الإعلام النقي ، كما يسميه الداعون إليه .. ليس معنياً بالأسلمة، بمفهومها (المؤدلج)، وهو ما يدافع عنه المهتمون به، والداعون إليه.. ضد دعوى من يتصدى لأسلمة الإعلام، ويشكّكون بنوايا الداعين للأسلمة، بدعوى الحزبية والأدلجة. ينطلق مفهوم الإعلام النقي من مبدأ أن الفضائيات العربية، بوضعها الحالي تمارس تأثيراً سيئاً، واعتداءً منظماً، على منظومة الأخلاق العربية الإسلامية، وتسهم في تسطيح اهتمامات الإنسان العربي، وإعاقة نمّوه الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، إضافةً إلى تغييبه عن واقعه. إن الاحتجاج على ما تبثه الفضائيات العربية، والتحذير من خطرها على الدين والهوية .. كما يرى الداعون إلى إعلام عربي نقي، أمر مشروع، وله ما يسوّغه من واقع تلك الفضائيات.
الفضائيات الإسلامية:
حرية الاختيار F r eedom of choice :
بعيداً عن جدل المصطلح، وأسلمة الإعلام، ومفهوم الإعلام النقي، يجب الإقرار ابتداءً، أن انطلاق البث الإعلامي الإسلامي قد حقق قيمة عليا .. هي مبدأ (حق الاختيار) للإنسان العربي.
من المتفق عليه أنه لا يمكن الحديث عن إعلام (حقيقي)، يعكس نبض الشارع، وتوجهات الناس، إلا في بيئة (ديمقراطية) حرّة، تكفل حق التعبير .. وحق اختيار مصدر المعلومات، الذي يعرّض الإنسان نفسه له. لقد صارت حرية الاختيار والتعبير، بعد البث الفضائي الإسلامي حقيقة قائمة، وحقاً أصيلاً للمشاهد العربي، المحافظ منه على وجه التحديد. أصبح بوسع ذلك المشاهد أن يختار نوع (الشاشة)، التي يجلس أمامها، والرسالة الإعلامية التي يستقبلها.
الإطار النظري Theo r etical F r amewo r k :
تقوم العملية الاتصالية Communication P r ocess، على عناصر أربعة: المرسل (SENDE r )، والرسالة MESSAGE ، والقناة CHANNEL ، والمستقب صلى الله عليه وسلم ECIEVE صلى الله عليه وسلم
يمكن تفسير وفهم عمل الإعلام الإسلامي.. الفضائي منه تحديداً، من خلال إطار نظري يقوم على نظرّيتين لهما علاقة بعنصرين من عناصر العملية الاتصالية. الأولى لها علاقة بالمرسل ( SENDE r )، أو المؤسسة الإعلامية، والثانية مرتبطة بالمستَقْبِل .. أو الجمهور ( r ECIEVE r ).
النظرية الأولى:
نظرية المسؤولية الاجتماعية Social r esponsibility Theo r y
إذا كانت نظرية الحرية قد ظهرت كرد فعل على تعسف النظم الشمولية، ومصادرتها لحق التعبير، من خلال ما عُرف في الوسط الإعلامي .. بنظرية السلطة Autho r ity Theo r y، فإن نظرية المسؤولية الاجتماعية، ولدت بسبب الاستخدام الخاطئ لمفهوم الحرية، في وسائل الإعلام .. ذلك الذي مهدت له نظرية الحرية سوء الاستخدام لمفهوم الحرية، سواء كان من قبل ملاّك تلك الوسائل أو من قبل ( الإعلاميين ) أنفسهم. لقد أفرطت نظرية الحرية F r eedom Theo r y في إعلاء حرية الفرد على حساب مصلحة المجتمع، وبالغت في منح الفرد الحق في التنصل والتحرر من أي مسؤولية اجتماعية، أو قيمة أخلاقية في ظل هذه النظرية، ومع تحول الإعلام إلى صناعة صار يُنظر إلى كل شيء، على أنه (سلعة) .. حتى المبادئ والقيم، وأصبح جني المال هدفاً بحد ذاته، ولم يعد للجشع الفردي حدود.
في مقابل ذلك، ترى نظرية المسؤولية الاجتماعية، أن للفرد حقاً، وللمجتمع أيضاً حقوقاً، بوصفه مجموعة أفراد لهم حقوقهم، وينخرطون في الوقت نفسه، في (مؤسسات) اجتماعية، تسعى لخدمة الصالح العام .. وتحتاج لذلك، إلى حماية من نزوات الأفراد، وتسلط الرغبات الفردية. على المستوى الإعلامي سعت نظرية المسؤولية الاجتماعية للحد من تحكم الرغبات الشخصية، وتأثير الآراء الفردية في نسق الحياة العامة للجماعة .. و لتحقيق توازن بين حرية التعبير، ومصلحة المجتمع: "حريتك تنتهي، حيث تبدأ حقوق الآخرين". تبدو معادلة دقيقة .. لكن الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، هو الذي يحققها. إعلامياً: المؤسسة الإعلامية، تضطلع بمهام و وظائف اجتماعية جوهرية في حياة الناس.. ولها دور تربوي وتثقيفي، وليست مجرّد منبر لفرد، أو مجموعة أفراد، يمارسون من خلاله رغباتهم، عبر سطوة رأس المال.
وجد القائمون على الإعلام الإسلامي، أن نظرية المسؤولية الاجتماعية، هي الأقرب لتمثيل الفكرة الإسلامية إعلامياً، والأكثر تعبيراً عن مفهوم الإعلام، الذي يحمل رسالة، وملتزم أخلاقياً.. وهو ما يسعون لتطبيقه في عالم الواقع لكبح جماح الانفلات الأخلاقي. وهي كذلك النظرية التي يمكن من خلالها تحقيق الصالح العام، ولجم طغيان الأهواء الفردية.
النظرية الثانية:
نظرية الاستخدامات والإشباع Uses and G r atification Theo r y
مع ازدهار صناعة الإعلام، اعتمد بعض العاملين في مجال الإعلام، على هذه النظرية، لتسويغ السياسة الإعلامية التي ينتهجونها .. إنتاجاً وممارسة. تقوم النظرية على تفسير سلوك الجمهور تجاه وسائل الإعلام، على أساس من استخدام الأفراد للوسائل، وما يحققه استخدامهم لها من إشباع نفسي وفكري.
جاءت هذه النظرية لتقلب المعادلة كما يقال. كان الجزء الكبير من بحوث الإعلام، والدراسات، يتناول تأثير وسائل الإعلام في الجمهور، عبر (الرسائل) الإعلامية، ويركز على:
ماذا (يصنع الإعلام) بالناس؟(5/267)
نظرية الاستخدامات والإشباع، طرحت السؤال بشكل معاكس:
ماذا (يصنع الناس) بوسائل الإعلام؟
بناء على النظرية، فإن اهتمامات أفراد الجمهور، وعادات المشاهدة عندهم، والغرض الذي يعرضون أنفسهم لوسائل الإعلام من أجله، هو الذي يحدد ما يُنْتَجْ .. أو يُعْرَضْ في وسائل الإعلام. الزعم كان، أن المؤسسات الإعلامية، ووسائل الإعلام، لا (تتعمد) إنتاج وبث مواد إعلامية بعينها. إنها فقط .. (تساير) رغبة المشاهد وميوله، الذي يطلب هذا النوع من البرامج، ويستخدم وسائل الإعلام للحصول عليها.. ليتحقق له الإشباع.
مفهوم نظرية الاستخدامات والإشباع، هو الذي روّج فيما يبدو لمقولة شعبية سادت في الأوساط الإعلامية العربية .. وهي : "الجمهور عاوز كده" ! كانت هذه العبارة تُقال، في سياق (الدفاع) عن موجة من البرامج الهابطة والمسفة، غمرت، وما زالت تغمر وسائل الإعلام العربية.
أثبتت تجربة الإعلام الإسلامي، وتنامي الشريحة المهتمة به، من خلال توظيف نظرية الاستخدامات والإشباع أن المشاهد العربي ليس مجرد كائن غرائزي .. يلهث خلف الترفيه الرخيص، والإثارة العارية. أثبتت كذلك، زيف مقولة إن "الجمهور عاوز كده". إنه لمّا امتلك حق الاختيار، استخدم الوسيلة الإعلامية، في تحقيق إشباع نفسي وفكري، سامٍ ومتحضر.. بعيداً عن سطوة الغريزة، وبرامج التسطيح الفكري، وعروض الترفيه الهابطة التافهة.
المعيار الأخلاقي:
يحكم العمل الإعلامي، من منظور إسلامي، معايير أخلاقية صارمة. القاعدة العامة التي تحكم أي نشاط بشري، على أساس من هذا المنظور هي:
الممارسة ليست غاية بحد ذاتها، بل بما تحققه من (فضيلة) Vi r tue. كما أن الممارسة نفسها.. إذا كانت صحيحة، تُعدّ نوعاً من العمل الصالح Good Deed، الذي ينال المسلم بسببه، الأجر من الله.
الفضيلة هنا، معنى عام .. لكل ما دعت إليه الشريعة، وما تراه حسناً، من قول أو فعل. وهي كذلك .. أي الفضيلة، هَدَف وغَايةَ العمل الإعلامي الإسلامي، لكن هذه الغاية، لا تُحقّق بأي وسيلة. هذه الرؤية للعمل الإعلامي خضعت لنقاشات طويلة، وتبلورت عن معيار أخلاقي، يحدد طبيعة عمل الوسيلة الإعلامية، وشكل الممارسة الإعلامية. تمحور مفهوم المعيار الأخلاقي .. بشكل رئيس حول مسألتين لهما علاقة بالوسيلة الإعلامية.. من حيث هي (قناة) medium، ومن حيث هي (رسالة) message. هاتان المسألتان هما: المرأة والفن.
المرأة:
تحتل قضية المرأة .. الصدارة في أي مسألة خلافية بين الإسلاميين وغيرهم. لا يمكن فهم أصل الخلاف .. الذي يؤدي إلى سوء الفهم دون معرفة موقع المرأة في الشريعة الإسلامية، ورؤيتها للدور الذي تضطلع به في الأسرة والمجتمع المسلم .. ثم مفهوم الحلال والحرام، في العلاقة بين الرجل والمرأة.
لا ينظر الإسلام إلى المرأة -بعكس ما يظنه كثيرون- على أنها كائن أقل من الرجل، وعضو منتقص الحقوق. في واقع الأمر، تمنح الشريعة الإسلامية المرأة كثيراً من الحقوق في الحياة العامة. بل إنها في بعض الجوانب لها من الحقوق أكثر مما للرجل.
تثير حماية الإسلام للمرأة، والضوابط التي يضعها للحيلولة دون استغلالها علامات استفهام كبيرة. شرح العلاقة بين الرجل والمرأة، والأسئلة التي تثيرها طبيعة دور كل منهما.. كما قرره الإسلام لا يمكن الإجابة عنها، من خلال عزوها إلى نسبية ثقافية، تصوغ تلك العلاقة، وتحدد ذلك الدور. قاعدة الحلال والحرام في الإسلام لا تخضع لمفهوم النسبية الثقافية، بل تأخذ الأحكام وفق هذه القاعدة أبعاداً قطعية نهائية بحيث لا يمكن الالتفاف عليها تحت أي مسوّغ.
العلاقة بين الرجل والمرأة، واضحة الحدود والمعالم، مثلما أن دور المرأة في المجتمع واضح ومحدد. سوء الفهم ، حول موقف الإسلام من المرأة، والدور الذي حدده لها ناشئ من عملية إسقاط مفردات نظام ثقافي مغاير، على مجتمعات إسلامية تشكلت وفق ثقافة لا تقبل تمييع الحدود بين الجنسين، ولا تسمح بتداخل أدوارهما.
واقع المرأة -على الأغلب- في وسائل الإعلام حالياً، ينطلق من فلسفة صناعة الإعلام القائمة في معظمها على استغلال المرأة فيما يشد الرجل إليها.. وهو تحديداً جسدها. توظيف المحسوس لدى المرأة لجذب الرجل.. يرفضه الإسلام؛ لأنه يلغي كينونة المرأة، ويحوّلها إلى (شيء) Subject، ويزدري قيمتها الإنسانية. حدود الحلال
والحرام، كما يقررها الإسلام، تمنع إيجاد أوضاع تشجع على استغلال المرأة، أو تدفعها لتجاوز الحدود، التي وُضعت لحمايتها .. تحت أي ذريعة. الإسلام كذلك، قرر شكل وإطار العلاقات بين الرجل والمرأة، ومستوى الاتصال والتواصل بينهما .. وحدد بشكل قاطع دور كل واحد منهما. على أساس من ذلك لا يمكن (افتراض) علاقة من أي نوع بينهما، غير ما هو محدد أساساً، ولا اختلاق أدوار، غير التي رسمت لكل منهما .. ابتداء. لأنه لا مكان لعلاقة (متخيّلة) ، ولا لأدوار (مفترضة) .. في مسائل الحلال والحرام.(5/268)
برزت (مشكلة) المرأة في وسائل الإعلام العربية، حين نظر لطبيعة مشاركتها، وفق منظور ثقافي دخيل، وعندما تم (تَشْيِيئهَا) .. وفق ذلك المنظور، فصار يمكن عرضها، ضمن سلوك استهلاكي. فهي يجب أن تظهر بشكل وهيئة مقبولة .. للرجل. وهي كذلك، يجب أن تكون ضمن (رسالة إعلامية)، تشتمل على إغراء بمتابعتها، من قبل الرجال. المرأة في الإعلام الإسلامي، غير مقبول أن يتم تحويلها إلى شيء، أو (سلعة) .. يحكمها قانون العرض والطلب. ظهور المرأة في الإعلام الإسلامي، محكوم بالضوابط العامة للشريعة، التي تحدد دورها في الحياة اليومية. مثلما أنه لا يمكن وجود ممارسة (مفترضة) للمرأة في الحياة العامة، غير ما قررته الشريعة لها، فإنه كذلك، لا يمكن الحديث عن (ممارسة إعلامية) للمرأة، في ظل ظروف وأوضاع.. غير تلك التي تمارسها في حياتها اليومية، المنضبطة بأحكام الشريعة. هذا الواقع، وضع حدوداً وضوابط ، على عمل المرأة، وظهورها في وسائل الإعلام. تتسع هذه الحدود وتضيق ، بقدر ما تقترب المرأة، أو تبتعد.. عن أحكام الإسلام.
الإعلام الإسلامي أيضاً، بوصفه نشاطاً بشرياً لأفراد مسلمين، محكوم بقاعدة الحلال والحرام .. التي يؤمن بها أولئك الأفراد.. ولا يستطيع أن يخرج عليها، ليظل يحمل صفة الإعلام الإسلامي، ويبقى القائمون عليه، يوصفون بأنهم مسلمون ملتزمون في ممارستهم الإعلامية، بما في ذلك رؤيتهم لدور المرأة في الإعلام.
الفن:
الفن للفن.. أو الفن للرسالة ..؟
النقاش ما زال قائماً .. وسيبقى ، حول مسألة أن للفن قيمة قائمة بذاتها، خارج أي سياق ثقافي. يجادل الذين يؤمنون بمبدأ "الفن للفن" .. أن الفن يجب ألاّ يخضع لأي قيد أخلاقي، وأن يكون معبراً عمّا يسمىّ (الحقيقة) الإنسانية، في شكلها الأول. بناء على رأي هؤلاء، الأديان، والقوانين الأخلاقية التي يضعها الإنسان، أشياء محدثة وليست قديمة، تنطلق في تقييد الفن بضوابط أخلاقية .. بدافع من طبيعتها المؤدلجة. الفن.. على ضوء هذه الرؤية، هو المعبّر عن روح الإبداع التي لا تعترف بحدود ولا قيود من أي نوع. أدلجة الفن بإخضاعه للمعايير الأخلاقية- كما يقولون- يؤدي إلى خنق الإبداع . النحات مثلاً .. برأيهم، الذي ينحت جسداً عارياً، يعرض إبداعاً و(فناً) A r t، وليس معنياً بمفهوم (الإباحية) Po r nog r aphy، الذي ترفضه المعايير والضوابط الأخلاقية. إنه يقدم (رسالة) جمالية.. ليس أكثر. يضيف هؤلاء كذلك، أن المعيار الأخلاقي نسبي، يختلف من ثقافة لثقافة، ومن فرد لآخر، داخل الثقافة الواحدة.
مبدأ الفن لأجل الفن، فتح الباب لممارسات، وسلوكيات كثيرة فيها تجاوز لمسلمات أخلاقية واجتماعية .. كلها صار يدرجها أصحابها تحت مفهوم الفن.
في الإعلام الظاهرة كانت أوضح؛ إذ انتهكت كثيراً من القطعيات الدينية والأعراف الاجتماعية، وتم التعدي على محرمات دينية، أو التقليل من رموز مقدسة.. باسم الفن والإبداع.
مقابل الفن لأجل الفن وُجدت دعوة: الفن للرسالة. يؤمن أصحاب هذه الرؤية بالقيمة الجمالية للفن.. وأن الجمال قيمة أخلاقية بحد ذاته. لكن أنصار هذا الاتجاه يرون أن الفن إذا تجرّد من رسالته الأخلاقية، واتكأ على الذائقة الفطرية فقط في تقديم الجمال.. يهبط إلى مستوى العرض الغريزي، الذي لم تهذبه الأخلاق التي جاءت بها الرسالات السماوية، أو دَعتْ إليها الفلسفات الأخلاقية. الفن بوصفه عملاً إبداعياً، ليس فعلاً مجرداً من أي قيمة. كل عمل يحمل رسالة، وكل رسالة تنطوي على قيمة. الترفيه مثلاً .. رسالة إعلامية، وممارسة تشتمل في جوهرها على إبداع، وفي ثناياها يوجد ثمّة (قيمة). إذاً .. لا يوجد ترفيه بريء، ولا توجد (رسالة) لا تحمل قيمة. كل رسالة إعلامية تحتوي بالضرورة - ضمن أشياء أخرى- على مجموعة قيم Value-Loaded Messages.
هذه الفلسفة هي ما يقوم عليه مبدأ: الفن من أجل الرسالة. القائمون على الإعلام الإسلامي، يصفونه بأنه (إعلام رسالي) . ضمن هذا الوصف، كل أنشطة الإعلام يجب أن تحمل في طياتها رسالة. هذه الرسالة.. هي في جوهرها رسالة الإسلام.. أو رسالة من (رسائل) الإسلام. الفن .. بصفته أحد أهم الممارسات الإعلامية، سواء كان دراما، أو ترفيه، لا يخرج.. من وجهة النظر الإسلامية، عن هذه القاعدة: "الفن من أجل الرسالة". الرسالة الإعلامية الإسلامية كذلك، لابد أن تُؤَدّى من خلال الوسائل المشروعة. قاعدة الحلال والحرام لا تغيب، بل تحكم مضمون الرسالة .. (القيمة التي تحملها)، مثلما تحكم الوسيلة التي تنقل الرسالة. الوسيلة هنا، ليست فقط الوسيط Medium، الذي يحمل الرسالة، بل كذلك الآلية التي يتم التعبير عن الرسالة من خلالها، سواء كان نصاً Text، أو صورة Pictu r e. معالجة قضية تتناول دور المرأة في المجتمع مثلاً، لا تتم من منظور الإعلام الإسلامي من خلال سيناريو، يشتمل على (نص) و (صورة) ، لعلاقة متخيّلة (درامياً)، بين رجل وامرأة .. لا يمت أحدهما للآخر بصلة.
سؤال الهوية:(5/269)
مسألة ( الهوية )، هي أبرز ما تثيره دعوات الأسلمة، وما لفتت النظر إليه تجربة الإعلام الإسلامي، من خلال البث الفضائي. هناك ملمحان في هذه المسألة. الملمح الأول، له صلة بالدين والمنظومة الأخلاقية، والثاني له علاقة باللغة. تتعرض الأمة لخطر استلاب حضاري، يتهدد هويتها. يحدث هذا، من خلال ممارسة إعلامية، ساهمت في إضعاف صلة الأجيال العربية بدينهم.. وتمردهم على نظامه الأخلاقي، عبر بث فضائي مكثف، فيه تجاوز كثير وكبير، لكل ما هو ثابت وأخلاقي. صنعت تلك الفضائيات كذلك، قطيعة بين تلك الأجيال، ولغتها الأم.. من خلال طغيان العاميات المحلية الهجينة، واللغة الأجنبية على اللسان العربي. أورث هذا الواقع وضعاً قريباً من حال فقدان الهوية Miss of identity، بسبب آثاره السلبية على الدين واللغة.
الدين والمنظومة الأخلاقية:
انعزل الإسلام في الفضائيات العربية، في برنامج (ديني) أسبوعي أو يومي، لشيخ يجلس أمام الكاميرا، يتحدث ساعة من الزمن، في شؤون لا علاقة للناس بها. إلى جانب البرنامج الديني، تمتلئ ساعات البث الأخرى، التي قد تمتد إلى أكثر من (20) ساعة، بكل ما هو غير ديني، وأحياناً (غير إسلامي). إبتداء من الأفلام الأجنبية المترجمة، أو المدبلجة، وانتهاء بأغاني (الفيديو كليب). تمتلىء هذه الأفلام بكثير مما يناقض الإسلام فكرياً وأخلاقياً.. وأحياناً يسخر من بعض قيمه وتعاليمه. بل إن بعض هذه الأفلام .. خاصةً الأفلام المترجمة والمدبلجة تعبر عن موقف ضدّي، لمباديء الإسلام حين تروج لأسلوب حياة يصادم الأخلاق العربية الإسلامية في أساسها، مثل العرض (المحايد) للمشاهد المخلة، والعلاقات المحرمة، والخيانة الزوجية، ونكاح المحارم. أغاني الفيديو كليب التي أصبح لها قنوات عربية، مستقلة بذاتها، ليست إلا عرضاً رخيصاً ومباشراً لأجساد النساء، ولمشاهد جنسية فاضحة .. وتهييجاً فجاً وساقطاً، لغرائز الشباب.
إضعاف الوازع الديني، وانتهاك المحرمات، الذي أصبح سمة لازمة، لغالب البث الفضائي العربي .. احياناً بذرائع سياسية، باسم تجفيف منابع التطرف- أوجد حالاً من فقدان الهوية، وأفرز وضعاً أخلاقياً هشاً، تفشت في ظله الجريمة الأخلاقية. لقد تشكلت، بفعل هذه الفضائيات (ثقافة) موازية .. غير جوهرية، على خصام مع جوهر الثقافة الأصلية. لم يعد معظم الشباب العربي، على وجه الخصوص، يعبر في سلوكه.. عن ثقافة عربية شرقية .. محافظة، فضلاً عن أن تكون إسلامية. كما أن (القيم) الغربية التي اكتسبها، من تعرضه للفضائيات العربية، لم تجعله يتحلى بصفات الشخصية الغربية (الجادة)، التي حققت إنجازات، على الصعيد الفكري والتقني. التحلل الأخلاقي للمجتمعات الغربية وآثاره على النظام الأسري، والنسق الاجتماعي.. إضافة إلى تفشي الأمراض، الناتجة عن العلاقات الجنسية المحرمة، أصبح أكثر مظاهر الحضارة الغربية حضوراً، في المجتمعات العربية.
المهتمون بالإعلام الإسلامي، بعد مطالعات عميقة، لتأثير وسائل الإعلام على الجمهور .. مما ورد في الدراسات الكثيرة والمكثفة، التي أجريت في المجتمعات الغربية نفسها .. أدركوا الدور المدمّر لوسائل الإعلام، بما تبثه من رسائل إعلامية، على المتلقي العربي، خصوصاً ثوابته وقيمه الدينية. لم يعد قولاً جزافاً، الحديث عن
وجود غربة حقيقية عن تعاليم الدين في أوساط الشعوب العربية.. ساهمت الفضائيات العربية، بشكل كبير فيها. بل إن هذا الواقع أفضى إلى نشوء تيارات شبابية متطرفة نزعت إلى العنف للتصدي لما تعتقد أنه عملية تدمير مقصودة لمنظومة الأمة الأخلاقية، وتهديد لوجودها. هذه الحقيقة هي ما دفع بعض الجهات والأفراد، لتبني عمل إعلامي إسلامي مؤسساتي، يأخذ على عاتقة المحافظة على هوية الأمة، ويصون أبرز مقومات وجودها .. وذلك بحماية دينها ومنظومتها الأخلاقية، من هجمة (ثقافة) الفضائيات العربية.
اللغة:
اللغة وعاء الحضارة، وأَحَد أهمّ مظاهر الهوية، وهي كذلك، عنوان شخصية الأمة .. ومن أهم أسباب وحدتها. حوت اللغة العربية ميراث الأمة الحضاري، وساهمت في حفظ وحدتها الفكرية والجغرافية لقرون طويلة. تتراجع اللغة العربية الآن، بشكل كبير، على ألسنة أبنائها، أمام سيطرة اللهجات العامية المحلية، ومنافسة لغة هجين.. خليط من بعض كلمات عربية، وكثير من مفردات إنجليزية. تساهم الفضائيات العربية بشكل رئيس في تكريس هذا الوضع الكارثي للغة العربية؛ إذ تكاد تكون كل البرامج الناطقة بـ (العربية)، تتحدث بهذه العاميّات، أو باللغة الهجين. يستوي في ذلك .. البرنامج الاجتماعي، أو السياسي. أما الدراما (العربية) فكلها بلا استثناء ناطقة بالعامية.(5/270)
على الرغم من أن العالم العربي ينتظم سياسياً في جامعة الدول العربية، التي تؤكد انتماء شعوبه إلى قومية واحدة ولسان واحد، إلا أن غَلَبَةْ العاميّات، يجعل التواصل بين الشعوب العربية، أمراً صعباً ومتعذراً . كان متوقعاً أن تؤدّي الفضائيات العربية، بوصفها إعلاماً جماهيرياً Communication Mass، دوراً جوهرياً.. في توحيد الشعوب العربية، وتعزيز تواصلها بتقليص العامية، ونشر اللغة العربية؛ إذ معلوم .. أن وحدة اللغة، تساهم في عملية دمج الشعوب الناطقة بها، وتعمل على صياغتها في وحدة قومية واحدة National Integ r ation. لكن الذي حدث خلاف ذلك: تكريس العامية، وتقليل فرص التواصل والتفاهم.
يسعى الإعلام الإسلامي، باستخدامه اللغة العربية الفصحى، عبر البث الفضائي، لإعادة الاعتبار للغة العربية، من أجل حفظ هوية الأمة، والسعي لوحدتها .. وتعزيز تواصل شعوبها.
جدل المهني والديني:
اصطدمت المحاولات لتأسيس إعلام إسلامي .. في البداية بآراء فقهية، تحفظت كثيراً، على استخدام بعض تقنيات الممارسة المهنية الإعلامية، وعلى التوسع في استخدام تقنيات أخرى. المدرسة الفقهية الإسلامية بمذاهبها الأربعة فوجئت بالعملية الإعلامية، وتطوراتها المتسارعة، وبالدور الجوهري والحيوي، الذي صارت وسائل الإعلام .. بعد أن تحوّلت إلى صناعة، تقوم به في المجتمعات. وجد الفقهاء، ورجال الفكر الإسلامي أنفسهم أمام ظاهرة لا يمكن تجاهلها، فضْلاً عن رفضها. كما أن الموقف السلبي، الذي لا يتفاعل مع حدث بمثل هذه الضخامة، ويعيد تكييفه، ضمن النسق الحضاري الخاص به، ومقومات الثقافة المحلية، يؤدي إلى نتائج خطيرة، تنسحب آثارها على الدور الحضاري للأمة، وعلى تماسك النظام الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع، وتنعكس آثاره السلبية على سلوك الأفراد. أبرزَ تقْنيتَينْ مهنيّتين إعلاميّتين، ثار حولهما جدل فقهي هما: الصورة والموسيقى.
الصورة:
لم ينل شيء من الوعيد والنكير، في أدبيات الفقه الإسلامي، بعد القَطْعيّات المحرمة، تحريماً أبدياً، مثل ذلك الذي ناله التصوير. منذ البداية.. اتخذ الإسلام موقفاً حاداً ورافضاً للتصوير. فَهْمُ التوحيد، الذي يقوم عليه أصل الاعتقاد في الإسلام، يساعد في معرفة الموقف الحدي، الذي اتخذه التشريع الإسلامي، من الصورة والتصوير. يقف التوحيد نقيضاً للشرك، الذي هو إشراك الله سبحانه في العبادة بصيغ شتى، لكنه في أظهر أشكاله، يتمثل بالوثنية، التي تقوم على عبادة (الصور) والتماثيل.
العلاقة الظاهرة بين التماثيل وبين الأصنام، والوثنية وطقوسها الشركية، خلق ارتباطاً لا شعورياً، وعلاقة غير ظاهرة، بين (الصورة) والأصنام، بوصفها ذريعة إلى (الشرك). اعتمدت الآراء الفقهية التي قالت بتحريم التصوير على أحاديث صريحة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها تحريم للتصوير، ووعيد للمصورين. الموقف الفقهي الصارم، في تحريم التصوير على إطلاقه، منع طويلاً .. أي مشاركة فاعلة للإسلاميين في العملية الإعلامية. هجمة الفضائيات العربية التي ملأت السماء العربية بقنوات .. تبث كل ما يهدد الأمة في دينها، ولغتها، وهويتها، جعل القيادات الفكرية الإسلامية تطلق صيحات التحذير حول خطورة (الغياب) عن مجال حيوي كهذا. استشعار الخطر حيال واقع الفضائيات العربية، دفع بعض الفقهاء، إلى القول بأن مناط التحريم في التصوير، هو العلاقة المباشرة، بين الشرك وعبادة التماثيل، التي هي شكل من أشكال التصوير. هذا الرأي حرّض الفقهاء، لإعادة النظر في حكم التصوير، وَقَصْر تحريم التصوير، على المجسّم منه فقط، مثل النحت وصناعة التماثيل. مَثّل هذا الاجتهاد الفقهي، تطوراً غير مسبوق، في النظر إلى قضية التصوير. بناءً على ذلك، اعتبر التصوير الفوتوغرافي، وكذلك التصوير التلفزيوني، غير داخلين في التصوير المحرم، والمنهيّ عنه.
حَسْمُ مسألة التصوير فقهياً فتح الباب لتجاوز أهم العقبات الفقهية والمهنية أمام قيام عمل إعلامي إسلامي حديث. مع ثورة الاتصال ودخول العالم العربي تجربة البث الفضائي ظهرت تجارب فضائية (إسلامية) أخذت مكانها في الفضاء العربي، واقتطعت حصة لا بأس بها، من جمهور الفضائيات العربية.
الموسيقا:
هناك أحاديث شريفة، عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تنص صراحة على تحريم الموسيقى. جاء ذلك تحديداً ضمن أحاديث نبوية تحرم الغناء وآلات الطرب التي وصفتها الأحاديث بـ (المعازف). العلماء الذين خرجوا على الإجماع بتحريم الغناء، والموسيقى التي تصاحبه، اشترطوا للتحريم أن يكون الغناء فاحشاً .. كلمةً وأداءً. هذا الرأي لم يلق قبولاً لدى جمهور علماء المسلمين؛ فظل الرفض للغناء قائماً، وبقي الموقف من الموسيقا، موضع جدل.
الجدل حول الموسيقا زاد واتسع مع نمو وسائل الإعلام، وازدياد استخدام الموسيقى في تلك الوسائل .. في غير الغناء . تطور الوضع بعد ذلك، حتى صارت الموسيقى تستخدم في أمور أخرى غير وسائل الإعلام. الجدل تطور، واتخذ شكل الخلاف على المصطلح، وصار السؤال: هل هي موسيقا music، أم مؤثرات صوتية Sound Effects ..؟(5/271)
أصبحت المؤثرات الصوتية، جزءاً أساسياً من تقنيات العمل الإعلامي، مثل الإضاءة، والصورة، و (الجرافيكس) . مع تطور تقنية الصوتيات الحديثة، التي تستخدم الكمبيوتر في مزج الأصوات، لم تعد الآلات الموسيقية وحدها هي وسيلة إنتاج المؤثرات الصوتية. التقدم التقني في إنتاج المؤثرات الصوتية، جعل الجدل الفقهي القديم حول الموسيقا، محل نقاش، وموضع نظر.
اعتبر المهتمون بالإعلام الإسلامي، تقنية إنتاج المؤثر الصوتي، فتحاً كبيراً في أسلمة العمل الإعلامي، وممارسته بطريقة مهنية حديثة. صار هناك كلام عن (بديل صوتي) للموسيقى، يتم مزجه الكترونياً، من مجموع أصوات تُستقى من الطبيعة، ويقوم بدور المؤثر الصوتي الفقهاء اعتبروا ذلك حلاً (شرعياً) .. ومثل ذلك انطلاقة مهنية للعمل الإعلامي الفضائي الإسلامي، وتجاوزاً لمشكلة أخرى، اقترنت بالتصوير.. وظلت فترة طويلة عقبة تحول دون مشاركة فاعلة للإسلاميين، في النشاط الإعلامي.
خاتمة:
تمثل تجربة القنوات الإسلامية، عملاً جديداً ومختلفاً، بكل المقاييس. جدّة التجربة واختلافها ليس في مهنية العمل، أو في استخدام تقنية جديدة .. خاصة بها، غير موجودة عند غيرها من القنوات. التفرد كان في (الثورة) النوعية، التي أحدثتها القنوات الإسلامية، في مجال البث الفضائي. في وقت لم تلتزم القنوات الفضائية الأخرى، بأي ضابط يحكم طبيعة البث ونوعه، إلا ما كان له علاقة بالتنظيمات (القانونية) في البلد الذي تعمل فيه .. وضعت القنوات الإسلامية معايير صارمة .. أخلاقياً ومهنياً، تحكم سياستها في البث. الحرية غير الملتزمة بقيود من أي نوع أعطى الفضائيات غير الإسلامية هامشاً كبيراً جداً للعمل. في المقابل .. المعايير والضوابط الأخلاقية للقنوات الإسلامية ضيقت هامش العمل لديها، وحدّت من استخدامها لكل ما هو (متاح)، في مجال العمل التلفزيوني .. مما يمكن أن (يجذب) المشاهدين، بمختلف شرائحهم، كما هو حال الفضائيات الأخرى.
أمْرٌ آخر يُحسب للقنوات الفضائية الإسلامية أنها نجحت في امتحان وإثبات مبدأ "التعرض الاختياري" Selective Exposu r e، كأحد أهم الفروض التي تفسر عملية اكتساب المعلوماتInfo r mation Acqui r ement ، ومن ثمّ التفاعل معها. وفق هذه الفرضية، فإن الفرد يختار أن يعرّض نفسه لمصدر معلومات (معين)، ويتفاعل معه، ويتأثر بما فيه من معلومات .. ويكتسبها، على أساس من احتياجه. هذه النتيجة، تؤكد الحاجة لتوسيع هامش الاختيار أمام المشاهد العربي، بتشجيع قيام قنوات جادة، تسهم في الارتقاء بالوعي والثقافة، كما أنها -كذلك- تدحض الزعم بربط تنامي السلوك المحافظ، والصحوة الدينية، في أوساط المجتمعات العربية، بنفوذ أفراد .. أو مجموعات غامضة، تمارس ضغوطاً على الناس، لإقناعهم بأفكارها. التعرض الاختياري، قرار شخصي بحت، يتم بمعزل عن أي نفوذ لطرف خارجي.
إذا كانت أبرز الملامح النوعية لتجربة القنوات الإسلامية قدرتُها على تقديم مضمون جاد، واستقطاب جمهور يهتم به .. في ظل أنماط متعددة لسلوك إعلامي استهلاكي، يعتمد على الإثارة .. بمختلف أشكالها، فإنه يجب الإقرار أن تجربة القنوات الإسلامية، لا تخلو من قصور مهني... حداثة التجربة، ونقص الكوادر المدربة، من أهم الأسباب، وغياب الرؤية أحياناً .. سبب آخر مهم. لا يمكن الادّعاء كذلك أن كل (الأهداف) التي تقول القنوات الفضائية الإسلامية إنها وضعتها، جزءاً من سياستها، بوصفها إعلاماً إسلامياً .. قد تحققت. استخدام العامية في تلك القنوات، ما زال موجوداً، وإن كان بنسبة أقل من غيرها من القنوات. بعض القنوات الإسلامية كذلك لم تستطع أن تتخلص من الطابع المحلّي للبلد الذي تبث منه، خصوصاً الاهتمام بالأحداث والفعاليات القُطْريّة، على حساب قضايا الأمة والأحداث العالمية. كما تسود هيمنة الطابع الشخصي .. لمالكيها، أو القائمين عليها، فتؤثر على السمة العامة لبرامجها، وعلى مستواها المهني.
==============(5/272)
(5/273)
أدعياء التنوير والعيش في الظلام
عبدالله الزايدي 24/4/1427
22/05/2006
يصف دعاة التنوير ذواتهم بالتقدمية ومواكبة العصر والتطورية، وينعون على غيرهم -خصوصاً خصومهم التقليديين (الإسلاميين )- تعلقهم بالقديم وارتباطهم التراثي، وانشدادهم للماضي، وخصومتهم للمجتمع، وفي ذات الوقت نجد هؤلاء الدعاة يقعون -وبصورة أشد- فيما يتهمون به خصومهم.
وحتى لايكون الأمر دعاوى لا تستند إلى البرهان، نقف مع أحد أبرز دعاة التنوير في بلادنا المملكة العربية السعودية، الذي يعده العديد من المتابعين أبرز وأعمق منظري الفكر التنويري كما يصفونه، وهو أكثر من كتب عن التنوير محبذاً وداعياً، ومنافحاً من خلال مقالات عدة في إحدى أبرز الصحف السعودية:
فنجد أبرز سمات فكره التنويري واضحة في كتاباته، وهي سمات تتناقض مع دعاوى التقدمية التي يبشر بها، ويمكن إيجازها على النحو التالي، مستندة إلى شواهدها من مقالاته المنشورة:
أولاً: الانشداد للماضي الأوروبي الذي مضى عليه أربعة قرون، وتجاوزه الواقع الأوروبي بمراحل، ولا يزال التنويري الكبير يحلم بتلك الفترة، ويعمّم أثرها على كل الإنسانية، حتى على المجتمع المسلم الذي لم يخرج من الظلمات إلى النور في رؤية التنويري إلاّ بفكر التنوير الأوروبي؟! فيقول:
1 -لم ينهض التنوير الأوروبي المجيد، الذي أخرج الإنسانية من ظلمات الجهل والتخلف والانحطاط، إلى نور العلم والتقدم والمدنية الإنسانية، إلاّ على إيمان راسخ وعميق بهذا الإنسان، إيمان متفائل، يتكئ على فعاليات عقلية، ومعطيات تجريبية من عالم الوقائع المادية، ولكنه - قبل ذلك وبعده - يكاد يكون عقيدة كلية، تستولي على مشاعر أولئك الفلاسفة العظام، في عصر النهضة الأوروبية.
2 - كما لم يأت التنوير الأوروبي من فراغ؛ فإنه - كذلك - لم يقم في فراغ. لقد كان الوقع المظلم لأوروبا في القرون الوسطى هو الباعث أو المسوّغ لطرح سؤال التنوير الذي أخرج أوروبا من الظلمات إلى النور. ولا يزال التراث التنويري، يمد العالم أجمع بنفحات من الحياة، يصعب أن تعيش بدونها؛ على الرغم من بعض صور العقوق له، حتى من أبنائه، وعلى الرغم من القراءات التي المتجاوزة من جهة، والمضادة لنهائيات القيم التنويرية من جهة أخرى.
3- اجترار مصطلحات الفكر الماركسي ومفرداته الخطابية نحو الخصوم: الظلامية، الرجعية.
على الرغم من مزاعم التنويري بالحداثة والتقدم إلاّ أنه موغل في التخلف واجترار مفردات الخطاب الشيوعي أيام الستينيات؛ فهو يصف مخالفيه بالرجعية والتخلف فيقول: هناك - أيضاً - من يستفيد معنوياً من هيمنة الوعي التقليدي الرجعي. القيمة المعنوية لسدنة الرجعية مرتبطة ببقائها - ومن المعلوم أن مصطلح سدنة الرجعية أحد أبرز المصطلحات الشيوعية شيوعاً في الأوساط العربية في فترة الستينيات.
4- العداء المطلق للآخر (الإسلامي) وثقافته؛ ففي كتابات هذا الكاتب عداء شديد للثقافة الإسلامية، يتضح جلياً في مفردات السباب التي يوجهها لهذه الثقافة؛ فهو يصف ثقافة المجتمع المسلم الذي يعيش فيه بأبشع الأوصاف، فهي(ثقافة الغباء)، و (ثقافة الموت)، و (الثقافة الآتية من عصور الانحطاط)، و (الثقافة البائسة).
وهذه الشتائم لثقافة المجتمع المسلم الذي يعيش الكاتب فيه بجسده، ويغترب عنه بفكره تتكرر في أكثر من مقال، بل تتردّد أحياناً في المقال الواحد.
5 - تأكيد حالة الصراع الدائم مع المجتمع والاغتراب عنه، والاستعلاء عليه، ووصفه بالجهل والظلامية والخصومة معه ومع ثقافته، والدعوة للصراع مع المجتمع والقوى النافذة فيه، والتي تقف موقف التوجّس من دعوته، في نفس الوقت الذي يهاجم فيه أعلام الدعاة بأوصافهم بزعم أنهم يثيرون ثقافة الصراع في المجتمع، فمن أقواله الغريبة في هذا السياق:
أ ) وكلّما تكشف الواقع عن روح ظلامية رجعية كان إحساس الفاعل التنويري بأهمية دوره التاريخي إحساساً عميقاً؛ يدعوه إلى (الجهاد) في سبيل التنوير، حتى النفس الأخير.
ب) هناك من لا يريد أن تظهر العلاقة بين التقليدي والتنويري على أنها علاقة صراع، وإنما يريدها علاقة حوار وتكامل. هذا حلم جميل. لكن طبيعة الوعي التنويري التقدمي، لا يمكن أن تكون في علاقة سلام مع الوعي التقليدي الرجعي الذي يحاول الرجوع بالأمة إلى الوراء. كل مفردة من مفردات التنوير الإنساني، ستجد لها ما يضادها من مفردات السلفية التقليدية التي تقف على الضدّ من الإنسان.
ج) التحوّلات الاجتماعية لا تسير بمنطق الأحلام الجميلة، بل هي إلى منطق الصراع أقرب. لن يرضى التنويري بالانسياق إلى غياهب الظلامية التقليدية، وكلّما تكشّف الواقع عن روح ظلامية رجعية؛ كلما كان إحساس الفاعل التنويري بأهمية دوره التاريخي إحساساً عميقاً يدعوه إلى (الجهاد في سبيل التنوير، حتى النفس الأخير).(5/274)
4 -التيار التقليدي قادر على الإضرار بنا مادياً ومعنوياً. لكن يجب أن تكون هذه القدرة حافزاً لنا للقيام بأي شيء لمواجهة هذه الظلامية القاهرة. والواجب أن تكون علاقتنا بقوة التيار التقليدي غير تقليدية. أي كلّما أحسسنا بتنامي قدرته على الإضرار بنا، فلا بد أن نكون أشد صراحة وجذرية في مواجهته، وليس أن نخضع لهيمنته ونفوذه.
6- التحامل على المخالفين له، وتشويه حقيقة موقفهم، وافتعال أسباب غير حقيقية للخلاف.
7- استبعاد البعد العقدي الديني لخصومهم الفكريين وقصر الأسباب على السبب المادي (التفسير المادي للتاريخ)، ويتضح ذلك في النصوص التالية:
1 - هناك من يستفيد مادياً من ضمور الفاعلية التنويرية وتضخم النفوذ التقليدي. أي أن موقعه في بنية المجتمع، وامتدادات المصالح الخاصة، تجبره على الوقوف في الصف التقليدي.
2 - هناك - أيضاً - من يستفيد معنوياً من هيمنة الوعي التقليدي الرجعي. القيمة المعنوية لسدنة الرجعية مرتبطة ببقائها. نحن نعرف أن هناك مؤسسات قائمة على ترويج هذا الخطاب، بل وأقسام (علمية!) جامعية، تمنح الشهادات العليا، بدرجة الولاء لهذا الخطاب التقليدي، وهؤلاء سيكونون في المهمش الاجتماعي في حال تنامي المد التنويري، وستصل قيمتهم الاعتبارية إلى درجة الصفر، بل ربما كانت المراجعة المعرفية التنويرية كفيلة بمحاكمتهم - معرفياً - على جنايتهم في حق الأمة.
8- اجترار مقولات ثبت بطلانها:
من المزاعم التي كان يلوكها دعاة التغريب من العلمانيين والشيوعيين في أواسط القرن الماضي، دعوى التشابه بين وضع علماء الشريعة ورجال الدين في أوروبا، وأن علماء الدين الإسلامي يتماثلون في مسؤولياتهم وأعمالهم مع رجال الكهنوت الأوروبي، وهذه مزاعم فجة وغير علمية، ومع ذلك يأبى داعية التنوير الكبير إلا أن يلوكها في ترداد ساذج لمقولة مزورة للحقيقة، فيقول:
"لقد أدرك رواد التنوير العربي منذ أيام الطهطاوي وإلى هذه الساعة، أن التشابه كبير جداً - على الرغم من الفروقات الثانوية - بين الحالة الأوروبية في القرون الوسطى وحالة المسلمين اليوم. أدرك رواد التنوير العربي أن المسلمين لم يخرجوا - بعد - من قرونهم الوسطى التي تمتد لما يناهز عشرة القرون، وأن عصور الظلام الإسلامية لم تكن أحسن حالاً - بمعيار الوعي الكلي - من عصور أوروبا المظلمة ذات النفس الكنسي".
9- الاعتراف بأن للتنوير أهدافاً غير التقدم المادي، وهو الهدف التغريبي.
على الرغم من إلحاح التنويريين -كما يسمون أنفسهم- بأن التنوير يستهدف النهوض بالأمة، والانبعاث الحضاري، وتحقيق التقدم المادي، فإن داعية التنوير يعترف بأن بلادنا استطاعت أن تحقق إنجازاً تنموياً مادياً لايُستهان به، ولذلك لم تكن هناك حاجة للتنوير في بعده الثقافي في الرأي العام المحلي، ومع ذلك يصر على الحاجة إليه؟! مما يؤكد أن هدفهم من التنوير ليس التقدم المادي الذي يمكن حدوثه بمعزل عن هذا الفكر، بل يريدون نقل الفكر التنويري الغربي المعادي للثقافة المهيمنة على المجتمع وهي الثقافة الإسلامية، يقول الكاتب:
"لهذا لم يكن المجال للتنوير - في بعده الثقافي - مفتوحاً، بالقدر الذي يكفي لصناعة وعي حديث، يستطيع أن يعمل بالتوازي مع الحركة التنموية في بعدها المادي، وشبه المادي، وساعد على الزهد في التنوير ما أتت به الطفرة المادية من قدرة كبيرة على تحقيق منجزات تنموية لا يُستهان بها. وهذا المنجز المادي أوهم الوعي العام أن لا حاجة إلى التنوير، وأن الانبعاث الحضاري يتحقق، على الرغم من التمسك بالوعي التقليدي".
وحسب هذا الوهم فلا مسوّغ للمغامرة بتبني المشروع التنويري في أبعاده الثقافية.
===============(5/275)
(5/276)
الحد الأدنى للحياة السليمة
أ. ياسر بن علي الشهري 11/4/1427
09/05/2006
الدوائر الغربية المخطّطة للعولمة مفزوعة من نسب الإنجاب العالية في البلدان الإسلامية -الحالية والمتوقعة- حتى عام 2020م، وتؤكد أن المجتمعات الإسلامية مجتمعات شابة، بشبكات وعلاقات أسرية ودينية قوية، وهي بذلك مجتمعات تتجه نحو امتلاك القوة البشرية (الطاقة الأهم للحياة)، وفي الوقت الذي تشير فيه تقديراتهم إلى الانعكاسات الكامنة في النمو السكاني والروابط الأسرية على نهضة المجتمعات الإسلامية، تؤكد على الآثار المهددة للمجتمعات الغربية في هذا الجانب.
إن المنطلق الاجتماعي الإسلامي يقوم على الموقع المحوري للأسرة في سد الثغرات الاجتماعية التي تحدث نتيجة إهمال مؤسسات المجتمع الأخرى لأدوارها أو تقصيرها في القيام بها، وتتركز مهمتها في إحياء الروابط الاجتماعية، عندما تحيط الأخطار بالمجتمع وتتغلغل في حياته اليومية.
من هنا انطلق أحفاد فرويد إلى توظيف الأقلام الصحفية والحملات الإعلامية لإعلان الحرب على الأسرة (ضمن إستراتيجية إشاعة الفوضى في العالم الإسلامي)، واعتبارها من إرث "العصر الحجري"، وأنها أكبر العقبات في طريق السعادة الفردية، وهي مقولات تمثل اتجاهات ثقافية وفكرية جعلت من الأسرة "ساحة حرب" بين أفرادها مهمتها "توريث البؤس" من خلال الإنجاب!
كنا نسمع قبل سنوات معدودة أن على الأجيال الشابة أن تنصاع لقيم المجتمع والأجيال التي تكبرها، وكان من يتلمس الأعذار للشباب فريداً من نوعه ومن حيث موضوعه. فما الذي تغير الآن؟
في السنوات القريبة الماضية تحوّل الأمر، وتسارع المطالبون بالسير خلف الشباب، وانتشر الحديث عن هذا الموضوع، وما يتصل به انتشاراً واسعاً. فقد أصبحت الأسرة في نظرهم تابعة للشباب، وعمدوا إلى تشويه العلاقة بين الأجيال، وإلى قلب الهرم الإداري في داخل الأسر.
إن الأطروحات والحلول المرافقة لمشروع تغريب الشباب المسلم، والدخول بهم إلى أسوار منظومة المفاهيم والتصورات المضطربة التي مزجها لهم الإعلام الفضائي خلال العقد والنصف الماضي؛ تنطلق من مناقشة مواضيع الشباب من خلال منظور اقتصادي مادي محض، مع طرح الحلول في صيغ مادية يتم العمل على تسويقها لتكون مألوفة في الثقافة المرئية، من خلال تبني النماذج الفاقدة للقيم الأصيلة، أو من خلال صور تغري على الانجراف دون خشية من العقوبة.
إن هذا العمل الإعلامي المتواصل له جذوره الاجتماعية والفكرية، فالمحور الأول والأخير الذي يستهدفونه هو تدمير الأسرة، وتغيير مكانتها والنظرة إليها، وما يتفرع عن ذلك من قيم ومعايير وتصرفات سلوكية اجتماعية يتم إخضاعها للعوامل المادية، بدلاً من أن تكون حافزاً للتقدم المادي أو ضابطاً له.
وعلى صعيد الآثار فقد تغير مستوى متوسط الأعمار بالنسبة للمتزوجين وأصبحت حالة فريدة أن يتزوج الشاب المقتدر وهو في العشرين، بينما باتت غالبية الزيجات متأخرة من حيث متوسط الأعمار، وبتكاليف باهظة و"بروتوكولات" تشير إلى انهزامية الأسرة الجديدة على العتبة الأولى لتحديات الحياة.
وتزايد العزوف عن الإنجاب، تعبيراً عن حالة الإنسان العصري كفرد أناني يعمل لتحقيق مصلحته على حساب الآخرين بأي ثمن، وعن حالة مجتمع يفقد قيمه العظيمة بشكل تدريجي ويتجه نحو الفردية، حتى سمعنا عمّن لا يريد إنجاب أطفال يعلل ذلك بأسباب مادية، أو الرغبة في الاستمتاع بالحياة، أو الاستقلالية.
الأطروحات "الفوضويّة" الراهنة تخطط لثورة جنسية تقوم على أنقاض الأسرة التي تؤدي دور المحتضن للمشاعر والمنظم لعملية إنفاقها، كما يؤكد ذلك احتواء الرسول - صلى الله عليه وسلم - للشاب "الثائر جنسياً" الذي جاء يستأذن في الزنا، وتمت السيطرة عليه من خلال إحياء المعاني الأسرية والجماعية في تفكيره.
يجب على العلماء والدعاة والإعلاميين والمعلمين أن يبرهنوا للأجيال الناشئة أن العلاقة بينهم وبين أسرهم ليست علاقة صراع وتصادم، وأن يربطوا مصالحهم بمصالح أسرهم، وأن يشوّهوا صور الحياة الفردية، ويستدعوا النماذج والقصص والأحداث التي تكشف ذلك.
يجب أن يُوجّه النصح، ويُسلّط النقد على دعاة الحياة "على انفراد" وضحاياها من النماذج "المنفردة" التي تعيش وفق شعار "البقاء للأقوى"، وأن يُفضح أعداء (مشاعر الحياة الأسرية): التضامن والمحبة والإيثار وتكامل الأدوار.
كما يجب كشف محاولاتهم التنظيرية التي تستهدف وضع المجتمع على طرفي معادلة النجاح أو الأسرة، أي إما النجاح في الكسب المادي أو التفرغ لتحمل أعباء الأسرة ونفقاتها، والمطالبة بإقصاء هذه الأقلام والأصوات عن ساحات التفكير والحل والعقد لأمور المجتمع.
وكما يؤكد الألماني (فرانك شرماخر) مؤلف كتاب (الحد الأدنى) أن قدرة الألمان على الخروج من مخلفات الدمار الشامل نتيجة الحرب العالمية الثانية، وإنقاذ أنفسهم مجتمعاً وأفراداً في وقت واحد لم يكن سببه ما يُوصف بالمعجزة الاقتصادية، وإنما هي في الواقع معجزة اجتماعية، ومن خلال مفهوم الأسرة الذي ساد حتى السبعينيات من القرن الماضي.(5/277)
ويقول: "وضْعنا الراهن يستدعي تحوّلاً اندماجياً اجتماعياً كالذي كان عام 1945، فعلى ألمانيا اليوم أيضاً إعادة بناء نفسها، ولكن نقطة الانهيار الآن هي الأسرة، المؤسسة التي وجدت آنذاك القوة الأساسية لإعادة إنشاء البلد. ألا يمكن أن يتحقق الآن مثل الذي تحقق بالأمس؟".
وليسمح لي القاري الكريم أن أستمر في النقل من (شرماخر) الذي يقول ما لم يقل به كثير من أبناء المسلمين العاقين لدينهم وقيمهم، حيث يقول: "كان من أبرز ما أظهرت دراسة العلاقات الاجتماعية عن الثورة الجنسية التي أباحت المحرمات السابقة؛ أن علاقة "الحب" أصبحت مفقودة، ففُقد أساس الحرص على الأسرة والإنجاب، واستبدل المجتمع بالمتعة الجنسية وحدها التي تدمر كل شيء، وقد أسهم في ذلك: عروض التلفزة والمسرح وغيرها من العروض الثقافية والفنية التي لم تعد تقدم الأسرة أنموذجاً يؤثر إيجابياً على المشاهدين، بل أصبح النموذج الأول فيها هو الفرد دون "أسرة" فنحن جميعاً، لا سيما أطفالنا، نشهد كل يوم، كل مساء، نماذج لا نهاية لها عن صداقات وهمية، وأزمات وهمية، وزيجات وهمية.. والمثير للقلق هو الازدياد الملحوظ في عدد من يحاولون تقليد هذه الصور الوهمية".
إن بداية الانهيار دائما تنطلق من انقلاب فكري عند جيل يغفل إنجازات الجيل السابق بإمكاناته وقدراته، ويتحرك بمنطلقات فردية أنانية تؤدي إلى انخفاض مستوى العلاقة بين الأجيال. فهل ننتظر العواقب حتى نغير من حالنا؟ وهل نستسلم لتهمة التقليدية فنتخلى عن الحد الأدنى للحياة السليمة؟
إن العناية ببقاء المرأة قدر الإمكان في بيتها ينطلق من كونها أساس "الكيان الأساسي" للتنظيم الاجتماعي؛ فهي راعية ومديرة المؤسسة الأهم في النظام الاجتماعي(الأسرة)، الحد الأدنى للحياة الاجتماعية السليمة، وهي -المرأة- الأقدر على تحقيق التوازن الاجتماعي والعاطفي، من خلال دورها ومكانها ومكانتها، على صعيد كيان الأسرة، وعلى صعيد إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية.
يُعوّل على المسلمة في عالمنا المعاصر أن تبادر للردّ بقوة -وبصوت مسموع- على كل من يهدّد مملكتها، وأن تتخذ قرارها بحماية عقول وأفئدة الناشئة في أسرتها من الحملات الإعلامية المدمرة للحياة الأسرية، والمسوقة لقيم الفردية والمادية؛ فقد عجز كثير من الذكور عن ذلك! وعملوا على تعميم عجزهم!
=============(5/278)
(5/279)
صور من الصمود والإباء
أيها المسلمون : لقد شاهدتم ما فعل يهود بغزة الأبية ..طائرات ودبابات .. صواريخ وراجمات..أجسام تمزقت ..وأشلاء تناثرت ..إن غزة الأبية اليوم ..تنطق لو كان لها لسان ، تستصرخ في نفوس المسلمين النخوة الإسلامية ، وتبعث في نفوس المسلمين عزة المسلمين،وتستثير في قلوب البشر عاطفة البشر ، في غزة الأبية الآن أمهات ثاكلات ، و زوجات مفجوعات ، و يتامى من صبية وبنات !! في غزة الأبية الآن .. قلوب متصدعة ، ودموع منهمرة ، وبيوت مخربة!! ومع ذلك فبشائر النصر لائحة ..وميادين العزة قائمة ..وسوق الجهاد رائجة .
أيها المسلمون : طالما تحدثنا عن بطولة أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم التي لا تملها النفوس ولا تمجها الآذان ، ولكن سأحدثكم اليوم عن بطولات المقاومين الشرفاء . والأبطال الفضلاء من أبناء فلسطين الأبية .. فيا ترى بأي موقف نبدأ رحلتنا ..وبأي حادثة نفتح مسيرتنا .. دعونا نفتحها بالصغار كي يتأدب الكبار من أمثالنا ، ودعونا نستفتح بالبنات الصغيرات كي يفيق أمثالنا من سكرتهم ، ويستيقظوا من غفلتهم ، فهذه طفلة فلسطينية في العاشرة من عمرها ، تدعى ريم الرياشي ، جاءت إلى أحد القادة تطلب منه ماذا ؟ هل تطلب منه لعبة تلعب بها ؟ كلا ؛ هل تطلب منه حلوى تملأ بطنها منها ؟ كلا ؛ لقد طلبت منه أن يسمح لها بإقامة عملية استشهادية تقتل فيها أحفاد القردة والخنازير !! فيا الله ..فتاة صغيرة هذا هو همها .. وتلك هي طلبتها ، فردها الرجل ظناً منه أنه حماس الصغار ..يتلاشى مع مرور الأيام ..كما يحصل معنا نحن الكبار .. فإذ بها تأتيه بعد أسبوع ..مكررة نفس الطلب ..ولا تزال عزيمتها ماضية ..وهمتها عالية ..حتى مرت الأيام ..وأصبحت الصغيرة كبيرة ..وتزوجت وصار لها ولدان وهي لا تزال تصر على تنفيذ حاجتها - حتى احتاج المرابطون فتاة استشهادية ..فقال ذلك القائد ..هي عندي !! فسأل عنها حتى عرف منزلها ..وأخبرها بالأمر ففرحت بذلك أيما فرح ، واستبشرت بذلك أيما استبشار ..وكأنها تُزف في ليلة عرس .. فلا إله إلا الله على تلك النفوس الكريمة !!
جاء الأسبوع الذي حدد لإجراء العملية ..فاستأذنت زوجها للتفرغ للعبادة في أيامها الأخيرة ، فأذن لها .. وفي يوم الأربعاء موعد اللقاء اتُصل بها وتجهزت ..وفي أثناء سيرها لتنفيذ العملية ..حصل ظرف طارئ .. فاعتذر منها إلى الأسبوع الذي بعده - وهي لا تزال على موقفها صموداً واستبسالاً .. وفي آخر أربعاء من حياتها ـ رحمها الله ـ جاءت مع زوجها في سيارته إلى مكان الحادث وهي ترضع جنينها الصغير ؛ الرضعة الأخيرة في هذه الحياة ..وما أصعبها من لحظات ..وما أحرجها من ساعات ..فلما وصلت إلى مكان العملية ودعت زوجها وقبلت صبيانها ..وقالت لزوجها بكل قوة وشجاعة ..اللقاء بيننا في الجنة بإذن الله تعالى ، وانصرفت إلى نقطة تفتيش يهودية ، فما أن دخلت مع جهاز الإنذار إلا وقد ارتفعت أصوات التحذير والإنذار !! فاجتمع ستة نفر من الصهاينة للإمساك بها ، فلما رأتهم قد أقدموا إليها .قالت لأخت لها فلسطينية كبيرة ..اهربي من المكان ، فأسرعت هاربة .. وهنا جاءت ساعة الصفر فأطلقتها ضاربة أروع الأمثلة في الشجاعة والبسالة
وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجسام
فرحمك الله يا ريم وجعلك مع زوجك وأولادك في الجنة .
قارن يا رعاك الله بين هذه الصورة الرائعة ..وصورة بعض نساء المسلمين اليوم، يا ترى ما هي القضايا التي شغلت بالهن ؟!وما الأمور التي أقضت مضاجعهن ؟!! لا أريد التفصيل فالإجمال هنا مطلوب لأن واقعنا مر مذاقه ولا حول ولا قوة إلا بالله .. فأين نحن من هؤلاء ..
لا تعرضن بذكرهم في ذكرنا **** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
وعندما بدأت الانتفاضة الأولى ..شارك فيها الجميع ..الصغار والكبار ..الرجال والنساء ..فهذا رجل فلسطيني تجاوز عمره الستين عاما .. عندما كانت الحجارة سلاحاً لهم ولا تزال ..كان ينقل الماء عبر دراجته ..إلى أبطال الحجارة..الذين لم يجدوا إلا الحجر يقاتلون به يهود ..فليقاتلوا به ..فكان ذاك المسن .. يروح ويغدو ، ذاهباً وراجعاً ، يحضر الماء للأبطال ..يحتسب الأجر والثواب من الله في الإعانة ولو بإحضار الماء للمجاهدين الشرفاء ..فأين نحن من هؤلاء ؟!!
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع(5/280)
أيها المسلمون : لقد كنا نسمع عن قصة حنظلة بن عامر غسيل الملائكة ونقرؤها في كتب السير ونحن الآن نسمعها نابعة من أرض فلسطين الأبية .. فهذا شاب في الثامنة عشرة من عمره يدعى بلال بن الشيخ نزار ريان يدخل على زوجته في ليلة عرسه ويبيت معها .. يقول والده فسمعت الصارخ قبل بزوغ الفجر من تلك الليلة ..ينادي.. حيّ على الجهاد ..معلناً اقتحام اليهود على شمال غزة ..فلبست ملابسي وأخذت سلاحي ..وترددت في طرق الباب على ولدي ليخرج للقتال وهو في أول ليلة من زواجه ..ولكني عزمت على ذلك وطرقته ..فردت عليّ زوجته قائلة.. لقد انطلق لعزه وكرامته !! فلا إله إلا الله ..في ليلة عرسه يترك زوجته الحسناء ..يتركها في ليلة تُعد في عرف الناس ..من أجمل ليالي العمر ، ومع ذلك ..يخرج مسرعاً ..دون غسل ..تاركاً خلف ظهره زهرة تفوح عطرا ..لأنه أدرك أن ما عند الله هو خير وأبقى ..وأدرك أن هناك جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين .
تهون الحياة وُكلٌّ يهوون ولكنَّ إسلامنا لا يهون !
إذا ما أرادوا لنا أن نميل عن النهج قلنا لهم مستحيل
هو الدين عصمتنا في الحياة وليس لنا من سبيل سواه
فإسلامنا نبضنا والعيون على رَغم ما يمكر الماكرون
إلى الدين فالموت أولى بنا ولسنا نفرط في ديننا
وأقول كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الحمد لله الذي جعل في زماننا مثل حنظلة بن عامر رضي الله عنه !! فأين نحن من هؤلاء ؟!!
أيها المسلمون : هل تعلمون بماذا أوصت نعيمة عابد .. ولدها..وفلذة كبدها ..وريحانة فؤادها ..هل أوصته بأن يغادر فلسطين الأبية ..كي يُساكن الكفار ..للسياحة والدراسة ..كلا ..بل بعثته لليهود ..لا ليكون عميلا لهم ..يبث أفكارهم في صفوف المسلمين ..بل بعثته ليؤدب يهود ..وتقول له ..عندما تقابلهم ..( لا ترتعد أمام العدو ، و لا تهدر الرصاص ..ثم قالت : ( و رسالتي للأمهات الصهيونيات لا ترسلن أبناءكن للموت في معركة خاسرة ) ..لقد ذكرتني نعيمة بالخنساء ..وهي ترسل أبناءها للمعركة وتقول لهم : ( يا بنيّ: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا الله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم أبناء امرأة واحدة ما هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، اعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارا على أوراقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رسيسها، وتظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة ..وفي الصباح الباكر كانوا في مقدمة الصفوف ينفذون وصية الأم الحكيمة، ولما بلغها خبرهم قالت كلماتها المأثورة التي كتبها التاريخ الإسلامي بحروف من نور، وعاشت على جبين الزمان على مدار الأيام والأعوام )الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم جميعا في سبيل الله ونصرة دينه وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة ) .
فأين نحن من هؤلاء ..إن إخواننا هناك يضربون أروع الأمثلة في الصبر والمصابرة .. في مجالدة الأعداء ..وقتال الألداء ..يحتسبون الأجر والثواب من الله تعالى ، فأين نحن من هؤلاء ؟!! اشتكت زوجة أحد القادة إلى زوجة أخينا الكريم ..من سوء حال بيتها وأنه لا يوجد فيه من أساسيات المنزل فضلا عن محاسن الدنيا شيء ..وتقول لعل زوجك يؤثر عليه فيكلمه في الاهتمام ببيته وترميمه ..يقول صاحبنا فكلمته استجابة لهذه المرأة..فقال لي يا فلان ..لا أريد أن أحسن بيتي..حتى يكون السجن عندي كأنه قصر بالنسبة لبيتي الذي أسكنه .. فيا لله .. على تلك الأرواح الطاهرة !!
يا أمة الإسلام بشرى *** لن يطول بك الهوان
قد لاح فجرك باسما *** فلترقبي ذاك الزمان
نعم النصر قادم بإذن الله تعالى..ما دام عندنا أناس يعيشون بتلك النفوس العالية .. والهمم السامية ... (( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ )) ( الحج : 41) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
أيها المسلمون : إن إخواننا في مسرى رسول ا صلى الله عليه وسلم يعيشون حياة أخرى ..حياة كلها جهاد واستشهاد ..حياة كلها تضحية و فداء ..فهم يتقلبون في صور الجهاد المتنوعة ..وأشكاله المتعددة ..فعلى شدة الحصار الاقتصادي والضرب العسكري ؛ إلا أنهم صابرون محتسبون ..يقتسمون أموالهم القليلة فيما بينهم ويصدق عليهم قول الله تعالى (( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) ( الحشر : 9 ) . فالمرأة الفلسطينية تجود بأغلى ما تملك ..وهو ذهبها وحليها التي تتزين به أمام زوجها ..تنفقه في سبيل الله تعالى لسد جوعة الجائعين ..وكسوة المساكين ..ورعاية الأرامل واليتامى والمعوزين ..(5/281)
لقد تكيف الشعب الفلسطيني مع حياة الجهاد ضد يهود ..وعرفوا أنه لن يكون هناك نصر بلا إيمان ..ولن يكون هناك نصر بلا تضحيات وابتلاءات ..ولن يكون هناك نصر بلا صبر على البلاء .. (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ )) ( البقرة : 214) .
ومن هنا نتساءل أيها المسلمون ..ونحن نعيش اليوم حربا بصورة أخرى ..وقتالا مستميتاً من قبل أعداء لا يقلون خطرا من يهود بل هم العدو الحقيقي كما قال الله ((هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ )) ( المنافقون : 4) .
فأهل النفاق في بلادنا ..ارتفعت رؤوسهم ..لا رفعها الله ..وتعالت أصواتهم ..قطعها الله ..وكثرت مطالباتهم ..لا كثرها الله ..في تغريب المجتمع ..مستغلين أحداث الأمة الكبار ..وهكذا هم دائماً ..كفنا الله شرهم بما يشاء ..والسؤال الذي يطرح نفسه بنفسه ..لقد جاد إخواننا في فلسطين بكل ما يستطيعون في الدفاع عن دينهم ومقدساتهم وأعراضهم ..فماذا قدمنا نحن في جهاد المنافقين ؟!! هم جادوا بأرواحهم من أجل دينهم ..ونحن لا يتطلب الأمر أرواحاً ..ومع ذلك نرى تقاعس بعضنا عن مقاومتهم ، والحد من شرهم ؛ لقد فعل إخواننا في دفع الأعداء عنهم الغالي والنفيس ..وبذلوا أموالهم ..وسخروا جهودهم وأوقاتهم ..فماذا قدمنا نحن لحماية ديننا من أهل الفساد والإفساد ..هل أقمنا صحيفة تنشر الفضيلة ..وتحارب الرذيلة ..بل هل قاطعنا وسائلهم التي ينفثون سمومهم من خلالها !!..هل أقمنا قنوات فضائية تدعو إلى الله على بصيرة ..لقد قدمنا دراسات لإقامة قناة فضائية ..لبعض تجارنا الكرام..والسؤال الذي دائماً يُطرح أمامنا ..كم إرادات هذا المشروع ؟!! كم الأرباح والمكاسب المالية ؟!! ونسي هؤلاء ما يدفعه أصحاب القنوات الفضائية الفاسدة من الملايين في نشر فسادهم وباطلهم ؟!! ونحن معاشر أهل السنة ..لا نساهم إلا بمقابل مالي و مضمون ..فلا حول ولا قوة إلا بالله !! وحسبنا الله ونعم الوكيل ..عجباً لجلد الفاجر ..وعجز المؤمن .
ويا ترى أيها المسلمون : هل أقمنا مؤسسات لرعاية المطلقات والأرامل وقضاء حوائجهن كي لا تستغل حاجاتهن في مآرب فاسدة ؟!! هل فتحنا مكاتب للمحاماة للدفاع عن المظلومين والمظلومات الذين لا يستطيعون أخذ حقوقهم بسبب ضعفهم وقلة حيلتهم ؟!! هل اجتهدنا في محاربة مظاهر التبرج والسفور في بلادنا ؟!! هل أقمنا المستشفيات النسائية والرجالية التي تحفظ عورات المسلمين ؟!! هل بادر الغيورون في إنشاء الجامعات الأهلية لحفظ أبناء المسلمين وبناتهم من موجات التغريب والتي تحصل الآن من بعض الجامعات الأهلية ؟!!
إنني ومن على منبر محمد صلى الله عليه وسلم .أناشد كل غيور على دينه..أناشد كل مؤمن ..أن يبذل ما يستطيع في نصرة هذا الدين ..بقلمه ..بفكره ..بجهده ..بماله ..بجاهه ..بمنصبه ..بكل ما يملك ..لتصبح قضية الدين ..هي القضية التي نعيش من أجلها ..ونحيا من أجلها ..وكفى جريا وراء سراب الحياة وملذاتها ..والدنيا ومفاتنها ..فيا رب استعملنا في طاعتك ..واجعلنا من أنصار دينك ..يا رب العالمين .
==============(5/282)
(5/283)
إعلام (النخر الخفيّ)
د. محمد بن سعود البشر 13/3/1427
11/04/2006
لست دومًا من المتشائمين، ولا يفرحني أن أكون من طائفة المحبطين، ولا المنتمين إلى فرق الناقدين، بيد أن الأجواء التي يفرضها علينا إعلامنا تجعلنا نتنفس هواءً لا ينتمي إلى مناخنا، وتجبرنا على المسير في غير تضاريسنا، وترسم لنا -قسرًا- طريقًا يقتلنا الظمأ، والماء فوق ظهورنا محمول.
هذه حالنا مع الإعلام، يصيبنا بالدّوار والغثيان، ويخنق أنفاسنا بلبوس ليس لنا، ولا يقابل هذا الطوفان إلا نزر قليل من إعلام يحاول المقاومة ليكون (البديل).
إعلامنا تتنازعه أهواء شتى، بعضها مُقولب يرمي إلى هدف وغاية، والآخر يقتلنا بالجمود الذي لا حراك فيه.
الأول: تغريبي، يجاهد في انتزاع الهوية، أو تشويه ملامحها.
والثاني: إعلام مرتزق أبله، همه الانتشار والثراء، لا يحمل رسالة، ولا يُسفر عن مبدأ. أصحابه كبائع الصحف، يرتزق منها ولا يفقه مضامينها. باطنه أجوف، كميّت الأحياء، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.
الأشد وطأة علينا (الإعلام التغريبي)؛ لأنه الأكثر، والأخطر، يتسلل إلينا جهرة أو لواذًا، إذا هدأت الرقابة المجتمعية عليه، أطل بوجهه ورشق بالحجارة. وإذا تصدّت له أصوات الغيارى والناصحين تدثّر برداء (النقد) و (حرية الرأي)، و(حق المخالف)، أو خنس تحت الجدار ليبدأ مهمة (النخر الخفيّ) ويترقّب تصدّع البناء.
في جواب لسؤال: متى تنشطون؟
قال أحدهم:
إذا هدأ (المدّ المشيخيّ)، إشارة للعلماء!!
ينشطون إذا سكت العلماء عن فجورهم، ويخنسون إذا ارتفع صوت العلماء في التصدي لهم، وكشف باطلهم.
الذي نأمله ونرجوه:
أن يبقى صوت العلماء مجلجلاً بالحق، كاشفًا أهواء المرجفين، الجاثمين على إعلامنا، المقصين لثقافتنا، المستهزئين بقيمنا، الحاقدين على منهجنا.
نأمل ذلك ونرجوه؛ لأنهم العلماء.
الذين إذا علا صوتهم.
خنست أصوات العلمنة والزندقة والتغريب.. فلا تحسّ منهم من أحد أو تسمع لمثلهم ركزًا.
===========(5/284)
(5/285)
لماذا المنهج؟ (1 ـ 2)
أ. د. عماد الدين خليل 20/1/1427
19/02/2006
إن مسألة اعتماد منهج عمل دقيق، أو برنامج مرسوم، يجب أن تأخذ مكانة متقدمة في سلم الأولويات، ليس فقط بالنسبة للنشاط التاريخي، ولكن بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر عموماً من أجل أن يمضي إلى أهدافه بأكبر قدر من التركيز، والاقتصاد في الجهد، وتجاوز التكرار، وتغطية المواضيع الملّحة وفق تسلسلها في الأهمية.
منهج، أو برنامج عمل، واضح الأبعاد، محدّد المفردات، بيّن الملامح، مثبّت الأهداف، من أجل حماية أنشطتنا الثقافية كافة من الارتجال والفوضى، وربما التناقض والارتطام.
إن القوم في عالم الغرب يغزوننا اليوم بأكثر من سلاح، وإن (المنهج) الذي يستهدي بمقولاته ونظمه معظم المفكرين، أفراداً ومؤسسات، لهو واحد من أشد هذه الأسلحة مضاءً في تمكينهم من التفوق علينا وفرض فكرهم في ساحاتنا الثقافية كافة.
هم منهجيون في كثير من أفعالهم وممارساتهم، بغض النظر عن مدى سلامة هذا المنهج وصدق مفرداته وصواب أهدافه التي يتوخاها.. منهجيون وهم يتحاورون ويتناقشون .. منهجيون وهم يكتبون ويبحثون ويؤلفون .. منهجيون وهم يدرسون ويقرؤون ويطالعون .. إن المنهج بالنسبة للمثقف الغربي يعني ضرورة من الضرورات الفكرية، بل بداهة من البداهات، وبدونه لن تكون الحركة الفكرية بأكثر من فوضى لا يضبطها نظام، وتخبّط لا يستهدي بهدف، ومسيرة عمياء لا تملك معالم الطريق ..
ونحن، إلاّ قلّة من المفكرين، على النقيض من هذا في الكثير من أفعالنا وممارساتنا.. بلا منهج في حوارنا ومناقشاتنا.. بلا منهج في كتاباتنا وأبحاثنا وتآليفنا.. بلا منهج في دراساتنا وقراءاتنا ومطالعاتنا .. وأنشطتنا الثقافية بعامة ..
لكأن الرؤية المنهجية التي منحنا إياها كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام( ) قد غابت عنا، وأفلتت مقولاتها من بين أيدينا، وتلقفها القوم كما تلقفوا الكثير من معطياتنا الثقافية فذكروها ونسيناها، والتزموا بها وتركناها، وتحققوا بحضورها الدائم، وغبنا نحن عنها، أو غابت هي عنا، فكان هذا الذي كان ..
ولكأن الخطط الخمسية التي قبسناها عنهم في أنشطتنا الاقتصادية هي الخطط الوحيدة التي يمكن أن تُؤخذ عنهم من أجل وضع مناهج عمل لممارساتنا الاقتصادية تتضمن المفردات، ووحدات الزمن المطلوبة، والأهداف، في سياق إستراتيجية بعيدة المدى، قد تتحقق بعد عشر من الخطط الخمسية أو عشرين ..
أليس ثمة مجالات أخرى، غير الاقتصاد، أو مع الاقتصاد، يجب أن يُبرمج لها، وأن تُوضع لها الخطط والمناهج الزمنية المحددة، الصارمة، لكي تصبّ ـ على هدى وبينة ـ في بحر الأهداف الإستراتيجية لمسارنا الثقافي؟
إن اعتماد المنهج في أنشطتنا الفكرية، ليس اقتباساً عن حضارة الغرب بقدر ما هو رجوع إلى الجذور والتقاليد الأصيلة التي صنعناها نحن على هدى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومعطيات أتباع هذا الدين زمن تألقهم الحضاري..
وإن حيثيات الصراع الراهن مع الحضارة الغربية تتطلب ـ فيما تتطلب ـ أن يكون لنا منهج عمل فكري يمكننا- من خلال النظم الصارمة التي يلزمنا بها- من الأخذ بتلابيب القدرة على الفاعلية والتحقق بالريادة والكشف والابتكار والإضافة والإغناء..
أن نكون ـ باختصار ـ أنداداً للفكر الغربي، قديرين على أن ندخل معه في حوارٍ
يومي.. وأن نتفوق عليه ..
إن العقيدة التي نملكها، والمضامين الثقافية التي تخلّقت عبر تاريخنا الطويل في مناخ هذه العقيدة، تعلو، بمسافات لا يمكن قياسها، على عقائدهم وفلسفاتهم ورؤاهم ومضامينهم الثقافية.. هم يقولون هذا مراراً ويؤكدونه تكراراً، قبل أن نقوله نحن ونؤكده، وبعده ..
والذي يعوزنا هو المنهج.. هو طرائق العمل الإستراتيجي المبرمج المنظم المرسوم.. وحينذاك فقط يمكن أن نطمح، ليس فقط إلى تأصيل ذاتنا الثقافية وتحصينها ضد عوامل التفكك والغياب والدمار.. بل على التفوق على ثقافة الخصم واحتوائها، باطراح دمها الأزرق الفاسد والتمثل بدمها القاني النظيف ..
إن المنهج يعني-في نهاية التحلي- حشد الطاقات وتجميعها والتنسيق بين معطياتها لكي تصب في الهدف الواحد، فتكون أغنى فاعلية وأكثر قدرة على التجدد والإبداع والعطاء..
وغن غياب المنهج يعني ـ بالضرورة ـ بعثرة الطاقات وتفتيتها وإحداث التصادم بينها .. فلا تكون ـ بعد ـ جديرة بالإضافة والفاعلية والعطاء ..
لقد أكد القرآن الكريم والرسولل عليه السلام هذا المعنى أكثر من مرة.. وحذرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - من أن الذئب لا يأكل من الغنم إلا الشياه القاصية..
إن العدسة (المفرقة) تبعثر حزمة الضوء فتفقد قدرتها على الإحراق، أما العدسة
(اللامّة) فتعرف كيف تجمع الخيوط لكي تمضي بها إلى البؤرة التي تحرق وتضيء ..
إن (المنهج) هو هذه العدسة اللامّة.. وبدونه لن يكون بمقدور آلاف الكتب التي تطرحها مطابعنا سنة بعد سنة أن تمنحنا (النار) التي نحن بأمس الحاجة إليها في صراعنا الراهن..
تحرق الضلالات والخرافات والأوهام .. وتضيء الطريق للمدلجين..(5/286)
( ) أنظر الفصل الأول من كتاب (حول إعادة تشكيل العقل المسلم) للمؤلف للاطلاع على خصائص التصور المنهجي الذي طرحه القرآن الكري
هذا على مستوى الفكر الإسلامي عامة.. أما على مستوى الفكر التاريخي والكتابة
في حقل التاريخ الإسلامي، فإن المنهج يغدو ضربة لازب .. إذا ما أردنا بحق أن نستعيد معطيات هذا التاريخ ونجعلها أكثر قدرة على التكشف والوضوح، وأشد قرباً من البيئة التي تخلّقت فيها، وأعمق انسجاماً مع المناخ الذي تنفست فيه واستوت على سوقها.. ضربة لازب لأكثر من سبب:
أولاً: غياب الهدف وانعدام الرؤية للكثير من مؤلفاتنا التاريخية القديمة والحديثة.. أي على مستوى المصادر والمراجع على السواء، يقابل ذلك فوضى وارتجال وتخبط، كانت تعاني منها ـ ولا تزال ـ الكثير من هذه المؤلفات.
ثانياً: غياب الحسّ النقدي، أو عدم حضوره بشكل مؤكد، في معظم الأعمال التاريخية، على خلاف ما كان يحدث في ساحة المعارف الأخرى وبخاصة الحديث والمنطق والفلسفة .. إلى آخره.. يقابل ذلك استسلام عجيب وصل ببعض المؤرخين الكبار أنفسهم حدّ تقبل الكذب والخرافات والأضاليل والأوهام.
ثالثاً: طغيان النزعة (التجميعية) التي دفعت بعض المؤرخين القدماء وعدداً من
المؤرخين المحدثين إلى تحقيق نوع من التوسع الكمي الذي يُقبل، من أجل تحقيق تضخّمه المنشود، كل خبر أو رواية .. ويجيء ذلك على حساب نوعية الإنجاز التاريخي ومنهجيته وقدرته على التركيز والاختزال.
رابعاً: فقدان الأسلوب التركيبي الذي يعرف كيف يجمع الوقائع التاريخية ذات النسغ الواحد والمسار المتوحد، في نسيج تركيبي يمكن المؤرخ من إضاءة ملامحه وتعميق خطوطها وقسماتها، ومنحها المعنى والمغزى المستمد من خامة النسيج نفسه .. بدلاً من ذلك التداخل المهوّش بين الوقائع، والتقاطع بين أنماطها المتباينة، حيث يصعب على المرء أن يتبين الخطوط المميزة لهذا الحشد من التجارب التاريخية أو ذاك.
خامساً: تعرض المعطيات التاريخية لسيلٍ لا يرحم من التأثيرات (الذاتية) على حساب
(الموضوع)، أو من خلال الموضوع الذي اتخذ مركباً لعبور الأهواء والظنون والمصالح والتحزبات .. الأمر الذي غيّر من مكونات الواقعة التاريخية من جهة، وأضاف إليها ـ من جهة أخرى ـ الكثير الكثير مما لم يكن من صلب تكوينها.. فكان ذلك التزوير والتزييف الذي غطى على مجرى الرواية التاريخية في كثير من مساحاته.
سادساً: غياب المؤسسات التي تأخذ على عاتقها مهمة تعضيد التأليف التاريخي وتوجيهه ووضع أولوياته، على خلاف ما كان يحدث في بعض حقول المعارف الإنسانية الأخرى، وبخاصة الفلسفة والجغرافيا.
سابعاً: انطفاء آخر شمعات الفكر التاريخي في قرون الظلام الحضاري الذي لّف عالم الإسلام قبيل انبثاق الفجر الجديد.. وظهور ذلك الانقطاع المحزن في حقل الإنجاز التاريخي، وتلك الهوة العميقة بين معطيات الأجداد والأحفاد، والتي لعبت دوراً سلبياً ولا ريب في تمكين الفكر التاريخي من مواصلة مسيرة النضج والاكتمال.
ثامناً: السبق الزمني الذي مارسه الغربيون في أعقاب هذا الانقطاع، فأخذوا بذلك زمام المبادرة في التعامل مع تاريخنا الإسلامي كشفاً وإضاءة وتحقيقاً ونقداً وتركيباً .. ولكن بمناهجهم وأساليبهم وطرائقهم التي ألحقت بمعطياتنا التاريخية كسوراً وشروخاً وتناقضات ليس من السهولة إزالة آثارها المدمرة، دون اعتماد منهج أصيل قدير على حمل الأمانة والقيام بالمهمة الصعبة.
تاسعاً: غياب الرؤية الإسلامية الأصيلة لدى معظم أبناء الجيل الأول والثاني من المؤرخين المسلمين المحدثين أنفسهم .. فلم يكونوا في حقيقة الأمر سوى امتداد للمدرسة الاستشراقية الغربية، ولم يفعلوا سوى أن أضافوا إلى الكسور التي أحدثتها في مسار التاريخ الإسلامي كسوراً .. والرؤية الإسلامية هي المفتاح الذي لابدّ منه لدخول ساحة التاريخ الإسلامي، وبدونه لن يتحقق دخول مشروع.
عاشراً: ظهور المدرسة المادية التاريخية وانتشارها وكسبها الكثير من الأتباع والمعجبين، ومحاولة إقحام مقولاتها الصارمة، الفجة، في مجرى تاريخنا الإسلامي نقداً وتركيباً ..
وثمة أسباب أخرى كثيرة، أقل أهمية، تجعل من حضور منهج للفكر والنشاط التاريخيين ضرورة ملحة ..
والآن فإن محاولات عديدة، لحسن الحظ، شهدتها العقود الأخيرة من هذا القرن، استهدفت التحقق بالمنهجية المنشودة.. على مستوى الأفراد والمؤسسات، وهذا يدل على تزايد الوعي التاريخي الذي كان يعاني في الفترة السابقة من التسطح والضحالة والغياب.
إلا أن معظم تلك المحاولات لم تأت بطائل، فما أن مضت خطوات حتى توقفت(5/287)
وأعلنت، بلسان الحال أو بلسان المقال، عجزها عن مواصلة الطريق: مؤسسات حكومية، وقيادات فكرية، وجامعات عربية، ومنظمات ثقافية، وتجمعات تخصصية، وأفراد متفرقون هنا وهناك .. كلهم دعوا إلى (المنهج) .. وإلى ما أسموه إعادة كتابة التاريخ .. وقاموا ببعض المحاولات الأولية وطرحوا بعض الإضاءات.. وليس ثمة أكثر من هذا.. ومضت الدعوة إلى اعتماد المنهج وإلى إعادة كتابة التاريخ تصدر من هنا أو هناك، ملحة في الطلب، مؤكدة القول .. وهي دعوة تؤكد ـ مهما كانت النيات التي تختبئ وراءها ـ حضور الوعي التاريخي، وتكشفه وانتشاره .. وتعزّز الوجهة العلمية القائلة بأن اكتشاف قدرات أمة من الأمم وتمكينها من (المعاصرة) و (الحركة) صوب المستقبل، والاستجابة للتحديات، والتفوق عليها، لا يتحقق إلا بالرجوع إلى التاريخ وكشف النقاب عن معطياته وملامحه ومؤشراته .. الأمر الذي لم يكن، في النصف الأول من القرن الماضي، على هذه الدرجة من الوضوح والتأكيد، يوم كان يُرى في الالتفات صوب الماضي، على أثر الصدمة الحضارية الغربية، نوع من الانتحار الزمني في عصر سباق الحضارات، وكان يُرى فيه نزوع رجعي ، وغياب عن العصر ، وعرقلة للتوجه المستقبلي..
ويوم أن كانت ذيول المدرسة المادية التاريخية تطرح بفجاجة وسخف مقولتها الخاطئة بضرورة تجاوز التوجه التاريخي، وقطع الجذور، وإلغاء مقولات المسيرة، والانطلاق من نقطة الصفر الزمنية صوب المستقبل!!
اليوم، غابت هذه الرؤى التي ينفيها العلم بحقائق الأشياء .. واليوم اختنقت تلك الأصوات التي لم تكن تملك سبباً للبقاء والاستمرار ..
واليوم تحل محل هذا وذاك تلك الدعوات الملحة التي تصدر ـ كما رأينا ـ عن العديد من مراكز الثقل والتوجيه والفاعلية: أكاديمياً وعقائدياً وسياسياً.. الأمر الذي يؤكد حضور
(التاريخ) في نسيج وجودنا الحاضر وحتمية اعتماد مكوناته في لحمة هذا النسيج وسداه، حيث لا يكف النول عن الذهاب والإياب ..
ترى ـ يتساءل المرء ـ: لماذا لم تستطع أية محاولة من هذه المحاولات أن تواصل الطريق وأن تحقق هدفها المنشود؟
إن الدعوة إلى التحقق بالمنهج وإلى إعادة كتابة التاريخ، أو ـ بعبارة أدق ـ إعادة عرضه وتحليله، ليست طريقاً مسدوداً.. فلماذا كان هذا الذي كان؟
ثمة أسباب عديدة وقفت ـ ولا تزال ـ في طريق هذا الهدف، ونحن إن عرفناها جيداً فكأننا نكون قد عرفنا مواطن الداء فسهل علينا انتقاء الدواء ..
فمن هذه الأسباب، على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: عدم وضوح الرؤية بالنسبة لطبيعة العمل. فمن قائل بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه، واعتماد بنية جديدة لوقائعه وصيرورته ترفض بالكلية ما قدمه مؤرخنا القديم، ومن قائل بضرورة اعتماد صيغة انتقائية تأخذ بهذا وترفض ذاك، ومن قائل بضرورة إعادة تفسير وتحليل معطيات هذا التاريخ بدلاً من إعادة تركيبه.. وآخرون لا يعرفون على وجه الدقة واليقين ما الذي يقصدونه بالعمل المنشود؛ لأن الضباب يلّف تصورهم فلا يتيح لهم الفرصة لاستبانة ملامح الطريق ..
ثانياً: ومما يرتبط بهذا، غياب المنهج وضعف القدرة على التخطيط.. فقد تتضح الرؤية أحياناً، وتتحدد طبيعة العمل، وتتكشف أبعاده .. لكن أسلوب العمل وطرائقه.. المنهج ـ بعبارة أخرى ـ غير متحقق.. ونحن قوم ـ ولنقلها بصراحة ـ نعاني ضعفاً في قدراتنا التخطيطية، ليس هنا مجال استعراض أسبابه، ولشد ما ينعكس هذا الضعف على عدم طرح برنامج عمل محدد الخطوات، مكتمل المفردات، مثبت الأهداف والغايات.
ثالثاً: ونحن قوم نعاني ـ كذلك ـ من فقدان الروح الجماعية التي علمنا إياها هذا الدين وربانا عليها وألزمنا بها، ولكنا تخلينا عن الكثير من مقولاتها ومواضعاتها، وتجمدت تقاليدنا على صيغ فردية قد تبلغ حد الأثرة والأنانية في كثير من الأحيان، فتمحو القدرة على التوجه الجماعي الذي تتكامل فيه الطاقات، وتتضافر القدرات، ويتدفق العطاء لكي يصب في الهدف الواحد ..
والمشاريع الكبيرة في ميادين العقيدة أو الفكر أو العمران والاقتصاد، لهي بأمس الحاجة إلى هذه الروح الجماعية التي يعرف الغربيون كيف يعتمدون عليها لتحقيق الأعاجيب والمعجزات في ميادين الإنجاز .. وإعادة عرض التاريخ الإسلامي، أو تحليله، عمل كبير .. ويوم نتحقق ثانية بروح الفريق، كما أراد لنا الإسلام أن نكون، يوم نتجاوز الفرديات والحساسيات والأنانيات صوب ما هو أكبر وأشمل .. حينذاك نستطيع أن نضع خطواتنا على الطريق ..
رابعاً: غياب التوحد في الرؤية .. فليس بمقدور فريق من المؤرخين يتجه بعضهم يميناً ويمضي بعضهم الآخر شمالاً، أن يحققوا الهدف المنشود.. وكيف سيكون العمل، الذي يفترض أن يتوحد نسيجه، كيف سيكون إذا كان بعض النسّاجين ليبرالياً، وكان بعضهم الآخر مادياً وكان بعضهم الثالث إثنّياً، وكان بعضهم الرابع إقليمياً، وكان بعضهم الخامس مصلحياً؟ كيف يتحقق مشروع يُراد منه تقديم تحليل متوحّد لمجرى التاريخ الإسلامي، إذا كانت بعض مساحاته منسوجة بالقطن وأخرى بالصوف وثالثة بالديولين ورابعة بالحرير؟(5/288)
إنه لأمر مستحيل .. بل هو مدعاة للسخرية يقيناً.
خامساً: وثمة ما يُراد أحياناً بمشروع كهذا: احتواؤه عقيدياً وتوظيفه من أجل هذه الأيديولوجية أو تلك .. وهذا نقيض الموضوعية .. والموضوعية شرط حاسم من شروط البحث العلمي الجاد .. ثم إن محاولات كهذه قد تملك المال والقدرة، ولكنها لا تملك النفس الطويل الذي يمكنها من المضي في الطريق حتى نهايته .. ذلك أنها رهينة بظروف مرحلية ومتغيرات زمنية.. وسرعان ما تتوقف بتحوّل صيغ معادلات الظروف المرحلية والمتغيرات الزمنية.
سادساً: وقد يرتبط بهذا انعدام النية الصادقة وتحويل الدعوة إلى عمل دعائي صرف .. والأعمال بالنيات ـ كما يقول رسولنا عليه السلام ـ ولكل امرى ما نوى .. وإذا طال الطريق بين النية والفعل، بسبب ضخامة العمل وانفساح المدى، فلا تُؤتمن العواقب، وربما يُكتفى بالمظاهر السريعة الخادعة بدلاً من الجوهر المخبوء، صعب المنال..
سابعاً: وقد تلعب الحواجز الجغرافية والسياسية بين مؤرخي عالم الإسلام، والتي يتزايد بمرور الأيام، دورها في إعاقة المهمة وعرقلة مضيّها إلى الهدف المرتجى .. فكلما تنادى حشد من المؤرخين.. هنا .. وهناك .. وهنالك، لتنفيذ هذا المطلب الملح، وجدوا
في طريقهم من الأسلاك الشائكة والعقابيل، ما يجعل تحركهم صعباً قاسياً ومهمتهم مستحيلة، فيكفون عن الإدلاج فيما لا بادرة ضوء فيه، ويعودون من حيث جاؤوا.
ثامناً: يرتبط بهذا ـ أحياناً ـ نقص ملحوظ في الاختصاصات وعدم تكاملها أحياناً .. فهي
قد تتزايد في جانب ما وتشح في جانب آخر.. تبرز وتطغى في هذه المرحلة
وتنزوي وتذوى في مرحلة أخرى.. والأعمال الجماعية، ما لم تتحقق بالتوازن
والتكامل والتغطية لكافة الجوانب والمساحات، فلن يُرجى تنفيذها.. وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، أو عرضه وتحليله مشروع كبير، فما لم تتبنه وتدعمه مؤسسة قديرة على لمّ الطاقات وتوفير الاختصاصات المتكاملة وتوازنها .. باء بالفشل المحتوم .. ولهذا كان هذا الإخفاق المحتوم مصير عدد من المحاولات التي لا تملك دعماً يمكنها من التكامل .. وسيكون ..
تاسعاً: وما يُقال عن هذا يمكن أن يُقال عن قلة الامكانات المادية والفنية لكل مشروع يدّعي القدرة على العمل بعيداً عن الدعم والإسناد .. والإمكانات المادية والفنية ضرورة من ضرورات المشاريع الفكرية الكبيرة، وإلا كنا كمن يرجو من ماكنة ضخّ لا تتجاوز العشرين حصاناً أن تسقي مزرعة تمتد مسافاتها إلى مئات الأفدنة وألوفها ..
عاشراً: وثمة أخيراً ـ وليس آخراً ـ ذلك الإحساس المتزايد بالإحباط، والذي يتراكم إثر إخفاق كل محاولة، وإخفاق كل مشروع بعد أن يمضي خطوات فحسب في الطريق .. وهو إحساس ذو تأثير سيئ غاية السوء، يوحي فيما يوحي بخطأ الفكرة واستحالة تحققها، ويكبّل الإرادة المسلمة من الداخل بالغلّ الذي يشلّها عن التهيؤ، وشحن الطاقة، والانطلاق لتنفيذ الأعمال الكبيرة.
وما لم نتداع لإنقاذ الدعوة من مزيد من الورطات والمطّبات والإخفاق، فإن الإحساس بالاحباط سينتزع المبادرة من أيدينا وسيسلمنا إلى الشلل المحتوم.
وبالتحقق بالبدائل في مقابل هذا كله يمكن أن نضع خطواتنا على الطريق ونمضي بجدّ إلى هدفنا المنشود.
أن تكون رؤيتنا لطبيعة العمل على قدر كبير من النقاء والتكشف والوضوح، وأن نملك منهجاً سليماً للعمل، وقدرات ذكية على البرمجة والتخطيط .. وأن تنمو في سلوكنا وتتغلغل في دمنا وشراييننا روح الفريق كما أراد لنا ديننا أن نكون، هنالك حيث تذوب المصالح الخاصة والتوجهات الفردية والحساسيات الذاتية والأنانيات، وحيث تكون روح الجماعة وحدها هي المؤشر والدليل.
كذلك يتوجب أن تتوحد رؤيتنا، وأن يمسك بها قاسم عقديّ مشترك يمنعها من التفتت والتناقض والتصادم والارتطام، يمنعها من أن يضرب بعضها بعضاً، وينفي بعضها بعضاً.. منطلق واحد وتوجه واحد ونسيج واحد في العطاء تركيباً وتحليلاً ..
أن يمسك العمل بتلابيب الموضوعية من بدء المسيرة حتى منتهاها.. إن الموضوعية هنا تعني (العلمية) وبدونها لن تتأتى النتائج المرجوة منبثقة عن رحم التاريخ نفسه، كما تخلقت وقائعها في الزمن والمكان .. لا كما يُراد لها أن تكون.
والنية المخلصة الصادقة، من وراء العمل، أمر ضروري، بل هي ضربة لازب إذا ما أريد للمحاولة أن تكون شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين. وإلا فليس ثمة إلا الشجرة الخبيثة التي ما لها من قرار، تعصف بها ذات اليمين وذات الشمال رياح التشريق والتغريب، وتتقاذفها عواصف الأهواء والنزعات والميول.(5/289)
أما زوال الحواجز الجغرافية والسياسية فهو أمر يبدو للوهلة الأولى مستحيلاً، ولكننا إذا ما تذكرنا أننا في عصر السرعة، والاختزال، والاتصالات الخاطفة، والآلات الحاسبة، والمواصلات السريعة، والتيسيرات المدنية التي تتزايد طرداً بمرور الأيام.. وأننا في عصر الإنترنت والتواصل الثقافي والإعلامي اليومي، دقيقة بدقيقة وساعة بساعة، أدركنا أن المعادلة قد لا تكون في غير صالحنا، وأن هنالك من القدرات والإمكانات ما يمكن توظيفه لضرب الحواجز وقطع الأسلاك الشائكة وإزالة المتاريس .. هنالك حيث يمكن أن يلتقي بعضنا ببعض، وأن نعمل سوية كفريق واحد يتداعى لاعبوه المتمرسون من كل مكان من أجل تحقيق الفوز بأي ثمن كان!!
ومسألة تكامل الاختصاصات وتحقيق التغطية المتوازنة الشاملة لكافة مساحات المشروع، أمر ليس صعب المنال، ونحن في عصر (الأكاديمية) إذ يزداد الخريجون المتخصصون، سنة بعد سنة، ويوماً بعد يوم، بمعدل متواليات هندسية وليست حسابية على أية حال.. صحيح أن هذا التدفق الأكاديمي قد يطرح كميات لا تتضمن قدراً طيباً من التميز النوعي، إلا أنها ـ على أية حال ـ فرصة طيبة لتزايد العناصر الممتازة القديرة على الفعل الصادق والتنفيذ الذكي المرسوم.
أما قلة الإمكانات المادية والفنية فهي -ولا ريب- أقل الموانع شأناً؛ لأن إيجاد الشروط المادية الفنية وتوظيفها لخدمة المشروع، أمر سهل المنال يسير التحقيق في بلاد تملك الكثير وتقدر على استيراد الكثير ..
ويوم أن تتحقق هذه البدائل الإيجابية، وتوضع اللمسات الأولى، وتنطلق الخطوات على الطريق مغذّة السير صوب الهدف.. يومها لن يكون ثمة إحساس بالإحباط يشل الفاعلية ويكبل الخطا عن الانطلاق .. على العكس فإن الإنجاز الذي ستنفذه المحاولة سيحقق نوعاً من التسارع في القدرة على الفعل .. هنالك حيث تُختصر المسافات، وتُختزل حيثيات الزمان والمكان..
==============(5/290)
(5/291)
الصدام الجنسي للحضارات!
محمد أبو رمان 7/1/1427
06/02/2006
يمثل "الإصلاح الثقافي" أحد الأبعاد الرئيسة في الدعوات الأميركية إلى إصلاح العالم العربي، والتي شهدت طفرة حقيقية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وفي الوقت الذي نجد فيه تفصيلاً وشرحاً وافياً لمعاني ومؤشرات الإصلاح السياسي والاقتصادي المطلوب، فإن المقصود بالإصلاح الثقافي مازال ضبابياً، وتعتريه حالة من الغموض والاختلاف حتى داخل الأوساط الثقافية والسياسية الأميركية.
بعض الرؤى الأميركية تقرأ الإصلاح الثقافي من خلال الدعوة إلى إصلاح المناهج التربوية، وتطوير الخطاب الديني، وتصحيح إدراكات المسلمين فيما يتعلق بالجهاد و"الآخر"، والقبول بالديمقراطية والتعددية ومبدأ التعايش الديني والحضاري. وتتوافق هذه الرؤى في خطوطها العامة مع نظيرتها لدى التيار الثقافي العام في العالم العربي والإسلامي، والذي يرى أن المجتمعات العربية والإسلامية اليوم تحتاج إلى إصلاح ديني-ثقافي، يؤدي وظيفة حقيقية في انتقال المجتمعات من حالة التخلف والركود إلى النهضة والإصلاح. كما أن الإصلاح الثقافي ضرورة تفرضها مؤشرات الواقع الإسلامي الذي يكتوي بعلامات التراجع الثقافي والمعرفي، وازدهار بعض الحركات المتشددة، وغياب دور المراكز البحثية والعلمية في التخطيط والمعرفة المؤثرة في المجتمعات العربية. وقد أتت تقارير التنمية الإنسانية العربية، ولا سيما التقرير الأول حول حالة المعرفة العربية، لتؤكد الملاحظات السابقة.
إلاّ أن هناك رؤية أميركية أخرى للإصلاح الثقافي المطلوب، تتبناها بعض مراكز الخبرة والرأي في الولايات المتحدة. وفي تقديري، فإن هذه الرؤية تعكس بدرجة أدق النظرة المركزية الغربية للآخر، وتستبطن المنظور الحقيقي للمثقف الأميركي تجاه الآخر. وهو ما يفسر الحديث الأميركي المتكرر حول قضية حقوق المرأة، وحقوق المثليين الجنسية، والعلاقات الجنسية قبل الزواج، والتعددية الثقافية في العالم الثالث، بدرجة تفوق كثيراً ما هو معمول به في أعتى الديموقراطيات الغربية.
ومن أبرز الدراسات التي تكشف عن هذا المنظور دراسة الخبير الأميركي أنغلهارت في مجلة السياسة الخارجية (Fo r eign Policy)، (أكتوبر 2003)، وهي من المجلات المعتبرة في الولايات المتحدة. تحمل دراسة أنغلهارت عنواناً معبراً عن مضمونها الفكري والسياسي، وهو "الصدام الحقيقي للحضارات". إذ يرى أنغلهارت أنّ الصدام الحقيقي للحضارات ليس بين القيم الثقافية السياسية، بل بين القيم الجنسية!
وتقوم الفكرة الرئيسة للدراسة على أنّ صمويل هانتنجتون في أطروحته "صدام الحضارات" يصيب نصف الحقيقة المتمثل بأنّ الثقافة باتت أمرًا مهماً بالنسبة للشعوب في العالم، وأنّ الصراع العالمي -في المرحلة القادمة- يكمن في الجانب الثقافي. إلاّ أن المشكلة ليست، كما يظن هانتنجتون، مرتبطة بالقيم السياسية في العالم الإسلامي، فنتائج الاستطلاعات العالمية تظهر أن الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة أصبحت قيماً مرغوبًا فيها، ومطلوبة بشكل كبير في المجتمعات المسلمة، وهكذا فإن المشكلة الحقيقية تتمثل في المعتقدات الأساسية لهذه المجتمعات المرتبطة بالثقافة الاجتماعية.
ولإثبات مقولته، يحلل أنغلهارت استطلاعات رأي واسعة أُجريت داخل المجتمعات الإسلامية، ليصل إلى أنّ الشعوب المسلمة أقل تسامحًا تجاه المساواة بين الجنسين، وحقوق المرأة، والعلاقات الجنسية، وحقوق المثليين؛ وبعبارة أخرى، فإن الصدام الحقيقي للحضارات هو صدام حول المفاهيم الجنسية التي تعكس التباين القيمي الحقيقي في المعتقدات الأساسية بين الشعوب العربية والغربية.
إذن، "المشكلة الثقافية" في العالم العربي والإسلامي تكمن، وفقا لتيار كبير داخل الفكر السياسي الأميركي، في القيم الاجتماعية والثقافية، وبالتالي فإن المطلوب هو إيجاد حالة ثقافية ممسوخة، قائمة على المحاكاة الكاملة للنموذج الثقافي الغربي. لكن السؤال هو: أي نموذج؟ فإذا كان أنغلهارت يتحدث عن عدم تسامح تجاه المثليين جنسياً، والعلاقات الجنسية قبل الزواج، فإن أحد العوامل الرئيسة التي ساهمت في انتصار الرئيس بوش في معركته الانتخابية الأخيرة هو رفض المحافظين الجدد لـ"الزواج المثلي"، وتأكيدهم على القيم الدينية المحافظة للمجتمع الأمريكي، بينما تنطلق أصوات نخبة من الكتاب في العالم العربي تطالب بإصلاح ثقافي على طريقة أنغلهارت!(5/292)
للأسف الشديد، فإن النموذج الثقافي المرحّب به، والذي يلقى قبولاً لدى تيار واسع من المثقفين والكتاب والسياسيين الأمريكيين هو "النموذج التغريبي"، الذي يندفع بعيداً في محاكاة الثقافة الغربية في المجتمعات العربية والإسلامية. وأي جانب من الثقافة الغربية؟! المظاهر السطحية التي ترتبط بقيم اجتماعية ونمط ثقافي استهلاكي لا يلتفت أبداً إلى الجانب الإنتاجي من هذه الثقافة، ولا حتى إلى دور الدين في المجتمع، ولا إلى معاني نحن أحوج ما نكون إليها اليوم: المؤسسية، والحفاظ على الوقت، وتقديس العمل والجهد، والمنطق العلمي في التعامل مع الأمور، والمعايير الموضوعية في التقييم والإنجاز... الخ. فالغرب- لدى فئة من الشباب العربي الملحقين بالثقافة الغربية على طريقة أنغلهارت- لا يزيد عن وجبات سريعة، وموضات اجتماعية، وحياة استهلاكية مبتذلة!
ما تجدر ملاحظته في هذا السياق، هو أن الفكر الإسلامي في عصر النهضة، في بدايات القرن المنصرم، كان سباقاً إلى الدعوة إلى إصلاح ثقافي-ديني في العالم العربي، وإلى الإفادة من الحضارة الغربية، لكن في الجانب الإبداعي المفيد الذي يحرك العقول ويدفعها إلى الإنتاج والعطاء، وهو ما تحتاج أن تتعلمه المجتمعات العربية بالفعل من الغرب.
نعم، ثمة ضرورة للإصلاح الديني والثقافي في العالم العربي، لكن في سياق محترم يقوم على فكر إسلامي مستنير، ينطلق من الإسلام وقيمه الإنسانية، ومن الخصوصية الحضارية والثقافية، التي لا تعني اضطهاداً للمرأة، أو الأقليات، أو حتى الحريات الدينية؛ لكنها لا تعني، في الوقت ذاته، انسلاخ المجتمعات الإسلامية عن قيمها وثقافته
==============(5/293)
(5/294)
معركة الشريعة الإسلامية في مصر
د. محمد مورو 7/12/1426
07/01/2006
تتجمع في الأفق ملامح معركة فكرية وسياسية ودينية حول مرجعية الشريعة الإسلامية كمصدر أساس للتشريع في مصر، ومن المعروف أن المادة الثانية من الدستور المصري الحالي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للدستور، وهذه المادة تحديداً من المتوقع أن يثور جدل كبير بشأنها من قبل المفكرين والسياسيين والعلماء وأطراف القوى السياسية في مصر؛ فضلاً عن جماهير الشعب المصري التي عادة ما تعزف عن المشاركة السياسية، ولكن بخصوص مسألة الشريعة الإسلامية فإن الأمر سيبدو مختلفاً جداً، لأن حرارة الوجدان الإسلامي في مصر لدى قطاعات الشعب المصري بكل طوائفه عالية جداً "يبلغ عدد المسلمين في مصر حوالي 94 % من السكان وفقاً لإحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء".
الذين يريدون تحريك الجدل حول تلك المادة الثانية من الدستور، ومن ثم تحريك سحب سوداء حولها، هم من العلمانيين من كل الاتجاهات "الليبرالية والقومية واليسارية" وقطاع هام من المسيحيين "أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت"، ومن المعروف أن أغلبية المسيحيين في مصر من الأرثوذكس".
ولكن يجب أن نفرق هنا بين عدد من الملاحظات حول العلمانيين والمسيحيين؛ فالعلمانيون في معظمهم يعادون الشريعة الإسلامية؛ لأنهم ينطلقون من مفاهيم تغريبية ترى أن فصل الدين عن الدولة هو القاعدة الأصلية، وأن مرجعية الشريعة الإسلامية أمر لا يتفق مع المساواة في المواطنة، ولا يتفق مع روح العصر، ولا مع قيم العولمة، ولا مع التطور الديمقراطي المزعوم، ويجب أيضاً أن نفرق هنا بين أنواع العلمانيين؛ فالليبراليون واليساريون بحكم تكوينهم الفكري غالباً ما يكونون علمانيين، أما القوميون فمعظمهم غير علمانيين، ومن ثم فإن العلمانيين منهم هم فقط الذين يريدون إلغاء تلك المادة من الدستور، أما غير العلمانيين من القوميين فيعتبرون الشريعة الإسلامية إحدى ركائز القومية العربية، أما غير المسلمين فالمسألة بالنسبة لهم مُركّبة، فهناك من المسيحيين المصريين من يتمسك بالشريعة الإسلامية باعتبار أن ذلك جزء من تراثهم الحضاري، فهم على حد قول السياسي المسيحي المصري المعروف مكرم عبيد "مسيحيون دنياً. مسلمون وطناً"، وقد كتب الأستاذ رفيق حبيب وهو ابن قس مصري معروف، ومفكر مرموق يدافع عن الشريعة الإسلامية تحت عنوان "الأقباط والشريعة الإسلامية ـ آفاق عربية 18 شعبان 1426 هـ ، 22 من سبتمبر 2005 م"، وفي الحقيقة فإن بحثاً أجراه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة عام 1985 تحت إشراف الدكتور أحمد المجذوب رئيس المركز في ذلك الوقت أفاد أن 98 % من المسلمين و 68 % من المسيحيين يوافقون على تطبيق الشريعة الإسلامية؛ بل والحدود الإسلامية". وهكذا فإن مطلب الشريعة الإسلامية كمرجعية هو مطلب مصري عام، وصحيح أن أقباط 1985غير أقباط 2005 فقد مرت كثير من المياه تحت الجسر، وتغيرت أمور كثيرة بسبب الاستقطاب الطائفي، إلا أن القدر المتيقن منه أن هناك نسبة لا بأس بها من المسيحيين المصريين لا تزال على موقفها من مرجعية الشريعة الإسلامية.
وفي الحقيقة فإنه من الممكن أن نقول ببساطة: إن الذين يقفون مع المشروع الوطني المناهض لأمريكا وإسرائيل من إسلاميين وقوميين بل ويساريين ومسيحيين هم مع مرجعية الشريعة على أساس أن الشريعة الإسلامية هنا تحقق نوعاً من الممانعة الحضارية، وتحقق نوعاً من الاستقلال، وتعني عدم الخضوع الحضاري والتشريعي والثقافي للحضارة الغربية والأمريكية والصهيونية، وأن الذين يقفون مع المشروع الأمريكي الصهيوني من كل الاتجاهات السياسية هم ضد مرجعية الشريعة الإسلامية لعكس الأسباب السابقة.(5/295)
الذين يدعون الآن إلى فتح موضوع المادة الثانية من الدستور هم في الحقيقة يركبون موجة موجودة بالفعل حول ضرورة تغيير الدستور في مصر؛ لأن به مواد مقيدة للحريات أو لا تتلاءم مع العصر، وأن من الضروري إصدار دستور أكثر تسامحاً وأكثر احتراماً للحريات ..الخ، وهذا كلام صحيح يحظى باستجابة واسعة، ولكن الغريب أن يتم دس السم في العسل، بالمطالبة ـ أو حتى الكلام عن المادة الأولى والمادة الثانية من الدستور، المادة الأولى تنص على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وهذه مادة من العبث الاقتراب منها، أما المادة الثانية فالمعركة تدور حولها، وهي تنص على أن "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع" بدعوى أن فيها نوعاً من التمييز ضد غير المسلمين، مع أن الشريعة الإسلامية ذاتها تعطي الحق لغير المسلم للتحاكم إلى قانونه الخاص "في الأحوال الشخصية مثلاً كما هو معمول به في مصر"، إلا إذا طلب هو غير ذلك، وبدهي أن مطلب مرجعية الشريعة هو مطلب شعبي عام، لا تصل قضية أخرى إلى القدر الذي يتمتع به من التأييد، ومن ثم فإن الليبرالية والديمقراطية -إن كانوا كذلك حقاً- فإن عليهم احترام اختيار الشعب، فإذا كانت الشريعة واجب شرعي بالنسبة للمسلم ليست موضع مناقشة، فإنها -حتى بمقاييس الليبرالية- مطلب شعبي، وما دام الشعب في رأيهم مصدر السلطات فلماذا لا يحترمون تلك الرغبة الشعبية.
الدعوة حتى الآن تسير باستحياء، فقد طالب بها عدد من العلمانيين، ولمح إليها البابا شنودة بابا الأرثوذكس الذي طالما أعلن الصيام والاحتجاج من قبل كلما ظهر الحديث عن تطبيق تلك المادة من الدستور وتفعيلها، وصرح بها بابا الكاثوليك في مصر الأب يوحنا قلته. الذي طلب صراحة إلغاء تلك المادة، وما لم تكن هناك وقفة من علماء الأزهر، والقوى السياسية الإسلامية، والمفكرين والساسة الإسلاميين، ومن جماهير الشعب المصري لإظهار أن الكلام حول تلك المادة هو خط أحمر لا ينبغي الاقتراب منه؛ فإن من المتوقع أن تتسع الحملة؛ بل يمكن أن تنجح من خلال دسها في مسألة التغيير المطلوب للدستور المصري، أو وضع دستور يحقق مطالب الناس في التأسيس للتغيير السياسي لتأسيس نظام سياسي جديد يمنع الاستبداد ويسمح بالعمل السياسي الحر، والتداول السلمي للسلطة، وهذه مطالب شعبية يمكن أن يُدسّ داخلها تجاهل مرجعية الشريعة أو تغيير المادة الثانية من الدستور، مع الأخذ في الاعتبار أن النظام السياسي المصري ذاته يمكن أن يتجاوب مع هذه الخطة المريبة تحت ضغط القوى الخارجية كالولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي، أو جماعات الضغط الدولية "أقباط المهجر ـ تجمعات الشواذ، التجمعات النسوية المريبة ...الخ".
وفي الحقيقة فإن منطق دعاة المرجعية الإسلامية منطقهم متماسك؛ فهو أولاً مطلب شعبي عام، وليس فيه تمييز؛ لأننا لو سألنا مثلاً المسيحيين المطالبين بإلغاء المادة الثانية من الدستور أو إلغاء مرجعية الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع هل يقبل هو ذاته أن يخضع للزواج المدني بعيداً عن الكنيسة أو أن يقيم علاقاته الأسرية والاجتماعية بمعزل عن الدين لرفض فوراً، فهل يعني ذلك أن تتخلى الأغلبية عن شريعتها فيكون ذلك ديمقراطياً، وتتمسك الأقلية بشريعتها الدينية في نفس الوقت.
وكذلك فإن الداعين إلى المرجعية الإسلامية هم دعاة استقلال وطني وتميز حضاري، وهو أمر مطلوب ومرغوب في ظل التحدي الصهيوني الأمريكي، ولعل دراسة تاريخ تسلل التشريع الأجنبي إلى مصر يؤكد هذه الحقيقة، فقد بدأ هذا التسلل مع النفوذ الاستعماري بدءاً من عام 1840 حين هُزم محمد علي، وأصبح للدول الأوروبية نفوذ في مصر ثم زحف الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة والأجنبية والقنصلية، ثم تسلل مدارس التعليم القانوني الأجنبي في عصر سعيد وإسماعيل، ثم مع الاحتلال الإنجليزي ثم الاحتكام تماماً إلى القانون الغربي وإزاحة القوانين الإسلامية تماماً، وهكذا فإنه تم استنبات التشريع الأجنبي في البيئة المصرية عملياً ونظرياً وتعليمياً بفعل الضغط والنفوذ الأوروبي وظلامته الأولى من الأفّاكين والمرابين والمقامرين والموردين، وما زالت المدارس العلمانية التي تطالب بإلغاء مرجعية الشريعة الإسلامية تحقق نفس الخطة لأسيادها الغربيين، وما زالت المرجعية الإسلامية هي مطلب حركة التحرر الوطني المصري منذ بدايتها وحتى الآن، بدءاً من الأفغاني والنديم ومصطفى كامل ومحمد فريد، وانتهاء بكل حركات المقاومة المصرية ضد إسرائيل وأمريكا والتغريب والصهيونية.
============(5/296)
(5/297)
الإعلامي الذي نحتاج
د. محمد بن سعود البشر 18/11/1426
20/12/2005
طفرة كمية كبيرة حقّقها الإعلام العربي خلال السنوات القليلة الماضية؛ إذ تزايدت أعداد القنوات التلفازيّة والإذاعات والصحف والمجلات؛ إلا أن هذا التطور الكمّي لم يرافقه تطوّر كيفي أو نوعي نتطلع جميعاً إليه، وذلك لعدة أسباب:
في مقدمتها ضعف إمكانات كثير من العاملين في الحقل الإعلامي وهو الضعف الذي يدركه بجلاء كثير من عامة الجمهور العربي، فضلاً عن المختصين والنخب الثقافية والفكرية. و على الرغم من التزايد الكبير في أعداد وسائل الإعلام والإعلاميين فإن المتميزين منهم ما زالوا قلة يمكن حصرها بسهولة.
فما هي صفات أو مواصفات الإعلامي الذي نحتاج إليه في هذا العصر؟ وما هي مؤهلاته واهتماماته؟
أصناف الإعلاميين الموجودين في الساحة الآن ثلاثة: الإعلامي الحرفي، وهو الذي يمارس العمل الإعلامي بأسلوب وظيفي روتيني، مثلما يمارس أي موظف مهما كانت وظيفته، دون رغبة أو قدرة على الإبداع والتميز، هذا الحرفي لا يعي أن للإعلام رسالة، وما أكثر هؤلاء الحرفيين في وسائل إعلامنا! يؤكد ذلك كثير من المواد التي تُنشر في الصحف أو تُبث في التلفاز والإذاعة.
والصنف الثاني هو الإعلامي التبعي، وهذا النوع من الإعلاميين يجمع بين المهنية وضبابية الرؤية، أو مسلوب الهوية أحياناً أخرى، هذا الغثّ الإعلامي هو الذي يسيّر كثيراً من مؤسسات الإعلام العربي، وأتباعه هم الذين ابتليت بهم الأمة، وفتحوا عليها منافذ للشر في وقت هي أحوج ما تكون إلى الثبات على المبدأ والمحافظة على الهوية، وصيانة المحددات القيمة القيميّة للمجتمع في مواجهة التغريب الإعلامي الذي تتعرض له مجتمعات المسلمين.
أما الصنف الثالث فهو الإعلامي المهني الذي يعي أن الإعلام مهنة ذات رسالة، يمنحه هذا الوعي رؤية واضحة، وقدرة دائمة على تطوير ذاته وتنمية إمكاناته.
إن إحساس هذا الإعلامي المهني برسالته ووعيه بها، هو ما يدفعه طواعية لامتلاك كل ما من شأنه الارتقاء بمهنيّته، وبالتالي قدرته على أداء رسالته، فهو مشغول بتثقيف نفسه، مهموم بواقع أمته، متألم لقضاياها الناجزة، وهذا هو الإعلامي الذي نريد ونحتاج.
=============(5/298)
(5/299)
الخليط الإعتزالي ونقدهم للأصول
أمة الإسلام مجموعة على كلمة واحدة وهي كلمة التوحيد، ولكن أعداء الله لا يهنئ لهم بال، ولا يقر لهم قرار، حتى يلبسوا عليهم دينهم، ويضلوهم عن طريق ربهم .
هذا التلبيس بدأ من العصر الأول، ذلك العصر المفضل بلسان النبي صلى الله عليه وسلم ، فمنه خرج رؤوس لبعض أهل البدع، وتتابُع تلك البدع ينذر بخطر داهم على الأمة .
من تلك البدع التي ظهر رأسها، وافترقت عن أهل السنة ،ونازعت في بعض المسائل، المعتزلة، أولئك المعتزلة قد اغتر بهم كثير من المسلمين، وهذا الاغترار قد يكون له حقيقته وله سببه ، وذلك أن واصل بن عطاء رأس المعتزلة وزعيمهم كان طالبا من طلاب الحسن البصري، فاختلف في القصة المشهوره هو والحسن في مسألة في العقيدة ،فاعتزل حلقة الحسن، فسموا معتزلة ،فهو له حظ من العلم الشرعي فكان يسخر ذلك العلم في ترويج بدعته ،وتلبيس الحق على الناس، فلا ملامة على الجاهل من تأثره لعظمة العلم الشرعي في قلوب الناس هذا في القديم.
ولكن في الحديث خلف المعتزلة موجودون متوافرون متوارثون لبدعتهم، غير أن الأسباب التي ساعدت واصل بن عطاء لم تكن لهؤلاء المعاصرين من المعتزلة، فكان الخلط فيهم في أصول الاعتزال كثير .
وقد تجد من أتباعهم من يتكلم بكلام يلومه أصحابه لجهله بطريقته التي يسير عليها والتي يجب أن يكون ملتزما فيها.
فليس سرا أن كثيرا من الطرح العقلاني المعاصر سلسلة لما سبق، وأن الطرح العلماني يناصره في أكثر المسائل ، وإن كان من الناس من لا يفرق بينهما وكأن التلازم موجود عنده بينهم .
والمعتزلي الحديث لا يحتاج إلى كثير جهد ولا إلى خلفية سابقة، لا ،وإنما عليه شيء واحد فقط، وهو أن يتكلم باسم الإسلام بعقله، فيخلط ويلبط وهنيئا للمتندر به .
فمن تكلم فيما لا يحسن، أتى كما قيل بالعجائب.
ولربما فرق إنسان بين منهج المعتزلة وبين عقيدتهم، فأين أصوله الثابتة في الاستدلال ؟ ولكن مما يؤلم السني أن يرى طرح هؤلاء المعتزلة وتركيزهم على نقض عرى الدين عروة عروة ، والسير على طريقة تسقط الإسلام بالتتابع .
تجد هؤلاء المعتزلة يتعلقون ويناقشون ويتكلمون في أصول الدين وفي أصول الفقه..فلماذا الأصول هي المرادة بالحرب فقط ؟؟!!
أما منا قشتهم وبدعتهم في أصول الدين وخلطهم فيها فشهرتها تغني عن التنبيه عليها، كمسألة التحسين والتقبيح العقليين، ومسألة العدل وغيرها.
ولكن الطرح المعاصر للمعتزلة أغلبه يدور على أصول الفقه، فلا تعجب من تلك الدعوى الكلية، المطالبة بتجديد أصول الفقه، وكأن الأصول تتغير ! أي شيء يكون للأصول من تعريفها إذا كانت تتغير.
دعوى فجة ومشتهرة، يرمى بها أهل السنة بأنهم جموديون على قديمهم، ويمثلون بأمثلة من الأخطاء في التطبيق الأصولي الذي قد يكون أهل السنة قد أخطؤوا فيه، وخطأ في التطبيق ليس خطأ في الأصل، والمناداة بإحياء التطبيق الأصولي على الواقع تطبيقا معاصرا أولى لسد الباب عليهم .
ما سبق حكم منهم على الأصول بالجملة .
وأما حين البداية في الدخول فترى أن قاعدة سد الذرائع شرقوا بها وغصوا، وداروا حولها وأجلبوا بخيلهم ورجلهم عليها، فقُصدت لأجل ما يترتب على إسقاطها من أحكام، فأي أصل يسقط، ففروعه له تبع، فإسقاط هذا الأصل أولى في نظرهم من أن يتكلموا في جواز قيادة المرأة للسيارة، بل جهلتهم هم الذين يتطرقون إلى مباشرة مثل هذا العرض ،وكبارهم فقهاء في الإسقاط، فمتى ما أسقط الإنسان حكم قيادة المرأة للسيارة سيحتاج إلى أن يأتي إلى غطاء الوجه والحجاب وهكذا، فيتعب نفسه في تتبع الفروع، فالأصل أولى بالنقض .
فالإختلاط وعدم المفاصلة بين المسلمين والكفار، والتغريب الشامل وغيرها ،مما يدندنون عليه داخل تحت ذلك .
والمرأة ركن من أركان المساومة والنقاش، والمحاولة في الوصول إليها أساس عندهم، فلا بأس أيضا أن يناقشوا مسألة القوامة، فالمرأة القديمة التي كانت كالمتاع في السابق جاهلة مهانة و...و..هذه ليست كالعصرية التي صار لها المصنع والمتجر، وصار لها الشهادات العلمية العالية والتعليم المتواصل، أيعقل أن تكون قوامة الرجل على المرأة القديمة كقوامة الرجل على المرأة الحديثة.
وهكذا.. حتى في مسائل النكاح والولاية صار النقاش .
ولن تنتهي المساومة في الأصول إلى أن يسقطوا الدين كله، وأحيانا قد يكون الإنسان منهم مؤدبا! فيتكلم في قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، فيحاول أن يدخل من هذا الطريق، وما علم المسكين حتى وإن كان يسمى فقيها، أن تغير الفتوى لا يعني تغير الحكم.
أصول دين المسلم يلعب بها، ويحاول إسقاطها، وتلك هي المواجهة.
والأدهى من ذلك والأمر أن يسمى بعضهم بالإسلاميين
=============(5/300)
(5/301)
الكتابة... لقهر المجتمع!!
أ. ياسر بن علي الشهري 12/11/1426
14/12/2005
عندما تكون الكتابة لُعبة فكرية؛ يفقد المجتمع جزءاً من قدراته المعرفية والأدبية، ويُزيف إطار الوعي ومدار الممارسة الثقافة التي يعايشها الإنسان في واقعه الاجتماعي، وتختلط المشكلات الصغيرة والإشكاليات الكبيرة، ويخسر -المجتمع- التسمية الدقيقة للمعطيات والظواهر والعلاقات التي تؤثر فيه ويتفاعل معها.
هنا تصبح الكتابة أداة من أدوات القهر الاجتماعي، وتُجيّر فاعليّتها لتزوير الواقع وتزييف الوعي بطبيعته، وتستخدمها الأقلية لتصوير أغلبيتها، دون وعي بالقيم التي تصادمها وفداحة تعميمها بهلاك المجتمع بأكمله.
إن الجهود التي تستهدف المجتمعات المسلمة لا تكفي لتحديث -تغريب- وتفتيت المجتمعات التي يزداد تأصلها وتجذرها في الإسلام، مما تطلب توسعاً في وسائل الهدم عبر الفن والأدب والإعلام بكل الوسائل الحديثة والتقليدية.
كثير مما يُكتب لنا اليوم يمثل مجالاً لدراسة صور رق واستعباد الهوى والشهوات التي يقبع تحتها كثير من الكتاب ظناً منهم أنما يمارسون حريتهم في البوح عن المستور، فهناك استدعاء لصور"معينة" وإقحامها في مجتمعاتنا، أو تضخيم لصور نشاز؛ لتشويه الصورة العامة للمجتمع ونفي صورة المثالية التي يسعى الإسلام بأصحابه إلى بلوغها. مع إهمال متعمد لشخصية الفرد المسلم، ولشخصية المجتمع التي تمثل مجالاً للإبداع الأدبي المتجرد من الهوى والشهوة.
إن رفض المنهجية الذبابية لا يعني عدم الاعتراف بالنقص ووجود الخلل، إنما يرفض العقلاء إقامة الكتابة على استهداف الخلل وانصباب الاهتمام على ثقوب النسق العام للمجتمع، أو أن تُستهدف صورة الجماعة المسلمة التي يتبنى أفراد المجتمع قيمها ومعارفها واتجاهاتها وسلوكياتها، أو يتم الإيهام بثقافة وقيم جديدة دونها، أو أن يُعمّق التناقض في البيئة الاجتماعية، أو يُغيّب دور الفرد -الاجتماعي- المطلوب ليساير جماعته ويتوافق ويندمج في الحياة.
وكذلك فإن رفض تضخيم الخطأ ليس رفضاً للواقع المَعيش، وليس عدم إدراك بالمتغيرات، إنه حفاظ على المفاهيم، ونبذ للمغالطات والتناقضات، ومحاولة للإبقاء على البون الشاسع بين الطبقات والمذاهب والتيارات التي تحاول فرض أفكارها ومعاييرها وقيمها على المجتمع الذي يملك الحق المنزّه والصريح -القرآن والسنة- وليعي -المجتمع- أنه خير لكثير من الناس أن يصمتوا إذا لم يخلّصوا أنفسهم من آفتي "الهوى والجهل".
الذين يفسرون تزايد هذه الأعمال بأنها حالة طبيعية تبعاً لحداثة العالم الذي نعيش فيه، وأنها صورة من صور تهديد التقدم لثقافتنا وعجزنا عن الممانعة، يجب أن يعلموا أن الخطورة ليست فيما تقدمه التكنولوجيا من الفرص والمميزات وما يتبعها من المتغيرات، وإنما الخطورة في ربط تعاطي المجتمعات المسلمة للتطورات التقنية؛ برفض الثابت وطمس التاريخ والتخلي عن القيم والأخلاق، وفق منطق التحايل على الواقع الذي يحوّل الثابت تابعاً للمتغير، ويعطي المتغير سمات وخصائص لا يملكها وهو مؤشر لأزمة عميقة يعاني منها التفكير العقلاني، وعجزه النظري والمنهجي عن فهم تماسك المجتمع الإسلامي وأسبابه.
العمل الإعلامي والفني والأدبي -أيا كان شكله- أصله الكلمة، وليس الشهوة (الشهرة، الإفساد) والكلمة مرتبطة بالمصلحة العامة، وهي حالة تتطلب سلامة التفكير قبل التعبير، وتعميم الصور الذهنية والأفكار الشخصية هلاك لصاحبها قبل المجتمع.
إن على مثقفي المجتمع مهمة كشف المحاولات البائسة و"المنهجية الذبابية" التي تنتج الأدب والفن بعيداً عن قيم المجتمع وسياقه الثقافي والفكري، وعليهم تثقيف المجتمع بأساليب ومعايير كشفها؛ لحفظ الذوق العام، دون الإلتفات لمن يقلل من شأن الرفض والإقصاء وتقييم الأعمال في زمن الانفتاح.
إن واقعنا الإسلامي واضح الأطر متسع الأفق لن يُغمر أو يتم تجاوزه بسهولة مهما كانت سمات الواقع الافتراضي المغاير؛ لأن قيمه وأخلاقياته لم تقم على العقل البشري؛ إنما قامت على مفاهيم ربانية جعلت من ابن الخطاب ثاني رجل في الإسلام، وحوّلت جاهليته رصيداً من الثوب الثوابت، وصار الشيطان هارباً من طريقه.
ورفض الباطل لا يرتبط بإمكاناته، فقد اعتادت المجتمعات المسلمة على رفض المحاولات الفكرية والسياسية "الجريئة" التي تصادم ثوابتها، فضلاً عن المحاولات الأدبية -الجريئة على الثوابت- التي لا تُذكر في مقابل محاولات أضخم كان عاقبتها الرفض والاستهجان.
ويبقى المؤهل دائماً للتعبير عن حاجات المجتمع المسلم وتلبيتها مهما تغيرت الأجيال والطموحات والهوايات؛ هو الذي يدرك طبيعة علاقة المجتمع بالخالق، ومكانة الدين في قيادة وتوجيه مسيرته وضمان رفاهيته المتوازنة بين الروح والعقل والجسد، أو بمعنى آخر يدرك الثوابت والمتغيرات وعلاقتهما بالزمان والمكان وحجم كل منهما، والمستقل منهما -الذي لا يخضع للتغير- والتابع.(5/302)
وإذا ما عقل الناس ما نملكه من الثوابت فلسنا نخشى الانفتاح في المجتمع المسلم، فكلما زادت المعلومات وتنوعت أشكال التواصل داخلياً وخارجياً كلما اغتنت الأفكار وترسخت القناعات، وضاقت الهوة وتعمّقت الألفة بين الفرد ومحيطه من العائلي إلى الأممي -(إياك نعبد وإياك نستعين)-، وتكاثرت أشكال البحث عن تحقيق صلاح المجتمع ودمج الذات في همومه وتطلعاته -(اهدنا الصراط المستقيم)- والارتباط برموزه -(صراط الذين أنعمت عليهم)- ورفض الانقلاب والانتكاس والخروج عليه-(غير المغضوب عليهم ولا الضالين)-.
وهذا بعينه هو المجتمع الراقي الذي يملك أول الدواء وآخره فيربي الناس على أن تكون بواطنهم كظواهرهم، ويربط بين مكوّناتهم الروحية والعقلية والجسدية، وهي حالة ليست بالافتراضية؛ لأن شروطها متوفرة في المجتمع الرباني الذي يتحرك في إطار الإسلام.
وشروط المحافظة ليست شروطاً مصطنعة "دوركايمية"؛ إنها أعمال تعبّدية ومحل ثواب وعقاب، هدفها الحفاظ على الصورة العامة للمجتمع في صورته الناصعة التي تكتمل بتراكم عدد كبير من الأعمال والممارسات التعبّدية -مسؤوليات وواجبات ومسنونات ومستحبات- في المجال الاجتماعي على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، فتكثر القدوات، وتُرعى الأمانات، ويُؤمر بالمعروف، ويُنهى عن المنكر، ويُخشى من المجاهرة، فتظهر الصورة ناصعة جميلة؛ لتمثل مجتمع الهدى والرشاد (كنتم خير أمة).
=============(5/303)
(5/304)
في علم الاستغراب: قراءة في كتاب (مقدمات الاستتباع) (2/2)
د. بدران بن الحسن 14/8/1426
18/09/2005
في الحلقة الأولى من هذا المقال تناولنا أهم المحاور التي ركّز عليها كتاب (مقدمات الاستتباع) من خلال التصدير والمقدمة، وفي هذه الحلقة نتناول أهم النقاط الواردة في بقية الفصول.
ففي الفصل الأول من الكتاب تناول الكاتب مظاهر نشوء النظام الغربي مركزاً على كيفية اشتغال القوانين الجديدة التي تحكمت في الحملات التبشيرية والمهام التي كُلّفت بها لغزو ما سُمّيَ بالشرق وتشويه صورته، ثم أبرز كيف انخرطت الدول الغربية، لحل مسائلها السياسية الداخلية، في الحملات التوسّعيّة ما قبل الاستعمارية فيما وراء البحار، ثم كيف أسهمت في إضعاف الإمبراطورية العثمانية -التي كانت تشكل تحدّياً سافراً للغرب آنذاك- وترسيخ الانشقاقات الطائفية والعرقية والقبلية والإقليمية بين الجماعات المتعايشة في ظلها.
وفي خمس نقاط يتناول النشوء والنماء الذي سار عليه النظام الغربي؛
ففي النقطة الأولى يتناول عملية التداخل بين السلطة الدينية للكنيسة مع الغزوات التجارية (المركنتيلية)؛ إذ ستتبلور (أيديولوجيا) تجعل من الربح قاعدة لـ"التقدم"، ومن المبادلة الحرة أداة أكثر فعّالية وضمانة لـ"الحضارة"، وذلك حين تحوّلت التجارة عند التجار وأصحاب المصارف إلى "فضيلة"، والمال إلى "صنم" بوصفهما شرطين أساسيين لضمان "النجاح" في الحياة العملية. (ص 28).
وفي مسار تشريع اللاهوت للناسوت "المركنتيلي" اضطرت كل الكنائس أن تتكيّف مع التنمية الخارجية للروح التجارية أو التشجيع لها، ثم الأخذ بالعقلية الصناعية... لقد أوجدت الرأسمالية روحها الخاصة، ووضعت الكنائس أمام ضرورة الاندماج بالقانون الطبيعي (للدولة-الأمة) (ص35-36).
وفي النقطتين الثانية والثالثة: تناول الصراع الذي حدث بين الكنائس على الشرق ودخول البروتستانت (p r otestant) حلبة المنافسة لما كان للمراسلين الكاثوليك من نشاط مكثف، وفي خِضَمّ هذا الصراع كان نشر "الإيمان المسيحي" يجري من خلال ثلاث قنوات: الصحافة والإرساليات ثم الطباعة لكونها وسيلة فعّالة لنشر الأفكار. (ص45).
أما النقطة الرابعة فيتناول فيها اشتداد الهيمنة الأوروبية على الشرق الأوسط في مختلف المجالات في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، بخاصة في عهد محمد علي باشا إثر الشروع في "التنظيمات" الإصلاحية عام 1839م.
وقد قدم المؤلف في هذا السياق حشداً من المعلومات عن الإرساليات الغربية وعن أنشطتها المتشعبة والفعالة بين أهل الشرق، مبيناً ارتباطاتها المباشرة بإستراتيجيات الدول الغربية.
وأما في النقطة الخامسة فقد تطرق الباحث إلى النتائج الضارة التي سبّبتها الإرساليات الأجنبية بمختلف أنشطتها سواء للمسلمين أو للمسيحيين الشرقيين أو غيرهم؛ إذ في إطار التوسع الاستعماري وترسيخ دعائم السيطرة الأوروبية في وعي الأهالي، خاصة باحتواء الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية، ثم استقطابها، ثم عزلها وجعلها معادية لقيمها ومحيطها الديني الثقافي والحضاري.
وكانت أهم هذه النتائج الضارة تتمثل في: تأصيل الطائفية، وتفاقم الصراع بين الجماعات، وغرس المشروعين الانفصاليين الماروني، واليهودي.
فمن أجل تأصيل الطائفية، أنشأ النظام الغربي قاعدة للطائفية بزرعه لفكرة "الدولة - الأمة" (nation-state) المجسّد للطائفية نظاماً اجتماعياً، وقد رُبِطت هذه الدولة عمودياً بدول المركز وبعجلتها الاقتصادية، وقام بتلغيم القواسم المشتركة، ووسّع هوة الفوارق الاجتماعية، وأثار النزعات الطائفية بين الجماعات الدينية والمذهبية والعرقية.
أما فيما يخص تفاقم الصراع بين الجماعات، فهو على ضربين: صراع بين الجماعات الدينية والمذهبية والعرقية، وصراع من مستوى آخر، وهو صراع النخبة المستغربة مع الأغلبية الشعبية.
لقد لاحظنا سابقاً ضمن إستراتيجية التغلغل التبشيري، أن كل القوى الاستعمارية حاولت أن تدعم بطريقة منفردة أو مشتركة، جماعة على حساب جماعة أو جماعات أخرى، متعايشة سابقاً في ظل الخلافة العثمانية، من أجل مد هيمنتها وتكريسها على الخلافة العثمانية وتفكيكها، ثم الوصول إلى اصطناع دويلات مبنية على قواعد عرقية وطائفية وقبلية وإقليمية وجهورية. لكن المشروعين الذين استأثرا أكثر من غيرهما باهتمام القنصليات الأجنبية، في القرن التاسع عشر، هما إنشاء كيانين لليهود الأوروبيين والآخر للمسيحيين المحليين، وبالتحديد الموارنة، ليكونا بمنزلة حصنين متقدّمين للمركزية الغربية في الشرق الأوسط، ومنطلقين للمرافعة عن "العالم الحر".
وفي الفصل الثاني المُعنون "من السيطرة على الطبيعة إلى السيطرة على البشر" قام الكاتب بتحليل الكيفية التي تمّت بها بلورة مفاهيم المركزية العرقية الغربية، وكيف تضافرت هذه المفاهيم مع حملات التبشير باسم "العقل" و"العقلانية" أو "الموضوعية العلمية".(5/305)
ولإبراز المعايير والقيم والعادات الذهنية التي تسكن الخطاب التاريخي المتعالي للنظام الغربي الصاعد، قام الباحث بمقاربة تلمس المقدمات والعناصر الإجرائية المنظمة و "المعقلنة" التي مكنت هذا النظام من تدعيم أسس الاستشراق، كعنصر مكتمل لهيمنته، وتبيان كيفية المحاججات "العقلانية" التي سمحت له بفرض ثقافته على الشعوب المهمشة وخاصة بعد "عصر الأنوار".
هذه المقاربة تناولها في عناصر أربعة: مصادر الخطاب الكوني في منعطف القرنين السادس عشر والسابع عشر، والعرقية المركزية الكامنة في الخطاب الكوني، والحروب بوصفها صمّام أمان "للدولة-الأمة"، ثم استغلال أسطورة "الإنسان المتوحش الطيب".
فالمثقفون في أوروبا في بداية عصر النهضة انكبوا على استنطاق أنفسهم حول الأسباب التي تم إنشاؤها عن طريق الملاحظة الحسية من أجل توسّع الحد الأقصى من فضاء السيطرة على الطبيعة. ومع توسّع التجارة، وظهور علم (الأنثروبولوجيا)، وُلدت شبكة مؤسّسية من المعارف السياسية و(الأيديولوجية)، فمكيافيلي عندما اكتشف التاريخ الروماني بحث فيه عن القوانين الأبدية لسيطرة البشر بعضهم على بعض، في كتابه "الأمير"، وظهرت نظرته في العصر التالي مع مذهب "المصلحة العليا للدولة" التي ما كان لها أن تقوم لولا تبرير وسائل السيطرة الوحشية...، فمكيافيلي بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" الذي كان خلاصة كتابه أسس للغزو الاستعماري وأخلاقه النفعية.
أما (هوبز) فقد دفع بهذا المفهوم إلى الحد الأقصى، واعتبر الحرية ليس شيئاً غير غياب كل ما يحول دون الحركة، كما أعلن أن على الدولة أن تضع الكنيسة والدين في خدمتها، ثم (كوندورسيه)، و(ديكارت) الذي قدم حججاً (للإيديولوجية) الكاثوليكية وشجّعها على تكييف لاهوتها مع التقدم والارتقاء الثقافي العقلاني بوجه كوني.
ومع (هيجل) كشف الخطاب الكوني للغرب عن عرقيته المركزية الكامنة، ذلك أن هيجل لكي يدعم خطابه ويتفادى تحديد نفسه فقط بخطاب كوني متعارف عليه في عصره لجأ إلى التاريخ اليوناني الذي يعده المنطلق العام للتاريخ الإنساني برمته، وهو في أطروحته ينطلق من شقين: في الشق الأول يشيد بالتاريخ الغربي مرجعاً واحداً جديراً بالاعتبار. أما الشق الثاني فيحط من شأن تاريخ الحضارات المسماة بالشرقية ويعدها مرحلة زائلة.
فالجدلية الفكرية عند (هيجل) لا تتجاوز حدود الغرب، وكل فكر خارج هذه الحدود موسوم بالظلامية والاستبداد وانعدام الحرية والتاريخ.
هذه التعميمات تحوّلت إلى بداهات تعزز خطاب المركزية الغربية عن طريق "العلوم الإنسانية"، في إطار التطوّرية الداروينية- السبنسرية، والوضعية الأوغيست-كونتية، والمادية التاريخية (ص 77-80).
ضمن هذا المنظور العام ستغدو كل المسوغات العقلانية ناجزة لشن الحملات والحروب على هذه الأمم الموسومة ب"غير المتحضرة" وقد أصبحت، لاحقاً، حقاً قانونياً ومطلباً حيوياً "للدولة-الأمة "الغربية.
ولإنقاذ المجتمع المدني الغربي من الركود والموت يقترح (هيجل) سلسلة من العلاجات تنطوي على القيام بالحرب والاستعمار. فالحرب لها الفضل في إعادة بناء التجانس الوطني تجاه التهديد المقبل من الخارج، والاستعمار سيسمح للدور الغنية بالتخلص من غير المرغوب فيهم.
أما أسطورة "الإنسان المتوحش الطيب" الموروثة عن العصور الوسطى وعصر النهضة فقد رسخت في الأذهان على شكل استيهامات غرائبية حتى بات الاستعمار يُعدّ عملاً إنسانياً يسوّغ غزو الشعوب "الوحشية" و "الكسولة"، أي: العاجزة عن الإنتاج واستغلال الثروات الطبيعية. الأمر الذي يثير شهوة التوسع والهيمنة عند الغزاة.
أما الفصل الثالث فقد تناول فيها الاستشراق و(أيديولوجية) الهيمنة: فلكي تضفي الدوائر الاستعمارية على (أيديولوجيتها) التوسعية صبغة قانونية وعقلانية كان عليها أن تقدم علومها في مجال الإنسان بصفة علوم حيادية عالمية شبيهة بالعلوم الطبيعية... ولم تتردّد "العلوم الإنسانية" في توظيف أسطورة الإنسان المتوحش" بما يخدم مصالح دولها. والقصد ليس تجريده من مزاياه الفكرية فحسب، إنما هو تأسيس خطاب علمي مخصص للآخرين يبرز للمركزية العرقية الغربية زعزعة ثقة الشعوب الشرقية بذاتها وبمعاييرها وتدمير مجتمعاتها وعوامل الاستمرارية عندها، ولعل هذا ما جعل العلماء -على الرغم من اختلاف مشاربهم (الأيديولوجية)- يجمعون على إسقاط أحكام معيارية مسبقة الصنع على الشرق وإلصاق كل النعوت السلبية به: من قبيل الاستبداد، والتأخر، والكسل، واللاعقلانية، واللاتاريخية.
من أجل "البحث عن آدم جديد" للأوروبي الأبيض والمتفوق والعنصري، عمل الاستشراق على خطين: الوعي اللغوي بمنظار أوروبا ومقاييسها، والميل إلى التجزئة والتفريع وإعادة التجزئة لمباحثه دون أن يغير من رأيه حول الشرق.(5/306)
أما الحتمية العرقية التي نهجها علماء اللسانيات والسلالات فقد أدّت إلى جعل العرق صنماً محركاً للتاريخ على يد (شارك كونت)، و(فيكتور دوليل)، و(غوبينو) الذي يرى أن العرق الأبيض يظهر فيه بوضوح الجمال والذكاء والقوة، ويمتلك عنصرين أساسيين لكل حضارة هما: دين وتاريخ، فضلاً عن اجتماعيته المتحضرة، وتفاوته وتوسّعه عن طريق الغزو (ص 95).
أما (أرنست رينان) فيرى أن العرق السامي يُعدّ شكلاً منحطاً ذا تركيب أدنى من الطبيعة الإنسانية بالمعنى الأخلاقي والبيولوجي (ص 96)، يستثنى اليهود بإدراجهم في دائرة المركزية العرقية الغربية بدعوى أن العرق "الإسرائيلي" قدم للعالم أكبر الخدمات العظيمة (ص 97).
والخط نفسه سار عليه (كوفييه)، و(سانت فانسان)، و(كاتروفاج)، و(دوبلاج) في فرنسا و(توما أرنولد)، و(كنوكس) و(داروين) و(سبنسر) في بريطانيا ثم في الولايات المتحدة على يد (ميرتون)، و(جيرون)، و(نوت) من دعاة الأشكال المتطرفة للنظرية العنصرية المعادية للسود، وبلغ الخطاب العرقي العنصري على يد علماء الأناسة الألمان ابتداء من القرن التاسع عشر حداً متطرفاً مع مبدأ تفوّق العرق الجرماني.
وتحت قيادة هذا الخطاب "العلمي" المسيطر والمؤسس في القرن التاسع عشر تحالفت الدولة الممركزة الدستورية، والعلم، والجيش، والصناعة والكنيسة لتوزيع الأدوار وتقاسم المهمات ضمن إستراتيجية منظمة، تراوحت مهماتها حسب الظروف، بين مطاردة السكان المحليين وتهميشهم وبين تسخيرهم وتصفيتهم. كل ذلك باسم الحضارة والحرية وحقوق الإنسان، وتقدم الإنسانية.
هذا التقدم: (الاستعمار والتحضير) نظر له كل فلاسفة أوروبا من (أوغست كونت)، و(هيجل)، إلى المدرسة الماركسية التي لم تفلت من الأسطورة الخاصة بالتقدم الأحادي والحتمي للإنسانية، ولم ينقطعا معرفياً ولا إيديولوجياً مع ثوابتهما الداعية إلى رسالة حضارية في الشرق، وفي الحقيقة ما قامت به الماركسية في أدبياتها حول الشرق كان امتداداً للمدرسة الاستشراقية (الليبرالية).
وخلاصة الكلام حول الاستشراق و(أيديولوجية) الهيمنة التي أنتجتها أن ما يريده المنظرون والمستشرقون هو وضع شعوب الشرق أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الرضوخ النهائي لمنطق الغرب، وإما أنها ستظل تعتبر، من قبل الخارج، محكومة بعدم قدرتها على مواجهة الحياة.
وأما في الفصل الأخير فقد تناول المؤلف "حملة بونابرت على مصر" التي هي نموذج تطبيقي للأدوات والترميزات والتصوّرات الغرائبية التي يحملها الغرب نحو الشرق.
إذ الحملة على مصر -حسب رأي الكاتب- لم تكن ثمرة مشروع عرضي هدفه محاولة بث التفرقة العرقية بين المماليك والمصريين من جهة، وبين العرب والعثمانيين من جهة ثانية باسم الإسلام، ثم تعميق الشقاق والصراع الاجتماعي ما بين الأديان والمذاهب باسم تقديم حلول علمانية زمنية مستمدة من مبادئ عصر الأنوار، للأقليات الدينية والمذهبية.
استخدم نابليون مجموعات من النخب المحلية لضمان سريان أوامره، وعمل على تأييد المارونيين، واستعطف اليهود ودعاهم إلى النهوض لتحقيق مطالبهم واستغلال الفرصة للعودة إلى أرض الميعاد.
ورغم أن احتلال بونابرت لمصر باء بالفشل على الصعيد العسكري، إلا أن آثاره لا تزال حتى اليوم تسيطر على منظوراتنا الثقافية والسياسية، ولقد انقسمت غالبية النخب المحلية المحدثة إزاء هذه الحملة إلى اتجاهين:
الأول: رأى فيها منعطفاً حاسماً في تشكل تاريخهم الحديث، لكونها كانت مبعثاً على "النهضة العربية" بفعل آليات المثاقفة مع الآخر الغربي.
أما الثاني: فيتمثل في التوفيق ما بين العلوم الحديثة المستجلبة والتراث العربي الإسلامي، وذلك بتطويعه للنموذج الغربي.
ولا يزال الصراع يدور بشكل سحالي دون نقاط مضيئة حول الأسس المشتركة لتحقيق النهضة.
في الخاتمة يناقش الباحث فكرة تجاوز الغرب لمقولاته المعرفية، غير أن الباحث -وأظنه محقاً في ذلك- يرى ألاّ نستعجل ونعمم الحكم على غالبية (الأنثروبولوجيين) والمؤرخين والمستشرقين بأنهم قد قطعوا، من حيث المضمون، مع مركزية النظام الغربي لكونهم انتقدوه أو انتقدوا مظاهره.
ذلك لأن عملية القطيعة تستدعي إعادة نظر جذرية في العديد من المسلمات الغرائبية والاستيهامية الثاوية في النظام المعرفي الغربي المؤسسي، ولا يكفي أن تطلق صفة القطيعة حتى يسلم آلياً بكل أشكال التطبيقات المعرفية، وما تتضمنه من إسقاطات ماسخة على شعوب الشرق وثقافاته.
إن أي ترويج اعتباطي لمفهوم القطيعة -دون قيام نوع من علاقة المحاورة المتفاعلة بين الغربي والطرف الآخر- يُعدّ إضافة أيديولوجية إلى جملة ما هو سائد.
وفي الختام:(5/307)
هذا وإن الكتاب مليء بالأفكار يحتاج إليه كل مثقف يريد لنفسه أن يتفاعل إيجابياً مع الغرب المهيمن بخيله ورجله وأفكاره وإنتاجه، ذلك أنه يبحث في الجذور المعرفية التي أسست للخطاب الغربي المستعلي، ويقوم بالحفر في عمق مدلولات الخطاب ليبرزها، ويناقش "حقلاً معرفياً" يحتاج إلى ارتياد الكثير من ذوي البصائر وأولي الألباب، حتى يؤسس التعامل مع الغرب على علم، وتُختصر الكثير من المعارك الوهمية، وتُقتصد الجهود، والله أعلم.
لماذا علم الاستغراب؟
من المسائل الشائكة في عالم أفكارنا كيفية التعرف على الغرب ومعرفة أنساقه الفكرية وتجربته الحضارية وخصائصه التي تميزه عن غيره من الكيانات الحضارية. ولذلك تواجهنا مجموعة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات علمية دقيقة تساهم في فهم الغرب وتوفير آليات منهجية للتعامل معه.
وهنا يُثار تساؤل عن كيفية ضبط العلاقة مع الغرب؛ إذ إن الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي جعلنا في موقف ينبغي أن نحدد الصلة به، وخاصة أن ما يفيض علينا وعلى غيرنا من الأمم والشعوب من إنجازاته الحضارية ومن فوضاه الحالية جعل منه مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالعالم كله وبالعالم الإسلامي بوجه خاص.
وهنا يأتي ما يمكن أن نسميه علم الاستغراب كما ذهب إلى ذلك الأستاذ حسن حنفي وغيره من المهتمين بالتأسيس لعلم يقوم على دراسة الغرب. وهذا لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا في حلوله للغرب -كما يعتقد كثير من التغريبيين أو غيرهم من دعاة الأصالة الإسلامية- وإنما يتطلب منا أن نعرف التجارب الحضارية المختلفة لنتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة.
فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن الظاهرة الحضارية الغربية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة، وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.
فالعالم الإسلامي منذ بداية الجهود التجديدية الحديثة يضطرب، كلما تعلق الأمر بالغرب، غير أنه لم يعد بذلك البريق الذي كان عليه منذ قرن تقريباً، ولم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية ظفر بها على عهد أتاتورك مثلاً، فالعالم الغربي صار حافلاً بالفوضى، ولم يعد المسلم الباحث عن تنظيم نفسه وإعادة بناء حضارته الإسلامية يجد في الغرب نموذجًا يحتذيه، بقدر ما يجد فيه نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحتوي من أخطاء.
فالغرب تجربة حضارية تُعدّ درسًا خطيرًا ومهماً لفهم مصائر الشعوب والحضارات، فهي تجربة مفيدة لإعادة دراسة حركة البناء الحضاري، وحركة التاريخ، ولبناء الفكر الإسلامي على أسسه الأصيلة، وتحقيق الوعي السنني، الذي ينسجم مع البعد الكوني لحركة التاريخ، ذلك البعد الذي يسبغ على حركة انتقال الحضارة قانونًا أزليًا أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)[آل عمران:140].
فالتأمل في هذه التجربة التي صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية؛ إذ هو يحاول أن يفهم مشكلاته فهمًا واقعيًا، وأن يقوّم أسباب نهضته كما يقوّم أسباب فوضاه تقويمًا موضوعيًا.
وحتى تُنظّم هذه العلاقات، ويُستفاد من هذه التجربة البشرية، ويُدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبتسرة، وأفكارنا عنه عامة، وغير نابعة من اطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوهًا أو جزئيًا.
ولقد أضاع المسلمون كثيراً من الوقت منبهرين بما حققه الغرب، دون أن يتأملوا ويدركوا سر حركة التاريخ في الغرب، فنرى كثيراً من الباحثين والمفكرين المسلمين بمختلف انتماءاتهم يجهلون حقيقة الحياة الغربية والحضارة الغربية بالرغم من أنهم يعرفونها نظرياً، كما أنهم ما زالوا يجهلون تاريخ حضارتها. وإنه بدون معرفة حركة تاريخ هذه الحضارة والمنطق الداخلي الذي يحكمها، فإننا لم ندرك سر قوتها ولا مكامن ضعفها، ولم نعرف كيف تكوّنت، وكيف أنها في طريق التحلّل والزوال لِما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية.
وإذا كانت المائة سنة الأخيرة قد تميزت بتقريب المسافات، واتجاه البشرية نحو التوحّد، في مصيرها، وفي علاقاتها، فإن المثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، ويرتقي إلى إطار الحضور العالمي، وعيًا وإنجازًا، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي؛ إذ لا يمكن أن نطرح مشاكلنا في زمن العولمة والكونية، دون أن نأخذ في الاعتبار كل المعطيات السياسية والجغرافية والإستراتيجية.(5/308)
وتحديد الصلة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يعطينا تحديدين مهمين في إنجاز مشروعنا التجديدي:
التحديد الأول: هو التحديد السلبي، وذلك من خلال إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه العظمة الحقيقية.
أما التحديد الثاني: فهو التحديد الإيجابي، من خلال تحديد ما يمكن أن نساهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها.
وهذا في حد ذاته ينضج ثقافتنا ويعطيها توجهًا عالميًا، فمن المفيد قطعًا أن ننظر إلى حركة التاريخ والواقع من زاوية عالمية لنكتسب بذلك وعياً عالمياً، فإذا أدركنا مشكلاتنا في هذا المستوى، فإننا سندرك -لا محالة- حقيقة الدور الذي يُناط بنا في حضارة القرن الحادي والعشرين.
ما هو منظور علم الاستغراب؟
إن مسألة تحديد النسق أو المنظور الذي من خلاله نتناول القضايا ومناقشة المشكلات المختلفة من الأهمية بمكان. ذلك أن تحديد المنظور يمكّن الباحث أو الدارس من الإحاطة بالمسألة، وامتلاك القدرة على إدراك مختلف أبعادها، وكذلك إمكانية صياغة حلول متناسقة قائمة على منهج واضح.
وبعبارة أخرى فإن منظور رؤية الأشياء هو الذي يحدد المنهج المقتضي للاتباع وتناول تفاصيل المسائل. وفي هذا السياق فإن النظر إلى مسألة ما من منظور فقهي -مثلاً- يؤدي إلى اعتماد منهج يختلف بالضرورة عن المنهج الذي يعتمد على منظور كلامي أو ثقافي أو حضاري أو سياسي.
وتحديد المنظور الذي من خلاله نعالج المسائل يسهل مهمتين للدارس؛ من حيث الاتساق في صياغة المنهج المراد اتباعه لعلاج المسألة موضوع البحث، ومن حيث القدرة على نقد مدى علمية المنهج المتبع في حل قضية ما ومدى اتساقه مع نفسه واتساقه مع الحقيقة الخارجية.
ويمكن القول: إنه بتحديدنا للمنظور، وبالتالي تحديدنا للمنهج المنبني عليه يمكن معرفة مدى شمولية ودقة واستيعاب هذا المنظور أو ذاك لمختلف الأبعاد، ومدى قدرة المنهج المنبني عليه على علاج المشكلات المختلفة للقضية أو الظاهرة أو المسألة موضوع البحث والدراسة.
والكتاب الذي بين أيدينا يُعدّ حلقة مهمة في بناء منظور ومنهجية للتعامل مع الآخر الغربي، ذلك أنه يبحث في جذور الغرب الثقافية والمعرفية التي شكّلت -ولا تزال- تعامُلَه مع غيره، كما يظهر الكتاب الاستعدادات الثقافية التي مكنت الغرب من أن يبلور، بوساطتها صورة عن ذاته، ويشكل صورة مشوهة للآخر لتأكيد ذاته، والتمركز المستعلي على غيره. ويتناول مصادر خطاب السيطرة على البشر بعد السيطرة على الطبيعة، ثم الاستشراق، وأيديولوجية الهيمنة.
محتوى الكتاب
يقع الكتاب في (160) صفحة من القطع المتوسط، متضمناً تصديراً للدكتور طه جابر العلواني، ومقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
في التصدير أشار الدكتور العلواني إلى أن عنوان الكتاب "الاستتباع" يستدعي إلى الذاكرة مجموعة من المفاهيم والمصطلحات سادت في أوساط مثقفي الأمة منذ منتصف القرن الماضي، مثل: الاستعمار، والاستشراق، والاستغراب، والاستكبار، ... النظام العالمي الجديد والإرهاب، والأصولية، والظلامية ونحوها.
والكتاب يستدعي هذه المفاهيم لأنه يعالج "حقلاً معرفياً" واسعاً يتصل بكل هذه المفاهيم. وهذا الكتاب يتناول الغرب بتحليل بنائه وأطره المنهجية، ومسلماته المعرفية (الإبستمولوجية) وفلسفته ونظرياته وقواعده المعرفية، وينقّب عن كيفية تحول الغرب إلى المركزية في رؤيته لذاته وتهميشه للآخرين، بل واستتباعهم.
ويشير إلى الطريقة التي تناول بها العقل المسلم ظاهرة الاستشراق، وأنها كانت دون مستوى الإحاطة بالظاهرة، وانعدام الاهتمام بتحليل البنى المعرفية والأطر المنهجية للاستشراق بوصفه حقلاً معرفياً نشأ في إطار العلم الغربي وفلسفته ونظرياته وأسسه المعرفية، وكان موضوعه الآخر غير الغربي، مستمراً في الشرق المسلم، وأن هذا الحقل المعرفي قد أسس لنفسه علوماً لبناء شبكات في الشرق المسلم، وأن هذا الحقل المعرفي قد أسس لنفسه علوماً لبناء شبكات المفاهيم الجديدة والمنظومات المعرفية المؤطرة في فلسفته (التصدير، 10).
في المقدمة يشير المؤلف إلى عدة أفكار مهمة في سياق معالجته للموضوع، أهمها:
- التناول الاجتزائي للاستشراق: فيرى الباحث أن الكتابات حول الاستشراق ونتائجه منذ عقدين من الزمن ونيف، وقع معظمها ضحية منظورات اجتزائية لم تضع الاستشراق ضمن النسق المعرفي المؤسسي العام للحضارة الغربية، فهو ليس ظاهرة موازية للنسق المعرفي المؤسسي الغربي المهيمن ولا منقطعة عنه أو عرضية فيه، إنما على العكس استمدت جذورها من هذا النسق بكل مكوناته المعرفية والمذهبية، نسجت خيوطها في كنفه، وتشكّل جزءاً أساسياً في إنشاء نموذج (الدولة-الأمة) في الغرب.(5/309)
- طرق الاستعمار في بسط الهيمنة: إذ لم يلجأ الاستعمار -في فرض هيمنته ونمط إنتاجه وإملاء شروطه، بوصفها حقيقة وحيدة لازدهار الحضارة- دائماً إلى سياسة النهب الخالص وسياسة المدفع السافرة، إنما اعتمد على أساليب أخرى أيضاً في مرحلة ما قبل الاستعمار المباشر، وذلك عن طريق الاتفاقيات التجارية والعسكرية والعلمية مع حكام دول الأطراف وتكوين أنصار وزبائن مفتونين بمبادئه وقيمه ومؤسساته في المجتمعات المحلية، والتسلل إلى الضمائر وتطويعها وتسخيرها لصالحه.
- عقدة التفوق الغربي التي تحكم الغرب؛ إذ لكي يستأثر بزمام المبادرة في معالجة التاريخ العالمي يرفض الاعتراف بالقيم والرموز الخاصة بالثقافات المغايرة، أو بفكرة تاريخ متعدد، ويلجأ إلى تقطيع مجتمعات الأطراف إلى شرائح وكيانات قبلية وطائفية، أو عرقية وإقليمية، ويحوّل تواريخ الشعوب إلى أصفار على هامش الحضارة، لا قيمة لها إلا بقدر اندماجها في دائرة السوق المتمم لحاجات إنتاجية المركز الأوروبي.
- الجذور الأيديولوجية والمعرفية للغرب: فالجذور الأيديولوجية للغرب ونظريته المعرفية تأسست ابتداءً من عصر النهضة، ومشروع الغرب يتجه نحو تطوير قيم أخلاقية جديدة متحررة شيئا فشيئاً من الدين لصالح نظرية جديدة عن المعرفة، ممثلة في أولوية المعرفة الموضوعية المستمدة من مجالي التجريب والرياضيات.
- ذهنية الصراع والسيطرة على الطبيعة والإنسان التي تحكم الغرب في تعامله مع الشرق، ضمن تراتبية تنطوي على إقامة فوارق جوهرية ثابتة بينه وبين سكان الشرق، وجعل نفسه وصياً وحيداً في تقرير مصائرهم تحت شعار تحرير الوثنيين والكفار "الوحوش" أو "الهمج" من "الظلامية" و"العبودية".
بمقتضى هذه الاستراتيجية راح الغرب يُساوي نفسه مع التاريخ، وله وحده الاستحواذ على مواقع النجاح، ولو على حساب ثقافات وتواريخ الشعوب الأخرى ومحوها.
- نشأة (الأنثروبولوجيا) الغربية: فالغرب أنشأ هذا العلم لدراسة إنسان ما وراء البحار بمناهج جديدة تهدف إلى عزله عن كل الظروف الاجتماعية التاريخية، ونكران ما يمثله من قيم ثقافية مغايرة. وحسب منظور (الأنثروبولوجيا) الغربية لم يعد ثمة شيء عقلاني، بالمعنى الحرفي سوى النظرية (الأنثروبولوجيا) "الإنسانية" عن ثقافة الشعوب التي اصطلح على تسميتها "بالبدائية" أو "الوحشية"، ولم يعد هناك من ثقافة سوى ثقافتهم من وجهة نظرهم هذه.
وإذا تم الاعتراف بعظمة حضارات (الغير) فبمقدار استجابتها لمصالح وترميزات المركزية الغربية. (ص 19 - 21).
- (إيديولوجيا) الفتح، والتسويغ لخطاب السيطرة: إن الخطاب المسيطر والمؤسس في القرن التاسع عشر، تحالف تحت قيادته الدولة المركزية الدستورية والعلم، والجيش والصناعة والكنيسة حاملة رسالة التبشير، لتوزيع المهام وتقاسم النفوذ ضمن إستراتيجية منظمة روّج لها رواد (أيديولوجيا) الفتح أمثال مونتسكيو وهيجيل وماركس ووايتفوغل.
=============(5/310)
(5/311)
خواطر فكرية مبعثرة
الحلقة الأولى (1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، أمّا بعد:
فهذه خواطر مبعثرة، في موضوعات شتّى، ليس بينها رابط يربطها سوى أنّها جالت في الذهن يومًا ما، ولا تحتمل مقالة كاملة فضلاً عن كتاب، فرأيت أن أبعثرها هنا نصحًا للأمّة، فما كان منها من صواب فهو من الله وحده لا شريك له، وما كان منها من خطأ فهو من نفسي ومن الشيطان، والله المستعان.
* ما يسمّى بـ (زواج الفرند) وإن كان مقصود من اقترحه صحيحاً شرعاً، إلا أنّ تسميته بهذا الاسم - في نظري - خطأ من وجهين:
- أحدهما: أنّ كلمة الفرند ـ بغض النظر عن معناها ـ كلمة أجنبية. وفي لغتنا العربية ما يغني عن مثل هذه الكلمات الأجنبية.
- والوجه الثاني: أنّ هذه التسمية موهمة، قد يفسّرها بعض الناس بالزواج العرفي، أو غيره من الأنكحة الباطلة المحرّمة، وقد نهى الشارع عن مثل هذه العبارات الموهمة.
* أقترح على دار الإفتاء، أو وزارة الشؤون الإسلامية، أو الحسبة تفريغ باحثين أَكْفَاء لمتابعة ما ينشر في الصحف المحلية وغيرها من وسائل الإعلام المختلفة، لشكر من يستحقّ الشكر، وتفنيد ما يحتاج إلى تفنيد، فالجهود الفردية وحدها في هذا المجال لا تكفي.
* يحتجّ بعض الناس على إباحة بعض الأمور بأنّ تحريمها لم يرد نصّاً في القرآن الكريم، وهذه حجّة باطلة لا تصدر إلا من جاهل، أو ملبّس، فإنّ من المعلوم أنّ القرآن الكريم لم يرد فيه تحريم كلّ محرّم بعينه، وإنّما تضمّن القرآن كليّات كبرى يندرج تحتها جزئيات كثيرة لا تحصى، بعضها وقع وبعضها ربّما لم يقع إلى هذه الساعة، ومهمّة العلماء الراسخين ردّ هذه الجزئيات إلى قواعدها الكليّة.
* الذين يجعلون الدولة الدينية في مقابل ما يسمّى بالدولة المدنية هم لا يعرفون حقيقة الإسلام، فدين الإسلام دين شامل مهيمن على جميع نواحي الحياة ولو كره أهل العلمنة، فإذا كانت الدولة المدنية تعني إقصاء الدين، والمساواة بين الكافر والمسلم، والسنّي والمبتدع، فهي دولة علمانية مارقة، أمّا إن كانت تخضع للدين وتأتمر بأمره ـ وهذا هو الواجب ـ، فهي لا تعدو أن تكون دينية، وإن اعتنت بمصالح الناس الدنيوية.
