتيجي الأمريكي فإن استراتيجية الردع هي ركوب الموجة إذ يقول: عندما تواجه تهديداً خارجياً كبيراً فإن الدول إما أن توازن موقفها أو تركب الموجة، ويعني بركوب الموجة الانحياز إلى مصدر الخطر.
وهناك مصطلح آخر يندرج تحت مفهوم الردع هو الإكراه، ويعرفه بول هاث وبروس راسيت بأنه: محاولة من صانعي القرار في دولة ما لإجبار صانعي القرار في دولة أخرى على التجاوب مع مطالب الدولة الأولى.
أما الإكراه فيعرفه جاك ليفي بأنه استخدام التهديدات لحث الخصم على فعل شيء، أو التوقف عن فعل شيء، وليس الامتناع عن فعل شيء لم يقم به بعد، وهو بذلك يدرج مفهوم الإكراه داخل استراتيجية الاحتواء.
طورت أمريكا فكرة استخدام الاستراتيجية العسكرية للتدمير الذي قد يصيبها جراء معارض أو معاد لهذه الأهداف، وافترضت قدرةً لإحداث إصابات ودمار صناعي ترد على أي هجوم نووي استراتيجي، وهي فكرة نشأت في الستينيات، وأخذت فيما بعد صيغة الردع أو استراتيجية الردع التي سادت المنطق الاستراتيجي الأميركي لعقود مضت وستبقى سائدة لعقود قادمة.
ولا يعني حديثنا عن هذه الاستراتيجيات بأنها كانت في أيام الحرب الباردة أنها أصبحت الآن بعد انتهاء الحرب الباردة في طي النسيان، ولكنها لا زالت في خدمة المصالح بالإضافة إلى الاستراتيجية الجديدة وهي الضربات الوقائية.
(*) النظرية الأمريكية الجديدة في المنطقة (الضربات الوقائية):
ثمة تعريفات عدة لمفهوم الضربات الوقائية أو الحروب الاستباقية تبعاً للدولة التي تستخدمها في إطار سياساتها العامة.(8/322)
والثابت أن الضربات الوقائية ليست جديدة في الفكر الاستراتيجي العالمي، ولها تطبيقاتها القديمة والحديثة على السواء، والعدوان الإسرائيلي على ثلاث دول عربية في يونيو 1967م فسر إسرائيلياً بأنه ضربة وقائية لإجهاض المخططات العربية في إنهاء وجود الدولة العبرية. كما أن ما يحدث حالياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة على يد قوات الاحتلال، أياً كان الاسم الذي تحمله، كالسور الواقي أو الطريق الحازم أو الاغتيالات المنهجية أو عمليات الإحباط المسبق، كلها تعبر عن استراتيجية الضرب والعدوان المسبق على الخصم بهدف إنهاكه والسيطرة على حركته التامة. وفي أثناء الأزمة التي هددت بحرب نووية بين الهند وباكستان في الفترة الماضية تعالت أصوات هندية كثيرة باتباع أسلوب الضربات الوقائية ضد ما يعتبرونه معسكرات للإرهاب الكشميري، وتغيير الوقائع على الأرض حتى لا تستفيد منها باكستان أو القوى المتحالفة معها.
ولكن في الولايات المتحدة يحدد مفهوم الضربة الوقائية بأنه ذلك النوع من النشاطات العسكرية الهادفة إلى تحديد وتحييد أو تدمير أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها الآخرون قبل ان يتمكنوا من استخدامها.
ويصف الأميركيون أنصار هذا المفهوم الحرب التي يبشّر بها هذا التعبير بأنها دفاع وقائي أو ردع متمدد لكن خصومه يقولون إنه مجرد نسخة جديدة من ديبلوماسية البوارج الحربية.
وتقول كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي في تعريفها لهذه الاستراتيجية الجديدة هي استباق فعل التدمير الذي يمكن ان يقوم به عدو ضدك.
وفي موسوعة نيوستاندرد الأميركية يحال التعبير إلى بند حق امتلاك الأراضي بوضع اليد في التاريخ الاميركي وهو ما يرد أيضاً في قاموس المورد لمنير بعلبكي، حيث يعني حق الشفعة أي حق الأولوية في الشراء أو الاستيلاء على شيء واحتلاله قبل الآخرين.
(*) متى بدأت صياغة هذه الاستراتيجية الجديدة؟
قبل عام من الآن أطلق برنامج الأمن العالمي الذي أنشأ ضمن مركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن، حيث ركزت مجموعتان من الدراسات والأبحاث على السبل الكفيلة بتحقيق ضمانات ضد التهديد عبر الحدود الذي أكد عليه مراراً الرئيس الأميركي جورج بوش منذ ما قبل دخوله البيت الأبيض.
وضعت هذه الدراسات ما سمي بالاستراتيجية الجديدة التي لم نسمع عنها إلا بعد اندلاع ما يسمى حرب الإرهاب رغم أن هذه الدراسات أنجزت قبل أحداث سبتمبر، واستندت أهداف هذه الاستراتيجية بشكل رئيسي إلى ما جاء في تقرير جورج تينيت رئيس المخابرات الأميركية السابق لسنة 2000م؛ حيث حدد بشكل رئيسي مصادر القلق الأميركي الذي مثله مفهوم فضفاض له اليوم وعنوان كبير هو الإرهاب؛ فالدراسات حددت مصادر الخطر ضد أميركا بالإرهاب، انتشار أسلحة الدمار الشامل، تراجع دعم الحلفاء، وتطور القدرات القتالية لدى دول كثيرة ومنها من تطمح لدخول النادي النووي، وكما نرى هي ليست جديدة قدر كونها أخرجت من جعبة الجمهوريين لبناء سياسة لمن ليس لديه سياسة واضحة.
وقالت صحيفة واشنطن بوست في 10/6/2002م، إن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش تصيغ سياسة عسكرية رسمية تتبنى مبدأ الضربات الوقائية ضد من تصفهم بالإرهابيين والدول المعادية لواشنطن التي تملك أسلحة دمار شامل.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين بارزين في الإدارة قولهم إن المبدأ الاستراتيجي الجديد يبعد كثيراً عن سياسة حقبة الحرب الباردة التي قامت على الردع والاحتواء وسيكون جزءاً من أول استراتيجية للأمن القومي تضعها إدارة بوش التي من المتوقع أن تنشر تفاصيلها في وثيقة خلال الخريف المقبل.
وقال أحد المسؤولين في تصريحات للصحيفة إن الوثيقة الرسمية ستضيف ولأول مرة تعبيرات الوقائي والتدخل الدفاعي كخيارات رسمية لضرب دول معادية أو جماعات تبدو عازمة على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين يضعون الخطوط الرئيسية للاستراتيجية الجديدة قولهم: إن الولايات المتحدة اضطرت للذهاب إلى أبعد من الردع بعد هجمات 11 سبتمبر نظراً للمخاطر التي تشكلها الجماعات الإرهابية والدول المعادية التي تؤيدها، وقال مسؤول رفيع إن طبيعة العدو تغيرت، وطبيعة المخاطر تغيرت؛ ولذلك يجب أن يختلف الرد.
وكان الرئيس بوش قد طرح فكرة الضربة الوقائية أمام البرلمان الالماني في مايو أيار الماضي، ثم تحدث عنها بشكل موسع عندما تحدث عن التوجه الاستراتيجي الأميركي في خطاب ألقاه بالأكاديمية العسكرية الأمريكية أول شهر يونية بمناسبة تخرج دفعة من طلبتها، قائلاً إن قادة المستقبل العسكريين الأمريكيين يجب أن يكونوا مستعدين لتوجيه ضربات وقائية في الحرب على الإرهاب وللتعامل مع تحذيرات غير مسبوقة من إمكانية حدوث هجمات كيماوية أو بيولوجية أو نووية من الإرهابيين والطغاة، وإذا ما انتظرنا حتى يتحول التهديد إلى أمر واقع، فسنكون قد انتظرنا طويلاً؛ إذ علينا أن نحول المعركة إلى الخصم، نشوش عليه خططه ونواجه أسوأ التهديدات قبل أن تبزغ.(8/323)
وشهد البنتاجون في شهر يونية 2002م مناقشات مطولة حول مبدأ جديد للسياسة الخارجية واستراتيجية الولايات المتحدة في العالم يبنى على تصور أن العدو الجديد هو الإرهاب الذي ضرب في نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001م بديلاً عن العدو القديم ـ الاتحاد السوفييتي السابق ـ والذي بنيت السياسة الخارجية طوال سنوات الصراع والمواجهة معه.
أما المبدأ الجديد الذي تجري مناقشته داخل الهياكل السياسية الأمريكية فيقوم أساساً على ضرب العدو الجديد بما يسمى الضربات الوقائية والتدخل الدفاعي، ولما كان العدو وهو الإرهاب ليس دولاً أو كيانات قائمة على أرض لها عنوان معروف فهو يوسع من دائرة الأهداف التي يرمي إلى توجيه ضرباته الوقائية وتدخله الدفاعي ضدها لتشمل ما يقرر أنه دول ترعى الإرهاب وتحوز أسلحة نووية وكيميائية وبيولوجية.
وهو بذلك لا يضع على الجانب الآخر من خط المواجهة الذي يريد أن يقيمه أطرافاً معادية للولايات المتحدة، ولم يحدث أن قامت بأعمال إرهابية ضدها أو حتى تربطها أي صلة بمنظمات الإرهاب التي هاجمت نيويورك وواشنطن، لكنه يدرج على هذا الجانب من خط المواجهة كل من يقدر أنهم يمكن ـ ولو فرضاً ـ أن يشكلوا مستقبلاً تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة، فيستهدفهم بما يسميه الضربات الوقائية أي أن تتم قبل أن يكون قد حدث من جانبهم تهديد فعلي للأمن الأمريكي.
وهذا المبدأ قد يمثل تطويراً أو ربما تأكيداً للفكرة التي سبق أن شرحها أمام الكونجرس في فبراير الماضي جورج تنيت مدير وكالة المخابرات المركزية عن العدو المحتمل أي الجهات والمنظمات التي لم يظهر عليها اتجاهات للقيام بأعمال إرهابية أو عدائية للولايات المتحدة؛ لكن قد يحدث في المستقبل أن تؤثر فيها سلباً إجراءات أو سياسات أمريكية مما يحول توجهاتها لاحقاً ضد الولايات المتحدة.
ولما كان هذا المبدأ له آثاره الخطيرة، وأنه يصطنع أعداء من قبيل التقدير وليس اليقين على أساس ان هناك عدواً مؤكداً فإن المناقشات في البنتاجون ما زالت تجري بين مؤيدين ومعارضين لهذه الاستراتيجية.
وأوضح وزير الخارجية الأميركي باول في لقاء مع مجموعة من الصحفيين الاستراتيجية الجديدة لإدارة بوش القائمة على توجيه ضربات وقائية على إرهابيين ومنظمات إرهابية ودول معادية للولايات المتحدة، ربما تشمل ضغوطاً مالية واقتصادية وسياسية، لكنه شدد على أن القوة إذا استخدمت فإنها ستكون حاسمة، كما أكد على أهمية إقناع العالم بضرورة اللجوء إلى القوة بتقديم المعلومات اللازمة.
وأشار باول في ذلك اللقاء إلى الهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي العراقي في عام 1981م، كمثال للاستراتيجية الوقائية.
وقال رامسفيلد في 19/6: ليس صحيحاً أن البنتاغون بات على وشك توجيه ضربات وقائية؛ معترفاً بالمقابل أن مجلس الأمن القومي والبيت الأبيض يقومان بإعادة صياغة الاستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة.
وأضاف: «يمكنكم أن تسموا ذلك دفاعاً، وهو ما أقوم به، أو وقاية، مضيفاً في الوقت نفسه أن للأمريكيين الحق في الذهاب لضرب مصدر الإرهابيين مثل القاعدة حين يعلمون أنهم يتآمرون لقتل مدنيين أبرياء، ولهذا السبب اتخذت الولايات المتحدة القرار الصائب بشنّ حملة عسكرية ضد دولة متورطة بالإرهاب وتهدد الأمن الأمريكي وهي أفغانستان".
ومن ضمن عناصر هذه الاستراتيجية الجديدة قضية إقامة الدرع الدفاعية الصاروخية التي كانت وما زالت الهاجس الذي يؤرق بوش ويعده إنجازه الذي يجب ان يتم قبل رحيله، وما زاد سوى أن أمريكا نجحت في إيجاد مسوِّغ لإقامته بعد أن رفض العالم ذلك وأضافت إليه عنصر الرعب من احتمالات كثيرة قد تحدث وقد لا تحدث.
وفي شهر يونية (حزيران) الماضي أقر الكونغرس الأميركي هذه الاستراتيجية، ويرمي بها تأمين تغطية مسبقة لأي عملية عسكرية أميركية خارج الولايات المتحدة بحجة تأمين وقاية مسبقة للمصالح الأميركية، وعدم تعريض الولايات المتحدة لخطر وقوع هجمات مماثلة لتلك التي وقعت في 11 سبتمبر الماضي.
وقال عضوان جمهوريان بارزان في مجلس الشيوخ الأمريكي إن الرئيس جورج بوش باستطاعته تسويغ توجيه ضربة إجهاضية إلى العراق، وهو ما فسّره المراقبون بأنه موقف يمثل اختلافاً عن الدعوات المتزايدة من كثير من المشرعين الأمريكيين مؤخراً بمن فيهم أعضاء في الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه بوش.
وقال ريتشارد لوجار وفريد تومبسون عضوا مجلس الشيوخ إن بوش لديه بالفعل أسباباً كافية للعمل ضد الرئيس العراقي صدام حسين، واستعان العضوان في تأكيد رأيهما بأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر الماضي التي تعرضت لها الولايات المتحدة.
وأوضح لوجار عضو مجلس الشيوخ عن ولاية إنديانا أنها أسلحة للدمار الشامل في يد طاغية يمكن أن يستخدمها.(8/324)
وكان ديك آرمي رئيس الأغلبية من الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي قد أثار عاصفة عندما انشقّ عن صف بوش بقوله إن الولايات المتحدة ليس من شأنها شن هجوم على العراق دون سبب كافٍ، وقد انضم كارل لفين عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي ورئيس لجنة القوات المسلحة فيه إلى آرمي باعتراضه على شنّ هجوم على العراق بغير مسوغ وبقوله لمحطة إن. بي. سي التلفزيونية إن صدام لا يشكل خطراً كبيراً على الولايات المتحدة.
لكن لوجار الذي يحتل مكاناً بارزاً في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ قال إن بوش بوسعه إيجاد المسوغ لضرب العراق على الرغم من أن الإدارة الأمريكية لم تتوصل إلى هذا بعد، وأضاف في مقابلة مع محطة سي. بي. إس التلفزيونية يتعين على الرئيس أن يتخذ حجة في هذه الحالة بالتحديد بأن انتظار حدوث استفزاز يُعدّ بمثابة دعوة لكارثة هائلة، مشيراً إلى أن هناك معلومات كافية عن القدرات الكيماوية والبيولوجية للعراق بما يسوغ إطاحة طاغية بوسعه استخدامها.. قبل أن تستخدم.. وتخميني أن هذا هو السبب الذي ستستند إليه الحرب في نهاية الأمر.