* الفئة التي تسمّي نفسها ( ليبرالية ) لا تجيد إلا النقد والجدل، إن بحقّ ـ وهو قليل ـ وإن بباطل، مع تعالم سمج ظاهر، حتى إنّك لو كتبت آيات محكمات من القرآن على غير ما هي عليه في المصحف، وعرضتها على أحدهم دون أن يدري أنّها من المصحف؛ لراح ينتقدها ويجادلك في زيفها بزعمه، وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم : "ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل "..
* يقول بعض المفتونين: إنّ الاختلاط بين الجنسين يهذّب الغرائز، ويكبح جماح الشهوة، ويرشّدها!! والحقّ أنّه يقضي على الشهوة أو يضعفها، فيجعل الرجال أشباه رجال ولا رجال، لا يجيدون سوى التحرّش الظاهر، فلا يجدون ما يجده المسلم المحافظ البعيد عن مخالطة النساء الأجنبيات من القوّة والمتعة مع أزواجهم، وهذا أمر مجرّب، وما أحسن ما قيل: ( كثرة الإمساس تميت الإحساس ).
* إنّ ممّا يحتجّ به المنهزمون فكريّاً من أبناء جلدتنا للتقليل من شأن حضارتنا الإسلامية المجيدة وإعلاء شأن الحظيرة الغربية: قولهم إنّ المبرّزين من العلماء في الطب وغيره في الحضارة الإسلامية كابن سيناء وغيره قد حُكم عليهم بالكفر والزندقة والمروق من الدين، فهي حضارة دينية.. والجواب عن ذلك من وجوه:
- أحدها: أنّ هذا ليس على إطلاقه، فهناك علماء أجلاء في الطب والرياضيات ـ وهم كثر ـ لا يُذكرون إلا بالخير، وهؤلاء الذين حُكم عليهم بالزندقة هم قليل من أولئك الكثير.
- الثاني: أنّ هؤلاء الذين حُكم عليهم بالزندقة لم يُحكم عليهم بذلك لبروزهم في العلوم الطبيعية، وإنّما حُكم عليهم لإلحادهم وانحرافهم العقدي، ولا تلازم بين الأمرين.
- الثالث: أنّ الفضل في بروز هؤلاء ليس لهم على الحضارة الإسلامية، بل للحضارة الإسلامية عليهم، فهي التي أبرزتهم، ولو عاشوا في بلاد الغرب المتخلّفة آنذاك لكانوا نسياً منسياً، ولم يكن لهم شأن يُذكر.
- الرابع: أنّ الحضارة الإسلامية - مع حكمها على هؤلاء بالزندقة - استفادت من علومهم الطبيعية التي توصّلوا إليها، وبنت عليها علوماً أخرى، مع نبذها لعلومهم العقدية المنحرفة، وهذه قمّة العدل والإنصاف.
* من الحجج التي يحتجّ بها دعاة التغريب والمفتونين بالحظيرة الغربية: قولهم إذا كنتم تكرهون الغرب فاستغنوا عن منتجاته التقنية!! وهي حجّة سمجة سخيفة، والجواب عنها من وجوه:
- أحدها: أنّ ما وصل إليه الغرب اليوم من التقدّم التقني المادّي ليس نتاجه وحده، وإنّما هو نتاج جهود تراكمية للحضارات السابقة، ومنها الحضارة الإسلامية، وعلى سبيل المثال: الطيران، كان صاحب فكرته الأولى: العربي المسلم المشهور عبّاس بن فرناس، وقس على ذلك مخترعات أخرى.(5/312)
- الثاني : أنّ دول الغرب لم تنفرد بهذا التقدّم التقني، بل شاركها دول أخرى وثنية وإسلامية، وباتت تنافسها تنافساً محموماً، بل تفوقها في كثير من الأمور، ويمكننا الاستغناء بهذه الدول عن الغرب.
- الثالث: أننا لو استغنينا عن منتجات الغرب المادية - ونحن قادرون - فإنّ المتضرّر الوحيد هو الغرب نفسه إذ جلّ اقتصاده إنّما يقوم على تسويق هذه المنتجات، ونحن لو استخدمنا هذا السلاح - سلاح المقاطعة - لتمكنّا من تركيع الغرب المتغطرس لإرادتنا، وهزيمته بلا أسلحة ولا حروب مدمّرة.
* في العشر الأواخر من رمضان، وفي صلاة التهجّد، يقلّ المصلّين في المساجد، وتعلو أصوات الأئمّة في هدأة الليل وتتشابك! لذا أقترح على الجهات المعنيّة قصر صلاة التهجّد على الجوامع فقط دون سائر المساجد، وفي ذلك عدّة مصالح، فمنها:
- تكثير الجماعات في الجوامع بدلاً من تفرّقهم في جميع المساجد.
- التقليل من أصوات الأئمّة المنطلقة من مكبّرات الصوت، فبدلاً من انطلاقها من كل مسجد، يقتصر على الجوامع فقط.
- التخفيف على أئمّة المساجد، فبدلاً من قيام كلّ إمام وحده بصلاة التهجّد، مع ما في ذلك من المشقّة؛ يتعاون عدد من الأئمّة في مسجد واحد، مع ما في ذلك أيضاً من إزالة السآمة من الاستماع إلى صوت إمام واحد.
* الاقتصاد في الكهرباء في تلك الليالي الشريفة، فبدلاً من تشغيل طاقات جميع المساجد من المكيفات والإضاءة، يُقتصر على الجوامع فقط
============(5/313)
(5/314)
الموالون للأجنبي.. أنتم أشد رهبة عليهم..!
د. محمد بن سعود البشر 30/4/1426
07/06/2005
يواجه العالم الإسلامي اليوم موجات متتابعة من العصف الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يستهدف خلخلة البناء، وزلزلة المعتقد والتشكيك في الثوابت، بعضها سافر في المواجهة، والآخر مغلف بدعاوى ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب.
وليس هذا بغريب في تاريخنا الإسلامي، لكن ما يجعل هذه الموجات التغريبية أشد وطأة علينا اليوم هو قدرتها البارعة واستخدامها الذكي في توظيف نفر من بني جلدتنا ليكونوا أدوات للأجنبي، يبلّغون رسالته، ويستميتون في الدفاع عنها، ويقاتلون بكرة وعشياً لتحقيق غاياتها.
يُسخّرون أسماءهم، ويوظّفون منافذ التأثير عبر الصحافة والأثير للترويج لعقائد المستعمر وتسويق فكر المحتل.
في كل يوم لهم وسيلة.. وفي كل آنٍ لهم قضية.. من يتابع توقيت الزمان، ويحلل بعمق مضامين الرأي يجد أنهم يعملون -بجَلَد الفاسق- لتنفيذ إستراتيجيّة الاختراق من الداخل!!
هؤلاء الذين في قلوبهم مرض قويت شوكتهم بدعم المحتل، وكثر عددهم في مساحات كثيرة من عالمنا الإسلامي، وعلا صوتهم وصراخهم في المؤسسات الإعلاميّة التي تميّعت في الهُويّة، فلم تعد تفرّق -مع هؤلاء- بين حق وباطل، بل ربما شرعت لهم الأبواب على مصاريعها، لتوافق الهوى وتطابق التوجّه، حتى ولو كان ذلك على حساب ثوابت الدين والوطن!!
ولئن كانت مواجهة هؤلاء، وتعريتهم، وكشف زيغهم وأباطيلهم واجبة فيما مضى، فإنها اليوم آكد في الوجوب، ولم يعد لذي دين وعقل وعلم وغيرة أن ينتبذ مكاناً قصياً يرقب المشهد ولا يراغم في تغييره بقدر استطاعته.
والصدارة في المواجهة اليوم للنخب التي تحمل الهم، وتدرك حجم المسؤولية، وخطورة الموقف.
وإن من ضعف الإيمان أن تنفر من كل بلد إسلامي فرقة تلاحق نتاج المستغربين -أدوات المستعمر المحتل- تجمعه، وتحلله، وتربط أوله بآخره، ووسائله بمقاصده، ثم تعلنه، وتطلب مقاضاته ومحاكمته، أو -في أقل حالاته- الردّ عليه، وإعلام الملأ به؛ فهؤلاء لم يعد لهم رادع من دين، ولا حياء من مجتمع.. ولن يتوقف تهافت أطروحاتهم وأساليب ولائهم لثقافة الأجنبي إلا المخلصين من أبناء الأمة "لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله".
=============(5/315)
(5/316)
ما بعد الجماعات
د. محمد العبدة 18/4/1426
26/05/2005
مدخل:
ليس هذا المقال دعوة لإلغاء الجماعات الإسلامية الموجودة على الساحة اليوم، ولا لتجاوزها إنكاراً لجهودها، ولكن للمحافظة على مكتسباتها والتقدم بها نحو بنية تحقق المزيد من العمل والمزيد من الأمل، التقدم نحو مرحلة تستطيع هذه الجماعات أن تجترح الحلول للمشكلات القائمة، وأن تتجدد في الأهداف المرحلية ومعرفة الواقع (1).
القضية اليوم ليست قضية جماعات، وإنما قضية أمة لم يعد لها كلمة مسموعة، وليس لها ثقل سياسي تفرضه على الآخرين، ولا نتكلم هنا عن الغايات والنوايا(ونرجو أن تكون سليمة) ولكن نتكلم عن الوسائل والمراحل والنظر إلى المستجدات والتحديات، والتجديد في الفكر والهيكلية. إن وجود تجمعات وجمعيات داخل جسم الأمة الإسلامية ليس أمراً غريباً أومستحدثاً، بل قد يكون واجباً في بعض الظروف، وذلك عندما تحدث تحوّلات كبرى وتُقام دول وتسقط أخرى. وأصل وجود مثل هذه التجمعات شيء مطلوب داخل المجتمع، قال تعالى : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [آل عمران:104] وقال تعالى: ( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف:159] والتعاون على البر والتقوى مأمورٌ به شرعاً.
وتكون التجمعات أحياناً من الأمور الفطرية، فكما أن في الإنسان غريزة حفظ الذات، فكذلك عنده غريزة حب التجمع وحب الانتماء والشعور الجماعي في حدود الأسرة أو القبيلة أو الحزب ... الخ. ومن هنا جاء تأسيس الجمعيات والجماعات بعد سقوط الدولة العثمانية، وبعد تقسيم العالم العربي وفقدان المرجعية السياسية، ومحاولات التشويه والتغريب الذي تعرّض لها المسلمون عن طريق الاستشراق والتبشير والمدارس الأجنبية، فكان رد الفعل تأسيس الجماعات دفعاً لهذا البلاء النازل، وفوائد الجمعيات كثيرة جداً، خاصةً عندما يتسنى لها الثبات على مشروعها مدة طويلة مما لايفي به عمر الفرد. وقد وُجد في المجتمع الإسلامي زمن الدولة العباسية والدولة العثمانية تجمعات كانت تساعد المستضعفين في المدن، وكانوا يسمون في بغداد بـ(الفتوة) وفي دمشق بـ(الأحداث)، هذا عدا عن وجود التجمعات المهنية؛ إذ يكون لكل مهنة رئيس يشرف على أفرادها ويفض الخصومات فيما بينهم ويعلم المنتسبين الجدد. يقول ابن تيمية -رحمه الله- عن التجمعات وشرعيتها (فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يُقال له: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك، وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك، وإن كان أهل الحزب مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة أو نقصان فهم مؤمنون لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمّن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق أو الباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم )(2) .
واقع الجماعات والاخطاء التي وقعت فيها :
لاشك أن الجماعات- وخاصةً الكبرى منها المعروفة- قد أدت دوراً إيجابياً قلَّ أو كثر، وأوجدت مناخاً إسلامياً عامَّاً، وأوجدت -بفضل الله- أجيالاً من الشباب المسلم يتفهمون الإسلام، ويعملون من أجله، ويستعدون للتضحية في سبيله، هذا مما لا خلاف فيه، وليس حديثنا اليوم عن الإيجابيات فهي معروفة.
سارت هذه الجماعات في طرق ودروبٍ طويلة وشائكة، أصابت وأخطات، ونشأت من خلال الأحداث محاولات للمعالجة ولكنها كانت جزئية ومحدودة الأثر، كان لكل جماعة من هذه الجماعات منهجه ورؤيته للأحداث، وتظهر مدى اقترابه أو ابتعاده عن الثوابت والأصول، وكان لكل جماعة أهداف مرحلية قد تكون حققت بعضها وأخفقت في البعض الآخر، ولكن عندما انتهت هذه الأهداف وجدت نفسها أمام جدار مسدود، ومع الزمن أُصيبت بالجمود والتكلّس والتصلّب وخاصة في الهيكلية التي هي من معوّقات الانتقال إلى مرحلة أفضل وأقوى. لقد تغيّرت الظروف، وسقطت إمبراطوريات ودول، وجاءت ثورة المعلومات، وجاءت (العولمة) سيئة الذكر وكبرت التحديات، ولكن طرائق وأساليب الجماعات في التربية والإعداد والنظرة إلى الحاضر والمستقبل لم تتغير كثيراً.
هناك مبررات تستدعي هذا الانتقال والتحوّل، مبررات من داخل الجماعات، هناك أخطاء وأمراض مزمنة لا فكاك منها إلا بالانتقال إلى حال أخرى، ومن هذه الأخطاء:
1-الحزبية:(5/317)
إنني أعتقد أن طريقة تأسيس الجماعات والهيكلية التي بُنيت عليها (وكانت في زمن وظروف معينة)، هذه الطريقة تحمل في داخلها جراثيم الحزبية، سواء قلّت أو كثرت؛ لأن الجماعة عندما انفصلت عن جسم الأمة، ولم تحاول بعدئذٍ تجديد نفسها والارتباط بجمهور الأمة مرة ثانية، وإقامة المؤسسات الفكرية والعلمية لاستيعاب القدرات والأذكياء، فلابد أن ينشأ مرض الحزبية، وهو مرض عضال، أضر كثيراً بالجماعات الإسلامية وفرقها وأضعفها؛ لأن الفرد عندما يكون داخل مجموعة صغيرة، ويُقال له: منهجنا هو الأصوب، فسيكون إنساناً منغلقاً متعصباً لجماعته، لا يقبل بسهولة ما عند الآخرين، والطريقة الحزبية تكون دائماً لاهثة وراء كسب الناس، فإن لم ينصتوا إليها تقوقعت على نفسها واتهمت الآخرين. وفي الطريقة الحزبية يقفز أنصاف المتعلمين ليبعدوا المؤسسين الأوائل، ويتظاهرون بالحماس الزائد للوصول إلى المناصب، وقد يكون خارج هذه الحلقات الضيقة من هو أكثر تقًى وعلماً، ولكن لأنه لم يلتزم بالجماعة فلا يُستفاد منه، ويضغط المتعالمون الذين يظنون أن بانتسابهم إلى الجماعة وتغنيهم بشعاراتها وقراءة كتبها يرتفعون إلى درجة الفكر والمفكرين (ومن ملاحظات علوم الإدارة في الشركات التي فقدت المرونة أن الابتكارات تأتي غالباً من أشخاص لا يعملون في الشركة أو من أولئك الذين تعدّهم الشركة غير منضبطين بأنظمتها) (3).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليس لأحد أن يعلق الحمد والذم، والحب والبغض، بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان، والذي يبني محبته وبغضه ومعاداته ونصرته على الانتساب لأسماء معينة أو مذهب معين أو جماعة أو حرفة فهذا من أمور الجاهلية المفرقة بين الأمة)(4) .
2- القيادة:
ربما لا يشك أحد بأن هناك مشكلة في القيادة، وربما يتذكر الدعاة والقراء شعار مجلة الفتح لصاحبها محب الدين الخطيب رحمه الله (المسلمون إلى خير ولكن المشكلة في القيادة) فما جذور هذه المشكلة التي تظهر خاصةً عندما يذهب المؤسس الأول أو عندما يغيب عالم كبير؟. إن غياب الممارسة الحقيقية للشورى، وغياب الممارسة العملية للإدارة والقيادة من قبل الصف الثاني، وعدم التأسيس لهذا الجيل هو أحد هذه الأسباب، فالقيادة ليست موهبة فقط، بل يمكن أن تأتي بالتعليم والممارسة مع وجود العناصر الأخرى الضرورية. ومن الأسباب أن المجتمعات الإسلامية -وبسبب تخلفها الحضاري- لا تزال تحلم بالرجل الأوحد والبطل الملهم الذي تتركز كل الأمور بيده، ويُطلب منه أن يحل كل المشاكل، فمثل هذا الشخص ـ إن وجد ـ وأرضى غرور الناس، ولكنه لا يستطيع في الواقع أن يقوم بشيء كبير.
إن القيادة عندما تتحمل الأعباء الكثيرة، ولا يتهيأ لها العوامل المساعدة من الأفكاروالأشياء، فربما تسير مرحلة وفترة معينة يكون فيها نشاط، وفيها عمل وإنتاج، ولكنها ستتوقف بعدئذ ثم ينكفئ العاملون على أنفسهم، وتتحول الاهتمامات إلى شؤون أكاديمية بحتة.
والملاحظ أنه لا يوجد في البرامج التربوية شيء من المقارنة والنقد، ولا توجد هذه الصلة العميقة بين القيادة والأجيال الجديدة، ومن المؤسف أن تجري الأمور على الشكل التالي:
الذي يتقرب من المسؤول أو على الأقل يسكت، فهو المرضي عنه ويصعد إلى أعلى المسؤوليات، وأما الذي يناقش ويسأل فهو(مشاغب) غير منضبط، ولا يفهم السرية والعمل الحركي ويجب أن يُفصل!!
ومن التأملات العميقة في طبيعة الاجتماع الإنساني لمؤرخنا الكبير ابن خلدون، أن بعض الدول بعد أن يستقر بها الحال تبدأ بإبعاد من شاركوا وساهموا في التأسيس حتى لا يكون لهم منَّة ودالَّة على الدولة، وتأتي بأناس بعيدين لا حول لهم ولا طول، ينفذون ما تريده الدولة، وبعض الجماعات تفعل مثل هذا.
إن بعض القيادات لا يحبون الظهور العلني، ولكنهم يريدون التحكم في الدعوة من وراء ستار، فيضعون واجهة ضعيفة هي القيادة في الظاهر وأمام أعين الناس، وهكذا تفعل بعض الطغم العسكرية في البلاد المتخلفة.
وفي كثير من الأحيان كان المعيار في تفوق فلان ليكون قائداً وزعيماً (مدى الحياة) هو تفوقه في الخطابة، وعندما تكون الأمة في حالة تخلّف فإنها تسحرها الكلمة الخلابة والصوت العالي.
3-المنهج:
لم تستطع الجماعات الإسلامية تطوير مدرسة تربوية واعية بتحديات العصر ومشكلات الواقع، قادرة على إنزال (آيات الكتاب) على الواقع القائم، ولم تبلور مشروعاً نهضوياً متكاملاً، وما قامت به من دروس علمية وتربية خاصة لإيجاد الشباب الصالح، فهذا شيء لا ينكر بل يشكر، وهو عمل جيد، ولكنه لا يكفي لمشروع كبير، وبعض الجماعات التزمت بالعموميات في المنهج العلمي والعقدي حرصاً على تجميع أكبر عدد من الأنصار، سواء كانت أفكارهم صحيحة أم فيها انحراف عن المنهج القويم.(5/318)
وبسبب الاضطراب وعدم الوضوح في المنهج، دخل البعض في معارك سياسية قبل أوانها، وكانت نتائجها وخيمة، وكانت ردة الفعل إما الابتعاد كلياً عن الشؤون العامة أو الدخول بفكر وعقل ذرائعي ليس له حدود ولا ضوابط. ومازال العمل الإسلامي ومؤسساته يسيرون على نظرية (إذا صلح الفرد صلحت الأمة) وهي مقولة تُذكر وكأنها بديهية من البديهيات، وظاهرها صحيح ولكن فيها تبسيط لقضية كبيرة. وكانت نتيجة هذه النظرية أن وجد عدد غير قليل من الأفراد الصالحين، ولكن ليس لديهم فقه (بناء الأمم) فالبناء المرصوص ليس حجارة، وإنما هو حجارة مصقولة مشدودة بالإسمنت والحديد، وحسب قوانين هندسية تتعلق بعمق الأساس وسمك الجدار... وهناك عوائق ومؤثرات ثقافية واجتماعية تعيق الفرد إذا لم يوضع ضمن مشروع متكامل.
ومن الاضطراب في المنهج رفع الشعارات الكبيرة التي يصعب تحقيقها في الواقع وتحول الوسائل إلى غايات، فالجماعة بنظمها ومؤسساتها هي وسيلة للعطاء، وخميرة للنهوض، ولكن هذه النظم تحوّلت إلى غاية يجب الحفاظ عليها ولو بالانغلاق عن الأمة، وعدم الاستفادة مما عند الآخرين، فكل شيء يجب أن يقبل باسم (التنظيم) والمصلحة. مع أن حفظ الدين والعقيدة أهم من حفظ الجماعة وحفظ النفس والمال، والدليل قصة موسى عليه السلام حين قال لأخيه هارون: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ولما رجع موسى عليه السلام وجد قومه يعبدون العجل، فقال مخاطباً هارون عليه السلام: (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) [طه: 92-94].
قال الشيخ الطاهر بن عاشور: (هذا اجتهاد من هارون في سياسة الأمة؛ إذ تعارضت عنده مصلحتان: مصلحة حفظ العقيدة ومصلحة حفظ الجماعة من الهرج، وحفظ الأنفس والأموال فرجح الثانية، وكان اجتهاده مرجوحاً، لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة، لأن مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع.....) (5).
ومن الاضطراب في المنهج أو النقص فيه، ما يُلاحظ من معالجة أعراض المرض وعدم معالجة جذوره، فالوعظ والإرشاد يتجه دائماً إلى مشاكل سطحية تظهر في تصرفات أفراد المجتمع، ولكن لا يُنظر إلى الأسباب العميقة التي أوصلت المجتمع إلى هذه المشاكل أوهذا التفلت الأخلاقي.
بعض التجمعات الإسلامية الصغيرة تمثل حالة اغتراب وانسحاب من الواقع ربما لأن المجتمعات الإسلامية مصابة بحالة (الشح) العلمي أو الخيري.
4-التجدد:
من أخطر الأمور التي تواجه المجتمعات أو الجماعات أن يسيطر الجمود الذهني عليها؛ فلا تعود هذه الجماعات عندها القابلية للتجدد والتحسين، عندها تسيطر مقولات وقوالب لا تناسب الواقع، أوتسيطر عادات وتقاليد يصعب تركها. والنهوض الحضاري لا بد له من قدرة على تحقيق التوازن بين الثوابت والمتغيرات، وإلا فقدت الجماعة المرونة والحيوية. أعرف أناساً يردّدون كلام مؤسسي الدعوة أو بعض المفكرين الذين عاشوا قبل عقود من الزمن، وكأن كلامهم منزل، ويبدو من حال هذا الذي يردّد كلامهم أنه لم يقرأ شيئاً جديداً منذ عشرين سنة، ولم يطلع على فكرٍ أوعلم، ولم يوسّع من ثقافته أو يمارس عملية الانفصال والاتصال، الانفصال عن مفاهيم وأشكال وأطر وتنظيمات عفا عليها الزمن، واتصال بالثوابت والعلم والمستجدات وكيفية بناء الأمم. فهناك تحديات كبيرة لا ينفع معها اللجوء إلى النظم والهياكل التي لا تصلح للعمل من خلالها. وهذا لا يعني أنه لم يقع تجديد أبداً، بل كانت محاولات ولكنها جزئية، ولم تستطع التجدد المتكامل، ولذلك نرى ونسمع بين كل فترةٍ وأخرى انسحاب مفكر أو مثقف من الجماعة الفلانية لأن طبيعة تكوينها ونظمها لا تساعد في ـ الغالب ـ على استيعاب أهل الفكر والعلم، ولا تساعد على تهيئة كل الأجواء المناسبة لأداء دورهم، وهكذا تخسر الجماعات صفوة المجتمع. ومن العجيب أن بعض هذه الجماعات تستمر في التعيّش على سمعة هؤلاء المفكرين أو العلماء، وفي الوقت نفسه تحذر أعضاءها من أفكارهم وقراءة كتبهم!
ربما كان استمرار بعض هذه الجماعات يعود إلى أنها تسير بالدفعة الأولى، فعندما يكون المؤسس قوياً ومخلصاً يعطي العمل دفعة قوية، ولكنها مع الأيام تضعف وتهرم بسبب عدم التجدد.
إن تطلعات المسلمين وحركة التاريخ لا تنتظر أمثال هؤلاء (المحنطين) الذين يعيشون على أمجاد فتراتٍ معينة من الزمن الماضي.
5-عندما تكون النتائج ضعيفة(5/319)
رغم الجهود الكبيرة التي بُذلت وتُبذل خلال عقود من الزمن، فلا بد أن في الأمر شيئاً، لابد من وجود خلل ما في الوسائل أو المراحل، وأما مقولة نحن عملنا وليس من الضروري أن تقع النتائج، فهذه حيلةٌ نفسية لإرضاء الذات، لأن الله سبحانه وتعالى وعد بالنصر والتمكين للذين ينصرونه، وربما يؤجل هذا النصر لأسباب، وربما تكون هزائم وانتصارات، أما ألاّ يكون هناك انتصارات، فهذا يحتاج إلى مراجعة شاملة وصريحة، للمنهج وطرق التربية، ومراجعة شاملة لصدق النوايا وأعمال القلوب والأخلاق المطلوبة.
ماذا نريد؟!
بعد هذا الجمود أو الفتور الذي نلحظه، وشعور الجميع بأنه لا أحد يستطيع وحده أن يقوم بالمهمة الكبرى، ألا يجب أن ننتقل إلى مرحلة أقوى وأكبر؟ مرحلة تُزال فيها هذه السدود التي صُنعت، وهذه الجدران العالية التي بُنيت، ويتحول العمل الإسلامي إلى تيار يعتمد على مؤسسات ذات خبرة فقهية وثقافية وسياسية واقتصادية. يشارك هذا التيار في صنع الأحداث، حتى لا يُنظر إلى المسلمين على أنهم من المستضعفين الذين تفكر كل جهة حاقدة في تحجيمهم وضربهم.
لماذا لا يتحول العمل الإسلامي إلى تيارشعبي، الكل يحمل هم الإسلام، حتى لا تبقى الدولة جسماً منفصلاً عن الأمة، جسماً يشعر الفرد ازاءها وكأنه ذرة رمل تطحنها آلة جبارة؟!
إن العلاقة بين الجماعة والأمة هي كالعلاقة بين الشجرة والتربة، وانقطاع الصلة بينهما سيكون من بعده اليبوسة، قلت لأحد الأخوة وكان يكلمني عن ضعف الموارد المالية عند الجماعات، قلت له: عندنا ثروة بشرية. لماذا لا نسخرها في سبيل الأهداف السامية التي نحملها؟ عندنا شباب ذكي متعلم، أينما توجهه يأت بخير. لماذا لا ندفع هؤلاء الشباب لخوض معركة الحياة ؟ معركة الحق والباطل، ففي هذا العصر الذي تطرح فيه مسالة (العولمة)، لا بد أن تكون المبادرات كبيرة وغير مبعثرة. يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: "إن رجل الشعب يمارس الأفكار بقلبه وعقله معاً، بينما لا يقرأ (المثقف) عندنا إلا بعقله، فرجل الشعب يتمتع بالبداهة الصادقة" (6). ويلاحظ أحد المفكرين أن "الجماعات عاملت المجتمع الإسلامي على أنه متلقٍ للخطاب النهضوي، ولم يُعامل على أنه يمكن أن يكون فاعلاً في التعبئة لذلك الخطاب.."(7). ويرى الشيخ طاهر الجزائري "أنه لا بد من تثقيف (العامة)؛ لأنهم برأيه أطوع للحق من كثير من المنتفعين بالدين، خاصةً إذا تتبع المصلح الحكمة في دعوتهم وأعطاهم من العلم ما تطيقه عقولهم.
عندما يعطي تصرف الجماعة انطباعاً بأنها هي المسؤولة عن الإسلام، فهذا يجعل بقية المسلمين يركنون إلى شيءٍ من الراحة والكسل وعدم تحمل المسؤولية، ومن الأمور التي تساعد على تشكيل هذا التيار العريض:
1- الاهتمام بالجمعيات والمؤسسات المدنية بشتى أنواعها سواء أكانت خيرية أو علمية أو اجتماعية أو اقتصادية، فهذه كلها قوى للوطن وللأمة ومنابع حياة لها.
2- الاستفادة من الكيان القبلي كمؤسسة اجتماعية فطرية: والإسلام كما هو معلوم، لم يحطّم التنظيم القبلي، بل رشَّده ودمجه في نطاق الأمة، وطهّره من المفاهيم الجاهلية. (والجماعات الإسلامية لم تستفد من هذا الكيان، ربما للشعارات الكبيرة التي رفعتها (الوحدة الإسلامية..) أو كرد فعل على الدعوات القومية) (8).
3- جمعيات العلماء:
وهم أهل العلم والخبرة الذين ينظرون في مصالح المسلمين ويصدرون عن تشاور، وهم يجتهدون في النوازل المعاصرة، حتى لا تتحول الاجتهادات الفردية إلى فوضى علمية، فالخلافات بين أولي الألباب مهما اشتدت تظل محكومة بأخلاق أهل العلم وتسامحهم بينما نجد في العقلية الحزبية إذا ما حصل خلاف فإن الكبار يوجهون الصغار لممارسة أبشع ألوان الأذى والضرر للخصوم، مع تتبع العورات، وتفجر المؤامرات داخل الجماعة الواحدة. لا بد للمسلمين من هيئة تنظر في أمورهم، مع علمنا أنه ليس أحدٌ بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يدّعي له العصمة، ولكن في عمل المؤسسة يحصل النقاش وتبادل الآراء، وفي النظام الحزبي لا أحد يناقش أفكار الزعيم، والقرآن الكريم يوجه لهذه المكانة لهؤلاء: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ((122) . والأمة إذا فقدت قيادتها الربانية فإنها تتعرض لشياطين الإنس ليجتالوها عن عقيدتها وهويتها، وإذا كان لا بد من تكامل بين أهل العلم وأهل الثروة، فالقيادة يجب أن تكون لأهل العلم.(5/320)
4- الاهتمام بالثروة البشرية: وخاصة (أولي الألباب) والاذكياء من الشباب الذين يطورون النظريات التربوية، ويقودون المؤسسات، وهكذا كان جيل الصحابة، الذين أكرم الله بهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا أذكياء نابهين عقلاء، فلما جاء الاسلام كانوا كما قال تعالى: (نورٌ على نور) .1- حدثني أحد الأخوة الثقات أن أحد شيوخ هذه الجماعات طلب من القيادة اجتماعاً لبحث مشكلة كانت قد انتهت وانتهى أصحابها، فقال له شاب : يا شيخ كأنك لم تقرأ في القرآن قصة سيدنا سليمان عليه السلام مع الجن ؟
2 - الرسائل والمسائل 1/161
3 - بشير شكيب الجابري : القيادة والتغيير /53
4 - الفتاوى، مجمل اعتقاد السلف 3/342.
5 -انظر: أحمد الريسوني (نظرية التقريب والتغليب) /381 .
6 - في مهب المعركة /187 .
7 - عبد المجيد النجار: عوامل الشهود الحضاري 2/287 .
8 - المصدر السابق 2/287.
==============(5/321)
(5/322)
أفلام الكارتون .. نظرة فاحصة (1)
د. خالد بن سعود الحليبي 9/3/1426
18/04/2005
وُجّهت ضربات عديدة إلى مقاتل المجتمع المسلم بقصد تغريبه عن دينه، وتجهيله بحقيقته، ومسخه إلى مجتمع مفتوح على كل الثقافات دون احتفاظ بشخصيته المتميزة، بحيث يكون بدون هُوِيّة يعتنقها، أو يدافع عنها، ولم تكن كل تلك الضربات عسكرية، بل إن بعضها نوع غريب وخبيث، بطيء التغيير، ولكنه يصل إلى العظم، استهدف به أعداؤنا فئات عدة من مجتمعات المسلمين، مثل الشباب والنساء،ولكنهم لم يتركوا ـ أيضا ـ فئة عزيزة على نفوسنا جميعاً، تمثل مستقبلنا الواعد، وأمانينا الجميلة، فئة هي أكثر استعداداً لقبول كل جديد، والتغير السريع، إنها فئة (الأطفال)، تلك الفئة العمرية التي تتعامل مع ما حولها ببراءة، مقتصرة على التلقي واكتناز المعلومات، لتحويلها إلى سلوك عملي، يحدّد كثيراً من منحنيات حياتهم بعد البلوغ.
إننا إذا كنا نظن أن الخطر الغربي عسكري محض، فذلك خطأ تاريخي جسيم، وغفلة حضارية خطيرة، فإن التأثير على القيم، وتغيير الشعوب من الداخل أكثر خطورة من التغيير بالتهديد العسكري؛ لأن التهديد العسكري سرعان ما ينهار، وتنتفض عليه الشعوب الحرة، ولكن الخطورة في التأثير الذي يبرز في أثواب التسلية والترفيه، حيث يسري السمّ مع العسل، يقول الفيلسوف الوجودي (البيركامي): (على اتساع خمس قارات خلال السنوات المقبلة سوف ينشب صراع لا نهاية له بين العنف وبين الإقناع الودي ... ومن هنا سيكون السبيل المشرف الوحيد هو رهن كل شيء في مغامرة حاسمة مؤداها أن الكلمات أقوى من الطلقات).
لقد علم أعداؤنا أن غالب الأطفال في عالمنا اليوم يتلقون ثقافتهم ـ وبخاصة قبل المدرسة ـ من التلفاز، بحيث تشكل تلك الثقافة الخارجية 96% من مؤثرات الثقافة في حياتهم، وغالبها من أفلام الرسوم المتحركة،أو ما يُسمّى أفلام الكارتون، يليها برامج الأطفال الأخرى، والمسلسلات والأفلام وأمثالها. حتى أصبح لتلك الأفلام الكارتونية قنوات خاصة تبث طوال اليوم، في قالب فني جذاب متطور، وأنطقوها بلغتنا، فالتصق بها أطفال المسلمين التصاقاً مخيفاً، أثّر على تشكيل عقيدتهم وعقولهم وبناء شخصياتهم، إلى جانب التأثير السلبي على صحتهم العضوية والنفسية.
الرسوم المتحركة خطر غير مدرك.
إن أفلام الكارتون قنابل تتفجر كل يوم في شاشاتنا الصغيرة دون وعي منا أو متابعة ، فهي لا تزال بريئة في أعيننا، مجرد تسلية، وأشد الأمراض فتكاً ما يغفل عنه صاحبه، وأشد الأعداء توغّلاً وإضراراً، ذاك الذي يبدو لك بعيني صديق حبيب، وهو يحفر الخندق، ويطعن الظهر. ومن عادتنا ألا نتنبه لأمر حتى يبلغ ذروته، بل بلغت الغفلة بإحدى الأمهات حين سُئلت عن علاقة أولادها بأفلام الكارتون أن تصرح بأنها لا تعلم عن أولادها شيئاً(1)، وأخرى تتمنى أن ترتاح من أولادها وضجيجهم، ولو أن تلقيهم في الشارع!! فأينها من قول الرسول صلى الله عليه وسلم "وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا" رواه البخاري.
لقد أشغلت هذه الرسوم المتحركة أطفال المسلمين أيما إشغال .. فما عادوا يطيقون أن يستغنوا عنها، ولو يوماً واحداً دون أن يشاهدوها، بل فضلوها حتى على مرافقة الآباء والأمهات في النزهات والحفلات، حتى أكلت أوقاتهم، وبدّدت طاقاتهم، وشلّت تفكيرهم، وزاحمت أوقاتهم في مراجعة الدروس، وحفظ كتاب الله، فضلاً عن أن يجلسوا مع أهليهم جلسة صافية، ليتلقوا منهم الأدب والدين والخلق، وقد اشتكت من ذلك عدد من الأمهات الواعيات حتى قالت إحداهن: "إن جهاز التلفاز يرتفع صوته بشكل غير مقبول أثناء عرض مسلسل أبطال الديجتال، ويمتنع أبنائي ( 6 - 9) سنوات أثناء مشاهدته عن الأكل أو مجرد الرد ّعلى أي سؤال، أنا مستاءة جداً ولا حول لي ولا قوة، وأرجو أن أجد الحل للتخلص منه"، وتقول أم أخرى: "إن أبنائي يتابعون المسلسل أكثر من مرة في اليوم، وبمجرد انتهائه يبدأ الشجار والعنف بينهم تقليداً لحركات أبطال الديجتال" (2).
ويؤكد أحد الباحثين أن الأطفال يشاهدون تلك الأفلام "لمدة قد تصل إلى عشرة آلاف ساعة بنهاية المرحلة الدراسية (المتوسطة) فقط .. وهذا ما أثبتته البحوث والدراسات من خلال الواقع المعيش".
أخي المسلم .. يكفي أن تعلم أن الرسوم المتحركة ما هي إلا حكاية عن واقع رسمها من عقائد وأخلاق يعترف بها، ويتعامل بها؛ كما يثبته علماء الاجتماع، فإذا علمت بأن70% من هذه الأفلام تنتج في الولايات المتحدة الأمريكية ، علمت مدى خطورة نقل خزايا المجتمعات الغربية وعريها وسقوطها الأخلاقي والديني إلى أذهان أطفالنا؛ مما يدخلهم في دوامة الصراع بين ما يرون وما يعيشون من مُثُل وقيم، وأفكار وحضارات؛ مما يجعلهم في حيرة وتذبذب، كل ذلك ونحن نظن أنهم يستمتعون بما يشاهدون وحسب.(5/323)
إن هذه الرسوم ـ كما يقول المختصون ـ تشغل قلوب فلذات أكبادنا، وتصوغ خيالهم وعقولهم وتفكيرهم، وتشوّه عقائدهم وثقافاتهم بعيداً عن تقييمنا الدقيق، بل ربما يكون إدمانهم على مشاهدتها تحت رعاية منا، ومشاركة في معظم الأحيان. وننسى أنها من أبرز العوامل التي تؤدي إلى انحراف الطفل، وتبلّد ذكائه، وتمييع خلقه؛فأفلام الكارتون سريعة التأثير؛ لما لها من متعة ولذة. والطفل سريع التأثر؛ لأنه يعيش مرحلة التشكل واكتساب المعرفة مما حوله، وما تعرضه الفضائيات منها لا يعتمد على حقائق ثابتة، وإنما على خرافات وأساطير ومشاهد غرائزية، وتشكيك في المعتقدات لا يجوز الاعتماد عليها ـ بحال من الأحوال ـ في تنشئة أطفالنا، وتربيتهم.والعجيب أن يتغافل الآباء والأمهات عن هذه الحقيقة، ويديرون لها ظهورهم كأنهم لا يعلمون ذلك كله؛ بحجّة تحقيق الهدوء في المنزل، بتخدير الطفل أمام الشاشة، حتى قال أحدهم: "فور صدور أية حركة تنبئ عن استمرار طفلي في اللعب والصراخ، أدير التلفاز على إحدى القنوات، لا إرادياً أجد طفلي ممدداً على الأرض وبصره إلى التلفاز، في حالة أشبه ما تكون بالتنويم المغناطيسي".
ربما كان هناك من سيقول لمن يدق أجراس الحذر من هذه الأفلام: تلك مبالغات منفوخة، وخوف متوتر لا داعي لهما؛ فالمسألة مسألة تسلية وحسب، ولكنها الحقيقة التي نضعها بين أيديكم لعدد من المختصين الذين أبدوا رأيهم بحياد شديد وموضوعية، وعدد من الآباء والكتاب الذين رأوا بأعينهم، وقالوا بألسنتهم.
إنني اليوم أبلغ ما رأيت وجوب تبليغه، وأبرئ ذمتي بأن أشارك في كشف الآثار الصارخة، التي يمكن رصدها بكل سهولة في أي مسلسلات كارتونية غير موجهة تربوياً ولا شرعياً.
وفي الحلقة القادمة -بإذن الله- سأتابع الآثار السلبية على أطفالنا من جراء تعلّقهم بأفلام الرسوم المتحركة غير الموجهة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1) كيف غزا أبطال الديجتال عقول أبنائنا ؟ ولدي ، العدد 45 ، أغسطس 2002م ، ص : 23 .
(2) المصدر السابق .
=============(5/324)
(5/325)
أفلام الكارتون .. نظرة فاحصة ( 2 )
الآثار السلبيّة للرسوم المتحركة على أطفالنا
د. خالد بن سعود الحليبي 23/3/1426
02/05/2005
تعالوا أيها الآباء ويا أيتها الأمهات نتعرف على بعض الآثار السلبية للرسوم المتحركة على أطفالنا:
وأولها: زعزعة عقيدة الطفل في الله:وإليك هذا المشهد الذي بثته قناة فضائية واسعة الانتشار، وهو مشهد (( يوجه الأطفال توجيهاً معاكساً في أساس من أسس ديننا وحياتنا؛ فعدم نزول المطر، والجدب والقحط، قضية تربط المسلم بالخالق، والسنة النبوية المطهرة، تبني في كيان الطفل المسلم من خلال صلاة الاستسقاء التوجه إلى الله تعالى. وفي هذا المسلسل تظهر الشخصيات الكارتونية وهي تقف في الغابة تنتظر سقوط المطر، فيتقدم كبيرهم قائلاً: لا ينزل المطر إلا بالغناء، فهيّا نغني، وتبدأ شخصيات المسلسل تغني أغنية سقوط المطر، يصاحبها الرقص والأدوات الموسيقيّة:
هيا اضربي يا عاصفة كي يسقط المطر هيا اضربي لتغمري الجميع بالمطر مطر مطر مطر يا منزل المطر مطر مطر مطر نريد شيئاً واحداً مطر مطر مطر
وعندما لم ينزل المطر يتساءل أحدهم: لماذا لم تمطر السماء؟ فيجيب آخر: لعلها مشغولة بالبحث عن أمنا الطبيعة.
نعوذ بالله من هذا الشرك الذي يُلقّن لأبنائنا ونحن غافلون عنهم، فرحون بأنهم هدؤوا بين يدي التلفاز؛ لنفرغ نحن عنهم لأمور لن تكون أهم من سلامة أولادنا من الانحراف في عقائدهم وأخلاقهم.
وكذلك ما يحصل في برنامج (ميكي ماوس) هذا الفأر الأمريكي الذي يوهم أطفالنا ـ في بعض حلقاته ـ بأنه يعيش في الفضاء .. ويكون له تأثير واضح على البراكين والأمطار فيستطيع أن يوقف البركان!! وينزل المطر ويوقف الرياح!! ويساعد الآخرين، والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: لماذا يجعل هذا الفأر في السماء؟!! ولماذا يُصوّر على أن له قوة في أن يتحكم بالظواهر الأرضية؟!
وتشير باحثة إلى أن هذا البرنامج يحمل ظاهره مغالطة علمية وواقعية واضحة، وهو وجود فأر يطير وخلاصة هذا المسلسل عبارة عن تأكيد للقوى الخيالية الخارقة الجبارة (الخرافية) التي تقف مع المضطر وتنقذه في أحلك الظروف وأشدّها حرجاً، فهذه القوة الخرافية هي الرجاء والأمل في الخلاص، ومثل هذه الأفكار من شأنها أن تهزّ عقيدة الطفل هزاً عنيفاً فتنحي عن ذهنه الصغير قرب الله من عبده، وإجابته له حين يدعو، وعون الله عز وجل له (1).
وأما مسلسل السندباد وهو عربي المضمون والشخصيات، ولكنه مليء بالعقائد الفاسدة والخرافات، فمرة نرى السندباد يخر ساجداً أمام والي بغداد والسجود لغير الله لا يجوز في ديننا الإسلامي، ومرة يستعين بصاحب المصباح وهو الجني الأزرق لكي يحقق له مطالبه، فأين التوكل على الله والاستعانة به، ومرة يسجد تحت قدمي الجنيّ الكبير الذي يخرج من الماء والصحراء ويتوسل إليه ألاّ يقتله، أين الاستعانة بالله وطلب العون منه، وانظر إلى الجواري والفتيات وهن يتراقصن في القصور وسندباد ورفاقه يأكلون ويغنون، فماذا يتعلم الأطفال من هذا العرض؟ ليس إلا الفحش وسوء الأدب والاستعانة بالشعوذة والكهنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى: مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم )) رواه الإمام أحمد رحمه الله.
ونرى في فلم آخر رجلاً ضخماً فوق السحاب يمتلك دجاجة تبيض ذهباً، ورجلاً ضخماً آخر في فيلم آخر يصب الماء على السحاب فينزل المطر.
والله إنها لتلميحات خبيثة.. أهدافها واضحة للجميع.. لا تتطلب إجهاداً ذهنياً لمعرفتها.
وهذا كثير جداً في تلك الرسوم..ومن الأخطاء العقدية المنتشرة في تلك البرامج: الانحناء للغير .. حتى تكون الهيئة أقرب ما تكون للسجود والركوع، والانحناء في الشرع محرم كما نص على ذلك حديث أَنَس بْن مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدُنَا يَلْقَى صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا )) الحديث رواه الإمام أحمد. وهذا نجده كثيراً جداً في هذه الأفلام، ومنه ما يكون في البرنامج الشهير (الكابتن ماجد) فعند نهاية المباراة يقوم أعضاء الفريقين بالانحناء لبعض بشكل أشبه ما يكون بالركوع للصلاة.. كتعبير للمحبة والصفاء.. وهو ما يحصل ـ على سبيل المثال في برنامج (النمر المقنع) من وضع مماثل للسجود. ومثل هذا المنظر قد يقوم الطفل بتقليده دون وعي بعد نهاية مباراة يلعبها مع أصدقائه.(5/326)
وفي مسلسل (كاسبر) الكارتوني الشهير الذي أذكره جيداً في طفولتي، لاحظت الأستاذة مها النويصر مجموعة من المخالفات العقدية، وهي تراقب أولادها وهم يشاهدونه ويتعلقون به، مثل: الاعتقاد بوجود أشباح الموتى بيننا تأكل وتشرب وتتعامل مع الأحياء في تمثيل سيئ لعالم البرزخ، وأنهم في مرح ولعب دون جزاء ولا حساب. وأن الإنسان قادر على الإحياء والإماتة، وأن روح الإنسان الطيب تصبح ملكاً. نجد ذلك في مشهد فتاة ورثت قصراً عن أبيها مليئاً بالأشباح فتحضر المختصين لطردهم، وكان مع أحدهم ابنته الصغيرة التي يظهر لها الشبح الصغير المحبوب (كاسبر)، ويصبح صديقها، ثم يريها آلة صنعها صاحب القصر تعيد الروح للشبح فيعود للحياة، ويموت والد الطفلة خلال بحثه، فيعطيها كاسبر سائل الحياة فيعود حياً، وفي حفلة تقيمها الطفلة تأتي أمها من عالم الأرواح لتقدم نفخة من روحها ليكون (كاسبر) حبيباً جميلاً لمدة ساعات؛ لأنه ساعد الطفلة، ثم يتراقصان على أنغام الموسيقى، ثم يعود شبحا (2).
كل ذلك وأطفالنا ساهمون في قبضة هؤلاء الأشباح.
ومنه أيضا ما تتبادله الشخصيات الكارتونية من عبارات مخلة بالعقيدة، مثل: (أعتمد عليك)، و(هذا بفضلك يا صديقي العزيز)، أو حتى أحياناً حين ينزل المطر: (ألم تجد وقتاً أفضل من هذا لتنزل فيه؟) وفي برنامج صفر صفر واحد يقول أبطال الفيلم: إن نظامهم يسيطر على كل المجرات في الكون ما خلا المجموعة الشمسية.
وقد يُشار إلى بعض تعاليم الديانات الأخرى:فتجد فتاة تطلب الانضمام للكنيسة، كما تجد مشاهد لتعلم العادات الدينية النصرانية، أو إظهار الراهب ومعه الصليب وإلباس المنضم ذلك الصليب، أو حتى إظهار الصليب في غير تلك المواطن كأن يظهر رجل قوي وشجاع ، ثم يخرج من داخل ثيابه الصليب ويقبله، ويبدأ المعركة.
وانظر إلى لينا وهي تصلي في حال الشدة وصلاتها عبارة عن أن تضم يديها إلى بعضهما ثم تغمض عينيها وتنظر إلى أعلى، وهي صلاة النصارى فتتعلم المسلمة الصغيرة هذا في حين أنها تجهل صلاتها.
وظهور شجرة أعياد الميلاد المسيحية(الكريسماس)، والاحتفال بأعيادهم، وكذلك الدعاء قبل الأكل بضم اليدين وأصوات أجراس الكنيسة.
واشتمالها على السحر :وهذا كثير جداً ..فهم يصورون السحر على أن حكمه يختلف حسب المقصد من استعماله.. كيف ذلك؟فمرة يصورون الساحر أو الساحرة رجلاً كان أم امرأة قد ملأهما الشر والبغضاء والحسد، يحققون بالسحر ما يصبون إليه من طموحات شخصية على حساب الآخرين..كما في برنامج (السنافر)، الذي يتمثل في الرجل الشرير شرشبيل. وأحياناً يصورون الساحر بأنه رجل طيب محبّ للخير لجميع الناس، يساعد المظلومين كما في السنافر أيضاً، ويمثل بزعيم القرية أو كما في برنامج (سندريلا) والتي تصور فيها امرأة ساحرة طيبة، تساعد سندريلا على حضور حفلة الملك و الاستمتاع بالرقص!! وغير ذلك ..
وبلغ تأثير مثل هذه المشاهد أن الأطفال يردّدون كثيراً من عباراتهم، بشكل نخاف فيه أن يطلب أبناؤنا تعلم السحر، أو على الأقل أن يحبّوا الساحر الذي بالغوا في تصوير طيبته لهم. حتى سألت طفلة أمها: "هل الساحرات طيبات؟" فتساءلت الأم: ما سر هذا السؤال؟ وكيف تكون الساحرة طيبة؟ أجابت الطفلة: "لأنها أحضرت الحذاء لسندريلا" ولا نقول إلا اللهم سلم، اللهم سلم ..
ويضاف إلى ذلك الاستهانة بالمحرّمات ، وخلطها بالمباحات،ففي حلقة واحدة من حلقات (سنان) وهي (33)، رصدت الباحثة طيبة اليحيى سبعاً وثلاثين مخالفة شرعية، وفي حلقة واحدة من مسلسلة (السنافر) وهي الحلقة التاسعة، رصدت أكثر من أربعين مخالفة شرعية (3).
وفي حلقة جديدة أتابع معكم أيها الغيورون هذه المصائب المطلية بالترفيه، المنصب كالرصاص المذاب على رؤوس وعواطف وعقائد أولادنا حماهم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
=============(5/327)
(5/328)
مذاهب الناس في الانتخابات
د. إبراهيم الناصر 10/2/1426
20/03/2005
من المُتّفق عليه أن هناك قواسم مشتركة بين البشر تجعلهم يتوافقون على كثير من مُخرجات العقول، هذه المُخرجات عبارة عن قيم مدنيّة معروفة في كل الأمم والمِلل وهي جزء من المشترك الإنساني.
والتجارب البشرية حال نضوجها هي مصدر مهم لتطوير حياة الإنسان، خاصة إذا كانت فيما تركه الدين للعقل البشري المتجرّد، وهو العفو حسب مصطلح الشّرع، وإنما جاءت الشرائع بضبطها وتهذيبها من الانحراف.
والاستفتاءات (الانتخابات) في أصلها دون ما طرأ عليها أو علق بها من ثقافات الممارسين؛ لتقرير ما يُجمع عليه الناس أو أغلبهم هي من هذا النوع، وفي حياة العرب القديمة نماذج لهذا الأصل وفي سيرة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وخلفائه الراشدين كذلك، ففي بيعة العقبة الثانية طلب عليه الصلاة والسلام من الأنصار ترشيح نقيب لكل عشيرة، وبعد مقتل الفاروق -رضي الله عنه- أجرى عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- استفتاء كان نتيجته تولي عثمان بن عفان خلافة المسلمين، وعندما يتعذر الإجماع في تقرير الحكم الشرعي الفقهي العام يكون الاعتبار لاجتهاد الأغلبية؛ ففي المجامع الفقهيّة اليوم والهيئات العلمية الشرعيّة يصدر الموقف الشرعي أو الفتوى العامة برأي الأغلبيّة، حتى تقرير المذهب في المدارس الفقهيّة المشهورة يتم في كثير من الأحيان بالرأي الغالب أي برأي الأغلبية، فمثلا المذهب لدى الحنابلة المتوسطين( المرحلة الوسيطة للمذهب) هو ما اتفق عليه الشيخان أبو البركات المجد بن تيمية صاحب المحرّر، وأبو محمد ابن قدامة صاحب المغني، فإن اختلفا فالمذهب من يوافقه القاضي أبو يعلى الحنبلي، والمتأخرون منهم يقرّرون المذهب فيما اتفق عليه المرداوي في التنقيح، والفتوحي في المنتهى، والحجاوي في الإقناع فإن اختلفوا، فما اتفق عليه اثنان منهم، وقول الجمهور في كتب الخلاف العالي الذي يترجح على غيره في الغالب عند أهل العلم هو رأي ثلاثة من الأئمة الأربعة للمذاهب الفقهية السائدة، وفي جميع هذه الأمثلة نلحظ أن هناك تقارباً بين المستفتَين (بفتح التاء) من حيث العدالة والعلم، أي الصفات المعتبرة لتحقيق مقصد الاستفتاء، وهو أشبه ما يكون بضابط المشروعيّة للاستفتاء.
وفي عالمنا المعاصر برزت الانتخابات كعنوان على الديمقراطية الغربيّة، ورمز لآلية تحقيقها، والديمقراطية الغربية هي أحدث ما توصّلت إليه مسيرة الحداثة الغربية بعد صراعات وحروب وثورات أنهت عصور الاستبداد وحكومات الإقطاع، وكان مما دعم الاستبداد في تاريخ أوروبا الكنائس النصرانية التي كان عليها قساوسة يدينون بالنصرانية المحرّفة؛ إذ دعموا الظلم والاستبداد، ووقفوا في وجه العلم والتطور حتى انتهت المعركة بهزيمة الاستبداد، ومن يقف معه وهي الكنيسة الممثلة للدين المحرّف؛ فقامت الحداثة الغربيّة المعاصرة على أساس استبعاد الدين وقيمه وثوابته من الحياة، وهذا موقف أصلي غير قابل للإصلاح تشكّل موقف هذه الحضارة على أساسه، فصارت حضارة علمانية تستبعد الدين - أي دين - في أصل تكوينها وتستبعده من كل فعالياتها، أو على الأقل لا تأبه به، ومبدأ آخر قامت على أساسه هذه الحداثة الغربية كرد فعل للاستبداد هو الحرية، وانبثق من هذا المبدأ قضية الحقوق (حقوق الإنسان)، وقضية المساواة، وعدم التمييز الذي يتعارض في كثير من الأحيان مع مبدأ العدل الذي قامت عليه الأديان السماوية، وكذلك قضية الديمقراطية وآلياتها، كل ذلك في ظل فكرة العلمانية المستبعدة لاعتبار قيم الدين في كل هذه المبادئ والقضايا.
ولذا فإن الأسس الفكرية التي قامت عليها هذه الحضارة، وما انبثق عن هذه الأسس من قيم شكّلت مذهباً وشريعةً (إيديولوجية) مخالفة لشريعة الإسلام ومذهبه، وإقامة الدين وتحقيق التوحيد هو في مباينة هذه الحضارة فيما هو من مكوّنات وقيم هذه الإيديولوجية، والديمقراطية هي إحدى منجزات هذه الحضارة المادّية اللادينيّة، وهي عبارة عن فلسفة وآليات وممارسات، فلسفتها تقوم على أساس حرية الناس في اختيار النظام العام الذي يحكمهم، والدستور الذي ينظمهم والقانون الذي يقضي بينهم، وهو ما يُسمّى دستورياً بسيادة الشعب، الذي هو الثابت، وما عداه متغير مناقضاً بذلك مبدأ سيادة الشريعة في الإسلام، أمّا آليّة الديمقراطيّة فهي الانتخابات بصيغتها الغربية التي لا تميز بين بَرّ وفاجر، ولا بين عدل وفاسق ترشُّحاً وترشيحاً، مخالفة طريقة الإسلام في اشتراط العدالة والكفاية في العمال والولاة، وأما الممارسة فهي قائمة على مبدأ حرية المرشَّح، والمترشِّح في ركوب وسائل عديدة ولو كانت مخالفة لتحقيق الفوز، هذه الديمقراطية بمكوناتها الثلاثة عُولمت إلى معظم بلدان العالم بسبب هيمنة الحضارة المنتجة لها، وبسبب أن البديل في الواقع لها هو الاستبداد الظالم والإقطاعية السياسية، فهي أخفّ الضررين عند كثير من أبناء الشعوب المحكومة بأنظمة استبدادية.
والناس في الموقف من الديمقراطية على مذاهب أربعة:(5/329)
الأول:القبول المطلق لها؛ فلسفةً وآلياتٍ وممارسةً وهو موقف تيارات الإصلاح التغريبية في عالمنا الإسلامي وجميع الأحزاب والتيارات العلمانية.
الثاني:رفض الديمقراطية فلسفةً وقبولها آليةً وممارسةً، وعلى هذا الموقف معظم التيارات الإسلامية السياسية، ومنها بعض المدارس المنتمية لمدرسة الإخوان المسلمين والمتأثرة بها وبعض التيارات السلفيّة.
الثالث : رفض الديمقراطية فلسفةً وآليةً وقبولها ممارسةً - بضوابط - باعتبار أنها حاجة عامة تنزل منزلة الضرورة حسب القاعدة الفقهيّة المشهورة، أي أن أصحاب هذا الموقف يمارسون هذه الآليّة لا باعتبار جوازها، وإنما باعتبار الضرر الذي يحصل بالإعراض عنها، وهو موقف وسط بين الموقف السابق والموقف اللاحق، وعلى هذا الموقف بعض مدارس التيار السلفي العلمي.
الرابع:رفض الديمقراطية فلسفة وآلية وممارسة؛ باعتبار أن هذه الفلسفة مبدأ يعطي البشر حق الله في التشريع حسب دساتير معظم البلاد الإسلامية، وأن الآلية ذريعة إلى تحقيق هذه الفلسفة، وعلى هذا الموقف بعض التيارات الدعوية خاصة المتأثرة بمدرسة سيد قطب الفكريّة.
هذه أهم المواقف التي تظهر في الساحة الفكرية السياسية للنخب الفاعلة في المجتمعات الإسلامية حول الديمقراطية؛ فلسفة وآليات وممارسة، فإذا استبعدنا الموقف الأول لظهور بطلانه، وافترضنا أن أصحاب الموقف الثاني أو جلّهم عند التحقيق سيؤول موقفهم إلى الموقف الثالث، نستطيع أن نقول بأن الموقفين الأخيرين هما الأبرز داخل التيارات الإسلامية والمدارس الدعوية، وهما موقفان اجتهاديان مقبولان تجاه الديمقراطية خاصة في المجتمعات التي لا تسود فيها الشريعة، وهكذا موقف أبرز الرموز العلمية المعاصرة؛ فالشيخ ابن باز أقرب إلى الموقف الثالث، والشيخ الألباني أقرب إلى الموقف الرابع، ولاستكمال الصورة أقول: إن الممارسة الانتخابية تجري لثلاثة أنواع من المجالس في الغالب هي:
1- المجالس النيابية (البرلمانات)، ومعظم الأدبيات التي شكلت المواقف الأربعة السابقة تتجه إلى هذا النوع من الانتخابات بالدرجة الأولى، ويمكن أن نقول عنها: إنها انتخابات عامة لشأن عام.
2- المجالس البلدية وما شاكلها، وهي انتخابات عامة لشأن متخصص.
3- الهيئات المهنية: كهيئة المهندسين وهيئة الأطباء والغرف التجارية ونحوها وهي انتخابات خاصة لشأن متخصص.
فالإشكالية الشرعية في هذه المجالس تكون بقدر ما يكون فيها من صلاحيات تشريعية يمكن أن تعارض أحكام الشريعة الإسلامية في الدرجة الأولى، وبمقدار ما يكون فيها من تنظيمات تكون ذريعة لمخالفات شرعية، أو لا يعتبر بها تحقيق مقاصد الشارع من قبل أعضاء يجهلون أحكام الشريعة، أو يتهاونون بها جاءت بهم الانتخابات بصيغتها الغربية، ولذلك فإن المجالس المسؤولة عن الشأن العام كالمجالس النيابية هي أهم هذه المجالس وأخطرها، وتقلّ هذه الأهمية كلما كانت مهمة المجلس شأناً متخصصاً، وأما الانتخابات بصيغتها الغربية فإشكاليّتها أنها قد تأتي بمن لا يتوفر فيه الحد الأدنى من شروط مَن يمثل الأمة، وصفات مَن يتولى الوظيفة، وبما تحمله من تجاوزات شرعيّة أثناء الممارسة، ويظهر هذا عندما تكون انتخابات عامة أكثر منها عندما تكون خاصة، ولذا فإن الإشكال الشرعي أكثر ما يكون ظهوراً عندما تكون انتخابات عامة لشأن عام منها عندما تكون خاصة لشأن متخصّص، وفيما يخصّ الانتخابات التي جرت في السعودية للمجالس البلدية، فهي من النوع الثاني أي انتخابات عامة لشأن متخصص، وحتى نتصور الواقع لدينا لا بد أن نعلم أن المجالس البلدية التي تجري لها انتخابات عامة في التجربة البشرية على أنواع ثلاثة:
1- مجالس بلدية مهمتها الحكم المحلي في المدينة كما في الولايات المتحدة، وهي تشبه شكلاً مجالس المناطق في نظام مجالس المناطق في السعودية.
2- مجالس بلدية يقع تحت مسؤوليتها جميع الخدمات في المدينة أو المنطقة كما هي في معظم البلدان التي تجري انتخابات بلدية.
3- مجالس بلدية مسؤوليتها نطاق مسؤولية البلديات المسؤولة عن جزء من الخدمات، وليس جميع الخدمات، وهي صورة المجالس البلدية التي تمّ انتخاب نصف أعضائها في السعودية، فإذا علمنا أننا نتكلم عن النوع الثالث من المجالس ندرك أن الأثر السلبي المترتّب على تشكيل هذه المجالس بواسطة آلية متأثرة بثقافة منتجيها سيكون أخفّ؛ لأنها محدودة الميدان وهي مجالس تُعنى بقضايا فنية خدميّة في الغالب، وهذا الكلام لا يُقلّل من التنبّه لبعض الجوانب التنظيميّة(التشريعيّة) التي ستكون من مسؤوليتها مثل: فرض الرسوم والتنظيمات المتعلقة بخدمات الترفيه للرجال والنساء، وكذلك المتعلقة بالأراضي، واحتكارها باعتبار أنها حاجة من حوائج الإنسان الأساسية، وهو المسكن، وأمثال ذلك فإن هذه مجالات يجب على المجالس ألا تخالف فيه أمراً شرعياً أو تسنّ نظاماً يكون ذريعة إلى محرّم، وينبغي على المجتمع عامة والمحتسبين خاصة مراقبة هذه المجالس والاحتساب عليها عند المخالفة
============(5/330)
(5/331)
شموع دافئة .. لمشاعر باردة
د.مسفر بن علي القحطاني * 27/10/1425
10/12/2004
قبل أسابيع قليلة حلّ علينا فصل الشتاء ضيفاً عزيزاً طالما انتظرناه وهو بعيد، واشتقنا إليه ونحن نمسح عرق الصيف الملتهب .. وكم بحث عنه البعض في أصقاع الأرض خلال إجازة الصيف هروباً من لهيب شمس النهار ورطوبة جوّ الليل .. وها نحن هذه الأيام نستقبله لمّا حضر بالفرار إلى الأسواق والاستنجاد بالمعاطف والثياب الثقيلة؛ صداً لهجوم رياحه الباردة وقرصات ليله اللاذعة..وقد يدور في خلد البعض الحنين لأجواء الصيف، فعدو الأمس أصبح صديق اليوم..وكل ذلك من أجل البحث عن الدفء..تلك النعمة العظيمة والمنحة الجزيلة التي لا يعرف قدرها إلا من حُرِمها...غير أن المتأمّل في واقعنا اليوم يجد أن هناك نوعاً من الناس قد حُرم ذلك الدفء ليس لأن جسده عُرضة للبرد بل لأن قلبه وعواطفه وإحساسه بالغير قد أُصيبت بنزلة برد؛ٍ فلم تعد أنواع التدفئات أو المضادات تكفيه، أو تبعث في روحه ووجدانه حياة الدفء من جديد، وهذا المرض الشتوي قد لازم كثيراً من الناس في جميع فصول حياتهم، وأعراضه المزمنة تظهر بغير خفاء على أحوالهم ومواقفهم تجاه مجتمعهم وأمتهم. منها على سبيل المثال:
البرود القاتل في علاقاتنا الاجتماعية، وصلتنا لأرحامنا التي أصبحت في هذا الزمن طقوساً رسميّة خالية من دفء العاطفة وحرارة المحبة الصادقة، وانقطعت حبال الودّ إلا من خلال الأثير أو البريد، وربما يأتي دورها وتسفّها رياح التغريب وماديّة الحياة لتجعلها ذكريات تتّندر بها أجيالنا القادمة، أو تتنهد شوقاً لماضيها القريب؟!
وأما عوارضه الأخرى فذلك البرود القلبي تجاه ما يحصل لإخواننا المسلمين في كل مكان من مصائب ونكبات وكوارث ومجاعات حتى أصبحت صور النساء الباكيات والأطفال الأبرياء وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في شتاء قارس، يزداد مرارة مع ألم الجوع وقهر الحرب وصقيع الثلج، ولا يحرك فينا شعور الأخ لأخيه، وكأن المشاهد والمآسي أفلام للتسلية وأحاديث "للمؤانسة"، فهل تنسى كغيرها من المآسي في سكرة حرب الإرهاب واحتفالات عيد الميلاد؟
إن أعراض هذا المرض قد ساعد أيضاً في انتشار الفيروس القاتل الذي بدأ يدبُّ في نفوس الشباب والأجيال القادمة، وهو داء البرود النفسي والخمول الفكري، وعدم الحرص على الإنتاج والإنجاز وبلوغ الأهداف، والرضا بالعيش الهيّن والسعي وراء الأفكار الرخيصة والموضات الفارغة.
وكأنّ الهمم والعقول قد التحفت تحت أطباق من المعاطف الوثيرة لتعلن بياتاً شتوياً لا أمد لانقضائه ولا نهاية لامتداده .. فهذه العوارض السابقة للبرود القلبي والوجداني قد يوجد لها في قائمة الدواء علاج من خلال طب إحياء المشاعر والعواطف الصادقة، ومن داخل محراب الإيمان الدافئ المشتعل بشموع الرحمة والمودة والصدق مع الله، لعلنا ننجو من صقيع ذلك الشتاء، ومن قرصات برده اللاذعة قبل أن يموت فينا الإحساس .. فحينها لا صيفاً عرفنا ولا شتاء!!* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الملك فهد للبترول والمعادن
===========(5/332)
(5/333)
الحاجة إلى معرفة الحضارة الغربية
د. بدران بن الحسن 18/9/1425
01/11/2004
يتساءل كثير من المثقفين عن كيفية ضبط العلاقة بالغرب المعاصر، ذلك أن هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي جعلنا في موقف ينبغي أن نحدد الصلة بالغرب، وخاصة أن ما يفيض علينا وعلى غيرنا من الأمم والشعوب من إنجازاته الحضارية ومن فوضاه الحالية جعل منه مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالمشكلة الإنسانية عامة، وبالتالي بالمشكلة الإسلامية.
وهذا لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا في حلوله للغرب كما يعتقد كثير من التغريبيين أو غيرهم من دعاة الأصالة الإسلامية، وإنما يتطلب منا أن نعرف التجارب الحضارية المختلفة لنتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة.
فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن الظاهرة الحضارية الغربية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.
فالعالم الإسلامي منذ بداية الجهود التجديدية الحديثة يضطرب، كلما تعلق الأمر بالغرب، غير أنه لم يعد بذلك البريق الذي كان عليه منذ قرن تقريباً، ولم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية ظفر بها على عهد أتاتورك مثلاً؛ فالعالم الغربي صار حافلاً بالفوضى، ولم يعد المسلم الباحث عن تنظيم نفسه وإعادة بناء حضارته الإسلامية يجد في الغرب نموذجًا يحتذيه، بقدر ما يجد فيه نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحوي من أخطاء.
فالغرب تجربة حضارية تعد درسًا خطيرًا ومهمًّا لفهم مصائر الشعوب والحضارات، فهي تجربة مفيدة لإعادة دراسة حركة البناء الحضاري، وحركة التاريخ، ولبناء الفكر الإسلامي على أسسه الأصيلة، وتحقيق الوعي السنني، الذي ينسجم مع البعد الكوني لحركة التاريخ، ذلك البعد الذي يسبغ على حركة انتقال الحضارة قانونًا أزليًا أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس )[آل عمران:140].
فالتأمل في هذه التجربة التي صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية، إذ هو يحاول أن يفهم مشكلاته فهمًا واقعيًا، وأن يقوّم أسباب نهضته كما يقوّم أسباب فوضاه تقويمًا موضوعيًا.
وحتى تنظم هذه العلاقات، ويستفاد من هذه التجربة البشرية، ويدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبتسرة، وأفكارنا عنه عامة وغير نابعة من إطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوهًا أو جزئيًا.
ولقد أضاع المسلمون كثيراً من الوقت منبهرين بما حققه الغرب، دون أن يتأملوا ويدركوا سر حركة التاريخ في الغرب، فنرى كثيراً من الباحثين والمفكرين المسلمين بمختلف انتماءاتهم يجهلون حقيقة الحياة الغربية والحضارة الغربية بالرغم من أنهم يعرفونها نظرياً، كما أنهم ما زالوا يجهلون تاريخ حضارتها. وإنه بدون معرفة حركة تاريخ هذه الحضارة والمنطق الداخلي الذي يحكمها؛ فإننا لم ندرك سر قوتها ولا مكامن ضعفها، ولم نعرف كيف تكونت، وكيف أنها في طريق التحلل والزوال لما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية.
وإذا كانت المائة سنة الأخيرة قد تميزت بتقريب المسافات، واتجاه البشرية نحو التوحد، في مصيرها، وفي علاقاتها؛ فإن المثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، ويرتقي إلى إطار الحضور العالمي، وعيًا وإنجازًا، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي، إذ لا يمكن أن نطرح مشاكلنا في زمن العولمة والكونية، دون أن نأخذ في الاعتبار كل المعطيات السياسية والجغرافية والاستراتيجية.
وتحديد الصلة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يعطينا تحديدين مهمين في إنجاز مشروعنا التجديدي: التحديد الأول؛ هو التحديد السلبي، وذلك من خلال إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه العظمة الحقيقية. أما التحديد الثاني؛ فهو التحديد الإيجابي، من خلال تحديد ما يمكن أن نسهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها.
وهذا في حد ذاته ينضج ثقافتنا ويعطيها توجهًا عالميًا؛ فمن المفيد -قطعًا- أن ننظر إلى حركة التاريخ والواقع من زاوية عالمية لنكتسب بذلك وعياً عالمياً؛ فإذا أدركنا مشكلاتنا في هذا المستوى، فإننا سندرك لا محالة حقيقة الدور الذي يناط بنا في حضارة القرن الواحد والعشرين.(5/334)
وعلينا أن ندرك وحدة المشكلة الإنسانية التي تنبثق عن المصير المشترك الذي آل إليه وصب فيه القرن العشرون وبدأ به القرن الواحد والعشرون. إن فكرة وحدة التاريخ الإنساني في هذه المرحلة التاريخية تتطلب منا الخروج من العزلة الجغرافية السياسية والعزلة الفكرية الثقافية لنخرج بأفكارنا وثقافتنا إلى إطار عالمي نقدم فيه مساهمتنا الحضارية المتميزة القائمة على رؤية توحيدية إسلامية من أجل صالح البشرية.
كما ينبغي أن ننظر بتوازن للأشياء وللأفكار، والتخلص من الثقافة الحدية التي ترى في الغرب إما طاهر مقدس (كما هو شأن العلمانيين من أبناء المسلمين)، وإما دنس حقير (كما هو شأن الإسلاميين من أبناء المسلمين). ومن بين الأمور التي ينبغي التوازن في النظر إليها هي الحضارة الغربية التي تبسط هيمنتها على العالم؛ فأحكامنا على هذه الحضارة -سلباً أو إيجاباً- إنما هي ناتجة عن مطالعات مبتورة.
فأفكارنا عن الحضارة الغربية تصدر عن ذلك الحكم المبتسر، وعن تلك العلاقة السطحية -الوظيفية أو التجارية- بيننا وبينها. وهذا مرض متجذر في ذاتنا منذ قرون مضت، حينما صار الفكر الإسلامي عاجزًا عن إدراك حقيقة الظواهر، فلم يعد يرى منها سوى قشرتها، وأصبح عاجزًا عن فهم القرآن؛ فاكتفى باستظهاره، حتى إذا انهالت منتجات الحضارة الغربية على بلاده اكتفى بمعرفة فائدتها إجمالاً، دون أن يفكر في نقدها، وتفهمها، وغاب عن وعيه أنه إذا كانت الأشياء قابلة للاستعمال، فإن قيم هذه الأشياء قابلة للمناقشة.
ومن ثم وجدنا أنفسنا لا نكترث بمعرفة كيف تم إبداع الأشياء؛ بل نقنع بمعرفة طرق الحصول عليها، فاستحكم فينا ذهان السهولة، وهكذا كانت المرحلة الأولى من مراحل تجديد العالم الإسلامي، مرحلة تقتني أشكالاً دون أن تلم بروحها، فأدى هذا الوضع إلى تطور في الكم، زاد في كمية الحاجات دون أن يعمل على زيادة وسائل تحقيقها، فانتشر الغرام بكل ما هو مستحدث، وكان الأولى التفريق بين عمق الحضارة ومظاهرها السطحية
============(5/335)
(5/336)
الأزمة الدعويّة: إداريّة أكثر منها منهجيّة (1/2)
د. أحمد العمير 21/8/1425
05/10/2004
مقدمة:
اختلفت تقديرات المهتمين بالشأن الدعويّ المحلي لخطورة الأحداث المتسارعة الداخلية والخارجية، وتأثيراتها على مسيرة الدعوة ومكتسباتها التي حققتها خلال العقود الأخيرة بفضل الله ورحمته. كما تباعدت تصوّراتهم حول آليات تقليل سلبيات هذه التطورات، وطرق استثمار فرص الكسب فيها. فمنهم المكتفي بتفاؤله، ومنهم المتشائم المحبَط، وبين الطرفين مراحل وتباينات.
فأما الأول فمصيب مقصّر، ذلك أن تفاؤله سنة الأنبياء وثمرة اليقين بوعد الله، لكنه لا يوصل لشيء إذا لم تصحبه شجاعة ومبادرة ومدافعة مع تعاون وتطاوع وحسن إعداد، والتي هي سنن نبوية كذلك. فضلاً عن أن التفاؤل بلا خطط عملية ملموسة ولا حركة متنامية قد يخيّب آمال الجموع، وقد يترك انطباعاً خاطئاً بالضعف والتراجع لدى الخصوم، ويزيد من جرأتهم على المصلحين.
وأما الثاني فمخطئ معذور، وخطؤه بيّن ظاهر، غير أن تقصير "الجميع" في فهم الأزمة وإدراك مسؤوليتنا المباشرة عن بعض أجزائها، وضعف وتبعثر جهود المجاهدة والمدافعة: يبرّر له شعوره النفسي بالاستياء والإحباط الذي قلّ أن يسلم منه بشر يعيش هذه الظروف.
وأصحاب التفاؤل غير الفعّال قد يجادلون -أصلاً- في وجود الأزمة، انطلاقاً من سعة انتشار وبيان العلم الشرعي في هذا العصر، وإقبال الناس وتأثرهم برسالة الإصلاح بفضل الله ورحمته ثم بجهود الدعوة المتواصلة. وقناعتهم بأن خطط الخصوم والأعداء مهما تعاظمت وتوالت فينبغي ألا تكون مؤثرة في مسيرة الإصلاح. لكنهم يُلقون باللائمة في حدوث العوائق على تقصير الأفراد وتفريطهم أو تهوراتهم، وعلى التحولات المنهجيّة والتغيّرات عند البعض الآخر. ويطالبون فقط بالصبر والاستقامة حتى يتحقق النصر، وهنا حديثهم ينصبّ على الاستقامة الفرديّة، وليست الجماعيّة.
بينما نجد أن الطرف الآخر المستاء والمتألّم من وضع الدعوة الراهن ومستقبل المشروع الإسلاميّ بعامة، لا يختلفون مع المتفائلين في مبرّرات تفاؤلهم، لكنهم يتسائلون عن دقة وصحة القراءة المطروحة للواقع الدعويّ. فمع هذه المبشّرات وتلك الجهود والنتائج، ألا يمكن أن نكون متلبسين بأخطاء متنوعة قد تكون هي السبب الأهمّ في وقوع "الأزمة" - وهي الصّفة التي يصرّون على وصف الواقع الراهن بها -؟، وليس التفريط ولا التهور ولا التحولات المنهجيّة وحدها!. بل منهم من يرى أن هذه الأخطاء قد تكون هي التي أفضت إلى هذه التحوّلات وتلك التهوّرات وساهمت في تضخيمها وانتشارها.
وهذه المقالة تمثل محاولة لبسط رأي الشريحة المستاءة، والتي يبدو أن نسبتها آخذة في التزايد. تم جمعها من خلال الإنصات المتفهم لبعض أفرادها، والقراءة المتأملة لانتقاداتها المبثوثة على الملأ مؤخراً بعد أن كانت همساً وفي دوائر مغلقة. وسيكون دور المقالة العرض والتعليق الاستقرائي للأحداث والأفكار والمواقف والتوجهات ذات العلاقة. وهذا ليس حديثاً باسم هذه الشريحة ولا نيابة عنها - وإن كان الكاتب لا ينفي تقبّله وتبنّيه للعديد مما فيها-، لكنها محاولة لإيصال بعضٍ من ملاحظاتها الجديرة بالتداول، ودعوة للتأمل فيها، وتبادل الرأي حولها، سعياً للخروج من "الأزمة" وتسديداً للمسيرة، واحتراماً لكل صاحب رؤية لا تعدم أن يكون فيها حظٌ من الحق والصواب. فنحن أمة يسعى بحاجتها أدناها، وقد يحمل المُبلِّغون فيها الفقه إلى مَن هو أوعى وأفقه منهم، أخذاً بقوله صلى الله عليه وسلم (بلّغوا عني ولو آية، فربّ مبلَّغ أوعى من سامع، وربّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه)، وقد يكون ذلكم في المسألة الجزئيّة أو التطبيقات الواقعيّة، ولا يلزم أن يكون على الإطلاق.
أولاً: مظاهر الأزمة:
مع الاعتراف بفضل الله ورحمته، والتحدث بنعمه الظاهرة والباطنة على رجال الدعوة في هذا البلد، لا ينبغي أن نتوقف عن تلمس ومعالجة موانع النصر الذاتية ( قل هو من عند أنفسكم) التي قد نقع فيها أفراداً وجماعات. والمعاصي الفرديّة تقف على رأس هذه الموانع، غير أن الخطأ الجماعي والتخطيطي لا يقل فداحة، إذا كان غير مبرَّرٍ ولا مستندٍ على استدلالات علميّة صحيحة، ولا على وسائل شرعيّة مطلوبة للاجتهاد الجماعي.
وهذا هو جوهر الأزمة التي نتحدث عنها، والتي امتدت لفترة ليست بالقصيرة، وفيما يلي عرض لبعض مظاهرها، مع تفصيل متفاوت بحسب ما يفرضه الغرض من عرضها.
1- تجاهل الأخطاء التاريخية:
لا يُتوقّع أبداً من أي حركة بشريّة - لا تدّعي العصمة - أن تسلم من الأخطاء. والاعتراف بالأخطاء -التي يثبت التاريخ المشاهد دورها في أزمة ما- يعتبر ركيزة هامّة في علاج أي أزمة. والمطلوب من أي حركة جادّة في التغيير والإصلاح أن تُعنى بدراسة مسيرتها وتشخيص أخطائها والعمل على تفاديها والتقليل من آثارها. ومع كل هذا، نجد أن أبرز مظاهر الأزمة لدينا يتضح في الإعراض عن دراسة الأخطاء فضلاً عن الاعتراف بها ومحاولة علاجها.(5/337)
وللتمثيل المهم نتحدث عما تمّ التعارف - دعوياً- على تسميته بمرحلة " الخطاب العام "، والذي استفاد من أزمة الخليج الثانية - وإن كان قد بدأ قبلها- وانبنى على فكرة توسيع دائرة الدعوة، ومحاولة إعادة الجميع لجوهر الهوية الإسلاميّة، وتذكيرهم بالمسلمات المهدّدة. فهذه المرحلة رغم الزّخم الكبير الذي صاحبها، تكاد تكون قد تلاشت بصورتها الأساسية مع المحاصرة الأمنية التي واكبت فورتها ودفعتها نحو انحدار خطها البياني. فأصبحنا-باستسلامنا لهذا التلاشي- إما أن نكون غير مقتنعين بها من الأساس، وهذا غير وارد، أو أن نكون غير متفقين حقيقة على تفاصيلها وغير متوقعين لحدة انعكاساتها، وهذا هو الأغلب والأكثر إيلاماً.
لكن لكونها التجربة الجماهيريّة الأولى للدعوة المعاصرة في هذا البلد، فلم يكن من المستغرب أن تقع في الخطأ. إنما المدهش والمحيّر أن تمرّ التجربة دون استفادة ودون مراجعة للخطوات التالية على ضوئها، وهذا يمثل خطأً أكبر وأبلغ.
وفيما يلي سرد لبعض أخطاء تلك المرحلة:
- تضخيم الرمز، دون التأكيد عملياً وليس نظرياً على حق تخطئته ومراجعته بالبرهان والحجة مع الاحترام والأدب المشاع بين المسلمين عموماً ولمثله من باب أولى. وليس من المبالغة في شيء لو قلنا: إنّ هذه القضية بالتحديد طالت حتى المواقف العلميّة الشرعيّة، فالاجتهاد الفقهيّ لأحد الرموز في مسألة فقهيّة محدّدة يتعامل معه الآخرون بحرج شديد في العلن، وإن اختلفوا معه في الدوائر العلميّة الخاصة. لا لشيء إلا للمحافظة على مكانة الرمز، وتناسينا تماماً المحافظة على حق التداول العلميّ الرصين بالحجة والدليل، وأغفلنا تشجيع الردود والاختلافات العلميّة والتي هي من أبرز مزايا هذا الدين، حتى وقعنا في التضخيم للرمز، وسلبيّات التبعيّة المذمومة له. بل أوقعنا ذلك في تناقضات وحرج علمي نجني مرارته أمام الناس اليوم، ولك أن تتأمل ما يقع في فتاوى لباس وزينة المرأة، أو حدود التعامل مع الإعلام، لترى حجم التغير فيها.
وكان بإمكان موقف واحد يُعلن فيه للعموم اختلاف الأغلبيّة أو البعض مع هذا الاجتهاد أو ذاك، أن يفعل الأفاعيل في موازنة الاجتهادات. بل كان المفترض أن نحفظ للعالم الواحد حقّه في مخالفة الجمهور ما كان مستخدماً للمنهجيّة العلميّة الصحيحة، وعلى هذا سار الصحابة وسلف الأمة رضوان الله عليهم أجمعين.
- صناعة الرمز قامت - في بعض جوانبها- على قدرات ذاتية أفادت من الظروف المرحليّة للدعوة. ولم تقم على وحدة بناء جماعيّة توصل الرمز لمكانته بطريقة تراكميّة وموضوعيّة، وتفرض عليه نظامياً أو أدبياً التحاور والتواصل معها. ولا على قناعات مشتركة محرّرة ومفصّلة بين الرمز والأوساط العلميّة المحيطة به، تلزمه -وبدوافع ذاتية- لاحترامها وتبني اجتهاداتها والرجوع لأمر الشورى فيها (مما فسر التباينات فيما بعد).
- اجتهادات الرمز في التعبئة الجماهيرية العالية والشحن النفسي للجموع الحديثة العهد بالهداية، قد تكون مقبولة سياسياً في ذروة مشروع إصلاح سياسي، وفي بيئة تتقبل أو تم تهيئتها لذلك، أما فيما عدا ذلك فهي خطأ. ورغم تنبّه البعض لذلك في حينه، لم يكن الوسط الدعويّ بالقادر على إلزام الرمز بالتخفيف من شحن الجماهير، ولا على الترشيد من تأثير الجماهير عليه (...!!). مما يوحي بأن تلك المرحلة في تفاصيلها كانت اجتهادات فردية عفوية، ولم يواكبها دراسات تفصيلية ولا آليات قرار جماعيّة وحيويّة. ومما يؤكد هذا الانطباع، وقوع الشلل الواضح الذي تعرضت له أغلب الأنشطة التي نشأت في ظل مرحلة الخطاب العام، إلى أن ختمت تلك المرحلة بالمحافظة فقط على المكتسبات الدعويّة والتربويّة القديمة، وهذا في عرف المدافعة السياسيّة خطأ قاتل. فلا يُقبل أن تخطو خطوات نوعّية أكبر من عناصر قوتك الحقيقيّة، إلا أن تكون قد حسبتها بدقة، ودرست ردود أفعال الطرف الآخر المتوقعة تجاهها، ووضعت في حساباتك أن تتراجع عن بعضها -لا كلّها- عند الضرورة، ثم تكمل بقية الخطوات كما هي أو تغير فيها، وتبني عليها غيرها بعد أن تهدأ العاصفة.
- ضعف قراءة الواقع المحيط وتقدير حجم ونفوذ دوائر القوة فيه، والمبالغة في تقدير عناصر القوة والتأثير الذاتية أو حجم وتأثير الجماهيرية العاطفية، أسهم كذلك في الانعكاسات التي واجهت تلك المرحلة. والغريب أن بعض الرموز والشخصيات عادت بعد المحاصرة الأمنية لتعيد الحسابات بالكامل في هذه التقديرات. مما يؤكد مرةً أخرى أن القناعات والرّؤى كانت فرديّة، وهاهي اليوم تتغير بفرديّة مماثلة.(5/338)
- الخلط بين معايير الدعوة الثابتة ومتطلبات التعامل مع الظروف الزمانيّة والمكانيّة المتغيرة. فالتصلّب في اتباع طرق ووسائل إصلاح، ودعوة تاريخيّة ناسبت فترة معينة، لا ينفع في فترة زمنيّة مختلفة ومتشابكة ومعقدة المصالح والتداخلات. وللتمثيل فقط نشير للخلط المنتشر في حينها - ولا يزال- بين مطلب التربية الجادة للأفراد ومطلب إقامة مؤسسات الشأن العام والأنشطة والبرامج المفتوحة. فهذه المؤسسات نحتاجها بإلحاح لهذا العصر، وهي تمثل نوعاً من أنواع الجهاد الميداني الذي يجب أن يتربى عليه الأفراد دون أن تهتزّ مستوياتهم، ودون أن يشعروا بتناقض بين النظريّة والتطبيق.
- التركيز على العلم الشرعيّ بطريقة أوحت عملياً بهامشيّة غيره من العلوم المعاصرة لدى الأفراد، والاستمرار في بطء المبادرة الجماعيّة للانخراط في مستجدات العصر والإفادة من مجالاته المختلفة. حتى تفاجأنا أننا خارج السرب تماماً على المستوى العالم، في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والقانونيّة والإعلاميّة والإداريّة، التي نعيش قصوراً كبيراً في تبنّيها بصفة جماعيّة وغفلة ملموسة عن بناء مؤسساتها المتخصصة والمؤثرة، وتردُّداً في توجيه الموهوبين وأصحاب القدرات نحوها. واكتفينا فقط بتوجيه الانتقادات لوضع الأجهزة الرسميّة، أو توجيه النصائح والمواعظ للعاملين الخيّرين في هذه الأجهزة، بعد أن أصبحت هذه المجالات مملوكة بدرجة كبيرة لأصحاب التوجهات الأخرى.
- التأثر بالبيئة المحليّة والتقوقع في إطارها، رغم الادّعاء بمتابعة اجتهادات البيئات الأخرى والتفاعل معها والاستفادة منها. والمتغيّرات الأخيرة أظهرت كم نحن غارقون في سلبيات البيئة المحليّة وخاضعون لعيوبها وقيودها. والحقيقة أن القضايا الخارجيّة التي تفاعلت معها الدعوة المحليّة كالمسألة الأفغانيّة أو الجزائريّة مثلاً، قد فرضت نفسها علينا، ولم نتواصل معها ونستفد منها ابتداءً، بل كنا نتعامل معها بفوقيّة وأستاذيّة وحين تكشفت الحقائق تبيّن أننا لا نقلّ عنها أخطاءً وسلبيات أو تأثراً بالبيئات. والواقع الملموس اليوم يؤكد أن فصائل الجهاد الفلسطيني تمتلك الكثير من الدروس والتجارب والخبرات، ويشهد بنجاحها في التحرّر من ضغط الواقع الفلسطينيّ الرسميّ والفئويّ الذي كان يحاصرها ويقيدها لسنين طويلة، وهي بذلك تثبت إمكانيّة التحرّر من الضغوط البيئيّة المتواصلة، وتقيم الحجّة على مَن أخفق في ذلك، وتلزمه بالاستفادة من طريقتها.
2- الشعور بالفراغ القيادي والضعف العام:
وهذا أيضاً من الأدواء القاتلة لأي حركة تغيير أو إصلاح جماهيريّة، وخصوصاً بعد مرحلة انتشار وظهور خطاب؛ إذ من المفترض المحافظة على حريّة حركة القيادة العلميّة التوجيهيّة وفاعليّتها، ونفوذها مهما تعاظمت العوائق، قبل البدء بتوسيع الخطاب. وألاّ يُخلط بينها وبين القيادات التنفيذيّة، التي قد تظهر وقد تختفي، وقد تتراجع وتتغير. وإذا تكالبت العقبات بصورة غير متوقعة بعد التوسّع، فسيكون إبقاء القيادة العلميّة التوجيهيّة بعيدة عن الخصومات اليوميّة، وقادرة على التأثير بالجماهير وإيجاد أجواء الاستجابة لها بنزاهتها العلميّة، وتجرّدها وإخلاصها للمبدأ- ضرورة من الضرورات كي يستمر وهج الرسالة ولا يتوقف - بإذن الله - عند إيقاف هذه القيادة التنفيذيّة أوتلك، أو منع هذا البرنامج أو ذاك.
والأزمة لدينا أن القيادات العلميّة جمعت بين الدور الإشرافيّ التوجيهيّ والدور التنفيذيّ، أو بين رسم السياسات واتخاذ وتنفيذ القرارات. وحين عرّضها هذا الجمع للمحاصرة، تراجع حضورها بشكل ملحوظ، وتُركت الجموع دون توجيه بعد التواصل شبه اليومي فيما سبق. فنشأ عن ذلك فراغ قياديّ على المستوى العلميّ والتوجيهيّ العام، استغله الخصوم بتسريع برامجهم التغريبيّة وبمحاصرة البرامج الإسلاميّة.
ولعل نموذج الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، وأثره في حركة حماس وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية، يوضّح بجلاء ذلك النوع من القيادة العلميّة التوجيهيّة، والمستمرة الأثر رغم الإعاقة والسجن وستتواصل -بإذن الله- بعد الشهادة. ومن ذكاء وفطنة إخواننا هناك أنهم لم يسمّوا من يشغل دوره من بين القيادات العمليّة التنفيذيّة.
3- الاقتصار على دوائر الدعوة التقليدية:
التركيز على القطاعات التعليميّة ومساجد الأحياء والمؤسسات الإغاثيّة الخارجيّة، وما يرتبط بها من مشاريع، هو السمة البارزة للدعوة المحليّة. وهذا ليس تقليلاً من نفع وخيريّة هذه الدوائر، ولكن المعطيات القريبة والبعيدة كانت تدفع وبإلحاح للبحث عن دوائر جديدة تناسب طبيعة هذا العصر وتتفاعل مع تطوّراته. كما أن الفرص كانت متاحة، لكننا مضينا في التردّد والمبالغة في التحوّط وبطء الحركة والمبادرة.(5/339)
ومن المفارقات العجيبة، أن العديد من شباب الدعوة الذين سافروا إلى الخارج للدراسات العليا، وحرصوا على مواصلة رسالتهم الدعويّة، صُدموا بالفارق الكبير بين تنوع وعلنية وحيويّة وانفتاح البرامج الدعويّة في تلك الدول وبين ما تربّوا عليه. وحصل لديهم صراع نفسي انتهى ببعضهم للانقطاع عن العمل المنظّم، وبالبعض الآخر لفقد القناعة بما كان عليه والتردّد فيه. بطبيعة الحال، الدعوة في تلك الدول هي حصيلة تلاقح عدة تجارب من مدارس دعويّة مختلفة، ونتيجة تأثر بنمط الأنشطة الاجتماعيّة العامة في الدول الغربيّة، لكنها لا تخلو من إيجابيات. ومن حق أولئك الشباب أن يقولوا: إن دعوتنا المحليّة هي أيضاً حبيسة البيئة التي نشأت فيها وتقولبت فيها، وكان من المفترض أن تتحرر منها، وتنفتح على الآخرين وتستفيد مما لديهم وتتعرّف على عيوبها من خلالهم، ومن ثَمّ تبتكر وسائل ودوائر جديدة، وتتحصل على الأسبقيّة بنقلها إلى البيئة المحافظة بضوابطها وقيودها التي تحرص عليها، ولا تنتظر حتى تفرض عليها من غيرها -وبالطريقة التي لا تريدها- كما هو حاصل الآن. والمصيبة أن هذا التحفظ التقليديّ والانغلاق النسبيّ في أنشطة الدعوة المعتادة، والذي كان دافعه الحرص على جودة التربية وجديتها، أصبح مدخلاً كبيراً على الدعوة مع المتغيّرات الأخيرة، مما يؤكد الخطأ في هذه الدرجة من الانغلاق، وهذا الشحّ في تنوّع الأنشطة، وانفتاحها على المجتمع.
4- المبالغة في الترفّع عن الواقع، واستهداف النخبة:
بعد المحاصرة الأمنية التالية لمرحلة الخطاب العام، عادت الدعوة للفكرة القديمة التي طرحها بعض مفكّريها المعاصرين، والتي تقضي بأن الوسيلة الأسلم للإصلاح تتلخّص في "صناعة قلّة تنقذ الموقف"، فتمحورت الجهود على اصطفاء النخبة، واستهدافهم في شتى القطاعات. ومع التقدير الشديد لتلك الشخصيّات الفكريّة ومسيرتها العلميّة، إلا أن تعقيدات هذا العصر وتداخل مجالاته وتشابك مصالحه، تجعل نجاح هذه الطريقة أمراً صعباً في هذه الظروف، وإن كانت قد نجحت في فترات ماضية.
والواقع الملموس يشهد بأن القلّة المتوفرة اليوم في العديد من المجالات، لم تستطع أن تُحدث تأثيراً يُذكر، إن لم نقل: إنّها هي التي تأثرت بالواقع الضاغط المحيط بها، أو أنها استسلمت - مغلوبة على أمرها - لتوجّهه العام، ولمصالح وأهواء المتنفذين فيه. هل يرجع ذلك لعيوب ذاتية في هذه القلة؟ قد يكون، ولو صح فهو يشي قبل كل شيء بفشل برامج الإعداد لهم؛ غير أن عصر الاتصالات الواسعة الذي نعيشه وطبيعة ثقافاته المتحررة ومجتمعاته المنفتحة ودوله وأنظمته المتداخلة المصالح، يقتضي التفاعل والتواصل مع كل الطاقات والتخصصات، ومع كل الأنشطة والمؤسسات وكل المسؤولين والمدراء في محاولة حثيثة لتغيير القناعات، وإخراج الرؤية الإسلاميّة من الإقصاء العمليّ الذي وضعت فيه. ينبغي التنسيق مع كل المعتزين بالهويّة الإسلاميّة وغير المناوئين لها، والاتفاق معهم على جوهر الرسالة الدعويّة، ولفت أنظارهم للتحديات التي تتعرض لها، وواجبنا جميعاً في التكاتف لتغيير الواقع.
5- معضلة نقل الرؤية والتصور إلى الواقع:
امتداداً للمظهر السابق من مظاهر الأزمة، لا بد من التنبه إلى أن مسؤولية نقل الرؤية الشرعيّة الراجحة والتصور الإسلاميّ الصحيح لما يجب أن يكون عليه واقع المسلمين اليوم، من مرحلة التنظير والتدليل التي أجادت الدعوة في بلورتها ونشرها، إلى مرحلة التطبيق العمليّ الملموس، لا يمكن أن تنفرد بها قلة أو نخبة، وسيكون من الإجحاف والظلم تكليفهم لوحدهم بهذه المسؤوليّة.
وهذه المعضلة بالتحديد هي مفترق الطرق للعديد من الدعوات المعاصرة، فالعجز والخلل والارتباك يتضح بأجلى صوره عند تحول هذه الدعوات إلى البرامج العمليّة الواسعة للتغيّير، وكأنها تحسب أن دورها ينتهي بالإحياء العلميّ والتأصيل النظريّ، بينما هو في الحقيقة لا يبدأ إلا مع الإحياء العمليّ للحق والعدل والسُنّة، ومع الخطوات والجهود الميدانيّة لنقل الواقع مما هو عليه من مخالفات إلى الرؤية الإسلاميّة الصحيحة. وما تفعله قبل ذلك ليس إلا بعثاً وتجديداً لعلمٍ سبقها إليه من كان قبلها. ونوعية وحكمة ذلك الإحياء العمليّ وتلك الخطوات والجهود هي المحك للنجاح أوالفشل في مهمة التغيير، وليس حجم العوائق المحيطة.
والدعوة المحليّة ليست بدعاً في ذلك، ومعضلة التغيير العمليّ هي أبرز ما تواجهه، رغم قلة البحوث والدراسات لذلك. وعجز النخبة يعود بالدرجة الأولى لانعدام الرؤية الاستراتيجيّة للتغيير عند عموم الأوساط الإسلاميّة. فالنخبة مهما أوتيت من قدرات لا يمكن أن تعمل بدون إيجاد أجواء دعم ومساندة واسعة، وبرامج تفعيل ومتابعة لجهود تغيير القناعات والترويج للرؤية الإسلاميّة الصحيحة. وهذا سيقتضي وجود علاقات عامة فعالة وحركة ميدانيّة حية بين كافة الطبقات، ومهارات عالية في التواصل مع الناس والصبر على أذاهم.(5/340)
بينما واقع الأزمة اليوم، يشهد بأن القلة المعوّل عليهم - بعد الله تبارك وتعالى - لا يجيدون في الأغلب سوى مهارات كسب أعداد جديدة للدعوة -وعلى استحياء- داخل أجهزة ومؤسسات المجتمع، حتى يصبحوا أرقاماً متزايدة غير مؤثّرة ومغلوبة على أمرها. بينما هي لا تتنبه - إن لم تكن لا تجيد - للتعامل مع أصحاب القرار والمؤثّرين في هذه الأجهزة.
6- الإعراض عن أنشطة الاحتساب العام والدفاع عن الحقوق:
لئن كانت الدعوة المحليّة بفصائلها المختلفة قد نجحت بالتأصيل النظريّ والعلميّ للاحتساب على الحاكم وإداراته الرسمية، وسبقت غيرها من أصحاب التوجّهات الأخرى في هذا المجال، وتحمّلت في سبيل ذلك الكثير؛ إلا أنها - وبكل صراحة - أخفقت وتأخرت في تطبيقات ذلك العمليّة. مما أفسح المجال لاجتهادات غير مضبوطة وغير محسوبة النتائج جرّت على غيرها الكثير من التبعات، وأوجدت مستنداً لأجهزة السلطة المختلفة للمحاصرة وتشويه الصّورة.
ومظهر الأزمة هنا، أن الدعوة تأخرت وتردّدت عن السعي المتدرج المؤيّد بالاستدلال الصحيح، وعن انتهاج السبيل الأسلم والأفضل والأكثر قبولاً لظروف وواقع البلد. ولا بد من توقع التضييق والإساءة والأذى والاستعداد لتحمّل كل ذلك دون تراجع.
وغاب عن الساحة معلم مهم لأيّ حركة دعويّة إصلاحيّة، ألا وهو رفع الظلم أنّى كانت صوره، ورد الحقوق المنتهكة والمغصوبة ومحاربة الفساد الماليّ والإداريّ، وليس فقط الأخلاقيّ. وكان بالإمكان تحقيق شيء من ذلك عبر التدرّج، وعبر كسب بعض الأطراف الموجودة داخل السلطة والمتذمرة من هذه الأوضاع، بشرط أن تكون الجهود هنا شرعيّة وباسم الجميع ولصالح الجميع، وليس باسم حزب أو تيار معين.
7- تبايُن الاجتهادات:
لم يعد سراً وجود التباين بين القيادات العلميّة ورجالات الجيل الأول من كيان الدعوة. ومع أن الأحداث العالميّة والمحليّة قد زادت من هذا التباين، إلا أن بذوره كانت موجودة من قبل، ولم تحسن الأوساط الدعويّة طوال مسيرتها المعاصرة أن تضع حلولاً عمليّة لتحرير هذه التباينات والتقريب بينها، أو العمل على تفهمها، وخلق أجواء التعاون والتنسيق فيما بينها، رغم أن ما يجمع هذه القيادات أكبر بكثير مما يفرّقها. والحقيقة أن التأمل المتجرّد في هذا التباين يوصل للملاحظات التالية:
- كل طرف معه جانب من الحق يتشبث به ويجادل من أجله، حتى وإن اختلط بجوانب أخرى من الخطأ لازمة له. وعادة ما يمثل ذلك رمزاً أو أكثر، ومَن يلتقي معهم من القيادات المؤثّرة، ويمتنعوا تبعاً لذلك عن التنسيق مع الآخرين حتى يُقِرّوا لهم بالحق الذي هم عليه، ويحترموا اجتهادهم فيه دون اتهامات. وقد يشترطون تبعيّة الآخرين لهم في هذا "الحق" الذي يظهر لهم، قبل أي خطوة ملموسة للتنسيق. وبطبيعة الحال هذه الوضعيّة غير مقبول استمرارها من طبقة القيادات، رغم العلم ببشريّتهم وتأثرهم بمن حولهم، لكن المقصود هنا أنها تستمر لافتقاد آليات حل حقيقيّ يحفظ حق كل طرف وأهليّته ومكانته ويؤلف بين القناعات المختلفة.
- تراكم الأخطاء ومظاهر الأزمة الدعويّة السابق ذكر بعضها، دون توجه حقيقيّ وفعّال للإصلاح والتعديل، وامتلاك الطرف الأكثر تحفّظاً في آليات وأساليب الدعوة للتأثير والنفوذ داخل الوسط الدعويّ؛ كل ذلك زاد من تغير القناعات وتباين الاجتهادات مع توالي الأحداث والمتغيرات التي تحتاج لحيويّة وتفاعل سريع، ومبادرات تقتنص الفرص التي لا تتكرر بسهولة، ولا تحتمل التأخير.
- تغير قراءات موازين الكسب والخسارة تبعاً لتغير القناعات، وتعدّد المؤثرات على القادة محلياً وخارجياً؛ إذ مع افتقار الطبقة القياديّة لآليات التداول الشوريّ الحقيقيّ الذي يسمح بنقاش القضايا المهمة بكل وضوح وتجرّد، أدّى إلى تضخم هذا التغير في تقدير موازين الكسب والخسارة وتبدل القناعات، وأسهم في ظهور بعض الخطوات الجديدة على الساحة والتي أوضحت بجلاء قدرة أصحابها على التأثير، ووجود من يقتنع بطرحهم ويرغب في توسيع دائرة قناعتهم وسحب الآخرين إليها. حتى وصل الأمر إلى تجاذب مكشوف.
8- العجز عن استيعاب المستجدات:
وهذا الملحظ -هو قطعاً- نتيجة طبيعية للمظاهر السابقة. إذ رغم أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد فاجأت الدول قبل الحركات، إلا أن قدرتنا على استيعاب هذه المفاجأة واحتواء تأثيراتها على الساحة وعلى الصورة العامة عن الدعوة التربويّة لدى الجماهير، كان دون المتوقع. والمشكلة الأبرز في هذا الحدث الذي يتبناه أصحاب المشروع "الجهادي" (...) هو أنه وضع المشروع الدعويّ التربويّ والطويل المدى على المحك، وعرضّه لتحدٍ حقيقيّ. وأعطى انطباعاً عاماً بأن فشل المشروع الدعويّ التربويّ هو الذي أفسح المجال للاجتهادات الجهاديّة غير المحسوبة النتائج. كما أنه أحرج الجميع بتناول قضايا حساسة لم يكن في الحسبان أبداً الحديث عنها. فحصل الاضطراب ولم ننجح في احتوائه وتوجيهه والإفادة منه بالصورة الأمثل، مع توفر فرصة كبيرة لذلك.
9- ارتباك الصفوف:(5/341)
وهذه نتيجة حتميّة للتباين بين القيادات وظهور الفراغ الملموس في القيادة التوجيهيّة المؤثرة والقادرة على التوحيد والتفعيل، سواءً على المستوى الفرديّ أو الجماعيّ. ومظاهر هذا الارتباك واضحة للعيان، وتتلمسها في هذا المجلس أو تلك العبارة. ويزيد من تفاقمها الحضور - المتهور- للتيار الجهاديّ، وتراجع الدعوة التربويّة على المستوى الجماهيريّ العام أمام هجمات التغريب والعلمنة، وضعف مشروعها أمام نفوذ ونجاح خصومها.
10- جال دعوة وحسبة ودولة:
من المفارقات، التي قد تفسرها الضغوط المتتالية من الخصوم، والشعور بالهزيمة مع الفراغ القياديّ، لكنها لا تبررها أبداً، إصرار الجميع على الخوض في قضايا الشأن العام. فأصبحت كوادر الدعوة على مختلف مستوياتها تشعر بالأزمة وتبادر -على سجيتها- للمساهمة في الحل. وأحياناً تجد من يؤيدها باعتبار الحاجة لتفعيل الطاقات. وهذا مظهر من مظاهر الأزمة، وعامل من العوامل الخطيرة لتفاقمها. فالدولة وشؤونها والتعاطي مع رجالها ومؤسساتها تحتاج عناصر منتقاة ومؤهلة بعناية.
11- صناعة المواهب ثم تكبيلها:
وهذه مأساة بحد ذاتها، حين ترى المواهب الفرديّة المتعدّدة التي تزخر بها الساحة الدعويّة ثم لا تتمكن من استثمارها وتنميتها، ولا تتمكن من إيجاد فرص ومشاريع وبرامج دعويّة تنطلق من ملكات وقدرات هذه المواهب وتستوعبها. والسبب هو التحفظ التقليديّ عند صاحب القرار الدعويّ على بعض هذه المواهب وأفكارها المتعدية. وهذا في تقديري هو الفشل بعينه. فالنجاح هو في كسب هذه النماذج وحسن الاستماع لها، واستمرار قناعتها بالمشروع الدعويّ وتفاعلها معه، وليس افتعال مشكلة معها، والتضييق عليها حتى تهرب بعيداً عنا. والموهوبون بطبعهم مشاكسون، والحل الأسهل لمشكلتهم عند المسؤول التقليدي يكمن في التخلص منهم، والإبقاء على المسالمين الطيّعين. في حين أننا نردّد كثيراً أهمية تربية القادة وليس الأتباع، ولا أدري كيف نصنع القادة من الطيّعين!؟.
12- مَنْ يقيّم مَنْ؟:
وهذه معضلة مزمنة مرتبطة بالقضية السابقة ومسبّبة لها، أسهمت في خسارة الدعوة للعديد من الشخصيات المبدعة والمؤثرة. وما لم يتم علاجها بأسرع وقت فسيستمر الهدر. ومردها في تقديري (شخصنة) التقويم بدلاً من (منهجته) وموضوعيته، والذي ينشأ بطبيعة الحال عن إطالة مدة المسؤول وعدم إشعاره بمتابعته هو أيضاً. وكل ذلك ينشأ بسبب انغلاق العمل الدعويّ جزئياً أو كلياً. والحل الحقيقي يتمثل في انفتاح العمل ما أمكن، لكن بشرط (مأسسة) هذا العمل، ووضع الضوابط الدقيقة له، وتقليل الحظوظ النفسيّة والعيوب البشريّة من خلال فرق العمل المترابطة والأنظمة المؤسساتيّة الشوريّة حقاً وواقعاً، لا ظاهراً وشكلاً عبر مؤسسات صوريّة تكرس الفرديّة أو الشلليّة.
13- تضخيم المسؤولية الفرديّة، ونسيان المسؤوليّة الجماعيّة:
ومع المثالية العالية في التعامل مع الأفراد، ونقص المراعاة لظروف الزمان والمكان التي يعيشها الناس اليوم، نجد التضخيم الزائد لمسؤولية الأفراد عن الأزمة القائمة، والحديث المتكررعن الأخطاء والمعاصي الفرديّة ومظاهر الضعف والقصور والفتور والتغيّر والتحوّل و...، إلى ما هنالك من هذه المفردات. لكننا لا نجد أبداً أي إشارة للأخطاء الجماعيّة التي يتحملها الجميع دون استثناء، ولا نجد الحديث عن مسؤوليّة الرموز والقيادات العلميّة والفكريّة، أو التنفيذيّة وما تتحمّله من تبعة مباشرة عما آلت إليه الأمور الدعويّة مؤخراً.
والحقيقة البشريّة الثابتة، تؤكد أن عطاء الأفراد وجهودهم وتضحياتهم ترتكز بشكل كبير على البيئة العمليّة الجماعيّة التي توفر لهم أجواء البذل والتفاعل والسعي المتواصل. والضعف الذي يعتريهم مع توفر هذه البيئة يتحملون هم مسؤوليته بالكامل، ولكن عند تفكك وضعف هذه البيئة يصبح تحميلهم المسؤوليّة دون غيرهم نوعاً من التعدّي والجفاء.
ومن الجانب الآخر، فلو أدرك هؤلاء الأفراد طبيعة هذه الرسالة، وطبيعة الدور المطلوب منهم ومن القادة والرموز، لما قبلوا هذا الواقع المتأزّم ولطالبوا بالحركة والمدافعة. بل سيكون من حقهم لو طالبوا - بالوسيلة الشرعيّة الصحيحة - بتغيير القيادات البطيئة المتردّدة إلى الفعّالة المتحركة، فلا مُحاباة في هذه الرسالة كما تقضي بذلك أدبيات الدعوة. وحيث لم يحصل شيء من ذلك فلا بدّ أن نتساءل عن نتائج المسيرة الدعويّة من أصلها.
توصيف الأزمة:
مما سبق يتضح أن الأزمة متعدّدة الجوانب والأطراف، ومن الخطأ حصرها في جانب واحد أو مظهر واحد. غير أن السّمة الغالبة التي نستطيع تلمّسها في كل المظاهر السابقة، ويحق لنا وصف الأزمة كلها بها دون تردّد، هي سمة الأخطاء الإداريّة والقياديّة والجماعيّة العامة.
والحلّ الحقيقي لها ينبغي أن يكون إدارياً، ولا يمكن أن تنجح الحلول بدون هذا المحور.
=============(5/342)
(5/343)
لماذا نخافُ النّقد؟
محمد صلاح الدين 2/7/1425
18/08/2004
إنّ النقد كمفهوم معاصر، هو في مصطلحنا الإسلاميّ وثقافتنا الشّرعيّة، جزء من مفهوم أكبر وأشمل وأكرم هو الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي جعله الله عزّ وجل رسالة الأمة، ومناط فلاحها وذلك في قوله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104] .
لكم مشكلة هذه المفاهيم العصريّة، التي جلبتها إلى مجتمعاتنا الإسلاميّة موجات الاستغراب والتغريب، وأفسحت لها في ثقافتنا ظروف الهزيمة والانحطاط، إنّها تظلّ (مهما طال أمد مكوثها في مجتمعاتنا) مبتوتة الصّلة بمرجعيّة الوحي والنّبوة، شديدة الانفصام عن منهج الشّرع ومقاصده وآدابه، وهي بكل ذلك محرومة من عمق الامتثال لأمر الله عزّ وجل في ضمير المرء المسلم.
لا جرم إذن أنْ تشيع لهذه المفاهيم صور نمطيّة مشوّهة تجعلها أقرب إلى السلب منها إلى الإيجاب، وتقدّمها على أنّها وسيلة للهدم وليس للبناء، بل وأنْ تُستخدم بهذا المعنى السلبيّ في كثير من الأحيان.
كيف يمكن تغيير هذه الصورة النمطية؟! لا بدّ من الاتفاق أولاً على أنّ استيراد المفاهيم والمصطلحات من ثقافات أجنبيّة، واقتباس القيم من مجتمعات وموروثات غربيّة، عمليّة فاشلة في أيّ مجتمع عربيّ مسلم؛ لأنّ هذه المفاهيم والقيم المستوردة، ستظلّ نوعًا من الترف والثقافة النخبويّة، المحصورة في الفئة، ومن ثم فهي تبقى مبتوتة الصّلة بسواد الناس، وتظلّ عرضة للتشويه والصور النمطيّة والممارسات السّلبيّة.
إنّ القيم الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة هي تعبير عن هُوِيّة المجتمع وذاتيّته، لا يمكن أنْ تنبع من جوهر معتقداته الدينيّة وعمق موروثة الثقافيّ، كما لا يمكن أنْ تصبح جزءًا من فكره وسلوكه إلا من خلال ممارسته العمليّة، وإلا فستظلّ طافية على السطح دون جذور عميقة، معرّضة دومًا للتشويه والعبث والاقتلاع.
لا سبيل إذن لتغيير الصور النمطية السّلبيّة للنقد والمساءلة في مجتمعاتنا المسلمة، وترشيد ممارسته وتعميق مفاهيمه، إلا بالعودة الصادقة لمصطلحاتنا الإسلاميّة ومفاهيمنا القرآنيّة والالتزام بأمر الله إلى كل أجيال المؤمنين إلى يوم الدّين (...وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)[آل عمران: من الآية79]
ليس من شك أنّ الخوف من النقد إنّما هو نتاج عوامل ذاتيّة داخل الفرد نفسه؛ فالإنسان بطبعه يرتاح للثناء والإطراء وينفر من النّقد وتعداد العيوب والأخطاء، كما أنّ كراهية النّقد والنّفور من أهله هو نتاج البيئة المحيطة بالأفراد، وأنّ العاملين يتكاملان في زرع هذا الخوف من ممارسة النقد في قلوب الناس ويحولان دون تقبله.
ومن هنا اتّجهت نصوص الكتاب والسّنة الشّريفة، وفروض الدين إلى توطئة أكتف الناس مجتمعًا وأفرادًا للجهر بالحقّ وتقبل تكاليف، وجَعَلَ الإسلامُ الأمرَ بالمعروف والنّهي عن المنكر، أي النقد المرتبط بمرجعيّة الوحي والنّبوة الملتزم بمقاصد الشريعة ومنهجها وآدابها المنطلق من خلوص النيّة وابتغاء وجه الله والدار الآخرة، مهمّة الأمة وواجب كل مسلم ومسلمة.
ومن هنا أقسم المولى عز وجل بالنفس اللوّامة، تكريمًا للنفس الناقدة التي تزن أعمالها وتعترف بتقصيرها وأخطائها وتقيم على الدوام وتقوم سلوكها.
ولقد عاب الله على بني إسرائيل اختفاء التناهي عن المنكر بينهم، ولعنهم سبحانه ذلك في قول الحق عز وجل :(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78و 79].
كما ندّد المولى عز وجل بخلوّ مجتمعات سابقة من إنكار الفساد وجعل ذلك سببًا لهلاكهم في قوله سبحانه (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود:116]
وليس من شك أنّ البيئة المحيطة بالمرء هي العامل الأكثر تأثيرًا في صياغة نفسيته وتشكيل مواقفه، وذلك أرجع القرآن الكريم سجود ملكة بلقيس للشمس من دون الله رجاحة عقلها واكتمال رأيها إلى البيئة التي نشأت فيها، وذلك في قوله عز وجل: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) [النمل:43].(5/344)
إنّ أبرز ما تعتزّ به الديمقراطيّات المعاصرة، أنّها تؤسّس ما يسمّى "بالمجتمع المفتوح"، أي المجتمع الشديد الشّفافية الذي يقوم على الحِوار، وتتوفر فيه للناس جميعًا حرّية النّقد والمساءلة، وليس ينكر عاقل منصف أنّ القرآن الكريم قد أقام في مجتمع النّبوة الأول، أكرم مثال عرفه العالم للمجتمع المفتوح، وأنبل تطبيق شهدته الإنسانيّة لحقّ المساءلة والنّقد وأرشد ممارسة لحرّية الرّأي.
وأكتفي في هذا المقام بنماذج ثلاثة من الكتاب العزيز.
أوّلها- من سورة النساء حيث أقدم أحد الأنصار وهو عبد الله بن الأبيرق على سرقة درع لأحد المهاجرين، ثم تحايل لإلصاق التّهمة بيهوديّ، واستعان ببني قومه الذين ذهبوا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه مؤكّدين أنّ الرّجل من صالح المؤمنين، وأنّهم يبرّئونه من السّرقة، وقد تقبّل المصطفى صلوات الله وسلامه عليه شهادتهم وأدان اليهوديّ بالسرقة.
وتنزل الوحي ببراءة اليهوديّ، وعتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتنديد بما فعله السارق وقومه من ادّعاء بالباطل، واتّهام لليهود بغير الحقّ، والدّفاع عن السارق، وهو الخوّان الأثيم.
الأنموذج الثاني- من سورة الأنفال، لمّا تقبّل المصطفى صلوات الله وسلامه عليه رأي القائلين بقبول الفداء من أسرى بدر، فتنزّل العتاب الربانيّ الشديد للجميع (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [لأنفال:67و68]
الأنموذج الثالث- من سورة النور عن قصة الإفك الذي تناول أم المؤمنين عائشة ومس بيت النّبوة فتنزّل الوحي الإلهيّ بالتّقريع لأصحاب الإفك، والعتاب الشديد لجماعة المؤمنين، وتلقينهم ما يجب أنْ يكونوا عليه من حُسن الظنّ وأدب التثبّت قبل أنْ يُطلقوا ألسنتهم بما لا يعلمون.
لقد أرادت آيات الوحي الإلهيّ تأكيد شفافيّة المجتمع النبويّ، وتعليم الأمّة أنّه لا يوجد أحد هو فوق المساءلة أو أكبر من النقد، وأنّ هذه الوقائع المؤسفة ستكون خبرًا لهم إذا تعلّموا دروسها واستوعبوا العِبرة منها.
واجب المؤسّسات الدينيّة والتربويّة والإعلاميّة والرسميّة أنْ تقدّم للناس الصورة المُثلى للنّقد المنطلق من خلوص النيّة الملتزم بأدب الخِطاب المبتغي وجه الله والدّار الآخرة، وأنْ تكون هي خير قدوة في الشّفافية وممارسة النّقد الذاتيّ وتقبّله، وتعميق كّل ما أوضحه الشّرع من آدابه ومقاصده، والله وليّ التّوفيق.
============(5/345)
(5/346)
مُحاوَلةُ احتلالِ العقلِ المسلمِ
عباس المناصرة 19/6/1425
05/08/2004
جاءت الدّولة العثمانيّة بعد حالة الانحطاط والإنهاك العام الذي أصاب المجتمع الإسلامي، وكانت أهمّ فضائل الدولة العثمانيّة أنها جمعت الوطن العربي في كيان موحّد، بعد أنْ مزّقته دول العسكر المنشقة عن الدولة العباسيّة، كما أنها حمت الوطن العربيّ لعدّة قرون من محاولات التمدّد والانفجار السّكاني الاستيطانيّ الأوروبي، الذي ألقى بثِقْله الاستيطاني إلى البلاد الجديدة المكتشفة ( أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا وجنوب أفريقيا) إلا أنّ الطبيعة العسكريّة للدولة العثمانيّة جعلها تهمل البناء الحضاريّ والعلميّ والثقافيّ حتى وصل في أواخر أيامها إلى مرحلة التخلّف والفقر والأميّة التي عزلت المسلمين عن اللغة العربيّة، وعن مرجعيّتهم الفكريّة (القرآن والسنة) كما أنها أنهكت قوى المجتمع الإسلاميّ البشرية والماديّة، وامتصتها لصالح الجيش العثمانّي وحروبه الخارجيّة، والأغرب من ذلك أنّ هذه الدّولة في قرنها الأخير، لم تكن تشعر بأدنى مسؤوليّة تجاه مواطنيها؛ فأهملت الأمن، والعدل، والعلم، والثقافة، والمرافق، والخدمات وتركتهم تحت ظلم الولاة ونظام الالتزام، وتعاملت مع المواطنين كالبقرة الحلوب التي تدرّ لها (الجنود والمال والإنتاج) الذي يغذّي جيشها، وهكذا جنت الدولة العثمانيّة على نفسها وعلى المجتمع الإسلاميّ حين شاخت، ومرضت وأمرضت معها المجتمع الإسلاميّ بكامله، وجعلته لقمة سائغة أمام الاستعمار الأوروبيّ، الذي كان يتربّص بها الدوائر، وينتظر لحظات انهيارها.
وهكذا أفاق العقل المسلم بعد الاحتلال المغوليّ والصليبيّ على احتلال جديد من خلال طلائعه الثقافيّة التي تسبق جيوشه لتعهد إلى احتلال الأوطان والأدمغة معاً.
( فمنذ أواسط القرن الثامن عشر الميلاديّ والعالم الإسلاميّ كله مُخَلّع النوافذ والأبواب في وجه الفكر الغربيّ والنهج الغربيّ والثقافة الغربيّة، والعلم الغربيّ والحضارة الغربيّة والفنون والآداب والتقاليد الغربيّة بدرجات متفاوتة، فمنذ أنْ بدأ الغربيّون ينشئون كنائسهم التنصيريّة وبجوارها أو بداخلها مدارسهم التعليميّة في بيروت والقاهرة وبغداد والموصل والإسكندريّة واسطنبول وغيرها من حواضر المسلمين، والحصون الفكريّة والثقافيّة الإسلاميّة المتبقّية لدى هذه الأمة تتهاوى واحدًا بعد الآخر، والأجيال المسلمة تتعرض لعمليّة استلاب فكريّ وثقافيّ هائل، انتهت بأنْ أصبحت جميع معارفنا النظريّة غربيّة مائة بالمائة في قالب وإطار غربيّين! وقد شمل ذلك الفكر، والمنهج، والمصدر، والفلسفة المعرفيّة: موضوعاتها، وأهدافها، وغاياتها... وأصبحت الشخصيّة الإسلاميّة مائعة الملامح؛ لأنّ رؤيتنا للحياة أصبحت تشكّل من خلال نظريّات: علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم التربية، والنظريات السياسية، والتشريعات، والنظريات النقدية، كما صنعها العقل الغربيّ في بيئاته وخصوصيّاته وأمراضه.
فأصبحنا نعيش حالة من الانفصام النّكد، نفكّر ونحلّل بطريقة غربيّة، ونعبد الله على الطريقة الإسلاميّة. أصابنا الذهول والانبهار، ومارسنا الانفتاح حتى الانبطاح، ولم نميّز حكمتنا من فلسفة غيرنا، رمينا بمرجعيّة الحكمة، وأخذنا بمرجعيّة الفلسفة، فأخذت تشكل لنا عقولَنا وأذواقَنا وشرائعَنا، وأصبحت عقولنا مناطق نفوذ للثقافة الغربيّة، كما هو حال أوطاننا، لقد وصف شاعر كبير حال الأمة بقوله:
1- لقد أصبحوا حانة الأجنبيّ يضاجعهم
في خلايا الدّماغ.
2- أمامكَ رومٌ وخلفكَ روم
وفي الجنبِ روم
وفي كتبِ الجامعاتِ
وفي أسرّة زوجاتِنا والبنات
وقد حقق الغرب هذا كله في مرحلة الاستعمار والتّبعيّة، أما الآن وفي عهد الاستعمار الجميل (العولمة) فهو لا يرضى منا بالانفتاح الذي حقّق له احتلال الأوطان والأدمغة، بل يريد استكمال المعركة مع آخر حصون العقل المسلم وهي القلوب؛ ليفرّغها من المشاعر المضادّة والمُعادية له، وليملأها بقبول الكفر والإثم عن رضا وتسليم؛ لأنه لا يأمن على وجوده في الأوطان والأدمغة، وقلوبنا تلعنه في الصباح والمساء.
هو يريد منا تفريغ هذه المشاعر من قلوبنا واستبدالها ( بمتعة التّلذّذ بالتبعيّة) الكاملة والذوبان الكامل في حضارته، حتى يمضغنا ويتمثّلنا كغذاء جديد لذلك العقل الفلسفيّ الكافر، كما هضم المسيحيّة من قبل ،وتمثلها وجرّدها من حقائق التوحيد التي لا تناسبه، قال تعالى : ()وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) [البقرة: 120]
لقد زُيّن مصطلح الانفتاح في مرحلة الاستعمار والتبعيّة من قبل دعاته المبهورين، فربطوه بالمرونة والوعي والعلم والتبادل الحضاريّ، مع أنّه لم يحقّق للأمة سوى التضليل الذي جعلها تقبل بالاستلاب، لأنّه في الأصل انفتاح قسريّ إجباريّ.(5/347)
واتّضح لنا أنّ الانفتاح كان مصطلحًا عائمًا ومضللاً لم يخدم الأمّة، ولم يُبَصّرها بعواقب القبول بثقافة عدوّها، لأنّه فُرِض على الأمّة قسرًا ، ورغم كل الشروط التي حاولت أنْ تُقنّن له، أو تضبطه، إلا أنّه لم يُستثمر إلا استثمارًا سلبيًّا في تغريب الأمّة ومحاولة اقتلاعها من جذورها.
وتبيّن أنّه لم يعد مصطلحًا سليمًا، ولا دقيقًا في وصف علاقتنا مع الآخرين، ولذلك نحن بحاجة إلى إهماله وتجاوزه واستبداله بمصطلح جديد، يكون أكثر دقة في تبصير الأمة وهدايتها في التعامل مع الآخرين.
ونرى أنّ مصطلح الامتصاص أو (امتصاص الخبرة) أكثر دقّة منه في تبصير الأمّة، وحمايتها من حالة الاستغفال التي وُضع لها مصطلح الانفتاح.
ولا تزال ألسنة منا تلوك مصطلح الانفتاح بعلم أو بجهل وتسوّقه، وتحاول أنْ تستر عورته بآية أو حديث، وكم ظُلم الحديث الشّريف "الحكمة ضالّة المؤمن" رواه الترمذي وابن ماجة . وهو يكرّر من تلك الألسنة، ليدفع بالأمة إلى قبول ثقافة الاستعمار والتبعيّة، ومع أنّه كلمة حق، إلا أنّه أُريد به خدمة الباطل وأهله.
تحت الرّكام
وهكذا شكّلت الهجمات الثقافيّة التي وقعت في العصر العباسيّ، والهجمات العسكريّة (الحروب الصليبيّة وهجوم التّتار) وعصور الانحطاط، وما تبعها من هجمات ثقافيّة وعسكريّة للاستعمار الأوروبيّ والصهيونيّ في العصر الحديث، مجموعة من الانهيارات والأثقال والعقبات والمثبّطات والأشواك التي ينوء تحتها العقل المسلم، بل إنّ هذا العقل يعيش تحت رُكام كثيف من هذه المرجعيّات المخالفة، ومن أمشاج الثّقافات المعادية التي ألغت تميّزه، وحجبت عنه نور الحياة الإسلاميّة الصّحيحة.
أما الجانب الثقافّي والنقديّ - وهو موضوع اهتمامنا- فقد نشأ النقد العربّي في العصر العباسيّ تحت مرجعيّة واحدة تحكمت في خطوطه العريضة وتأسيس مقولاته، وهي عائدة للعقل الفلسفيّ، عندما اخترق العقل المسلم مرّتين: الأولى في العصر العباسي، والمرة الثانية في عصر الاستعمار والتبعيّة والانفتاح، ومعنى ذلك أنّه في المرتين خضع لمؤثرات الثقافة الأوروبيّة: الثقافة اليونارومانيّة (اليونانيّة الرومانيّة) والثقافة الأوروبيّة الحديثة.
هل معنى هذا أن نغلق أبواب عقولنا نندب حظّنا؟ لا، ليس هذا ما نقصده، ولكنّ السؤال الجادّ الذي يجب أنْ نشغل أنفسنا في البحث عن إجابته، هو كيف ننتشل هذا العقل من وسط الركام الذي يكاد يغرقه ويفسده؟ حتى ينفض عن نفسه هذا الركام ويعود إلى مرجعيّته وتميّزه من جديد.
تفكيك الركام:
أ-في البداية دعونا نفكرْ في طبيعة هذا الرّكام الذي يغمر عقولنا ذواتنا؛ لنتعرف على تجرِبة عدوّنا، من خلال مناهج عقله، فنعرف كيف يفكر هذا العدو؟ حتى نستطيع أنْ نفكّك هذا الرّكام عن وعينا.
وأظنّ أنّ النجاح في هذه المهمة سيتم - بإذن الله- إذا حقّقنا بعض الشروط الموضوعيّة، ومنها: ألا يدفعنا الاستعجال إلى النّهضة إلى التمسّك بالنهضة الموهومة التي تصنعها ثقافة الاستلاب والتبعيّة، وألا يقع في رُوعنا خوف من حصول فراغ علميّ إنْ نحن أوقفنا التعامل مع تلك الثّقافة، وأنْ نتأكّد من رغبتنا في العودة إلى مرجعيّتنا، والإيمان بها والانتماء الحقيقيّ لها، وأنْ نتخلّص من عُقدة الانبهار بالغالب؛ لأنّ المبهور محبٌّ أعمى، لا يملك التّمييز بين حكمته وفلسفة غيره، قا صلى الله عليه وسلم :"حبّك الشيء يُعْمي ويُصِمّ" رواه أبو داود وأحمد.
وبعد هذا يمكننا أنْ نوجز الخطوط العريضة لثقافة عدوّنا، من خلال التعرّف على فكره ومرجعيّته، التي تتحكم في تكوين عقله الفلسفيّ الحرّ، والتي يمكن أنْ نلخّصها من خلال المسار التالي:
1-العقل الفلسفيّ هو عقل الإنسان الكافر، الذي يتّكل على نفسه وقدراته الإنسانيّة، ويرفض أنْ يأخذ بمرجعيّة الوحي، ويعتبر عقله المرجعيّة الأولى والأخيرة في تفسير الحياة.
فهو عقل علمانيّ (دنيويّ) تكوّن من الخبرات التراكميّة للثقافة الأوروبيّة (الفلسفة اليونانيّة، والثقافة الرومانيّة، والمسيحيّة التي هضمها الفكر الروماني وأعاد تمثّلها بما يتناسب مع وثنيّته، بعد أنْ أفرغها من عقائد التوحيد، والفلسفات الأوروبيّة الحديثة التي عاصرت الثورة الصناعيّة أو ظهرت بعدها إلى عصرنا، والتي يمكن اختزالها في الثالوث المعاصر: ( العلمانيّة: الديمقراطيّة، العولمة) وما يتبعها من أنظمة اقتصاديّة كالرأسماليّة والاشتراكيّة.
2-ينظر العقل الفلسفيّ إلى الأُلوهيّة نظْرة المنكر أو المهمل لها، ويعتبرها من صناعة عقل الإنسان ووهمه، ويفسر ذلك من خلال نظريّة (الطوطم وتطوّر الأديان) وهو في أحسن الأحوال يعتبرها قضيّة فرديّة غير ملزمة للمجتمع، وعندهم من يقول: إنّ الله خلق الكون، ولم يعد يكترث له.(5/348)
3-هو عقل يعتمد على الفرضيّات واختبارها، ولا يؤمن إلا بالمحسوس، فإذا عجز عن التفسير لجأ إلى أسلوب الإهمال أو الإنكار، وهكذا أنكرت الفلسفات الماديّة عالم الغيب؛ لأنّها عجزت عن تفسيره، ويأتي تعريف (اليونسكو) للمعرفة ليؤكّد ذلك بقوله: ( المعرفة كل علم معلوم خضع للحس والتجربة) وغيره يعتبره من عالم الخُرافات.
4-عقيدة العقل الفلسفيّ الكافر: هي عقيدة الحريّة المطلقة للإنسان، ولذلك هو عقل متقلب ملول، لا يقرّ له قَرار، ولا يؤمن بالثوابت ويجمع بين (العلمي والرمزي والخرافي) ويؤمن بالإشباع الحرّ لحاجات الإنسان، دون شروط إلا ما اختاره الإنسان لنفسه. ويؤمن بالغلبة والقوّة والصّراع من أجل تحقيق هذا الإشباع ليس له كابح سوى إشباع رغائبه وهوى نفسه
===============(5/349)
(5/350)
البرامج المعربة وصناعة نجوم الضياع
ماجد بن عبد الرحمن الفريان * 25/1/1425
16/03/2004
إن من أبرز مراكز التحدي التي تواجه الأمة بمكوناتها الحضارية، ما أتيح لها في هذه الأزمنة المتأخرة من تقنية البث الفضائي، وهو في حقيقته نعمة لو استغل في الخير، ولكنَّ نظرةً سريعة في تحركات هذه الفضائيات يتيح لنا معرفةً واضحةً لحقيقة الاتجاه الذي تسير فيه، وهو اتجاه يصطدم في جانب كبير منه مع توجهات الأمة، وقيمها، وثوابتها، ولو لم توقظ في ضميرك إلا خلية واحدة لاكتشفت أن كثيرًا مما يبث عبر الفضاء العربي إنما هو تأكيد للتفاهة، وتكريس للتبعية للغرب، وقد كنا نظن أن الغزو الثقافي سيأتي على يد غيرنا من أعدائنا الذين يتربصون بنا في الخارج، وإذا نحن نفاجأ -مع كل أسف- بما لم يكن في الحسبان، وهو أن التسابق في عالم الإفساد بما فيه إفساد القيم والأخلاق جاء من قنوات عربية صرفة!!، ولا أدل على ذلك من هذه الموجة العارمة من البرامج الغربية المعرّبة والتي تهدف كما يقولون إلى صناعة النجوم، وتنسب إلى تلفزيون الواقع، والتي لا تحتاج إلى إعداد، ولا تحضير، وإنما تعتمد اعتمادًا كليًّا على مخاطبة الغرائز، والعواطف، واستنهاض الفضول لدى المشاهد، وذلك من خلال تسليط البث على لحظات اختلاء محرم بين رجال ونساءٍ يجمعهم صفة التفاهة، وعدم البراءة، يقوم اجتماعهم من أوله إلى آخره على الفوضى الأخلاقية، والتحلل من روابط الإسلام، والقيم والعادات والتقاليد التي نشأت وتربت المجتمعات العربية عليها، ثم وضعوا أرقامًا للهواتف ليتصل بهم الشباب، والشابات ليصوتوا على أفضل نموذج من هؤلاء النجوم في عالم الضياع، وهذا أمر مهم جدًّا عند صاحب القناة لأنه يحقق له الهدف الآخر من هذه البرامج، وهو المال.
الأهداف من وراء هذه البرامج:
أول ما يجب أن نعرفه هو أن هذه البرامج لا علاقة لها من ناحية الأهداف لا بصناعة النجوم، ولا باكتشاف المواهب، ولا غير ذلك، وليس لها إلا هدفان رئيسان عند من يقوم بعرضها وتسويقها:
الهدف الأول: لا أجد في بيانه عبارة أبلغ، ولا أروع، ولا أخصر من عبارة القرآن، وهو: إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، إن الإنسان لو أعمل ذرة واحدة من عقله لاكتشف أن الهدف الرئيسي من هذه البرامج هو إشاعة الفاحشة في المؤمنين، وإرادة الميل لأمة سارت في منهجها على صراط مستقيم، وليس شيءٌ أدل على ذلك من مناخ الاختلاط بين أولئك الشباب الذي حرصت عليه هذه القنوات، ثم تشجيعُهم على التفاعل البيني، وكسر الحواجز، ثم يضيفون على ذلك الملابس الفاتنة للفتيات، مع التشجيع وغض الطرف عن حالات الالتماس الصريح بين هؤلاء المختلطين، بالضم، والقبلات، والنظرات، والغمزات، والضحكات.. ثم النقل الفضائي الموجه على مدار الساعة، وهذه الأمور لا تدع مجالاً للشك في أن الأمر ما هو إلا إشاعة للفاحشة في الذين آمنوا، وليس هناك أهداف مجردة، وإنما هو مشروع تقويضي لمكتسبات الأمة يمثل فيها أولئك الشباب المشارك الطُّعمَ، والشباب المشاهد الهدف.
الهدف الثاني: تحقيق المكاسب المالية الكبيرة، والسريعة بأعمال غير مكلفة دنيويًّا، وإن كانت تكلفهم كثيرًا عندما يقفون عند رب عظيم نهى عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وضاعف العقوبة على دعاة الضلال.
وأما كيف يحققون هذه المكاسب؟ فعن طريق فتح اعتماد خطوط الهاتف في كل دولة والحصول على الأرقام، وبعدها يتم اقتسام عوائد المكالمات بين فاتح اعتماد الخط وهو القناة، وبين مقدم الخط وهو شركة الاتصالات، وهكذا تفنن أصحاب هذه الفضائيات في الطريقة التي ينظفون بها جيوب الجمهور، ولا عزاء للمتصلين المغفلين والذين يدفعون فواتير هواتفهم لهذه القنوات.
والذي يدلك على صحة هذه الكلام الحرص المستميت من هذه القنوات أن توجد أفرادًا من كل الدول ليناصر التافهون من كل دولة صاحبهم وتضمن أكبر عدد ممكن من الاتصالات التي تعود عليها بالربح الوفير.
إن ما نشهده اليوم من الولادات المتتالية لأمثال هذه البرامج، في وقت تشهد الأمة فيه مواجهة تاريخية مع أعدائها، يعتبر دليلاً صارخًا على خيانةٍ جليةٍ من بعض القائمين على هذه الفضائيات، وما هي إلا طعنة غادرة، توجه للشعوب العربية من الخلف، وإذا كان اليهود يعبدون المال ويتاجرون في المحرمات دون اهتمام بالمتضررين ولو كانوا من أهلهم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر كما في الصحيحين أن في الأمة المحمدية من سيتشبه بأهل الكتاب في كل شيء، حتى ولو كان العقلاء يتنزهون منه، بل حتى ولو ترك الآدميون من أهل الكتاب بيوتهم العامرة، وقصورهم الفارهة، وسكنوا جحر ضب لوجد في أمة محمد من يحاكيهم في سكنى جحر الضب، بل قا صلى الله عليه وسلم في رواية الحاكم "وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه" وما هذه البرامج الهابطة إلا مصداقًا لما أخبر به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وهي محض تقليد مقيت للإعلام الغربي، والذي يشتكي منه عقلاؤهم ومفكروهم فكيف بأمة الفضيلة والعفاف.
مخاطر هذه البرامج:(5/351)
أولاً: إن هذه الفضائيات غزت كثيرًا من البيوت، وهذه البرامج اكتسبت من المشاهدين من الجنسين شيئًا كبيرًا، فوجب التحذير منها، ذلك أنها مدار الحديث عند كثير من الشباب، وجمع غفير من الفتيات؛ بل إن الكثير من المعلمات والمديرات والمسؤولات يعانين من هذه الظاهرة المنتشرة بين الطالبات، وكل واحدة تروي القصص الكثيرة عن الطالبات، ولذا وجب التنبيه والتحذير.
ثانيًا : هذه البرامج تعتمد على أسلوب سحق الفضيلة والأخلاق الكريمة في نفوس الشباب والبنات، وتهدم المفاهيم الصحيحة عندهم، وتزيل حاجز النفرة بين المرأة والرجل الأجنبي عنها، وهي تختزن رسالة إعلامية موجهة بعناية، وهدفها الرئيس تنمية الاندماج بين الجنسين، وإشعار النشء أن لا إشكال في بناء العلاقات والصداقات بين الجنسين، وأن قضية تحسس الفتيات من الفتيان وطقوس الفصل بين الجنسين، والحدود في علاقاتهم هي أمور لا صحة لها، ومع كثرة مشاهدة الشباب والفتيات لهذه الرسالة الإعلامية الخطيرة يألفونها، ثم قليلاً قليلاً يعتاد المشاهدون على رؤية الحرام, ويعايشونه لحظة بلحظة، ورويدًا رويدًا حتى يعتادوا العيش بنفس الطريقة التي تقدم لهم، وهم بهذه الطريقة السافلة يجعلون الشباب والفتيات يقولون في أنفسهم: كل هذه القبل، والرقصات، والضم، والاختلاء الآثم والمشاهد الفضائحية على مرأى ومسمع من العالم أجمع وعلى الهواء مباشرة .. ومع هذا يصوت الناس لهم ويشجعهونهم فما بالنا نحن لا نفعل مثلهم ولو سرًّا؟ لماذا لا نقلد حياتهم الرومانسية!?، وهكذا يسعون لتتفيه الشباب وتفسيقهم، والفتاة تتعلم أصول العهر والفجور بالمجان، وعلى الهواء مباشرة، وهكذا تنحر كل فضيلة في المجتمع، ولا يبقى من القيم والمثل الكريمة إلا الشعارات الجوفاء، يقدم هذا وبمساعدة من بعض الآباء لمجتمعٍ يعلِّم بنياته منذ نعومة أظفارهن أن نظر الرجل إلى المرأة وخلوته بها حرام، ثم ترى هذه البنت المسكينة هذا السيل الجارف من الفساد !!
ثالثًا: تعتمد هذه البرامج على أسلوب التتفيه والتخدير لطاقاتٍ تستطيع بالإيمان أن تعمل الكثير، وتسعى لتغييب عقول بهدايتها تنفع مجتمعها الكثير، وأي جيل سيتخرج لنا في المستقبل إذا ربيناه على الليالي الحمراء، وعودناه على مسابقات الرقة، ونجومية التعري؟!!، كيف يراد لهذا الجيل أن يحرر الأقصى.. وأن يطرد الغزاة؟!!
إن هذه الفضائيات تربي شبابنا وفتياتنا ليكونوا قنواتٍ لعبور العدو، وأدواتٍ لخدمته، تريد أن تخرج تافهين يشتاقون لمن يمسك بخطامهم، لن يناصروا قضية، ولن يطلبوا حقًّا، ولن يحفظوا شرفًا ... سيتربى على مثل هذه البرامج حتمًا جيلٌ يسلم للعدو مفاتيح الحصون الأخيرة للإسلام ..ويرحب به في دياره وعند أهله وشرفه كما فعل أشياعهم من قبل!! جيل يدافع عن أمته بلبس الجلود، ومصاحبة العلوج، ويتترس بالكريمات والدهانات..ماذا ترجو منه؟!! ألا وا أسفا على الدين ..ووا أسفا على الرجولة إذا تركنا هذا العهر يدخل بيوتنا.
رابعًا: هذه البرامج تجعل هؤلاء النجوم قدوات يتأثر بها الشباب فتتخلخل المثل العليا عند أجيالنا، وهذا يحصل شئنا أم أبينا عند أبنائنا إذا شاهدوا قناة كاملة تنقل نقلاً مباشرًا لإقامة مختلطة لمجموعة من النساء وأشباه الرجال، وتنقل بالصوت والصورة سلوكهم الرخيص غير الهادف، وغير البريء، وأكلهم ونومهم وكل شيء في حياتهم، إلا في دورة المياه فتنقل صوتهم فقط، وهكذا كأنها في بنك مركزي تنتقل بين الغرف لتنقل تصرفاتهم، فإذا شاهد الإنسانُ الغرُّ هذه العناية بهؤلاء الأفراد سيظن أنهم جاؤوا من كوكب آخر، وأن لهم مزية تجعلهم يستحقون هذا، فيحاكونهم ويعجبون بهم، وهكذا ينشرون الفساد في المجتمعات، والشريط الإخباري أسفل الشاشة يعزز هذا الإفساد فهو يحمل رسائل غرام لا تقل مجونًا عما تحمله الكاميرا، وإذا كانت هذه البرامج تبث من أجل صنع النجوم؛ فمن حقنا أن نتساءل ما هذه النجومية التي يريدون؟ ما هي ميزة هؤلاء؟ هل حرروا بلدًا؟ أم اخترعوا برنامجًا يسهل معيشة الناس؟ أم اكتشفوا دواءً لمرض الإيدز أو السكر؟ أم هم علماء في الفلك أو الجيولوجيا؟ أم لهم ميزة في العلم والدعوة ؟ أم ماذا؟ ما هي نجوميتهم التي يسوَّق لها؟ هل يعقل أن تكون النجومية عند العرب والمسلمين محصورة في السخف وقلة الحياء؟ هل نحن في حاجة إلى زيادة نجوم الضياع؟ من حقنا أن نعرف! ومن حقنا أن نستنكر هذا التتفيه لعقول الشباب وهذا التسخيف لاهتماماتهم.
خامسًا:دعم بعض دوائر التوجيه في بعض البلدان العربية لمثل هذه البرامج لإشغال الشعوب عن قضاياها الحقيقية، شعوبٌ ومؤسسات تستنفر جهدها ووقتها ومالها.. لإنجاح مراهق أو مراهقة في الغناء, وفي إثبات أنه الأكثر (بسالةً) في الصمود حتى آخر السباق! وتحتفل البلاد التي يقترب (نجومها) من التصفيات, وتبدو كأنما تُهيئ نفسها لإطلاق قمرٍ فضائي في مداره, أو كأنها ستهدي للأمة قائدًا ربانيًّا، أو فاتحًا عظيمًا!(5/352)
مراهقون ومراهقات يرقصون على ضفاف نشرات الأخبار المثقلة بالاحتلالات والشهداء, وكلما سقط منهم واحد في التصفيات بكت عليه الأمة كما لم تبكِ سقوط بغداد!
سادسًاأنها كما تفسد الشباب مفسدتها أيضًا بالغة على الفتيات، وتقدَّم شيءٌ من ذلك لكني أنقل للقارئ الكريم رسالة فتاة وجهتها لكاتبٍ غيور قال في عنوان مقاله أنها تخنث الشباب فأبلغته؛ أن الفتيات أشد ضررًا... تقول: إنا فتاة أبلغ السابعة عشرة من عمري، استمعت من زميلاتي في الثانوية عن برنامج يعرضون فيه مجموعة من الفتيات والشباب يجلسون معًا في مكان واحد ليل نهار, وقالت لي صديقتي: يا فلانة أنت دائمًا تقولين ما أعرف أكلم شابًا.. ما أعرف كيف أبدأ معه.. أشعر برهبة من إقامة علاقة مع أحدهم.. والآن يا صديقتي تابعي هذا البرنامج لكي تتعلمي منه فنون العلاقات الشبابية..! ركزي في هذا البرنامج جيدًا لمدة يومين فقط، وستكتشفين أن الرهبة والخوف والحياء الذي يتملكك من إقامة علاقة مع الشباب ما هي إلا رهبة التخلف.. وما حياؤك إلا عبارة عن عقدة نفسية..! انتظرت أن أخرج من المدرسة بفارغ الصبر في ذلك اليوم, ولما وصلت البيت جلست ليس لي شغل سوى مشاهدة ما يحصل على الهواء مباشرة .. (ووصفت ما لا يليق ذكره ).. وأصبحت بعد أيام فقط من متابعتي لهم على الهواء أشعر بأنني فعلاً فتاة متخلفة ومحرومة من الحياة الرومانسية المليئة بالحب ودفء المشاعر.. ثم أصبحت أتمنى في كل لحظة أن أكون مكان أولئك الفتيات لأحظى بالجلوس ساعات طوال مع المشارك الفلاني في هذا البرنامج الرائع"، وتبين لها الوضع بحمد الله بعدما قرأت مقال هذا الكاتب الغيور جزاه الله خيرًا (1).
فتاة أخرى في الثانية عشر من عمرها صرخت في وجه أبيها تريد الزواج !! صدم الأب من ذلك !! فما الذي دفعها إلى هذا الفعل؟؟
إنه هذا البرنامج الذي تتابعه. . . .لقد كانت هذه الفتاة إحدى ضحايا هذه البرامج الرذيلة..
ووالله إن الإنسان ليحزن مما يرى من تفاعل الناس مع هذه البرامج . أكل هذا يحصل من أحفاد الصحابة؟ وأبناء المؤمنين ، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: « كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس »، وقالت: « لو رأى رسول الله من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد، كما منعت بنو إسرائيل نساءها». وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: « كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله ، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزنا كشفناه"، هذه هي مُثُل العفة والطهر والنقاء تُركت اليوم إلى غيرها، واستبدل شباب الإسلام وفتياته الذي هو أدني بالذي هو خير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
مدافعة هذه الظاهرة وعلاجها :
يتساءل البعض وما هو الحل؟ وكيف نوقف هذا الغزو الجارف والذي يدخل بيوتنا دون استئذان؟ والعلاج نذكره في النقاط التالية:
أولاً:الوعي بهذه الظواهر المؤلمة، ونتائجها، وأخطارها المؤلمة على أمة الإسلام.
ثانيًا:القيام بالواجب الشرعي بإنكار هذه المنكرات في أنفسنا وفي بيوتنا ومع من حولنا، إنها مسؤولية الأب مع أولاده، والأخ مع إخوانه، والطالب مع زملائه، والجار مع جيرانه.
ثالثًا: تنقية بيوتنا ومنازلنا منها، والحذر من استدراج الشيطان لنا باسم الثقافة والوعي، أو الغفلة عن أولادنا بحجة أن التربية لا تتحقق بالمنع والحجز، وأن الأصلح لهم أن يعرفوا الخير من الشر، فلا نحن حميناهم من المفاسد، ولا فقهناهم بالخير والشر.
نعم فكلنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته، لا بد أن نتقي الله فيمن تحت أيدينا، لا بد أن نعلم أنها أمانة عظيمة، تذكر يومًا تكون فيه في أمس الحاجة إلى مثقال ذرة من حسنة، فإذا بك تسأل عن أسباب فساد أبنائك وبناتك، يوم يتعلقون بك يوم القيامة ويأخذون بتلابيبك يقولون: يا رب لقد أضاع الأمانة، يا رب كان سببًا في انحرافنا، يا رب كان سببًا في ضياعنا، وذلك كله بسبب ما جلبته لهم من وسائل ترفيه وتسلية محرمة، وأنت ـ يا أيها الأب ـ لا تستطيع أن تدافع عن نفسك، فأقرب الناس لك هم خصماؤك، هم الذين يبحثون عن مثقال ذرة من حسنة ليأخذوها منك كي ينجوا من عذاب الله، فتلتفت يمينك فلا ترى إلا النار، وتلتفت شمالك فلا ترى إلا النار (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ، كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى، نَزَّاعَةً لِلشَّوَى) نسأل الله العافية
وأنتم أيها الشباب والشابات، اتقوا الله -تبارك وتعالى- واعتصموا بكتابه وبسنة نبيه، واعلموا أنكم مستهدفون من أعداء الأمة، وأن هدفكم في هذه الحياة أسمى مما يراد بكم، فأعيدوا النظر مرتين، وارجعوا البصر كرتين، وإياكم ثم إياكم أن يكون قدوتكم هؤلاء الذين ما لهم من خلاق، فقدوتنا جميعًا محمّد - صلى الله عليه وسلم -، والمرءُ يحشر مع من أحب، حشرنا الله وإياكم في زمرته وتحت لوائه.(5/353)
رابعًا:إن هذه البرامج ليست إلا حلقة من سلسلة طويلة تستهدف تغريب مجتمعاتنا، وتوجه سهامها نحو ناشئتنا، مما يجعل مسؤولية التربية مسؤولية جسيمة، إنها لن تتحقق بمجرد أن نشعر بأنها مهمة، ولا بمجرد أن نتحدث عنها في مجالسنا، إن انفتاح مجتمعاتنا على هذا العالم بما فيه يجعل الأسرة المسلمة أمام تحديات جسام، فاستنساخ التجارب السابقة، أو تكرار ما فعله معنا آباؤنا لم يعد كافيًا، إننا بحاجة لأن نتعلم فنون التربية، وبحاجة لأن نتملك القدرة على إقناع أولادنا وعلى حوارهم والتأثير عليهم، وبحاجة لأن نمتلك القدرة على كسب قلوبهم وعقولهم.
وهذا يفرض علينا أن نقرأ ونسمع ونتحاور ونتباحث في أمور التربية وسنبقى مع ذلك نحتاج إلى المزيد.
خامسًا:أين دور مدارسنا؟ وأين رسالة معلمينا ومعلماتنا؟ إن ضخامة التحديات وتعاظم المخاطر يفرض علينا أن نتجاوز الوقوف عند لوم المدرسة على التقصير، ونتجاوز الحديث عن الدور الغائب للمعلمين والمعلمات لنشعر أن هذه المسؤولية مسؤوليتنا جميعًا، فالمعلمون إخواننا وأولادنا وجيرانا، والمعلمات لم يفدن إلينا من كوكب آخر، لنتجاوز مرحلة التلاوم إلى العمل الإيجابي وأن يأخذ بعضنا بيد بعض للنهوض بهذه المهمة.
سادسًا:لا بد من التفكير في برامج تواجه هذا العفن وتشغل أولادنا عن متابعة السوء، برامج إعلامية جادة، وبرامج ترفيهية محافظة، في الحي، والمدرسة، ووسائل الإعلام، ولن تنجح هذه البدائل إن كانت باهتة لا تغري الناشئة بمتابعتها والتفاعل معها.
وهي مهمة يشترك فيها التربويون، والإعلاميون، وأصحاب المال، وأصحاب القرار.
سابعًا:لا بد من تطوير الخطاب الدعوي الموجه للناشئة وتنويع أدواته والسعي لتجاوز النمطية والأداء الممل، ونحيي هنا ما قام به أحد الدعاة من تقديم برنامج دعوي منافس لهذه البرامج؛ فنسأل الله له ولمن سار على هذا الطريق السداد والتوفيق.
ثامنًا:إن هذا يؤكد خطورة الإعلام في تشكيل مستقبل الأمة وتوجيه ناشئتها، وهذا يفرض علينا أن نسعى جميعًا لتنقية إعلامنا وجعله معبرًا عن هوية الأمة ورسالتها، كما يفرض علينا البحث عن حلول عملية لتقليل أثر هذا الغزو الذي يخترق أسوار بيوتنا، وإن النتائج المرة لهذا العفن والإفساد تبرر اتخاذ قرارات جريئة في حجب هذه البرامج السيئة، وفي تنادي رجال القرار في الأمة لتدارس هذه الأزمات بجدية.
كما أنها تفرض علينا السعي الجاد لتعزيز دور الإعلام الإسلامي النقي، من خلال دعم القنوات القائمة، والسعي لإنتاج المزيد.
أيليق بهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس أن تملك عشرات القنوات التافهة، بينما القنوات الجادة التي تعبر عن رسالتها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة؟!
إننا نملك قدرات في الإنتاج المرئي والمقروء وفي الإخراج والكتابة وفي التقنية والأدوات، وأموالاً هائلة، أفلا يمكن توظيف جزء من هذه الإمكانات لإنتاج ما يربي أولادنا وناشئتنا؟ أفلا يمكن توظيف جزء من الأموال التي تهدر في الترفيه والسياحة، وفي الترف والتباهي؟ أفلا يمكن توظيف جزء من ذلك في خدمة قضايا الأمة الجادة؟!
عسى أن يكون ذلك قريبًا.(*) معيد في قسم الفقه (كلية الشريعة بالرياض).
(1) هو محمد المليفي في صحيفة السياسة الكويتية
=============(5/354)
(5/355)
ومضى عام
أ.د.ناصر بن سليمان العمر 4/1/1425
24/02/2004
وما يعلق بالذاكرة كثير وكثير، فالأحداث تتسارع، وقل أن يمر يوم لا تكون فيه أحداث وأحداث، يرقق بعضها بعضًا، وينسي بعضها بعضًا.
فصرت إذا أصابتني سهام … …
تكسرت النصال على النصال
ولكني أجمل فأقول:
ونحن نستقبل عامًا هجريًّا جديدًا تذكرت مثل هذا الوقت قبل عام وتراءت أمامي أمور عدة منها:
1- لحظات الترقب التي كان يعيشها العالم وهو يتطلع إلى ما يمكن أن يتخذه صدام من قرارات لمواجهة الأزمة التي يعاني منها العراق بسبب التهديدات الغربية والأمريكية على وجه الخصوص، ومرّت الأيام فإذا هو يزيد الأمور تعقيدًا بقراراته المرتجلة، ودعاوى البطولة الوهمية التي أعادتنا إلى بطولات حزيران (67م) المزيفة وما جرَّته على الأمة من ويلات، وما بين التاريخين أكثر من ثلاثين سنة جرى فيها أحداث عظام، ومصائب جسام، تؤكد ما تعيشه الأمة من بلاء وشقاء وانفصام، كل هذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأمة بحاجة إلى الأمن والطمأنينة والسلام، ولن يتحقق ذلك إلا بالإسلام وصدق الإيمان، تحقيقًا لقوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
وتذكرت أيضًا ما كنا نخشاه من فتن تكاد أن تنزل ببلادنا - بلاد الحرمين - بدعوى الإصلاح، ومواجهة ما تعيشه البلاد من مظاهر الفساد، والرد على ما يقوم به العلمانيون للزج بنا في أتون التغريب والمحنة.
وبدأت تلك الأحداث على أيدي شباب لم يدركوا عاقبة سوء فعلهم، وما يجرُّونه على البلاد والعباد، وها نحن نعيش ونجني ثمرة تلك التخبطات التي يقودها الفريقان: العلمانيون، والشباب المتحمسون وكل يدعي الإصلاح، والإصلاح منهم بعيد، بل هو الإفساد وقد جرت سنة الله في الأزل بما أنزله في الكتاب (إن الله لا يصلح عمل المفسدين).
وتذكرت ما تخطط له أمريكا، وما جرّت العالم إليه في أفغانستان والعراق، وإذا الأمور تعود عليها وعلى حلفائها بأسوأ مما أرادت الهروب منه، وإذا هي - والحمد لله - تتجرع من الكأس الذي أرادت تسقيها غيرها، وهذه سنة الله ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، (إنهم يكيدون كيدًا* وأكيد كيدًا* فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا)، (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) والله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
وأخيرًا رأيت رأي العين، والنظر من خلال نافذة هذه الأحداث، وغيرها مثلما يجري في فلسطين، أن الأمة تسير نحو مستقبل مشرق واعد، ولكن دون ذلك ابتلاء واختبار، ( وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين).
إن الرؤية العاجلة، والنظرة القصيرة قد تدل على خلاف ذلك، ولكن من يتأمل في السنن الكونية، ويرى من خلال الموازين الإيمانية؛ يدرك بما لا يدع مجالاً للشك صدق تلك الرؤية التفاؤلية، فها هي الأمة عادت إلى ذروة سنام الإسلام - الجهاد - ليخرجها من أزماتها، ويعيد إليها مجدها وسؤددها، وما يجري في العراق وفلسطين وغيرها خير شاهد ودليل، وسقطت شعارات طالما ضللت الأمة، كالقومية والشيوعية والشعوبية وغيرها من الشعارات، التي لم تزد الأمة إلا بلاء ونكالاً وتفرقًا وضعفًا وتشرذمًا.
وأخيرًا الطريق طويل وشاق، ولكنه يوصل -بإذن الله- إلى النهاية السعيدة، والسيادة الرشيدة، متى صدقنا الله ونبذنا الفرقة والخلاف، وتغلبنا على بنيات الطريق. فأبشروا وأمِّلوا وجِدُّوا واجتهدوا، واعلموا أن العاقبة للمتقين، (وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين)، (ولكنكم تستعجلون).
===========(5/356)
(5/357)
وطنيون بلا وطنية
د.إبراهيم بن صالح العمر* 23/6/1424
21/08/2003
منذ أن خلق الله البشرية، وبزغ على هذه البسيطة فجر الإنسانية وصراع الحق والباطل وسنة التدافع بينهما هو همُّ الإنسان الأول على اختلاف مشربه، وتنوع مسلكه. حزبٌ منهم سيطر على بُنْية تفكيره الوسطية المنبثقة من خالق النفس ومربيها والعليم بأسرارها وما يصلحها، فكانوا حيث شرع الله وقوفاً عند حدوده، سائرين في فلك شرعه يبتغون الأمن في الدارين (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن)، وينشدون السلامة من العطب في الحياتين (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، بينما حزب آخر تفرق شيعاً وأحزاباً (كل حزب بما لديهم فرحون) مفرِّطون تارةً ومفْرِطون أخرى، حتى غدا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كفاراً عند بعضهم؛ بل ومنهم العشرة المبشرين بالجنة يحل قتلهم و قتالهم وسفك دمائهم. هذا المنهج الذي اكتوينا بناره، والذي أباح لنفسه الإفساد في الأرض وإرهاب عباد الله والمستأمنين من قبلهم، بل شرع لنفسه التقرب إلى الله بذلك وهو في غاية الضلال والإضلال، ولا ينافسه في ذلك سوى من يريد الفتنة والصد عن دين الله، وإحياءها باستعداء ولاة الأمر على رموز الصحوة وقادة الشباب ورواد العمل الإسلامي، متناسين ليس فقط جهدهم ومشاركتهم في بناء الأمن الفكري لهذا البلد، بل متناسين أنهم أول من اكتوى بنارالمفرطين تكفيراً وتبديعاً. إنه حينما تستغل الأزمات والحوادث الجسام التي تمر بها الأمم والشعوب، كما وقع في بلادنا لأهداف ذاتية وغايات أقرب إلى الدونية حتى لو كان الضحية النسق الأمني والتنظيم الاجتماعي؛ فإن تبني شعارات الدفاع عن الوطن وادعاء الوطنية يبقى محل نظر، إذ الكل يدعي شغفاً بليلى ولكن بتلك الفعال لا ينال ذلك. ليس المهم هو الاسم ولا الدعوى ورفع الصوت فالكل على هذا قادر، البر منهم والفاجر، لكن البينة على المدعي في ذلك وصدق الفعال. إن مما يزيد من هول فاجعة ما حدث أقلامٌ موتورة وأفئدة موبوءة تطنطن بالوطنية وتؤذن بالحمية، والوطن منها براء وحِماه عنها بعيد. لم يكن لها في نشأة هذا البلد ولا وحدته ولا تلاحم قبائله وتراص أطرافه أي دور؛ بل نشأت طحالب ظِلِّ قناصة للفرص، تعيش على الاستعداء تارة، وعلى التشنين تارة، وعلى تتبع الزلات وتكبير الهفوات تارةً أخرى، مستغلةً موقعها التحريري في صحفنا الوطنية لتنشر ما تريد وتمنع ما تشاء، ناسيةً بل متناسيةً فضل أهل الفضل في ترميم الجبهة الداخلية و شموخ حماة البلد أهل الرأي والسدد. ولهذا لا تجد قلوب هؤلاء الذين أهلكهم هم التغريب وأعياهم تدين البلاد والعباد أبغض من دعاة ودعوات النهضة والإصلاح التي توقظ الغافلين وتقيم القاعدين، وليس أحب إلى قلوبهم من أن تكتم الأفواه غير أفواههم وتصادر الحقوق غير حقوقهم، وتبقى الأمة مغيبة عن شرعها وأسباب نهضتها وقوتها.
في البرنامج الإذاعي اليهودي للدكتورة (لورا) ذائع الصيت فجع الأمريكيون بمستوى حضاري يسمح بحرق البنات؛ لئلا ينظر الرجال لوجوههن والذي نقلته الدكتورة (لورا) عن إحدى الصحف المحلية، وفجعتُ تبعاً لذلك كغيري من المسلمين هناك، كيف يساء لهذا البلد من قبل أهله؟ وكيف يتأتى للبعض ويهنأ بتحقيق مآربه والتنفيس عما يكن في صدره بالإساءة والتشهير بوطنه وأمته ويعمل على تقديم مادة إعلامية ساخرة لأعداء الأمة للنيل من هذا الوطن وشعبه وحكومته؟!. وفي المقابل وعندما يعلن ناطق بيتهم الأبيض بمطالبة حكومة السعودية بالاعتماد على الحل الأمني تتلقفه تلك الصحف في صفحات الرأي والخبر والرسم الساخر؛ بل يتعداه لصفحات الدعاية والإعلان مستعدية ولاة الأمر ومطالبة بعدم المجاملة في الموقوفين، ومقررة مع الخروج على الثوابت ثبات الخروج عما هو ثابت، تاركاً للقارئ الرجوع للإعلان وتفسير ماذا يراد. و وأيم الله ما هذه الوطنية الحقة، فماذا إذاً تكون؟ إن الذاتية والأنانية وعبادة الذات مرض قديم وخمرة أسكرت نفراً من الكتاب والصحفيين فدارت برؤوسهم وأدارت تبعاً لذلك معارك فكرية، فإذا الكيان يتقطع وإذا الإصلاح يراوح مكانه، وإذا الضحية النمو المنشود والتنمية المستهدفة، فهل من إعادة لترتيب عقلنا من جديد؟.
إن استغلال الأحداث العصيبة والمحن التي تمر بها جماعة المسلمين استغلالاً دونياً والتحريش وإفساد ذات بينهم هَمٌّ شيطاني، وقلما يحدث ذلك إلا من معسكر لم يكتمل نظامه أو يتأكد ولاؤه، وما لم يرتفع الكتاب والإعلاميون لمستويات الأحداث، ويدركوا جدية الموقف بدلاً من الرسوم الكاريكاتورية الساخرة، ويتخلوا عن الأهداف الدونية؛ فإن النتائج لن تكون في مصلحة الجماعة والوطن بحال، وفي التنزيل (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً).(5/358)
إن استقراءً سريعاً لأحوال أمتنا في كثير من الأحقاب يوجب على العقلاء من ولاة الأمر والعلماء والدعاة والفضلاء والساسة والمربين الأخذ على يد خراق السفينة وكسار مجاديفها، وإغلاق الباب إلى الأبد في وجوه المتعطلين المنتهزين، والأخذ بوسائل سلامة الفكر وإصلاح الذات وتشجيع النقد البناء، سدد الله الخطى، وبارك في العلم والعمل.
* كاتب سعودي
============(5/359)
(5/360)
أين الثقافة في ملتقى المثقفين العرب؟!
د. محمد مورو* 20/5/1424
20/07/2003
إذا كان المثقف - أو من المفروض أن يكون - هو ضمير المجتمع، وهو بمثابة زرقاء اليمامة يرى المخاطر المحيطة بقومه قبل حدوثها بوقت كاف لتداركها، أي قبل أن يراها الناس العاديون.
وعليه بالطبع أن يحذر من تلك المخاطر، ويقوم بواجبه التحريضي لمواجهتها، وتحصين مواقع قومه الثقافية حتى لا تهزم من داخلها...
أما إذا انهزم المثقف، أو خان أو تخلى عن واجبه؛ فإن الخسارة تكون كبيرة جداً، لأن الهزيمة الثقافية مقدمة بالطبع لهزيمة عسكرية وسياسية وحضارية.
وإذا كان (جان بول سارتر) يقول: إن مهمة المثقفين الأولى هي إزعاج السلطات والطغاة، فأي طغيان أكثر من الطغيان الأمريكي والإسرائيلي؟ وأي سلطة أبشع من السلطات التي تنفذ الأجندة الأمريكية؟! فإذا تحول المثقفون أنفسهم إلى أبواق للقيم الأمريكية، ومبررين ومبشرين للأجندة الأمريكية؛ فهذه هي الكارثة بعينها.
هذا الكلام بمناسبة ما قيل وما صدر وما حدث فيما سمي بمؤتمر الثقافة العربية الذي انعقد أوائل شهر "يوليو" 2003 في القاهرة بدعوة من المجلس الأعلى للثقافة في مصر تحت عنوان " نحو خطاب ثقافي جديد، من تحديات الحاضر إلى أفاق المستقبل"، وقد حضره حوالي مئة مثقف عربي ومصري، تم استدعاؤهم للحضور فجأة وبدون مقدمات، مما أثار حفيظة أمثال الأديب الجزائري (الطاهر وطار)، الذي وصف المسألة بأنها نوع من الاستدعاء البوليسي لأداء مهمة محددة سلفاً، الأمر الذي يوحي بوجود أجندة مسبقة على هوى الأمريكان، أو لذر الرماد في عيونهم إذا أخذنا بالتفسير البريء.
تجاهل ثقافة المقاومة
انعقد المؤتمر للبحث عن خطاب ثقافي عربي جديد، ولا أحد بالطبع ضد التجديد، ولكن التجديد غير التغريب، غير التخريب، معنى أن يكون التجديد من الداخل وعن طريق هضم المواد المضافة، وليس إلصاقها أو قطع الشجرة من جذورها، وزرع شجرة جديدة سترفضها التربة حتماً.
فالتجديد عملية مستمرة وشاقة من الداخل، وليست مجرد قص ولصق، وإذا كان لابد من تجديد؛ فإن التجديد إزاحة تلك الوجوه الثقافية العربية المسيطرة على الساحة والمتورطة مع السلطات المستبدة، أو الدالفة في دم مثقفين آخرين، دفعوا حياتهم أو أعمارهم ثمناً لمواقفهم، وهكذا فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا كان العيب القاتل في مثل هذا المؤتمر الذي ترعاه مؤسسة رسمية مصرية "تمنح وتمنع طبعاً".