وقالت كاي بيلي هتشنسون وهي من الأعضاء الجمهوريين أيضاً بمجلس الشيوخ إن بوش أوضح بما يكفي أننا لا نستطيع انتظار أن يطلق صدام سلاحاً للدمار الشامل على أحد جيرانه أو على قوات أمريكية.. علينا توجيه ضربة وقائية، مضيفة لمحطة سي. إن. إن التلفزيونية: هذا إجراء يمثل سابقة للولايات المتحدة في أن تشنّ هجوماً بهدف الدفاع.
وقال تومبسون عضو مجلس الشيوخ عن ولاية تنيسي وعضو لجنة المخابرات بالمجلس: إن الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة على الإرهاب والتي شنها بوش رداً على الهجمات التي وقعت في نيويورك وواشنطن، وأسفرت عن مقتل ثلاثة آلاف شخص تتضمن منع مثل تلك الهجمات قبل وقوعها، وأضاف لمحطة فوكس التلفزيونية: يتعين أن يكون جزء مما نفعله هجومياً، وعندما نعلم أن هناك شخصاً مثل صدام الذي أظهر قدرته في الماضي على استخدام أي شيء في حوزته.. نحن نعلم أن لديه أسلحة بيولوجية، ونعلم أن لديه أسلحة كيماوية ونعلم بغير شك أنه يعمل لتطوير أسلحة نووية.. بعد أن تتوافر لدينا معلومات بأن لديه القدرة خاصة النووية؛ فعلينا مسؤولية التعامل مع هذا بصورة جدية، ويبدو لي أنه سيكون علينا في نهاية الأمر أن ندخل العراق، ونفعل شيئاً بهذا الشأن.
وهكذا فوجئ العالم بأن المؤسسة السياسية الأمريكية بشقيها التنفيذي والتشريعي أصبحت تنظر بمقياس استراتيجي واحد يتمثل في الضربات الوقائية.
ولكن ما الذي حمل أمريكا على اتخاذ تلك الاستراتيجية الجديدة؟
منذ انتهاء الحرب الباردة سادت توقعات كثيرة بأن يدخل الأمن سياق العولمة بعد العولمة الاقتصادية والتقنية والعولمة في بعدها العسكري والسياسي، وسبب هذا الاعتقاد أنه لا يوجد نظام اقتصادي محلي أو عالمي يمكن أن يعمل دون حماية قوة عسكرية وقوة سياسية تقوده ومناخ آمن؛ لذا فإن طرح العنصر الأمني أو ما يعرف بالضربات الوقائية أصبح ضرورة ليكتمل مشروع العولمة مع أدواته الأخرى السياسية والعسكرية، التكنولوجية والمعلوماتية، الاقتصادية، والاتصالات.
وجاءت أحداث 11 سبتمبر واحتشدت جميع الدول تقريباً في العالم لمساندة أمريكا، ولكن بتراجع التأييد للولايات المتحدة بعد أن خفتت الدعوات للانتقام الذي قادته الأخيرة ضد ما أسمته بالإرهاب، وحيث أفرزت الحرب ضد الإرهاب في مرحلتها الأولى آثاراً سياسية خطيرة انعكست على واقع النظام الدولي مخلفة خيبات أمل على جانبي هذه الحرب، سواء كانت في الجانب الأميركي أم في الجانب الدولي المقابل. ويبدو واضحاً أن الأمريكيين لم يحققوا الشيء الكبير الذي شمله إعلانهم هذه الحرب، فلا هم استطاعوا القضاء على تنظيم القاعدة، ولا هم استطاعوا فرض الاستقرار في القلب الآسيوي المشتعل والذي كان في الثمانينيات ساحة صراع بينهم وبين السوفييت ونعني هنا أفغانستان.
ولذلك سعى جورج بوش الرئيس الأميركي بإطلاق ما أسماه بسياسة جديدة واستراتيجية عسكرية تستند إلى تحرك عسكري وقائي بهدف منع أي تهديد بالإرهاب أو تدمير الدول الأعداء لأميركا وسياساتها.
وفي حملة دعائية كبيرة هدفت لحرف الانتباه عن القضية الفلسطينية وإعادة التركيز على حرب أميركا ضد العراق والدول التي أسمتها الولايات المتحدة بالمارقة، تم التسويق لهذه الاستراتيجية الجديدة، ونسبت إلى جورج بوش الرئيس الأميركي الذي أشار في أكثر من مرة إلى أنه يريد وضع نظام أمني جديد يتناسب مع مكانة الولايات المتحدة الجديدة وعالمها الجديد بمتغيراته التي تفترض وجود من يهدد الأمة الأميركية كما يقول بوش.
(*) أثر هذه الاستراتيجية على الموقف الدولي:
أخطر ما في هذه الاستراتيجية الجديدة أنها استبدلت مفهوم التسوية بمفهوم القوة، ومفهوم العدالة بمفهوم الحصار، وأباحت لنفسها تدمير الآخر بحجة أنه يشكل خطراً قد يكون واقعاً وقد لا يكون.(8/325)
ويمكن للإدارة الاميركية الحالية، أو أي إدارة لاحقة، أن تتذرع بهذه الاستراتيجية لتوجيه ضربة وقائية ضد أي دولة بحجة أنها تقوم بالتحضير لهجمات ضد الولايات المتحدة، أو أنها تقوم باحتضان أو إيواء أو تمويل منظمات إرهابية، أو لمجرد أنها مدرجة على لائحة الإرهاب الاميركي. وانطلاقاً من استراتيجية الضربات الوقائية، أصبح بمقدور الرئيس الأميركي توجيه ضربات عسكرية ضد ما تسميه واشنطن بمحور الشر متى يحلو له الأمر، كما أصبح بمقدور أرييل شارون أن يتحين الفرصة السانحة للمشاركة في استراتيجية الضربات الوقائية والإفادة منها بهدف توجيه ضربات خاصة به ضد لبنان وسوريا بغطاء أميركي، وبحجة التهديدات التي تشكلها المنظمات الفلسطينية ضد أمن إسرائيل.
كما أن هذا المبدأ يعكس تراجعاً عن إحدى أولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي كانت قد استقرت في عهد الرئيس جورج بوش الأب بعد نهاية الحرب الباردة، وزوال الاتحاد السوفييتي عام 1989م وتبلورت أكثر في عهد خلفه كلينتون، وهي اعتبار الاستقرار الإقليمي مصلحة حيوية ومصلحة أمن قومي للولايات المتحدة، وأن هذا يتحقق عن طريق حل الأزمات والنزاعات الإقليمية بينما من شأن تطبيق هذا المبدأ زعزعة الاستقرار الإقليمي، وتراجع أولوية حل النزاعات والأزمات؛ لأنه مبدأ يخلق أزمات جديدة من خلال ما يسمى بالضربات الوقائية، والتدخل الدفاعي، أي أن الاستقرار الإقليمي يتحول من أولوية عاجلة، إلى هدف مؤجل.
لقد شكل هذا التحول الذي عبر عنه الرئيس بوش تطور مهماً وخطيراً في الآن ذاته؛ فهو في جانب يعكس حجم التغيير الذي أصاب الفكر الاستراتيجي الأمريكي بعد هجوم 11 سبتمبر الدامي، وفي جانب آخر يوضح المدى الذي باتت الولايات المتحدة مقبلة عليه في علاقاتها الخارجية. ونتج عن ذلك قبل ذلك منذ أسابيع قليلة ذلك التسريب المتعمد لخبر توقيع الرئيس بوش أمراً رئاسياً يتيح لوكالة المخابرات الأمريكية العمل في العراق من أجل إسقاط نظام الحكم فيه، حتى لو وصل الأمر إلى اغتيال الرئيس صدام نفسه.