مجرد القراءة في عناوين الندوات أو الموائد المستديرة التي عقدت في إطار المؤتمر يحدد الهدف من المسألة، كانت العناوين: "حرية الإبداع"، "تجديد الخطاب الديني"، "النظام الإقليمي العربي والنظام العالمي"، المشروع الثقافي العربي المستقبلي"، "الثقافة العربية في عصر مجتمع المعرفة"، مع ملاحظة غياب عناوين، مثل: "ثقافة المقاومة"، "المواجهة الثقافية للمشروع الأمريكي والإسرائيلي"، "دور المثقف في التحريض على مواجهة الاحتلال"، وهي عناوين ضرورية ومشروعة في زمن يقوم فيه الإسرائيليون بالقتل والقهر لشعبنا في فلسطين يومياً، وعلى مدى الساعة، ولا يمكن لمثقف أن يتجاهل ذلك، وكذلك الوجود الاحتلالي الأمريكي في العراق، والقواعد الأمريكية في عدد كبير من الدول العربية، مع ملاحظة تجاهل ذلك؛ نجد أن عناوين ومحاور الحوار كلها تدور في إطار الأجندة الأمريكية التي بشر بها (كولن باول)، وباتت معروفة ومشهورة، وحتى لو كان ذلك خطأ غير مقصود، أو أن تلك هي مطالب المثقفين العرب قبل أن تظهر أجندة باول، بمعنى أن باول تبنى خطاب ومطالب المثقفين العرب، أو أراد أن يحرقها بتبنيه لها؛ فكان من الضروري مراعاة الظرف الذي تمر به الأمة الآن، وأن تتجه الأطروحات حول تلك العناوين ذاتها، اتجاهاً يدعم مقاومة الاحتلال الأمريكي والإسرائيلي، فيكون تجديد الخطاب الديني باتجاه التأكيد على الجهاد والصمود والمواجهة ورفض الاحتلال، باعتبارها واجبات شرعية، وأن يكون المشروع الثقافي العربي مشروع المقاومة، وأن تكون المعرفة في خدمة قضايا النضال، والانفتاح على العالم في اتجاه التحالف مع القطاعات الكبرى في الشعوب المتضررة من العولمة والأمركة وهكذا...، ولكن الاتجاه كان تفكيكياً وعسكرياً على طول الخط، اللهم إلا من بعض الاستنارات القليلة التي لا تشكل تياراً أو ظاهرة وتم تحجيمها وتهميشها.
وهكذا جاءت المداخلات والأبحاث إما من باب كلمات حق يراد بها باطل، أو كلمات حق في غير مجالها ولا زمانها ولا مكانها، أو هجوم صريح واضح على الهوية والدين والمقاومة والثوابت والدعوة للانبطاح أمام الأخر الأمريكي والصهيوني تحديداً، أو غيرها من الأمور المريبة.
أعمدة ثقافية مستبدة(5/361)
ومرة أخرى نقول: جاء بالمؤتمر بعض الأمور الهامشية الإيجابية، حتى لا نُتهم بأننا لا نرى إلا الأشياء السوداء، وهذا بدهي، لأنه ليس هناك شيء ساقط 100% حتى ولو من باب ورق التوت المهم هو التوجه الرئيسي والمحصلة أو المجرى الرئيسي للمؤتمر، وبدهي أن توصيات المؤتمر جاء بها بعض الأشياء الصحيحة؛ ولكن ضاعت في متاهة الدعوة إلى هدم الذات والقضاء على الهوية وتدمير الدين والتخلي عن الثوابت.
على كل حال فمن الأشياء الجيدة في المؤتمر نقد السلطات المستبدة، ولكن القائمين على المؤتمر وكثير من الحضور هم أنفسهم الأعمدة الثقافية لتلك السلطات المستبدة! فهل تناسوا ذلك؟!.
أم أنهم جاؤوا كنوع من تبييض وجوه السلطة -المصرية- مثلاً، أو تنفيس عن أسئلة باتت مشرعة وبقوة في الشارع العربي، أو إحداث نوع من المناهضة الثقافية تعفي السلطة من عبء مواجهة أسئلة المرحلة؟.
أم نوع من الخاطبة -بلا طلب للأسف- للآخر الأمريكي والإسرائيلي؟
أم بالونة اختبار لأفكار يراد تطبيقها، فيكون المؤتمر فرصة لإطلاقها، ومن ثم معرفة رد الفعل عليها؟.
أضاليل وافتراءات
في مؤتمر الثقافة العربية في القاهرة -قلب العروبة والإسلام- جاءت أطروحات مثل: أن الفقه الإسلامي هو سبب الإرهاب، المطالبة بعدم الالتزام بفقهاء السنة الأربعة، حذف كلمة الكفار من المصطلح الإسلامي (كيف يكون ذلك إلا بتغيير القرآن ذاته؟!)؛ لأن كلمة الكفار فيها عنصرية، تغيير آية "كنتم خير أمة أخرجت للناس"؛ لأن بها دعوة للاستعلاء، الدعوة إلى تدخل الغرب وأمريكا في تجديد الخطاب الديني؛ لأننا لن نستطيع أن نفعل ذلك بأنفسنا.
واللافت للنظر أن المؤتمر اهتم أيما اهتمام بضرورة عدم معاداة الآخر، واعتبار ذلك محصلة للتعليم الديني في رأي البعض وآيات القرآن الكريم في رأي البعض الآخر، والغريب أن هؤلاء يتناسون أننا نحن الذين نتعرض لعنف وكراهية وتزمت الآخر الأمريكي والإسرائيلي!.
فمن الذي ينهب من؟!، ومن الذي يحتل من؟!، وهل لنا 1/2 مليون جندي مثلا يحتل بلادهم؟!، وهل فلسطين هي التي اغتصبت أمريكا مثلا؟!، وهل تنتشر قوات بلادنا وجنودنا في 60 دولة حول العالم مثلما تفعل أمريكا؟!، من الذي حدثت له المذابح طوال السنوات الماضية؟! وكذا الدعوة إلى تعاون الحضارات، وليس صراع الحضارات...، فمن الذي يفرض الصراع، ومن يرسل القوات والطائرات وحاملات الطائرات وصواريخ كروز على من؟!
وفي النهاية؛ فإن التجديد بالضرورة لا يعني الانبطاح !!
* رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي
==============(5/362)
(5/363)
مفارقات في مسألة الإسلام والعنف
جمال سلطان 16/4/1424
16/06/2003
المفارقة المدهشة والمؤسفة هذه الأيام فيما يتعلق بموضوع العنف وعلاقته بالدعوة الإسلامية أنه بينما بدأت الفعاليات السياسية والثقافية الغربية -الأمريكية والأوربية- تفرق بإلحاح وصرامة بين الإسلام وبين الحركات التي تمارس العنف، وهو إلحاح لوحظ تزايده مؤخراً ، مع زيادة التأكيد على أن الصراع ليس مع الإسلام وحضارته وثقافته وعقائده وشرائعه، وإنما الصراع مع الحركات التي تمارس "الإرهاب". أقول: بينما يحدث ذلك في الغرب "المسيحي"؛ نجد اللهجة بين المثقفين العلمانيين والمتغربين في العالم العربي "الإسلامي" تتزايد باتجاه اتهام الإسلام ودعاته وعقيدته وشريعته بأنه الرافد الأساس في وقائع العنف، وبالتالي يطالب هؤلاء "الحكماء" العرب بالضرب بيد من حديد على كل نشاطات الإسلام الدعوية والأخلاقية والفكرية وحتى العبادية ، ويصل الأمر إلى طلب مطاردة الآيات والأحاديث التي يدرسها الطلاب في المدارس والمعاهد، ومطاردة حتى المؤسسات الرسمية التي تقوم على جانب من جوانب حماية قيم الإسلام أو علومه، فتعرضت هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة السعودية لهجمة منظمة من العلمانيين والمتغربين، وكذلك تعرض الأزهر في مصر لحملات عاتية تتهمه بالجمود ودعم الفكر "الغيبي" الذي يولد العنف والإرهاب.
المؤسف أن بعض الممارسات وصلت إلى حد الهستيريا ، مثلما حدث في موريتانيا، حيث أقدمت السلطات على اعتقال جميع أعضاء هيئة التدريس في المعهد العلمي الديني الرئيسي في نواكشوط ، وهو معهد تشرف عليه مؤسسات علمية خليجية رسمية ذات احترام وسمعة أكاديمية وعلمية لا يرقى إليها الشك، وأعترف بأني ضحكت في البداية من فرط الجنون الذي حدث!.
يمكن تصور أن تعتقل أستاذاً أو مدرساً أو اثنين لأسباب مهما كان تكلفها وهشاشتها، أما أن يقدم "عاقل" على اعتقال "جميع" أعضاء هيئة التدريس في مؤسسة علمية، فهذا ضرب من الجنون الحقيقي، بطبيعة الحال هناك حكومات ومنظمات تنصيرية ترصد هذا الخطاب الغوغائي الجديد في الإعلام العربي وبعض مؤسساته الثقافية المتغربة، وهناك قلق قديم من تنامي الدعوة الإسلامية في أكثر من مكان في عالم اليوم، وهناك تقارير شائعة تتحدث عن أن الإسلام هو أوسع الديانات انتشاراً في الأرض الآن، وهذه فرصة تاريخية لضرب هذه الدعوة في مقتل، ووقف انتشار القرآن في جنبات الأرض؛ لأنه ما أسهل أن توصم كل لحية الآن بالإرهاب، وما أيسر أن تصف كل نقاب بأنه "خيمة إرهاب" وهكذا. ولم يكن ما فعلته " كمبوديا " في الأسبوع الماضي هو آخر هذه الجرائم، عندما شنت حملة مطاردة للدعاة المسلمين، وتهديد كل من دخل في الإسلام من الكمبوديين بأن سيف الاتهام بالإرهاب مسلط على رأسه، وقد قامت الحكومة بالفعل باعتقال العديد من الدعاة والمشايخ، وترحيل آخرين، وترويع المئات من المسلمين، حيث بدأ الإسلام في الانتشار على نطاق واسع في السنوات الأخيرة.
هناك بلاد تم تفريغها بالفعل ، مثل ألبانيا ، حيث أصبحت الآن مرتعاً خصباً لعشرات المنظمات التنصيرية، التي تحظى بدعم مؤسسات رسمية وشخصيات نافذة في المجتمع الغربي، من ضمنها: منظمات اليمين المسيحي الأمريكي الذي ينفق هناك مئات الملايين من الدولارات؛ لتصفية "الجيب الإسلامي" في خاصرة أوربا المسيحية. هذه الجرائم المتتالية يتم دعمها الآن من قبل "الأبواق" العلمانية والمتغربة والمنحرفة والمستهترة في العالم العربي، والمؤسف أكثر؛ أن أعلى الأصوات الآن في هذه "المؤامرة" تأتي من منطقة الخليج العربي، ثم انضاف إليهم مؤخراً مخلفات الماركسيين والمتفرنسين في المغرب بعد أحداث الدار البيضاء، والمؤسف أكثر أن مثل هذا الاعتداء على الإسلام وشريعته وقيمه، والمطالبة بحصار كل صوت إسلامي؛ إنما يصدر تحت ادعاءات بالغيرة على الإسلام وصورته في الغرب، رغم أن هؤلاء هم آخر من يمكن تصور الحديث عن الإسلام أو الغيرة عليه من قبلهم، ومنهم -صحافيون ومثقفون- كانوا يباهون باحتساء الخمر علانية في نهار رمضان في لندن، ابتهاجا بقدوم "الشهر الكريم"، والشهود أحياء يرزقون!.
إن هناك محاولات غير أخلاقية من قبل البعض لاستثمار حوادث العنف (المدانة شرعاً وواقعاً)؛ لكي تتم تصفية حسابات قديمة مع الإحياء الإسلامي والصحوة الإسلامية، وتصفية بعض المؤسسات الدينية النشطة، والتي مارست دوراً رائعاً في العقود الماضية حماية للإسلام وقيمه وأمنه الاجتماعي، فضلا عن تصفية حسابات مع الدعاة والعلماء الذين سبق وتصدوا للمنحرفين دينياً وفكرياً وأخلاقياً، وكشفوهم أمام الأمة، وهناك تحريض علني يومياً -وفي تصاعد مستمر، وكأنه مزاد بين صحف وشخصيات- للحكومات لإعلان الحرب على الدعوة الإسلامية، ومطاردة الدعاة إلى الله؛ بدعوى محاربة الإرهاب، وتجفيف منابعه، رغم أن من يقولون هذا الكلام هم أول من يعرف أن مثل هذا التحريض هو السبيل الأرخص والأكثر نجاعة لخدمة الإرهاب، وتقديم العون الأدبي والنفسي والفكري لسلوكه الخاطئ.(5/364)
هذا التحريض هو محاولة شيطانية لحرق الدار كلها، وإشعال الحرائق في ديار المسلمين، ومن ثم على جميع العقلاء في هذه الأمة أن تتضافر جهودهم للتصدي لهؤلاء الانتهازيين والمخربين والطابور الخامس الخفي للإرهاب ذاته، هؤلاء الذين لا تطرف لهم عين وهم يحاولون إشعال الحرائق في ما بين الحكومات وملايين الشباب المسلم الذي لا يعرف إرهاباً ولا يؤمن بعنف، فقط لكي يقف هؤلاء المتغربون المخربون على أطلال الخرائب كالبوم والغربان، ضامنين اتساع مكاسبهم الشخصية أدبياً وسياسياً وإعلامياً ومالياً، على حساب كل شيء وأي شيء، ومقدمين أنفسهم كخط دفاع أول للحكومات ضد "الإرهاب الإسلامي"، الذين هم - في الحقيقة والواقع - داعموه وممدوه بكل مثيرات الفتن والنيران.
إن الحقيقة التي يؤكدها الواقع والتجربة أن التطرف يغذي بعضه بعضاً، فتنامي التطرف العلماني والتغريبي في مجتمع؛ يولد تطرفاً مقابلاً في الجانب الديني، ولا توجد تجربة واحدة من التجارب المريرة التي مرت بها بعض البلدان في العقود الأخيرة كان فيها لهذا الفريق العلماني المتغرب دور في علاج مشكلات الغلو الإسلامي؛ بل كان دورهم أشبه بمن يصب المزيد من الزيت على النار، لتزداد توهجاً واشتعالاً، وإنما حوصر العنف، وجففت منابعه بجهود الدعاة والعلماء، والخطاب الوسطي المعتدل، وكلما اتسعت مساحة العطاء والتأثير للخطاب الإسلامي المعتدل في المؤسسات الثقافية والدينية والإعلامية؛ كلما ضاقت المساحات المتاحة لأصوات التطرف والغلو، وحرمت المد الفكري والأدبي والإنساني حتى تلاشت أو أوشكت.
هذا هو الدرس الذي نحتاجه في هذه التحدي الجديد، قبل أن تجرفنا الأمواج بعيداً عن شاطئ الأمن والأمان والسلام الاجتماعي
=============(5/365)
(5/366)
منظومة الأمن الخماسية
عبد الله المبرد 10/4/1424
10/06/2003
الأمن الذي تتسابق الأمم إلى بسطه، وتتفاخر الحضارات باستقراره وضبطه لا يعني سلامة الأرواح والأموال فحسب؛ بل هو أعمق من ذلك وأشمل، حيث يعني توفير الطمأنينة للنفوس، وزوال الخوف، وعدم توقع المكروه. فالأمن في حقيقته تحرير للنفس والعقل والروح، وإطلاق لطاقات الإنسان، تخمد معه كل أسباب الخوف، وتموت بواعث القلق والترقب، وعلى قدر النجاح في تحقيقه ينمو الفكر، وتتفاعل الثقافة، وتروج التجارة، ويشيد العمران، وتزدهر المصانع والمزارع، وتسلك السبل، وتتقارب المسافات. وعلى قدر الإخفاق فيه؛ تجري الأمور عكس ذلك، وتتعرض كل منجزات الإنسان للانهيار والذبول بعد أن تصاب نفسه بالشلل، ويصاب عقله بالجمود.
ولأن الإسلام نزل ختاماً للأديان، وجاء ليمثل درجة النضج للحضارات الإنسانية، وليصوغ حياة الناس على نموذج يحقق لهم السعادة في حياتهم، وبعد مماتهم، فقد جاء هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه. فالأمن يسير مع الإسلام حيث سار كظل الشيء، ويحل حيث يحل، ويرحل حين يرحل.
وإذا كان القضاء على أسباب الخوف يعد من أكبر التحديات التي تواجه الأمم، فتختلف الاستراتيجيات في مقاومته والقضاء عليه؛ فالإسلام -كما هو منهجه- يعالج المشكلة بشمولية وتكامل، وسمو وتفوق، وبكل دقة ووضوح يحدد العناصر الضرورية التي بسلامتها يتحقق الأمن، ويسميها "الضروريات الخمس": (الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال). فأي تهديد لواحدة من هذه العناصر يُفقد الحياة طعم الأمن، ويجعل المجتمع نهباً للخوف ومضاعفاته، والظلم وتداعياته.
وتتجلى عظمة الإسلام وكماله في تعامله مع هذه المنظومة الخماسية بترابط وتوازن، حيث إن أية تهديد لواحدة منها يعرض بقيتها للانهيار، فهي بمثابة حبات العقد إذا انفرطت واحدة تتابعن خلفها.
والمعضلة الأمنية التي تواجه المجتمعات التي تتجاهل هذا الترابط أنها تتعامل مع هذه العناصر تعاملاً جزئياً انفرادياً، فتخول لنفسها تحت هاجس (الحرية) إهدار واحد من هذه العناصر -كالعقل مثلاً-؛ فتبيح الاعتداء عليه، ولا تمانع من تعطيل بعض الوقت بالمسكرات وغيرها، ثم تتفاجأ بعد ذلك ونتيجة حتمية له ؛بتعرض الدماء والأعراض والدين للتهديد. وتحاول تلك المجتمعات - عبثاً- أن تحافظ على تلك الأربع دون (خامستها)، وهذا التمثيل ينطبق على أي عنصر منها، بمعنى أنه لا أمن لأي منها إذا اُعتُدي على أحدها.
وللأصل الأول منها (الدين) موقعه المحوري بالاعتداء عليه يفصم المنظومة الأمنية، ويجعل الحياة بعدها معترك خوف وظلم وعنف وفوضى، وذلك من جهتين:
الأولى: أن الدين - بصرف النظر عن صحته وبطلانه - يقع من نفوس البشر في حشاشتها، ويجد له في قلوبهم حمية واستعداداً للدفاع عنه؛ بل والموت دونه، وذلك معروف في تجارب المجتمعات البشرية وتاريخها، فلا يطيب الموت (الاختياري) إلا دون الأديان أو ما يقوم مقامها - عند المجتمعات غير المتدينة- من المبادئ والأفكار والمعتقدات.
ومراعاة لهذه الطبيعة البشرية نهى الله- سبحانه وتعالى- عباده عن سب الذين يدعون من دون الله، رغم أنها أوثان وأصنام، ولربما صنع لها السباب قيمة لم تكن لها، ومع ذلك نهى الله عن سبها لأنه يستثير حمية عبدتها، ويهيجهم على العدوان، ويشكل دون قلوبهم حاجزاً دون قبولهم الحق، أو حتى استعدادهم للحوار والنقاش، فالأفكار -وحدها- هي التي لا تعالج بالعنف والسخرية والتهم والشتائم؛ لأن ذلك يزيدها صلابة، ويكَّون حولها طبقة من الإعراض والصدود النفسي، ويزيد التحامها مع ذات أصحابها، فلا يبقها أمل للانفكاك عنها.
والثانية: أن الدين إذا كان حقاً - وليس غير الإسلام حق- فإنه في ذاته يتضمن نظاماً أمنياً عاقلاً على مستويات متعددة؛ ففيه من المفاهيم والاتجاهات والعقائد ما يربي النفوس السوية على الانضباط الذاتي من خلال (الترغيب والترهيب والتهذيب)، ومن خلال (التكريه) للاعتداء على الأديان والأنفس والأعراض والأموال والعقول؛ بل فيه نهي عن مجرد التخويف والترويع، وأية ممارسة من هذا النوع تعرض إسلام صاحبها للنقصان "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" بل ربما أخرجه ذلك من جماعة المسلمين، وأقصاه عنهم.
ويذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك، بحيث يعزز مصادر الأمن، ويوفر الحياة والنماء بالإحسان إلى كل ذي كبد رطبة، وإغاثة الملهوف، وإعانة ذي الحاجة وردَّ الضالة، وغرس الأشجار، وإماطة الأذى عن الطرقات، ونشر الابتسامة والبشاشة، وإفشاء السلام، وتبادل الكلم الطيب ... إلخ.
وإكمالاً لذلك جاء الإسلام بنظام (جزائي تفصيل إجرائي) ويشكل قوة رادعة لمن لا يتجاوب مع المستوى الأول، وهذا النظام يمنح العناصر الخمسة حماية متكافئة وأهمية متقاربة، بحيث يؤدب المعتدي على النفس (بالقصاص)، والمتجرئ على الدين (بحد الردة)، والمعتدي على الأعراض (بالرجم أو الجلد)، والمتطاول على المال (بقطع اليد)، والمستهتر بالعقل (بالجلد) وربما وصل الأمر في كل ذلك إلى القتل (تعزيراً) في سائرها.(5/367)
الشريعة وحدها هي التي تتقدم بهذا النظام الأمني المتكامل المتقن المترابط. فأي حد من سلطانها، أو انتقاص من صلاحياتها؛ يفضي إلى انهيار منظومة الأمن بكاملها، ويشل قدرتها على بلوغ أهدافها .
فإذا اتضحت هذه الوحدة العضوية بين عناصر الأمن الخمسة، وتجلى فيها موقع الدين المحوري؛ فإن ذلك يعرض علينا أن نتأكد من كفاية الحماية التي وفرناها لهذا العنصر الرئيس، وأي قصور في هذه الحماية أو غفلة عنها يهدد النظام الأمني بأكمله، ولعل ذلك يفسر لنا الاحتقان الناجم عن الحديث الفج والتفاؤل العشوائي الذي يكوَّن شعوراً في المجتمع بالاستهداف لدينه وأفكاره ومبادئه ومسلماته، والذي يتمثل في المحاولات المحمومة لدحرجة المرأة المسلمة في منحدرات التغريب والاختلاط، والبرامج العبثية التي تستهدف تغيير إيقاع حياتها المحتشمة.
ويتضح في التهجم على المعاهد والجامعات الإسلامية والمؤسسات الدينية، والجمعيات الخيرية والدور والحلق القرآنية، ويتجسد في العبث بالمصطلحات الإسلامية والجرأة على الرموز التاريخية والعلمية للأمة.
وهنا تتضح طبيعة العلاقة بين ظاهرة العنف هذه والاختراقات الظاهرة لسياج الدين، ولعله يتضح أيضاً مدى التهديد الذي تشكله بعض الأقلام المستهترة حين تسخر من خلال المقالة أو الرسم أو القصيدة أو المشهد، أو بربط متعسف بين الدين وكل حادث مشين أو تصرف أرعن، علماً بأن هذا الربط في الغالب لا يجيء علاجا للمشكلة بقدر ماهو تصفية لبقية حسابات أو سالف مواقف، أو تنفيس عن حبيس مشاعر مريضة، وليس رفضا للعنف؛ بل مقاومة للتدين وكل لوازمه وما يتعلق به.
===========(5/368)
(5/369)
دعاة الانقلاب على مصدر الشرعية
د. أحمد العمير 18/3/1424
19/05/2003
على إثر تسليم بغداد والاحتلال الأمريكي للعراق، بدأت بعض دول المنطقة تتعرض لضغوطات وتفاعلات داخلية وخارجية. وكانت السعودية من ضمن هذه الدول، مما أعاد للذاكرة المقولة الأمريكية التي رددتها مراكز دراساتهم والتي تقول أن العراق هو الهدف القريب والسعودية الهدف الاستراتيجي ومصر هي الجائزة الكبرى من هذه الحرب.
وانسياقاً مع المقولة وتفسيراً لها، نجد أن الأحداث قد تمخضت عن توثيق الصلات الأمريكية ببقية دول الخليج لمستويات أعلى مما كانت عليه من قبل، وتم التغاضي عن السودان، وتنامى التنسيق مع دول المغرب العربي بمافيها ليبيا التي تقدم التنازلات التي تؤهلها للمرحلة القادمة، كما تم التهويش الدعائي ضد سوريا ولبنان وإيران في نفس الوقت الذي تتزايد فيه صور التنسيق والتعاون التي قد تتطور إذا قبلت هذه الدول بالتنازل عن خيار المقاومة وتوقفت عن شعارات التمرد على المشروع الأمريكي في المنطقة.
في هذا الإطار نستطيع تفهم سر التركيز على السعودية ومصر في المقولة السابقة، لما تمثلانه من ثقل ديني وسكاني وسياسي واقتصادي. والتعبير بأن مصر ستكون الجائزة يوحي بأن انسياقها وتسليمها الشعبي وليس فقط الرسمي سيكون نتيجة طبيعية للانسياق والتحول الشعبي مع الرسمي في السعودية.
وإذا تذكرنا أيضاً مبادرة باول للشراكة الأمريكية الشرق أوسطية، نجد أنها تمحورت في بحثها عن أسباب الكراهية لأمريكا في المنطقة ، على " خطيئتها الوحيدة " …!! والمتمثلة في حصرها للتعامل والتعاون مع الحكومات وإقصاء وإبعاد الشعوب. ولذلك سيكون الحل - كما تطرح المبادرة - في إلزام الحكومات بإتاحة الفرص للإدارة الأمريكية وسفاراتها للتعامل مباشرة مع الأطراف والشخصيات الفاعلة في مجتمعاتها ومع المنظمات والهيئات غير الحكومية، ولكم أن تتخيلوا أي نوع من الشخصيات والهيئات سيتعامل معها الأمريكان.
تبعاً لذلك تزايد الحديث الإعلامي المكشوف عن لقاءات مع أعضاء السفارة الأمريكية في السعودية، بعد ان كان مجرد التفكير في ذلك سابقاً من المحرمات.
ومحصلة هذه المبادرة أن المطالب الأمريكية للتغيير في هذا البلد والتي تعاظمت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م ، لن يحتاج الأمريكيون لمتابعتها بأنفسهم، بل ستكون الأطراف المحلية "الوطنية" هي من سيقوم بهذا الدور، وستمارس الضغط المباشر وغير المباشر على صاحب القرار وعلى الأوضاع الاجتماعية لتمرير الأجندة الأمريكية التي تتبناها وتؤيدها هذه الأطراف. وذلك من خلال تملكها لزمام الإعلام في هذا البلد وتملكها للعديد من مفاصل القوة فيه.
ولقد تم تأجيل الخطوات التنفيذية لهذه المبادرة ومايتفرع عنها في الجوانب الدينية والاجتماعية والتعليمية والسياسية، إلى حين الانتهاء من حرب العراق حيث كانت المشاعر والعواطف ملتهبة والنتائج غير محسومة بعد. أما وقد انتهت الحرب بانتصار أمريكي ظاهري، تم الترويج له بآلة إعلامية ضخمة، فإذاً لابد أن يبدأ التنفيذ.
وبدأت خطواتها في السعودية من خلال حملة إعلامية متناغمة مترابطة على بعض الرموز الدينية في المملكة، ثم توسعت لتشمل التوجه الديني بعمومه ونظام التعليم في هذا البلد وليس الرموز فقط . وأصبح يكمل بعضها بعضاً فالذي لاتستطيع تناوله هذه الجريدة أو القناة أو الإذاعة لحساسيات معينة، تتناوله الأخرى وهكذا حتى شملوا بحملتهم أغلب الوسائل والأجهزة الدينية التي ميزت هذا البلد لسنوات طويلة، تهيئةً للنفوس ربما للتغيير القادم.
في ظل هذه الأجواء أعلنت وزارة الداخلية السعودية في 6/3/1424هـ عن ضبطها لكميات من المتفجرات والأسلحة في منزل بحي أشبيلية شرق الرياض أثناء تعقبها لبعض المطلوبين والذين لاذوا بالفرار، وتم الإعلان عن أسماء وصور تسعة عشر شخصاً من هؤلاء المطلوبين. وبعد خمسة أيام وقعت تفجيرات الرياض الضخمة.
ولقد عاشت السعودية أجواءاً إعلامية شبيهة بما عاشته الولايات المتحدة في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، مع الاختلاف في الحجم والنتائج. وكانت تداعيات الحدث والحوارات الناشئة عنه ذات خطر كبير.
وفيما يلي تناول لبعض هذه التداعيات من خلال المحاور التالية:
أسئلة حول ظروف الحدث:
ثارت بعد هجمات 11 سبتمبر في أمريكا تكهنات وأسئلة عن كيف دخل هؤلاء المنفذون رغم التحذيرات والتوقعات الاستخباراتية المسبقة. ومن الممكن أن تثار أسئلة أخرى هنا في المملكة :
- كيف يستطيع هؤلاء المنفذون من إدخال هذا الكم الضخم من المتفجرات والاحتفاظ به في مواقع مختلفة داخل المدينة، بل ويتمكنون من تنفيذ عملية التفجير بعد أيام فقط من ضبط كميات ضخمة من المتفجرات والأسلحة.(5/370)
- كيف يتمكن هؤلاء الملاحقون والمحاصرون من تحديد أهدافهم، ومعرفة تفاصيل هذه المجمعات وأماكن سكن القوات الأمريكية، وتحديد المكان الأكثر تأثيراً في المبنى عند وضع السيارة المفخخة، مما يضطر الأطراف الأمريكية للاعتراف بمهارة ونوعية التخطيط والتنفيذ. كيف يستطيعون كل ذلك وهم في مثل الحالة المذكورة سابقاً، وتنظيم القاعدة يمر بضغوطات وملاحقات عالمية.
- كيف يمكن الجمع بين العملية النوعية في مجمع شركة فينيل بحي الجنادرية، مع العملية الصاخبة في مجمع الحمراء بحي غرناطة، والمتضمنة لإطلاق نار على السكان!!؟ ودون أن تستهدف أحد من الأمريكان الذين لانعلم إن كانوا يقيمون في هذا المجمع أم لا ؟!
- قيل في البداية أن المنفذين خمسة عشر من التسعة عشر السابقين وأن الحدث وقع في الحادي عشر من ربيع الأول، في مقارنات إيمائية مع أحداث سبتمبر. كما قيل إن جثث تسعة منهم وجدت متفحمة (…). والسؤال كيف استطعنا تحديد عدد الخمسة عشر إذاً، وأين ذهب الستة الباقون وكيف عرفنا وجودهم وعددهم وهربهم إن كانوا هربوا !؟
- عرفت الأجهزة الأمنية في السعودية بأناتها وعدم تعجلها في الأعلان عن أي عملية جنائية أو إرهابية في البلد، فلماذا كان الاختلاف هذه المرة، والتصريح مباشرة باتهام القاعدة والتكهن بأن الخمسة عشر المتهمين هم من التسعة عشر المطلوبين سابقاً، علماً أن أحد هؤلاء قد سلم نفسه وتم الإعلان عن أن دوره ثانوي. فما مبررات هذا الإتهام المباشر والسريع إذاً ، والذي أيضاً أعلنه وزير الخارجية الأمريكي بعد ساعات من الحدث وقبل وصوله للرياض!!؟
خصوصاً أن الموقف السعودي أيام هجمات 11 سبتمبر كان رافضاًَ للاتهامات المباشرة ومطالباً بانتظار الأدلة، بل وحتى بعد شهور من الحدث لم تستبعد الأطراف السعودية وجود أيادي دولية وراء العملية برمتها.
فالسؤال لماذا لانكرر نفس المنهج مع هذه القضية أيضاً !؟ ونستمر في مبدأ عدم إطلاق الاتهامات إلا بعد ثبوت الأدلة.
ردة الفعل تجاه تفجيرات الرياض
رغم اتفاق الأكثرية على رفض هذه الأعمال وشجبها وإدانتها، إلا أن اللافت للنظر هو أن الموقف السعودي اختلف تماماً عما كان عليه أيام هجمات 11 سبتمبر.
كنا نرفض مقولة إما معنا أو مع " الإرهابيين"، فإذا بنا نكررها ذاتها. كنا نعتبر من التجني والظلم إلقاء التهمة والمسؤولية على الدين أو البلد الذي ينتمي إليه المنفذون، واليوم نلقي اللوم ونحمل المسؤولية كل المتدينين في البلد وبنفس الأسلوب. كنا نطالب الأمريكين بالبحث عن الأسباب التي دفعت هؤلاء للقيام بما فعلوه، واليوم نحن لانسمح حتى ولا بمجرد التفكير فضلاً عن الحديث عن شيء من الأسباب، ونعتبر كل ذلك من التبرير الخطير لهذه الأعمال، بل ونعتبر من يقدم هذه الأسباب الموصوفة " بالتبريرات" أنه ممن يحض على هذه التفجيرات ويشجع عليها .
ألا يعتبر هذا من ازدواجية المواقف. أليس الأولى بنا أن نتذكر ما كنا نطالب الأمريكان به ونبدأ بالتفكير العقلاني والمنطقي في هذا الحدث ولماذا يستمر من يتهمون بتنفيذه في تكراره، ماهي دوافعهم وماهي قضيتهم، لما لانرد عليها بالحجج والبراهين حتى نتجاوز عملياتهم ونتفادى تكرارها، بدل الأسلوب الأمريكي في التفكير الذي يروج له من يروج في بلدنا رغم أن فشله في علاج هذه الظاهرة قد ثبت بشكل متكرر.
توسيع الحملة الإعلامية على الدين وأهله
تلك الحملة الإعلامية غير المنصفة وغير الموضوعية، المتجنية على الدين وأهله، والتي بدأت قبل التفجيرات بأسابيع استفحلت وتوسعت وتجرأت بطريقة غير مسبوقة في هذا البلد. وأصبح المجال يفتح لأسماء غير معروفة إلا بعلاقاتها السابقة بالتيار الديني واختلافها معه. فأطلق لها العنان مع رموز التغريب في البلد وخارج البلد ممن يحتكرون وسائل الإعلام ويمثلون جزءاً من الأطراف" الوطنية" التي تستجيب وتتفاعل مع الأجندة الأمريكية لهذا البلد.
هذه الحملة - في تقديري- لاتقل خطورة في تطرفها عن هذه التفجيرات، بل إنها تمثل إرهاباً حقيقياً يفجر نسيج هذا المجتمع وينقلب على مصدر شرعيته. وتفجير الأفكار والقناعات والأخلاق أشد وأنكى أثراً من تفجير الأجساد و المباني.
ولقد تركزت رسائل أرباب هذه الحملة الشعواء في النقاط التالية:
1. بذرة التكفير والتفجير محلية وليست خارجية ولا بتأثيرات خارجية. بل تجرأ بعضهم ونسب ذلك لعلماء الدعوة النجدية ولتراثهم العلمي، الذي لا تزال البلد تعتبره مرجعية لها.
2. الخطاب الديني في البلد بكافة أطيافه هو المسؤول عن هؤلاء وهو المحرض لهم.
3. التعليم الديني الرسمي، في التعليم العام وفي مدارس التحفيظ وحلقات التحفيظ في المساجد والذي لا تزال البلد ترعاه وتدعمه، هو المسؤول عن هذه النتائج.
4. "التيار الديني" انعزالي وغير متسامح وضيق الأفق ولايقبل بالآخر ولايتعاطى مع الأوضاع المحلية فضلاً عن العالمية.(5/371)
هذه هي رسائلهم المهمة ولاتسأل عن المفردات والصياغات التي نترفع عن الحوار معها، أو الرد عليها. وليس من المبالغة في شيء لو قلنا أن ماسبق يمثل إنقلاباً حقيقياً على مصدر الشرعية والوجود والهوية لهذا البلد، فهل سيستمر البلد في السماح لهؤلاء بهذه الحملة!؟.
كما أنهم روجوا لردة الفعل "الأمريكية" على حدث تفجيرات الرياض والتي أشرنا لها في الفقرة السابقة. لكن المضحك أن بعض كتاب الصحف وبعض ضيوف القنوات خالفوا تقييد الحريات الاجتماعية والفكرية والإعلامية التي فرضتها أمريكا وعاش شعبها بسبب ذلك تغيراً ملفتاً ومعاناة، لكن إدارة الأمن الداخلي الجديدة أقنعت الجميع بأهمية ذلك خصوصاً إذا تبين أن المتضرر منه بالدرجة الأولى هم الأمريكيون المسلمون.!. الإعلاميون لدينا على غير العادة خالفوا هذا التحول الأمريكي الطبيعي في ظل الضغوط الأمنية، وطالبوا بإطلاق الحريات في السعودية ...!!! مما يدعو للسخرية والشفقة فهؤلاء القوم لا يتركون فرصة دون توظيفها لخدمة أهدافهم غير المعلنة، حتى لو أوقعهم ذلك في التناقض . وكأن الحرية قد منعت العمليات الإرهابية عن "بلد الحريات" ، إلا إن كانوا يقصدون إطلاق الحريات لهم وتضييقها على غيرهم كما حصل في أمريكا...!!.
الأزمة التي يواجهها أهل العلم والدعوة
تعرض رموز العلم والدعوة في هذا البلد لضغوطات متتالية من وسائل الإعلام المحلية والمهاجرة ليحددوا موقفهم ويعلنوا شجبهم وإدانتهم للحدث، في نفس الوقت الذي تمتليء فيه هذه الوسائل بحملات التشويه والتجني على هؤلاء الرموز.
وموقف العلماء والدعاة لايأتي ولاينبغي له أن يأتي انفعالياً ومتعجلاً، ولا أن تحركه وسائل الإعلام. وهذا الموقف معروف ومعلن منذ سنوات، فما الحاجة لتكراره الآن خصوصاً إذا تذكرنا أن العلماء ليسوا طرفاً سياسياً حتى يطلب منهم تحديد مواقفهم بأسرع وقت من وقوع الأحداث والتغيرات. بل هم هداة ومسددون لمسار المجتمع ويقدمون توجيهاتهم واجتهاداتهم قبل وبعد الأحداث للالتزام بها ولأخذ العبر والدروس منها. والحفاظ على دورهم ومكانتهم صمام أمان بإذن الله من هذه الشرور.
لكن الأزمة الحقيقية التي يعيشها أهل العلم والدعوة في هذا البلد أعمق بكثير من هذه الضغوطات أو الإساءات من هذه الجهة أو تلك، وفي تقديري أن هذه الأزمة هي أحد أهم الأسباب التي تزيد من تفاقم المشاكل في السعودية، ومنها مشكلة التطرف والغلو وتتركها دون حل حقيقي.
ويمكن تلخيص أبعادها في النقاط التالية :
1. الموقف الرسمي غير القابل لطروحات الشخصيات الدينية بدعوى رفضها لبرامج التحديث والتطوير للبلد وعدم فهمها للمتطلبات الدولية، تلك الدعوة التي يبدأ فيها ويعيد رموز التغريب المتنفذين.
2. التذمر الرسمي من اتساع طيف وتباين مواقف ومطالب ما يوصف "بالتيار الإسلامي" وهو في الحقيقة كيان واسع ممتد يشمل القطاع الأكبر من أهل البلد. في الوقت الذي يشتكي فيه هذا الكيان من دور التعامل الرسمي في خلق هذه الانقسامات وهذا التباين الذي يعقد المسألة.
3. عجز الكيان الإسلامي الواسع في هذا البلد أن يقدم قضيته بشكل واضح ومقنع لصاحب القرار، وأن يتمكن من طرح مطالبه بهدوء وأناة وثبات متصاعد. دون أن يضطر لتقديم التنازلات أو المراجعات إذا كانت تتعارض مع جوهر رسالته ودعوته، ولا أن يتردد في الاستجابة للمراجعات الضرورية والتي لاتؤثر في حقيقة دعوته.
4. الجماهيرية الواسعة التي يحظى بها أهل العلم والدعوة في هذا البلد المحافظ بطبعه، ويشهد بذلك بعض العقلاء في المجتمع الذين يرون على سبيل المثال أن أي انتخابات في هذا البلد ستأتي بهذا "التيار" دون سواه. وهذه الشعبية والجماهيرية هي مايخيف خصومه منه، لكنها في نفس الوقت تخلق أزمة لأهل العلم والدعوة بنوعية المطالب العاطفية الحماسية التي تنادي بها الجماهير دون أن يتاح لهم أي وسيلة جماهيرية واسعة لترشيد المسار وتعديل الاجتهادات.
5. الإقصاء المستمر للكيان الإسلامي وطاقاته وكفاءاته عن أي مشاركة حقيقية في أجهزة البلد القيادية المختلفة، وعن الأخذ برأيه في العديد من أوجه الحياة وسبل الإدارة والتوجيه للمجتمع. في نفس الوقت الذي يتزايد فيه منح الفرص والمراكز لطاقات وكفاءات ما يسمى بالتيار التغريبي الليبرالي.
6. التعامل الانتقائي مع أهل العلم والدعوة، بمعنى أنه حين تكون عجلة المجتمع ووتيرة استقراره تسير بانتظام كما رسم لها، يتم نسيان هؤلاء أو تناسيهم، كما يتم التغاضي عن التيار التغريبي وهو يشن حملات التشويه والاتهام والتجني بحقهم. ثم إذا حدثت الأزمات -كحادث التفجير في الرياض- يطالب أهل العلم والدعوة المستقلون وبإلحاح أن يكون لهم دور ومشاركة لكن بشرط أن يلتزموا بما يرسم لهم من دور وبالحدود المتاحة وفي التوقيت المتاح.
هذا التوظيف الانتقائي تحديداً يمثل أكبر العوائق في طريق أهل العلم والدعوة لو أردنا حقيقةً منهم أن يساهموا في العلاج والإصلاح.(5/372)
7. هنالك عدد من الأخطاء السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والاقتصادية في إدارة الشأن العام للبلد، وأهل العلم والدعوة يحاولون أن يبينوا مواقفهم من هذه الأخطاء ويقدموا مطالب بتعديلها بالوسائل المتاحة لهم، لكن تأخر الاستجابة لها، والاستمرار في التجاوب مع الطروحات والمطالب التغريبية في الشأن العام، هو أيضاً من معالم الأزمة ومما يزيد من الحرج الذي يواجهه أهل العلم والدعوة أمام الناس المنتظرين لدورهم وأثرهم وكلمتهم. كما أنه في نفس الوقت يضاعف من "المبررات" التي ترددها الأطراف التفجيرية وتدعي أنها مبررات.
وبناءاً على هذه الخلفيات، فلن يكون من المبالغة في شيء الإشارة إلى أنه مالم تتغير هذه الأبعاد ويتغير أسلوب التعامل مع الكيان الإسلامي الضخم، ومالم يتمكن هذا الكيان من تغيير وتطوير واقعه ومعالجة ثغراته فلن تهدأ الأمور ولن تستقر الأوضاع.
فكيان بهذا الامتداد التاريخي وبهذه القوة العلمية والحضور الميداني ويعيش في أرض تمثل عرينه الأول ويتحرك في منطقة نفوذه الأساسية لن يكون من السهولة تجاوزه أو تهميشه وأي محاولة في هذا الإطار ستنتهي بالصدامات والأزمات.
وفي نفس السياق لابد من احترام وتفهم إصرار هذا الكيان على العرض الشامل عند نقاش وتناول أحداث التفجيرات وأمثالها، بما يتضمن الخلفيات كلها. فالقضية ليست مجرد الإدانة والرفض والتجريم فحسب. بل المنطق يقضي بالبحث في الأسباب والدوافع حتى لاتتكرر الأحداث.
وسيكون من الخطأ الفادح في هذه المرحلة من تاريخ البلد أن يتم الاستجابة لدعاة الحل من خلال الانقلاب على مصدر الشرعية والهوية والوجود لهذا البلد، فليسوا والله بناصحين للبلد ولامريدين لنجاته.
والمنتظر لحل الأزمة - بعد لطف الله وعنايته- سيكون من أصحاب الشأن في البلد إذا أيقنوا أن مواجهة ضغوط الخارج لاتكون فقط بالاستجابة لها ولا بالتعامل فقط مع أنصار هذه الضغوط في الداخل، ومن الكيان الإسلامي نفسه إذا أيقن أن دوره وحجمه ومشاركته تقاس بما يستطيع هو أن يقنع الآخرين به وبما يثبته هو من صواب وخيرية رسالته وبما يقدمه هو من خطوات وبرامج ومشاريع محلية واسعة الانتشار والقبول يعالج بها أخطاء الماضي ويبشر فيها بمستقبل مختلف بإذن الله.
=============(5/373)
(5/374)
حرب العراق..هموم مستقبلية (1/2)
جمال سلطان 21/2/1424
23/04/2003
النهاية المدهشة التي انتهت بها حرب الولايات المتحدة في العراق، بهزيمة سريعة منكرة لصدام حسين ونظامه السياسي وتاريخه الدموي الاستبدادي، أفرزت الكثير من الدلائل، وجلت العديد من الحقائق التي طمرت في خضم العواطف الإسلامية التي تعصف بالوجدان المسلم كلما واجه آلة التجبر والاستكبار الأمريكية في أي بقعة من ديار المسلمين، والذي يهمنا الآن بعد انقشاع غبار المعارك والخيانات، أن نشير إلى أنه بقدر ما يكون تأمل الأحداث والأسى تجاهها، وتحليل جوانبها المختلفة مطلبا ضروريا ورشيدا، بقدر ما يكون تجاهل المستقبل واستشرافه ـ على وجه العجلة وبصفة الأولوية للتفكير الإسلامي ـ خطيئة سوف تورثنا المزيد من المهالك ما لم نتداركها، ومن أجل هذا التوازن بين تأمل ما حدث واستشراف ما وراء الأكمة، كان هذا الجهد ـ غير المكتمل ـ الذي تحمله تلكم الورقة .
حقائق
في تقديري أن أولى الحقائق التي ذكرتنا بها الموقعة الأخيرة هي أن صدام حسين صناعة أمريكية في الأساس، هم الذين أتوا به وحموه، وهم الذين أفشلوا كافة الخطط التي قام بها الشعب العراقي وهدفت إلى الخلاص منه، وتآمروا معه ، وللدرجة التي اعترف فيها القادة الأمريكيون -وهم يعانون في جنوب العراق في بداية الحرب- من أن المشكلة في أن الناس غير مقتنعين بمصداقيتنا في خلع صدام، ويرون أننا سنغدر بهم ونتركهم فريسة له كما فعلنا في السابق، والأمريكيون هم الذين وقفوا وراءه بكل ثقلهم عندما دفعوه إلى إعلان الحرب على إيران، وهم الذين زودوه بالسلاح الكيماوي الذي حسم به الحرب وأرغم الإيرانيين على الصلح، وهم الذين أغروه بفعلته الحمقاء عندما غزا الكويت في تصرف عنتري بائس يفتقر إلى أبسط معاني الإحساس بالمسؤولية، ثم وقفت القوات الأمريكية على حدود الكويت رافضة أن تنزل به العقاب رغم أن العالم كله كان معها آنذاك، كما أن التاريخ الحي سجل لنا أن أمريكا وبريطانيا وفرنسا، هم من تستروا على إجرام صدام ودمويته وقمعه الرهيب لشعبه بما في ذلك استعماله أسلحة دمار شامل ضد شعبه، والقصص في هذا الشأن سارت بها الركبان، فلم يعرف العرب في تاريخهم الحديث حاكما في دموية وإجرام صدام حسين وعصابة البعث، كما تشهد على كبره وغطرسته وتجبره " أوثانه " التي زرعها في كل مدينة عراقية تألها على شعبه وبثا للرعب والخوف في قلوبهم من أي معارضة له ولو كانت همسا، والمقلق أن البعض منا نسي أو تناسى كل ذلك، وافترض أن الرجل تاب وأناب وحمل راية الإسلام من جديد، لمجرد بعض الشعارات التي أتت في لحظة الإحاطة بفرعون " آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " .
قد يحاول بعضنا الآن أن يقول: إنه لم يكن يدافع عن صدام وإنما عن العراق وأرض الإسلام، وربما كان فينا ذلك الرجل، ولكن ما عايشناه وخبرناه -حتى من نخبة من أهل العلم- كان غير ذلك، لقد خدعنا، ثم باعنا الطاغية وباع بلاده وحضارتها لقوات الاحتلال مقابل أن ينجو بأولاده وعصابته والمليارات التي نهبها، في تواطؤ فاضح مع قوات الاحتلال التي ما زالت تزعم ـ للتعمية ـ أنها تبحث عن صدام ومن معه !!، ولو كنا جادين ومبادرين في وقوفنا مع العراق الشعب والحضارة، لكنا وقفنا ـ مبكرا ـ ضد هذا الطغيان، وأعلنا راية الجهاد ـ ولو باللسان ـ ضد القمع والاستبداد، ولكنا ـ نحن الإسلاميين ـ كنا في شغل آخر، نبحث في زلات سيد قطب، وغرائب الألباني، وهفوات بن باز، وعجائب القرضاوي، وأصبح الواحد منا أستاذ عصره في الجرح والتعديل، وملأنا الدنيا ضجيجا فارغا على هذا النحو، ونسينا رسالتنا الحقيقية، والأمانة التي لا تغادر عنق أي واحد منا، لم ننصر مستضعفا، ولم نضرب على يد طاغية ، ولم نرفع راية الحرية، ولم نتقدم طليعة أمة نحو الكرامة الإنسانية التي قررها الحق -تبارك وتعالى- في كتابه " ولقد كرمنا بني آدم "، وأنا هنا أتحدث عن مجمل الحالة وليس عن استثناءات مشرفة هنا أو هناك، لقد تركنا مساحات كبيرة من الفراغ فيما هو خطير وحال، بينما أضعنا أوقاتا وجهودا فيما لم نكلف به، بل تكلفناه .
دروس الموقعة(5/375)
يأتي في طليعة الدروس المستخلصة من هذه الواقعة، إدراك أن الشعوب هي التي تحمي وجودها وأوطانها طالما التحمت مع قضاياها، وكانت الملاحظة مذهلة أن بعض الشباب العراقي ومعهم شباب إسلامي من بلدان أخرى هم الذين خاضوا المعارك الكبرى في أم قصر والبصرة والناصرية والكوت وغيرها، وكبدوا العدو خسائر فادحة وأذهلوه ببسالتهم وأوقفوا تقدمه طوال ثلاثة أسابيع، بينما جحافل صدام وحرسه الجمهوري سلموا العاصمة إلى الأمريكيين في يومين اثنين دون قتال، فالذين ينشأون على العبودية لا يصلحون لمعارك التاريخ الكبرى، والذين يدافعون عن " شخص " غير الذين يقاتلون عن دين ووطن، وهذا درس للشعوب، وللنظم الحاكمة أيضا، فإن الشعب يكون داعما لنظامه السياسي عندما يستشعر أنه يعبر ـ حقيقة ـ عن اختياره، وهويته، ويحترم حرياته وكرامته، وعندما يشعر " المواطن العادي " أنه شريك حقيقي في صناعة مستقبل بلاده، وأما خرافة أن نظاما مستبدا مجرما يصنع قوة عسكرية مهابة، ويؤسس دولة تحمي الوطن وتؤمن مستقبله، فهذه خرافة سقطت مع سقوط أول أصنام صدام حسين في بغداد، ومن توابع هذه الحقيقة ندرك أن العراق والشعب العراقي لم يهزما، وإنما المهزوم هو نظام صدام حسين الذي سبق له أن أهان العراق وشعبها وهزمهما وأطاح بكرامة الإنسان العراقي، قبل أن يأتي الأمريكان أو غيرهم، إن معركة أمريكا لم تكن أبدا مع الشعب العراقي ، وإنما كانت مع نظام صدام ، وعندما تأتي ساعة المواجهة والمعركة الحقيقية بين الشعب العراقي وأمريكا ، سيرى العالم صورة مختلفة تماما ، ولن تقوى لا أمريكا ولا غيرها على هزيمة إرادة شعب مقاوم، هكذا علمنا التاريخ، وهكذا كان درس أمريكا ذاتها في أكثر من مواجهة على مستوى العالم .
الدرس الثاني : هو ثبوت حاجة الإسلاميين إلى وعي سياسي كبير ومتواصل مع الحدث المحلي والإقليمي والدولي، والوعي السياسي يأتي من أحد طريقين : الممارسة السياسية الفعلية من خلال المنابر السياسية المتاحة كأحزاب أو منتديات سياسية أو جماعات ضغط أو صحف وما شابه ذلك، أو من طريق البحث والدراسة في العلوم السياسية والتاريخ السياسي وما يتصل بها، والحقيقة أن قطاعا كبيرا من الإسلاميين يهلكون وقتا كبيرا في دراسات شرعية متخصصة لا تتمخض عن قيمة عملية لهم، سواء كدعاة أو فقهاء أو علماء أو حتى مفكرين، في حين يتم تجاهل التربية السياسية المناسبة، رغم أنها هي التحدي اليومي الذي يواجه الإسلاميين كقوة سياسية أو شعبية أو حتى تربوية وأهلية، والفراغ الكبير في وعي الإسلاميين السياسي يحرمهم من ترجمة وجودهم القوي جماهيريا إلى مكاسب دعوية وإصلاحية وسياسية محليا ودوليا ، لأن الجهود تصب في عماية أو تهدر في خواء، ولا توجد رؤى وآفاق متكاملة ومتوازنة تدرك قيمة كل خطوة، فضلا عن موازنات السياسة المحلية والإقليمية والدولية وهذا خطأ كبير .
الدرس الثالث : وهو موصول بما سبق، وهو حاجة العاملين للإسلام إلى جهد مؤسسي واسع ونشط في مختلف أصعدة ما يسمى " بالمجتمع الأهلي "، بدءاً من الجهود الكبيرة والفعالة على صعيد الإعلام بمختلف صوره وأشكاله، مرورا بالمؤسسات الحقوقية التي تنهض بنصرة المستضعفين خاصة من أهل الإسلام بأساليب أكثر عصرية ونفاذا في الواقع الدولي الحالي، فضلا عن مراكز البحث والدراسات الرصينة وذات الإمكانيات العلمية والإنسانية والمادية العالية، والتي تمثل مرجعية للعقل المسلم والجهد المسلم في فهم الواقع واستشراف المستقبل، وبشكل عام فإن معظم قطاعات " الأنشطة المدنية " تمثل نقاط فراغ هائلة في الحالة الإسلامية، مما يجعل العقل الإسلامي إما مغيبا عن حقائق الواقع وتحدياته، أو أسيرا لرؤى ومفاهيم وتوجهات أخرى تنسرب في عقله ووجدانه بخفاء ويسر .(5/376)
الدرس الرابع : هو ضرورة تحجيم النزعات العاطفية لدى التيار الإسلامي في مواقفه تجاه النوازل الجديدة الحالة بالأمة، ولا أقول تجاوز العاطفة؛ لأنها قيمة إنسانية وشرعية مهمة ودافعة لحيوية أي عمل ونشاط، ولكن المشكلة تأتي من انفراد العاطفة بتشكيل الموقف، وإنما تأملات العقل والخبرة السياسية والدعوية والحسابات الدقيقة للمواقف من شأنها أن توفر الكثير من الطاقات الإسلامية المهدرة، وأن تجعل الجهد الإسلامي أكثر فاعلية وتأثيرا وإثمارا، وفي الموقف الأخير من أحداث العراق، ومع الإعزاز الأمين للموقف الأخلاقي الرائع لبعض الشباب الإسلامي الذي ذهب للقتال في العراق ضد الغزو الأمريكي، والقيمة الرمزية الكبيرة لهذا العمل، إلا أن " القيمة العملية " لم تكن مناسبة ، ولا أقول خاسرة، وربما كانت الحسابات الأصح تجعل توقيت هذا الدعم بعد ذلك وليس قبل الحرب، حيث تنجلي المواقف خاصة وأن النظام الذي يحكم هناك ليس إسلاميا بكل المقاييس، وليس أمينا ولا شريفا بشهادة التاريخ، وربما كان الأمر بحاجة إلى "ضمانات" سياسية تحول دون تحول الشباب الإسلامي إلى " ضحية " لغدر هذا أو ذاك، وربما كانت هناك صيغ أخرى لدعم الشعب العراقي أكثر قيمة مما كان، ولا شك في أن الدور المستقبلي للدعم الإسلامي للعراق سيكون أهم مما قدم أثناء الحرب، بل ولعله يكون حاسما في تشكيل مستقبل هذا البلد العريق .
إيجابيات الحدث
الذي لا شك فيه أن هذه الأحداث لم تخل من إيجابيات لا ينبغي أن نغفل عنها في خضم تأملنا لمأساة الشعب العراقي ومأساتنا معه، وأهم هذه الإيجابيات على الإطلاق هي خلاص الشعب العراقي والأمة بكاملها من أحد أعتى النظم الديكتاتورية التي عرفتها في تاريخها الحديث، لم يكن صدام حسين والبعث مجرد حكومة مستبدة وظالمة، بل كانت كارثة على العراق والعرب والمسلمين، ولنكن صرحاء، فإن صدام حسين وزمرته كان من المستحيل نزعهم من العراق والمنطقة إلا بهذه الطريقة، رغم كراهيتنا البدهية له، فقد تمكن هذا الطاغية مع ولديه وزمرته من نشب أظافر الجبروت في الجسد العراقي بصورة مخيفة ومروعة، وكان العجز الشعبي عن التغيير واضحا على مدار السنين والمحاولات، وبعض هذا العجز كان بتواطؤ قوى غربية مع نظام صدام ، بمن فيهم الولايات المتحدة، التي طالما تواطأت معه ضد شعبه وجيرانه، إن خلع صدام من أرض العراق هو حدث إيجابي كبير، يمكن للأمة وللشعب العراقي ـ لو عزمنا وأحسنا التصرف ـ أن نجعله بداية نهار جديد في العراق يعيده مركز إشعاع علمي وديني وثقافي وحضاري للأمة جميعا، وحتى إذا عجزنا على المستوى السياسي لسنوات مقبلة بفعل الاحتلال الأجنبي والهيمنة الأمريكية، إلا أن مساحات كبيرة من العمل الأهلي والتربوي والدعوي والثقافي والخيري، يمكن أن تغير وجه العراق، وتعيد بناءه إنسانيا من جديد، فهل نحن فاعلون؟ .
أيضا من إيجابيات هذا الحدث هو تحول الولايات المتحدة إلى " منبوذ " العالم الأكبر، على مستوى الشعوب وعلى مستوى الحكومات، ولقد أصبحت الولايات المتحدة لأول مرة في تاريخها تواجه عزلة عالمية مذهلة، صحيح أن الإدارة اليمينية المتعصبة الآن تحاول تجاهلها، إلا أن هذا لا يغير ما يراه العالم كله، وهناك قناعة الآن بأن أمريكا تشكل خطرا على السلام العالمي، وتمثل إدارتها اليمينية المتطرفة الحالية كارثة على مستقبل الإنسانية كلها، وهذا مكسب مهم تتعدد أبعاده، وتتعدد السبل والوسائل والاتجاهات التي يمكن الإفادة منها لصالح قضايانا المصيرية .
معالم مستقبلية :
في استشراف معالم المستقبل ، يكون من الصعوبة بمكان وضع تصور محدد لها ، لأن الحالة ما زالت متحركة وغير واضحة المعالم ، ولكن هناك إشارات متعددة يمكن منها استخلاص بعض هذه المعالم التي هي في طور التشكل ، الإشارة الأولى: هي بداية ظهور ما يمكن تسميته بالمستنقع العراقي الذي ستتورط فيه الحكومة الأمريكية ، وذلك من خلال عمليات عسكرية متقطعة تمثل حرب استنزاف ، اعترفت بها القيادة العسكرية لقوات الاحتلال ، وسط العديد من القتلى والجرحى على مدار الأيام التي أعقبت إعلان انتهاء المواجهات العسكرية الكبرى ، وهذا التطور من شأنه أن يبلور مع الوقت نواة لحركة مقاومة عراقية منظمة ستحيل الوجود الأمريكي هناك إلى جحيم لا يطاق ، وربما كان في الطلب المفاجئ الذي وجهته الإدارة الأمريكية إلى أكثر من ستين دولة في العالم لإرسال قوات لحماية الأمن الداخلي في العراق مؤشر على استشعار الإدارة الأمريكية للصعوبات التي بدت بوادرها في العراق ، ومن أسف أن بعض الدول العربية أبدت استعدادها للمشاركة ؛ كقوات شرطة تحت القيادة الأمريكية .(5/377)
الإشارة الثانية: هي تبلور وعي شعبي سريع ومفاجئ لدى الشعب العراقي بخطورة الوضع الجديد والإملاءات الأمريكية الفجة في التعيينات الإدارية الجديدة ، وهو الأمر الذي تجلى في تظاهرات عنيفة تحولت إلى مأساة حينما فتحت القوات الأمريكية النار على المتظاهرين فقتلت وأصابت العشرات ، بما يعني أن الأمريكيين بدؤوا يمارسون نفس الدور القمعي الإرهابي الذي كان يمارسه (صدام حسين) ضد شعبه ، وهذا الوضع يؤسس لحشد نفسي شعبي متزايد ضد الوجود الأمريكي يجعل من استمراريته في العراق أمراً مشكوكاً فيه .
الإشارة الثالثة: هي في الإحراجات التي حاصرت المعارضة العراقية القادمة من الخارج مع الدبابات الأمريكية ، وهي إحراجات دفعت بعض رموزهم " مثل )أحمد الشلبي( " إلى إعلان استنكارهم لأي وجود مستقبلي طويل للقوات الأمريكية في العراق ، وهذه التصريحات تكررت عبر آخرين من المعارضة الخارجية ، وسواء قيلت على سبيل النفاق للحالة الشعبية أو كان إدراكا حقيقيا ؛ إلا أن المحصلة واحدة في الحالتين، وهي إدراك القوى السياسية الجديدة أن الوجود الأجنبي مستحيل الاستقرار في العراق الجديد ، وهذا الأمر مرشح لتفجير المزيد من التوترات بين القوى السياسية ـ حتى المتأمركة ـ وبين قوات الاحتلال .
الإشارة الرابعة: وتتمثل في التسريبات الصحفية المتزايدة ، وأخطرها من الصحافة الروسية ، عن بعض تفاصيل الصفقة الإجرامية بين الإدارة الأمريكية وبين (صدام) وزمرته، والتي أشرف عليها السفير الروسي في بغداد وقضت بتسليم (صدام) للعاصمة بدون قتال مقابل ضمانات بتوفير ممر آمن له ولأعضاء حكومته وأسرته للخروج إلى دولة مجاورة ، ومنها إلى روسيا ، مع ضمانات بعدم الملاحقة الأمنية والمالية ، وهي الصفقة التي يتزايد رسوخها الآن في الأوساط السياسية والإعلامية رغم الدجل الأمريكي بالإعلان عن مكافأة لمن يدلي بمعلومات عن (صدام) والقيادة الهاربة ،أو التسريبات السخيفة عن رؤية (صدام) في أحد مساجد بغداد، أو مشاهدة آخرين له في بعض أحيائها ، فكل ذلك محاولات دؤوبة للتغطية على " الفضيحة " التي سوف تحرم الأمريكيين من بهجة انتصارهم ، وتصمهم بالتواطؤ المشين مع الطاغية، الذي زعموا أنهم جاؤوا لمعاقبته وتحرير شعب العراق منه ، بينما هم دمروا العراق وشعبه، ثم كافؤوه بضمان خروجه بما اغتصبه من مال الشعب، وتحصينه من المحاكمة على جرائمه ضد شعبه ، وهذه " الصفقة " سوف تزيد من مستوى الكراهية التي ستتصاعد لدى الشعب العراقي ضد قوات الاحتلال، الذي سيكتشف أنها تآمرت عليه مع (صدام) وزبانيته .
انعكاسات الوضع الجديد في المنطقة(5/378)
بلا شك فإن الحرب على العراق قد أقضت مضاجع العديد من النظم السياسية العربية في المنطقة ، وسوف يكون لها آثارها على تطور أوضاع داخلية ، فالحرب بمستوى العنف الذي مارسته القوات الأمريكية تركت انطباعا بأن الخطط التي سبق وأعلنت في أمريكا عن صياغة شرق أوسطي جديد ، والتأسيس لنظم سياسية تقوم على التعددية والديمقراطية واحترام الحريات العامة ونحو ذلك ، إضافة إلى أن تكون غير معادية للولايات المتحدة وإسرائيل ؛ هي خطط جدية وليست مجرد تهويمات أو تهديدات ، ولقد تصاعدت موجة من مطالب المثقفين في عديد من دول المنطقة إلى ضرورة إجراء النظم السياسية إصلاحات عاجلة تتضمن انفتاح السلطة على شعبها قبل أن يأتي ذلك بقوة الخارج . والحقيقة أن مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة قد تبلور لديها ـ في سعيها إلى إجابة السؤال : لماذا يكرهوننا؟ ـ قناعة مفادها أن أحد أهم أسباب الكراهية للولايات المتحدة هو دعمها للنظم القمعية في المنطقة ، وهو القمع الذي تذهب ضحيته الشعوب المغلوبة على أمرها ، الأمر الذي يجعل هذه الشعوب تدرك أن " أمريكا " هي شريك أساس في هذا القمع الواقع على الشعوب ، كما أن أحداث 11 سبتمبر تركت انطباعاً لديهم بأن الكبت وانعدام الحريات في الشرق الأوسط والفكر البوليسي لنظم الحكم وانتشار التعذيب على نطاق واسع وانعدام وجود اعتبار لحقوق الإنسان هو الذي ولد دوامات العنف المسلح والذي انتهت " شظاياه " إلى أمريكا ذاتها ، ومن ثم فإن " الشأن الداخلي " في العالم العربي لم يعد بمنأى عن اهتمام الإدارة الأمريكية؛ بل هو أصبح جزءًا من الأمن القومي الأمريكي ، وهذا الكلام أصبح معلناً من خلال أجهزة إعلام وصحف ومجلات متخصصة، فضلا عن تصريحات العديد من المسؤولين الحاليين والسابقين في الإدارة الأمريكية وأجهزتها الأمنية ، والذي لا شك فيه أن مثل هذه التطورات المقلقة للنظم العربية سوف تربكها بصورة كبيرة ، وتضعف مواقفها الداخلية ، وسوف تجعلها تعيد النظر ـ بدرجة أو أخرى ـ في علاقاتها مع شعوبها ، وإن كان الأخطر في حالة الضعف هذه هي الانزلاق في تقديم تنازلات سياسية مخجلة ومهينة على مستوى القضايا المصيرية الإقليمية والدولية ، وفي مقدمتها بطبيعة الحال ، قضية فلسطين ، ولكن ؛ حتى هذه التنازلات لو وقعت فإنها لن تنجيهم من الملاحقة الأمريكية ، لأن القناعة الآن هناك أن الشأن الداخلي العربي يحتاج إلى تعديل جذري ، وأنه ـ كما سبق ـ أصبح مؤثراً مباشراً على الأمن القومي الأمريكي .
وفيما يخص التهديدات بالعمل العسكري المباشر ضد سوريا أو غيرها ، فهو ـ في تقدير العديد من الخبراء ـ أمر مستبعد لاعتبارات عديدة تتعلق بالمشروعية والإجماع الدولي ضده ومخاطر التداعيات في المنطقة التي ستختلف عن الوضع في العراق، فضلا عن القلق من خوض تجربة مقلقة جديدة قد تمثل إحراجا للعسكرية الأمريكية، خاصة وقد واجهوا إحراجات كبيرة في جنوب العراق رغم هشاشة الوضع هناك ، ولولا الصفقة الغامضة في بغداد لكان من العسير عليهم دخولها دون خسارة الآلاف من الجنود.
فالعمل العسكري غير مطروح " الآن " ولكن تبقى هناك مساحات كبيرة للضغط المؤثر والعنيف ، خاصة مع نظم سياسية لا تملك قوة تماسك شعبي داخلي كافية ، ولا تملك دعماً إقليمياً عملياً وجاداً تستطيع أن تتحصن به .
رؤية مغايرة للموقف الإسلامي
هذه التطورات الجديدة من شأنها أن تفرض على الإسلاميين -بشكل خاص- وعياً جديداً بها، وقدرة عالية على التعامل بحكمة وأفق مستقبلي معها، فإعلان الرفض الكامل لكل ما يطرح من قبل القوى الغربية -بما فيها أمريكا- ليس موقفاً حكيماً، كما أن التصديق الكامل بكل العبارات والرؤى الجميلة التي تعلن عنها الإدارة الأمريكية هو محض سذاجة سياسية، وكذلك الموقف من النظم الرسمية في العالم العربي، إذ إنه من الممكن -بل الراجح- أن تحاول كثير من النظم فتح أبواب التواصل مع التيارات الإسلامية، وكسب ودها لجعلها في صفها ضد الضغوط الأمريكية، بوصف الإسلاميين هم القوة الشعبية والجماهيرية الوحيدة تقريبا في الشارع العربي، وبنفس المنطق نقول أيضا: بأن رفض أية مبادرات سياسية داخلية للإصلاح، وتحسين الأوضاع السياسية والإنسانية في المجتمع من قبل الحكومات هو موقف غير حكيم، وبالمقابل فإن الدعم المطلق والمجاني لموقف هذه النظم -أمام الضغوط الأمريكية أو الأوربية دون أن تقدم على مصالحات عملية مؤسسية مقنعة مع شعوبها- هو سذاجة، وإنما الأمر تحكمه اعتبارات المصالح العامة للمجتمع وهويته ودينه، وكرامة إنسانه وحرياته العامة واستقلال إرادته السياسية محليا ودوليا، وباختصار اضطراري نقول: بأن العواطف وحدها -في هذه اللحظة التاريخية الفارقة- تكون سلوكا أحمق، والعقل والحكمة والوعي السياسي والتاريخي والمستقبلي هو وحده الذي يجعل الأمة تفيد من هذه اللحظة لصالح حاضرها ومستقبلها.(5/379)
في ما يتعلق بالشأن الإسلامي أيضا، فعلى غير ما يتصور البعض أن الاحتلال الأمريكي الحالي للعراق سيمثل ضغطا على الأوضاع السياسية في المنطقة، فإن الذي لا شك فيه أن تحرر العراق من قبضة (صدام) والبعث سيعيد المجتمع العراقي -رغما عن الهوى الأمريكي- إلى أمته من جديد، وسوف ينفتح العراق على مختلف التيارات والحركات السياسية في المنطقة، بما في ذلك الحركات الإسلامية المختلفة، وهناك بالفعل -خلال السنوات العشر الأخيرة- إحياء إسلامي كبير في العراق، تعمد النظام البعثي تركه يتفاعل، لإدراكه بالحاجة إليه في مواجهة الضغوط الأمريكية، التي بدأت بالحصار والتهديدات المتوالية بالحرب، والمهم أن عودة المجتمع العراقي إلى أمته ومحيطه العربي والإسلامي سيمثل دعماً كبيراً للدعوة الإسلامية، وإضافة مهمة للمسار الإسلامي على مختلف الأصعدة، فالعراق ثقل فكري وحضاري وأدبي وديني كبير، والدمار الذي أحدثه فيه البعث لن يكون بحجم الدمار الذي أحدثه الاتحاد السوفييتي في الجمهوريات الإسلامية على مدار ثلاثة أرباع القرن، ومع ذلك فهي تعود من جديد إلى الإسلام، وينبغي النظر إلى الوضع الاجتماعي الجديد في العراق من هذه الزاوية، ولا يستغرقنا الشأن السياسي ومراراته وتوازناته عن (العمق الاجتماعي)، وعلى المؤسسات الإسلامية الدعوية والخيرية والثقافية وغيرها المبادرة بسرعة لاصطناع الجسور مع المجتمع العراقي الجديد وملء الفراغ، قبل أن يملأه آخرون بتيارات التغريب والتخريب الثقافي والتربوي والأخلاقي
==============(5/380)
(5/381)
الحرب الأمريكية على العراق أسبابها والموقف منها(1/2)
د.عوض القرني 9/1/1424
12/03/2003
إن ما يسمى بمنطقة " الشرق الأوسط " تتعرض لمخاطر جسيمة وتحديات مصيرية، قد تكون أشد خطورة وأبلغ أثراً مما تعرضت له المنطقة في نهاية الحرب العالمية الأولى .
وقد تكون هذه الأحداث هي حجر الزاوية في إعادة رسم وتشكيل خارطة القوى العالمية، ومناطق النفوذ لهذه القوى في العالم خلال القرن القادم .
البداية في حرب الخليج الثانية :
لقد رسمت أمريكا في حرب الخليج الثانية ملامح المستقبل لصالحها ونصبت نفسها زعيمة للعالم بتلك الحرب .
لقد قلتُ في سنة 1411 هـ إن تلك الحرب ليست مفاجئة ولا على غير المتوقع، بل هي حرب يعد لها منذ سنوات بعيدة من خلال العديد من الاحتمالات المتوقعة في نظر مخططي تلك الحرب وقلت في حينها :
إن لهذه الحرب دوافع وأهداف للاعب الرئيس فيها " أمريكا "، أما اللاّعبون الصغار فإنما هم أدوات يُضرب بعضها ببعض، ويُجعل بعضهم طعماً للبعض الآخر.
وأستميح القارئ عذراً لأُذكِّر باختصار بما قلت في حينها، وليقارن القارئ الكريم ذلك بما وقع في النهاية، لقد قلت: إن لأمريكا من هذه الحرب عدة أهداف منها :
1 - ضرب القوة العسكرية العراقية الناشئة التي بنيت بأموال الخليجيين وإشراف أمريكا؛ لئلا تشكل هذه القوة تهديداً مستقبلياً لإسرائيل، بعد أن استنفدت دورها في ضرب إيران وتشغيل مصانع السلاح الغربي .
2 - ضرب القوة الاقتصادية للدول الخليجية، والتي كان لها أبلغ الأثر في دعم البنية التحتية للصحوة الإسلامية على مستوى العالم من مساجد ومراكز ومدارس وجامعات ومجلات وكتاب وشريط وغير ذلك، بالإضافة لما تمثله من دعم لدول المواجهة مع إسرائيل وللشعب الفلسطيني ومن تنمية واعدة لشعوب المنطقة .
3 - وضع بترول المنطقة تحت السيطرة شبه المباشرة للقوات الأمريكية، وهو ما ظلت أمريكا تعمل له منذ عام 1973م، ولم تعد تثق في التفاهمات السياسية أو تعتمد عليها لتأمين إمدادات الطاقة للمدنية الأمريكية .
4 - فرض الصلح بين العرب وإسرائيل بما يحقق الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة ويضمن لها الاستقرار المستقبلي، وتدشين ما سمي بالشرق الأوسط الجديد بديلاً للروابط الدينية والقومية .
5 - إثارة القلاقل في دول المنطقة بين الأنظمة، بإثارة بعضها ضد البعض الآخر وتخويف بعضها من بعض، وبين الأنظمة والشعوب من خلال استفزاز الشعوب بالوجود الأمريكي في المنطقة، ومن خلال الأعباء الاقتصادية المترتبة على الحرب وعلى الوجود العسكري الأمريكي بعد الحرب، مما يؤثر على معيشة الناس وحياتهم .
6 - ضرب الصحوة الإسلامية على امتداد الساحة العالمية والتي كان لمنطقة الخليج الدور الأكبر في دعمها ونشرها، مما سيؤدي إلى ردود فعل عنيفة واستهلاك للجهود في الصراع الداخلي .
وإنني أتساءل بعد هذه السنين هل صدقت هذه التوقعات التي كانت في حينها مدعومة بالوثائق والأدلة والبراهين، والتي استفز القول بها بعض المسبحين بحمد أمريكا، والتي قد تكشف الأيام ضلوعهم الكبير في تنفيذ مخططها .
وها نحن اليوم وجهاً لوجه في مواجهة أمريكا مرة أخرى وفي منطقة الخليج أيضاً ، فما أشبه الليلة بالبارحة .
لقد ترددت كثيراً قبل الكتابة في هذا الموضوع لا يأساً ولا إحباطاً - عياذاً بالله - ولكن لظني أن الأحداث قد أصبحت أكثر من أن تخفى على أحد، حتى فوجئت ببعض طلبة العلم وبعض المثقفين يخوضون فيها خوضاً عجيباً، فرأيت لزاماً أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع؛ أداءً للواجب وإسهاماً في بيان الحق، وتثبيتاً للناس ولعل وعسى، وسيكون الحديث من خلال المحاور الآتية :
المحور الأول :
دوافع أمريكا في هذه الحرب
ما فتئت أمريكا تعلن صباح مساء أن هدفها من الحرب هو نزع أسلحة الدمار الشامل في العراق؛ حتى لا يشكل خطراً على جيرانه، لكن كل عاقل في العالم يعلم أن هذه مجرد شماعة تعلق عليها المقاصد الأمريكية الحقيقية ، فالعراق دمرت قوته العسكرية في حرب الخليج، ثم استباحت فرق التفتيش والتجسس الدولية كل شبر فيه طوال عشر سنوات، بالإضافة للقصف شبه اليومي الأمريكي والبريطاني لشماله وجنوبه والحصار المفروض عليه، والتصوير بالأقمار الصناعية والطائرات التجسسية، وقد اعترف بذلك مسئولو فرق التفتيش السابقين، ولقد رأينا عجباً في بحث فرق التفتيش عن الأسلحة النووية وغيرها في المساجد ومصانع حليب الأطفال والكليات التي يدرس فيها آلاف الطلاب، وكأنه لم يكف العراق أنه ابتلي بحاكم علماني مجرم فعل فيه الأفاعيل حتى ابتلي بهذه الحرب الصليبية الحاقدة الظالمة التي مات بسببها ملايين الأطفال والنساء والشيوخ، وأذل بها شعب كامل كان لزمن طويل غرة في جبين الحضارة وحامل مشعل التقدم والمدنية.
وإذا لم تكن هذه الدعوى الكاذبة المرفوعة هي السبب الحقيقي، فما هي الأسباب يا ترى ؟(5/382)
إن هذه الحرب هي استمرار لسابقتها وتطوير لأهدافها، ومحاولة لاستدراك ما لم يمكن تحقيقه من الأهداف السابقة، فهي حلقة من مشروع استعماري صهيوني صليبي جعل وجهته وميدان معركته الساحة الإسلامية العربية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وجعل عدوه البديل هو الصحوة الإسلامية وما تمثله من آمال مستقبلية لشعوب المنطقة في الوحدة والحرية والأصالة، ودفع الهيمنة الاستعمارية الغربية وما تمثله من نقيض للأمة الإسلامية عقدياً وقيمياً وتاريخياً ومصلحياً .
وقبل الحديث عن دوافع أمريكا من هذه الحرب أحب أن أذكّر ببعض البدهيات والحقائق الكبرى؛ حتى لا تُنسى في صخب الأحداث وتفاصيلها اليومية وهي :
1 ) أن عداوة اليهود والنصارى للمسلمين من الحقائق الثابتة واللازمة لهم نطق بها الكتاب المستبين، وأثبتها الواقع التاريخي عبر أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وهذا الحكم هو الغالب والأعم وتبقى الاستثناءات منه التي تأتي لإثباته لا لنفيه { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }.
2 ) أن هذه العداوة لا تبيح لنا أن نظلمهم أو نغمطهم حقهم، ولا تمنعنا من الحوار معهم إما لدعوتهم أو لحل المشكلات الناشئة بيننا وبينهم، أو بالاستفادة مما لديهم من صناعة وتقنية ومدنية، لكن أيضاً يجب ألا يغيب عن بالنا أن الجهاد هو درع الأمة وعدتها التي واجهت بها عدوها في جميع مراحل تاريخها .
3 ) أن الأمة ابتليت نتيجة لهيمنة النموذج الغربي عالمياً بفئةٍ من أبنائها يتكلمون بلسانها ويعيشون في داخلها، لكن وجهتهم غير وجهتها وعقائدهم غير عقائدها وقيمهم غير قيمها، وهم شتى طوائف العلمانية من يسار ويمين وقوميين وأمميين وحداثيين وليبراليين وغيرهم من الأصناف والفرق .
وهم ما بين طابور خامس يخدم الآخر عن قناعة واختيار أو تائه ممزق بين فكره التغريبي وعواطفه الوطنية القومية، ونحن في أشد الحاجة للحوار مع هؤلاء ومعالجة مشكلتهم والتعامل مع كل فئة منهم بما يصلح لها.
4 ) أن الهجمة من الخطورة والشراسة والضخامة، بحيث لا تستثني أحداً حكومات وحركات وشعوب، إنما هناك أولويات ولذلك يجب أن نتعامل معها على هذا الأساس، وأن نرجئ الثانويات في سبيل مواجهة المشكلات الكبرى.
أما أسباب الهجمة الأمريكية على العراق من وجهة نظري فهي:
1/ لا شك أن القرن الواحد والعشرين هو قرن الصراع على الطاقة البترولية، حيث إن الغرب منذ عام1973م وهو يسعى سعياً حثيثاً لإيجاد بديل للبترول، لكن هذه المساعي لم تحقق نجاحاً يذكر، والقرن الواحد والعشرون -حسب الإحصاءات القائمة الآن- هو القرن الأخير للبترول تقريباً، فمن سيتحكم في هذه الطاقة سيتحكم في العالم، وهيمنة أمريكا على العالم الآن في أوج عظمتها، فهي تتعامل مع جميع دول العالم بمنطق فرعون { ما علمت لكم من إله غيري }، { وما أريكم إلا ما أرى }.
فهي إذا فرصتها للسيطرة المباشرة على مصادر الطاقة قبل أن تنشأ قوى أخرى تنافسها على ذلك أو لا تسمح لها بالتفرد بالسيطرة مثل أوروبا الموحدة تقودها فرنسا وألمانيا أو الصين في المستقبل، وبالذات لو تم شيء من التفاهم أو التحالف بينها وبين روسيا أو اليابان.
وقد ثبت أن خزان الوقود البترولي الأكبر في العالم يمتد من بحر قزوين عبر أذربيجان وإيران والعراق إلى الخليج، وها هي أمريكا من حرب الخليج الثانية قد سيطرت أو كادت على بترول الخليج، وبعد احتلال أفغانستان وصلت شواطئ بحر فذوين، ولم يبق إلا الاستيلاء على العراق وإيران .
ولأنّ العراق الحلقة الأضعف والعرب الجدار الواطئ والمبررات جاهزة " أسلحة الدمار الشامل " فلتكن البداية بالعراق ولن تكون إيران بعد ذلك بعيدة عن متناول اليد الأمريكية بعد أن تكون قد طوقت من جميع الجهات .
ومن هنا ندرك لماذا هذه المعارضة الشديدة للحرب من ألمانيا وفرنسا اللتين تسعيان جاهدتين لإقامة أوروبا الموحدة بعيداً عن أمريكا، بل ربما يوماً ما في مواجهتها، وهما يدركان ماذا يعني سيطرة أمريكا على احتياطي النفط العالمي في القرن القادم، وبالذات أن الفريق الحاكم في أمريكا يسيطر عليه رجالات النفط ومديرو شركاته الكبرى .(5/383)
2/ من خلال النفوذ الصهيوني في الإدارة الأمريكية ينظر للحرب على العراق بأنها إنقاذ لإسرائيل من مأزق تعيشه في مواجهة الشعب الفلسطيني المجاهد ، فبعد أن أصبحت إسرائيل في مأزق حقيقي في الانتفاضة الأولى، أُنقذت باتفاقية أوسلو وأُتي بالسلطة الفلسطينية لتكون شريكاً في الولوغ في دم القضية الفلسطينية بعد ذبحها والقضاء عليها، وقمع الشعب الفلسطيني مقابل ثمن زائف ومتاع قليل، وإذا بالمشروع يفشل في يومه الأول، وإذا بالشعب المجاهد الأعزل تتحطم على صخرة إيمانه وصموده كل المؤامرات، وإذا بالنائحة المستأجرة تغادر المأتم غير مأسوف عليها، ويهب الشعب عن بكرة أبيه للدفاع عن الأقصى في مواجهة عنجهية المجرم شارون، وتصبح دماء الشهداء هي السقيا لغراس العزة والحرية، وتصبح منارات المساجد هي الرايات لجحافل النصر والاستقلال بإذن الله، ويصم الشعب أذنيه عن تخذيل المخذلين واحتجاج الخائفين ونعيق العملاء الضالعين في المؤامرة .
وتصبح النبتة الخبيثة " إسرائيل " في مأزق لم تمر به في تاريخها، فبعد أن استنفدت أكثر إمكاناتها العسكرية والأمنية المتوحشة تحت غطاء من العهر السياسي تمارسه فرعون العصر " أمريكا " لإذلال شعب الإباء والعزة والجهاد في فلسطين، أقول بعد ذلك ها هي إسرائيل تعيش أزمة اقتصادية لم تعرف لها سابقة في تاريخها.
ورعباً وخوفاً في المجال الأمني، وصراعاً واستقطاباً في الميدان السياسي، وانهياراً معنوياً في الجيش، وتفككاً واضطراباً اجتماعياً، والأخطر من ذلك كله هجرة معاكسة وتوقف شبه يومي لكثير من مظاهر الحياة، وهروب لنسبة كبيرة من سكان المستوطنات إلى داخل فلسطين 1948 م بحثاً عن الأمن الذي لم يجدوه بل لاحقهم حتى هناك الخوف والموت .
نعم لقد أعطت الأنظمة العربية - مع الأسف- الفرصة لإسرائيل لتعيد تركيع الشعب الثائر، لكنها -والحمد لله- عجزت عن ذلك، وحينئذ فلا بد من عملية جراحية كبرى لإعادة ترتيب المنطقة كلها لإبقاء الأمل في المستقبل اليهودي، ولإشغال شعوب المنطقة بما فيها الشعب الفلسطيني - بقضية أخرى ردحاً من الزمن، تستعيد فيه إسرائيل أنفاسها وتعيد ترتيب أوراقها، وتطبق أمريكا على دول المنطقة سايكس بيكو جديدة وليس هناك من نقطة أنسب للبداية من العراق، فالنظام الحاكم فيه مكروه شعبياً منبوذ إقليمياً محاصر ومتهم عالمياً، ولأكثر من جهة مصلحة في إسقاطه، فليكن هو نقطة البداية لإنقاذ شعب الله المختار مهما كلف ذلك أمريكا أو المنطقة أو العالم، وربما توالت الأحداث لترحيل الفلسطينيين وتقسيم العراق وضرب إيران والسعودية وسوريا وغيرها.
3/ في الحرب تحقيق لبرنامج اليمين المتطرف الذي يحكم أمريكا اليوم، والذي يرى أن أمريكا يجب أن تسيطر على العالم وتحكمه وتفرض عليه القيم الأمريكية بدلاً من قيادتها للعالم وسماحها لقدر من التنوع الحضاري والثقافي والحياتي فيه، وما ما سمي بحرب الإرهاب ولا العولمة ولا حرب العراق وما سيلحق بها إلا تعبير عن هذا التوجه اليميني العنصري المتطرف في السياسة الأمريكية الذي هو أشد عنصرية من النازية والفاشية.
والحرب العراقية تعتبر خطوة في هذا الطريق العنصري الظلامي، وفرصة لسدنة هذه الإيدلوجيا في السياسة الأمريكية لتحقيق طموحاتهم .
4/ لا شك أن الفئة المتنفذة في الحزب الجمهوري في أمريكا من أيام ريجان إلى اليوم هي طائفة " الإنجيليون " إحدى فرق البروتستانت، وأهم عقائد هذه الطائفة ذات الأثر البالغ في حكم أمريكا هي عودة المسيح بعد قيام دولة إسرائيل ومعركة هرمجدون وتدمير أكثر العالم تمهيداً لتلك العودة المزعومة التي ستحكم العالم ألف عام كما يزعمون وهم بهذه الرؤى التوراتية الإنجيلية يقودون قوة أمريكا الغاشمة لتدمير العالم، ولتكن البداية من خلال العراق.
5/ لقد أعلنت أمريكا حرباً عالمية على ما أسمته بالإرهاب، وقادت العالم وراءها رغباً ورهباً على رجل واحد معه بضع مئات من الشباب لم يدخل أحد منهم يوماً كلية عسكرية ولم يقد بارجة حربية، وأعلن رئيس أكبر وأقوى دولة في التاريخ أنه يقود حرباً صليبية عالمية للحصول على أسامة بن لادن حياً أو ميتاً، وها نحن بعد قرابة عامين نرى أسامة ما زال ينازل أمريكا ويهددها في عقر دارها ويضرب حلفاءها، وفي كل يوم تعلن أمريكا لشعبها النذير والتحذير من احتمال ضربة جديدة فيعيش الشعب الأمريكي في الرعب والخوف، أين الأقمار الصناعية والطائرات التي تصور كل شبر في أفغانستان؟ أين أجهزة الاستخبارات الرهيبة التي لا تخفى عليها خافية؟ أين مليارات الدولارات والجيوش الجرارة؟ أليس هذا هو الفشل الذريع بعينه؟
إن الحكومة الأمريكية وآلة الحرب والعنجهية في أشد الحاجة إلى نصر سهل يحفظ ماء الوجه ويعيد لأمريكا هيبتها عالمياً ولحكومتها مصداقيتها لدى الشعب الأمريكي، وفي تقديرهم أن حرباً خاطفة في العراق ستة أيام - كما قال رامسفيلد- كفيلة بتحقيق ذلك كله .
ولعل تقدير رب العالمين غير تقدير الطاغية بوش وزبانيته، فتكون قاصمة الظهر لهم وما ذلك على الله بعزيز.(5/384)
6/ منذ أن ضُرب مركز التجارة العالمي والاقتصاد الأمريكي يتلقى الضربات تلو الضربات، فمن خسائر باهظة في سوق الأسهم الأمريكية إلى إفلاس شركات الطيران والإلكترونيات وتسريح مئات الآلاف من العاملين إلى فضائح شركات المحاسبة وغيرها من الشركات ذات الصلة بالرئيس الأمريكي ونائبه، كل هذا أدخل الاقتصاد الأمريكي في تذبذبات سيكون لها أوخم العواقب في المستقبل، والحكومة في حاجة إلى ملهاة للشعب الأمريكي حتى تعيد ترتيب أوراقها في محاولة لسد العجز في الميزانية ومعالجة المشكلات، ولو كانت الأمور طبيعية لكان حساب الشعب لهم عسيراً .
وفي الحرب العراقية تحقيق لهذا الإلهاء بالإضافة لدغدغة المشاعر الصليبية والعواطف الاستعمارية الأمريكية، فلتكن الحرب هي المخرج إذاً في نظر صنّاع القرار الأمريكي، ولتكن دماء الشعوب ومصالحها وضرورات وجودها أوراقاً في طاولة القمار السياسي الأمريكي .
7/ عداء أمريكا للتوجه الإسلامي أمر معروف في التاريخ المعاصر، ولا يعني هذا عدم وجود العقلاء أو المنصفين فيها، لكنهم - مع الأسف- قلة في العدد وضعفاء في الأثر.
ومنذ سقط الإتحاد السوفييتي وآلة الدعاية والإعلام الأمريكي، ومراكز الدراسات وجماعات الضغط الصهيوني، وشركات الاحتكار والاستغلال الكبرى كل أولئك ينفخون في نار العداوة للصحوة الإسلامية وما ( فوكوياما ) في كتابه ( نهاية التاريخ ) و ( هنتغتون ) في نظريته ( صراع الحضارات ) إلا أمثلة خجلى أمام رموز الإدارة الأمريكية من تشيني إلى رامسفيلد وكوندا ليزا رايس وأضرابهم .
ثم جاءت أحداث سبتمبر - سواء كانت مؤامرة أو كان وراءها تنظيم القاعدة - لتصب الزيت على النار، ولتعطي لهؤلاء حجة وعذراً ودليلاً بزعمهم على إرهاب الإسلام وخطورة الصحوة الإسلامية.
وبالتالي فأمريكا في أشد الحاجة إلى حضور عسكري استخباراتي في المنطقة لضرب الصحوة الإسلامية بطرق شتى ووسائل مختلفة أولها إشغالها بهذه الحرب وهذه المشكلة عن دورها الحضاري والتنموي وعن دورها في مواجهة اليهود في فلسطين، والعراق في ظل كثير من الظروف القائمة هو الأنسب لبداية تنفيذ هذا المخطط.
8/ كذلك من هذه الأسباب ما تصرح به المعلومات المتسربة في أمريكا من هنا وهناك بعزم أمريكا على السعي لتغيير العديد من أنظمة وحكومات المنطقة، أو على الأقل تغيير القائمين على تلك الحكومات من داخل النظام نفسه، وسيكون بالون الاختبار لهذه العملية هو العراق؛ ليكون مركز العمليات والمنصة التي ستدار منها العملية بعد ذلك في البلدان الأخرى .
هذه هي أهم داوفع الإدارة الأمريكية في إصرارها على غزو العراق وشن حربها الظالمة ضد شعبه المضطهد المظلوم المحاصر على رغم معارضة العالم كله لهذه الحرب.
العوامل المؤثرة في وقوع الحرب أو عدمه
بلا شك أن عملية حربية بهذه الضخامة وهذا المستوى ستؤثر على مستقبل العالم كله ليس وقوعها أو عدمه نتيجة عامل واحد فقط ، فهناك العديد من العوامل التي سيتوقف عليها وقوع الحرب وحجمها وكيفيتها أو عدم وقوعها والاكتفاء ببدائل أخرى عنها، وأهم هذه العوامل هي :
1 - القرار الأمريكي بالحرب وهو قطعاً أهم العوامل وأخطرها وأقواها في عالم الأسباب المادية، والذي يظهر أن أمريكا قد حسمت أمرها واتخذت قرار الحرب لكنها تتريث ليتم الحشد، ولتحاول تغيير موقف المعارضين للحرب ولإيجاد غطاء دولي لها والبحث عن تمويل للحرب من دول المنطقة، أو لعل صدام ينصاع للضغوط فيستقيل وينهار نظامه، وتحتل أمريكا العراق بدون حرب بحجة عدم وجود البديل ولحفظ الأمن ووحدة العراق كما حفظت القوات الأمريكية أمن ووحدة أفغانستان !!!
2 - الرأي العام الأمريكي له أثر كبير في الإقدام على الحرب أو الإحجام عنها والظاهر الآن أن أغلبية الأمريكان ضد الحرب بما فيهم رؤساء ووزراء سابقون، لكن الأغلبية الجمهورية في البرلمان والشيوخ كفيلة بأن يُقْدِمَ الرئيس الأمريكي على الحرب وشعوره بالحرج قليل، وكذلك وسائل الإعلام المتصهينة قادرة على التأثير على الرأي العام وحشده خلف قرار الحرب وبالتالي فالنتيجة النهائية بالنسبة للرأي العام الأمريكي ستكون في صالح قرار الحرب .
3 - الحكومات الأوروبية: لقد انقسمت دول الاتحاد الأوروبي وبالتالي حلف الأطلسي إلى فريقين، فريق يقف خلف بريطانيا ويأتمر بأمر أمريكا، وفريق يقف خلف ألمانيا وفرنسا ويعارض الحرب بشدة ويؤيده في موقفه ذلك روسيا والصين والرأي العام الأوروبي، ولا شك أن ذلك سيعوق أمريكا ويسبب لها حرجاً ويحرمها من الغطاء الدولي في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وليس من المتوقع أن ألمانيا وفرنسا ستغيران موقفهما لصالح أمريكا بعكس روسيا التي يمكن أن تدخل في مساومة مع أمريكا لتغيير موقفها، لكن أمريكا في النهاية لن تلغي قرار الحرب بسبب الموقف الأوروبي .(5/385)
4 - الشعوب والدول الإسلامية والعربية، والذي يظهر أن أمريكا لا تحسب لهم أي حساب وبالذات الحكومات، وأن هذه الشعوب والحكومات أيضاً غير قادرة ولا تملك الأهلية لاتخاذ موقف قوي وصارم ضد الحرب، وعندما اجتمعت بعض هذه الدول في تركيا وسوريا وفي سائر اللقاءات الثنائية كان تأنيبها وشجبها وحثها وحضها كله للضحية للعراق، أما أمريكا فلم يجرؤ على مجرد ذكرها فضلاً عن إعلان موقف قوي شجاع للوقوف في وجه الحرب وإعلان الوقوف في وجه أمريكا.
لقد تحولت وظيفة أغلب هذه الحكومات إلى مواجهة شعوبها والانصراف بالكلية عن العدو الخارجي، وإن أردت دليلاً على ذلك فقارن بين تفعيل مجلس وزراء الداخلية العرب الذي تجاوزت اجتماعاته 25 اجتماعاً وتعطيل مجلس وزراء الدفاع العرب الذين لم يجتمعوا خلال ربع القرن هذا ولا اجتماعاً واحداً لقد هانوا على أنفسهم فهانوا عند عدوهم وأصبحوا كما يقول الشاعر :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم … …
ولا يستشهدون وهم حضور
المحور الثالث :
ما المطلوب فعله الآن ؟
هناك ما يجب فعله قبل الحرب، وهناك ما يجب عمله لو قامت الحرب هناك أمور المعني بها الحكومات وأمور مناطة بالشعوب وأمور يجب أن يتصدى لها العلماء والمثقفون، وهناك أمور على مستوى الأمة وهناك أمور على مستوى كل بلد خاصة بل وأمور على مستوى كل مسلم .
أولاً / الحكومات :
لقد أثبتت الأحداث وبخاصة في السنين الأخيرة انحياز أمريكا الكامل لإسرائيل واحتقارها للحكومات العربية، ووقوفها ضد البلدان الإسلامية مهما كانت علمانية النظام ومهما بلغت تنازلاته لأمريكا من أجل إرضائها، ولعل في موقف أمريكا من السلطة الفلسطينية أكبر دليل على ذلك، فعلى الرغم من تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن جميع ثوابتها ومبادئها وتحولها إلى سلطة خادمة لأجهزة الأمن الإسرائيلية، ومطاردتها وسجنها وقمعها وتجسسها على الشعب الفلسطيني، إلا أن أمريكا - إرضاءً لإسرائيل- نبذت تلك السلطة نبذ الحصاة، وتخلت عنها ووصمتها بالإرهاب .
أقول إن من يستقرئ التاريخ يقف عند ما سمي بدول ملوك الطوائف في الأندلس حين تقسمت دولة المسلمين إلى دويلات يكيد بعضها لبعض ويستعدي بعضها العدو النصراني على البعض الآخر، فما زال ذلك ديدنهم حتى ذهبت ريحهم وقضى عليهم عدوهم وأصبحوا أثراً بعد عين .
إن دول هذا الزمان أشبه بدول الطوائف تلك، فها هي أمريكا تدفع صدام أمس لاحتلال الكويت وتهديد دول الخليج ، وها هي اليوم تتخذ أراضي دول المنطقة موطئ قدم لها لضرب العراق .
يا حكام العرب والمسلمين العراق اليوم وغيره غداً ، صدام اليوم وآخر غداً .
يا حكام المسلمين أليس فيكم من يقول مقولة المعتمد بن عباد حين وقف مع يوسف بن تاشفين ضد ملك الفرنجة، فخوفه أمراء الأندلس طمع بن تاشفين في الأندلس فقال: " لأن أرعى جمال بن تاشفين خير لي من أن أرعى خنازير الفونس ".
يا حكام المسلمين ألا عودة صادقة إلى الله، تراجعون فيها حساباتكم وترفعون الظلم عن شعوبكم، وتحكمون شريعة الله وتوحدون كلمتكم في مواجهة عدوكم ، ماذا جنيتم من البعد عن الله ومحاربة الإسلام ودعاته إلا الذل والشقاء والهوان حتى أصبحتم من هوانكم على العالم لا يؤبه بكم من قريب ولا بعيد .
إن هوانكم على الله هو السبب في نزع مهابتكم من صدور عدوكم وتحولكم إلى غثاء كغثاء السيل .
إن السعودية جزيرة العرب وبلاد الحرمين تملك من المؤهلات ما لم يتهيأ لغيرها لتلعب دوراً حاسماً في هذه الفترة المصيرية من تاريخ الأمة .
فهي مهبط الوحي ومهوى الأفئدة ولا زالت تنتمي إلى شريعة الله وتقوم شرعية نظامها السياسي على دين الله، ويعلن حكامها صباحاً ومساءً أنه ليس محل مساومة ولا مفاوضة كائنة ما كانت الظروف والتبعات نتيجة لذلك وشعبها مستعد للتضحية والعطاء .
يا حكام الجزيرة ومن شرفوا بخدمة الحرمين كل عاقل يدرك خطورة وعظم الظروف التي تمر بها المنطقة، وكما أن الأحداث الكبرى تشكل تحدياً كبيراً للدول والشعوب فهي في الوقت نفسه تعتبر فرصاً نادرة لأصحاب الهمم العالية لاختصار الزمن ودفع الأحداث نحو صناعة المستقبل المشرق والإسهام في رسم ذلك المستقبل نحو الأفضل بإذن الله .
تحديات تواجه المجتمع الإسلامي :
وإنني أرى أن الأمة المسلمة في كل مكان تواجه تحديات كبرى وإن من أخطر التحديات التي تواجهنا في هذه الظروف الدقيقة :
1 ) انحسار تطبيق الشريعة عن كثير من بلدان المسلمين، وحلول القوانين الوضعية محلها، إما كلياً وإما جزئيا مما أوجد حالة مأساوية لم تعرف لها الأمة سابقة في تاريخها نتج عنها الكثير من المشكلات الجذرية الأخرى .
2 ) عدو خارجي يتمثل في اليهود وحاضنتهم أمريكا، هذا العدو يتربص بنا الدوائر ويبغينا الغوائل مهما تظاهر بغير ذلك ومهما زعمنا أو توهمنا صداقته لنا .(5/386)
3 ) تيار تغريبي شتت الأمة ومزق جسمها وفرق وحدتها، وهذا التيار هو العلمانية بما تمثله من إلحاد عقائدي أو انحراف فكري أو فساد أخلاقي وسلوكي أو عمالة خارجية أو استبداد سياسي، المهم أن أياً من ذلك هو نقيض الإسلام فهو حتماً نقيض الوطن تاريخاً وواقعاً ومستقبلاً، وقد أثبتت الأحداث أنهم دائماً الحساب الاحتياطي للعدو الاستعماري الذين يلجأ إليه ليذل بهم الشعوب، ويناكف ويزعج بهم الحكومات الوطنية كان ذلك من أيام نابليون إلى يومنا هذا .
والعلمانيون وإن كانوا أكثر ضجيجاً وصخباً وأعلى صوتاً لكنهم في الحقيقة قلة قليلة في سواد الأمة لا يمثلون شيئاً، ولذا ينبغي التعامل معهم على هذا الأساس ومعالجة مشكلتهم برفق وحكمة وأناة، لكن بحزم وحسم ووجود الفئات العلمانية في ظل سيادة النموذج الحضاري الغربي عالمياً المنبثق من العلمانية كأساس أيدلوجي لتلك الحضارة أمر طبيعي، لكن مع الإقرار بهذا الأمر كإفراز طبيعي للواقع، إلا أن استلهام التاريخ في كيفية العلاج والتعامل مع المد اليساري في الخمسينيات والستينيات الميلادية يثبت أن إحياء الدعوة الإسلامية ورفع لواءها محلياً وعالمياً هو الحل الكفيل بإذن الله للحفاظ على تماسك المجتمع وأصالته، والخيار العلماني لو أمكن أو صلح جدلاً لأي مجتمع في الدنيا فهو غير ممكن ولا مُجْدٍ ٍٍلمجتمعنا ولا دولتنا في السعودية أبداً.
أما الحل الترقيعي كما ينادي به بعض من لا علم لهم لا بالإسلام ولا بالعلمانية فهو حل بالإضافة لعدم إمكانه فستكون نتيجته - بعد غضب الله- عدم رضا جميع الناس لا سواد الأمة وجمهورها ولا فئة العلمانيين وبالذات الغلاة والمتطرفين منهم .
4 ) وجود فئات من الشباب المتدين اجتالهم الشيطان فسقطوا صرعى للغلو والتكفير والرفض المطلق لكل ما لا يتفق مع آرائهم وأفكارهم، ولست في مقام التفصيل والتحليل لهذه الظاهرة وأسبابها التي أفرزتها والتي كان من أهمها :
أ - إسكات الدعاة العلماء .
ب - وفتح أبواب السجون للشباب الملتزم واضطهادهم .
ج - وعدم التحرك لمواجهة اليهود .
د - انتشار الفساد والعلمنة .
لكنني أشير إلى أنني منذ عشرين سنة خلت حذرت في مناسبات عدة ثم على فترات متلاحقة من الابتلاء بهذا الداء، وها هو أصبح واقعاً لا يمكن تجاهله وكان أيضاً نتيجة لأمور وأسباب موضوعية لكن السؤال ما هو طريق العلاج، أرجو ألا نكرر أخطاء غيرنا ولا نستورد التجارب الفاشلة وغير المشروعة للتعامل مع هذا التحدي القائم.
5 ) من التحديات التي تواجهنا - والتي ستؤدي لا قدر الله إلى خلخلة الجبهة الداخلية في أي مجتمع إسلامي- ما نشاهده في مواقع كثيرة من فساد إداري ومحسوبية ومحاباة وبيروقراطية ضربت بأطنابها حتى أصبحت العلاجات لا تتجاوز المسكنات والمهدئات ولا تنال إلا الأطراف والحواشي وصغار الناس دون رموز هذا الداء الوبيل، وخذ السلطة الفلسطينية مثالاً على ذلك مع أن المفترض أنها تعيش ظروف حرب ونضال، وليس هناك نظام عربي يستثنى من ذلك، لكن عمق وضخامة التحدي تختلف من نظام لآخر .
6 ) الدين الهائل العام الذي أصيبت به أكثر البلدان وبالذات منذ حرب الخليج والذي يزيد عاماً بعد عام، والذي ستعيش الأمة ترزح تحت كاهله عشرات السنين وما ينتج عن ذلك من تداعيات في شتى جوانب الحياة المختلفة .
فإذا أضيف إلى ذلك البطالة المتزايدة والفقر المدقع الذي تتسع رقعته مع الأسف يوماً بعد يوم، والتردي في الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ومياه وكهرباء وصرف صحي وطرق وأمن عام وغير ذلك .
إذا أدركنا مقدار وحجم وخطورة هذا التحدي أمكننا حينئذ أن نتلمس له حلاً على الرغم من صعوبة ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله .
7 ) يجب إعادة النظر في التعويل على الحلول الأمنية القمعية للظواهر والمشكلات الفكرية والسياسية، فهذه قد تخفيها ظاهراً لكنها في الوقت نفسه تزيدها حدة وعمقاً وإصراراً وتجعلها أبعد عن المراجعة والتصويب والتصحيح. إن المعالجة الحقيقية للمشكلات السياسية والفكرية هي في الحوار والحجة والبرهان والقبول للحق من أي إنسان كائن من كان، وحمل النفس على ذلك ومعالجة الأخطاء القائمة والاعتراف بها .
8 ) تضاؤل ثقة الناس في المؤسسة الدينية في البلدان التي كان لها وزن كبير فيها مثل السعودية، مما ينذر بأوخم العواقب في المستقبل مما يستدعي دراسة الأمر دراسة عميقة والبحث عن حلول جريئة وعملية، فنحن مثلاً في السعودية في الأصل دولة إسلامية دينية، ووجود المؤسسة الدينية الرسمية الموثوقة من الناس أحد صمامات الأمان للمجتمع.
9 ) التخلف العلمي والتقني والتنموي الذي جعل أغلب البلاد العربية في آخر قائمة دول العالم .
ثانياً/ العلماء والمفكرون والمثقفون والخطباء :
إن مسئولية أهل العلم والثقافة ورجال المنابر أمام الله ثم أمام تاريخ أمتهم مسؤولية عظيمة، فهم إما حداة صدق ونصح وأمانة وإما شهود زور وكذب وخيانة ، إما يؤثرون الحق والنصح وما عند الله، وإما يؤثرون المتاع الزائل والمجد الزائف والتطبيل الأجوف والنفاق المهلك .(5/387)
والذي أرى أنه يجب على هذه الفئة المتميزة من الأمة أن تقوم في هذه الظروف الصعبة بالأمور الآتية :
1/ القيام بدورهم في الرجوع بالأمة إلى الله وإصلاح الأحوال والتوبة الصادقة من جميع الذنوب والمعاصي ورد المظالم لأهلها، فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } .
2/ توجيه الناس إلى الدعاء الدائم لله سبحانه وتعالى أن يزيح هذه الغمة عن الناس، وفتح أبواب التفاؤل وحسن الظن بالله واليقين بنصر الله لدينه وعباده ولكن ليبلو بعضنا ببعض ليعلم الصادقون من غيرهم، ومقاومة أسباب الإحباط والخوف قال تعالى:{ ادعوني استجب لكم }، وقال تعالى: { فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان } .
ومهما كانت تقديرات البشر فهي في النهاية مربوطة بقدر الله سبحانه { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } ولذلك يجب التوكل على الله وحده واللجوء الصادق إليه .
3/ وضع العلاقة مع أمريكا في إطارها الشرعي الصحيح، فهي صليبية نصرانية سلمت مقودها لصهيونية يهودية حاقدة على المسلمين والإسلام، فهي عدو لدود للمسلمين آذت المسلمين وحاربتهم في كل ميدان أتيح لها ذلك فيه، لكنها أيضاً ميدان خصب للدعوة إلى الله ومستقبل الإسلام فيها واعد ومشرق بإذن الله .
فيجب مقاومة عدوانها بالوسائل الشرعية الممكنة وإيصال صوت الإسلام لشعبها والحوار مع عقلائها والوفاء بالعهود ما لم ينقضوها وعدم الغدر بالمستأمنين منهم وعدم جواز بل حرمة إعانتها على المسلمين تحت أي ظرف، والتحذير من ذلك ووجوب مقاومتها وجهادها لدفع عدوانها عن المسلمين .
4 ) إحياء معاني الجهاد والرجولة والشجاعة والبطولة في نفوس الأمة وتربيتها على ذلك، فالجهاد ماض في الأمة إلى يوم القيامة كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سياحة الأمة ودرعها الذي تواجه به عدوها وما ذلت الأمة إلا يوم أن تخلت عن الجهاد وأصبح شبابها غزلانا وحملانا جفولة وديعة، بعد أن كانوا أسوداً ضارية وصقوراً حامية، واستلهام السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي في ذلك، والتذكير به وتصحيح النية في ذلك .
5 ) التوعية بخطورة هذه الحرب على مستقبل الأمة في مختلف جوانب حياتها الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وكيف يمكن مقاومة هذه المخاطر وسبل مواجهتها وتحريك الشعوب ليكون لها دور في مقاومة هذا العدوان .
6 ) حض الناس وحثهم على مساعدة ودعم المسلمين في العراق، وإغاثتهم من خلال المؤسسات الخيرية والإغاثية والقنوات الرسمية والشعبية لتخفيف محنتهم وأداء الواجب نحوهم، فلو كان ما يتعرض له المسلمون في فلسطين والشيشان والعراق وغيرها يتعرض له قطيع من الكلاب أو الخنازير لما جاز السكوت عليه، فكيف وهم أناس ومسلمون والواجب عدم تحميل الناس في العراق جريرة صدام وزمرته وحزبه .
7 ) توجيه الناس إلى الحفاظ على أمن البلد ووحدته واعتبار ذلك من الأولويات في هذه الظروف والتكافل والترابط مع الجميع، واعتبار الأمة جسداً واحداً والتعاون والتواصل والتناصح مع المسئولين، فالحرب إن وقعت كارثة على الجميع وليس الوقت وقت تلاوم بل وقت تكاتف وتآزر على الحق والحذر من خطورة الإشاعات والحرب النفسية وأهمية التثبت فيما ينشر أو يذاع .
8 ) عدم ترك الفرصة للعلمانيين للتحدث باسم الأمة والنيل من دينها وتاريخها وثوابتها وبيان أن كل ما أصاب الأمة بسبب صدام إنما هو إحدى الثمار المرة للفكر العلماني، وقد سبقها الكثير وما هزائم 1948م و 1967م أمام اليهود، وما جنته الأمة في ظل المد الناصري العلماني إلا ثمار أخرى، وستبقى أمتنا تعيش هذه المآسي ما دام هذا الفكر العقيم الغريب يعشعش في واقعها وينخر في جسدها .
9 ) الحذر والتحذير من الأعمال المتهورة غير المنضبطة، والتي قد يكون ضررها أكثر من نفعها، بل قد لا يكون فيها نفع أصلا، وقد تكون محرمة شرعاً فالحماس غير المبصر بالفقه الشرعي والمستوعب لسلبيات وإيجابيات ومصالح ومفاسد أي عمل عدمه خير من وجوده، ولذا علينا أن نتريث قبل الإقدام على أي أمر حتى نعرف حكم الله فيه وما يترتب عليه من مصالح ومفاسد.
10 ) أخيراً أحب أن أنبه إلى أن الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها تجنيب المنطقة ويلات الحرب هي عندما تتوحد الأمة في جميع مستوياتها على موقف واحد صريح قوي رافض للحرب ومقاوم لها، وعندما تستيقن أمريكا حكومة وشعباً أن ثمن الحرب ومغارمها وفاتورتها لن تتحملها شعوب المنطقة بينما أمريكا تذهب بمغانمها فقط .
بل يجب أن تُشعر حكوماتُ وشعوبُ المنطقة أمريكا بأنها ستدفع ثمناً باهظاً لإقدامها على الحرب، حينئذ فقط يمكننا أن نتجنب الحرب، إن الموقف الألماني الفرنسي في هذه القضية موقف إيجابي في مصلحتنا، وإن لم يكن لسواد عيوننا فهل يمكن الاستفادة منه ؟ أرجو و " لعل وعسى "
=============(5/388)
(5/389)
دوافع الحملة الإعلامية الأمريكية على المؤسسات الخيرية الإسلامية( 1)
د.محمد بن عبدالله السلومي 8/11/1423
11/01/2003
تحت شعار (محاربة الإرهاب) انطلقت الحملة الأمريكية على المؤسسات الخيرية الإسلامية إعلامياً وميدانياً في معظم دول العالم، عقب أحداث 11سبتمبر ومازالت على أوجها حتى الآن، في اتهام صريح لتلك المؤسسات بأنها تدعم الإرهاب.
مارست وسائل الإعلام الأمريكية - باقتدار- دوراً انتهازياً لبث مشاعر الشك والريبة تجاه كل ما يندرج تحت مسمى المؤسسات الخيرية الإسلامية، واتخذت الإدارة الأمريكية الكثير من الإجراءات الميدانية والقانونية والتشريعية ضد تلك المؤسسات، الأمر الذي يطرح العديد من علامات الاستفهام حول تلك الحملة، وما رافقها من تهم تستلزم البحث والنظر في بعض القرائن والنتائج لتلك الحملة:
هل هي حقاً موجهة نحو القضاء على ما يسمى بالإرهاب؟
أهي حقاً حملة لتجفيف موارده رغم أنه قد لا يحتاج أموالاً قياساً بأكبر حدث إرهابي وقع؟
هل تلك المؤسسات متورطة في دعم الإرهاب؟
هل هنالك أهداف أخرى غير معلنة لتلك الحملة تدار بواجهة محاربة ما يسمى بالإرهاب؟.
لقد ترجح بعد البحث والدراسة أن تلك الأهداف المعلنة لا تمثل الأهداف الحقيقة، وإنما تخفي وراءها أهدافاً غير معلنة اتضحت من خلال بعض القرائن والنتائج التي سنسوقها في هذه الورقة.
لا شك أن الأهداف الحقيقية للحملات على المؤسسات الخيرية الإسلامية تتضح من خلال الوسائل المتعددة والنتائج المتنوعة، فهاك أدلة قوية تشيرإلى أن الهدف المعلن غير الحقيقة، وذلك بعد دراسة متعمقة وتحليل شامل لشريحة من الحملات الإعلامية والميدانية، ومن خلال أقوال وتصريحات وكتابات بعض العاملين في مجالات السياسة والإعلام والثقافة ومنظمات العمل الخيري وفي مراكز الدراسات والأبحاث.
ولا ريب أن وجود الأدلة لإدانة أي مؤسسة (جانحة) لا يتطلب كل تلك الحملات الإعلامية، فيكفي إبراز الأدلة للمحاكم أو الحكومات المعنية، داخل أمريكا أو خارجها، ولكن يبدو أن هذه الحملات مقصودة بذاتها.
لقد تعددت الممارسات المجحفة بحق تلك المؤسسات كالإغلاق أو تجميد الأرصدة أو المصادرة أو التشهير أو الاتهام، بل وصل الأمر بعد إخفاق محاولات إيقاف أو تجميد بعض المؤسسات بحجة دعم الإرهاب إلى إغلاقها لأسباب أخرى، فالإغلاق هو الهدف والسبب يسهل تدبيره كما حدث لمكتب مؤسسة الحرمين في البوسنة والهرسك، فقد جرت محاولات الإقفال لمكتبها هناك بدعوى دعمها للإرهاب، وبعد الإخفاق في إدانتها بهذه التهمة، أغلق المكتب أخيراً بسبب توظيف أجانب من دون ترخيص( 2). وكذلك ما حدث في مصر في رمضان المنصرم الموافق نوفمبر من عام 2002م، حيث طالب السفير الأمريكي بإغلاق خمس وعشرين جمعية دينية محلية دفعة واحدة، وبعد خمسة عشر شهراً من الحدث التاريخي لتفجير الحادي عشر من سبتمبر؛ وذلك للاشتباه في علاقتها بتنظيم القاعدة! والسبب الحقيقي أن تلك الجمعيات لعبت دوراً قوياً في تفعيل المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الأمريكية( 3).
ألا يمكن بعد هذه النماذج أن يكون الهدف الحقيقي من هذه الحملة الأمريكية غير الهدف المعلن؟، وماذا يعني إطلاق التهم والتعميم بدون دليل، حيث يتم إطلاق التهم وعلى الآخرين أن يقدموا الأدلة على براءتهم؟، وهل نجح اليمين المتطرف والصهيونية المتمكنة في تحريك الإدارة الأمريكية وفق رؤيتها المتعصبة التي تلبي مطالبها دون النظر إلى الآخرين ومصالحهم؟.
وتتعدد القرائن التي تؤكد أن الحملة لها أهداف أخرى خلاف تلك المعلنة وهذه أبرزها( 4):
أولاً: فقدان الأدلة وصعوبة الإدانة:
لقد تم تسخير الإعلام بوسائله المتعددة بصورة مكثفة أثارت تساؤلات عما إذا كان اتهام مؤسسة محددة ومعينة يحتاج إلى مثل هذه الحملة؟ أم أن تلك الحملة الإعلامية وسيلة للتعويض عن الأدلة القانونية المفقودة؟، ولتكوين قناعات من خلال التضليل الإعلامي أو على الأقل بث الشك في العلميات المالية للمؤسسات الخيرية الإسلامية، فقد لوحظ في تلك الحملة:
- افتقادها للغة الوثائقية في كل ما ورد فيها من أخبار وتقارير، يقول رئيس جمعية الحقوقيين البريطانية عن تلك الاتهامات في ندوة بقناة الجزيرة في 21/10/2002م (إن كل ما قدم من اتهامات لا يمكن أن يصمد في المحكمة) ( 5).
وكذلك ما ذكره المؤتمر الدولي في البحرين في 27/10/2002م (لا غسيل للأموال في المصارف الإسلامية) علاوة على ذلك ما قاله ريبرن هيس الرئيس السابق لقسم الاستخبارات المالية بوزارة الخارجية الأمريكية الذي قال (إنه لا أحد يعرف على وجه التحديد كمية الأموال التي يجري تحريكها خارج النظام المصرفي التجاري التقليدي)، مؤكداً صعوبة تتبع أنواع التمويلات والإجراءات المالية في ظل البريد الإلكتروني والهاتف النقال ( 6).
فهل عدم المعرفة هو الذي قاد للاتهام؟(5/390)
كما قال رونالد دوركن( 7): (سيكون من الصعب الكشف عن أدلة دقيقة تؤكد تمويل الإرهاب) وضرب مثلاً بما قد يوجد في دفاتر الحسابات المالية من إيجار، أو بناء مدارس ولكن هذه المبالغ يمكن تحويلها بشكل أو بآخر لمنظمات تعتبرها واشنطن منظمات إرهابية، فهل تعني هذه الصعوبات التي ذكرها دوركن أن أمريكا أرادت التعويض عنها بالحملة الإعلامية؟.
كذلك ما قاله بعض المصرفيين من (أن النظم المصرفية في المنطقة وكميات الأموال التي يتم تداولها خارج النظام المصرفي تجعل من المستحيل تقريباً حركة المال)، وما قاله مصرفي عماني في هذا الصدد: (إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع أبداً أن تتأكد هل الأموال تذهب إلى أيدي إرهابيين أم لقضايا إنسانية) ( 8).
فهل هذه العقبات وعدم الاستطاعة هي السبب للحملة الإعلامية وإطلاق التهم؟
- اتسمت الحملة بالتعميم وعدم الوضوح بل التمويه والتعتيم في كثير من الأحيان وقد برزت فيها جوانب التهويل وعدم تقديم الأدلة والبراهين وربما القراءات الخاطئة في بعض الأحيان، وزير الداخلية السعودي رد على اتهام المؤسسات الخيرية الإسلامية في المملكة بتمويل الإرهاب بقوله: (من يستطيع القول إن هذه الأعمال تذهب إلى غير مستحقيها؟ وهل هناك دليل واحد على هذا؟). وقد نبهت هيئة الأمم المتحدة - وهي جهة معنية بالحرب على الإرهاب اتسمت بالتخبط والتشويش- ( 9).
- إن فقدان الأدلة وصعوبة الإدانة في دفع أمريكا إلى تطبيق قانون الأدلة السرية لضمان عدم أحقية المحاكم في طلب الأدلة، وحيث يتضح في الوضع القانوني الجديد لأمريكا عدم أهمية وجود الأدلة للإدانة.
كما أن المطالب الأمريكية من الدول والمؤسسات الخيرية الإسلامية والتي قدمت نموذجا منها للحكومة الكويتية كافية وحدها أمام الرأي العام العالمي والمنظمات العالمية لإسقاط دعاوى الإرهاب عنها( 10)، إنها مطالب للبحث عن الإدانة، مطالب يتطلب العمل بها فريقاً دولياً من المحاسبين والقانونيين ورجال المال والإدارة، ويكفي أن أمريكا لا تستطيع تطبيق تلك المطالب غير القانونية في أراضيها وولاياتها، كما لا تستطيع تقديمها إلى دول أوروبا على سبيل المثال حيث تكون مرجعية القضاء واحترام القانون، وقوة الصفة الاعتبارية للمؤسسات غير الحكومية أياً كانت صفة عملها (انظر ملحق المطالب).
ثانياً: التغطية على المشكلات الداخلية:
تعد الحرب على ما يسمى بالإرهاب التي أعلن الرئيس الأمريكي استمرارها سبباً ومشجباً للتغطية على المشكلات السياسية والمالية التي تعاني منها أمريكا والإدارة الجمهورية، فقد وصل (جورج دبليو بوش) للحكم بعد صراع مرير مع منافسه من الحزب الديمقراطي (أل غور) وفضائح انتخابية لم تنته إلا بتنازل (آل غور).
أما المشكلات الاقتصادية فلا تخطئها عين مثل فضائح وخسائر الشركات الاقتصادية والمحاسبية التي هزت أسواق المال والأعمال داخل أمريكا وخارجها، كما تتابع مسلسل الخسائر والانهيارات الاقتصادية والفضائح المالية لمعظم تلك الشركات.
والأمر الأخطر من ذلك أن تلك الخسائر كانت ناتجة في معظمها من فضائح مالية وقضايا احتيال وتلاعب بالأرقام تؤكد مخالفات على مستوى غير مسبوق في تاريخ أمريكا، مما يمكن اعتباره أكبر عملية احتيال في التاريخ أوجدت أزمة ثقة خطيرة (11).
كما يضاف إلى ذلك الخسائر التي وقعت من جراء أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها، حيث قدرت حسب ما أشارت إليه بعض الصحف حتى عام 2003م بحوالي 639 مليار دولار فضلاً عن فقدان مليوني وظيفة ( 12).
ويلاحظ أن أسواق المال الأمريكية تعيش أسوأ أيامها في منتصف عام 2002م، وقد ارتفعت الخسائر حتى بلغت 8.6 تريليون دولار.
كما أشار الرئيس الأمريكي بعد تلك الخسائر والفضائح (أن هذه الممارسات غير المنطقية في الشركات تدعو إلى شن حملة حكومية صارمة) ( 13).
لكن الحرب على الإرهاب غطت على كل ذلك بل وغطت على الفشل في الساحة الأفغانية، الفشل الذي يتأكد بمقاييس تحقيق الأهداف المعلنة قبل بداية الحرب، والتي لم تتحقق حتى الآن، وانعكاس ذلك على الحكومة والاقتصاد والشعب مما يؤكد مقولة أن (أمريكا لا تعيش بدون حروب)، أو نظرية (الحروب) الدائمة.
ويمكن أن تكون هذه الحرب الإعلامية على المؤسسات الخيرية تغطية على فشل الأجهزة الأمنية الأمريكية في اكتشاف خطط أحداث الحادي عشر من سبتمبر قبل وقوعها، أو للتغطية على تورط أو تواطؤ جهات معنية داخل الإدارة الأمريكية نفسها كما أشارت بعض التقارير.
لقد ذكرت بعض التحليلات السياسية عن الحرب على الإرهاب أن الرئيس الأمريكي وحكومته قد نجحا حتى الآن في إشغال الرأي العام الأمريكي بتجاوز المشكلات الداخلية والأزمات الاقتصادية من خلال الحرب على أفغانستان ورب دعوى الإرهاب المستمرة على المؤسسات والدول والتحضير الإعلامي الكبير والمستمر لحرق العراق.
ثالثاً: تقلب المواقف الأمريكية بين الماضي والحاضر:(5/391)
قدم بعض الأفراد المرتبطين بالمؤسسات الخيرية بروابط متنوعة دعماً مالياً مباشراً لبعض فصائل المجاهدين الأفغان، كما قدمت لهم بعض الحكومات العربية - خصوصاً الخليجية - الدعم المالي والسلاح الأمريكي ولم يكن هذه سراً من الأسرار بل كان مجال فخر واعتزاز للمؤسسات والدول.
كما أن أمريكا تعتبر بشكل خاص وبحق من أقوى الدول التي دعمت المجاهدين بالمال والسلاح بشكل مباشر أو غير مباشر، بل وأسهمت بتصحيح المصطلحات السياسية والإخبارية (الإعلامية) حينما زار أفغانستان (زيجنيو بريجنسي) مستشار الأمن القومي الأمريكي آنذاك - وتقابل مع الزعيم الأفغاني يونس خالص لتتبنى أمريكا بعد ذلك بإعلامها المباشر وغير المباشر كلمة (مجاهدين) بدل المتمردين أو المقاتلين الأفغان.
لا شك أن بعض المؤسسات الخيرية الإسلامية كان له ارتباط مع بعض المتطوعين بالجهاد بأنفسهم وأموالهم - وليسوا كموظفين- وكان لهم ارتباط مع بعض فصائل المجاهدين دعماً ومؤازرة وكان كل ذلك مرصوداً من قبل الأجهزة الأمنية الأمريكية وفروعها وعملائها.
وقد تضررت المؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية في السابق واللاحق من تصرفات الحكومة الأمريكية من خلال معاييرها ومقاييسها المختلفة والمزدوجة.
لقد أكد الكاتب الأمريكي (آرثر لوري) هذه المعاني وغيرها قبل الحادي عشر من سبتمبر، وكان مما قال: (إن تعامل أمريكا وموقفها من الإسلام بدأ يتغير ويأخذ وجهة معاكسة، فخلال الحرب الباردة كان الإسلام يبدو حليفا للغرب، وكانت الدول الإسلامية خصماً للشيوعية الملحدة، فقد دعمت الولايات المتحدة الأمريكية المجاهدين الأفغان بنحو (3) مليارات دولار عبر أجهزة المخابرات بهدف هزيمة الاتحاد السوفييتي وإخراجه من أفغانستان، وكان المجاهدون الأفغان آنذاك أبطالاً في التغطيات الإعلامية في نظر الشعب الأمريكي) ( 14)، وبهذا يتضح أن من أسباب الحملة الأمريكية على المؤسسات الخيرية السعي إلى المحاسبة على التاريخ القديم، وبأثر رجعي يبعث على التندر والطرافة!!.
لسائل أن يسأل بعد هذه الأخطاء الأمريكية بحق المؤسسات قديما وحديثاً هل يمكنها أن تحصل بموجبه على التعويضات اللازمة؟.
رابعاً: تصفية الحسابات السياسية:
قد تكون من أسباب هذه الحملات تصفية الحسابات السياسية أو الدينية، أو تعبئة الرأي العام سواء داخل أمريكا أو خارجها لصالح بعض القوى السياسية أو الدينية المتعصبة، ولا سيما أن المؤسسات الخيرية الإسلامية تعرضت لحملات إعلامية قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وقد تدخل بعض الاستجابات داخل الوطن العربي والإسلامي ضمن هذا الإطار، إذ قامت بعض الدول العربية بمبادرات التضييق والإغلاق ضد تلك لمؤسسات رغم أنه لم يتم توجيه أي تهمة لها، لقد أصبح الإرهاب ودعاواه مشجباً استغلته معظم الدول أو الأحزاب السياسية في تصفية الخصوم أو حتى المعارضين أو أصحاب الحقوق المشروعة، وأصبحت دعوى الإرهاب من وسائل الانتقام من الأفراد والمجموعات، ففي داخل فلسطين تبنت الحكومة اليهودية أبشع أنواع الإرهاب في الداخل، وساندتها الحملات الإعلامية في أمريكا لتصفية حساباتها مع كل من يدعم الشعب الفلسطيني من مؤسسات ودول، وعلى الصعيد نفسه فقد تم الاستثمار للحدث في روسيا والباكستان وكشمير والفلبين وإندونيسيا والبلقان، وتناغمت معظم دول العالم لتصفي حساباتها القديمة والحديثة تحت مسمى هذا المولود القديم الجديد (الإرهاب) حتى أن بعض المنظمات الحقوقية حذرت من هذا الاستغلال البشع.
لقد تنوعت وتعددت الإجراءات ضد المؤسسات الخيرية الإسلامية داخل وخارج أمريكا مما يدفع إلى الاعتقاد إنها تمثل نوعاً من تصفية الحسابات معها، حيث كانت الحملات الإعلامية المبكرة عليها قبل الأحداث، وجاء الحدث ليضعها في أولويات الأجندة في هذه الحرب الأمريكية العالمية.
والحقيقة أن الإرهاب ودعاواه أصبح البورصة في سوق المزايدات السياسية، فهل كان هدف هذه الحملة تحقيق هذه النتيجة؟، وهل ستتوقف الحملة على مؤسسات العمل الخيري بعد هذه النتيجة؟.
خامساً: تحالف يخاصم الإسلام:(5/392)
من الأسباب الرئيسة التي يجب أخذها بعين الاعتبار حين البحث عن دوافع تلك الحملات غير الطبيعية ما أسمته صحيفة الوسط (محور شر في واشنطن) حيث ساهمت الصحيفة المذكورة في كشف الأسباب والدوافع الرئيسة للحملات الإعلامية والميدانية والمواقف السياسية تجاه العالم العربي والإسلامي - والمنظمات والمؤسسات الخيرية الإسلامية ما هي إلا جزء تدخل ضمن هذه الرؤية المتكاملة - والمهم من هذا التحقيق قول الصحيفة المذكورة (الأصوليون الأمريكيون واليهود والجمهوريون المتطرفون يحاصرون البيت الأبيض)، منذ 11 سبتمبر 2001م، دخلت على الخط الشرق أوسطي بقوة مدرستي اليمين المسيحي الأمريكي أو (الأصوليون المسيحيون) واليمين المحافظ الجمهوري أو (الأصوليون الريغانيون)، وقد أبرمت المدرستان تحالفاً بينهما يرفع شعار الدعم المطلق لإسرائيل - لأسباب أخلاقية واستراتيجية في آن واحد - المدرسة الأولى تعتبر أن دعم إسرائيل ضرورة أخلاقية دينياً؛ لأن الدولة العبرية تعتبر تجسيداً لنبوءات الكتاب المقدس حول التمهيد لقدوم السيد المسيح، فيما الثانية تنظر إلى إسرائيل بصفتها حليفاً ذا أهمية استراتيجية كاسحة في إطار الحرب العالمية ضد الإرهاب، وقد انضم إلى هذا التحالف الآن طرف ثالث هم (الأصوليون اليهود) في الولايات المتحدة الذين يقفون حتى إلى يمين (آرييل شارون) في توجهاتهم نحو الفلسطينيين والعرب هذا التحالف الثلاثي الذي يقوده الأصولي المسيحي ومرشح الرئاسة الأمريكية السابق (غاري باور) والأصولي اليهودي (وليام كريستول) وصقور الحزب الجمهوري في البنتاغون، والكونغرس الذي طور استراتيجية مشتركة لخصها الكاتب في صحيفة ويكلي ستاندرد (رول مارك غير يشت) على الشكل الآتي:
1- حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب لا تضعف مواقع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل هي على العكس تعززها إذ إنها تمهد الطريق أمامها لخوض الحرب ضد العراق وضد قوى (الأصولية الإسلامية).
الحلف الإسرائيلي الأمريكي المستند إلى التفوق العسكري والانتصارات العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ودول المواجهة سيؤدي إلى زيادة السطوة الأمريكية في الشرق الأوسط من المغرب حتى إيران، لأنه سيذكر العرب بأنه لا يمكن إلحاق الهزيمة بالقوة الغربية (15).
ولتحقيق ذلك جرى التركيز على افتعال الخصومة مع الدين الإسلامي وتشريعاته ومؤسساته خاصة في العقد الأخير من القرن العشرين وقد تضاعف هذا التوجه بشكل ملفت للنظر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وعلى مستوى يصعب تجاهله أو تجاوزه كما حدث ويحدث من القساوسة (بات روبرتسون) و (فرانكلين غراهام) و (جيري فالويل)، وغيرهم فالأمر بلغ حد الخصومة الشاملة مع الإسلام والمسلمين من خلال تلك الحملات الإعلامية ولم يعد مقتصراً على نوع معين من أنواع العمل الخيري الإسلامي بل تعدى ذلك إلى الهجوم والسب لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم مما يؤكد مقولة أن هدف الحملة أبعد من دعوى الإرهاب وتتعداه إلى تجفيف المنابع وذلك لشمولها وتنوعها واستهدافها الدين الإسلامي ذاته، إلى ذلك أشار الكاتب الأمريكي (بول فندلي) في كتابه لا سكوت بعد اليوم حينما قال: واليوم غالباً ما يسمى الإسلام الخطر الجديد الآتي من وراء الأفق، الآخذ مكان الاتحاد السوفييتي البائد، إنه يحتفظ بقدرة مشابهة على التغلغل والتوسع.
ويضيف فندلي: يشرح الأستاذ "إدوارد سعيد" الأستاذ في جامعة كولومبيا في نيويورك( 16) فيقول: ما يهم خبراء مثل (جوديث ميلر) و (صامويل هانتيغون) و (مارتن كرايمر) و (برنارد لويس) و (دانيال بابس) و( ستيفين إمرسون) و (باري روبين) إضافة إلى مجموعة كاملة من الأكاديميين الإسرائيليين هو التأكد من إبقاء خطر الإسلام نصب أعيننا، والأفضل التنديد بالإسلام لما يمارسه من إرهاب واستبداد وعنف، فيما يؤمِّنون لأنفسهم استشارات مجزية، وظهوراً متكرراً على شاشات التلفزة وعقوداً لتأليف الكتب، لقد جعل الخطر الإسلامي يبدو مرعباً إلى حد لا نظير له( 17) ، وقد أشار إلى ذلك الصحفي البريطاني (روبرت فيسك) الذي قال: إن إسرائيل عملت على تشجيع خلق صورة من المطابقة والتماثل بين الإرهاب والإسلام، وذلك عن طريق ربط استخدام الكلمتين معاً في تصريحات زعمائها العلنية( 18)، وبناء على هذا فقد تم استهداف المؤسسات الخيرية الإسلامية أياً كانت صفتها، حيث استهدفت مؤسسات تعليمية وعلمية ومؤسسات متخصصة لكفالة الأيتام وثالثة متخصصة بالفقراء والمساكين والمنكوبين، ولم تسلم بعض البنوك والشركات الإسلامية وصحب ذلك حملة مسعورة على المناهج الدينية المتميزة في العالم العربي والإسلامي مما يؤكد الاعتقاد بأن هذه الحملات تهدف جميعها إلى تجفيف منابع الدين في العالم الإسلامي إرضاءً لليمين المسيحي المتطرف وتحقيقاً لحلم اليهود في إقصاء الدين الإسلامي من الصراع الإسرائيلي العربي، واستجابة لضغوط المنظمات المتخصصة مثل منظمة (بناي برث) اليهودية الأمريكية.
سادساً: تكريس الصورة المزيفة عن الإسلام والمسلمين:(5/393)
من الحقائق المسلمة في أسباب هذه الحملة وجود مؤسسات ومنظمات ومجموعات وأفراد من سياسيين وإعلاميين وعسكريين ورجال دين في الداخل الأمريكي متخصصين في تشويه صورة الإسلام والمسلمين بدوافع متعددة وأساليب متنوعة، خاصة مع ما يملكونه من نفوذ وسمعة في عالم الإعلام الأمريكي والإعلام الديني بشكل خاص، ولا سيما أن بعض تلك الحملات على المؤسسات الإغاثية قد ظهرت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة ونصف أو أكثر: مقالات ومقابلات متفرقة، ومن هؤلاء على سبيل المثال من داخل أمريكا (استيف أمرسون)، و (جوديث ميلر) و (دانيال باينز) و (كارل ثوماس) و (ستيف ماكونغل).
كما يرى المتعصبون من اليهود والنصارى أن الدين الإسلامي يشكل تحدياً تاريخياً، فالعزف على هذا الوتر حتى وإن لم يكن بدافع التعصب فإنه يحقق أهدافه، وإلى هذا أشار الكاتب الأمريكي (بول فندلي) في كتابه الجديد (لا سكوت بعد اليوم) في الفصل السادس (الإرهاب والافتراء) حيث قال: أعرف أن نشر التنميطات المزيفة يمكن أن يخدم المصالح المتعصبة الضيقة، في بعض الأحيان قد تنشأ الصور المزيفة من الحقد، وقد تنشأ في أحيان أخرى من الطموح الجامح على حد قول شكسبير. يضيف الكاتب الأمريكي في موضع آخر من كتابه المذكور حول التنميطات المزيفة عن الإسلام قوله: هناك العديد من المنافقين بين قادة المسيحيين ، لكن الإسلام وحده بين الأديان الأخرى يربط في الأخبار والتقارير والمقالات بالعنف باستمرار، في حين أنه نادراً ما تذكر ديانة الفاعلين عندما ترتكب أعمال مروعة على أيدي أناس ينتمون إلى ديانات أخرى، فالتقارير الإخبارية لم تشر إطلاقاً إلى المذابح المرتكبة ضد (ألبان كوسوفا) بأنها أعمال قتل ارتكبها الصرب الارثوذكس، وأن البورميين يقتلون بأيدي البوذيين، وأن الفلسطينيين يقتلون بأيدي اليهود فالجناة يحددون روتينياً بهويتهم القومية، وليس بانتماءاتهم الدينية، إلا عندما يكونون مسلمين إذ لا ينظر إلى مرتكبي العنف المسيحيين بأنهم يشوهون سمعة المسيحية، ولكن إذا ارتكب مسلم إثماً فإن هذا الإثم يصور كعنصر من عناصر الخطر الإسلامي الداهم على أمريكا، هذه الازدواجية في التعامل هي التي تعزز أخبث تنميط للإسلام، وأوسعه انتشاراً، ألا وهو ربط المسلمين بالإرهاب ( 19).
سابعاً: فلسطين أحد أهداف الحملة:
المتأمل في جوانب تلك الحملة يدرك أن من الأسباب الرئيسة لهذه الحملة الأمريكية القضية الفلسطينية (الانتفاضة - الأقصى) ويلحظ أنها طالت المؤسسات الإسلامية الأمريكية وغير الأمريكية المتخصصة بدعم بعض المدارس والمستشفيات وأسر الشهداء والأيتام والفقراء والمساكين في فلسطين، والتي أثارت أعمالها الإغاثية المؤسسات اليهودية في أمريكا مما جعلها تثير حولها وحول العاملين فيها زوابع من الشكوك والخوف والزعر. كان ذلك قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر كما أورد هذا الكاتب الأمريكي (بول فندلي) في كتابه الجديد (لا سكوت بعد اليوم)، حين نقل تأكيد (أمرسون) أن كل المنظمات الإسلامية تقريباً القائمة في الولايات المتحدة، والتي تعتبر نفسها إسلامية وواقعة في قبضة العناصر الراديكالية، يتعاون بعضهم مع بعض عبر الدول، فسلسلة الأصوليين الإسلاميين تمتد من القاهرة والخرطوم حتى بروكلين، ومن غزة إلى واشنطن ( 20).
ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فتم استثمارها لصالح تلك الجهات، حيث كان إقفال بعض المؤسسات الإسلامية، مثل مؤسسة الأرض المقدسة للإغاثة والتنمية (holy land foundation) في ريتشارديسون بولاية تكساس وفروعها في كاليفورنيا ونيوجريسي والينيوي، وقد أشارت صحيفة الزيتونة الأمريكية أن الرئيس جورج دبليو بوش أمر بتجميد المؤسسة المذكورة يوم 4/12/2001م والذي تعتبره الصحيفة هدية للحكومة الإسرائيلية( 21) ، وبقرار سياسي أعلن فيه الرئيس الأمريكي نفسه أن أسباب دعم أسر وأبناء حماس والجهاد الإسلامي، وبهذا القرار غير القانوني تم ضرب أكبر مؤسسة إسلامية على الساحة الأمريكية تقوم بدعم المحتاجين في فلسطين مع تجميد ممتلكاتها، وحدث مثل ذلك لمؤسسة النجدة الإسلامية (global r elief foundation)
وللأسباب نفسها، انتقلت الحملة إلى فلسطين حيث تم إقفال مجموعتي التمويل وهما (بنك الأقصى العالمي، ومجموعة بيت المال الاستثمارية)، ومقرها الأراضي الفلسطينية( 22) ، وتبع ذلك إقفال بعض المؤسسات المعنية بدعم الفلسطينيين في أوروبا وغيرها مثل ما حدث لـ (جمعية الأقصى الخيرية) في آخن بألمانيا، وأصبح أكثر من 60% من الشعب الفلسطيني تحت خط الفقر بسبب الحصار العالمي على المؤسسات الخيرية المعنية بالشعب الفلسطيني، كما تشير في ذلك إلى بعض التقارير الرسمية والأهلية ( 23).(5/394)
كما يؤكد الكاتب والباحث الأمريكي "بول فندلي" سيطرة قوى الضغط الخفية وأنها وراء تلك الحملات والتنميطات المزيفة، حيث اعتبر أن من العوامل التي تبقي الصورة المزيفة عن الإسلام حية ذلك النشاط الحثيث في واشنطن، الذي تبذله جماعة الضغط لصالح المساعدات الأمريكية لإسرائيل، وفي سياق هذا الضغط غالباً ما يكون شبح الإرهاب المدعوم من المسلمين، هو الموضوع المتكرر، إذ يستخدم لتسويغ ممارسات الدولة اليهودية القاسية ضد الفلسطينيين ذوي الأغلبية المسلمة، ولتبرير اعتداءات إسرائيل العسكرية الدورية على لبنان، حيث تسود أيضاً أغلبية إسلامية، إن صورة الإرهاب هي الأساس الذي تستند إليه إسرائيل في مطالبتها بمساعدات أمريكية منتظمة من الأسلحة المتطورة، ومن المال لتعزيز دفاعاتها ضد هجوم محتمل بالصواريخ من جانب سورية والعراق وإيران، وغيرها من الدول ذات الأغلبية الإسلامية ( 24).
لقد أشار الأستاذ فهمي هويدي إلى الارتباط بين تلك الحملة والقضية الفلسطينية بقوله: نجحت الحكومة الإسرائيلية في استمالة القيادة الأمريكية وإقناعها بأن قمع المقاومة الفلسطينية هو جزء من الحملة ضد الإرهاب، وهو ما ترتبت عليه نتائج جسيمة عدة تصب في مجرى محاولة الإجهاز بشكل نهائي على المقاومة الإسلامية في فلسطين، وفي تلك النتائج ما يلي:
- إطلاق يد رئيس الوزراء الإسرائيلي في افتراس الشعب الفلسطيني والتمثيل به من خلال تدمير البيوت والزراعات وشل المرافق وقصف السلطة الفلسطينية، ذلك غير خطف الناشطين واغتيالهم وترويع الآمنين حيثما وجدوا، الأمر الذي أدى من الناحية العلمية إلى نسف كل محاولات اتفاقات السلام خلال السنوات الثماني الأخيرة!!
- في التصريحات الرسمية: اعتبرت واشنطن أن ما تفعله إسرائيل هو نوع من الدفاع عن النفس، وبذلك ابتدعت - ولأول مرة- حق المحتل في الدفاع عن استمرار احتلاله وهو موقف مدهش؛ لأنه على النقيض تماماً مما تعارف عليه المجتمع الدولي بقوانينه واتفاقياته وأعرافه التي أقرت للذين احتلت أراضيهم بالدفاع عن أنفسهم بكل الطرق.
- أعلنت واشنطن أن حركتي حماس والجهاد منظمتان إرهابيتان وبالتالي صادرت أموالهما واستباحت دماء أعضائهما على الأقل من وجهة النظر الإسرائيلية، وشملت بتهمة الإرهاب كل من ساعد المنظمتين أو آوى أفرادهما، وهذه هي المرة الأولى التي تصنف فيها المقاومة الإسلامية رسمياً ضمن المنظمات الإرهابية بقرار يرتب إجراءات عملية لمحاولة تصفيتها.
- ضغطت واشنطن على دول الاتحاد الأوروبي وجعلتها تتبنى موقفها من المقاومة الإسلامية، وهي التي دأبت في السابق على اتخاذ مواقف أكثر موضوعية، ولكن هذا الموقف تغير بحيث طلبت الدول الأوروبية من الرئيس ياسر عرفات تفكيك البنى التحتية للمنظمتين باعتبار ما تقومان به هو نوع من الإرهاب ( 25).
ثامناً: حقيقة الاتهامات الموجهة ضد المؤسسات الخيرية الإسلامية:
مصدر بعض الاتهامات للمؤسسات الخيرية قد يكون مرجعه بعض التعاملات النقدية سواءً في مجال الإيرادات أو في مجال المصروفات، وهو أمر متبع في معظم المؤسسات الأهلية والحكومية في المجتمعات العربية والإسلامية والإفريقية والآسيوية، إذ تقتصر المعاملات البنكية على المبالغ الكبيرة فلا يتصور أن تقدم مؤسسة خيرية مساعداتها للفقراء في صورة شيكات بمبلغ 20 أو 50 دولاراً لكل شيك مثلاً، وهذا أمر متعارف عليه ومتبع لكنه يثير الشكوك وفق معايير النظام المالي الرأسمالي الذي يعتمد بطاقات الائتمان (c r edit ca r d) وعليه كان على الأرامل والأيتام والفقراء في المناطق المنكوبة أن يكونوا من حملة هذه البطاقات حتى يسهل تحويل مساعدات المؤسسات الخيرية الإسلامية إلى حساباتهم في البنوك.
إن إثارة الشك والريبة في التعامل النقدي في المعاملات المالية أحد تقاليد النظام الرأسمالي الذي لم تعرفه بعد المناطق المنكوبة التي تعمل بها المؤسسات الإسلامية الخيرية، وحتى إذا سلمنا بتطبيق تلك المعايير والتقاليد فهل يتم ذلك من خلال التدقيق والمحاسبة أم التشويه والاتهام والإغلاق كما حدث مع بعض المؤسسات الخيرية سواء داخل أمريكا أو خارجها، إن طبيعة كثير من الأزمات والكوارث تفرض التعامل النقدي وقد لجأت إلى هذا الأسلوب أمريكا في حربها في أفغانستان، حينما أسقطت طائراتها العسكرية مبلغ 70 مليون دولار نقداً وفوق هذه وذاك فإن الكثير من العاملين في الأجهزة المعنية في الإدارة الأمريكية - ناهيك عن الشعب الأمريكي نفسه - ليس لديهم الإلمام والفهم بالتشريعات الإسلامية والطبيعة العربية وما فيها من جوانب الكرم والمؤازرة أو المناصرة للمظلوم والمحتاج دون معرفته شخصياً، فالمسلم لا يطلب هوية من يسأله المساعدة من إخوانه ولا ينبغي له أن يفعل ذلك وتلك من عظمة جوانب الإسلام، وهكذا تتحول الأعمال الإيجابية عند من لا يفهمون الثقافة الإسلامية إلى نظرات سلبية فتجعل البريء متهماً، ومن له علاقة أو قرابة بمشتبه فيه مصدراً للتهمة.(5/395)
كما أن بعض الأفراد قد يكون على علاقة أو ارتباط وظيفي بمؤسسة خيرية مع احتفاظه لنفسه بشكل خاص بعلاقة أخرى دون ربط بين الأمرين وهذا بالطبع قد يقع كذلك لبعض منسوبي القطاع الحكومي أو القطاع الخاص من خلال تعدد ارتباطاتهم أو أعمالهم.
المهم هو هل هذه التعاملات أو العلاقات التي حدثت من أو مع المؤسسات الخيرية أو بعض العاملين فيها يعد مبرراً لحملات التشهير والاتهامات وتجميد الحسابات أو المصادرات؟، وماذا سيكون من عقاب على أمريكا في أخطاء ضرباتها الجوية على المساجد والمستشفيات والأعراس والاحتفالات والتي كان نصيبها فقط (4000) قتيل أفغاني عن طريق الخطأ؟؟( 26) ، وهل طبقت أمريكا على مؤسساتها المعايير المحاسبية التي تطالبنا بتطبيقها على المؤسسات الخيرية الإسلامية؟ (انظر الملحق)، أم أنه المعايير المزدوجة في كل شيء حتى في لغة الأرقام.
تاسعاً: تدمير أحد الرموز الإسلامية:
يؤكد مسار الحملة أنها وسيلة لتدمير ما ترمز إليه المؤسسات الخيرية الإسلامية فهي القوة الحقيقة لأي دولة، إذ إن قوة أي دولة تنبع من قوة مؤسسات المجتمع الأهلية الخيرية بها، فهي خط الدفاع الأول للحكومات والشعوب ولأن المؤسسات تمثل رمزاً من رموز الوحدة الإسلامية والوحدة الوطنية حيث التكافل والتعاون بلا حدود جغرافية أو سياسية ولأنها تثبت وحدة آلام الأمة الواحدة وتداعي بعضها لبعض فأعضاء الجسد الواحد جرى استهدافها.
لقد رأت القوى الخفية في أمريكا أن المؤسسات الخيرية الإسلامية من عوامل النهضة في دولها ومجتمعاتها، وأنها من أشد القوى في رفض العولمة الثقافية والتغريب، وتثبيت الهوية الدينية لأمتها، وأنها حققت من جوانب الوحدة للأمة الإسلامية ما لم تستطع بعض الكيانات السياسية تحقيقه.
إن فصل مؤسسات المجتمع الأهلي ولا سيما الخيري عن ممارسة حقها المشروع في الداخل أو الخارج سوف يؤدي إلى تحقيق المصالح الأمريكية المتعصبة بإضعاف قوى الدولة والأمة معاً، مثلما أن الحملة على المؤسسات الإسلامية في أمريكا تهدف على إقصاء الصوت الإسلامي الذي بدأ يطالب بحقوقه في شتى المجالات حيث لم تسلم منه الحملة حتى المؤسسات الفكرية مثل المعهد العالمي للفكر الإسلامي في فرجينيا أو المؤسسات التي تركز في عملها على العلاقات والحقوق المدنية مثل: منظمة كير الأمريكية، والحقيقة التي أراها ويراها الكثير أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر بداية لحرب متنوعة وشاملة، وإلى ذلك أشار وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) بقوله: إن الحرب أحياناً تكون عملاً عسكرياً لكنها من الممكن أن تكون عملاً اقتصادياً أو دبلوماسياً ومالياً أيضاً ( 27).
وقد عبر المحلل السياسي الأمريكي الشهير (توماس فريدمان) عن هذه الرؤية في مقاله المنشور في نيويورك تايمز حيث قال بالنص: إذا كان تاريخ 9/11 في الحقيقة بداية الحرب العالمية الثالثة، فعلينا أن نفهم ما تقصده هذه الحرب، وعلينا ألا نكافح لاستئصال الإرهاب .. الإرهاب فقط .. أداة .. نحن نحارب لهزيمة الأيدولوجية .. التدين الدكتاتوري والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة كانتا صراعاً لهزيمة الحزب العلماني المتطرف، النازية والشيوعية، أما الحرب العالمية الثالثة (الحالية) فهي معركة ضد الحزب الديني المتطرف الذي يفرض على العالم سلطة إيمانية تنفي الآخرين إنها (البنلادنية) نسبة لابن لادن، لكنها على خلاف النازية، فحكم الحزب الديني لا يمكن أن يقاتل بالجيوش وحدها، بل يجب أن يقاتل في المدارس والمساجد والكنائس، والمعابد ولا يمكن أن يهزم بدون مساعدة الأئمة والأحبار والكهنة!! (28).
ولسائل أن يسأل، ألا يمكن أن تساهم هذه الأقوال بكشف حقيقة الحملة؟.
نماذج من النتائج العامة
• *كشف قوة الحملات الإعلامية: لقد أثبتت هذه الحملة الإعلامية المسعورة بأسبابها ونتائجها أن الإعلام الأمريكي بدعم من رموزه السياسية قادر على تحويل الثوابت إلى متغيرات، والحق إلى باطل، والخير إلى شر، والصواب إلى خطأ، وخاصة في أواسط الضعفاء وما أكثرهم في العالم العربي والإسلامي، وهذا ما يؤكد أهمية تأسيس أمريكا لمكتب (التضليل الإعلامي)، الذي تم الإعلان عنه من قبل وزارة الدفاع الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ويهدف إلى تزويد القنوات الفضائية الإخبارية ووكالات الأنباء العالمية بمعلومات مغلوطة، وأثار ذلك من خلال حجم الاستجابة أو التصديق أو الشكوك لدى بعض الجهات الرسمية في العالم العربي، بل لقد أدت هذه الحملة الدولية إلى بعض الاستجابات من قبل بعض الدول على الرغم من عدم توجيه أي تهمة أو اشتباه لمؤسساتها الخيرية، إلا أنها اتخذت إجراءات متشددة حيال جمعياتها الخيرية، ولهذه الاعتبارات فإن الأمر يتطلب إعادة النظر في مبدأ التصديق للحملات الإعلامية.(5/396)
والملاحظ أن الحملة الإعلامية على المؤسسات الخيرية تزداد يوماً بعد يوم حتى بعد مرور سنة ونصف على الحدث مما يدل على أن دعوى الإرهاب مشجب تطرحه أمريكا بقوة إعلامها وتأثيره لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية والاقتصادية، قريبها وبعيدها، علماً أن تناغم الإعلام العربي مع الصياغة الأمريكية للخبر (مع الأسف) قد فاق الإعلام الأمريكي وخدمه بشكل منقطع النظير، حيث تتصدر أخبار الإرهاب ودعواه كل الوسائل الإعلامية مسيطراً على الصفحات الأولى من الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية والدورية، كما لا تخلو منه نشرة إخبارية على مدى الساعة، وهذا بحد ذاته هدف للإدارة الأمريكية بتصدير أولويات أمريكا باعتبارها قضية العالم بأسره، ليكون التجاهل العالمي لكل قضايا الدول والشعوب الأخرى.
- تناقص العمل الخيري الإسلامي إلى حدوده الدنيا: ففي أذربيجان مثلاً كانت هناك (خمس عشرة) مؤسسة إسلامية تقلص عددها إلى أن أصبحت المؤسسات (ثلاثاً) فقط بعد أحداث 11 سبتمبر، ومن الأمثلة أيضاً أن الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام أباد التي يدرس فيها (5000) طالب وطالبة، وكان لها دور كبير في إحياء الإسلام في وسط آسيا، واجهت مشكلات مالية حادة بعد 11 سبتمبر، حيث انقطعت الرواتب الشهرية لثمانية عشر من أساتذتها بسبب خوف الممولين وتقاعسهم ( 29).
- كشف الازدواجية وفقدان المصداقية والعدالة: من نتائج هذه الحملة أنها كشفت المزيد عن المعايير المزدوجة وفقداناً للمصداقية حينما أغفلت المنظمات والمليشيات الأمريكية والإسرائيلية التي تتبنى الإرهاب في داخل دولها وخارجها، فقد أشارت الدراسة التي قدمها مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية إلى هذه الازدواجية فقالت: ومثلما هو الوضع في السياسة الغربية عموماً، فإن تعامل الدول الغربية مع الجمعيات والمؤسسات الخيرية الإنسانية يتميز بالازدواجية المفضوحة، ففي الوقت الذي تشن فيه هذه الدول حملات قوية على الجمعيات الخيرية العربية والإسلامية وتتهمها بدعم وتمويل الإرهاب تتغاضى عن الممارسات التي تمارسها العديد من المؤسسات الخيرية الغربية، والتي لها تاريخ طويل في تأييد الإرهاب من خلال عمليات دعم العصابات والحركات الانفصالية التي تم تمويلها سراً وعلناً عن طريق المنظمات غير الحكومية الغربية، فعلى سبيل المثال كشفت صحيفة ديلي ستار اللبنانية أن (مجلس الكنائس العالمي) قد لعب دوراً مهماً في دعم المتمردين في جنوب السودان، كما ساعد بشكل نشط الحركة الانفصالية في إقليم (بيافرا) النيجري ذي الأغلبية المسلمة، ولم يحدث أن تم انتقاد هذه المساعدات على أنها دعم واضح للإرهاب ويجب وقفها، مثلما تم اتهام العديد من الجمعيات والمؤسسات العربية التي قامت بجمع تبرعات لصالح المقاومة الفلسطينية التي تتهمها بعض الدوائر الغربية بالإرهاب، مع أنها حركة مقاومة مشروعة دولياً وليست حركة انفصالية أو حركة تمرد ( 30).
ومن المؤشرات الواضحة على هذه الازدواجية المفضوحة تغاضي الدول الغربية عن قيام العديد من الجمعيات والمؤسسات الإنسانية والغربية وخاصة الأمريكية بجمع تبرعات لصالح إسرائيل كسياسة واستراتيجية مستمرة، إضافة إلى تلبية حالات الطوارئ لدولة الكيان الصهيوني، والتي تستخدمها في تعزيز احتلالها، أو في بناء مستعمراتها على الأراضي الفلسطينية ودعم سياساتها القمعية والإرهابية ضد الشعب الفلسطيني، وهي العمليات التي اعتبرها العديد من السياسيين والمنظمات الدولية نموذجاً واضحاً لإرهاب الدولة يستوجب ملاحقته قانونياً.
وأكثر من ذلك استخدام وسائل الاتهام والضغط الجائز، والتشويه قبل التحقيق أو المحاكمة على أخطاء مفترضة من قبل المؤسسات الخيرية الإسلامية، لا سياسات أو استراتيجيات تتبعها عمداً، وصاحب ذلك تجميد الحسابات والأرصدة المالية ومصادرة بعضها (أشارت بعض المصادر إلى تجميد ومصادرة 135 مليون دولار دون ذكر الأدلة أو البراهين على الادعاءات المغرضة، ليس مهماً حجم المال المصادر بقدر ما هو تقرير مبدأ صرامة الإجراءات غير القانونية التي تؤثر مستقبلاً بشكل سلبي على مسيرة العمل الخيري.(5/397)
- قوة البدائل الجاهزة: ومن نتائج تلك الحملة الأمريكية التي تكشف شيئاً عن الواقع ما يمكن قياسه بحجم انتشار المؤسسات الدولية الأخرى بديلاً عن المؤسسات الإسلامية، وقد تحقق الكثير من ذلك ولا سيما مع وقت الحرب الإعلامية النفسية، ومن الأمثلة الحية إثبات هذه النتيجة ما ذكره الأستاذ فهمي هويدي حيث قال في مقال له عن العمل الخيري: إن العمل الخيري الإسلامي يتعثر، وجورج سورس يتمدد في فراغنا وقد أنفق سورس اليهودي الأمريكي من أصل هنجاري والذي يملك (100) مليار دولار، وأسس مؤسسة (المجتمع المفتوح) ولها ثلاثة وثلاثون فرعاً ومركزاً في دول العالم الثالث منها (10) فقط في منطقة البلقان، و(18) في جمهوريات وسط آسيا والقوقاز، (3) في إفريقيا، و (2) في أمريكا اللاتينية، وبهذا تكون (28) من مراكز مؤسسته وأعمالها في مناطق المسلمين بالدرجة الأولى، وقد أنفق سورس في عام 1995م في منطقة البلقان وحدها (350) مليون دولار، كما يساعد البوسنة سنوياً بمبلغ (50) مليون دولار ( 31).
- غرست الحملات الإعلامية والإرهابية الميدانية بحق المؤسسات الخيرية لدى البعض - إلى حد كبير - كراهية الدعم المعنوي والمالي للعمل الخيري والإغاثي الإسلامي الذي قد ترتب على بعضه الاقتياد إلى كوبا، حيث معسكرات جوانتانامو وبيع الأسرى والمعتقلين في باكستان وأفغانستان بدراهم معدودة، كما ترتب على بعض الأعمال الخيرية زعزعة الثقة في مسيرة العمل الخيري الإسلامي والعاملين عليه، إضافة إلى إحجام بعض المتطوعين والمتبرعين خوفاً على أنفسهم أو أموالهم من المصادرة، وبروز شعور المسلمين ومؤسساتهم بالاضطهاد الديني، والتدخل السافر في شعائر دينهم كالزكاة والصدقة وغيرها وهي مسائل إيمانية وإنسانية عظيمة حسب التشريع الإسلامي .
- نتج عن هذه الدعوى العريضة على المؤسسات الخيرية الإسلامية تدخل سافر في حقوق الإنسان وحقوق المؤسسات بل وحقوق الدول في شؤونها الخاصة بلا مستند قضائي أو قانوني، وأصبح على الحكومات في العالم العربي والإسلامي أن تفعل مالا قناعة لديها به، أو تصبح متهمة بالإرهاب !! .
وقد تحول عدد من المعتدلين وهم الأكثرية في العالم الإسلامي إلى موقف العداء لأمريكا، حتى إن بعض من أدانوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر تراجعوا بسبب هذه الحملة غير العادلة وغير المعقولة !! فهل أمريكا غافلة عن هذا ؟! أم أن فيها جهات متطرفة تسعى إلى التصعيد مع العالم العربي والإسلامي وتعتبر هذا التصعيد تحت مسمى ( حرب الإرهاب ) هدفاً ؟!! .
إن أصابع الاتهام تشير إلى دعاة الصراع بين الحضارات ! وتشير إلى تجار السلاح والبترول ؟! .
- ذكرت صحيفة الشرق الأوسط نقلاً عن الواشنطن بوست من مقال (آلن كوبرمان) أن الزكوات والتبرعات للمراكز الخيرية والإسلامية في أمريكا قد انخفضت بسبب الحملة ضد الإرهاب، وأن الرغبة أصبحت لعطاء الأفراد من الفقراء مباشرة خوفاً من الخطأ وخوفاً من أن تكون أسماء المتبرعين في إحدى شبكات المعلومات كما أن هناك خوفاً من الحكومة ( 32).
ملحق المطالب ( 33)
نص المطالب الأمريكية لتعزيز الرقابة على الجمعيات الخيرية في الكويت:
قدمت السلطات الأمريكية في إطار مساعيها لـ (تجفيف مصادر تمويل المنظمات الإرهابية، طلباً رسمياً إلى عدد من المنظمات الخيرية والمؤسسات التجارية في الكويت، عبر وزارة الخارجية الكويتية للحصول على وثائق وبيانات مالية وقيود حسابات بسبب الاشتباه في أن المبالغ التي تجمعها وتوزعها تساهم في تمويل أنشطة منظمات إرهابية، خصوصاً تنظيم (القاعدة) بقيادة أسامة بن لادن، وستقدم هذه الوثائق إلى فريق أمريكي مختص بدأ أفراده في الوصول إلى الكويت للاطلاع عليها والتدقيق فيها، وأثار هذا الطلب تحفظات لدى الجمعيات الإسلامية التي تعتبر نفسها مسئولة أمام القانون الكويتي وحده.
وفيما يلي الترجمة الحرفية لأهم المطالب لنص الطلب الأمريكي:
طلب وثائق من الهيئات الخيرية والتجارية:
من أجل مساعدة فريق الخبراء على فهم أفضل لأعمال المنظمات الخيرية والهيئات التجارية في الكويت، نقدر لكم تعاونكم في توفير أكبر عدد ممكن من الوثائق المحددة أدناه عن كل منظمة للفريق لدى وصوله (إلى الكويت) بهدف مراجعتها والسجلات المطلوبة ينبغي أن تغطي السنوات الثلاث الماضية.
الجمعيات، المنظمات التجارية، والخيرية:(5/398)
أ) كل قيود حسابات المنظمة والسجلات المالية التي تحتوي - من دون أن تقتصر على ذلك - الدفاتر العامة، السجلات العامة، الدفاتر والسجلات الفرعية، الفواتير وقيود الدخل ، قسائم المبالغ النقدية وقيود النفقات، دفاتر وسجلات المبيعات والمشتريات، دفاتر حسابات الدخل والإنفاق، قيود الديون الهالكة، قيود كلفة السلع المباعة، دفاتر القروض الملتقاه والممنوحة، بيانات الدخل، بيانات الموازنة، وكل صكوك الإنفاق بما فيها فواتير المبالغ المدفوعة نقداً، هذه القيود يجب أن تشمل وثائق مالية عن الموازنة التي تحدد مصادر دخل المنظمة وأصولها ونفقاتها، والمطلوب أيضاً تقديم وثائق إسناد عن النفقات التي تشمل استخدام وسطاء، كونها ذات أهمية خاصة.
ب) بيانات عن أهداف المنظمة وبرنامج الخدمات المقدمة، قوانينها وبنيتها التنظيمية يجب أن تشمل تحديد الهيكلة والهرمية، بما في ذلك المكاتب في داخل البلاد وخارجها، إذا كان لها فروع، والعناوين وأرقام الهواتف ولائحة بالمستخدمين ومواقعهم وأي معلومات تعريفية أخرى.
ج) كل البيانات المالية، ودفاتر قيد ومسودات حسابات التي استخدمت تحضيراً للقيود المنظمة أو الضرائب المرتجعة، النسخ المحفوظة لكل الضرائب الأجنبية أو الأمريكية المرتجعة، بما في ذلك المعلومات والجداول عن الضرائب المرتجعة.
د) الهويات المفصلة، وثائق التعريف المرفقة للطلبات، قيود الدفع وكل الوثائق الأخرى، المتعلقة بمتلقي الهبات، أو القروض أو النفقات المنح الدراسية والرواتب والمدفوعات الأخرى، هذه السجلات يجب أن تتضمن ملفات عن كل المساعدات المقدمة إلى الأفراد أو المنظمات في الكويت، وكذلك في الدول الأجنبية، مثل أفغانستان والشيشان والصومال والفلبين والباكستان.
هـ) الهويات المفصلة، وثائق التعريف المرفقة، قيود التعويضات وكل الوثائق الأخرى المتعلقة بالمسئولين والمدراء والأمناء والموظفين والمستشارين وكل خدمات المنظمة.
و) الهويات المفصلة، وثائق التعريف المرفقة وكل الوثائق الأخرى المتعلقة بالأفراد والهيئات الذين قدموا هدايا أو مساهمات أو أوصوا بأموالهم أو أي تقديمات مالية أخرى للمنظمة، هذه القيود يجب أن تشمل معلومات عن أنشطة أي جمع تبرعات تشرف عليها المنظمة.
ز) الوثائق المتعلقة بالحسابات مع مؤسسات مالية بما في ذلك المصارف والوسطاء الماليين ومكاتب الصيرفة، هذه الوثائق يجب أن تشمل البيانات المصرفية، صكوك الإيداع، قيود الشيكات، الشيكات الملغاة، أوامر السحب والإيداع، سجلات تواريخ قيمة المبالغ المودعة، قيود الشيكات المودعة صكوك السحب وثائق الإيداع، شراء شيكات مصرفية، التحويلات الهاتفية، أوامر التحويل وطلبات التحويلات الهاتفية.
اللقاء مع الأفراد:
إضافة إلى مراجعة أنواع القيود الواردة أعلاه سيقدر الفريق غالباً فرصة اللقاء مع أفراد يمكن أن يقدموا له معلومات عن البنود التالية:
أ) الإجراءات التي تعتمدها المنظمة للموافقة على المشاريع أو الأشخاص الذين يتلقون المبالغ الخيرية، وكذلك الإجراءات المتبعة لصرف المبالغ للمتلقين.
ب) مصادر وأنواع الهبات التي تلقتها المنظمات خلال السنوات الثلاث الماضية.
ج) متلقو المساعدات من المنظمات خلال السنوات الثلاث الماضية.
د) المسئولون الحكوميون المعنيون بمراقبة المنظمات ونشاطاتها.
السجلات المطلوبة من المؤسسات المالية:
إذا كان هناك حاجة لطلب وثائق من المصارف أو أي مؤسسات مالية أخرى في الكويت تتعلق بفرد أو بهيئة فستكون على النحو التالي:
أ) قيود حسابات الادخار: تشمل بطاقات التواقيع، دفاتر القيد أو السجلات التي توضح تواريخ وقيمة المبالغ المودعة والمسحوبة والفوائد وأوامر السحب والإيداع وقسائم الإيداع والشيكات المودعة وقسائم السحب والشيكات المسحوبة.
ب) قيود حسابات الشيكات: تشمل بطاقات التواقيع والبيانات المصرفية وقسائم الإيداع والشيكات المودعة والشيكات المسحوبة على الحساب وقيود أوامر السحب والإيداع.
ج) قيود القروض: تشمل الطلبات والبيانات المالية وضمان القرض والتحقيق المصرفي عن المداخيل واتفاقات القروض والرهونات وبينات التسديد والعقود والشيكات والصادرة للقروض وقيود التسديد، بما في ذلك قيود التواريخ والمبالغ وطريقة الدفع (نقداً أو بالشيكات) والشيكات المستخدمة لتسديد القرض وسجل يكشف القيمة الإجمالية للحسم على الفائدة المدفوع سنوياً، وقيود لأي حجوزات أو ملفات مراسلات القرض والمذكرات الداخلية للمصرف.