ومثل هذه الأساليب التدخلية ليست أمراً جديداً في السياسة الأمريكية من الناحية التاريخية؛ فقد كانت موجودة من قبل، واستخدمت في حالات شهيرة مثل حالة إيران زمن الرئيس مصدق، وفي تشيلي نهاية السبعينيات، وحالات أخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
بيد أن الولايات المتحدة نفسها تخلت عنها طواعية في ولاية الرئيس فورد الذي أصدر أمراً رئاسياً منع الاستخبارات الأمريكية من التدخل لتغيير نظم الحكم في الدول الأخرى أو اغتيال الزعماء، أو غير ذلك من الأساليب الخفية.
هذه النقلة ستجبر المؤسستين العسكرية والاستخبارية الأميركية على تنفيذ تبدلات واسعة في تركيبتهما وسياساتهما وذلك على مستويين:
الأول: مستوى المفاهيم حيث سيتطلب الأمر تغيير العقلية العسكرية الأميركية التي تعتبر الهجمات المفاجئة عملية غير مشرّفة.
والثاني: مستوى العتاد؛ لأن الهجمات الوقائية تحتاج إلى أنواع جديدة من الأسلحة لجعل القوات الأمريكية أكثر مرونة في الحركة وأكثر قدرة على الفتك السريع.
وبدأ البنتاغون بالفعل وضع الدراسات حول كيفية شن حروب من دون إنذار مسبق تتجاوز بكثير مفهوم الغارات الجوية السريعة، وتعطي دوراً كبيراً للقوات الخاصة الأمريكية وحتى للمارينز والوحدات البرية.
وعلى رغم أن المبدأ يضع استخدام الأسلحة النووية في آخر سلم أولوياته، إلا أنه لا يستبعدها تماماً بصفتها فكرة لا يمكن التفكير بها؛ إذ يمكن للقوات الاميركية كخيار أخير أن تستعمل أسلحة نووية تكتيكية محدودة القوة الحرارية لضرب مخابئ ومستودعات الأسلحة البيولوجية والصاروخية.
والأهم من هذا وذاك أن الاستراتيجية الجديدة ستلغي مفهوم شن حربين إقليميتين في وقت واحد على نمط حرب الخليج الثانية لمصلحة مفهوم أوسع بكثير: القدرة على الحركة العسكرية في 60 دولة في آن وإن كان ذلك بمستويات منخفضة الوتيرة.
وهذا لا يعني فقط العراق الذي سيكون حتماً الهدف الأول لها أيضاً، ولا احتمال استهداف أهداف أخرى في بعض الدول العربية التي تمتلك برامج أسلحة دمار شامل، بل أولاً وأساساً عن احتمال حدوث تطابق كامل بين التوجهات الاستراتيجية الأميركية الجديدة، والتوجهات الإسرائيلية القديمة المتعلقة بمبدأ الهجوم الوقائي.
وهذا التطابق قد يحدث لسببين:
الأول: أن العقيدة العسكرية الإسرائيلية تستند منذ 50 عاماً، ولا تزال، إلى فكرة الحرب الاستباقية أو الوقائية، وهي طوّرت من أجل هذا الغرض سلسلة طويلة من قواعد العمل، وأنماط الأسلحة، وغرف التخطيط التي يمكن أن تفيد منها للغاية المؤسسة العسكرية الأميركية.
والثاني: أن معظم الحروب الوقائية الأميركية الجديدة ستحدث على الغالب على امتداد الرقعة الجغرافية الشرق أوسطية؛ وهنا سيكون دور إسرائيل كبيراً، إما في شكل حروب وقائية تقوم بها هي نفسها لمصلحة واشنطن، وإما في صيغة حروب، عسكرية أو استخبارية مشتركة مع الولايات المتحدة.(8/326)
وهكذا نرى الفروق بين الاستراتيجيات الأمريكية قبل 11 سبتمبر وما بعده، فاستراتيجية الاحتواء كانت تقوم على أساس التعايش مع الخطر النووي للاتحاد السوفييتي السابق والعمل على منع توسيع دائرته.
أما استراتيجية الردع فكانت تتركز في ترتيب الدفاعات الأمريكية للتأكيد على الرد الأمريكي الساحق المدمر، ومن ثم منع الخصم من الإقدام على أي عمل معاد.
أما استراتيجية الضربات أو الهجمات الوقائية فهي تعطي الولايات المتحدة حق العدوان تحت زعم أو غطاء الدفاع عن النفس.
ولكن ما موقف المسلمين إزاء هذه الاستراتيجيات التي يجري نسجها في العلن وليس في الخفاء؟
وما هي استراتيجيتهم الوقائية لمواجهة الضربات الوقائية الأمريكية؟...لا شك أن هذا هو التحدي الأخطر؛ فماذا أعددنا له؟
http://www.albayan-magazine.com المصدر :
============(8/327)
(8/328)
"الحرة".. اكتمالاً للهيمنة!!
أنور قاسم الخضري*
لم تتوقف إرادة الولايات المتحدة الأمريكية عن تخلية المنطقة الشرق أوسطية من أسلحة الدمار الشامل، ولن تتوقف، "وسوف تنزع في ظل الفرص القائمة الأسلحة التي تتدرع بها الأمة الإسلامية والعربية فكرياً وحضارياً، بدءاً من المناهج الدراسية، والمقررات التعليمية، إلى الثقافة الاجتماعية والقيم.
لقد باشرت الولايات المتحدة الأمريكية هجمتها على الأمة، وفرضت تواجدها عسكرياً وأمنياً لصالح الحفاظ على "أمنها القومي"، ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وأمن إسرائيل، وبدأت في خلع الأنظمة العربية لتباشر هي إدارة الحكم عبر أنظمة "الكرازاي"، وحتى تجمل صورتها لدينا بعد أن فوجئت بمقاومة الشعب العراقي الذي لم يرحب بها رغم كافة الادعاءات والوعود التي بذلتها للشعب.
تأكد للإدارة الأمريكية بعد ما يزيد عن سنة من المقاومة البطولية أن الشعوب المسلمة لا تزال تتمتع بروح المقاومة العالية، وهي - كما بدا - لا تحب التواجد الأمريكي على أرضها حتى ولو كان للنجدة والإنقاذ!!.
وكما قال أحد الكتاب: "إن في الوعي الجماهيري العربي التقليدي قاعدة تقول: بأن أي شيء عربي متصل بأمريكا يعني العمالة"، فهي مسبة لكل من يظهر في الصورة الأمريكية مسانداً أو مجاملاً!!. فكيف إذن النظرة للولايات المتحدة الأمريكية إدارة وجيشاً محتلاً!!
لهذا انتبهت القيادة الأمريكية/ واتجهت في سياستها الخارجية - عوضاً عن نصب العدل، والتراجع عن التدخل بشئون الغير واستقلالهم وحريتهم - إلى تجميل الصورة القائمة، وتحسين القبيح من أفعالها في المنطقة، وقد انتدبت لهذه الخدمات عرباً مرتدين عن مبادئهم وقيمهم ومصالح أمتهم، أو ذوي اتجاهات لها ماضيها الأسود في التاريخ الإسلامي والعمالة.
وها هي تطل علينا واشنطن من قناتها الجديدة "الحرة"، وهي قناة يمولها الكونغرس الأمريكي، وتشرف عليها وزارة الخارجية، كما هو الحال مع قناة "سوا" الإذاعية التي يذكر المراقبون فشلها في التواصل مع الجمهور العربي، وبالتالي تصبح الولايات المتحدة الأمريكية في عداد الدول الشمولية التي تستخدم الإعلام بوقاً لسياساتها الرعناء، وخططها الفاشلة.