د) قيود صناديق الأمانات الشخصية: بما في ذلك العقود سجلات الاستخدام وسجلات كلفة التأجير التي تكشف تواريخ وقيمة وكيفية الدفع (نقداً أو بالشيكات).
هـ) شهادات الإيداع وشهادات السوق المالية: بما في ذلك الطلبات ووسيلة الشراء، وقيود الشراء وقيود استرداد القيمة والشيكات الصدارة لدفع قيمتها والشيكات المدفوعة لشراء الشهادات وأي مراسلات وقيود تكشف عن الفائدة السنوية المدفوعة أو المتراكمة وتواريخ الدفع أو تواريخ سحب الفائدة، والشيكات الصادرة لدفع الفائدة.(5/399)
و) قيود بطاقات الائتمان: بما في ذلك طلب الزبون وبطاقة توقيعه، والتحقيق على مدخوله وخلفيته، والمراسلات وبيانات الفواتير الشهرية وفواتير الفائدة الفردية، وقيود التسديد التي تشمل تواريخ وقيمة وكيفية التسديد (نقداً أو الشيكات) وصور الشيكات المستخدمة للتسديد، على الوجهين.
ز) شراء الشيكات المصرفية: قيود شراء الشيكات المصرفية بكل أنواعها وشيكات السفر (ترافلرزتشيكس) أو قيود الأوامر المالية بما في ذلك سجل الشيك وصور الشيكات أو الأوامر المالية، وقيود تكشف تاريخ ومصدر الدفع لقيمة الشيك أو الأمر المالي.
ح) قيود أخرى: سجلات الشيكات المضمونة، التحويلات الهاتفية، التحصيل ورسائل الاعتماد والصكوك والسندات المالية والمشتراة بواسطة المصرف، تحويلات صكوك الادخار، وحسابات الفوائد، والقيود التي تحدد تواريخ وقيمة التحويل وطريقة الدفع ومصدره ووسيلة وبيان التحويل.
(1 ) تم تقديم هذه الورقة إلى مؤتمر باريس الدولي للمنظمات الإنسانية والخيرية بتاريخ 9-10/1/2003م، وهي مقتبسة من كتاب تحت الطبع للدكتور محمد السلومي بعنوان (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب) للحصول على معلومات أكثر عن الكتاب انظر موقع www.thama r at.com وللتواصل وإثراء الموضوع بمقترحات أو وثائق تخدم الكتاب يمكن مراسلة المؤلف على البريد الإلكتروني التالي: khy r 2002@yahoo.com
( 2) صحيفة الشرق الأوسط 18/9/1423هـ الموافق 23/11/2002م.
(3 ) الموقع الإلكتروني مفكرة الإسلام 13/9/1423هـ الموافق 18/11/2002م
(4 ) لمزيد من القرائن والأدلة يراجع الكتاب.
( 5) ندوة قناة الجزيرة بعنوان الجمعيات الخيرية الإسلامية وعلاقتها بالإرهاب في 3/8/1423هـ الموافق 21/10/2002م، انظر الموقع الإلكتروني للقناة.
( 6) نقلاً عن غلين كيسلر صحيفة الشرق الأوسط 10/7/1423هـ الموافق 18/10/2002م.
( 7)قناة الجزيرة برنامج أولى حروب القرن في 30/7/1423هـ الموافق 18/10/2002م.
(8 ) صحيفة القدس العربية 16/3/1423هـ الموافق 29/4/2002م.
( 9) صحيفة الشرق الأوسط 10/8/1423هـ الموافق 26/10/2002م.
(10 ) صحيفة الحياة 9/7/1423هـ الموافق 6/9/2002م.
(11 ) عن خسائر الشركات الأمريكية وفضائحها انظر صحيفتي الاقتصادية والوطن السعوديتين في 13/5/1423هـ الموافق 23/7/2002م، وصحيفة الحياة في 11/5/1423هـ الموافق 21/7/2002م، وصحيفة القبس الكويتية في 16/4/1423هـ الموافق 27/6/2002م.
( 12) المصدر: مجلة المجتمع في 27/11/1423هـ الموافق 9/2/2002م.
(13 )أشارت بعض الدراسات إلى أن الوضع الاقتصادي قد يكون من أسباب الحملة على أهمية الدوافع الدينية والتي تعتبر من الأسباب الرئيسية للحملة، انظر على سبيل المثال ندوة (مستقبل مؤسسات العمل الخيري الخليجي والعربي في ضوء الاتهام الأمريكي لها بتمويل الإرهاب) التي تم عقدها في القاهرة في مبنى الأمم المتحدة في 22/8/1423هـ الموافق 28/1/2002م.
(14 ) انظر دراسة الدكتور أحمد يوسف مدير المؤسسة المتحدة للدراسات والبحوث في واشنطن في مجلة الصراط المستقيم الأمريكية عدد 84 بتاريخ 7/1420هـ الموافق 10/1999م.
( 15)صحيفة الوسط في 24/3/1423هـ نقلاً عن صحيفة كريستيان ساينس مونيتور.
(16) يعتبر إدورد سعيد من الكتاب الأمربكيين المسيحيين المشهورين .
(17) بول فندلي (لا سكوت بعد اليوم) ص 88.
(18) من دراسة للدكتور أحمد يوسف نشرت في مجلة الصراط المستقيم عدد 84 في 7/1420هـ الموافق 10/1999م.
( 19) انظر كتاب بول فندلي (لا سكوت بعد اليوم) نقلاً عن los angeles - examine r بتاريخ 26/2/1989م.
( 20) بول فندلي المصدر السابق ص 93
(21 ) صحيفة الزيتونة الأمريكية في 6/5/1423هـ الموافق 16/7/2002م.
(22 ) مقال بعنوان (الحرب على المؤسسات الخيرية الإسلامية في فلسطين متواصلة دولياً ومحلياً) نشر في مجلة العصر اليومية الإلكترونية في 14/7/1423هـ الموافق 21/9/2002م.
( 23) انظر صحيفة الرياض في 14/10/1423هـ الموافق 18/12/2002م، نقلاً عن وكالتي (رويترز) و (أ. ف. ب).
( 24) بول فندلي (لا سكوت بعد اليوم) ص109-110.
(25 ) مجلة المجلة في 6/2/1423هـ الموافق 19/4/2002م.
( 26) صحيفة الجزيرة السعودية في 12/5/1423هـ الموافق 22/7/2002م، نقلاً عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في 21/7/2002م.
( 27) صحيفة الشرق الأوسط في 29/6/1422هـ الموافق 17/9/2001م.
(28 ) المصدر (إسلام أون لاين) نقلاً عن صحيفة نيويور تايمز الأمريكية في 12/9/1422هـ الموافق 27/11/2001م.
( 29) المصدر: مجلة المجلة في 15/6/1423هـ الموافق 24/8/2002م.
( 30) المصدر: صحيفة ديلي ستار اللبنانية في عددها الصادر في 17/5/1423هـ الموافق 27/7/2002م.
( 31) المصدر: مجلة المجلة في 15/6/1423هـ الموافق 24/8/2002م.
(32 ) صحيفة الشرق الأوسط في 17/10/1423هـ الموافق 11/12/2002م.
( 33) المصدر: جريدة الحياة في 30/10/1422هـ الموافق 14/1/2002م.
============(5/400)
(5/401)
تهميش الأمة:عطل مشاريع النهضة
السيد أبو داود 14/10/1423
18/12/2002
هل التخلف هو قدر العرب المحتوم ؟ أليس هناك أمل في نهضة عربية تنفض غبار قرون الانحطاط عن هذه الأمة التي ذاقت عز المجد من قبل ؟ وإذا كان مشروع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده قد فشل في تحقيق النهضة على الأساس الإسلامي، وإذا كان كذلك مشروع النهضة "التنويري" الذي بدأه رموز العلمانية والتغريب في بداية القرن الحالي قد فشل أيضاً في تحقيق النهضة المنشودة، ومن قبل هذين المشروعين فشل مشروع محمد علي في تحقيق النهضة لمصر، كما فشل مشروع جمال عبد الناصر بعد ذلك في تحقيق الشيء نفسه، فهل هناك أمل في النجاح بعد كل هذا الفشل والإخفاق؟ وما هي ملامح مشروع النهضة المنتظر؟ وكيف يمكن أن يحظى هذا المشروع بقبول مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري في أمتنا العربية ؟
ورغم أن تقرير "التنمية الإنسانية العربية" لسنة 2002، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي في يوليو الماضي يلاحظ أن الدول العربية حققت تقدماً كبيراً في التنمية البشرية، على مدى العقود الثلاثة الماضية، يتمثل بارتفاع العمر المتوقع عند الميلاد بمعدل 15 عاماً، وانخفاض معدلات وفيات الأطفال، وازدياد نسبة الملمين بالقراءة والكتابة، وارتفاع نصيب الفرد من السعرات الحرارية الغذائية، ومن الماء الصالح للشرب يومياً، وتراجع نسبة حالات الفقر المدقع، إلا أن الأرقام تدلل أيضا، على حجم الهوة التي تفصل العرب عن إنجازات التقدم المتحققة في العالم، في مختلف المجالات.
وبحسب التقرير، فقد كان معدل نمو دخل الفرد العربي، خلال العقدين الماضيين، هو الأقل في العالم باستثناء إفريقيا جنوب الصحراء، إذ إنه لم يتجاوز نصف في المائة سنوياً، واستمرار هذه المعدل يعني بأن المواطن العربي يحتاج إلى 140 عاماً ليضاعف دخله، بينما يستطيع المواطن في مناطق أخرى مضاعفة دخله مرة كل عشر سنوات، وبحسب التقرير فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لكل البلدان العربية في العام 1999 ما مقداره 5312 مليار دولار أميركي، أي ما يشكل أقل من دخل دولة أوروبية واحدة مثل إسبانيا والتي يقدر ناتجها المحلي الإجمالي بحوالي 5955 مليار دولار، أما إنتاجية العامل الصناعي العربي فهي منخفضة ويترافق ذلك مع تدهور الأجور ما يفاقم من حدة الفقر، ويقدر التقرير حجم البطالة في الدول العربية بحوالي 12 مليون عاطل من العمل عام 1995، أي ما يوازي 15 في المائة من قوة العمل، ويتوقع أن يصل عدد العاطلين إلى نحو 25 مليوناً سنة 2010.
ويشير التقرير بأن كل واحد من بين خمسة أفراد عرب يقل دخله عن دولارين في اليوم، وثمة 65 مليون أمي ثلثهم من النساء، كما لوحظ انحسار في فرص التعليم والتعلم. ويبدي التقرير قلقاً تجاه الشباب العربي الذين يشغلهم تأمين فرص العمل والتعلم، ومما يزيد القلق أن 51% من المراهقين صرحوا برغبتهم في الهجرة لعدم رضاهم عن الأوضاع الحالية والفرص المستقبلية في بلدهم الأم.
ويعد تمويل البحث العلمي في العالم العربي من أكثر المستويات تدنياً في العالم، إذ يبلغ معدل الإنفاق العلمي نسبة إلى الناتج المحلي 014 في المائة فقط في العالم العربي عام 1996 في حين أنه يبلغ 253 في المائة عام 1994 في إسرائيل، و29 في اليابان، أما الاستثمار في البحث والتطوير فهو اقل من سبع المعدل العالمي، كما أن استخدام المعلوماتية في الدول العربية أقل من أي منطقة أخرى في العالم، إذ لا تتجاوز نسبة مستخدمي الإنترنت 06 في المائة ويملك 12 في المائة فقط من المواطنين العرب حاسوباً شخصياً، ويبلغ النقص في الإنتاج الفكري والإبداع في العالم العربي حدا كبيرا، فمجموع ما يترجمه العرب من الكتب 330 كتاباً سنوياً، وهو خُمس ما تترجمه اليونان، وخلال الألف سنة الماضية، ترجم العرب من الكتب بقدر ما ترجمته إسبانيا في سنة واحدة؟.
ويصل التقرير إلى حقيقة مفادها أن النقص في المعرفة والحريات يكبل الطاقة الإبداعية للعقول وأن الثقافة والقيم هما روح التنمية، وأن التنمية الإنسانية هي تنمية الناس ومن أجل الناس ومن قِبَل الناس، وفي هذا الصدد تبدو المقارنة مع إسرائيل ليست في صالح العرب، من مختلف الوجوه، إذا تجنبنا العوامل المتعلقة بالمساحة وعدد السكان والتاريخ والثقافة وأيضا الثروة النفطية، وهي عوامل تؤكد من الجهة الأخرى، حجم الإخفاق العربي في مقابل النجاح الذي حققته إسرائيل: قليلة العدد صغيرة المساحة والتي تفتقد للعمق الحضاري ـ الثقافي.
هل عطّلت الدولة العربية الحديثة نهضة الأمّة؟
توصّل الإنسان بعد تجاربه الطويلة في الحياة الجماعية إلى اتّخاذ نظام الدولة نظاما اجتماعيا يشرف على الحياة العامّة ويرتّب شؤونها، ويكفّ الأفراد والجماعات عن الصراعات المهلكة، ويوجّههم إلى التعاون المثمر، وقد أصبحت المهمّة الأساسية للدولة هي أن توفّر للمجتمع الشروط الأساسية للنموّ الحضاري، من أمن داخلي وخارجي، وتنظيم إداري، وتخطيط مستقبلي، وتيسير لسبل الريادة في التفكير والتدبير والإنجاز.(5/402)
ولكنّ التاريخ عرف نماذج من الدول انحرفت فيها الدولة عن القيام بهذه المهمّة الأساسية، التي من أجلها وجدت، بل لم يقف انحرافها أحيانا عند عجزها عن توفير شروط النهضة، وإنّما تحوّلت إلى عوامل مضادّة، تعطّل المجتمع عن حركة النموّ الحضاري، وتعطّل طاقاته الذاتية عن النهضة، ونحسب أنّ الدولة العربية الحديثة ليست ببعيدة عن أن تمثّل هذا الأنموذج المعطّل للنموّ الحضاري للأمّة العربية.
لمّا نشأت الدولة العربية الحديثة كان أمام صانعيها أنموذجان للدولة مرشّحان للاقتباس منهما، والاستفادة من التجربة الحضارية فيهما: أنموذج الدولة الإسلامية، كما رسمت معالمها التوجيهات الدينية، وكما تحقّقت في التجربة التاريخية، وأنموذج الدولة الغربية الحديثة، كما هي قائمة بالفعل في البلاد الأوروبية، على وجه الخصوص.
ولم تكن الدولة الإسلامية محلّ نظر ودرس من قِبل أولئك الصّنّاع، بنيّة الاقتباس منها، بالرغم من أنّها تمثّل مخزونا حضاريا ثريّا للأمّة، في شأن الحكم والبناء الحضاري، بل صُرف عنها النظر بصفة شبه مطلقة، واستدارت الأنظار كلّية إلى الدولة الغربية الحديثة، التي أعشى بهرجها الأبصار، لتكون محلّ الاقتباس بل المحاكاة والاحتذاء.
وقد كان لهذا الموقف غير المنطقي من الناحية المنهجية، وغير الوفيّ من الناحية الثقافية والحضارية، أثر بالغ السوء في بناء الدولة العربية الحديثة، وفي علاقتها بالمجتمع، وفي نتائج إدارتها للأمّة من أجل النهضة.
ربّما كانت بعض سلبيات الدولة الإسلامية، كما تحقّقت في واقع التاريخ،مثل ما فشا فيها من استبداد سياسي،ومثل قصورها في بناء المؤسّسات السياسية الثابتة، صارفا حاسما عن النظر فيها، من أجل الاقتباس، ولكنّ ذلك كما أنه خطأ منهجي، كان أيضا صارفا عن استفادة قيّمة من جوانب إيجابية كثيرة في تلك الدولة، أثبتت التجربة نجاعتها في إدارة المجتمع، وفي تحقيق النموّ الحضاري، فخسرت الدولة العربية الحديثة بذلك مصدرا مهمّا من مصادر البناء المثمر، وحصدت نتيجة خطئها فشلا في إدارة المجتمع، واستنهاض قواه الفاعلة.
نتائج استبعاد الخبرة الإسلامية
ولعلّ من أهمّ إيجابيات الدولة الإسلامية، التي حرمت منها الدولة العربية الحديثة، فباءت في شأنها بالخسران، ما كانت تلك الدولة تتيحه للمجتمع من هامش واسع لحرّية التصرّف في الشؤون العامّة، ومن المسؤولية في البناء الحضاري، إذ لم تكن الدولة الإسلامية تقبض من السلطات بصفة قويّة مباشرة، إلاّ على سلطة الأمن، بالمعنى الموسّع، الذي يشمل دفع العدوان الخارجي، وإقامة العدل بين الناس، وإشاعة الطمأنينة فيهم، وذلك من خلال مؤسّسات الجيش والشرطة والحسبة والقضاء وما في حكمها، وأمّا المهامّ البنائيّة فهي في مجملها تركت في إنجازها للأمّة، ولم يكن للدولة إلاّ دور الإشراف العامّ، وتوفير الشروط الممكّنة من الابتكار ومن الإنجاز.
لقد كان المجتمع الإسلامي، هو الذي يمارس مهمّة التربية والتعليم، من خلال المؤسّسات التعليمية الأهلية، ويمارس مهمّة البناء الاقتصادي، من خلال مؤسّسة الأوقاف، ويمارس مهمّة الرّعاية الاجتماعية، من خلال مؤسّسات التكافل، في دوائر اجتماعية متعدّدة، ولمّا كانت هذه المهامّ ذات البعد الاستراتيجي في البناء الحضاري قد تكفّلت بها الأمّة، فإنّها لم تتأثّر كثيرا بما تعرّضت له الدولة من اضطرابات سياسية، بل ومن انكسارات عسكرية مدمّرة، فقد ظلّت الحضارة الإسلامية تنمو في شتّى المجالات، بالرغم ممّا أصاب الدولة من انتكاسات، وما تعرّضت له من أحداث طامّة.
وعلى سبيل المثال فإنّ الدولة الإسلامية لمّا كانت تتعرّض للاضطراب الشديد بالانتقال من الأمويين إلى العبّاسيين، وبالفتنة بين المأمون العباّسي وأخيه الأمين، فإنّها كانت في الوقت ذاته تشهد أزهى عصورها في البناء الحضاري العام، فقد كان الحكم منهمكا في الفتنة، وكانت الأمّة بما لها من استقلالية منهمكة في البناء.
وقد لا يجد المؤرّخون تفسيرا غير هذا التفسير لحقيقة استمرارية الحضارة الإسلامية، بالرغم من تعرّض الدولة الإسلامية لطامّات، عرف التاريخ سقوط حضارات عاتية، بسبب ما هو دونها من الخطوب بكثير.
والدولة الحديثة في الغرب حينما اتجه ناحيتها بُناة الدولة العربية للنسج على منوالها، كانت قد انتهجت في إدارة الحياة نهج الإشراف المباشر على المرافق العامّة، التي كانت تضطلع بها الأمّة في الدولة الإسلامية، فتولّت هي التخطيط والتنفيذ، بصفة كاملة لشؤون التربية والاقتصاد والرعاية الاجتماعية وغيرها من المهامّ الاستراتيجية، ولكنّ هذا التولّي المباشر لتلك الشؤون، كان بتفويض من الأمّة، ونيابة عنها، وفق عقد مراضاة بين الطرفين، تقرّر فيه الأمّة ما تشاء، وتنفّذ فيه الدولة تلك القرارات، تحت المراقبة والمحاسبة من الوكيل المفوّض، فصار ذلك يشبه أن يكون وجها آخر لتولّي الأمّة لشؤونها الاستراتيجية ،كما انتهجته الدولة الإسلامية بصفة مباشرة، ولكنّه وجه مبنيّ على قواعد من المؤسّسات الثابتة والقوانين الملزمة.(5/403)
ولكنّ الدولة العربية الحديثة لمّا نسخت منهج الدولة الغربية في الإدارة الشاملة لحياة الأمّة، أسقطت منه أهمّ عناصره، وهو التفويض الشعبي، فإذا هي تستولي على جميع مقاليد الحياة العامّة، وتدّعي لنفسها القدرة على النهوض بهذا العبء الثقيل، ثمّ هي تسلب من الأمّة في ذلك الاستيلاء، وبذلك الادّعاء، حقّ القيام المباشر على شؤونها، وحقّ الإنابة عنها، وحقّ الاختيار لنمط ما تريد جميعا، ومضت هي بمعزل عن الأمّة تقرّر في كلّ شيء، وتنفّذ في كلّ شيء، متجاوزة الدولة الغربية في أصل ما انتهت إليه من مبدأ التفويض والنيابة، ومتجاوزة إيّاها في حجم ومساحة ما تعهّدت به من النيابة عن الشعب في إدارة حياته.
خطورة تهميش دور الأمة
ولمّا كانت المهمّة، التي ادّعتها الدولة العربية الحديثة لنفسها غير قائمة على أساس من الحقّ في أصلها، وغير مقدور عليها في الواقع من قِبل الدولة عموما، ومن قبل الدولة العربية الحديثة التكوين خصوصا، فإنّ الفشل في أدائها كان محتوما، ولمّا استشعرت الدولة ذلك الفشل، أصبحت في سبيل إخفائه، والتنصّل من تبعاته، تخبط خبط عشواء، على غير محجّة بيّنة، وإلى غير هدف معلوم، فإذا هي تردّ على المجتمع كثيرا من المهامّ، التي سلبته إيّاها، ولكن على مستوى التنفيذ فقط، حتى انتهت أحيانا، لمّا عجزت عن أداء مهمّتها الأساسية، وهي حفظ الأمن، إلى أن تعهد بهذه المهمّة لهيئات شعبية تسلّحها لتقوم بحفظ الأمن بدلا منها، وأماّ الاختيار والقرار، الذي هو من الحقّ المطلق للأمّة، فقد احتفظت به لنفسها، واستماتت في الاستئثار به والدفاع عنه.
لقد انتهى أمر الدولة العربية الحديثة في هذا الشأن إلى ضرب من الكاريكاتير المضحك المحزن في آن معا، فهي قد استدارت عن تجربة الدولة الإسلامية في إفساحها مجالا واسعا من حرّية الإنجاز الحضاري للأمّة، والحال أنّ تلك الدولة هي الأنموذج الأقرب منها روحيا وثقافيا، ثمّ ذهبت تنسخ تجربة الدولة الغربية الحديثة، ولكنّه نسخ ممسوخ، إذ قد أصبحت فيه شمولية الدولة، تضمّ شمولية الاختيار إلى شمولية التنفيذ، فأُلغي دور الأمّة قرارا اختياريا وتنفيذا عمليا، ثمّ انتهى الأمر إلى أن استبدّت الدولة بالاختيار، وتقاعست في مستلزمات التنفيذ، ملقية بالكثير من أحمالها على عاتق الأمّة، التي أصبح عليها أن تنفّذ ما تختاره لها الدولة، وبذلك أصبحت هذه الدولة تطّرح في كلّ مرحلة أحسن الأوضاع، وتأخذ بأسوئها، حتى تمحّضت لها السيّئات.
ولا شكّ أنّ هذا المنتهى، الذي انتهت إليه الدولة العربية الحديثة، كانت له آثاره البالغة السوء على حركة النهضة، إذ النهضة لا تقوم بها إلاّ الأمّة، التي منها يكون الاختيار، ومن خصوبتها ينشأ الابتكار، وبيدها أو على عينها يتمّ الإنجاز، وما مهمّة الدولة إلاّ توفير الأسباب الدافعة إلى ذلك، والمساعدة عليه، وانتهاج الطرق الإدارية المفعّلة له والميسّرة لمسالكه.
وإذا ادّعت الدولة العربية الحديثة أنّها ستقوم- بديلا من الأمّة- بإنجاز كلّ تلك المهامّ، ومنعت المجتمع من أن ينتظم في مؤسّسات سياسية واقتصادية وتربوية، يقوم من خلالها بمهامّه الحضارية، وإن هي سمحت بشيء من ذلك، فبشرط أن تطبّق اختياراتها هي لا اختياراته هو، ثمّ هي قابلت بالقمع كلّ الاحتجاجات الصادرة عن المجتمع، ناقدة لهذا الوضع، ومطالبة بتصحيحه، وكانت خلاصة ذلك كلّه كبت قوى الأمّة أن تنطلق، وإعاقة خصوبتها أن تثمر، والحجر على قدراتها أن تأخذ طريق الابتكار والإبداع، فانكفأت على ذاتها تجترّ انكسارها، وتراوح مكانها في ميدان التقدّم، إن لم تكن تقهقرت في أكثر من مجال من مجالات الحياة
=============(5/404)
(5/405)
المستنسخات الأتاتوركية !
ياسر بن عبدالعزيز العمرو* 17/5/1423
27/07/2002
الله أكبر كم في الفتح من عجب … …
يا خالد الترك جدد خالد العرب
حذوت حرب الصلاحيين في زمن … …
فيه القتال بلا شرع ولا أدب
تحية أيها الغازي وتهنئة … …
بآية الفتح تبقى آية الحقب
أطلال ملحمة شعرية، وقافية حماسية، صاغ فصولها وسبك أبياتها "أمير الشعراء" أحمد شوقي، مدحاً وثناءً واستبشارًا بمن استثار روح الجهاد في الأتراك، بعد أن جردت معاهدة (سيفر) الرجل المريض- الدولة العثمانية- من خزائنه وهيلمانه، وجعلته أثرًا بعد عين! .. فخرج ذلك (الممدوح) رافعًا القرآن،وداعيًا إلى الجهاد، فردَّ اليونانيين محتلي (أزمير) على أعقابهم، وتراجعت قوات الحلفاء أمامه وأخلت له المواقع، دون أن يشهر أمامهم آلة حربه!، فأصبح في نظر الناس - وليس في نظر شوقي فحسب- مجدد الخلافة التي مرغها الخليفة في التراب تحت أقدام الجيوش المحتلة!.
تلك المدائح والأهازيج نسخت بأثر رجعي، وانقلب الفرح ترحًا، والمدح ذماً، وأصبح الـ(مع) (ضدًا)، حتى أن صاحبنا المادح في مطلع المقال .. عاد فقال عن نفس (الممدوح):
بكت الصلاة وتلك فتنة عابث … …
بالشرع عربيد بالقضاء وقاح
أفتى خزعبلة وقال ضلالة … …
وأتى بكفر في البلاد بواح
فغدا (الغازي) ( عابثًا)، و(الفاتح) (عربيدًا)، والمشبه بصلاح الدين (ضالاً) !
وكل هذا تأتى بعد أن قلب ذلك (الممدوح) ظهر المجن على مادحيه، وألغى- بعد أن تسود- الخلافة الإسلامية،وأقصى الشريعة ومؤسساتها ، ونحَّى القانون الإسلامي عن الساحة ، وتبنَّى القانون المدني ، ونظام التعليم العلماني ، والتقويم الجريجوري النصراني ، والحروف اللاتينية؛ ليقطع الصلة بين المسلمين الأتراك وتراثهم الثقافي ، وجعل العطلة الأسبوعية يوم الأحد ، كما منع ارتداء الزي الإسلامي خارج المسجد ، وأغلق جامع (آيا صوفيا) ، وجامع السلطان محمد الفاتح ، ومنع الصلاة فيهما بعد أن حولهما إلى متحفين للآثار ، وفرض تلاوة القرآن باللغة التركية، وكذلك الأذان ، كما ألغى قوامة الرجال على النساء ، وشجع العصبية القومية،وسمح بزواج الإخوة من الرضاعة ، وألغى تعدد الزوجات، وحول قصره في أنقرة (جانقايا) إلى بؤرة للرذيلة والفساد: تزاوج ما بين الشاذين جنسيّاً ، واغتصاب طالبات المدارس بعد اختطافهن ، والاستمتاع بزوجات المسؤولين والتجار مقابل تلبية طلباتهم ، وتكديس القصر بالراقصات العاريات، والتحرش بأقارب السفراء ، فضلاً عن معاقرة الخمور يوميّاً ، بالإضافة إلى سرقة أموال المسلمين وتبرعاتهم ، واغتصاب الأراضي الزراعية ، وبيع ممتلكاته للدولة بأضعاف ثمنها ، بل وبيع أذربيجان المسلمة إلى الروس... والمزيد المزيد، حتى غدا حال الخطاب :
ألا يا أيها الصّابي … …
أقر قبيل إغضابي
بأنك ترفعُ الإسلام … …
فوق هدى حمورابي
وترفضُ أن يُساسَ الناسُ … …
وفق شريعة الغاب
وأنت أبٌ لطالبةٍ … …
قد استترت بجلباب
ولستَ بحالقٍ ذقناً … …
ولا مرخ لأثواب
فتلك جرائمٌ جُنِيَت … …
بكل برود أعصاب
وكل جريمة تكفي … …
لتجعل منك إرهابي
لا أخال القارئ جهل المقصود، ولم يع بشاعة الجرم الذي ارتكب ويتمعر منه الوجه، وتشمئز النفس .. إن لم يزد عليها بأدعية الويل والثبور.
مصطفى كمال الملقب بـ(أبي الأتراك) أو ( أتاتورك).. شخصية لم تكن وليدة لحظتها، أو حالة فريدة من نوعها، جاءت خبط عشواء كيفما اتفق دون إرهاصات ومقدمات، إنما هي نسخة كربونية و جينٌ فكري مستنسخ من لدن الحميت الأسود ابن السوداء اليهودي (عبدالله بن سبأ) إلى وقتنا الحاضر، تتكرر على أمتنا في نماذج عديدة، كانت بمثابة اللدغات التي لدغنا بسمها الزعاف - المخدر لا المميت- مرات ومرات من الجحر ذاته!
إن الكثير من الأفكار والمبادئ والشعارات الدخيلة تسقط عند الصدمة الأولى، وتلفظها المجتمعات المحافظة، وتشنع على أربابها ومعتنقيها، لذا يضطر أصحابها إلى التوجه صوب الإسلام، والتقنع بمبادئه وشعاراته، وإعلان الانتماء إليه و الذود عن حياضه ... حتى إذا خلا الجو؛ قلبوا ظهر المجن ، وبيَّضوا وصفَّروا ونقَّروا وأعلنوا كشف الغطاء، وانقضاء شهر العسل !!
ومن استصحب التاريخ ، لن يعدم الأمثلة والشواهد على تراجيديا الخداع المرهبنة، وميكافيلية القذارة...
ألم ينادي (جوزيف ستالين ) في مسلمي روسيا والقرم وقرغيز والقوقاز - وذلك قبل ثورته - قائلاً : ( أنتم يا من هدمت مساجدكم ، وحطمت معابدكم ، ومزق القياصرة قرآنكم ، وحاربوا دينكم ، وأبادوا ثقافتكم، وعاداتكم، ولغاتكم... ثوروا من أجل دينكم وقرآنكم، وحريتكم في العبادة.
إننا هنا نعلن احترامنا لدينكم ، ومساجدكم ، وإنَّ عاداتكم ، وتقاليدكم حرة لا يمكن المساس بها، ابنوا حياتكم الحرة الكريمة المستقلة دون أي معوقات ولكم كل الحق في ذلك ...
واعلموا أن جميع حقوقكم الدينية والمدنية ، مصونة بقوة الثورة ، ورجالها ، والعمال ، والفلاحين ، والجنود وممثليهم ... )(5/406)
(ستالين) قائل تلك الخطبة هو ذاته من نفى شعب الشيشان والأنغوش بأكمله إلى أواسط سيبيريا لمدة تزيد عن خمسة عشر عاماً، هلك غالبيتهم في رحلة الضنك والعذاب، و قتل وشرد ونكل بالآلاف من مسلمي التتر ، وفعل فيهم الأعاجيب، بعد أن كان يخطب ودهم ورضاهم !
ألم يكن (أتاتورك) يرتدي العمامة ، ويلبس السبحة ، ويقرأ القرآن ، ويطوف على الجماهير ، يستثير حماستهم ، ويعبئهم لحربه مع اليونان ، ويعتبر انتصار اليونان على تركيا هزيمة للإسلام ، وإبطالا للقرآن ، وامتدادا للاستعمار ... إلى درجة صدّق بها السلطان (عبدالحميد الثاني) مهازل (أتاتورك) ودعا الله أن يتقبل أعماله! رغم إعلانه لمخططاته الهدامة في مجالسه الخاصة، كما يقول عنه مستشاره (مفيد كانصو) في مذكراته.
وذاك الزعيم المناضل صاحب الثورة ومنظرها، من كانت ترفع له هتافات التلبية من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، ألم يتمسح في بداية الطلب بالزهد والورع، وينضوي تحت شعار ( وأعدوا)، ويصنع تحت الأعين ،ويقدم على أنه المخلص والمنقذ ... بل والمجدد!، فكانت أول ضحاياه - بعد التسود - من احتضنه وعلمه وبرزه !
إن الدراما واحدة ، ولكن الأدوار ومنفذيها تغيروا ، ولم يصبح التمسح بالدين والتقنع به ذريعة سياسية قائمة على (الغاية تبرر الوسيلة) فحسب، بل تجاوز ذلك - في زمننا هذا - إلى الذرائع الاجتماعية والفكرية، فكثر أدعياء وصال ليلى التي لا ناقة لها ولا جمل ولا حيلة لتقر الوصال من عدمه!
إن النموذج الأتاتوركي، لم ينتهِ بموت (أتاتورك) ولم ينقضِ برحيله ، فلئن عاش في تلك الحقبة (أتاتورك) واحد، ففي عصرنا هذا يعيش عشرات الأتاتوركيين المتلبسين بمسوحه، والمستنسخين فكره، والداعين إلى منهجه... وما جنرالات تركيا منا ببعيد.
والتشكل الحالي للمستنسخات الأتاتوركية يتجاوز البراجماتية الذرائعية، والتمسكن حتى التمكن ؛ ليشمل دائرة أوسع، يمارس عبرها تقنين لأدوار المصلحين ورسمها واختزالها في مشاريع ثانوية تحت مسميات ( التوازن الاجتماعي) و (تداول النخب)، في مقابل فرص رئيسة قيادية تمنح لمن سواهم تحت المسمى نفسه!
فضلاً عن هدنة المغازلة بعد التقريع، وإحياء منهج المراجعات اليومية، واحتكار الأعمال والمشاريع تحت محددات معينة، بينما الحقيقة هي: العمل بقانون الغاب ( البقاء للأقوى).
إن مراغمة الباطل وأهله لا تحتاج إلى لطم خدود أو شق جيوب، وبكاء ونوح .. وليست بمعركة ذات فهم حربي - فحسب- إنما هي مراغمة شمولية تحتاج إلى مشاريع جهادية ومدنية وحضارية متنوعة، تحتوي الطاقات وتبرّزها وفق الهدف المنشود والمراد، وتنتشل عامة الناس من أحادية العمل المؤسسي التغريبي إلى ميادين النهضة بالأمة الإسلامية، وهذا ما رأيناه جليا في المشاريع التي قدمتها الحركات الإسلامية في تركيا - كحزب الرفاه مثلاً -، وساهمت في صحوة المجتمع واحتوائه، وعمقت الكراهية للأتاتوركية بكافة أشكالها.
وأخيرًا أقول: لست في هذا المقام أدعو إلى جعل سوء الظن واتهام النيات مطية ترتحل، ولكن لابد من التأني في إصدار العموميات، وألا يجعلنا حال الأمة العلقمي نمارس النفخ والتطبيل لكل شاردة تظهر، أو واردة تلوح، فينطلي علينا ما انطلى على سابقينا.. ورحم الله الإمام الشافعي حين قال : (إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة).
* مدير تحرير موقع الإسلام اليوم
=============(5/407)
(5/408)
ابني و اللغة الأجنبية
د. وليد بن عثمان الرشودي 7/3/1423
19/05/2002
إن الرفض لذات الرفض ، يعد تخلفاً في عقلية العقلاء الذين ينشدون الصلاح لأنفسهم وأمتهم ، وفي الأثر " الحكمة ضالة الؤمن حيث ما وجد المؤمن ضالته فليجمعها إليه " فالمسلم يبحث عمّا يحقق له الحكمة من وجوده على هذه الأرض (إني جاعل في الأرض خليفة) ، فلا بد من عمارتها بصلاح الدين والدنيا ، ليس كما نحب أو نرضى ، بل جعل لنا ربنا أحكاماً تعبدنا بها في إصلاح هذه الحياة لتحقق فينا العبودية المطلقة لله ، ومن ذلك التزام الشرع الكريم في كل الأحوال ، وعدم الخروج عنه قيد أنملة، سيما في الثوابت التي لا تحتمل أن تهتز فضلاً أن تتغير أو ينقص منها، لأن في ذلك منافاة لقول الرب جلّ في علاه (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) ، وكما قال مالك : ما لم يكن ذلك اليوم ديناً فليس اليوم بدين .
وثمة سائل يسأل: ما علاقة التعلم للغة الأعجمية بهذه الطليعة السابقة ؟
العلاقة هي أن الحفاظ على النشء - فكرياً- أمر محتم شرعاً " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ، فتأثر الطفل والتأثير عليه تحت الحصانة الشرعية لا يجوز لنا أن نتصرف بها إلا كما أمر ربنا جل وعلا ، وكما في الحديث " ألهذا حج ، قال نعم ولك أجر" ، فالخير يجب أن يجلب إليهم ، والشر لابد أن يحجب عنهم سيما ما يتعلق بدينهم وفطرتهم قال شيخ الإسلام رحمه الله (ويجب تعليم أولاد المسلمين ما أمر الله بتعليمهم إياه وتربيتهم على طاعة الله ورسوله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مروهم للصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع .) _ ولاشك أن التحرز لهم بمنعهم من مخالطة الأعداء _ كيف وأن أعداء هذا الزمان جلهم معتدون _، مطلب أمره في الشريعة ضروري ، ومن ذلك حماية ألسنتهم من أن يخالطها عجمة ، فاللسان هو دليل القلب ، قال الحسن : اللسان أمير البدن فإذا جنى من الأعضاء شيئاً جنت وإذا عف عفت . أ.هـ ، فصيانته من كل سوء مطلب لابد أن يعتنى به خاصة مع شدة التغريب الموجه على الأمة ، واللسان جزء منها ، إذ المقرر عند أهل العلم أن التشبه بالظاهر يورث موالاة الباطن ، وهذه القاعدة أثرها موجود ومحسوس لا يمكن أن ينكر ، وإذا كان الناس يشكون من لوثة اللسان الغربي بدون إدخال التهذيب عليه منذ نشأته ، فكيف إذا أصل تغريبه ، ولله درّ حافظ إبراهيم حينما قال : واهًا لهذه اللغة التي أصبحت بين أعجمي ينادي بوأدها ، وعربي يعمل على كيدها !!. أ.هـ .
عفواً أخي القارئ.. إن الغيرة على اللسان العربي لابد أن تأخذ أَوْجَها في القلوب ، ولابد أن تنتفخ الأوداج حمية للغة القرآن ، والثأر لها في هذا الزمان الذي نصبت فيه الشراك لها ليوقع بها ويغتال شرفها .
إن تأصيل الحكم الشرعي لتعلم اللغة العربية ووجوب الحفاظ عليها ظاهر لكل من آتاه الله قلباً أو ألقى السمع وهو شهيد ، وتعليم الصغار وتنشئتهم على حب العربية والتخاطب بها ، ومعرفة ما فيها من الدين ، حيث بها يقيم القرآن ، ويعرف معاني آياته ، فيستجيب لأمر ربه ، ويفهم سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يحقق الغاية من وجوده سيما في هذا العصر الذي تنكر فيه للغة القرآن ، وقصّر أهله في نصرته ، حتى طغت العامية على العربية ، وأصبح الناس لا يفهمون كثيراً من ألفاظ القرآن ، قال شيخ الإسلام - رحمه الله- في الاقتضاء ، : وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية حتى يتلقنها الصغار في الدور والمكاتب ، فيظهر شعار الإسلام وأهله ، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام فقه معاني الكتاب والسنة ، وكلام السلف ، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب عليه ، وأعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً ، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ، ومشابهتهم تزين العقل والدين والخلق ، وأيضاًَ فإن تعلم اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ، فإن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ثم منها ما هو واجب على الأعيان ، ومنها ما هو واجب على الكفاية ، وهذا معنى ما رواه ابن بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عيسىبن يونس عن ثور عن عمر بن يزيد قال : كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري : أما بعد فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية فإنها من دينكم ، وهذا الذي أمر به عمر -رضي الله عنه- من فقه العربية وفقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال ، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله ، وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله ) ولعل في هذا التقرير من شيخ الإسلام كفاية في بيان الحكم الشرعي الذي نحن مطالبون بالاستسلام له غنية عن نقل غيره .
وإن من أخص من يعنى بهذا الحكم أهل الجزيرة العربية التي شرفنا الله بسكنها ، والعيش على أرضها ، فإن لها خصائص يجب عليها أن تتميز به عن غيرها .(5/409)
قال الشيخ العلامة بكر أبوزيد - شفاه الله وعافاه - في كتابه العظيم الماتع (خصائص الجزيرة العربية) ، في معرض ذكره للضامنات التي يجب القيام بها لحفظ خصائص الجزيرة : ( تعريب لسان الأمة من رطانة الأعاجم إلى شعار الإسلام ، ولغة القرآن لسان العرب ( لأن الدين فيه أقوال ، وأعمال ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله ، وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله ) ، فلذلك يجب على من بسط الله يده بالسلطان على هذه الجزيرة أن يقوم بحمايتها من غائلة الأعاجم ، وأن يحفظ لسانها من العجمة ، وأن يتبنى قواعد لغة القرآن ، فإن التاريخ لنا فيه عبر أي عبر ، فقلَّب ناظريك يا رعاك الله تجدْ أن أول ما طمست الهوية الإسلامية في كثير من البلدان المستعمرة بالقضاء أولاً على لسانها ، وإشاعة العامية فيها ، ولا يخفى ما فعله دانلوب ، وجهود طه حسين في تغريب اللسان العربي في مصر ، واستبداله بالعجمة والعامية لتذوب معالم الدين ، وتقطع العلاقة بين المرء ولسان دينه .
قال الأديب مصطفى صادق الرافعي في وحي القلم : وما ذلَّت لغة شعب إلا ذلّ ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار ، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمرة ، ويرعبهم بها ، ويشعرهم عظمته فيها ، ويستلحقهم من ناحيتها ، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عمل واحد :
أما الأول : فيسجن لغتهم في لغته سجناً مؤبداً .
وأما الثاني : فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً .
وأما الثالث : فتقييد مستقبلهم بالأغلال التي يصنعها فأمرهم من بعدها لأمره تبع . أ.هـ
فكيف إذا زاد على ذلك عدد من المبتعثين الذين رضعوا من صلب الاستعمار فأنتج منهم نتاجًا هزيلاً ليخدم المستعمر ، ويضيع خصائص بلده وأمته ، ومن أشد هذه المسالك لؤمًا ما يعود به عدد من المبتعثين من شباب هذه الأمة إلى ديار الكفر، إذ يعودون وهم يحملون تحللاً عقدياً رهيباً منضوين تحت لواء حزبي مارق ، وفي لحطات يمسكون بأعمال قيادية عن طريقها ينفذون مخططاتهم ، ويدعو بعضهم بعضاً ، فيتداعون على صالحي الأمة ، وعلى صالح أعمالها ، وهذا أضر داء استشرى في هذه الجزيرة ، فهل من مستيقظ ؟ وهل من مستبصر) ؟ أهـ .
وإننا في هذه البلاد المباركة لنحاذر ذلك ، ونخاف منه ، ونخشى أن يحل بنا ما حل بغيرنا ، والله تعالى يقول (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ، وهذا الذي نرى بوادره من فتح للمدارس الأجنبية لتقرر المناهج الغربية في بلاد المسلمين بحجج واهية ، وما رأيناه فيها من إماتة للغة العرب ، ووأد لتدريس علوم الشريعة ، مع ما صاحبها من اختلاط مشين لا يمكن أن يبرر ، إلى فرض تدريس اللغة الأعجمية على أطفال المسلمين بحجة المحاكاة ، فإن في هذه الخطوة -كفانا الله شرها- محاذير ، منها :
1 - ازحام عقل الطفل ، بحيث تشغل اللغة الأعجمية اللغة العربية .
2 - إثقال كاهل الطفل الدراسي ، فهو بحاجة إلى أن يخفف عنه من قيود الرياضيات والعلوم لا أن يزاد عليه غيرها .
3 - أن الدراسات النفسية والاجتماعية أثبتت - بما لا يدع مجالاً للشك والريب- أن الطفل في مراحله الأولية لا يستطيع إتقان أكثر من لغة ، والناس يعانون من عجمة أولادهم بسبب مخالطة الخدم ، فكيف إذا درسوا ذلك ؟
4 - أن المستقدم لتدريس هذه المادة أصله غريب على اللغة التي يراد تدريسها ، فكيف يدرسها هو ؟
5 - أن تدريس هذه المادة وإقرارها ما هو إلا بهرج يتزين به البعض ليظهر أنه قدم شيئاً .
6 - لازالت الأمم قوية متماسكة ما قامت بالمحافظة على تراثها دون تغيير أو تمييع لتعيش عزيزة منيعة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- : إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون . ا.هـ .
ولله درّ الرافعي حينما قال في وحي القلم: وليس في العالم أمة عزيزة الجانب تقدم لغة غيرها على لغة نفسها ، وبهذا لا يعرفون للأشياء الأجنبية موقعاً إلا من وراء حدود الأشياء الوطنية ، ولو أخذنا - نحن الشرقيين- بهذا لكان وحده علاجاً حاسماً لأكثر مشاكلنا ، فاللغات تتنازع القومية ولَهِيَ -واللهِ اختلال- عقلي في الشعوب التي ضعفت عصبيتها ، وإذا هانت اللغة القومية على أهلها أثرت اللغة الأجنبية في الخلق القوي ما يؤثر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه .
7 - وأقل ما في تدريس هذه المادة " أنه من المحاكاة ، وأنه من مظاهر الذلة والضعف ، وتبعية المغلوب للغالب ، والمسلم مطالب بالعزة والأنفة من التبعيات الماسخة المجردة من العوائد النافعة " من كلام بكر أبو زيد في تغريب الألقاب العلمية ص 25 .
8 - خطر الوافد المدرس على دين الأطفال وأخلاقهم ، حيث إنهم من بلاد شتى ، ومنها ما هو غير مسلم ، بل وغير كتابي ، ولا ننسى خطر رسائل التبشير ، والناس اليوم تحاذر خطر الخادم على دين الأطفال وأخلاقهم ، وشكواهم ظاهرة للعيان ، هذا والخادم ليس محل القدوة ، فكيف إذا كان المعلم هو الخطر ؟ وهو بمقام العلو ، وله المكانة ، وظاهر الغلبة على المتعلم ، وعند الطفل هو مقام القدورة والأثر عليه .(5/410)
وإني لأرجو الله أن يحفظ هذه البلاد من كل ما هو وافد يضر دينها ، وخلقها ، وفكرها .
===========(5/411)
(5/412)
ماذا بعد الحصار ؟!
صلاح الصاوي 23/2/1423
06/05/2002
وماذا بعد الحصار؟ سؤال يتردد على كل لسان، ويقرأ في كل عين، ويتقاول به الناس في كل مجلس، وقد بهرتنا الشدائد وأجهدتنا المفاوز، وفدحتنا الضحايا، وبتنا كالقافلة المكروبة تتخبط منذ زمن طويل في مجاهل الأرض وخوادع السبل، وأدلاؤها الغواة يلتهمون زادها مع الوحش، ويقتسمون مالها مع المغير، ويغتنمون ضلالها مع الحوادث!!
وماذا بعد الحصار؟! لقد أيقظت هذه الانتفاضة المباركة روح الجهاد في الأمة، وفجرت العربدة الصهيونية وما ارتكبته من مجازر بشعة في أرض المعراج براكين الغضب في أعماق كل من يؤمن بالله واليوم الآخر، وربما في أعماق بعض من لا يؤمنون كذلك! فقد تجاوزت كل حد، وفاقت كل خيال، وسوف تظل جرحا نازفا في ضمير أجيال كاملة، إلى أن يمُنَّ الله على هذه الأمة بتأييده، ويرفع عنها مقته وغضبه.
لقد تجاوب الحِسُّ الإسلامي العام مع ما يجرى على أرض المعراج من أحداث، وعبر عن ذلك في صورة هذه المسيرات الحاشدة التي طوفت أرجاء العالم الإسلامي، ترسل رسالة سخط ولعنة إلى الطغاة، وترسل رسالة حب وتأييد إلى المجاهدين والمرابطين، كما تجاوبت -إلى حد ما- بعض القيادات العلمانية المتنفذة، فلم تسحق هذه المسيرات، ولم تتهمها هذه المرة بالعمالة أو الخيانة أو التآمر لقلب نظام الحكم كما كان ديدنها في التعامل مع مثل هذه الأحداث، وبدا الإعلام العربي متجاوبا - إلى حد كبير- مع هذه الأحداث؛ لأن عواصفها لم تستهدف أهل الإيمان وحدهم، بل استهدفت معهم كرامة هذه النظم وشرعيتها، وأوشكت أن تأتي على بنيان بعضها من القواعد، بالإضافة إلى ما خلفته من تشويه بالغ لصورة هؤلاء أمام شعوبهم وحلفائهم.
ولكن هذا الوضع - فيما يبدو- لن يستمر طويلا، لقد تعوّد أهل الباطل أن يسارعوا إلى تغيير مجرى الأحداث إذا بدأت في التحول لصالح أهل الإسلام، والذي يظهر من قراءة الأحداث- والغيب لله- أن القوم سيتداعون إلى مؤتمر سلام يتقاسمون فيه على إدانة ما نعتوه بالإرهاب ( الجهاد المسلح، والعمليات الاستشهادية، وكل ما يرتبط بها من وسائل وأسباب مادية أو معنوية ) ويتدافعون فيه إلى التوقيع على وثيقة سلام، تفرض تحت الحصار، وتحت تهديد الآليات العسكرية، نفس الآليات التي أشاعت الخراب والدمار في جينين، وقلقيلية، ونابلس، وطولكرم، ورام الله وغيرها!! وسوف تتحول جميع النظم العربية إلى مخافر ومسالح ترعى الكيان الصهيوني ، وتؤمن وجوده، وتسحق كل محاولة لاختراقه أو النيل منه!
وسوف تحجب عن الشرعية بالتبع كلّ أو جلّ الجهود الرامية إلى دعم الانتفاضة والعمل المسلح، فلن يجمع لها مال، ولن يفتح لها مكاتب، ولن يكشر في وجهها أحد، وقد يتنادى فئام من الدعاة من فوق المنابر بطاعة طغاة العلمانية ممن يستعلنون بالفصل بين الدين والدولة، وإن جلدوا الظهور وأخذوا الأموال، وأن الجهاد والصلح، أو الحرب والسلم من القرارات السيادية التي تفوض إلى هؤلاء، ولا مدخل فيها للعامة وأشباه العامة، وسوف تدخل القضية الفلسطينية في منعطف جديد بالقياس إلى كل ما مر بها من أحداث، وما تعاقب عليها من محن! قد تأخذ هذه التداعيات بعض الوقت، وقد لا يتزامن حدوثها في وقت واحد، وقد تمارس كلها أو بعضها من الناحية العملية في الوقت الذي ترفع العقائر بنقيضها من الناحية النظرية، إلا أن استقراء الأحداث والوقائع يقول إن ذلك قادم لا محالة، وإن نذره قد بدت تلوح في الأفق! فأين نحن من هذا كله ؟ وما ذا أعددنا له من العدة ؟ ويبقى السؤال جذعا: وماذا بعد الحصار؟!
لقد تعودنا على ردود الأفعال الموقوتة، التي سرعان ما تفتر وتتلاشى، وتصبح هشيما تذروه الرياح! إننا نجد اليوم حماسا وتجاوبا وتهيؤا للبذل والتضحية، لبشاعة المذابح من ناحية، ولتجاوب الإعلام في عرضها وتعريف الناس بها من ناحية أخرى، لكن أخوف ما أخافه أن يفتر هذا الحماس وأن تذهب شرته، وأن تضطرب الأولويات، وأن يشتغل كل منا بخصوصياته وأولوياته بعد حين، فينفض السامر ويهجع السمار! والأمر جد خطير، ومسيس الحاجة فيه إلى الصبر والمصابرة والمرابطة، وتجهيز الأمة لرحلة طويلة من البذل والمعاناة لا يخفى على متأمل!(5/413)
إننا لا نجد جوابا على هذا إلا قول الله جل وعلا { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} الصف: 10 -11 وقوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقْتلون ويُقْتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } التوبة: 111 فالجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو الذي لا يعدله عمل من الأعمال ، فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمفَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَاد،َ قَالَ: لَا أَجِدُهُ، قَال:َ هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُر،َ وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِر،َ قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟! قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ
ومعنى قوله (ليستن) يمرح بنشاط، من الاستنان وهو العدو. (طوله) حبله الذي يشد به من طرف ويمسك طرفه الآخر، ثم يرسل في المرعى. (فيكتب له حسنات) يكتب مرحه ورعيه حسنات لصاحبه. وما ترك قوم الجهاد إلا ضربت عليهم الذلة والمسكنة، ونزعت مهابتهم من قلوب أعدائهم، وأكلتهم الفتن، واكتووا بنيرانها!
على أنه ينبغي أن يؤخذ الجهاد بمفهومه الواسع : جهاد السيف، وجهاد الكلمة، وجهاد المال، ( جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم)، فكل هذه مجالات تستوعب طاقات الأمة، وتوظف كل إمكاناتها في هذه المواجهة، وتفسح لكل صاحب جهد مجالا لكي يدلي بدلوه، ويشارك في دعم جهاد أمته، وفي إنهاضها وإقدارها على الرباط والمصابرة، في هذه الرحلة الطويلة المضنية!
فإذا عجز الناس في مرحلة من المراحل عن إقامة الجهاد بمفهومه الخاص ( جهاد السيف )على وجهه كما أمر الله عز وجل، لنقص في العدد أو في العتاد، أو لعدم ملاءمة في التوقيت أو غير ذلك ، فإن لهم في مفهومه العام من جهاد الكلمة وجهاد المال منادح ومتسعا تبقيهم على نية الجهاد بمفهومه الخاص من ناحية، وتتيح لهم المشاركة في تعبيد سبله وتهيئة أسبابه من ناحية أخرى، وإذا كان العبد لا يزال في صلاة ما دامت تشغله الصلاة ويتجهز لها، فإنه لا يزال في جهاد ما دام يشغله الجهاد ، ويعد له العدة، ويهيئ له الأسباب.
وإن إعداد العدة في هذا المقام طريق ذو ثلاث شعب:
الشعبة الأولى: شعبة الإيمان والاعتقاد الصحيح، وخلاصته التأكيد المستمر والإلحاح الدائم على أن القضية الفلسطينية قضية إسلامية خالصة، وتخليصها - على الأقل في حس المؤمنين بالله واليوم الآخر - من الأقنعة العلمانية، والنزعات العرقية أو الإقليمية، وذلك يقتضي ما يلي:
- تجديد الإيمان واستفاضة البلاغ بأن النصر من عند الله وحده، وأنه لا يستحقه إلا المؤمنون حقا. قال تعالى { وما النصر إلا من عند الله } ( الأنفال: 10 ) وقال تعالى { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ( محمد: 7 ) وقال تعالى { وكان حقا علينا نصر المؤمنين}
- تجديد الإيمان واستفاضة البلاغ بأن هذه الأمة منصورة ومرحومة، وأن العاقبة لها بإذن الله، وأنه لا تزال طائفة منها قائمة على أمر الله لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ، وأنها قد مرت عبر التاريخ بأطوار من الضعف والانحطاط أكثر بشاعة مما تمر به هذه الأيام، وأنها قد خرجت من كل ذلك، واستعادت عافيتها، واستأنفت مسيرتها، وحملت رسالة ربها إلى العالمين، وأن نذكر أنفسنا دائما بسنة الله الثابتة في إهلاك الطغاة والمستكبرين، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ، { ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد } الفجر: 6-9
- تجديد الإيمان واستفاضة البلاغ بأن أول الطريق إلى النصر على الأعداء هو الانتصار على النفس في معركة الشهوات والشبهات، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة، وأن ذنوب الأمة أخوف عليها من عدوها، وأن تقوى الله من أعظم الخطة في الحرب، ومن أقوى المكيدة على العدو، وأن كل خطيئة ترتكب في أرض الإسلام فهي حبل من الناس يمد به العدو بمزيد من القوة ، وقذيفة مدمرة تقدم إليه، وتضاف إلى رصيده من العتاد غنيمة باردة بلا ثمن ليبطش بها كما شاء !
- تجديد الإيمان واستفاضة البلاغ بأن العلمانية والإيمان نقيضان، وأن اللبوس العلماني الذي نسجه المبطلون للقضية الفلسطينية كان أحد أسباب الخيبة الماضية، وأن الإصرار عليه إصرار على السير في طريق الخيبة والبوار!(5/414)
- تجديد الإيمان واستفاضة البلاغ بأن قضية فلسطين قضية إسلامية خالصة، قضية الأقصى، وأرض الإسراء والمعراج، أولى القبلتين، وأن الدفاع عن مقدسات المسلمين من آكد فروض الأعيان، وأن الجهاد يتعين في المقام الأول على أهلها، وعلى بقية الأمة إقدارهم على ذلك وإنهاضهم له وإعانتهم عليه، فإن عجز أهلها لقلة عددهم أو عتادهم، ولم يقووا على خصومهم، امتد تعيين الجهاد إلى الذين يلونهم من المؤمنين، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهكذا في دوائر تتسع تدريجيا إلى أن يعمّ الوجوب العيني للجهاد أرض الإسلام قاطبة.
- التعرف الدقيق على نفسية بني إسرائيل، والقراءة الواعية لتاريخهم وسيرهم مع أنبيائهم من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكيف نقضوا مواثيقهم وقتلوا أنبياءهم وسبوا خالقهم مسبة لم يسبها له أحد من العالمين، وكيف أورثهم هذا كله قسوة في القلوب وغلظة في الرقبة، وذلة ضربت عليهم أينما ثقفوا، ولعنة تتابع عليهم أبناء وأحفادا ! فإن التعرف على العدو جزء لا يتجزأ من الإعداد للمواجهة وحسن التخطيط لها. قال تعالى { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية } ( المائدة : 13 ) وقال تعالى { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } ( المائدة : 78-79 ) وقال تعالى { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} ( آل عمران : 112 )
- الاهتمام البالغ بتزكية النفوس، وتربية الناشئة على الإيمان والجهاد، وحمايتهم من غوائل التغريب والعلمنة، فإن المعركة طويلة المدى، وقد لا تحسم على يد هذا الجيل، فيجب إعداد العدة لمثل هذا الامتداد على مستوى الزمان كما نعد له على مستوى المكان!
- حسم الجدل الدائر حول بعض القضايا الرئيسة المتعلقة بمشروع المواجهة، من ذلك على سبيل المثال:
- مدى مشروعية العمليات الاستشهادية التي جمعت قلوب السواد الأعظم من الأمة حول القضية الفلسطينية، وأجَّجت جذوة الجهاد في ضمائرها، مع عدم إغفال جانب الجدوى والتوقيت ، فإن إقرار مبدأ الجهاد لا يعني - بالضرورة- سلامة توقيته ودقة حساباته في كل مرة، فينبغي ألاّ يحملنا الحماس المتأجج للعمليات الاستشهادية على إغفال هذا الجانب العملي الذي يتوقف عليه تحقيق هذه الأعمال لمقصودها أو إخفاقها في ذلك، فالعمليات الاستشهادية فرع عن العمليات القتالية العامة وصورة من صورها، فينبغي أن تدور في فلكها وأن تنبثق من مشكاتها.
- مدى مشروعية الاستمرار في العمليات الجهادية وإن حَجَبْتَها - عن الشرعية- بعض القيادات العلمانية، وذلك عندما تلتزم نظم المنطقة كلها بوثيقة سلام، وتوقع عليها في مؤتمر دولي أو غير دولي، ولا يخفى أن الجهاد هو الخيار الاستراتيجي لهذه الأمة، قَبِلَ به من قبل ، وأفك عنه من أفك!
- مدى صحة أو بطلان مشروعات الاستسلام والتخاذل التي تتم تحت وطأة الحصار، والتي تسلم إلى الأبد جزءا من بلاد الإسلام إلى المعتدين الغاصبين، والتي يتولى كِبْرها قيادات لا تنتمي إلى جماعة المسلمين؛ لخروجها على كثير من المعلوم بالضرورة من الدين! وما مدى شرعية القيادات العلمانية التي تكفر بمرجعية الشريعة في علاقة الدين بالدولة، وفي علاقة الدين بالحياة، ومدى أهليتها لتمثيل الأمة فيما يجري في الساحة الآن من عقود وعهود، ومدى قيام أو سقوط واجب الطاعة بالنسبة لها.
- الاتفاق على مرجعية شرعية يحتكم إليها في النوازل المتعلقة بهذه القضية، ولتتمثل مرحليا في بعض الرموز التي عرفت في الأمة بالكفاية والديانة، بحيث تمثل في مواقعها المرجعيات المعتبر بها للإفتاء في مثل هذه النوازل، فسوف يكثر الأدعياء والملقنون، وسوف يكثر الغافلون والمغيبون، ويبقى الحق بعيدا عن دعاوى الملقنين وغفلة المغيبين. ولكن وجه الأرض لن يخلو من قائم لله بحجة.
الشعبة الثانية: شعبة التوحد والائتلاف، وهذا هو بيت القصيد في مشروع المواجهة، فإن التنازع بريد الفشل وذهاب الريح، وإن نصر الله لا يتنزل على شيع متنازعة متناحرة، وقد قال تعالى { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) ( الأنفال : 46 ) وقد أعطى علي -رضي لله عنه- للخوارج - فيما أعطى - ألاّ يمنعهم من الغنيمة والفيء مادامت أيديهم مع المسلمين، وألاّ يبدأهم بقتال ما لم يقطعوا السبيل ويسفكوا الدم الحرام، فلم يمنعهم من القتال مع جماعة المسلمين، ولم يحجب عنهم بسبب ابتداعهم حظهم من الغنيمة والفيء إن هم اشتركوا في هذا القتال المشروع، وقد كانوا من أشد الفرق ابتداعا وتكفيرا للأمة وقتالا لها وخروجا على جماعتها، وقد أعطاهم ما أعطى، وما نفذ إليهم بقتال حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام.(5/415)
إن في خندق الجهاد متسعا لأهل القبلة قاطبة، ولم تزل جيوش الأمة -عبر التاريخ- تضم البَرَّ والفاجر، وينتظم في سلكها الصالح والطالح، وإذا كان يجوز التعاون على البر وأعمال الخير مع كل من دعا إليها ولو كان من غير المسلمين، أفلا يجوز ذلك مع المسلمين على ما قد يشوب بعضهم من شائبة ابتداع أو تفريط ؟! وقد تمهد قيام الشريعة على تحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنه يقاتل مع الظالم من هو أشد منه ظلما، ومع المبتدع من هو أشد منه ابتداعا!
إن محكمات الشريعة تؤكد على التوحد والائتلاف، وتنهى عن التفرق والاختلاف، وإن فساد ذات البَيْنِ هي الحالقة، التي تحلق الدين، ولقد لاحظ كثير من المعاصرين من حملة الشريعة من خلال تجاربهم الدعوية وعبر أسفارهم المتكررة واختلاطهم بتجمعات دعوية متباينة المشارب أن مرَدَّ نسبة كبيرة من الاختلافات الواقعة بين المتدينين إلى فساد ذات البين، وليس لمجرد الاختلافات الفقهية أو التباينات العقدية، ولهذا كانت كلمتهم دائما إلى هؤلاء { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} ( الأنفال : 1 ) { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا } ( الأنفال : 46 ) ( إياكم وفساد ذات البين فإنها الحالقة، ألا لا أقول تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين )
وقد لا يتسنى تحقيق الائتلاف الكامل في هذه المرحلة بصورته المنشودة دفعة واحدة، ، ولكن الحد الأدنى الذي لا يعذر مسلم بالتفريط فيه هو الاتفاق على مبادئ كلية تمثل رؤية مشتركة وموقفا عمليا موحدا تجاه هذه القضية، وإن تباينت الأدوار، وتعددت المسارات، لتباين الاستعدادات والقدرات، والاتفاق على بعض الآليات التي تفعل هذه المواقف العملية المشتركة، وتنقلها من حيز الأفكار والأماني إلى حيز التطبيق والممارسة الفعلية.
لتكن قضية تحرير الأقصى هي المشترك الجهادي العام الذي يلتقي عليه العاملون لهذا الدين، والذي تأتلف حوله كلمتهم، وتجتمع حول تحريره قلوبُهم، وليتفق الناس على إقرار مبدأ وجوب الجهاد لدحر هؤلاء الغاصبين، وأن هذا الجهاد هو مسؤولية الأمة بأسرها، وليتسع مدلول الجهاد ليشمل كل أنواع الدعم الممكنة :
- الدعم المالي من خلال أموال الزكوات والتطوعات العامة التي تقدم من خلال الهيئات الإغاثية أو الصلات الشخصية، وينبغي الاهتمام بتأمين القنوات الموثوقة التي تصل بالمال إلى أهله، حتى لا تذهب أموال المؤمنين أدراج الرياح، ومما يتصل بهذه النقطة ضرورة توخي الحذر في التعامل مع هذا الملف، فسوف تتهم كل محاولات الدعم على أنها مؤازرة للإرهاب، وستنسج لأصحابها التهم، وتلفق لها الدعاوى سواء في بلاد المسلمين أو في خارجها، وقد يقضون جل أعمارهم في غياهب السجون بسبب جمعهم لدريهمات من المال لإغاثة جريح أو كفالة يتيم! وليست هذه دعوة إلى التثبيط أو إشاعة الهلع، ولكنها دعوة إلى الحذر، واتخاذ أقصى ما يمكن اتخاذه من أسباب الحيطة والحذر.
- الدعم الإعلامي، بإشاعة التعريف بالقضية، وإماطة اللثام عن تاريخها، وما تعاقب عليها من مراحل، وتوظيف كل الوسائل الإعلامية المتاحة مثل خطب الجمعة، والمحاضرات والندوات الإسلامية، والدروس العامة أو الأكاديمية: في الجامعات، أو المدارس: العليا أو المتوسطة أو الأولية، وكل ما يمكن الوصول إليه من قنوات التلفاز المحلية والعالمية، أو المحطات الإذاعية وإعداد الكتيبات والدراسات التعريفية ، والأشرطة المسجلة تسجيلا مسموعا ومرئيا وتبني توزيع ذلك على غير القادرين من قبل أولي الفضل والسعة، لعلنا بهذا نرد غائلة الإعلام المعادي أو نخفف من غلوائه وتفرده بالعقول والأسماع، هذا الإعلام الذي بلغ من استخفافه بعقول العالم أجمع أن يدعو السفاح الأثيم شارون برجل السلام (!) على إثر ما ارتكبه من مذابح جينين وغيرها من المذابح التي تولى كبرها في مخيمات الفلسطينيين(!) وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت !! )
- الدعم الفقهي من خلال الفتاوى المجمعية الداعمة للجهاد والمنددة لكل محاولات التفريط أو التخذيل والتثبيط.
- الدعم السياسي من خلال الضغط على صناع القرار في الدوائر الغربية لحملهم على شيء من التوازن أو الإنصاف في التعامل معها، ومن ذلك تنظيم مسيرات الاحتجاج والاتصالات الهاتفية بصناع القرار ورجال الإعلام وإرسال الرسائل المنددة بالعربدة الصهيونية والشارحة للمعاناة الفلسطينية
وبالإضافة إلى الاستنفار العام للمرابطة على كل هذه الثغور السابقة، فإنه يتعين كذلك التأكيد على ما يلي:(5/416)
- إبقاء التواصل مع جميع فصائل العمل الإسلامي التي تعنى بالقضية الفلسطينية، وإن علق ببعضها شائبة ابتداع أو شذوذ في بعض الجوانب، مع الاستمرار في بذل النصيحة الواجبة لها بما لا يؤدي إلى مفسدة أعظم، ولنذكر دائما أن أهل الحق عبر التاريخ كانوا أهل السنة والجماعة، فهم يحرصون على الائتلاف واجتماع الكلمة، كما يحرصون على اتباع الحق وموافقة السنة! ولنتذكر أن خندق الجهاد يستوعب أهل القبلة كافة، وأن الجهاد ماض مع كل بر وفاجر! وأنه يقاتل مع المبتدع من هو أشد منه ابتداعا، ومع الظالم من هو أشد منه ظلما.
- إبقاء التواصل مع جميع القوى السياسية الأخرى التي تعنى بالقضية الفلسطينية خارج إطار الحركة الإسلامية، والحذر من أن تنجح وسائل الخصوم في إغراء العداوة والبغضاء بين هذه القوى، لتضرب بعضها ببعض، وتذيق بعضها بأس بعض، قد يصلح أن يخاطب أهل الإسلام باسم الإسلام، ولكن لخطاب الآخرين لغة مختلفة ينبغي التعرف عليها والتعامل بها ما دامت في إطار المفهوم العام للتعاون على البر والتقوى، ولنا في حلف الفضول والصحيفة النبوية في المدينة سوابق يمكن الاستنان بها والاقتباس منها؛ وذلك لتجسير العلاقة مع بقية القوى السياسية المتفاعلة مع القضية الفلسطينية، والاتفاق على نقاط التقاء وتعاون يمكن التنسيق من خلالها.
الشعبة الثالثة: شعبة الجهاد المسلح، وهذه قد لا تتسنى - في هذه المرحلة على الأقل - إلا لأهل هذه المحلة المحاصرة المغتصبة، فهم أعرف بتعاريج هذه المنطقة، وأقدر على الكرَّ والفرَّ فيها، ولا يتسنى لغيرهم الوصول إليهم؛ نظرا لهذا الحصار الدولي المفروض عليهم، والذي يتوقع أن يزداد شراسة وضراوة مع الأيام القليلة القادمة، وعلى بقية الأمة إقدار هؤلاء على الصمود، وإمدادهم بما يحتاجون إليه من آليات الصمود كالعتاد والخبرات والأموال ونحوه .
إن الحماس في التدفق على الأرض المقدسة للمشاركة في الجهاد في هذه الآونة قد يجر على المرابطين بها من المتاعب أكثر مما يحقق لهم من الصالح أو المكاسب، وإن القياس على الجهاد الأفغاني -إبّان الاحتلال الروسي- قياس مع الفارق، لقد تهيأت للجهاد الأفغاني دار إيواء ونصرة تمثلت في الأراضي الباكستانية التي احتضنت الجهاد والمجاهدين، فأقيمت عليها معسكرات التدريب للقادمين، وآوت ذراري المجاهدين، وانطلقت منها كتائب الغزو للمقاتلين، وأقيمت عليها المؤسسات الإغاثية للجرحى واللاجئين، وهي ظروف لم يتهيأ مثلها للقضية الفلسطينية، ولا يلوح مثل ذلك في الأفق القريب، من أجل هذا كان لا بد أن تؤخذ الدعوة للجهاد بالنفس على مستوى الآحاد والأفراد في هذه الآونة بشيء غير قليل من الحذر والاحتياط.
ويبقى أن التدويل الإسلامي للقضية الفلسطينية بحيث تصبح قضية الأمة بمختلف فعالياتها وطبقاتها وطوائفها ضمانة هامة لاستمرار جذوة الجهاد وبقاء توقده، ففيها يخطب الخطباء، وحولها يدندن المحاضرون، وينظم الناظمون، ويكتب الكاتبون، ويبذل الموسعون، ويرابط المرابطون، كلُّ حسب طاقته وما بلغه جهده ووسعه، ولا يخفى أن الله تعالى قد قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، والمهم أن تتكافل الأمة كلها في أداء هذا الواجب، وأن يحيا مجموع هذه الفروض على مستوى مجموع الأمة.
وأخيرا فلا ينبغي أن يحجب عنا التشوف لنصرة المجاهدين في هذا الثغر إغفال أو تغافل الرباط على بقية الثغور، وما أكثرها في الأمة في هذه الأيام، حتى لا تتحول هذه الدعوى إلى تأثيم جميع العاملين لنصرة الدين في أي موقع ما داموا لم يهرعوا للانقطاع للرباط في هذا الثغر وحده! وإنما المقصود هو التأكيد على أن هذه المعركة هي معركة الأمة، وأن على جميع أبنائها واجب الدعم والمؤازرة، وتوفير ما يلزم لإنجاحها من الأسباب والوسائل ليحقق هذا الجهاد غايته ويؤتي أُكُلَهُ بإذن الله.
ونختم بما بدأنا به من أن المستقبل لهذه الأمة، ما استقامت على أمر الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأنها لا تؤتى إلا من قبل أنفسها، وأن ذنوبها أخوف عليها من أعدائها، وأنها قد وعدت بأن تبقى طائفة منها مستقيمة على أمر الله، لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى يأتي أمر الله، وأن هذه الطائفة المنصورة هي التي يقوَّم الله بها اعوجاج الحياة، وتمثل ستارا لقدره على أرضه في إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولهذا فإننا نقول لإخواننا في أرض الإسراء والمعراج: إن أَجَلَ الله قريب، وإن ما توعدون لآت، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
============(5/417)
(5/418)
( تعليم البنات إلى أين ؟ )
قراءة في ضوء السياسة الشرعية
أ.د عبد الله بن إبراهيم الطريقي 1/2/1423
14/04/2002
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً "[ سورة النساء:1] .
إن هذه الآية الكريمة خير ما نستفتح به هذه المقالة ، باعتبارها ترسم في الأذهان صورة بدء الخلق الأول للإنسان ، والنفس الواحدة هي آدم ، والزوج حواء ، فإن حواء خلقت من آدم، من ضلعه .
فالمرأة فرع الرجل منذ أصل التكوين .
لكن هذه الفرعية لا يلزم منها - بالضرورة - التطابق بين الأصل والفرع .
لأن مبدأ ( الزوجية ) يقتضي وجود اختلاف ما قد يصل الى التضاد أو التقابل .
قال الحق سبحانه : " ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " [الذاريات: 49 ].
يقول "الخازن" في تفسير ه عند هذه الآية : " ومن كل شيء خلقنا زوجين أي صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض ، والشمس والقمر والليل والنهار ، والبر والبحر ، والسهل والجبل ، والصيف والشتاء والجن والإنس ، والذكر والأنثى ، والنور والظلام ، والإيمان والكفر ، والسعادة والشقاوة ، والحق والباطل ، والحلو والحامض ، لعلكم تذكرون أي فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا نظير له ولا شريك معه " أ . هـ
وقد جاءت الإشارة القرآنية إلى عدم التساوي بين الذكر والأنثى. قال سبحانه في سياق الحديث عن امرأة عمران "وليس الذكر كالأنثى"[ آل عمران : 36] .
يقول الشيخ "محمد الطاهر بن عاشور" عند تفسير الآية " ونفي المشابهة بين الذكر والأنثى يقصد به معنى التفصيل في مثل هذا المقام وذلك في قول العرب : ليس سواء كذا وكذا ، وليس كذا وكذا مثل كذا، ولا هو مثل كذا كقوله تعالى : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " … وقول "السموءل":
فليس سواء عالم وجهول " التحرير والتنوير: 3 / 234"
ولعل في هذه التوطئة ما يثير الفرضيات التالية مما له صلة بموضوعنا :
1ـ أن لكل من الرجل والمرأة خصائص .
2ـ ثم لكل عمله اللائق به .
3ـ أن العلم وهو شرط العمل ، يشرع منه ما هو نافع ومفيد للإنسان في حياته العملية ( العاجلة ) ، وحياته الأخروية .
وقبل الاستدلال لتلكم الفرضيات لعله يكون من المستحسن عرض بعض المسلمات كمدخل إلى لب القضية .
وأظن أن من المسلمات هنا : أن المجتمع المسلم ينهض على مقومات شديدة الرسوخ ، لا غنى للمجتمع عنها وهي مقومات ذات أنواع ، ونشير هنا إلى ما له صلة بالموضوع في مجالي الاجتماع والتعليم على وجه الإيجاز .
أولاً : المقومات الاجتماعية :
تقوم فلسفة الاجتماع على عدد من القضايا المهمة وفي مقدمتها :
1 ـ الفطرة في كل متعلقاتها ( القلبية ، والنفسية ، والعقلية ، والجسمية ) .
" فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " [الروم: 30] .
ولا بد من إتاحة الفرص المناسبة لكل من الجنسين في ضوء هذه الفطرة .
2 ـ الكرامة الإنسانية الشاملة للجنسين . " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر " [ الإسراء :70] .
3 ـ المساواة بين الجنسين في المسؤولية والجزاء .
4 ـ القيم الخلقية ( كالعفة ، والحياء، والنصح ، والأخوة ، والتعاون ) .
ثانياً : المقومات الثقافية ( العلمية ) :
1 ـ العلم النافع "وقل رب زدني علماً " [طه :114] . وفي الحديث ( اللهم إني أسألك علماً نافعاً ) .
2 ـ التربية الشاملة .
3 ـ مراعاة الفروق الجسمية ، والعقلية والنفسية ، لكل من الجنسين .
ولا أعتقد أنه يوجد اختلاف على أهمية تلك المقومات ، فليعذرني القارئ الكريم إذا اكتفيت بتلك الإشارات ، نظراً لضيق المساحة .
ولكي تتحقق المقومات هذه فإنه لا بد أن تكون الوسائل والآليات نحو تحقيقها متناسبة معها إذ "الوسائل لها أحكام الغايات" كما يقول علماء أصول الفقه .
فإذا ما أردنا السعي نحو تكوين مجتمع فاضل قائم على تلك الأسس وأشباهها ، فهل يمكننا تحقيق ذلك عن طريق الوسائل العبثية كالخرافة مثلاً أو مصادمة الفطرة والحس ، أو تجاهل الغرائز الإنسانية ؟
أو هل يمكننا ذلك عن طريق التغريب أو التقليد للأجنبي ؟ أو بتجاهل الحقائق الشرعية والعرفية ؟
والجواب معروف لدينا ولدى العقلاء ، إنه لا يمكن ذلك .
إذا تقرر ذلك فلنعد إلى الفرضيات السابقة .
1 ـ أن لكل من الرجل والمرأة خصائصه .
2 ـ ولكل عمله اللائق به أو اختصاصه .
3 ـ إن العلم المشروع هو النافع الذي يستفيد منه الإنسان في حياته .
الفرضية الأولى : اختصاص كل من الرجل والمرأة بخصائص ، ولهذه الدعوى من الشواهد والبراهين الشرعية والطبية والنفسية ما يؤكد صحتها .
أما في الشرع فعلى رغم أن الخطاب التكليفي يأتي عامًا وشاملاً للذكور والإناث في معظم النصوص ، إلا أنه توجد أحكام خاصة بالمرأة في مجالات متعددة في الطهارة والصلاة والصيام والحج والميراث ، والشهادة والنكاح وغيرها .
ومن أراد التفصيلات فليراجع كتب الفقهاء . وقد ألف بعضهم "كالسيد صديق حسن خان" كتاباً خاصاً بالنساء أسماه : "حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة" .(5/419)
وكثير مما ذكره صاحب هذا الكتاب هو من خصائص المرأة .
وأما الطب فقد أكد كثير من أطباء التشريح القديم والحديث أن للمرأة خصائص لا يشاركها فيها الرجل ، ومثلهم علماء الأحياء إذْ أثبتوا ببحوثهم أن المرأة تختلف عن الرجل في كل شيء من الصورة والسمت والأعضاء الخارجية الى ذرات الجسم والجواهر (الهيولينية).
هؤلاء ، فضلاً عن علماء النفس الذين يؤكدون تميز المرأة بكثير من الانفعالات والعواطف ، كالتأثر بالإيحاء وسرعة الاستجابة للدوافع ، والاعتماد على الرجل .
( وللمزيد من الاستفادة يراجع كتاب : من إعجاز القرآن وليس الذكر كالأنثى . للأستاذ محمد الخشت ، وكتاب الحجاب للمودودي ) .
الفرضية الثانية : لكل من الجنسين عمله اللائق به وهذه الفرضية تنسجم مع الفرضية السابقة ، فما دام لكلّ منهما خصائصه ، فإنه يكون من الطبيعي أن لكل منهما اختصاصه . نعم يشتركان في كثير من شؤون الحياة ، لكن لكل منهما اختصاصات ، بحيث يكمل أحدهما الآخر .
ولعل ذلك مما تشير إليه النصوص الآتية : كقوله تعالى : " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة " [البقرة :228] .
وقوله : " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم "[ النساء : 34] .
وقول صلى الله عليه وسلم : " كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته ، والرجل راعٍ على أهله وهو مسؤول ، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة) رواه البخاري في صحيحه كتاب النكاح الباب 81
الفرضية الثالثة : أن العلم المشروع هو ما يفيد الإنسان الذكر و الأنثى في حياته العاجلة والآجلة " وكل علم لا يفيد عملاً فليس في الشرع ما يدل على استحسانه " الموافقات للشاطبي: 1/61" .
فكثير من العلوم ، أو التخصصات العلمية لا تفيد المرأة شيئاً كعلوم الفلسفة والفنون .
وقد لا تكون لائقة بها كبعض التخصصات الإعلامية والسياسية ، والرياضية ، وربما لا تطيقها كالعلوم الصناعية ، والمهنية الثقيلة ، والعسكرية .
أما ما يتناسب مع أنوثتها وشخصيتها من العلوم فهو جائز وقد يكون مطلوباً بحسب حاجتها أو حاجة المجتمع إليه .
وهذا ما شددت عليه سياسة التعليم في المملكة ، فقد جاء في الفقرة التاسعة " تقرير حق الفتاة في التعليم بما يلائم فطرتها ويعدها لمهمتها في الحياة على أن يتم ذلك بحشمة ووقار، وفي ضوء شريعة الإسلام، فإن النساء شقائق الرجال " .
آليات التعليم :
إذا تقررت تلك الفرضيات وما استندت إليه من المقومات والتأسيسات المتقدمة فإنه يكون قد حان السؤال التالي : كيف يمكن ترجمة تلك الفرضيات ومقوماتها إلى واقع عملي ؟
وبصيغة أخرى : ما آليات تطبيق تلك الفرضيات ومقوماتها ؟
والحق أنه سؤال عريض ومسطح يتعذر علينا في هذه العجالة ضبطه وتحديده .
لكنني سأجتهد في تحديد مرادي منه محاولة في الوصول إلى شيء من النتائج المفيدة .
فلعله يكون من المفيد وضع محاور للانطلاق ، تساعد على ترتيب الأفكار.
وأظن أن أهم محاور العملية التعليمية:
أ ـ الطالب.
ب ـ المعلم.
ج ـ المدرسة.
د ـ المنهج.
ه ـ الإدارة والإشراف.
* أما فيما يتعلق بالطالب والمعلم فإن أهم آلية يجب اتخاذها ـ وفقاً للمقومات السابقة ـ الفصل بين الذكور والإناث ، سواء بين الطلاب والطالبات ، أو بين المعلمين والمعلمات ، أو بين المعلمين والطالبات ، أو بين المعلمات والطلاب في كل المراحل التعليمية.
وهذه قضية واضحة لا نزاع عليها في هذا البلد الكريم ، لارتكازها على النصوص الشرعية الواضحة.
ولذا فلن أتوقف عندها طويلاً ، وأكتفي بإيراد هذا النص من سياسة التعليم ، ففي الفقرة الخامسة والخمسين بعد المائة جاء ما يأتي : "يمنع الاختلاط بين البنين والبنات في جميع مراحل التعليم ، إلا دور الحضانة ورياض الأطفال " .
وقد أثبتت هذه التجربة نجاحاً منقطع النظير.
* وأما فيما يتعلق بالمدرسة ، فإن مقتضى المقومات السابقة أيضاً أن يكون لكل من الجنسين مدارس خاصة بهم ، لا تسمح بالاختلاط مطلقاً ، سواء في أوقات الدراسة ، أو في أوقات الفسح أو بعد الخروج من المدرسة.
وهذه آلية مكملة للآلية السابقة ، ولا نزاع عليها بحمد الله ، وواقع التعليم ـ بفرعيه الذكوري والإناثي ، خير شاهد.
* وأما ما يتعلق بالمنهج ـ وهو محور أساس في العملية التعليمية ـ فإن ما تقرر من مقومات ومن فرضيات صحيحة يقتضي أن لكل من الجنسين منهجاً مميزاً يراعي خصائص كل منهما وقدراته واستعداداته الفطرية (ينظر: قولي في المرأة للشيخ مصطفى صبري ص 81).
وبنظرة سريعة على واقع مناهج التعليم عندنا تظهر الفروقات الكثيرة بين مناهج الذكور ومناهج الإناث ، وهذا من باب اختلاف التنوع ، لا اختلاف التضاد.
فإن قال قائل: إن الخطاب الشرعي (قرآناً وسنة) جاء عاماً وشاملاً للرجل والمرأة.
فنقول: هذا قول صحيح ، لكنه ليس على إطلاقه ، بل ثمة نصوص ثم أحكام كثيرة تخص جنساً دون جنس . وهذا معروف لدى الفقهاء والأصوليين .
ولعل فيما تقدم في الفرضية الأولى ما يغني عن التكرار.(5/420)
الأمر الذي يؤكد اختلاف منهج البنين عن البنات ، في جملة المواد ، ولا سيما مواد التربية الإسلامية . وكذلك التخصصات إذْ ليست كلها لائقة بالمرأة ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
* وأما فيما يتعلق بالإدارة والإشراف العام على التعليم ، فهذه المسألة هي بيت القصيد .
فهل من المناسب أن يكون لتعليم البنين إدارة مستقلة ، وإشراف مستقل ؟ أو أنه يمكن وضع إدارة واحدة "رجالية" تديرهما؟
لقد كان تعليم البنات منفصلاً في إدارته عن تعليم البنين منذ إنشائه قبل أكثر من أربعين عاماً حتى صدر الأمر بالدمج مؤخراً.
وهذا الإجراء يستدعي طرح التساؤلات التالية:
(1) هل الفصل بين الإدارتين ( الرئاسة والوزارة )كان من منطلق شرعي أم من منطلق عرفي ؟ وإذا كان الأول فما مستنده الشرعي؟
(2) ما مبررات الدمج ؟
(3) هل كان الفصل بينهما يمثل حرجاً معنوياً على المجتمع والدولة ؟ أو حرجاً (عبئاً) مادياً ؟
(4) ما الآثار السلبية المتوقعة من الدمج ؟
ولنأخذ هذه التساؤلات متسلسلة .
التساؤل الأول : هل كان الفصل بين الإدارتين من منطلق شرعي أو من منطلق عرفي؟
والحق أنه سؤال في غاية الوجاهة ؟
فإذا تقرر لدينا عدم جواز الاختلاط بكل صوره وتقرر وجود التميز في تعليم المرأة في كثير من أشكاله ومضامينه ، حسبما مر معنا ، فهل يمكن بعد هذا أن يقال مثل ذلك في الإدارة والإشراف ؟
إن الحديث عن الإدارة والإشراف على تعليم البنات له جانبان :
الأول : من حيث التأنيث والتذكير.
الثاني : من حيث الاستقلال.
فمن جهة التأنيث أو التذكير ، فالأمر فيه سعة من وجهة نظري ، فمن الممكن أن يقوم عليها الرجال ، كما يمكن أن يقوم عليها النساء .
فمسألة تأنيث الجهاز الإداري لتعليم البنات أمر اعتباري ينظر فيه إلى مصلحة التعليم ، إذا ما استثنينا قمة الهرم الإداري , التي تتطلب مواصفات القاضي ، والوزير .
ومن جهة الاستقلال فإنها مسألة فيها نظر .
فهل يمكن اعتبارها قضية شرعية أو عرفية؟
الحق أنها قضية شرعية وعرفية في آن واحد ، أما من حيث الشرع :
أ ـ فقد بان لنا أن تعليم المرأة قد امتاز عن تعليم الرجل بميزات واختص بخصائص ، فرضت عليهما الانفصال دون الاختلاط ، الأمر الذي يؤكد أن لكل منهما استقلاليته الواضحة ، ودمجهما يلغي هذه الاستقلالية .
ب ـ وهو (الاستقلال) شرعي بالنظر إلى المقاصد الشرعية .
" وقد ثبت بالاستقراء وتتبع الأحكام المختلفة في الشريعة أن القصد الأصلي لها هو تحقيق مصالح العباد وحفظ هذه المصالح ودفع الضرر عنهم ، على أن هذه المصالح ليست هي ما يراه الإنسان مصلحة له ونفعاً حسب هواه، وإنما المصلحة ما كانت مصلحة في ميزان الشرع لا في ميزان الأهواء والشهوات " الوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان ص 378".
ومعروف أن المصالح تشمل:الدين والدنيا .
ووجه كون الاستقلال فيه مصلحة ظاهرة :
1ـ أنه يعبر عن سمْت المجتمع القائم على الفضيلة ، وعن سمْت الدولة المسلمة (رعاها الله ) .
2ـ وهو يمنح تعليم البنات شخصية اعتبارية ذات قوة لا تتوافر مع الدمج.
3ـ وهو يضفي على هذا التعليم صبغة إسلامية تبرزه أمام العالم ، وبخاصة العالم الإسلامي ، الذي يتطلع إلى وجود نماذج تحتذى يستفيد منها. والدمج يفوت تلك المقاصد أو المصالح .
4ـ ولأن "النظر في مآلات الأشياء "معتبر شرعًا"، فإذا كان الشيء يؤول إلى مصلحة كان مطلوبًا شرعًا كتعليم الفتاة بشكل عام .
وإذا كان يؤول إلى مفسدة ـ تحقيقًا أو غلبة ظن ـ فيكون ممنوعاً ، مثل تجاور مدارس البنين والبنات .
فإنه يترتب عليه الاختلاط من بعض الوجوه مما لا تدعو إليه الحاجة .
ومثل اختلاط الطلاب والطالبات في المراحل ( السنوات ) الأولى الابتدائية ؛ فإنه وسيلة إلى الاختلاط في بقية المراحل التالية .
فيكون ذلك وأشباهه ممنوعًا من باب سد الذرائع .
( ومعناه حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع من ذلك الفعل في كثير من الصور ) الفروق للقرافي: الفرق الثامن والخمسون .
وقضية دمج إدارة تعليم البنات بإدارة تعليم البنين ، ربما يؤول إلى ما هو أشد خطورة ، فربما قال قائل بعد فترة:
ما دامت الإدارة واحدة فلماذا لا تتحد المناهج ، ولماذا لا يخلط الطلاب والطالبات ، ولماذا و لماذا ؟؟
ومن هنا كان المؤسسون لتعليم البنات ـ وفي مقدمتهم الملك فيصل والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمهما الله ـ على وعي بهذه الأمور ، ولذلك اتخذت التدابير الاحترازية السليمة .
ذلك من حيث الشرع ، أما من حيث العرف والعادة فإن الفصل بين الإدارتين ملائم ذلك تماما .
(( والعوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا )) كما يقول الشاطبي ( الموافقات: 2/286 ) .
وتقاليد هذا البلد كثير منها عربي أصيل ، قد توارثته الأجيال ، وهي لا تقبل الاختلاط بين الجنسين مطلقًا .
التساؤل الثاني : ما مبررات الدمج ؟
الحقيقة أنني لم أجد مبررات رسمية يعتمد عليها ، وإنما هي وجهات نظر تعبر عن أصحابها وردت في بعض الصحف ، وربما يكون من أبرزها :(5/421)
1 ـ تصحيح الأخطاء الإدارية المنسوبة إلى رئاسة تعليم البنات . 2 ـ نزع ما يسمى "بالعباءة الدينية" التي تتوشح بها الرئاسة .
3 ـ ترشيد الإنفاق .
4 ـ تحاشي الازدواجية المتمثلة بوجود جهازين مسؤولين عن التعليم العام في بلد واحد .
ويمكن مناقشة هذه المبررات بالآتي :
* أما من حيث تصحيح الأخطاء الإدارية المنسوبة للرئاسة فمعروف أن كل مؤسسة أو جهاز عامل لابد أن يعتريه الخطأ ، ولكن بنسب متفاوتة .
فهل يقال : أي مؤسسة أو جهاز يخطئ فيجب إلغاؤه أو دمجه مع مؤسسة أخرى ، إذن فيجب إلغاء جميع المؤسسات الاجتماعية لأنها تخطئ لا محالة .
أما العلاج الصحيح فهو محاسبة المخطئ ومجازاته بقدر خطئه وبهذا وحده تستقيم الحياة .
* وأما من حيث نزع "العباءة الدينية" عن الرئاسة فهذا بقدر ما يحمل من تهويل للأمر ، فإنه يعاكس التيار الاجتماعي ، إذ المجتمع متدين بطبعه في الجملة ، وهو إذ يعتز بذلك يرى أنه خيار لا بديل عنه .
ولذلك أصبحت الدولة بكل أجهزتها دولة مسلمة وقد جاء نظام الحكم ليؤكد هذه الحقيقة .
وحسبنا ما جاء في المادة الأولى : (( المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة ، دينها الإسلام ودستورها كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ولغتها هي اللغة العربية )) ا.ه
ثم جاءت المادة السابعة لمزيد التوكيد (( يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة )) ا.ه
أليس ذلك يضفي الصبغة الشرعية أو الدينية على كل أجهزة الدولة ومؤسساتها ؟
أو لسنا جميعاً ـ أفرادًا ومؤسسات ـ نرفض العلمانية ـ فصل الدين عن الحياة ـ ونعتز بديننا وعروبتنا ؟.
إنه ما دام الأمر كذلك فلماذا نتجاهل هذه الحقائق ونتنكر لها ؟؟
* وأما من حيث ترشيد الإنفاق ، فلا أدري كيف يحقق الدمج هذا المطلب ، أهو بدمج الطلاب والطالبات معاً ؟ أم بالاستغناء عن بعض المعلمين أو المعلمات ؟ أم بالاستغناء عن موظفي جهاز الرئاسة ؟
وعلى أي احتمال كان فإنه لن يحقق شيئا يذكر بقدر ما ينتج من سلبيات البطالة والفوضوية .
وإذا قيل بأن الترشيد يتحقق في الإنفاق على الكتب الدراسية بحيث إذا دمجت قلَّت التكلفة المادية فهذا غير واقع ؛ لأن كل طالب وطالبة بحاجة إلى كتاب في كل مقرر ، سواء كانت متفقة أو مختلفة .
على أن حجم الإنفاق على التعليم في أي دولة يعكس مدى اهتمامها فيه .
( ينظر : النساء المسلمات والتعليم العالي للأستاذ أنيس أحمد ص 83 . إصدار مكتب التربية العربي لدول الخليج ) .
* وأما من حيث تحاشي الازدواجية ، فإنها مسألة محل نظر .
فإن الازدواجية المذمومة ـ فيما أعتقد ـ وجود شيئين أو أكثر يضاد أحدهما الآخر أو يعوقه .
فأما إذا كانا يسيران في خطين متوازيين نحو هدف مشترك فهذا تنافس محمود ، وليس ازدواجية .
كما هو ملحوظ في واقع كثير من المؤسسات ، كالجامعات والمستشفيات وغيرها ، في كل دول العالم .
التساؤل الثالث : هل كان الفصل بين إدارة تعليم البنين ( وزارة المعارف ) وإدارة تعليم البنات ( الرئاسة ) يشكل حرجًا على المجتمع أو الدولة ؟
فقد يقال : إنّ الجواب عند من يهمه الأمر .
وبقدر ما يحمل هذا الجواب المختزل من واقعية ، إلا أنني أرى أنه لا مانع من إبداء الرأي فليسمح لي القارئ بذلك .
إن ما كنت ألحظه أن أسلوب تعليم المرأة كان مثار إعجاب الكثير من العقلاء ، بل إن منهم - وبخاصة من نساء الغرب -من كان ولا يزال ينادي بالتعليم غير المختلط ، بل بالوضع العام للمرأة في الإسلام .
ولولا ضيق المقام لذكرت شيئًا من ذلك .
ولمن يريد التأكد من ذلك يمكنه مراجعة :
ـ المرأة بين الفقه والقانون للدكتور مصطفى السباعي ص 157 فما بعدها .
ـ يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة . "جيمس باترسون" وآخر .
ثم لو نظرنا إلى المسألة من وجه آخر ، لظهرت لنا حقيقة أكبر هي أن من جهل شيئا أو أنكره عاداه وحاربه ، وهذا هو واقعنا مع الغرب ومقلّديه، فإنهم ما زالوا ينقمون منا التزامنا بديننا وتطبيقنا له ، سواء في أمور الاعتقاد ، أو العبادة والسلوك ، أو المعاملات أو الحدود وغيرها .
فهل نصيخ لهم ونستجيب ؟
" يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين " [ آل عمران: 149 ـ 150]
هذا إذا كان الحرج معنوياً ، أما إن كان ماديًا فسبق الجواب عنه في التساؤل الثاني .
التساؤل الرابع والأخير : ما الآثار السلبية المتوقعة من الدمج ؟
وهو سؤال مهم ، وقد تختلف وجهات الناس في اعتبار الشيء ضاراً أو نافعاً ، إذا ما كانت المعايير خاضعة للمزاج وأهواء النفس ، أو قائمة على التفكير المجرد عن معايير الشرع .
فلنحاول وضع الأصابع على أماكن الألم ، كالطبيب في حرصه ورفقه ، متجاوزين الأمراض المتوهمة إلى الأمراض الحقيقية أو الظاهرة .
أزعم أن من الآثار السلبية ما يأتي :(5/422)
1 ـ أن مثل هذا الإجراء يطبع في أذهان كثير من الناس أن الثوابت يمكن تحويلها إلى متغيرات ، وأنها إذا كانت ثابتة بالأمس فيمكن اعتبارها متغيرة اليوم .
مما يوحي بالتعلق بنظرية ( نسبية القيم والأخلاق ) مع أنها نظرية تحمل الفساد في نفسها .
2 ـ والدمج يعطي انطباعاً عاماً بأن المرأة لا تستطيع الاستقلال بنفسها وإدارة شؤونها , بل لابد من سيطرة الرجل عليها .
3 ـ والدمج يصهر إبداعات المرأة في إبداعات الرجل ، مهما يحاول المحامون عن المرأة إبراز أعمالها وآثارها , والتشدق بعبقريتها ، بل ستبقى ظلاً للرجل شاءت أم أبت .
بخلاف ما إذا كانت تعمل في محيط جنسها فإنها تبدع وتكتسب مهارات مختلفة .
4 ـ ثم أليس هذا الإجراء يتضمن تراجعاً وتنازلاً عن تجربة نادرة في هذا العصر ، أثبتت نجاحها وآتت ثمارها ؟
كما أنها تطبع في أذهان الكثيرين ـ من مواطنين وغير مواطنين , ومن مسلمين وغير مسلمين ـ بأن تجربة استقلال إدارة تعليم البنات قد أثبتت فشلها .
وقد تتسع دائرة هذا الانطباع أو التصور فيقوم الشك لدى أولئك في صحة مبدأ الفصل بين الطلاب والطالبات، وأنها تجربة قد تفشل في يوم ما .
وبالتالي لا يبقى لدى الناس ثقة بصحة تجاربنا .
5 ـ وربما اعتقد بعضهم بنظرية ( التغير الحتمي ) التي تقول بأن التغير آت لا محالة سواء في أمور الاجتماع أو السياسة أو الثقافة أو غيرها , وأن هذا التغير ذو طابع مدني ، يتخفف من أعباء الدين وتكاليفه شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى منه إلا مجرد المعرفة .
والزمن كفيل بتطوير الناس وإن أبو ا كما يقولون .
فاللهم غفرانك .
خاتمه :
وبعد .. فقد يتصور البعض بأن مسألة ( توحيد إدارتي تعليم البنين والبنات ) عادية أو صغيرة لا تستحق هذا الجهد أو الركض .
ولكنني أرى أن لها أهمية فوق ما يتصور أولئك ؛ لأن لها من الذيول والتبعات ما لا نهاية له .
وأخشى أن تكون نهاياتها تكرار تجارب غيرنا المأساوية التي انتهت إلى الإباحية والفوضوية .
والسعيد من وعظ بغيره .
وأخيراً فهذه رؤى استمددتها من نصوص شرعية ومقاصد وقواعد عامة ، تقبل التقويم والمناقشة .
والله ولي التوفيق .
============(5/423)
(5/424)
ستائر الملح ورشات المطر
يوسف الحجيلان 12/1/1423
26/03/2002
من المتفق عليه عند كل أحد: أن الأمم ليست تراباً ولا سماء ولا شجرة بل ولا إنساناً ؛ إنما هي ما سبق وفوقه المثل والتقاليد والنظم والثوابت التي تنبئ عن عقلية تلك الأمم وخلفياتها وتاريخها ومجموع تجاربها , وعن عصارة الفكر وما أمكن استنتاجه عبر التاريخ من نتائج صنعتها الأحداث وحّنكت صُنّاعها التجاربُ والأزَماتُ .
إن الصورة المثالية لما يعيشه الغرب -وبالذات الأمريكي- من ديمقراطية في الطرح وحرية في الانتماء , وعدالة في المقاضاة , وقدرة على وضع سيف القانون فوق كل رقبة - وإن كانت رأس الهرم -إنها صورة لم تبهر الأمة الشرقية فحسب , بل وجد من الأمم من عدّل كل شيء حتى أبجديات الكتابة ليصير غربياً كما الحال في تركيا .
ولا غرو ! إنها حياة مثالية تبعث على الإعجاب والإشادة .
لقد عاش الكثير من ا لمسلمين وسط المجتمعات الغربية , وأمكنه الواقع المعيشي في ذلك العالم أن يحافظ على كل كيانه دونما إشكاليات . حرية في الزي والتنسّك والمأكل وحتى التصويت الانتخابي في وضعية استحال وجودها في الغالبية من بلاد الإسلام . كل هذه التراكمات جعلت التغريب -ليس فقط المادي التقني بل حتى الفكري الأيديولوجيّ والاجتماعيّ- همًا يراود قطاعاً من أرباب القرار وصُنّاع الفكر في مساحات شاسعة من بلاد المسلمين .
إن عقدة الغربي تعدتْ مجردَ الإعجاب بالإنسان ذاته -أقصد الغربي- لتتجاوز ذلك عند الإنسان الشرقي إلى الصناعة والمأكل واللباس ومفردات اللغة والحركة والتمثيل والأغنية والنمط الحياتي بكل أصنافه .
ولو تتبعنا الأمر لوجدنا ذلك كله راجع إلى إعجاب الشرق بمثاليات الغرب , وأسلوب إدارته لحياته الاجتماعية , والذي تحرر فيه ذلك الإنسان من كل عبودية للبشر يفرضها الخوف من عقدة الفوقية والتسلط والقدرة على ثني النظام والقانون وفق مصالح فئات من المجتمع دون أخرى .
غير أنه يبقى هناك قواعد لا يمكن للبشر ولا لتطورهم التقني المادي أن يعدل فيها أو يصرِّفها وفق هواه ومشيئته , ألا وهي: أن كل نظام يمليه واقع معين , وتقدره المصلحة الظاهرة , ويكتب أبجدياته البشر - فإنه نظام مهزوز لجهل البشر بكثير من مصالحهم , إذ المصلحة ربما كانت خلاف الظاهر , وربما كانت المفسدة الظاهرة حبلى بمصلحة لا يعلمها البشر ؛ لقصور نظرتهم على ظواهر الأمور ، وجهلهم بمغيَّبَاتها ، وهذا واقع النظام الغربي الذي أملاه سنوات من الهدوء والراحة فرضتها القوة المادية , وغياب العدو الحقيقي الفاعل , وحصر الأعداء بدول يتعامل معها وفق نظم وأسس لا دخل للحياة الاجتماعية بها في كثير من الأحيان .
وعليه فإن صُنّاع القرار الغربي، وساسة الفكر والعدالة ، وكل منظري الحياة الاجتماعية في ذلك العالم -لم يتنازعوا أو سَحَقَتْ أصواتُ الغالبية الثائرة منهم أصواتَ الأقلية المبحوحة في انقلاب أبيض مريع مشين يوم الحادي عشر من سبتمبر , أُودعت فيه كل النظم والتقاليد والأعراف وحقوق الإنسان والحرية والعدالة - درج الأرشيف, وربما إلى غير رجعة .
سماح بالاعتقال بلا محاكمة .
منع انفراد المتهم بمحاميه .
نقل المتهم مكبلاً إلى الطائرة , وعدم السماح له بمجرد أخذ أمتعته من شقته .
الاقتحام والتفتيش دون استئذان أو سابق إنذار .
الاعتداء تحت مرأى ومسمع رجال الأمن على حرمات فئة كانت بالأمس جزءاً من المجتمع .
وفوق ذلك كله هجمة شرسة للإعلام , ودون أي مسوّغ على كل جزئيات وكلّيات تلك الفئة , بداية من الذات المحسوسة وانتهاءً بالفكر والمعتقد , ثم إعطاء الضوء الأخضر لعباقرة صناع السلاح والتخطيط والتدريب ؛ ليجربوا خبراتهم في بلاد الإسلام ودون حياءٍ أو مواربة ! .
ضربة قاصمة قاضية على كل المفاهيم ؛ تجعل العقلاء من أبناء تلك الأمم في حيرة مما يجري .
إن أعظم الرجال سبقاً وأشد القدرات فاعلية -هي القدرة التي استطاعت زلزلة ذلك الكيان الملحي ؛ ليصير بين يوم وليلة هدفاً لإعلام كان يسميه مثلاً , ويراه نبراساً ويحتذيه علماً يستحق أن يُسعى إليه زحفاً على الصدر لا مشياً على القدم . ثم ينقلب ذلك كله ليتحول ذلك الرمز عدواً حاقداً دكتاتورياً .. إلخ من عبارات ما صاغتها قناعات , بل مصالح اهتزت أسسها وخرب بناؤها .
فيا لها من هزَّة ! ربما لم يسبق مثلها في التاريخ , تلك التي عدلت وبدلت في أدق العقليات والأفكار , وأطول الدهاليز والدروب , وأشدها تعقيداً , كانت يوماً من الدهر تعتبر طيفاً لا يرى له أثر , ولا يسمع له خبر إلا في حدود مشيئة أهلها بعد الله . فلا نظام ولا خطط ولا حياة في العالم الغربي إلا ولدهاقنة الاستخبارات وخبراء مراكز البحث السِّري دور في صنعه , ووضع ضوابطه وفق ما يجعل هذه الأمة أو تلك ترقى إلى مستوى معيشي يراد الوصول إليه , وخِداع العالم من خلاله .
ثم يا لها من ميزة ! تلك التي يمتاز بها نظام الإسلام ومبادئه ؛ إذ لا دخل للعنصر البشري في إملائه , وبناء قواعده , ودراسة جدواه المستقبلية .(5/425)
إنما تكفل بذلك كله من يعلم سالف البشر وحاضرهم ومستقبلهم , فهو الأقدر على العلم بماسيؤول إليه الحال , وما تمليه المصلحة بعيداً عن المؤثرات الجانبية , والعواطف الإنسانية في صنع القرار وتفعيله ؛ مما يجعل قانون الإسلام وشرع الله الأرحم والأقدر على التعايش والمساهمة . فمن يضمن للأقليات والأعراق -على مستوى العالم-ألا تحدث حادثة يكون لزاماً على الساسة وبناءً عليها تغيير برنامج الحياة وإطاره ؛ ليتصادم مع مصالح تلك الأقليات ويعرّض خصوصياتها للخطر .
إن هذا هو السر في قدرة الحضارة الإسلامية على أن تستوعب في عالمها وبين جوانحها حضارات شتى , ومللاً ونحلاً تناصبها العداء , بل ربما انتسب بعضها إلى مدارس يرفض الواقع السياسي أو العسكري أو غيره التعايش معها .
إلا أن التاريخ أثبت قدرة فريدة على التعايش والمسامحة في حدود الإطار الإسلامي . إن هذا الاستيعاب لم تُمْلِهِ هجرات متعاقبة أو عقود عمل آنيّة أو أحلاف أو غير ذلك ،إنما فرضه شرع لا يملك العنصر البشري حق تجميده أو رفعه وفق هواه ؛ بل حسب ضوابط وأسس مقعدة على دليل شرعي رباني بحْت .
أليست فعلة أبي عبيدة مثالاً بارعاً يوم رد جزية أهل دمشق عليهم خوفاً من عدم القدرة على الدفاع عنهم في ظل هجمة نصرانية شرسة ؟!
ثم ألم تكن أساطيل الصليبيين وخيلهم تضرب أطراف دولة الإسلام بينما تقرع نواقيسهم , وتفتح كنائسهم في قلب الدولة ؟!
إن الواقع يفرض أن ينتقم بهم من أبناء جنسهم , لكن هيهات في ظل نظام الإسلام ، وأقول: ربما كانت هذه الأحداث صدمة كهربائية تعيد إلى قطاع كبير لا يُستهان به من أبناء المسلمين-وعلى كافة الأصعدة -صوابهم وتكشف حقيقة النظام الغربي , ومدى قدرته على الصمود في ظل المتغيرات .
=============(5/426)
(5/427)
الارتباط الغربي بالخليج العربي
(تاريخه ، أهدافه ، دور العلماء في مقاومته)
حامد بن عبدالله العلي 23/11/1423
06/02/2002
إن الهدف من هذا المقال هو إلقاء الضوء على تاريخ الارتباط الغربي بالخليج العربي وأهدافه ، وطبيعة المشهد الراهن ، والدور المتوقع من العلماء والحركة الإسلامية في ضوء ذلك كله .
ولنبدأ بنبذة نستذكر فيها التاريخ .
* فجوة الانسحاب البريطاني من الخليج
بقيت بريطانيا طيلة مائة وخمسين سنة متواصلة كقوة سياسية وعسكرية حاكمة تسير شؤون إقليم الخليج ، حتى انسحبت من إقليم الخليج كله عام 1971م ، واقترن بذلك ميلاد ثلاث دول جديدة هي البحرين والإمارات وقطر ، وحصول عمان على الاستقلال ، وهنا برز ما يسمى " بالنظام الإقليمي الخليجي" .
غير أن هذا الانسحاب البريطاني أدى إلى اهتمام القوتين العظميين آنذاك بملء فراغ القوة الناتج عن الغياب البريطاني ، ولاسيما في ظل وجود الثروة النفطية التي جعلت النظام الخليجي عرضة للاحتواء والاختراق ، في وقت كانت دوله ما زالت في طور بناء نفسها ، بل لعل بعضها لم يبدأ بعد في تأسيس مؤسسات الدولة .
وقد نتج عن ذلك وقوع النظام الإقليمي الخليجي بين تأثير السيطرة من جانب القوى الدولية ، وانكفاء كل دولة على نفسها ساعية لتأسيس كياناتها الصغيرة ، وبناء مؤسساتها ، وظهرت مشاكل الحدود والخلافات الداخلية ، مما أضعف قدرتها على بناء أمنها الجماعي ذاتيا ، وأبقى هذا النظام الإقليمي عرضة للتدخلا ت الخارجية المستمرة ، إلى اليوم وفي المنظور القريب .
* الولايات المتحدة تملأ الفراغ بمبدأ نيكسون
كانت الولايات المتحدة الأمريكية أول مرشح لملء الفراغ إثر الانسحاب البريطاني من الخليج ، لما بينها وبين بريطانيا من تحالف استراتيجي ، غير أن الولايات المتحدة آثرت أولا العمل بمبدأ (نيكسون) ، الذي أُعلن في عام 1969م ، وقد أطلقه بعد أن عزمت بريطانيا على الانسحاب من الخليج قبل أن تنسحب فعلياً ، ويستند هذا المبدأ على يسمى عملية ( الفتنمة ) أي تمكين الأنظمة الصديقة لتحمل على عاتقها دورا رئيسا في قمع المتمردين ، وتخفيف العبء عن الولايات المتحدة الأمريكية ، كما انسحبت أمريكا من الحرب الفيتنامية لتدعم الحلفاء في سايغون وجعل الحرب بين طرفيها الفيتناميين في الشمال والجنوب دون تدخل عسكري أمريكي مباشر في تلك الحرب .
* سياسة عدم التدخل المباشر
وهكذا استقر الرأي الأمريكي على عدم الحلول كبديل مباشر لبريطانيا ، وارتكز هذا التوجه الجديد على مبدأ وضعه مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط (جوزيف سيسكو) واستند ذلك الإطار إلى بضعة مبادئ رئيسة أهمها :
1ـ الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ، وذلك للتخفيف من حساسية الرأي العام الأمريكي التي فجرتها الحرب الفيتنامية .
2ـ تقديم الدعم اللازم للدول الصديقة لتعزيز مجهوداتها في مجالات الأمن .
* أول مواجهة مع الغرب
غير أنه بعدما عايش هذا النظام الوليد ( أعني النظام الإقليمي للخليج) الارتفاع المثير لأسعار النفط عام 1973م ، بعد أن اتخذت الدول العربية المصدرة للنفط ، قراراً بحظر النفط عن الدول الغربية التي ساندت ووقفت إلى جانب الكيان الصهيوني في حرب أكتوبر 1973م ، ثم اتخذت قراراً آخر بأن تخفض الدول العربية المصدرة للنفط إنتاجها بنسبة (5 بالمائة) شهرياً لتضغط أمريكا على الكيان الصهيوني ، لإجباره على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة .
ثم لما حدثت بعد ذلك عدة قفزات في أسعار النفط ، وأصبحت منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) هي الفاعل الرئيس في تسعير النفط والتحكم فيه، مما أدخلها ذلك في صراع مع الشركات النفطية الاحتكارية الغربية ، ثم انتقل إلى صراع بين الدول المنتجة للنفط والدول الرأسمالية الغربية وعلى رأسها أمريكا .
دفع ذلك كله أمريكا إلى الانزعاج من هذه التطورات ، والنظر إلى الدول النفطية الصديقة في الخليج على أنها من مصادر تهديد مصالحها الحيوية النفطية .
* تطورات عالمية تدفع الآلة العسكرية الأمريكية إلى الخليج
ثم جاءت المرحلة التالية التي أعقبت قرارات الحظر النفطي ، وتمثلت في التطورات التي أخذت تضغط على صانع القرار الأمريكي للتخلي ولو جزئيا عن الحذر الأكثر من اللازم ـ كما وصف ـ بخصوص عدم التورط العسكري الأمريكي المباشر ، وضرورة التحرك لحماية المصالح الأمريكية النفطية التي تواجه تهديدات خطيرة إقليمية ومن الاتحاد السوفيتي .
فبعد سقوط نظام "الشاه" ، أصيبت أمريكا بخسائر جسيمة بفقدان نظام حليف ، والظهور في صورة عدم القدرة على حماية حلفائها ، وكان ذلك في صالح الاتحاد السوفيتي الذي كان يأمل أن يؤدي سقوط نظام الشاه إلى إصابة أمريكا في مقتل ، بعد ذلك جاء التدخل السوفيتي في أفغانستان ، فضاعف من التخوف الأمريكي في الخليج .(5/428)
إضافة إلى توالي تغيرات دولية صبت في مصلحة الاتحاد السوفيتي من باكستان إلى أثيوبيا ، حتى وصل الأمر إلى قيام نظام "اليمن الجنوبي" المؤيد للاتحاد السوفيتي ، وكذلك نظام "منغستو هيلا مريام" في أثيوبيا ، وامتلاك العراق زمام المبادرة للقيادة العربية والضغط على دول الخليج ضد مصر والسياسة الأمريكية عقب توقيع مصر اتفاقية مع الكيان الصهيوني ، وأيضا شهدت العلاقات العراقية السوفيتية تطورات إيجابية.
ولمواجهة هذه التطورات التي حدثت تباعاً ، والتي تعدها الولايات المتحدة الأمريكية أخطارا جسيمة تهدد مصالحها الإستراتيجية بشكل مباشر ، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تعدل من سياستها السابقة وأنماط علاقاتها الإقليمية وذلك بالعمل على جهتين :
الأولى : السعي لإعادة امتلاك السيطرة على القرار النفطي في السوق العالمية ، بل لقد تعاملت الولايات المتحدة الأمريكية مع النفط العربي كملكية أمريكية مطلقة ، وقد عبر وليام سايمون وزير الخزانة الأمريكية آنذاك عن ذلك بقوله:
هؤلاء الناس لا يملكون النفط إنهم فقط يجلسون عليه!! كتاب (النفط والوحدة العربية ) عبدالفضيل ص 188
الثانية : التلويح بالتدخل العسكري المباشر لحماية أمن النفط ، ووصل الأمر إلى التهديد باحتلال آبار النفط العربية ، حتى قال الرئيس الأمريكي ( لايمكن السماح لأحد بإملاء القرارات ، وتقرير مصير الدول من خلال استخدام النفط والتلاعب بأسعاره ) كتاب الدور الاستراتيجي لأمريكا في منطقة الخليج حتى منتصف الثمانينيات ص 116 أحمد عبد الرزاق شكاره.
وقال (جيمس شليزنغر) وزير الدفاع آنذاك ( إن الدول العربية تواجه مخاطر تنام في ضغوط الرأي العام الأمريكي
باستخدام القوة ضدها إذا ما استمرت في حظر النفط ) أمن الخليج وتحديات الصراع الدولي ص 41
* مبدأ كارتر
وقد أدت هذه التطورات إلى بلورة ما يسمى (بمبدأ كارتر) الذي ينص على : ( إن أية محاولة تقوم بها أية قوة خارجية للسيطرة على الخليج الفارسي-الغربي- ستعتبر عدواناً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية ، وسوف تستخدم كل الوسائل الضرورية للرد عليها بما في ذلك القوة العسكرية ) قوة الانتشار السريع والتدخل العسكري الأمريكي في الخليج (جيفري ريكورد) ص 13.
والمصالح الحيوية التي تدفع الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل العسكري لحمايتها من أي عدوان خارجي حددها وزير الدفاع الأمريكي (هارولد براون) في خطاب له أمام مجلس العلاقات الخارجية بتاريخ 6/3/1980م ، بأنها تشمل ( تأمين الوصول إلى النفط ومقاومة التوسع السوفياتي ، وتدعيم الاستقرار في المنطقة ، ودفع عملية السلام في الشرق الأوسط ، وضمان أمن إسرائيل ) الصراع على الخليج العربي ، النعيمي ص 71
* في عهد بوش ، أوسع انتشار عسكري أمريكي في الخليج
جاء (بوش) بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وبروز العراق قوة إقليمية ذات قدرات متطورة ، وتزامن مع انحسار الدور السوفيتي على مستوى دعم حركات التحرر في المنطقة ، فوضعت استراتيجية جديدة تبرر التدخل في الخليج تقوم على أمرين :
الأول : ضمان إمدادات النفط .
الثاني : مواجهة ما وصف بأية تهديدات إقليمية في المنطقة .
وأرسل (بوش) رسالة إلى مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في بغداد مايو 1990م ، وقد تضمنت تلك الرسالة المعالم التالية :
1ـ إن الولايات المتحدة الأمريكية لاتزال ملتزمة بالمحافظة على حرية الملاحة في المياه الدولية بما في ذلك مياه الخليج
2ـ الولايات المتحدة تعمل أيضا على تأمين حرية تدفق النفط عبر "مضيق هرمز" وكذلك تأمين استقرار وأمن الدول الصديقة .
3ـ إننا نود الاحتفاظ بوجودنا البحري في الخليج في المستقبل المنظور ، وهذا الوجود يلقى المساندة من أصدقائنا في المنطقة
4ـ إن وجودنا في الخليج لا يشكل تهديدا لأحد ويجب ألا تنظر أي دولة من دول الخليج إلى هذا الوجود على أنه مصدر تهديد وسنشعر بالقلق إذا ما أدى أي قرار من قرارات قمة بغداد إلى تقليص وجودنا في الخليج أو تقليص المساندة التي نتلقاها لهذا الوجود (جريدة القبس الكويتية) 27/5/1990م
وفي عهد (بوش) استخدمت أمريكا لأول مرة القوة العسكرية ، ولكن تحت غطاء الأمم المتحدة ، لحماية مصالحها الاستراتيجية في الخليج ، وبذلك عززت وجودها العسكري ، وارتبطت بمعاهدات أمنية ، وكثفت حضورها بصورة كبيرة لم يسبق لها مثيل ، وقد كان ذلك فرصة تاريخية للولايات المتحدة الأمريكية للتفرد المطلق بالهيمنة على منطقة الخليج والاستفراد بها واستبعاد القوى العالمية عن التأثير ، وقد كان هذا يشكل هدفا استراتيجياً حيوياً لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية ، ولم تزل تسعى لتحقيقه ، منذ انسحاب بريطانيا ، غير أنها لم تتوفر لها الفرصة المناسبة في ضوء الحرب الباردة وحقبة الصراع مع الاتحاد السوفيتي ، كما توفرت دراماتيكيا بعد انحسار قوة الاتحاد السوفيتي ، وقيام النظام العراقي بغزو الكويت.
* عهد كلنتون والاحتواء المزدوج(5/429)
في عهد (كلنتون) ، وضعت إدارة الرئيس (كلنتون) مجموعة من السياسات المتكاملة فيما بينها للحفاظ على مصالح أمريكا الإستراتيجية في الخليج كما ذكرناها سابقا ، على ضوء فهم حديث لمصادر التهديد الجديدة في الخليج وتقوم على مبدأين :
1ـ إعطاء الأولوية لاستخدام القوة العسكرية .
2ـ الاحتواء المزدوج للعراق وإيران .
والهدف المباشر لهذه السياسة كما يوضحه عدد من الاستراتيجيين الأمريكيين هو أن للولايات المتحدة مصلحة كبرى في منع ظهور أية قوة تحمل نزعة سيطرة إقليمية في أي بقعة من العالم ، ولاسيما إذا كانت قوة قادرة على تهديد الاستقرار العالمي ـ أي خضوعة لزعامة أمريكا ـ عبر استخدام القوة .
وكان أول من استخدم هذا المصطلح ( الاحتواء المزدوج ) هو (مارتن إندك ) عندما كان يعمل مستشاراً للأمن القومي لشؤون الشرق الأدنى في الولاية الأولى للرئيس كلنتون.
وقد اعتبر هذا المبدأ تغيراً حاسماً في سياسة توازن القوى التي سبق أن اعتمدت عليها واشنطن في عقدي السبعينيات والثمانينيات للحفاظ على المصالح الأمريكية ، وذلك بدعم الدولتين المتصارعتين تباعا ، أي دعم إحداهما لموازنة الأخرى مثل دعم إيران في عقد السبعينيات ، ثم التحول إلى دعم الأخرى ضد الأولى مثل دعم العراق في سنوات الحرب العراقية الإيرانية ضد إيران
* عهد بوش الابن
مما سبق يتبين أن الارتباط الغربي بالخليج مر بثلاث مراحل رئيسة :
المرحلة الأولى : الاحتلال البريطاني .
المرحلة الثانية : الانسحاب البريطاني ، واستبداله بالتدخل الأمريكي غير المباشر، دون أن تحظى أمريكا بالتفرد المطلق بالتأثير على الخليج .
المرحلة الثالثة : التفرد الأمريكي وتكثيف وجوده العسكري في الخليج .
وتبين أيضا أن اتجاه هذا الارتباط يتحول باضطراد إلى هيمنة شاملة ، وأن أمريكا غير عازمة على الانسحاب من المنطقة مطلقا ، بل إلى التطلع نحو تدخل أكثر في شؤون الخليج الداخلية ، ومما يعزز هذا الاستنتاج أن في عهد (بوش الابن) ، تبنت الإدارة الأمريكية لأول مرة المطالبة بل الضغط لتغيير المناهج التعليمية في الخليج ، والرقابة على أموال الجمعيات الخيرية ، وتقوم الإدارة الأمريكية بدور ثقافي مركز للتأثير على المجتمعات الخليجية ، ومن الأمثلة على ذلك إثارة موضوع حقوق المرأة الخليجية وحقوق الإنسان انطلاقا من النظرة الغربية ، وتكرار التلويح بضرورة التغيير نحو الديمقراطية الغربية في الخليج ... إلخ .
وتدعم الولايات المتحدة النخب الخليجية المتحمسة للثقافة الغربية ، وتسعى بوسائل متعددة للقيام بنفس الدور الثقافي الذي كانت بريطانيا تقوم به في مصر إبان الاحتلال البريطاني لمصر .
وقد استغلت تهديد النظام العراقي لدول الخليج بعد حرب الخليج الثانية ، كما تستغل الآن ما تطلق عليه (الحرب على الإرهاب الدولي ) بعد حوادث التفجير في الحادي عشر من سبتمبر ، لزيادة الاستلحاق السياسي بالغرب ، وذلك بهدف تحقيق أهداف الوجود الأمريكي في منطقة الخليج ، وهي :
1ـ ضمان أمن الكيان الصهيوني .
2 ـ السيطرة على حقول البترول ومنع تحويله إلى سلاح ضد الغرب .
3ـ إحداث أكبر قدر من التغريب الثقافي في المجتمعات الخليجية .
وتستعمل في سبيل تحقيق هذه الأهداف وسائل متعددة أهمها :
1ـ إبقاء النظام الإقليمي الخليجي في حاجة مستمرة إلى الحماية الغربية .
2ـ الحيلولة دون نجاح مشاريع الوحدة أو التقارب الخليجية .
3ـ تكثيف دور المؤثرات الإعلامية الثقافية الغربية على المجتمعات الخليجية .
4ـ تشجيع دور النخب الخليجية المتغربة للقيام بدور تحسين الأهداف الغربية و إلباسها لبوس المصالح المتبادلة ، والانفتاح الثقافي ، والتفاعل الحضاري .. إلخ .
* دور العلماء و الحركة الاسلامية
وفي ظل هذه الأحوال العصيبة التي تمر بها منطقة الخليج ، فالواجب على العلماء والدعاة أن يرتبوا أولوياتهم وفق المرحلة الراهنة بما يلي :
1ـ تشجيع عوامل التعاون بين مختلف فصائل الدعوة الإسلامية ورموزها وتوجيهها نحو التنسيق المستمر ، و تهميش الخلافات الجانبية ، لمواجهة الخطر المشترك .
2ـ التركيز على مواجهة الهجمة الإعلامية الغربية بهجمة مضادة شاملة تكشف عوارها وتلقي الضوء على مكامن الخطر فيها .
3ـ إشاعة مفاهيم الاعتزاز بالانتماء الإسلامي ، والتميز الثقافي المتمثل في تحكيم الشريعة الإسلامية في كل شؤون الحياة ، والدفاع عن مفاهيم الولاء والبراء والجهاد والوحدة الإسلامية ، ومحاربة المفاهيم الغربية المضادة .
4ـ العمل على دفع مشاريع التقارب و الوحدة الخليجية باتجاه التنفيذ السريع بهدف تحقيق الاستقلال التام عن التبعية السياسية للأجنبي .(5/430)
5ـ مد جسور التفاهم وبناء الثقة مع الأنظمة الحاكمة لمنع الصدام الداخلي الذي من شأنه خدمة أهداف الحملة الغربية ، مع المطالبة بتولي الأنظمة بالتعاون مع قيادات الحركة الإسلامية مسؤولية حماية الهوية والثقافة الإسلامية من محاولات الاستلاب الحضارية ، وذلك بوضع خطط شاملة لحماية التعليم الإسلامي ، والثقافة الإسلامية من أي تدخل أجنبي ، وزيادة مساحتها في المؤسسات الرسمية في دول الخليج .
6ـ المطالبة برفع الحظر عن حرية الكلمة الناقدة المسؤولة بل وتشجيعها ، وحماية الحقوق العامة ، ومنع الظلم والتعسف في استعمال السلطة
ولاريب أن جسامة المسؤولية الملقاة على عاتق العلماء وقادة الحركة الإسلامية ورموزها ، تحتم عليهم التحرك السريع ، المنظم والمدروس لمقاومة خطط الهيمنة الغربية على الخليج ، والحيلولة دون بلوغها أهدافها .
قال الحق سبحانه ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) الحج: 78 وقال صلى الله عليه وسلم ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) رواه أحمد وأبوداود من حديث أنس رضي الله عنه . والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
===========(5/431)
(5/432)
أخطاء في مقاومة تغريب المرأة
كتب الأديب الأريب علي الطنطاوي كتابات عديدة في موضوع تغريب المرأة في بلاد الشام، وقد جمعت كلامه في ذلك في كتاب أسميته ( تجربة المرأة المعاصرة ) كي ينتفع منه أهل الرأي في هذه البلاد وغيرها، ومن الأمور التي ذكرها ما وقع فيه الدعاة إلى الله تعالى في وقته في مقاومة دعاة التغريب وقد حصرتها لك أخي الكريم لتعلمها ومن ثم تتلافها، فنسأل الله تعالى التوفيق والسداد.
فمن الأخطاء التي ذكرها ـ رحمه الله ـ
الخطأ الأول: الاحتساب على المنكر بدون مشاورة أهل العلم:
يقول رحمه الله: ( إن أقوى الطاقات في الدنيا ما يسمونه « رد الفعل » فأنت حين تكبس بيدك على كفة الميزان، لا يظهر الأثر في الوسط، وإنما يظهر في الكفة المقابلة، هذا الانطلاق وراء اللذات وهذا التحلل من قيود الدين والأخلاق، دفع جماعة من الشباب من العامة ومن الطلاب إلى إنكار هذا المنكر, ولكنهم لم يرجعوا إلى مشورة أهل العلم، ولم يقفوا عند آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسبوها فوضى يصنع كل ما يشاء، مادام يريد بينه وبين نفسه الخير، فانطلقوا يتعرضون في الطريق للسافرات المتكشفات، وهجموا مرة على سينما في وسط البلد ليس فيها إلا نساء، لأن دور السينما يومئذ كانت عندها بقية من حياء، فهي تخصص أياماً للنساء، وأياماً للرجال, دخلوا عليهن فروعوهن، فأعطوا بذلك أعداءنا وأعداء ديننا حجة علينا، ولذلك قالت العرب في أمثالها:( عدو عاقل خير من صديق جاهل ) .(ذكريات 5/236-242)
? وقال أيضا ـ رحمه الله ـ في سياق كلامه عن كلمة ألقها وذكر فيها أثر الإنكار بدون مشاورة أهل العلم ، يقول:
ـ جاء في عنوانها، أنها كلمة صريحة لله ثم للوطن, شرحت فيها ما كان من عمل الشباب الذين هالهم ما رأوا من فشو التبرج والاختلاط بعيد الجلاء في دمشق، البلد العربي المسلم، فقاموا يدافعون عن الفضيلة المغلوبة، ويردون إليهم الناس لأن ديار الشام لا تزال متمسكة بدينها، ولا يزال نساؤها بالحجاب الساتر، ومشت الأمور في طريقها، وكادت تصل إلى غايتها، ودعاة الفجور ينظرون ويتحركون, لولا أن دفعت الغيرة على الأخلاق الإسلامية والسلائق العربية مع الجهل بأحكام الدين، والبعد عن استشارة العلماء المخلصين، بعض العامة إلى الدخول على النساء في السينما وإخراجهن منها، وإلى التجوال في البلد ونصح كل متبرجة ووعظها وزجرها, وقد أنكر العلماء والعقلاء ذلك عليهم فكفوا عنه وأقلعوا، ولكن دعاة الفجور لم يرضهم أن تنتصر دمشق للفضيلة، وأن تهدم عليهم عملهم على رفع الحجاب، وإباحة الاختلاط، فاستغلوا عمل هؤلاء العوام وأعلنوا إنكاره وكبروه، وبالغوا في روايته وذهبوا يقيمون الدنيا، ويبرقون البرقيات، ويرعدون بالخطب، وما أهون الإبراق والإرعاد، وما أسهل إثارة الشبان الفاسقين على الستر والحجاب باسم « الحرية الشخصية » التي تمتعهم بما وراء حدود الفضيلة من لذائذ محرمة , أيخرجون النساء من السينما ؟ أيعرضون بالنصح للمتبرجات الكاشفات؟ يا للحدث الأكبر، يا للعدوان على الحرية الشخصية التي ضمنها الدستور, أليست المرأة حرة ولو خرجت عارية ؟ أليس الناس أحراراً ولو فسقوا وفجروا ؟ أليس كل امرئ حراً ولو نقب مكانه في السفينة فأدخل إليها الماء فأغرقها وأهلها ؟ كذلك فهم الحرية هؤلاء الجاهلون، أو كذلك أراد لهم هواهم، أو شاءت لهم رغباتهم وميولهم أن يفهموها، ودفعوا أكثر الصحافيين فلبثوا أياماً طوالاً لا كلام لهم إلا في الدفاع عن الحرية... وأثاروا بعض النواب في المجلس، فجرب كل واحد منهم أن يتعلم الخطابة في تقديسها، ثم عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد، حاموا عن الفضيلة فساقوهم إلى المحاكم سوق المجرمين ، وأدخلوهم السجون من غير مستند إلى قانون من القوانين ، وجرعوهم كؤوس الذل حتى صار من يذكر السفور بسوء، أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى, وتوارى أنصار الفضيلة من هذه العاصفة الفاجرة الهوجاء, وحسب أولئك أن الظفر قد تم لهم، وأن أهل الدين قد انكسروا كسرة لا تجبر، فكشفوا القناع، وانطلقوا يسرحون وحدهم في الميدان ويمرحون، وكانت النتيجة أن انحطم السد فطغى سيل الرذيلة وعم، وامتد في هاتين السنتين أضعاف ما امتد أيام حكم الفرنسيين ، وازدادت جرائم التعدي على العفاف واستفحلت، حتى رأت المحاكم من يعتدي على عفاف بنته أو أخته أو على طفل رضيع ، وماذا يصنع هذا الوحش الذي أثارت « الحرية الشخصية »غرائزه فلم يجد إلا البنت والأخت أو الطفل الرضيع ؟
ثم ازدادت الجرأة حتى رأينا بعض مجلات دمشق تقلد نظيراتها في مصر، فتنشر صور العرايا فيشتريها الشباب لهذه الصور، لأنه ليس فيها ما يقرأ فتشترى من أجله.(5/433)
ثم امتد الشر حتى رأيناهم يعملون من الطالبات كشافات ، يمشين في الطرقات بمثل لباس المجندات في الجيش الأمريكي « ولم يكن قد عرفنا الجيش الإسرائيلي، ولا كانت إسرائيل أزال الله عنا رجس إسرائيل » بعد أن كانت دمشق لا تحتمل أن ترى الكشافين الشباب بلباس يرتفع عن الركبتين، وحتى رأيناهم يقيمون معرضاً لأدوات تحضير الدروس التي صنعها المعلمون, فتترك مدارس البنين، ومنها الثانوية المركزية ببنائها الضخم وأبهائها الواسعة، وهي أصلح مكان للمعارض ، وهي التي أقيم فيها معرض دمشق الكبير سنة 1936 ،وتختار مدرسة البنات في طريق الصالحية , ثم يفتتح المعرض بدعوة الرجال لمشاهدة فرقة من البنات ( الكشافات ) يغنين على المسرح، ويأتين بحركات رياضية تبدي للأعين الفاسقة المفتحة أكثر ما يخفى عادة من أجساد فتيات نواهد، قد انتقين عمداً أو مصادفة من جميلات الطالبات .
ثم امتد الشر حتى رأيناهم يفتحون نادياً في قانونه أن العضو يجيء مع زوجته أو ابنته غير المتزوجة، وحتى شهدنا النفر الشيوعيين العزاب المستهترين الساكنين في المقاهي الخبيثة والخمارات، أصحاب تلك البرقية الوقحة المعروفة، يتسلمون شؤون المعارف، ويسلطون على الشباب والشابات، فيبتدعون نظام المرشدات, وإنه لنظام الضالات والمضلات, ويسنون الاختلاط في الحفلات، وينقلون دار المعلمات من مكانها القديم المستور إلى دارة ( فيلا) جديدة في شارع محدث في ظاهر البلد مكشوفة من جهاتها الأربع، لها طنف وشرفات دائرة بها، وأسرة الطالبات تظهر من الطريق، فإذا نهضن من النوم رآهن من يمشي في الشارع بثياب المنام, ثم يدفعون خريجات دور المعلمات فيعملن حفلة خيرية، فلا يجدن لها مكاناً في دمشق إلا مرقص العباسية ! ويطبعن في البطاقة أنه سيغني فيها فلان من فسقة المغنين ، وترقص فلانة الراقصة المحترفة رقصاً بلدياً , ثم ماذا ؟ الله وحده يعلم ماذا يكون أيضاً ، وإلى أين نسير ـ وإلى أين المصير .
( ذكريات 5/ 247-250)
الخطأ الثاني : السلبية بطريقة الرفض والإبقاء على القديم:
يا سادة إن السيل إذا انطلق دمر البلاد، وأهلك العباد، ولكن إن أقمنا في وجهه سداً، وجعلنا لهذا السد أبواباً نفتحها ونغلقها، صار ماء السيل خيراً ونفع وأفاد.
وسيل الفساد، المتمثل في العنصر الاجتماعي، مر على مصر من خمسين سنة وعلى الشام من خمس وعشرين أو ثلاثين، وقد وصل إليكم الآن[1]، فلا تقولوا نحن في منجاة منه ولا تقولوا ، نأوي إلى جبل يعصمنا من الماء, ولا تغتروا بما أنتم عليه من بقايا الخير الذي لا يزال كثيراً فيكم، ولا بالحجاب الذي لا يزال الغالب على نسائكم، فلقد كنا في الشام مثلكم ـ إي والله ـ وكنا نحسب أننا في مأمن من هذا السيل لقد أضربت متاجر دمشق من ثلاثين سنة أو أكثر قليلاً وأغلقت كلها، وخرجت مظاهرات الغضب والاحتجاج ؛ لأن مديرة المدرسة الثانوية، مشت سافرة ـ إي والله ـ فاذهبوا الآن فانظروا حال الشام!!
دعوني أقل لكم كلمة الحق، فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس, إن المرأة في جهات كثير ة من المملكة، قريب وضعها من وضع المرأة المصرية يوم ألف قاسم أمين كتاب تحرير المرأة فلا يدع العلماء مجالاً لقاسم جديد.
هذا الخطر لا يحارب بالأسلوب السلبي، بطريقة الرفض والإبقاء على القديم، إن بنت بنتي وهي الآن على عتبة الزواج ، لا أستطيع إلزامها بالزيّ الذي كانت تتخذه أمي، ولا الشرع ألزمها به ذاته، بل منعها من كشف العورات وترك لها اختيار الزيّ الذي يسترها، ولا نستجلب الأنظار ويوافق الزمان، أي الزي الساتر الأنيق, إنني لا أستطيع أن أسيرها على خطى أمي تماماً ، ولكن عليّ ألا أدعها تخالف الشرع .
إن ما يتعلق بالمرأة من الحضارة المعاصرة, هو الثغرة الكبرى الذي دخل علينا منها العدو، ولقد كان نصره علينا ساحقاً, نعم هذه هي الحقيقة, فلماذا لا نعترف بها ؟
إن الاعتراف بالهزيمة دليل على بقاء القوة في أعصاب المهزوم، وعلامة على أنه قادر على استرجاع النصر إن خاض المعركة من جديد.
لقد نالوا منا جميعاً، لم ينج منهم تماماً قطر من أقطار المسلمين.
إنه لا يستطيع أحد منا أن يقول إن حال نسائه اليوم، كما كانت حالهن قبل أربعين أو ثلاثين سنة.
ولكن الإصابات كما يقال، ليست على درجة واحدة، فمن هذه الأقطار ما شمل السفور والحسور نساءه جميعاً، أو الكثرة الكاثرة منهن، ومنها ما ظهر فيه واستعلن وإن لم يعمّ ولم يشمل، ومنها ما بدأ يقرع بابه ، ويهم بالدخول، أو قد وضع رجله في دهليز الدار كهذه المملكة، ولا سيما جهات نجد وأعالي الحجاز.
فإذا كان علينا مقاومة المرض الذي استشرى، فإن عملكم أسهل وهو التوقي وأخذ (اللقاح )الذي يمنع العدوى.
أعود فأقول بأن السلبية لا تفيد، والجمود في وجه السيل الطاغي لا يجدي بل لا يمكن, فادرسوا أوضاع البلاد الأخرى، كيف دخل هذا التكشف وهذا الانحلال إليها .(5/434)
لديّ رصيد لا يكاد ينفذ من الأمثلة عما يجري في بيوت بعض من ينتسب إلى الإسلام من التكشف والاختلاط، في جامعاتهم التي وصلت إلى حد إقامة مسابقات لانتخاب ملكة جمال الكلية، والحكام الطلاب، إلى أن تنشر الجرائد من أيام أن معركة وقعت بين فريقين من الطلاب كلهم دون الثامنة عشرة، في ثانوية مختلطة, وسبب المعركة نزاع على إحدى الطالبات، إلى أن مجلة مشهورة في بلد معروف قد وضعت على غلافها عنوان مقالة فيها، وهذا العنوان هو « ثلاثة تقارير لثلاثة أطباء كبار ثبت أن أربعين في المئة من الجامعيات فقدن العذرية !».
إن علينا أن نفهم الفتاة العربية أو المسلمة ، حقيقة لا نزاع فيها ، سمعنا عنها من الثقات ، ورأيناها ، رأيتها أنا في أوربة رأي العين ، وهي : أن المرأة في أوربا ليست سعيدة ولا مكرمة ، إنها ممتهنة ، إنها قد تكرم مؤقتاً ، وقد تربح المال ، مادام لديها ـ الجمال ـ ، فإذا فرغوا من استغلال جمالها ، رموها كما ترمى ليمونة امتص ماؤها .
فكيف نفهم المرأة عندنا هذه الحقيقة ؟ كيف نقنعها بأن الإسلام أعطاها من الحق ، وأولاها من التكرمة ، ما لم تنل مثله المرأة الأوربية أو الأمريكية ، وأنه صانها عن الابتذال ، ولم يكلفها العمل والكسب ؟ كيف؟ أنا أقول لكم كيف ؟ بالفعل لا بالقول ، بأن نعاملها المعاملة التي يرتضيها لنا ديننا ، بأن نعتبر الخير فينا ، من كان يعامل امرأته وبناته بالخير ، أن تكون المرأة المسلمة اليوم ، كما كانت في صدر الإسلام ؛اقرؤوا إذا كنتم لا تعرفون ، تروا أنها لم تكن تعامل كما يعامل كثير منا نساءهم. (فصول إسلامية:ص 96-97-98 - 99)
الخطأ الثالث : التنازع بين العلماء والانشغال بالفروع عن الإصلاح:
ـ ازداد الانحدار وتتالت المصائب، وضعف أهل الدين بتنازعهم واختلافهم، واشتغال علمائهم بفروع الفروع من أمر دينهم، وغفلتهم عن الأصول التي لا تقوم الفروع إلا عليها، وخلا الميدان للذين يريدون أن يطبقون فينا قانون الشيطان، قانون إبليس.. ( ذكريات5/236-242)
ـ لم يبق في الميدان إلا المشايخ، والمشايخ لم يكونوا صفاً واحداً إلا أياماً قليلة, ولا يزالون مختلفين, وهذه حقيقة يقطع ذكرها القلب أسفاً وحزناً، ليس المشايخ على قلب رجل واحد، منهم الصوفي والسلفي وأتباع المذاهب، والآخذون رأساً من الكتاب والسنة ، والإخوان المسلمون وخصوم الإخوان المسلمين، وأتباع كل شيخ يتنكرون للشيخ الآخر, هؤلاء هم الإسلاميون العاملون، هذه حالهم، أما المشايخ الذين ينظرون كل حاكم ماذا يريد، فيفتشون له في الكتب عما يؤد ما أراده ، ويجعلون ذلك ديناً، وأما المشايخ الموظفون الذين أهمتهم وظائفهم ( أي رواتبهم ) فلا يحرصون إلا عليها، ولا يبالون إلا بها، هؤلاء وأمثالهم لا أتكلم عنهم , ولا أمل لي فيهم , كان المشايخ الباقون في الميدان ،يجتمعون فيتشاكون ويتباكون ثم لا يجدون ( وأنا واحد منهم ، يقال عني كل ما أقوله عنهم ) لا يجدون إلا أن يجمعوا صفوفهم ، فيراجعوا الرئيس أو الوزير ، فلا تنفعهم المراجعة شيئاً ,ويعلنون النصح للناس ، ويجهرون بكلمة الحق من فوق المنابر فيخرج الناس من صلاة الجمعة فيتحدثون بما سمعوه ،ويثنون على الخطيب ويدعون له ، ثم ينغمسون في حمأة الحياة فينسون ما قال وما سمعوا . (ذكريات 5/ 268-274)
الخطأ الرابع : سكوت العلماء عن الاضطهاد الذي يمارس تجاه المرأة:
لو أن علماء المسلمين دعوا إلى ( تحريرها )باسم الإسلام، وضربوا لها المثل الكامل بالمرأة المسلمة، لما تركوا لقاسم أمين، ولا لغيره مجالا ً لمقال ، ولكن سكتوا وكأنهم رضوا ، فبرز أولئك فتكلموا وأنكروا ، وقالوا بتحريرها باسم الغرب، وجعلوا قدوتها المرأة الغربية ، فجروا علينا هذا البلاء كله ، ولكن علماء المسلمين بسكوتهم يحملون قسطاً من هذه التبعة .
(فصول إسلامية:ص 96-97-98 - 99 ) .
الخطأ الخامس: غفلة الآباء عن متابعة بناتهم:
ـ فأين حراس هذا الجمال المعروض ؟ أين الآباء والأولياء لهؤلاء البنات ؟ لو جاؤوا يسرقون منهم أموالهم لغضبوا لأموالهم ، وهبوا يدافعون عنها ، يستميتون في سبيلها ، فمالهم لا يغضبون لأعراضهم ، ولا يعملون على حمايتها . (ذكريات 5/ 268-274)(5/435)
ـ بعض الآباء يغفلون ويقصرون، الأب هو الذي يقفه الله يوم الحساب ليسأله عن بنته، فلا يدعها تذهب وحدها إلى السوق ،فلقد سمعت أن من الفساق من يتحرش بالنساء في الأسواق ،ولا تدعها تكشف للبياع عما أمر الله بستره، وليُفهما أن سائق سيارة الأسرة وخادم دارها، كل أولئك أجانب شرعاً عنها، وليست منهم وليسوا منها، فلا تنبسط إليهم، ولا ترفع الكلفة معهم، وأن الطبيب له أن يرى من المرأة ما لابد من رؤيته، إن كانت مريضة حقاً، ولم يكن في البلد طبيبة أنثى تقوم مقامه، وتحسن عمل ما يعمله، فلطالما عرفت أطباء يتخذون العيادة شبكة لصيد الغافلات، وغرفة الفحص للمرض الجسمي مخدعاً لري الظمأ الجنسي، ولست أقصد أحداً بذاته، ولا أعين بلداً، ولست أقول مع ذلك إلا حقاً، فإذا لقيت المرأة الطبيب في غير ساعة « الفحص » فإنها تلقى رجلا ً أجنبياً ،ككل رجل يمشي في الطريق لأن كشفها أمامه ضرورة أو حاجة، والضرورات تقدر بقدرها، ولا يدع الأب بنته تذهب إلى رحلة مدرسية، أو حفلة كالحفلات التي تكون في ختام العام ، فلقد رأيت فيما رأيت من أيامي التي عشتها، أن هذه الرحلات وهذه الحفلات من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى البلايا والطامات . (ذكريات 8/280- 283 ).
[1] أي : في المملكة .
==============(5/436)
(5/437)
هذه آثارهم فاعرفوها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد :
أيها المسلمون:
اتقوا اللَّه حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن خير الحديث كتاب اللَّه وخير الهدى هديمحمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، ومن يطع اللَّه ورسوله فقد رشد، ومن يعص اللَّه ورسوله فقد غوى .
معاشر المؤمنين:
سبق الحديث عن العلمانيين وتوجهاتهم وخطورة الدور الذي يمارسونه، وبعض وسائلهم وطرائقهم، والحديث اليوم عن بعض آثار هذا التوجه وثماره التي سرت في الأمة، وتغلغلت في بعض المفاهيم والأعمال، والأطروحات والبرامج على عدة مستويات.
أيها المسلمون:
إن من أعظم الدوافع والبواعث لكل داعية وعالم وناصح، بل وكل مسلم يشعر بمسؤوليته تجاه دينه وأمته من أعظم دوافعه لواجب الكشف والبيان: خطورة ذلك الفكر وشدة أثره في تضليل الأمة، والتوطئة لملل الكفر من اليهودية والنصرانية وغيرها في بلاد المسلمين، والناظر في تأريخ المسلمين يلحظ ويدرك بكل وضوح أن العاديات على بلاد المسلمين من غزو التتر وسقوط الأندلس وغيرها، ما كانت لتتمكن وتستولي على بلاد المسلمين، وتقتل الرجال وتسبي النساء والذرية، وتقود الولاة والأمراء أذلة صاغرين، ما كان ذلك بمجرد قوتهم وتفوقهم، وإنما كان ذلك بسبب الخيانة الداخلية، ممن يزاولون أدوار المنافقين، كالحركات الباطنية من الرافضة والقرامطة والإسماعيلية، وفي العصر الحاضر على يد العلمانيين وإخوانهم من الأحزاب الاشتراكية والبعثية والقومية، وما كان سقوط الخلافة العثمانية ووقوع كثير من دول الإسلام في قبضة المستعمرين وإنابتهم، أولئك بعد الخروج والاستقلال إلاَّ إحدى ثمار تلك التوجهات والحركات الغربية على المسلمين، وعلى أصل وحدتهم وتماسكهم، وكم نخشى من أمثال أولئك على بلادنا وبلاد المسلمين.
أرى خلل الرماد وميض نار وأخشى أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام
أيها المسلمون:
إن لهذا الفكر وهذا التوجه ثماراً سيئة وخراجاً نكداً منذ ظهورهم في بلاد المسلمين، وتمكنهم في مواقع التأثير ومنابر الإعلام منها:
أولاً: تكريس التبعية للغرب، وجعله الأنموذج الأفضل الذي يجب أن يحتذى في كل شيء، حتى في الأوضاع السلوكية والأنماط الاجتماعية، وأن الرجل الغربي هو المتفوق تمدناً ورقياً وحضارة، وهو الجدير بالإقتداء والتأسي، والذي يدل على وجود هذا الأثر في واقع الناس اليوم، ذلك الفارق الذي يجده الفرد المسلم في نفسه تلقائياً بين الرجل الأوربي النصراني وبين مسلم، فقير آسيوي أو أفريقي، فالأول يجد له في نفسه التقدير والاحترام، والثاني لا يجد سوى الازدراء والتنقص؟ .
فمن الذي ولَّد هذا الشعور وكرَّسه في مفاهيم العامة والخاصة ؟ وهل كان هو المألوف لدى المسلمين في سالف العصور ؟، أم أنهم كانوا يعتبرون الكافر أقل منزلة وأحط درجة من المؤمن باللَّه واليوم الآخر، منهجهم في ذلك قوله تعالى: ((وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)) [البقرة: 221] .
ثانياً: من الآثار ربط أمور الناس بالدنيا والمادة، وإغراقهم فيها إلى حد العبودية لها والإرتكاس فيها، والحب والبغض فيها ولها، ((يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) [الروم: 7] .
ومثل هذا الأمر لا يعوز أحد الاستدلال عليه والتمثيل له، فنظرة إلى الأوضاع العالمية بل وأوضاع عامة الشعوب يدرك طغيان المادة على التعامل، وجعلها أساساً للموازين ومعياراً للقيم والمفاهيم.
ثالثاً: إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة وبين أدعياء العلم والثقافة من أهل التحريف والتبديل، وصهر الجميع في إطار واحد.
رابعاً: تهوين الخطر العالمي المتمثل في كيد اليهود والنصارى، والصهيونية والماسونية العالمية، واتهام من يبين خطرهم ويحذر من كيدهم وخططهم بأنه مصاب بعقدة المؤامرة، أما هم فلا يعتقدون مكايد عدائية متجذرة ومتأصلة، وإنما الأمر مصالح ومغالبات، ومطامع توسعية سياسية وإستراتيجية، نعم إن تفسير كل شيء في الوجود أن وراءه العدو وخلفه مؤامرة، وتحميل الأخطاء والتقصير على الغير، وتدبيره وتخطيطه هو نوع من المبالغة غير مقبول، وفيه تسويغ الأخطاء والتنصل من مسؤوليتها، لكن أصل القضية وهي عداوة الكافرين للمؤمنين وعملهم المستمر في الكيد والتضليل، فهذه سنن ربانية وأخبار قرآنية، نبأنا اللَّه من أخبارها فوصف عداوتهم بالبيان والظهور، ((إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً)) [النساء : 101] .
وبين أنهم يمكرون مكراً، فقال تعالى: (( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )) [الأنفال: 30].(5/438)
وقال: (( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ )) [النمل: 50].
وقال: (( ومكروا مكراً كباراً )) [نوح: 22].
هذا منطق القرآن، أما بنو علمان فيقولون لا عداوة ولا مكر.
أربعوا على أنفسكم وهونوا عليها، حتى تنفد في المسلمين أسنتهم، وتغمد في ظهورهم خناجرهم ورماحهم، فتقع الواقعة وتحل المصيبة على المسلمين، ثم بعدها يقولون إنما هي آراء وتوقعات، (( ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً )) [النساء: 62].
خامساً: السخرية والاستهزاء بعلماء الأمة ودعاتها، ونبزهم بالألقاب النابية والحيلولة دون الأخذ منهم، والاهتداء بفقههم بحجة أنهم لا يعلمون شيئاً عن الواقع، وأنهم لا يعيشون الأحداث، وربما رسموهم بعلماء الحيض والنفاس أو فقهاء الآخرة ؟!! .
بل لم يسلم منهم الأموات ممن جاهدوا بألسنتهم وأقلامهم، فرموهم بالعظائم، واتهموهم وكذبوا عليهم ألا ساء ما يزرون .
سادساً: دعوتهم وتبنيهم مطاردة الدعاة إلى اللَّه، ومحاربتهم وإلصاق التهم الباطلة بهم، ونعتهم بالأوصاف الذميمة، كالتخلف والتحجر والجمود والرجعية.
سابعاً: تعطيل فريضة الجهاد في سبيل اللَّه بصورته المشروعة، بل ومهاجمتها واعتبارها نوعاً من أنواع الهمجية والإرهاب .
وذلك أن الجهاد في سبيل اللَّه معناه القتال لتكون كلمة اللَّه هي العليا، وحتى لا يكون في الأرض سلطان له القوة والغلبة والحكم إلاَّ سلطان الإسلام، وحينما غاب مصطلح الجهاد من قاموس الأمة أصيبت بالتخاذل والهوان والذل، مصداقاً لقول النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم - : (( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد وسلط اللَّه عليكم ذلاً لا ينزعه من حتى ترجعوا إلى دينكم )).[1]
ثامناً: الدعوة إلى القومية أو الوطنية: وهي دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس، أو اللغة، أو المكان، أو المصالح، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل التجميع، بل الدين من منظار هذه الدعوة يعد عاملاً من أكبر عوامل التفرق والشقاق، فعملوا على تشتيت الأمة وتوزيع ولاء آتها إلى الإقليم والتراب والوطن والموروثات، والعوائد وتقديسها، واعتبارها الوجه الحضاري للأمم والشعوب.
تاسعاً: محاربة العفاف والتقليل من شأن الفواحش والفوضى الأخلاقية، ورعاية أصحابها واحتضانهم، واعتبار ظاهرة الفاحشة وتمرد الشباب والسفهاء على الفضيلة أمراً عادياً لا يستحق الاهتمام، وبالتالي لا يستدعي التفكير الجاد في العقوبة والتأديب، وما مظاهر انحلال الشباب وكثرة الفواحش وتهافتهم على البرامج التي تؤسس الاختلاط وتمارسه علناً كبرامج (ستار أكاديمي ) ونحوها، إلا ثمرة لأطروحات العلمانيين والليبراليين.
عاشراً: تهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية، وتشجيع ذلك والحض عليه: وذلك عن طريق: الإشادة بالقوانين التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها، والتي تعتبرها من باب الحرية الشخصية التي يجب أن تكون مكفولة ومصونة، وعن طريق أيضاً وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز، التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة، والهجوم على أوضاع المرأة المسلمة المحافظة، وعن طريق أيضاً محاربة الحجاب واعتباره من العوائد وليس من الإسلام، وفرض السفور والاختلاط.
أيها المسلمون:
هذه بعض ثمار شجرة العلمنة الخبيثة على كثير من ديار المسلمين، فكم أثرت في الأجيال، وحرفت الرؤى والأفكار، ومع كل ذلك فهو كيد من كيد الشيطان، وقد وصف اللَّه تعالى كيد الشيطان فقال: ((إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)) [النساء: 76].
وإن كل مسلم في أي مكان وموقع يجب عليه أن يعمل جاهداً في وقاية نفسه وأسرته ومجتمعه من جميع وسائل التغريب والتضليل، وذلك بعمل برامج علمية وإيمانية للأبناء والبنات، وكذلك الانتقاء والاختيار في المادة المقروءة والمسموعة، وحجب منافذ الإفساد أن تصل إلى العقول والعواطف والغرائز، ثم تقوية الوعي والبصيرة بمعرفة الحق وأهله والباطل وأهله، والاستعانة على ذلك بطول التمعن بالآيات القرآنية الكاشفة لسبيل الضالين والمجرمين، وبمعرفة التاريخ وحوادثه، وعلى كل حال بالصدق والصبر والأخذ بالأسباب، وعدم استعجال الثمار والنتائج ستعلو راية الحق وينتصر أهله.
أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم: (( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ )) [الحج : 78] .
الخطبة الثانية(5/439)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
وللمستفهم أن يقول: كيف يكون بعض المسلمين دعاة على أبواب جهنم؟ فالجواب هو أنهم كذلك ببثهم الفساد والانحراف الأخلاقي: كإشاعة الفاحشة وتسهيل أسبابها، ومحاربة بيئة التدين في المجتمع من خلال وسائل الإعلام مثلاً، أو في مجال التعليم، بزرع المبادئ الهدامة بين الطلاب من خلال كوادر غير أمينة، أو من خلال منظري التطوير التعليمي في سائر البقاع، فيما يقدمونه من الحد والتقليص لما يقوي صبغة الله في نفوس الطلاب، ((وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)) [البقرة: 138].
أو التقليل من شأن العلوم الشرعية، في مقابل الحرص الدءوب على تكثيف ما عداها.
ويكون الإفساد ببث أفكار تسيء إلى الإسلام وأهله، وتحارب الدعوة إليه، وتزدري الدعاة وتسخر منهم، وتنادي بعزل دين الناس عن دنياهم.
ويستنكرون أن تدخل الدعوة في علوم الطبيعة والرياضيات، ويتهمون المناهج في بلاد المسلمين أنها هي السبب في وجود بيئة التدين والدعوة، وكأنها جريمة لا تغتفر، حيث قال أحدهم في أحد الصحف المحلية: "فقد اصطبغت الكتب الدراسية جميعها بصبغة دينية"، إلى أن قال مستنكراً: "فلا تدرس مادة اللغة الإنجليزية مثلاً ذاتها، بل لتكون وسيلة للدعوة إلى الله، وتمتلئ كتب هذه المادة بالحديث عن الإسلام" أ هـ
أيها المسلمون:
إن هذا الحاقد على الدعوة والدعاة وغيره ممن يملؤه الغيظ على دين الله تبارك وتعالى لا يعدو قدره إن شاء الله، إلا أن الواجب على كل مسلم أن يقوم بما أوجب الله عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن دين الله، والإنكار بقدر الاستطاعة، والمرافعة الجادة لمحاسبتهم وتأديبهم، لأنهم ضد الأمة ودينها وأخلاقها، أما أن يترك الحبل على الغارب لكل دعي جاهل ليحارب الإسلام دون أن يقف من أهل الغيرة أحد في وجهه ووجه كل من سانده وأعانه فلا يسوغ أبدًا: (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى)) [سبأ:46].
((وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)) [يوسف:21].
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] - أخرجه أبو داود في سننه برقم ( 3462 )، وأحمد في مسنده برقم ( 5007) ، والبيهقي في سننه برقم ( 10484 ) ،
وقد صحح الحديث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع برقم ( 423 ) .
=============(5/440)
(5/441)
رسالة للدكتور / غازي القصيبي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد...
إن مما يحير العاقل الحصيف ما نطالعه بين الحين والآخر من كتابات ومقالات وتصريحات وقرارات، تكون خالية من التأصيل الشرعي، أو التنظيم الإداري، أو التوافق مع نظام الحكم الذي اتخذ الشريعة مرجعاً في عموم منطلقاته في (مادته السابعة)، ولما تتميز به مملكتنا من مكانة عالية ( بين دول كثيرة في عالمنا المتلاطم الأمواج، بسبب فتن الشبهات والشهوات)، فالواجب علينا وعلى المسؤولين فيها المحافظة على هذا التميز الذي يغيظ الأعداء في الداخل والخارج، أعداء الدين وأعداء الوطن وأعداء القيم والأخلاق.
روى الإمام أحمد وأبو داود- في باب تداعى الأمم على أهل الإسلام - وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (8183) من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (( يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها ......)) الحديث.
وتداعى الأمم يكون أحياناً عن طريق أبنائها إما جهلا منهم وغفلة، وإما انحرافاً ونفاقاً، وإما إغراءاً وحماقة.
ولقد ركز الذين يسعون لإفساد مجتمعنا والزج به إلى طريق الانحراف، (الذي وقعت فيه بعض الدول الإسلامية) على مجالات ثلاثة، هي مفاتيح الخير إذا أُحسن توجيهها، ومفاتيح الشر إذا أًَُسِيَء استعمالها.
وهى : التعليم... والإعلام... والمرأة
ولعل أعظمها خطراً، وأشدها أثرا، وأعجلها نتيجة في الإفساد هي المرأة.
ولذلك ركزت حملات التغريب في معظم البلاد الإسلامية على المرأة وعلى إخراجها وتبرجها، واختلاطها مع الرجال باسم العمل والوظيفة والدراسة، والذي بدأت بوادره في بلاد الحرمين تطل من خلال وزارة العمل ووسائل الإعلام وغيرها.
وإن من مظاهر الزج بالمجتمع في ممارسات تؤول إلى الفساد والانحراف ما تقوم به وزارة العمل، من دعوة صريحة إلى توظيف المرأة في الكثير من المجالات، التي تخالف طبيعتها وتفسد أخلاقها، وتضر المجتمع، وتهدد الأمن وتضعف الاقتصاد في الكثير من المجالات.
وقد حذرنا الصادق المصدوق- صلى الله عليه وسلم - يوم قال: (( ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)) رواه مسلم وغيره ( حديث رقم 2741 ) .
فمن ذلك ما استصدره د.غازي القصيبي من قرارات حول عمل المرأة في محلات بيع الملابس النسائية.
وقد أُعلن كذلك في جريدة الوطن وغيرها استنكاره الشديد على المعترضين على القرار، ووصفهم بأوصاف سوقية لا تليق بمن هو في سنه ومنصبه وخبرته.
ولكن للإنصاف فقد طلب د.غازي ممن لديه ملاحظات فليتقدم للنقاش.
ومن هذا المنطلق نطلب تحديد موعد للنقاش والحوار: وفى مكان عام حتى يظهر الحق ويشهد الناس ما يُراد لهم وبهم, وننتظر الرد سريعاً من د.غازي عسى أن يكون الحوار مثمراً، نصل به إلى الرأي الأصلح لمجتمعنا، ولبناتنا ولأمتنا ولاقتصادنا، وقبل ذلك وبعده لإرضاء ربنا وإغاظة عدونا .
ولقد توقفت في التسمية (هل أقول المستر غازي أم معالي الدكتور غازي، حيث إني لا أدري أي هذه الأوصاف أحب إليه)، لذلك سأسميه باسمه ومرتبته العلمية فأقول د.غازي القصيبي خروجا من الحرج .
واستباقاً للحوار العام الذي نطالب به د/ القصيبي ومن معه في هذه القرارات، أتوقف مع مخالفات هذا القرار للسياسة العامة للدولة ومن ذلك:
1 - هذا القرار جاء مخالفاً للنظام الأساس للحكم الذي نص على تطبيق الشريعة الإسلامية في مادته السابعة وفى غيرها.
2 - هذا القرار مخالفٌ لعدد من الأوامر السامية التي جاءت بالتأكيد على عدم الاختلاط، وضرورة استقلال المرأة في عملها عن الرجال، والتي صدرت برقم (11651) في 16-5-1403 وكذلك رقم( 759 / 8 )بتاريخ 5-10-1421.
3 - جاء هذا القرار مخالفاً لفتاوى العلماء، وقرارات هيئة كبار العلماء والذين لهم المرجعية في مثل هذه الأمور .
4 - هذا القرار مخالف لقرار مجلس القوى العاملة رقم 1/م/19/1405 وتاريخ 1/4/1408، وكذلك التأكيد على القرار بالتعميم الصادر برقم 1278/ق ع في 1/12/1423 .
5 - وكذلك هو مخالف لنظام العمل والعمال الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/21 وتاريخ 6/9/1389، والذي ينص على منع الاختلاط.
6 - هذا القرار جاء ليهدم ما بني من عهد المؤسس الملك عبد العزيز (رحمه الله) وأبنائه من بعده الملك سعود وفيصل وخالد وفهد (رحمهم الله)، والذين ساروا على عدم إقرار الاختلاط في الدوائر الحكومية أو الأهلية، وأكدوا على ذلك كثيرا.
7 - لا أدرى هل د.غازي يقصد إلغاء الأنظمة السابقة والقرارات والمراسيم, أو يقصد الانتقام ممن أصدروها ( وتصفية حسابات قديمة ) وهما أمران أحلاهما مر.
8- القرار الذي تبناه د.غازي يحمل في طياته تحدياً وزرعاً للشقاق بين ولاة الأمر والعلماء والمجتمع، ثم يصر على ذلك بوصف من خالفه بأنهم خفافيش، وأنهم أميون ومسيسون .
9- جاء القرار ليحارب الاقتصاد في مملكتنا في الوقت الذي نحن في أشد الحاجة إلى دعم الاقتصاد وبنائه وتنميته وتشجيعه .(5/442)
10- القرار مآل يخالف نظام السعودة في البلاد، ويدعو رجال الأعمال إلى طرد الشباب من وظائفهم وتوظيف النساء، كما صرح بذلك بعض رجال الأعمال .
11- جاء القرار ليُسِيَء إلى المرأة، فبدلاً من أن تكون موظفة مع بنات جنسها في أماكن آمنة، ويتحقق لها الاستقرار الوظيفي، جاء القرار ليدعوها إلى العمل في أوساط الرجال ولأوقات طويلة مرهقة .
12- جاء القرار ليقول لرجال الأعمال بعثروا تجارتكم، وأسلموها لغيركم ولا دخل لنا في ربحكم وخسارتكم.
13- بل جاء القرار وكأنه يوحى من طرف خفي، ويقول لأصحاب الأموال إلى متى وأنتم تستثمرون أموالكم في بلدكم، لماذا لا تخرجون إلى البلاد المجاورة، فهي أكثر تجارة وأسهل أنظمة وأكثر ربحا.
14- جاء القرار ليفرق المجتمع ويوجِدَ الشقاق والنزاع، فالدكتور غازي يريد أمراً والمجتمع يريد غيره، ويريد أن يفرض رأيه وفكره، ويتحدث بدكتاتورية وفاشية عفا عليها الزمن.
15- د.غازي يريد أن يكون المشرع والمهيمن على جميع الوزارات، فهو صاحب القرار في خروج المرأة وعملها، وفتح الأسواق وتنظيمها، من غير رجوع إلى جهات الاختصاص، ولعل د.غازي في هذا أراد اختصار الأمر وتوفير الجهد والمال، وذلك بتقمص دور الكثير من الوزارات والجهات المعنية.
16- جاء القرار ليتوافق مع طلب القوى الأجنبية والأعداء الماكرين، الذين يسعون لإخراج المرأة من بيتها - في بلاد الحرمين-، التي هي المعقل الأخير للإسلام .
17- لقد خالف الحقيقة د.غازي وجانب الصواب، حيث يقول (إن القرار تأخر بسبب دراسات وافية وشاملة)، كيف تأخر القرار وهو يسير بسرعة هائلة في تنقله بين وزارة العمل والديوان واللجان اللازم مروره عليها، وهو لم يتجاوز الشهر ونصف فيما ذكر, وصدر القرار في ظروف صعبة، في فترة وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد - رحمه الله - ومبايعة الملك عبد الله - وفقه الله-، مع أن القرارات المماثلة قد يمر عليها الأشهر والسنوات حيث تخضع لنقاش وحوار بين المسؤولين، وينظر فيها إلى السلبيات والايجابيات، ويوازن بينها، ثم أين دور الشريحة المعنية في ذلك وهم رجال الأعمال والمستثمرين ؟.
وأين رأى المرأة التي سوف يزج بها في هذا البحر المتلاطم الأمواج بفتنته ومشكلاته الأسرية والاجتماعية والنفسية ؟.
ولو كانت الدراسات للقرار وافية وشاملة لما وجد هذه المعارضة الشديدة من كل طبقات المجتمع, أم أنه السباق مع الزمن واغتنام فرصة التمكين قبل زوالها.
وإلا فكيف تصدر هذه القرارات ثم ترفع العصا تهديداً لمن لم يطبقها.
18- لئن كان المجتمع يعاني من العنوسة فبهذا القرار وإقحام المرأة في هذا العمل ستتضاعف العنوسة أضعافا كثيرة، لأسباب متعددة، ليس هذا مجال ذكرها .
19- هل يتناسب القرار مع قيم وعادات المملكة العربية السعودية كما ذكر د.غازي في تصريحه في جريدة الوطن يوم الأربعاء 21/3/1427 ص21 وغيرها من الجرائد , أو هي المغالطات التي أصبح يفاجئنا بها بين الحين والآخر، (ويريد أن يدخل التاريخ من أغرب أبوابه) .
20- د.غازي هل استوعبت الأعمالُ الوظيفية الحكومية والأهلية شبابَ الأمة الذين يشكلون الخطر بسبب بطالتهم.