القناة التي تبث من داخل أمريكا إلى المنطقة العربية - بلسان عربي ..!!- كلفت الإدارة في واشنطن 62 مليون دولار للعام الأول، وهي موضوعة فقط للجمهور العربي، وسوف تتناول كما جاء في تصريحات القائمين عليها المواضيع التي تتصل بسياسة أمريكا في المنطقة، بما يحسن صورتها لدى العرب والمسلمين، ويحكم المحللون بأنها ستفشل نظراً لوجود قناة منافسة لها أو قنوات من ضمنها قناة الجزيرة، التي مثلت بحق منبراً حراً، وعملاً إعلامياً مهنياً.
بل تذكر المصادر أن العاملين في القناة هم جملة من الناقمين على الإسلام والقومية العربية، مع تواجد يهودي واضح في المخرجين والعاملين في قسم الأخبار، ومعدي البرامج، وهم يميلون إلى بث المشاهد الخليعة (العارية)، والموسيقى الغربية الصاخبة، والأفلام التي تطبع صورة الإسرائيليين واليهود في الذهنية الإسلامية خلافاً لما عليه الحال!!
فهي لن تنافس في مشاهدها النسائية، ونغماتها الغنائية الفضائيات العربية الهابطة (وفي كل فسق)، لكنها تدس لأبنائنا مع هذه المشاهد والأنغام مفاهيم وتصورات كاذبة!! ليس هذا تهمة بل هي حقيقة البرامج المعلن عنها في القناة التي انطلقت في عيد "الحب" - زعموا - في أول بثها المباشر "غير الحي ولا المستحيي"!!
لا نريد أن تتحامل - خاصة والآيام كفيلة بإظهار الخبايا - لكن نحن نريد أن لا تصل بنا السذاجة إلى حد تصديق من عودنا على الكذب والخديعة في سياسته وخططه فضلاً عن برامج تلفازية وإذاعية، ولن نسمح أن تمرر الحيل على أجيالنا الشابة وبيئاتنا الجاهلة، بل سنمارس دور الفاضح لهذا التآمر الجديد على ساحتنا الإعلامية والفكرية.
ونتمنى أن يشارك الجميع في نقد هذه الظاهرة، والتوعية بمخاطر ما تواجهه الأمة في التعليم والاقتصاد والإعلام والعمل الخيري والمساجد والمناشط الدعوية وكل ما له صلة بحياتنا الاجتماعية والسياسة، فالقضية لا يستهان بها، وهي تريد اختراق أهم خصوصياتنا في الأسرة والفكر.
ولأن القائمين عليها أصلاً وعلى رأسهم "موفق حرب"!! - حرب حتى في إعلامها - لا يمثلون أي قطاع في الأمة سوى حفنة ممن باعوا أنفسهم للصهيونية العالمية، والموساد الإسرائيلي.
إننا على أية حال مستهدفون في قيمنا ومبادئنا، وحتى في مصادر معلوماتنا، ومن غير المجدي أن تظل القنوات الفضائية إزاء ما يتهددها والمنطقة راقصة ساكرة مسكرة!!
لماذا تراجع العرب عن توجيه قناة إلى الشعب الأمريكي تخاطبه بلغته، وتكسر قيد الاحتكار - كما اقتراح أمين جامعة الدول العربية -، فيما قبلوا بأن تخاطب الولايات المتحدة شعوبهم؟؟ أين التحذير الذي ينبغي أن تمارسه هذه القنوات بشأن ما سوف تتعرض لها الجماهير من أبنائنا؟
ولماذا سمحت الدول العربية بفتح أقمارها الصناعية لتوجيه قنوات منحازة لإسرائيل اللقيطة؟(8/329)
أسئلة كثيرة، وغيرها في الانتظار، ويبقى أن نتخذ موقفاً حراً من قناة غير حرة وغير شريفة!!
____________________________
* رئيس مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث بصنعاء.
بتصرف يسير جداً : http://www.islamselect.com
============(8/330)
(8/331)
العولمة الأمريكية
محمد الإبراهيم
ليس غريباً أن يخترع الغرب المصطلحات والشعارات ويطرحها في سوق النفاق العالمي، ليبدأ أصحاب الكلام الذين يسمون أنفسهم (المثقفين المتنورين) بعقد الندوات والمؤتمرات والكتابة في الصحف والدوريات لمناقشة هذه الشعارات وكأنها حقيقة لا مفرّ منها، وتمر الأيام والسنون ونحن مشغولون بقضية وهمية أو قضية طرحت (بخبث) لتشغلنا عن الهدف الحقيقي، وتوقعنا في (الفخ) الذي يريدون[1].
لقد أتقن الغرب هذه الصناعة، كما أتقن الدعاية لها وتسويقها وتضخيمها حتى يظن الظان أنها سوف تحل كل المشاكل العالقة، ومن الأمثلة الواضحة ما طرح منذ فترة بعنوان (المتوسطية)[2] يعنون بذلك الشعوب القاطنة حول البحر الأبيض المتوسط، ويقولون: إن هذه الشعوب تملك حضارة واحدة[3] وتحمل هموماً مشتركة، فلماذا لا نتعاون كمتوسطيين؟ قد يغتر أو ينخدع بعض الناس بمثل هذه المصطلحات ويقولون: لماذا لا نتعاون وهذه حقيقة جغرافية نستغلها لصالحنا، ويجب أن نبحث عن تحالفات وتنظيمات مع الشعوب الأخرى التي هي أرقى منا وأعلم، والحقيقة أن هذه (المتوسطية) إن هي إلا إبعاداً للهوية العربية الإسلامية، وليس المقصود بها أن تكون اقتصادية بحتة، ويعقد مؤتمر في (مرسيليا) ويطرح السؤال: هل نحن عرب أم متوسطيون؟ هكذا وبجرة قلم يمحى تاريخ أمة وحضارتها لصالح بوتقة لا تسمن ولا تغني من جوع، وهل يوضع المسلمون في وضع من يناقش: هل الجزائر أو طرابلس الغرب أو بيروت مدن عربية أم لا؟ وهل الشيخ ابن باديس والمجاهد عمر المختار من هذه المنطقة الإسلامية أم متوسطيون؟ ولكن كما يقال: إذا عُرف السبب بطل العجب، فعندما نعلم أن الذين يناقشون مثل هذه الموضوعات يعتزون بتراث اليونان والرومان ويريدونها خلطة عربية عبرية أوربية، ويريدون جعل (المتوسطي) بديلاً عن المسلم العربي، وعندما نعلم لمن يعمل هؤلاء، وما هو الثمن الذي يتناولونه لطرح هذه الموضوعات عندها نعلم أنها حلقة من سلسلة طويلة من الصراع.
وجاء الحديث عن (العولمة) أو كما سماها بعضهم (الكوكبة) فلم يعد هناك خصوصيات لثقافة أو اقتصاد، فالعالم أصبح قرية صغيرة، والتكتلات الثقافية والاقتصادية تحيط بنا من كل جانب، ولابد أن نفكر فيها أو نخضع لها.
العالم يتلقى ضخاً متواصلاً من الإعلام الذي يريد فرض ثقافة معينة على باقي شعوب الأرض، الشركات العملاقة تتكتل، المصارف الكبرى تتوحد، صندوق النقد الدولي يتحكم بالدول الصغيرة، قمة السبع الكبار، منظمة التجارة العالمية، العالم يعيش التقويم الميلادي، ويعش توقيت غرينتش، والدولار هو ميزان العملات.. الخ، هذه العولمة التي تعقد لها الندوات والمؤتمرات وتناقش صباح مساء على صفحات الدوريات، وبعض الكتاب يروج لها ويريدنا أن نخضع لها، بل إن بعضهم يطرح السؤال التالي: هل سيكون القرن الحادي والعشرين الميلادي أمريكياً لأن أمريكا تملك القوة العسكرية والاقتصادية الأقوى في العالم؟.
وأمريكا تطرح نفسها فعلاً كزعيمة للعالم، وبأقل جهد ممكن أيضاً، لأنها ستدير القوى التابعة لها لتقوم بالدور المطلوب الذي يصب أخيراً في مصلحة الزعامة الأمريكية. فحقيقة العولمة إذن هي (الأمركة) أو العولمة الأمريكية. لأن هذا الضخ الإعلامي وهذه الهيمنة الاقتصادية لم يأت من آسيا أو أفريقيا؛ وإنما من الغرب وتحديداً من أمريكا، وهذه العولمة تركز على أمرين: الثقافة والاقتصاد، فقد أصيب الغرب بزهو حضاري بعد انتهاء المعسكر الشرقي الشيوعي وراح يفرض نفسه ثقافياً، فالنظام الليبرالي الرأسمالي هو (نهاية التاريخ) والشعوب الأوربية قطعت نهر التاريخ إلى الضفة السعيدة، والشعوب الأخرى ما تزال في (مستنقع التاريخ) كما صرح (فوكوياما) وتضخمت وسائل الإعلام بشكل مخيف، فقد استخدمت هذه الوسائل أكثر من (500) قمر صناعي، وأمريكا تريد من العالم أن يسمع CNN وأمثالها، وفي الجانب الاقتصادي سيشهد القرن المقبل تحكم 20% من سكان الكرة الأرضية في العالم أجمع، وهذه القوى العظمى هي التي تسعر الدولار والبترول الذي تدهورت أسعاره ليتناسب مع اقتصادها، وخسرت الدول المنتجة حتى الآن (60) مليار دولار، وستذهب هذه الأموال إلى جيوب المؤسسات الغربية، وكل ما وقع من انهيارات اقتصادية في شرقي آسيا أو وسط أمريكا يصب في خانة (العولمة)، إنه تغريب للعالم واجتثاث للجذور.
وماذا عن واقعنا تجاه هذه (الأمركة)، الدول العربية تتنازل عن كل شيء في سبيل الانضواء تحت المظلة الأمريكية، وبعض الدول العربية يلغي نفسه وتاريخه مقابل إلغاء ديونه، والمنهزمون (والمهرولون) يطرحون صيغة (العولمة) على أنها ظاهرة واقعية لا ينفع معها الرفض أو السلبية، بل لابد أن نكون جزءاً منها، فالعالم يتغير، ولن ينتظرنا أحد!!.
ونقول لهؤلاء:(8/332)
أولاً: هذه الضجة وهذا التهويل لقصة العولمة ليس جديداً، وإنما هو نسخة مطورة للنظام العالمي القديم، عصر الاستعمار الأوربي للعالم وامتصاص خيراته ولكن العولمة اليوم تطرح بشكل أكثر ذكاء وتوحشاً، فالمركزية الأوربية ثقافياً واقتصادياً لم تنقطع، والجديد هو استفراد أمريكا، وظنها الذي سيرديها أنها أصبحت زعيمة العالم، وتتصرف على هذا الأساس.
ثانياً: إن لحظة التفرد الأمريكي بدأت بالأفول وهذا شيء طبيعي ومن السنن الكونية فكثير من الدول الكبرى والقوى الإقليمية لم تعد تقبل هذه الهيمنة الأمريكية، وخاصة في النواحي الثقافية كفرنسا مثلاً، وقد طالبت وزيرة الثقافة الكندية أمريكا بالتوقف عن غزو بلادها ثقافياً، وإن بلداً كبيراً مثل الصين لا يقبل محو خصوصياته، وشيء آخر: هل تسمح قوة أمريكا مهما بلغت أن تسيطر على كل الدول الكبرى والصغرى مفردة ومجتمعة، وهل تسكت الدول الأخرى عن المطالبة بمصالحها؟.
ثالثاً: هل نستسلم لهذه العولمة وكأنها أمر لا مردَّ له. هل نمسخ شخصيتنا وثقافتنا لترضى عنا العولمة ولن ترضى، فما من أمة تحترم نفسها ترضى بأن تذوب وتضع كل مقدراتها تحت رحمة (مصاصي دماء الشعوب) ربما يعتبر الغرب صمود الإسلام إهانة له بعد انتصاره على الشيوعية، ونحن نعتبر هذا من سنة التدافع، فالإسلام كان دائماً محط الأنظار من الشرق والغرب، فهل نتخلى عن ديننا خوفاً من الإرهاب الفكري الذي يمارسه الغرب تحت شعار محاربة الأصولية.
رابعاً: لا يعني هذا تقوقعاً وابتعاداً عن العصر، ولكن ألا يمكن أن تقام تكتلات اقتصادية إقليمية تراعي خصوصية البلدان والشعوب الإسلامية، وتحل جزءاً من مشكلة الاقتصاد، ألا يمكن أن نمنع هذا الضخ الإعلامي الذي لا يشوه صورة المسلم فحسب؛ بل صورة الإنسان. إن الفرد المسلم والأسرة المسلمة مطالبون بأن لا يسمحوا لهذا الغزو المنظم أن يدخل بيوتهم ولتعلم الدول التي تحكم المسلمين أنها وإن دخلت نادي العولمة فلن تكون إلا تابعة صاغرة لا يرمى لها إلا الفتات. بل إن هذا التضخم الاقتصادي سيجعل القرار النهائي في يد حفنة من (الكبار) سواء كانوا دولاً أو أفراداً، وستجد الدولة نفسها لا حول لها ولا طول...
----------------------------------------
[1] مثل لعبة مصارعة الثيران في أسبانيا، عندما يلوح اللاعب بالرداء الأحمر أمام الثور لإبعاده عن هدفه.
[2] من أشد المتحمسين لها والمبادرين لها رئيس وزراء العدو سابقاً (شمعون بيريز).
[3] هل هي الحضارة العربية الإسلامية أم الأوربية الطليانية؟
ذو الحجة - 1419 هـ، نيسان - (أبريل) - 1999
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
============(8/333)
(8/334)
مشروع " الشرق الأوسط الكبير " بالمطلوب الأمريكي ..؟!
أحمد عبد الهادي النجداوي
قبل أيام قليلة عملت الأجهزة الأمنية الأمريكية إعلاميا على تسريب نص ما سمي بـ " مشروع الشرق الأوسط الكبير " كواحد من البالونات التي تطلقها بين حين وآخر بعد الحرب العالمية الثانية بهدف التمهيد لتطبيق بل وعلى الأصح فرض رؤيتها على الجميع وبما يتفق مع مصالحها ومصالح " حلفائها " في الساحة الدولية وبخاصة المنطقة العربية تجاوزاً على مفهوم الوطن العربي الذي كان هدفاً قومياً لجماهير امتنا فاختاروا هم ابتداء أن يطلقوها عليها عن سابق تصور وتصميم مصطلح " الشرق الأوسط " ثم ها هم يوسعون ذلك المصطلح وليس عبثاً وذلك بإضافة عبارة " الكبير " أو " الأعظم " ليضيفوا بذلك إلى خارطة الشرق الأوسط الكيان الصهيوني ثم أقطارا مثل تركيا وإيران وربما أفغانستان وباكستان ومن يدري كيف تتطور مصالحهم المحكومة بالرؤية الصهيونية العالمية أولاً، لشمول مناطق أخرى عبر البحار وخارجها في مسلسل تآمر " العولمة " الذي بشروا به في العقد الأخير من نشوتهم في الانفراد والهيمنة الإمبراطورية وتطلعاتهم لاستمراريتها.