ألم تشاهد تزاحم عشرة آلاف شاب على خمسمائة وظيفة برتبة جندي، علماً أن هذا العدد لمن مؤهلاتهم تتناسب مع هذه الوظيفة، فكيف بغيرهم الذين هم أضعاف هذا العدد، وتزعم أنك أوجدت عملاً للشباب .
21- لماذا التركيز على المرأة وفرص العمل لها، وإهمال الشباب الذين هم -بعد الله- عماد الأمة وقوتها في وجه عدوها، بصلاحهم واستقامتهم ودفاعهم عنها, وهم سلاح ضدها إن أهملوا وتركوا للشهوات والشبهات والبطالة.
22- لو كنت صادقاً في الشفقة على المرأة وإيجاد عمل لها لتبنيت مشروعاً تعمل فيه مع بنات جنسها، وجعلت لها مكانا خاصا (مثل الأسواق النسائية والمستشفيات النسائية)، وجعلت لها وقتاً محدداً ليس بالطويل الذي يرهقها ويشغلها عن بيتها وزوجها وأولادها, ويقوم بسد حاجتها المادية والاستفادة من جزء مناسب من وقتها .
23- لو كنتَ صادقا في إعفاف المرأة لطالبت لها وصرت محاميا مخلصا لها، في أن يفرض لكل امرأة محتاجة أو أرملة أو مطلقة أو عانس مرتباً شهريا يصرف لها، لتعف نفسها وتقضى حوائجها من غير حاجة للآخرين, ولو عملت ذلك لوجدت التأييد من كل فئات المجتمع.
ولحصلت على ثواب عظيم من رب العالمين، ودعاء من كل محتاجة وأرملة ويتيم، تسعد به في يوم لا مال ولا جاه ولا معين إلا ما قدمت من عمل صالح .
24- يا د.غازي ألا ترى أنك داعية لتغريب المرأة في بلاد الحرمين لنبذ حجابها وعفافها، وحيائها ودينها، لتكون مثل ضحايا دعاة التغريب للمرأة في مصر والشام وغيرها.
25- يا د.غازي ألا ترى أنك ضيعت الأمانة، وأفسدت المجتمع، ولم ترع الثقة التي أولتها لك حكومة "خادم الحرمين الشريفين".
26- ألا ترى أنك بهذه المغالطات والتجاوزات توغر صدور أفراد المجتمع على دولتهم التي تسعى لمصالحهم، فيظنون أنك تتحدث باسم الدولة، وأنت تهدم نظامها وقراراتها, وتشعل نار الفتنة في البلاد.(5/443)
27- لقد اتضحت النوايا وانكشف الغطاء، فأنت تتخذ قرارات تؤدى إلى فرض الاختلاط، الذي من لوازمه إشاعة الفاحشة، والدليل هو الإصرار الشديد على تنفيذ القرار رغم معارضة الكثيرين له، والذين يهمهم الأمر ويعنيهم بالذات، وحمايتك له بحذف شرط منع الاختلاط من نظام العمل الذي عدل في عهدكم، وهنا أحذركم وأخوفكم من عذاب الله وغضبه ومقته، وهو جل وعلا الذي توعد مَنٌ يسعون إلى ذلك، فكيف بمن يفرض أسبابها على المجتمع المسلم، ويصر على تنفيذها حيث قلت لا رجعة في تنفيذ القرار، وكأنك الحاكم الأعلى لهذه البلاد, أنت لا تريد أن تسمع للعلماء والدعاة والمثقفين ورجال الفكر, ولا تريد أن تسمع لرجال الأعمال وأعمدة الاقتصاد الذين بأعمالهم وتجارتهم تجد الوظائف للشباب، وتجد المشاريع التي تدعم اقتصاد البلد.
ألا تعلم أن تصرفاتك تؤدى إلى تجفيف منابع العمل، وترحيل الاقتصاد، وتفقير الشعب، وإخراج النساء وإفساد الأسر, وهذا ما يريده الغرب الكافر الحاقد المستعمر.
28- يا د.غازي أين دور الوزارة في توعية المجتمع، وفى معالجة أوضاع العمالة السائبة التي تعمل في الشوارع والحدائق، ومواقف السيارات وفى المستودعات والمزارع، وفى أوكار الفساد والسرقات، والسوق السوداء المنتشرة والمشتهرة، من خلال العمالة التي تبلغ الملايين وتشكل قنابل موقوتة في بلادنا .
أين برامج التدريب المكثفة، التي تقيمها الوزارة على نفقتها وبإشرافها لشبابنا من حملة الابتدائية فما فوق، والذين فاتهم قطار التعليم أو يريدون عملا.
29- قلت إن على المعترضين أن يحتفظوا برأيهم, إن الاحتفاظ بالرأي لمن لا يعنيه الأمر, أما من يعنيهم الأمر ويدافعون عن دينهم وعقيدتهم ومملكتهم، وطهر وعفاف نسائهم ونساء المجتمع بكامله، فهؤلاء جميعاً لهم الحق أن يقولوا والواجب عليك أن تسمع.
وأقول لك يا د.غازي (اتق الله في هذا المجتمع الآمن) لا خير في المجتمع إن لم يقلها، ولا خير فيك إن لم تسمعها، وتقبل ما فيها من الخير للبلاد والعباد .
اتق الله واحذر من المكابرة، ولا تكن من هذا الصنف الذي ذكره الله في كتابه العزيز، في قوله تعالى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)) (البقرة: 204، 206) .
30- يا د.غازي انك تسعى بقراراتك وتهديداتك إلى إعادة المجتمع إلى الحجٌر على العقول والآراء, وتسعى إلى تطبيق سياسة فرعون، ((مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)) (غافر:29).
واعلم أن وراءك من الولاة والعلماء والدعاة وجميع أفراد المجتمع من يغارون على دين الله، ويحفظون أعراض المسلمين، ويسعون إلى توفير جو من الراحة والطمأنينة لأفراد المجتمع .
وفي الختام أتوجه إلى خادم الحرمين الشريفين وولي عهده - وفقهما الله لكل خير- فأقول: إن هذا القرار خطير يهدد أمن المجتمع واستقراره، ويهدد دينه وسلوكه، الذَين هما الأساس للحياة السعيدة والجو الآمن, فإن الدكتور غازي قد فتح باب شر مستطير.
ثم لماذا لا يسمع نصح الناصحين وانتقاد المصلحين ؟.
إنني أتوجه إلى مقامكم وأنتم الذين عاهدتم شعبكم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى طلب النصيحة والنصيحة واجبة قبل الطلب, وتكون أوجب بعد الطلب، وأقول إن مثل هذا العمل يفرق الصف، ويزرع النزاع والشقاق، ويهدد البلد بالعقوبة من الله- عز وجل.
- وإننا نتطلع إلى وقفة حازمة حاسمة تلغي هذا القرار، وتغلق ما انفتح من أبواب الشر في هذا المجال.
كما أتوجه إلى علمائنا الأفاضل وطلاب العلم والدعاة وأهل الغيرة والصلاح، وعموم المجتمع، بأن يكونوا يداً واحدةً مع ولاة أمرنا ضد أولئك المفسدين، الذين يريدون إخراج المرأة من حصنها، لتكون لعبة في أيدي العابثين.
وعلينا جميعاً أن نكون مع مَنٌ وَلاّهُ الله أمرنا سداً منيعاً ويداً قوية ضد من يخرق السفينة.
حفظ الله ديننا وبلادنا وولاة أمرنا ومجتمعنا من كل عابث ومفسد للدين والأخلاق.
وحفظ الله لنا أمننا ورغد عيشنا وستر نسائنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم,,,
=============(5/444)
(5/445)
تغريب المرأة...المشكلة والحل
الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، والإيمان والكفر، سنة ماضية منذ أن خلق الله آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو يأخذ صوراً وأشكالاً تختلف من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، ولكن هناك قواعد وأسس يتفق عليها أعداء الدين والمبادئ، قواعد كليه، وأسس متشابهة أثناء حربهم وعدوانهم على الحق وأهله، وإن من الميادين التي الصراع فيها قديم هو الصراع على المرأة بين دعاة الضلالة والاستمتاع بالمرأة وإهانتها، وبين دعاة العفة والطهارة ومريدي كرامتها ورفعتها، ويحرص الأعداء منذ القدم على المرأة لأنها إذا فسدت المرأة ضعف المجتمع وانحلت عراه، وانتشرت الرذيلة وأمكن السيطرة عليه، وتنفيذ المخططات التي يريدون، فالمرأة بوابة قوية إذا هدمت هدم المجتمع، وصدق المصطفى- صلى الله عليه وسلم -; إذ يقول: (( اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )) .
وفي هذه الأزمان المتأخرة، وتحديداً في البلاد العربية، وتحديداً في هذا البلد المبارك بلد الحرمين الشريفين، فإن المرأة تتعرض لهجوم سافر حاقد بشع لم يعهد في هذه الجزيرة من قبل، فالهجوم عليها عالمياً من الخارج، ومحلياً من الداخل، أما الخارج فلا غرابة وكيدهم مكشوف وصريح ومعلن، والمسلمون يرفضونه جملة وتفصيلاً، وربنا قد قال في محكم التنزيل: (( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء )) (النساء:89).
وقال سبحانه: (( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) (البقرة: 109).
فالغرب غارق في الرذيلة، والمرأة تعيش بؤساً لم يحصل في تأريخ البشرية منذ أيامه الأولى، وهذا ليس دعاية ولا مبالغة، ومن قرأ الإحصائيات التي تنشر في الصحف والمجلات وفي صفحات الانترنت سوف يتعجب من حجم البؤس والشقاء، كل هذا لأنها تمردت على شرع ربها، وزينوا لها الاختلاط بالرجال والسفور والعري، والحرية المزعومة، وهي عبودية أشد من عبودية البشر للبشر، بل هي عبودية الشهوات والهوى، والتي تصبح فيها أمة مملوكة لأكثر من طرف، نسأل الله السلامة والعافية، والغرب يعلم أن المرأة هنا لو فعلت كما فعلت المرأة الغربية أمكن ترويض هذه المجتمعات التي استعصت عليهم، لأن الشهوات مفتاحها وبابها المرأة، ويعلمون أن الرجال الأقوياء الأشداء لا يلين عريكتهم إلا النساء، فسلطوا كل ما يستطيعون من كل أنواع المكر والكيد المعلن والخفي عبر جمعيات حقوق المرأة، وعبر وسائل الإعلام والتعليم والمناهج والبعثات التغريبية، والمنتديات والملتقيات الاقتصادية وغير الاقتصادية، والمؤتمرات الدولية، والكتب والصحف والمجلات والانترنت، وما خفي أكثر وأكثر، كل هذا معلوم وواضح والتصدي له يجب أن يكون معلنا وواضحاً أيضاً، لا أريد أن أطيل حول هذه القضية فهي معلومة لدى غالب الناس، ولكن الشأن في الهجوم والتغريب من الداخل وأقصد به الشأن المحلي، أعني به ما يقوم به المنافقون والعملاء بالوكالة عن الغرب، من كيد ومكر كبار بالليل والنهار في بلاد الحرمين لتغريب المرأة وإفسادها، حتى يضعف المجتمع ويستطيع الغرب أن يروض هذه المجتمعات الأبية الصامدة، والغرب لا يراهن على الحكومات، فقد انتهى منها ولكنه متجه بثقله إلى الشعوب، لأن هذا هو زمن الشعوب هي التي تتحرك وهي التي تغير، لقد أقض مضاجعهم الانتفاضة الكبرى من كل أنحاء العالم لنصرة إخوانهم في فلسطين، ومقاطعة المنتجات الأمريكية مع بداية الغزو لأفغانستان والعراق، وآخرها كانت الانتفاضة المباركة في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها لنصرة خير البرية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، نعم هذا مؤشر أن الشعوب فيها الخير وفيها الاعتزاز بالدين، فازداد المكر والكيد لإغراق المجتمعات المسلمة وخاصة مجتمع الحرمين الشريفين في الشهوات، وأعظم بوابة هي بوابة المرأة.
ولكن لماذا الكيد المركز على بلاد الحرمين لعدة أسباب :
أولاً: الوضع المتميز للمرأة في بلاد الحرمين بين كل شعوب الدنيا من حيث الحجاب والعفة والصيانة، والرعاية في ظل الشريعة الإسلامية، فحقها مكفول في الجملة رغم وجود التقصير.
ثانياً : البلد الوحيد في العالم الذي التعليم فيه غير مختلط في كل مراحله.
ثالثاً: لا زالت بعض الحدود والضوابط الشرعية معمول بها، كمنع سفر المرأة بدون محرم وغيرها من الضوابط، وهي لا توجد إلا في هذا البلد.
رابعاً: أكثر الأنشطة الإسلامية في العالم، والتي لها أثر كبير على المسلمين هي من هذا البلد المبارك، سواء برعاية مالية أو توجيه وقيادة، مما أثار حفيظة الغرب وهاج وماج ضد هذا البلد المبارك، وضد كل الجهود فيه .
ويبقى السؤال الآن وهو الذي يهمنا: ما أبرز وسائل التغريب والإفساد للمرأة في بلاد الحرمين حتى نتنبه لها ونحذر منها، ولا نقع في حبائلهم ولا مصايدهم عصمنا الله ونسائنا وبناتنا وأبنائنا من كل سوء؟(5/446)
الوسيلة الأولى: إضعاف التدين بإغراق الناس في الشهوات، واستخدام المرأة وسيلة في ذلك عبر وسائل الإعلام، وعبر الهجوم على الثوابت، وخاصة ما يخص المرأة كالهجوم على الحجاب، وترويج الفتاوى والأقوال الشاذة والساقطة، والدعوة للاختلاط، وما أستار أكاديمي وسوبر أستار ونواعم عنا ببعيد، وغيرها من البرامج التي تشيع الرذيلة وتتطبع في أذهان الفتيات الفساد والانحلال، وأنه رمز للتقدم والحضارة، فسقط في هذه المصيدة فئام من الفتيات بل أمهات وزوجات، فكثر الانحراف، واسألوا المعلمات والهيئات ومراكز الشرطة.
الوسيلة الثانية: الكذب المتواصل حتى يصبح حقيقة يصدقها الناس، مثل الترويج اليومي عبر وسائل الإعلام لأكذوبة أن المرأة مظلومة، ولا تأخذ حقوقها، وأن الرجل متسلط عليها، وقد يكون هناك ظلم نعم ولكن لما يأتي التمثيل للظلم والتسلط يمثلون بما هو من ديننا، وبما هو حفظ لكرامة المرأة وصيانتها، فتدعوا تلكم الوسائل المرأة إلى التمرد والعصيان والخروج بغير إذن الزوج والولي، وأن هذا الفعل هو الحل الناجح لأخذ حقوقها، ومن الكذب افتعال قصص غير واقعية ومكذوبة، والبناء عليها وتسويقها وترويجها، ومن ثم الدعوة إلى التحلل والتفلت انطلاقاً من هذه القصص المكذوبة، فإذا غاب الرقيب والحسيب فماذا يمكن أن تتصوروا أن تفعل هذه الوسائل .
الوسيلة الثالثة : تشويه الحق وأهله وتصويره بصور منفرة، والإعلاميون يعرفون أن هذه الوسيلة من أكثر الوسائل تأثيراً في النفوس، فيربط بين التخلف والحجاب، وبين التشدد والتزمت والدين، وبين النفاق والكذب، وبين الحجاب والعفة، وهكذا مما ينطبع في أذهان المراهقات والأطفال بأن الحجاب هو نفاق وتزمت، فتجد الصغيرة تكره الحجاب وتغطية الوجه بناء على ما ترسب عندها في وعيها من الصورة الذهنية التي رسمها هذا الإعلام الفاجر والله المستعان .
الوسيلة الرابعة : إبراز قدوات وشخصيات يقتدي بها النساء وخاصة الصغيرات والمراهقات، ويركز على الشخصيات الأكثر انحرافاً وتحرراً بزعمهم، فتسوق ويعلى من شأنها في الإعلام العميل، وفي المجلات والجرائد وتدعم، وإذا شئت أن تعلم صدق هذا الكلام من كذبه اسأل الصغيرات عن أبرز أسماء المغنيات والممثلات وقصات شعورهن، وإذا اتجهت للمراهقات اسألهن عن تفاصيل حياة فلانة وفلانة من المغنيات والممثلات وتجرباتهن الغرامية، واللقطات المخلة بالآداب، واسألوا الهيئات والمعلمات عن اللقطات الفاضحة التي تتداول بين أيدي الشباب والبنات في البلوتوثات للمغنيات والممثلات، وفي المقابل تغيب النساء الجادات العاملات المثقفات في بلادنا، ولا يبرزن بل يغيبن وهذه والله عين الخيانة التي يمارسها الإعلام في بلاد الحرمين .
الوسيلة الخامسة: إصدار القرارات الجائرة التي تؤصل وتطبع الاختلاط والفجور وإشاعة الفاحشة في المجتمع المسلم الطاهر النقي، فقد سبق وأن أقر الاختلاط في المستشفيات والمستوصفات وفي الاستقبال، فماذا كانت النتيجة ؟ لقد أزكمت أنوفنا رائحة الفساد في المستشفيات والمستوصفات، وخاصة الممرضات والله المستعان، هذا وهو مكان لعلاج المرضى وأبعد ما يكون عن التفكير في الفساد، فكيف بالأسواق وما صدر مؤخراً من قرار إلزام أصحاب المحلات لبيع الملابس الداخلية النسائية بتوظيف النساء في المحلات من غير أن يكن مستقلات في المحل، بعيدات عن الرجال، وهكذا لما توصد الأبواب أمام من يريدون التغريب في البلد يستخدمون سلطتهم، ولكن هيهات لقد نسوا أن الله فوقهم، وسوف يجعل كيدهم وتدبيرهم تدميراً عليهم بإذن الله .
تحدثنا عن الداء فما هو الدواء؟ ما هو الحل لمواجهة هذه الهجمة الشرسة الظالمة الحاقدة لتغريب المرأة المسلمة في بلاد الحرمين ؟
فنقول وبالله التوفيق ومنه الإعانة والتسديد:(5/447)
أولاً: أن يؤدي كل منا مسؤوليته أمام الله ، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، أيها الأب المبارك، والأخ الناصح، والابن البار: أنت مسؤول في بيتك، ووالله مهما عملوا لن يجبروك على تغيير برنامجك، علينا أن نهتم بتربية أبنائنا وبناتنا وغرس المبادئ والقيم، والتفنن في ذلك والتفرغ لهم، وعدم الانشغال عنهم، فهذا من أعظم الحقوق التي تجب علينا تجاههم، لا يكفي أن نعتني بالمأكل والملبس والمشرب والمركب ونوعية المدرسة التي يسجلون فيها، والمباهاة أمام الناس بأن أبنائنا وبناتنا أحسن من غيرهم في أمور الدنيا، ماذا يفيد كل هذا إذا مسخت عقولهم وفسدت أخلاقهم، وجلبت بنتك لك العار والشنار في أخر عمرك، لنستيقظ من غفلتنا، ولنبذل جهدنا مع بناتنا ونسائنا، فنجلب لهم الإعلام الآمن من قنوات محافظة تدل على الخير تأمر به، ومن مجلات نسائية فاضلة عفيفة، وأشرطة مرئية ومسموعة نقية طاهرة ، مع الاهتمام بالخلطة والصحبة، والتذكير بالله وغرس الإيمان بالله في نفوسهم، ومحبة رسوله ودينه، وكثرة الجلوس معهم قبل أن يتخطفهم شياطين الإنس والجن، ومن المسؤولين أيضا المعلمين والمعلمات، أنكم أهم فئة في المجتمع، فأنتم تصيغون عقول الجيل وتجلسون مع أبنائنا وبناتنا ما يزيد على ست ساعات يوميا، فماذا أنتم فاعلون ؟ فاتقين الله أيها المعلمات، وأدين ما أوجب الله عليكن من التربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أوساطكن .
ثانياً: واجب المسؤولين ومن بيده القرار أن يحمي البلاد من هذه الهجمة العاتية، لماذا هؤلاء يسرحون ويمرحون بلاحسيب ولا رقيب ؟ أين المحاسبة أين المعاقبة لهؤلاء وهم يغتالون العفة ويصدرون القرارات تلو القرارات ؟ ويخالفون نظام الحكم الذي قام عليه البلد من تحكيم للشريعة، فاللوم بالدرجة الأولى على كل مسؤول في هذا البلد، وسوف يسألكم الله عن ذلك، وسوف نقف أمام الحكم العدل الديان في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم، فأعدوا للسؤال جوابا وللجواب صواباً.
ثالثاً: يجب على العلماء وطلاب العلم والدعاة الصدع بالحق، وأن يقوموا بالواجب الذي عليهم، ولا يجاملوا ولا يكتموا الحق ويعلنوا به، ولا يكون سرا في المجالس، بل يقال للناس هذا حق وهذا باطل: (( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً )) ( الأحزاب39 ).
والناس سوف يصدرون عن رأيكم إذا أحسنتم مخاطبتهم، وحل مشكلاتهم وهمومهم، وعليكم أن تكونوا حاضرين عبر وسائل الإعلام كي يصل صوتكم إلى أكبر شريحة في المجتمع، فأنتم أصحاب الحق، وأنتم تخاطبون الفطرة وما يوافقهم، وأعداؤكم دخلاء غرباء في أفكارهم عن هذا البلد، ولا يخيفنكم العدو ولو وصموكم بالإرهاب والتطرف، وصدق الله إذ يقول: (( وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً )) (لإسراء81).
رابعاً: إعلاء شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعله أمراً مألوفاً في مجتمعنا ودعم كل من يناصح ويأمر، وعدم الوقوف بجانب أهل الباطل ضدهم فهم صمام الأمان وحماة الأعراض، وأن نذب عنهم في المجالس وفي وسائل الإعلام بكل ما أوتينا من قوة .
خامساً: الاهتمام بمحاضن الفضيلة والعفة وتكثيرها، والعناية بها وتطويرها، ودلالة الناس عليها، وترويجها إعلامياً، ودعمها مالياً ومعنوياً، والمشاركة فيها بكل ما نستطيع، وعلى رأسها مدارس تحفيظ القرآن النسائية والمراكز الاجتماعية، والمنابر الإعلامية النسائية كالمجلات والمواقع النسائية المحافظة، لأن هذه المحاضن هي التي تبني وتقف أمام هجمة التغريب هذه، فهي أولى بالعناية .
سادساً: المطالبة بعزل أي مسؤول يكون بوابة وداعماً لتغريب نسائنا، فهذا حق مشروع لنا، فنحن متضررون من هؤلاء أشد الضرر، فديننا وأعراض نسائنا أغلى ما لدينا، ولا بد من رفع الخطابات للمسؤولين والاستنكار لكل من يعمل لتغريب نسائنا وبناتنا، ولا تقل أن بيتي محافظ، فالخطر سوف يدهمك، والمجتمع لحمة واحدة، وما يحدث لجارك سوف يأتيك، وما تشاهده في الإعلام سوف يدخل بيتك، والله المستعان!! ولا بد أن نكون إيجابيين وننزع جلباب الخوف، فأبواب المسؤولين مفتوحة، وصدورهم تتسع لشكواكم ومعاناتكم والله المستعان.
============(5/448)
(5/449)
تحذير حول عمل المرأة في المحلات التجارية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
فقد كثر الحديث في هذه الأيام عن عمل المرأة في المحلات التجارية وذلك بسبب ما صدر من قرار بهذا الشأن يُلزم التجار في المستلزمات النسائية الخاصة بتوظيف النساء في محلاتهم ولم يُعتبر في هذا القرار كَون هذه المحلات التي تعمل فيها النساء في أسواق نسائية خاصة لا يدخلها إلا النساء ومن المشهور أن وراء هذا القرار بعض المتهمين في دينهم من ذوي النفوذ .
وفي هذا القرار عدة أمور محرمة :
1 ـ ظلم التجار بإلزامهم ما لا يجب عليهم شرعاً وتعريضهم للخسارة في تجارتهم .
2 ـ ظلم العاملين لديهم بتسريحهم من غير موجب شرعي ولاسيما من لم تنته عقودهم .
3 ـ فتح باب من أبواب فتنة النساء رغم أن هذا القرار مبني على دعوى المحافظة على المرأة والواقع أنه على العكس فإنه يترتب على توظيف النساء في هذه المحلات عدة محاذير منها :
أ ـ حدوث علاقة غير مأمونة بين الموظفة أو الموظفات وصاحب المحل .
ب ـ أن وجود هذه المحلات النسائية في أسواق الرجال يؤدي إلى دخول الرجال عليهن لأن المحافظة غير متوفرة في كثير من الناس وكذلك الرقابة .
ج ـ أن هذه الموظفات تتعرض لخطر الاعتداء عليهن في أوقات خلو الأسواق كما في أول الصباح وآخر دوام المساء .
4 ـ أن هذا القرار خطوة أولى لتوظيف النساء في سائر المحلات مما يؤدي إلى تغيير صورة هذا المجتمع المحافظ بتفاقم فتنة المرأة وشيوع الفاحشة ويؤدي إلى المزيد من بطالة الرجال .
وبهذا يتبين أن هذا القرار من جهود أصحاب التغريب في هذه البلاد - حرسها الله - من كل من يريدها بسوء .
وبناء على ما تقدم فإننا نحذر عموم المسلمين أن يحملهم الطمع في كسب المال على التفريط في أمانتهم التي ولاهم الله عليها واسترعاهم إياها فإنهم مسئولون كما قا صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) .
فاحموا أيها المسلمون بناتكم وأخواتكم وزوجاتكم من كل ما يدنس كرامتهن واحذروا أن تستجيبوا أو تُخدعوا بما يزخرفه أدعياء حقوق المرأة وهم الجناة عليها على الحقيقة رد الله كيدهم في نحورهم والله من ورائهم محيط وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
============(5/450)
(5/451)
بين الإصلاح والإفساد
الحمد لله ؛ أمر بالإصلاح، وامتدح المصلحين، ونهى عن الفساد، وذم المفسدين ، نحمده على ما منَّ به علينا من دين الإسلام، وبعثة خير الأنام، عليه الصلاة والسلام، ونشكره على تمام الدين، وكمال الشريعة، وأشهد ألا إله الله وحده لا شريك له ؛ خلق عباده فكلفهم ، وبدينه وشريعته ابتلاهم، وهو أعلم بما يصلح لهم ويصلحهم ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله؛ حذر أمته من دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ، ووصفهم بأنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ؛ أتقى هذه الأمة ، وأسرعهم امتثالا لتعاليم الملة ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين0
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وكونوا صالحين مصلحين (ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون )0
أيها الناس: الصلاح غير الفساد، والإفساد مناقض للإصلاح ومعايير الفساد والإفساد، والصلاح والإصلاح، ومفهوم ذلك ومعناه وحقيقته تختلف باختلاف الديانات والمبادئ والأفكار التي يحتكم الناس إليها، ويصدرون عنها، فما تراه أمة من الأمم صلاحا وإصلاحا، قد يراه غيرها فساداً وإفسادا، لاختلاف الديانة التي يدينون بها، والشريعة التي ينتهون عندها، والفكرة التي يعظمونها0
وفي السنوات الأخيرة دعا كثير من الكتاب والمفكرين، والسياسيين والصحفيين في الدول الإسلامية إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكل داعية منهم يصدر في دعوته تلك عن أفكار يعتقدها، ومناهج يعتنقها، ربانية كانت أم بشرية، ويرى أن الفساد فيما يخالف دعوته، وأن من يعارضها فهو المفسد، ومع كثرة الاختلاف، وغزارة ما يلقى على الناس في شأن الإصلاح أضحى أكثر الناس في حيرة من أمرهم، لا يعلمون المفسد من المصلح، ولا يميزون الصادق من الكاذب في دعواه، وقضايا المرأة أنموذج حيٌّ لهذا التجاذب والاختلاف، فأقوام يدعون إلى تحرير المرأة من كل القيود، ومساواتها بالرجال من كل وجه، مدعين أن ذلك سبيل صلاح الأمة المسلمة، وطريق انتشالها من تخلفها وجهلها، وآخرون يرون أن هذه الأطروحات لا تريد الخير بالأمة، وإنما تغرقها في مستنقعات الإثم والفساد، وتجردها من أقوى سلاح يمتلكه المسلمون أمام الغرب، وهو الأسرة السوية في مقابل الأسرة الغربية المفككة0
والذي يجب أن يعلم، وأن يُسلِّم به كل مسلم يدين بالإسلام: أن الصلاح والإصلاح هو فيما جاء عن الله تعالى، وبلغته رسله عليهم السلام، وأن الفساد والإفساد هو ما عارض ذلك أيَّاً كان مصدره، ومهما كان وزن قائله، فشريعة الله تعالى فوق كل أحد؛ إذ إن الله تعالى هو خالق الخلق، ومدبر الكون، وإليه يرجع الأمر، وكل العقلاء يتفقون على أن صانع الصنعة أعلم بها من غيره، والله سبحانه أعلم بخلقه من كل أحد (( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) (الملك:14).
وهو أدرى بأحوال عباده، ((وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)) (البقرة:220).
إن الصلاح والإصلاح هو فيما جاءت به الرسل عن الله تعالى، فالرسل عليهم السلام وأتباعهم هم المصلحون، ويدعون إلى الصلاح، ويحاربون الفساد؛ ولذلك قال شعيب عليه السلام في دعوته لقومه: ((وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا )) (الأعراف:56).
وأخبرهم أنه لا ينهاهم عن الفساد ويأتيه بل يجانبه صلاحا وإصلاحا، ((وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ)) (هود:88).
وأعداء الأنبياء عليهم السلام، المستكبرون عن اتباعهم، المعارضون لدعوتهم من الكفار والمنافقين، هم الفاسدون المفسدون؛ إذ أخبر الله تعالى عن كبار ثمود الذين كذبوا صالحا عليه السلام بأنهم: ((يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ )) (النمل:48).
وأوصى موسى أخاه هارون عليهما السلام بالإصلاح لمَّا استخلفه على قومه: ((وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)) (الأعراف:142).
ولكن أعداء الرسل عليهم السلام من الكفار والمنافقين لا يُقِرُّون بأنهم فاسدون مفسدون، بل يزعمون أنهم صالحون مصلحون، ويرمون الأنبياء وأتباعهم بالفساد والإفساد، كما فعل وزراء فرعون؛ إذ قالوا له: ((أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ )) (الأعراف:127).
وإخوانهم في هذا العصر يخاطبون الملوك والساسة في الدول الإسلامية قائلين لهم بلسان الحال أو المقال: أتذرون هؤلاء العلماء والدعاة ليفسدوا الناس، ويعرضوا المشاريع التغريبية في المرأة والأسرة التي كلها صلاح، وتقدم إلى شريعة قديمة لا تناسب هذا العصر0(5/452)
وأَعْرَضُ دعوى الفرعون الأول في البشر سوَّغ معارضته لموسى عليه السلام، ومحاربته إياه، والتنكيل بأتباعه والسعي لقتله، بالخوف على الناس من فساده، ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)) (غافر:26).
وما نفعت فرعون دعواه العريضة إذ حكم الله تعالى عليه بالفساد، فقال سبحانه فيه: ((إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)) (القصص:4).
وفي سورة أخرى ((وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ )) (الفجر:12،11،10).
وهكذا المنافقون يدَّعون الإصلاح لكن الله تعالى حكم عليهم بالإفساد ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ )) (البقرة:12،11).
فليس مصلحا كلُ من ادعى الإصلاح، وليس مفسدا كلُ من رُمي بالفساد، بل يعرض ذلك على الكتاب والسنة حتى ينجلي الأمر، ويبين الحق للمؤمنين، وأما المستكبرون من الكفار والمنافقين فإنهم لا يرضون عن الحق مهما بسط لهم من الأدلة والبراهين، ((وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ)) (يونس:101).
وفي الآية الأخرى ((وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا)) (الأنعام:25).
ومن قبل قال فرعون وملأه لموسى عليه السلام: ((وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ )) (الأعراف:132).
فما يعنينا في هذا المقام هو بسط الحق بأدلته لأهل الإيمان واليقين، وإلا فالمستكبرون لن يصدقوا مهما قيل لهم، والقضية المتنازع عليها في هذه الأيام هي توسيع عمل المرأة في المحلات التجارية بزعم القضاء على البطالة تارة، وتارة أخرى بزعم المحافظة على خصوصية النساء في شراء ملابسهن، وتعالوا لنعرض هذا المشروع الإصلاحي الإنقاذي على ما جاء في الكتاب والسنة لنرى، هل هو إصلاح كما يروج لذلك أصحابه أم أنه ضرب من ضروب الفساد في الأرض؟!
لقد قررت شريعة الله تعالى أن الضرب في الأرض، والصفق في الأسواق، والإنفاق على الأسرة هو من خصائص الرجال، وبه خوطبوا في نصوص الشريعة، ((وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ)) (المزمل:20).
((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)) (النساء:34).
((لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ)) (الطلاق:7) .
وقال النبي- عليه الصلاة والسلام-: (( ولستَ تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في فَّي امرأتك )) رواه الشيخان0 ولم يأت في هذا الشأن خطاب واحد للنساء، بل أُمر النساء بالقرار في البيوت، ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)) (الأحزاب:33).
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، وروى ابن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (( المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون من ربها إذا هي في قعر بيتها)) رواه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
وفي حديث آخر قال- عليه الصلاة والسلام-: (( ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على الرجال من النساء)) رواه الشيخان.
وروى محمد بن سيرين- رحمه الله تعالى- فقال: نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك ؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله تعالى أن أَقرَّ في بيتي، فو الله لا أخرج من بيتي حتى أموت. قال ابن سيرين: فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى أُخرجت جنازتها.
فالأصل أن الرجل ينفق على أهله، والأصل أن المرأة مكفولة من قبل ذويها منذ ولادتها إلى أن تموت، فإن قصروا أُخذ لها حقها بالقضاء ، فإن لم يكن لها قريب فالإمام وليها، وجماعة المسلمين يقومون على حاجاتها، وإن عملت لكفاف نفسها فذلك استثناء وليس أصلا، ويكون بشروط تحقق المصلحة لها، وتدرأ الفتنة بها، ولكن هذا الأصل المقرر في الشريعة قد قُلب في هذا الزمن رأساً على عقب بسبب سيطرة المذاهب الغربية الإلحادية على أكثر البشر، وصار الأصل وهو قرار المرأة في بيتها استثناء، وأضحى الاستثناء وهو خروجها للعمل أصلا0
وانقلاب الموازين لا يضفي الشرعية على الباطل، ولا يقلبه إلى حق، ولا يجعل الفساد إصلاحا؛ لأن الشريعة دائمة باقية حاكمة بين الناس، فالواجب تعديل الموازين، ورد الحق إلى نصابه، ومن الإفساد تسويغ هذا الباطل بالمسوغات السامجة، وتعليله بالتعليلات الباردة0(5/453)
ثم رأينا هذا المشروع المنقذ للنساء من البطالة قد تُعمَّد فيه الاختلاط بين البائع والبائعة، تنظر إليه وينظر إليها، وتخاطبه ويخاطبها، وربما مازحته ومازحها، فمائة ألف وظيفة وقد تزيد تنتظر نساء المجتمع في جو من الاختلاط البريء، كما يقوله من اخترعوا البراءة في اجتماع رجل بامرأة، معارضين شريعة الله تعالى، التي يخبر عنها المبلغ عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: (( إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال:الحمو الموت )) .
فإذا كان الشارع الحكيم يحذر من قريب الزوج وهو يغار على عرض قريبه، فأيُّ براءة في اجتماع رجل بامرأة لا رابط بينهما إلا العمل0
ثم هو سيخلو بها حتماً في الأوقات الميتة التي لا بيع فيها وهي غالب الأوقات، وأيام الجرد السنوي حيث تغلق المحلات، وتحسب البضائع، بل قد تصحبه في دورة لتطوير الأداء الوظيفي، وتعلم المزيد من فنون التسويق، وتضطر للسفر بلا محرم إلا زميلها الذي أصبح محرمها بجامع العمل والزمالة، وهذا يقع كثيراً في البنوك والشركات الكبرى، فكيف سيصير الحال لو وسع ذلك بهذا المشروع الآثم، والشارع الحكيم يقول لنا: (( لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله ، امرأتي خرجت حاجَّة، واكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال: ارجع فحج مع امرأتك)) رواه الشيخان0
فرده النبي- صلى الله عليه وسلم - عن الجهاد وهو أفضل الأعمال ليكون رفيقاً لامرأته في سفرها، وليس سفرها سفر ريبة أو تجارة أو عمل، بل هو أشرف سفر لامرأة ؛ إذ هو سفر حجها الذي هو من أعظم العبادات، فحالها وحال من معها أبعدُ ما يكون عن الريبة والفساد لأنهم في عبادة، ومع ذلك لا بدَّ من المحرم في شريعة الله تعالى، فكيف بمكان موبوء تحيط به شياطين الجن والإنس، وشر البلاد إلى الله أسواقها0
وقد يستلزم العمل أن تتحلى البائعة بكامل زينتها حتى تكون دعاية للمتجر، ولتجذب الزبائن إليه، فيُسوَّق التاجر بضاعته بأجساد بنات الناس، وهذا واقع في البلدان التي سبقت في هذا المجال، ومن يسافرون ويتاجرون يعرفون ذلك تمام المعرفة، وكم يعلن في صحفهم عن وظائف لبائعات يشترط فيهن من الصورة والهيئة أكثر مما يشترط في الشهادة والخبرة، ونعيذ بالله العظيم بناتنا وبنات المسلمين أن يكون هذا حالهن0
وإذا كان زميلها ذئباً أغبر، يجيد التلاعب بالعواطف ، ويعرف نقاط الضعف في المرأة كال لها من المديح والثناء ما يصطادها به، فيفترس عفافها، ولا خير في وظيفة تلك نهايتها، ولا عزاء لمجتمع يرضى لبناته أن يتأكلن بأجسادهن0
وجماعة المسلمين من حكام ومحكومين ليسوا مسؤولين أمام الله تعالى عن توفير الوظائف للنساء، وإنما هم مسؤولون عن رعايتهن، والإنفاق عليهن وهن قارات في بيوتهن، كل ولي بوليته، ومن لا ولي لها فواليها الإمام أو نائبه0
هذا هو حكم الشريعة في الرجال والنساء، وتلك هي مفاسد بعض هذا القرار، الذي بان لكل ذي بصيرة أنه معارض لشرع الله تعالى، وما عارض الشريعة فهو إفساد لا إصلاح، وإن سماه أصحابه إصلاحا، إما عن جهل بسبب ما يعانونه من الأمية والتخلف في فهم أحكام الإسلام، وإما عن هوى بسبب أنهم مؤد لجون بأفكار منحرفة، ومسيسون لتحقيق أهداف الأعداء من يهود ونصارى، نسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية والرشاد، والتزام الشريعة الغراء، كما نسأله سبحانه أن يكبت كل مفسد ومفسدة، وأن ينصر كل مصلح ومصلحة، إنه سميع قريب مجيب، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين0
أما بعد : فاتقوا الله - عباد الله - وراقبوه ، والزموا طاعته ولا تعصوه ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)) (النور:52).
أيها المسلمون: تنطلق هذه المشاريع التخريبية في بلاد المسلمين من أفكار تغريبية لا تمت لهذه الأمة بصلة، بل هي نتاج موجات الإلحاد والفساد التي اجتاحت بلاد الغرب فأفسدت نساءهم، وحطمت أسرهم، وفرقت مجتمعاتهم، ويستميت المفسدون من الكفار والمنافقين والشهوانيين في تصدير هذا الفساد إلى بلاد المسلمين بالرضا أو بالقوة، تحت دعاوى الإصلاح في دول العالم الثالث، مع أن الغرب لا زال يعاني من آثار هذا الإفساد، ومجتمعاته مهددة بالانقراض، وتعاني من كثرة الشيوخ، وقلة الشباب والأطفال.
وأجدني في هذا المقام مضطراً لنقل بعض المقولات لمفكرين غربيين يبرزون حجم الفساد الناجم عن إخراج المرأة من منزلها وإقحامها في ميادين الرجال، من باب ( وشهد شاهد من أهلها )، وإلا فالمسلم مستسلم لأمر ربه، تكفيه نصوص الكتاب والسنة قائداً وإماما.(5/454)
تقول كاتبة إنجليزية: إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا.
وتقول باحثة أخرى: إن الاعتداءات الجنسية بأشكالها المختلفة منتشرة انتشاراً سريعاً في أمريكا وأوربا، وهي القاعدة وليست الاستثناء بالنسبة للمرأة العاملة في أي نوع من الأعمال تمارسه مع الرجال.
ونشرت مجلة نيوزويك الأمريكية تحقيقا بعنوان: سوء استخدام الجنس في المكاتب قالت فيه: إن مضايقة الرئيس لمرؤوسيه أمر قد خرج عن دورة المياه، أي خرج عن السرية وصار علنا.
ومن قالوا هذا الكلام قد عاشوا في مجتمعاتهم، ووقفوا على مشكلاتها، وخبروا عللها، وليسوا أميين في حضارتهم بل مثقفون ومفكرون، وليسوا كذلك مؤد لجين ومسيسين لصالح المسلمين، بل يحكون أمراض مجتمعاتهم.
إن أي مشروع يسعى لجعل خروج المرأة من منزلها هو الأصل، وقرارها فيه هو الاستثناء، فهو مشروع معارض لصريح القرآن والسنة، ومخالف لما كان عليه سلف الأمة ، فكيف إذا انضم إلى ذلك جملة من المفاسد الكبرى، كالاختلاط والتبرج والسفور، والخلوة والسفر بلا محرم، ولا يدعي مدع أنه يمكن الحد من هذه المفاسد بشروط وضوابط ؛ فإن التجارب السابقة أثبتت أن هذه الضوابط تتبخر مع الزمن كما يتبخر الماء الراكد، وانظروا كم في سياسة الإعلام بصحفه ومجلاته، وشاشاته وإذاعاته من شروط وضوابط تكتب بماء الذهب، فهل طبقت أم لا ؟! والأبواب إذا فتحت قليلا أمكن إشراعها على مصاريعها، بل أمكن خلعها، ولا تخلع الأبواب إذا كانت موصدة، فإياكم يا عباد الله أن يخدعكم مصدرو الرذيلة، وناشرو الفساد، بتلبيس الكلام، ولحن القول، والواجب على كل مسلم أن ينكر هذا المنكر العظيم الذي يطل بشره وفساده على المجتمع، ويكون إنكاره بالطرق المأذون بها شرعاً، التي لا تسبب إثما أكبر، ولا تحدث فتنة أعظم، والمسؤولية الكبرى، والأمانة العظمى تثقل كاهل كبار القوم من الأمراء والعلماء والمسؤولين، أن يقفوا أمام موجات الإفساد هذه، وإلا تحملوا وزر المجتمع كله، وبماذا سيقابلون ربهم إذا سئلوا عن ذلك في يوم لا تغني عنهم مناصبهم من الله تعالى شيئا، وواجب على من أعطاه الله تعالى جاها، وكلمته لها وقعها أن يبادر بالإنكار؛ براءة للذمة، وانتصارا للملة، وحفاظاً على بنات المسلمين ومجتمعهم من الرذائل، وعلى صاحب كل قلم وبيان من الرجال والنساء أن ينكروا ذلك أشد الإنكار، ويبينوا للناس مفاسد مثل هذا القرار.
ونعيذ بالله تعالى كل مؤمن ومؤمنة أن يكونوا عوناً لأهل الباطل على باطلهم بالاعتذار للباطل وتسويغه، أو الدعاية له وترويجه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) (هود:117).
جعلنا الله تعالى هادين مهديين، صالحين مصلحين، ومنَّ على ولاة أمرنا بالصلاح والرشاد، ودلهم على ما فيه صلاح البلاد والعباد، وجنبهم طرق أهل الضلال والإفساد، آمين يا رب العالمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
=============(5/455)
(5/456)
لا للسكرتيرة.. نعم للمعلمة والطبيبة
الأصل أن تقر المرأة في بيتها وألا تخرج إلا لحاجة، هذا ما أراده الله تعالى للمرأة ، ونحن نؤمن بأن الله أحكم الحاكمين، والله أعلم بما يصلح حالها، ويناسب شأنها؛ لأنه خالقها وفاطرها قال تعالى: ((هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ)) ( النجم: 32) .
ولذا أمرها بالقرار، وعدم الخروج فقال تعالى: (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى )) ( الأحزاب: 33).
قال القرطبي: ( في هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء صلى الله عليه وسلم فقد دخل فيه غيرهن بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، فكيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة ).
ودعاة تحرير المرأة يخالفون هذه السنن الربانية بالمطالبة بخروجها من بيتها، لتمارس مهناً مبتذلة، كأن تكون سكرتيرة للرجال في الشركات والمؤسسات - وكأن الرجال - قد انقرضوا من الأرض ولم يبق إلا النساء.. ولا يعني ذلك أننا نحتقر المرأة لكننا نرفض أن تهان المرأة بمثل هذه الأعمال.
إننا نقول بملء أفواهنا :
لا.. أن تكون المرأة سكرتيرة للرجال، فكم من حوادث الزنا والتحرش الجنسي قد وقعت.. حتى أدرك الكفار هذا وعملوا الدراسات والإجراءات لمعالجته بلا فائدة واضحة، لأن الأصل فاسد وهو السماح بالاختلاط بين الجنسين، وحوادث طلاق المدراء والرجال من زوجاتهم لأجل علاقاتهم بسكرتيراتهم مشهورة جداً، وحوادث الزنا داخل المكاتب مشهورة في أماكن الاختلاط، بل إن السكرتيرة تُتخذ في بعض الشركات وسيلة ترفية للمدير والمسؤول ونحوهما، نسأل الله العافية .
ونعم ..لأن تكون المرأة معلمة في جو نسائي محافظ.. تعلم بنات جنسها العلم والإيمان وما تحتاجه بلادها من علوم دنيوية مناسبة لفطرة المرأة وتكوينها.
ونعم .. لأن تكون المرأة طبيبة تُطبب بنات جنسها، وتداوي المريضات، وتعالج المحتاجات في جو آمن بعيداً كل البعد عن الاختلاط في الدراسة والعمل؛ رافضة معالجة الرجال والاختلاط بهم.
فيا ولاة الأمر.. امنعوا أولئك الرجال الذين يستغلون حاجة المرأة ليوظفوها سكرتيرة - والله أعلم بما يريدون.
يا ولاة الأمر - صونوا نساء هذا البلد من الابتذال في مهن لا تليق بهن كالبائعة والسكرتيرة ونحوها.
يا ولاة الأمر.. احفظوا نساء هذا البلد كي لا تستغل حاجاتهن في قضايا لا أخلاقية.
إنها مسؤولية الجميع للوقوف أمام تيار التغريب.. الذي يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، والله لا يصلح عمل المفسدين.
===========(5/457)
(5/458)
إعصار فيه غبار
لقد جاءكم إعصار فيه غبار ، فما يؤمنكم أن يكون الإعصار القادم إعصارا فيه نار
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
ففي هذا الفصل الربيع بينما كان الناس في النهار والأجواء صافية والهواء معتدل والشمس ساطعة إذ أتت من الشمال ريح وإعصار كالجبال . في مشهد يهز القلوب لو كانت حية ويحرك المشاعر لو كانت صادقة ، وفي لحظات تغير وجه الحياة ، ظلمة أشد من ظلمة الليل إذا أخرج أحدهم يده لم يكد يراها ، وريح ترك كل شيء وتدمر ما أمر الله أن يدمر ، وتوقفت الحياة ولزم الناس السيارات والبيوت ، وامتلأت المستشفيات بالمرضى والمتضررين . أهذا فصل الربيع ؟!!
كان حداء الشعراء .
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا *** من الحسن حتى أن يتبسما
هكذا كان حداء الشعراء حينما كان فصل الربيع يعني جمال الأجواء واعتدال الهواء حينما كانت الأرض تأخذ زخرفها وتتزين وتنبت من كل زوج بيهج حينما كانت الرياح تثير سحابا فيبسطه الله في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فتى الودق يخرج من خلاله وذلك حينما كانت القلوب مخبتة والعيون من خشية الله دامعة والصدور سليمة والحياة مترعة بالإيمان والتقوى ...
بيوت الله معمورة بالمصلين وكتاب الله لا يفتقد التالين ، والناس إلى طاعة ربهم يتسابقون ومن الإيمان والتقوى تفتح البركات ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)) [الأعراف : 96]
أما فصل الربيع في أيامنا فعنوانه :
أتاك الربيع الحزن يرتاع باكيا** من القحط حتى كان أن يتجهما
فصل الربيع لم يعد ربيعا ، وإنما رياح وغبار وقحط في الأمطار وجدب في الديار
فصل الربيع أصبح سحابا متراكبا ، ينحسر عن ظلمة وإعصار يخلف دمارا وأضرارا في الأنفس والثمرات
هذه الرياح التي كانت بشير خير للناس تسوق السحاب وينزل من السماء ماء فيحيي به الله بلدة ميتا ويسقيه مما خلق أنعما وأناسي كثيرا هذه الريح التي تحمل الخير للعباد تصبح سوط عذاب على المتمردين والعصاة ذلك لأن الله عز وجل هو الذي يسيرها كيف يشاء ويسخرها لمن يشاء فهي للطائعين رحمة وخير وبركة وهي على الطغاة المتكبرين نقمة وشر وهلاك .
الرياح عقوبة سلطها الله على عاد الأولى الذين استكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد قوة ، والذين وصفوا الرسل والدعاة والمصلحين بالسفاهة والكذب كما يوصفون اليوم بالتطرف والإرهاب والجمود، وسلطها على عاد الثانية أمريكا ومن ينسى إعصار كاترينا
وهي عقاب أرسله الله يوم الأحزاب على قريش وأعوانها إذ أرسل الله عليهم ريحا وجنودا وكفى الله المؤمنين القتال
وهي عقوبة من الله تنتظر كل من يفعل فعالهم ويحاكي ضلالهم
وهي عقاب من الله لكل من يتعدى حدود الله وينتهك حرماته ((وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [البقرة : 229].
لقد رأينا آية من آيات الله ، ودلالة على عظمت وقدرته وما يعلم جنود ربك إلا هو
لقد رأينا مشهدا يهز القلوب الواعية ، ويجري مدامع العيون الخاشعة فبأي حال عايشنا المشهد وبأي مشاعر مررنا أمام هذه الآية
إن المؤمن حقا هو من تحدث عنده هذه الآيات والعبر شعورا بتعظيم الخالق والخوف والحياء منه وإجلاله
المؤمن حقا هو من قال الله فيه ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) [الأنفال : 2].
هو من وصفه ابن الجوزي بقوله: همة المؤمن متعلقة بالآخرة فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة... و المؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر وإن رأى مؤلما ذكر العقاب و إن سمع صوتا فظيعا ذكر نفخة الصور وإن رأى الناس نياما ذكر الموتى في القبور و إن رأى لذة ذكر الجنة فهمته متعلقة بما ثَم و ذلك يشغله عن كل مأثم.
فهل كانت مشاعرنا كذلك ونحن نرى شيئا من قدرة الباري جل جلاله أم أن على قلوب أقفالها لقد رأى الناس ظلمة لا يدرون ما وراءها ، أهو عارض ممطرهم، أم ريح فيها عذاب أليم ، فهل انشغلوا بالذكر والاستغفار والدعاء والبكاء، الواقع يقول: كلا ، إلا من رحم الله.
لم ينشغلوا بالتسبيح والتكبير وإنما اشغلوا بالتصوير وكأنما يصورون منظرا خلابا
وكهنة الفلك يصورون الأمر بالظاهر الطبيعية ودون ربطها بالقدرة الإلهية والسنة الكونية والشرعية
وفي غمرة الظلمة تسمع من سيارات بعض الشباب أصوات المعازف والغناء، والنساء في الأسواق على تبرجهن وسفورهم . تلك قلوب غطاها الران فأصبحت بلا بصيرة لا تحس بذنب ولا عقوبة
إن أهم أسباب عدم الإحساس بالذنب هو ألفة المنكر لكثرة اقترافه ، وقد قال الحسن الزيات ، والله لا أبالي بكثرة المنكرات والبدع وإنما أخاف من تأنيس القلب بها ؛ لأن الأشياء إذا توالت مباشرتا أنست بها القلوب ، وإذا أنست النفوس بشيء قل أن تتأثر به.(5/459)
وأخطر من ألفة المنكر هو إلفة العقوبة حتى يصل إلى درجة عدم الإحساس بأن الحال الذي هو فيه عقوبة لذنب قد اقترفه وقد قال ابن الجوزي اعلم إن من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب ، فإن العقوبة تتأخر ، ومن أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها وأن تكون في سلب الدين وطمس القلوب وسوء الاختيار للنفس ، فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض
لقد كان أسلافنا أصحاب قلوب يقظة تشعر بالذنب وسببه حتى يصل الإحساس بأحدهم أن يتذكر ذنبا منذ أربعين سنة ما زال يحس بأثره. قال ابن سيرين : إني لأعرف الذنب الذي حمل به علي الدين ما هو، قلت لرجل منذ أربعين سنة يا مفلس.
هكذا كانوا يحسون بالذنب ، بربطه بالبلاء الذي يصيبهم روى ابن الجوزي عن بعض السلف أن رجلا شتمه فوضع خده على الأرض وقال اللهم اغفر لي الذنب الذي سلطت هذا به علي
وحتى إذا لم يوفقوا لطاعة ربطوا ذلك بذنب ربما اقترفوه، دخلوا على كزر بن وبرة بيته فإذا هو يبكي فقيل له: ما يبكيك قال: إن بابي لمغلق وإن ستري لمسبل ومنعت حزبي أن أقرأه البارحة وما هو إلا من ذنبي أذنبته .
دعك من أولئك الذين يصنفون هذه المصائب والآيات كظواهر طبيعية لا دخل لذنوب البشر فيها ، فالحق أن كل ما يصيب الإنسان على الأرض من مصائب وبلايا من وخزة الشوكة واختلاج العرق إلى الزلازل المدمرة والرياح العاتية هو بسبب ما نجترحه من سيئات، إذ تأتي كسنة من سنن الله في خلقه إلى يوم القيامة ، وعقاب فوري على ما نعامل به ربنا الذي أمرنا وأوجدنا ، وبسبب ما زرعته أيدينا من آثام إن هذه الكوارث والمحن جنود لله يعاقب بها من يشاء من عباده ((وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )) [المدّثر : 31] .
وهي عذاب الله الأصغر ((وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ)) [السجدة : 21] .
ظلما للعباد ؟ لهوا ولعبا ؟ حاشا لله وتقدس بل ((لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) [السجدة : 21] .
إلى الله بالطاعة والإنابة.
فلماذا لا نوقن بأن تلك الآيات والنذر تخويف من الله لعباده لعلهم يرجعون ((وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً)) [الإسراء : 59].
ولماذا نستبعد غضب الله وعذابه وقد عذب أمما من قبلنا بما كسب أيديهم، وسنن الله لا تتغير ولا تحابي أحدا لماذا نأمن من عذاب الله , والبلاء إذا نزل فإنه لا يقتصر على الفسقة والمجرمين ((وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) [الأنفال : 25] .
وذلك لأنهم قصروا في واجب إنكار المنكر وتغييره ، وإذا رتع الناس في الحرام واستمرؤوا فعل المعصية ولم يوجد من ينكر عليهم ويوقظهم من غفلتهم وينتشلهم من المستنقع الآسن الذي سقطوا فيه فإن غضب الله يتنزل (( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78)كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) [المائدة : 78-79].
مالنا ألا يعذبنا الله وثوابتنا ومسلماتنا أصبحت حمى مستباحا يرتع فيه كل ساقط وساقطة وتكدره جرذان العلمنة وفئران التغريب
ومالنا ألا يعذبنا الله والمترفون في قريتنا فسقوا فيها بأفعالهم وأقوالهم وقراراتهم (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [الإسراء : 16].
ومالنا ألا يعذبنا الله ودعاة التغريب والفجور يدعون نساءنا إلى نار الانحلال والانحطاط وإلى جحيم التبرج والاختلاط عبر بوابة العمل وتحت شعار الحقوق المهضومة وكأن ربها ظالم لها حينما ناداها ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ )) [الأحزاب: 33]
ومالنا ألا يعذبنا الله ونساؤنا ينخدعن بالدعايات الكاذبة وينجرفن وراء الأبواق الخاسئة التي تتدثر بدثار الإصلاح وتلبس لبوس المصلحة والله يعلم إنهم لكاذبون ، وكلام ربنا أصدق ((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً)) [النساء : 27].
ومالنا ألا يعذبنا الله وقد هجرت المساجد فأكثر من ثلثي الناس لا يشهدون الفجر في المساجد ، وآخرون لا يركعون مع الراكعين
ومالنا ألا يعذبنا الله وقد استحل أناس الحرمات وخاضوا في المتشابهات وتساهلوا في التعامل بالربا ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ)) [البقرة : 278-279](5/460)
وما لنا ألا يعذبنا الله وقد ضعفت الهمم في إنكار المنكرات فقلما تجد منكرا ، وإن وجد فعلى خوف واستحياء ، وحتى رجال الحسبة لم يسلموا من أذى المجرمين ، وكذب الكتبة الكاذبين ، وسخرية المنافقين . عن حذيفة عن اليمان: عن صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) رواه الترمذي.
وفي الحديث الآخر (( إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة)) رواه احمد.
وإذا جاهر الناس بالمعصية وكثرت الخبائث فإن ذلك إيذانا بقرب الخراب وحلول العذاب ، وتلك سنة الله ((أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)) رواه البخاري.
لأقول هذا تيئيسا ولا إرجافا ولا تهويلا ، وإنما تذكيرا وتحذيرا ، تذكيرا لسنن الله وتحذيرا من الأمن من مكر الله , إن المسلمين اليوم مطالبون بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يكون بينهم التناصح والتواصي بالحق وأن لا يتركوا سفينة المجتمع لعبث العابثين وتصرفات المنحرفين ، ولا يقولن قائل اتسع الخرق على الراقع، فإن في الأمة خيرا كثيرا والفساد مهما اعتز أهل وانتفشوا فإن سعيهم في تباب وإن الله لا يصلح عمل المفسدين ، فإن قال قائل : لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا فقولوا معذرة إلى ربكم ولعلهم ينتهون
وإن تبعات تغيير المنكر ثقيلة وتكاليف مناهضة الباطل باهظة وتتطلب جهدا وجهادا وصبرا ومصابرة والعاقبة للمتقين.
هذا لكي نأمن عذاب الله ونتقي عقوباته وبطشه وإن عقابه أليم وبطشه شديد (( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)) [الأعراف : 165] .
ولا تغتروا يا مسلمون بتوالي النعم وانفتاح البركات والخيرات واستمعوا إلى قول أصدق القائلين (( وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) [الأنعام : 42-45].
لقد جاءنا من ربنا إعصار فيه غبار، فما يؤمننا أن يكون الإعصار القادم إعصارا فيه نار.
فعلينا أن نحذر أن نكون ممن إذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون وممن يخوفهم ربهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا
أللهم غفرانك ونعوذ بك من نيرانك ونسألك الهدى إلى رضوانك، آمين آمين .
============(5/461)
(5/462)
جلسة على الرصيف مع أصدقاء "أرلا"
عمدت صحيفة دنماركية للإساءة للرسول الكريم محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام، ولم تكن تدرك يومئذ خطورة هذا الفعل، ولم تكن تدرك مدى حب الرسول في قلوب أمته، وثارت ثائرة أمة محمد عليه الصلاة والسلام نصرة لنبيها، ولكن للأسف أمة المليار لا تملك قوة عالمية تعاقب الجاني بما يشفي غيظ القلوب، ويليق بحق الرسول، ولكن "لمة الملك" في قلب كل مؤمن ألهمت الأمة لانتفاضة شعبية سهلة التطبيق ولكن عظيمة الأثر: ألا وهي المقاطعة الشعبية للمنتجات الدنماركية، وتعاون الموردين والتجار -أصحاب المحلات- والمستهلكين جميعاً في هذا العمل الذي لا أشك أنه من باب التعاون على البر والتقوى، ولذلك لم تنتظر الأمة صدور فتوى شرعية بالمقاطعة من أية جهة، وإنما بدأتها من تلقاء نفسها لعظم الجريمة ووضوح شرعية المقاطعة، وعظم حب الرسول -عليه الصلاة والسلام- في قلوب أتباعه، وكان المؤمن يزداد إيماناً حين يرى الأرفف خالية من منتجات دنماركية، ويرى لافتة "كانت هنا منتجات دنماركية"، ويجد المؤمن بعض من تلك الحلاوة الإيمانية التي تحدثت عنها النصوص الشرعية، فيمن أعطى لله ومنع لله وأحب في الله وأبغض في الله، وعاشت الأمة حركة تجديدية للإيمان بجميع الفئات من أب وأم وطفل وعجوز، واتسمت مقاطعة الدنمارك بالسهولة البالغة لوجود البديل من المنتجات المحلية، وازداد المؤمنون فرحاً وإيماناً عندما رأى كل فرد أن مقاطعته آلمت شاتم رسوله وأوجعته في الصميم، وازدادت حدة المقاطعة مع ازدياد استكبار وعناد الحكومة الدنماركية، وتعاون الكفار معها.
لم تكن بين المستهلك المسلم وبين الشركة التي أنتجت "لورباك" و "بوك" و"البقرات الثلاث" و "دانو" أية عداوة شخصية، بل إن غالبية المستهلكين لم يكونوا يعرفوا اسم الشركة المنتجة "أرلا" إلا مؤخراً، وكان يكفيهم أن يتأكدوا من أنها منتجات دنماركية وحسب، وهذه طبيعة المجتمعات البشرية في حالة المقاطعات، فقد قاطعت قريش بنو هاشم بمسلمهم وكافرهم، واليوم نعتقد مقاطعة جميع منتجات إسرائيل وأنها عبادة ودين ندين الله بها، ومما اتفقت عليه الشعوب المتحاربة أن تعامل الأفراد معاملة الدولة المتحاربة معها.
ومع تخاذل حكومات الدول الإسلامية فإن المعركة في الحقيقة هي بين محبي الرسول من الأفراد وبين الحكومة الدنماركية، والسلاح الوحيد هو مقاطعة المنتجات الدنماركية، وحسب علمي فإن المنتجات الدنماركية المشهورة في الأسواق الإسلامية تنحصر في خمسة ماركات: لورباك، بوك، البقرات الثلاث، دانو، وسن توب، والأربعة الأول كلها تنتجها شركة "أرلا"، ومن الطبيعي جداً أن تلحق "أرلا" خسائر فادحة إذا امتنعت شريحة كبيرة من زبائنها الأثرياء من الاستهلاك، ومن الطبيعي جداً لعباد المال الرأسماليين أن يسلكوا جميع الشعاب لاستعطاف الزبائن الغاضبين.
لم أتألم كثيراً حين نادى التغريبيون من أبناء المسلمين لرفع المقاطعة، لأنهم ينادون من جملة ما ينادون به تحرير المرأة، وتغيير المناهج الدراسية، وإشاعة الفاحشة في المجتمع، ولكني تألمت كثيراً من ظلم ذوي القربى، تألمت من شخصيات إسلامية بارزة تصدر بياناً بوأد المقاطعة في مهدها! وتصدر بياناً باستثناء "أرلا" من القائمة السوداء، هل رأيتم باستثناء تشمل 90% من المجموع وتبقي 10% من ضمن القاعدة ؟! إن هذا البيان ينادي نداءً غير مباشر ويقول: اشتروا كل البضائع الدنماركية ما عدا "سن توب"، لأن المستهلك العادي في الدول الإسلامية لا يعرف إلا هذه الأصناف الخمسة المذكورة آنفاً.
كان من المفترض أن من يشتغل بالدعوة الإسلامية وطلب العلم أن لا يستخف به اللذين لا يوقنون، ولا ينخدع بوعود الغارق في اليم، لقد اطلعت على الموقع الرسمي لشركة أرلا والتي هي بوابتها العالمية، فإذا هي تتحدث عن هذه الوعود بصوت خفي، شأن المنافقين اللذين: ((وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)) (البقرة:14).
ولم تظهر "أرلا" -أمام المجتمع الأوروبي- أية استنكار للمساس بجناب المصطفي -عليه السلام- وإنما أبدت رغبتها لتمويل مشاريع "إنسانية" من رعاية المعوقين ومرضى السرطان، ورفع المجاعة في العالم الإسلامي، ومثل هذه المشاريع تقوم به منظمات أوروبية عديدة، وبهذه الطريقة استخفت "أرلا" بعقول الصالحين وكسبت أصدقاء جدد، ولم تفقد الأصدقاء القدامى.
ولكني على يقين من أن الأمة اليوم بلغت مرحلة من النضج لا تساوم على مكانة نبيها، ولا يستخف بها عباد المال وأصحاب المصالح، والأيام القادمة تمنح المؤمنين فرصة ثانية لذوق حلاوة الإيمان، عندما يرى المؤمن 90% من المنتجات الدنماركية قد عادت للأرفف ولكنه لا يلمسها، ويقترب تاريخ الانتهاء، ويعرض صاحب المحل تخفيضات "كبرى" ولكنه لا يلمسها كذلك.(5/463)
إن الحركة الشعبية لمقاطعة الدنمارك لم تبدأ ببيان ولن تنتهي ببيان، وإنما بدأت تلقائياً بالإساءة للرسول، ولن تنتهي إلا بإعمال الصارم المسلول على شاتم الرسول، وإن المناداة بمصادقة شركة دنماركية تنتج 90% من المنتجات لهو إعلان بوضع السلاح الوحيد أمام العدو العنيد. وأخيراً هذه آيات أهديها للدعاة الأفاضل اللذين استعجلوا بإصدار البيان وهم في المؤتمر العالمي لنصرة النبي عليه الصلاة والسلام.
(( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ )) (الأعراف: 170،169) .
=============(5/464)
(5/465)
حالة العرب قبل وبعد البعثة
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102).
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء:1).
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (الأحزاب:70،71).
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار، أما بعد:
أيَّها المسلمون:
من يطالعُ أخبارَ العرب، وأحوالَ الناسِ في الجزيرةِ العربيةِ، قبل أنْ تشرقَ شمسُ الرسالةِ المحمد، وتضيءَ المعمورةَ بنورِها الساطعِ الوهاج.
فسيظلُ يعجب! ويعجب ولا ينقضي عجبُه! وهو يرى أناساً تمزقُهم الحروبُ القبلية الطاحنة، وتشتتُهم الثاراتُ الدمويةُ القاتلة, ويسودُ حياتَهم منطقُ الغابِ بأبشعِ صوره، أناسٌ يعيشونَ بلا هوية، ويَحيونَ بلا قضية, تنزفُ الدماءُ في شوارعِهم وأسواقِهم لأتفهِ الأسبابِ وأسخفِها, وحسبُكَ أنْ تعلمْ أنَّ حرباً ضروساً قد نَشِبتْ بين بكرٍ وتَغْلَبْ, ودامتْ أربعينَ سنة, إنَّها حربُ البسوس، أي واللهِ أربعينَ سنة، مخلفةً وراءَها أنهاراً من الدماء، وألوفاً من القتلى, وأضعافَهم من الجرحى والثكلى, أربعينَ سنة من النزيفِ المستمر، والجحيم المستعر، والأحقادِ المتتابعة، والسخائمِ المتراكمة, ثم تفتشُ عن السبب، وتبحثُ عن مبرراتِ القتالِ ودوافعه، فتكادُ تُجن حين تعرفُ تفاهةَ السبب وسخافَته, فما السببُ يا ترى ؟ ما السببُ في اشتعالِ الحربِ أربعينَ سنةٍ من غير توقف ؟هل هو الجهادُ في سبيل الله وإذلالِ الكفار ؟ كلا, هل هو حمايةُ الثغور ِودفعُ الصائلِ ؟ كلا، هل السبب أنَّ علجياً رومياً صفعَ امرأةً مسلمةً في عمورية ؟! كلا, إذن ما السبب ؟ إنَّ السببَ باختصار أنَّ رجلاً يقالُ له كُليب, رمى ضرعَ ناقة، نعم ضرعَ ناقة لامرأةٍ يقالُ لها: البسوسُ بِنتُ منقذ، فاختلطَ دمُها بلبنِها, فقام جساسُ بنُ مرة فقتلَ كُليباً, فنشبتْ الحرب من أجلِ ناقة, نشبتْ الحرب أربعينَ سنة، حتى ذهبَ الرجال، وثَكِلتْ الأمهات، ويُتِّم الأطفال، دموعٌ لا ترقأ, ودماءٌ لا تجفّ, وجِراحٌ لا تجدُ من يُضمدها, وجثثٌ لا تجدُ من يواريها, من أجلِ ناقة !! هذه واحدةٌ من سخافاتِ العربِ وحماقاتِهم, ومثلُها أو أسخفَ منها معركةُ داحسٍ والغبراء ، التي اشتعلتْ نيرانِها, واكفهرَّ دخانُها, لأنَّ داحساً: وهي فرسٌ لقيسِ بنِ زُهير سُبقت نعم سُبقت في رهانٍ بين قيسٍ وحذيفةَ بن بدر, فتلا ذلك قتلٌ, ثم ثأرٌ، فتنةٌ لا تنطفي, وظلمٌ لا ينتهي, لقدْ كانتْ أوضاعاً مأساويةً لا تطاق, وحياةً جهنميةً لا تُحتمل، تلك التي عاشها العربُ في جاهليتِهم, يُلخِّصها المغيرةُ بنُ شعبة وهو يخاطبُ ملكَ الفرسِ الهالك، قبيلَ معركةِ القادسيةِ بسويعات.
فيقول: أيها الملك فأمَّا ما ذكرتَ من سوءِ الحال، فما كانَ أسوأَ حالاً منَّا, وأمَّا جوعُنا فلم يكنْ يشبهُ الجوع, كنَّا نأكلُ العقاربَ والحيات ونرى ذلكَ طعامَنا، وأمَّا منازلُنا فهي ظهرُ الأرض, ولا نلبسُ إلا ما غَزَلنا من أو بارِ الإبل، وأشعارِ الغنم, دينُنا أن يقتلَ بعضُنا بعضاً, وبعضُنا يَبغي على بعض, وإنْ كانَ أحدُنا ليَدفنُ ابنتَه وهي حية كراهية أن تأكلَ من طعامهِ, هكذا يلخصُ المغيرةُ حالَهم في الجزيرة, قبل أنْ يضربَ الإسلامُ بحرارتهِ فوقَ الأرض, وقبلَ أن يمتنَّ اللهُ على عبادهِ ببعثةِ الحبيبِ المصطفى، والنبيِ المجتبى عليه أفضلُ الصلاةِ والسلام.
فتحدثُ المعجزة، وتتمُ النِقلة في فترةٍ قياسيةٍ من عمر الزمن, لا يوجدُ لها نظيرٌ في قديمٍ أو حديث, فإذا بالوحوشِِ الضارية، والسباعِ الجائعةِ، تتحولُ في أغربِ انقلابٍ عرفتهُ الإنسانية, إلى رهبانٍ في الليل فرسانٍ في النَّهار, فما أنْ يتشربَ أحدُهم معنى لا إله إلا الله، وتخالطَ شِغافَ قلبهِ، وتلامسَ شفافيةَ روحهِ، إلا وتنقلبُ حياتُه ظهراً لبطن, فَيظهرُ من روائعِ الإيمانِ واليقينِ لديه، ومن خوارقِ الصبرِ والشجاعة ما يُحيرُ العقول، ويُديمُ الدهشة، ويُطيلُ العجب .(5/466)
أيها الأحبةُ الأفاضل: لقد صَنَعَ النبيُ- صلى الله عليه وسلم - من الحمقى والمغفلين، والمتطاحنين داحسٍ والغبراء، وحربِ البسوس، والفِجَار, لقد صنع منهم مجتمعاً مِثالياً فريداً, فريداً في قيمهِ، فريداً في أخلاقهِ، فريداً في تعامله، فريداً في عطائهِ, فريداً في إيثارهِ, فريداً في وحدةِ أبنائه, وهذه الأخيرةُ بالذات عجيبة العجائب, وفريدة الفرائد، فإنَّك مهما قلَّبتَ النظر، وتأملتَ التجاربَ الإنسانيةَ عبرَ التاريخ، وما جرى ويجري من محاولاتٍ وحدويةٍ بين المجتمعات, فلن تجدَ أنموذجاً وحدوياً, كذلك الذي صنعهُ النبيُ- صلى الله عليه وسلم - بين أصحابهِ, ذلك الأنموذجُ الوحدوي, الذي قامَ على ركائزٍ من العقيدةِ راسخةً, وقواعدَ من الإيمانِ ثابتة, لا تتنازعُها الأهواء، ولا تتجاذبُها السُبل .
لقد خطط النبيُ- صلى الله عليه وسلم - بعبقريتهِ الفذة، ومهارتهِ الفائقة، ليحصلَ التوافقُ والتلاؤم والوحدة, بين جماعةِ المهاجرينَ وجماعةِ الأنصار، تلك الجماعتان اللتان أصبحتا فيما بعد، نواةَ الدولةِ الإسلاميةِ الأولى، ونقطةَ الانطلاقة لدولةِ الإسلامِ العالمية، تلك الدولة التي حكمتْ يوماً ما ثلاثةَ أرباعِ العالمِ المعروف آنذاك، لقد جاهدَ النبيُ- صلى الله عليه وسلم - لتحقيقِ الوحدةِ بين أمته، على أساسِ العقيدةِ الراسخة، والعبوديةِ الخالصة, وتناسيِ الماضيِ الدموي، والتعصبِ القبلي, والتعالي على كلِّ الروابطِ الأرضية، التي تجمعُ بين الناس في تكتلاتٍ هشةٍ بالية قابلةٍ للسقوط عند الدفعةِ الأولى, لقد كانتْ وحدةً إيمانيةً بالدرجةِ الأولى, خاليةً من الشعاراتِ الفارغة، والمضامينِ التافهة, والعصبياتِ المنتنة, وهذا سرُّ نجاحِها وتفوقها، واستمرارِ بقائِها حِقبةً من الزمن ليست باليسيرة، كانتْ الأمةُ فيها مضربَ المثل في التلاحمِ, والقوةِ والوحدة .
حتى دارَ الزمانُ دورَته, وعادَ الإسلامُ غريباً كما بدأ, وإذا بالدولةِ الإسلاميةِ التي لم يكنْ ليتجاوزَ أرضُها ماءُ السحاب, إذا بها مفتتةَ الأجزاء, مُمزقةَ الأشلاء, مبعثرةَ القوى, وإذا بالأُمةِ الواحدة تنقسمُ شيعاً وأحزاباً, كُلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون, وإذا بالرابطةِ العقدية التي كانتْ تجمعُ الأمةَ وتوحدُها, إذا بها تُحملُ إلى متحفِ التاريخ, وذكرياتِ الأمس, وتستبدلُ بروابطَ جاهليةٍ من قوميةٍ وعشائريةٍ ونحوِها, وأصبحتْ محاولاتُ المسلمينَ الوحدوية تقومُ على أساسِ اللغةِ، أو الإقليمِ، أو الأصولِ العرقيةِ المشتركة, وغابَ عن أولئكَ الجهلة أنَّ أيَّ محاولةٍ للوحدةِ بين المسلمين لن يكتبَ لها النجاحُ والاستمرار, ما دامتْ مفتقرةً إلى العقيدةِ الراسخة, والإيمانِ الحي المتوهجِ في النفوس.
ويشهدُ لذلك تلك المحاولاتُ الوحدويةُ الكثيرة, التي عَرفها المسلمون في عصورِهم المتأخرة، والتي لم تقوى على البقاء غيرَ أسابيعَ معدودة، أو أشهرٍ محدودة, ثم تحولتْ بعد ذلك إلى عدا واتٍ مستحكمة، ونزاعاتٍ مستمرة, وإذاعاتٍ وأبواق لا تملُّ من الشتمِ والسباب, ولقد كانَ أحرى بالمسلمين أن يستوعبوا المنهجَ الذي اختطهُ المصطفى- صلى الله عليه وسلم - لنفسهِ، وهو يسعى جاهداً لتوحيدِ الأمة, وجمعِ شَتاتِها على أساسِ العقيدةِ الراسخة، والإيمانِ المتغلغلِ في النفوس, لكنَّهم غفلوا وعَمُوا وصَمُّوا, ثم عَمُوا وصَمُّوا عن ذلك المنهجِ الأصيل, وأعجبوا بالشعاراتِ الزائفة, والنزاعاتِ الطائفية المنتنة, واغتروا بمن حولَهم من الكفار الذين أقاموا تحالفاتِهم وتكتلاتِهم, وأنشاؤا جمهورياتِهم على أساسٍ قوميٍ أو وطني .
ونسيَ المسلمون ما آلتْ إليه كثيرٌ من تلك التحالفاتِ, والاتحاداتِ الكافرة من الفشلِ الذريع, والسقوطِ السريع, فلقد رأى الجميع كيف انهارَ ما كان يُسمى بالاتحادِ السوفييتي وانتبه - رعاك الله - إلى كلمةِ (الاتحاد), فلقدْ تفتتَ ذلك الاتحاد، وأصبحَ أيادي سبأ, ذلك الاتحاد الذي افتتنَ الكثيرونَ بصلابتهِ وضخامتهِ، وشدةِ بأسهِ وقوتهِ، فراحوا ينادونَ باتخاذِ منهجه، واقتفاءِ أثره !
وهذا الاتحاد اليوغسلافي الذي ظلَّ متماسكاً صلباً لعقودٍ من الزمن، إذا به ينهارُ فجأةً، ويتمزقُ إلى دويلاتٍ متناحرةٍ، يَنشبُ بينها صراعٌ دمويٌ عنيف، وتوجسٌ وشك عنيف، وما ذلك إلا لكونهِ إتحاداً يقومُ على الإقليميةِ، والنزعةِ القوميةِ الجاهلية .
وهذه ايرلندا التابعةُ للمملكةِ المتحدة، وانتبه لكلمة (المتحدة) أيضاً هاهي ايرلندا منذ عشراتِ السنين، وهي في مناوشاتٍ مستمرة، ومحاولاتٍ متتابعةٍ للانفصال، مع أنَّ اللغةَ واحدة، والديانةَ نصرانيةٌ وثنيةٌ مشتركة, ومع ذلك هم جادونَ في طلبِ الانفصال وتفتيتِ المملكةِ المتحدة، والدولةِ التي كانتْ لا تغيبُ عنها الشمس.
وهذه مقاطعةُ كيبوك في كندا، لها سنواتٌ طويلة وهي تطالبُ بالانفصال عن الاتحادِ الكندي، ممَّا أجبرَ السُلطاتُ إلى إجراءِ استفتاءاتٍ شعبيةٍ, أظهرتْ نتائجُها أنَّ تسعاً وأربعينَ في المائة من سكانِ المقاطعة, يرغبونَ بالانفصال, مع أنَّ الجميعَ يدينُ بالنصرانية، وتعودُ أصولُهم العرقيةُ إلى منشأٍ واحد .(5/467)
بل هذه الولاياتُ المتحدةُ الأمريكية، قبلةُ المفتونين, ومَضربُ المثلِ في القوةِ والاتحاد، لدى الانهزاميين في شرقِ المعمورةِ وغر بها.
هاهي الدولةُ الكُبرى، والقوةُ العظمى، قدْ بدأتْ فيها بوادرُ الفُرقةِ والانهيار, فقد أظهرتْ بعضُ الولاياتِ الغنية كثيراً من التبرمِ والتضجر، من جراءِ تحملِها عبءَ الولاياتِ الفقيرة واستنزافِها لحجمٍ هائلٍ من مواردِها الاقتصادية, وعوائدِها المالية، ناهيكَ عن نشوبِ النزاعاتِ العرقيةِ بين الطوائفِ المتنافرة ذاتِ الأصولِ المختلفة، والتي قدمتْ البلادَ من أوطانٍ شتى تحملُ ثقافاتٍ متباينة، وولاءَاتٍ متضاربة.!
إنها نماذجُ نسوقُها من بلادِ الكفرِ والإلحاد، ليعتبرَ بها المخدوعون ببريقِ الكفارِ وزيفِهم, لعلمنا بأنَّ البعض لا يكفُّ عن سفههِ، ولا يتوقفُ عن حماقتهِ, ولا يتخلى عن رأيه, إلا حين تذكرُ له العبرةُ من أسيادهِ في الغربِ أو الشرق، هذا إن كانَ منصفاً, وإلا وما أكثرُ الناسِ ولو حرصتَ بمؤمنين .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين.
أمَّا بعدُ:
فحين تُحاكُ المؤامرات، وتُطلُ الفتنُ بوجهِها القبيح تتعالى الصيحات وتتوالى النداءات، بأهميةِ تحقيقِ الوحدةِ بين أبناءِ الأمة, وضرورةِ ترسيخِ مبدأِ التكاتفِ والتعاونِ بين الجميع, والتصدي للمتآمرين, وهذا مطلبٌ حسنٌ ما أجمله, لكنَّ السؤالَ الذي يفرضُ نفسَه، كيف تكونُ الوحدة ؟ وعلى أي شيء تَعتمد ؟ وما مقوماتها ؟! إنَّ الكيفيةَ الوحيدة، والمنهجيةَ الفريدة التي يمكنُ من خلالِها تحقيقُ الوحدةِ بين أبناءِ الأمة, هي ذات الكيفية، وعينُ المنهجية التي سلكَها رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - مع أصحابهِ يومَ أمضى ثلاثةَ عشرَ عاماً وهو يدعوا إلى تصحيحِ المعتقد، وغرسِ التوحيد في النفوس لكي يعبدَ الجميعُ إلهاً واحداً, وتتجهَ القلوبُ إليه دونَ سواه, وتصرفَ الولاءَ له وحده دون غيره .
وبتلكَ المنهجيةِ النبوية، تحققتْ الوحدةُ بين المسلمين في المدينة، في أجملِ صورِها، وأبهى حُللِها, لقد كانَ بإمكانِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرفعَ رايةَ الوطنيةَ في مكة, فيستجيبُ له أهلُ مكةَ كُلُّهم, أو يرفعَ رايةَ القومية فيستجيبُ له العُرب أجمع, وتتحققُ الوحدةُ بين الجميع تحتَ تلكَ الرايةِ الجاهلية، وبذلكَ يُجنِّب رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - نفسَه مشقةَ مواجهةِ قريشٍ وغيرها، لكنَّه عليه السلام فضَّل الصبرَ والمصابرة، والجَهدَ والعَناء، لتكونَ وحدةَ الأمة قائمةً على أساسٍ متين من العقيدةِ الراسخة، والإيمانِ القويِ المتين.
مهما تأخَّر تحقيقُ الوحدة، وتتطلبَ النفسَ الطويل.
والأمةُ اليوم إن كانتْ جادةً في تحقيقِ الوحدةِ وترسيخِها، فلتعلمْ أنَّه لا وحدةَ إلا بالتوحيد، ولا تكاتفَ ولا تعاونَ إلا إذا صحَّ المعتقد، وآمنَ الجميعُ بإلهٍ واحد, ونبيٍ واحد، وقرآنٍ واحد, وشريعةٍ واحدة, وداسوا بأقدامِهم كلَّ الدعواتِ الأجنبية والعصبياتِ الجاهلية، والشعاراتِ الوافدةِ من الشرقِ أو الغرب، والتي يرفعُ رايتها ويتولَّى زمامَها دعاةُ العلمنةِ والتغريب, وأصحابُ الأهواءِ ومرضى القلوب, والذين ذاقتْ الأمةُ بسببِهم الفُرقةَ والقطيعة، والنزاعات والقلاقل, في أنحاءَ شتىً من عالمِنا الإسلاميِ الكبير, ألا إنَّها دعوةٌ مشفقة إلى العودةِ إلى الإسلام عودةً شاملةً، عقيدةً وشريعةً, ومنهجَ حياة .
ألا إنَّها دعوةٌ، إلى العودةِ إلى الأصول التي قامتْ عليها دولةُ الإسلامِ الأولى, وتصحيحِ الأوضاع، وتقويمِ المسيرة, واستكمالِ النقص، وتسديدِ الخلل, وإلا رحم الله أبا الدر داء ورضي عنه إذ يقول: ما أهونَ الخلقِ على الله إذا هم خالفوا أمره, وبدَّلوا شَرعه.
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة.
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرض اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي.
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
=============(5/468)
(5/469)
أين قَلَمُكِ ؟!
أختي المسلمة :
لعلكِ تقرئين وتسمعين الهجمة ضدكِ، والتي تارة تكون بدعوى أنكِ مظلومة ! وتارة أنكِ مضطهدة ! وأخرى أنكِ مسلوبة الحقوق ! وأنكِ معطلة ! وأنكِ ينبغي أن تتحرري من القيود! وأنكِ... ! وأنكِ ... ! سلسلة لا تنتهي من العبارات المنمقة التي ظاهرها الرحمة وباطنها تغريب مخطط له، لتصبحي سلعةً رخيصةً كما في الغرب، ومع الأسف تأثر بظاهرها بعضهن - وهن قلة - سواء علمن أم لم يعلمن، وهذه الهجمةُ صُنعت في بلاد الغرب، وبُثت في بلاد المسلمين: وتولى كِبر بثها نفر من أبناء جلدتنا ممن يتكلمون بألسنتنا- مع الأسف- وفُتنوا بكلّ ما عند الغرب عُجَرَهِ وَبُجَرَهِ .
- أختي المسلمة:
السؤال الذي يطرح نفسه: أين أنتِ من هدف هؤلاء ؟ أين رأيك ؟ أين صوتك ؟ أين وقفتكِ ضد هذا المد التغريبي ؟ لقد بذلوا أوقاتهم وأعمارهم لِما يهدفون إليه ويخططون من أجله، وأنتِ صاحبة الشأن والمستهدفة، لا بد أن يكون لك صوت مسموع للوقوف في وجه تيار التغريب والتحرير.
- أختي المسلمة:
من أقوال العرب: ( القلم أحد اللسانين )، فالقلمُ وسيلة قوية للتأثير والتعبير، والوقوف في وجه الأقلام المسمومة، ولذلك نجد دعاة التغريب استغلوه وأسسوا له المنابر المؤثرة، فأنتِ صاحبةُ الحقّ لكِ رأي آخر في مقابل رأيهم لا بد من ظهوره، فإذا وهبكِ الله قلماً سيالاً فلا تتردي في الردّ عليهم بالحجة والبرهان والسنة والقرآن: (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ )) (الأنبياء 18). وبيان حقيقة مكانة المرأة في الإسلام، وأنها مصونةٌ محفوظةٌ، فاكتبي مقالاً أو بحثاً أو كلمةً في مجلةٍ أو جريدةٍ، وإذا أغلقت دونك تلك المنابر فقد فتح اللهُ لكِ أبواباً أخرى مثل ( الشبكة العنكبوتية )، فالمواقع التي تقبلُ رأيكِ كثيرة جداً ولله الحمد.
- أختي المسلمة:
لقد كان لبعض الأخواتِ - جزاهن الله خيراً - إسهامٌ مشكورٌ في الوقوف ضد موجة التغريب من أمثال د. أميمة الجلاهمة و د. نورة السعد ود. نجاح الظهار ومشاعل العيسى وغيرهن ولكن الميدان بحاجة إلى أقلام كثيرة لأن دعاة التغريب قد أجلبوا عليكِ بخيلهم ورجلهم ، وجعلوا من المرأة قضية الأمة التي إذا لم تحل فإن العالم سيعيش في شقاء عظيم - زعموا -!، وضربوا صفحاً عن قضايا أكبر وأعظم .
- أختي المسلمة:
أختم بهذه الآيات، يقول الله:(( إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)) (يونس: 81 ).
ويقول:(( قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ )) ( المائدة : 100).
ويقول:(( وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا )) (الإسراء: 81) .
=============(5/470)
(5/471)
بيان حول حقوق المرأة ومنزلتها في الإسلام
الحمد لله رب العالمين والصلاة و السلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعد :
فقد جاءت هذه الشريعة شريعة الإسلام خاتمة الشرائع المنزلة من عند الله بما فيه صلاح أمر العباد في المعاش والمعاد ومن ذلك : الدعوة إلى كل فضيلة والنهي عن كل رذيلة ، وصيانة المرأة وحفظ حقوقها خلافاً لأهل الجاهلية قديماً وحديثاً الذين يظلمون المرأة ويسلبون حقوقها جهاراً أو بطرق ماكرة ، كالذين يدّعون الاهتمام بشؤون المرأة ويدْعون إلى تحريرها من الحدود الشرعية لتلحق بالمرأة الغربية الكافرة ، ويسندهم في ذلك أعداء الإسلام سيّما في هذه الأيام التي تتعرض فيها الأمة الإسلامية إلى حملة شرسة من عدوها بقيادة الحكومة الأمريكية لصدها عن دينها من خلال ما يدّعونه من حقوق المرأة ومنها تغيير مناهج العلوم الشرعية .
وعملاً بواجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم نتقدم إلى الأمة بهذا البيان الذي نؤكد فيه على أصل من الأصول الشرعية يتعلق بالمرأة وهو :
وجوب الإيمان بالفوارق بين الرجل والمرأة ، وأن كل دعوة للمساواة المطلقة بينهما فهي دعوة باطلة شرعاً وعقلاً حيث إن لكل من الجنسين وظيفة تختلف عن الآخر وهم مشتركون في جميع مسائل الدين أصوله وفروعه إلا في أشياء مخصوصة للفوارق التي بين الرجل والمرأة وكذلك في شؤون الحياة كلٌّ فيما يخصه .
وقد دل الشرع والعقل والحس على فضل جنس الرجل على جنس المرأة ، قال تعالى : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى } آل عمران 36 ، وقال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ } البقرة 228 ، وقال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } النساء 34 ، ولذلك كانت القوامة للرجل ، وحتى عند الذين يدّعون المساواة بين الرجل والمرأة ويحاربون التمييز ضد المرأة يندر عندهم تولية المرأة في المناصب العليا في الدولة كالرئاسة والوزارة ، والقضاء والإدارة وسائر الولايات ، فيجب أن يعلم أن كل ميثاق أو اتفاقية تتضمن ما يخالف شريعة الإسلام فإنه باطل لا يجوز الدخول فيه هذا وقد أبطل الاسلام كل تميز ضد المرأة كان في الجاهلية مما يتضمن ظلمها وهضم حقوقها وامتهان كرامتها ، ومن فروع هذا الأصل :
أولاً : وجوب الحجاب على المرأة ، وتحريم إبدائها لزينتها :
إن الحجاب شريعة محكمة قد أوجبها الله على المؤمنات كما قال تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } النور31 ، فجمع سبحانه في هذه الآية بين الغاية وهو حفظ الفروج والوسيلة لذلك وهو غض البصر ، وستر الزينة ، ونهى عن إبدائها ولو بالحركة التي تدل عليها ، وفي هذه الآداب التي اشتملت عليها هذه الآية صيانة لكرامة المرأة ، وسدٌ لذرائع الفساد في المجتمع ليكون المجتمع المسلم طاهراً وسالماً من فشوّ الرذيلة فيه ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } الأحزاب 33 .(5/472)
فيجب على المرأة المسلمة أن تعمل بوصايا ربها ، وأن تتوب من كل ما يخالف ذلك لتفوز بالصلاح والفلاح قال تعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } النور 31 ، وذلك لا يتحقق إلا بثياب الحشمة وهي الساترة لجميع بدنها ، غير ضيقة ولا شفافة ، وإذ قد أجمع العلماء على وجوب ستر المرأة لشعرها ونحرها ورجليها ، كما قال تعالى : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } النور 31 ، فستر الوجه الذي هو مجمع المحاسن أوجب وأوجب ، ولا يجوز أن يُتخذ خلاف بعض العلماء وسيلة لاستباحة ما قام الدليل على تحريمه ، فإن الواجب عند التنازع الرد إلى كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } النساء 59.
ومن المصائب التي حلت بالمجتمعات الإسلامية فشوّ السفور والتبرج الذي هو مطلب للكفار والمنافقين وفسّاق المسلمين ، ولأن ذلك مفتاح لما يريده الكفار بالمسلمين من الانحلال وفساد الأحوال وهو طريق الفاسقين لنيل شهواتهم المحرمة ، قال تعالى في بيان مراد الكافرين والفاسقين : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } النساء 27 ، والميل العظيم لا يتحقق إلا بشيوع الفاحشة ، ودواعيها مما يفضي إلى استحلالها كما وقع في بعض البلاد الإسلامية من إباحة القانون للزنا إذا كان عن تراضٍ ، وتعطيل الحدود التي شرع اللهُ لمنع هذا الفساد المدمر للأمة !
وقد سلك الكفار وتلاميذهم للوصول إلى غاياتهم ؛ طريق التدرج ، فبدأوا في بلادنا بمحاربة ستر المرأة وجهها مستغلين للخلاف في ذلك ، ثم بتشويه عباءات الحشمة ، والإغراءات بعباءات الفتنة من مخصّرة وقصيرة مع التشبه بالرجال بوضعها على الكتف ، ولن يقف أولئك عند ذلك .
ثانياً : وجوب قرار المرأة في بيتها فلا تخرج إلا لضرورة أو حاجة مباحة أو عمل مشروع على وجه ليس فيه مخالفة لما فرض اللهُ من الآداب على المرأة المسلمة ، قال الله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } الأحزاب 33 ، ولقد هُيّئ للمرأة في عصر الحضارة الغربية كل الأسباب التي تلغي من الواقع واجب القرار في البيت ، ونفّر المستغربون المرأةَ من القرار في البيت حتى شبهوا البيت بالسجن ، ووصفوا التي لا تخرج الخروج المنشود لهم بأنها محبوسة بين أربعة جدران .
فيجب أن يعلم أن مَن طعن في شرع الله وعارضه فهو كافر ، ومن خالفه بعمله فهو عاصٍ ، ولقد كان مما تذم به المرأة أن تكون خرّاجة ولاجة - وهي التي تكثر الخروج من غير حاجة -والتي هذه حالها ، صفو حسنها ، وتصنعها للشارع ، ومكان العمل والاجتماع ، وكدرها لبيتها وزوجها ، وبئست المرأة هذه ، ومما تمدح به المرأة قرارها في بيتها مع قيامها بحقوق ربها وزوجها وأولادها ونعمت المرأة هذه .
هذا ومن أقبح خداع المستغربين وتغريرهم للمرأة المسلمة ، تعظيمهم للعاملة خارج المنزل حتى ولو كانت مضيفة في طائرة ، وتهوينهم من عمل المرأة في بيتها قياماً بحق زوجها وتربية أولادها مع أنه هو الأصل والأعظم أثراً في الأمة والأجدى في تحقيق التوازن بين الرجل والمرأة .
ومن هؤلاء المخادعين من يلبس فيدعي أن المرأة قادرة على أن تجمع بين واجباتها في المنزل وواجباتها الوظيفية ، وهذه الدعوى أول من يكذبها النساء المنصفات من العاملات ، وأدلّ شيء على ذلك أن أي امرأة عاملة لا بد لها أن تستقدم امرأة تخلفها في البيت إلا ما ندر .
وإمعانا في المكر وتمويه الحقائق تشويهاً للحق وتزيناً للباطل يقوم دعاة التغريب في وسائل الإعلام بالإشادة والتبجيل بمن يكون لها تميّز في الخروج عن حدودها الفطرية والشرعية ولو بعمل لا يمكن أن تمارسه النساء إلا في صورة شاذة كقيادة الطائرة ، وكذا الإشادة ببناتنا في مزاولة الأعمال المدنسة لكرامتهن كالتمثيل مع الرجال وكالغناء والعمل مع الرجال [ سكرتيرة ] وغيرها من الأعمال المختصة بالرجال ، ولصحيفة عكاظ والوطن والرياض تميز في هذا الباطل.(5/473)
ثالثاً : وجوب تميز النساء عن الرجال وذلك بعدم الاختلاط في العمل والتعليم والمتنزهات ، وباجتناب كل عمل يؤدي إلى ذلك كالعمل في الإعلام وشركات الطيران والمصانع والمستشفيات ، فإن الاختلاط بين الرجال والنساء في هذه المجالات ونحوها يشتمل على أنواع من المنكرات كالسماع والنظر الحرام والخلوة المحرمة والتبرج والسفور ، وكل هذه أسباب تجرّ إلى الفاحشة ، ولهذا جاءت الشريعة بسد هذه الأبواب ، قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } الإسراء 32 ، ومن الأماكن التي يجب على المسلمة أن تحذرها المشاغل النسائية ، ومحلات [ التخسيس] !! فإن هذه الأماكن وإن كانت مخصصة للنساء فإنها غير مأمونة لأنه يرتكب في بعضها أو كثير منها أمور محرمة - بعلم المرتادة لهذه الأماكن أو بغير علمها - كالتصوير وكشف العورات التي لا يحل النظر إليها ولا من المرأة إلى المرأة بل قد يصل الأمر إلى كشف العورة المغلظة ومسّها عند التدليك ، مع أن كثيراً من العاملات في هذه الأماكن مدربات على قلة الحياء ، بل ومنهن الكافرات مما يجعل هذه الأماكن بؤراً للفساد ومصيدة لأصحاب الفجور ، فالتردد على تلك الأماكن سبيل إلى خلع ثوب الحياء ، بل والوقوع في الفاحشة الكبرى .
وبعد فمن المعلوم أن أعظم باب دخل منه على المرأة المسلمة لتغريبها بنزع حجابها وإخراجها عن قرارها والزج بها في بحر الاختلاط ، هو التعليم العصري المستمدة خططه وأهدافه وصيغته من منظمة اليونسكو ، ومن أفكار تلاميذ الغرب المفتونين بهم المنفّذين لأهداف الكفار من حيث يشعرون أو لا يشعرون ، لكن لتعليم المرأة في المملكة تميز فرضه واقع المجتمع فإن هذا التميز- بزعمهم - في طريقه للاضمحلال على سبيل التدرج حسب استعداد المجتمع للتغيير المرسومة خططه سلفاً ، وأبرز ما تم في ذلك دمج تعليم البنات مع تعليم البنين تحت وزارة واحدة وما ينشأ عن ذلك ، مما يحقق مكاسب لهواة التغريب ، وهذا لأن تعليم المرأة في المملكة كان في نشأته مشروطاً ومحدوداً ، ولم يزل يُطور حتى ذهبت الحدود وخفت القيود ، ولم يبقَ من تميزه عن التعليم في سائر المجتمعات المغرّبة إلا عدم الاختلاط في الأعم الأغلب مع ما تميزت به المملكة في تعليم البنين والبنات من عناية بالعلوم الشرعية .
ولسنا بهذا ننكر تعليم المرأة ، التعليم الذي يربي فيها الأخلاق الكريمة ، ويجعلها بصيرة في دينها قادرة على تربية النشء التربية الصالحة ، بل هذا مما جاءت به شريعة الإسلام التي اشتملت على الفضائل والكمالات وما به صلاح الدنيا والآخرة ومن كمال الشريعة أن جاءت من الأحكام بما يناسب كلاً من الرجل والمرأة بحسب طبيعته وتكوينه لأنها تنزيل من حكيم حميد ، وهو أعلم بما يصلح عباده فلا يجوز أن نسوي المرأة بالرجل في أسلوب تعليمها ، ولا فيما تتلقاه من العلوم أو تزاوله من الأعمال لاختلاف وظيفتيهما واستعدادهما العقلي والجسدي .
وعلى هذا الأساس بنى العلماء الفتوى بتحريم قيادة المرأة للسيارة لأن ذلك يؤدي إلى مفاسد كثيرة ، ومخالفات شرعية مما يتعلق بأحكام المرأة في المجتمع ، ومع ذلك لا يزال المستغربون والعصرانيون يدعون إلى فتح الباب أمام المرأة لقيادة السيارة ليحققوا بذلك مطلباً مضافاً إلى ما تحقق من مطالبهم مما يزعمونه حقوقاً للمرأة وهي المطالب التي يتم بها تغريب المرأة المسلمة .
ومن أعظم الأسباب التي مكنت لهؤلاء من الوصول إلى مآربهم ومطالبهم عدم الغيرة على الأعراض والحرمات أو ضعفها ، فإن الغيرة هي الغضب حماية للعرض والكرامة ، وهي من أشرف الأخلاق ، فإن كانت لله كانت أكمل وأفضل ، وقد كان r أكمل الناس غيرة ، ولهذا قال : ( أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) البخاري كتاب التوحيد ، وكان r لا ينتقم لنفسه ، فإذا انتُهكتْ حرمات الله انتقم لربه .
فعلى المسلمين أن يقتدوا بنبيهم في غيرته وسائر أخلاقه الكريمة r ، ليشرفوا بذلك وليتميز مجتمع المسلمين بالطهر والعفاف ، فلا يطمع فيهم الطامعون من دعاة الفساد من الكفار والمنافقين والمخدوعين .
هيأ اللهُ من أمة الإسلام حماة للدين ودعاة مصلحين آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر يُرغم اللهُ بهم أنوف مَنْ يريد الشر بأمة الإسلام ، وفق الله ولاة الأمر إلى كل خير وجعلهم هداة مهتدين .. إنه تعالى خير مسؤول ، وخير مرجوّ ومأمول .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
الموقعون
الشيخ / عبدلرحمن بن ناصر البراك
الشيخ / عبدالرحمن بن حماد العمر
د. عبدالله بن حمود التويجري
الشيخ / د . عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
د. ناصر بن سليمان العمر
الشيخ / محمد بن ناصر السحيباني
د. حمد بن حماد الحماد
د. عبدالرحمن بن صالح المحمود
د. عبدالعزيز بن عبدالمحسن التركي
د. ابراهيم بن علي الحسن
د. عبدالعزيز بن محمد العبداللطيف(5/474)
د. محمد بن عبدالله بن علي الخضيري
د. صالح بن ناصر الناصر
د. محمد بن عبدالله الوهيبي
د. عبدالعزيز بن محمد النغيمشي
د. عبدالله بن صالح المشيقح
د. سعود بن حمود الصقري
د. عبدالله بن محمد الربعي
د. علي بن سعد الضويحي
د. ناصر بن يحيى الحنيني
د. ظافر بن سعيد الشهري
د. علي بن عودة الغامدي
د. إبراهيم بن عثمان الفارس
د. أحمد بن عبد الله الغنيمان
د . علي بن سعيد الغامدي
الشيخ / صالح بن عبدالله الدرويش
د . فيحان بن شالي المطيري
الشيخ / محمد بن مرزوق المعيتق
د. عبدالمحسن بن عبدالعزيز العسكر
د. عبدالحميد بن عبدالرحمن السحيباني
د. محمد بن عبدالله الخضيري
د. عبدالله بن ابراهيم الريس
د. رياض بن محمد المسيميري
د. عبدالله بن وكيل الشيخ
د. عبدالعزيز بن محمد السحيباني
د. محمد بن عبدالعزيز بن علي اللاحم
د. خالد بن عبدالعزيز الغنيم
د. عبدالله بن سليمان الجاسر
د. ابراهيم بن عبدالله الحماد
د. محمد بن سالم الصيخان
د. حمد بن ابراهيم الحيدري
د . خالد بن عثمان السبت
د. إبراهيم بن ناصر الناصر
د. سليمان بن عبد العزيز العريني
د. أحمد بن محمد البابطين
الشيخ / عبدالعزيز بن ناصر الجليل
الشيخ / حمد بن محمد الزيدان
الشيخ / يوسف بن عبدالله الأحمد
الشيخ / علي بن ابراهيم المحيش
الشيخ / سعود بن زيد آل عميقان
الشيخ / عبدالله بن عبدالرحمن اليمني
الشيخ / سعود بن يوسف الخماس
الشيخ / فريح بن صالح الهلال
الشيخ / سليمان بن ابراهيم المسعود
الشيخ / عبدالرحمن بن عبدالعزيز ابانمي
الشيخ / عبدالله بن محمد القعود
الشيخ / عبدالرحمن بن عبدالله المرشد
الشيخ / منصور بن عبدالرحمن القاضي
الشيخ / محمد بن عبدالرحمن السلامة
الشيخ / فهد بن عبدالرحمن العيبان
الشيخ / محمد بن عبدالله الهبدان
الشيخ / حمد بن صالح الغشام
الشيخ / عثمان بن محمد بن عبدالجبار
الشيخ / سليمان بن جاسر الجاسر
الشيخ / محمد بن عبدالعزيز الماجد
الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله الدخيل
الشيخ / احمد عبدالعزيز الشاوي
الشيخ / خالد بن عبدالرحمن الشاوي
الشيخ / عبدالله بن ابراهيم السعدي
الشيخ / صالح بن عبدالله الرشودي
الشيخ / علي بن عمر السحيباني
الشيخ / علي عبدالله القرني
الشيخ / هاشم محمد الشايع
الشيخ / عبدالله بن احمد السويلم
الشيخ / حمود بن صالح النجيدي
الشيخ / احمد بن عبدالله آل شيبان
الشيخ / سليمان بن عبدالله الوابل
الشيخ / سعد بن سعيد االحجري
الشيخ / ابراهيم بن احمد آل ضبعان
الشيخ / احمد بن حمد بن عبدالقادر
الشيخ / فهد بن محمد القرشي
الشيخ / خالد بن علي ابا الخيل
الشيخ / محمد بن عبدالعزيز الغامدي
الشيخ / عبدالعزيز بن صالح القرعاوي
الشيخ خالد بن صالح العجلان
الشيخ / هشام بن عبد العزيز العمر
الشيخ سلطان بن محمد الدعيلج
الشيخ حمد بن عبد الله الجمعة
الشيخ / عبدالرحمن بن محمد بن الهرفي
الشيخ / عبدالله بن عبدالرحمن الخميس
الشيخ / احمد محمد علي السحيباني
الشيخ / جمال بن ابراهيم عبداللطيف الناجم
الشيخ / عبدالوهاب بن محمد الموسى
الشيخ / عبدالله بن سليمان العميريني
الشيخ / ابراهيم بن عبدالعزيز الرميحي
الشيخ / خالد بن محمد الماجد
الشيخ / عبدالعزيز بن سالم العمر
الشيخ / وليد بن علي المديفر
الشيخ / فهد بن سليمان القاضي
الشيخ / عبدالله بن عبدالرحمن الوطبان
الشيخ / سعد بن عتيق العتيق
الشيخ / سليمان بن عبدالله الراجحي
الشيخ / ابراهيم بن عبدالله العوض
الشيخ / عبدالله بن ناصر السليمان
الشيخ / علي بن عبدالله العجلان
الشيخ / يوسف بن ابراهيم البرجس
الشيخ / عبدالله بن فهد السلوم
الشيخ / صالح بن ابراهيم التويجري
الشيخ / عبدالرحمن بن عبدالله المسند
الشيخ / عبدالله بن محمد البريدي
الشيخ / خالد العايد
الشيخ / عبدالله عايض القحطاني
الشيخ / صالح بن علي ابا الخيل
الشيخ / عبدالله بن سعد الفالح
الشيخ / عبدالعزيز بن محمد الشويش
الشيخ / صالح بن ناصر العمرو
الشيخ / احمد بن حسن آل عبدالله
الشيخ / سليمان بن محمد آل فايع
الشيخ / محمد بن احمد الشبيبي
الشيخ / سعد بن ناصر الغنام
الشيخ / صالح بن منصور البراك
الشيخ / عبدالله بن علي المزم
الشيخ/ مساعد بن عبدالله الشبانة
الشيخ / صالح بن سعيد الشمراني
الشيخ / مازن الفريح
الشيخ / محمد بن عبدالله العوشن
الشيخ / عادل بن عبدالرحمن السنيد
الشيخ عبد المجيد بن ناصر العقل
الشيخ / قرناس بن محمد القرناس
الشيخ حمد بن سليمان الرزيان
==============(5/475)
(5/476)
غزوٌ من الخارج أم من الداخل ؟
لا غرابة أن نرى أو نسمع أو نشاهد شيئاً من عداوة الكفار، تختلف أديانهم وأهدافهم، ولكن المستغرب حقاً أن نُهدد من داخل بيوتنا، وأن تُشن حملات ظالمة وجائرة على ديننا وقيمنا من أبناءِ جلدتنا، وممن ينتسبون إلى إسلامِنا، أولئك لا بد من الحذرِ منهم والوعي بمخططهم وأهدافهم، ومعرفة منطلقاتِهم، والتعرفِ على أساليبهم في المكرِ والمخادعة، ورسم معالم للموقف منهم، وحماية البلاد والعباد من آثارهم، أجل، لقد بليت الأمةُ بالمنافقين في سالِف تاريخها وعزِّ سلطانها، ونجح المسلمون حينها في كشفِ هؤلاء وتجاوزوا محنتهم، حتى عاد هؤلاء والمنافقون يعتذرون ويحلفون وهم كاذبون، واليوم تتجدد النازلةُ بالمسلمين بهؤلاء، وتتسعُ دائرةُ العداوةِ، ويكثر الإرجافُ والاستهزاء، وتُبلى الأمةُ بهؤلاء المعوِّقين، ويتكرر الموقفُ المسارعُ للكفار، (( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ )) (المائدة:52).
ويكثرُ اللمزُ بالمطوعين والسخريةُ بهم وبإسلامهم، وهؤلاء الصنفُ من الناس يركبون كلَّ موجة وكلَّ وسيلة تُحقق لهم أهدافَهم، فهم قوميون - مع ضيق عطن القومية- حين يشتد عودُ القومية، ثم تراهم ينقلبون على القومية- ولو كانت في سبيل الدفاع عن الحدود والحرمات - وينسلخون منها كما تنسلخ الحيَّة من جلدها، وربما بلغ بهم التخلي عن ( الهوية ) حداً مجَّدوا معه الغُزاة ورحبوا بالمستعمرين، أيُعقل هذا من مربي ؟!!
أفا يقبل هذا الترحيب بالمستعمر الكافر من مسلم ؟!!
ولولا كلماتُ القوم ما صدّقنا، وهذا أحد المحسوبين علينا ودون خجل يقول: ( إنني من أكثر الناس تفاؤلاً بقدوم أمريكا إلى العراق، وعندي أسبابٌ عديدةٌ، أولها إن أمريكا لم تدخل بلداً إلا وحسَّنت من أوضاعِه، إلى أن يقول: إنني واثقٌ أن أمريكا ستلعب في منطقتنا دورَ المعلمِ الحازم الذي يريد النجاحَ لتلاميذه حتى لو تطلب ذلك درساً قاسياً، إن العالم العربي لن يتغيَّر من تلقاءِ نفسِه، لذلك أقول: أهلاً بالنموذج الأمريكي الحرّ، (( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) ( البقرة:216) .
جريدة الشرق الأوسط 3 / 4 / 2002 م ، عبد العزيز الدخيل ) ..
لست أدري كيف تجرأ الكاتب هذه الجرأة، وكيف تجرأت الشرق الأوسطُ على نقل مقال المسوّق للاستعمار ؟
إننا أمام شريحةٍ في المجتمع غريبةٍ في فِكرها، متطرفةٍ في طرحها، جريئةٍ في استفزازها، ومهما تعددت مُسمياتُ هؤلاء أو اختلف الناسُ في تصنيفهم بين عَلماني وعَصراني ، وعقلاني أو حداثي أو مستغرب، فالمهم أن نعرف انتماءَهم وجذورَهم الفكرية، ومن اعترافاتهم نَدينهم، وحتى لا نتجنى عليهم هذا أحد أصحابِ هذه المدرسةِ يربط بين ثقافتهم وثقافة الغرب وتاريخهم، ويقول: إن الحديث عن حَداثةٍِ عربية مشروطٌ تاريخياً بوجود سابق للحداثة الغربية، وبامتداد قنواتِ للتواصل بين الثقافتين » [ القائل : محمد برادة، والمصدر د. عبد الرحمن الزنيدي: العصرانية في حياتنا الاجتماعية ص 27 ] ..
و( العلمانية ) التي يُوصفون بها أحياناً، لا يكتفون بالانتماء إليها، بل ويبلغ الهوسُ بهم وبها حداً يتهمون ( القرآن الكريم ) بالعلمنة ؟ ويقول قائلهم: إن الدراسة المُعمّقةَ للقرآن الكريم تُبين أنه عَلماني المنحى، وإنما حوَّله المسلمون إلى وجهة دينية ؟! [ القائل : حسن حنفي ، انظر د. الزنيدي : العصرانية ص 44 ]
وهؤلاء القوم لا يكتفون بالانخداع والمخادعةِ لمنهج التغريب بل يصرون - مع ذلك - على نقد المناهج التي قام عليها التراثُ الإسلامي ويقول أحدُ كُبرائِهم:
« كي نؤمن بفعالية المنهج العلمي الغربي لا بد أن ننقد المناهجَ التي قام عليها التراثُ عند المسلمينَ قيمتَها في دائرة المنهجية القائمةِ اليوم » ؟ [ محمد عابد الجابري ، نقل العقل العربي ، د. الزنيدي ، العصرانية ص 44 ]
إن نظرتَهم تلك للإسلام والقرآن، وارتباطَهم بحضارةِ الغرب وثقافتهِ، وتسويقَهم لفكرِه وترحيبَهم بغزوه - كلُ ذلك يجعلنا نتبين هويّة القوم وجذورَهم التاريخية، فلا ننخدع بطروحاتِهم الزاعمة للإصلاح، ولا نُغَرَّ بمقدماتِهم القائلة « في ضوء شريعتنا الإسلامية » أو « وفيما لا يتعارض مع ثوابتنا وقيمنا » أو من مثل قولهم « في إطار قيمِ المجتمعِ ومبادئه » إنها عبارات خادعة، وذرٌ للرماد في العيون ، واستغفالٌ للبسطاء !
أجل لا بد أن نعيَ وندرك ونتدارك الأمرَ قبل فواتِ الأوان، ففي مجتمعنا ناقوسُ خطر، وحصونُنا تُهدد من داخلها، وفينا سما عون لهم، بل ومروِّجون لبضاعتهم ومستبشرون بغزوهم، فهل بعد هذا من خطر !!(5/477)
إنَّ هذه الشريحةَ في مجتمعنا- وإن قلَّ عددُها- لها امتدادٌ خارجي، ولذا تراهم ينشطون أثر حينما يقترب أسيادُهم من بلاد المسلمين، وتراهم يرقصون على الجراح النازفة ويتلذذون بالمآسي النازلة ، وبالتالي فهم لا يهددون هويتنا الإسلامية فحسب، بل ويهددون كياننَا الاجتماعي والسياسي، ويطمع الغرب ويُراهن على استخدام هؤلاء في فرصِ سلسلاتهم في الشرق الأوسط ، فقد ذكر مسؤولٌ في أحد مراكزِ البحث في ( واشنطن ) أن المركزَ يعمل لاختيار عددٍ من الشخصيات الإصلاحية، ودعوتها إلى واشنطن للتعاون معها - في سبيل الترويج لمبادرة أمريكا لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط خلال الأشهر القادمة، وأن تلك الشخصيات ستحصل على حمايةٍ ضمنية من خلال حصولها على دعمٍ سياسي وإعلامي سيفرضها على الساحةِ السياسية
( جريدة الحياة ) .
وهؤلاء ومرةً أخرى بلا حياءٍ ولا خوفٍ يقولون مستبشرين ومبشرين بالحملة الأمريكية على بلاد المسلمين: « وإذا كانت الحملة الفرنسية على مصر ومشرقِ العرب، أو الصدمة الأولى قبل قرنين من الزمان تقريباً - قد قدمت العرب للحداثة، وقدمت الحداثة للعرب، فإن الحملة الأمريكية سوف تقدم العرب للعولمة، وتقدم العولمة للعرب على أوسع نطاق »
( تركي الحمد ، الشرق الأوسط ) ..
إنهم باختصار خطرٌ يتهددنا من الداخل، وخَطرٌ يُهيئ السبلَ للمستعمر، ويبشرَ ويمهد الطريق للغزو الخارجي، ولا غرابة بعد هذا أن تكون حملاتُهم الشعواءُ ضد مناهِجنا الدراسية، ومطالباتُهم المتكررة بالتغيير، وإذا حققوا شيئاً من نجاحاتهم على حين غفلةٍ منا فهل يستطيعون تحقيقَ نجاحاتٍ أخرى ؟ .
إنهم لا يحملون على علماء الأمة ورموزِ الصحوةِ الإسلامية، بل يهددون المجتمعَ بأسره، فإذا صدرت فتوى معتبرةٌ شنَّوا على المفتي حرباً لا هوادةَ فيها كما حصل مع المفتي في بيانه عن فتوى جده الاقتصادي، وإذا نجح نشاط إسلامي أجلبوا عليه، واتهموا القائمين به - كما حصل في تعليقهم على مخيم جُدّه الرسمي .
المرأة لم تسلم من مكرهم، فهم يريدونها سافرةً مختلطة، وغايةُ أمانيهم أن تكون المرأة المسلمة كالمرأة الغربية في ضياعها وحيرتها وشقائها ؟
والإعلام في بلادنا خرجوا به عن حدود السياسة المرسومة، وتجاوزوا بنودَه وموادَه المقررةَ، وتربعوا على ناصيته فلا يُتيحون الفرصةَ إلا قليلاً لمن يخالفهم وينقدُ مسارَهم، أو يطرح طرحاً معتدلاً ونزيهاً.
بل زادوا وتجرؤا على نقدِ السياسات العليا للدولة ليخلخلوها ويطرحوا البديلَ عنها، كما حصل من أحدهم في نقد السياسة العليا للتعليم، حينما استغرب أن يكون من أهداف ( المرحلة المتوسطة ) : حفزُ همةِ الطالب لاستعادة أمجادِ أمتِه المسلمة التي ينتمي إليها ؟ واستغرب كذلك أن تُخصص سبعة أهداف ( في المرحلة الثانوية ) للجوانب الإسلامية ؟ [ جريدة الوطن 17 شوال 1424 هـ عدد 1168 ] ..
غريب هذا الطرح في زمنٍ باتت الأممُ تعتزَّ بهويتها - وتُعمق الانتماء لفكرها في مناهج أبنائها، ولكن الأغربَ أن يُسمح لهذا الطرح الفجَّ - وأن يُغفل عن الأهدافِ من ورائه ؟ وأن تزيد لهجةَ هؤلاء ليسوِّق للفكرِ العفن القادم من الغرب، وحين لا يخفى أن الغرب باشر غزوَ العرب والمسلمين إعلامياً عبر إذاعة ( سوا ) ومجلة ( أهلاً )، وأخيراً أطلقت الإدارة الأمريكية قناة ( الحرّة ) الفضائية الإخبارية وباللغة العربية - فقد يخفى على البعض أن بعضَ هؤلاء المرجفين المطبلين سَخر في مقالةِ له باللذين يرفضون ( قناة الحرّة )، وقال : أمةٍ تخشى من محطةٍ فضائية مهما كان لونَها ومصدرها هي أمة خائفةٌ ومترددة ، ودعا إلى النظر إلى هذه القناة باعتبارها إضافةً جديدةً للحرية التي نحتاجها مثل حاجتنا للهواء النقي، وفي المقابل يرفضُ هذا المُطبل كلَّ ما تبثه القنوات الفضائية إذا كانت ضد الهيمنة الأمريكية .
أليس هذا بذلٍ وهوان وانتكاس في المفاهيم والقيم ؟! [ د.نورة السعد ، الرياض ، 28/12/ 1424 هـ ]
إذاَ نحن أمام هجمةٍ شرسة على ثقافتنا وقيمنا، وأمام تسويقٍ مفضوح للبضاعة المزجاةِ لأعدائنا، تتكئ هذه الهجمة على الإعلام، وتسخر من مناهجِ التعليم، وتسعى جاهدةً لإفسادِ المرأة ، وترشق بسهامها الموتورة أهلَ الخير، ولا يسلم من نقدها المسؤولون والمنظرون للسياسات العليا في البلاد ، إنها خلخلةً للكيانِ كله، واستهدافٌ للمؤسسات التربوية والدعوية، وتمهيدٌ للغزاة، ومجاهرةٌ بالفسوق وإعلان للتطرف، وتلويحٌ للإرهاب .
فكيف يكون الموقف، وبماذا يُنقذ العباد، وتسلم البِلاد ؟
1- لا بد أولاً من الوعي واستشعار هذهِ المخاطر، ومعرفة أصحابِ اللحن في القول، ورصد التوجهات، والتعرف على الصِّلات والارتباطات.(5/478)
2- ولا بد ثانياً من النصح والمصارحة لهؤلاء، فقد يكون من بين هؤلاء مُغترٌ فيعود إلى رشده، أو جاهلٌ مستغرق في خيالاته، وتجاربُ من سبقه توقفه على الحقيقة، وهذه تجربةٌ شجاعةٌ يقول صاحبها - بعد أن هداه الله - « اندفع الفكرُ المتغرب يُشهر حرباً شاملةً على الإسلامِ وأهله ، ظاناً أن في ذلك تحريراً للشعب وللمرأة ، وإطلاقاً للعقل، ولكنَّه ما درى أن تلكَ الحربَ تأتي بنتائج عكسيةٍ تماماً، إذا بالشعب يُحطِّم ويُشل، وإذا بالمرأة تتيه وتضيع، وإذا بالعائلة تتمزق وتتخبط، وإذا بالعقل يصبح مغلولاً إلى الغرب، وإذا بالاستقلال تبعيةً ، وإذا بالتقدم الاجتماعي مزيداً من التخلف ، ثم وصلت الأمور إلى أن يُعلن ذلك الفِكرُ نفسَه أننا نعيش زمنَ الانحطاطِ العربي ؟! [ منير شفيق ، الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر ص 148، 149 / عن د.الزنيدي ، العصرانية س 47 ]
3- ولا بد من تكاتف الجهود مع كل مخلص لحماية البلاد والعباد من خطرِ هؤلاء، مع اعتبار أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن » واعتبار أن المركبة واحدة والسلامةُ للجميع .
4- لا بد من مشاريع عمليةٍ، ومثابرة في الإعلام والتعليم والتربية والتوجيه والدعوة، وأن تكون شاملةً للمرأة والرجل، والطفل والكبير والمثقف والعادي.
5- لا بد من وضع حدٍ للنقد الصارخ لسياسات الدولة العليا، وفي مقدمتها السياسةُ التعليمية والإعلامية، وإن الإصلاحَ مطلب ولكن تجريدها من عمقها الإسلامي وأهدافها العليا أمرٌ مرفوض .
6- الارتقاء بمستوى وعي الناس عموماً والخيرين خصوصاً، والجرأة في تصحيح الأخطاء وتطوير الأعمال والمؤسسات حتى تكون المشاريع الإسلامية على مستوى التحدي والقدرة على الجذب والتأثير.
7- ربط الجسور مع كل جهدٍ خيِّر ، والتعاون مع كل عاملٍ مخلص، وأهمية التواصل مع الآخرين، وعدم الانكفاء على الذات، فمظلة الدين واسعة، وهاجسُ حماية الوطن من المؤثرات الخارجية والداخلية هدف يشمل شريحةً كبرى في المجتمع .
8- تعميم توعيةِ الناس بالانحرافات الفكرية والأخلاقية في وسائلِ الإعلام عموماً، والتنبيه إلى مخاطرِها الواقعة والمستقبلية، واستنهاض الجميع للاحتساب على المنكر والأمر بالمعروف، فليس أضرَّ على الناس من قومٍ يُلبسون عليهم دينهم ويزيفون وعيهم ؟
9- التواصل مع ولاة الأمرِ من الأمراء والعلماء وأهل الفكر، وأصحاب المال والجاه والمسؤولية، والتشاور معهم في وضعِ حدٍ للمبطلين .
10- التعامل مع الأحداث والمستفزات بحكمةٍ وعمق، فلا نُخدع ولا نُستفز، ولا نتعرف بردود الأفعال، ولا نقابل الخطأ بخطأٍ آخر.
============(5/479)
(5/480)
من نحن ومن الآخر؟!
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيما- وصلى الله وسلم- وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
أما بعد :
فإن القيام بالعبودية الحقة لله عز وجل لا يتم إلا بالإخلاص له سبحانه في عبادته، وأن تكون العبادة على بصيرة واتباع لما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم -، وإن البصيرة في الدين لا تتحقق مادام الباطل ملتبسا بالحق، وبمعنى أخر، فإن البصيرة في الدين لا تحصل إلا بوضوح الحق وتنقيته من الباطل الملتبس به، قال تعالى: (( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) ( البقرة: 256) .
وقال سبحانه: (( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) (يونس: 32).
لذا كان لزاما على العبد أن يعرف الحق بدليله ما أمكن، وأن يزيل عنه الباطل الذي علق به، وذلك حتى يأتي بالعبادة على وجهها المقبول عند الله عز وجل، وإن من أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد فتنة التزيين، ولبس الحق بالباطل، واتباع الهوى في ذلك، ولقد وقع في هذا الشَّرَك العظيم كثير من الناس بعضهم عن علم وبعضهم عن جهل، وقد كثر اللبس والتضليل في عصرنا الحاضر؛ حيث ظهرت وسائل ماكرة ومضللة لبست على الناس دينهم وخلطت الحق بالباطل، بل وصل الأمر لدرجة قلب الحقائق، وإظهار الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وتعاون شياطين الجن والإنس : (( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )) ( الأنعام: 112) .
في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة وألفاظ خادعة، وتسمية للأسماء بغير مسمياتها، فضلَّ بسبب ذلك كثير من الناس .
وإننا في زماننا هذا لنرى صوراً كثيرة من لبس الحق بالباطل، وصوراً من ليِّ أعناق النصوص، وصوراً كثيرة من المغالطات والخداع والحيل المحرمة المفتراة على دين الله عز وجل، فكان لزاما على الدعاة والعلماء أن يحذروا بأنفسهم من الوقوع في هذه المزالق وأن لا يسكتوا عليها بل يجب عليهم أن يكشفوها للناس ويحذروهم منها، وأن لا يدعوهم لأهل الأهواء يلبسون عليهم دينهم، ويحرّفون الكلم عن مواضعه وهذا ما أخذه الله عز وجل على أهل العلم بقوله: (( وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ )) (آل عمران: 187) .
وإن كل من لبس على الناس دينهم أو كتم الحق عنهم ففيه شبه ممن زجرهم الله عز وجل بقوله : (( وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) (البقرة: 42) .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: عند هذه الآية ( نهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه ولبسه به: خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالأخر، ومنه التلبيس: وهو التدليس والغش الذي يكونه باطنه خلاف ظاهره؛ فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق، وتكلم بلفظ له معنيان : معنى صحيح، ومعنى باطل، فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح، ومراده الباطل، فهذا من الإجمال في اللفظ ]الصواعق المرسلة 3/926[.
ويقول في موطن آخر: (وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم ؟ فالغبي ينظر إلي ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة يتفقد مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم ، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود، وكم من باطل يخرجه الرجل يحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حق يخرجه بتهجينه، وسوء تعبيره في صورة باطل؟ ومن له أدنى فطنة وخبره لا يخفى عليه ذلك) ]أعلام الموفقين 4/229[.َ
وإن ما يطرح اليوم في وسائل الأعلام وبعض الحوارات والندوات من تلاعب بالمصطلحات والمسميات لا يقف خطرها على الألفاظ فحسب بل تجاوزه إلى المضامين والأصول والثوابت، ومع ذلك لم يتصد لخطرها والرد عليها إلا أفراد قلائل لم تبلغ ردودهم حد الكفاية في الإعذار والإنذار، مع أن الأمر من الخطورة بحيث يجب التصدي له من قبل أهل العلم والدعوة وأن يبلغوه للمسلمين في الوسائل المتاحة ليدركوا خطره وليحذروا من الوقوع في زخرف الملبسين وتضليل المضللين وبخاصة أن الأمر يتعلق بأصول هذا الدين وثوابته وليس بفروعه وجزئياته.
وإن من المصطلحات التي تطرح اليوم طرحاً انهزامياً ًينم عن الشعور بالمهانة والذلة والحرج، من أصول هذا الدين ما يعمل له اليوم من حوارات ولقاءات صحفية ومؤتمرات تدور حول مصطلح (نحن والأخر).
فما هو المقصود بمصطلح (نحن والأخر) ؟
إن هذا المصطلح من المصطلحات الغامضة الحمالة لمعاني مختلفة، ولعل ذلك مقصود ممن هم وراء طرحه وإثارته، ولذلك لابد من تحرير هذا المصطلح، وكشف أبعاده ليتعرى الملبسون المضللون الذين يعنون ما يقولون، وليحذر الذين غرر بهم بتبني هذا المصطلح من بعض أهل العلم والدعوة.
ولتحرير هذا المصطلح والهدف من طرحه نستعرض المعاني المستعملة التي لا يخرج عنها تفسير هذا المصطلح.(5/481)
الاستعمال الأول: وهو ما ذكره المجتمعون في اللقاء الوطني الخامس للحوار الفكري المنعقد في أبها في الفترة من 11ـ13/11/26هـ حيث جاء في بيانهم الختامي تعريفهم لهذا المصطلح بقولهم: (وقد أتجه المجتمعون إلى التعبير بأن المقصود بـ(نحن) أي: المواطنين السعوديين الذين يجمعهم دين واحد هو الإسلام، ووطن واحد هو المملكة العربية السعودية، وله أراء وتوجهات متنوعة، (والأخر) هو المجتمعات الإنسانية الأخرى بجميع أديانها وحضاراتها وأوطانها) ولا يخفى ما في هذا الكلام من أبعاد خطيرة تبينها المناقشات التالية.
أولاً: قولهم بأن المقصود بـ(نحن): المواطنين السعوديين ... الخ، و(الأخر):هو المجتمعات الإنسانية الأخرى ... الخ ) . إن في هذا القول مزلقاً عظيماً وتجاهلاً واضحاً لعقيدة الولاء والبراء في هذا الدين، فالله عز وجل يقول: (( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )) (الأنعام: 14) .
ويقول سبحانه عن نبيه نوح عليه السلام مع ابنه (( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)) (هود:46 ) .
ويقول سبحانه ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) (الحجرات: 10) .
ويقول عز وجل ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ )) (التوبة: 71) .
وفي ضوء هذه الآيات وأمثالها من القرآن الكريم يتبين المزلق الكبير لتعريف ( نحن) و(الأخر) إذ كيف تحصر كلمة( نحن) في المواطنين السعوديين الذين يجمعهم دين واحد ووطن واحد ... الخ، إذن فأين محل إخواننا المسلمين في الأوطان الأخرى، ومن بينهم العلماء والعباد والمجاهدين والدعاة والمصلحين ؟ وهل هؤلاء يخرجون من دائرة (نحن)؟ أين الولاء والموالاة بين المؤمنين إذا ساويناهم بالأخر الكافر أو الملحد والمنافق ممن يعيشون خارج الوطن.
ثانياً: وقالوا في تعريف من (نحن)؛ بأنهم (الذين ينتسبون إلى الإسلام في الوطن الواحد وإن تنوعوا مذهبياً وفكريا وثقافياً واجتماعيا، فلا يجوز استخدامه لاختراق الوحدة الوطنية) ، إنه لا يخفى ما في ذلك من خرق لعقيدة الولاء والبراء في هذا الدين، فكم في الوطن الواحد من العقائد الباطلة الكفرية التي يخرج صاحبها من الإسلام؛ كمن يعبد غير الله عز وجل ويستغيث به ويدعي أن غير الله تعالى يعلم الغيب كغلاة الشيعة والصوفية، وكم في الوطن الواحد من يكفر أصحاب صلى الله عليه وسلم ويعاديهم، ويقذف نساء النبي- صلى الله عليه وسلم - العفيفات الطاهرات، وكم في الوطن الواحد من المنافقين الذين يبطنون العداء للإسلام وأهله ويوالون الغرب وأهله، فهل هؤلاء هم منا ونحن منهم لأننا وإياهم نعيش في وطن واحد ؟ إننا بهذا الفهم نعود إلى صورة من صور الجاهلية الأولى التي جاء هذا الدين للقضاء عليها وجعل رابطة العقيدة والإيمان فوق كل رابطة يعادى من أجلها ويوالى من أجلها ويحب من أجلها ويبغض من أجلها.
قال صلى الله عليه وسلم ((من تعزى بعزاء أهل الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا تكنوا)) .
فسمع أبي بن كعب رجلاً يقول: يا لفلان ! فقال: أعضض أير أبيك فقال: يا أبا المنذر! ما كنت فاحشاً، فقال بهذا أمرنا رسول ا صلى الله عليه وسلم . رواه أحمد في مسنده (20728) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (269).
ويشرح شيخ الإسلام هذا الحديث فيقول: (ومعنى قوله: من تعزى بعزاء الجاهلية) يعني يتعزى بعزؤاهم، وهي الانتساب إليهم في الدعوة، مثل قوله: يا لقيس! يا ليمن! ويا لهلال! ويا لأسد، فمن تعصب لأهل بلدته، أو مذهبه، أو طريقته، أو قرابته، أو لأصدقائه دون غيرهم كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله) مجموع الفتاوى 28/422.
والآيات في كتاب الله عز وجل كثيرة تلك التي تركز على عقيدة الولاء والبراء، وأنها هي الأصل في رابطة الحب والبغض والاجتماع والافتراق، وأكتفي بقوله تعالى: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )) (الممتحنة: 4) .
هذه هي الملة الإبراهيمية وهذا هوا الدين المحمدي، فهل أصبحت الوحدة الوطنية هي صاحبة السيادة العليا التي يعقد عليها الولاء والبراء، إن مما تعلمناه من كتاب ربنا عز وجل وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأقوال سلفنا الصالح أن الأصل الذي يقوم عليه الولاء والوحدة والإتلاف هوا التوحيد والبراءة من الشرك وأهله.(5/482)
وإلا فلا وحدة ولا اجتماع، بل المفاصلة والبراءة، إذاً فكيف يقول القوم هداهم الله عز وجل بأن التنوع المذهبي أو الفكري أو الثقافي لا يجوز استخدامه لاختراق الوحدة الوطنية) ؟ هل يعني هذا أن الوحدة الوطنية فوق عقيدة التوحيد، وعلى حساب عقيدة الولاء والبراء ؟ إن مصطلح التنوع المذهبي أو الفكري أو الثقافي من المصطلحات العائمة الغامضة، لكن اللبيب يعرف ما المقصود منها؛ إنها تعني أن أي مذهب عقدي شركي أو بدعي فما دام أنه داخل الوطن الواحد فينبغي الاعتراف به وعدم الافتراق معه ضماناً للوحدة الوطنية، وهذا مخالف لدين نبينا صلى الله عليه وسلم وللملة الإبراهيمية، حيث لا ولاء ولا محبة لمشرك، وعليه فإن من يعبد علياً أو الحسين رضي الله عنهما) ويسب أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم ليس بأخ لنا، وإن الصوفي الخرافي الذي يطوف بالقبور ويستغيث بأهلها ليس بأخ لنا، وأن الليبرالي المنافق الذي يبطن كره الإسلام وأحكامه، ويدعو إلى محاكاة الغرب الكافر وتشريعاته ليس بأخ لنا، إن الوحدة الوطنية يجب أن تخضع لعقيدة التوحيد وليس العكس الذي تكون فيه الوحدة الوطنية على حساب عقيدة التوحيد، وكما قال الله عز وجل عن نوح عليه السلام مع ابنه ((إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكََ)) (هود: 46).
فنحن نقول كذلك إن أعداء التوحيد ليسوا من أهلنا ولا من قبيلتنا ولا من وطننا، فإما أن يرجعوا إلى توحيد الله ويدخلوا في السلم كافه فيكونوا إخواننا، وتجمعنا بهم وحدة الدين، ويزيدها قوه وحدة الوطن وإلا فلا وحدة ولا وطنية معهم.
إن الولاء والبراء مع أنه مطلب شرعي عقدي إلا أنه أيضاً مطلب فطري وعقلي فلا نجد جنساً من الأجناس يرتبطون برابطه من الروابط إلا وتظهر عليهم هذه الصفة، حيث يوالون بني جنسهم ويعادون من يعاديهم حتى في عالم الحيوان والطير ، والكفار أنفسهم ينطلقون في ولائهم وبرائهم من هذا المنطلق، وقد أعلنها طاغوتهم بوش حينما قال: (من لم يكن معنا فهو ضدنا)، هذا هو ولاء الكفار وبرائهم، لكن المسلمين يتميزون عن جميع الأجناس بأن عقيدة الولاء والبراء تنطلق من كلمة التوحيد، فمن كان من أهلها فهو ممن يحبه الله تعالى، فنحب من يحبه الله عز وجل، ومن كفر بها أبغضه الله وأصبح عدواً لله فحينئذ نبغضه لأن الله يبغضه، أما بقية الأجناس الأخرى كالحيوان والكفار وأصحاب الروابط الجاهلية من بني آدم، فهم يوالون ويعادون على الماء والتراب والمرعى والمصالح الدنيوية، والمسلمون يوالون ويعادون في الله تعالى. وهذا هو ما يزعج الكفرة والمنافقين، حيث يريدونها روابط جاهليه عصبية عُمّية لا دخل للدين فيها.
ثالثاً: وهنا مسألة أخرى لا تقل خطراً عن سابقتيها ألا وهي النظر لمصطلح (نحن) والذين عبروا عنه بأبناء الوطن الواحد ممن ينتسب إلى الإسلام بنظرة التساوي والندية بين رؤوس الأطياف والمذاهب الفكرية المجتمعة، وأنهم شئ واحد، أي أنه في مثل هذه الحوارات الوطنية وما يطرح فيها يتساوي التوجه السني السلفي ـ الذي هو السواد الأعظم في هذا البلد، وهو مرجعية أهله ـ بالتوجه الرافضي الحاقد الذي يقوم فكره على الشرك بالله تعالى وسب الصحابة رضي الله عنهم، والذي يمثل أصحابه القلة القليلة في البلد ، كذلك يتساوى مع التوجه الليبرالي التحرري الذي هم أقل القليل، مع ما يحمل من أفكار تحررية تتحلل من أحكام الله تعالى، سواء في مجال السياسة أو المرأة أو الاقتصاد أو الدين بأسره، وهنا مكمن الخطر إذ كيف يتساوى رؤوس الضلال الذين هم قله ونكرات ونبتات غريبة في مجتمعنا مع التوجه السلفي الشرعي الذي هو طابع أهل البلد وسواده الأعظم ، إنهم والله لا يستوون، ولكن هذه المؤتمرات الحوارية الوطنية تسوي بينها وترفع من شأنها كماً وكيفاً سواء علم القائمون بذلك أم جهلوا، وهذا من المخاطر الجسيمة الكثيرة التي تنجم من جعل الوطن والوطنية والمواطنة هي التي يعقد عليها الولاء والبراء.
وإن مكمن الخطر في هذه المساواة تكون حينما يكون الرافضي والليبرالي اللذان لا يشكلان بعداً في المجتمع ولا قيما ًولا تأثيراً مساوياً لرأي علماء أهل السنة في سن ما يريد من مفاهيم على التربية والتعليم والحياة الاجتماعية والثقافية بحجة التسامح، وقبول الأخر والتعددية وغيرها من المفاهيم الضبابية، التي يراد من خلالها إذابة هوية الأمة وفتحا لأبواب التغريب داخل المجتمع، ومن ثم جعل هذا ( الأخر) واقعاً لامناص منه حتى لو كان في قمة الشطط الفكري، وحتى لو كان داعية إلى الرذيلة أو الإلحاد والكفر، وهذا يصطدم مع أبجديات المفاهيم الإسلامية التي تأمر بحفظ الدين وسياسة الدنيا به والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل المرجعية الحاكمة لكل شؤون الناس منطلقة من الشريعة الربانية الخالدة ، [انظر تساوي الرؤوس، موقع المختصر] .(5/483)
الاستعمال الثاني: وهذا الاستعمال في تعريف مصطلح ( نحن) و(الأخر) هو المشهور عالمياً عند كل من يطرحه من المهزومين من المسلمين في حواراتهم وأعمدتهم الصحفية، وملتقياتهم ، ويفيد هذا المصطلح عندهم بأن (نحن) تعني المسلمين و(الأخر) من سواهم من غير المسلمين من الكفار والمنافقين، وفي هذا الطرح المنهزم من المؤاخذات العقدية ما يلي:
أولاً: العدول عن الأسماء والمصطلحات الشرعية التي جاءت في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبي صلى الله عليه وسلم إلى أسماء ومصطلحات بشريه غامضة، ونحاتات أفكار واهية أفرزتها عقول مهزومة فاستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتركت ما أسماه الله عز وجل من الأسماء المنطبقة على مسمياتها في كتابه سبحانه وتعالى، حيث قسم الناس إلى حزبين: حزب الله المؤمنين وحزب الشيطان الكافرين، قال الله عز وجل ((اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ )) (البقرة: 257) .
فليس هناك (نحن والأخر) وإنما هناك (المسلمون والكافرون)، قال تعالى (( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ ُ)) (الحج: 78) .
وقال تعالى ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ )) (التغابن: 2) وقال تعالى: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) (المائدة: 72) .
والآيات في ذكر الكفر والكافرين كثيرة جداً، جاء ذكرها في ما يزيد على 352 موضعاً، فلماذا التحرج من كلام الله عز وجل الذي هو أحسن الحديث وأصدقه وأفصحه (ومن أصدق من الله قيلا) (ومن أصدق من الله حديثاً) .
إن من يتحرج من كلام الله عز وجل وتسمياته، ويرتاح لكلام البشر ومصطلحاتهم ومسمياتهم يخشى عليه أن يكون تحت طائلة قوله تعالى: ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)) (الزمر: 45) .
لقد نهى الله عز وجل نبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه من بعده من أن يكون في الصدور حرج من الصدع بكل ما جاء في القرآن من أسماء وأحكام، وعقائد وقصص وأخبار، بل الواجب اتباعه فقال تعالى: ((المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ *اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)) (الأعراف: 2) .
وعند هذه الآية يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (والله تعالى رفع الحرج عن الصدور بكتابه، وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق، فلما أنزل كتابه؛ أرتفع به عنها ذلك الحرج، وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمنوا به، كما قال تعالى: ((فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا )) (الأنعام: 125) (الصواعق المرسلة : 4/1518؟) .
ويقول أيضاً في موطن أخر: (ولا تجد مبتدعاً في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته، كما أنك لا تجد ظالماَ فاجراَ إلا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته، فتدبر هذا المعنى ثم أرض لنفسك بما تشاء) ا.هـ ]الفوائد ص90[.
فهل بعد هذه الآية وقول هذا الإمام الجليل فيها من عذر لمعتذر يجد في نفسه حرجاً أو ضيقاً أو حياءً من الصدع بالحق الذي في كتاب الله عز وجل، أو أن يستبدل به نحاتات الأفكار وزبالات الأذهان من كلام البشر ؟ .
وأسوق في هذا المقام رداً نفيساً لفضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى على الذين استبدلوا مصطلح (نحن والأخر) بما في كتاب الله عز وجل ( المسلم والكافر) :
يقول: وفقه الله تعالى (وقد وضع الله فوارق بين المؤمنين والكفار في الدنيا والآخرة، ونهى عن التسوية بين الفريقين، وجعل لكل فريق جزاء وأحكاماً في الدنيا والآخرة، ووضع لكل فريق اسماً مميزاً كالمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمشرك والموحد، والفاسق والمنافق، والمطيع والعاصي، ونهى عن التسوية بين المختلفين في هذه الأسماء والسلوكيات فقال سبحانه: )) أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (( (الجاثية:21) .
وقال تعالى (( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ )) (ص:28).(5/484)
يعني لا نجعلهم سواء، لأن ذلك لا يليق بعدل الله، وأمر المؤمنين بالبراءة من الكفار والمشركين، ولو كانوا من أقاربهم، قال تعالى (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )) (الممتحنة:4) .
ـ وهذا أصل من أصول الإيمان والدين متقرر في الكتاب والسنة وكتب العقيدة الصحيحة لا يماري فيه مسلم ـ .
ولكننا في هذه الأيام صرنا نقرأ في بعض الصحف نقلاً عما دار في مؤتمر الحوار الوطني محاولة واقتراحاً من بعض المشاركين ـ نرجو أن تكون تلك المحاولة والاقتراح صادرين عن جهل، وذلك كما نشر في بعض الصحف أن يترك لفظ الكافر ويستبدل بلفظ مسلم وغير مسلم، أو يقال المسلم والآخر، وهل معنى ذلك أن نترك ما ورد في القرآن والسنة وكتب العقيدة الإسلامية من لفظ الكفر والشرك، والكفار والمشركين، فيكون هذا استدراكاً على الكتاب والسنة، فيكون هذا من المحادة لله ولرسوله؟ ومن تغيير الحقائق الشرعية فنكون من الذين حرفوا كتاب ربهم وسنة نبيهم، ثم ما هو الدافع لذلك ؟، هل هو إرضاء الكفار، فالكفار لن يرضوا عنا حتى نترك ديننا، قال تعالى (( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) (البقرة: 120) .
وقال تعالى: ((وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ)) (البقرة:217) .
(( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء )) (النساء89:).
ثم إنه لا يجوز لنا إرضاء الكفار والتماس مودتهم لنا وهم أعداء لله ولرسوله. قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ)) (الممتحنة:1).
وإن كان مراد هؤلاء المنادين بتغيير هذه المسميات الشرعية التلطف مع الكفار، وحسن التعامل معهم، فهذا لا يكون على حساب تغيير المسميات الشرعية، بل يكون ذلك بما شرعه الله نحوهم [انتهى مختصراَ].
ثانياً: لو أن الأمر في استبدال ( الآخر) بالكافر توقف عند الاستبدال اللفظي لكان الأمر أهون مع مخالفته لكلام الله عز وجل كما تبين، ولكن الخطورة في هذا الاستبدال يتجاوز اللفظ إلى الهزيمة النفسية أمام الأخر الكافر، وذلك بالدعوة إلى عدم الكراهية له ، وإخفاء ظلمه، وعدوانه، وإرهابه، وكأنه مظلوم قد سلبت حقوقه !! ويشعر السامع من الذين يطرحون مصطلح (الآخر) بأنهم يعيشون تحت ظرف سياسي داخلي أو خارجي صور لهم الأخر، وكأنه مظلوم يريد من ينصره ممن ظلمه!!
واعتمدوا في ذلك على نصوص في الكتاب والسنة تدعوا إلى التسامح والبر والقسط مع الكفار، وحرفوها عن معانيها، وفصلوها عن مناسباتها التي نزلت فيها، ونسوا أو تناسوا الآيات التي فيها وجوب عداوة الكافر والبراءة منه، وجهاده حتى يكون الدين كله لله.
فمما ورد في البيان الختامي في اللقاء الوطني الخامس للحوار الفكري، قولهم في تفسيرهم لمعنى (البراء): بأنه ( الابتعاد عما يتناقض مع الإسلام وعدم التعاون مع أهله عليه، ولا يعني ذلك التعدي على حقوقهم أو عدم التعاون معهم في القضايا العادلة).
اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان، أهذا هوا ما يريده الله عز وجل من معنى البراءة في القرآن؟ أهذا هوا الموقف الذي وقفه إمام الحنفاء إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- مع أبيه وقومه حينما قال: (( إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ )) (الزخرف:27،26) .
وقوله سبحانه عن خليله: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )) (الممتحنة: 4) .
ما هذا التحريف في ثوابت الدين وأصوله، إن البراءة من الكافر في الإسلام تعني بغضه وبغض ما هو عليه من الكفر، وعداوته كما جاء ذلك في الآية السابقة، هذا إذا كان مسالماَ، أما إذا كان حربياً فإنه يضاف إلي المعاني السابقة جهاده وقتاله، ورد عدوانه وإزاحته من طريق الحق والتوحيد ليصل الحق إلي قلوب الناس، ويفرض سلطان الإسلام ودولته عليهم ، إن المسلم حينما يسمع مثل هذه التعاريف والمواقف المتخاذلة ليخرج بنتيجة واحدة مفادها المطالبة بعدم كراهية الكافر، وأن نحترمه ونحافظ على حقوقه، ونشفق عليه، وكأنه هو المظلوم المسلوب الحقوق!! فهلا يعلم قومنا ما فعله الكافر (الأخر) وبخاصة أهل الكتاب في المسلمين في القديم والحديث ليعلموا من هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه ؟.(5/485)
إن رفع شعار التسامح والصفح مع الكفار اليوم ليوضع في غير موضعه، لأن في ذلك خلط وتلبيس وتضليل، حيث تسمى الموالاة والمداهنة للكفار تسامحاً ومداراة، وفرق كبير بين المداراة والمداهنة التي فيها تصحيح مذاهب الكفار أو السكوت عليها، وإظهار المحبة لهم ونسيان عداوتهم وحربهم للمسلمين في القديم والحديث، (إن الذين كفروا من أهل الكتاب هم الذين ألبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة، وكانوا لهم درعاً وردءاً، وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية ، وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان، في الحبشة والصومال وأرتيريه، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية في يوغسلافيه والصين والتركستان والهند، وفي كل مكان، وهم الذين قتلوا أهلنا ونسائنا وأطفالنا في أفغانستان والعراق، ثم يظهر بيننا من يظن أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر ندفع به الإلحاد والإرهاب، إن هؤلاء لا يتدبرون القرآن الكريم، وإلا لما اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام بدعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن.
إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية يخطئون في فهم معنى الأديان، كما يخطئون في فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي.
إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم، بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام ، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام، ولا يقبل دونه بديلاًَ، ولا يقبل فيه تعديلاً -ولو طفيفاً- هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم، وهو يقرر ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)) (آل عمران: 19) .
((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ )) (آل عمران: 85)
(( وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ )) (المائدة: 49) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )) (المائدة: 51) .
وفي القرآن كلمة الفصل، ولا على المسلم من تميّع المتميعين، وتميعيهم لهذا اليقين ) ، ]طريق الدعوة : أحمد فايز ، بتصرف يسير.[
* ومما ورد في بيانهم الختامي أيضاً قولهم في تعريف الجهاد :( هو بذل الجهد في تحقيق الخير ودفع الشر، علماً أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هي السلم، والحرب حالة طارئة شرعها الإسلام لدفع ورفع الظلم والعدوان) .
أهذا هو تعريف الجهاد وبواعثه في الإسلام ؟
إن المتدبر لكتاب الله عز وجل وسيرة الرسو صلى الله عليه وسلم ليتبين له وبوضوح أن الجهاد شعيرة عظيمة من شعائر هذا الدين، وهو إنما شرع رحمة بالبشرية الضالة بعامة، وبالمسلمين بخاصة، فالجهاد غايته كما قال الله تعالى (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه )) (الأنفال: 39) .
إن المتأمل لهذه الآية ليدرك أن الجهاد لم يشرع لدفع ورفع الظلم والعدوان فحسب، نعم هذا هو جهاد الدفع، وإنما شرع أيضا لإيصال الحق والتوحيد والهداية للناس في بقاع الأرض ليكون الدين كله لله؛ لأن سنن الله عز وجل اقتضت أن يكون الصراع بين الحق والباطل، وأن المسلمين وهم يبلغون دين الله تعالى للبشرية سيواجهون من يقف أمامهم للحيلولة بين الناس من ورائهم، وبين أن يصل إليهم هذا الدين، وحينئذ شرع الجهاد بالسيف لإزالة هذه الحواجز من طواغيت الأرض من طريق الحق، حتى يصل الحق الواضح البين إلي قلوب الناس، ويخضع الجميع لدولة الإسلام، وحينئذ لا إكراه في الدين لأنه قد تبين الرشد من الغي، وحين يكون الدين في البلاد المفتوحة من قبل المسلمين لله عز وجل، يختار أهل هذه البلاد إما الإسلام أو دفع الجزية والعيش بأمان في ظل الدولة المسلمة، وهذا هو جهاد الطلب الذي لولاه لما وصل إلينا الإسلام في بلادنا، ولما انتشر الإسلام في بقاع الأرض، وهذا ما أغفله المجتمعون في حوارهم الوطني وهم يعّرفون الجهاد .
فهلا سألوا أنفسهم ما لذي جعل المجاهدين الأوائل من الصحابة والتابعين يفتحون البلدان النائية كفارس والروم وخراسان وسمرقند والهند والسند. هل تعرض المسلمون لعدوان من أهل هذه البلاد ؟ أم أن المسلمين كانوا يرون أن من واجبهم إيصال هذا الدين إلي العالمين رحمة بهم، فإذا اعترض أحد يعيقهم عن نشر هذا الدين أزاحوه بالسيف إن لم يزح بغيره، حتى يكون الدين كله لله، ويخضع الجميع للدولة المسلمة .(5/486)
وختاماً: أدعوا الذين أقرّوا هذا البيان الختامي للحوار الوطني، أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم وأمتهم، وأن يراجعوا ما دونوه من هذا الكلام الخطير في بيانهم، لأن فيه قدح لأصول هذا الدين وثوابته أو على الأقل فيه تلبيس وتدليس، وأخص من شارك في هذا الحوار من المنتسبين للدعوة والعلم والسنة، فإما أن يقولوا كلمة الحق ويواجهوا الباطل وأهله بها فتبرأ ذمتهم بذلك، وإما أن يفارقوا هذه المجالس ويعتزلوا أهلها وما يخوضون فيه، فهذا أعذر لهم عند الله عز وجل وعند الناس ، لأن الله تبارك وتعالى يقول: (( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) (الأنعام:68) .
اسأل الله عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يرزقنا الإخلاص له، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم
والحمد لله رب العالمين
============(5/487)
(5/488)
ماذا ينقمون على المرأة في ظل الإسلام؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله و بعد:
إن من أعظم النعم التي كرم اللَّه بها عباده المؤمنين أن شرع الله لهم شريعة قويمة وملة حنيفية، تنظم الإنسان والكون والحياة، تخاطب القلب والعقل والروح، وتحقق رغبات البدن دون تمادي إلى شهوانية حيوانية، أو دون حرمان الرهبانية كما تمارسه النصرانية والنيرفا الهندوكية، وهذا الدين هو دين الفطرة، قال تعالى: (( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ )) (الروم: 30) .
وقال سبحانه: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) (الأنعام: 153) .
ومن محاسن هذه الشريعة القويمة تكريم المرأة وحمايتها والإحسان إليها، خلاف ما عليه الجاهلية الأولى من وأد البنات، وحرمان النساء من الميراث، واعتبارهن من سقط المتاع، فجاء هذا الدين حاكماً بأن (( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ )) (البقرة: 228 ).
قائلاً: (( النساء شقائق الرجال )) [1]، آمراً (( استوصوا بالنساء خيراً)) [2] .
حاثاً (( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)) [3].
ولا غرو في ذلك لأن هذه المرأة هي أساس المجتمع، حيث هي الأم الحنون، والزوجة الصالحة، والأخت الفاضلة، فمن مدارسهن الحقيقية يتخرج الأبطال، وتتربى الأجيال، فهي المحور الحقيقي التي عليها صلاح المجتمع أو فساده.
من هنا كانت برامج وخطط المفسدين عبر قرون من السنين موجهة إلى هذا الكيان القوي الطاهر لتحطيمه وزعزعته، والقضاء على معاني الفضيلة فيه، ومن تأمل جهود أولئك في عدد من البلاد الإسلامية المجاورة رأى عملية التدرج في إفساد المرأة وخلطها بالرجل، ونبذها لحجاب الظاهر والباطن، وكانت في يوم من الأيام مضرب المثل في الحشمة والعفة والستر والحياء.
وهكذا خطوات الشيطان وعملائه في البلاد الإسلامية، ولا يسلم من هؤلاء بلد أو مكان، سنة اللَّه تعالى في التدافع والصراع بين الحق والباطل، ولم نسلم في هذه البلاد الطيبة ممن هم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب، يتباكون على وضع المرأة عندنا وظلمها، وعزلها عن شؤون الحياة، ومنعها من العمل، نعم الظلم والاحتقار وأكل الأموال وحقوق المرأة ممنوع شرعاً، ومرفوض طبعاً، ولكن ليس هذا حقيقة مطلبهم وغايتهم، ولكنهم يريدون أن يرسخوا في المجتمع أنموذج أسيادهم من الغربيين في إزالة الفوارق والفواصل والاعتبارات مطلقاً بين الرجل والمرأة،
وكم ظلت مؤتمرات المرأة والإسكان في الأعوام الماضية تركز على ذلك، وتطالب المجتمع الدولي بأسره بذلك، ولكن كيف نسي هؤلاء خصوصية هذا البلد، وتناسوا احتكام الجميع هنا إلى شريعة رب العالمين، التي جاءت بالهدى وهم يريدونها ميلاً وهوى، (( وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً)) (النساء: 27)
والتفريق ببين المتماثلين، هم يريدون الجمع بين المتباينين، هم من نصيب الشيطان المفروض الذي تعهد أن يضلهم ويمنيهم، ويأمرهم بتغيير خلق اللَّه، أما المؤمنون فهم عباد اللَّه، (( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً )) (الإسراء: 65).
إن من نعمة اللَّه علينا أن هيأ لنسائنا وبناتنا أجواء تربوية، وميادين تعليمية بمناهج مميزة، تحوطها الفضيلة، وتحرسها تعاليم الشريعة، على مسمع ومرأى من أهل العلم والغيرة، منذ عقود من السنين على شيء من النقص والانحسار، ولكنه على أية حال أنموذج فريد، وتجربة نوعية تفردت بها هذه البلدة في استقلال تعليم المرأة، وكانت محط إعجاب وإكبار للكثير من الشعوب الإسلامية، ولا ينكر ذلك إلاَّ جاهل أو حاسد أو صاحب هوى.
ومنذ زمن بعيد وتعليم المرأة عندنا يواجه حملة شعواء من أهل الصحافة ودعاة التحرير، الذين أعملوا أقلامهم، وأنشبوا مخالبهم بذلك الكيان التعليمي الرائد .
يقول الأستاذ الداعية محمد قطب: في كتابه تحرير المرأة: وهو يصور لنا حالة إحدى البلاد الإسلامية في التبرج والسفور، ومن أين كانت بدايته، وتلك البلاد أصبحت أسوة في التغريب والانحلال لكثير من بلاد المسلمين اليوم.
يقول: ( وأصبح من المناظر المألوفة أن ترى الأمهات متحجبات والبنات سافرات، وكانت الأداة العظمى في عملية التحويل هذه هي التعليم من جهة، والصحافة من جهة أخرى ..) .
ثم يقول: ( فأما التعليم فقد اقتضى معركة طويلة حتى تقرر على المستوى الابتدائي أولاً، ثم المستوى الثانوي، ثم المرحلة الجامعية).(5/489)
ويقول: ( وسقط الحجاب تدريجياً عن طريق بنات المدارس، ولو خرجن عن تقاليد المجتمع المسلم دفعة واحدة ومن أول لحظة، هل كان يمكن أن يقبل أحد من أولياء الأمور أن يرسل ابنته إلى المدرسة لتتعلم ؟ كلاَّ بالطبع، ولتكن الخطة على الأسلوب المتبع في عملية التحويل كلها بطيء ولكنه أكيد المفعول منعاً لإثارة الشكوك ).
إن المنادين بتحرير المرأة لم يفقهوا بل لم يسمعوا صيحات النساء في الغرب، وفي اليابان اللواتي يطالبن بالعزل التام عن الرجال، والعودة إلى عش الزوجية، كما نشر في عدد من وسائل الإعلام كما في جريدة الجزيرة، العدد (7056 ، 7057).
أين هؤلاء من تجنيد الشباب للعمل؟ وتوفير فرص العمل لهم؟. وتحريرهم من رق البطالة والضياع ؟ ومن أولى بالعمل عند تزاحم الفرص وندرتها النساء أم الرجال ؟! .
إن أولئك الكتاب المستغربين لا يتكلمون بلسان المجتمع ولا يعبرون عن آرائه، لأنه مجتمع مسلم محافظ، رضي باللَّه رباً وبالإسلام ديناً وب صلى الله عليه وسلم رسولاً، رضي بالعلماء والغيورين أن يكونوا حماة للفضيلة، حراساً لقواعد المجتمع من المعلمات والمتعلمات، وحينما جربت الدول الأخرى، ووضعت ثقتها وزمام أمرها بغير أهل الصلاح والغيرة، وصل أمرها وحالها إلى ما هي عليه الآن، فهل يرضى مسلم بذلك ؟ !.
إن نظام تعليم الفتاة في هذا البلد الطيب ظل مضرب المثل بحمد اللَّه، وذلك نعمة كبرى، حيث الخصوصية والحشمة، والآداب الشرعية والنظم المرعية، فهل يصح أن نهدر هذه النعمة، ونلغي تلك الخصوصية، التي لها ما بعدها من الآثار التي علمتنا الأحداث تدرجها ومرحليتها، كاختلاط الجنسين من البنين والبنات، بدءاً بالمراحل الابتدائية الأولى، وكذلك التقارب في أنشطة الجنسين، وإقحام الفتاة في مناشط وأندية وبرامج تتنافى مع جبلتها وطبيعتها، وكذلك الدعوة إلى تغيير المناهج وتوحيدها، وكذلك وهو الأهم تهميش دور العلماء في الإشراف على تعليم المرأة.
وهذا ما يؤكد علينا جميعاً الاستمرار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نناصح من ولاه الله أمرنا، قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم
(( ثلاث لا يغل عليهم قلب امرئ مسلم: ومنها مناصحة من ولاه اللَّه أمركم )) [4].
فالواجب هو دفع منكرات الإعلام كل بما يستطيع، بالحوار الهادئ، والمناصحة المشفقة، والكتابة المؤصلة، والردود العلمية، ومن لا يستطيع هذا ولا ذاك فليبتعد عن الشر وأهله، ومواطنه المقروءة والمرئية لئلا يغتر وينجر فيضل ويضل، واللَّه وحده الهادي إلى سواء السبيل.
ولا ننسى أهمية التربية على الفضيلة في البيوت والمدارس، هي واجبات كل مسلم وكل مسؤول، خاصة في مثل هذا العصر الذي يحارب فيه الإسلام باسم الحرب على الإرهاب، ويطالب الغرب النصراني بتغيير المناهج وطمس هويتها، فهل في هذه المرحلة يحلوا لبعضنا الاسترخاء والتكاسل، وعدم الجدية أو عدم الشعور بخطورة المرحلة التي نعيشها، فلا ترى منه حسن قوامة ولا حسن رعاية للمرأة والأسرة كافة، إن اليهود يربون صغارهم على كره المسلمين والاستعداد لقتالهم وإخراجهم من فلسطين، فماذا نحن وهمومنا مع صغارنا وكبارنا من البنين والبنات؟
فحين يكون الانتماء لهذا الدين، وحينما يكون الحجاب والفضيلة عقيدة راسخة، فإن ذلك لا يسقط مهما سلط عليه من أدوات التحطيم والتحجيم والتغريب، إن الذين سقط عندهم الحجاب، هم أولئك الذين اعتبروه من العادات والتقاليد، حينها لم يصمدوا أمام رياح التغيير، لأن التقاليد الخاوية من الروح عرضة للسقوط إذا اشتد عليها الضغط، فهل مدافعتنا الآن عن مكتسباتنا التربوية والتعليمية والأخلاقية، دفاع عن عادات وتقاليد، حينها سنخسر الرهان، ونهزم في معركة المبادئ كما خسر غيرنا.
أم أننا ننطلق من ثوابت شرعية، ونعطي القضية أبعاداً دينية وقيمية، حينها نعمل ولا نكل ونسعى ولا نمل.
فالعقيدة الحية المتمكنة من القلوب لا تقهر، ولا يتخلى عنها أصحابها مهما وقع عليهم من الضغوط، وإن الاستعلاء بالإيمان والعلم الشرعي يقي الناس من الذوبان في عدوهم، ولو انهزموا أمامه في المعارك الميدانية، والغنى النفسي الذي يحدثه الإيمان الحق باللَّه تعالى يجعل المسلم فرداً ومجتمعاً ودولة، يشعر بالاكتفاء الذاتي، بعيداً عن الابتذال والتسول من عالم القيم المنحطة، وما كان الغزو الفكري يتسرب إلى نفوس المسلمين لو كانوا على إسلام صحيح، ولما جرنا الغرب إلى أمركة الحياة والمجتمع، واعتبار ذلك حتمية حقيقية كما يصوره اليهود للبشرية، ليدفعوها في المسار الذي أغرقوها به، وحين انجرفت أوربا في تيار التطوير اليهودي فذلك لخوائها من العقيدة الصحيحة التي تصلح للحياة .
أما نحن المسلمين فنحن قادرين وجديرين أن نصمد ولا نهزم في معارك القيم والأخلاق، وهذا هو ما سجله التاريخ عن أمة الإسلام في سالف عصورها، فهل نبقى على تلك الصفة ليتحقق لنا ذلك المجد، نعم يتحقق لنا ذلك بإذن اللَّه إذا وفينا بالشرط الرباني، قال تعالى: (( وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ))(5/490)
( آل عمران: 120).
ولا تكتفوا بالدعاء وحده وتدعوا العمل، قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ )) ( الحج : 77) .
ونسأل الله أن يرد كيد الكائدين في نحورهم.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
[1] - والحديث أخرجه : أبو داود في سننه ، وأحمد في مسنده ، والترمذي في جامعه ، وأبو يعلى ، والدارمي ، والبيهقي في السنن الكبرى
ونص الحديث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما فقال: يغتسل. وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل فقال: لا غسل عليه فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل قال: نعم إنما النساء شقائق الرجال. وقد قال ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - : فتح الباري - ابن حجر [ جزء 1 - صفحة 254 ] ( والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خص ) .
[2] - رواه البخاري في صحيحه برقم ( 3153 ) ، ومسلم برقم ( 1486 ) .
[3] - أخرجه الترمذي في جامعه برقم ( 3895 ) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3266 ) .
[4] - أخرجه الترمذي في جامعه برقم (2653 ) ، وأحمد في مسنده برقم ( 13374 ) .
==============(5/491)
(5/492)
هل تأذن لي أن أقول الحقيقة ؟!!
يا أستاذ تركي السديري هل تأذن لي أن أقول الحقيقة ؟!!
تداعى دعاة التغريب فيما بينهم للكتابة فيما حصل في ندوة الرقابة والإعلام، وهذا مؤشر قوي إلى أنهم يشكلون خلية خطيرة، تكمن خطورتها أنها تؤثر على دين الناس، والدين مقدم على النفس، فهي فرصة سانحة لولاة الأمر لمعرفة هؤلاء وحصرهم في زاوية ضيقة؛ لأن تأريخهم كاف في أخذ الحذر والحيطة منهم، بل والواقع الذي حدث في العراق خير شاهد على وقوف هؤلاء ضد أهله وحكومته، فقد كانوا الساعد الأقوى لتعجيل الاحتلال، مما يستعدي إقصاء شرهم عاجلاً .
فقل لي بربك: بماذا نفسر موقف تركي السديري مع الكاتبة أميمة الجلاهمة عندما كتبت عن احتفالات اليهود بعيد الفصح، فقام بطردها بل وقدم اعتذاره عما قامت به الكاتبة !! وانظر إلى النقيدان كيف يصف مجتمعه المسلم، ويبرئ ساحة الغرب الذين فاحت رائحتهم النتنة في كل بلاد الأرض، حتى خصصوا مبالغ مالية لتحسين صورتهم القبيحة، يقول: (( في ثقافات أخرى هناك متعصبون ولكننا نحن المسلمين الأكثر تعصباً، ولديهم عنصريون ولكننا نحن نقتل على الدين والطائفة أكثر من أتباع أي دين آخر، ونعادي ونستأصل ونقصي باسم الله ضحايا أكثر عدداً ممن يعانون من أبنائنا من تمييز طالهم في القوانين والتشريعات في أوروبا التي لجئوا إليها طالبين الأمن والرخاء والحياة الطيبة، في أمريكا غوغائيون ولكننا ننفرد بالنصيب الأكبر من رعاع يقودون مجتمعات، ويهلكون الحرث والنسل، ويشكلون عقول أجيال، تقضي أعمارها وهي تؤمن بالخرافات وتمنح أرواحها لأماني كاذبة. ))
فيا أيها الناس :
من الذي يحرض الغرب على بلادنا، ويستحثهم للضغط عليها لتغيير سياساتها ؟
ومن الذي يحرض الشعب على حكامه ويسعى لإثارة الفتنة ؟!! فهذا وزير الإعلام في منتدى جدة يقول: ( ويجب أن يكون الدفع بمثل هذه المواضيع من داخل المجتمع وليس بقرار من الحكومة ) [ الرياض تاريخ (13/1/1427هـ ) ]
فماذا يسمى هذا يا دعاة التغريب ؟!!
ومن الذي يخالف دستور البلد الذي قامت عليه هذه البلاد ؟!!
دعونا نحتكم إلى دستور البلاد لنعلم العدو من الصديق !!
ومن الذي يخالف القرارات الصادرة من أعلى سلطة في البلد ؟!!
ويا ترى ..
هل الحرية التي يُطالبون بها هي مصادرة الآراء المخالفة ؟!! أقول نعم ..فهذا الدكتور محمد الحضيف يذكر أن تركي في جريدته صادر قلمه، فأين حرية الرأي ؟!! ولماذا طردت أميمة من الجريدة ؟!!
وهل الاحترام الذي يريدون.. أن يُقدروا هم..وفي المقابل لهم كامل الحق في أن يصفوا أهل العلم بأقذع العبارات..وأشنع الكلمات، ويكيلوا لهم التهم جزافا ؟!!
وهل الإنصاف والعدل عندهم أن يملئوا بعض صحفهم سباً وشتماً في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي له الفضل بعد الله تعالى في هذا الخير الذي تنعم به هذه البلاد ؟!!
وهل الحرية التي يقصدون أن يُسب صاحب رسول ا صلى الله عليه وسلم ـ أبو بكر رضي الله عنه ـ في جريدة الرياض، ويوصف بأنه أول من سن سنة التكفير لأنه حارب المرتدين!! دون حسيب ولا رقيب؟!
وفي نهاية المطاف.. لعلك أخي القارئ أدركت الحرية التي يريدون ؟!! والإصلاح الذي يقصدون.. وصدق الله إذ يقول: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ )) (البقرة:12،11).
============(5/493)
(5/494)
علمتني الحياة : الحلقة العاشرة
مراهقة متأخرّة
الرجل يمرّ بفترتي مراهقة، إحداهما في مقتبل عمره حين يبلغ الرابعة عشرة، والثانية عند الأربعين، فرحم الله امرأة تفطّنت لذلك فحفظت زوجها وصانته عن الحرام.