المراقبون والمحللون السياسيون متفقون إلى حد كبير على أن الورقة الأمريكية تستند إلى تقرير وضع في عامي 2003، 2002 لبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة بشأن العالم العربي وان الورقة سوف تقدمها الولايات المتحدة إلى ما يسمى قمة الثمانية للدول الصناعية التي ستنعقد في حزيران القادم وتعمل بكل جهد للحصول على تأييد مجموعة تلك الدول لها، ومع أن الدول العربية هي المقصودة بتلك الورقة إلا أن واشنطن لم تكلف نفسها من الناحية الرسمية عناء إحاطتها علماً بالمشروع، ذلك أنها لم تعد تأخذ وزناً لآرائها بعد أن خبرت في السابق ردود أفعالها إن حصلت وأنها لا تتجاوز في أكثر الاحتمالات مجرد زوبعة كلامية آنية لا تلبث أن تنتهي بزيارة من المسؤول الأمريكي أو ذاك يتناول بعدها على مضض فنجان القهوه " المرة " ويعود إلى قواعده معززاً مكرماً وفي طريقه قد يعرج على تل أبيب أو القدس مطمئناً إلى أن الأمور والمخططات تسير على ما يرام؛ ومع أن المشروع الأمريكي يتحدث عن تقويض أنظمة وإعادة هيكلة الشرق الأوسط الذي هو الآن عند مفترق طرق وان الخيار الواجب له هو طريق الإصلاح وان بلدان مجموعة الثمانية الصناعية أيدت ذلك الخيار عبر ما يسمى بـ " الشراكة الأوروبية المتوسطية " و " مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط و "جهود إعادة الإعمار متعددة الأطراف في أفغانستان والعراق.. " إلا أن مثل تلك الشراكة موضوع البحث هي في واقعها مخططات يدعو لها أو ينفذها فريق واحد بإذعان من باقي الفرقاء.
المشروع الأمريكي طويل ويورد الكثير من التفاصيل والعناوين التي ترتكز إلى [الحرية، المعرفة، وتمكين النساء] وهي وغيرها الكثير يطلقون دائماً كلمات حق يراد بها باطل، ذلك أن عالمنا هنا قد خبر وعلى مدى قرن مضى من الزمن ماذا تعني المشاريع والوعود والمصطلحات الأمريكية والغربية وكيف يعتمدون دائماً على أساليب دس السم في الدسم لتضليل الشعوب التي ابتليت بسياستهم الاستعمارية قديمها وحديثها مما كان لنا نحن العرب الحصة الأكبر والأوفى منها منذ اتفاقيات سايكس بيكو للاستيلاء على الأرض والثروة العربية والى يومنا هذا مروراً بوعد بلفور المشؤوم والإجراءات اللاحقة لتنفيذه وتشريد الملايين من شعبنا واحتلال كامل فلسطين عام 1967 وبعض مما حولها من الأرض العربية وقبل ذلك كان العدوان الثلاثي على مصر بسبب تأميم قناة السويس عام 1956 وأخيرا وليس آخراً الحربان البربريتان على العراق اللتان انتهتا باحتلاله وإسقاط نظام الحكم القومي فيه وتدمير دولته ونهب ثرواته منذ 9 نيسان / ابريل / 2003 إلى يومنا هذا خلافاً لكل القوانين والشرعية الدولية.(8/335)
• واحد من العناوين المخادعة التي تطرحها واشنطن عبر ورقتها التي يطيب لها تسميتها " مبادرة " هو ما يتعلق بـ " تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح " حيث تقول حول ذلك بأن الديمقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق بداخله التنمية وان الديمقراطية والحرية ضروريتان لازدهار المبادرة الفردية لكنهما مفقودتان إلى حد بعيد في أرجاء الشرق الأوسط الكبير... واعتماداً على تقرير مركز بيت الحرية {F r EEDOM HOUSE} يصفون "إسرائيل"على أنها البلد الوحيد في الشرق الأوسط الكبير بأنها "البلد الحر " وان البلدان العربية تقع في أدنى درجات الحرية ولا تتقدم في هذا السياق إلا على إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ وقد يكون هناك بعض من الصحة في هذه الفقرة الأخيرة بالنسبة للبلدان العربية، وأما بالنسبة للكيان الصهيوني فإذا كان ذلك الكيان يعطي قدراً من مظاهر الحرية لسكانه اليهود وبرغم التمييز بين اليهود الأوروبيين والشرقيين فإن من المقطوع به جزماً انه يحرم عرب فلسطين من ابسط الحريات ويجردهم منذ عام 1948 من حقوقهم المادية والإنسانية ثم انه يحتل الضفة الغربية وغزه ومناطق عربية أخرى مجاورة ويمارس فيها منذ عام 1967 أقسى أنواع العنف والبطش والقهر بما يدخل في مفاهيم جرائم الحرب والإبادة وقد صدرت العديد من القرارات الدولية بإدانة تلك الممارسات فيما كانت الولايات المتحدة الأمريكية ولا زالت ترعى وتدعم الكيان الصهيوني مادياً ومعنوياً وتحول باستعمال حق الفيتو دون صدور قرارات تستنكر ممارسات الكيان، والمشروع الأمريكي الأخير باستناداته لا يتورع أن يقرر بأن [إسرائيل البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي يصنف بأنه حر -] وربما المقصود بكلمة " حر " في نظر أمريكا انه يمارس بحرية جرائمه بحق شعبنا..!؟ وهو ما يمثله الواقع فعلاً.
وفي مجال الديمقراطية والحرية يتحدث المشرع عن المبادرة لانتخابات حره والدعوة لتقديم مساعدات تقنية لمرحلة ما بعد الانتخابات عبر تبادل الزيارات والندوات والدعوة للتربية المدنية وتعزيز دور البرلمان في دمرقطة البلدان والإصلاحات التشريعية... كلام فضفاض حلو الشكل، أما على ارض الواقع فالأمر مختلف حيث ينطبق القول هنا [أشوف كلامك يعجبني وأشوف أفعالك استعجب] إذ المعلوم للكافة أن الحكومات الحليفة لأمريكا هي حكومات فردية دأبت على ممارسة السياسات العرفية التي تعتمد أساليب القمع والبطش بحق شعوبها بعيداً عن أي رقابة شعبية وتزودها أمريكا بالأدوات والمعدات والخبرات لتلك الغاية وأنها إذا أقامت مؤسسات تشريعية لتحسين صورتها أمام الإعلام الخارجي فإنها تهيء لها كل وسائل تزوير الإدارة الشعبية وتفرغها من كامل محتواها في حرية الرقابة والتعبير.