الناصح الحاسد !!!
الناصح إمّا محبّ صادق، وإمّا شانىء حاسد، وعلامة هذا الأخير: إظهار النصيحة وإشهارها للتقليل، من شأن المنصوح، ومحاولة إسقاطه.
مسرحيات من نوع آخر.. !
كثيرة هي المسرحيّات.. لكنّ أخطرها ما تخرجه الدول الكبرى على أرض الواقع بواسطة استخباراتها وعملائها!! إنّها مسرحيّات حقيقيّة، يتمّ اختيار ممثّليها وأبطالها بعناية فائقة، ويقوم بإكمال مشاهدها المتبقيّة حثالة من الخونة المحلّيين باسم الإصلاح والتطوير، وربّما التحرير (!).. وأعجب ما في هذا الأمر أنّ مُشاهديها ـ وهم الكثرة الكاثرة ـ ما بين مصدّق مذهول، وفاغر فاه لا يدري ما يصنع أو يقول !.
الانطباع الأوّل
الناس يشكّلون انطباعهم عنك عند اللقاء الأوّل، وقد يصعب تغيير هذا الانطباع فيما بعد، فليكن لقاؤك الأوّل بهم حسناً.
للأئمّة فقط
إذا كنت إماماً للناس في الصلاة؛ فأطل الركعة الأولى مع ركوعها، حتّى يدركها معك أكبر عدد ممكن، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، لا سيما في صلاتي الظهر والعصر.
حتى لا نخدع
الذين يعتنقون دين الإسلام كثيرون جدّاً من سائر الأجناس والأديان، ولكن لنكن على حذر من المتظاهرين بالإسلام حتّى لا نفاجأ بأمثال ابن سبأ، ولورانس العرب، وأتاتورك.
تعس عبد...
أكثر ما يستعبد الناس في هذا الزمن: المال والنساء والشهرة، ومن أراد أن يكون حرّاً؛ فليكن عبداً لله وحده.
قل للذي يعلن عن نفسِهِ جاءك ما تهوى بما تكره
ثلاثة تهرب من لاحقٍ: الظلُّ، والمرأةُ، والشهرة
دع المقادير تجري..
الزمن كفيل بحلّ الكثير من المشكلات، فتذرّع بالصبر، واحذر الاستعجال.
من يحمينا من الأدعياء ؟
ثلاث مهن شريفة يكثر فيها الأدعياء طلباً للشهرة والشهوة والتكسّب: الرقية الشرعيّة، وتفسير الأحلام، والتسوّل، فهلا تنبهنا لذلك ؟.
مقياس وعي الأمم
إذا أردت أن تقيس وعي أمّة من الأمم؛ فانظر إلى تهافت أفرادها على الدجّالين، والمشعوذين، وبائعي الأوهام ..!
قبل أن تستدلّ
قبل أن تستشهد بحديث نبوي شريف أو تستدلّ به؛ تأكّد من ثلاثٍ: صحّة سنده، وصحّة لفظه، وصحّة دلالته على الواقعة، والآيات من باب أولى. وما كلّ ما اشتهر على ألسنة الناس يكون صحيحاً.
بين أهل السنّة والبدعة
أهل البدع والأهواء ـ إلا من تاب ـ لا يزدادون مع توالي السنين إلا بعداً عن الصراط المستقيم وشقاء وخذلاناً، حتّى يُختم لهم بخاتمة السوء عياذاً بالله تعالى.
وأهل التوحيد والسنّة لا يزيدهم توالي الأعوام إلى قرباً من الله وثباتاً، وراحة وصفاءً، حتّى يختم لهم بخاتمة أهل السعادة، جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه.
خطّ الانحراف
الانحراف ـ مهما كان يسيراً في بدايته ـ ما لم يُتدارك على الفور بالرجوع إلى الجادّة ولزومها؛ فإنّ الزاوية لا تزال تتسع وتكبر، حتّى يكون ما بين الخطّين بُعد ما بين المشرقين.
سنّة التمحيص
ما بين آونة وأخرى تُبتلى الدعوة الإسلاميّة بضربة موجعة، ورزيّة مفجعة، فيتساقط على إثرها كثير من الدخلاء والأدعياء، وينكشف عوارهم، إنّها سنّة التمييز والتمحيص، قال تعالى: (( مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ )) ( آل عمران: 179).
الحياء والنساء
إنّ من رحمة الله على الرجال أن ألقى الحياء على النساء، ولولا هذا الحياء لهلك الرجال.
المستجدّات العصرية
المستجدّات العصريّة ـ سواء كانت أحداثاً أو صناعات ومخترعات ـ لا ينبغي الاستعجال في رفضها أو الحكم عليها قبل دراستها والنظر فيها، والموازنة بين مصالحها ومفاسدها.
السيل المتدفّق
حماس الشباب كالسيل المتدفّق، ما لم يضبط ويوجّه التوجيه السليم، فإنّه يقتلع ما أمامه.
يا معشر الشباب...
الشهوة نار مستعرة، إن لم تُطفأ بالحلال أحرقت صاحبها.
دمعة وبسمة
ربّ دمعة ساقطة أحرقت بحراً من الذنوب، وربّ بسمة صادقة أطفأت ناراً من الأحقاد في القلوب.
بين الكلام والعمل
بادر بالعمل، ولا تكثر من الكلام، فقد ربح العاملون، وخسر المتكلّمون.
السياج المنيع
التوحيد الصحيح هو السياج المنيع ضدّ التغريب والتنصير، أعطني موحّداً واحداً ـ ولو عامّياً ـ أغلب به ألف مغرّب ومنصّر.
فوائد الشجر
للشجرة في البيت خمس فوائد: ظلّ، وستر، وجمال، وصفاء، ونقاء[1].. وإذا كانت مثمرة، فتلك فائدة سادسة.
علاج المشكلات
عند وقوع مشكلة ما، لا بدّ من البحث الدقيق عن أسباب وقوعها، للتوصّل إلى حلّها، ولتلافي وقوع مثلها في المستقبل.
ظاهرة الخروج(5/495)
تأمّلت ظاهرة الخروج على الولاة في تاريخنا الإسلاميّ ـ إن بحقّ أو بباطل ـ فوجدت نتائجها في الغالب دماء وأشلاء، وقتل أبرياء، وفقد عظماء أجلاء.
لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة خائفاً متخفيّاً مطلوباً، ثمّ عاد إليها بعد سنوات معدودة فاتحاً مظفّراً منصوراً، ولم تُرق قطرة دم واحدة، بل لمّا قال سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ ذلك اليوم منتشياً: " اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلّ الحرمة "، عزله النبيّ صلى الله عليه وسلم وولّى مكانه ابنه قيساً ـ رضي الله عنه ـ، وقال عليه الصلاة والسلام: (( اليوم يوم المرحمة، اليوم يعظّم الله فيه الكعبة)) فما أعظمه من قائد حكيم، ومربٍ رحيم.
شرّ الحاسد
تعلّق بعض النفوس ببعض الأشياء أمر في غاية العجب، ويشتدّ الأمر خطورة حين يكون التعلّق بحقّ الغير من مال أو منصب أو امرأة.
حدّثني أحدهم سائلاً أنّه اشترى سيّارة جديدة لحاجته، ولم يركبها، فتعلّق بها رجل من الناس، وألحّ عليه في الشراء، فلم يرغب في بيعها، قال: فما إن أخرجتها من المعرض حتّى تعرضت لستّة حوادث في شهر واحد!!! فنصحته ببيعها في أسرع وقت.
وأعرف امرأة ذات جمال، تعلّق بها رجل من أقاربها، فتزوّجتْ غيره، فتنكّدتْ عليها حياتها، وما تزال ترى ذلك الرجل في منامها وكأنّه زوجها!! فعجباً لتلك النفوس!! ونعوذ بالله من شرّ الحاسد إذا حسد.
(( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً )) [ النساء: 54].
أيّها الظالم.. لا تلتمس عذراً
الظلم عاقبته وخيمة، وإن التمس الظالم لنفسه أعذاراً.. فما كلّ من ظلم يقرّ بأنّه ظالم، ولكنّ ذلك لا يعفيه من العقوبة.
ضغوط خارجية
قال الجدار للمسمار: لِمَ تشقَّني ؟! قال: انظر إلى من يدقّني.
طعم الحلال
إنّك لن تستمتع بطعم الحلال ما لم تتخلّص من الحرام فيما تأكل وتشرب وتسمع وتشاهد.
القاتل الخفي
إذا رأيت أو سمعت ما يعجبك، أو ذكرت أحداً بخير، فقل ما شاء الله تبارك الله.. " علامَ يقتل أحدكم أخاه ".
الكُتّاب أصناف:
فمنهم المرتزق الذي يكتب ليقبض، أو ليرضي أسياده.
ومنهم الغاوي الذي يكتب ليفسد الأجيال.
ومنهم الضالّ الذي يحمل فكراً منحرفاً، ويريد بثّه في الأمّة، وهو يحسب أنّه يُحسن صنعاً.!
ومنهم صاحب الشهوة الذي يكتب ليلفت الأنظار إليه، ويتلقّى رسائل المعجبات كما صرّح بذلك بعضهم !!.
ومنهم التاجر الذي يتّخذ من الكتابة وسيلة للثراء وجمع المال.
ومنهم الساخر الذي يكتب ليضحك الناس، ويعالج قضاياهم بأسلوبه الساخر.
ومنهم الحاقد الذي يكتب لينفّس عن أحقاده الدفينة وينفث سمومه عبر الورق.
ومنهم الأديب الذي يكتب لتتذوّق الأجيال حلاوة الكلمة، وجمال الألفاظ.
ومنهم الجادّ الذي يحمل همّ إصلاح أمّته ومجتمعه، ويحمل على عاتقه محاربة المذاهب الهدّامة، والأفكار المضلّلة.. وكم نحن بحاجة إلى مثل هذا الصنف من الكُتّاب.
[1] أمّا الصفاء، فلأنّها تمتص ثاني أكسيد الكربون، وتخرج الأكسجين. وأمّا النقاء؛ فلأنّها تحجب الغبار والأتربة عن البيت.
=================(5/496)
(5/497)
الجمعيات النسوية والدور المشبوه
إنما دخل البلاء لديار الإسلام بسبب دعوات فاجرة ظهرت وتدرجت بالمسلمين شيئاً فشيئاً، ولبست لباس الزور وهم لا يعرفون حقيقتها، إلى أن وصل بهم الحال إلى ما ترون، بل إن هذه الدعوات لربما دخلت عن طريق بعض الجمعيات النسوية، لكونها ذريعة لخروج المرأة من بيتها، ولأنها يتسلل إليها عناصر مشبوهة، فتنشر أفكارها من خلالها، وتقوم بنشاطات مخالفة للإسلام، إما عن طريق ما تقوم به وتنظمه من محاضرات، أو ندوات أو دروس، أو عن طريق ما تنشره من كتيبات، أو نحو ذلك[1]، وتكمن خطورة هذه الجمعيات في صعوبة مراقبتها لكونها أماكن مغلقة، فلا يدري ما يدور في داخلها، وهي إحدى الوسائل التي استعملت لإفساد المرأة في بلاد المسلمين، ولنأخذ مثلاً على ذلك مصر، لكونها من أوائل البلدان الإسلامية التي مرت بهذه التجربة، والتي كانت عاقبتها وخيمة جداً يراها كل مبصر: فحينما كانت الدول العربية تخوض حربها الأولى مع اليهود، تكون حزب نسائي اسمه حزب بنت النيل عام 1949م، ولم يمضي قليل حتى أصدر ذلك الحزب الناشئ مجلة بنت النيل باللغة العربية، والمرأة الجديدة باللغة الفرنسية، ثم أصدر مجلة البلبل للأطفال، وبعد أشهر قليلة من تكوين ذلك الحزب سافرت رئيسته إلى بريطانيا، فقوبلت بحفاوة عظيمة، ورحبت بها الصحف البريطانية، ونشرت عنها الأحاديث العديدة التي تصورها بصورة الداعية إلى تحرير المرأة المصرية من الأغلال التي تثقل كاهلها، وتعوقها عن التقدم، أغلال الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات، وقد ازدادت صلة هذا الحزب بالاستعمار وضوحاً، حينما نشرت مجلة روز اليوسف بعد ذلك مقالاً جاء فيه قولها: استقالت عضوة في إحدى الهيئات النسائية، وأرسلت استقالة مسببة إلى رئيسة الهيئة، تتهمها فيها بأخذ إعانات مالية من إحدى السفارات الأجنبية، وقد قبلت الرئيسة الاستقالة دون عرض الخطاب على مجلس الإدارة، ولم يمض إلا قليل حتى أكدت للجمهور المصري في عددها (24) هذا النبأ، وزادته وضوحاً حيث قالت: تشترك كل من السفارة البريطانية والأمريكية بمبلغ ألف جنيه سنوياً في بعض المجلات التي يصدرها حزب بنت النيل، هكذا كشف الغطاء، فظهر المستور، وعرف الناس سر هذه القوة الجبارة التي استطاعت إصدار ثلاث مجلات مختلفة في آن واحد، وعلى ورق مصقول، وبدأ نساء هذه الجمعيات في الاتجاه إلى المظاهرات، مطالبات بالنغمة نفسها، إلغاء الطلاق وتعدد الزوجات، وأبرقت جمعية سان فرانسيسكو النسائية بانجلترا، تهنئ الهيئات النسائية المصرية على كفاحها من أجل الحقوق السياسية، وتعلن تأييدها لها، اهتمام عجيب من كل ناحية، لا يفسره إلا اتفاق هذه النواحي في موقفها من مصر، وقد وجدت بعض القرارات التي اتخذت في مؤتمر أثينا، الذي حضرته رئيسة بنت النيل سنة 1951م، كشفت سر اهتمام الهيئات النسائية الدولية بحركات الأحزاب النسوية في مصر، حينما أيدت مندوبة الحزب المصري سياسة التسلح الدفاعي، التي يتذرع بها الاحتلال البريطاني للبقاء في أرض الوطن ورفض الجلاء، ومثل هذا الحزب النسائي امتداد لتلك الحركة التي قامت بها نازلي فاضل وهدى شعراوي.(5/498)
أما نازلي فاضل هذه فجدها هو إبراهيم باشا، الذي هدم الأخلاق، وفعل أفاعيله المعروفة، ونازلي هذه كانت أداة في يد الانجليز، وذلك أن الصليبي الحقود مرقص فهمي حينما أصدر كتابه (المرة في الشرق)، الذي دعا فيه صراحة للقضاء على الحجاب الإسلامي، ودعا الإباحية واختلاط المرأة المسلمة بالأجانب عنها، ولتقييد الطلاق، وإيجاب وقوعه أمام القاضي، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين المسلمات والأقباط النصارى، فقد أحدث هذا الكتاب ضجة عنيفة، فبدأ الاستعمار الانجليزي إثر هذه الضجة يبحث عن وسيلة لشد أزر مرقص فهمي، فلجأ إلى الأميرة نازلي فاضل، ليستعجلها على عمل شيء يساند مرقص فهمي، من خلال صالونها الذي افتتحته آنذاك، ليكون مركزاً تبث منه الدعوة إلى التغريب عامة، وإلى تحرير المرأة خاصة، وكان من نتيجة تعاونها مع الإنجليز على شد أزر مرقص فهمي، أن ضغطت على قاسم أمين الذي ألف كتابه تحرير المرأة، وما بعده من كتب، وأما هدى شعراوي فهي ابنة محمد باشا سلطان، الذي كان يرافق جيش الاحتلال البريطاني في زحفه على القاهرة، ويدعو إلى تقديم كافة المساعدات المطلوبة له، وقد سجل له التاريخ تقدمه مع فريق من الخبراء بهدية من الأسلحة الفاخرة، إلى قادة جيش الاحتلال شكراً لهم على إنقاذ البلاد، وقد قوبلت خدمات سلطان باشا هذه من الإنجليز بالإنعام عليه، بألقاب تخوله للقب سير، وأشاروا على الخديوي فمنحه عشرة آلاف من الجنيهات الذهبية، ولذلك فغير مستغرب أن ينتج هذه الأفعى تلك العقرب هدى شعراوي، فهي ذرية بعضها من بعض، فهدى هذه هي التي كونت الاتحاد النسائي المصري عام 1923م، الذي أصبح يمارس نشاطه حتى استطاع أن يمهد لعقد المؤتمر النسائي العربي عام 1944م، وقد حضره مندوبات عن الأقطار العربية المختلفة، واتخذت فيه القرارات المعتادة، وفي مقدمتها: تقييد الطلاق، وتعدد الزوجات، والمساواة التامة مع الرجل، وزاد على ذلك المطالبة بحذف نون النسوة.
والمرحلة التي مرت بها مصر هي التي تمر ببعضها هذه البلاد، فالصحف تعمل دوماً على طرق مواضيع المرأة، من وجهة نظر تخالف الشرع، ولم يعد الآن مستغرباً أن تجد كاتباً يكتب عن ذلك، فدعاة الشر كثير، ويملكون الوسائل التي تساهم في نشر فكرهم، وبروز نساء على الساحة يطالبن بمثل ما كانت تطالب به نازلي فاضل وهدى شعراوي، وأصبح الآن موجوداً، ولهن دوى يعرفه جميع من كان يتابع هذه الأمور، ووجود جمعيات نسائية أصبح الآن موجوداً كما كان في مصر موجوداً، غير أن الفرق في جرأة هذه الجمعيات على إعلان المبادئ التي يريدها، والأمر إذا كان متخفياً قد يكون ضرره أشد، فهل فتك بالأمة سوى الدعوات الباطنية؟ وليس أدل على ذلك من التحقيق الذي نشرته مجلة الجغرافيا الوطنية التي تصدر في أمريكا، في عددها الصادر في أكتوبر عام 1987م، ففي هذا العدد تذكر الكاتبة أنها كانت قبل ما يقرب من ثمان وأربعين سنة زوجة لأحد السعوديين، حين كانت المرأة السعودية معتزة بالحجاب وعدم الاختلاط بالرجال، وتذكر في تحقيقها أنها قابلت إحدى المغنيات السعوديات، وتحدثت معها عن ماضي المرأة السعودية فقالت: نعم، كانت تلك الأيام أياماً ضيقة، ولكن ليس الآن وخاصة بالنسبة لي، وتواصل بقولها: نحن النساء استطعنا التخلص من أكثر المعوقات والعقبات إلى أبعد حد، وتضيف أنها تغني حيث لم يستطع الرجال فعل ذلك قبل عشرين سنة، وهذه الكاتبة قد دعّمت تحقيقها هذا بالصور لتدلل على ما تقول، وقد نشرت أشياء تدل على تغلغل هؤلاء الإفرنج في مجتمعنا، ومن قبله ما نشرة صوراً لبعض نساء البادية وهي تقود سيارة، فهذه الكاتبة تركز على إعطاء صورة عن مستقبل هذه البلاد، فكما أنه في الماضي كان فيه كذا وكذا فقد زال كله أو بعضه الآن، وكما أنه لا يستطيع أحد في الماضي أن يفعل كذا وكذا ويستطيع أن يفعله الآن، كذلك ما ينتظر في المستقبل أكثر مما قد تحقق، ومن ذلك قيادة المرأة للسيارة، حيث بدأ نساء البادية يفعلن ذلك، فنسأله سبحانه أن يخلف عنها وغيرها، وأن يصلح أحوالنا من حسن إلى أحسن، غير أن ذلك لا يتحقق إلا باليقظة التامة، والحذر عن الشر، وقد نشرت هذه الكاتبة صورة فاضحة لإحدى الفتيات السعوديات وهي شبه عارية، وهي تتلقى تمارين تخفيف الوزن ولا أريد ذكر اسمها، فتذكر أنها درست في الجامعة في أمريكا، ورجعت إلى جدة حيث تدرس النساء التمارين الجسمية، اللياقية المصحوبة بالموسيقى، (يعني الرقص)، وذلك في الجمعية الفلانية النسائية الخيرية.(5/499)
ولا أريد أن أذكر اسم هذه الجمعية، لكن أي خير في تعليم نسائنا التحلل والرقص كما عند الغرب؟ فهذه من مهمات هذه الجمعيات التي يجب علينا أن نحذرها، وأن لا نسمح لنسائنا بارتيادها، وأن لا ندعمها بقليل ولا كثير، فالفقراء معروفون، من طلبهم وجدهم، كما أن علينا أن نحرص على نشر الوعي فيما بيننا، فإلى متى نبقى على هذا الجهل المخيم، وليتق الله كل منا فيمن ولاه الله أمره، ليجنبهم أسباب الردى من أفلام وغيرها، فإن الله سائل كل راع عما استرعاه، فتفكر يا أخي فيما أنت قادم عليه من أهول يوم القيامة.
[1] مما تنشره في صفوف النساء اللاتي يضعف الوعي الإسلامي عندهن وبخاصة عوام النساء الفارغات وقت ذهاب الرجال
==============(5/500)
(6/1)
(6/2)
المرأةُ والولايات السيادية
تقديم
فضيلة الشيخ العلامة : عبد الرحمن بن ناصر البراك
وفضيلة الشيخ الدكتور: محمد بن رزق طرهوني
وفقهما الله تعالى
تأليف
عبد الرحمن بن سعد الشثري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه .
أمَّا بعد : فقد اطلعتُ على البحث الذي كتبه أخونا الشيخ : عبد الرحمن بن سعد الشثري , في حكم تنصيب المرأة في الولايات العامة , كالإمامة العظمى , والوزارة , والإدارة , فوجدته بحثاً جيِّداً , قد تضمَّن ذكر الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء في هذه المسألة , مما يتضمَّنُ الرَّد على أصحاب التوجُّه التغريبي من المنافقين والمخدوعين , فجزى الله المؤلف خيراً , ونفع بما كتبه .
وذلك بمناسبة ما نُشر في بعض الصحف من ترشيح عدد من النسوة ليكنَّ سفيرات في وزارة الخارجية , وهي خطوة مسبوقة لخطوات تغريب المرأة المسلمة , وهو تحقيق لِما تقضي به وثيقة هيئة الأمم المتحدة من تحريم التمييز ضد المرأة - أي تمييز الرجل على المرأة - وذلك يعني التسوية بينهما في جميع المجالات , وهي وثيقةٌ باطلةٌ , لأنها مناقضةٌ لجميع أحكام الإسلام التي فيها تمييزٌ بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ )) (المائدة:50) .
وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
حُرِّر في يوم الخميس 10/9/1426هـ .
أملاه
عبد الرحمن بن ناصر البراك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله .
أمَّا بعد : فقد اطلعت على رسالة الأخ الكريم المفضال الشيخ عبد الرحمن بن سعد الشثري , وعنوانها : المرأة والولايات السيادية , فوجدتها رسالة قيِّمة , تسدُّ ثغرة هامة في وقتنا الحاضر , وتُمثِّل حصناً دفاعياً تجاه النعرات التي يعلو صوتها هذه الأيام .
وقد أجاد أخونا الفاضل وفقه الله لكل خير في تستطير تلكم الرسالة القيمة , وذلك ضمن اهتماماته المتكرِّرة , نفع الله به بما يَجدُّ في الساحة الإسلامية من مسائل ينتظر فيها ناشدو الحق من المسلمين الإيضاح والبيان من أهل العلم , ولكنهم يُصابون بخيبة أمل حينما لا يجدون البيانَ الشافي, والتوضيح الْمُؤصَّل , فكانت هذه الرسائل نبعاً صافياً ينهلُ منه كلُّ من اختلطت عليه الأمور وتلاقفته الأهواء .
والمرأة خلال أربعة عشر قرناً خلت كانت مملكتها بيتُها , وحجابها سترها , وحياؤها هو رأس مالها مصداقاً لقول رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)) , ولِما روي عنه أيضاً من قوله : ((من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين )) , وتبيين صلى الله عليه وسلم أنَّ النساء أسيرات عند أزواجهنَّ حيث قال : (( اتقوا الله في النساء فإنهنَّ عوان عندكم )) .
والنصوص في هذا المعنى كثيرة , وقد نقل الشيخ عبد الرحمن طائفة منها تُغني عن غيرها , وأردفها بفهم علماء الأمة الجهابذة فلم يترك مجالاً لمغرض أو لعابث فجزاه الله خير الجزاء .
وخروج المرأة من بيتها واختلاطها بالرجال مفتاح كل فساد وشر , وقد ثبت عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( المرأةُ عورةٌ ، فإذا خَرَجَت اسْتَشْرَفَهَا الشيطانُ ، وأقربُ ما تكونُ مِن ربِّها إذا هيَ في قَعْرِ بيتها )) .
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : ( بلغني أنَّ نساءكم ليُزاحمْنَ العلوج في الأسواق ، أما تغارون ؟ إنه لا خير في مَنْ لا يغار ) .
ولا شك أن تولية المرأة أيَّ ولاية هو انتكاس لفطرتها وتعريض لها لأن تَفتن وتُفتن , ولا يرضى رجل لأهله مثل ذلك إلاَّ وهو ناقص في رجولته مضيع للأمانة التي استرعاه الله إياها , وإذا كان الله تعالى قد حرَّم تمكين النساء والأطفال من التصرف في الأموال إلاَّ تحت الوصاية والرعاية من الرجال فقال : ((وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً)) (النساء:5) كيف بما هو أعظم من ذلك من ولايات أهل الإسلام .
وها هو الغرب الكافر الذي فُتحت فيه أبواب الاختلاط السافر وتولية المرأة المناصب يشهد أهله من خلال دراسات ميدانية أن المرأة العاملة تتعرض دوماً للابتزاز الجنسي , ولا تكاد تسلم المرأة من ذلك حتى وإن كانت دميمة , فسبحان من شرع للمرأة الحجاب والقرار في البيت ومباعدة الرجال الأجانب .
أسأل الله تعالى أن يجزي الشيخ عبد الرحمن خير الجزاء على هذه الرسالة القيمة , وأن ينفع بها قارئها , وإني أُهيب بولاة أمور المسلمين - وفقهم الله - أن يَعضُّوا على ما جاء فيها بالنواجذ , وأن يسعوا إلى نشرها بكلِّ وسيلة ممكنة , بل هي أهلٌ لأن تُوزَّع على الطالبات في مراحل الدراسة المختلفة في بلاد المسلمين .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتبه
د. محمد بن رزق بن طرهوني
المدينة النبوية في 15/11/1426هـ
بسم الله الرحمن الرحيم(6/3)
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده نبيِّنا وسيِّدنا وقدوتنا محمد صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم .
أما بعد : فقد اقترحَ بعضُ من يُظنُّ به الخير لمصالحَ يراها أنْ تُنشأ وزارة تختصُّ بشؤون المرأة , يتولاَّها امرأةٌ على مرتبة وزير , وكذلك : أن تتولَّى شؤون تعليم النساء امرأة على مرتبة وزيرة أو نائبة وزير , ودعا غيرهم إلى أن تولية المرأة بعض الوزارات , ودخولها الانتخابات الرئاسية في بعض الدول , ودَعَى بعضهم إلى إدخال المرأة في السلك الدبلوماسي فتكون منهن السفيرة والممثلة القنصلية .. إلخ .
ولقد عَدَّ الحافظ ابن رجب الحنبلي ت795هـ - رحمه الله - الرَّد على المقالات الضعيفة وتبيين الحقِّ في خلافها بالأدلة الشرعية : من النصيحة لله , ولكتابه , ولرسول صلى الله عليه وسلم , ولأئمة المسلمين , وعامتهم ([1]) .
ولبيان الحقِّ فيما ذُكر , والتعاون على البرِّ والتقوى أكتبُ عن حكم تولِّي المرأة للخلافة العظمى , والوزارة , ما دونها مما فيه ولاية لها على الرجال كالسفارة مثلاً , وذلك عبر الفصول التالية :
الفصل الأول : معنى الولاية , والوزارة , والسفارة .
الفصل الثاني : أقسام الوزارة , وشروط مُتقلِّدها .
الفصل الثالث : دلالة الكتاب على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
الفصل الرابع : دلالة السنة على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
الفصل الخامس : الإجماع على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
الفصل السادس : دلالة العقل على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
الخاتمة .
وإلى الرسالة نفعني الله والمسلمين بها .
الفصل الأول
معنى الولاية , والوزارة , والسفارة .
معنى الولاية أو الإمامة أو الخلافة :
قال أبو الحسن علي بن محمد الماوردي ت450هـ رحمه الله تعالى : ( الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ) ([2]).
والمعنى : وسياسة الدنيا به , أي : بالدين .
معنى الوزارة :
قال أبو بكر بن العربي ت543هـ رحمه الله : ( الوزارة ولاية شرعية , وهي عبارةٌ عن رَجُل موثوقٍ به في دينه , يُشاوره الخليفة فيما يَعِنُّ له من الأمور ) ([3]) .
معنى السَّفارة :
( عمل السفير ومقامه ) ([4]) , والسفير : ( الرسول والمصلح بين قومين , وفي القانون الدولي : مبعوث يُمثِّل الدولة لدى رئيس الدولة المبعوث إليها ) ([5]) .
وقال أبو زكريا محيي الدين النووي ت676رحمه الله : ( في آخر الباب الرابع من كتاب الخلع : أصل السفارة الإصلاح , يُقال : سفرت بين القوم أي أصلحت , ثمَّ سُمِّي الرسول سفيراً لأنه يسعى في الإصلاح ويُبعثُ له غالباً ) ([6]) .
الفصل الثاني
أقسام الوزارة , وشروط مُتقلِّدها .
ذكر علماء الأحكام السلطانية أنَّ الوزارة تنقسم إلى قسمين :
وزارة التفويض : وهي : ( أنْ يَسْتَوْزِرَ الإمامُ مَنْ يُفوِّضُ إليه تدبيرَ الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده ) ([7]) .
( ويُعتبرُ في تقليد هذه الوزارة شروط الإمام ) ([8]) الأعظم من : الإسلام ([9]) , والتكليف ([10]) , والحرية ([11]) , والذكورة ([12]) , والعدَالة ([13]) , والاجتهاد ([14]) , والكفاية ([15]) ( إلاَّ النسب وحده ) ([16]) , ( فإنه لا يُعتبرُ فيه كونه قرشياً ) ([17]) .
وهي أشبه ما يكون بمنصب رئيس الوزراء ([18]) من جهة التفويض العام , أمَّا التفويض الْمُقيَّد فيدخل فيه بقيَّة الوزراء .
القسم الثاني : وزارة التنفيذ :
و ( هي التي لا يكونُ لصاحبها تدبير الأمور باجتهاده , وإنما يكونُ عملُه فيها قاصراً على تنفيذ أوامر الخليفة والتزامِ آرائه ) ([19]) .
وفي عصرنا الحاضر : لَمْ تَعُدْ فيه وزارات التنفيذ مقصورة على أوامر الحاكم الْمُقيَّدة بالأنظمة والقوانين , بلْ أصبحَ لكلِّ وزارة تنفيذية صلاحيات عامة لِمُتقلِّدها وفق الأنظمة , ووظائف مخصوصة به من توظيف , ونقل , وتأديب , وترقية , تقع الأمة والدولة تحت نظره وتصرُّفه عليهما بموجب تلك الصلاحيات في مجال وظائفه المختصِّ بها .
الفصل الثالث
حكم تولِّي المرأة للولاية والوزارة من القرآن الكريم .
لقد دلَّ القرآن الكريم على حُرمة تولِّي المرأة للولاية ووزارة التفويض والتنفيذ , ومن ذلك :
1 - قول الله تعالى : (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ 4 )) (النساء:34) ([20]) .
قال محمد بن أحمد القرطبي ت671هـ رحمه الله تعالى : ( أي يقومون بالنفقة عليهنَّ والذبِّ عنهنَّ , وأيضاً : فإنَّ فيهم الحكام والأمراء ومن يغزو , وليس ذلك من النساء ) ([21]) .
وقال البغوي ت516هـ : ( يعني فضَّل الرجال على النساء بزيادة العقل والدين والولاية ) ([22]) .(6/4)
وقال البيضاوي : ( يقومون عليهنَّ قيام الوُلاة على الرعيَّة , وعلَّل ذلك بأمرين : وهبي وكسبي فقال : (( بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات , ولذلك خُصُّوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر والشهادة في مجامع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها , والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق ) ([23]) .
وقال محمد بن علي الشوكاني ت1250هـ : ( إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء , والغزاة وغير ذلك من الأمور ) ([24]) .
وقال أبو الأعلى المودودي : ( هذا النصُّ يقطعُ بأنَّ المناصب الرئيسية في الدولة : رئاسة كانت أو وزارة ... لا تُفَوَّضُ إلى النساء ... ) ([25]) .
2 - قول الله تعالى : (( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ)) (البقرة:228) ([26]) .
قال ابن أبي حاتم : ( حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ثنا وكيع قال : سمعت سفيان يقول : سمعت زيد بن أسلم يقول في قول الله : (( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ 3 )) قال : الإمارة ) ([27]) .
وقال العلامة عبد الرحمن السعدي ت1376هـ رحمه الله : ( أي رفعة ورياسة وزيادة حق عليها , كما قال تعالى : (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ 4)) ومنصب النبوة , والقضاء , والإمامة الصغرى والكبرى , وسائر الولايات مختصٌّ بالرجال وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور كالميراث ونحوه ((وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ)) أي : له العزة القاهرة , والسلطان العظيم الذي دانت له جميع الأشياء , ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه ) ([28]) .
3 - قول الله تعالى : (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى )) (الأحزاب:33) ([29]) .
دلَّت الآية الكريمة على وجوب لزوم المرأة المسلمة بيتها , وعدم خروجها منه إلاَّ عند الحاجة , ويدلُّ لذلك أيضاً ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( خرجت سودة بنت زمعة ليلاً فرآها عمر فعرفها فقال : إنك والله يا سودة ما تخفين علينا , فرجعت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وهو في حجرتي يتعشَّى وإن في يده لعرقاً , فأُنزل عليه , فرفع عنه وهو يقول : (( قد أذن الله لكنَّ أن تَخرجن لحوائجكنَّ )) ([30]) .
ومن أقوال المفسرين في الآية الكريمة :
قال أبو عبد الله القرطبي : ( معنى هذه الآية : الأمر بلزوم البيت , وإن كان الخطاب لنساء صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى , هذا لو لم يرد دليل يخصُّ جميع النساء , كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة ) ([31]) .
وقال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ت597هـ : ( قال المفسرون : ومعنى الآية : الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن ) ([32]) .
وقال أبو الفداء إسماعيل بن كثير ت774هـ : ( أي : الزمن بيوتكنَّ فلا تخرجن لغير حاجة ) ([33]) .
وقال القاضي أبو بكر بن العربي ت543هـ : ( يعني : اسكنَّ فيها ولا تتحركن ولا تبرحن منها ) ([34]) .
وقال أحمد مصطفى المراغي : ( أي : الزمن بيوتكنَّ فلا تخرجن لغير حاجة ، وهو أمرٌ لَهُنَّ ولسائر النساء ) ([35]) .
وقال حسنين محمد مخلوف : ( الزمنها فلا تخرجن لغير حاجةٍ مشروعة ، ومثلُهنَّ في ذلك سائر نساء المؤمنين ) ([36]) , وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي : ( أي : اقررن فيها ، لأنه أسلمُ وأحفظُ لَكُنَّ ) ([37]) .
وقال أبو الأعلى المودودي : ( صفوة القول : أنَّ خروج المرأة من البيت لَمْ يُحمد في حالٍ من الأحوال ، وخير الهدي لَها في الإسلام أنْ تُلازمَ بيتَها كما تدلُّ عليه آية (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)) دلالة واضحة ) ([38]) .
وقال أبو الثناء محمود الألوسي ت1270هـ رحمه الله - بعد أن ذكر القراءات المتعدِّدة لقوله تعالى : (( وَقَرْنَ)) - : ( والمرادُ على جميع القراءات : أمرُهُنَّ رضي الله تعالى عنهنَّ بمُلازمة البيوت ، وهو أمرٌ مطلوبٌ من سائر النساء ) ([39]) .
4 - قول الله تعالى : ((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ)) (الأحزاب:53) ([40]) .
قال الإمام القرطبي رحمه الله : ( التاسعةُ : في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الله تعالى أذنَ في مسألتهنَّ من وراء حجابٍ في حاجةٍ تَعرضُ , أو مسألةٍ يُستفتينَ فيها , ويدخلُ في ذلكَ جميعُ النساء بالمعنى , وبما تضمَّنته أصولُ الشريعة مِنْ أنَّ المرأة كلُّها عورةٌ بَدَنُها وصوتُها كما تقدَّم , فلا يجوزُ كشف ذلك إلاَّ لحاجةٍ كالشهادة عليها , أو داءٍ يكونُ ببدنها , أو سؤالها عما يعرضُ وتعيَّن عندها ) ([41]) .(6/5)
وقال الدكتور إسماعيل البدوي : ( يُقرِّر القلقشندي أنَّ الإمام ([42]) لا يَستغني كلٌّ منهم عن الاختلاط بالرجال والمشاورة معهم في الأمور , والمرأةُ ممنوعةٌ من ذلك , ولأنَّ المرأة ناقصةٌ في أمر نفسها حتَّى لا تملك النكاح , فلا تُجعل إليها الولاية على غيرها ) ([43]) .
فالشريعة جاءت باحتجاب النساء عن الرجال , ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء , قال الإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ت751هـ رحمه الله تعالى : ( وَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّ وَلِيَّ الأمْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ اخْتِلاطَ الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ فِي الأَسْوَاقِ , وَالْفُرَجِ , وَمَجَامِعِ الرِّجَالِ , قَالَ مَالِكٌ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ : أَرَى لِلإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الصُّيَّاغِ فِي قُعُودِ النِّسَاءِ إلَيْهِمْ , وَأَرَى أَلا يَتْرُكَ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ تَجْلِسُ إلَى الصُّيَّاغِ , فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَجَالَّةُ وَالْخَادِمُ الدُّونُ , الَّتِي لا تُتَّهَمُ عَلَى الْقُعُودِ , وَلا يُتَّهَمُ مَنْ تَقْعُدُ عِنْدَهُ : فَإِنِّي لا أَرَى بذَلِكَ بَأْسًا , انْتَهَى , فَالإِمَامُ مَسْئُولٌ عَنْ ذَلِكَ , وَالْفِتْنَةُ بهِ عَظِيمَةٌ , قَالَ صلى الله عليه وسلم (( مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ )) ([44]) , وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : (( بَاعِدُوا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ )) ([45]) , وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : أَنَّهُ قَالَ لِلنِّسَاءِ : (( لَكُنَّ حَافَّاتُ الطَّرِيقِ )) ([46]) , وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَنْعُ النِّسَاءِ مِنْ الْخُرُوجِ مُتَزَيِّنَاتٍ مُتَجَمِّلاتٍ , وَمَنْعُهُنَّ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي يَكُنَّ بهَا كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ , كَالثِّيَابِ الْوَاسِعَةِ وَالرِّقَاقِ , وَمَنْعُهُنَّ مِنْ حَدِيثِ الرِّجَالِ , فِي الطُّرُقَاتِ , وَمَنْعُ الرِّجَالِ مِنْ ذَلِكَ , وَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الأَمْرِ أَنْ يُفْسِدَ عَلَى الْمَرْأَةِ - إذا تَجَمَّلَتْ وَتَزَيَّنَتْ وَخَرَجَتْ - ثِيَابَهَا بحِبْرٍ وَنَحْوِهِ , فَقَدْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَأَصَابَ , وَهَذَا مِنْ أَدْنَى عُقُوبَتِهِنَّ الْمَالِيَّةِ , وَلَهُ أَنْ يَحْبسَ المَرأَةَ إذا أَكْثَرَت الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزِلِهَا , وَلا سِيَّمَا إذَا خَرَجَتْ مُتَجَمِّلَةً , بَلْ إقْرَارُ النِّسَاءِ عَلَى ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهُنَّ عَلَى الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ , وَاَللَّهُ سَائِلٌ وَلِيَّ الأَمْرِ عَنْ ذَلِكَ , وَقَدْ مَنَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه النِّسَاءَ مِنْ الْمَشْيِ فِي طَرِيقِ الرِّجَالِ , وَالاخْتِلاطِ بِهِمْ فِي الطَّرِيقِ , فَعَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي ذَلِكَ , وَقَالَ الْخَلالُ فِي جَامِعِهِ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ : أَنَّهُ قَالَ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَرَى الرَّجُلَ السُّوءَ مَعَ الْمَرْأَةِ ؟ قَالَ : صِحْ بهِ , وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا تَطَيَّبَتْ وَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ ([47]) , وَيَمْنَعُ الْمَرْأَةَ إذَا أَصَابَتْ بَخُورًا أَنْ تَشْهَدَ عِشَاءَ الآخِرَةِ فِي الْمَسْجِدِ ([48]) , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( الْمَرْأَةُ إذا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ )) ([49]) , وَلا رَيْبَ أَنَّ تَمْكِينَ النِّسَاءِ مِن اختِلاطِهِنَّ بالرِّجَالِ : أَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ , وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ , كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَسبَابِ فَسَادِ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ , وَاخْتِلاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثرَةِ الفَوَاحِشِ وَالزِّنَا , وَهُوَ مِن أَسبَابِ الْمَوتِ العَامِّ , وَالطَّوَاعِينِ الْمُتَّصِلَةِ , وَلَمَّا اخْتَلَطَ الْبَغَايَا بِعَسْكَرِ مُوسَى , وَفَشَتْ فِيهِمْ الْفَاحِشَةُ : أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ الطَّاعُونَ , فَمَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا , وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّفَاسِيرِ ([50]) , فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ : كَثْرَةُ الزِّنَا , بسَبَبِ تَمْكِينِ النِّسَاءِ مِنْ اخْتِلاطِهِنَّ بالرِّجَالِ , وَالْمَشْيِ بَيْنَهُمْ مُتَبَرِّجَاتٍ مُتَجَمِّلاتٍ , وَلَوْ عَلِمَ أَوْلِيَاءُ الأَمْرِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الدُّنْيَا وَالرَّعِيَّةِ - قَبْلَ الدِّينِ - لَكَانُوا أَشَدَّ شَيْءٍ مَنْعاً لِذَلِكَ , قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه : ( إذَا ظَهَرَ الزِّنَا فِي قَريَةٍ أَذِنَ اللَّهُ بهَلاكِهَا ) ([51]) , وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنيَا : حَدَّثَنَا إبرَاهِيمُ بْنُ الأَشْعَثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ(6/6)
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (( مَا طَفَّفَ قَوْمٌ كَيْلاً , وَلا بَخَسُوا مِيزَاناً , إلاَّ مَنَعَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَطْرَ , وَلا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الزِّنَا إلا ظَهَرَ فِيهِمْ الْمَوْتُ , وَلا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ عَمَلُ
قَوْمِ لُوطٍ إلا ظَهَرَ فِيهِمْ الْخَسْفُ , وَمَا تَرَكَ قَوْمٌ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ إلاَّ لَمْ تُرْفَعْ أَعْمَالُهُمْ , وَلَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُمْ )) ([52]) ([53]) .
( [1] ) يُنظر : الفرق بين النصيحة والتعيير لابن رجب ص11 .
( [2] ) الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص5 للماوردي .
( [3] ) أحكام القرآن ج4/1462 .
( [4] ) المعجم الوسيط ص433 مجمع اللغة العربي بالقاهرة بإشراف عبد السلام هارون .
( [5] ) المصدر السابق .
( [6] ) تهذيب الأسماء واللغات ج3/2142 .
( [7] ) الأحكام السلطانية ص22 للماوردي , والأحكام السلطانية ص29 للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي ت458هـ .
( [8] ) الأحكام السلطانية للفراء ص29 .
( [9] ) يُنظر : حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار ج1/548 لابن عابدين ت1306هـ , والإرشاد للجويني ص427 , والتاج والإكليل لمختصر خليل ج6/276 لأبي عبد الله محمد العبدري المعروف بابن المواق .
( [10] ) أي : بالغاً عاقلاً , وهذا بالإجماع .
يُنظر : حاشية ابن عابدين ج1/548 , وحواشي الشرواني وابن قاسم على تحفة المحتاج ج9/75 , ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ج4/130 للشربيني ت977هـ , وكشاف القناع عن متن الإقناع ج6/159 لمنصور البهوتي ت1051هـ .
( [11] ) يُنظر : كتاب الإرشاد ص427 , ولمع الأدلة ص116 وكلاهما للجويني , وغاية المرام ص383 لعلي بن محمد الآمدي ت631هـ , وحاشية ابن عابدين ج1/548 , وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4/265 لمحمد عرفة الدسوقي ت123هـ , ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج7/389 للشافعي الصغير لمحمد الرملي ت1004هـ , والأحكام السلطانية ص20 لأبي يعلى , والمبدع في شرح المقنع ج10/10 لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن مفلح ت880هـ .
( [12] ) باتفاق الفقهاء .
يُنظر : حاشية ابن عابدين ج1/548 , وشرح منح الجليل على مختصر خليل ج4/138 لأبي عبد الله محمد عليش , ومغني المحتاج ج4/130 , والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ج10/310 لأبي الحسن علاء الدين المرداوي ت885هـ , وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج1/127 لمحمد الأمين الشنقيطي ت1393هـ .
( [13] ) وهو مذهب المالكية , يُنظر : التاج والإكليل لمختصر خليل ج6/277 للمواق .
ومذهب الشافعية , يُنظر : نهاية المحتاج ج7/390 .
وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد واختاره أكثر أصحابه , يُنظر : الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص20 , وكشاف القناع ج6/159 .
وقول بعض الحنفية , يُنظر : أحكام القرآن ج1/69 لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص .
وقول الظاهرية , يُنظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ج4/180 لعلي بن حزم الظاهري ت548هـ , وهذه المراجع المذكورة هي لشروط الإمامة العظمى .
( [14] ) وبه قال جمهور العلماء , وهو مذهب المالكية , يُنظر : متن مواهب الجليل من أدلة خليل ج4/200 لمحمد الأمين الشنقيطي ت1393هـ .
ومذهب الشافعية , يُنظر : حاشية البجيرمي ج4/204 .
ومذهب الحنابلة , يُنظر : المبدع ج10/10 .
وبعض الحنفية , يُنظر : حاشية ابن عابدين ج1/549 .
( [15] ) كالشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو , والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح .
يُنظر : الأحكام السلطانية للماوردي ص6 , وحاشية ابن عابدين ج1/548 , والإرشاد ص426 , ومقدمة عبد الرحمن بن خلدون ص193 , وبلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك على الشرح الصغير للدردير ج2/414 لأحمد بن محمد الصاوي , ومغني المحتاج ج4/130 , والإنصاف ج10/310 , والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص20 , والمواقف مع شرح الجرجاني ج8/349 للإيجي .
( [16] ) قاله الماوردي في الأحكام السلطانية ص22 , والفراء في الأحكام السلطانية ص29 .
( [17] ) قاله بدر الدين بن جماعة ت733هـ في كتابه : تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام ص77 .
( [18] ) نظام الوزارة في الدولة الإسلامية , دراسة مقارنة للدكتور إسماعيل البدري ص354 .
( [19] ) عبقرية الإسلام في أصول الحكم للدكتور منير العجلاني ص166 .
( [20] ) الآية 34 من سورة النساء .
( [21] ) الجامع لأحكام القرآن ج5/168 .
( [22] ) تفسير البغوي ج1/422 .
( [23] ) تفسير البيضاوي ج2/184 .
( [24] ) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ج1/460 .
( [25] ) نظرية الإسلام وهديه ص316 .
( [26] ) الآية 228 من سورة البقرة .
( [27] ) تفسير ابن أبي حاتم ج2/417 , ويُنظر : تفسير الطبري ج2/454 .
( [28] ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص102 .
( [29] ) الآية 33 من سورة الأحزاب .(6/7)
( [30] ) رواه البخاري رحمه الله واللفظ له ح4939 باب خروج النساء لحوائجهن , ومسلم رحمه الله ح2170 باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان .
وقال أحمد بن حجر العسقلاني ت852هـ رحمه الله عن ترجمة الإمام البخاري رحمه الله على هذا الحديث : ( عقب المصنف بهذه الترجمة ليُشير إلى أنَّ خروج النساء للبراز لم يستمر , بل اتخذت بعد ذلك الأخلية في البيوت , فاستغنين عن الخروج إلاَّ للضرورة ) فتح الباري شرح صحيح البخاري ج1/250 .
( [31] ) الجامع لأحكام القرآن ج14/179 .
( [32] ) زاد المسير في علم التفسير ج6/379 .
( [33] ) تفسير القرآن العظيم ج3/482 .
( [34] ) أحكام القرآن ج3/1535 .
( [35] ) تفسير المراغي ج22/6 .
( [36] ) صفوة البيان لمعاين القرآن ص531 .
( [37] ) تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ج6/219 .
( [38] ) الحجاب ص 235 .
( [39] ) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ج22/6 .
( [40] ) الآية 53 من سورة الأحزاب .
( [41] ) الجامع لأحكام القرآن ج14/227 .
( [42] ) ومثله وزير التفويض , والوالي ولاية عامة .
( [43] ) نظام الوزارة في الدولة الإسلامية ص102 .
( [44] ) رواه البخاري ح4808 باب ما يُتَّقى من شؤم المرأة وقوله تعالى :
((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ))
, ومسلم ح2740 باب أكثر أهل الجنة الفقراء , وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء .
( [45] ) قال الملا علي قاري ت1014هـ : ( غيرُ ثابتٍ , وإنما ذكره ابن الحاج في المدخل في صلاة العيدين , وذكره ابن جماعة في منسكه في طواف النساء من غيرِ سَنَد ) الأسرار المرفوعة ص145 .
( [46] ) رواه أبو داود ت275هـ رحمه الله ح5272 باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق , وسليمان الطبراني في المعجم الكبير ج19/261 , والبيهقي في شعب الإيمان ح7822 , وحسَّنه الألباني ت1420هـ رحمه الله في صحيح سنن أبي داود , وصحيح الجامع الصغير ح929 .
( [47] ) رواه الأئمة : أحمد ح19711 , والترمذي ح2786 باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة , وابن حبان ح4424 باب ذكر وصف زنى الأذن والرجل فيما يعملان مما لا يحل ، والبيهقي في الكبرى ح5769 باب ما يكره للنساء من الطيب عند الخروج وما يشتهرن بها , وابن خزيمة ح1681 باب التغليظ في تعطر المرأة عند الخروج ليوجد ريحها وتسمية فاعلها زانية , والحاكم ح3497 تفسير سورة النور , وقال الذهبي ح5318 : ( صحَّحه الترمذي ) ، وحسَّنه الألباني في صحيح موارد الظمآن ح1230 .
( [48] ) رواه مسلم ح444 باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة ، وأنها لا تخرج مطيبة .
( [49] ) رواه ابن حبان ح5599 في : ذكر الإخبار عما يجب على المرأة من لزوم قعر بيتها , والطبراني في الكبير ح9481 , والأوسط ح2890 , والبزار ح2061 , ورواه الترمذي ح1173 , وحسَّنه ابن قدامة في المغني ج7/74 , وقال الهيثمي : ( رواه الطبراني في الكبير , ورجاله موثوقون ) مجمع الزوائد ج2/35 , وصحَّحه الألباني في صحيح ابن خزيمة ح1685 .
( [50] ) يُنظر : تفسير الطبري ج9/40 , تفسير القرطبي ج7/271 , تفسير ابن أبي حاتم ج5/1550 , تفسير البغوي ج2/193 , روح المعاني ج9/35 , زاد المسير ج3/251 , فتح القدير ج2/238 .
( [51] ) رواه الحاكم عن ابن عباس وصحَّحه ح2261 كتاب البيوع , ويُنظر : تفسير البغوي ج3/120 , صفوة الصفوة ج1/420 , والكبائر للذهبي ص63 , الزواجر للهيثمي ج1/441 , وقال الحافظ ابن حجر : ( وأخرجه الحاكم من وجه آخر موصولاً بلفظ : إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ) فتح الباري ج10/193 , وقال العجلوني ت1102هـ : ( رواه الطبراني , ورواه الطبراني أيضاً والحاكم عن ابن عباس بلفظ : إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله ) كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من أحاديث الناس ج1/111 .
( [52] ) يُنظر : ذم الهوى ص192 لابن الجوزي ت579هـ , والكبائر ص63 للذهبي ت748هـ .
( [53] ) الطرق الحكمية 287 ، ويُنظر : فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى رقم 5944 .
=============(6/8)
(6/9)
5 - قوله تعالى : (( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)) (الزخرف:18) ([1]) .
حيثُ دلَّت الآية الكريمة على ضعف المرأة الخلْقي , وعدم استطاعتها في الغالب على إظهار حقِّها , فضلاً عن حقِّ غيرها .
قال ابن كثير رحمه الله : ( أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة , وإذا خاصمت فلا عبارة لها بل هي عاجزة عيية , أو من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم , فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى , فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ليجبر ما فيها من نقص ... وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار ) ([2]) .
وقال قتادة رحمه الله : ( قلَّما تكلَّمت امرأة تريد أن تتكلم بحجتها إلاَّ تكلَّمت بالحجة عليها ) ([3]) .
وقال العلاَّمة الشنقيطي رحمه الله : ( ولأنَّ عدم إبانتها في الخصام إذا ظُلمت دليلٌ على الضعف الخلْقي , كما قال الشاعر :
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
فلم يعتذر عذر البريء ولم تزل به سكتة حتى يقال مريب
ولا عبرة بنوادر النساء , لأنَّ النادرَ لا حكم له ) ([4]) .
6 - قول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ )) (الأحزاب:59) ([5]) .
فقد دلَّت الآية الكريمة على وجوب تغطية المرأة لوجهها , وروى ابن جرير الطبري - ت310هـ - وغيره بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( أمرَ الله المؤمنات إذا خرجن من بيوتهنَّ في حاجة أن يُغطِّين وجوههنَّ من فوق رؤسهنَّ بالجلابيب ويُبدين عيناً واحدة ) ([6]) .
الجلابيب مفرده جلباب ([7]) ، وهو : ( كساء كثيف تشتمل به المسلمة من رأسها إلى قدميها ، ساتر لجميع بدنها ، وما عليه من ثياب وزينة ) ([8]) .
ويُقال له : الْمُلاءة ([9]) , والمِلْحَفَة ([10]) , والرداء ([11]) , والدِّثار ([12]) .
والكساء ([13]) , والقناع ([14]) , وهو المسمَّى ( العباءة ) ([15]) .
وصفة لبسه : أنْ تضعَها فوق رأسها ، ضاربة بها على خمارها وعلى جميع بدنها وزينتها ، حتى تستر قدميها ) ([16]) .
وقالت أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك : « .. فأتاني فعَرَفَنِي حينَ رآني ([17]) , وكانَ يَرَاني قبلَ الحجابِ ، فاستيقظتُ باسترجاعهِ حينَ عرَفَنِي فخَمَّرْتُ وجهي بجلْبابي ([18]) , والله مَا كلَّمَنِي كَلِمَةً ولا سمعتُ منه كلِمَةً غير استرجاعه .. ) ([19]) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( مَن جرَّ ثوبَهُ خُيَلاءَ لَمْ ينظُرِ اللهُ إليه يومَ القيامة )) ([20]) .
وفي رواية ([21]) : ( فقالت أمُّ سلمةَ رضي الله تعالى عنها : فكيفَ يَصْنَعُ النساءُ بِذُيُولِهِنَّ ، قا صلى الله عليه وسلم : (( يُرْخِيِنَ شِبْراً ، فقالت : إذاً تنكشِفُ أقدَامُهُنَّ ، قا صلى الله عليه وسلم : فيُرخِينَهُ ذِرَاعاً لا يَزِدْنَ عليه )) .
قال الشيخ عبد المحسن العباد : ( فإنَّ مجيء الشريعة بتغطية النساء أقدامهنَّ يَدلُّ دلالة واضحة على أنَّ تغطية الوجه واجبٌ , لأنه موضع الفتنة والجمال من المرأة , وتغطيته أولى من تغطية الرجلين ) ([22]) .
وقال الحافظ ابن حجر : ( لَمْ تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترنَ وجوههنَّ عن الأجانب ) ([23]) .
7 - قوله تعالى : (( وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) (النور:31) ([24]) .
قال أبو بكر الجصاص : ( فيه دلالة على أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك ) ([25]) .
وقال ابن قدامة : ( قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أنَّ السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها , وإنما عليها أن تُسمع نفسها , وبهذا قال عطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي , وروي عن سليمان بن يسار قال : السنة عندهم أنَّ المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال , وإنما كُره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها , ولهذا لا يُسنُّ لَها أذان ولا إقامة , والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح ) ([26]) .
وتولِّي المرأة للولاية العظمى فما دونها يُعرِّضها لِمحادثة الرجال الأجانب .
8 - قوله تعالى : (( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)) (النور:30-31) ([27]) .(6/10)
فذهبَ أكثر العلماء إلى تحريم نظر المرأة للرجل , وهو مذهب الشافعية في الصحيح عندهم ([28]) , والحنابلة في رواية ثالثة ([29]) , ورأي عند المالكية ([30]) .
وتولِّي المرأة للولاية يُعرِّضها للنظر إلى الرجال قطعاً .
وقال الإمام النووي رحمه الله : ( الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وأكثر الصحابة : أنه يَحرمُ على المرأة النظر إلى الأجنبي , كما يحرمُ عليه النظر إليها لقوله تعالى : (( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)) (( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)) ولأنَّ الفتنة مشتركة , وكما يَخافُ الافتتان بها تَخافُ الافتتان به , ويدلُّ عليه من السنة حديث نبهان مولى أمِّ سلمة عن أمِّ سلمة أنها كانت هي وميمونة عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فدخل ابن أم مكتوم , فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( احتَجبا منه , فقالتا إنه أعمى لا يُبصر , فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : أفعمياوان أنتما فليس تبصرانه ؟ )) وهذا الحديثُ حديثٌ حسنٌ , رواه أبو داود والترمذي وغيرهما ([31]) , قال الترمذي : هو حديث حسن , ولا يُلتفت إلى قدَحِ مَن قدَحَ فيه بغير حُجَّة معتمدة , وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أمِّ مكتوم فليس فيه إذنٌ لها في النظر إليه , بل فيه أنها تأمنُ عنده مِن نظر غيرها , وهي مأمورةٌ بغضِّ بصرها , فيمكنُها الاحترازُ عن النظر بلا مشقَّة , بخلاف مُكثها في بيت أمِّ شريك ) ([32]) .
فهذا تصحيح الإمام النووي لحديث نبهان رحمه الله عن أمِّ سلمة رضي الله عنها , وقال إسحاق بن هانئ النيسابوري ت275هـ : ( سألتُ أبا عبد الله عن حديث نبهان عن أمِّ سلمة - وساق الحديث - ثمَّ قال : هذا لا ينبغي للمرأة أن تنظر إلى الرجل كما أنَّ الرجل لا ينبغي له أن ينظر إلى المرأة ؟ قال - أي الإمام أحمد - نعم ) ([33]) .
وقال الإمام الترمذي ت279هـ رحمه الله : ( هذا حديثٌ حسنٌ صحيح ) , وقال الحافظ ابن حجر ت852هـ : ( وإسناده قوي ) ([34]) , وقال الإمام الذهبي ت748هـ : ( نبهان عن مولاته أم سلمة , وعنه الزهري , ومحمد بن عبد الرحمن , ثقة ) ([35]) , وقال العيني ت855هـ : ( وهو حديث صحَّحه الأئمة بإسناد قوي ) ([36]) , ومِمَّن صحَّحه : التركماني في الجوهر النقي ج10/327-328 , والشوكاني في نيل الأوطار ج6/117 .
وسألتُ الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد وفقه الله عن هذا الحديث فقال : ( إسناده صالح ) .
وعن إسحاق الأعمى قال : « دخلتُ على عائشة رضي الله عنها فاحتجَبَت منِّي , فقلتُ : تحتجبين منِّي ولستُ أراك ؟ قالت : إنْ لَم تكن تراني فإني أراك » ([37]) .
وقال الإمام ابن كثير : ( فقوله تعالى : (( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)) أي عما حرَّم الله عليهنَّ من النظر إلى غير أزواجهنَّ , ولهذا ذهب كثيرٌ من العلماء إلى أنه لا يجوزُ للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً , واحتجَّ كثيرٌ منهم بما رواه أبو داود والترمذي من حديث الزهري عن نبهان مولى أمِّ سلمة أنه حدَّثه أنَّ أمَّ سلمة حدَّثته - ثمَّ ذكر الحديث بتمامه - ثمَّ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ) ([38]) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ رحمه الله تعالى : ( وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب من الرجال بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً ) ([39]) .
وروى الإمام البخاري في عدَّة مواضع من صحيحه حديث رؤية عائشة رضي الله عنها لِلَعبِ الحبشة بالحراب في المسجد , والموضع الأول منها : ( كتاب الصلاة ) ( باب أصحاب الحراب في المسجد ) ثمَّ قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن بن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أنَّ عائشة قالت : « لقد رأيتُ رسولَ ا صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبونَ في المسجد ورسولُ ا صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه أنظرُ إلى لعبهم , زاد إبراهيم بن المنذر حدثنا بن وهب أخبرني يونس عن بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : رأيتُ النبيَّ r والحبشة يلعبونَ بحرابهم » .
قال ابن حجر : ( وقال النووي : أمَّا النظر بشهوة وعند خشية الفتنة فحرامٌ اتفاقاً , وأمَّا بغير شهوة فالأصح أنه محرَّم , وأجاب عن هذا الحديث : بأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل بلوغ عائشة , وهذا قد تقدَّمت الإشارة إلى ما فيه , قال : أو كانت تنظر إلى لعبهم بحرابهم لا إلى وجوههم وأبدانهم , وإن وقع بلا قصد أمكنَ أن تصرفه في الحال , انتهى ) ([40]) .
ومن السنة :
1 - قول صلى الله عليه وسلم : (( لن يُفلحَ قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة )) رواه البخاري ([41]) .(6/11)
قال الشيخ الْمُحدِّث عبد المحسن بن حمد العباد : ( وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 20402 , 20474 , 20477 بلفظ : (( أسندوا أمرهم إلى امرأة )) ([42]) و 20438 , 20478 , 20517 بلفظ : (( تملكهم امرأة )) ([43]) و 20508 بلفظ : (( ما أفلح قومٌ تلي أمرهم امرأة )) , وأخرجه النسائي في كتاب القضاء من سننه 5388 : باب النهي عن استعمال النساء في الحكم ([44]) , ولفظه : (( لن يُفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )) وأخرجه الترمذي 2262 بمثل لفظ البخاري والنسائي , وقال : « هذا حديث صحيح » وهذا الحديث واضح الدلالة على أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية العامة , بل في ذكر النسائي له في كتاب القضاء دلالَة على أنها ليست أهلاً لِما دون ذلك وهو القضاء ) ([45]) .
وقال الماوردي والفرَّاء عن وزارة التنفيذ : ( لا يجوزُ أن تقوم بذلك امرأةٌ وإنْ كان خبَرُها مقبولاً لِمَا تضمنه معنى الولايات المصروفة عن النساء , لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : (( ما أفلح قومٌ أسندوا أمرهم امرأةٌ )) ([46]) , ولأنَّ فيها من طلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء , ومن الظهور في مباشرة الأمور ما هو عليهنَّ محظور ) ([47]) .
وقال الحسين البغوي ت516 رحمه الله : ( اتفقوا على أنَّ المرأةَ لا تصلحُ أنْ تكونَ إماماً , ولا قاضياً , لأنَّ الإمامَ يحتاجُ إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد , والقيام بأمور المسلمين , والقاضي يحتاجُ إلى البروز لفصل الخصومات , والمرأة عورةٌ لا تصلحُ للبروز , وتعجزُ لضعفها عن القيام بأكثر الأمور , ولأنَّ المرأةَ ناقصةٌ , والإمامة والقضاء من كمال الولايات , فلا يصلحُ لها إلاَّ الكامل من الرجال ) ([48]) .
وقال محمد بن إسماعيل الصنعاني ت852هـ : ( فيه دليلٌ على أنَّ المرأة ليست من أهل الولايات , ولا يَحِلُّ لقومها توليتها , لأنَّ تجنُّبَ الأمر الْمُوجب لعدم الفلاح واجبٌ ) ([49]) .
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ت1420هـ رحمه الله : ( وقد حرصَ الإسلام على أن يُبعد المرأة عن جميع ما يُخالف طبيعتها ، فمنَعَها من تولي الولاية العامة كرئاسة الدولة والقضاء وجميع ما فيه مسؤوليات عامة ، لقول صلى الله عليه وسلم : (( لن يُفلحَ قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة )) ([50]) .
فتبيَّنَ لنا من هذا الحديث : أنَّ مناطَ عدم الفلاح هو الأُنوثة , وهو نصٌ في منع المرأة من تولِّي أيٍّ من الولايات العامة , وكونها وزيرة إنما هو من الولايات العامة ([51]) .
قال الماوردي : ( فلما منعها نقص الأنوثة من إمامة الصلوات مع جواز إمامة الفاسق كان المنع من القضاء الذي لا يصح من الفاسق أولى ) ([52]) .
وقال الدكتور محمد البهي رحمه الله : ( قد تولَّت المرأة في العشر سنوات الماضية في بعض دول آسيا وأمريكا اللاتينية , في الهند , وسيلان , والأرجنتين : الرياسة الكبرى , وخرجت كلُّ واحدة منهنَّ من ولايتها العامة بضياع كلِّ الثقة تماماً التي أولتها هذه الولاية , وبرصيد كبير من الانحرافات في الحكم تُعطي الدليل الواضح على تقلُّب المرأة وسرعتها في الاستجابة العاطفية للمؤثرات , وعدم الاطمئنان إلى فصلها في الأمور , بروح التجرُّد , أو بروح التأنِّي والروية ) ([53]) .
2 - عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( يا معشرَ النساء تصدَّقنَ وأكثرنَ الاستغفارَ فإنِّي رأيتُكُنَّ أكثرَ أهلِ النار , فقالت امرأةٌ منهنَّ جَزْلَةٌ : وما لَنا يا رسولَ الله أكثرَ أهلِ النار ؟ قال : تُكْثِرْنَ اللعنَ , وتكْفُرْنَ العشيرَ , وما رأيتُ مِنْ ناقصاتِ عقلٍ ودينٍ أغلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنكُنَّ , قالت : يا رسولَ الله , وما نُقصانُ العقل والدين ؟ قال : أمَّا نُقصانُ العقلِ : فشهادةُ امرأتينِ تعدلُ شهادةَ رجلٍ , فهذا نقصانُ العقل , وتَمكُثُ اللياليَ ما تُصلِّي , وتُفطرُ في رمضانَ , فهذا نُقصان الدين )) ([54]) .
قال محمد صديق القنوجي ت1307هـ رحمه الله : ( ومَنْ كان كذلك لا يصلحُ لتدبير أمر الأمة ولتولِّي الحكم بين عباد الله وفصل خصوماتهم بما تقتضيه الشريعة المطهرة ويوجبه العدل , فليسَ بعد نقصان العقل والدين شيء .. ) ([55]) .
3 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( المرأةُ عورةٌ ، فإذا خَرَجَت اسْتَشْرَفَهَا الشيطانُ ، وأقربُ ما تكونُ مِن ربِّها إذا هيَ في قَعْرِ بيتها )) ([56]) .
(( اسْتَشْرَفَهَا )) : ( أي رفع البصر إليها ليغويها أو يغوي بها .. أو المراد شيطان الإنس .. بمعنى أنَّ أهل الفسق إذا رأوها بارزةً طمحوا بأبصارهم نحوها .. أَسندَ إلى الشيطان لِما أَشربَ في قلوبهم من الفجور ، والأصلُ في الاستشراف : رفعُ البصر للنظر إلى الشيء وبسط الكف فوق الحاجب ) ([57]) .(6/12)
قال العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى عن هذا الحديث : ( وما جاء فيه من كون المرأة عورةٌ يدلُّ على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة , ومما يُؤيِّدُ ذلك ما ذكره الهيثمي أيضاً في مجمع الزوائد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (( إنما النساء عورةٌ ، وإنَّ المرأة لتخرجُ من بيتها وما به من بأسٍ ، فيستشرفُ لَها الشيطانُ فيقولُ : إنكِ لا تَمُرِّينَ بأحدٍ إلاَّ أعجبتهِ ، وإنَّ المرأةَ لتلبسُ ثيابَها ، فيُقالُ : أينَ تريدين ؟ فتقولُ أعودُ مريضاً ، أو أشهد جنازةً ، أو أُصلي في مسجدٍ ، وما عَبَدَتْ امرأةٌ ربَّها مثلَ أنْ تعبُدَهُ في بيتها ! )) ([58]) ثمَّ قال : رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات , انتهى منه , ومثله له حكم الرفع إذ لا مجال للرأي فيه ) ([59]) .
4 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبيَّ r يقول : (( لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة , ولا تسافرنَّ امرأة إلا ومعها محرم , فقام رجلٌ فقال يا رسول الله : اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرَجَت امرأتي حاجة , قال : اذهب فحُجَّ مع امرأتك )) ([60]) .
وقا صلى الله عليه وسلم : ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( لا يحل لامرأة مسلمة تُسافر مسيرة ليلة إلاَّ ومعها رجلٌ ذو حرمة منها )) ([61]) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها )) ([62]) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ r قال : (( لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم )) ([63]) .
قال الإمام النووي : ( قال العلماء : اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين , واختلاف المواطن , وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد , قال البيهقي : كأن صلى الله عليه وسلم سُئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم فقال : لا , وسُئل عن سفرها يومين بغير محرم , فقال : لا , وسُئل عن سفرها يوماً , فقال : لا , وكذلك البريد , فأدَّى كلٌّ منهم ما سمعه , وما جاء منها مختلفاً عن رواية واحد فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكلُّه صحيح , وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر , ولم يُرد r تحديد أقل ما يُسمَّى سفراً , فالحاصلُ أنَّ كلَّ ما يُسمَّى سفراً تُنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم , سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة ) ([64]).
وهذه الأحاديث في تحريم الخلوة بالمرأة إلاَّ مع ذي محرم , وتحريم سفرها إلاَّ مع ذي محرم , وهي دالة على أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية العامة ولا ما دونها من الولايات على الرجال , وكيف تلي الأمر من لا تسافر إلاَّ مع ذي محرم ؟ ومن لا يخلو بها رجل إلاَّ مع ذي محرم ([65]) .
5 - عن أُسامة بن زيد رضي الله عنه قَالَ : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ )) ([66]) .
قال الحافظ ابن حجر : ( ويدلُّ الحديثُ على أنَّ الفتنة بالنساء أشدّ من الفتنة بغيرهنَّ ، ويشهدُ له قوله تعالى : (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)) (آل عمران:14) ([67]) فجعلهنَّ من حبِّ الشهوات ، وبدَأَ بهنَّ إشارة إلى أنَّهنَّ الأصل في ذلك ) ([68]) .
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : ( فعملُ المرأة بين الرجال من غير المحارم فتنةٌ تضعها على الطريق الْمُوصل إلى ما لا تُحمَد عقباه مما حرَّم الله ، وما يُؤدِّي إلى الحرامِ حرامٌ ) ([69]) .
6 - قول صلى الله عليه وسلم : (( ولا يَؤُمَنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه )) ([70]) .
قال محمد المباركفوري رحمه الله : ( أي : في مظهر سلطنته ومحل ولايته , أو فيما يملكه , أو في محلٍ يكون في حكمه ) ([71]) .
فدلَّ الحديث على أنَّ الإمام الأعظم ونُوَّابه أحقُّ بإمامة الصلاة من غيرهم , وهذا هو المشهور في المذاهب الأربعة ([72]) .
( [1] ) الآية 18 من سورة الزخرف .
( [2] ) تفسير ابن كثير ج4/126 .
( [3] ) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج7/370 لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت911هـ .
( [4] ) أضواء البيان ج1/104 .
( [5] ) الآية 59 من سورة الأحزاب .
( [6] ) تفسير الطبري ج22/45-46 , ورواه البيهقي في سننه الكبرى ج7/94 باب ما تُبدي المرأة من زينتها للمذكورين في الآية من محارمها , ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره ج1/334 .(6/13)
( [7] ) ( والجلباب ثوب أكبر من الخمار ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما : أنه الرداء ، واختلف الناس في صورة إدنائه ، فقال ابن عباس وعبيدة السلماني : ذلك أنَّ تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تُبصر بها ) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج4/399 لابن عطية ت546هـ .
( [8] ) قال الإمام السمعاني في تفسيره ج4/307 : ( وهو الرداء ، وهو المُلاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار ، قال عبيدة السلماني : تتغطى المرأة بجلبابها ، فتستر رأسها ووجهها وجميع بدنها ، إلا إحدى عينيها ) ويُنظر : معاني القرآن للنحاس ج5/378 , والدرعُ هو القميص ( ينظر : مطالب أولي النهى ج1/332 لمصطفى الرحيباني ت1243هـ ) .
وقال شيخ الإسلام : ( قد ثبتَ بالنصِّ والإجماع : أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها ، وإنما ذلك إذا خرجت ، وحينئذ فتصلي في بيتها ، وإن رُؤي وجهها ويداها وقدماها ) مجموع الفتاوى ج22/115 .
( [9] ) يُنظر مثلاً : تفسير البغوي ج3/544 ، وتفسير الجلالين ص560 لمحمد بن أحمد , عبد الرحمن بن أبي بكر المحلي , والسيوطي ، وأضواء البيان ج6/244 , وعون المعبود ج11/106 لأبي الطيب العظيم آبادي .
( [10] ) يُنظر مثلاً : الكشاف ج3/569 لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي ت538هـ ( والزمخشري معتزلي , فيكون القارئ على يقظة وحذر ) ، وتفسير أبي السعود ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ) ج7/115 لأبي السعود العمادي ت951هـ .
( [11] ) قاله ابن مسعود رضي الله عنه ، يُنظر مثلاً : الدر المنثور ج6/222 ، وتفسير ابن أبي حاتم 2/443 للرازي ت327هـ .
( [12] ) يُنظر مثلاً : المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج5/392 ، وتفسير الثعالبي ج4/358 ، وروح المعاني ج29/115 ، وتفسر البحر المحيط ج8/361 لأبي حيان ت745هـ .
وقال الفيومي ت770هـ رحمه الله تعالى : ( الدِّثَارُ : مَا يَتَدَثَّرُ بهِ الإنسَانُ وَهُوَ مَا يُلْقِيهِ عَلَيْهِ مِنْ كِسَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَوْقَ الشِّعَارِ , وَتَدَثَّرَ بالدِّثَارِ تَلَفَّفَ بهِ , فَهُوَ مُتَدَثِّرٌ وَمُدَّثِّرٌ بالإدْغَامِ ) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ج1/189 .
( [13] ) يُنظر مثلاً : جمهرة اللغة ج2/1101 لأبي بكر محمد بن الحسن الأزدي ، وتاج العروس من جوهر القاموس ج29/288 لمحمد مرتضى الحسيني الزبيدي ت1205هـ .
( [14] ) قاله سعيد بن جبير رحمه الله ، يُنظر مثلاً : تفسير ابن أبي حاتم 8/576، والدر المنثور للسيوطي ج6/182 .
( [15] ) يُنظر مثلاً : لسان العرب ج9/6 لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري ت711هـ ، والقاموس المحيط ص60 لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي ت817هـ ، ومختار الصحاح ص371 لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي ت721هـ ، والمعجم الوسيط ج2/579 لإبراهيم مصطفى , وأحمد الزيات , وحامد عبد القادر , ومحمد النجار .
وقال الفيومي : ( الْعَبَاءَةُ بالْمَدِّ , وَالْعَبَايَةُ بالْيَاءِ لُغَةٌ , وَالْجَمْعُ : عَبَاءٌ بحَذْفِ الْهَاءِ وَعَبَاءَاتٌ أَيْضاً ) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ج2/391 .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( والجلباب : هو المُلاءة , وهو الذى يُسميه ابن مسعود وغيره الرداء , وتسميه العامة الإزار , وهو الإزار الكبير الذى يُغطِّي رأسها وسائر بدنها , وقد حكى أبوعبيد وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تُظهر إلا عينها , ومن جنسه النقاب , فكنَّ النساء ينتقبن , وفى الصحيح : أنَّ المحرمة لا تنتقب , ولا تلبس القفازين , فإذا كُنَّ مأمورات بالجلباب لئلا يُعرفن وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب , كان الوجه واليدان من الزينة التى أُمرت ألاَّ تُظهرها للأجانب فما بقي يَحلُ للأجانب النظر إلاَّ إلى الثياب الظاهرة ) مجموع الفتاوى ج22/110-111 .
( [16] ) يُنظر : حراسة الفضيلة للشيخ للعلامة بكر بن عبدالله أبو زيد - وفقه الله تعالى - ص31-36 .
( [17] ) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : ( هذا يُشعر بأنَّ وجهها انكشف لَمَّا نامت ، لأنه تقدَّم أنها رضي الله تعالى عنها تلفَّفت بجلبابها ونامت ، فلما انتبهت باسترجاع صفوان رضي الله عنه بادرت إلى تغطية وجهها ) فتح الباري ج8/462-463 .
( [18] ) ( أي : غطيتُ وجهي ) المصدر السابق .
( [19] ) رواه الإمامان البخاري ح4473 واللفظ له , باب قوله تعالى :, ومسلم ح2770 باب : حديث في الإفك وقبول توبة القاذف .
( [20] ) رواه البخاري ح5784 باب : من جر إزاره من غير خيلاء , ومسلم ح5457 باب : تحريم جر الثوب خيلاء ، وبيان حدِّ ما يجوز إرخاؤه إليه ، وما يستحب .
( [21] ) للإمام مالك ح1657 , والترمذي واللفظ له ح1731 وقال : هذا حديث حسن صحيح , باب : ما جاء في جرِّ ذيول النساء ، والنسائي ت303هـ ح5338 في ذيول النساء , وذكره الألباني في الصحيحة ح1864 رحمهم الله تعالى .
( [22] ) الدفاع عن أبي بكرة رضي الله عنه ومروياته ص35 .(6/14)
( [23] ) فتح الباري ج9/224 .
( [24] ) الآية 31 من سورة النور .
( [25] ) أحكام القرآن ج5/177 .
( [26] ) المغني ج3/157 .
( [27] ) الآيتان 30-31 من سورة النور .
( [28] ) يُنظر : منهاج الطالبين ص95 , وروضة الطالبين ج7/25 , والمجموع ج15/11 وهذه الكتب الثلاثة للإمام النووي ت676هـ , وقليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلِّي على منهاج الطالبين ج1/176 ج3/211 لشهاب الدين القليوبي ت1069هـ وعميرة , وفتح الوهاب ج2/32 لأبي زكريا الأنصاري ت925هـ , وفتح الجواد ج2/67 لابن حجر الهيتمي ت974هـ , ونهاية المحتاج ج6/189-195 للرملي , والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2/121 للشربيني ت977هـ , وحاشية البيجوري ج1/146 , وحواشي عبد الحميد الشرواني والشيخ أحمد العبادي ج7/200-201 , وإعانة الطالبين ج3/259 للسيد البكري .
( [29] ) يُنظر : مسائل الإمام أحمد ج2/149 رواية إسحاق بن هانئ ت275هـ , والمغني ج6/563 , والكافي ج3/9 كلاهما لابن قدامة ت620هـ , ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ج15/396 , والإنصاف ج8/25-26 للمرداوي .
( [30] ) يُنظر : مواهب الجليل ج1/345 لأبي عبد الله محمد المغربي المعروف بالحطاب ت902هـ .
( [31] ) رواه أبو داود ح4112 باب في قوله عزَّ وجلَّ : â @è%u r IM»uZIB÷s?Jù=Ij9 z`ô?à???tƒ ô`IB £`Id??»|??/ r & ? , والترمذي ح2778 باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال , والنسائي في الكبرى ح13303 باب مساواة المرأة الرجل في حكم الحجاب والنظر إلى الأجانب قال الله تعالى : â @è%u r IM»uZIB÷s?Jù=Ij9 z`ô?à???tƒ ô`IB £`Id??»|??/ r & z`?àx??ts†u r £`?gy_ r ??èù ? , وابن حبان ح5575 ذكر الزجر عن أن تنظر المرأة إلى الرجل الذي لا يبصر , والهيثمي في موارد الظمآن ح1968 باب دخول الأعمى .
( [32] ) شرح صحيح مسلم للنووي ج10/76 .
( [33] ) رقم المسألة 1838 ج2/149 .
( [34] ) فتح الباري ج9/337 .
( [35] ) الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة , ترجمة رقم 5892 ج3/198 للذهبي .
( [36] ) عمدة القاري ج20/216 .
( [37] ) رواه ابن سعد ت230هـ في الطبقات ج8/69 , وصحَّحه ابن عبد البر ت463هـ , وقد أخرجه الإمام مالك في إحدى موطآته كما عزاه الحافظ إليه في التلخيص الحبير ج3/148-149 , وينظر : كتاب رفع الجنة أمام جلباب المرأة في الكتاب والسنة للسندي .
( [38] ) تفسير ابن كثير ج3/284 .
( [39] ) مجموع الفتاوى ج15/396 .
( [40] ) فتح الباري ج2/445 , ويُنظر : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ج15/396 .
( [41] ) رواه البخاري ح4163 بابُ كتاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر .
( [42] ) وكذا عند ابن أبي شيبة ت235هـ ح37787 , والبزار ت292هـ ح3649 وح3685 , والطيالسي ح878 ت204هـ .
( [43] ) وكذا ابن حبان ح4516 ذكر الإخبار عن نفي الفلاح عن أقوام تكون أمورهم منوطة بالنساء , والبزار ح3647 , والحاكم وصححه ح7790 , وابن الشهاب في مسنده ح864 , وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى ح20149 باب لا يُولِّي الوالي امرأة ولا فاسقاً ولا جاهلاً أمر القضاء , ولفظه : ( لن يفلح قوم ملَّكوا أمرهم امرأة ) .
( [44] ) اشترط جمهور العلماء أن يكون القاضي ذكراً , وهو مذهب المالكية , يُنظر : بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج2/531 لأبي الوليد محمد بن رشد المعروف بابن رشد الحفيد , وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام ج1/18 لأبي الوفاء إبراهيم بن فرحون , ومواهب الجليل ج6/87-88 للحطاب , وحاشية الدسوقي ج4/115 , وهو مذهب الشافعية , يُنظر : تحفة المحتاج ج10/106 لابن حجر الهيثمي , والوجيز في المذهب الشافعي ج2/143 لأبي حامد محمد الغزالي , والمجموع للنووي ج20/127 , وهو مذهب الحنابلة , يُنظر : الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل ج4/433 لأبي محمد عبد الله بن قدامة , والمغني مع الشرح الكبير ج11/380 , وكتاب الفروع ج6/421 لمحمد بن مفلح المقدسي .
وذكر الماوردي إجماع العلماء على ذلك فقال : ( وشذَّ ابن جرير الطبري فجوَّز قضاءها في جميع الأحكام , ولا اعتبار بقول يردُّه الإجماع ) الأحكام السلطانية ص65 .ولهذا لم يرو عن صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن جميع الصحابة والتابعين أنهم ولَّوا امرأة قضاء أو ولاية بلد , ولو كان ذلك جائزاً لَم يخل جميع الزمان منه غالباً , يُنظر : المغني مع الشرح الكبير ج11/380 , ومواهب الجليل ج4/202 وغيرهما .
( [45] ) الدفاع عن الصحابي أبي بكرة ومرويَّاته , والاستدلال لمنع ولاية النساء على الرجال ص32-33 .
( [46] ) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ح20402 وح20474 وح20477 .
( [47] ) الأحكام السلطانية للماوردي ص27 , والأحكام السلطانية للفراء ص31-32.
( [48] ) شرح السنة ج10/77 للإمام الحسين بن مسعود الفراء البغوي .
( [49] ) سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام ج4/1496 .
( [50] ) التبرج وخطورته ص30-31 .(6/15)
( [51] ) يُنظر : حكم الشريعة الإسلامية في اشتراك المرأة في الانتخاب للبرلمان للجنة الفتوى بالأزهر , وولاية المرأة في الفقه الإسلامي ص102-103 للشيخ حافظ محمد أنور .
( [52] ) أدب القاضي للماوردي ج1/168 .
( [53] ) الإسلام واتجاه المرأة المسلمة المعاصرة ص50 .
( [54] ) رواه البخاري ح298 بابُ ترك الحائض الصوم , ومسلم واللفظ له ح79 بابُ بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات , وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة والحقوق .
( [55] ) إكليل الكرامة ص108-109 .
( [56] ) رواه ابن حبان ح5599 واللفظ له في : ذكر الإخبار عما يجب على المرأة من لزوم قعر بيتها , والطبراني في الكبير ح9481 و 10115 , والأوسط ح2890 , والبزار ح2061 , ورواه دون لفظ : ( وأقرب .. ) الترمذي ح1173 باب استشراف الشيطان المرأة إذا خرجت , وابن خزيمة ت311هـ ح1685 ح1686 , وحسَّنه ابن قدامة في المغني ج7/74 , وقال علي بن أبي بكر الهيثمي ت807هـ : ( رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثوقون ) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج2/35 , وصحَّحه الألباني في صحيح ابن خزيمة ح1685 .
( [57] ) فيض القدير ج6/266 ، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ج4/283 لمحمد عبد الرحمن المباركفوري ت1353هـ .
( [58] ) رواه الطبراني في الكبير ح8914 ج9/185 ، ووثَّق رجاله الهيثمي في مجمع الزوائد ج2/35 .
( [59] ) أضواء البيان ج6/251 .
( [60] ) رواه البخاري ح2844 باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له عذر هل يُؤذن له .
( [61] ) رواه مسلم ح1339 باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره .
( [62] ) رواه البخاري ح1139 باب بيت المقدس , ومسلم واللفظ له ح827 باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره .
( [63] ) رواه البخاري واللفظ له ح1036 باب في كم يقصر الصلاة وسمى صلى الله عليه وسلم يوماً وليلة سفراً , وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد , وهي ستة عشر فرسخاً , ومسلم ح1338 باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره .
( [64] ) شرح صحيح مسلم ج9/103 .
( [65] ) الدفاع عن الصحابي أبي بكرة ومرويَّاته والاستدلال لمنع ولاية النساء على الرجال للشيخ العباد ص37-38 بتصرف .
( [66] ) رواه البخاري ح4808 باب ما يُتَّقى من شؤم المرأة وقوله تعالى :, ومسلم ح2740 باب أكثر أهل الجنة الفقراء , وأكثر أهل النار النساء , وبيان الفتنة بالنساء .
( [67] ) الآية رقم 14 من سورة آل عمران .
( [68] ) فتح الباري ج9/138 .
( [69] ) الرسائل والفتاوى النسائية ص 15-18 .
( [70] ) رواه مسلم ح673 باب من أحق بالإمامة .
( [71] ) تحفة الأحوذي ج2/29 .
( [72] ) يُنظر : المبسوط ج1/42 لأبي بكر محمد السرخسي , ومختصر خليل ص33 لخليل بن إسحاق المالكي , وحاشية الخرشي على مختصر خليل ج2/42-43 لمحمد بن عبد الله الخرشي , والمجموع شرح المهذب ج4/162 , والكافي ج1/186 , وكشاف القناع ج1/473 .
================(6/16)
(6/17)
حكم إمامة المرأة
والمرأة لا يجوز أن تؤم الرجال في مكان إمارتها أو وزارتها أو سفارتها ولا في غيرها لا في الفريضة باتفاق المذاهب الأربعة , ولا في النافلة باتفاق : الحنفية ([1]) , والمالكية ([2]) , والشافعية ([3]) , والظاهرية ([4]) .
لقول صلى الله عليه وسلم : (( خير صفوف الرجال أولها , وشرُّها آخرها , وخير صفوف النساء آخرها , وشرُّها أولها )) ([5]) , وروى هذا الحديث البيهقي في الكبرى ح4908 وأورده في ترجمة ( باب لا يأتم رجل بامرأة ) , وقال ابن قدامة رحمه الله : ( ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض ) ([6]) .
وقال ابن رشد : ( لَمَّا كانت سُنتهنَّ في الصلاة التأخير عن الرجال , عُلمَ أنه ليس يجوزُ لهنَّ التقدّم عليهم ) ([7]) , وقال الإمام البخاري ت256هـ رحمه الله في صحيحه : ( باب إمامة العبد والمولى , وكانت عائشة يَؤُمُّها عبدها ذكوان من المصحف , وولد البغي , والأعرابي , والغلام الذي لم يحتلم , لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : (( يَؤُمُّهم أقرؤهم لكتاب الله )) .
فهذا في صلاة التراويح فكيف يُعقلُ أن تُصلي المرأة بالرجل الفريضة , وهذه هي أعلم النساء عائشة رضي الله عنها , وفي صلاة النافلة , ومع ذلك يُصلِّي بها عبدها رحمه الله .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( أخِّروهنَّ حيث أخَّرهنَّ الله ) ([8]) .
وقال ابن رشد عن حكم إمامة المرأة للرجل : ( لو كان جائزاً لَنُقل ذلك عن الصدر الأول ) ([9]) .
وقال الشوكاني : ( أقول لَم يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في جواز إمامة المرأة بالرجل أو الرجال شيء ولا وقع في عصره ولا في عصر الصحابة والتابعين من ذلك شيء , وقد جعل رسول ا صلى الله عليه وسلم صفوفهنَّ بعد صفوف الرجال , وذلك لأنهنَّ عورات , وائتمام الرجل بالمرأة خلاف ما يُفيده هذا , ولا يُقال الأصل الصحة , لأنا نقول قد ورد ما يدل على أنهنَّ لا يصلحن لتولِّي شيء من الأمور , وهذا من جملة الأمور , بل هو أعلاها وأشرفها , فعموم قوله : لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة , كما في الصحيحين وغيرهما يُفيد منعهنَّ من أن يكون لَهنَّ منصب الإمامة في الصلاة للرجال ) ([10]) .
7 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت : ( أخذ علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح , فما وفَّت منا امرأة غير خمس نسوة : أم سليم , وأم العلاء , وابنة أبي سبرة امرأة معاذ , وامرأتان , أو ابنة أبي سبرة , وامرأة معاذ , وامرأة أخرى ) ([11]) .
قال الحافظ ابن حجر : ( وفي حديث أم عطية مصداق ما وصفه صلى الله عليه وسلم بأنهنَّ ناقصات عقل ودين , وفيه فضيلة ظاهرة للنسوة المذكورات , قال عياض معنى الحديث : لَم يَفِ مِمَّن بايع النبيَّ r مع أم عطية في الوقت الذي بايعت فيه النسوة إلاَّ المذكورات , لا أنه لم يترك النياحة من المسلمات غير خمسة ) ([12]) .
وعن أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال : ( وجع أبو موسى وجعاً فغُشيَ عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فلم يستطع أن يَرُدَّ عليها شيئاً , فلما أفاق قال : أنا بريءٌ ممن برئَ منه رسول ا صلى الله عليه وسلم , إن رسول ا صلى الله عليه وسلم برئَ من الصالقةِ والحالقةِ والشاقةِ ) ([13]) .
فدلَّت الأحاديث على أنَّ الضعف والجزع من صفات النساء , وأنَّ الرجال أشد منهن قوة وأكثر تحملاً , ولهذا جاء الوعيد في النياحة على الميت مُضافاً إلى النساء , لأن الجزع وعدم الصبر غالبٌ عليهنَّ , والولاية والوزارة والسفارة في الشرع ثبتت لأهل القوة والصبر , لا لذوات الجزع والضعف ([14]) .
قال الحافظ ابن حجر : ( إن ضعف النساء بالنسبة إلى الرجال من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى دليل خاص ) ([15]) .
8 - عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : (( لَعَنَ رسولُ اللهِ r المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجالِ بالنِّساءِ ، والمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بالرِّجالِ )) ([16]) .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( ليسَ مِنَّا مَنْ تشبَّهَ بالرِّجالِ مِن النِّساءِ ، ولا مَنْ تشبَّه بالنِّساءِ مِن الرِّجالِ )) ([17]) .
وقا صلى الله عليه وسلم : (( ثلاثةٌ لا ينظرُ اللهُ عزَّ وجلَّ إليهم يومَ القيامةِ : العاقُّ لوالديهِ ، والْمرأةُ المُترَجِّلَةُ ، والدَّيُّوثُ ، وثلاثةٌ لا يدخلونَ الجنةَ : العاقُّ لوالديهِ ، والمُدْمِنُ على الْخَمرِ ، والْمَنَّانُ بمَا أَعطَى )) ([18]) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : (( لعنَ رسولُ ا صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَةَ مِنَ النساءِ )) ([19]) .
( الرَّجُلة ) : ( بمعنى : الْمُتَرَجِّلة ، ويقال امرأة رجُلة إذا تشبَّهت بالرجال .. ) ([20]) .
والولاية والوزارة والسفارة ثبتت في الشريعة الإسلامية للرجال , فتولِّي النساء لها تشبُّهٌ بالرجال , وترجُّلٌ , فمن فعلت ذلك دخلت في الوعيد , والله تعالى أعلم .
9 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ تَشَبَّهَ بقومٍ فَهُوَ مِنْهُم )) ([21]) .(6/18)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( وهذا الحديثُ أقلُّ أحواله : أنْ يقتضي تحريمَ التَشَبُّهَ بهم ، وإنْ كان ظاهره يقتضي كفرَ المتشبِّه بهم ، كما في قوله تعالى : (( وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) (المائدة:51) ([22]) , وهو نظيرُ ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال : مَنْ بَنَى بأرضِ المشركين , وصنعَ نيروزهم , ومهرجانهم , وتشبَّه بِهم حتَّى يموت , حُشِرَ معهم يوم القيامة ([23]) , فقد يُحمل هذا على التشبُّه المطلق , فإنه يُوجبُ الكفر , ويقتضي تحريمَ أبعاض ذلك , وقد يُحمل على أنه منهم , في القدر المشترك الذي شابَهَهُم فيه , فإنْ كانَ كُفراً , أو معصيةً , أو شعاراً لَها , كان حُكمه كذلك , وبكلِّ حال : يقتضي تحريم التشبه بهم , بعلَّة كونه تشبُّهاً ) ([24]) .
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : ( ففيه دلالةٌ على النهي الشديد , والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم , وأفعالهم , ولباسهم , وأعيادهم , وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لَمْ تُشرع لنا , ولا نُقرُّ عليها ) ([25]) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ( ومعناه إن شاء الله : أنَّ المسلم يتشبَّه بالمسلم في زَِيِّهِ فيُعرف أنه مسلم ، والكافرُ يتشبَّه بزيِّ الكافر فيُعلم أنه كافرٌ ، فيجبُ أنْ يُجبرَ الكافرُ على التشبُّه بقومه ليعرفه المسلمونَ به ) ([26]) , وقال أيضاً : ( فلأنَّ المشابهةَ في الزيِّ الظاهرِ تدعو إلى الموافقة في الهدي الباطن ، كما دلَّ عليه الشرعُ والعقلُ والحِسُّ ، ولهذا جاءت الشريعة بالمنع من التشبه بالكفار , والحيوانات , والشياطين , والنساء , والأعراب , وكلِّ ناقص ) ([27]) , وقال : ( وسِرُّ ذلك : أنَّ المشابهةَ في الهدي الظاهر ذريعةٌ إلى الموافقة في القصدِ والعمل ) ([28]) .
وقال الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى : ( والحديثُ دالٌّ على أنَّ مَن تشبَّه بالفساق كان منهم ، أو بالكفار أو بالمبتدعة في أيِّ شيءٍ مما يختصُّون به من ملبوسٍ أو مركوبٍ أو هيئةٍ ، قالوا : فإذا تشبَّه بالكافر في زيٍّ ، واعتقدَ أنه يكونُ بذلك مثله كفرَ ، فإنْ لِمْ يعتقد ففيه خلافٌ بين الفقهاء ، منهم من قال : يكفرُ ([29]) وهو ظاهرُ الحديث ، ومنهم من قال : لا يكفرُ ، ولكنْ يُؤَدَّب ) ([30]) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( ليسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بغيرنا ، لا تشَبَّهُوا باليهودِ ولا بالنصارى .. )) ([31]) .
قال الإمام عبد الرحمن بن حسن بن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى في مثل هذه النصوص : ( هذا من نصوص الوعيد ، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد : كراهةَ تأويلها ليكونَ أوقعَ في النفوس ، وأبلغ في الزجر ، وهو يدلُّ على أنه يُنافي كمالَ الإيمانِ الواجب ) ([32]) .
وقال الإمام ابن القيم قدَّس الله روحه : ( والمقصودُ الأعظم : ترك الأسباب التي تدعو إلى موافقتهم ومشابهتهم باطناً ، والنبيُّ r سنَّ لأمته ترك التشبُّه بهم بكلِّ طريق ، وقا صلى الله عليه وسلم : (( خالفَ هَديُنا هَدْيَ المشركين )) ([33]) , وعلى هذا الأصل أكثر من مئة دليل ، حتى شرع لنا في العبادات التي يُحبُّها الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم ، تجنُّبَ مشابهتهم في مجرَّد الصورة ) ([34]) .
وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى : ( ولَمْ يختلف أهل العلم منذ الصدر الأول في هذا ، أعني في تحريم التشبه بالكفار ، حتى جئنا في هذه العصور المتأخرة ، فنبتت في المسلمين نابتةٌ ذليلةٌ مُستعبَدةٌ ، هُجَيْرَاها وديدَنُها التشبُّه بالكفار في كل شيء ، والاستخدام لهم والاستعباد , ثم وَجَدُوا من الملتصقين بالعلم ، المنتسبين له من يُزَيِّنُ لهم أمرهم ، ويُهَوِّنُ عليهم أمرَ التشبه بالكفار في اللباس والهيئة ، والمظهر والخُلُق ، وكل شيء ، حتى صرنا في أمةٍ ليس لها من مظهر الإسلام إلاَّ مظهرَ الصلاة ، والصيام ، والحجِّ ، على ما أدخلوا فيها من بدعٍ ، بلْ من ألوانِ التشبه بالكفار أيضاً ) ([35]) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تقومُ الساعةُ حتَّى تأخذ أُمَّتي بأخذِ القرون قبلَها شبراً بشبرٍ , وذراعاً بذراعٍ , فقيلَ يا رسولَ الله : كفارس والروم , فقال : وَمَنِ الناسُ إلاَّ أولئك )) ([36]) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( لَتَتَّبعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قبلكم شبراً بشبرٍ , وذراعاً بذراعٍ , حتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تبعتموهُم , قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى , قال : فَمَنْ )) ([37]) .
قال النووي : ( والمرادُ بالشبر والذراع وجُحر الضبِّ : التمثيلُ بشدَّةِ الموافقة لَهُمْ في المعاصي والمخالفات ) ([38]) .(6/19)
وقال شيخ الإسلام : ( وهذا كلُّه خَرَجَ منه مَخْرجَ الْخَبَر عن وقوع ذلك , والذَّمُّ لِمَنْ يفعله , كما كانَ يُخبِرُ عمَّا يفعله الناسُ بين يَدَيِّ الساعة من الأشراط والأمور المحرَّمات , فَعُلِمَ أنَّ مشابهتها هذه الأمة اليهود والنصارى , وفارس والروم , مِمَّا ذَمَّهُ الله ورسولُه , وهو المطلوب ) ([39]) .
وقال رحمه الله : ( فَعُلِمَ بخبره الصِّدْقِ أنه في أمته قومٌ متمسِّكونَ بهديه , الذي هو دينُ الإسلام محضاً , وقومٌ منحرفونَ إلى شعبة من شُعَبِ اليهود , أو إلى شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ النصارى , وإنْ كان الرجلُ لا يكفرُ بكلِّ انحراف , بل وقدْ لا يفسقُ أيضاً , بل قد يكون الانحرافُ كفراً , وقد يكونُ فسقاً , وقد يكون معصيةً , وقد يكونُ خطأً , وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان , فلذلك أُمِرَ العبدُ بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهوديةَ فيها ولا نصرانيةَ أصلاً ) ([40]) .
ففي هذه الأحاديث إخبارٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن وقوع التشبُّه بالكفار في هذه الأمة , ولا شكَّ أنَّ مما أحدثه المشركون : تولية المرأة للخلافة فما دونها .. ويشهد لذلك سبب ورود حديث : (( لن يفلح قوم .. )) قال أبو بكرة رضي الله عنه : ( لَمَّا بلغَ رسول ا صلى الله عليه وسلم أنَّ أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى , قال : (( لن يُفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة )) ([41]) , ( وصدق ابن خلدون رحمه الله , فلقد توقَّع استيلاء الإفرنج على الأندلس الإسلامية , وخروج المسلمين منها قبل أن يقع ذلك بنحو مئتي سنة , ولم يكن له دليل على ذلك إلاَّ مشاهدته تشبه المسلمين بالأعداء ) ([42]) .
فالدعوة لتولية المرأة لرئاسة دولة , أو الإمارة , أو الوزارة , أو السفارة هو دعوة للتشبُّه بالمشركين , وإذا عَلِمَ المسلمُ أنَّ مِمَّا يُدندنُ عليه المشركون والجاهلون ويُلحُّوا على المسلمين بتنفيذه - عبر منظمة الأمم المتحدة - :
1 - حق المرأة في أن تكون رئيسة دولة , أو رئيسة وزراء , أو وزيرة .
2 - اتخاذ الإجراءات من أجل مشاركة المرأة في الأنشطة السياسية .
3 - تشجيع الأحزاب السياسية على تعيين مرشَّحات من النساء من أجل انتخابهنَّ على قدم المساواة مع الرجل .
4 - الدعوة لإصدار تعليمات حكومية خاصة لتحقيق تمثيل منصف للمرأة في مختلف فروع الحكومة .
5 - الدعوة لتمثيل المرأة تمثيلاً منصفاً على جميع المستويات العليا في الوفود , كوفود الهيئات والمؤتمرات واللجان الدولية التي تُعالج المسائل السياسية والقانونية ونزع السلاح وغيرها من المسائل المماثلة .
6 - التقليل من عمل المرأة داخل منزلها , واعتبار ذلك عملاً ليس له مقابل وأنه من أسباب فقر المرأة .
7 - الدعوة إلى خروج المرأة للعمل المختلط .
8 - الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل فيما يتعلق بنوعية العمل ووقته .
9 - الدعوة لقيام الحكومات بإصلاحات تشريعية وإدارية لتمكين المرأة من الحصول الكامل على الموارد الاقتصادية وفتح جميع مجالات العمل لها ([43]) ... إلخ .
وقد أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة القرار التالي :
( قرار رقم 179 وتاريخ 23/3/1415هـ .
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على رسول الله , وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه , أما بعد :
فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية الثامنة المنعقدة في مدينة الطائف في الفترة من 20/3/1415هـ إلى 23/3/1415هـ نظر في برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المرفق بمذكرة الأمانة العامة للأمم المتحدة , الذي سيُعقد في القاهرة بتاريخ 29/3/1415هـ إلى 8/4/1415هـ الموافق 5-13 سبتمبر عام 1994م , واطلع على ما صدر حول البرنامج من :
1 - الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي .
2 - الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي .
3 - مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة برئاسة سماحة شيخ الأزهر .
4 - المركز الدولي الإسلامي للدراسات والبحوث السكانية بجامعة الأزهر .
كما اطلع على الدراسة المقدمة من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية إلى المجلس .
وبعد الدراسة , وتبادل الآراء , اتضح للمجلس ما يلي :
1 - تبنِّي هذا البرنامج - في ظاهره - المشكلة السكانية القادمة , والتي سببها - في نظر معدِّي البرنامج - تكاثر السكان لكثرة النسل أمام قلة الموارد , مما سيؤدي إلى مشكلة الفقر العام حسب زعمهم .
2 - قدم لهذا المؤتمر مسودة وثيقة - كبرنامج عمل - حسبما وافقت عليه اللجنة التحضيرية للمؤتمر المنعقدة في نيويورك من 20 إلى 22 نيسان - إبريل عام 1994م , وهي تتكون من (16) فصلا في (121) صفحة بصياغة تعتمد التصريح حيناً , والمفهوم والتلويح حيناً آخر بما يفضي إلى الإباحية .
3 - ركزت الوثيقة كعلاج لذلك على الدعوة إلى أمرين :
الأول : الدعوة إلى الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة , والقضاء التام على أي فوارق بينهما , حتى فيما قررته الشرائع السماوية , واقتضته الفطرة , وحتمته طبيعة المرأة وتكوينها .(6/20)
وعقدت الوثيقة لذلك فصلاً كاملاً هو الفصل الرابع بعنوان ( المساواة بين الجنسين والإنصاف وتمكين المرأة ) .
وفي مواضع أخرى من الوثيقة كما في الفصل الثاني ( المبدأ / 2 , والمبدأ / 7 ) والفصل الثالث ( م / 18 , م / 30 ) , والفصل الحادي عشر : الأهداف / أ ب ح والفصل الخامس عشر : المبدأ / 9 .
الثاني : الدعوة إلى فتح باب العلاقات الجنسية المحرمة شرعاً , واتخذت له من الوسائل الآتي :
( أ ) السماح بحرية الجنس , وأنواع الاقتران الأخرى غير الزواج , والدعوة إلى الإجراءات الكفيلة بذلك ( فصل 2/7 , وفصل 5/5 , وفصل 6/11 , وفصل 6/15 , وفصل 7/1 , 7/2 ) .
( ب ) التنفير من الزواج المبكر , ومعاقبة من يتزوج قبل السن القانونية ( وإتاحة بدائل تغني عن الزواج المبكر , من قبيل توفير فرص التعليم والعمل ) كما في الفصل الرابع , مبدأ /21 , والفصل السادس , مبدأ /7 , فقرة (ج) , ومبدأ /11 .
( ج ) العمل على نشر وسائل منع الحمل , والحد من خصوبة الرجال , وتحديد النسل , بدعوى تنظيم الأسرة , والسماح بالإجهاض المأمون وإنشاء مستشفيات خاصة له , وحث الحكومات على ذلك , وتكون التكاليف قليلة جداً , كما في الفصل 3/13 , والفصل 4/ جـ27 , والفصل 7/ 31 , 7/ 37 , والفصل 11/ 8 , والفصل 12 / 14 , والفصل 15/ 16 .
( د ) التركيز على التعليم المختلط بين الجنسين , وتطويره , لأنه من أعظم إزالة الفوارق بين الجنسين , وتعويق الزواج المبكر , وتنشيط الاتصال الجنسي , كما في الفصل السادس , الهدف/ج , والفصل الحادي عشر / الإجراء /8 .
( هـ ) التركيز على تقديم الثقافة الجنسية للجنسين بسن مبكر : سن الطفولة والمراهقة , كما في الفصل 4/ 29 , والفصل 6/ 7 , (ب) و6/15 , والفصل 7/ 5 , و 7/6 .
( و ) تسخير الإعلام لتحقيق هذه الأهداف , كما في الفصل 11/16 .
4 - نتيجة لهذه الدعوة للإباحية , ولعلمهم المسبق بما يترتب على الانفلات الجنسي , ركزت الوثيقة على الخدمات الصحية التناسلية والجنسية وكيفية معالجة ما يقع من الأمراض الجنسية , والحمل وبخاصة ( الإيدز ) .
5 - إهمال التعاليم الدينية , والقيم الإنسانية , والاعتبارات الأخلاقية , وعدم إقامة أي وزن لها .
6- إعلان الإباحية , والمحادة لله ولرسول صلى الله عليه وسلم , ولدينه وشرعه وسلب قوامة الإسلام على العباد , وسلب ولاية الآباء على الأبناء وقوامة الرجال على النساء , وإلغاء ما دلت عليه الشريعة الإسلامية من مقومات وضوابط , وموانع في وجه الإباحية والتحليل , وفوضى الأخلاق , والتفسخ من الدين .
ومن خلال توافر هذه المعلومات الموثقة من نصوص الوثيقة ومضامينها , فإنها تؤدي إلى المنكرات والآثار السيئة التالية :
1 - نشر الإباحية , وتعقيم البشرية , وتحويلها إلى قطعان بهيمية مسحوبة الهوية من الفضيلة والخلق والعفة والطهارة التي تؤكد عليها تعاليم الدين .
2 - هتك حرمات الشرع الإسلامي المطهر المعلومة منه بالضرورة , وهي حرمات : الدين , والنفس , والعرض , والنسل , فالإباحية هتك لحرمة الدين , والإجهاض بوصفة المذكور في الوثيقة هتك لحرمة النفس , وقتل للأبرياء , والعلاقات الجنسية من غير طريق الزواج الشرعي : هتك لحرمة العرض والنسل .
3 - جميع ذلك تحد لمشاعر المسلمين , ومصادرة لقيمهم ومثلهم الإسلامية .
4 - جميع ذلك أيضاً هجمة شرسة , ومواجهة عنيفة للمجتمع الإسلامي لتحويل ما فيه من عفة وطهارة عرض وحفظ نسل إلى واقع المجتمعات المصابة بأمراض الشذوذ الجنسي والانفلات في الأخلاق وعليه فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية يقرر بالإجماع ما يلي :
أولاً : أنَّ ما دعت إليه هذه الوثيقة من المبادئ والإجراءات والأهداف الإباحية مخالف للإسلام ولجميع الشرائع التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام , وللفطر السليمة والأخلاق القويمة وكفر وضلال .
ثانياً : لا يجوز شرعاً للمسلمين حضور هذا المؤتمر - الذي هذا من مضمون وثيقة عمله - ويجب عليهم مقاطعته وعدم الاشتراك فيه .
ثالثاً : يجب على المسلمين حكومات وشعوباً وأفراداً وجماعات الوقوف صفاً واحداً في وجه أي دعوة للإباحية , وفوضى الأخلاق , ونشر الرذيلة .
رابعاً : يجب على كل من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين أن يتقي الله في نفسه وفي رعيته , وأن يسوسهم بالشرع الإسلامي المطهر , وأن يسد عنهم أبواب الشر والفساد والفتنة , وألا يكون سبباً في جرِّ شيء عليهم , وأن يحكم شريعة الله في جميع شؤونهم , ونذكر الجميع بقول الله سبحانه : (( يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً )) (النساء:26-27).
وبقوله عز وجل : (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ )) ([44]) .(6/21)
والله المسئول أن يوفق جميع المسلمين حكومات وشعوباً لما فيه رضاه , وأن يصلح أحوالهم , وأن يمنحهم الفقه في الدين , ويعيذهم جميعاً من مضلات الفتن , ونزغات الشيطان إنه على كل شيء قدير , وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين .
هيئة كبار العلماء
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صالح بن محمد اللحيدان راشد بن صالح الخنين محمد بن إبراهيم بن جبير
عبد الله بن سليمان بن منيع عبد الله بن عبد الرحمن الغديان د/صالح بن فوزان الفوزان
محمد بن صالح العثيمين عبد الله بن عبدالرحمن البسام حسن بن جعفر العتمي
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ناصر بن محمد الراشد محمد بن عبد الله السبيل
د/ عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ محمد بن سليمان البدر د/عبد الرحمن بن حمزة المرزوقي
د/عبد الله بن عبد المحسن التركي محمد بن زيد آل سليمان د/بكر بن عبد الله أبو زيد
د/صالح بن عبد الرحمن الأطرم ([45]) .
ثمَّ أصدرت هيئة كبار العلماء البيان التالي في 3/4/1416هـ :
( الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الذي أوصى بالنساء خيراً فقال : ( استوصوا بالنساء خيراً ) وقال : ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) , فكان بأقواله وأفعاله داعياً إلى الرحمة وهو نبي الرحمة , وبعد :
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية قد اطلع في دورته الاستثنائية التاسعة المعقودة في مدينة الطائف ابتداء بيوم الثلاثاء 3/4/1416هـ على مذكرة منهاج عمل مؤتمر المرأة المقرر عقده في بكين عاصمة الصين , وتَأمَّل منهاج هذا المؤتمر وأهدافه , ورأى مناقضات بعض مواد هذا المنهاج لبعض موادِّه , وتعمية متعمَّدة , والتواء في العبارات واضح , والهدف منه إطلاق الرغبات من كلِّ قيد , وإفساح المجال للممارسات البعيدة عن ضوابط الأخلاق , وفطرة التي فطر الناس عليها , وشريعته التي شرعها لعباده , للانفلات وراء الرغبات الجنسية وإعداد الفتيات لهذه النزوات تحت ستار حرِّية المرأة , والرفق بالمرأة , ومشكلة المرأة .
ومعلوم أن المرأة المسلمة لا تواجهها مشكلة من حيث مكانتها في المجتمع , فهي أم وزوجة وأخت وبنت , كفلت لها شريعة الإسلام جميع الحقوق , وصانتها عن الابتذال والإذلال بكلِّ معاني الصيانة والاحترام , وأعطتها من الحقوق كل ما يناسب تكوينها الذي منحها إياه خالقها , كما قال تعالى : (( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ)) ([46]) .
وفضَّل الرجل عليها في أحكام كثيرة كالإرث والشهادة وأمور أخرى , كما قال الله تعالى : (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ 4 )) ([47]) , الآية من سورة النساء , وقال سبحانه في سورة النساء أيضاً : (( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ 4 )) (النساء:11) ([48]) , وقال سبحانه في آخرها : (( وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) (النساء:176) ([49]) , وقال تعالى : (( وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء)) (البقرة:282) ([50]) الآية من سورة البقرة .
ووثيقة منهاج عمل مؤتمر المرأة فيها المصادمة الصريحة لما شرعه الله والإلزام بنبذ كل ما جاء عن الله إذا كان يخالف ما يدعو إليه هذا المؤتمر , وفي ذلك مصادمة لشرع الله , وتحطيم للأسرة , ومحادة لله ورسوله ولكافة رسله وأنبيائه , وإباحة صريحة لممارسات الزنا وغيره من الفواحش , وقضاء على ما بقي لدى الأمم من الأخلاق والقيم , وبذل الأموال طائلة في سبيل هذا الهدف الخبيث البعيد عن فطرة الله التي فطر الناس عليها وعن شرع الله الحكيم , مما لو بذل بعضه لإغاثة أمم منكوبة أو حماية أمم مقهورة بالظلم والعدوان لكفى , وما هذا المؤتمر إلاَّ عقدة في سلسلة عقد سابقة ولاحقة يترتب عليها تدمير الكيان الاجتماعي السليم , أو الباقي على شيء من القيم الكريمة .
ولكلِّ ما تقدم فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية يدعو المسلمين : حكومات وشعوباً وعلماء ومنظمات وجماعات وأفراداً للتنديد بمنهاج هذا المؤتمر , والتحذير منه , ودعوة الجميع للرد على أهدافه التي تقدمت الإشارة إليها , إنكاراً لما أنكره الله ورسوله وحماية للمسلمين عن الوقوع فيها , والله ولي التوفيق .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه , ومن سار على نهجه إلى يوم الدين .
هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صالح بن محمد اللحيدان راشد بن صالح الخنين محمد بن إبراهيم بن جبير(6/22)
عبد الله بن سليمان بن منيع عبد الله بن عبد الرحمن الغديان د/صالح بن فوزان الفوزان
محمد بن صالح العثيمين عبد الله بن عبدالرحمن البسام حسن بن جعفر العتمي
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ناصر بن محمد الراشد محمد بن عبد الله السبيل
د/ عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ محمد بن سليمان البدر د/عبد الرحمن بن حمزة المرزوقي
محمد بن زيد آل سليمان د/بكر بن عبد الله أبو زيد د/عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان
د/صالح بن عبد الرحمن الأطرم ([51]) .
( [1] ) يُنظر : الاختيار لتعليل المختار ج1/58 لعبد الله بن محمود الموصلي ت683هـ , والبحر الرائق شرح كنز الدقائق ج1/380 لابن نجيم الحنفي ت970هـ , والمبسوط ج1/183-184 , وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج1/426 لأبي بكر بن مسعود الكاساني ت587هـ .
( [2] ) يُنظر : التاج والإكليل ج2/92 , وحاشية الخرشي على مختصر خليل ج2/22 , وأقرب المسالك لمذهب الإمام مالك ص26 , والشرح الكبير على أقرب المسالك ج1/325 لأحمد الدردير , وتفسير القرطبي ج1/356 , وبداية المجتهد ج2/213 , وأحكام القرآن لابن العربي ج4/105 .
( [3] ) يُنظر : الأم ج1/164 للإمام محمد بن إدريس الشافعي ت204هـ , والمهذب ج1/97 لأبي إسحاق إبراهيم الشيرازي ت476هـ , والمجموع ج4/135-136 , وروضة الطالبين ج1/35 كلاهما للنووي .
( [4] ) يُنظر : المحلى ج3/135 لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي .
( [5] ) رواه مسلم ح440 باب تسوية الصفوف وإقامتها , وفضل الأول فالأول منها , والازدحام على الصف الأول , والمسابقة إليها , وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام .
( [6] ) المغني ج2/16 , ويُنظر : الإنصاف ج2/263 للمرداوي , والمبدع ج2/72 لابن مفلح .
( [7] ) بداية المجتهد ج1/105 .
( [8] ) رواه عبد الرزاق ت211هـ في المصنف ح5115 باب شهود النساء الجماعة , والطبراني في الكبير ح9484 ج9/295 , وصححه الألباني في صحيح ابن خزيمة ح1700 , والسلسلة الضعيفة ج2/319 .
( [9] ) بداية المجتهد ج2/213 .
( [10] ) السيل الجرار 1/250 .
( [11] ) رواه البخاري ح1244 باب ما يُنهى عن النوح والبكاء والزجر عن ذلك , ومسلم ح936 باب التشديد في النياحة .
( [12] ) فتح الباري 3/117 .
( [13] ) رواه البخاري ح1234 باب ما ينهى عن الحلق عند المصيبة , ومسلم ح104 باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية .
( [14] ) يُنظر : الدفاع عن الصحابي أبي بكرة رضي الله عنه للشيخ العباد ص38-39 .
( [15] ) فتح الباري ج3/182 .
( [16] ) رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى ح5885 باب المُتَشَبِّهينَ بالنساءِ ، والمُتَشَبِّهاتِ بالرِّجالِ .
( [17] ) رواه الإمام أحمد ح6875 , وقال المحققون : مرفوعه صحيح ، وأبو نعيم في الحلية ج3/321 ، وحسنه السيوطي في التيسير بشرح الجامع الصغير ج2/329 .
( [18] ) رواه النسائي ح2562 في المنان بما أعطى , وقال الألباني في صحيح النسائي ح2402 حسن صحيح .
( [19] ) رواه أبو داود ح4099 باب : لبس النساء , والبيهقي في معرفة السنن والآثار ح6166 ج7/581 ، وحسنه النووي في المجموع ج4/344 ، وكذا السيوطي في التيسير ج2/292 .
( [20] ) لسان العرب ج5/155 ، ويُنظر : صحيح الترغيب والترهيب للألباني ح2511 .
( [21] ) رواه الإمام أحمد ح5114 , وأبو داود ح4031 باب في لبس الشهرة , وابن أبي شيبة ح33016 , وعبدالرزاق ح20986 , وصحح سنده الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأحياء من الأخبار ج2/65 , وحسن إسناده الحافظ في الفتح ج6/98 , وصحَّح إسناده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، مجموع مؤلفات الشيخ ، قسم الحديث ج1/108 ، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود ح3451 : حسن صحيح ، ويُنظر : الإرواء 1269 رحمهم الله تعالى .
( [22] ) الآية رقم 51 من سورة المائدة .
( [23] ) رواه البيهقي في السنن الكبرى ح18642 ج9/234 , وصحَّح إسناده شيخ الإسلام في الاقتضاء ج1/457-458 .
( [24] ) الاقتضاء ج1/237-238 .
( [25] ) تفسير ابن كثير ج1/149 .
( [26] ) أحكام أهل الذمة ج2/736 .
( [27] ) الفروسية ص121 - 122 ، ويُنظر : إعلام الموقعين ج3/112 .
( [28] ) أعلام الموقعين لابن القيم ج3/140 .
( [29] ) وهو قول جمهور الفقهاء ، يُنظر : الموسوعة الفقهية ج26/99 كلمة شعار .
( [30] ) سبل السلام ج4/348 .(6/23)
( [31] ) رواه الترمذي وضعَّف إسناده ح2695 باب ما جاء في كراهية إشارة اليد بالسلام , والطبراني في الأوسط ح7380 ج7/238 , والقضاعي في مسند الشهاب ح1191 ج2/205 , وجوَّده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج25/331 , وقال في الاقتضاء ج1/85 : ( وإن كان فيه ضعفٌ فقد تقدَّم الحديث المرفوع : من تشبه بقوم فهو منهم , وهو محفوظ عن حذيفة بن اليمان أيضاً من قوله , وحديث ابن لهيعة يصلحُ للاعتضاد , كذا كان يقولُ أحمد وغيره ) وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية ج3/496 : ( وهو حسنٌ بما قبله ) أي بحديث : من تشبه بقوم .. وحسنه المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير ج2/329 , والألباني في صحيح سنن الترمذي ح2168 ، والصحيحة ح2194 .
( [32] ) فتح المجيد ص339 .
( [33] ) رواه البيهقي ح9304 كتاب الحج ، باب الدفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس , بلفظ : ( .. هدينا مخالف هديهم .. هدينا مخالف لهديهم .. ) وأبو داود في مراسيله ح151 بلفظ : ( فخالفَ هديُنَا هديَ أهلَ الشركِ والأوثان ) , وصحَّحه الحاكم ح3097 , ووافقه الذهبي ج2/304 .
( [34] ) أحكام أهل الذمة ج3/1282- 1286 .
( [35] ) من تعليق الشيخ على مسند الإمام أحمد رحمهما الله تعالى ح6513 ج10/19 .
( [36] ) رواه البخاري ح6888 باب قول صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من كان قبلكم .
( [37] ) رواه البخاري ح6889 باب قول صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من كان قبلكم , ومسلم ح2669 باب اتباع سنن اليهود والنصارى .
( [38] ) شرح صحيح مسلم للنووي ج16/219-220 .
( [39] ) اقتضاء الصراط المستقيم ج1/147-149 .
( [40] ) اقتضاء الصراط المستقيم ج1/70 , ويُشيرُ رحمه الله تعالى إلى دعاء المسلم ربه تعالى في كلِّ يوم وليلة سبعة عشر مرة فأكثر : الآيتان 6-7 من سورة الفاتحة .
( [41] ) رواه البخاري ح4163 بابُ كتاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر .
( [42] ) عودة الحجاب ج2/28 للشيخ محمد المقدم .
( [43] ) يُنظر : وثيقة المؤتمر العالمي للمرأة / كوبنهاجن 1980م , الصفحات : 20 , 22-23 , 30 , 31 , 33 , 37 , 46 , 51 , 87 , 148 , ووثيقة المؤتمر العالمي للمرأة / نيروبي 1985م , الصفحات : 19 , 25-26 , 27 , 31 , 32 , 34 , 36-37 , 45 , 50-53 , 65 , 75 , 85 , 94 , 106 , 115 , 124 , 127 , 143 , 146 , 167 , ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة / بكين 1995م , الصفحات : 6-8 , 14-16 , 18 , 22-23 , 25-26 , 31-34 , 87-88 , 90-91 , 95-96 , 98-100 , 102-108 , 113 , 144 , 195-196 , 204 , 207 .
ووثيقة المؤتمر الدولي المعني بالسكان / مكسيكو 1984م ص20 , ووثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية / القاهرة 1994م , الصفحات : 26 , 28 , 31 , ووثيقة المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية / ريودي جانيرو 1992م , الفصل 24 , الصفحات : 400-401 , 403 , ووثيقة مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية / كوبنهاجن 1995م , الصفحات : 21 , 52 , 57 , 73 , 76 , 78 ( يُنظر : قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية دراسة نقدية في ضوء الإسلام - رسالة دكتوراة - للدكتور فيصل العبد الكريم ) .
( [44] ) الآية 50 من سورة المائدة .
( [45] ) مجلة البحوث الإسلامية عدد42 ص383-388 .
( [46] ) الآية 228 من سورة البقرة .
( [47] ) الآية 34 من سورة النساء .
( [48] ) الآية 11 من سورة النساء .
( [49] ) الآية 176 من سورة النساء .
( [50] ) الآية 282 من سورة البقرة .
( [51] ) مجلة البحوث الإسلامية عدد45 ص331-334 .
==============(6/24)
(6/25)
مخاطر مؤتمر المرأة المعقود بالصين
وأصدر سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله البيان التالي :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد نشر في وسائل الإعلام خبر انعقاد المؤتمر الدولي الرابع المعني بالمرأة ، من 9 إلى 20 / 4 عام 1416 هـ الموافق 4 / 15 سبتمبر عام 1995م في بكين عاصمة الصين ، واطلعت على الوثيقة المعدة لهذا المؤتمر المتضمنة ( 362 ) مادة في ( 177 ) صفحة , وعلى ما نشر من عدد من علماء بلدان العالم الإسلامي في بيان مخاطر هذا المؤتمر ، وما ينجم عنه من شرور على البشرية عامة وعلى المسلمين خاصة ، وتأكَّد لنا أن هذا المؤتمر من واقع الوثيقة المذكورة هو امتداد لمؤتمر السكان والتنمية المنعقد في القاهرة في شهر ربيع الثاني عام 1415 هـ ، وقد صدر بشأنه قرار هيئة كبار العلماء ، وقرار المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي ، كلاهما برئاستي واشتراكي ، وقد تضمَّن القراران إدانة المؤتمر المذكور بأنه مناقض لدين الإسلام ومحادة لله ولرسول صلى الله عليه وسلم ، لِما فيه من نشر للإباحية وهتك للحرمات ، وتحويل المجتمعات إلى قطعان بهيمية وأنه تتعين مقاطعته . . إلى آخر ما تضمنه القراران المذكوران .
والآن يأتي هذا المؤتمر في نفس المسار والطريق الذي سار عليه المؤتمر المذكور ، متضمناً التركيز على مساواة المرأة بالرجل والقضاء على جميع أشكال التمييز بين الرجل والمرأة في كل شيء , وقد تبنَّت مسودة الوثيقة المقدمة من الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة على مبادئ كفرية ، وأحكام ضالة في سبيل تحقيق ذلك منها :
الدعوة إلى إلغاء أي قوانين تميِّز بين الرجل والمرأة على أساس الدين ، والدعوة إلى الإباحية باسم : الممارسة الجنسية المأمونة , وتكوين الأسرة عن طريق الأفراد , وتثقيف الشباب والشابات بالأمور الجنسية , ومكافحة التمييز بين الرجل والمرأة ، ودعوة الشباب والشابات إلى تحطيم هذه الفوارق القائمة على أساس الدين ، وأن الدين عائق دون المساواة , إلى آخر ما تضمنته الوثيقة من الكفر والضلال المبين ، والكيد للإسلام وللمسلمين ، بل للبشرية بأجمعها وسلخها من العفة ، والحياء ، والكرامة .
لهذا فإنه يجب على ولاة أمر المسلمين ، ومن بسط الله يده على أي من أمورهم أن يقاطعوا هذا المؤتمر ، وأن يتخذوا التدابير اللازمة لمنع هذه الشرور عن المسلمين ، وأن يقفوا صفاً واحداً في وجه هذا الغزو الفاجر , وعلى المسلمين أخذ الحيطة والحذر من كيد الكائدين ، وحقد الحاقدين .
نسأل الله سبحانه وتعالى ، أن يردَّ كيد الأعداء إلى نحورهم ، وأن يُبطل عملهم هذا ، وأن يوفق المسلمين وولاة أمرهم إلى ما فيه صلاحهم ، وصلاح أهليهم رجالاً ونساءً ، وسعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة , إنه وليُّ ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والمفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ([1])
الفصل الخامس
الإجماع على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
لقد أجمعَ العلماءُ على عدم جواز تولِّي المرأة للولاية العظمى ([2]) , ولَمْ يُخالف هذا الإجماع إلاَّ فرقة الشبيبة من الخوارج ([3]) , وبعض المتفيهقين في هذا العصر , ولا عبرة بخلافهم .
قال الإمام ابن حزم ت456هـ رحمه الله : ( وجميع فرق القبلة ليس فيهم أحدٌ يُجيزُ إمامة امرأة ) ([4]) .
وقال أبو المعالي عبد الملك الجويني ت478هـ : ( وأجمعوا على أنَّ المرأة لا يجوزُ أن تكونَ إماماً ) ([5]) .
وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله : ( ولا تصلحُ للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان , ولهذا لَمْ يُولِّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من خلفائه ولا مَن بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلَغنا , ولو جازَ ذلك لَمْ يَخلُ منه الزمانُ غالباً ) .
وقال القرطبي : ( وأجمعوا على أنَّ المرأة لا يجوز أن تكون إماماً ) ([6]) .
وقال البغوي رحمه الله : ( اتفقوا على أنَّ المرأةَ لا تصلحُ أنْ تكونَ إماماً , ولا قاضياً .. ) ([7]) .
وقال أبو الوليد الباجي ت494هـ رحمه الله : ( ويكفي في ذلك عملُ المسلمينَ من عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم , لا نعلمُ أنه قدَّم امرأةً لذلك في عصرٍ من الأعصار , ولا بلدٍ من البلاد , كمَا لَمْ يُقدِّم للإمامة امرأة ) ([8]) .
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى : ( تولية المرأة واختيارها للرياسة العامة لا يجوز , وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع على ذلك ) ([9]) .
وقال الدكتور محمد منير العجلاني : ( لا نعرف بين المسلمين من أجاز خلافة المرأة , فالإجماع في هذه القضية تام لَم يشذ عنه أحد ) ([10]) .
الفصل السادس
دلالة العقل على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .(6/26)
1 - إنَّ من القواعد الشرعية الثابتة : ( درء المفاسد - إذا كانت مكافئة للمصالح أو أعظم - مقدَّم على جلب المصالح ) ؟ ([11]) .
فالشريعة الإسلامية مبناها على جلب المصالح وتكميلها , ودفع وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فما غلبت مصلحته أباحته ، وما غلبت مفسدته منعته ([12]) ، فالمأمورات والمنهيات في الشريعة تشتمل كل منهما على مصالح ومضار ، والحكم في كل منها على الأغلب ([13]) .
وهذه القاعدة : من مسائل الإجماع عند العلماء ، الثابتة بالكتاب , والسنة , والعقل ([14]) .
ولو سُلِّم بأن هناك بعض الفوائد القليلة العائدة على المرأة في تولِّيها للإمامة العظمى فما دونها مما فيه ولاية على الرجال ، إلاَّ أنه بالنظر إلى ما يترتب عليه من مفاسده نجده أضعافاً مضاعفة بالنسبة لتلكم المصالح القليلة النسبية التي يرجوها من يدعو إليها ! لأن أخطارها ومفاسدها قد بلغت من الكثرة والعموم ما لا ينكره عاقل منصف .
ومن هنا جاء باب ( سدّ الذرائع المفضية إلى المفاسد ) أو المؤدية إلى إهمال أوامر الشرع ، أو التحايل عليها ولو بغير قصد ([15]) ، فإنَّ ( سدَّ الذرائع أصلٌ من أصول الشريعة الإسلامية ، وحقيقته : منع المباحات التي يُتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات .. ولا يقتصر ذلك على مواضع الاشتباه والاحتياط ، وإنما يشتمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام ) ([16]) .
وعرَّفها الباجي ت474هـ بقوله : ( المسألة التي ظاهرها الإباحة ويُتوصل بها إلى فعل المحظور ) ([17]) , وابن رشد ت520هـ بقوله : ( هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويُتوصل بها إلى فعل المحظور ) ([18]) , وابن العربي ت543هـ بقوله : ( هي كل عمل ظاهره الجواز يُتوصل به إلى محظور ) ([19]) .
والقرطبي ت671هـ بقوله : ( الذريعة : عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يُخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع ) ([20]) , والقرافي المالكي ت684هـ بقوله : ( سد الذرائع ومعناه : حسم مادة وسائل الفساد دفعاً لها ) ([21]) .
وشيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ بقوله : ( الذريعة : الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرَّم ) ([22]) .
والشاطبي ت790هـ بقوله : ( الذريعة : هي التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة ) ([23]) , وابن النجار ت972هـ بقوله : ( الذريعة هي ما ظاهره مباح , ويُتوصل به إلى محرَّم ) ([24]) .
فالشارع الحكيم إذا حرَّم أمراً حرَّم الوسائل المفضية إليه ([25]) .
ولقد اتفقت جميع المذاهب الأربعة على إعمال قاعدة سدِّ الذرائع في الذريعة التي تؤول إلى المحرَّم قطعاً , وفي الذريعة التي تؤول إلى المحرَّم ظناً ([26]) .
2- أتت الشريعة الإسلامية بالعمل بالعُرف والعادة التي لا تُخالف الشرع , وما تعارفَ عليه المسلمون مما لا يُخالف الكتاب والسنة يُعتبرُ حجة يجب العمل به ([27]) .
قال النسفي رحمه الله تعالى : ( العُرف والعادة ما استقرَّ في النفوس من جهة العقول , وتلقَّته الطباع السليمة بالقبول ) ([28]) .
وقال محمد الجرجاني ت816هـ رحمه الله تعالى : ( العُرف ما استقرَّت النفوس عليه بشهادة العقول , وتلقَّته الطبائع بالقبول .. وكذا العادة هي ما استمرَّ الناس عليه على حكم العقول وعادوا إليه مرَّة بعد أخرى ) ([29]) .
وقد أَعمل الشارع الحكيم جانب العرف وجعل له اعتباراً في كثير من العقود والأحوال الشخصية والتصرفات الدنيوية , وأخذ الفقهاء بالعرف وأولوه عناية فائقة في المسائل الفقهية , قال ابن نجيم رحمه الله تعالى : ( واعلم أنَّ اعتبار العادة والعرف يُرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة ) ([30]) .
ولقد دلَّ القرآن الكريم , والسنة التقريرية , والإجماع التقريري على العمل بالعادة والعرف ([31]) .
وإنما يُعتبر العرف عند عدم التصريح بخلافه , ووردت هذه القاعدة الفقهية بلفظ : العرف إنما يُعتبر فيما لا نصَّ بخلافه , وبلفظ : العرف غير معتبر في المنصوص عليه , وبلفظ : العرف يسقط اعتباره عند وجود التسمية بخلافه , وبلفظ : العرف لا يُعارض النص , وبلفظ : العرف يكون حجة إذا لم يُخالف نصَّ الفقهاء ([32]) .
ومن هنا : تظهر العلاقة الجلية بين العرف وسدِّ الذرائع حيث إنَّ كلا القاعدتين تسعيان لتحقيق مقاصد الشارع , وجعل أحكام الشرع صالحة لكلِّ زمان ومكان ... فتبيَّنَ لنا : أنَّ عادات وأعراف المسلمين عبر كلِّ العصور تُنكر ( تولِّي المرأة للإمامة فما دونها مما فيه ولاية على الرجال ) والحمد لله .
3 - إنَّ المرأة ليست أمثل من الرجل - في تولِّي إحدى وزارتي التفويض , أو التنفيذ - من ناحية القدرة والكفاية على معاناة السياسة في تحصيل مصالح الأمة , فضلاً عن التفرُّغ التام لمهام ومسؤوليات تلك الوزارتين والسفارة , وبيانه من ناحيتين :
الناحية الأولى : للمرأة وظيفتان : الوظيفة الأولى : أصلية , وهي الأمومة وكونها زوجة .
والوظيفة الثانية : خاصة - طارئة - وهي الوزارة أو رئاستها .(6/27)
فإذا أجزنا للمرأة مخالفة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين - ومعاذ الله من ذلك - بتولِّيها الوزارة أو رئاستها , وهي ليست وظيفتها الأصلية , فإننا نكون بذلك - علاوة على مخالفة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين - قد أهدرنا وظيفتها الأساسية في الحياة مع وجود من يقوم مقامها بالنصِّ .
والناحية الثانية : إنَّ المرأة المسلمة مشغولة بما يعتريها من عوارض الأنوثة , من نحو الحيض , والحمل , والولاة , والإرضاع , والنفاس , فضلاً عن انشغالها بتربية أطفالها وتدبير شؤونهم الحياتية , فهم بأمسِّ الحاجة إلى حنانها ورعايتها اليومية .. بالإضافة إلى قيامها بواجباتها الزوجية .
فإذا كانت المرأةُ المسلمةُ مشغولةٌ بحقوق أُسرتها المأمورة برعاية مصالحا العامة وتحصيلها ابتداءً , فلا تُشغَلُ بحقوق الأُمة غير المكلَّفة بِها من باب أولى , لوقوع التعارض الحتمي بين المصلحتين : مصلحة رعاية الأسرة والحياة الزوجية العامة , ومصلحة المرأة المسلمة الخاصة في كونها رئيسة وزراء , أو وزيرة تنفيذية , فتُقدَّم شرعاً عندئذٍ المصلحة العامة على المصلحة الخاصة , لأنها هي الأولى بالرعاية .
4 - إذا كانت المرأة غير قوَّامةٍ على أمر زوجها وبيتها فَمِنْ باب أولى ألاَّ تكون لها القوامة على سياسة الرعية والدولة بتولِّي أحد منصبي وزارة التفويض أو التنفيذ .
ولهذا نصَّ الفقهاء على أنَّ : الرَّجُلَ أنفعُ منها , ويسدُّ ما لا تسدُّه المرأة من المناصب الدينية , والولايات , وحفظ الثغور , والجهاد , وعمارة الأرض التي لا تتمُّ مصالح العالَم إلاَّ بِها والذَّبِّ عن الدنيا والدين ([33]) .
ولهذا فلا مجالَ للرأي القائل بتخصيص وزارة لشؤون المرأة , وحماية مصالحها لأنَّها أَحنُّ من الرجل وأعطف .. وهذا تخصيصٌ بلا مُخصِّص شرعي , ولأنَّ اشتراط العاطفة الحانية ليست من شروط صحَّة تقليد الوزير , وحتَّى لو اشتُرط ذلك فيه فيبقى المنعُ من تولية المرأة على الوزارة مطلقاً قائماً لورود النهي عن ذلك ) ([34]) .
الخاتمة
تبيَّن لنا مِمَّا مضى :
حُرمة تولِّي المرأة للولاية العظمى , أو لرئاسة الوزراء , أو لوزارة التفويض , أو التنفيذ , أو فيما دونها مما فيه ولاية على الرجال .
أسأل الله سبحانه أنْ يهديَ ضالَّ المسلمين , وأنْ يُذهب عنَّا وعنهم البأس , وأنْ يصرفَ عنَّا وعنهم كيدَ الكائدين , وأنْ يحفظنا بالإسلامِ قائمينَ , وقاعدينَ , وراقدينَ , وأنْ لا يُشْمِتَ بنا الأعداءَ ولا الحاسدينَ , إنَّ الله لسميعُ الدعاء (( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (هود:88) .
وصلى الله وسلَّم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلَّم .
( [1] ) مجلة البحوث الإسلامية عدد45 ص335-336 .
( [2] ) يُنظر : حاشية رد المحتار لابن عابدين ج1/548 , الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي ص338 , حجة الله البالغة للدهلوي ج2/396 , أحكام القرآن لابن العربي ج3/1457 , الفروق ج2/158 لأحمد بن إدريس القرافي ت684هـ , الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك ج2/329 لأحمد بن أحمد الدردير ت1201هـ , تحفة المحتاج للهيثمي ج9/75 , نهاية المحتاج للرملي ج7/409 , المبدع لابن مفلح ج10/10 , إعلام الموقعين ج2/149 , الأحكام السلطانية للفراء ص20 و60 , إكليل الكرامة لصديق حسن خان ص108 , الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج5/10 , فضائح الباطنية ص180 لأبي حامد محمد الغزالي ت505هـ .
( [3] ) يُنظر : الفرق بين الفرق ص109-111 لعبد القاهر البغدادي ت429هـ , وهذه الفرقة تُنسب إلى أبي الضحاك شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس الشيباني , ولد سنة 26هـ وتوفي غرَقاً سنة 77هـ .
( [4] ) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج4/179 .
( [5] ) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ص427 .
( [6] ) الجامع لأحكام القرآن ج1/270 .
( [7] ) شرح السنة ج10/77 .
( [8] ) المنتقى شرح موطأ الإمام مالك رحمه الله ج5/182 .
( [9] ) ذكره الشيخ جوهر الرحمن في كتابه : رياسة المرأة في ضوء القرآن والسنة ص25 .
( [10] ) عبقرية الإسلام في أصول الحكم ص70 .
( [11] ) يُنظر : المجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي , لوحة 46 فما بعدها , ولوحة 95أ , الأشباه والنظائر ج1/15 لابن السبكي ت771هـ , كتاب القواعد ج1/354 للحصني ت829هـ , القواعد في الفقه الإسلامي القاعدة 109 لابن رجب ت795هـ , القاعدة 34 من إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ت914هـ , الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية ص87-105 للسيوطي ت911هـ , القواعد ص201 للمقري ت758هـ , الأشباه والنظائر ص90 لابن نجيم ت790هـ .
( [12] ) يُنظر : أصول الفقه ص 308 لمحمد البرديسي .
( [13] ) يُنظر : مجموع الفتاوى ج1 / 265 , قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج1/ 12 لابن عبد السلام ت660هـ ، وفقه الأولويات ص225 لمحمد الوكيل .(6/28)
( [14] ) يُنظر : الموافقات في أصول الشريعة ج4/ 194 - 201 لإبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي ت790هـ ، الفتاوى الكبرى ج3 / 256 ، إعلام الموقعين ج3 / 147 - 171 .
( [15] ) يُنظر : الموافقات ج4 / 199 ، الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها ص45 لمصطفى الزرقاء .
( [16] ) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص209 بتصرف .
( [17] ) إحكام الفصول في أحكام الأصول ص765 لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي .
( [18] ) المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات مج2/ص39 لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد .
( [19] ) أحكام القرآن لابن العربي ج2/798 .
( [20] ) الجامع لأحكام القرآن ج2/57 .
( [21] ) الفروق ج2/ص32 , ويُنظر : مقاصد الشريعة الإسلامية ص118 للطاهر بن عاشور ت1393هـ .
( [22] ) الفتاوى الكبرى ج3/256 .
( [23] ) الموافقات في أصول الشريعة ج4/ص199 , ويُنظر : إرشاد الفحول ص411 للشوكاني .
( [24] ) مختصر التحرير في أصول فقه السادة الحنابلة ص98 لمحمد بن أحمد النجار , ويُنظر : الإنصاف ج5/337 للمرداوي , الفواكه الدواني للنفراوي ج2/102 , شرح الزرقاني على مختصر خليل ج2/400 لعبد الباقي الزرقاني , مواهب الجليل ج4/524 للمغربي , فتح الباري ج4/401 , ج5/61 , ج12/327 , نصب الراية لأحاديث الهداية ج1/328 لعبد الله بن يوسف الزيلعي ت762هـ .
( [25] ) إعلام الموقعين عن رب العالمين ج3 / 135 لابن القيم .
( [26] ) يُنظر : قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص76 للعز بن عبد السلام ت660هـ , والموافقات للشاطبي ج3/350 .
( [27] ) يُنظر : قواعد ابن رجب 121 , 122 , قواعد الخادمي ص308 , وشرحها للقرق أغاجي ص5 , قواعد الفقه ص57 لمحمد البركتي , مجلة الأحكام مادة 37 , درر الأحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر ج1/41 , المدخل الفقهي العام فقرة 60 لمصطفى الزرقا , الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص292 لمحمد صدقي البورنو .
( [28] ) العرف والعادة في رأي الفقهاء ص10 لأحمد أبو سنة , وأثر العرف في التشريع الإسلامي ص50 لسيد صالح النجار .
( [29] ) التعريفات للجرجاني ص149 .
( [30] ) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع شرحه غمز عيون البصائر ج1/295 , ويُنظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ج29/16-17 .
( [31] ) يُنظر : شرح الجلال المحلي ت864هـ على جمع الجوامع لابن السبكي ج2/353 , وبدائع الصنائع ج5/ص2-3 , وشرح تنقيح الفصول ص322 لابن حلولو الزليطي ت898هـ .
( [32] ) يُنظر : شرح السير ص1634 , المبسوط ج4/227 , ج12/142 , ج14/136 , قواعد الفقه ص71 و92 .
( [33] ) يُنظر : إعلام الموقعين للإمام ابن القيم ج2/149 .
( [34] ) يُنظر : المرأة والحقوق السياسية في الإسلام , للدكتور مجيد محمود أبو حجير ص323-325 بتصرُّف .
================(6/29)
(6/30)
دعاة التغريب
أصحاب الدعوات الهدامة، أمثال من يدعوا لسفور المرأة وغيره, إذا أرادوا تسويغ باطلهم في صفوف الناس، دخلوا على الناس من مداخل يظنها السفيه الجاهل شرعية, كإبليس تماماً يدخل عليك من طريق الشر, وإلا دخل عليك من أبواب الخير، ولا غرور في ذلك، فهو معلمهم الأكبر، لا أقول أصحاب هذه الدعوات أتوا النصوص الشرعية وأقول العلماء فيها، فأخذوا بعض أقوال العلماء التي فهموها فهماً شهوانياً، والصقوها بالدين، وركبوا بضاعتهم عليها، وعرضوها على الناس, ونحب أن نسأل الذين يحاولون أن يسوغوا باطلهم الذي يقحمونه على إسلامنا بعزائمنا، يتحايلون على أن يسوغوا باطلهم الذي ألصقوه بالدين ونصوصه، فنقول هل تعلمون أحد من المسلمين دعى قبل اليوم بدعوتكم؟ فإذا كان ذلك لم يحدث من قبل اليوم، تستطيعوا أن تزعموا أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. وأن علماء المسلمين قد غفلوا جميعاً عن فهم نصوص دينهم، حتى جاء هؤلاء الذين أوحى إليهم شياطينهم من الجن والأنس في باريس من أمثال قاسم أمين، فانتكس تفكيرهم بين معاهدها، وما بدا لهم حين لم يعتصموا بحبل الله المتين, الذي يذود عنهم كل شيطان مريد, وذلك حين بُعثوا إلى تلك البلاد لينقلوا إلينا الصالح النافع من علومها وصناعتها, فضلوا الطريق، وعادوا إلينا بغير الوجه الذي بعثوا به, جاء هؤلاء بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول القرآن، ليخرجوا لنا حقائق التنزيل التي غاب علمها عن الأولين والآخرين من الفقهاء، ويضربوا بإجماع المسلمين في الأجيال المتعاقبة عرض الحائط، أليس ابتداع هذه الدعوة في ظل الاحتلال الإنجليزي، وتزعم فريق من المتفرنجين الذين عُرفوا بموالاة ذلك الأجنبي المحتل, أليس دليلاً كافياً على أنها طارئة علينا من الغرب، تقليداً بأهله المنحرفين عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، بل إن أصحاب هذه الدعوات كشفوا على حقيقتهم كما قال الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة** وإن خلالها تخفى على الناس تعلم
فهذا تحرير قاسم أمين الذي لبس لباس الدين، في كتابه عن تحرير المرآة، وحرف النصوص الشرعة عن وجهها، ها هو ينكشف على حقيقته، وذلك أنه حين واجه تلك المعارضة الشديدة، التي أحرجته كثيراً بعد تأليفه كتاب عن تحرير المرآة، ها هو يسفر عن وجهه الحقيقي، ويخلع عنه ثوب الحياء، وقناع التدين, ويكشف في جرأة وصراحة عن أهدافه المغرضة، في كتابه الجديد الذي سماه المرآة الجديدة، حين بد فيه تأثيره بالحضارة الغربية واضحاً، من خلال ما يسمى بالمنهج العلمي، فيقول في كتابه عن التشريع الفسيولوجي، والتجربة في البلاد التي منحت المرآة حريتها، قد أثبت أن المرأة مساوية للرجل في الملكات، ويستشهد فيقول: إن العفة تكتسب بمنهج الحرية للمرأة، وإن اختلاف الأجواء لا أثر له في ذلك، ويقول نحن لا نستغرب أن المدينة الإسلامية أخطأت في فهم طبيعة المرآة، وتقدير شأنها، فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطئها في كثير من الأمور الأخرى، ويقول والذي أراه أن تمسكنا بالماضي هو من الأهواء، التي يجب أن ننهض لمحاربتها جميعاً، لأنه ميل إلى التدين والتقهقر، وهذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس له من الدواء على أن نربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدينة الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وأثارها، وإذا أتى هذا انحلت الحقيقة أمام عيوننا ساطعة سطوع الشمس، وعرفنا قيمة التمدن الغربي، وتيقنا أن من المستحيل أن يتم إصلاح ماضي أحوالنا إذا لم يكن مؤسساً على العلوم العصرية الحديثة، على أن قال هذا هو الذي جعلنا نضرب الأمثال بالأوروبيين، ونشيد بتقليدهم، وحملنا على أن نستلفت الأنظار على المرآة الأوربية
================(6/31)
(6/32)
المرأة والموضة (1/3)
أولاً: معنى الموضة :
الموضة وينطقها البعض المودة، كلمة أجنبية تعني على الطراز الحديث، أو على آخر زي .
ثانياً: مجالات الموضة:
1- اللباس :
إن الحديث عن اللباس يطول ، فهو من أعظم فتن النساء في هذا الزمان، فقد تفنن أهل الشر وأباطرة الفساد في إظهار الأزياء الفاتنة، من خلال الصور والمجلات المتخصصة في ذلك، حتى أنها توزع مجاناً في المحلات التجارية، من أجل الإسراع في ترويج الموضات، واللباس خاصة تكثر تقسيماته وموضاته حسب الزمان أو المكان، أو البيئة أو طبيعة البشر، أو شكل الجسم، فمثلاً هناك موضات الخريف والربيع وغيرها، وثوب الشتاء يختلف عن الصيف، واللون أيضاً يتابع فيه فصول السنة لتحديده، وما يكون في الصباح لا يصلح للظهيرة، ولا يجوز لباسه ليلاً، وهكذا تتكرر نفس الأساليب في العام القادم، من أجل إشغال المرأة عن مهمتها الرئيسية، في رعاية الزوج والأولاد، وتربية الأسرة .
وأصحاب المحلات لهم أسلوبهم في ترويج بضائعهم، وذلك من خلال الضحك على عقول النساء، فعند شراء فستان أو قطعة قماش يقول:ـ هذه أحضرتها من المحل العالمي الفلاني، وهذا موديل ملكات الجمال، أو لا يوجد مثل هذه القطعة أبداً إلا هذه، وغير ذلك من الألفاظ الساحرة التي تستنزف الأموال.
وتجد الموضة في هذه التفصيلات والأشكال، تجدد من حيث أنها قديمة، ولكن نزلت بأنها الموضة بعد طول العهد، كما تقول إحداهن: "ثياب جدتي أصبحت موضة "، ويقول أحد المختصين في هذه الموديلات : البنطلون الضيق الذي كان عام 1968م قد كان يشكّل موضة في ذلك الوقت، ثم تطورت موديلات البنطلون، فظهر البنطلون الشارلستون الواسع، والكلوش، وفجأة عاد البنطلون الضيق الذي كان عام 1968م ليصبح على قمة الموضة عام 1979 ـ 1980م.
وفي مجتمعاتنا خاصة نجد أن بعض الملابس خرجت عن مقصد الحشمة، إلى التفسخ والانحلال، وجذب أنظار الشباب والرجال، فتجد من تحت العباءة البنطلون والثوب الضيق، والفتوح من الأمام والخلف والجانب، والحاسرة عن عنقها، ونسمع مؤخراً عن الملابس العلاّقة، التي تكون بلا أكمام، وكذلك انتشار البلوزات والملابس التي عليها صور للفانيين والممثلين، والمشاهير من حثالة العالم وغيرها كثير، وكل هذا من تحت العباءة التي أصبحت شكلاً فقط، فمرة تدفعها وأخرى تفتحها، وثالثة تضعها على الكتف، وبذلك تبرز المفاتن الداخلية للمرأة، التي نسأل الله العافية!! ينطبق عليها قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: ( كاسية عارية)، وعند الحديث عن اللبس نتكلم عن العباءة، التي على الرغم أنه يفترض أنها اللباس الساتر للمرأة ، إلا أنها لم تنفك عن تتبع الموضة، وإظهار الإبداع في تزيين المرأة خارجياً، فأصبحت هناك عباءة فرنسية، وأخرى عمانية، وعباءة مزركشة، ومطرزه بألوان وأشكال أو شفافة، تلبس على الكتف أحياناً، أو تفتح أحياناً، أو ترفع أحياناً أخرى، موضات يراد منها الابتعاد عن الحجاب الشرعي خطوة خطوة .
أما النقاب فحدث ولا حرج، تظهر العيون وتجمل بالكحل ونحوه، ويظهر معه بعض الخدين والحاجبين، أصبح مجالاً للفتنة، وإغراء الرجال، وعجباً كل العجب ممن يسمح لامرأته بلبس هذا النقاب، أو يسمح لقريبته بذلك، أسألكم بالله لو أن هذا الرجل قال له رجل في الشارع اسمح لي انظر إلى عيون أختك فقط، عيونها لغضب أشد الغضب وربما تقاتلا، سبحان الله!! تغضب من شخص واحد ولا تغضب أن يراها مئات الأشخاص، ومن المعلوم أن العلماء ذكروا حرمة هذا النقاب، وما دمنا في مجال اللباس دعونا نعرج على محلات الخياطة النسائية.
وهذه تنقسم إلى قسمين :
إما محلات خياطة مفتوحة، يعمل فيها رجال، أو تكون مشاغل نسائية لا يسمح بدخول الرجال إليها، لأنه يعمل فيها النساء.
فبالنسبة للقسم الأول: أعني التي يعمل فيها رجال، هذه لاشك لها سلبيات كثيرة منها على سبيل الاختصار:
1ـ الإسراف المالي: حيث أنها تستنزف أموال الناس، عن طريق الخياطة بمبالغ طائلة .
2ـ إحضارها لمحلات الأزياء: وعرضها على النساء (الزبائن)، مع ما في هذه المحلات من مفاسد لا تخفى عليكم .
3ـ طريقة كلام المرأة مع الخياط: وإبرازها لشيء من جسدها له، بحجة أنه من العمالة الوافدة، وربما كان سيئ الخلق، فألان معها الكلام، وربما تجرأ على ما هو أكثر من ذلك .
4ـ إضاعة الوقت على المرأة: لأنها تجلس عنده مدة طويلة تشرح له الموديل.
5ـ فيه إضاعة لوقت ولي المرأة: الذي جاء معها إن كان جاء معها ولي.
6ـ فيه إضاعة لوقت المرأة التي تنتظر الدور: لتعطي هذا الخياط ملابسها.
والذي أقترحه على الأخوات ما يلي :
1ـ أن تتولى خياطة ملابسها بنفسها، أو تعطيها لزميلة لها لتقوم بالمهمة.
2ـ إن كان ولابد من الخياط فارسمي الموديل، واشرحيه لوليك، ثم هو يذهب إلى الخياط ويتفاهم معه على كل ما تريدين .
أما بالنسبة للمشاغل النسائية: ففيها مفاسد أيضا، منها على سبيل الاختصار:
1ـ بعض هذه المشاغل تتولى الخياطة فيها كافرات.(6/33)
2ـ لا تقتصر بعض المشاغل على الخياطة فقط، بل تقوم بأعمال أخرى كقص الشعر والتجميل ونحوهما، في هذين من المفاسد ما لا يخفى، فقصّات غربية محرمة، ونمص وإزالة شعر العانة، والاطلاع على العورات ونحو ذلك .
3ـ ربما كان في بعض هذه المشاغل مكاناً لخلع الملابس القديمة، لتجربة الجديدة، وهذا معلوم حكمه من قوله- صلى الله عليه وسلم -: ( أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت ستر ما بينها و بين الله عز وجل).
4ـ ربما كان في بعض هذه المشاغل آلات تصوير خفية وغيرها من المفاسد، ولذا إن ذهبت المرأة إليهن فعليها أن لا تنزع حجابها وتعد نفسها، وكأنها أمام رجال، بالإضافة إلى أنها ينبغي أن تختصر الكلام معهن، وتقتصر على موضوع الملابس فقط، ولا تتكلم في موضوعات أخرى، كما عليها أن تأتي بالمقاس معها، ولا تجعل هذه المرأة تلمس جسدها لأخذ المقاس.
2-الشَّعر:
وهو مكمن الجمال الحقيقي للمرأة، ولم يزل المرجفون وصايغي الجمال الموهوم، يحاولون بشتى الطرق إظهار شعر المرأة من تحت خمارها، فخرجت للنساء موضات وقصّات، وتسريحات بأسماء متعددة، وأشكال مضحكة ليضحكوا على عقل المرأة، ويقضوا على ما بقي من حيائها، وهذه المسكينة تجرى وراء كل جديد، وتتبع محلات التسريحات وآخر الموضات من القصات، أو كيف كان شعر الممثلة الفلانية، وتسريحة المطربة الفلانية، فتقوم بتقليدها حتى وهي تعلم أنها كافرة، أو تأخذ من الإسلام اسمه فقط.
فالتسريحات تملأ محلات " كوافير" أشكالاً وألواناً، فهذه قصة الأسد وتلك قصة الفنانة، والمطربة الفلانية، والآن نسمع قصة الستينات وتسريحة الشلال، وهكذا من الأسماء المنمقة، استدراك [ظاهرة إخراج الشعر الطويل خارج العباءة] .
ولتعلم المرأة أنه لا يجوز لها قص شعرها إلا بشروط ذكرها العلماء وهي :
1ـ ألا تقصره إلى حد يشبه فيه شعر الرجل .
2ـ ألا يكون فيه تشبه بنساء الكفار والفساق.
3ـ أن يكون بإذن الزوج ورضاه.
ومع ذلك تجد من النادر أن تحقق المرأة هذه الشروط، فأغلب الذاهبات إلى صالون التجميل، ومحلات الكوافير، هن ممن يتتبعن الموضة بحذافيرها.
ومما يدخل في مجال الشعر استخدامها " الباروكة"، التي يتخذها بعض النساء، وتقصد بها الزينة والتجميل، ولا تعرف أنه من الوصل المحرم، يقول الشيخ صالح الفوزان ": ومن الوصل المحرم لبس الباروكة، والمعرفة في هذا الزمان لقول النبي- صلى الله عليه وسلم - : ( ما من امرأة تجعل في رأسها شعراً من شعر غيرها إلا كان زوراً ) .. والباروكة شعر صناعي يشبه شعر الرأس وفي لبسها تزوير.
وقد قال الشيخ محمد بن عثيمين: أنها محرمة، وأنها من الوصل، ثم قال: " لكن إن لم يكن على رأس المرأة شعر أصلاً، كأن تكون قرعاء ، فلا حرج من استعمال الباروكة، لتستر هذا العيب " .
ومن مجالات الموضة الشعر، اتخاذ الصبغات الملونة، والمختلفة له، والتي تتخذها غالباً المرأة دون حاجة، وفي هذا يقول الشيخ صالح الفوزان: " أما صبغ المرأة شعر رأسها، فإن كان شيباً فإنها تصبغه بغير السواد، لعموم نهيه- صلى الله عليه وسلم - عن الصبغ بالسواد.
وأما صبغ المرأة لشعر رأسها الأسود، ليتحول إلى لون آخر، فالذي أرى أن هذا لا يجوز، لأنه لا داعي إليه، لأن السواد بالنسبة للشعر جمال، وليس تشويهاً يحتاج إلى تغيير، ولأن في ذلك تشبهاً بالكافرات " .
وأما نتف الحواجب " النمص"، فحدث ولا حرج، فقد كثر بشكل ملحوظ، في أواسط النساء، فتجد الواحدة منهن تنتف جميع الحاجب، وتستعيض بدلاً عن ذلك برسم القلم مكانه، فتجدها كل يوم بشكل الحاجب، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله- : " لا يجوز أخذ شعر الحاجبين، ولا التخفيف منهما، لما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه لعن النامصة والمتنمصة، وقد بين أهل العلم أن أخذ شعر الحاجبين من النص"، والنامصة: هي التي تزيل شعر حواجبها، والمتنمصة: هي التي تطلب ذلك من غيرها.
وتذكر أخيراً ما يتعلق بالرموش الصناعية للعين، وما يفعله بعض النساء من اتخاذها للزينة المحرمة، التي تجعل المرأة تبدو بغير صورتها الحقيقية، وأيضاً إغراء الرجال من خلف النقاب، الذي يظهر العينين بوضوح ، أضف إلى ذلك الطريقة الساحرة والماكرة، للرمش بهذه الرموش الصناعية.
ولكل ما ذكرنا سابقاً من الصبغات والنمص، واتخاذ الرموش الصناعية أضرار صحية خطيرة، نذكرها لاحقاً.
3-العدسات اللاّصقة:
وهي إحدى المظاهر الخّداعة، التي أنتجتها لنا الموضة مؤخراً ، فتجد المرأة تخرج، وقد لبست العدسات الملونة، التي تتماشى مع لون فستانها، أو حذاءها، وتبرز ذلك من خلف النقاب، أو عند معارفها وصديقاتها، وقد ظهر مؤخراً عدسات لاصقة تحمل في داخلها صوراً، ولا نعلم ماذا سيأتي بعد ؟(6/34)
فمثل هذه العدسات التي اتخذت لغير حاجة طبية، وضرورية، فيها خداع وغش، وتغيير لخلق لله ـ عز وجل ـ، وتبعية للشيطان، قال تعالى على لسان إبليس: (وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ ) (النساء:119) . وأضف إلى ذلك القيمة الباهظة الثمن، التي تصل إليها هذه العدسات دون حاجة، وإنما فيها إسراف وتبذير، قال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) (الإسراء:27) .
4 - الكعب العالي والحذاء:
لم يعد خافياً ما يسببه الكعب العالي من مضار صحيةـ كما سيأتي ـ، وأخطار متنوعة، وهذه الزينةـ أقصد الكعب العالي ـ ليست وليدة هذا العصر، فقد روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي بين امرأتين طويلتين ، فأخذت رجلين من خشب، وخاتماً من ذهبن مغلفاً بطين، ثم حشته مسكاً وهو أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين، فلم يعرفونها، فقالت بيدها هكذا…) وفي رواية عند غير مسلم :( فكانت إذا مرت بالمجلس حركته تنفخ ريحه) .
وروى عروة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلاً من خشب، يتشرفن للرجال في المسجد، فحرم الله عليهن المساجد ، وسلطت عليهن الحيضة ). أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ، كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله.
واتخاذ مثل هذه يشبه في عصرنا الكعب العالي، وفي ذلك تشبه بالهالكين من الأمم السابقة، من اليهود والنصارى وغيرهم ، ونهي آخر من التشبه أيضاً بمن هم من الكفرة، وإن كانوا معاصرين.
وعند سؤال اللجنة الدائمة للإفتاء عن الكعب العالي، كان جوابها :" لبس الكعب العالي لا يجوز، لأنه يعرض المرأة للسقوط، والإنسان مأمور شرعاً بتجنب الأخطار، كما أنه يظهر قامة المرأة، وعجيزتها بأكثر مما هي عليه، وفي هذا تدليس وإبداء لبعض الزينة، التي نهيت عن إبدائها المرأة المؤمنة بقوله تعالى: ( وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (النور:31) .
ومع ذلك فإنك تلاحظ المرأة في السوق والأماكن العامة، تشنف آذان الرجال بصوت الكعب، وهو يضرب على الأرض، وكأنها تقول بلسان حال رجلها: أنظروا إليّ وإلى حسن قوامي، ونجد هذا الكعب يختلف في حجمه، فمنه صغير الحجم الذي تكاد تسقط منه المرأة، ويتدرج في كبره، حتى نجده الآن قد وصل إلى حجم كبير، أو ما يطلق عليه باسم" الدبابة " وشكل الحذاء من الخارج أشكاله لا تنتهي، حتى وصل الحال الآن ببعض الأحذية التي تشبه حذاء الرجل ، وكذلك تعدد الأشكال حسب الفصول والأجواء ، وأيضا حسب المناسبة، فما كان للمدرسة لا يصلح للسوق، وثالث للسهرات، لا يكون للحفلات العارضة، وحذاء للمطبخ، وآخر للحمام.
وبين عشية وضحاها، نجد المرأة المسرفة تستبدل الأول بما يوافق الموضة الحالية، التي أصبحت بالنسبة لها قديمة، والله أعلم أين سيكون مصير الأحذية السابقة، التي لم تلبس سوى مرة واحدة، فهي جديدة أو شبه جديدة على أقل الأحوال!!!
5-الرشاقة ومراكز التخفيف:
أصبح "الرجيم" والرشاقة همّ كثير من النساء، فأوراق الحمية تنتشر بين النساء، والأكلات المناسبة للرشاقة ، وهكذا من التوصيات التي تجد الجميع يدلي بدلوه فيها.
أما الرشاقة وحبها، فهي صفة مدح لدى النساء ، وكل ذلك من أجل تقليد عارضات الأزياء في حسن القد والقوام، أو بعض الفنانات، فتجد بعض النساء تقلل من الرضاعة الطبيعية لولدها خوفاً من تدلي ثدييها، وأخرى تقلل الحمل خوفاً من ترهلات البطن وغيرها.
ومراكز التخفيف استخفاف بعقل المرأة ، وهو من مخلفات الموضة وإفرازات التغريب، لإخراج المرأة من بيتها، فلا تخلو هذه المراكز من عدة أمور لا تجوز شرعاً، ولا تقبلها امرأة في وجهها ماء الحياء، فنجد فيها التعري أو شبهه، واللباس الفاضح أو الضيق أو الشفاف، وكذلك الموسيقى التي تتناسب الحركات فيها مع الإيقاع ، وضياع الوقت الذي يدوم طويلاً من أجل ظهور النتيجة بصورة جيدة، أو كل ذلك على حساب الأسرة والزوج والأولاد، والاختلاط بقرينات السوء اللاتي غالباً لا يدخل هذه المراكز إلا مثلهن.(6/35)
ولا أقصد من الكلام السابق تحريم الرياضة على النساء، وإنما أقصد ممارسة الرياضة المناسبة في المكان المناسب، في الوقت المناسب، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلمـ أسوة حسنة، فقد صح عنه أنه سابق أمّنا عائشة- رضي الله عنها- فسبقها مرة، وسبقت مرة، وكان ذلك بعيداً عن أعين الناس، وفي هذا العصر بإمكان المرأة أن تمارس الرياضة في بيتها، بل في غرفة نومها، بما جد من الوسائل الحديثة المخصصة لذلك، وكذلك الاستغناء عن الخادمة والقيام بخدمة البيت بنفسها، بدلاُ من التعود على العجز والكسل.
6- الحركات والألفاظ:
وهي المعيار عند من يتابع الموضة، فلا تخرج لفظة أو حركة من فنان أو فنانة، إلاّ وتجد المسارعة إلى تنفيذها من الغد عند الصديقات، لكي تواكب السرعة في متابعة الموضة، وأن لها قدم السبق في ذلك التقليد، فيتم الاستمرار على ذلك حتى خروج شئ جديد.
وهذا الأمر لم يفت أدعياء الشر من أصحاب القنوات، والمجلات، فهم يتابعون أهل الفن في كل تصرفاتهم وألفاظهم، وآخر أخبارهم الفنية، فبعض الفتيات تغير النطق ببعض الحروف، كالراء والجيم تغيرها لتظهر أنها متبعة للموضة .
وكذلك تجد في بعض مجتمعات الفتيات في المدارس والجامعات، ظاهرة التشدق في الألفاظ، والتميّع فيها، والتكسير في إخراجها، فلا تخرج الكلمة إلا من بطنها، ولو كان لقصد الحرص على اللسان، وعدم إخراج الكلمات إلا بحذر وتقدير، لكان هذا أمراً جيداً، ولكن يتضح من المقال ما يغني عن الحال.
والرسولل صلى الله عليه وسلم يقول :ـ ( أحبكم إلى وأقربكم مني محاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مساويكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيهقون ) رواه أحمد .
والمتشدق: هو الذي يتطاول على الناس في الكلام. والمتفيهقون: هم المتكبرون.
أما الحركات: فهي كثيرة، وأبرزها التقليد لحركات عارضات الأزياء في المدرسة والجامعة، والسوق، وكأنها تعرض نفسها في سوق النخاسة، والحركات لا تقتصر على المشي فقط، بل تجدها في حركات الأيدي والعين والفم وغيرها، وكل ذلك سببه حب الظهور والتميّز عن الغير، وكأنها بذلك ترى نفسها فوق الجميع ـوالعياذ بالله ـ.
7- مساحيق التجميل " المكياج" :
وهو من أوسع مجالات الموضة، فهو متجدد دائماً، استوردت المملكة أدوات تجميل عام 1409هـ بأكثر من 800 مليون ريال.
وهذه المستحضرات متنوعة الأشكال والألوان ، فمكياج النهار خفيف ـ مثلاً ـ وفي المساء ثقيل !! ومساحيق الصيف ليست كمساحيق الخريف، والأدهان "الكريمات" كثيرة لا تحصى، فهذا لحفظ الجلد، وذاك لتقويته، وآخر لتغذيته، وذاك لترطيبه، وشيء قبل الاستحمام وشيء بعده. وكريمات لتثبيت المكياج، وأخرى لإزالته، وأدهان لإزالة تجاعيد الوجه، وأخرى لإزالة النَّمش، وآخر لإزالة حبّ الشباب، وآخر لإزالة الكلف!!
فتجد المرأة تجرب كثيراً من هذه الأشياء حتى تصل لما يناسب بشرتها، ولا ننكر أن هناك ما يفيد حقاً، ولكنها ليست كلها لازمة ومفيدة ، بل إن فيها من التحايل التجاري، والخداع والتمويه الشيء الكثير، خاصة إذا علمنا أن أساسياتها تكاد تكون واحدة، مع الاختلاف في اللون والرائحة فقط .
وهنا سؤال يخفى على الكثير ما مكونات مساحيق التجميل ؟
إن الجواب على هذا السؤال غريب، وخارج عمَّا يتصوره العقل، فاستمعي يا رعاك الله!!
إن أشهر ماركت مساحيق التجميل العالمية، تصنَّع من أنسجة أجنة الإنسان الحية!! وهل تعلمين أن الولايات المتحدة الأمريكية يدخلها سنوياً أربعة آلاف جنين، عن طريق ما فيا الأجنة، لهذا الغرض ولغيره، إنهم يقتلون الإنسان ليصنعوا تلك المساحيق الملونة.
وكتبت صحيفة يوغسلافية تقول: إن الأجنة البشرية الحية، تستعمل في إجراء التجارب العملية، وفي تحضير مستحضرات التجميل .
وفي انجلترا اتضح أن أحد الأخصائيين، المشاهير في أمراض النساء والولادة في لندن، يبيع الأجنة لشركة كيماوية، متخصصة في إنتاج الصابون.
بل وصل الأمر إلى أمور مستقذرة أيضاً: فقد أجبرت إحدى الشركات الهندية المتخصصة، في إنتاج مستحضرات التجميل، على سحب كريمات للوجه من إنتاجها، بعد أن علم الزبائن الغاضبون أن هذه المادة من الصراصير ـ أعزكم الله ـ .
وقد اعترفت الشركة باستعمالها الصراصير المطحونة، لإضافة البروتين إلى كريمات الوجه، ولعلها عجزت عن الحصول على أجنة آدمية، فاستعملت الصراصير.
فهذه بعض الحقائق المخجلة، التي تكشف القناع الذي يتستر تحته مصاصوا الدماء، ومدعوا المدنية ، فكيف ترضين أن تضعي هذه المساحيق والكريمات على وجهك، الذي جمَّله الله ـ جل وعز ـ، وقد علمتي أنها قد تكون من أجنة آدمية، في حكم الميتة، أو من حشرات مستنفذة .
ومع ذلك لا تزال الإعلانات والدعايات، تستهدف المراهقات والنساء المتموضات، ولا تسأل عن الاستنزاف المادي والصحي، ـ كم سيأتي ـ الذي تستهلكه تلك المساحيق.(6/36)
ومن ضمن ذلك نستطيع الحديث عن موضات أحمر الشفاه، (الروج)، الذي يبالغ فيه كثير من النساء، وموضتهم في ذلك متعددة، فمرة ملء الشفتين به، ومرة تخفيفه، وأخرى تحديده مع مراعات التناسب مع البشرة أو الفستان، وقد علمت أن الموضة الآن ألوان غريبة على الشفتين، كالأخضر الغامق، والأزرق والأصفر، والليموني وغيرها، من الألوان التي تظهر المرأة بشكل مضحك ومخجل، ولكن ذلك لا يهمها في إدراكها، اتباع الموضة والعمل بآخر الصيحات، ولا تستغرب لو ظهرت موضة، أن يكون لإحدى الشفتين لون الروج وللأخرى لون مختلف، فإنه لم يعد هناك أمر مستغرب يأتي من الغرب، أو من يتابعهم من أهل الموضة.
8 -عمليات التجميل:
وهذه تنقسم إلي قسمين:
الأول: ما يتطلب تدخلاً جراحياً، أو عملية أيَّاً كان نوعها، سواء بمشرط أو عن طريق الليزر أو غير ذلك، فهذه إن كان الإصلاح عيب ناتج عن حادث مثلاً فلا بأس بها، لأن الرسول- صلى الله عليه وسلم - أذن لمن قطع أنفه أن يتخذ أنفاً من ذهب، أما إن كانت للتجمل فقط فلا يجوز، لأنها تغيير لخلق الله، ولما فيها من الإسراف.
الثاني: عمليات التجميل عن طريق استخدام الخضروات، والزيوت ونحوها، كأن تضع على وجهها شيئاً من قشور كذا، أو من الفاكهة الفلانية، ونحو ذلك، وهذه فيها امتهان لنعمة الله، واستخدام لها في غير ما جعلت له، وكيف ترضى المسلمة أن تعمل كذا، ثم يكون مصيره الزبالة، وهناك من المسلمين من يموت جوعاً، ثم أن هذه الأشياء تحتاج إلى أن تحافظ المرأة على وضعها ثابتاً لمدة طويلة، ربما وصلت الساعة، ولو كانت هذه الساعة في درس، أو طلب علم، أو محاضرة، لوجدت الضجر والملل.
9 -مجالات أخرى في تتبع الموضة:
وهناك ذكر لبعض الموضات الحادثة في مجتمعنا على عَجَل:
* الوشم بالليزر: ووضع بعض الطبعات للزينة في العنق، على شكل عقد، أو على اليد أو في الوجه، وكل هذا يخشى أن يكون من الوشم الذي قال عنه ابن مسعود- رضي الله عنه- كما في الصحيحين قال :( لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله تعالى).
ثم قال: مالي لا ألعن من لعن النبي- r.
والواشمة: هي التي تشم، والمستوشمة هي التي تطلب الوشم.
* أماكن التصوير النسائي، الذي انتشر في الأماكن الخاصة بهن.
وفي بعض أسواقهم، وبعض الملاهي، فتخرج الصورة بشكل صغير أو كبير، وتظهر فيه المرأة أجمل من الواقع، إمَّا بالأسود والأبيض، أو الألوان، وحكم التصوير واضح لا يخفي على أحد، وأيضاً ذلك المبلغ الذي تم دفعه في أمر محرم، فكان إسرافاً لا يجوز، وما ظن المرأة لو تسقط صورتها عند أحد أقاربها، أو أحد الشباب المتلصصين، وما ندري هل هو برغبتها أم لا ؟ ؟!!
* البروش الذي يعلق على الملابس: فقد انتشر في الآونة الأخيرة وضع بعض الصور في هذا البروش، وتعليقه على الصدر في جهة القلب وانتشر في مجتمع الفتيات تعليق بعض صور الفنانين، أو اللاعبين فيه، وأيضاً انتشار صور العشيقين، اللذين في قصة فيلم"التايتنك" على هذا البروش.
* ظاهرة غريبة شبه منتشرة بين الفتيات، في بعض المجتمعات الخاصة، آلا وهي استئجار سيارة فارهة مع سائقها، ثم القدوم بها إلى المدرسة أو الجامعة، أو الدوران بها في الشوارع العامة من أجل لفت الأنظار، والبحث عن من يقع في حبائلهم الشيطانية.
ثالثاً: أسباب تتبع الموضة:
1ـ ضعف الإيمان: وعدم الخوف من الله، وعدم الاهتمام بالحكم الشرعي ومعرفة الحلال من الحرام.
2ـ التقليد الأعمى.
3ـ فساد التربية: والتعود منذ الصغر.
4ـ عدم حزم أولياء الأمور: في منع قريباتهم من تتبعها.
5ـ عدم الثقة بالنفس: والخوف من احتقار الغير.
6ـ حب الظهور والشهرة .
7ـ الرفقة السيئة.
8ـ التأثر بالصيحات التي تصور المرأة العصرية: بأنها هي التي تتبع الموضة عن طريق وسائل الإعلام المختلفة.
9ـ الانخداع بطرق وأشكال طرح الموضة في الأسواق: فإذا رأت عباءة مزركشة جميلة تمنت مثلها لها وهكذا.
رابعاً: أضرار تتبع الموضة:
1- انتشار الجنس:
فما تجلب الموضة وتتبع الأزياء إلا كل ما هو مناقض للحشمة والستر، فهذه الموضة تتبع أخس الأساليب في الإغواء والإغراء، فتظهر الفتن، وتدمر الآداب، مما يؤدي إلى انتشار الجنس الذي يعتبر نقطة تحول في فساد المجتمع والرسولل صلى الله عليه وسلم يقول: (( اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) .
فالمرأة المتتبعة لكل ناعق للتفسخ والانحلال، هي المنعطف الخطر في انحراف المجتمع، والنزول به إلى الهاوية، وما ذاك إلا لأنها نصف المجتمع الآخر.
2 - كثرة الاختلاط:
فالمرأة المتموضة تسعى جاهدة لكي يطَّلع عليها الرجال، فتسعي إلى ارتياد الأماكن العامة والأسواق لكي تنظر إلى نظرات الرجال وتلميحاتها، وهمسهم وغمزاتهم، مما يجعلها تشعر بنشوة تحقيق الهدف في لفت الأنظار إليها، بلبس ما هو جديد، أو قل واكبت الموضة.(6/37)
وما المتوقع عندما يحدث مثل هذا الاختلاط بهذا اللباس الفاضح، أو النقاب الواسع، أو المشية المتكسرة، أو اللفظة المائعة، أو غير ذلك من صاحبات الهوى الفاتن والمتلاعبات بعقول بعض الرجال، قل لي بربك ماذا تتوقع من فساد النفوس؟ وخبث الطوايا ؟ وضياع الأعراض ؟ وتهدم البيوت؟ وشقاء الأسر؟ وانتشار الجريمة؟!!
3 - تهدم الأمم، واندثار الحضارات:
إن الانحراف الخلقي الذي تجلبه الموضة إنما هو شرارة خطر تحرق المجتمع وتهدم الأمة بأسرها، في المصير المنتظر لأمة نساؤها متفسخات منحلات أخلاقياً، ومازالت دروس التاريخ بين أيدينا، وتجارب الأمم تبحث عن من ينظر إليها بعين البصيرة والعظة، فالسعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ بنفسه، فهذه حضارة اليونان والرومان غابتا في أسفل سافلين عندما غرقوا في الشهوات، انتشر بينهم العري والتفسخ ودور العهر والخنا، وما سبب تفكك الاتحاد السوفييتي إلا بعد ذاك، وما غابت شمس الأندلس وضاعت إلا بعد الغرق في الترف والملذات، وما استسلم الجيش الفرنسي أمام جيش الألمان خلال أسبوعين إلا للانغماس في الشهوات والانكباب على اللذات .
4 - الأضرار الصحية:
ماذا عسى المتحدث أن يذكر في هذا المقام، فالأمر لم يعد خافياً على كل صاحب عقل حصيف، والأبحاث الطبية أثبتت كثيراً من الأمراض التي يتعرض لها النساء بسبب تتبع الموضة في كل مجال دون النظر إلى العواقب.
5 - الأضرار النفسية:
إن المرأة المتتبعة للموضة لا تخلو من حالين من حيث الحالة النفسية لها:
أولاً: إما أن تحاول لبس أحدث الموديلات وآخر الصيحات من الموضة، وبذلك تحاول لفت انتباه الرجال أو التعالي والتفاخر عند زميلاتها، وهذا مرض قلبي اسمه" حب الظهور"، فإن رأت أن أحداً لم يلق لها بالاً وأنهن لم يحزن على ما حازت عليه حقرتهن وازدرتهن، وتكبرت عليهن، وهنا تقع في مرض نفسي آخر وهو التكبر.
ثانياً: وأما إن كانت من نساء سبقنها في هذا المضمار امتلأت نفسها غيظاً وحسداً عليهن، وأصابها غم وحسرة وحزن، فتجدها مترددة بين هذه الأمراض النفسية التي تفتك بالقلب وتورث الضعف في النفس والعقل، وإذا أخذنا مثالين بسيطين على ما يورثه اللباس والمكياج من أضرار نفسية فإليك بعض مقولات علماء الاختصاص في ذلك:
في بحث قام به علماء النفس حديثاً أكدوا فيه أن اللباس القصير يساوي خوفاً، ووصفوا المرأة التي ترتدي الملابس القصيرة بأنها امرأة غير مستقرة، وأن عواطفها لم تنضج بعد، كما تؤكد الأبحاث أن الملابس القصيرة تدل على طفولية مرتديتها وسطحية عقلها.
أما المكياج فيقول الدكتور نيقولاس باينغ: ( إن المرأة تغيب لبعض الوقت في المساء لمدة نصف ساعة، ثم تعود وقد أخفت وجهها خلف الأصباغ، فإذا كانت المرأة قلقة على مظاهرها إلى هذا الحد فإنها عندئذ قد تسبب لنفسها مرضاً عصبياً (نفسياً)، أما اللواتي لا يستخدمن المكياج فإنهن أكثر ارتياحاً نفسياً وأكثر ثقة في أنفسهن ) .
فهذه مقولات بعض علماء الدنيا، إذا كانت لا تستجيب لأقوال علماء الشرع، ثم اعلمي أن الانصراف إلى هذه التفاهات والغرق في هذه المستنقعات تتأكد معها الهزيمة النفسية الكبرى، حتى تصبح الدنيا أكبر همها والله المستعان.
ثم ناحية أخرى من لا تتبع الموضة تهاجم من قبل المتبعات للموضة، وتواجه الاتهام بأنها قروية ريفية، مما يسيء إلى نفسيتها.
6 - الأضرار المادية:
من أين نبدأ في هذه النقطة التي هي أساس لكل شر؟ فهل نتكلم عن الإنفاق على تصنيع هذه الأمور الذي بلغت المليارات من الدولارات ؟ أم نتكلم عمَّا ينفقه النساء من مبالغ خيالية في استعمال هذه المستحضرات، أو إحضار آخر الموديلات، أو تفصيلها من الملابس أو العباءات، أو الأحذية وغيرها الكثير ؟ أم نتكلم عن أثقال كاهل الزوج أو ربّ الأسرة في المصروفات، من أجل اللهاث وراء ذلك الغثاء، وتقليد الأصدقاء والأعداء ؟ أم نتكلم عن حال المسكين الذي يستدين من أجل تلبية رغبات الزوجات والبنات؟
مشاهد ليس فيها مبالغة ولكنّها مع الأسف هي الحقيقة المرّة، التي تعيشها بعض الأسر والعائلات، والمرأة التي تبتز زوجها تعرف كيف تخرج منه المال، ألسنتهنّ ذوات الكيد العظيم، فمثلاً: تجدها تواظب على ارتداء الملابس القديمة أمام زوجها لتوهمه مع مرور الزمن أنها بحاجة إلى ملابس جديدة، رغم أن عندها ما يملأ خزانة ثيابها أو يزيد، ومع ذلك تجد نفس النغمة تتكرر: إنها لا تملك شيء .
وعلى ذلك فَقِس جميع الأمور من أدوات تجميل أو أحذية، أو حقائب أو غيرها، والسؤال الذي يطرح نفسه: ما مصير تلك الملابس المكدّسة في الدواليب؟ وما مصير كل قديم لديها؟
7 - زوال حياء المرأة وانعدامه: وهو سر أنوثة المرأة، وسبب ميل الرجل إليها.
8 - البرود الجنسي بسبب كثرة اللقاءات والنظرات.
9 - تفكك الأسرة: إذ ربما تعرضت المرأة لخيانة زوجها بسبب امرأة متبرجة أو العكس.
10 - الإعراض عن الزواج:(6/38)
وذلك لأن الرجل سيشك في النساء والمتبرجات، كما أنه سيضع مواصفات عالية لخطيبته لكثرة ما يرى من المتبرجات، فهو يريد خطيبته كعيون فلانة، وقوامها كفلانة، وغيرها من الصفات مما لا يمكن أن تجمع في امرأة واحدة.
11 - الموضة هدم للمجتمع الإسلامي، ومحو للشخصية الإسلامية:
إن متّبعة الموضة غالباً ما تكون متبرجة، وتأنف من اتّباع تعاليم الإسلام الواجبة: كالقرار في البيت، وعدم الخروج إلا للضرورة أو بإذن الزوج وغير ذلك، فأصبحنا نفتقد المجتمع المسلم والبيت الإسلامي، حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وأضحى الاستنكار والاستغراب لمن التزم بالصورة الصحيحة لبناء البيت المسلم.
فتجد الرجل محاصراً بالنسوة المتبرجات والمتموضات في كل مكان، في الطرق العامة ووسائل المواصلات، والأسواق والمستشفيات، وجميع المرافق المختلفة، فتجد صاحب القلب السليم والنظر العفيف لا يستطيع الحفاظ على كيانه الإسلامي الصحيح، فيهرب بنفسه قبل أن يصيب قلبه الخلل، فتغريه صاحبة الأحداق أو كاشفات الساق، فمثل هذه الصورة تعتبر شاذة في مجتمع يحب تطبيق الشخصية الإسلامية وبناء المجتمع الإسلامي، فهؤلاء النسوة يستطعن جر المجتمع بأسره بعيداً عن الدين.
إذن لا يتحقق بناء المجتمع الإسلامي إلا بستر المرأة أولاً، وإلزامها بالحجاب الكامل، فتلك هي عملية التطهير الأولى للمجتمع: (( ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)) (الأحزاب:53).
12- الموضة تقليد أعمى للكفرة والأعداء:
كفى بالموضة قبحاً أنها تصدر عن أعداء ديننا، وبتنفيذ ما يرمون إليه يتحقق لهم القضاء على حصانة مجتمعاتنا الإسلامية.
يقول الشيخ محمد عبده- رحمه الله-: ومع الأسف ما زال بعض أصحاب النظرة السطحية يرون أن تقليد أوروبا في التبرج والاختلاط والانحلال يحقق للأمة قوة مثل أوروبا، وهذه سذاجة واضحة وسطحية في التفكير، ونظرة الضعيف للقوي، ولينظروا إلى أصحاب القرون الفاضلة ما الذي أوصلهم إلى ذُرا المجد، وكيف بلغوا مشارق الدنيا ومغاربها، وما حال النساء المسلمات في ذلك الزمان.
13- الموضة تؤدي إلى هضم الحقوق الزوجية:
تذكر إحدى النساء أن لها شقيقة متزوجة، وكانت لا تسمح بإعطاء زوجها حقّه من المعاشرة الزوجية إلاّ نظير مبلغ معين من المال، لتشتري ما يعجبها من الأزياء والموضات، وظلت على هذا المنوال حتى سئم منها زوجها فتزوج بأخرى، وعاقب الله تلك المرأة بمرض نفسي في نهاية الأمر!!
فهل ترضى امرأة مسلمة عاقلة أن يصبح حالها مع زوجها كالبغايا والمومسات اللاتي يعاشرن الرجال نظير مبلغ من المال؟!!
كيف تحرم المرأة زوجها الذي هو أعظم الناس حقَّاً عليها، من حقٍ فرضه الله له وأوجبها أن تطيعه فيه ؟ أين المودة والرحمة التي ستثمرها تلك العلاقات المبنيّة على مبدأ الطمع والمساومة ؟؟!
وكل ذلك من أجل عرض دنيوي زائل، وإرضاءً لهوى النفس في اقتناء موضات ليست بحاجة إليها.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح )) متفق عليه.
وعن أبي عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: (( اطَّلعتُ في النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قطُّ )) رواه البخاري.
14- الموضة تؤدي إلى انقلاب الفطر والموازين:
واقصد بذلك عندما تتشبه المرأة المتموضة بالرجال، وهذه مكيدة من أعداء الدين يحاولون القضاء على الفوارق الطبيعية بين الذكور والإناث، فمن صيحات حق المساواة بالرجال إلى محاولة تقمّص شخصيته، ليتحقق لدى ذاتها ـ على أقل تقدير ـ هذا الحق، فتخرج بعض الموضات التي لا تكون إلاّ للرجال، وإذا بالعارضة والمصمم يطرحها للنساء، فتخرج المرأة مسترجلة في الزيّ والحركات والتصرفات، وأحياناً في تضخم الصوت، وكأنها تعترض على من خلقها لماذا جعلها امرأة ؟ نعوذ بالله من الخذلان.
وقد طالعنا بعض الفتيات في الجامعات في زمن قريب بمظهر مخزي وغريب، وذلك عندما قُمْن بالتشبه ببعض الرجال في حلق شعر الرأس تماماً أو بعضه، فظهرت تلك الأشكال المقززة التي لا يرضها إلاً من فقد عقله، ولكن تحت اسم الموضة.
اخرج البخاري والأربعة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: (( لعن رسول ا صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)).
وأخرج البخاري عنه أيضاً قال:
(( لعن رسول ا صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجِّلات من النساء )) .
================(6/39)
(6/40)
وقفات مع دعاة تحرير المرأة
حديث يتكرر، لأن باعثه يتجدد، فخفافيش الظلام بدأت تعمل وتظهر في النهار، والفتوى تجاوزت الأئمة الأعلام، ليتطاول عليها المذيعون وصبيان الإعلام، والدين رقّ، والالتزام لان، وكل مسألة فيها قولان، وإن ناقشت مفتيا وعندك دليل مفحم وأثر قال: هذه وجهة نظري ، وحينما غابت الأسود نطقت القرود ، فالمنافقون في أوقات الأزمات ينبحون، وعلى صفحات الصحف يتقيئون، وشجرتهم لا تنبت إلا حنظلا من شبهات، وزقوما من الشهوات، بضاعتهم السخرية والاستهزاء بالدعاة والعلماء، والتهكم على الأبطال النجباء من رجال الهيئات، ومبشراتهم بذور السفور والانحلال، وآخر إنتاجهم بشارة بأول فتاة سعودية تتدرب على الطيران، تنشر صورتها ويجعل منها رمزا لفتاة جزيرة الإسلام فأينك يا درة عمر من هؤلاء الأقزام 0
لم يعد خافيا على أحد ما تشهده مجتمعات المسلمين اليوم من حملة محمومة، مِن الذين يتبعون الشهوات على حجاب المرأة وحيائها، وقرارها في بيتها، حيث ضاق عطنهم، وأخرجوا مكنونهم، ونفذوا كثيرا من مخططاتهم في كثير من مجتمعات المسلمين، وذلك في غفلة وقلة إنكار من أهل العلم والصالحين، فأصبح الكثير من هذه المجتمعات يعج بالسفور والاختلاط والفساد المستطير ، الأمر الذي أفسد الأخلاق والأعراض 0
وبقيت بقية من بلدان المسلمين لازال فيها بحمد الله يقظة من أهل العلم والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حالت بين دعاة السفور وبين كثير مما يرومون، وهذه سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل، والمدافعة بين المصلحين والمفسدين 0
ومن كيد المفسدين في مثل المجتمعات المحافظة، وبسبب وجود أهل العلم والغيرة، أنهم لا يجاهرون بنواياهم الفاسدة، ولكنهم يتسترون وراء الدين، ويلبسون باطلهم بالحق واتباع ما تشابه منه، وهذا شأن أهل الزيغ والضلال، (( َأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)) (آل عمران :7)
وهم أول من يعلم أن فساد أي مجتمع إنما يبدأ بإفساد المرأة واختلاطها بالرجال ، وقد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء ).
وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد، وملل الكفر أول من يعرف هذه الحقيقة، حيث إنهم من باب الفتنة بالنساء دخلوا على كثير من مجتمعات المسلمين وأفسدوها، وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم في ذلك المنهزمون من بني جلدتنا، ممن رضعوا من لبان الغرب وأفكاره، أو ممن يسعون إلى الشهرة من أوسخ أبوابها، ولأنهم يعيشون في بيئة مسلمة، ولازال لأهل العلم والغيرة حضورهم، فإنهم لا يتجرءون على طرح مطالبهم التغريبية بشكل صريح، لعلمهم بطبيعة تدين الناس، ورفضهم لطروحاتهم، وخوفهم من الافتضاح بين الناس 0
ولذلك دأبوا على اتباع المتشابهات من الشرع، وإخراج مطالبهم في قوالب إسلامية، وما فتئوا يلبسون الحق بالباطل، وهم كما قال الله: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )) ( البقرة:11) .
ومن هذه الطروحات التي أجلبوا عليها في الآونة الأخيرة، مطالبتهم في مجتمعنا المحافظ وفي بلدنا الذي يأرز إليه الإيمان، وتهوي إليه أفئدة الصالحين، ومنه نبعت الفضيلة ودعاتها، مطالبتهم بكشف المرأة وجهها، والسماح لها بقيادة السيارة، معتمدين بزعمهم على أدلة شرعية، وأقوال لبعض العلماء في ذلك، وهم يعلمون ونحن نعلم أن تلك هي الشرارة الأولى، والخطوة الأولى نحو فساد المرأة وذهاب حيائها 0
ولئلا يلتبس الحق بالباطل، ولكيلا ينخدع بعض الناس ببريق دعوتهم ، وصيانة لأخلاق الأمة، ومساهمة في تحقيق الأمن الأخلاقي للبلاد، نقف مع هذه الدعوة الآثمة وقفات :
أولاها: أن هناك فرقا في تناول قضية الحجاب وكشف الوجه، بين أن يقع اختلاف بين العلماء المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ بين مضاعفة الأجر مع الشكر، وبين الأجر الواحد مع العذر، وبين من يتتبع الزلات ويحكم بالتشهي ويرجح بالهوى، لأن وراء الأكمة ماوراءها، فيؤول حاله إلى الفسق ورقة الدين، ونقص العبودية، وضعف الاستسلام لشرع الله عز وجل 0
وهناك فرق بين الفتاوى العلمية المؤصلة، المبنية على التحري والاجتهاد، وأخرى محلولة العقال، مبنية على التجري لا التحري، والتي يصدرها قوم لا خلاق لهم من الصحفيين ومن أسموهم المفكرين، وأهل التزوير المسمون ظلما بأهل التنوير، يفرقون من تغطية الوجه لا لأن البحث العلمي المجرد أوصلهم إلى أنه مكروه أو جائز، أو بدعة كما يرجفون، ولكن لأنه يشمئز منه متبوعهم من كفار الشرق والغرب 0
ولك أن تقدر شدة مكر القوم الذين يريدون من جانبهم أن يتبعوا التمدن الغربي، ثم يبررون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي 0(6/41)
وثاني الوقفات: لابد أن ينظر إلى قضية الحجاب اليوم، وما يدور بينها وبين السفور من معارك، إلى أنها لم تعد قضية فرعية ومسألة خلافية فيها راجح ومرجوح بين أهل العلم، ولكنها باتت قضية عقدية مصيرية، ترتبط بالإذعان والاستسلام لشرع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، وعدم فصلها عن شئون الحياة كلها، لأن ذلك هو مقتضى الرضا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا 0
إن التشنيع على تغطية المرأة وجهها، والتهالك على خروجها من بيتها، واختلاطها بالرجال ليست اليوم مسألة فقهية فرعية، ولكنه مسألة خطيرة لها ما بعده، لأنها تقوم عند المنادين بذلك على فصل الدين عن حياة الناس، وعلى تغريب المجتمع، وكونها الخطوة الأولى أو كما يحلو لهم أن يعبروا عنها بالطلقة الأولى .
وإذا كان علماؤنا يوردون مسألة المسح على الخفين في كتب العقيدة، باعتباره من خصائص أهل السنة في مقابل شذوذ الرافضة، فلا لوم على من يجعل قضية الحجاب اليوم قضية أصولية مصيرية، وذلك لتشنيع مبتدعة زماننا ومنافقيه عليه، ولحملتهم المحمومة لنزعه، وجر المرأة بعد ذلك لما هو أفسد وأشنع 0
وثالثها: أن بداية السفور والتبرج الجاهلي الذي عليه طائفة من نساء المسلمين اليوم في بعض ديار المسلمين، إنما بدأ من كشف الوجه بإزالة الغطاء والحجاب عنه ، حتى أصبح وبات وأضحى وظل وأمسى من المعلوم بالضرورة أن من كشفت من الفتيات وجهها اليوم ، ستكشف غدا حتما عن رأسها وصدرها، وساقيها وحتى فخذيها، ولا يجادل في هذا إلا ساذج مخدوع0
لقد بدأت مؤامرة السفور بالدعوة إلى كشف الوجه، وامتدت إلى الجلسات المختلطة المحتشمة، ثم على السفر من غير محرم بدعوى الدراسة في الجامعة، ثم زينت الوجوه المكشوفة، وبدأ الثوب ينحسر شيئا فشيئا حتى وقعت الكارثة، فخرجت المرأة سافرة عن مفاتنها، كاشفة عن المواضع التي أمر الله بسترها، حتى أضحت شبه عارية، وراح أهل الكيد يتلذذون بالنظر إليها، ويستدرجونها للإيقاع بها، حتى كان لهم ما أرادوه منها، ففسدت الأخلاق، وكثرت محلات البغاء، وانتشر اللقطاء، وتفسخ المجتمع، ومن هنا، وبناء على هذا فإن اليد التي تحاول أن تحسر الحجاب عن وجوه فتياتنا اليوم ينبغي أن تبتر ، وإن اللسان الذي يدعو فتياتنا إلى نزع الحجاب ينبغي أن يقطع 0
أو يسركم يا أهل الغيرة والكرامة أن تصبح بلادكم مقصداً لرواد البغاء ، وأهل الخنا، أو أن تصبح نساؤكم مزابل وإماء في سوق النخاسة، يصحبن كل زان ، ويصادقن كل سافل 0
لابد أن تعلم المرأة المسلمة أنهم اليوم لا يطلبون منها أكثر من كشف وجهها، وبحجة أن كشف الوجه مختلف فيه بين أهل العلم ، غير أنهم يعلمون علم اليقين، ونحن نعلم، وبحكم التجارب الطويلة العديدة أنها يوم أن تكشف وجهها ويذهب ماؤه وحياؤه، ستكشف لهم عما سوى ذلك، وصدق القائل :
رفع الحجاب وسيلة إن حُبّذت ضمت إليها للفجور وسائل
فالاختلاط ، فمرقص ، فتواعدٌ فالاجتماع ، فخلوة ، فتواصل
ورابع الوقفات: لو أن المنادين اليوم بكشف وجه المرأة أمام غير المحارم، كانوا في مجتمع يعج بالسفور والتعري الفاضح ، لأحسنا بهم الظن وقلنا: لعل قصدهم ارتكاب أهون المفسدتين، والتدرج بالنساء في ردهن إلى الحجاب الشرعي، والحياء والحشمة شيئا فشيئا .
أما وإن الذين ينادون اليوم بنزع الحجاب عن الوجه، إنما يوجهون نداءهم إلى مجتمعات محافظة لم تعرف نساؤه إلا الحشمة و الحياء، وتغطية الوجه والبعد عن الرجال الأجانب، فإن هذا مما يثير العجب ويحير العقل، ويضع استفهاماتِ كثيرة على مطالبهم تلك، فماذا يريدون من ذلك ، وماذا عليهم لو بقيت نساؤهم وبناتهم، وأخواتهم ونساء المسلمين على هذه الحشمة والعفة والحياء، ماذا يضيرهم في ذلك ؟ ألا يشكرون الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة، ألا يعتبرون بما يرونه في المجتمعات المختلطة المتبرجة، حيث ضاعت قوامة الرجل، وظهر الفساد، وهتكت الأعراض، وأصبحت تلك البلدان مقصد كل فاجر، وملاذ كل طالب للرذيلة، إن زماننا اليوم زمن العجائب، و إلا فعلام يشرق قومنا بالفضيلة والطهر والعفاف، ولكن صدق الله: (( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً )) (النساء: 27).(6/42)
و خامس الوقفات : أن الأدلة الموجبة لستر وجه المرأة وكفيها عن الرجال الأجانب، ووجوب الابتعاد عنهم أدلة كثيرة، وصحيحة وصريحة، ويمكن الرجوع إليها في فتاوى ورسائل أهل العلم الراسخين، ولكن يحسن أن نشير إلى أن علماء الأمة قديماً وحديثا من أجاز منهم كشف الوجه ومن لم يجزه، كلهم متفقون ومجمعون على وجوب ستر وجه المرأة وكفيها إذا وجدت الفتنة، وقامت أسبابها، بل حكى الإجماع على ذلك أكثر من خمسين عالما، فبربكم أي فتنة هي أشد من فتنة النساء في هذا الزمان، حيث بلغت وسائل الفتنة والإغراء بهن مبلغاً لم يشهده تاريخ البشرية من قبل، وحيث تفنن شياطين الأنس في عرض المرأة بصورها المثيرة في كل شئ، في وسائل الأعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وأخرجوها من بيتها بوسائل الدعاية والمكر والخداع، فمن قال بعد ذلك ، إن كشف المرأة عن وجهها أو شئ من جسدها لا يثير الفتنة، فهو والله مغالط مكابر، لا يوافقه في ذلك من له مسكة من دين أو عقل، أو مروءة، وإذا تبين ذلك فلنعلم أيضاً أن هذا القدر من الخلاف بين العلماء بقي خلافاً نظرياً إلى حد بعيد، حيث ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية خلال مراحل التاريخ الإسلامي، كما قال شيخ الإسلام: (كانت سنة المؤمنين في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم - أن الحرة تحتجب).
و قال الإمام الغزالي: (( لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن متنقبات )) 0
إن كثرة الكلام وهن هذه القضية ، وعلى أصعدة متعددة ، بل إن وسائل الإعلام تحاول ترسيخ هذا المفهوم من خلال الدعايات الإعلانية، حينما تصور الرجل حالقاً لحيته والمرأة كاشفة وجهها، ومن خلال نشر صور النساء في الصحف، حتى بلغت في صحيفة واحدة في عدد واحد أكثر من ثلاثين صورة، ومن خلال الكتابات التي يتقيؤها غلمان الأهواء وصبيان الصحافة .
إن ذلك لأمر يثير الريبة ، فلم يحدث في تأريخ الأمة أن اجتمع العلماء المجيزين لكشف الوجه ليخرجوا على الأمة مجتمعين، يدعون النساء إلى إزالة غطاء الوجه بدعوى أن المسألة خلافية 0
كانوا يذكرون ذلك في كتبهم من باب التفقيه فحسب، أما أن يرتقوا المنابر، ويتصدروا المجالس والمنتديات ليقرروا ما ترجح لديهم، بإصرار وإلحاح لا ينقطع، ليحملوا نساء الأمة على كشف الوجه، فذلك لم يفعلوه، ولم يحصل في تأريخ الأمة مع أنهم هم الأحق بذلك إن كان في ذلك خير ، فهم مجتهدون ينطلقون من الشرع ومقصدهم نصرته 0
أما ما يفعله هؤلاء المستغربون من الدعوة بإلحاح، وعلى كافة المستويات، مع التلفيق والتلاعب بأقوال العلماء، فليس له إلا تفسير واحد، هو أنهم كرهوا ما أنزل الله فسحقا لهم ، وأولى لهم طاعة وقول معروف ، ولو صدقوا الله لكان خيراً لهم 0
يا صالحون ويا مصلحون، يا أهل الشرف والحياء و المروءة ، كونوا يقظين لما يطرحه الظالمون لأنفسهم وأمتهم من كتابات و حوارات، مؤداها إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال، فما دامت المدافعة بين المصلحين والمفسدين فإن الله عز وجل يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق.
ينبغي أن لا ننسى في خضم الردود على ما يكتبه المفسدون من الشبهات والشهوات، ذلك السيل الهادر الذي يتدفق من وسائل الأعلام المسموعة و المرئية في بلاد المسلمين، وذلك بما تبثه من دعوات للمرأة إلى السفور، ومزاحمة الرجال في الأعمال و الطرقات، عبر القصة و المسلسل، والبرامج الحوارية والمقابلات، والبرامج الغنائية، ولقد ضربت هذه الوسائل بأطنابها في بلاد المسلمين، فكان لزاماً على كل غيور محاربتها وإبعادها عن بيته قدر الاستطاعة .
ربوا نساءكم وبناتكم على حب الحجاب والتعلق به منذ الصغر ومن وسائل ذلك تحصينهن الحصانة الفكرية والأخلاقية، بأن تعلم المرأة المسلمة أوضاع المرأة الغربية، والإسفاف النفسي الذي وصلت إليه، وتعتيم الغزو لأوضاعها، وأحياناً قلب مفاسدها وانحرافاتها إلى فضائل وتكريم0
إننا لا نريد المرأة المتحجبة تقليداً وعادة ، تشعر مع الحجاب بالضيق والحرج ، وتتخلى عنه لأدنى شبهة أو شهوة.
نريد المرأة المسلمة التي ترى في الحجاب عزاً وشرفاً، وترى في الحياء سلوكاً وخلقاً، نريد المرأة التي تتحجب استسلاماً لله ، ورضا بشريعته، وخضوعاً لحكمه وتتمثل قول الحق: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً)) (الأحزاب:36) 0
لا نريد المرأة المتحجبة المتخلفة، فإن الدعوة إلى فريضة الحجاب والعودة إليه، لا بد أن تواكبها دعوة القائمين بأمر المرأة إلى أن يؤدوا لها فريضة تحرير عقلها من حجب التضليل والجهل، والتخلف، وتِلكم مسئوليتكم أيها الأولياء، فاتقوا الله وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
إننا نتطلع أيها المسلمون إلى أن تكون غيرتكم جبلاً تتحطم عليه كل نصال دعاة الضلال، وأن لا تكون غيرتكم جداراً من ورق، ينهار عند أدنى طمع دنيوي أو شهوة مادية .(6/43)
نحن لا نريد المجتمع الذي يقتل الحسين ويسأل عن دم البعوضة، لا نريد الجيل الذي يأنف أفراده من ذكر أسماء نسائهم في المجالس، ويتقبلون أن تصبح وجوههن معرضا مكشوفا لكل راء ومتفرج 0
وإلى أختنا بنت هذا البلد، وإلى كل مسلمة تخشى الله وتتقيه ، طوبى لمن تفاخر بحجابها، وتتمسك بعفافها، ومعها العلم والوعي والبصيرة والحرية الحقة، من عبودية العبيد قائلة لشياطين الإنس: (( إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )) (الأنعام:15).
=============(6/44)
(6/45)
علمتني الحياة : الحلقة التاسعة
تقدير الكبير
201- على الصغير أن يقدّر الكبير، ويحترمه، ويجلّه، ويحرص على مشاورته، وتقديمه عند الدخول والخروج والجلوس وغير ذلك، وإذا كان والداً أو من أهل العلم؛ كان ذلك ألزم وأوجب، وعلى هذا ينبغي أن يتربّى النشء.
بين العزّة والذلّة.
202- ارحموا عزيز قوم ذلّ، واحذروا ذليل قوم عزّ.
بين الظاهر والباطن.
203- الذين يظهرون التديّن الكامل؛ إمّا مؤمنون صادقون ـ وهذا هو الأصل ، وإمّا فجّار منافقون، يتّخذون من التديّن مطيّة لأغراض دنيويّة، فكن منهم على حذر.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ
جبن وطيش = فوضى.
204- إذا اجتمع جبن الشيوخ، وطيش الشباب؛ ولّد ذلك حالة من الفوضى، قد تنتهي بكارثة.
فولّوا وجوهكم شطره.
205- عند السفر أو الخروج إلى نزهة خارج المدينة، احرص على اصطحاب بوصلة لمعرفة اتّجاه القبلة، فإنّ ذلك ممّا يكثر فيه الاشتباه والتنازع والاختلاف.
الأسوة الحسنة.
206- منتسب إلى العلم ينظر الناس إليه نظرة اقتداء وتأسي، حتّى في أدقّ التفاصيل وأتفهها، وتزداد هذه النظرة أو تقلّ بزيادة العلم وقلّته، فهلا تنبه أهل العلم لذلك.
الأرقام العارضة.
207- اجعل لك عند هاتفك الخاصّ دفتراً لتسجيل الأرقام العارضة، التي قد تحتاج إليها فيما بعد، مع كتابة معلومات واضحة عن صاحب الرقم، وسبب التسجيل، فإنّ ذلك سيوفّر لك وقتاً ثميناً.
التأخير قد يكلّفك الكثير.
208- بادر بالسؤال عمّا يشكل عليك من أمور دينك قبل التلبّس بالفعل، فإن تمّ الفعل، وشككت في صحّته أو كماله؛ فبادر بالسؤال عنه في وقته، فإنّ التأخير قد يكلّفك الكثير.
كلّ إناء...!
209- العصا من العُصيّة، وهل تلد الحيّةُ إلا الحيّة، هذا هو حال أغلب صحفنا ومجلاتنا وقنواتنا الفضائيّة، فتأمّل.
ويأبى الذي في القلب إلا تبيّناً وكلّ إناء بالذي فيه ينضحُ
أفإن مات أو قُتل.
210- على الدعاة إلى الله تعالى أن يحرصوا - إضافة إلى العمل الفردي - على العمل الجماعيّ ( المؤسّساتي )، الذي لا يعتمد على فرد، ولا يتأثّر أو يتعثّر بغيابه، أو ذهابه، أو موته.
ربّ وربّ.
211- ربّ فعل أبلغ من قول، وربّ سكوت أبلغ من ألف إجابة.
ربّنا لا تجعل في قلوبنا غلاً.
212- إيّاك أن تضمر لأحد من المسلمين - ممّن ظاهره الخير والصلاح - غلاً أو حقداً، مهما ظهر لك من حاله أو مقاله، فقد يكون خيراً منك عند الله وأنت لا تشعر.
رسالة عزاء.
213- يا صاحب الحقّ الداعي إليه؛ لا تستوحش من طول الطريق ووعورته، وقلّة الناصر والمعين، وخذلان القريب والصديق، حسبك أنّ الله معك.
صيد الخاطر.
214- إذا سنحت في ذهنك فكرة، أو عبارة أعجبتك؛ فبادر بتسجيلها فوراً، ولا ترجئ ذلك اعتماداً على ذاكرتك، فقد لا تتمكّن من استرجاعها فيما بعد.
من مداخل الشيطان.
215- المنامات والأحلام من أوسع مداخل الشيطان لإضلال بني آدم، لاسيّما الجهلة والمتعالمين، يرونها أو تُرى لهم.
بين العقل والذكاء.
216- ليس بين العقل والذكاء ارتباط ، فقد يكون المرء عاقلاً ولا يكون ذكياً ، وقد يكون ذكياً ولا يكون عاقلاً ، فإذا اجتمعا الأمران مع الإيمان بالله فهو الكمال، وإلا فإنهما لا ينفعان صاحبهما في الآخرة.
عين الرضا وعين السخط.
217- عجباً لأهل العلمنة والتغريب؛ إن تكلّم العلماء الربّانيون في السياسة، قالوا: هؤلاء مسيِّسون، مؤدلجون (!) وأصوليون، أصحاب إسلام سياسي، إلى آخر شتائمهم المعروفة، وإن سكت العلماء عن الكلام في السياسة، قالوا: هؤلاء علماء الحيض والنفاس !! وصدق الشاعر:
فلستَ براءٍ عيب ذي الودّ كلّه ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا
فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة ولكنّ عين السخط تبدي لك المساويا
القضايا المعلّقة
218- لا تدخل في قضيّة معلّقة لم تُغلق ملفّاتها بعدُ، تجارية كانت أو غير تجارية، وانتظر حتّى تُغلق جميع ملفّاتها حفاظاً على مالك ووقتك وكرامتك.
ودّوا لو تدهن.
219- كثرة ظهور العالم والداعية في وسائل الإعلام المشبوهة تسقطه من أعين الناس، وتضطرّه إلى المداهنة والمهادنة، والتنازل عن بعض مبادئه.
يوم الجنائز.
220- إذا مات أهل العرفان؛ مات بموتهم خلق كثير من الإنس والجانّ.
وإذا مات أهل الإحسان؛ فاحت روائح إحسانهم الزكية في كلّ مكان.
وإذا مات أهل القرآن؛ بكت عليهم السماء والأرض، ورثتهم الطيور على الأغصان.
وإذا مات أهل الألحان؛ تبسّمت الأرض سروراً وفرحاً، وغرّدت الطيور أحلى الألحان.
اختلاف الأذواق !
221- دخلتُ يوماً محلاً لبيع السجّاد، فوقع نظري على سجّاد ذي لون غريب، فقلت في نفسي: ومن الذي يختار مثل هذا اللون ؟!! فلم تمضِ لحظات إلا ورجل يدخل المحلّ، ويطلب هذا اللون !! فقلت في نفسي: صدق من قال: لولا اختلاف الأذواق؛ لبارت السلع.
طوّر شخصيتك
222- لكلّ إنسان شخصيته المستقلّة، التي جبله الله عليها، ومهما حاول أن يتقمّص شخصية غيره؛ فضحته شخصيّته ولا بدّ، وهذا لا يعني أن لا يطوّر الإنسان نفسه، فإنّ ذلك مطلوب، لكن دون إلغاء شخصيّته التي جبله الله عليها.
حبّ الوطن.(6/46)
223- حبّ الوطن لا يتوصّل إليه بدروس تتلى، ولا بمحاضرات تلقى، ولا بطقوس تؤدّى وتستجدى، حبّ الوطن يتوصّل إليه بإقامة العدل بين الرعيّة، والقسمة بينهم بالسويّة، وتحكيم شرع الله في كلّ صغيرة وكبيرة.
السبب الرئيس..
224- تأمّلت أسباب تخلّف الأمّة فوجدتها كثيرة، لكنّها تعود إلى سبب واحد رئيس؛ ألا وهو ضعف توحيد الله في النفوس، والإخلال بعقيدة الولاء والبراء فهماً وتطبيقاً، قال تعالى في آخر آية الاستخلاف والتمكين مبيّناً شرط ذلك: ((يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) (النور: 55).
الاعتماد على الذاكرة
225- لا تعتمد على ذاكرتك في حفظ المعلومات والمواعيد، فإنّ المعلومة قد تثبت في الذاكرة يوماً أو بعض يوم، ثمّ تزول وتتلاشى
=============(6/47)
(6/48)
حقيقة القوامة ودعاة التغريب
الحديث في هذا الزمن عن قوامة الرجل على المرأة أصبح عند بعض كتّابنا و(مثقّفينا) المستغرين رجعيّة وتخلّفاً ودعوة إلى الوراء ، فالمرأة عندهم أصبحت ندّاً للرجل في كلّ شيء ،ومخلوقاً مستقلاً يجب ألا يخضع لوصاية أحد أو ولايته ، بل إنها - أحياناً - يجب أن تكون لها القوامة - في نظرهم - لأنها هي التي تكدّ وتكدح وتعمل ، والزوج قابع في البيت لا همّ له إلا الأكل والشرب والنوم والسهر و.. ونحن لا ننكر وجود مثل هذه الحالات ، لكنها - مهما كثرت - حالات شاذّة مخالفة للفطرة في زمن انتكست فيه كثير من الفِطَر، وانقلبت فيه كثير من الموازين
وقد كثر الحديث عن الآونة الأخيرة في المجلات النسائية وغيرها عمّا يسمونه بـ (سي السيّد) ويعنون به الزوج المتسلّط ، والتسلّط عندهم له مفهوم آخر غير المألوف ، وهو أن يغار الرجل على امرأته ، ويلزمها بطاعة الله ، وامتثال أمره واجتناب نهيه كما صرّح بذلك أحدهم في مقال له فقال ما معناه : إن لك أن تُحجِّب امرأتك بما شئت من الحُجُب بشرط أن تكون راضية بذلك ، فإن أبت إلا التبرج وألزمتها بلبس الحجاب امتثالاً لأمر الله فأنت متسلّط ... وحشي .. متخلف ، أو - كما يقول - (سي السيّد) .
كما نشرت إحدى المجلات النسائية (!) تحقيقاً بعنوان( أيّهما تختارين : الزوج الغيور أم الزوج الهادئ ) ثم خلصت المجلة إلى أن الزوج الهادئ هو الأفضل .. والزوج الهادئ - عندهم - هو الذي يتخلى عن قوامته، ولا يغار على امرأته ، أو بالتعبير النبوي الكريم : الديوث الذي يُقرّ في أهله الخبث، لكنهم يسمّون الأشياء بغير أسمائها تلبيساً على الناس ، وذرّاً للرماد في العيون .
كما نشرت إحدى المجلات أيضاً مقالاً بعنوان: (غيرة الرجل تعيق تقدم المرأة) (!)
وهذا غيض من فيض ، وهم بذلك يشجعون المرأة على التمرد على زوجها ، ومن ثم تحطيم مبدأ القوامة الذي تستقيم به حال الأسرة ، ويصلح به حال المجتمع .
وبعد .. فإن الذي تقتضيه النصوص الشرعية ، والعقول السليمة ، والفطر السوية ، هو أن يكون الرجل قوّاماً على المرأة : بنتاً كانت أو أختاً أو زوجةً ، ما دامت تحت ولايته ،
ولهذا سمّى اللهُ الزوجَ سيّداً كما في سورة يوسف : ((وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ)) أي زوجها .
وأوضح من ذلك وأصرح قوله تعالى في سورة النساء : ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً )) (سورة النساء: 34) .
قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية : ( أي الرجل قيّم على المرأة أي هو ريئسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجّت .. )
وقد بيّن الله - عزّ وجلّ - في هذه الآية الأسباب الموجبة لقيام الرجال على النساء فقال : ((بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )) .
وهذا هو السبب الأول ، فالرجال أفضل من النساء ، والرجل خير من المرأة ، وهذا أمر نسبي ؛ فإن من النساء من تكون أفضل من بعض الرجال وخير ، لكنّ جنس الرجال أفضل من جنس النساء على وجه العموم ، ولهذا كانت النبوّة مختصة بالرجال ، وكذلك الولاية العظمة لقول صلى الله عليه وسلم : (( لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة )) رواه البخاري.
ويدخل في ذلك منصب القضاء على الصحيح . كما أن الله اختصّ الرجل بالعديد من المزايا والخصائص التي تؤهله للقيام بهذه المهمة الجليلة ، أوجزها لنا الإمام ابن العربي المالكي - رحمه الله - فقال : " فضّل الله تعالى الذكر على الأنثى من ستة أوجه :
الأول : أنه جُعل أصلها وجُعلت فرعه ، لأنها خُلقت منه كما ذكر الله تعالى في كتابه .
الثاني : أنها خُلقت من ضلعه العوجاء كما في الحديث : (( إن المرأة خُلقت من ضلع أعوج ))
الثالث والرابع : نقص عقلها ودينها ، وفي الحديث : (( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم منكن )) .
الخامس : نقص حفظها في الميراث ، قال تعالى : (( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ )) .
السادس : نقص قوّتها ؛ فلا تقاتل ولا يُسهم لها ..
ثم أورد - رحمه الله - شبهة وردّ عليها ، قال : ( فإن قال قائل : كيف نسب النقص إليهن وليس من فعلهن ؟ قلنا : هذا من عدل الله ؛ يحطّ ما يشاء ويرفع ما يشاء ، ويقضي ما أراد ، ويمدح ويلوم ،ولا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون ،وهذا لأنه خلق المخلوقات منازل ، ورتّبها مراتب ، فبيّن ذلك لنا ، فعَلِمْنا وآمنّا به وسلّمناه ) [ أحكام القرآن 1/253 باختصار وتصرف بسيط .
هذا إضافة إلى ما يعتري المرأة من العوارض الطبيعية من حيض ونفاس وحمل وولادة ... فيشغلها عن القيام بهذه المهمة الشاقة ..(6/49)
أما السبب الثاني فهو قوله تعالى : (( وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ )) .
فنفقة المرأة واجبة على الرجل ، وهو المؤهل للكدّ والكدح والعمل ، فناسب أن يكون قيّماً عليها مع فضله عليها في نفسه .
وقد تحدث الكتّاب والمفكرون الغربيون ، كما تحدث العلم الحديث عن شيء من ذلك ، أذكر بعضه هنا استئناساً به ، وليكون حجة على من لا يرون الحق إلا فيما قاله أولئك القوم ، وإلا فإن كان في كتاب ربنا وما صحّ من سنة نبينا صلى الله عليه وسلمما يكفي ويشفي :
تقول : (جليندا جاكسون) حاملة الأوسكار التي منحتها ملكة بريطانيا وساماً من أعلى أوسمة الدولة ، وحصلت على جائزة الأكاديمية البريطانية ، وجائزة مهرجان مونتريال العالمي - تقول : ( إن الفطرة[1]جعلت الرجل هو الأقوى والمسيطر بناء على ما يتمتع من أسباب القوة تجعله في المقام الأول بما خصه الله بن من قوة في تحريك الحياة واستخراج خيراتها ، إنه مقام الذاتية عند الرجل التي تؤهله تلقائيا لمواجهة أعباء الحياة وإنمائها ، واطّرد ذلك في المجالات الحياتية ) [2]
أما الزعيمة النسائية الأمريكية (فليش شلافي) فقد دعت المرأة إلى وجوب الاهتمام بالزوج والأولاد قبل الاهتمام بالوظيفة ، وبوجوب أن يكون الزوج هو رب الأسرة وقائد دفتها .
وفي كتاب أصدر أخيراً عن حياة الكاتبة الإنجليزية المشهورة (أجاثا كريستي) ورد فيه قولها : ( إن المرأة الحديث مغفلة ؛ لأن مركزها في المجتمع يزداد سوءاً يوماً بعد يومٍ ، فنحن النساء نتصرف تصرّفاً أحمق ؛ لأننا بذلنا الجهد الكبير خلال السنين الماضية للحصول على حق العمل ، والمساواة في العمل مع الرجل .. والرجال ليسوا أغبياء ، فقد شجعونا على ذلك معلنين أنه لا مانع مطلقاً من أن تعمل الزوجة ، وتضاعف دخل الزوج ، ومن المحزن أن نجد بعد أن أثبتنا نحن النساء الجنس اللطيف الضعيف ، نعود اليوم لنتساوى في الجهد والعرق الذي كان من نصيب الرجل وحده ) [3] .
وفي الدانمارك تقول إحدى الباحثات الدانماركيات ناقدة موقف الغرب من قضية المرأة : ( إن أكثرية الباحثين في الغرب عن شؤون المرأة هم أناس إما فاشلون ، أو راديكاليون موسميون ، أو يهود ماسونيون ، استغلوا نزوات المرأة المعاصرة في الجري وراء الموضة ، أو إثبات الذات خارج بيتها ، واستغلوا الفقر في إنسانيتها ، بل هذا الخلط في فهم المعاني التي أصبحت تعني الرذيلة وانعدام الفضيلة ) [4] .
(قلت : إذا كان هذا هو حال أكثر الباحثين الغربيين في شؤون المرأة ؛ فإن مصيبتنا اليوم في الباحثين بل المقلدين المستغربين من أبناء هذه الأمة الذين يحملون أسماءً عربية ، وعقولاً غربية ، ويرددون بغباء ما يقوله أولئك ) .
وما أحسن ما قالته طبيبة نفسية أمريكية ، تقول : ( أيّما امرأة قالت أنا واثقة بنفسي وخرجت دون رقيب أو حسيب ..فهي تقتل نفسها وعفتها ) [5] .
هذا ما يقوله العقلاء منهم ، فماذا يقول العلم الحديث ؟ .
لقد أثبت العلم الحديث أخيراً وَهْم محاولات المساواة بين الرجل والمرأة ، وأن
المرأة لا يمكن أن تقوم بالدور الذي يقوم به الرجل .
فقد أثبت الطبيب العالم ( د . روجرز سبراي ) الحائز على جائزة نوبل في الطب وجود اختلافات بين مخ الرجل ومخ المرأة الأمر الذي لا يمكن معه إحداث مساواة في المشاعر وردود الأفعال ، والقيام بنفس الأدوار[6] .
وقد أجرى طبيب الأعصاب في جامعة (بيل) الأمريكية بحثاً طريفاً رصد خلاله حركة المخ في الرجال والنساء عند كتابة موضوع معين أو حل مشكلة .. فوجد أن الرجال بصفة عامة يستعملون الجانب الأيسر من المخ ، أما المرأة فتستعمل الجانبين معاً وفي هذا دليل - كما يقول أستاذ جامعة بيل - أن نصف مخ الرجل يقوم بعمل لا يقدر عليه إلا مخ المرأة بشطريه أي كامل عقلها ، وهذا يؤكد أن قدرات الرجل أكبر من قدرات المرأة في التفكير وحل المشاكل وغير ذلك ، فإذا عمل بعقله الكامل فإنه يحقق ضعف ما تنتجه المرأة [7] .
وهذا ما اكتشفه البروفيسور (ريتشارد لين ) من القسم السيكولوجي في جامعة ألستر البريطانية حيث يقول : ( إن عدداً من الدراسات أظهرت أن وزن دماغ الرجل يفوق مثيله النسائي بحوالي أربع أوقيات ) وأضاف ( لين ) : ( إنه يجب الإقرار بالواقع وهو أن دماغ الذكور أكبر حجماً من دماغ الإناث ، وأن هذا الحجم مرتبط بالذكاء) .
وقال : ( أن أفضلية الذكاء عند الذكور تشرح أسباب حصول الرجال في بريطانيا على ضعفى ما تحصل عليه النساء من علامات الدرجة الأولى ) [8] .
وسواء صحّ ما قالوه أم لم يصحّ فإن الله أخبرنا في كتابه بالاختلاف بين الجنسين على وجه العموم فقال سبحانه : (( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى )) فكلٌ ميسر لما خُلق له ، فمن رام غير ما خُلق له فقد كلّف نفسه ما لا تطيق ، ولبس ثوباً غير ثوبه ، فلا يلومن إلا نفسه .
وختاماً أقول :
مهلاً يا دعاة التغريب ، فأساليبكم الملتوية لا تخفى علينا ، وأفكاركم السقيمة لا تُثمر في أرضنا ، كفى نعيقاً ، ولنبدأ من حيث انتهى الآخرون ، لا من حيث بدؤوا
والله ولي التوفيق ,,,
[1] الله الذي جعل الرجل هو الأقوى وليس الطبيعة .(6/50)
[2] مجلة البعث الإسلامي ، العدد التاسع ص 43 .
[3] مجلة الاعتصام ، العدد الثالث ، السنة 41 ص 6 . .
[4] جريدة الجزيرة ، العدد 8102 ص 10 . .
[5] جريدة الرياض ، العدد 8591 .
[6] انظر جريدة الجزيرة ، العدد 7453 .
[7] انظر : جريدة الندوة ، العدد 11186 .
[8] جريدة عكاظ ، العدد 10310ص 19 .
===========(6/51)
(6/52)
الغزو الفكري وآثاره على الأفراد والمجتمعات 1 / 2
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أما بعد :
فمنذ أشرقت شمس الإسلام وأعداؤه يكيدون له المؤامرة تلو المؤامرة ، فاستخدموا كثيراً من الوسائل ونوعوا العديد من الخطط ، فتارة بالقوة ، وتارة بالحيلة ، نجحوا أحياناً وفشلوا أحياناً أخرى ، وهكذا الصراع بين الحق والباطل.
وعصرنا الحاضر ما هو إلا حلقة في سلسلة التداول بين الإسلام وأعدائه ؛ إلا أن الأعداء هذه المرة ابتكروا أسلوباً جديداً ؛ حيث ابتعدوا عن الاعتماد على القوة وحدها ولجأوا إلى محاربة الإسلام بالفكر فكان ما يسمى بالغزو الفكري .
ولا شك أن لهذا الغزو الجديد خطورته ووسائله ، وله أهدافه و آثاره ، مما جعل الغيورين من أبناء المسلمين يتنادون بوجوب مجابهته ومحاربته ، وكشف زيفه وبيان مغازيه .
ومن المحاولات الرامية إلى مواجهة هذا الغزو عقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات الإرشادية ، وكتابة الكتب والمقالات ومنها هذه المقالات والتي هي بعنوان (الغزو الفكري وآثاره) .
أولا: تعريف الغزو الفكري :
الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام مما يتعلق بالعقيدة , وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك [1].
فالغزو الفكري إذاً مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تدخل على الفكر الإسلامي هدفها السيطرة على هذا الفكر أو على الأقل حرفه عن وجهته الصحيحة.
نشأة الغزو الفكري:
بعد فشل الحروب الصليبية وعدم استطاعة الصليبين السيطرة على المسلمين بالوسائل العسكرية تنادى مفكروهم وقوادهم إلى ضرورة استحداث أسلوب آخر يكفل لهم تحقيق أهدافهم, فكان هذا الأسلوب المطلوب هو الغزو الفكري.
يقول لويس التاسع ملك فرنسا بعد أن وقع في الأسر وبقي سجيناً في المنصورة يقول(إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده, فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم) [2].
وبالفعل بدأت الحملات الصليبية ولكن هذا المرة عن طريق الفكر وبالفكر, واستخدمت الوسائل المتعددة والأساليب الكثيرة لتحقيق ما يريدون, سواء كان ذلك عن طريق الوسائل التعليمية أو عن طريق الوسائل الاقتصادية أو عن طريق الوسائل الاجتماعية أو عن طريق الوسائل السياسية, مما سيأتي الكلام عنه مفصلا عند الكلام على وسائل الغزو الفكري.
ثانياً: أهداف الغزو الفكري:
- السيطرة السياسية على بلاد المسلمين:
قد ذكرت أن نشأة الغزو الفكري كان بعد فشل السيطرة العسكرية, فحتى يتم لهم ما يريدون من الاستيلاء على البلاد الإسلامية بدأوا بالغزو الفكري.
والسيطرة السياسية تنقسم إلى قسمين أو يمكن أن تأتى على وجهتين:
الوجهة الأولى:
الاحتلال المباشر لبلاد المسلمين كما حصل في وقت ما يسمى بالاستعمار, حيث تدخل الجيوش الغازية إلى البلد المسلم, وتبسط نفوذها عليه, كالاستعمار البرتغالي لمنطقة الخليج ثم انحساره عنها ليحل محله الاستعمار الهولندي ثم الاستعمار البريطاني, وكان هذا الاستعمار يهدف في ما يهدف إليه إعطاء الغطاء السياسي اللازم لحركات الغزو الفكري.
الوجهة الثانية:
الاحتلال غير المباشر لبلاد المسلمين بأن يجعلوا من حكامها تابعين لهم لا يخرجون عن أرادتهم وطوعهم ولا ينفذون إلا ما يريدون, وقد حدث هذا بعد خروج المحتل ولكنه أبقى نفوذه ووصايته, فبعد اكتشاف النفط في دول الخليج بادرت بريطانيا إلى اخذ التعهدات من حكام تلك الدول ألا يمنحوا امتياز التنقيب عن النفط لشركات أو أشخاص دون مشورتها([3]).
- الاستغلال الاقتصادي:
لا تقوم البلدان إلا على اقتصاد قوي, والاقتصاد يحتاج إلى موارد اقتصادية, وبلدان العالم الإسلامي في الغالب تحتوي على موارد اقتصادية هائلة سال لها لعاب الدول الغربية مما جعلها تحاول جاهدة استغلال هذه الموارد, فكان في بداية الأمر أن فرضت الدول المستعمرة شروطا واتفاقيات تبيح لها التصرف في ثروات الشعوب الإسلامية سواء كانت هذه الاتفاقيات مفروضة بالقوة أو كانت بقوة غير مباشرة كمعاهدات الحماية بأن تتعهد الدولة القوية بحماية الدولة المسلمة الضعيفة مقابل ابتزازها اقتصادياً, ولأن القوة ربما تولد القوة والهجوم يولد الدفاع, لذا رأت الدول القوية أن منطق القوة قد لا يستمر لها وأن الدولة المسلمة ربما أفاقت وقاومت, لذا لجأت هذه القوى إلى الغزو الفكري الذي يحقق لهم ما يريدون دون إثارة حفيظة المسلمين وحنقهم.
- إبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم:(6/53)
أدرك الغزاه أن المسلمين وإن كانوا في ضعف وهوان وتشتت وانقسام إلا أنهم يملكون سلاحاً قوياً يستطيعون به الانتصار على عدوهم متى ما استخدموه لذا حرصوا اشد الحرص على إبعادهم عن هذا السلاح وعن مصدر قوتهم, فبدءوا بمحاربة العقيدة الإسلامية ومحاولة إبعادها عن حياة المسلمين, لا عن طريق ذمها في البداية وبشكل مباشر فهذا يثير المسلمين عليهم ويرجع المسلمين إلى عقيدهم, ولكن عن طريق دس السم في العسل كما يقال, وبطرق ملتوية غير مباشرة, فحاولوا التشكيك في العقيدة أو في جوانب منها فإن لم ينجحوا في ذلك فعلى الأقل عملوا على زعزعة ثقة بعض المسلمين بعقيدتهم.
وقد لجأوا في ذلك إلى أساليب كثيرة أحيانا تحت مسمى التدرج وعدم التعصب وأحيانا تحت مسمى البحث العلمي وأحيانا تحت مسمى التقارب العقدي للأديان وهكذا,,,,
وسيأتي الكلام عن الأساليب التي اتخذوها.
ثالثاً: وسائل الغزو الفكري:
- التدخل في مناهج التعليم:
من أخطر وسائل الغزو الفكري, لأنه على مناهج التعليم يتربى الجيل, ومناهج التعليم على قسمين:
القسم الأول:
قسم تتولى الدولة وضعه أو بمعنى آخر يضعه أناس ولكن تحت إشراف الدولة, ويتم الغزو الفكري في هذا القسم بما يبذله العلمانيون من جهد في تغيير المناهج ولهم في ذلك أساليب ووسائل يخادعون بها دولتهم ومجتمعهم, حتى يتم لهم ما يريدون, يقدمون التقارير ونتائج الندوات والمؤتمرات المبرمجة سلفاً لشيء معين وكلها تنصب في ضرورة التغيير, وأن المناهج الحالية لا تلبي حاجة المجتمع أو حاجة السوق كما يعبر عنه أحيانا, وأحيانا تتهم أنها سبب في توليد الإرهاب, وأنها تنمي الكراهة والبغض عند الطلاب ضد الكفار, الذين اصبحوا أصدقاء وأعوان, وهكذا, ولا بأس إذا أرادوا شيئاً معيناً أن يحركوا بعض الصحفيين ليكتبوا في الصحف عن ضرورة التغيير وعن حاجة المجتمع, وعن عدم قدرة المناهج الموجودة على مواكبة العصر.
وأحياناً يمكن أن يكون الغزو في هذا القسم تحت ضغوط مباشرة من الغزاة الحقيقيين, ويستخدمون لهذه الضغوط وسائل متعددة ليس المجال مجال ذكرها.
- القسم الثاني:
قسم لا تتولى الدولة وضعه ، وإشرافها عليه غير مباشر, وهذا يتمثل في الجامعات, وبعض المدارس الخاصة والمدارس الأجنبية.
ويتم الغزو الفكري فيها باختيار مناهج تضعف فيها المواد الدينية ويركز على غيرها, ثم هذه المواد تدرس بعيداً عن الدين, وربما كان فيها من الانحراف الفكري ما يشوش على أفكار الطالب ، وربما درست نظريات وأفكار لعلماء غربيين مليئة بالانحراف, دع عنك النظريات العلمية في مواد العلوم الطبيعية كما تسمى, وإنما نقصد العلوم الاجتماعية, كعلم الاجتماع ، و علم النفس, وغيرهما.
وربما درست للطلاب أشياء مخالفة للدين فيدرس الربا على أنه فوائد ، ويدرسون كيفية حساب الفائدة, حتى إنه يلقى في روع الطالب أن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا.
وربما يوكل للأستاذ الجامعي وضع المنهج وقد لا يكون على مستوى المسؤولية.
- المدارس الخاصة والأجنبية ، ومنها الجامعات الغربية المقامة في بلاد المسلمين :
وذلك لأنها لا تخضع في مناهجها ومدرسيها للدولة بشكل مباشر, وبالتالي تكون مجالاًََََََ خصباً لبث ما يريدون, كما أن هذه المدارس قد تتعدد فيها الديانات ولاسيما المدارس الأجنبية مما يخفي عند الطالب المسلم عقيدة الولاء والبراء أو يضعفها ؛ لأنه يرى أستاذه نصرانياً وزميله كذلك وهو يعاشرهم ويعيش معهم مما يضعف البراء من الكفار.
كما أن هذه المدارس ربما تمارس أنشطة غير منهجية فيها مخالفات للدين.
من أخطر آثار هذه المدارس أنها تجذب الأنظار إليها بما تملكه من وسائل تعليمية عالية, وبما تتمتع به من تنظيم إداري فائق, كما أنها تهتم باللغات الأخرى ، مما يجعلها محط أنظار فئات خاصة من المجتمع, هذه الفئات تتخرج من هذه المدارس لتتولى المناصب في مجتمعاتهم ، مما يجعلهم سنداً بعد ذلك لقادة الغزو الفكري.
- تقليل الاهتمام بمواد الدين:
ويتم ذلك بما يلي:
- تقليصها في الجدول الدراسي.
- دعوى صعوبتها, وصعوبة فهمها.
- جعلها في آخر الجدول اليومي, مما يجعلها في وقت تعب وملل.
- التقليل من شأن مدرسها.
- دعوى أنها لا تلبي حاجة المجتمع.
- دعوى أن الطالب ربما يستفيدها من خارج المدرسة.
- جعلها مادة لا يترتب عليها نجاح الطالب, وإنما للفائدة فقط.
- جمع مواد الدينية كلها تحت مسمى واحد كأن تسمى مادة الثقافة الإسلامية مثلاً, أو مادة إسلامية, أو دين أو تربية إسلامية وهكذا.
- حصر الدين في المواد الشرعية وإخراج العلوم الأخرى
كالاقتصاد والاجتماع وعلم النفس و العلوم الإدارية والعلوم التطبيقية.
- تدريس المواد غير الشرعية بعيداً عن الدين فالاقتصاد بعيد عن الإسلام أو فيه مخالفات شرعية كثيرة, وعلم الاجتماع كذلك , وعلم النفس كذلك , والعلوم التطبيقية لا تربط بقدرة الله ، وإنما الطبيعة هي كل شيئ ..
- تقسيم المدارس أو التخصصات إلى دينية وغيرها
مما يولد الشعور عند الطالب أن الدين لا يصلح في التخصصات الأخرى.(6/54)
- تهيئة الفرص الوظيفة لخريجي الأقسام غير الشرعية, وتقليل هذه الفرص بالنسبة لخريجي الأقسام الشرعية, مما يجعل الطالب لا يحرص على دخول هذه الأقسام.
- هدم اللغة العربية: ويتم هذا بما يلي:
- الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية بدعوى أن الحركات لا تكتب.
- الدعوة إلى العامية والبعد عن الفصحى.
- دعوى صعوبة اللغة العربية وعدم قدرة النشء على تعلمها.
- الدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية, وربما للصغار مما يفسد لغتهم الأصلية.
- تشويه التاريخ الإسلامي: ويتم هذا بما يلي:
- تصوير أن الإسلام لم يعش إلا في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين, وما بعده انحرف المسلمون عن الإسلام.
- إبراز مظاهر الانحراف التي حدثت في عصور الإسلام, وجعلها هي الأصل والأساس ، وبالذات الانحرافات السياسية.
- إلصاق التهم السيئة بنوايا الفاتحين, وبنوايا المصلحين ، كاتهام الفتوحات الإسلامية بأنها نوع من الاستعمار.
- تمثيل المواقف الإسلامية أو المعارك بتشويه متعمد, فهذا القائد يحب ابنة الخصم أو يحب أخرى ، وعلاقات الحب تمثل مع عدم وجود مستند تاريخي لها ، وكتابات جورجي زيدان في التاريخ الإسلامي شاهد على ذلك.
- الاختلاط:
وهذا يكون في مسلك التعليم وفي غيرة, فأما في التعليم فيتم في البداية في الروضة ، وفي المختبرات في الجامعات ونحوها ، ثم في المراحل الأولية من الدراسة الابتدائية ، ثم يتطور بعد ذلك إلى ما هو أكثر.
هذا في المدارس الحكومية وأما المدارس الأجنبية فالأمر مختلف فالاختلاط فيها ظاهر سواء بين الطلاب والطالبات أو بين المدرسين والطالبات أو بين المدرسات والطلاب أو بين المدرسين والمدرسات.
وأما غير التعليم فالاختلاط يكون في المستشفيات ، وفي الحدائق ، وفي مطاعم العوائل ، وفي الأسواق ، وفي المنتزهات وغيرها.
- الابتعاث:
ويعني إرسال أولاد المسلمين إلى البلاد الكافرة للتعلم هناك وهذا قد تضطر له الدول الإسلامية لتتعلم العلوم التي سبقتنا فيها البلاد الكافرة, ولكن الإشكال حينما يفتح الابتعاث على مصراعيه لكل أحد ، وبدون ضوابط ولا عوامل حماية للمبتعثين, فيذهب المبتعث ويرجع بفكر غير الذي ذهب به.
- الدعوة إلى تعلم اللغة خلال الصيف في مدارسهم ومعاهدهم في بلادهم الكافرة, فيذهب الشاب إلى هناك ، وربما سكن مع عائلة كافرة ، مما يجعل فرصة تأثره بأفكارهم ومعتقداتهم سانحة, وربما احتقر بلاده وتعاليم دينه.
- نشر الأفكار الهدامة التي تدعو إليها بعض المؤتمرات والمنظمات والجمعيات العالمية.
- الحديث عن أعيادهم ، ونشر ما يحدث فيها كعيد الميلاد وعيد الحب.
- الدعوات إلى الفرق والأديان الباطلة.
- زعم التقريب بين الأديان, والدعوة إلى الندوات والمحاضرات والمؤتمرات لمناقشة هذه القضية.
- محاولة نشر الكتب أو الكتيبات أو النشرات التي تدعو إلى أديان باطلة أو تشكك في الدين الإسلامي.
- الدخول من باب الأدب لحرف الفكر الإسلامي, فتارة عن طريق الحداثة ، وتارة عن طريق القصص الغرامية, وتارة عن طريق فكر مخالف للدين بدعوى الحرية الفكرية.
- نشر الأدبيات المنحرفة وتمجيد أصحابها, سواء كان عن طريق القصة أو الشعر أو غيرها, وكتاب في جريدة شاهد على ذلك.
- ترجمة غير المفيد من اللغات الأخرى فلا تترجم الكتب العلمية المفيدة و إنما تترجم الغراميات ، أو التي تحمل الأفكار العلمانية أو الإلحادية.
- استغلال الإذاعة أو التلفزيون أو القناة الفضائية لبث الأفكار التي يريدون.
- استغلال العادات والتقاليد:
ويتم عن طريقين:
أ- استغلال واقع خاطئ يعيشه المجتمع المسلم أفرزته العادات والتقاليد البعيدة عن الإسلام, فيقوم هؤلاء باستغلال هذا الوضع ويهاجمونه هجوماً شديداً لا لرد الناس إلى الحق ولكن للشطوح بهم بعيداً عن الدين.
- الطريق الثاني:
الحرص على جعل تعاليم الإسلام عادات وتقاليد مما يهون من شأنها ويسهل تركها, كالحجاب مثلاً.
- إفساد المرأة:
والدعوة إلى تغريبها وسفورها واختلاطها ، ولهم في ذلك طرق كثيرة ودعوات مغرضة ؛ لأنهم يعرفون أهمية المرأة ودورها في المجتمع.
- استغلال النكبات في العالم الإسلامي بدعوى تقديم العون للمنكوبين المحتاجين ، وهم في الحقيقة لا يقدمون العون إلا مع تقديم أفكارهم ومعتقداتهم.
- السيطرة على مصارف النقد ومحاربة الاقتصاد الإسلامي لإضعاف المسلمين ، وبالتالي السيطرة عليهم.
- تكثيف الدراسات الاستشراقية ، والاهتمام بها ؛ لتسهل السيطرة على العالم الإسلامي .
- القيام بالعمليات التنصيرية ، ورصد الأموال الطائلة ، والجهود الكبيرة لإنجاحها .
- اختراع مصطلح العولمة لإذابة الفكر الإسلامي ، بل ليس سراً أن نقول إن العولمة هو المصطلح الجديد للغزو الفكري .
- الضغوط الخارجية على الحكومات المسلمة لئلا تقف في وجه الغزو الفكري.
- الدعم السياسي للغزاة المحليين ممن هم على شاكلتهم, ولذا ليس سراً صلة حركات التغريب بالاستعمار وبالدول الكافرة بعد الاستعمار.
1 واقعنا المعاصر ص195.
2 المرجع السابق ص196.
3 الخليج العربي دراسة في الجغرافيا السياسية ص281.(6/55)
============(6/56)
(6/57)
نعمة الأمن
الحمد لله الولي الحميد أمر بالشكر ووعد بالمزيد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحكم ما يريد ويفعل ما يريد وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم المزيد أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته.
إنه مطلب كل أمة وغاية كل دولة من أجله قامت صراعات وحروب وفي سبيله أنشئت جنود وجيوش تهدف إليه المجتمعات البشرية وتتسابق لتحقيقه السلطات الدولية بكل إمكاناتها الفكرية والمادية.
إنه مع العافية والرزق يشكل الملك الحقيقي من أصبح آمناً في سربه معافىً في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها.
إنه الأمن في الأوطان دعوة أبينا إبراهيم (( رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً )) .
ومنة الله على هذه الأمة ((وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ )) ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً )).
إن الديار التي يفقد فيها الأمن تعد صحراء قاحلة حرّى وإن كانت ذات جنات وارفة الظلال تجري من تحتها الأنهار والبلاد التي تنعم بالأمن تهدأ فيها النفوس وتطمئن فيها القلوب وإن كانت قاحلة جرداء ليس فيها من الغذاء ما يسد الرمق ومن الماء ما يروي الظمأ.
إن البلاد التي يفقد فيها الأمن كالسماء إذا فقدت نجومها وكالأرض إذا زالت جبالها الراسيات وكالسهول إذا فقدت أنهارها وغارت عيونها وذوى نباتها ويبست أشجارها.
إنه الأمن لا غناء لذي مخلوق أو لأي نفس رطبة عنه مهما عزت في الأرض أو كسبت مالاً أو شرفاً أو رفعة فلن يتمتع معافىً بعافيته وهو غير آمن وكيف يلذ أكل بدون أمن ولن تنام عين غير آمنة ولن يستريح أو يستقر ضمير خائف أو بال مزعزع كلا يا عباد الله فلا راحة ولا هدوء ولا اطمئنان أو استقرار بدون أمن ففي رحاب الأمن وظله يأمن الناس على أموالهم وحارمهم وأعراضهم وفي ظلال الأمن يعبدون ربهم ويقيمون شريعته.
في رحاب الأمن وظله تعم الطمأنينة النفوس ويسودها الهدوء وترفرف عليها السعادة وتؤدي الواجبات باطمئنان من غير خوف هضم ولا حرمان.
لو انفرط عقد الأمن ساعة لرأيت كيف تعم الفوضى وتتعطل المصالح ويكثر الهرج وتأمل فيمن حولك ستجد الواقع ناطقاً واسأل العراق ستجده على هذه الحقيقة شاهداً.
أيها المسلمون
إن أمراً هذا شأنه ونعمة هذه أثرها لجدير بنا أن نبذل في سبيلها كل رخيص وغال وأن تستثمر الطاقات وتسخر الجهود والإمكانات في سبيل الحفاظ عليها وتعزيزها.
يا عباد الله
إن الأمن لا يدرك بالبطش والجبروت والاستبداد والقهر ورفع سياسة(( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى)) .
ولو كان الأمر كذلك لكان الروس وأضرابهم أنعم الناس بالأمن، ولا يدرك بالتساهل والتسامح مع المجرمين والمفسدين إلى حد الفوضى وإلا لكانت بلاد الغرب أكثر بلاد العالم أمناً وإن الأمن يا مسلمون لا يتوفر باستعمال التقنية الحديثة والأجهزة الدقيقة والأسلحة الفتاكة فما نفعت تلك الوسائل أمريكا والجرائم عندهم تحصى بالثواني واللحظات.
لقد فشلك كل هذه الوسائل وأفلست كل نظم الأرض وحيل البشر فلم تستطع توفير الأمن وآن لنا أن ندرك أن الأمن الذي نعيشه ونتفيؤ ظلاله إنما هو منحة ربانية ومنة إلهية مربوطة بأسبابها ومقومتها والتي من أعظمها إقامة شرع الله وتنفيذ حدوده والاعتزاز بعقيدة التوحيد ومناصرتها والدعوة إليها وبدون ذلك لا سبيل إلى الأمن ولو استعنت بقوى الأرض كلها.
إن قدّرنا أن ننعم في هذه الحياة بالأمن متى استقمنا على شريعة الله وأن نحرمه متى انحرف بنا المسار عن الله ومنهجه فإن حدنا عن منهجه حصل خلل واضطراب يؤدي هذا الخلل إلى فساد وإفساد كما حدث للأمم من قبلنا عندما تركت شرع الله ودينه وحل فيها الخصام محل الوئام وزرعت في نفوس أهلها البغضاء بع أن كانت تظللها المحبة والألفة والإخاء (( َفنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء)) .
الإيمان هو الذي يحقق الأمن للمجتمع ويقيه من الأخطار فإذا تخلى أبناء ذلك المجتمع عن دينهم وكفروا نعمة ربهم أحقت بهم المخاوف من كل جانب وانتشرت بينهم الجرائم وهذه هي السنة الربانية فيمن يعرض عن طاعة ربهم سبحانه (( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً)).
أيها المسلمون
لقد أدرك أعداء الإسلام أن استمساك المسلمين بدينهم وشريعة ربهم هو سر قوتهم وسبب وحدتهم وعامل أمنهم فعملوا حسداً من عند أنفسهم على وضع مخطط يهدف إلى اغتيال عقيدة المسلمين من جانب وإقصاء الشريعة عن حياة المسلمين من جانب آخر مستعينين في ذلك بأذنابهم ممن يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين مستخدمين لأجل ذلك كل وسائل الفساد والإفساد من أجل إزالة العاصم الذي يحمي ديار الإسلام وهدم الحصن الآمن الذي ينعم به المسلمون.
يا عباد الله(6/58)
وإذا كنا بحمد الله في هذا البلد ننعم بأمن وارف واستقرار شامل فمع ذلك بدأنا نسمع أخيراً عن بعض الثغرات الأمنية والتي لا تشكل بحمد الله ظاهرة مقلقة لكنها نذير بزوال النعمة وزعزعة الأمن وإشارة إلى وجود خلل في بناء المجتمع لا بد من تداركه وإزالته, إلى أن الأمة كافة غيرت فغير الله عليها، وإن الله لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
إن أمن البلاد مسئولية ونعمة الأمن جديرة بأن يتكاتف الجميع للمحافظة عليها وبذل أسبابها والتضحية من أجلها.
لا بد أن ندرك أن نعمة الأمن لا تدوم إلا بدوام أسبابها ولا توجد إلا بوجود مقوماتها والتي من أعظمها عبادة الله بمضمونها الشامل (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْض)) ز
وتوحيد الله والإيمان به والتخلص من خوارم العقيدة ومحاربة البدع والخرافات عامل من عموامل حصول الأمن ((الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون)) .
َولكي يدوم الأمن في البلاد فلا بد من تربية الأمة رجالها ونسائها على طاعة الله والاستقامة على شرعه والبعد عن معصية وعندما تستقيم النفوس على طاعة الله سبحانه ويعرف كل إنسان حقوقه وواجباته وتعمر قلوب المؤمنين المحبة لله ورسوله والشفقة على العباد ويسود التكافل والتراحم بين أبناء المجتمع فما أسعد هذا المجتمع وأهنئه.
النفوس المطيعة لا تحتاج إلى رقابة القانون وسلطة الدولة لكي تردع عن الجرائم لأن رقابة الإيمان أقوى والوازع الإيماني في قلب المؤمن يقظ لا يغادر العبد ولا يتخلى عنه ومن هنا فلا بد من غرس مفهمو الخوف من الله ومراقبته في نفوس الناس بدلاً من تخويفهم بالأنظمة والقوانين فليست قوانين الجماعات ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة تُحترم فيها الحقوق وتؤدى الواجبات على وجهها الكامل فإن الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو السجن أو العقوبات المالية لا يلبث أن يهمله متى اطمأن إلى أنه سيفلت من طائلة النظام وليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تداينها في كفالة احترام الحقوق وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه.
أيها المسلمون
ويستجلب الأمن ويحافظ عليه بالقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى الفردي والشعبي والرسمي فهو صمام أمان المجتمع وبه يحصل العز والتمكين : (( َلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ)) .
وبقدر ما تتخلى الأمة عن هذه الشعيرة بقدر ما يستأسد المجرمون ويستعلي المجرمون لأنهم فقدوا اليد الحازمة والقوة الرادعة التي يمثلها حراس الفضيلة ممن لهم في ميدان البذل والعطاء بصمات وفداء.
ويحافظ على الأمن بالعدل في كل جوانب الحياة فالراعي مع رعيته والأب مع أهله وزوجاته والمعلم مع طلابه والرئيس مع مرؤوسه والكفيل مع عماله فالظلم يولد الأحقاد والرغبة في الانتقام.
ومتى تحقق العدل حصل الأمن فاعدل أيها المسلم في تعاملك وحكمك وحينها نم حيث شئت فقد عدلت فأمنت فنمت, ومن مقومات الأمن إقامة الصلاة وتربية الناشئة عليها فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي حصن عن كل شرور وحاجز عن كل جريمة.
ويتحقق الأمن بتهيئة المحاضن التربوية للشباب ودعم كل المؤسسات العاملة في تربية الناشئة من حلقات القرآن ومراكز صيفية دائمة.
ومن أقوى الأسباب لحصول الأمن معالجة كل ظواهر الانحراف لدى الشباب من منطلق إيماني ومفهوم إسلامي.
إن من أبرز أسباب انحراف الأبناء ما تعيشه بعض البيوت من فقر يخيم عليها أو نزاعات وشقاق بين الآباء والأمهات وما ينتج عنها من حالات طلاق وتشتت وتشرد وضياع ومن الأمور المعلومة أن الولد عندما يفتح على الدنيا عينيه..
الخطبة الثانية
فإن الأمن والاستقرار يظل ويبقى حينما تعالج الأخطاء والتجاوزات بكل هدوء وحكمة بعيداً عن التشنج والانفعال والغضب والمبالغات والتهويل أو معاقبة الأبرياء بجريرة المذنبين.
والأمن والاستقرار يتحققان حينما يقوم العلماء بدورهم في احتواء الموقف ومعالجة الأحداث وتقريب وجهات النظر وتهدئة الانفعالات وفتح قنوات الحوار الهادف الهادئ مع الشباب لترشيد حماسهم وتوجيه انفعالهم وتسخير طاقاتهم في خدمة الأمة ودينها.
أما أن يعيش العلماء في برجهم العاجي ومن خلال مكاتبهم الوثيرة يهاجمون الشباب ويتهمونهم ويتطرفون في احتقار أفكارهم والتساهل بقدراتهم ويأنفون من تساؤلاتهم ومطالبهم فإن هذا يولد فجوة بين العلماء والشباب تدفع الشباب إلى تصرفات غير مدروسة وأعمال غير مشروعة فافتحوا أيها العلماء والدعاة صدوركم وبيوتكم ومكاتبكم للشباب ووجهوا حماسهم وهذبوا عواطفهم.
وإن الأمن الوطني لا يتحقق إلا بوجود الأمن الفكري وذلك بحماية الأجيال الناشئة وشباب الأمة من دعوات التغريب ودعايات الفساد والإفساد.(6/59)
لكي يتحقق الأمن لابد من حماية شباب الأمة وتحصين أفكارهم من الهجمات الداخلية التي تسمم العقول وتحرف السلوك وتسيء إلى الدين وتقضي على الأصالة وتشكك في الولاء وصدق الانتماء.
لكي يتحقق الأمن لابد من القضاء على مغذيات الجريمة وقطع عروق الانحراف من مجلات ساقطة ووسائل إعلام هابطة وأغانٍ ماجنة.
كيف نريد للشباب أن يستشعر المواطنة الصالحة ويحافظ على مقومات أمن الوطن ويسهم في نهضته ويقوم بواجبه تجاهه وهو في الوقت ذاته يستقي أفكاره وثقافته ومنهجه من قنوات تعمل على تخدير الأمة وشبابها من خلال إشاعة الفاحشة وبث الرذيلة ونشر الإباحية والترويج للعنف والجريمة والتعود على رؤية المنكرات وعدم التفكير بإنكارها.
ماذا فعلنا للتجمعات الشبابية على الكثبان الرملية وفي الاستراحات حيث تغرس بذور الجريمة وتشعل جذوة الانحراف.
إن حملات التوعية الأمنية خطوة إيجابية ولكنها لن تحقق هدفها ما لم يصحبها عزم أكيد ونية جادة لدراسة أسباب الجريمة ومظاهرها ومعالجتها معالجة فعالة في ضوء تعاليم الإسلام وهدي سيد الأنام.
ودين الإسلام شامل وكامل (( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ من شي)) وتطبيقه علاج لكل مشاكل المجتمعات وقضايا الدول.
وأخيراً :
ولكي يتحقق الأمن ويدوم لا بد أن يدرك شبابنا الغيور أن العبد لا يعلم أن يكون الخير والشر فيما يقتضيه الله سبحانه إلا في ضوء ما عمله الله لعباده من السنن والثواب، ومن هنا فلا ينبغي للعبد أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في جوانبها متجرداً في ذلك لله عز وجل مهتدياً بالسنن والموازين والسنن الثابتة التي ذكرها الله في كتابه وعلى لسان رسوله وإذا وفق العبد إلى هذا الفضل فإنه غالباً يصدر عن الحق وينطق بالحق وينشأ عنده صفتا الحلم والأناة اللتان يحبهما الله عز وجل وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشراً عليهم وعلى أمتهم.
ومن صور الاستعجال ما نراه من تعجل بعض الغيورين في قطف ثمرة جهدهم وتعريض أنفسهم للابتلاء وتمنيهم لمواجهة العدو وينسون ويغفلون عن قول صلى الله عليه وسلم : (( لا تمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا)) .
فإن المرء لا يدري ما تؤول إليه الحال عند مواجهة العدو ومشاهدة الأهوال وكم من أناس استعجلوا الابتلاء قبل أوانه فلما أصبحوا تحت وطأته ضعفوا وانتكسوا والعياذ بالله .
وقد ذكر الله قصة أولئك الذين كرهوا كف اليد عن الكفار وتمنوا القتال فلما كتب عليهم رغبوا عنه وهذا من آفة الاستعجال ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ)).
إن أشد الناس حماسةً واندفاعاً وتهوراً قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجد الأمر وتقع الواقعة بل إن هذه قد تكون القاعدة والحكمة وأن نتجنب الأفعال الهوجاء وردود الأفعال. فما أحرانا أن نتحلى بالصبر وأن نشتغل بالبناء للنفس والناس دعوة ودعاء وصلاة وعبادة وأمراً بمعروف ونهياً عن المنكر وتربيةً للنفس وتزكية لها لكي تكون قادرة على مواجهة الشدائد والفتن والمحن.
لوحة الأمة الجميلة نرسمها نحن بأيدينا ونصنعها بقلوبنا حينما نتخلق بالوعي ونستشعر عظم هذه النعمة وخطورة فقدها نضعها حينما نتعامل مع الواقع بميزان الشرع والعقل بعيداً عن الأهواء والعواطف والرغبات الشخصية.
نعمة الأمن نحفظها حينما نحفظ حدود الله (( احفظ الله يحفظك)) .
نعمة الأمن نحفظها حينما نكف أيدي المنافقين وألسنتهم الذين يوقدون نار الفتنة ويلمزون المؤمنين ويشعلون فتيل القلاقل باستفزازاتهم لمشاعر الناس وتعرضهم لثوابت الأمة وشعائر دينها.
اللهم احفظ على الأمة أمنها وإيمانها ,,,
==========(6/60)
(6/61)
لو غير أكّار قتلني !!
حوار بين أبي جهل وابن مسعود
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تظل الرواسب الفكرية المهترئة ، جاثمة في حضيض البؤر المعرفية لبعض أولئك المتقمصين لثياب الثقافة والإعلام أو المنتفخين ببالونات (المجد !) الغثائية ، من نجوم الفن والرياضة ونحوهم من ذوي الاهتمامات البالية ، والقيم الهزيلة ومظهر تلك الرواسب الجوفاء ذلك (النضال !) المستميت نحو تحقيق أهداف غير شريفة جامعها الإفساد والتضليل على مستوى الفرد والجماعة !!
والتاريخ المدوّن بموضوعية وعدل مزدحم بعشرات النماذج لأولئك المتخمين باللوثات الفكرية المتنوعة ، والذين ظلوا متشبثين بها حتى الرمق الأخير من حياتهم البائسة, دون أن تسعفهم عقولهم المريضة لمراجعة الحق بتواضع , أو إعلان التوبة بصدق!
في الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه- (( أنّ رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ فانطلق ابن مسعود؛ فوجده قد ضربه ابناء عفراء حتى برك؛ فآخذ بلحيته وقال : أأنت أبو جهل الشيخ الضال ؟ قال : وهل فوق رجل قتله قومه ؟ فلو غير أكّار قتلني ؟! )) .
أي: فلو غير فلاح قتلني ؛لأن الأكار هو الفلاح!! فالذي قتله أنصاري والأنصار كانوا فلاحين !!
أقول : هذه الحادثة العجيبة, تمثل أنموذجاً متكرراً لتلك الدمي الفكرية الملوثة ، التي يزخر بها واقع الناس قديماً وحديثاً!!
تأمل (لو غير أكّار قتلني) يا للخزي والعار !
لقد ظل هذا المأفون أسيراً في معتقل الخرافة والتقليد, متشبثاً بعناده البغيض, وقناعاته الهزيلة حتى أخر قطرة من جراحه النازفة ، وقد برك منهار القوى, مهيض الجناحين ، وعن يمينه وشماله تسع وستون جيفة ، تحوم حولها الغربان ، وسبعون أسيراً تئن بهم السلاسل يوم بدر, دون أن يستيقظ له ضمير أو يحيا له قلب!! .
إن المرء ليتساءل تُرى ما الذي يدفع هذا الفرعون وأمثاله إلى هذا (الإخلاص العجيب !!) لهاتيك الرؤى والأفكار, والمبادئ والأهداف ؟؟ فلا يمضي كبير وقت إلا ويتمثل لك الجواب ، شاخصاً في أحد أمرين :
إما تعصبٌ مقيت ، أو جهلٌ فاضح بهيئته المركبة !!
إما تعصبٌ للمعتقد والمبدأ والهدف ، مهما بدأ عواره, وظهرت سوءته ، أو جهل مركب يفقد معه صاحبه المقدرة على التمييز بين الحق والباطل؛ فيظل مهرولاً في الاتجاه المعاكس !!
ويبدو أنّ (جهلاً) له آباء كُثر وليس أباً واحداً صرعه غلامان فلاحان !!
فأنّى قلّبت ناظريك في طول الزمان وعرضه, وعلى سعة المكان و ضيقه؛ فسيتمثل لك التعصب والجهل في شخوص لا حصر لها, ما بين علماني حاقد ، وحداثي ملحد ، وكاتب ماكر ، وممثل فاجر، ورياضي مخدوع !!
ومن هنا كان لزاماً على حملة الحق ألا يعيروا قبح طوية البعض كبير اهتمامهم, ذلك أن بقاء فئام منهم ما بقي الزمان هو قدر مقدور ، ولوح مسطور ، فالواجب مدافعتهم ودعوتهم ,لا التأسف عليهم أو تفتيت القلب حسرة عليهم !!
وعلى سبيل المثال فإنّ ما يسطره الصحافيون كلّ يوم من المقالات الطافحة بالسموم لا ينبغي أن يقابل بالحوقلة والاسترجاع, وكيل السباب والشتائم, فتلك أساليب غير كافية لمواجهة الباطل وتحجيمه !!
ولما كانت الصحافة أسيرة في يد العلمانيين والإباحيين أصبحنا نضع أيدينا على قلوبنا كلّ صباح خوفاً من قلم متهور, أو مقالة مشبوهة, دون أن نسعى جادين لصنع الصحافة الإسلامية اليومية, ولو عبر شركات مساهمة..
وفي عصر الانترنت لم يعد أحد يخشي عقبة التصريح ,وإذونات الدخول, بل لسنا بحاجة إلى صحافة ومجلات سياسية أصلاً لعدم ملائمة الأجواء في معظم ديار الإسلام لكن المطلوب صحافة شعبية نخاطب من خلالها العامة على اختلاف طبقاتهم, بخطاب هادئ رصين, يكون بديلاً للخطاب العلماني البغيض الذي لا يقرأه إلا كُتابه باعتراف كبارهم في أكثر من مناسبة !!
إن تسخير الإمكانات - مهما كانت متواضعة- لدحض الشبهة ، وتفنيد الفرية هو الأسلوب الأمثل لمكافحة الفساد الفكري والتغريبي القادم بقوة!
وإن إنشاء المؤسسات الإعلامية الفاعلة, القادرة على المصاولة والمراوغة أولى أحياناً من تأثيث مسجد, أو تفطير الصائمين, وإن قصر الإنفاق الخيري على مجالات تقليدية محدودة يعد في واقع الأمر جموداً, وسوء فهم لأصول الإسلام, وحقائق الدين وطبيعته الرحبة, وأهدافه البعيدة!
وإنّ إفساح الفضاء كذلك لقنوات العهر والفساد؛ لتعمل بأقصى إنتاجية دون مزاحمة جادة من حملة الرسالة بدعاوى متنوعة على رأسها عقم الجعبة الإسلامية من البديل الجذاب والمؤثر؛ لهي جناية فادحة لها ثمراتها المؤلمة ، حسبك منها إنكباب الجماهير على كلّ فاسد وهدام إذ لا خيار لهم غيره
ولكنّ إنشاء القنوات الهادفة ، التي يقوم عليها العلماء المخلصون ، وطلبة العلم العارفون, هو الحل الأمثل لمقاومة إسفاف القنوات الماجنة , وكبح جماح ضلالها!! وقليلُ الحق يهزم كثير الباطل فالله يقول : ((بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ )) (سورة الأنبياء: 18) .
والله المستعان ,,,
============(6/62)
(6/63)
الأمن الفكري
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُهُ ورسولُهُ .
أخوةَ الإسلامِ: نحتاجُ إلى الأمنِ الفكريِّ كحاجتِنا إلى الأمنِ الغذائي أو أشدَّ ، ونحتاجُ إلى الصِّحةِ النفسيةِ كحاجتنا إلى الصحةِ الجسديةِ أو أشدَّ.
وليس أضرَّ على الأمةِ والمجتمعِ مِنْ رواجِ فكرٍ دخيلٍ يُبلبل العقولَ ويُوحشُ القلوبَ ، ولا شيءَ أسوأُ مِنْ تَطاحُنِ الأفكارِ لا تَلاقحُها ، وحين تُخلخلُ الثقةُ بالمُسَلَّمَاتِ، وتَطالُ التهمُ علماءَ الأمةِ ، وروادَ الإصلاحِ والفكرِ فيها، فلا تَسألْ عنِ التشنيعِ بغيرِهم ، والبُهتانِ لِمَنْ دونََهم ، وفرقٌ بينَ الاختلافِ المُثرِي، والتنازعِ المُفضِي للفشلِ وذهابِ الريحِ، والأدبُ القرآنيُ واضحٌ ، والنهيُ شديدٌ في هذا الباب . (( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (سورة الأنفال: 46).
إنَّ مَنْ يُراقبُ ساحتَنا الفكريةَ، ويُتابعُ مُنتدياتِ الحوارِ، وأعمدةَ الصحفِ، وزوايا الإعلامِ الأخرى، يَرى مِنْ ذلك كلِّه عَجباً... وبوادرَ خطرٍ ، يرى العقلاءُ و ميضَ النارِ مِنْ خِلالِ الرمادِ .. ويخشون ضرامَ النارِ مِنْ مُستَصْغَرِ الشررِ، لقد بلغ السيلُ الزُبا، وتجرَّأ على الثوابتِ ، مَنْ لا يزن الأمورَ، أو يتحسبُ لعواقبِها ، وأصبحتِ الكلمةُ بلا زمامٍ أو خُطامٍ ، تطيرُ في الآفاقِ تحملُ الهدمَ، وترسمُ معالمَ التشكيكِ، وتُؤذي الصالحين، ويَحتارُ لها العوامُ، ويَتحسَّسُ مِنْ آثارِها العالِمون، ويَتبرَّمُ منها العقلاءُ والمنصفون .
وفي المقابلِ استُنفرَ أقوامٌ ولوَّحوا بلغةِ الحسامِ ظنُّوه الأسلوبَ الأوحدَ للحوارِ ، وإذا كان التطرفُ مرفوضاً سواءً كان ذاتَ اليمينِ أو ذاتَ الشمالِ، فالغلوُ كالجفا نَمَطانِ بَعِيدانِ عَنِ الوسطيةِ والاعتدالِ ، وهما سِمةُ هذهِ الأمةِ المُسلمَةِ .((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) (سورة البقرة :143).
(( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (سورة الأنعام: 152) .
نعم ينبغي أنْ تكونَ هناك مبادرةٌ مِنْ قِبَلِ كلِّ الأطرافِ ، لردعِ أي تحفيزٍ أحمقَ نحوَ الانفصامِ الاجتماعيِ ، وخَلقِ عداواتٍ محليةٍ نحن مُشغولون عنها بغيرِها، ولكنَّا معِ ذلكَ لا نرغبُ أن تصلَ الأمورُ إلى ما وصلتْ إليه ، كاتبٌ يكتبُ وآخرُ يُهدد، هذا يعتبره يكتب مقالة طريفاً ومقابلة يراه سخريةً واستهزاءً إنها رسالةٌ ذاتُ دلالةِ ، تلك التي نشرتْها جريدةُ الرياضِ، واستغربَ رئيسُ التحريرِ أنْ يُهددَ منها حينَ كتبَ مقالاً له بعنوان (اللحية الغانمة) ، وقال : إليكم الرسالةُ الواردةُ إليَّ أنشرُها بنصِها كما وردتني:
رسالتي لكَ باختصارٍ أولاً: تكتبُ رسالةً تعتذرُ فيها عَنْ هذا الموضوعِ وعَنِ المواضيعِ الأخرى .
ثانياً: أنْ تُعلِنَ أنَّكَ كنتَ منافقاً وتُعلنَ أنني متوقفٌ .
ثالثاً: إذا لم يُطبق هذا الأمرُ في أسبوعٍ فانتظرِ النهايةَ ، فإنَّ مَنْ استهزأ بشيءٍ مِنْ سُنَّةِ النَّبيِ r ، فإنَّ النَّبِيَّ قد أباحَ دمَهُ، وأنا بإذنِ اللهِ أولُ مَنْ سيُطبِّقُ هذا في شريعتِهِ ، فسأذبحُكَ إنْ لمْ تَسْتَسلِم وتَعتدِلْ، ورسالةٌ أخيرةٌ : أنا لستُ مِنَ القاعدةِ ، ولا مِنْ أبنائِها ولا أنظرُ إليهَا، ولكنْ مِنْ مُحبِّي سنةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، واللهُ الموفقُ، فإمَّا أنْ تُوافقَ شُروطِي وإمَّا الموتُ. (جريدة الرياض 29/محرم/1425هـ ) مَنْ ؟ ومَنْ ؟ ومَنْ ؟ ) إنَّنا لا نريدُ للأمورِ أنْ تصلَ إلى هذا الحدِ، والمُفترَضُ أنْ تُوجَّهَ طاقتُنا الفكريةُ لمحاورةِ ونقدِ أعدائِنا ، الذين يتربَّصون بنا، ويريدون أنْ يسلُخُونَنَا مِنْ هُوِيتنا وإرادتِنا... وأنْ لا ينجحَ العدوُّ في نقلِ المعركةِ بينَنا.(6/64)
لقد سُوِّدت الصحفُ مُؤخراً برديء الكلامِ ، وسيلٍ مِنَ التهمِ، ومحاولاتِ الانتقامِ والتصيّدِ، وكلُّ مَنْ انحرفَ عَنِ الصراطِ المستقيمِ أثقلَ كاهلَ أمتِهِ بالرزايا والخطايا، فالحداثيون حين اختلفوا معَ ثوابتِ الحضارةِ وهَمَّشُوها، تحولوا إلى هَدامين ودعاةِ سوءٍ في الأفكارِ والأخلاقِ، والثوريون حينَ تهيأتْ لهم الأسبابُ طافوا بقومِهم على سقطِ الحضاراتِ، والمتابعُ لمُعطياتِ الفكرِ السياسيِ الإسلاميِ يجدُه جماعَ الخيرِ كلِه ، فلا هو حفيٌ بعنفِ الثوريين ولا بمداهنةِ المُتزلفِين.
هكذا قال الدكتور الهويمل في أحدِ مقالاتِه النقديةِ للواقعِ، (د. حسن الهويمل، مقال بعنوان: أيها المستجيبون والممانعون عقلنوا خطابكم، الجزيرة 25/1/1425هـ).
أيها الأخوة المسلمون :
لقد بُلينا مِنْ قبلُ - وظهرتِ البلوى أكثرَ في هذهِ الأيامِ- بدهاقنةٍ للعلمنةِ والتغريبِ، يطرحون غريبَ القولِ بلا خوفٍ ، ولا ترددٍ، ولا حياءٍ ، وفي طروحاتِهم طوامٌ ومقحماتٌ (وقد سبق الحديثُ عن هؤلاء).
وثَمَّةَ أُغَيْلِمَةٌ بدأت تقحمُ المُهْلِكَاتِ، وتَتَسلَّقُ جُدرَ المُسَلَّماتِ ، وتَرمِي بشررِها الأكابرَ مِنَ العلماءِ، تَلمزُ هذا... وتَتَّهمُ ذاك، وتَنسبُ إلى بعضِهم زُوراً وبهتاناً رديءَ القولِ... وترميهم بقبيحِ التُّهمِ، وتتجرأُ على الفتوى، وتُبيحُ لنفسِها الاجتهادَ، وتعاظمتْ في نقدِهَا حتَّى لم تُبقِ ولم تَذرْ، وآخرون شبابٌ أخيارٌ ، وإنْ كانوا قلةً لكنْ جَنحتْ بهم القراءةُ إلى مواقعَ الهوى ، ومصايدَ الشيطانِ، بدؤوا مُبَكِّرين - ودونَ مَناعةٍ تُذكَرُ- في قراءةِ كتبِ فلسفيةٍ قديمةٍ ، تُغرِقُ في الجدلِ، وتُهمِّشُ النصَّ الشرعيَّ، وتُعظِّمُ العقلَ... أو كتاباتٍ حديثةٍ تَنطوِيْ على العَصْرَنَةِ أو العلمنةِ والتغريبِ، وتَتَّخِذُ مِنَ الجدلِ وسيلةً لإسقاطِ الثوابتِ، وتَهْميشِ الحقائقِ ، والتشكيكِ في المُسَلَّماتِ... وكانتْ حصيلتُهم منها قلقاً ، وشكاً، وحيرةً ، وانقطاعاً، وضعفاً في الإيمانياتِ، وهشاشةً في السلوكياتِ، وكان لهؤلاءِ الشبابِ ولا يزالُ مندوحةٌ عنها بكتبِ سليمةِ المنهجِ تُعمّقُ الإيمانَ، وترسخُ العلمَ الشرعيَّ، وتُنيرُ السبيلَ ، وتَهدي للتي هي أقومُ ... وهذهِ الفئةُ وإنْ قلتْ - أخشى إنْ طال مسارُها في هذا الطريقِ أنْ تكونَ إشكاليةَ المستقبلِ... ومعوقاً عَنِ الإنتاجيةِ والبذلِ حِينَ تُشغلَ نفسَها أو غيرَها في الجدلِ... وتُعنى بالنقدِ لكلِّ شيءٍ... ولكلِّ أحدٍ! نعم إنَّ النقدَ الهادفَ سيبلٌ للتطويرِ والإصلاحِ... ولكن الجدلَ ما أُوتيَهُ قومٌ إلا ضَلُّوا، وفرقٌ بينَ مَنْ يُمارسُ العطاءَ والبذلَ مع النقدِ، وبينَ مَنْ هو حفيٌ بالنقدِ ، مولعٌ بالجدلِ ليس إلا.
إنَّه حقٌ على الأغيارِ ورُبَّانِ السفينةِ ، ورجالِ التربيةِ، وقادةِ الفكرِ، وأهلِ الذكرِ أنْ يَتهيَّئُوا لهذهِ المخاطرِ... وأنْ يسارعوا لعلاجِ هذه الظواهرِ... فالمسلمون نصَحةٌ، ومِنَ جُملِ الإيمانِ أنْ يُحبَّ المرءُ لأخيهِ ما يُحبُّهُ لنفسِه، وينبغي أنْ تُحفظَ الطاقاتُ وتُوجَّهَ الملكاتُ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (سورة التوبة:71).
الخطبة الثانية
أيها المسلمون :
وما لم يُصلحِ المُفسدون ما أفسدوا أو يَتدخلْ ولاةُ الأمرِ مِنَ الأمراءِ والعلماءِ في وضعٍ حدٍ لهذه الطروحات الفَجَّةِ، والمهاتراتِ المُفرقةِ - فسيَصطلي المجتمعُ بنارِها- وإنَّ أيةَ أمةٍ يتوفرُ لها أمنٌ وافرٌ، واستقامةٌ راشدةٌ، ورخاءٌ ونعمة ثمّ لم تكن شاكرةً لهذه النعمِ، قائمةً بحقوقِها، مجاهدةً لمن ينالُ منها آطرةً للسفهاءِ .. انقلب الأمنُ خوفاً والاستقامةُ انحرافاً، والرخاءُ فقراً، وفي أمثلةِ القرآنِ عبرةٌ لمن اعتبر (( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)) (سورة النحل:112).
إنَّ الانحرافَ الفكريَّ (قديم لمن تأمّل حلقاتِ التاريخِ ) وطالما كان لأساطينِ الاعتزالِ ، والرفضِ،والمتصوفةِ، وأمثالِهم دورٌ وأثرٌ... وكان لأئمةِ السلفِ ، وأصحابِ الدعوة ، دورٌ وأثر ٌحتى نفع اللهُ بعلمِهم وجهادِهم، فعاد شاردون... ، وهدى اللهُ مِنَ الضلالةِ قوماً كانوا عَمِيْنَ... وبلغ الحالُ ببعضِهم أنْ قال :
وكنتُ جنداً من جنود إبليس حتى ارتمى بي الدهرُ فصار إبليسُ من جندي
وكلُّ مَنْ لم يعتصم بالكتابِ والسُنَّةِ ، وما عليه سلفُ الأمةِ فمآلُه الحيرةُ ، والاضطرابُ ، وتجربةُ الرازي واضحةٌ حين يقولُ :
نهايةُ أقدام العقولِ عِقالٌ وأكثرُ سعيِ العالمين ظلالٌ(6/65)
ولم نستفدْ من بحثِنا طول عمرِنا سوى أنْ جمعنا فيه قيل وقالوا
وأرواحُنا في وحشةٍ من جسومِنا وغايةُ دنيانا أذى ووبالُ
ويقول الشهرستاني:
لعمري لقد طفتُ المعاهدَ كلَّها وسيرتُ طرفي بينَ تلك المعالم
فلم أرَ إلا واضعاً كفَّ حائرٍ على ذقنٍ أو قارعاً سنَّ نادمِ
وأبلغُ من ذلك كلِّه وأصدقُ قوله تعالى: (( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)) (سورة طه: 123).
قال ابنُ عباس - رَضِيَ الله عَنْهُمَا- : ( تكفَّل اللهُ لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أنْ لا يضلَّ في الدنيا ولا يَشقى في الآخرةِ ) (التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية الشيخ عبد العزيز الرشيد ص 378).
يا عَبدَ اللهِ: تأملْ هديَ القرآنِ والسُنّةِ في الاجتماعِ والاختلافِ، وستجدُ من ذلك قوله تعالى: (( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)) (سورة آل عمران:103).
وقوله: (( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)) (سورة الأنعام: 159).
وأخبر عليه الصلاة والسلام عن افتراقِ هذهِ الأمةِ ، والمخرجِ منها، وذلك بلزومِ هديِه وهديِ صحابتِه رضوانُ الله عليهم (( مَنْ كَانَ عَلَى مِثل مَا أَنَا عَلَيْه الْيَوْمَ وَأصْحابِي )) .
وخيرُ الأمورِ السابقاتُ على الهدى وشرُّ الأمورِ المحدثات البدائعُ
وقال آخر :
تخالف الناسُ فيما قد رأوا ورووا وكلهّم يدعون الفوز بالظفر
فخذْ بقولٍ يكون النصُّ ينصرُه إمّا عن اللهِ وإما عن سيدِ البشر
(السابق378 )
أيها المسلمون :
إنّنا مطالبون جميعاً بالحفاظِ على وحدتِنا، وسلامةِ فكرِنا، ومعتقدِنا، والعزةِ بإسلامِنا، والترضي عن سلفِنا... ، ومع أهميةِ الشَّفافيةِ، والصراحةِ ، والحوارِ، فلابدَّ من قيودٍ تحكُم ، وضوابطَ تُنظمُ ، و إلا تحوَّلتِ المصارحةُ إلى مصارعةٍ، والشفافيةُ إلى تُهمٍ وأنانيةٍ ، والحوارُ إلى ساحةٍ للمعاركِ ، وتلويحٍ بالانتقامِ .. ، وكلُّ ذلك خسارةٌ ، وضياعٌ وهدرٌ للطاقات، وفرصةٌ لتسللِ الأعداءِ ، وإذا كان على العوامِ ألا يتأثروا بكلِ صائحٍ ، وأنْ يتحروا الحقَّ ، ويسألوا أهلَ الذكرِ - فعلى العلماءِ خاصةً- دروٌ كبيرٌ في بيانِ الحقِ وردِّ المُبطلين- وهذا الإمامُ الذهبيُّ رحمه اللهُ ينقلُ لنا تجربةً في عَصْرِهِ ( القرن الثامن ) عن فئةٍ كانت تَنتقصُ الأكابرَ مِنَ العلماءِ بلسانِ الحالِ ، والمقال ، ويقولُ عنهم: من أحمد ؟ وما ابن المديني ؟ وأي شيء أبو زرعة وأبو داود ؟ هؤلاء مُحدِّثون ولا يدرون ما الفقهُ ؟ وما أصولُهُ ؟ ولا يفقهون الرأيَ، ولا علمَ لهم بالبيانِ ، والمعاني ، والدقائق، ولا خبرةَ لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون اللهَ تعالى بالدليلِ، ولا هم منْ فقهاءِ المِلَّةِ، فاسكت بحلمٍ أو انطق بعلمْ ، فالعلمُ النافعُ هو ما جاء عن أمثالِ هؤلاء ، ولكنْ نسبتُك إلى أئمةِ الفقهِ كنسبةِ مُحدِّثي عصرِنا إلى أئمةِ الحديث، فلا نحن ولا أنت، وإنما يَعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ ذوُ الفضلِ، فمن اتقى الله راقبَ اللهَ واعترفَ بنقصِه، ومَنْ تَكلَّم بالجاهِ وبالجهلِ، أو بالشرِّ والباو فأعرضْ عنه وذرْهُ في غيِّه فعُقْباهُ إلى وبالٍ، نسألُ اللهَ العفوَ والسلامةَ. ( تذكرة الحفاظ 2 / 628 ) .
=============(6/66)
(6/67)
إني أتعس امرأة
هذا الاعتراف رسالة كتبتها الممثلة الأمريكية (مارلين مونرو) التي انتحرت بعد حياة بائسة.
وقد كتبتها لفتاة طلبت نصيحتها إلى أفضل طريق للتمثيل فقالت:
إلى هذه الفتاة وإلى كل فتاة ترغب في العمل في السينما : إحذري (المجد) . إحذري كل من يخدعك بـ (الأضواء) .
إني أتعس امرأة، أفضّل البيت والحياة العائلية (الشريفة)على كل شيء.
إن السعادة الحقيقية للمرأة هي في (الحياة العائلية الشريفة الطاهرة).
بل إن هذه الحياة العائلية هي رمز سعادة المرأة، بل الإنسانية " .
وتقول في النهاية : [لقد ظلمني كل الناس، وإن العمل في السينما يجعل من المرأة (سلعةً رخيصةً تافهة)، مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة، إني أنصحُ الفتيات بعدم العمل في السينما والتمثيل، إن نهايتهن - إذا كن عاقلات كنهايتي ] [1]
إنها كلمات صادقة، صدرت من امرأة عانت الكثير من الشقاء والألم، رغم ما وصلت إليه من الشهرة والثراء، ولكنها سنة الله التي لا تتبدل، (( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)) (طه: من الآية124) .
فاعتبروا يا أولى الأبصار .
كم كنتُ سافلة
في مقابلة أجريت مع الممثلة المشهورة (بريجيت باردو).
قال لها الصحفي: لقد كنت في يومٍ من الأيام رمزاً للتحرر والفساد .
أجابت قائلة : [هذا صحيح، كنت كذلك، كنت غارقة في الفساد الذي أصحبت في وقتٍ ما رمزاً له، لكن المفارقة أن الناس أحبوني عارية، ورجموني عند ما تبت]
ثم تقول نادمة : [ عند ما أشاهد الآن أحد أفلامي السابقة، فإني أبصق على نفسي، وأقفل الجهاز فوراً، كم كنت سافلة]
ثم تواصل قائلة : [قمة السعادة للإنسان الزواج، إذا رأيت امرأة مع زوج وأولادٍ، أتساءل في نفسي : لماذا أنا محرومة من هذه النعمة ؟ ! ][2] أ . هـ .
ما أتعس الإنسان حين يبصق على نفسه، ويعترف بأنه كان سافلاً منحطاً، ولا غرابة في ذلك، فإنها ضريبة الفن والفساد والتحرر المزعوم .
[1] المرأة بين القانون والفقه لمصطفى السباعي .
[2] بناتنا بين التغريب والعفاف " للشيخ ناصر العمر .
==============(6/68)
(6/69)
الجمعيات النسائية صلاح أم ...؟!
إنَّ السببَ في دخول البلاء على ديار الإسلام، هي دعوات فاجرة، ظهرت وتدرجت بالمسلمين شيئاً فشيئاً، إلى أن وصل بهم الحال إلى ما نراه اليوم، وقد تكون هذه الدعوات قد دخلت عن طريق بعض المشاريع الخيرية، كما هو حاصلٌ في الجمعيات النسائية التي تُسمى بالخيرية، فتعمل أعمالاً فيها نفعٌ للمجتمع، كاستقبال المعونات والزكوات والصدقات من الناس، وتأخذ ما زاد عن الحاجة من الولائم، مما قد يرمى في أماكن جمع النفايات، فتوزع ذلك بين الفقراء، ولكن هذه الجمعيات النسائية لا ينطلي جيلها على من سير أحوال الأمة الإسلامية جمعاء، فإنَّ الشر ما دخل عن طريقها إلاَّ لكونها ذريعةً لخروج المرأة من بيتها؛ ولأنَّه يتسلل إليها عناصر مشبوهة، فتنشر أفكارها من خلالها، وتقوم بنشاطاتٍ مخالفة للإسلام، وتكمنُ خطورة هذه الجمعيات في صعوبةِ مراقبتها، لكونها أماكن مغلقة، فلا يدري ما يدورُ في داخلها، وهي إحدى الوسائل التي استعملت لإفساد المرأة في بلاد المسلمين، ولنأخذ مثالاً على ذلك مصر؛ لكونها من أوائل البلدان الإسلامية التي مرت بهذه التجربة، والتي كانت عاقبتها وخيمة جداً، يراها كل مبصر، فحينما كانت الدول العربية تخوض حربها الأولى مع اليهود، تكون حزبٌ نسائي اسمه حزب بنت النيل في عام 1949م، ولم يمضِ قليل حتى أصدر ذلك الحزب الناشئ مجلة اللغة الفرنسية، ثُمَّ أصدرَ مجلةَ البلبل للأطفال، وبعد أشهرٍ قليلة من تكوين ذلك الحزب، سافرت رئيسته إلى بريطانيا، فقوبلت بحفاوةٍ عظيمة، ورحبت بها الصحف البريطانية، ونشرت عنها الأحاديث العديدة، التي تصورها بصورة الداعية إلى تحرير المرأة المصرية، من الأغلال التي تثقل كاهلها، وتعوقها عن التقدم، ومنها أغلال الحجابِ والطلاق وتعدد الزوجات، وقد ازدادت صلة هذا الحزب بالاستعمار وضوحاً، حينما نشرت مجلة روز اليوسف بعد ذلك مقالاً جاء فيه، قولها: (استقالت عضوة في إحدى الهيئات النسائية، وأرسلت استقالةً مسببةً إلى رئيسة الهيئة، تتهمهمُ فيها بأخذ إعاناتٍ مالية من إحدى السفارات الأجنبية، وقد قبلت الرئيسة الاستقالة دون عرض الخطاب على مجلس الإدارة)، ولم يمضي إلاَّ قليل، حتى أكدت للجمهور المصري في عددها (24) هذا النبأ، وزادته وضوحاً حيث قالت : (( تشترك كل من السفارات البريطانية والأمريكية بمبلغ ألف جنيه سنوياً، في بعض المجلات التي يصدرها حزب بنت النيل))، هكذا كُشف الغطاء، فظهر المستورُ، وعرف الناسُ سرَّ هذه القوة الجبارة، التي استطاعت إصدار ثلاث مجلات مختلفة في آنٍ واحد، وعلى ورق مصقول، وبدأت نساء هذه الجمعيات في الاتجاه على المظاهرات، مطالبات بالنقمة نفسها، إلغاءَ الطلاق، وتعدد الزوجات، وأبرقت جمعية سان جيمس النسائية بإنجلترا تهنئ الهيئات النسائية المصرية، على كفاحها من أجل الحقوق السياسية، وتعلن تأييدها لها باهتمامٍ عجيب من كل ناحية، لا يفسرهُ إلاَّ اتفاق هذه النواحي في موقفها من مصر، وقد شوهدة بعض القرارات التي اتخذت في مؤتمر أثينا، الذي حضرته رئيسة بنت النيل سنة 1951م، كشفت سرَّ اهتمام الهيئات النسائية الدولية بحركات الأحزاب النسوية في مصر، حينما أيدت مندوبة الحزب المصري سياسة التسلح الدفاعي، التي يندرج بها الاحتلال البريطاني للبقاء في أرض الوطن، ورفض الجلاء، ومثل هذا الحزب النسائي امتداداً لتلك الحركة التي قامت بها نازلي فاضل، وهدى شعراوي. فأما نازلي فاضل هذه فجدها إبراهيم باشا الذي هدم بدرعية، وفعل أفاعيله المعروفة، ونازلي هذه كانت أداة في يد الإنجليز، وذلك أن الصطبي الحقود مرقص فهمي، حينما أصدر كتابه ( المرأة في الشرق)، الذي دعا فيه صراحة القضاء على الحجاب الإسلامي، ودعا لإباحة اختلاط المرأة المسلمة بالأجانب عنها، ولتقييد الطلاق، وإيجاب وقوعه أمام القاضي، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين المسلمات والأقباط النصارى، فقد أحدث هذا الكتاب ضجةً عنيفة، فبدأ الاستعمار الإنجليزي إثر هذه الضجة يبحث عن وسيلة لشد أزر مرقص فهمي، فلجأ إلى الأميرة نازلي فاضل ليستعجلها على عمل شيء يساندُ مرقص فهمي، من خلال صالونها الذي افتتحتهُ آنذاك، ليكون مركزاً تبث منهُ الدعوة إلى التغريب عامة، وإلى تحرير المرأة خاصة، وكان من نتيجة تعاونها مع الإنجليز على شدِّ أزر مرقص فهمي، أن ضغطت على قاسم أمين الذي ألف كتابهُ تحرير المرأة، وما بعده من كتب،(6/70)
وأما هدى شعراوي فهي ابنة محمد باشا سلطان، الذي كان يرافق جيش الاحتلال البريطاني في زحفه على القاهرة، ويدعو الأمة إلى استقباله وعدم مقاومته، ويهيبُ بها إلى تقديم كافة المساعدات المطلوبة له، وقد سجل له التاريخ تقدمهُ مع فريق من الخبراء بهديةٍ من الأسلحة الفاخرة إلى قادة جيش الاحتلال، شكراً لهم على إنقاذ البلاد، وقد قوبلت خدمات سلطان باشا هذه من الإنجليز بالإنعام عليه بألقاب تخوله للقب سير، وأشاروا على الخديوي فمنحه عشرة ألاف من الجنيهات الذهبية، ولذلك فغير مستغرب أن ينتج هذا الأفعى تلك العقرب هدى شعراوي، فهي ذرية بعضها من بعض، فهدى هذه هي التي أكدت الإتحاد النسائي المصري عام 1923م، الذي أصبح يمارسُ نشاطه، حتى استطاع أن يمهدَ لعقد المؤتمر النسائي العربي عام 1944م، وقد حضرت مندوبات عن الأقطار العربية المختلفة، واتخذت منه القرارات المعتادة وفي مقدمتها : الطلاق وتعدد الزوجات، والمساواة التامة مع الرجال، وزاد على ذلك المطالبة بحذف نون النسوة.
===========(6/71)
(6/72)
مبررات منع المرأة من قيادة السيارة
مبررات منع المرأة من قيادة المركبات من المنظور التربوي الإسلامي
تأليف
د . عدنان حسن باحارث
آية وحديث
قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((رُويْدَك يا أنْجَشَةُ لا تكْسِرِ القَوَارِيرَ)) [صحيح البخاري].
مقدمة البحث
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن ظروف الحياة الاجتماعية المعاصرة تختلف عن فترات زمنية ماضية في العديد من جوانبها، فقد أصبح التجديد، والتطور، والتغير سمات بارزة لطبيعة الحياة المعاصرة، ولم تعد لدى غالب فئات المجتمع تلك القناعات السابقة التي كانت تحدُّ من عنف تيار التغيير الجارف. وقد أسهمت الطبيعة المتسارعة للحياة المعاصرة في زعزعة كثير من الثوابت الأخلاقية والعرفية، وشارك في ذلك التقدم التقني الهائل، وما رافقه من الإنتاج الصناعي المذهل، الذي انفتحت أمامه أسواق العالم التجارية ـ رغبة ورهبة ـ في الوقت الذي لم يكن للأمة المسلمة ـ ضمن هذه المنظومة العالمية المتسارعة، والتطور العلمي والتقني ـ أيُّ دور جاد في هذا البناء الحضاري المعاصر يُخوِّلها فرضَ معاييرها الاعتقادية والأخلاقية، أو حتى لاحترامها والاعتراف بها ضمن ثقافات الأمم المتغلبة، مما أوقع الأمة المسلمة في شباك مصالح الآخرين المادية والفكرية، وزاد بالتالي من تمزُّقها وتفككها.
ولقد عاشت الأمة زمنًا ليس بالقصير تقاوم رياح التغريب، وتدفع عن نفسها موجات التغيير، إلا أن هذا الصمود وتلك المقاومة لم تدم طويلاً، حتى أخذت حصون الأمة تتداعى، ومعاقلها تتهاوى أمام قوى الغزو الفكري الجارف. حتى بلغت الأمة عصر العولمة، والانفتاح الثقافي العالمي الذي لم يكن ليبقي للأمة خصوصية تتميز بها، أو أصلاً تلوذ به، حتى وصل الداء إلى أخصِّ خصوصيات الأمة الاجتماعية، وأهم ما يُميِّزها ـ اجتماعيًا ـ عن غيرها وهي قضية المرأة، ونوع الحياة التي يجب أن تحياها.
لقد أدرك الغربيون أن تغيير نمط الحياة الاجتماعية للأمة المسلمة لا يمكن أن يتم إلا من خلال تغيير أسلوب وأهداف تربية المرأة المسلمة، فكانت الهجمة ـ منذ فترة ليست قصيرة ـ على الوضع الاجتماعي للمرأة المسلمة في غاية القسوة، توَّجتها ـ في السنوات الأخيرة ـ مجموعة من المؤتمرات العالمية والندوات المحلية تُؤصِّل من خلال توصياتها توجهات عالمية عامة توحِّد نهج تربية المرأة في جميع أقطار العالم، وتُذيب الفوارق الثقافية، والأنماط الاجتماعية لتصب نساء العالم في قوالب ثقافية من شكل واحد، لا يفرِّق بينهن سوى ما تفرضه الجينات الوراثية من الألوان والأشكال.
ولقد عانت المملكة العربية السعودية منذ زمن ـ ولا سيما في الفترة الأخيرة ([1]) ـ من هجمات شرسة تستهدف الشريعة الإسلامية، ونمط الحياة الاجتماعية المحافظ، مما جعلها مقصودة من الدول الغربية ومنظماتها الإنسانية بالنقد والإساءة، تحت ستار حقوق الإنسان، مستهدفة بذلك وضع المرأة في بلاد الحرمين، وحقوقها المسلوبة ـ حسب زعمهم ـ في شكل لباسها، وأسلوب سفرها، ونوع ارتباطها الأسري، ومجالات عملها، وغيرها من قضايا المرأة المسلمة الحيوية.
وقد كان من بين هذه الانتقادات الموجهة إلى بلاد الحرمين حرمان المرأة من حق قيادة المركبات أو ما يسمى اليوم بالسيارات، بحجة أنه أصبح حقًا عامًا تستمتع به كل امرأة راغبة في الدول الأخرى. دون نظر جاد لعواقب الأمور، وطبيعة المرأة، والخصوصية التي تتميز بها بلاد الحرمين الشريفين.
ولقد كان هذا الموضوع موضع اهتمام الباحث منذ زمن، ولا سيما بعد أن احتدم الصراع عبر وسائل الإعلام بين المشجعين والمانعين، رغبة في بيان وجه الصواب ضمن المنهج التربوي الإسلامي، الذي يعتمد الكتاب والسنة أساسًا للانطلاقة الفكرية والعلمية.
مشكلة البحث:
تتلخص مشكلة البحث المطروحة للدراسة في الإجابة عن السؤال الرئيس الآتي:
ما مبررات منع المرأة من قيادة المركبات من المنظور التربوي الإسلامي؟
ويتفرع عن هذا السؤال الرئيس مجموعة من الأسئلة الفرعية التي يسعى البحث للإجابة عنها وهي على النحو الآتي:
1. ما المبرر الفقهي لمنع المرأة من قيادة المركبات ؟
2. ما المبرر الأخلاقي لمنع المرأة من قيادة المركبات ؟
3. ما المبرر الصحي لمنع المرأة من قيادة المركبات ؟
4. ما المبرر الفطري لمنع المرأة من قيادة المركبات؟
5. ما المبرر الاقتصادي لمنع المرأة من قيادة المركبات؟
6. ما المبرر التاريخي لمنع المرأة من قيادة المركبات؟
أهمية البحث:(6/73)
تعاني الأمة المسلمة المعاصرة مشكلات اجتماعية واقتصادية كبيرة، وتأتي قضايا المرأة بطبيعتها وخصوصيتها في نظام الاجتماع الإسلامي لتضع الأمة المسلمة في حرج أمام العالم من حولها وهو يخوض في نظامه العالمي الجديد؛ ليصهر الشعوب المستضعفة في قوالب ثقافية عالمية متشابهة.
ولئن كانت قضية قيادة المرأة للمركبات أو السيارات ـ ضمن هذه الموجة العالمية ـ لا تعدو أن تكون جزئية ضمن قضايا كثيرة وكبيرة متعلقة بالمرأة إلا أنها حلقة من حلقات تماسك المجتمع، بانحلالها تنحل حلقات أخرى كثيرة، تنتهي بهتك خصوصيات المرأة المسلمة، ودخول المجتمع المحافظ في قضايا اجتماعية جديدة ومتشعبة كان بالإمكان تفاديها، والوقائع والشواهد التي تدل على ذلك في كثير من الدول العربية والإسلامية لا تخفى.
والبحث في هذه المسألة يلقي الضوء بصورة علمية موثقة ـ ضمن التوجه التربوي الإسلامي ـ على المبررات التي من أجلها ترجَّع اختيار المنع من قيادة المرأة للسيارة، مما يدعم قرار وزارة الداخلية بالمملكة العربية السعودية في منع المرأة من مزاولة هذه المهارة، ويضيف البحث في هذا الميدان موضوعًا لم يسبق بحثه تربويًا - في حد علم الباحث- كما سيتضح من واقع الدراسات العربية السابقة، ومن جملة ما تقدم تظهر أهمية البحث.
أهداف البحث:
يهدف البحث من خلال فقراته إلى تحقيق الغايات الآتية:
1. إلقاء الضوء على المبررات المختلفة لمنع المرأة من قيادة المركبات.
2. الوقوف على التوجيه التربوي الإسلامي في مسألة قيادة المرأة للمركبات.
3. تحقيق القناعة الفكرية لدى المرأة المسلمة وأوليائها بعدم المطالبة بقيادة المركبات.
4. دعم قرار وزارة الداخلية بالمملكة العربية السعودية في منع المرأة من قيادة المركبات.
منهج البحث:
يتشعب البحث في العديد من الميادين العلمية التي تتطلب استخدام أكثر من منهج لمعالجة مشكلة البحث والإجابة على تساؤلاته، فقد استخدم الباحث المنهج الاستنباطي الذي يعد أهم المناهج المستخدمة في بحوث التربية الإسلامية، وذلك في معالجة الناحية الشرعية من البحث، وما يتعلق بها من النصوص والمنقولات الشرعية المختلفة. كما استخدم الباحث المنهج الوصفي الذي يعد أوسع المناهج التربوية استخدامًا، وذلك في معالجة المبرر الأخلاقي، والصحي، والفطري، والاقتصادي.
وأما المبرر التاريخي فقد استخدم الباحث لمعالجته المنهج التاريخي فيما يتعلق بتاريخ قيادة المرأة للمراكب.
الدراسات السابقة([2]):
1. دراسة محمد عيسى فهيم وآخران (1405هـ) بعنوان: "السلوك المزعج الصادر عن السائقين في أثناء القيادة ـ دراسة ميدانية بمدينة مكة المكرمة". كان هدف الباحثين التعرف على رأي أصحاب السيارات تجاه تصرفات السائقين المزعجة ومدى تكرارها، مع تحديد علاقة كل من العمر والمستوى التعليمي ونوع السيارة والجنسية والخبرة بمهارة القيادة إلى إدراك السائق للسلوك المزعج الصادر عن غيره من السائقين، ودرجة الشعور بهذا السلوك المزعج. وكانت عينة الدراسة مجموعة من السائقين من فئات عمرية وثقافية مختلفة داخل مكة المكرمة، حيث وُجِّهت إليهم استبانة مكونة من خمس وثلاثين فقرة، تستطلع إدراك: مدى انزعاجهم من السلوك القيادي المزعج، حيث اتضح من النتائج أن المستجيبين على وعي كامل بما يجري من السلوك المزعج في أثناء القيادة، ويتمتعون في غالبيتهم بوعي جيد بأنظمة المرور، وقد أعقب الباحثون الدراسة بمجموعة من التوصيات.
2. دراسة عبد الله النافع وخالد السيف (1408هـ) بعنوان: "تحليل الخصائص النفسية والاجتماعية المتعلقة بسلوك قيادات السيارات بالمملكة". وقد استهدفت الدراسة التعرف على الخصائص النفسية والاجتماعية التي تميز سلوك قيادة السيارات في المملكة، مع تحليل وتقويم لهذه الخصائص، وتحديد أكثرها ارتباطًا بسلوك القيادة غير الآمن المسبب للحوادث المرورية. وقد استخدم الباحثان أربع استبانات لجمع المعلومات الأساسية للمبحوثين، وطبيعة سلوك قيادة السيارات، ونوع سمات الشخصية، والمعلومات المرورية. وقد كانت عينة الدراسة من الذكور، شاملة لمناطق المملكة من فئات متنوعة. وقد توصلت الدراسة إلى نتائج من أهمها: وجود ميل نحو المخاطرة في القيادة لدى السائقين بالمملكة خاصة من الشباب، مع مخالفة للأنظمة المرورية، وعدم مراعاة أسباب السلامة، وقد ذيلت الدراسة بمجموعة من التوصيات والمقترحات للأفراد والجهات المعنية بالحركة المرورية.(6/74)
3. دراسة ناصر عبد الله الصالح (1408هـ) بعنوان: "حوادث المرور بمدينة مكة المكرمة ـ العلاقة المكانية والاتجاهات الزمانية". وتهدف الدراسة إلى تحليل أسباب الحوادث في مكة المكرمة في ظل التوسع الهائل في أعداد السيارات وطبيعة ظروف منطقة المشاعر المقدسة. وقد اعتمد الباحث في جمع البيانات على إحصاءات إدارة المرور خلال السنوات الثلاث: 1403، 1404، 1405هـ. حيث اتضح من الدراسة كثرة الحوادث في فترات المواسم، والإجازات الرسمية. كما أظهرت الدراسة وجود علاقة بين كثرة الحوادث وخطورتها وعدد السائقين دون سن 18 سنة، وأن أكثر الحوادث تقع من السعوديين والمتعلمين والعزاب، كما بينت الدراسة كثرة حوادث النهار عن حوادث الليل، ثم أعقب الباحث دراسته مجموعة من التوصيات.
4. دراسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1410هـ) بعنوان: "حوادث السيارات وبيان ما يترتب عليها بالنسبة لحق الله وحق عباده". وقد كان هدف الدراسة معالجة أربع قضايا رئيسة هي: تصادم السيارات بعضها مع بعض، ما تحدثه بعض السيارات من دعس أو انقلاب، بيان ما يترتب على حوادث السيارات من العقوبات لمخالفة أنظمة المرور، وأخيرًا توزيع الجزاء على من اشتركوا في وقوع الحادث. وقد كشفت الدراسة عن وجود كم هائل من الذخيرة الفقهية العلمية في تراث الأمة الإسلامية حول قضايا حوادث التصادم وما يترتب عليها من أحكام الجنايات والغرامات والعقوبات. وقد عرضت الدراسة مجموعة من أمثلة الحوادث وما يترتب عليها من الأحكام الشرعية والعقوبات.
5. دراسة محمد المنجي (1993هـ) بعنوان: "دعوى تعويض حوادث السيارات" حيث شملت الدراسة قضايا كثيرة متعلقة بحوادث السيارات، والدعاوى المدنية ضد شركات التأمين. حيث عالج الباحث في فصول دراسته الجنائية، والتنظيم القانوني للدعوى ضد شركة التأمين، والحكم بالتعريض. حيث فصَّل الباحث في هذه المسائل من الجهة القانونية، وقد كان الدافع من وراء هذه الدراسة شدة حاجة الناس في العصر الحديث إلى تناول مثل هذه القضايا الشائكة الملحة بين المتضررين من حوادث السيارات وشركات التأمين، في وقت أصبحت فيه السيارات جزءًا من حياة الناس تلاحقهم بأضرارها وحوادثها في كل مكان.
6. دراسة عبد العزيز أحمد دياب (1416هـ) بعنوان: "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج". حيث كان الدافع من وراء هذا البحث كثرة الحوادث في المملكة العربية السعودية في العقدين الأخيرين كنتيجة للنمو الاقتصادي المتسارع، وما ينجم عنها من هدر للثروة واستنزاف للطاقات. وقد سعى الباحث إلى دراسة إحصائيات الحوادث المرورية في المملكة خلال الفترة من 1977م وحتى 1991م. وقد توصل الباحث إلى أن المتغيرات المستقلة التي تسهم بدرجة عالية من الثقة في تحديد الحوادث المرورية في المملكة هي: الدخل، وثمن السيارة، ووعي السائق، والحالة الفنية للسيارة، ووقت القيادة.
7. دراسة جهاد محمد قربة (1420هـ) بعنوان: "طبيعة العلاقات المجالية للحوادث المرورية داخل الوسط الحضري لمدينة الشارقة ـ دراسة تحليلية لفترة التوسع 1987م ـ 1992م". وقد سعى الباحث من خلال دراسته إلى التعرف على الحوادث المرورية التي تحدث داخل المجال الحضري لمدينة الشارقة، والوقوف على الأسباب الرئيسة وراء وقوع هذه الحوادث. وقد اعتمد في جمع البيانات العلمية على الإحصاءات والمحاضر الصادرة عن إدارة مرور إمارة الشارقة. وقد توصل الباحث إلى أن التوسع العمراني الذي شهدته المدينة كان سببًا رئيسًا في كثرة وقوع الحوادث. ثم أعقب دراسته بمجموعة من التوصيات المتعلقة بالتدريب والتوجيه، وأخرى بالتخطيط الحضري للمدينة.
8. دراسة عامر ناصر المطير (1421هـ) بعنوان: "قيادة التلاميذ للسيارات وأثرها على الحركة المرورية في المملكة العربية السعودية". تناول الباحث في دراسته مشكلة قيادة التلاميذ للسيارات وحوادثهم المرورية في مدينة الرياض، حيث أعد الباحث استبانة تم توزيعها على عينة من طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية بلغت 900 طالب من مدينة الرياض. وقد أسفرت الدراسة على أن ما نسبته 54% من طلاب المرحلة الإعدادية و87% من طلاب المرحلة الثانوية يقودون السيارات، وأن نسبة كبيرة منهم يرتكبون حوادث ومخالفات مرورية كثيرة، وأن نسبة تصل إلى ربع العينة من طلاب الثانوية تتعمد ارتكاب الخطأ المروري. كما اتضح من الدراسة أن مدينة الرياض تأتي في المرتبة الأولى من حيث عدد صغار السن دون 18 سنة المشتركين في حوادث المرور.
9. دراسة محمد حسين منصور (د. ت) بعنوان: "تدخل السيارة في حادث المرور ـ مناط مسؤولية القائد". تناول الباحث في دراسته استعراض وسائل النقل المختلفة وطبيعة حادث المرور، وتدخل السيارة فيه سواء كانت المتحركة أو الساكنة، وحوادث فتح باب السيارة، إلى قضايا قانونية أخرى متعلقة بمسألة التأمين، وأضرار الحوادث.
التعليق على الدراسات السابقة:(6/75)
من خلال الاستعراض الموجز للدراسات العربية السابقة التي وقف عليها الباحث في ضوء الموضوع المختار للدراسة الحالية اتضح أن هذه الدراسات في جملتها لم تتعرض لموضوع قيادة المرأة للمركبات، وأنها تشترك مع الدراسة الحالية في مسألة قيادة السيارات وما يتعلق بها من الحوادث، والآثار المترتبة على ذلك من الناحية الشرعية والاقتصادية والقانونية. فالدراسات: الثالثة والسابعة والثامنة جغرافية التخصص، والدراستان الخامسة والتاسعة تنحو منحنى قانونيًا، والدراسة الرابعة فقهية شرعية، والدراسة السادسة اقتصادية التوجه. إلا أن الدراستين الأولى والثانية أقرب الدراسات إلى موضوع الدراسة الحالية لطبيعتهما التربوية.
وهذه النتيجة التي ظهرت من خلال استعراض الدراسات السابقة: تعزز لدى الباحث اختيار الموضوع باعتباره دراسة جديدة لم يُسبق إليها من الناحية التربوية الإسلامية على الأقل.
* * *
مبررات منع المرأة من قيادة المركبات
من المنظور التربوي الإسلامي
تعتبر المواصلات من أهم المشكلات التي تواجه المرأة العاملة في هذا العصر، ولا سيما بعد التوسع الهائل في تشغيل النساء الذي شهده سوق العمل ضمن خطط التنمية المتعاقبة التي توصي بمشاركة النساء في التنمية الشاملة؛ ولهذا يضيق بعض النساء العاملات والمتحمسون لهن في البلاد المحافظة بالمنع من مزاولة المرأة قيادة السيارة، ويشعرن بالضيم، فلا يزلن يطالبن بذلك، دون نظر جاد لعواقب الأمور ([3]).
ورغم أن مهارة قيادة المركبات الصغيرة من حاجات هذا العصر المهمة ([4]): فإنها لا تبلغ عند المرأة المسلمة درجة الضرورة التي تبلغها عند رب الأسرة، بل ولا تبلغ درجة الحاجة التي تبلغها عند الشاب العَزَب الذي لا يقوم على أسرة، فهي في حقها في الأعم الأغلب من باب التحسينيات التي لا تتضرر بنقصها، والنادر ـ كما هو معروف ـ لا حكم له ([5])؛ ولهذا يُلاحظ في البلاد التي تسمح للمرأة بالقياةدة توافر السيارات لدى الشباب أكثر بكثير من توافرها لدى الفتيات ([6])، كما أن إتقان مهارتها يكاد يكون عامًا لدى غالب طلاب المرحلة الثانوية وكثير من طلاب المرحلة الإعدادية، حتى إن الشاب منهم يشعر بأن السيارة جزء من حياته، وعدم امتلاكها يمثل له نوعًا من الحرمان ([7]).
ورغم أن غالب دول العالم تسمح للنساء بممارسة هذه المهارة دون حرج، ورغم إتقان كثير منهن لها بصورة كبيرة ([8])، ورغم ممارسة جمع منهن لهذه المهارات في بعض الأرياف خارج المدن ([9]): فإن المختار في هذه القضية المنع، حتى في البلاد التي سمحت بها، واعتادها بعض النساء، فإن الأولى تركها، وإفراغ الوسع في تجنُّبها ([10])، لا لكون مهارة القيادة محرمة في ذاتها ولكن لما يمكن أن تفضي إليه من المحظورات المتعددة. ولعل فيما يلي من المبررات ما يجلي هذا التوجه ويقوي اختياره:
أولاً: المبرر الفقهي ([11]) لمنع المرأة من قيادة المركبات:
ويظهر هذا المبرر في كون الشريعة مبناها على جلب المصالح ودفع المفاسد، فما غلبت مصلحته أباحته، وما غلبت مفسدته منعته ([12]). فالمأمورات والمنهيات في الشريعة تشتمل كل منهما على مصالح ومضار، والحكم في كل منها على الأغلب ([13]). يقول ابن عبد السلام: "المصالح المحضة قليلة وكذلك المفاسد المحضة، والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد... والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما رجحت مفسدته على مصلحته"([14]). وهذه المسألة في تقديم الجهة الغالبة: من مسائل الإجماع عند العلماء، الثابتة بالكتاب والسنة والعقل، خاصة في هذا العصر الذي اختلطت فيه المصالح بالمفاسد بصورة كبيرة ([15]).
ومن هنا جاء باب سد الذرائع المفضية إلى المفاسد ([16])، أو المؤدية إلى إهمال أوامر الشرع، أو التحايل عليها ولو بغير قصد ([17])، فإن "سد الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته: منع المباحات التي يُتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات... ولا يقتصر ذلك على مواضع الاشتباه والاحتياط؛ وإنما يشمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام"([18])، فالشارع الحكيم إذا حرَّم أمرًا حرَّم الوسائل المفضية إليه ([19])؛ فإن "الوسائل تبعٌ للغايات في الحكم"([20])، و"وسائل الحرام" ([21])، و"ما أفضى إلى حرام حرام".([22])(6/76)
والمسألة الفرعية التي يختلف في حكمها الناس: يُؤخذ فيها بالإجماع، فإن لم يُوجد، أخذ بالأحوط، ثم بالأوثق دليلاً، ثم يُؤخذ بقول من يُظن أنه أفضل وأعلم ([23]). ولا شك أن ترك المرأة لقيادة السيارة في هذا العصر هو الأحوط على أقل تقدير؛ فإن"فعل ما يُخاف منه الضرر إذا لم يكن محرماً فلا أقَلَّ أن يكون مكروهاً"([24])، حتى وإن تكلف رب الأسرة مهام نقل نسائه، أو اضطر لجلب الرجل الأجنبي لتولي هذه المهمة ـ كما هو حاصل في بعض البلاد ([25])ـ فإن هذا في العموم أهون الشرين، وأخف الضررين؛ لأن الضرر الخاص الذي تكلفه هذا الأب وأمثاله، وما يمكن أن يحصل من الرجل الأجنبي يُتحمل في سبيل دفع الضرر العام ([26]) الذي يمكن أن يعم المجتمع بتوسيع دائرة قيادة النساء للسيارات، فإن المفسدة العامة المنع فيها أشد من المفسدة الخاصة ([27]).
كما أن الفقهاء لا يعتبرون الطريق خلوة، فإنما الخلوة: الأمن من اطلاع الناس ([28])؛ بحيث يجتمع رجل بامرأة "في مكان لا يمكن أن يطلع عليهما فيه أحد، كغرفة أغلقت أبوابها ونوافذها وأرخيت ستورها"([29])، أو في فلاة لا يصلهما فيها أحد. ويُستأنس في هذا المقام بما نقله المروزي عن الإمام أحمد رحمهما الله حين سُئل عن: "الكحال يخلو بالمرأة وقد انصرف من عنده النساء، هل هذه الخلوة منهي عنها؟ قال: أليس هو على ظهر الطريق، قيل: بلى، قال: إنما الخلوة تكون في البيت"([30]). ثم إن مبدأ خدمة الرجل الأجنبي في السفر حين يركب النساء الهوادج كان أمرًا معلومًا منذ القديم، وقد كانت النساء زمن رسول ا صلى الله عليه وسلم يُحملن في الهوادج، ويقوم الرجال على خدمتهن وحمل هوادجهن ([31]). ولا يفهم من هذا التهاون في مسألة خلوة السائق بالمرأة ، فإن المفروض تقليل هذه الفرص، وضبطها قدر المستطاع؛ بل إن بعض العلماء([32]) يرى أن ركوب المرأة وحدها مع السائق الأجنبي أخطر من الخلوة في البيت ؛ لكونه يستطيع أن يذهب بها حيث شاء. وقد عالجت بعض الأسر في البلاد التي يُسمح فيها بقيادة المرأة للسيارات مشكلة الخلوة بطريقة عجيبة حيث جلبت من بعض البلدان الأجنبية نساء سائقات. يتولين هذه المهام بدلاً من الرجال الأجانب ([33]).
ثانيًا: المبرر الأخلاقي لمنع المراة من قيادة المركبات:
وتظهر قوة هذا المبرر من حيث المفاسد الكثيرة التي يمكن أن تترتب على انطلاق النساء والفتيات بهذه المركبات الخاصة من: هجران المنزل، والسفر بغير محرم، والتعرض للمضايقات، والاختلاط بالأجانب، والتوسع في مجالات عمل المرأة المتعلقة بشؤون النساء السائقات، إضافة إلى مشكلات صيانة مركباتهن ضمن أجواء لا تناسب المرأة المسلمة، مع الاضطرار لكشف الوجوه، إلى مفاسد كثيرة يمكن أن تحدث إذا استمرأ المجتمع صورة المرأة السائقة ([34])؛ فإن غالب التغيرات الاجتماعية التنازلية تبدأ باليسير ثم تنتهي بما لا قِبَل للمجتمع به، وكما قيل: معظم النار من مستصغر الشرر؛ ففي بريطانيا قبل خمسين سنة تقريبًا كانت المرأة لا تحصل على رخصة القيادة إلا بعد إذن زوجها ([35])، ثم ما لبث أن فتح لهن الباب على مصراعية. وفي إحدى البلاد المحافظة كانت المرأة لا تركب المواصلات العامة الصغيرة إلا مع محرم لها، ثم تبدل الوضع وتوسع الأمر دون نكير ([36]). وهكذا طبائع الناس تنتقل من الأهون إلى الأشد بالتدريج حتى يصبح الممنوع مرغوبًا فيه، والسيارة كمركبة متحركة داخل المجتمع ليست حصنًا للمرأة من أن تُنال بسوء، أو تتعرض للفتنة، أو تعرض غيرها للافتتان، ولا سيما عندما تتعطل مركبتها في أماكن لا تأمن فيها المرأة على نفسها.
ثالثًا: المبرر الصحي لمنع المراة من قيادة المركبات:
ومبنى هذا المبرر أن الشريعة تنهى عن التعرض للهلاك؛ إذ حفظ النفس من
مقاصدها ([37])، وقيادة المرأة للسيارة يعرضها للتلف ([38])، فإن السيارة آلة عنيفة لا تناسب طبيعة الإناث، وقد أكدت ذلك دراسة بريطانية على مجموعة من النساء السائقات، حيث توصلت إلى "أن 58% منهن يتوفين قبل الأربعين، و 60% منهن يصبن بأمراض نفسية، وقالت الدراسة: إن قيادة المرأة للسيارة لا تليق ولا تتناسب معها"([39]). ولا تزال هذه الآلة تتصف بالعنف حتى بعد تطورها، فإن حوادثها على المستوى العالمي في غاية القسوة، وغالبًا ما يتعرض لها العُزَّاب من الشباب، والنساء المبتدئات، وينفرد الشباب بأعنف وأشد حوادثها ([40]). وقد أشارت الإحصاءات أن نسبة ضحايا حوادث المرور في دول الخليج تفوق نسبتها في أمريكا وبريطانيا ([41])؛ حيث يهلك في كل ساعة سبعة أشخاص في دول مجلس التعاون الخليجي ([42])، ويهلك في المملكة العربية السعودية وحدها ـ التي سجلت أعلى معدل لحوادث السير في العالم ـ حوالي سبعة أشخاص يوميًا ([43]).(6/77)
وبلغ عدد الحوادث في العالم العربي خلال عام 2000م نصف مليون حادث، نجم عنها اثنان وستون ألف قتيل ([44]). ولا شك أن توسع النساء في هذه الممارسة سوف يزيد من نسبة تعرضهن للهلاك، مما يجعل هذه المهارة خطيرة على شخص المرأة، وعلى دورها التناسلي الذي يستوجب مزيدًا من السكون والاستقرار ([45])، إلى جانب ما يحدثه هذا التوسع من استنزاف للبيئة وتلويثها ([46]).
ويحاول بعض المتحمسين لتمرير موضوع قيادة المرأة للسيارة بضبطه من خلال منعهن من السفر بسيارتهن خارج المدن، والسماح لهن بقيادتها في فترات النهار دون الليل ([47]). وقد اتضح من خلال بعض الدراسات المحلية بالمملكة العربية السعودية أن 79% من حوادث السيارات تحصل داخل المدن، و65% منها تحصل في فترات النهار، كما أن
65% من هذه الحوادث تشارك فيها سيارات من الحجم الصغير ([48])، وهو الحجم المناسب من السيارات المرشح للمرأة. ويضاف إلى كل هذا وجود تلك العلاقة القوية بين ارتفاع درجة حرارة الجو وزيادة عدد الحوادث ([49])، ومن المعلوم أن دول الخليج من أكثر دول العالم ارتفاعًا في درجات الحرارة. ولما كان غالب حوادث السيارة "تقع في الوقت الذي يجب أن يكون فيه الإنسان في أعمق فترات النوم"([50])؛ فإن مزيدًا من الحوادث المرورية سيكون من نصيب المرأة العاملة السائقة؛ لكونها أكثر فئات المجتمع على الإطلاق جهدًا، أقلهن نومًا ([51]). ثم إن متغير التعليم والزواج لا دخل لهما في التقليل من حوادث السيارات؛ فقد دلت إحدى الدراسات في المملكة العربية السعودية على أن أكثر من 76% من السائقين المشتركين في حوادث المرور من المتعلمين، وأكثر من 53% منهم من المتزوجين؛ مما يدل على أن التعليم والزواج لم يخففا من أزمة الحوادث المرورية ([52]).
رابعًا: المبرر الفطري لمنع المرأة من قيادة المركبات:
وتظهر حجة هذا المبرر من حيث رقة جهاز الأنثى العصبي الذي لا يساعدها على حسن الأداء ([53])، وسرعة ارتباكها في أثناء القيادة لأبسط الأسباب ([54])، إلى جانب الخوف الذي ينتابها عادة من المسافات الطويلة ([55])، والخوف أيضًا من المناطق المفتوحة، الذي يزيد عند الإناث كلما كبرت أعمارهن ([56])، وهو ما يُسمى برهاب الساح، وهو نوع من الخوف ينتاب بعض الناس من المناطق المزدحمة والمفتوحة ([57])، إلى جانب ضعف قدراتهن على تعلم المفاهيم الجغرافية، كالمواقع والأماكن وتقدير الحيز الفراغي المرئي والمسافات، وقلة خبرات السفر لديهن؛ ولهذا يُلاحظ أن الإناث أقل قدرة على تعلم المفاهيم الجغرافية من المذكور ([58]). ولا شك أن هذه القضايا الفطرية مهمة لإتقان مهارة القيادة.
وأهم من هذا كله الضعف الصحي العام الذي لا تنفك عنه المرأة في العموم من آثار الدورة الشهرية، ومضاعفات النفاس وفترة الحمل، من حيث: الانفعالات النفسية، وارتفاع الضغط، وكثرة الصداع، والتوتر، والقلق، والتذبذب، والكآبة، وحدة المزاج، والآلام العامة خاصة في الحوض والظهر، والغثيان، وما يصيب عامة النساء الحوامل من الاضطرابات النفسية، وما يرافق ذلك من انكماش فطري طبيعي في حجم الدماغ عندهن في أثناء الحمل، وما يصاحب ذلك من ضعف الذاكرة، وصعوبة التذكر. إلى جانب تأثير هذه الأعراض على الاتزان العام، مما قد يدفع المرأة في هذه الظروف الفطرية إلى شيء من العنف والعجلة في بعض المواقف ([59])؛ ولهذا يشير العديد من الدراسات والإحصاءات المختلفة إلى ارتفاع نسبة تعرض المرأة أكثر من الرجل للاضطرابات النفسية، وحدة الانفعال، والانهيارات النفسية خاصة في هذه الفترات الفيسيولوجية، وبعد الولادة، وفي سن اليأس، وبعد عمليات الإجهاض ([60]). ومن المعلوم أن واحدة من هذه الأعراض الجسمية لا تسمح للرجل واقعيًا ولا نظاميًا بالقيادة، فكيف بها مجتمعة؟ ولا شك أن ما بين ربع إلى ثلث النساء على الأقل يقعن تحت هذه التأثيرات الفطرية بصورة دائمة، بمعنى أن ثلث النساء في المجتمع لا يصلحن ـ تحت ضغط هذه الطبيعة الفطرية وتأثيراتها الجسمية ـ لقيادة السيارات. ولعل هذه الأسباب كانت وراء قلَّة أعداد النساء السائقات في العالم مقارنة بأعداد الرجال.(6/78)
ولعل أعظم من هذا وأخطر: التأثير السلبي لنزيف الدماء الطبيعية على حاستي السمع والبصر عند النساء ([61]) ـ أهم عناصر هذه المهارة ـ ولهذا يُلاحظ كثرة حوادث النساء المرورية في العموم ، ولاسيما في أثناء فترة الحيض وما قبلها بقليل ،حيث تزيد لديهن العصبية، وتكثر لديهن الغفلة والنسيان والشرود الذهني، وهن في العموم يعانين من نقص في الاتزان النفسي والفسيولوجي، يجعلهن أكثر تعرضاً للسآمة والتعب، وأقل انتباهاً وتركيزاً، وأميل للتوتر والقلق، ولاسيما المرأة العاملة، التي تجمع بين العمل الوظيفي ومسؤولياتها المنزلية ؛ لذا فإن أكثر النساء أكثر تعرضاً لعصاب قيادة المركبات - أكثر من الذكور ([62])، مما يجعل قضية القيادة بالنسبة لهن في غاية الحرج. ومن المعلوم أن السائق هو همزة الوصل بين المركبة والطريق، وصفاته الوراثية والمكتسبة ومهارته وخبرته تلعب أدوارًا رئيسة في حصول الحوادث، وقد ثبت يقينًا من خلال الواقع أن السائق يتحمل أكثر أسباب الحوادث المرورية ([63])، وهي مرتبطة - إلى حد كبير - بشخصيه، فقيادة السيارة تشكل ضغطاً على نفس قائدها حين يحتاج إلى طاقات نفسية وذهنية وجسمية، تمكنه من التعامل مع الطريق وشكله، وما يحويه من متغيرات كالسيارات الأخرى، والمارة، وإشارات المرور، وظروف الازدحام، وهذا يتطلب من السائق درجة عالية من الانتباه ، والتركيز، والتوازن النفسي ، وقدرة جيدة على الحركة التلقائية السريعة التي تحصل بالخبرة والمران ، وتأتي بعفوية دون قصد.([64])
ولعل هذه الأسباب الفطرية في عنصر النساء كانت السبب في رفع قيمة التأمين على السيارات التي تمتلكها النساء ([65])، ومن المعلوم أن شركات تأمين السيارات تراعي ظروف الشخص المتقدم لطلب التأمين؛ ولهذا تزيد من قيمته على الأشخاص المطلقين ([66])؛ لكونهم في الغالب يعيشون حالة من التوتر النفسي الذي يعد سببًا رئيسًا في وقوع الحوادث.
خامسًا: المبرر الاقتصادي لمنع المرأة من قيادة المركبات:
ويظهر هذا المبرر من الناحية الفقهية في حالات حوادث المرور وما يقع فيها من الجنايات؛ حيث تُعفى المرأة مطلقًا من المشاركة في دية المقتول خطأ حتى وإن كانت هي الجانية، في حين يشترك الجاني البالغ من الذكور ـ على خلاف بين الفقهاء ـ مع باقي العاقلة من القرابات في دفع دية القتل الخطأ ([67])، بل وتستمتع المرأة مع الورثة في الحصول على نصيبها من دية زوجها ([68])، في الوقت الذي لا تُكلَّف فيه مع العاقلة بشيء، وهذا فيه إجحاف اقتصادي بحق رجال الأسرة من العصبات إذا مُكِّنت الفتيات من ممارسة أسباب العطب، خاصة إذا شعرن بالأمان من مغبة تحمل الغرامة المالية، ومن المعلوم أن الأصل في إلزام العاقلة دفع الدية في حال القتل الخطأ ـ مع ما فيه من التعاون ـ هو تأديبها لتقصيرها في كفِّ المستهترين والطائشين المنتمين إليها من العبث بأمن المجتمع، مما يدفعها ـ بصورة تضامنية جماعية ـ لحفظ سفهائها، ومن يُتوقع منهم الخطأ الذي يُكلفها الغرامات المالية ([69]).
وأما الزعم بأن مسألة الدية في مثل هذه الجنايات قد انحلت اليوم من خلال التأمين التجاري فلا حاجة إلى نظام العاقلة؛ فإن هذا النوع من التأمين القائم اليوم في المعاملات التجارية ممنوع شرعاً ([70]) , والضرر ـ كما هو معلوم شرعاً ـ لا يُزال بضرر, والخطأ لا يُعالج بخطأ.كما أن التأمين التعاوني ـ الغائب من المعاملات الاقتصادية المعاصرة ـ لو عُمل به في مثل هذه الجنايات - بالشروط الشرعية- لكان جلُّ ميزانياته تُنفق في جنايات النساء السائقات ـ ولا سيما المبتدئات منهن ـ والشباب المتهور، مما يُجحف من جديد بباقي المساهمين، من الحريصين على سلامة المجتمع وأمنه. ولهذا لن يرضوا بمشاركة هذه الفئات المتوقع منها الضرر بصورة كبيرة في صندوق تأمينهم التعاوني، مما سيضطر هذه الفئات ـ من جديد ـ للرجوع مرة أخرى بأزماتها الجنائية إلى العاقلة والعصبات، مما يُعطي لنظام العاقلة أهميته الاقتصادية والتعاونية، ودوره التربوي التوجيهي في الحياة الإسلامية ([71]).(6/79)
وفي الجانب الآخر من المسألة الاقتصادية: استهلاك الثروة في هذه المراكب، وتجميد الأموال فيها، والاستنزاف المالي في مصروفاتها، وخسائرها التي تُقدر في دول الخليج ببليون دولار، وفي المملكة وحدها بملياري ريال، إضافة إلى ضغط الحركة المرورية في البلاد النامية التي لا تتسع طرقها لمراكب الرجال فضلاً عن مراكب النساء والفتيات، خاصة بعد أن ثبت أن ازدحام الطرق من أعظم أسباب كثرة الحوادث ([72]). وفي بلد مثل المملكة العربية السعودية زاد عدد السيارات تسعة أضعاف ما بين عامي 1395هـ و 1411هـ ([73])، وأعجب من هذا ما أشارت إليه الإدارة العامة للمرور بالمملكة أن واقع عدد السيارات عام 1405هـ تضاعف عما كان عليه عام 1391هـ ثمانية وعشرين ضعفًا ([74])، وأعجب من هذا وأغرب ما أشارت إليه إحدى الدراسات أن عدد السيارات في المملكة تضاعف 38 مرة في الفترة ما بين عام 1391هـ وعام 1413هـ، كما أشارت الدراسة إلى أن ما بين كل 1000 شخص في المملكة هناك 350 شخصًا يمتلكون سيارة خاصة، رغم أن النساء لا يقدن فيها السيارات، في حين يملك في بريطانيا السيارة الخاصة من كل 1000 شخص 306 شخص ([75]).
"وبالرغم من التوسع الهائل في المملكة في إنشاء الطرق داخل المدن وخارجها فإن هذا التوسع لا يُواكب الزيادة الهائلة في أعداد السيارات ووسائل النقل الأخرى، وهذا قد سبب ـ ولا شك ـ الكثير من الاختناقات المرورية والزحام الشديد في المواصلات خاصة في المدن الكبيرة كجدة والرياض"([76]). فهاتان المدينتان مع مدينة الدمام تستوعب ثلث سكان المملكة تقريباً ([77]). ولا شك أن لو سُمح للنساء بالقيادة لزاد عدد السيارات بصورة كبيرة لا تستوعبها الطرق، في الوقت الذي يُهدد فيه العالم ـ ولا سيما في الدول الصناعية ـ بزيادة عدد السيارات والتلوث البيئي. ومن المعلوم أن سحر السيارة الجديدة في هذا العصر مظهر من مظاهر الترف الذي يتنافس فيه الناس ([78])، وسوف يكون في غاية القوة والترف إذا شارك النساء في هذه المنافسة الاجتماعية الأخَّاذة؛ لكونهن ـ بالفطرة ـ مأخوذات بعواطفهن، مشدودات برغباتهن. فلن يكون امتلاك السيارة عن حاجة بقدر ما يكون للمفاخرة والاستكثار، وقد دلَّ البحث الميداني في دول الخليج على أن عدد السيارات للأسرة الواحدة يزيد عند الأسر التي لا يشارك نساؤها في قوى العمل، وتقل أعدادها في الأسر التي يشارك نساؤها في قوى العمل ([79])؛ مما يدل على أن امتلاك السيارة ليس هو دائمًا للحاجة؛ فإن المرأة العاملة التي يقل لدى أسرتها عدد السيارات قد تكون أحوج إليها من غير العاملة التي يكثر لدى أسرتها عدد السيارات.
سادسًا: المبرر التاريخي لمنع المرأة من قيادة المركبات:
يعتمد المؤيدون لقيادة المرأة للسيارة على المبرر التاريخي رغم أنه لا يُؤيد توجههم؛ فعلى الرغم من الفارق الكبير بين طبيعة وظروف قيادة السيارة وقيادة الدواب فإن النساء منذ القديم لم يكنَّ من أهل الخيل والفروسية إنما الخيل من مطايا الرجال ([80])، وقد كان من المستغرب ركوب النساء للخيل في بلاد زنجبار في القرن التاسع عشر،([81]) والسيارات الخاصة أشبه مراكب هذا العصر بها ([82])، فهي من هذه الجهة متعلقة بالرجولة إلى حد كبير ([83]). ولهذا لا يجد الباحث ذكرًا للنساء عند ذكر الخيل والفروسية؛ لما اشتمل عليه ركوب الخيل من البطولة والطلب والهرب، ومواقع القتال من الكر والفر ([84])، مما لا يناسب الطبيعة الأنثوية، بل إن بعض القبائل في القديم كانت تُحرِّم على النساء ركوب الخيل لمعتقدات وأخلاق اجتماعية كانوا يرونها ([85]).(6/80)
وأما البغال ـ مع كونها ليست من المراكب الآمنة بصورة مطلقة ـ فقد نُقل عن بعض نساء السلف ركوبها وهنَّ مستورات بستور أو في بواطن الهوادج ([86])، إلا أن الإبل كانت من أوسع مراكب النساء العربيات وألطفها بأحوالهن، ومع هذا لم يكنَّ ـ في الغالب ـ ينفردن بركوبها، فقد ارتبط ركوبهن عليها بالهوادج المستورة، التي يتولى قيادتها عادة ساقة الإبل من الرجال ([87])؛ ولهذا ارتبط الهودج بالمرأة في تنقلها وأسفارها ([88])، وحتى على مستوى التعريف اللغوي والاصطلاحي فالهودج مركوب المرأة ([89])، وأبعد من هذا تفسير رؤية الهودج في المنام بالمرأة عند مفسري الأحلام ([90]). ومما يُشير إلى هذا أيضًا ويؤيده جواب التابعي أبي ثفال المري حين سُئل عن خروج المرأة؟ فقال: "لأي شيء تخرج؟ والله لا تنفر في النفير ولا تسوق البعير"([91])، ولما استأذنت عائشة رضي الله عنها رسول ا صلى الله عليه وسلم في العمرة أردفها أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما خلفه على الدابة، ولم تنفرد بركوبها وحدها ([92])، ومن المعلوم أن سائق إبل النساء يتلطف في سيره، ولا يشتد عليهن خوفًا من سقوطهن لقلة ثباتهن على الدواب ([93])؛ فقد وصفهن رسول ا صلى الله عليه وسلم بالقوارير ([94])، يعني أنهن كالزجاج، "يُسْرع إليها الكسر، ولا تقبل الجبْر"([95]). وقد وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها اعتناء الرجال، وقيامهم على بعيرها وهودجها فتقول: "وكنت إذا رُحِّل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتيني القوم ويحملونني، فيأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به"([96])، وفي خبر الإفك لما تأخرت عن الركب، وأدركها صفوان بن المعطَّل رضي الله عنه قالت: "ثم قرَّب البعير فقال: اركبي، واستأخر عني فركبت، فأخذ برأس البعير وانطلق سريعًا يطلب الناس"([97])، يعني أنها لم تنفرد بقيادة البعير رغم وقوعها في مثل هذا الموقف الحرج، في خلوة مع شخص أجنبي، وما ترتب على مرافقته لها ـ بعد ذلك ـ من أزمة اجتماعية خطيرة. وفي هذا المعنى يصف الأخطل ـ شاعر الأمويين ([98]) ـ رحيل النساء على الإبل حين يسوقهن الحادي، وقد رُحِّلت مراكبهن فيقول:
لبثن قليلاً في الديار وعُوليتْ على النُجْب للبيض الحسان مراكب
إذا ما حدا الحادي المجدُّ تدافعت بهن المطايا واستُحثَّ النجايب ([99])
وهذا كلُّه يُشير ـ في الجملة ـ إلى أن مهارة القيادة للآليات أو للدواب مرتبطة بالذكور ارتباطًا وثيقًا؛ بل إن المرأة المعاصرة لم تقد السيارة في أوروبا إلا قبل زمن يسير؛ فإلى الثلاثينات من القرن العشرين الميلادي كانت السيارة حكرًا على الرجل، ووسيلته لجذب المرأة وإغرائها بالزواج ([100])، إلا أنه ذُكر أن صانع أول سيارة في ألمانيا عام 1888م سمح لزوجته أن تقودها لأول مرة أمام الجماهير ([101]). وهذا الخبر إن صحَّ لا يعدو أن يكون لطيفة من اللطائف الأوروبية؛ وإلا فإن تحريك عجلة القيادة إلى عهد قريب جدًا كان شديدًا على الرجل المكتمل البنية فضلاً عن أن يكون سهلاً بيد المرأة العادية.