شعوبنا في هذه المنطقة دأبت منذ أوائل القرن الماضي حيث بداية ما يسمى عصر النهضة الحديثة على طرح قضايا الحرية والديمقراطية والتنمية كطموحات أساسية لمجتمعاتها، لكنها ويعلم ذلك تماماً العالم الغربي على جانبي شواطيء الأطلسي اصطدمت بالحكام والأنظمة الحاكمة التي أنشأها ورعاها الاستعمار ومدها بوسائل البطش والقمع حتى اليوم لتأمين مصالحه ومشاريعه العدوانية على حساب الشعوب وحرياتها وقدمت هذه الشعوب التضحيات من دماء مناضليها من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم حتى إذا برزت حالة متقدمة هنا أو هناك تصدت لها الدوائر الغربية بمختلف أشكال التآمر أو الانحراف بها وعند الضرورة إجهاضها أو مقاومتها بالحرب المباشرة ذلك ما تم بثورة مصر ثم ثورات المشرق العربي وما نحن بصدده الآن؛ وهكذا تهدف الورقة الأمريكية الأخيرة لتدمير مصداقية مناضلي وشرفاء الأمة من دعاة الحرية والديمقراطية والتنمية والتقدم حيث تعود إلى طرح شعاراتهم ولكن عبر رؤيتها ومن اجل ضمان مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة [والمقصود هنا الحليف الصيهوني أولاً]
• شعوبنا في هذه المنطقة لا ينقصها معرفة بالديمقراطية ولا بالانتخابات وشروطها وتقنية التسجيل لها وأدواتها ولا تحتاج كذلك إلى تبادل الندوات والزيارات التي تتحدث عنها الورقة للمعرفة والإطلاع بمقتضياتها، فإن في حضارتنا وقيمنا وما تطورنا إليه حالياً من الثقافة والفكر ما يؤهلنا للنهوض في مجتمعنا وإشادة البناء الديمقراطي بأنفسنا وفق مصالح هذه المجتمعات وطموحاتها، لكن ما يعوقنا عن ذلك هو أطماع القوى الكبرى في هذا العالم ومخططاتها العدوانية المستمرة منذ الحرب الصليبية وما بعدها حتى الحروب الأمريكية الصهيونية الحالبة ومشروعها الأخير هذا حول " الشرق الأوسط الكبير " الذي هو حلقة جديدة من حلقات التآمر والتضليل.(8/336)
• ويتحدث المشروع عن [بناء مجتمع معرفي] وأن المعرفة تمثل الطريق إلى التنمية والانعتاق وان نزف الأدمغة المتواصل يشكل تحدياً لآفاق التنمية وأن التعليم الأساسي في المنطقة يعاني من نقص [وتراجع] في التمويل الحكومي والعجز عن مواكبة العالم الخارجي... الخ كما ينتقد المشروع بشدة قلة الإنتاج الثقافي والإعلامي وارتفاع نسبة الأمية وخاصة بين النساء فيما يتجاهل المشروع متعمداً الأسباب والدوافع والمعوقات الأساسية في كل ذلك حيث ابتليت مجتمعاتنا بالاستعمار في وقت مبكر، وأننا بعد خلاصنا من عصور الانحطاط أواخر أيام الدولة العباسية خضعت المنطقة الانحطاط إلى الاحتلال العثماني وما ترتب عليه من سياسات الإفقار والتجهيل والتتريك حيث وبعد نضال مرير للخلاص جاء المستعمر الأوروبي الذي وإن حمل معه بعض مكونات التعليم والثقافة التي يسلتزمها ترسيخ وجوده واستغلاله فجزأ المنطقة إلى دول وأقام بينها الحواجز والحدود وأخضعها إلى إشرافه المباشر من خلال الأنظمة العميلة التي تخدم ذلك الوجود والاستغلال فقط وبأدنى الحدود ثم فجر الصراعات والاحتراب بينها بعد أن زرع في عمقها القضايا المتفجرة أو القابلة للانفجار عند الحاجة وذلك لتسهيل سيطرته عليها وتبديد امكاناتها واستغلال ثرواتها وفي المراحل الأخيرة كان يجري ضمن برامج دولية معروفة استنزاف عقول أبناء المنطقة بأساليب الترهيب والترغيب والإغراءات المنظمة لتفريغ المنطقة من وسائل التنمية التي يجعل منها الآن المشروع الأمريكي مآخذ علينا وهي كانت على الدوام من صنعهم هم وأدواتهم ومخططاتهم، وهم في ذلك ليسوا صادقين و/أو مخلصين في توجهاتهم في الشفقة الكاذبة علينا وإنما هم يطمحون إلى المزيد من استغلالنا وتثبت قواعدهم ومرتكزاتها المبتكرة إلى زمن طويل قادم بعد أن برزت عوامل التمرد وأخذت تعم المنطقة تفاعلات راديكالية قوية اضطرتهم إلى الدخول المكشوف إليها واستقدامهم الجيوش لاحتلالها من جديد تحت عنوان محاربة الإرهاب، لكن ذلك من خلال دراساتهم يحتاج إلى أساليب أمريكية سامة من نوع خاص مغطاة بمعسول المشاريع ومغرياتها للإيقاع بالشعوب من جديد في أحابيلهم وإحكام القيود في أطرافها لضمان إعادتها إلى بيت الطاعة الأمريكي الممتد إلى قرن آخر أو أكثر، وهم في دعواتهم إلى الثقافة والمعرفة والتنمية إنما يقصدون في واقع الأمر الدخول من هذه الأبواب على طريقتهم الخاصة فيتباكون على ضرورة تدريس مادة إدارة الأعمال والانترنت في محاولة لربط شعوب المنطقة ربطا فكريا وماديا محكما لا فكاك منة بعجلة الآلة الأمريكية ومستلزماتها وبذلك تفقد الشعوب مقومات سيادتها وتطلعاتها وامكاناتها إلى الاتفاق والتوحد على طريقة ما جرى في دول أمريكا الجنوبية وهذا أخطر ما في المشروع الأمريكي.
. ثم يبدي المشروع اهتماما خاصا بالموضوع الاقتصادي ويتحدث عما يطلق عليه [توسيع الفرص الاقتصادية]و[تمكين النساء] ويدعو إلى أن ترعى دول الثمانية زيادة مشاركه النساء في الحياة السياسية والمدنية ورعاية معاهد خاصة بالنساء تقدم تدريبا على القيادة للنساء المهتمات بالمشاركة في التنافس الانتخابي على مواقع في الحكم كما يتطرق المشروع إلى الإصلاح القانوني والمساعدة القانونية للناس والعبور إلى موضوع الشفافية والفساد وغير ذلك.
ويتضح من كل ذلك أن أمريكا في عصرها هذا تعمل إلى دس انفها ومخالبها في كل مناحي ومفاصل المجتمعات ومن ذلك مشروعها للشرق الأوسط الكبير وهي لا تخفى من خلال نصوص ذلك المشروع أن رائدها الذي تحدده إنما هو الحفاظ على مصالحها ومصالح حلفائها... وفي سبيل ذلك فهي تعلن عن استعدادها لتغيير الأنظمة الذي سيكون من خلال منظور أمريكي وأجندة أمريكية لا مجال فيها للمجاملة أو المهادنة وأن الإدارة الأمريكية تفضل أن يتم ذلك بشكل "ابوي" إذ لا مجال عندها للأبناء المشاكسين الذين كان العقيد القذافي نموذجا لهم، فالعصا والعصا وحدها دون الجزرة هي السياسة الأمريكية الجديدة التي تقف وراء مشروع "الشرق الأوسط الكبير" وما على جميع الأنظمة إلا أن تبادر إلى توفيق أوضاعها، وفي ذات السياق يقول المشروع[وقد استجاب بعض الزعماء في الشرق الأوسط الكبير بالفعل لهذا النداء واتخذوا خطوات في اتجاه الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي -كذا....]
وأخيرا وبالمقابل فإذا كانت الإدارة الأمريكية القائمة تحاول أن تجعل من نفسها إمبراطورية العالم في هذا العصر وتعتقد أن قدراتها فوق مستوى شعوب الأرض فإن درسا أو أكثر قد تتلقنه على أيدي بعض الثوار ورجال المقاومة هنا أو هناك من شعوب المنطقة يكفي لتقزيمها أو إحباط خيالات قادتها وغطرستهم، فهم وان بلغوا بقدرتهم العلمية والتقنية أعنة السماء وكواكبها فإن إمبراطوريتهم يمكن أن تتفكك أمام قوة الشعوب أو أن تتحجم وترحل على أقل تقدير أمام ضربات الأحرار..... دروس يجب أن تستوعبها من فيتنام والصومال وأخيرا وليس آخراً سيكون ذلك في العراق مكررين معه التكبير وليخسأ الخاسئون.
http://www.ala r abnews. com المصدر:
============(8/337)