* * *
الخاتمة
إن هذه المبررات المتعددة لكفِّ النساء عن مزاولة مهارة قيادة السيارات لا تُجيز ـ في الجانب الآخر ـ للمرأة المسلمة أن يُقتطع من عرضها وشرفها في المواصلات العامة المزدحمة بالأجساد المتراكمة كما هو حاصل في كثير من البلاد النامية ([102])؛ وإنما الهدف من كل هذا ربط المرأة بحصن البيت من الجهة المالية عن طريق تطوير التنمية الاقتصادية العائلية، من خلال الصناعات المنزلية التي أثبتت جدواها الاقتصادية ([103])، مع الاستفادة من فرص العمل المتاحة عبر شبكات الإنترنت التي أصبحت واقعًا في كثير من بلاد العالم ([104])، فلا تحتاج للكسب خارج نطاق الأسرة. وربطها أيضًا بالبيت من الجهة المعرفية من خلال التعليم عن بعد بوسائله المختلفة، فقد أصبح هذا النوع من التعليم واقعًا عالميًا مقبولاً ([105])، فلا يبقى للمرأة خارج المنزل إلا ما لا بد لها منه من الحاجات والمصالح.(6/81)
وإلى جانب ذلك لا بد أيضًا ـ ضمن ظروف الحياة الواقعية ـ من التوسع في وسائل النقل العام من الحافلات الكبيرة ونحوها؛ بحيث تصبح أكثر جدوى وراحة وأمانًا بالنسبة للمرأة المحتاجة للخروج، كالمعلمة والطالبة ونحوهما. إلا أن الواقع يشهد بقصور وسائل النقل العام؛ ففي بلد كالمملكة العربية السعودية لا يزيد النقل العام عن استيعاب 7% فقط من حركة الرحلات المرورية، في الوقت الذي يستوعب فيه النقل العام في أوروبا 40% من هذه الرحلات المرورية ([106])، حتى إن مدينة مثل الرياض لا يتولى فيها النقل المدرسي العام أكثر من 1% من أعداد الطلاب ([107])، في حين لا يُسمح لطلاب المدارس في اليابان الانتقال إلى مدارسهم بسياراتهم الخاصة، ولا حتى بالدراجات النارية ([108])، إنما بالنقل العام، وفي سنغافورة تتبنى الدولة سياسة متشددة في استخدام السيارات الخاصة، وتفرض قيودًا عليها، رغبة في توجيه الناس نحو النقل العام ([109])؛ ولهذا جاء في توصيات الندوة العلمية الأربعين المنعقدة في الرياض عام 1417هـ حول أساليب ووسائل الحد من حوادث المرور، والتي شاركت فيها ثلاث عشرة دولة عربية ما نصه: "ضرورة التوسع في وسائل النقل الجماعية في المدن العربية، وتوفيرها بأسعار مشجعة، لحمل ساكني المدن على استخدامها بمختلف فئاتهم من موظفين وطلاب وغيرهم"([110])، فلا بد أن تكون توصية كهذه ضمن اهتمامات المسؤولين، بحيث تفعَّل بصورة جادة لتحقيق هدف التخفيف من كثرة السيارات، وإقناع المجتمع ـ ولا سيما النساء ـ باستخدام وسائل النقل العام، وفي الوقت نفسه تُغنيهنَّ عن السعي في المطالبة بقيادة السيارات الخاصة التي تزيد من أعداد السيارات، وبالتالي تزيد من احتمالات وقوع الحوادث، إلى مشكلات أخرى تقدم ذكرها.
إن مما ينبغي أن تدركه المرأة والنساء عمومًا أن هناك تقبلاً اجتماعيًا خطيرًا نحو قيام المرأة بأدوار الرجل التي كانت إلى عهد قريب مناطة به كالعمل للكسب، وعلاج الأبناء، والترفيه عنهم، ونحوها من الأعمال، فقد أصبح المجتمع المعاصر يتقبل اتكال الرجل على زوجته في هذه المهمات ([111])، فلا يعدو تولي المرأة قيادة السيارة أن تكون تكليفًا جديدًا لمهمات أخرى تنحط عن كاهل الرجل لتنوء بأعبائها المرأة، مقابل استمتاعها بمهارة قيادة السيارة.
نتائج البحث:
من خلال فقرات الدراسة توصل الباحث إلى العديد من النتائج ومن أهمها:
1. الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم، ومن حق السلطان المسلم أن يمنع النساء من قيادة المركبات سدًا للذرائع المفضية إلى المفاسد.
2. لا تعتبر السيارة الخاصة مهما كانت صالحة حصنًا للمرأة من أن تنال بسوء، إلى جانب ما يترتب على انطلاقها بها من انفلات اجتماعي لا يوافق توجيه الإسلام لها بالقرار والالتفات إلى المنزل.
3. السيارة آلة عنيفة في طبيعتها وبنائها لا تناسب الطبيعة الأنثوية والدور المناط بها المتطلب لمزيد من السكون والهدوء، إلى جانب مخاطرها وقسوة حوادثها.
4. الجانب الفطري في طبيعة خلْقة المرأة وظروفها الجسمية والنفسية لا يسمح لها بتحمل مسؤولية القيادة، والمخاطرة بنفسها وبغيرها.
5. تعود أسباب كثير من الحوادث إلى ضيق الشوارع عن استيعاب السيارات، كما أن حجم التلوث البيئي مرتبط بكثرتها أيضًا، وفي السماح للنساء بقيادة السيارات زيادة في أعدادها المسببة للحوادث من جهة، وزيادة في تلويث البيئة من جهة أخرى. إلى جانب أن النساء لسن من العاقلة التي تتحمل في حال القتل الخطأ الغرامات المالية التي يتحملها البالغون من الرجال، هذا فيه إجحاف بالرجال إذا مكِّنوا النساء من أسباب العطب والضرر.
6. المرأة عبر التاريخ لم تكن من أهل الفروسية والخيل وإنما ارتبطت منذ القديم بركوب الإبل في الهوادج المستورة، وتولى الرجل منذ ذلك الزمن خدمتها في الأسفار وحمل هودجها عند الترحال، فلا يصح ـ بناء على ذلك ـ اعتبار ركوب المرأة في القديم على الإبل كقيادتها للسيارة في هذا العصر.
7. وجود بدائل عصرية يمكن من خلالها إغناء النساء عن قيادة المركبات من خلال وسائل النقل العام الكبيرة وإحياء الصناعات المنزلية، والاستفادة من وسائل التعليم عن بعد.
8. شح الدراسات العملية في موضوع قيادة المرأة للسيارات مما يتطلب مزيدًا من البحث في الموضوع والوقوف على دراسات أجنبية للتأكيد على صحة القرار بالمنع.
كتبه
د. عدنان حسن باحارث
السعودية ـ مكة المكرمة
ص. ب 6525
هاتف: 5501569
فاكس: 5663677
جوال: 055532605
البريد الالكتروني
Adnan3456@hotmail.com
المراجع
1. أحمد، عبد الرحمن يسري (1417هـ). تنمية الصناعات الصغيرة ومشكلات تمويلها. (د. ط). الإسكندرية: الدار الجامعية.
2. إدريس، عبد الفتاح محمود (1414هـ). أحكام العورة في الفقه الإسلامي ـ بحث مقارن. (د.م): (د. ن).
3. أسعد، يوسف ميخائيل (د. ت). الشخصية القوية. (د. ط). مصر: دار غريب.(6/82)
4. الأسود، أبو محمد الأعرابي الغندجاني (د. ت). أسماء خليل العرب وأنسابها وذكر فرسانها. تحقيق محمد علي سلطاني. (د.ط). بيروت: الشركة المتحدة للتوزيع.
5. أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية (1418هـ). "توصيات الندوة العلمية الأربعين". الندوة العلمية الأربعون بعنوان: أساليب ووسائل الحد من حوادث المرور ـ الرياض 1417هـ. أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض.
6. الألباني، محمد ناصر الدين (1409هـ). صحيح سنن النسائي. بيروت: المكتب الإسلامي.
7. أيوب، ياسر (1995م). الانفجار الجنسي في مصر. القاهرة. دار سفنكس للطباعة والنشر.
8. البار، محمد علي (1402هـ). خلق الإنسان بين الطب والقرآن. ط 3. جدة: الدار السعودية.
9. ابن باز، عبد العزيز عبد الله (1416هـ). مجموع فتاوى ومقالات متنوعة. جمع محمد سعد الشويعر. ط2. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
10. باشا، حسان شمسي (1413هـ). النوم والأرق والأحلام بين الطب والقرآن. ط 2. جدة: دار المنارة.
11. باول، دوغلاس (1422هـ). تسع خرافات عن الشيخوخة. ترجمة هالة النابلسي. الرياض: مكتبة العبيكان.
12. البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (1410هـ). صحيح البخاري. تحقيق مصطفى ديب البغا. ط 4. دمشق: دار ابن كثير.
13. البدر، محمود عبد العزيز (1412هـ). "الإعلام التربوي في دول الخليج العربية". وقائع اجتماع مسؤولي الإعلام التربوي في دول الخليج العربية ـ قطر 19 ـ 20/5/ 1412هـ. مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض.
14. البرديسي، محمد زكريا (1407هـ). أصول الفقه. ط3. بيروت: دار الفكر.
15. البرهاني، محمد هشام (1406هـ). سد الذرائع في الشريعة الإسلامية. بيروت: مطبعة الريحاني.
16. ابن بطال، أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (1420هـ). شرح صحيح البخاري. تحقيق ياسر إبراهيم. الرياض: دار الرشد.
17. بكار، عبد الكريم (1418هـ). مدخل إلى التنمية المتكاملة ـ رؤية إسلامية. الرياض: دار المسلم.
18. بكار، نادية أحمد (1421هـ). "مدى وعي معلمات الجغرافيا بقضية سوء فهم المفاهيم الجغرافية". مجلة رسالة التربية وعلم النفس. العدد (12). الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية، الرياض.
19. البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس (د. ت). كشاف القناع عن متن الإقناع. (د. ط). بيروت: عالم الكتب.
20. بوحجي، هناء (1998م يونيه 29). "البحرين تمنع المنقبات من قيادة السيارات". صحيفة الشرق الأوسط. العدد (7153). لندن.
21. البورنو، محمد صدقي (1415ه). الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية. ط 3. الرياض: مكتبة التوبة.
22. البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسن بن علي النيسابوري (1344هـ). السنن الكبرى. بيروت: دار المعرفة.
23. بيوشامب، إدوارد (1420هـ). التعليم الياباني والتعليم الأمريكي ـ دراسة مقارنة. ترجمة محمد طه علي. الرياض. دار المعرفة للتنمية البشرية.
24. الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (د. ت). الجامع الصحيح. تحقيق أحمد محمد شاكر وآخران. (د.م): دار إحياء التراث العربي.
25. تيس، سي. ود. بيركس (1397هـ). "دور المرأة في الريف العماني". مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية. العدد (10). جامعة الكويت، الكويت.
26. ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني (د. ت). مجموع الفتاوى. ترتيب عبد الرحمن محمد العاصمي النجدي. (د. ط). الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين، مكة المكرمة.
27. الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (1997م). البغال. تحقيق علي بن ملحم. ط2. بيروت: دار الهلال.
28. جبر، يحيى عبد الرؤوف (1421هـ). "مشروع تلفزة الأيام الدراسية". مجلة رسالة الخليج العربي. العدد (42). مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض.
29. الجراية، أنور (1994م). "الشخصية". مجلة الثقافة النفسية. العدد (17). مركز الدراسات النفسية والنفسية الجسدية، بيروت: دار النهضة العربية.
30. ابن جزي، أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم الكلبي الغرناطي (1406هـ). الخيل. تحقيق محمد العربي الخطابي. (د. ط). بيروت: دار الغرب الإسلامي.
31. الجوهري، محمد فائق (1418هـ). العادة السرية عند الرجل والمرأة. ط 2. الرياض: أضواء السلف.
32. أبو جيب، سعدي (1985م). موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي. (د. ط). إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر.
33. الحاكم، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري (د. ت). المستدرك. (د. ط). بيروت: دار المعرفة.
34. الحربي، سعد شارع (1415هـ). الأحكام الخاصة بالمرأة. الرياض: دار المسلم.
35. ابن حجر، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (1398هـ). فتح الباري بشرح صحيح البخاري. تحقيق طه عبد الرؤوف سعد وآخران. (د. ط). القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية.
36. ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد الظاهري الأندلسي (1408هـ). المحلى بالآثار. تحقيق عبد الغفار البنداري. (د. ط). بيروت: دار الكتب العلمية.(6/83)
37. حسون، تماضر زهري (1414هـ). تأثير عمل المرأة على تماسك الأسرة في المجتمع العربي. المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، وزارة الداخلية، الرياض.
38. الحسيني، عائشة (1409هـ). إعداد وتنمية القيادات الإدارية النسائية في قطاع التعليم العاليم بالمملكة العربية السعودية. جدة: دار البيان.
39. الحسيني، عائشة (1985م). "التخطيط للاحتياجات من الكفاءات الإدارية النسائية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة نظرية ميدانية". المؤتمر الإقليمي الثالث للمرأة في الخليج والجزيرة العربية 1984م. لجنة تنسيق العمل النسائي في الخليج والجزيرة العربية، الكويت.
40. الحفني، عبد المنعم (1412هـ). الموسوعة النفسية الجنسية. القاهرة: مكتبة مدبولي.
41. الدباغ، فخري (1983م). أصول الطب النفسي. ط 3. بيروت: دار الطليعة.
42. حمود، رفيقة سليم (1417هـ). المرأة المصرية ـ مشكلات الحاضر وتحديات المستقبل. القاهرة: دار الأمين.
43. خلف، سليمان نجم (1998م). "العولمة والهوية الثقافية ـ تصور نظري لدراسة نموذج مجتمع الخليج والجزيرة العربية". المجلة العربية للعلوم الإنسانية. العدد (61). جامعة الكويت، الكويت.
44. الدربندي، عبد الرحمن سليمان (د. ت). المرأة العراقية المعاصرة. وزارة التربية، العراق.
45. الدويك، يوسف راتب (1405هـ). "الرياضة في الإسلام". مجلة التربية. العدد (72). قطر.
46. دياب، عبد العزيز أحمد (1416هـ). "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج". مجلة جامعة الملك عبد العزيز ـ الاقتصاد والإدارة. (د.ع). المجلد التاسع، جامعة الملك عبد العزيز، جدة.
47. الرازي، أبو بكر محمد بن زكريا (1421هـ). الحاوي في الطب. تحقيق محمد محمد إسماعيل. بيروت: دار الكتب العلمية.
48. رشاد، نادية محمد (د. ت). التربية الصحية والأمان. (د. ط) الإسكندرية: منشأة المعارف.
49. الزحيلي، وهبة (1405هـ). الفقه الإسلامي وأدلته. ط2. دمشق: دار الفكر.
50. الزرقاء، مصطفى أحمد (1408هـ). الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها. دمشق: دار القلم.
51. الزركلي، خير الدين (1980م). الأعلام. ط 5. بيروت: دار العلم للملايين.
52. السالم، زغلولة (1997م). صورة المرأة العربية في الدراما المتلفزة. (د. ط). عمان: دار آرام.
53. السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل (د. ت). شرح كتاب السير الكبير. تحقيق صلاح الدين المنجد. (د. ط). (د. م): (د.ن).
54. السعدي، عبد الرحمن ناصر (1415هـ). الفتاوى السعدية. بيروت: عالم الكتب.
55. السفاريني، أبو العون شمس الدين محمد بن أحمد النابلسي الحنبلي (د. ت). غداء الألباب. (د. ط). (د.م): مؤسسة قرطبة.
56. أبو سنة، أحمد فهمي (1412هـ). العرف والعادة في رأي الفقهاء. ط2. (د. م): (د. ن).
57. الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي (د. ت). الموافقات. عناية عبد الله دراز ومحمد عبد الله دراز: (د. ط). بيروت: دار المعرفة.
58. ابن شبة، أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري (د. ت). تاريخ المدينة المنورة. تحقيق فهيم محمد شلتوت. (د. ط). (د. م): (د. ن).
59. الشربيني، محمد الخطيب (د. ت). مغني المحتاج. (د. ط). بيروت: دار الفكر.
60. شريف، سعيدة (1419هـ ربيع الآخر 27). "حوادث السير.. حرب صامتة في المغرب". صحيفة الشرق الأوسط. العدد (6204). لندن.
61. شعبان، زكي الدين (1394هـ). أصول الفقه الإسلامي. ط3. بيروت: دار القلم.
62. الشيباني، عبد الله بن أحمد ـ محمد بن حنبل المروزي (1421هـ). فضائل عثمان بن عثمان. جدة: دار ماجد عسيري.
63. شيخاني، سمير (1416هـ). سجل الأيام. بيروت: دار الجيل.
64. الصالح، ناصر عبد الله (1408هـ). حوادث المرور بمدينة مكة المكرمة ـ العلاقات المكانية والاتجاهات الزمانية. (د. ط). مركز بحوث العلوم الاجتماعية، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
65. الصوفي، محمد سالم (1418هـ). "الشباب الباحث عن الموت". مجلة المجتمع. العدد (1261). جمعية الإصلاح الاجتماعي، الكويت.
66. الصنيع، عبد الله علي (1415هـ). دراسات في قضايا المدن المعاصرة والتحضر بأقلام نخبة من العلماء الأفاضل. جدة: دار المجتمع.
67. الظفيري, عبد الوهاب محمد(1421هـ). "النساء المعيلات للأسرة في حالة غياب الأب ـ نموذج أسر الشهداء". مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية. العدد (98). جامعة الكويت، الكويت.
68. ابن عابدين، محمد أمين (1412هـ). حاشية رد المحتار. ط 2. بيروت: دار الفكر.
69. العالم، إسماعيل أحمد (2000م). "الصور الحركية ومجالاتها في شعر الأخطل". المجلة العربية للعلوم الإنسانية، العدد (71). جامعة الكويت، الكويت.
70. عبد الخالق، أحمد محمد وعويد سلطان المشعان (1419هـ). "المخاوف الشائعة لدى الأطفال والمراهقين الكويتيين ومدى تأثرها بالعدوان العراقي". مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية. العدد (89). جامعة الكويت، الكويت.(6/84)
71. ابن عبدالسلام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (د. ت). قواعد الأحكام في مصالح الأنام. تحقيق محمود التلاميد الشنقيطي. (د. ط). بيروت: دار المعرفة.
72. عبد العال، جمال عبد المحسن (1418هـ). "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها". الندوة العلمية الأربعون بعنوان: أساليب ووسائل الحد من حوادث المرور ـ الرياض 1417هـ. أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض.
73. عبد الفتاح، فاطمة (1414هـ). الحياة الاجتماعية في الشعر الجاهلي. (د. ط). بيروت: دار الفكر.
74. العريني، محمد ناصر (1420هـ). المرأة بين تكريم الإسلام ودعاوي التحرير. ط 2. الرياض: مطبعة سفير.
75. علي، بدر الدين (1410هـ). قضاء وقت الفراغ لدى الشباب العربي. (د. ط). المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض.
76. عياض، أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي (1419هـ). إكمال المعلم بفوائد مسلم. تحقيق يحيى إسماعيل، المنصورة: دار الوفاء.
77. العيسوي، عبد الرحمن (1419هـ). علم نفس الشواذ والصحة النفسية. بيروت: دار الراتب الجامعية.
78. عيسى، مصباح الحاج (1407هـ). "استخدام الهاتف والشاشة الإلكترونية في التعليم عن بعد بدول الخليج العربية". المجلة العربية لبحوث التعليم العالي. العدد (6). المركز العربي لبحوث التعليم العالي، دمشق.
79. الغامدي، علي سعيد (1418هـ). "تقنية المستقبل في مواجهة مشكلة المرور". الندوة العلمية الأربعون بعنوان: أساليب ووسائل الحد من حوادث المرور ـ الرياض 1417هـ. أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض.
80. فهيم، محمد عيسى وآخران (1405هـ). السلوك المزعج الصادر عن السائقين أثناء القيادة ـ دراسة ميدانية بمدينة مكة المكرمة. (د. ط). مركز البحوث التربوية والنفسية، كلية التربية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
81. القاري، نور الدين علي بن سلطان الهروي (د. ت) شرح عين العلم وزين الحلم. (د. ط). القاهرة. مكتبة الثقافة الدينية.
([1]) انظر: المحرر. قطوف رمضان 1422هـ. ص 6 ـ 10.
([2]) الدراسات مرتبة حسب سنة النشر.
([3]) انظر: أ ـ الحسيني، عائشة. إعداد وتنمية القيادات الإدارية النسائية في قطاع التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية. ص 113.
ب ـ الحسيني، عائشة. "التخطيط للاحتياجات من الكفاءات الإدارية النسائية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة نظرية ميدانية" ج 1، ص 406.
ج ـ المحرر. قطوف شعبان 1421هـ . ص 95.
([4]) أسعد، يوسف ميخائيل. الشخصية القوية. ص 218.
([5]) انظر: البرهاني، محمد هشام. سد الذرائع في الشريعة الإسلامية. ص 334.
([6]) انظر: علي، بدر الدين. قضاء وقت الفراغ لدى الشباب العربي. ص 85 و 158.
([7]) انظر: المطير، عامر ناصر. "قيادة التلاميذ للسيارات وأثرها على الحركة المرورية في المملكة العربية السعودية" ص 49 و 54.
([8]) انظر: الدربندي، عبد الرحمن سليمان. المرأة العراقية المعاصرة. ج 1، ص 184 ـ 185.
([9]) انظر: تيس، سي. و د. بيركس. "دور المرأة في الريف العماني" ص 106 ـ 107.
([10]) تبقى للضرورة حدودها التي تُقدر بقدرها للنساء المضطرات للقيادة في بعض البلاد.
([11]) المقصود بالمبرر الفقهي هنا: هو المعنى الاصطلاحي الخاص لكلمة "الفقه" وهو الجانب العملي التطبيقي من الشريعة الإسلامية المنزلة، وحكم الفقهاء في مسألة قيادة المرأة للمركبات بناء على المصادر الفقهية.
([12]) البرديسي، محمد زكريا. أصول الفقه. ص 308.
([13]) انظر: ابن تيمية. مجموع الفتاوى. ج 1، ص 265.
([14]) ابن عبد السلام. قواعد الأحكام في مصالح الأنام. ج 1. ص 12.
([15]) الوكيل، محمد. فقه الأولويات ـ دراسة في الضوابط. ص 225.
([16]) الشاطبي. الموافقات. ج 4، ص 199.
([17]) الزرقاء، مصطفى أحمد. الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها. ص 45.
([18]) منظمة المؤتمر الإسلامي. قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي. ص 209 (بتصرف).
([19]) ابن القيم. إعلام الموقعين عن رب العالمين. ج 3. ص 135.
([20]) الإدريسي، عبدالواحد. القواعد الفقهية من خلال كتاب المغني لابن قدامة. ص 428.
([21]) المرجع السابق. ص 430.
([22]) المرجع السابق. ص 430.
([23]) القاري. شرح عين العلم وزين الحلم. ج 1، ص 47.
([24]) الإدريسي، عبدالواحد. القواعد الفقهية من خلال كتاب المغني لابن قدامة. ص 427.
([25]) انظر: ولي، نور بيكم محمد. دراسة استطلاعية عن كيفية ودواعي اعتماد الأسرة السعودية على السائقين المستقدمين ص 68، 158 ـ 159.
([26]) انظر: البورنو، محمد صدقي. الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية. ص 206.
([27]) البرهاني، محمد هشام. سد الذرائع في الشريعة الإسلامية. ص 210.
([28]) إدريس، عبد الفتاح محمود. أحكام العورة في الفقه الإسلامي ـ بحث مقارن. ج2، ص 569.
([29]) قلعه جي، محمد رواس وحامد صادق قنيبي. معجم لغة الفقهاء. ص 200.
([30]) السفاريني. غذاء الألباب. ج 2، ص 22.
([31]) انظر: أ ـ عياض. إكمال المعلم بفوائد مسلم. ج 8, ص 287 ـ 288.(6/85)
ب ـ ابن بطال. شرح صحيح البخاري. ج 8، ص 39.
([32]) مثل: ابن إبراهيم. فتاوى ابن إبراهيم. ج10 ، ص 52 - 54.
([33]) خلف، سليمان نجم. "العولمة والهوية الثقافية ـ تصور نظري لدراسة نموذج مجتمع الخليج والجزيرة العربية" ص 75.
([34]) انظر: أ ـ ابن باز، عبد العزيز عبد الله. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة. ج 3، ص 351 ـ 353.
ب ـ المسند، محمد. فتاوى المرأة. ص 192 ـ 194.
جـ ـ المجدوب، أحمد علي. اغتصاب النساء في المجتمعات القديمة والمعاصرة. ص 201 ـ 202.
د ـ العريني، محمد ناصر. المرأة بين تكريم الإسلام ودعاة التحرير. ص 65 ـ 78.
بوحجي، هناء. "البحرين تمنع المنقبات من قيادة السيارات" ص 28.
([35]) الموسى، عبد الرسول. "الوظيفة كأحد إفرازات التحضر في الكويت" ص 128.
([36]) الحسيني، عائشة. إعداد وتنمية القيادات الإدارية النسائية في قطاع التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية. ص 113.
([37]) انظر: شعبان، زكي الدين. أصول الفقه الإسلامي. ص 386 ـ 387.
([38]) انظر: المحرر. قطوف جمادى الأولى 1419هـ. ص 9.
([39]) المحرر. "سياقة المرأة للسيارة تقصر العمر" ص 1.
([40]) انظر: أ. النافع، عبد الله وخالد السيف. تحليل الخصائص النفسية والاجتماعية المتعلقة بسلوك قيادات السيارات بالمملكة. ص 49 ـ 50، 60.
ب ـ الصالح، ناصر عبد الله. حوادث المرور بمدينة مكة المكرمة ـ العلاقات المكانية والاتجاهات الزمانية. ص 35.
جـ ـ دياب، عبد العزيز أحمد. "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج" ص 6 ـ 7.
([41]) المحرر. قطوف صفر 1419هـ. ص 123.
([42]) الغامدي، علي سعيد. "تقنية المستقبل في مواجهة مشكلة المرور" ص 70.
([43]) انظر: أ ـ الصنيع، عبد الله علي. دراسات في قضايا المدن المعاصرة والتحضر بأقلام نخبة من العلماء الأفاضل. ص 217.
ب ـ المحرر. قطوف ربيع الثاني 1423هـ. ص 123.
([44]) المحرر. قطوف ربيع الثاني 1422هـ. ص 112.
([45]) الرازي. الحاوي في الطب. ج 3، ص 1456.
([46]) بكار، عبد الكريم. مدخل إلى التنمية المتكاملة ـ رؤية إسلامية ص 355.
([47]) انظر: المحرر. قطوف شعبان 1421هـ. ص 96.
([48]) انظر: أ ـ دياب، عبد العزيز أحمد. "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج" ص 10 ـ 11.
ب ـ عبد العال، جمال عبد المحسن. "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها" ص 22.
([49]) العيسوي، عبد الرحمن. علم نفس الشواذ والصحة النفسية ص 269.
([50]) باشا، حسان شمسي. النوم والأرق والأحلام بين الطب والقرآن. ص 48.
([51]) انظر: أ ـ حسون، تماضر زهري. تأثير عمل المرأة على تماسك الأسرة في المجتمع العربي. ص 66 ـ 67، 152 ـ 153.
ب ـ يونس، منى. "اعتراضات المرأة العاملة على العمل ـ بحث استطلاعي" ص 209 ـ 211.
([52]) عبد العال، جمال عبد المحسن. "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها" ص 28.
([53]) انظر: كحالة، عمر رضا. المرأة في القديم والحديث. ج 3، ص 62.
([54]) الصوفي، محمد سالم. "الشباب الباحث عن الموت" ص 10.
([55]) انظر: عبد الخالق، أحمد ومحمد وعويد سلطان المشعان. "المخاوف الشائعة لدى الأطفال والمراهقين الكويتيين ومدى تأثرها بالعدوان العراقي" ص 328.
([56]) محمد، عادل شكري وفريح عويد العنزي. "دراسة إنمائية لبعض المتغيرات الباثولوجية لدى فئات عمرية متباينة" ص 115.
([57]) النابلسي، محمد أحمد. "رهاب الساح ـ دراسة حالة واستراتيجية علاج" ص 186.
([58]) انظر: أ ـ الجراية، أنور. "الشخصية" ص 50.
ب ـ السالم. زغلولة. صورة المرأة العربية في الدراما المتلفزة. ص 66 و 70.
جـ ـ بكار، نادية أحمد. "مدى وعي معلمات الجغرافيا بقضية سوء فهم المناهج الجغرافية"ص 67، 88.
د ـ باول، دوغلاس. تسع خرافات عن الشيخوخة. ص 102.
([59]) انظر: أ ـ الدباغ ، فخري. أصول الطب النفساني. ص 214 و 253 و 346.
ب ـ المالكي، موزة. "علم النفس حول العالم العدد (31)". ص 17.
([60]) النابلسي، محمد أحمد، "الاضطرابات النفسية لدى المرأة" ص 64 و 66 ـ 67.
([61]) انظر: أ ـ البار، محمد علي. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. ص 103.
ب ـ رشاد، نادية محمد. التربية الصحية والأمان. ص 73.
([62]) الحنفي، عبد المنعم. الموسوعة النفسية الجنسية. ص 809.
([63]) انظر: أ ـ دياب، عبد العزيز أحمد. "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج" ص 4 و 6.
ب ـ قربة، جهاد محمد. "طبيعة العلاقات المجالية للحوادث المرورية داخل الوسط الحضري لمدينة الشارقة ـ دراسة تحليلية لفترة التوسع 1987 ـ 1992م". ص 103 ـ 104.
([64]) أ - الحفني، عبد المنعم. الموسوعة النفسية- علم النفس والطب النفسي. ص 136 - 138.
ب- الحفني، عبد المنعم. الموسوعة النفسية- علم النفس والطب النفسي. ص 140.
([65]) معلومة غير موثقة بالمراجع منقولة من بعض أهل الخبرة ممن عاش في بعض الدول الغربية.
([66]) انظر: المسيري، عبد الوهاب. "الفكر الغربي ـ مشروع رؤية نقدية" . ص 133.(6/86)
([67]) انظر: أ ـ ابن حزم. المحلى بالآثار. ج 11، ص 273 ـ 276.
ب ـ الكاساني. بدائع الصنائع. ج 7، ص 255 ـ 257.
ج ـ النووي. صحيح مسلم بشرح النووي. ج 11، ص 176 ـ 177.
د ـ الشربيني. مغني المحتاج. ج 4، ص 95.
هـ ـ المرداوي. الإنصاف. ج 10، ص 124.
و ـ القرطبي. الجامع لأحكام القرآن. ج 5. ص 326.
ز ـ ابن حجر. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. ج 26، ص 80 ـ 81.
حـ ـ ابن عابدين. حاشية رد المختار. ج 6، ص 564 و 642 ـ 643.
ط ـ البهوتي. كشاف القناع. ج 6، ص 61.
ي ـ زحيلي، وهبة. الفقه الإسلامي وأدلته. ج 6، ص 322 ـ 323.
ك ـ أبو جيب، سعدي. موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي. ج 1، ص 426.
ل ـ الحربي، سعد شارع. الأحكام الخاصة بالمرأة ص 421.
([68]) انظر: الترمذي. الجامع الصحيح. رقم (2110). ج 4، ص 425 ـ 426. (حديث حسن صحيح).
([69]) انظر: أ ـ السعدي، عبد الرحمن ناصر. الفتاوى السعدية. ص 83.
ب ـ أبو سنة، أحمد فهمي. العرف والعادة في رأي الفقهاء. ص 242 ـ 244.
([70]) انظر: منظمة المؤتمر الإسلامي. قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي. ص 20.
([71]) أدى ظهور التأمين الإلزامي على رخص القيادة في المملكة إلى إحجام كثير من أفراد القبائل عن الإسهام المالي المعتاد في صناديقهم التعاونية، مما أثار جدلاً مع رؤساء قبائلهم. انظر: المحرر. قطوف ذو الحجة 1423هـ. ص 124.
([72]) انظر: أ ـ الصنيع، عبد الله علي. دراسات في قضايا المدن المعاصرة والتحضر بأقلام نخبة من العلماء الأفاضل. ص 267 ـ 272.
ب ـ عبد العال، جمال عبد المحسن. "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها". ص 14.
ج ـ شريف، سعيدة. "حوادث السير.. حرب صامتة في المغرب" ص 15.
د - المحرر. "حوادث السير تقتل ثلاثة أشخاص كل يوم في لبنان". ص 15.
([73]) دياب، عبد العزيز أحمد. "الحوادث المرورية في المملكة العربية السعودية ـ دراسة اقتصادية للمحددات وطرق العلاج". ص 8.
([74]) انظر: النافع، عبد الله وخالد السيف. تحليل الخصائص النفسية والاجتماعية المتعلقة بسلوك قيادات السيارات في المملكة. ص 4.
([75]) عبد العال، جمال عبد المحسن. "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها" ص 17 ـ 19.
([76]) فهيم، محمد عيسى وآخران: "السلوك المزعج الصادر عن السائقين أثناء القيادة ـ دراسة ميدانية بمدينة مكة المكرمة". ص 6. (بتصرف).
([77]) الوهيد، محمد سليمان. "القيم الاجتماعية وأثرها في مشكلة المرور". ص 43.
([78]) أ ـ المجرن، عباس علي "محددات الطلب العالمي على الجازولين" ص 96 ـ 97.
ب ـ مارتن، هانس بيتر وهارالد شومان. فخ العولمة. ص 73 ـ 74.
([79]) القدسي، سليمان. سياسات أسواق العمالة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. ص 19 ـ 20.
([80]) انظر: أ ـ السرخسي. شرح كتاب السير الكبير. ج 1، ص 136 ـ 137.
ب ـ قطب، سيد. في ظلال القرآن. ج 1، ص 580.
جـ ـ هامرتن، جون وآخرون. تاريخ العالم. ج 5، ص 377 ـ 398.
([81]) انظر: أشكناني، زبيدة علي. "مذكرات أميرة عربية- الإثنوغرافيا والسيرة الذاتية". ص 132.
([82]) الدويك، يوسف راتب. "الرياضة في الإسلام" ص 121.
([83]) انظر: معاليقي، عبد اللطيف. المراهقة ـ أزمة هوية أم أزمة حضارية. ص 146 ـ 147.
([84]) انظر: أ ـ الجاحظ. البغال. ص 24.
ب ـ ابن جزي. الخيل. ص 296 ـ 302.
جـ ـ الأسود. أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها. ص 15 ـ 20 و 291 ـ 319.
([85]) انظر: الجوهري، محمد فائق. العادة السرية عند الرجال والمرأة. ص 25.
([86]) انظر: أ ـ ابن شبَّه. تاريخ المدينة المنورة. ج 4، ص 1311 ـ 1313.
ب ـ الجاحظ. البغال. ص 26 و 31 و 47 ـ 52.
جـ ـ الشيباني. فضائل عثمان بن عفان. ص 136.
([87]) انظر: أ ـ البخاري. صحيح البخاري. ص (3251). ج 3، ص 1266 ورقم (3910). ج 4،
ص 1517.
ب ـ الحاكم. المستدرك. ج 4، ص 42 ـ 43. (حديث فيه إرسال... وقد رُوي بإسناد صحيح... مختصرًا).
جـ ـ البيهقي. السنن الكبرى. ج 4، ص 34 ـ 35.
د ـ المقريزي. إمتاع الأسماع. ص 114.
هـ ـ ابن منظور. لسان العرب. ج 2، ص 389. (هدج).
و ـ ابن حجر. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. ج 19، ص 150.
ز ـ الزركلي. الأعلام. ج 3، ص 114 ـ 115.
([88]) انظر: أ ـ النسائي. سنن النسائي. ج 5، ص 120. (صحيح) الألباني، محمد ناصر الدين. صحيح سنن النسائي. ج 2، ص 560.
ب ـ عياض. إكمال المعلم بفوائد مسلم. ج 4، ص 369.
جـ ـ محمد، طارق عوض الله. الجمع والتوضيح لمرويات الإمام البخاري وأحكامه في غير الجامع الصحيح. ج 1، ص 514.
د ـ عبد الفتاح، فاطمة. الحياة الاجتماعية في الشعر الجاهلي. ص 104.
([89]) انظر: أ ـ ابن منظور. لسان العرب. ج 2، ص 389. (هدج).
ب ـ قلعه جي، محمد رواس وحامد صادق قنيبي. معجم لغة الفقهاء. ص 496.
([90]) انظر: النابلسي. تعطير الأنام في تعبير المنام. ص 466.
([91]) المرزبان. المروءة. ص 58.
([92]) انظر: ابن بطال. شرح صحيح البخاري. ج 5، ص 147.
([93]) انظر: عياض. إكمال المعلم بفوائد مسلم. ج 7، ص 287.
([94]) مسلم. صحيح مسلم. رقم (2323). ج 4، ص 1811.(6/87)
([95]) ابن منظور. لسان العرب. ج 5، ص 87. (قرر).
([96]) ابن شبَّه. تاريخ المدينة المنورة. ج 1، ص 329.
([97]) نفسه. ج 1، ص 330.
([98]) ترجمة الأخطل غياث بن غوث. انظر: الزركلي. الأعلام. ج 5، ص 123.
([99]) العالم، إسماعيل أحمد. "الصور الحركية ومجالاتها في شعر الأخطل" ص 189 ـ 190.
([100]) انظر: المحرر. "علم النفس حول العالم العدد (17)". ص 20.
([101]) شيخاني، سمير. سجل الأيام. ج 3، ص 229.
([102]) انظر: أ ـ المجدوب، أحمد علي. اغتصاب النساء في المجتمعات القديمة والمعاصرة. ص 54.
ب ـ أيوب، ياسر. الانفجار الجنسي في مصر. ص 179.
جـ ـ حمود، رفيقة سليم. المرأة المصرية ـ مشكلات الحاضر وتحديات المستقبل. ص 72.
([103]) أحمد، عبد الرحمن يسري. تنمية الصناعات الصغيرة ومشكلات تمويلها. ص 25.
([104]) انظر: أ ـ المحرر. "تعويم أفكار في الكويت لرفع معدل تشغيل النساء". ص 11.
ب ـ المحرر. "فرص وظيفية للمرأة بأسلوب العمل من بعد". ص 17.
([105]) انظر: أ ـ البدر، محمد عبد العزيز. "الإعلام التربوي في دول الخليج العربية". ص 49.
ب ـ عيسى، مصباح الحاج. "استخدام الهاتف والشاشة الإلكترونية في التعليم عن بعد بدول الخليج العربية". ص 51 ـ 54.
جـ ـ جبر، يحيى عبد الرؤوف. "مشروع تلفزة الأيام الدراسية". ص 30 ـ 31.
([106]) عبد العال، جمال عبد المحسن. "الحوادث المرورية والعناصر الحاكمة لها" ص 22 ـ 24.
([107]) المطير، عامر ناصر. "قيادة التلاميذ للسيارات وأثرها على الحركة المرورية في المملكة العربية السعودية".
ص 49.
([108]) بيوشامب، إدوارد. التعليم الياباني والتعليم الأمريكي ـ دراسة مقارنة. ص 28.
([109]) المجرن، عباس علي. "محددات الطلب العالمي على الجازولين". ص 110 ـ 111.
([110]) أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية. "توصيات الندوة العلمية الأربعين". ص 156.
([111]) الظفيري، عبد الوهاب محمد. "النساء المعيلات للأسرة في حالة غياب الأب ـ نموذج أسر الشهداء". ص 34.
================(6/88)
(6/89)
شبهة معاصرة
حديث يتكرر،لأنَّ باعثه يتجدد، فخفافيشُ الظلام بدأت تعملُ وتظهرُ في النهار، والفتوى تجاوزت الأئمة الأعلام ، ليتطاول عليها المذيعون وصبيان الإعلام، والدينُ رقّ ، والالتزام لان، وكل مسألةٍ فيها قولان ، وإن ناقشت مفتياً وعندك دليل مُفحمٌ وأثر قال : هذه وجهة نظر، وحينما غابت الأسودُ نطقت القرود، فالمنافقون في أوقاتِ الأزمات ينبحون، وعلى صفحات الصحف يتقيئون، وشجرتهم لا تنبت إلاَّ حنظلاً من شبهات، وزقوماً من الشهوات، بضاعتهم السُخرية والاستهزاء بالدعاة والعلماء ، والتهكم على الأبطال النجباء من رجال الهيئات، ومبشراتهم بذور السفور والانحلال ، وآخر إنتاجهم بشارةٌ بأول فتاةٍ سعودية تتدربُ على الطيران، تنشر صورتها ويجعل منها رمزاً لفتاة جزيرة الإسلام، فأينكِ يا درةَ عمر من هؤلاءِ الأقزام 0
لم يعد خافياً على أحدٍ ما تشهدهُ مجتمعات المسلمين اليوم، من حملةٍ محمومةٍ من الذين يتبعون الشهوات على حجابِ المرأة وحيائها وقرارها في بيتها ، حيثُ ضاق عطنهم، وأخرجوا مكنونهم، ونفذوا كثيراً من مُخططاتهم في كثيرٍ من مجتمعاتِ المسلمين، وذلك في غفلةٍ وقلةِ إنكارٍ من أهل العلم والصالحين، فأصبح الكثير من هذه المجتمعات يعجُّ بالسفورِ والاختلاط والفساد المستطير، الأمرُ الذي أفسد الأخلاق والأعراض 0
وبقيت بقيةً من بلدان المسلمين لازال فيها بحمد الله يقظة من أهل العلم، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حالت بين دعاة السفور وبين كثيرٍ مما يرومون ، وهذه سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل، والمدافعة بين المصلحين والمفسدين 0
ومن كيدِ المفسدين في مثل المجتمعاتِ المحافظة ، وبسببِ وجودِ أهلِ العلم والغيرة، أنَّهم لا يجاهرون بنواياهم الفاسدة، ولكنهم يتسترون وراءَ الدين، ويلبِسون باطلهم بالحقِّ واتباع ما تشابهَ منه ، وهذا شأن أهل الزيغ والضلال، (( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)) (سورة آل عمران : 7) .
وهم أولُ من يعلم أنَّ فساد أيِّ مجتمعٍ إنما يبدأ بإفسادِ المرأة واختلاطها بالرجال، وقد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء )) .
وهذه حقيقةً لا يُماري فيها أحد ، ومللُ الكفر أول من يعرفُ هذه الحقيقة ، حيثُ إنَّهم من باب الفتنةِ بالنساء دخلوا على كثيرٍ من مجتمعات المسلمين، وأفسدوها وحققوا أهدافهم البعيدة ، وتبعهم في ذلك المنهزمون من بني جلدتنا، ممن رضعوا من لبانِ الغرب وأفكاره، أو ممن يسعون إلى الشهرةِ من أوسخ أبوابها ، ولكنهم ولأنهم يعيشون في بيئةٍ مسلمة ، ولازال لأهل العلم والغيرةِ حضورهم، فإنَّهم لا يتجرءون على طرح مطالبهم التغريبية، بشكلٍ صريحٍ لعلمهم بطبيعة تدين الناس ، ورفضهم لطروحاتهم، وخوفهم من الافتضاح بين الناس 0
ولذلك دأبوا على اتباع المتشابهات من الشرع، وإخراج مطالبهم في قوالب إسلامية، وما فتئوا يلبسون الحق بالباطل، وهم كما قال الله : ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )) (سورة البقرة :11) .
ومن هذه الطروحات التي أُجلبوا عليها في الآونةِ الأخيرة، مطالبتهم في مجتمعنا المحافظ، وفي بلدنا الذي يأرزُ إليه الإيمان، وتهوي إليه أفئدة الصالحين، ومنه نبعت الفضيلة ودعاتها، مطالبتهم بكشفِ المرأة وجهها، والسماح لها بقيادة السيارة، معتمدين بزعمهم على أدلةٍ شرعيةٍ، وأقوالٍ لبعضِ العلماءِ في ذلك، وهم يعلمون ونحنُ نعلمُ أنَّ تلك هي الشرارة الأولى والخطوة الأولى نحو فساد المرأة وذهاب حيائها 0
ولئلاَّ يلتبسَ الحق بالباطل، ولكيلا ينخدع بعضُ الناسِ ببريقِ دعوتهم ، وصيانةً لأخلاقِ الأمة، ومساهمةً في تحقيق الأمن الأخلاقي للبلاد، نقفُ مع هذه الدعوة الآثمة وقفات :
أولاها : أنَّ هناك فرقاً في تناول قضية الحجاب وكشف الوجه، بين أن يقعَ اختلافٌ بين العلماء المخلصين في طلب الحق ، المجتهدين في تحري الأدلة ، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ، بين مضاعفةِ الأجر مع الشكر، وبين الأجرِ الواحد مع العذر، وبين من يتتبعُ الزلات، ويحكمُ بالتشهي، ويرجحُ بالهوى، لأنَّ وراءَ الأكمةِ ماوراءها، فيؤولُ حالهُ إلى الفسقِ ورقةِ الدين، ونقص العبودية، وضعف الاستسلام لشرع الله عز وجل 0(6/90)
وهناك فرقٌ بين الفتاوى العلمية المؤصلة، المبنية على التحري والاجتهاد، وأخرى محلولةَ العقال مبنيةً على التجري لا التحري، والتي يصدرها قومٌ لا خلاق لهم من الصحفيين ومن أسموهم المفكرين، وأهل التزوير المسمون ظُلماً بأهل التنوير، يُفرقون من تغطيةِ الوجه، لا لأنَّ البحث العلمي المجرد أوصلهم إلى أنَّهُ مكروهٌ أو جائز، أو بدعة كما يرجفون ، ولكن لأنَّهُ يشمئزُ منه متبوعهم من كفار الشرق والغرب 0
ولك أن تقدرَ شدةَ مكرِ القومِ الذين يريدون من جانبهم أن يتبعوا التمدن الغربي، ثُمَّ يبررون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي 0
لقد أوتيت المرأة من الرخصة في النظامِ الإسلامي، أن تبدي وجهها وكفيها وما دعت إليه الحاجة والضرورة في بعض الأحوال، وأن تخرج من بيتها لحاجتها، ولكن هؤلاءِ يجعلون هذه نقطةُ البدءِ وبداية المسير، ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب الحياءِ والاحتشام، فلا يقفُ الأمرُ بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين، بل يجاوزهُ إلى تعرية الشعر والذراع والنحر، إلى آخر هذه الهيئاتِ القبيحة المعروفة، وهاهو ذا المودودي- رحمه الله- يصرخُ في وجه هؤلاءِ الأحرار، في سياستهم العبيد، في عقليتهم قائلاً : (( ولا ندري أي القرآن أو الحديث يستخرج منه جواز هذا النمط المبتذل من الحياة ، وإنَّكم يا إخوان التجدد إن شاءَ أحدكم أن يتبع غير سبيل الإسلام، فهلاَّ يجترئُ ويصرح بأنَّه يُريد أن يبغي على الإسلام، ويتفلتُ من شرائعه، وهلاَّ يربأ بنفسهِ عن هذا النفاق الذميم، والخيانةِ الوقحة، التي تُزينُ له أن يتبع علناً ذلك النظام الاجتماعي، وذلك النمط من الحياة الذي يحرمه الاسلام شكلاً وموضوعا )) 0
وثاني الوقفات: لابد أن ينظر إلى قضيةِ الحجاب اليوم، وما يدورُ بينها وبين السفورِ من معاركَ، إلى أنَّها لم تعد قضيةً فرعية، ومسألةً خلافية فيها راجحٌ ومرجوح بين أهل العلم، ولكنها باتت قضية عقدية مصيرية، ترتبط بالإذعانِ والاستسلام لشرع الله عز وجل، في كل صغيرةٍ وكبيرة، وعدم فصلها عن شئون الحياة كلها، لأنَّ ذلك هو مقتضى الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً 0
إنَّ التشنيع على تغطيةِ المرأة وجهها، والتهالكُ على خروجها من بيتها، واختلاطها بالرجال، ليست اليوم مسألةً فقهيةً فرعية، ولكنه مسألةً خطيرةً لها ما بعدها، لأنَّها تقوم عند المنادين بذلك على فصل الدين عن حياة الناس وعلى تغريب المجتمع و كونها الخطوة الأولى، أو كما يحلو لهم أن يعبروا عنها بالطلقة الأولى.
وإذا كان علماؤنا يُوردون مسألةَ المسح على الخفين في كتب العقيدة، باعتباره من خصائص أهل السنة في مقابل شذوذ الرافضة ، فلا لوم على من يجعل قضية الحجاب اليوم قضيةً أصوليةً مصيرية ، وذلك لتشنيع مبتدعةِ زماننا ومنافقيه عليه، ولحملتهم المحمومة لنزعه، وجر المرأة بعد ذلك لما هو أفسدُ وأشنع 0
وثالثها : أن بداية السفور والتبرج الجاهلي، الذي عليه طائفة من نساءِ المسلمين اليوم، في بعض ديار المسلمين ، إنَّما بدأ من كشف الوجه، بإزالة الغطاء والحجاب عنه ، حتى أصبح وبات وأضحى وظل وأمسى من المعلومِ بالضرورة، أن من كشفت من الفتيات وجهها اليوم ستكشف غداً حتماً عن رأسها وصدرها وساقيها وحتى فخذيها ، ولا يجادلُ في هذا إلاَّ ساذجٌ مخدوع0
لقد بدأت مؤامرةُ السفور بالدعوة إلى كشف الوجه ، وامتدت إلى الجلسات المختلطة المحتشمة ، ثم على السفر من غير محرم بدعوى الدراسة في الجامعة ، ثم زينت الوجوه المكشوفة ، وبدأ الثوب ينحسرُ شيئاً فشيئا، حتى وقعت الكارثةُ، فخرجت المرأة سافرةً عن مفاتنها، كاشفةً عن المواضع التي أمرَ الله بسترها ، حتى أضحت شبه عارية، وراح أهل الكيد يتلذذون بالنظر إليها، ويستدرجونها للإيقاع بها، حتى كان لهم ما أرادوه منها، ففسدت الأخلاق ، وكثرت محلات البغاء ، وانتشر اللقطاء، وتفسخ المجتمع، ومن هنا ، وبناءً على هذا، فإنَّ اليد التي تحاولُ أن تحسر الحجاب عن وجوه فتياتنا اليوم ينبغي أن تبتر ، وإنَّ اللسان الذي يدعو فتياتنا إلى نزع الحجاب ينبغي أن يقطع 0
أويسركم يا أهلَ الغيرة والكرامة أن تصبحَ بلادكم مقصداً لرواد البغاء ، وأهل الخنا ، أو أن تصبح نساؤكم مزابل وإماءَ في سوقِ النخاسة، يصحبن كل زان ، ويصادقن كل سافل 0
لابد أن تعلم المرأةُ المسلمة أنَّهم اليوم لا يطلبون منها أكثر من كشف وجهها ، وبحجةِ أنَّ كشف الوجه مختلفٌ فيه بين أهل العلم ، غير أنَّهم يعلمون علم اليقين، ونحن نعلم، وبحكم التجارب الطويلة العديدة أنَّها يوم أن تكشفَ وجهها، ويذهب ماؤه وحياؤه ، ستكشفُ لهم عمَّا سوى ذلك ، وصدق القائل :
رفعُ الحجاب وسيلة إن حُبّذت ضمت إليها للفجور وسائل
فالاختلاط، فمرقص، فتواعدٌ فالاجتماع، فخلوةٌ، فتواصل
ورابع الوقفات : لو أنَّ المنادين اليوم بكشف وجه المرأة أمام غير المحارم، كانوا في مجتمعٍ يعج بالسفور والتعري الفاضح، لأحسنا بهم الظنَّ وقلنا: لعل قصدهم ارتكاب أهون المفسدتين، والتدرجُ بالنساءِ في ردهنَّ إلى الحجاب الشرعي والحياء والحشمة شيئاً فشيئا .(6/91)
أما وإنَّ الذين يُنا دون اليوم بنزع الحجاب عن الوجه، إنَّما يوجِّهون نداءَهم إلى مجتمعاتٍ محافظةٍ لم تعرف نساؤهُ إلاَّ الحشمة و الحياء، وتغطية الوجه، والبعد عن الرجال الأجانب، فإنَّ هذا ممَّا يُثير العجب، ويحيرُ العقل، و يضعُ استفهاماتٍ كثيرةٍ على مطالبهم تلك ، فماذا يُريدون من ذلك ، وماذا عليهم لو بقيت نساؤهم وبناتهم وأخواتهم و نساء المسلمين على هذه الحشمة و العفة و الحياء، ماذا يُضيرهم في ذلك ؟ ألا يشكرون الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة، ألا يعتبرون بما يرونهُ في المجتمعات المختلطة المتبرجة، حيث ضاعت قوامة الرجل، و ظهر الفساد و هتكت الأعراض، و أصبحت تلك البلدان مقصدُ كلُّ فاجرٍ، وملاذُ كل طالبٍ للرذيلة، إنَّ زماننا اليومَ زمن العجائب، وإلاَّ فعلامَ يشرقُ قومنا بالفضيلة و الطهر والعفاف، ولكن صدق الله : (( وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ )) (سورة النساء: 27) .
وخامس الوقفات : أنَّ الأدلة الموجبةِ لستر وجه المرأة و كفيها عن الرجال الأجانب، ووجوبُ الابتعادِ عنهم أدلةً كثيرةً وصحيحةً وصريحة، ويمكن الرجوع إليها في فتاوى ورسائل أهل العلم الراسخين. ولكن يحسنُ أن نشير إلى أنَّ علماء الأمة قديماً وحديثاً من أجاز منهم كشف الوجه، و من لم يجزه، كلهم مُتفقون ومُجمعون على وجوبِ ستر وجه المرأة وكفيها إذا وجدت الفتنة، وقامت أسبابها، بل حكي الإجماع على ذلك أكثر من خمسين عالماً، فبربكم أيُّ فتنةٍ هي أشدُّ من فتنة النساء في هذا الزمان، حيثُ بلغت وسائل الفتنة والإغراء بهنَّ مبلغاً لم يشهدهُ تاريخ البشرية من قبل، وحيثُ تفننُ شياطين الأنس في عرضِ المرأة بصورها المثيرةِ في كلِّ شيء، في وسائل الأعلامِ المقروءةِ و المسموعة و المرئية، وأخرجوها من بيتها بوسائل الدعايةِ و المكر والخداع، فمن قال بعد ذلك إنَّ كشف المرأةِ عن وجهها أو شيءٍ من جسدها لا يثيرُ الفتنة، فهو والله مغالطٌ مكابر، لا يوافقهُ في ذلك من له مسكةً من دينٍ أو عقلٍ أو مروءة .
وإذا تبين ذلك فلنعلم أيضاً أنَّ هذا القدر من الخلاف بين العلماء بقي خلافاً نظرياً إلى حدٍ بعيد، حيثُ ظلَّ احتجاب النساءِ هو الأصلُ في الهيئةِ الاجتماعيةِ، خلال مراحلِ التاريخ الإسلامي، كما قال شيخ الإسلام ( كانت سنة المؤمنين في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحرة تحتجب)
و قال الإمام الغزالي : (( لم يزل الرجال على مرِّ الزمان مكشوفين الوجوه، و النساء يخرجنَ متنقبات )).
إنَّ كثرةَ الكلام عن هذه القضية ، وعلى أصعدةٍ متعددة ، بل إنَّ وسائل الإعلام تحاولُ ترسيخ هذا المفهوم من خلال الدعايات الإعلانية، حينما تصورُ الرجل حالقاً لحيتهِ والمرأة كاشفة وجهها، ومن خلالِ نشر صورِ النساء في الصحف، حتى بلغت في صحيفةٍ واحدة، في عددٍ واحد أكثر من ثلاثين صورة ، ومن خلال الكتابات التي يتقيؤها غلمان الأهواء، وصبيان الصحافة .
إنَّ ذلك لأمرٌ يثير الريبة، فلم يحدث في تأريخ الأمة أن اجتمع العلماء المجيزون لكشف الوجه، ليخرجوا على الأمة مجتمعين، يدعون النساء إلى إزالةِ غطاء الوجه، بدعوى أنَّ المسألة خلافية 0
كانوا يذكرون ذلك في كتبهم من باب التفقيه فحسب ، أمَّا أن يرتقوا المنابر، ويتصدروا المجالس والمنتديات ليقرروا ما ترجح لديهم، بإصرارٍ وإلحاحٍ لا ينقطع ، ليحملوا نساءَ الأمةِ على كشف الوجه ، فذلك لم يفعلوه، ولم يحصل في تأريخ الأمة، مع أنَّهم هم الأحق بذلك إن كان في ذلك خير ، فهم مجتهدون ينطلقون من الشرع، ومقصدهم نصرته 0
أما ما يفعلهُ هؤلاء المستغربون من الدعوةِ بإلحاح، وعلى كافةِ المستويات مع التلفيقِ والتلاعبِ بأقوال العلماء، فليس لهَ إلاَّ تفسيرٌ واحد، هو أنَّهم كرهوا ما أنزل الله فسحقاً لهم ، وأولى لهم طاعة وقول معروف، ولو صدقوا الله لكان خيراً لهم 0
إنَّ المتأمل في حال المتبعين للشهوات اليوم ليأخذه العجبُ و الحيرةُ من أمرهم ، فمالهم و للمرأة المسلمة التي تقرُّ في منزلها، توفرُ السكن لزوجها وترعى أولادها ، ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن الحصين، تُؤدي دورها الذي يُناسبُ أنوثتها وطبيعتها ، ماذا يُريدون من عملهم هذا ، ثم ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخير والدين، و الخصال الكريمة ، ماذا يريدون من إفسادهم وتسليط برامج الإفساد المختلفة عليهم، هل يُريدون جيلاً منحلاً، يكونُ وبالاً على مجتمعه، ذليلاً لأعدائه، عبداً لشهواته، إن هذه هي النتيجة، وإن من يسعى لهذه النتيجة التي تتجهُ إليها الأسر المسلمة اليوم لهو من أشدِّ الناس خيانةً لمجتمعة و أمته وتاريخه، وإنَّ من عندهُ أدنى مروءةٍ ونخوةٍ فضلاً عن الدين و الأيمان، لا يسمح لنفسه أن يكون من هؤلاءِ الظالمين المفسدين.
يا أهل الشرفِ والحياءِ و المروءة، كونوا يقظين لما يطرحهُ الظالمون لأنفسهم و أمتهم، من كتاباتٍ وحوارات، مؤداها إلى سفورِ المرأة و اختلاطها بالرجال، فما دامت المدافعةُ بين المصلحين و المفسدين، فإنَّ الله عز وجل يقذفُ بالحق على الباطل فإذا هو زاهق.(6/92)
ينبغي أن لا ننسى في خضمِ الردود على ما يكتبهُ المفسدون من الشبهات و الشهوات، ذلك السيلُ الهادر، الذي يتدفقُ من وسائل الأعلام المسموعة و المرئية في بلادِ المسلمين، وذلك بما تبثهُ من دعوات للمرأة إلى السفور، ومزاحمة الرجال في الأعمال و الطرقات، عبر القصة و المسلسل و البرامج الحوارية، والمقابلات والبرامج الغنائية، ولقد ضربت هذه الوسائلُ بأطنابها في بلادِ المسلمين، فكان لزاماً على كل غيورٍ محاربتها وإبعادها عن بيته قدر الاستطاعة .
ربوا نساءكم وبناتكم على حبِّ الحجاب و التعلق به منذ الصغر، ومن وسائل ذلك تحصينهنَّ الحصانة الفكرية و الأخلاقية، بأن تعلمَ المرأة المسلمة أوضاع المرأة الغربية، والإسفاف النفسي الذي وصلت إليه، وتعتيم الغزو لأوضاعها، و أحياناً قلب مفاسدها و انحرافاتها إلى فضائل و تكريم0
إننا لا نريدُ المرأة المتحجبة تقليداً وعادة ، تشعرُ مع الحجاب بالضيقِ والحرج ، وتتخلى عنهُ لأدنى شبهةٍ أو شهوة.
نريدُ المرأةَ المسلمة التي ترى في الحجاب عزاً وشرفاً، وترى في الحياءِ سلوكاً وخلقاً، نريدُ المرأة التي تتحجبُ استسلاماً لله ،ورضاً بشريعتهِ، وخضوعاً لحكمهِ، وتتمثل قولَ الحق: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )) (سورة الأحزاب :36) 0
لا نريدُ المرأة المتحجبة المتخلفة ، فإنَّ الدعوةَ إلى فريضة الحجابِ والعودة إليه لا بدَّ أن تواكبها دعوة القائمين بأمر المرأة، إلى أن يؤدوا لها فريضةَ تحرير عقلها من حجبِ التضليل، والجهل والتخلف، وتِلكم مسئوليتكم أيُّها الأولياء، فاتقوا الله وقوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
إننا نتطلعُ إلى أن تكون غيرتكم جبلاً تتحطمُ عليه كل نصالِ دعاة الضلال، وأن لا تكون غيرتكم جداراً من ورق ، ينهارُ عند أدنى طمعٍ دنيوي، أو شهوةٍ مادية .
نحنُ لا نُريد المجتمع الذي يقتلُ الحسين ويسألُ عن دم البعوضة ، لا نُريدُ الجيلَ الذي يأنفُ أفرادهُ من ذكر أسماءِ نسائهم في المجالس، و يتقبلون أن تصبح وجوههنَّ معرضاً مكشوفاً لكل راءٍ ومتفرج 0
وإلى أختنا بنت هذا البلد، وإلى كل مسلمةٍ تخشى الله وتتقيه، طوبى لمن تُفاخرُ بحجابها، وتتمسكُ بعفافها، ومعها العلم والوعي والبصيرة، والحريةُ الحقة من عبوديةِ العبيد، قائلةً لشياطين الإنس: (( قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )) (سورة الأنعام:15) .
يا فتاة الإسلام، رسالة نذير وصيحة تحذير، إنَّ الفتاة التي تستجيبُ لنداءِ المبطلين، وتنخدع بدعايات المفسدين، فتكشف عن وجهها، إنما تضعُ نفسها في خندقٍ واحدٍ مع جند الشيطان، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون 0
لتحذري يا ابنةَ الإسلام أن تكوني السبَّاقة إلى خلع جلبابِ الحياء، فتكوني ممن سنَّ في الإسلام سنةً سيئة، عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وإنَّ أولَ من تكشفُ وجهها ستكونُ من داعياتِ الضلالة، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الآثام مثل آثامِ من تبعه إلى يوم القيامة ، فهل لك يا فتاةَ الإسلام طاقةً بتحملِ أوزار المذنبين والمذنبات 0
يا ابنة الإسلام، لقد قال- صلى الله عليه وسلم - (( نح الأذى عن طريق المسلمين)) ، فإذا كانت إماطةُ الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، فأيُّهما أشدُّ أذى، شوكة أو حجر في طريق، أم فتنة تفسدُ القلوب، وتعصفُ بالعقول، وتشيعُ الفاحشة في المؤمنين 0
إنه ما من شابٍ مسلمٍ يُبتلى منك اليوم بفتنةٍ تصرفهُ عن ذكر الله، وتصدهُ عن صراطه المستقيم، كان بوسعكِ أن تجعليه في مأمنٍ منها ، إلاَّ أعقبكِ منها غداً نكالٍ من الله عظيم .
خذي العبرةَ من أخواتٍ لك في بلادٍ مسلمة، انخدعنَّ بدعوات المنافقين، فغرقنَ في مستنقعِ الآثام ، وعانينَ من ويلاتِ التبرج والسفور، ثم تداركهنَّ اللطيفُ الخبير، فأعلنَّ العودةَ إلى الله ، فاختصري الطريق ، ولا تُحاولي ولوجَ نفقٍ السفور المظلم، فُربما لا تعودين منهُ إلاَّ على نعشِ الانحرافِ وفي تابوتِ الضياعِ، حينها كم من قائلةٍ : يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ، وهل ينفع شيئاً ليت 0
إننا على ثقةٍ أن دعوات المنافقين ستتكسرُ على نصالِ الغيرة والرجولة ، وستغرقُ في سيلِ العفافِ والسمو الأخلاقي، وسينقلبُ المنافقون على أعقابهم خاسئين لم ينالوا خيراً، وسيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين .
=============(6/93)
(6/94)
هم العدو فاحذرهم
الحمد لله الذي يكشفُ البلوى، ويعلمُ السرَّ والنجوى، وأشهدُ ألاَّ إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، إنَّهُ هو الربُّ الأعلى، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله النبي الأكمل، والرسولل الأتقى- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم- تسليماً أما بعد:
فاتقوا الله أيُّها المسلمون: حقَّ التقوى، ولا تموتنَّ إلاَّ وأنتم مسلمون.
الأمةُ تعيشُ في غمةٍ، والأمةُ سيلٌ قد انعقد غمامه، وجيوشُ الصليب جاءت إلى ديار المسلمين من فوقهم ومن أسفل منهم، يُلوِحون بعصاهم الغليظة، ويُشهرون سيفَ التهديد والوعيد، قائلين:إنَّا قد جمعنا لكم فاخشونا، وأهلُ الإسلام يستسقونَ أمطاراً فترتوي الأجواءَ رياحاً وغباراً، بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعضَ الذي عملوا لعلهم يرجعون.
وفي غمار الأزماتِ، وأوقاتِ الشدائد والمحن، ينشغلُ الناسُ بالعدو الأصغرِ عن العدو الأكبر، حيثُ تنبعثُ روائحَ منتنةٍ من مستنقعٍ عفن، وتخرجُ جرذانِ الفساد، وفئران الانحلالِ من جحورها، لتغرق سفينةَ الأُمة، وتهدم بنيانها.
من يا تُرى عدونا الأكبر؟! وما تلك الروائح العفنة؟! وما هي جرذان الفسادِ وفئران الخراب ؟!.
إنَّهم قومٌ نسوا الله فنسيهم، أولئكَ هم الفاسقون، أولئكَ هم المفسدون في الأرض، الآمرون بالمنكر، الناهون عن المعروف، إنَّهم المنافقون الذين لا يظهرون إلاَّ في الأزمات ، ولا ينعقونَ إلاَّ إذا انتفش أسيادهم ، ورقصوا على جراح أمتنا طرباً .
إنَّهم المنافقون على اختلاف مشاربهم، وتنوع مسمياتهم، العلمانيون الحداثيون، أرباب الشهوات وأدعياءَ العقلانية والتنوير، الرافضة ، تعددت الأسماءُ والكيدُ واحد.
تنوعت أسماؤهم وسيدهم واحد، (( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب )) وهدفهم واحد"، (( ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً)) ويحبون أن تشيع الفاحشة بين الذين آمنوا، وودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءَ.
وادعاءَاتُهم واحدة، فالإفسادُ إصلاح، وتدميرُ المرأةِ تحرير، وعقوقها حقوق،. (( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)) إنَّهم المنافقون والمنافقات، بعضهم من بعض ، من طينةٍ واحدة، وطبيعةِ واحدة، المنافقون في كل زمانٍ وفي كل مكانٍ تختلف أقوالهم وأفعالهم، ولكنها ترجعُ إلى طبعٍ واحد
وتنبع من مستنقعٍ واحد، سوءَ الطوية، ولؤمَ السريرة والغمز، والدس والضعف عن المواجهةِ والجبن عند المصارحة، تلك سماتُهم الأصيلة ، أمَّا سلوكهم فهو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والبخلُ بالمال ، إلاَّ أن يبذلوه رئاءَ الناس، وهُم حين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، يستخفون بهما، ويفعلون ذلك دساً وهمساً، وغمزاً ولمزاً، لا يجرؤن على الجهر إلاَّ حين يأمنون، ولا يأمنون ويجترئون إلاَّ حينما ينتصرُ أسيادهم من اليهود والصليبين، ويُحلون قريباً من ديارِ المسلمين.
إنَّهم نسوا الله فلا يحسبون إلاَّ حساب الناس وحساب المصلحة، ولا يخشون إلاَّ الأقوياءَ من الناس ، يذلون لهم ويدارونهم، فنسيهم اللهُ فلا وزن لهم ولا اعتبار.
إنَّ النفاقَ لا ينجمُ إلاَّ عن تلك النفوسِ المريضة الجبانة، التي لا تتجرأُ على الظهورِ بأفكارها، أو تلك النفوسِ التي لا ترى إلاَّ حياتها الدنيا ، فإن أُعطي أحدهم رضي، وإن لم يُعط سخط ، وهُناك نفوسٌ تكرهُ الحقَّ ولا تحبُ العيشَ إلاَّ في المستنقعِ الآسن ، فهي تشرقُ بدعوةِ التوحيد، والعبودية لله وحده.
لقد تميزَ عصرُنا الحاضر بارتفاع أصوات المنافقين والمنافقات في أنحاء العالم الإسلامي، فأُفردت لهم الصفحات، ودُعوا إلى التحدث في المنتديات، واحتفلت بهم التجمعات، وسيطروا على كثيرٍ من وسائلِ الإعلام كما يلاحظهُ القاصي والداني.
وحالُ المنافقين ليس بجديدٍ على أمةِ الإسلام، فعداوتهم متأصلةً منذُ هجرة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد وصفهم الله في سبعةٍ وثلاثين موضعاً من كتابه، وأفاضت السنة في وصفهم، وهي صفاتٌ تتوارثها الأجيال المنافقة، زمنٍ بعد زمن حتى وقتنا الحاضر، "وإذا رأيتهم تُعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم"، فما أكثرَ المستمعين لحديثهم، المنصتين لهرائهم، المتابعين لإنتاجهم ، والعجبُ أن تتولى حفنةٌ قليلةٌ من المنافقين والمنافقات إفساد الأمة، ومسخها عن دينها ودعوتها، إلى التحررِ والإباحية، والعفنِ والرذيلة، وهكذا هُم المنافقون في كلِّ أمةٍ وفي كل قطر، يتحينون الفرص، ويقطعون الطريق، (( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)) لا يملون ولا يكلون، ولهم جلدٌ وصبرٌ عجيب، شعارهم ( تقدم خطوتين وارجع خطوة) (( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم)) .
إنَّ من كيد المنافقين محاولةُ إسقاطِ الشخصيات المسلمة، وتشويه صورتها، والقدحُ في نزاهتها كما في قصةِ الإفك التي تتكرر في كلِّ جيل، وعبر طرقٍ مختلفة.(6/95)
ومن كيدهم: بلبلةُ الصفِّ الإسلامي، بإشاعة الخور فيه والضعف، وذكرُ قوةِ الأعداء وتهويلها"، (( وقالوا لا تنفروا في الحر)) ، (( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاَّ خبالاً)) وكما قال قائلهم يوم تبوك : أتظنون جلادَ بني الأصفرِ كقتالِ العرب، والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال ، واستعملوا أسلوبَ السخريةِ والاستهزاء، (( ولئن سألتهم ليقولنَّ إنما كنَّا نخوض ونلعب )) .
أيُّها المسلمون :
المنافقون هم الذين يتخذون الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين، يبتغون عندهم العزةَ، ويُسارعون فيهم، يقولونَ نخشى أن تُصيبنا دائرة"، فهم يتعاونون مع أعداءِ الإسلام لتدميرِ الأمةِ المسلمة، قال شيخ الإسلام": وهؤلاءِ المنافقين في هذه الأوقات، فيهم ميلٌ إلى التتار، لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام.
يشهدُ التاريخُ ويشهدُ الحال على أنَّهُ ما من فتنةٍ هي أشدُّ خطراً وكيداً على الأمة، وقيادتها ومبادئها، مثل كيد المنافقين.
فهم لا تربطهم بقادتهم، ولا بأوطانهم مبادئُ سامية، ولا قيمٍ نبيلة ، رائدهم المصلحة وهدفهم الإفساد.
روي عنه- صلى الله عليه وسلم - قوله : (( إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً ، أمَّا المؤمن فيحجرهُ إيمانه ، وأما المشركُ فيقمعهُ كفره ، ولكن أتخوفُ عليكم منافقاً عالم اللسان ، يقولُ ماتعرفون ، ويعملُ ما تنكرون)) .
من ينسى موقفهم في أحد، وخيانتهم يوم الخندق، وإرجافهم في تبوك، ومن ينسى مؤامرتهم لإسقاط الدولة المسلمة، ومن ينسى تواطؤهم مع التتار، وتعاونهم مع أهلِّ الصليب، أمَّا في عصرنا فتشهدُ أرض أفغانستان بالأمس، وبلاد العراق اليوم بخبثهم وخيانتهم ومكرهم.
إنَّ شماتتهم وفرحهم بما يُصيبُ المسلمين من نكباتٍ، لم يكن ليُخفيها التظاهرُ المتصنع ، وما تقولهُ أفواههم غيرَ ما تُخفيه صُدورهم .
إنَّهم وإن دندنوا بالحفاظ على مصلحةِ الوطن، وتحدثوا عن الحرصِ على الوحدة والتآلف، فهم بأفعالهم كاذبون، وبمواقفهم خائنون، (( وإن يقولوا تسمع لقولهم )) (( وفيكم سمَّا عون لهم )) .
لم يعرف التاريخ السابق والمعاصر قوماً أشدُّ وفاءً لقيادتهم وأمتهم، وأكثرُ حفاظاً على مكتسبا تهم، من أهلِّ السنةِ الصالحين المصلحين، الذين ينطلقون في مواقفهم من عقيدةٍ راسخة، وقيمٍ نبيلة، وإيمانٍ بالله واليوم الآخر، لا خوفاً من بشرٍ ولا طمعاً في عَرَض.
أيُّها المسلمون:
والأمةُ اليوم مهددةٌ من أعدائها، وليس لها من دونِ الله كاشفة، والفتنُ قد اشتدَّ أوارها ، فإنَّ الحاجةَ تشتدُّ للعودة إلى الله، واللجوءِ إلى حماه ، والحاجةُ تشتدُّ إلى التعاون والتآلف، ووحدةَ الصفِّ والاعتصامِ بحبل الله ، والحاجةُ تشتدُّ إلى السيرِ في ركبِ جماعةِ المسلمين وإمامهم.
ولكنَّ المنافقين في الأمة انطلاقاً من مبادئهم في خلخلة الصفوف، وتحقيقاً لأهداف أسيادهم"، (( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم)) ، ويبغونكم الفتنة، ويريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً.
هاهم اليوم يستغلون انشغالَ الأمةِ بالأحداثِ والأزمات ، يبثُّون سمومهم، وينشرون أفكارهم العفنة، ويدعون إلى ضلالاتهم التي تشهدُ هدم الجدار الأخلاقي للأمة ، لكي يسهلَ استعمارها، ويخف على أسيادهم دمارها.
لقد رأوا كما رأى أسيادهم، أنَّ إفساد المرأةِ هو أقصرُ الطُرقِ لإفسادِ المجتمعِ بأسره، فسلطوا سهام أقلامهم للحديث عن قضايا المرأة وحقوقها المهضومة كما يزعمون.
إنَّ قضاياهم التي يطرحونها، وأفكارهم التي ينشرونها، لا تتجاوزُ المرأة وشؤونها، سواءً فيما يخصُّ تعليمها، ولباسها المدرسي ومناهجها، أو فيما يخصُّ عملها، ومحاولةُ إقحامها في مجالاتٍ لا تتناسبُ مع طبيعتها ، أو فيما يتعلقُ بترفيهها من خلالِ دعواتهم لإنشاءِ نوادٍ نسائية .
وآخر غثائهم دعوتُهم التي أٌقرت، وهي سماحَهم للمرأةِ بالعملِ بائعةً بمحلاتِ أدوات التجميل، ومندوبة مبيعات.
ودعكَ من شروطهمُ التي وضعُوها، فإنَّما هي حبرٌ على ورق.
وفي برنامجٍ تلفازي، يصبحُ المذيعُ مفتياً، فيعرضُ صورَ نساءٍ كاشفاتِ الوجهِ، ويبرر بأنَّهُ هذا لا شيءَ فيه شرعاً .
إنَّ مثلَ هذه الدعواتِ العفنةِ في مجتمعنا المسلمُ الغيور، إنَّما تزرعُ بذورَ الخصامِ والعداوات، وتؤججُ نارَ الفُرقةِ والنزاعات، وتستجلبُ غضبَ اللهِ عز وجل وسخطه.
كلُنا يُدركُ والمنافقون يعلمون أنَّ فتنةَ التبرج والسفور في البلاد المسلمة، إنَّما بدأت بكشفِ وجه المرأة، فخلعت معهُ ما هو أغلى وأثمن، ألا وهو ثوبُ الحياء، الذي طالما صان وجهها، أن يكون معروضاً مبذولاً لكلِّ من شاءَ أن يراه، وما زالت المرأةُ تتدرجُ في خطوات السفور، حتى وصلت إلى ما تعلمون وتسمعون.
وكلُنَّا يُدركُ أنَّ عمل المرأة بائعةً ومندوبة مبيعات، يستلزمُ قيادتها للسيارة، ويتطلبُ اختلاطها بالرجال، واتصالها بهم، ولا تسأل بعد هذا عمَّا يحدثُ من فتنٍ وضياع، فلماذا الضحكُ على الذقون ؟ .(6/96)
وإننا نتساءلُ بحرقةٍ وأسى : لمصلحةِ من تُبثُّ هذه الأفكار العفنة، وتنشرُ هذه الآراء المفسدة ؟ وهل نحنُ نُعاني من قلةِ الرجال العاملين، أوليس لنا عبرةً في تجاربِ الغرب الكافر، حينما انتهوا إلى حقيقةِ : أنَّ المرأةَ دورها في بيتها، وعملها في أسرتها، فلماذا نبدأُ من حيثُ بدؤواُ لا من حيث انتهوا.
إننا نعلمُ ونوقنُ، أن ليس بالقومِ غيرةٌ على الدين، ولا حرصٌ على مصالحِ البلادِ والعباد، ولكنهم المنافقون يصطادون في الماءِ العكر، ولا يرضيهم إلاَّ أن يكون مُجتمعنا نسخةً من مجتمعات الغربِ المنحلة، ولا يقرُّ أعينهم إلاَّ مشاهد المسارح والبارات ، ودورُ البغاءِ وأولادُ السفاح منتشرةً في شوارعنا ، إنَّهم كما أخبر الله ((ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً)).
إنَّ العلمانيين حينما يطرحون قضيةَ المرأةِ وحجابها، ويُطالبون بقيادتها للسيارة، ومشاركتها للرجلِ في التجارةِ والإدارة، إنَّما يجعلون من مسألةِ الحجابِ والعفافِ مجرد تقاليدٍ وعادات.
وما عرفنا الإسلام تقاليد ، إنَّما عرفناهُ مناراً وتعاليم، وشرائع ومعالم. وهم بذلك يُحولون شرعَ اللهِ ووحيهِ إلى أعرافٍ وتقاليد، تواضعُ الناس في زمنٍ من الأزمان على احترامها، وبناءً على ذلك فما يَصلحُ لجيلٍ لا يصلحُ لآخر، وما يناسبُ مجتمعاً لا يناسبُ المجتمعات الأخرى، وما يتفقُ مع زمنٍ فلا شأنَ لهُ بباقي الأزمان، إنَّ الهدف من التعبيرِ عن الأحكام الشرعية، بالتقاليدِ واضحٌ بيِّن، وهو جعلها عُرضةً للتغييرِ والتبديل، بحجةِ إنَّ تقاليدَ عصرُ الصحراء لن تُناسب عصر الفضاء،" كبُرت كلمةً تخرجُ من أفواههم .
لا بُدَّ أن تُدرك المرأةُ المسلمةِ ويدرك وليها، ولا بُدَّ أن يدركَ المجتمع كلهُ أنَّ كلَّ دعوةٍ لإفسادِ المرأةِ، ونزعِ حيائها، وسلبِ عفافها، إنَّما هي محاولةُ لهدمِ معالمِ القوةِ في الأمة، ليسهلَ على العدوِّ تدميرها، وسلب خيراتها.
وإنَّ العجب لا ينقضي من أمةٍٍ تنعمُ بشريعةِ ربها، وتتفيؤ ظلالَ نعمهِ الوارفة، في جنةِ العفاف، وبستانِ الفضيلة ، ثُمَّ هي تنقضُ غزلها، وتُخرب بيتها بأيديها وأيدي أعدائها،. (( أ فحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)) .
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإنَّ المعركةَ الفكريةَ التي يُديرها أعداءُ الإسلام، أخبثُّ وأشدُّ لؤماً من المعاركِ العسكريةِ والاقتصادية، معركةٌ استنفرت فيها الأقلام، وحُشدت لها الكتبُ والصحفُ والمجلات، ومئاتُ المرتزقة والحاقدين.
وإنَّ أشدَّ ما يُصابُ به المسلمون، أن يتسلل المنافقون إلى صفوفهم، فيعيثون تخريباً وفساداً، وأصحاب الغفلةِ يسمعون لهم، وتُؤثر فيهم مكايدهم 0
إنَّ المنافقينَ اليومَ لم يُعد هجومهم وحربهم قاصراً على القيادات الإسلامية، من علماءٍ ودعاة، ولم يتوقف عندَ حدِّ الهجومِ على المؤسسات الإسلامية العاملة في هذه البلاد ، من لمزٍ لنظامِ القضاء، أو سخريةً بالفتوى، أو هجومٌ متعمدٌ على الهيئات، وتهكمٌ برجالها ، ذلك الهجومُ الذي يقطرُ من أقلامهم، وتسودُ به صحافتهم.
لم يُعد المنافقون يكتفونَ بذلك، بل مع جلدِ الفاجرِ، وعجزِ الثقةِ، أصبحوا يَتطاولون على بعضِ معالمِ الدين، ويتحدثونَ عن أمورٍ شرعيةٍ بأسلوبٍ ساخر، ينبئُ عن مرضٍ قلبي ، وانهزاميةٍ نفسية، فمن كاتبٍ يتهجمُ على الجهادِ ويسخر من المجاهدين، ويتهكمُ بالكراماتِ وصورَ النصر ، إلى آخرٍ يكتبُ مقالاتٍ عن الدعوةِ، ويتوصلُ بعبقريتهِ الفذَّة إلى أنَّ داءَنا، وعلةَ فشلِ تعليمنا، هو اشتغالُنا بالدعوة إلى الله ، ويظهرُ تبرمهُ منهُ قائلاً: لهذا أصبحنا محاطينَ بالدعوة والدعاةِ من كلِّ جانب ، ويسخرُ من مواضيعِ الدعوة قائلاً : إنَّ كثيراً من النشاطاتِ لا يتضمنُ إلاَّ تكراراً، فهي تدورُ على موضوعاتٍ محددة، أشهرها الموتُ والحجاب، وتفسيرُ الأحلامِ والجهاد.
ويُطالبُ تلميحاً بإقصاءِ الدينِ عن المناهجِ الدراسيةِ قائلاً : وتساعدُ المناهجُ نفسها هؤلاءِ، على أن يكونوا دعاةً، فقد اصطبغتِ الكتبُ الدراسيةِ جميعها بصبغةٍ دينية، ويختمُ هراء هُ بقوله: ومن هُنا فأحد أسبابُ تدهورِ التعليم، أنَّ المدارسَ لم تُعد بيئةً للتعليمِ كما نعرفه، بل أصبحت مكاناً للوعظِ والتزهيد في الدنيا، وتحويلِ الطلاب إلى أتباعِ بعض التيارات، التي رُبما تقودُهم إلى مآلاتٍ غير مُرضية .
وما إن كتبَ هذا الكاتبُ هذا السخفُ، حتى تتابعَ مُريدُوهُ من غلمان الأهواءِ، وصبيانِ الفكرِ يُؤيدونهُ، ويُوردون الشواهدَ الهزيلةِ، على صدقِ نظريتهِ الفذَّة (( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا )) .
ولسنا بحاجةٍ إلى ردِّ مثل هذا الغُثاء الذي يُعارضُ دينَ الله أولاً ، ويتعارضُ مع سياسةِ الدولة وأنظمتها ثانياً ، ولكننا نتساءَلُ : كيف يُنشرُ مثل هذا السُخفِ في بلاد الإسلام ؟
إنَّهُ ومع خروجِ فئرانِ النفاق من جحورها، وظهورِ روائح المنافقين العفنة، ومع كثرةِ مبادراتهم التغريبية، فإنَّ المسؤوليةَ على أهلِّ البلاد كبيرةً، للحفاظِ على أمننا العقدي والفكري والأخلاقي.(6/97)
إنَّ أولَّ واجبٌ علينا تجاهَ النفاق والمنافقين، هو كشفِ عوا رهم، وفضحِ أسرارهم، وتعريةِ لا فتاتهم التغريبية، وبيان حقيقة أهدافهم .
لا بدَّ أن تُعلمَ الأجيالُ أنَّ المنافقين هم أشدُّ خطراً على البلادِ وأهلها من العدوِّ الخارجي"، هم العدو فاحذرهم".
وإنَّ على العلماءِ والدعاة، والكتاب أن يوجِّهوا أقلامهم وأطروحاتهم، ومقالاتهم لكشفِ مؤامراتِ المنافقين، ومُجاهدتهم وفضحهم، بدلاً من الخوضِ في الجهادِ ومثالبِ المجاهدين .
لابُدَّ أن تعلمَ الأمةُ أنَّ المنافقينَ هُم أعداؤها ، والمناصرونَ لأعدائها ، وإنَّ تستروا بعباءَةِ الوطنية ، والتحفوا بلحافِ الإصلاح، (( اتخذوا أيمانهم جنة )) فيحلفون الأيمانَ كلَّما انكشف أمرهم ، أو عُرفَ عنهم كيدٌ أو تدبير ، أو نُقلت عنهم مقالةُ سُوءٍ في المسلمين .
وإنَّ من الواجبِ أخذ الحذرِ من مكرهم وكيدهم (( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم )).
والحذرُ يقتضي معرفةُ صفاتهم وأساليبهم (( ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم إسرارهم )) .
والحذرُ يتضمنُ عدمُ الثقةِ بأقوالهم ، فالكذبُ من السياساتِ المعمولِ بها عند المنافقين، ((يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر )) .
وإذا كُنَّا مُطالبين بإعمالِ حُسن الظنِّ مع المؤمنين ، فإنَّ من السذاجةِ المرفوضةِ أن نجعلَ المؤمنين كالمنافقين .
والحذرُ يتضمنُ عدمُ الميلِ إلى آرائهم ، والتي غالباً ما تكونُ مطبوخةً في مصنعِ المصالحِ الذاتية ، ويتضمنُ التعبئةَ العامةَ ضدهم ، والحذرُ من تعاونهم مع العدو .
وإنَّ محاربة النفاقِ والمنافقين ، تكونُ بالبعدِ عن مجالسهم ومنتدياتهم ، فأولى مراتبُ النفاقِ، أن يجلسَ المؤمنُ مجلساً فيه آياتُ اللهِ يُكفرُ بها ويستهزأ بها ، فيسكتُ أو يتغاضى ، يُسمي ذلك تسامحاً ـ أو يسميهِ دهاءً ، أو يسميهِ سعةَ صدرٍ وأفق ، وإيماناً بحريةِ الرأي . وهي هي الهزيمةُ الداخلية، تدبُّ في أوصالهِ،
إنَّ الحميةَ للهِ ولدينِ الله ولآياتِ الله، هي آيةُ الإيمان ، وما تفترُ هذه الحميةُ إلاَّ وينهارُ بعدها كلُّ سد ، وينزاحُ بعدها كلُّ حاجز ، وإنَّ الحميةَ لتكبتُ في أولِ الأمر عمداً ، ثُمَّ تُهمدُ ، ثُمَّ تُخمد ، ثُمَّ تموت .
فمن سمع الاستهزاءَ بدينهِ في مجلسٍ، أو قرأهُ في صحيفةٍ أو مجلة ، فإمَّا أن يدفعَ ، وإمَّا أن يُقاطعَ المجلس وأهله ، والصحيفة وملاكها .
فأمَّا التغاضي والسكوت، فهو أوَّلُ مراحلِ الهزيمة ، وهو المُعبرُ بين الإيمانِ والكفرِ على قنطرةِ النفاق، (( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله )) .
وإنَّ كيدَ المنافقين يواجهُ بالاعتناءِ الشديد، بأمرِ الجهادِ في سبيلِ الله، وإعدادَ العُدةِ الكافيةِ لملا قاتِ الأعداء، عملاً بقولهِ تعالى، (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )) وذلك أنَّ روحَ الجهادِ متى ما سادت، أيِّ مجتمعٍ أدَّى ذلك إلى حمايةِ وجودهِ، وتعزيزَ وحدته، وضمانَ ديمومتهِ العقائدية، وإبداعهِ الحضاري .
وكيدُ المنافقين يواجهُ بتعزيزِ جانبِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر،والقيام بوظيفةِ الإصلاح ، فما مِن شيءٍ أشدُّ على المنافقين من إحياءِ هذه الشعيرة ، ولذا كانت الهيئاتُ شوكةً في حلوقهم، وسداً أمامَ شهواتهم ، فأفرغوا سيلَ حقدهم، وصبُّوا جام غيظهم على الحسبةِ ورجالها، ساخرين لامزين، (( سخر الله منهم ولهم عذاب أليم )) .
وإنَّ كيدَ المنافقين ومكرهم يواجهُ بالتوعيةِ الجادَّة، للأسرةِ نساءً وشباباً وأطفالاً ، وتربيتهم على الجدِّيةِ في التمسكِ بالدين ، والبعدُ عن الترخصِ والتحللِ من قيمِ الدين بأيِّ مسمىً كان .
لابُدَّ أن تعي الأسرةُ المسلمة تخطيط الأعداءِ، ودورهم في إفسادِ المجتمعات ، ولا بُدَّ أن تعلمَ نساؤنا خطواتِ الإفسادِ التي مرت بها المرأةُ المسلمة في بلادٍ أخرى ، وانتهت بها إلى التهتكِ والفجور .
ولابُدَّ أن تتعلم الأسرةُ المسلمة أحكام دينها، وحقوق كلِّ فردٍ في شريعةِ الإسلام ، ولابُدَّ من تربيةِ الأجيالِ على الولاءِ للدين، وأخذِ أحكامهِ بقوة ، وأنَّ شريعةَ الإسلامِ قائمةً على التسليمِ لرب العالمين، (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً )) .
إنَّ المعلمَ والمعلمة في مدارسهم، والأبُ والأمُّ في البيت، ودرسُ الحلقةِ في حلقتهِ، والإمامُ في مسجده ، والداعيةُ في كلِّ مكان ، هؤلاءِ جميعاً عليهم مسؤوليةُ حمايةِ المجتمعِ وحراسةُ الفضيلة ، وتحصينُ أفرادِ الأمة عن أيِّ داءٍ تغريبي .
يوم أن يقومَ كلٌّ منَّا بدورهِ، ويومَ أن تقفَ الأمةُ كلَّها في وجهِ الطروحات التغريبية، رفضاً وإنكاراً ومقاطعةً، حينها تخبو نارَ النفاقِ ، وينقلبُ المنافقون بغيظهم لم ينالوا خيراً ، ويصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين 0
اللهمَّ صل وسلم على نبينا محمد .
==============(6/98)
(6/99)
أساليب العلمانيين في إفساد المرأة 2 / 2
أيها الأخوة في الله :إن الغربَ يُريدُ القضاء على هذا الدين، وذلك من خلالِ إيجادِ أذنابٍ لهم يحملون فكرهَم، ويتبنونَ أطروحاتهِم، ومن خلالِ المرأةِ وتحريرهِا المزعوم، واليومَ نتحدثُ عن دورِ المنهزمين المتغربين من أبناءِ جلدتنا، ونبينُ أساليبَهم في إفسادِ المرأةِ المسلمةِ، يقول حُذَيْفَةُ- رضي الله عنه-: (( كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ قِيلَ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : مَنِ اتَّقَى الشَّرَّ وَقَعَ فِي الْخَيْرِ)) . رواه أحمد [1]
أيُّها الأخوةُ في الله : لهؤلاءِ المفسدين وسائلَ لتحقيق مآربهم، وتمريرِ أفكارِهم في المجتمع، نذكرُ بعضاً منها مما يسمحُ به المقام، فمن أبرزِ وسائلهِم، والتي ركزوا عليها جهدَهم، وأنفقوا عليها أموالَهم، وسخَّروا لها أموالَ غيرِهم ووجاهتَهم :
1- وسائلُ الإعلامِ المختلفة ، سواءً كانت مسموعةً أم مقروءةً أم مرئية، .. يقول الله جل جلاله: (( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) [النور :19] .
لقد دأب الإعلامُ بوسائلهِ المختلفةِ، على تصويرِ المفاهيمِ الإسلاميةِ الخاصةِ بالمرأةِ تصويراً يحطُّ من قدرِها، وينتقصُ من صلاحيتِها، ويشككُ في قدرتهِا على الاستجابةِ لمتطلباتِ الحياةِ العصريةِ، ويُحقِّرُ من شأنهِا ، ويصوِّرُ أن المرأةَ المسلمةَ مهضومةُ الحقوقِ، مهيضةُ الجناحِ!! ليتظاهرَ الإعلامُ بكلِ قنواتِه، بالدفاعِ عنها والبحثِ عن حقوقِها، وإثارةِ قضايا مفتعلةٍ كضرورةِ تحريرِها من القيودِ، ومساواتهِا بالرجالِ!! بالإضافة إلى إلقاءِ شُبهاتٍ حول أحكامٍ إسلاميةٍ معينة، تُزرع في حسِ المرأةِ لتراها عبئاً ثقيلاً، تتمنى الخلاصَ منه! ففي تعليمِ المرأةِ وعملِها، اضطلع الإعلامُ بدورِه في بناءِ مفهومٍ خاطئ عن قرارِ المرأةِ في بيتِها؛
فالمرأةُ المتفرغةُ لشؤون بيتِها والحدبِ على أطفالهِا، رعايةً وتعليماً بكلِّ ما يمثلهُ هذا الدورُ المنزليُ، من حضورٍ فاعلٍ ومؤثر، لا يُعترفُ به إعلامياً!! ولم يتحدث الإعلامُ عن الآثارِ الخطيرةِ التي جنتها الأمةُ من خروجِ المرأةِ للعملِ، ووكلِها تربيةَ الأبناءِ للخادماتِ ودورِ الحضانةِ، ولم يُعالج هذا الخطرُ المحدقُ بالأمةِ إعلامياً، ومثلما صوَّر الإعلامُ قرارَ المرأةِ في بيتِها بأنهُ أداةُ تعطيلٍ لطاقاتِ المرأةِ، وعزلٍ لها عن المجتمعِ، دعا أيضاً إلى ضرورةِ التعليمِ المطلقِ للمرأةِ، ومنحِها فرصِ التعليم حتى في مجالاتٍ لا تتناسبُ مع طبيعتِها الأنثويةِ ، ومن ثَمَّ إيجادُ سيلٍ هائلٍ من الخريجاتِ اللاتي يُطالبن بفرصِ عملٍ ، و الحجابُ الذي قال الله فيه : (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ )) [ الأحزاب :59].
- مثلاً - صوَّرهُ على أنهُ عادةٌ شعبيةٌ يتوارثها الأجيالُ، ومعضلةٌ حقيقيةٌ تقفُ عائقاً في طريق هذه المرأةِ، نحو النهوضِ والتعلُّمِ والارتقاءِ ونحوهِ ، ولم يقف دورُ الإعلامِ عند تصويرِ الحجابِ بهذه الصورةِ الخلفيةِ الرجعيةِ، بل تراهُ يدعو مباشرةً أو غيرَ مباشرة إلى التعري، ونبذِ الحياءِ، وهذا سبيلٌ من أقوى وأقصرِ سبلِ امتهانِ المرأةِ، ثُمَّ تعدى ذلك إلى إيذاءِ المحجباتِ تصريحاً أو تلميحاً ، ففي الوقت الذي يدندن الإعلامُ حولَ إعطاءِ المرأةِ حريتَها المسلوبةَ، تتلونُ هذه الدندنةُ وتصبح هجمةً شرسةً، يُمارسها الإعلامُ ضد كثيرٍ من المحجبات؛ كما هو الحالُ مع فئةِ التائباتِ اللاتي أعطى الإعلامُ نفسَه حقَ التحدثِ، حتى عن نواياهُنَّ، وما تنطوي عليه قلوبهُنّ ، أمَّا التعددُ: فليس بوسعنا تجاهل طرحِ الإعلامِ له، بصورة متشنجةٍ وعدائيةٍ، تزرعُ في حسِّ المرأةِ شعوراً بأنَّ التعددَ حكمٌ شُرع عليها لا لها؛ وذلك بعرضهِ المستمر للمشاكلِ والآثارِ الاجتماعيةِ السيئةِ للتعدد، بدءاً بكمٍٍّ هائلٍ من قصصِ النزاعِ بين الزوجاتِ وضرائرهِنّ وأزواجهِنّ، وانتهاءً بحالاتِ التيهِ والضياعِ التي يتعرضُ لها أبناءُ الأزواجِ المعدِّدين، والذين ينشئون بين عواصفَ مهيبةٍ من الشقاءِ العائلي، بينما يمارسُ الإعلامُ تجميلَ حالةِ أولئك الذين يتبعون رغباتهِم، بطرقٍ حيوانيةٍ وتحسينَها؛ على الرغم من أن نتيجتَها غالباً ما تكون جملة من انحرافاتٍ ورذائل، وجمهوراً من أطفالٍ غيرِ شرعيين! وأمراضاً فتَّاكةً، ينقلها الزناةُ من الرجالِ إلى زوجاتهِم الطاهراتِ العفيفاتِ !!(6/100)
بل تعدى الأمرُ إلى ما هو أعظمُ من ذلك بكثير ؛ عندما راح المخرجون ينتقون من بناتِ المسلمين، ممن تتراوح أعمارُهُن بين الثانيةِ والحاديةَ عشرةَ أو تزيد قليلاً ، ومن أسرٍ مسلمةٍ ينتقونهنَّ، ليقدمن الرقصَ والأناشيدَ والأغاني ، وهنَّ في أبهى الحللِِ وأجملِِ الجمالِ، وقد ألبسوا ذلك ثياباً تظاهروا فيها بالبراءةِ والنقاءِ، والطهرِ والصفاء، وأنَّ هذه مسارحُ أطفال، وأنتم تظنون ظنَّ السوءِ ، وقد كشف اللهُ تعالى في غيرِ موضعٍ دعواهم تلك، فقال جل في علاه : ((وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ )) ويا تُرى كيف سيكون حالُ هذه الفتاةِ إذا كبرت ؟! إلى أين ستتجهُ إن لم تتداركْها عنايةُ اللهِ ورحمتُه ؟! يقو صلى الله عليه وسلم : (( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ )) [2]
وينشأ ناشئُ الفتيان فينا على ما كان عودهُ أبوه
أيها الأخوة في الله :
إنَّ البرامجَ الموجَّهةَ للمرأةِ المسلمةِ عبرَ وسائلِ الإعلامِ، لا تعكسُ قيمَ المجتمعِ المسلمِ الذي تظهرُ فيه وتروَّج؛ بل تكرسُ نموذجَ المرأةِ الغربيةِ، وتظهرهُ بصورةٍ ترسخُ في الأذهانِ على أنَّهُ هو النموذجُ القدوة، تقولُ إحدى المتخصصات في دراسةٍ لها : ( إنَّ التركيزَ في هذه المجلاتِ منصبٌ على النماذجِ الغربيةِ للمرأةِ، ويروجُ القيمَ الاستهلاكيةَ الغربيةَ، من خلالِ الموادِ الإعلاميةِ، والإعلاناتِ التي تقدمها : كالأزياءِ، والمكياجِ، والعطور، إلى آخرِ ما ذكرتهُ هذه الدراسةُ المهمة ) [3]وهذا التكريسُ كان سبباً طبيعياً، ومباشراً لما نراهُ من تغيرٍ في سلوكِ بعضِ نساءِ المسلمين وفتياتهِم، جاءَ في تقريرٍ لليونسكو - وهي منظمةٌ غربية تدعو إلى التغريب، قولهُم : ( إنَّ إدخالَ وسائلَ إعلامٍ جديدةٍ، وبخاصةٍ التلفزيونُ في المجتمعاتِ التقليديةِ، أدَّى إلى زعزعةِ عاداتٍ ترجعُ إلى مئاتِ السنين، وممارساتٍ حضاريةٍ كرَّسها الزمن ) .
وصدقكَ وهو كذوب، انظر إلى تهلهلِ حاجزِ النفرةِ من الكفار، ليصبحَ مكانَهُ محاكاتهُم، واتباعُ عاداتهِم وتقاليدِهم، يقو صلى الله عليه وسلم : (( لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْر وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ ،قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ )) [4]
2- ومن وسائلهم: تحويلُ المعركةِ من أنَّها حربٌ على الإسلامِ، إلى أنها حربٌ ضدَ العاداتِ والتقاليدِ، لأنَّهم يُدركون أنَّ المجتمعَ لا يُريدُ إلاَّ الإسلامَ ـ ولله الحمد - فحولوا المعركةَ، بزعمهم أنَّ ما عليه الناسُ ما هو إلاَّ عاداتٌ وتقاليد، وهم لا يقصدون بذلك إلاَّ الإسلامَ، والإسلامَ فحسب ، يقولُ الله جل في علاه : (( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) [البقرة : 42] .
وهذا تحذيرٌ من الله تعالى لهم من أن يلبسوا ، أيّ يخلطوا الحقَ بالباطلِ حتى يشتبهَ على عوامِ الناس ، وذلك أنَّ أكثرَ الضلالاتِ لا تروجُ على الناس، ويتفاقمُ شرُها إلاَّ بسببِ هذا الخلطِ الذي يضيعُ به وجهُ الحقِ، استمع يا رعاك الله إلى ما يقولُه أحدُهم لتدركَ حجمَ المؤامرةِ، يقول : (( علينا إذاً تحريرُ المرأةِ من كثيرٍ من قيودِ العاداتِ والتقاليدِ ، وكثيرٌ منها لا أصلَ شرعيَّ لها ، بل جاءََتنا من عهودِ السلاجقةِ والعثمانيين، وعلى سبيلِ المثالِ فإنَّ كشفَ الوجهِ مسألةٌ خلافية، )) [5].
فهل الحجابُ عادة ؟ !! ويتباكى أحدُ الرافضةِ على وضعِ المرأةِ في المجتمعِ الإسلامي فيقول : (( ربما يصعبُ علينا الإقرارُ بأنَّ وضعَ النساءِ في مجتمعِنا لا يُطابقُ المعاييرَ التي يتفقُ عليها العُقلاء )) . وقال : (( وأظنُّ أنَّ كثيراً مما يُكتبُ أو يقالُ في عددٍ من المجتمعاتِ الإسلاميةِ، حول حقوقِ المرأةِ في الإسلامِ، ليس سوى تبريرٍ لحرمانهِا من هذه الحقوق )) [6] .
وقد تبين لنا أنَّ الرافضةَ أعداءٌ للإسلامِ من قديمِ الزمانِ، فكيف إذا اجتمع رفضٌ ونفاقٌ ؟!!
3- ومن وسائلهم العجيبةِ: أنَّ كثيراً من مطالبهِم تُغلفُ بحرصهِم على خصوصيةِ المرأةِ، وعدمِ تعريضِها للرجال ، كما قال تعالى : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ )) [ البقرة : 11-12] .
وصدق القائل :
أختاه كيف ظننتِ أنَّ معربداً يسعى بمؤمنةٍ لأمرٍ سام ؟
قد يدعي معنى العفافِ مخادعٌ ويصوغُ فلسفةَ الأمانِ حرامِ
4- ومن وسائلهم محاولةُ نشرِ الاختلاطِ في المجتمعِ، وتعويدِ رؤيةِ الناسِ له، والمطالبةُ بإلغاءِ أن يكونَ هُناك يومٌ للرجالِ وآخرُ للنساءِ، في أماكنِ النزهةِ ونحوهِا، والضربُ على هذا الوترِ من خلالِ المشاهدِ الساخرةِ في التلفازِ، والكتابةِ في الصحف، انظر إلى الاختلاطِ في المطاعمِ العائليةِ والمستشفياتِ، والطيرانِ والحدائقِ والمهرجاناتِ ونحوهِا .(6/101)
قال ابنُ القيم ـ رحمه الله ـ : ( لا ريبَ أنَّ تمكينَ النساءِ من اختلاطهِنَّ بالرجالِ، أصلُ كلِ بليةٍ وشر ، وهو من أعظمِ أسبابِ نزولِ العقوباتِ العامةِ ، كما أنَّهُ من أسبابِ فسادِ أمورِ العامةِ والخاصةِ ، واختلاطُ الرجالِ بالنساءِ سببٌ لكثرةِ الفواحشِ والزنا ، وهو من أسبابِ الموتِ العامِ ، والطواعينِ المتصلة ) [7]
5- ومن وسائلهم الاستفادةُ من الأقوالِ المرجوحةِ من فتاوى العلماءِ التي توافقُ أهواءَهم، لتمريرِ أهدافِهم في المجتمع المسلمِ، الذي لا يثقُ إلاَّ في كلامِ العلماءِ ، وفى ذلك يقولُ أحدُهم : (( إنَّ كثيراً من دولِ العالمِ الإسلاميِ، قد سبقنا في الوصولِ إلى حلولٍ جذريةٍ في مسألةِ الحجابِ، وكشفِ الوجهِ، وميادينِ عملِ المرأةِ وقيادتهِا للسيارة ، ولا أرى بأساً من الاستفادةِ من تجاربِ الآخرين ، والأخذِ بما هو مقنعٌ، وفى حكمِ المنطقِ والمعقول )) [8]. فهو إذاً لن يأخذَ بكلِ شيءٍ، بل بحدودِ منطقِه هو، وعقلِه هو, يقول الله ُسبحانه : (( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)) [النجم :23] .
والله تعالى يقول : (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[ [البقرة:85] .
وفي هذا تهديدٌ لهم ولجميعِ أمةِ صلى الله عليه وسلم من سلوكِ هذه المسالكِ المنحرفةِ بمعاملتهم كتابَ اللهِ وفقَ أهوائهم ، يؤمنون بما يناسبُهم ويوافقُ أهواءَهم ومصالحَهم الشخصيةَ ، فيعملون به وينفذونه ، ويطرحون ما سواه ، كأنه ليس من وحي الله في شيء ،[9]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .
الخطبة الثانية
6- ومن وسائلهم المطالبةُ بالنوادي النسائية : وفى ذلك تقولُ إحدى الكاتبات : (( ما زالت النوادي النسائيةُ في طريقِ البداية ، حيثُ تعتمدُ على التمارينِ الرياضيةِ التي تمارسُها السيدات لإنقاصِ أوزانهِن ، إلاَّ أنَّ البعضَ منها أدخلت خدماتٍ جديدة ، مثل الحماماتِ التركيةِ، ورياضةِ السباحةِ، ولعبةِ التنسِ الأرضي وغيرها، ولكن أعتقدُ أنَّ مثلَ هذه النوادي ستكونُ أكثرَ تطوراً في المستقبل ، بحيث تتيحُ للعديدِ من الشاباتِ والسيدات مزاولةَ الأنشطةِ الرياضيةِ مثل كرةِ السلةِ أو كرةِ القدم،ولن تستغربَ أن تكونَ هُناك بعضُ المسابقاتِ والدورياتِ بين هذه النوادي ))[10] أما هذه النوادي فإنَّها تنطوي تحت لواءِ المستشفياتِ الخاصةِ والفنادقِ، وصالوناتِ التجميلِ والجمعياتِ النسائية .
7- ومن أساليبهم أنَّهم استغلوا وجودَ عاداتٍ وتقاليدَ في المجتمع: تضطهدُ المرأةَ ولا تعطيها حقَها، كظلم الزوجاتِ وعدمِ العدلِ بينهن ، أو عدم إعطائِهنَّ حقهَن، من الميراثِ ، أو استغلالِ بعضِ الأزواجِ لأموالِ زوجاتهِم، أو التغالي في المهور ، فنفثوا من خلالهِا سمومَهم ، ووجهوا سهامَهم نحوَ الإسلامِ، والإسلامُ من هذه التصرفاتِ الفرديةِ برئٌ كبراءةِ الذئبِ من دمِ يوسفَ- عليه الصلاة والسلام .
8- ومن أساليبهم محاولةُ قتلِ الغيرةِ في قلوبِ الناس : وذلك من خلال تصويرِ الغيورِ بأنَّهُ رجلٌ رجعي، وغيرُ مواكبٍ للقرن العشرين !!كما يُصوَرُ الرجلُ القليلُ الغيرةِ أو عديمُها من خلالِ المشاهدِ التلفازيةِ، بأنَّهُ رجلٌ متحضرٌ ، فيؤتى به مثلاً على الشاطئ، وقد جلسَ هو وزوجتُه المتبرجةُ أمامَ الناسِ، وقد جلسا يتضاحكان ويتناولان الشايَ ، بل تعدى الأمرُ إلى أن تكونَ الغيرةُ هي الوأدُ الجديدُ في هذا القرنِ، فيقولُ أحدُهم : يعودُ وينتشرُ بعد أكثرَ من أربعةَ عشرَ قرناً وأدُ البناتِ، الغيرةُ وعدمُ الثقةِ وتقاليدُ المجتمع ،[11] ويقول أحدُهم : من عيوبِ الزوجِ العربي الغيرةُ [12]، وتقول إحدى الكاتباتِ : ماذا لو قالت امرأةٌ : هذا الرجلُ صديقي!![13] ويقولُ آخرُ : الفضيلةُ والكرامةُ تعترضان مسيرةَ النجاح ،[14] أيُ نجاحٍ هذا الذي يقصدون ؟ وأيُ مسيرةٍ تلك التي يريدون ؟ إنَّها مسيرةُ الفحشِ والخنا، والدياثةِ وقلةِ الحياء ،! يقول سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : (( أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي )) رواه البخاري [15]
9- ومن أساليبهم أيضاً محاولةُ تغييرِ المناهجِ والعبثِ بها : يقول أحدُهم : (( طالبتُ يومَ أمسِ بإلغاءِ المناهجِ الدراسيةِ الحاليةِ، بالنسبةِ للبنينَ والبناتِ، حتى نتمكنَ من توفيرِ البيئةِ العلميةِ الصالحةِ لاكتشاف المواهب ))[16]
ثُمَّ وصفَ المناهجَ الحاليةَ في نفس المقالِ بأنَّها عقيمةٌ ،! وقال في عنوان ( أزمة هذا الجيل "1" ) : (( ومن أبرزِ العيوبِ التي لا يجبُ أن نُنكرَها ونحنُ نتأمل حياتنَا ثانياً : تأثيراتُ التعليمِ التقليديِ على تكوينِ الشخصية)) .(6/102)
ومن خلالِ المناهجِ الدراسيةِ، يستطيعون فتحَ تخصصاتٍ لا تناسبُ المرأةَ، وبالتالي إيجادُ سيلٍ هائلٍ من الخريجاتِ لا يكون لهنَّ مجالٌ للعمل، فيحتاجُ إلى فتحِ مجالاتٍ تتناسبُ مع هذه التخصصاتِ الجديدةِ، التي هي مملوءةٌ بالرجال ، أو بإقرارِ مناهجَ بعيدةٍ كلَ البعدِ عن ما ينبغي أن يكونَ عليه تدريسُ المرأةِ المسلمةِ.
10- ومن أساليبهم أيضاً : الاهتمامُ بعملِ المرأةِ ومشاركتِها في جميعِ الميادين :
وفي ذلك يقول أحدُهم : ( المرأةُ نصفُ المجتمع ، نصفُ الاقتصادِ ، نصفٌ قادرٌ على العملِ والعطاء، نصفٌ ندفعُ ثمناً باهظاً إذا ظل معطلاً ومهمّشاً ، نصفٌ تتركزُ وتتزايدُ فيه معدلاتُ البطالةِ، مما ينذرُ بوضعٍ قد يتحولُ إلى مشكلةٍ اجتماعيةٍ إذا لم نتداركْ الأمر )) [17].
إنَّهم يتذرعون بمشاركةِ المرأةِ في العملِ خشيةَ الفقرِ، والحالةِ الاقتصادية، ومصلحةِ الوطن، وصدق الله تعالى إذ يقول :] الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[ (البقرة:268).
لقد تناسى الخبيرُ الاقتصاديُ أنَّ المشكلةَ ليست في عدمِ عملِ المرأةِ، بل إنَّ ذلك يزيدُها تعقيداً ، حيثُ انتشرت البطالةُ بين الشباب، مما يُنذرُ بمشاكلَ اجتماعيةٍ وأمنيةٍ بسبب بطالةِ الرجال ، وليس النساء ، حيثُ إنهنَّ مكفولات في التشريع الإسلامي وللهِ الحمد ، لكنَّ هؤلاءِ لا يهتمون لانتشار البطالةِ بين الرجال، بل هاجسُهم الوحيدُ هو إخراجُ المرأةِ من بيتها، تمهيداً لإفسادِها، حيثُ دعا أحدُهم إلى تقديمِ النساءِ في العملِ على الرجال .[18]
أيَّها الأخوةُ في الله : هذه بعضُ أساليبِهم وحيلهِم، التي يستخدمونها لنشرِ الرذيلةِ ومحقِ الفضيلة ، وإنَّما سلكوا هذه المسالكَ، لأنَّهم فئةٌ قليلةٌ لا يستطيعون المواجهةَ، خوفاً من غضبةِ المجتمعِ الذي لا يريدُ إلاَّ الإسلامَ والإسلامَ فحسب، الذي صلح به حالُ سلفِ الأمةِ حتى قادوا العالمَ ، وفتحوا الأمصار، ولكنَّ هؤلاءِ حتى يخادعوا الأمةَ ولا يفتضَحُ أمرُهم، لبسوا ثوبَ الإصلاحِ، ورفعوا لواءَه، وحملوا رايتَه لتمرير أفكارِهم السيئة ، وأهدافِهم الخبيثة، يقولُ الله تعالى : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ )) [ البقرة :11-12] .
( إنَّ كلَ مغرضٍ يسعى لهدمِ الإسلامِ ، وتفتيتِ عقيدتِه ، وتحطيمِ أهلِه يتذرعُ ـ دائماً ـ بدعوى الإصلاحِ والعملِ على رفعِ الظلمِ، وإزالةِ البؤسِ، ونشرِ الحريةِ ـ يقصدُ بها الحريةَ البهيميةَ ـ ليصطادَ في الماءِ العكر، وليلبسَ للناسِ جلدَ الضأن من اللينِ ، ويفتنَهم فيما يبثُّهُ عليهم من زخرفِ القولِ غروراً ، لقد أر تكسوا في أبشعِ دركاتِ النفاق غايةَ الارتكاسِ، وهم يدرؤون الشبهةَ عن أنفسِهم بدعوى الإصلاحِ ، فيسمون الخلاعةَ ومفاسدَ الأخلاقِ ، و إباحةَ الخمورِ ، واختلاطَ الجنسين ، والتبرجَ والتهتكَ، وبثَ الرقصِ والمسارحِ ، رُقياً ومسايرةً لروحِ العصرِ والتقدمِ ، ويجعلون إباحةَ الزنى حال الرضا ـ والذي يعفي ممارسيهِ من إقامةِ الحدِّ عليهم ـ وبثَ سائرِ أنواعِ الفحشاءِ والمنكرِ حضارةً وتطورا ، فيرون أنَّهم مُصلحون بجلبِ كلِّ مفسدة ، واستحسانِ كلِ منقصة، تمسكاً بما يراهُ رؤساؤهم ، أو تقليداً لأساتذتِهم، فاقدي العقيدةِ الصحيحة، والأخلاقِ الفاضلةِ، وهم في الحقيقة مفسدون ) [19]
واللهُ غالبٌ على أمرهِ ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون .
[1] رقم 23438 . وأصله في الصحيحين دون الزيادة الأخيرة .
[2] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , ( البخاري رقم 1385 ) ( مسلم رقم 2658 )
[3] أنظر : أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة ص 40-41 للشيخ بشر البشر ـ حفظه الله ـ .
[4] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ,( البخاري رقم 7320 ) و ( مسلم رقم 2669 )
[5] عكاظ عدد 11921 في 1/1/1420هـ .
[6] عكاظ 11924 في 4/1/1420هـ .
[7] الطرق الحكمية ص 326
[8] الجزيرة عدد ( 9713 ) في 17/1/1420هـ .
[9] انظر : صفوة الآثار والمفاهيم (2/224) .
[10] مجلة الجديدة عدد ( 682 ) فى21/7/1999م .
[11] انظر: مجلة قطوف عدد (32) شهر شوال لعام 1421هـ .
[12] مجلة سيدتي عدد (510) .
[13] مجلة كل الناس عدد (58) .
[14] مجلة الحسناء عدد (81) .
[15] متفق عليه ( البخاري رقم 6846) . و ( مسلم رقم 1499 )
[16] عكاظ عدد ( 11783 )في 6/8/1419هـ
[17] عكاظ 11927 في 7/1/1420هـ .
[18] الرياض 11267 في 14/1/1420هـ .
[19] انظر : صفوة الآثار والمفاهيم للشيخ عبد الرحمن الد وسري رحمه الله (2/21) بتصرف .
=============(6/103)
(6/104)
خطر الفتوى بلا علم
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102) . (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) (النساء:1) . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) (الأحزاب:70-71) .
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد ، أيَّها المسلمون :
فإن من مظاهرِ غربة الإسلامِ في هذا الزمان ، ونتيجةً لعواملِ التغريبِ التي عصفت, ولا تزالُ تعصفُ بالأمةِ اليوم، أن استهان كثيرٌ من الناسِ بالحلالِ والحرام, وأخذوا أحكامَ دينهِم عن الجهلةِ والمخرفين, وتتبعوا الرخص لدى علماءِ السُوء, وتصدَّ للإفتاءِ جماعةٌ من الحمقى والمغفلين, في جرأةٍ بالغة ، وحماقةٍ مكشوفة ، ودون خوفٍ أو خشيةٍ من العليم الخبير, وتفشَّ أولئك المُتقولون على الله بلا علم ، وهم في غمرةِ نشوتِهم, وقمةِ غرورِهم وجهلهم, تناسوا ذلك الوعيدَ الشديد ، الذي يُزلزلُ القلوبَ الحية, ويتهددُ المُتجرئين على الفتيا ، فيقولُ الحقُ تباركَ وتعالى : (( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) (النحل:117,116) ويقولُ سبحانه : (( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ )) (يونس:60,59)
بل إن الله تعالى ، ليقرن بين أعظمِ الذنوبِ و أقبحِها ، وهو الشركُ به سبحانه, وبين القولِ عليه بغير علمٍ ، فيقول : (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )) (لأعراف:33).
كلُ هذه الآياتِ الكريمات , ضربوا بها عرضَ الحائط, واستخفوا بأمر ربهم ، فهم في غيهمِ يترددون ، وأصبحتَ ترى بعضَ المتعجٍلين ممن لا يكادُ يحفظُ شيئاً من كتابِ الله ، فضلا ًعن استنبطهِ متنِ القصيدةِ أو الحديث ، أصبحتَ تراهُ مُصاباً بجنونِ العظمة, فيفتي بغيرِ علم, ويناقشُ أبا حنيفة, و يخطئُ الشافعي, ويردُ على ابن تيمية والذهبي, مردداً مقولة حقٍ أُريد بها باطل, فيقول ( هم رجالٌ ونحنُ رجال ) ومن خلالِ هذهِ العبارة يُجيزون لأنفسهمِ الخوضَ فيما لا يعرفون, والكلامَ فيما لا يفقهون, ويُحللون ويُحرمون دون علمٍ أو هدىً, أو كتابٍ منير, بل أنَّهم ليخوضونَ في قضايا محيِّرة ، ويتجرءون على الفتيا في مسائل مستعصية , لو حصلتْ في عهدِ عمرَ t لجمع لها أهل بدرٍ كلَّهم , بينما ذلكَ المتعاظمُ يصدرُ فيها رأَيهُ بكلِّ عجلةٍ وتسرع, ولا يجدُ في صدره من ذلك حرجاً, أو غضاضة .
وليتَ الأمرَّ توقفَ عن المنتسبينَ للعلم من ذويِ التخصصات الشرعية, بل تعداهُ إلى أُناسٍ يفتقدون حتى المبادئَ الأساسيةِ لأي فنٍ من فنونِ الشريعة ، فذاك يُفتي وهو كاتبٌ صحافي, وذاك يُفتي وهو لاعبُ كرة ، وذاك يفتي وهو ممثلٌ ماجن, وغيرهمُ كثير.(6/105)
وإليكم مثالٌ من فتاوى أخر الزمان, لعجوزٍ من عجائزِ السينما العربية, يسألُها الصحفي بخيت ، ما رأيكِ بأولئك الفناناتِ التائبات اللاتي اعتزلنا الفن؟ فتجيبُ الفقيهةُ الكبيرة ، والعبقريةُ الفذة , أتقولُ تائباتٌ ؟ ثم تسأل باستنكار! وهل الفنُ جريمة ؟! ثم تقررُ باطمئنان! وتُفتي بكلِ ثقةٍ فتقول: إنَّ الفنَّ رسالةٌ خالدة, والفن أباحه ربُنا فما وجهُ الخطاء ؟! هذا مثالٌ ومثلُهُ كثير، تُنشرُ في الصحفِ والمجلاتِ الهابطة, لتجرئةِ الناس على الفتيا, وتمييعِ الدين ، والاستخفاف بما يجوزُ وما لا يجوز, وبالإضافةِ إلى أولئكَ المستهزئين, لم ينس علماُءُ الدينارِ والدرهم أن يستخُفوا الأمةَ بعجائبِ كذبهم ، وغرائبِ فتاواهم المصادمةِ لمسلَّماتِ الشريعة, وثوابتِ الملة, فأباح بعضُ المجرمين الربا إرضاءً للطاغوتِ الذي يعبدُه, والشيطانِ الذي يُقدسُه, كما أفتى بعضهم بجوازِ بيعِ الخمور, لدعمِ الاقتصادِ الوطني, وتنشيطِ السياحة, وإن تعجبْ فعجبٌ قولهم لا بأسَ بالنظرِ إلى الجميلات, من أجلِ التفكيرِ بعظمِ صنعِ الله, سبحانك هذا بهتان عظيم !!
أيُّها المسلمون :
وفي مُقابلِ هذه الجراءةِ البالغةِ على الفتيا، يقفُ على النقيضِ من ذلك بعضُ العلماءِ الراسخين, فيجمحونَ عن الفتيا مع تأهلهِم لها ، وقدرتهِم عليها ، ويمتنعونَ عن إبداءِ آرائهمِ الشرعية في قضايا الأمةِ المصيرية , ويوقعون الناسَ في حيرةٍ من أمرهم, ويُخيبونَ أمالَ الأمةِ في أحرجِ المواقف ، وأشدَّها حاجةً إلى سماعِ كلمةِ الحق, والأمةُ محتاجةٌ إلى سماعِ أقوالِ علمائِها وآرائهمِ عند اشتداد الخَطْبْ, وظهورِ الفتن ، حتى لا تزَّل بهمُ الأقدام ، أو تهوي بهم الريحُ في مكانٍ سحيق. (( المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )) (لأعراف:2,1) .
(( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)) (آل عمران:187) .
فحرامٌ على العلماء أن يكتموا العلمَ الصحيح ، ويبنوا الحقَّ الصحيح ، ويَدَعُوْا الأمةَ تتخبطُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال ، دون أن يأخذوا بيدِها إلى برَّ الآمان لا يخافون في اللهِ لومهََ لائم.
هذا إمامُ أهلِ السُنةَّ أحمدُ بنُ حنبل- رحمه الله- يقولُ رأيهُ بكلِ شجاعةٍ ورجولة ، لا يمتنعُ من الفُتيا بما يعتقدُهُ من صوابٍ في قضيةِ خلقِ القران ، ولا يرضى لنفسهِ أن يُضللَ الجماهيرَ المتلهفةِ لسماعِ كلمةِ الفصل، أو أن يكتمَ علماً الأمة بأمسِّ الحاجة إليه, يقولُ كلمةَ الحقِّ غيرَ هيابٍ ولا وجل، وإن غضبَ المأمون أميرُ المؤمنين ، وهددَّه بالصلبِ والقتل .
أيُّها المسلمون :
وأخطرُ أنواعِ الفُتيا ، إصدارُُ أحكامٍ وأراءٍ تعسفية، يترتبُ عليها شقُّ الصفوف، وتمزيقُ الوحدة ، وإضعافُ الدعوةِ ، وتبديدُ الجُهد ، وسوقُ الأمة إلى مزالقَ خطرة ، دهماءَ مروية, كأنْ يستشهدَ بعضُهم بالفُتيا لوحدها ، فيُحللُ ويحرم ، ويُصوبُ ويُُخطئ ، ويُحسِّنُ ويُقبح ، ويجعلُ الخوضَ في قضيةٍ من القضايا حقاَ خالصاً له وحده ، فيغفلُ الرأَي الآخر ، ويتهمُه بالقصور، ويقذفُ صاحبهَ بالبلادة , ويرميهِ بالجهل ، ويصفهَ بالإثارةِ وحبِّ الظهورِ، وربمَّا رماهُ بالعمالةِ والخروجِ عن مذهبِ السلف، وألقصهُ بمذهبٍ من مذاهبِ المبتدعة .
ولو أنصف المسكين , وأتقى اللهَ فيما يقول, لعلمَ أنَّ المسالةَ محلُّ اجتهادٍ ونظر, وأن الخلافَ فيها معقول، والخصمُ له دليلُهُ وصحته ، لكنَّه الهوى المتبع والإعجاب بالرأي .
أيَّها المسلمون :
لقد كانَ سلفُ هذه الأمةِ من الصحابةِ والتابعين, يتورعونَ غاية الورعِ من الفُتيا، ويُقدرون خُطورةَ القولِ على اللهِ بلا علم, ويودُّ الواحدُ منهم أن يكفيهَ شأن الفتيا غُيره ، فإذا رآى أنَّها قد تعينتْ عليه ، بَذَلَ وسعَهُ وطاقتهُ في معرفةِ حكمهِا، ثم أفتى بكلِ حيطةٍ وحذر .
يقول ابنُ أبن ليلى : أدركتُ عشرينَ ومائة من أصحابِ رسول ا صلى الله عليه وسلم فما كان منهم مفتٍ، إلاَّ ودَّ أنَّ أخاهُ قد كفاهُ الفتيا.(6/106)
وقال أبو داودَ في مسائلهِ : ما أحصي ما سمعت أحمدَ بنَ حنبل سُئِلَ عن كثير ما فيه الاختلاف في العلم فيقولُ: لا أدري ، وقال عبدُ اللهِ بن أحمد : كنتُ أسمعُ أي كثيراً يسألُ من المسائلِ فيقولُ: لا أدري، وكثيراً ما كان يقولُ للسائلِ : سَلْ عن ذلكَ غيري . وسألَ رجلٌ الإمامَ مالكاً في مسألة, فقال :لا أدري . فقال يا أبا عبد الله تقولُ لا أدري! قال : نعم ، فأبلغ من وراءاك أنِّي لا ادري ، ومن الأخطاءِ التي لها مساسٌ بهذا الموضوعِ الخطير ، التساهلَ في النقلِ عن الأئمة ، ونسبةُ بعضِ الأقوالِ والفتاوى إليهم من غير تحرٍ أو تثبيت, وعند البحثِ والمراجعة يتبينُ وهْمُ أولئكَ النقلة ، و ما آفةُ الأخبارِ إلا رُواُتها، ومن أمثلةِ ذلك : شهرةُ نسبةِ القولِ للإمامِ الشافعي- رحمة الله - من تجو يزهِ التلفظَ بالنيةِ للصلوات ، وفهموا ذلك من قوله(( الصلاة ليست كغيرِها من العادات ، فلا تُدْخَلُ إلاَّ بذكر )) وهذا خطاءٌ كبيرٌ في الفهم ، فمقصده - رحمه الله- من دخولِ الصلاةِ بالذكر: أي بتكبيرةِ الإحرام, ومن أخطائهم: الغلط على شيخِ الإسلامِ أبن تيميهَ- رحمه الله - من أنَّهُ يقولُ: أن الجهاد شُرعَ للدفاعِ لا للقتالِ مع كلمة الإسلام, وهذا كذبٌ على شيخِ الإسلام. وأُُلفِّ في الردِّ عليه رسائلَ وأبحاث, ومن ذلك نسبتهمُ لأبنِ القيمِ- رحمه الله- أنَّهُ يُجوزُ زواجَ المتعة ، وأبن القيم بريءٌ من هذا القول براءةَ الذئبِ من دمِ يوسُف- عليه السلام- وأخطرُ من هذا وذاك ، التلاعبُ بفتاوى العلماء, وتحميلِها مالا تحتمل، وتحريِفها عن دلاتها ، أو الاستشهادِ بها في غيرِ مواضعها , وتطويِعها لخدمةِ أغراضٍ مصلحيه .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم
الخطبة الثانية :
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين,
أمَّا بعدُ:
فقد ظلَّ اليهودُ منذُ ما يربو على أربعين سنة, يسخرونَ من كلِّ من يتحدثُ عن حقَّ الشعب الفلسطيني, في تقريرِ مصيرهِ ، ومنحهِ مساحةً من الأرض يُقيمُ فيها دولتهَ, ولم يكترث اليهودُ بالشعاراتِ المعادية، التي رفعها بعضُ المسلمينُ المناضلين ، فقد كان يُدركُ حقيقةَ أصحابِها وكونَهم يُتاجرون بالقضية لأغراضٍ شخصية ، ومأربَ خاصَّة، بيدَ أنَّ اشتداَد الضرباتِ المُوجهة, التي قَامَ بها شبابُ الحجارةِ ورجال الجهادِ الصادقون ، مرغتْ كبرياَء المُغتصب اليهوديِ بالتراب , وأشعرَتهُ بخطورةِ أوضاعِه ,وتأزُمِ موقفه وضرورةِ البحثِ عن مخرجٍ من ذلكِ البلاءِ العظيم , فوجَد ضالتَّهُ في حملةِ الشعاراتِ وإيَّاهم, فدعاهم على عجلٍ ليعقدَ معهم صفقةً سريعة, يعودونَ من خلالِها إلى حيزٍ صغيرٍ من أرضهم ، لا ليقيموا شَرع اللهِ فيها ، ويرفعوا رايةَ الجهادِ والدعوة, ويقتلعوا اليهودَ من الأرض المقدسةِ كلها ، بل عادُوا ليقتلَوا اثنيَّ عشرَ مسلماً في ساعةٍ واحدة ، ويخَرجوا بأسلحتهِم الحديثة مائتي مُصلي في يومٍ فضيل ، والبقية تأتي، ولنا أن نتساءلَ أهذهِ ثمرةُ النظال؟! أهذه نتيجة الجهادِ المزعوم ؟! أهذهِ نهاية أربعينَ سنةٍ وزيادةٍ من الهُراءِ والنعيق ؟! إنَّ المسلمَ المتابعُ لمجرياتِ الأمور، ليدركُ تماماً , أنَّ السبيلَ الوحيد لاستردادِ الكرامةِ المفقودة ، والمجدِ السليب ، وطردِ المغتصب , هو الجهادُ في سبيلِ الله، وما يقومُ به اليوم ذلك الشبابُ الواعدُ المنطلقُ من مساجدِ غزة ، وهو شبابٌ وُلدَ وعاش المعاناة منذُ نعومةِ أظفاره ، اكتوى بنيرانِ الاحتلال منذُ فتحَ عينيهُ على الدنيا, وهذا الجيلُ الذي يكابدُ المأساةَ في حياتهِ اليومية ، أقوى مراساً وأقدرُ على العطاءِ من الجيلِ الذي عاشَ معاناةَ الإقامات ، ووثائقَ السفرِ والعملِ في البلادِ القريبةِ والبعيدة ، وهو من بابِ أولى أقوى مراساً وأقدرُ على العطاء, ممَّن صدقَ فيهم قول الشاعر :
أسدٌ علي في الحروبِ نعامةٌ *** عرجاء ، تنفرُ من صفير الصافرِ
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين .
وأرضي اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
=============(6/107)
(6/108)
الغيرة على دين الله
الحمد لله ذي الكرمِ والجود ، أحمدهُ وأشكره، وأعبدهُ وهو خيرُ معبود ، وأشهدُ أن لا إله إلاِّ الله وحدهُ لا شريك له، إنَّهُ هو الغفورُ الودود ، وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسوله خيرُ من صلى وصام، وجاهدَ واستقام، وأوفى بالعقودِ- صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، من القائمين والصائمين، والركع السجود وسلم تسليماً.
أمَّا بعد.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) (المائدة:54) .
بعيداً عن جوِّ هذا الزمان القاتم بغبارِ الالتزام الأجوف ، والمشوه بغترِ السلبية المُفرطة ، والمظهريةِ الجوفاء ، نحلقُ في فضاءِ الجيل السالف المعطر بورودِ الإيجابية ، ونتفيؤ ظلالَ شجرةِ البذلِ والعطاء، والتضحيةِ والفداء .
نعودُ بذكرياتنا إلى الصورِ الرائعة، لسلفِ هذه الأمة، حيث يتجلى الإيمانُ الحقُّ، وتبرزُ حقيقة الهمِّ لهذا الدين .
تنقلنا الذاكرةُ إلى سوق بني قينقاع، حيثُ يعتدي يهودي على امرأةٍ مسلمة، ويكشفُ عورتها، فتثورُ ثائرة مسلمٍ ويأبى الدنية في دينهِ، وينهضُ بكلِّ عزةٍ وإباء، ويقتلُ ذلك اليهودي رغمَ أنَّهُ بين أهلهِ وقومه .
إلى موقفِ شابٍ لم تمنعهُ حداثةُ عهدهِ بالزواجِ، من الاستجابةِ لداعي الجهاد، فيخرجُ من زوجهِ وهو جنب ليلقى ربه شهيداً في أحد، فيحظى بتغسيلِ ملائكةِ الرحمة، ويُلقبُ بغسيلِ الملائكة، إنَّهُ حنظلةَ بن أبي عامر .
إلى موقف امرأةٍ مسلمةٍ تُشاهد استعدادات المسلمين، وبذلهم لتجهيزِ جيشِ المسلمين في إحدى المعارك، فلا تجدُ ما تُساهم به إلاَّ أن تقص شعرها، وتجعل منهُ ظفائرَ لخيلِ قائد جيش المسلمين، إلى مجموعةٍ من صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - دفعهم الحماسُ للدين إلى أن يأتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يسألونهُ أن يحملهم للجهاد ، ولمَّا لم يجد ما يحملهم عليه، تولوا وأعينهم تفيضُ من الدمعِ حُزناً ألا يجدوا ما يُنفقون، إلى موقف عُمير ابن أبي وقاص وهو شابٌ لما يبلغ الحُلم، يختفي في أحدَ المعاركِ خلف الرجال، حتى لا يراهُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيرده ، ولما رأه- عليه الصلاة والسلام- وردَّهُ جعل يبكي، فأشفق عليه المصطفى- صلى الله عليه وسلم - وأذن له بالجهاد، فعقد لهُ أخوهُ سعد حمائلَ سيفهِ، فجعلت تخط في الأرض .
إلى عبد الله بن حذافة السهمي، وهو مأسوراً عند الروم، فيجوعُ ويعرضُ عليه الخمر ولحم الخنزير، فيأتي ويقول : أما إنِّي أعلمُ أنَّها قد حلت لي بالضرورة، ولكن كرهتُ أن أشمتكم بالإسلام .
إلى وإلى ما لا يحصر، والصورُ المثاليةِ التي تذكر فيهتزُ لها القلبُ طرباً وشوقاً إلى أمثالها .
إنَّ موقفَ هذا وذاك، وتلك وأولئك، ينطلقُ من شعورٍ واحد، هو الغيرة على هذه الدين، والإحساسُ بالمسؤولية، والحميَّة للمبادئ التي آمنوا بها.
إنَّ الغيرةَ على دينِ الله وحُرما ته، من صفاتِ المؤمنين الأعزاء، فهي من مقتضياتِ الإيمان، تقوى بقوته وتضعفُ بضعفه ، وتفقدُ الغيرة حيثُ لا يكون القلبُ مؤمناً، وفي الحديث : (( المؤمنُ يغارُ واللهُ أشدُّ غيرة )) .
الغيرةُ هي التألمُ والغضبُ على حقٍّ يُهانُ ويُقهرُ، أو باطلٌ يحمى وينصرُ، وينتجُ عن هذا التألم والغضب، مساندة الحقِّ ومقاومةَ الباطل ودحره .
يا مسلمون :
إنَّ من الغيرةِ على دينِ اللهِ الوقوفُ مع الحقِّ، ومناصرة أهل الحقِّ والخير، ومناورة الباطل، ومقاومةُ المبطلين والمفسدين، مهما كانوا ولو كانوا أولى قربى .
الغيرةُ على دينِ الله تتمثلُ فيمن ينظرُ إلى الدليلِ ويصدعُ بالحقِّ ولو كره المنافقون .
الغيرةُ على دينِ الله تكون بالمساهمةِ في نشره، والدعوة إليه، والجهاد في سبيلهِ بالنفسِ أو بالمال .
إنَّ الغيرةَ على دينِ اللهِ تشجيعُ كل مجالاتِ الخيرِ وسبل الدعوة ، فحضور المحاضرات ، والدعوةُ وإحياءِ الدروس العلمية ، ونشر الكتاب والشريط الإسلامي ، والكتابة في الصحف والمجلات دفاعاً عن الإسلام ومبادئه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا يُعدُّ صورةً من صورِ الغيرةِ على دين الله ، وبهذه الخطوات تُقمعُ راية النفاق، وتؤد خطوات التغريب .
الاعتزازُ بالدين، والافتخارُ بالانتساب إليه، والتمسكُ بشعائرهِ الظاهرة والباطنة ، والتفاعلُ مع قضايا المسلمين ، كلُّ ذلك مظهرٌ من مظاهر الغيرة .(6/109)
إنَّ من الغيرةِ على دينِ الله، مُناصرةُ المسلمين وقضاياهم، والتألم لآلامهم والفرحُ بآمالهم، ولقد كان التحامُ المسلمين، ونصرة كل منهم لأخيه مثالاً فريداً في تاريخ التلاحم والتواصل والتنا صر، سواءً على مستوى الأمة أو الأفراد ، ولن ينتصرَ المسلمون إلاَّ إذا تحقق فيهم بعد صفاءَ العقيدة، حبُّ المسلم لأخيه ما يُحبُ لنفسه ، وشعوره بآلام أخيهِ كشعورهِ بما يصيبهُ هو، وحبُّ نصرته كما يُحبُّ أن ينصره هو، والله ينصر من ينصره وهو القوي العزيز، وإذا كانت أوضح صورِ النُصرة هي الجهادُ بالنفسِ في سبيل الله، فإنَّهُ ومع وجود المعوقات في طريقه ، حيثُ أصيبت الأمةُ بالوهن ؛ حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت ، فمع ذلك فإنَّ صور النُصرةِ للمسلمين كثيرة .
فالذبُ عن عرضِ المسلم وسُمعتهِ، والرد على أهل الباطل الذين يُريدون خدش كرامة المسلمين ، والدعاءَ للمسلمين في ظهر الغيب ، وتتبع أخبارهم، والوقوفُ على أحوالهم، كلُّ هذه تحققُ للإنسان معنى النُصرةِ وتجعلهُ عضواً عاملاً صالحاً في كيانه الإسلامي .
وفي وقتٍ يتكالبُ أعداءُ الله على المسلمين، يغزونهم في عقرِ دارهم، ولا يجدُ هؤلاءِ المسلمون ما يدفعون به عن أنفسهم وأعراضهم وأحوالهم وأوطانهم ، وقذائفُ الأعداءِ تُمزقُ لحومهم وتهشمُ عظامهم، وتقطعُ أجسامهم، في هذا الوقت يتأكدُ الجهادُ بالمال غيرةً على دين الله، ومُناصرةً للمستضعفين من المسلمين .
يا مسلمون :
إنَّ ضعفَ الغيرة على الدين أو فقدها، نقيصةً تنزل بصاحبها إلى الحضيض .
ألا وإنَّ من علامات فقدِ الغيرةِ، الهمُّ والحزن لعلو الحقِّ، والمسرةُ لانخفاضهِ والشماتة بالمنكوبين من المسلمين، والتوجعُ لفواتِ الباطلِ والفرح بحصوله أو إدراكه .
ومن علاماتِ فقد الغيرةِ الانقباضُ عند ذكر الصالحين وأحوالهم، ما لا يستأنس لولاة الكافرين والثناء عليهم ،
إنَّ المسلم الغيور هو الذي لا يُغريه طمعٌ، ولا تخيفهُ رهبةٌ عن قول الحقِّ، فيدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وينكرُ المنكر بحماسٍ منضبط بضوابط الشرع.
إنَّ الغيرةَ على دينِ الله يجب أن تكون هاجسُ كل واحدٍ منا ، وهماً في عروق كل مسلم صغيراً كان أم كبيراً ، ذكراً ًكان أم أنثى، عالماً أو جاهلاً ، صالحاً أو فاسقاً ، فلا يصحُّ أن تكون الذنوبُ والخطايا حاجزاً وهمياً بين العبد وبين العمل الإيجابي لهذه الدين، نريدُ أن يكون همَّ هذا الدين يلاحقُ المرأةَ في بيتها، والرجلُ في متجره، والمعلمُ في فصله ، والطالبُ مع زملائه، والموظف في دائرته ، بل ويحملهُ الشاب على الرصيفِ وفي مدرجاتِ الملاعب ، فلم تكن الخطيئةُ يوماً مهما عظمت حائلاً بين المسلمِ وبين أن يُساهم في نُصرةِ هذا الدين، فقد ذهب بعضُ الصحابة إلى غزوة أُحد بعد ليلةً من شرب الخمر كما في البخاري ، اصطبح أناسٌ الخمر يوم أُحد ثُمَّ قُتلوا شهداء .
وفي قصة أبي محجن الثقفي لنا عبرةً وعظة، فقد كان يشرب الخمر ، وفي القادسيةِ شربها، فعاقبهُ سعدٌ بأن حرمَه من القتال، وكبلهُ بالقيود ، ولما اشتدَّ القتال وحميَّ الوطيس وانكشف المسلمون، أخذت أبا محجن الغيرةَ للدين والحميةَ لأهله، فطلب من زوجةِ سعدٍ أن تفكَّ قيده، وأن تعطيه خيلَ سعدٍ على أن يعود بعد المعركة إلى قيده، وتوسل إليها قائلاً
كفى حزناً أن تلتقي الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصادر مع دوني قد تصم المنادي
ارمني سلاحي لا أبا لك إنني أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
ولله عهدٌ لا أبخس بعهده لئن أفرجت ألاَّ ازور الحوانيا
فرحمتهُ امرأة سعد، وأعطتهُ الخيل، فشقَّ الصفوف وأثخن في الأعداء، وأبلى بلاءً حسنا .
إن أقوى الناس ديناً أعظمهم غيرةً على حُرمات الله وحدوده ، فمحبُّ الله ورسوله يغارُ لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبهُ من الغيرة لله ورسولهِ، فهو من المحبة أخلى وإن زعم أنَّهُ من المحبين ، فكيف يصحُّ لعبدٍ أن يدعي محبةَ الله وهو لا يغارُ لمحاره إذا انتهكت، ولا لحقوقه إذا ضيعت .
أخي المسلم إن مما يقوي الغيرة في قلبك، أن تستشعر المسؤولية وجسامتها، وأن تُقدرَ الخطر الداهم على أمتك، وتستشعر استمرارية دُعاة الباطل في إشاعة باطلهم، (()يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (التوبة:32).
(( وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ )) (صّ:6) .
(( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) (لأنفال:36).
أو لم تسمع عن مُنصرين يمكثون سنوات في الصحاري القاحلة، والمناطق الآسنة، دون انتظار أجر دنيوي، وإنِّما نُصرةً لباطلهم ونشر الضلالة .(6/110)
فما بالنا معشرَ المسلمين يجلسُ الواحدُ منا شبعان متكأً على أريكته، إذا طلب من نصرةِ دينهِ الحق، أو كُلف بأبسط المهام، أو عُوتب لاستغراقهِ في اللهو والترفيه انطلق كالسهم مردداً، (( يا حنظلةَ ساعةً وساعة )) هذا إذا سلمَ من قدحِ العاملين، ولمزِ المجاهدين، وتثبيطِ همم الباذلين.
تبلدَ في الناس حسن الكفاح وقالوا الكسب والعيش رتيب
بكاءٌ يزعزع من همتي سدود الأمين وعزم المريب
ألا فليستثر الشعور بالاستحياءِ من الله عز وجل في قلوبنا، حين نرى من الإخلاص لهم عند الله ، يُكرمون ويضحون لنصرة باطلهم، ويوفون مع إمامهم إبليس بالعهد الذي قطعه على نفسه، فبعزتك لأغوينهم، في حين يتباطأ كثيرٌ من المسلمين عن نصرةِ دينهِ الحقِّ، مع أنهم عاهدوا على الانقياد لشرعه (( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) (المائدة:7) أقول هذا القول .
الخطبة الثانية
أما بعد .
فإننا إذ نتحدثُ عن الغيرةِ على دين الله، وننظر بعين الأسى والحزن لواقع الأمة، فإننا ننظرُ بالعين الأُخرى إلى ما يجري في عراق العزِّ والإباء، فعن أيِّ شيءٍ نتحدث .
هل نتحدثُ عن عيدهم عيدنا ، عيدهم نارٌ ودمار ، ودماءٌ وأشلاء، عيدهم جروحٌ غائرة ، ونفوسٌ ثائرة ، عيدهم أطفالٌ يتامى ونساءٌ أيامى ، وشيوخٌ ثكالى ، عيدهم مساجدُ تهدم ، وجراحٌ تنزف، وحثثٌ ملقاةٌ في الشوارع ، وعدوٌ صليبيٌّ يسومهم سُوءَ العذاب، هذا عيدهم ، أما عيدنا ،فغناءٌ وطرب ، ولهوٌ ولعب ، رجالٌ يختلطون بالنساءِ وشبابٌ يرقصون، عيدنا فنان يغني على ساحلِ البحر، في ليلةٍ الجمعة فغباء؟ تسمعه حتى النساء
أهنئكم وعينُ القلب تجري على أحبابنا في الرافدين
وأشجبُ صمتكم وأقولُ إني براءٌ من عميل أو خؤون
ففي أعيادكم لعبٌ وحلوى وألوانُ المعازفِ والمجون
وفي فلوجةِ الأبطالِ قتلٌ وحربٌ للصليب تجاهَ ديني
هل نتحدثُ يا مسلمون عن الحضارة الغربية المزيفة، والمدنيةِ الغربية الكاذبة، والتي يُمجدها المستغربون، ويغني لها المنهزمون ، والتي ظهرت معالمُها على أرض العراق ، هدماً للبيوت على العزَّل، وإجهازاً على الجرحى، وتخريباً للمُدن وإهلاكاً للحرث والنسل، وتترساً بالأطفال الأبرياء، وانتهاكاً لحُرمات المساجد، وتمزيقاً للمصاحف، وإهداراً لكرامةِ الإنسان، هذه هي حضارتهم، وتلك حريتهم التي جاءوا يبشرون بها، فيا ليت المنافقين يعقلون .
هل نتحدثُ يا مسلمون عن الأسودِ المزمجرة، والصواعقِ المدمرة ، عن الرجالِ حقاً والأبطال صدقاً، والذين رسموا بدمائهم وصمودهم أجملَ لوحاتِ العزِّ والشرف، في زمنِ الضعف والوهن، والذين مرغوا وجهَ الصليبية، وأرغموا أنوف الحاقدين وأثبتوا للعالم أنَّ القوةَ قُوة الحقِّ، وأنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ في أمةِ الإسلام (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ )) (الأحزاب: من الآية23) ، لا يلتفتون إلى الوراءِ، ولا ترهبهم قوةُ الأعداء ولا تثبطهم أقاويل المرجفة،
إنَّ ما يجري يا مسلمون على أرضِ العراق إنَّما هو نصرٌ وعز، ولو قُتل من قُتل، وجُرح من جُرح وأُسر من أسر، ولو سقطت مدنٌ، وخربت بيوتٌ، ليس النصر في ميزان الإسلام مدينة تفتح، أو بلدة تسرق، وإنَّما هو انتصارُ القيمِ والمبادئ، وارتفاعُ رايةَ الحقِّ .
إنَ الناسَ يُقصرون معنى النصر على صورةٍ معينة، معهودةٍ لهم قريبةَ الرؤيةِ لأعينهم ، ولكن صورُ النصر شتى، وقد يتلبس بعضها بصورة الهزيمةِ عند النظرة القصيرة .
إنَّ وعدَ اللهِ قاطعٌ جازم ((إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)) (غافر: من الآية51) .
بينما يُشاهدُ الناس أنَّ الرسلَ منهم من يُقتل ومنهم من يُهاجر من أرضهِ وقومهِ مكذباً مطروداً ، وأنَّ المؤمنين منهم من يسام العذاب، ومنهم من يُلقى في الأخدود ، ومنهم من يُستشهد، ومنهم من يعيشُ في كربٍ وشدةٍ واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا ؟ إنَّ الناسَ يعيشون بظواهرِ الأمورِ، وبفترةٍ قصيرةٍ من الزمان، وحيزٍ محدودٍ من المكان ، وإنما النصرُ أوسع وأشمل ، وكم من شهيدٍ ما كان يملكُ أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عامٍ كما نصرها يوم استشهاده، وإنَّ أعظمَ أنواع النصر : النصرُ على الذات والشهوات ، والسيطرةُ على الأهواءِ والمغريات، إنَّ معركة الإسلام مع الصليبيةِ لا تتوقفُ عند حدِّ فتح مدينة، والسيطرة على موقع ، ولكنَّها حربٌ طويلة الأمد .(6/111)
فنهايتها تحقيقُ الغاية التي ذكر الله، (( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) (التوبة: من الآية29) وحتى تصل الأمة إلى هذه الغاية، فلا بُدَّ من تضحياتٍ وبذل، وإنَّ كلَّ نقطة دمٍ من نفسٍ مسلمةٍ زكية لن تضيعَ عند الله سُد ى، ولن تذهب هدراً ، وإنَّما هي خطوةٌ لطريقِ النصر، ووقودٌ لنارِ العزة، ومنارات لمعالمِ القبلةِ والفتحِ المبين، فتحُ مكة لم يكن وليد تخطيط شهرٍ أو سنةٍ، لكن نتاجَ كفاحٍ دامٍ ثلاثةَ عشر عاماً في مكة ، وهو ثمنُ دماءٍ أُريقت في بدرٍ وأحد، وجزاء نفوسٍ أُزهقت فداءً لدين الله .
فتحُ مكة لم يأت بارداً جاهزاً ، لكنهُ أتى تتويجاً لدم زكي، قد خرج من عقبي النبي- صلى الله عليه وسلم - وثمناً للبلاءِ والإيذاءِ الذي تعرض له المصطفى- صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام .
فتحُ مكةَ رسمَ معالمهُ دمُ أبي عمار وزوجه سمية ، وخط خطوطهُ أنين بلال وعمار، وخبا بٌ وصهيب، تحت سياط العذاب .
فتح مكة جاءَ ليُعلن للناس أنَّ النصرَ عزيزٌ ولا بُد له من ثمن ، وليقولَ للناسِ اليوم ، لا تهنوا ولا تحزنوا، فإنَّ دماءً في العراق تُراق ، وأُخرى في أقطارٍ وآفاق، إنَّما هي ثمنٌ تُقدمهُ الأمة للنصر القادمِ القريبِ بإذن الله ، النصرُ نورٌ مرتقبٌ وقودي دماءِ الشهداء ودعوات الأتقياء، وأموال الأغنياء، وشروطهُ صبرٌ على البلاءِ وشكرٌ عند الرخاء، ووفاءٌ مع خالقِ الأرضِ والسماء، (( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) (الروم:5).
وأخيراً ، وأرض العراق تشهدُ ملحمةً من ملاحمِ الإسلام، وتَبرزُ للعالم صورَ الغدرِ والخيانةِ العلقيمة ، وتُروي للعالم صورةَ الحضارةِ الأمريكية ، وأرض العراق تُدكُ على أهلها، وتهدم بيوتها فوق سكانها، فما أكثر الشامتين من كُتَّابٍ وغيرهم من يقولُ بلسان الحال، (( لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) (آل عمران: من الآية168) ولن شغلنا أنفسنا بالحديث عن هؤلاءِ وإليهم وإنَّما نوجِّهُ لهم تحذيرَ اللهِ ووعيده، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (آل عمران:156) .
وأخيراً ، أيُّ دينٍ وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارمَ الله تُنتهك، وحدودهُ تُضاع، ودينهُ يُترك، وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها ، وعبادهُ يُهانون، وهو باردُ القلبِ، ساكتُ اللسان، شيطانٌ أخرس، وهل يلينُ الدينُ إلاَّ من هؤلاءِ الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم ،فلا مبالاة بما جرى على الدين ، وخيارهم المتخرن المتلمظ ، وهؤلاءِ مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم، قد بلوا في الدنيا بأعظمِ بليةٍ تكون وهم لا يشعرون، وهو موتُ القلوب ، فإنَّ القلب كما كانت حياتُهُ أتم، كان غضب الله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل .
فلا بُدَّ يا مسلمين من الشعورِ بواجبِ النُصرة لهذا الدين، كلٌّ بحسبه ومرتبتهِ من العلم والقدرة، والغني وغيرها .
تلكم يحيى بن معاد، يوماً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت له امرأته هذا واجبٌ قد وُضعَ عنَّا فقال ، هبي أنَّهُ قد وضُع عنَّا سلاح اليد فلم يُوضعُ عنا سلاح القلب، واللسان ، فقالت : صدقت جزاك الله خيراً
اللهم صل وسلم .
===============(6/112)
(6/113)
الحجاب وأصول الإعتقاد
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه . أما بعد :
فلم يعد خافياً على أحد ما تشهده مجتمعات المسلمين اليوم من حملة محمومة من الذين يتبعون الشهوات على حجاب المرأة وحيائها وقرارها في بيتها؛ حيث ضاق عطنهم وأخرجوا مكنونهم ونفذوا كثيراً من مخططاتهم في كثير من مجتمعات المسلمين ؛ وذلك في غفلة وقلة إنكار من أهل العلم والصالحين ، فأصبح الكثير من هذه المجتمعات تعج بالسفور والاختلاط والفساد المستطير مما أفسد الأعراض والأخلاق ، وبقيت بقية من بلدان المسلمين لا زال فيها والحمد لله يقظة من أهل العلم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حالت بين دعاة السفور وبين كثير مما يرومون إليه .
وهذه سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل والمدافعة بين المصلحين والمفسدين .
ومن كيد المفسدين في مثل المجتمعات المحافظة مع وجود أهل العلم والغيرة أن أولئك المفسدين لا يجاهرون بنواياهم الفاسدة ؛ ولكنهم يتسترون وراء الدين ويُلبِسون باطلهم بالحق واتباع ما تشابه منه ، وهذا شأن أهل الزيغ كما وصفهم الله عز وجل في قوله : ((فّأّمَّا بَّذٌينّ فٌي قٍلٍوبٌهٌمً زّيًغِ فّيّتَّبٌعٍونّ مّا تّشّابّهّ مٌنًهٍ بًتٌغّاءّ بًفٌتًنّةٌ ابًتٌغّاءّ تّأّوٌيلٌهٌ)) [آل عمران : 7] .
وهم أول من يعلم أن فساد أي مجتمع إنما يبدأ بإفساد المرأة واختلاطها بالرجال ، ولو تأملنا في التاريخ لوجدنا أن أول ما دخل الفساد على أية أمة فإنما هو من باب الفتنة بالنساء ، وقد ثبت عن صلى الله عليه وسلم قوله : ((ما تركت فتنة هي أضر على الرجال من النساء )) [1]
وقول صلى الله عليه وسلم : ((واتقوا النساء ؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ))[2].
وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد ، وملل الكفر أول من يعرف هذه الحقيقة ؛ حيث إنهم من باب الفتنة بالنساء دخلوا على كثير من مجتمعات المسلمين وأفسدوها وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم في ذلك المهزومون من بني جلدتنا ممن رضعوا من ألبان الغرب وأفكاره، ولكن لأنهم يعيشون في بيئة مسلمة ولا زال لأهل العلم والغيرة حضورهم؛ فإنهم كما سبق بيان ذلك لا يتجرؤون على طرح مطالبهم التغريبية بشكل صريح لعلمهم بطبيعة تديُّن الناس ورفضهم لطروحاتهم وخوفهم من الافتضاح بين الناس ، ولذلك دأبوا على اتباع المتشابهات من الشرع ، وإخراج مطالبتهم في قوالب إسلامية وما فتئوا يلبسون الحق بالباطل .
ومن هذه الطروحات التي أجلبوا عليها في الآونة الأخيرة مطالبتهم في مجتمعات محافظة بكشف المرأة عن وجهها وإخراجها من بيتها معتمدين بزعمهم على أدلة شرعية وأقوالٍ لبعض العلماء في ذلك . ولنا في مناقشة هؤلاء القوم المطالبين بكشف وجه المرأة المسلمة أمام الأجانب واختلاطها بهم في مجتمع محافظ لا يعرف نساؤه إلا الحجاب الكامل والبعد عن الأجانب لنا في ذلك عدة وقفات :
الوقفة الأولى :
إن هناك فرقاً في تناول قضية الحجاب وهل يدخل في ذلك الوجه أم لا ؟ بين أن يقع اختلاف بين العلماء المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ بين مضاعفة الأجر مع الشكر ، وبين الأجر الواحد مع العذر هناك فرق بين أولئك وبين من يتبع الزلات، ويحكم بالتشهي ، ويرجِّح بالهوى ؛ لأن وراء الأكمة ما وراءها ؛ فيؤول حاله إلى الفسق وَرِقَّة الدين ونقص العبودية وضعف الاستسلام لشرع الله عز وجل .
وهناك فرق بين تلك الفتاوى المحلولة العقال المبنية على التجرِّي لا على التحري التي يصدرها قوم لا خلاق لهم من الصحافيين ومن أسموهم المفكرين تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجاً ، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً ، ينفرون من تغطية الوجه لا لأن البحث العلمتي المجرد أدَّاهم إلى أنه مكروه أو جائز أو بدعة كما يُرجفون ، ولكن لأنه يشمئز منه متبوعهم من كفار الشرق والغرب .
فاللهم باعد بين نسائنا وبناتنا وأخواتنا وبينهم كما باعدت بين المشرق والمغرب ) [3].
ولك أن تقدر شدة مكر القوم الذين يريدون من جانبهم أن يتَّبعوا التمدن الغربي، ثم يسوِّغون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي .
ولقد أوتيت المرأة من الرخص في النظام الإسلامي أن تبدي وجهها وكفيها إذا دعت الحاجة في بعض الأحوال ، وأن تخرج من بيتها لحاجتها ، ولكن هؤلاء يجعلون هذا نقطة البدء وبداية المسير ، ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب الحياء والاحتشام، فلا يقف الأمر بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين ، يل يجاوزه إلى تعرية الشعر والذراع والنحر إلى آخر هذه الهيئة القبيحة المعروفة، وهي الهيئة التي لا تخص بها المرأة الأزواج والأخوات والمحارم فقط، بل يخرجن بكل تبرج من بيوتهن، ويمشين في الأسواق، ويخالطن الرجال في الجامعات ، ويأتين الفنادق والمسارح ، ويتبسطن مع الرجال الأجانب .(6/114)
ثم يأتي القوم فيحملون رخصة الإسلام للمرأة في الخروج من البيت للحاجة وهي الرخصة المشروطة بالتستر والتعفف؛ على أنه يحل لها أن تغدو وتروح في الطرقات ، وتتردد إلى المتنزهات والملاعب والسينما في أبهى زينة ، وأفتنها للناظرين ، ثم يتخذ إذن الإسلام لها في ممارسة أمور غير الشؤون المنزلية ذلك الإذن المقيد المشروط بأحوال خاصة يُتَّخذ حجة ودليلاً على أن تودِّع المرأة المسلمة جميع تبعات الحياة المنزلية ، وتدخل في النشاط السياسي والاقتصادي والعمراني تماماً وحذو القُذَّة بالقذة كما فعلت الإفرنجية .
وهاهو ذا الشيخ المودودي رحمه الله يصرخ في وجوه هؤلاء الأحرار في سياستهم ، العبيد في عقليتهم قائلاً : (ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يُستخرَج منه جواز هذا النمط المبتذل من الحياة ؟ وإنكم يا إخوان التجدد إن شاء أحدكم أن يتبع غير سبيل الإسلام فهلاَّ يجترئ ويصرح بأنه يريد أن يبغي على الإسلام، ويتفلَّت من شرائعه ؟ وهلاَّ يربأ بنفسه عن هذا النفاق الذميم والخيانة الوقحة التي تزيِّن له أن يتَّبع علناً ذلك النظام الاجتماعي وذلك النمط من الحياة الذي يحرمه الإسلام شكلاً وموضوعاً ، ثم يخطو الخطوة الأولى في هذا السبيل باسم اتِّباع القرآن كي ينخدع به الناس فيحسبوا أن خطواته التالية موافقة للقرآن ؟) [4].
الوقفة الثانية :
وهي نتيجة للوقفة الأولى ، وذلك بأن ينظر إلى قضية الحجاب اليوم وما يدور بينها وبين السفور من معارك إلى أنها لم تعد قضية فرعية ومسألة خلافية فيها الراجح والمرجوح بين أهل العلم ، ولكنها باتت قضية عقدية مصيرية ترتبط بالإذعان والاستسلام لشرع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة وعدم فصله عن شؤون الحياة كلها ؛ لأن ذلك هو مقتضى الرضى بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد
r نبياً ورسولاً .
إن التشنيع على تغطية المرأة وجهها والتهالك على خروجها من بيتها واختلاطها بالرجال ليست اليوم مسألة فقهية فرعية ولكنها مسألة خطيرة لها ما بعدها؛ لأنها تقوم عند المنادين بذلك على فصل الدين عن حياة الناس وعلى تغريب المجتمع وكونها الخطوة الأولى أو كما يحلو لهم أن يعبروا عنه بالطلقة الأولى .
وإن لنا في جعل قضية الحجاب اليوم قضية أصولية كلية مع أن محلها كتب الفروع إن لنا في ذلك أسوة في سلف الأمة ؛ حيث صنفوا بعض المسائل الفرعية مع أصول الاعتقاد لَمَّا رأوا أن أهل البدع يشنِّعون على أهل السنة فيها ويفاصلون عليها،
من ذلك ما ذكره الإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية في قوله عن أهل السنة والجماعة : ( ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر ) وعلق شارح الطحاوية على ذلك بقوله : ( وتواترت السنة عن رسول ا صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين ، والرافضة ، تخالف هذه السنة المتواترة ) [5].
ومعلوم أن المسح على الخفين من المسائل الفقهية ؛ ولكن لأن أهل البدع أنكروه وشنعوا على مخالفيهم فيه نص العلماء عليه في عقائدهم .
إذن فلا لوم على من يجعل قضية الحجاب اليوم قضية أصولية مصيرية ، وذلك لتشنيع مبتدعة زماننا ومنافقيهم عليه ولحملتهم المحمومة لنزعه وجر المرأة بعد ذلك لما هو أفسد وأشنع من ذلك ، وأنها لم تعد مسألة فقهية يتناقش فيها أهل العلم المتجردون لمعرفة الراجح وجوانب الحاجة والضرورة فيه .
وقد صرَّح بعضُ العلماء بتكفير من قال بالسفور ورفْع الحجاب وإطلاق حرية المرأة ؛ إذا قال ذلك معتقداً جوازه .
قال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه : ( المسائل الكافية؛ في بيان وجوب صدق خبر رب البرية ) [6]:
(المسألة السابعة والثلاثون) : من يقول بالسفور ورفع الحجاب وإطلاق حرية المرأة ففيه تفصيل :
فإن كان يقول ذلك ويُحسِّنُه للغير مع اعتقاده عَدَم جوازه ، فهو مؤمن فاسق يجب عليه الرجوعُ عن قوله ، وإظهارُ ذلك لدى العموم .
وإن قال ذلك معتقداً جوازه ، ويراه من إنصاف المرأة المهضومة الحق على دعواه ! فهذا يكفر لثلاثة أوجه :
الأول : لمخالفته القرآن : ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ )) (الأحزاب : 59) .
الثاني : لمحبته إظهار الفاحشة في المؤمنين . ونتيجة رفع الحجاب ، وإطلاق حرية المرأة واختلاط الرجال بالنساء : هو ظهور الفاحشة ، وهو بيِّنٌ لا يحتاج إلى دليل .
الثالث : نسبةُ الحيف على المرأة ، وظلمها إلى الله تعالى الله عما يقول المارقون ؛ لأنه هو الذي أمر نبيه بذلك ، وهو بيِّنٌ أيضاً .
قلتُ : وظهور الفاحشة نتيجة لرفع الحجاب ، وإطلاق حرية المرأة ، واختلاط النساء بالرجال يَشهد به الواقعُ من حال الإفرنج والمتفرنجين الذين ينتسبون إلى الإسلام ، وهم في غاية البعد منه .(6/115)
وصرح الشيخ محمد بن يوسف الكافي أيضاً بتكفير من أظهرت زينتها الخلقية أو المكتسبة ، معتقدة جواز ذلك ، فقال في كتابه المشار إليه ما نصُّه : (المسألة السادسة والثلاثون) : من أظهرت من النساء زينتها الخِلقية أو المكتسبة ؛ فالخلقية : الوجه والعنق والمعصم ونحو ذلك ، والمكتسبة ما تتحلى وتتزين به الخلقة كالكحل في العين، والعقد في العنق، والخاتم في الإصبع، والأساور في المعصم، والخلخال في الرِّجل، والثياب الملونة على البدن ، ففي حكم ما فعلتْ تفصيل :
فإن أظهرت شيئاً مما ذُكِرَ معتقدة عدم جواز ذلك ، فهي مؤمنة فاسقة تجب عليها التوبة من ذلك ، وإن فعلته معتقدة جواز ذلك فهي كافرة لمخالفتها القرآن ؛ لأن القرآن نهاها عن إظهار شيء من زينتها لأحد إلا لمن استثناه القرآن ، قال الله تعالى : ((ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ )) (النور : 31) .
قال هشام بن عمار : سمعت مالكاً يقول من سَبَّ أبا بكر وعمر أُدِّب ، ومن
سَبَّ عائشة قُتِل ؛ لأن الله يقول : (( يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) (النور : 71).
فمن سَبَّ عائشة فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن قُتِل أي لأنه استباح ما حرَّم الله تعالى انتهى .
الوقفة الثالثة :
ليس المقصود في هذه الوقفات حشداً للأدلة الموجبة لستر وجه المرأة وكفيها عن الرجال الأجانب ووجوب الابتعاد عنهم ؛ فهي كثيرة وصحيحة وصريحة والحمد لله ويمكن الرجوع إليها في فتاوى أهل العلم الراسخين ورسائلهم كرسالة الحجاب للشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
ومن الكتب التي توسعت في هذا الموضوع وردَّت على شبهات المخالفين كتاب : (عودة الحجاب/ القسم الثالث) للدكتور محمد بن إسماعيل المقدم حفظه الله وإنما المقصود في هذه المقالة ما ذكر سابقاً من فضح نوايا المنادين بكشف الوجه والاختلاط بالرجال ، وأن وراء ذلك خطوات وخطوات من الفساد والإفساد ؛ ومع ذلك يحسن بنا في هذه الوقفة أن نشير إلى أن علماء الأمة في القديم والحديث من أجاز منهم كشف الوجه ومن لم يجزه كلهم متفقون ومجمعون على وجوب ستر وجه المرأة وكفيها إذا وُجِدَت الفتنة وقامت أسبابها ؛ فبربكم أي فتنة هي أشد من فتنة النساء في هذا الزمان ؛ حيث بلغت وسائل الفتنة والإغراء بهن مبلغاً لم يشهده تاريخ البشرية من قبل ، وحيث تفنن شياطين الإنس في عرض المرأة بصورها المثيرة في كل شيء في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ، وأخرجوها من بيتها بوسائل الدعاية والمكر والخداع ؛ فمن قال بعد ذلك : إن كشف المرأة عن وجهها أو شيء من جسدها لا يثير الفتنة فهو والله مغالط مكابر لا يوافقه في ذلك من له مُسْكَة من دين أو عقل أو مروءة .
وبعد التأكيد على أن أهل العلم قاطبة متفقون على وجوب تغطية الوجه إذا وجدت الفتنة يتبين لنا أن خلافهم في ذلك كان محصوراً فيما إذا أُمِنَتِ الفتنةُ ، ومع ذلك فتجدر الإشارة أيضاً إلى أن هذا القدر من الخلاف بقي خلافاً نظرياً إلى حد بعيد ؛ حيث ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية خلال مراحل التاريخ الإسلامي.
وفيما يلي نُقُول عن بعض الأئمة تؤكد أن التزام الحجاب كان أحد معالم (سبيل المؤمنين ) في شتى العصور : قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى : ( كانت سُنَّة المؤمنين في زمن صلى الله عليه وسلم أن الحرة تحتجب ، والأَمَةُ تبرز ) [7].
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى : ( لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن متنقبات) [8].
وقال الحافظ ابن حجر : (لم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً أن يسترن وجوههن عن الأجانب )[9].
وقد يتعلق دعاة السفور أيضاً ببعض الحالات التي أذن الشارع للمرأة فيها بكشف وجهها لغير محارمها كرؤية الخاطب لمخطوبته ، وعند التداوي إذا عدمت الطبيبة بشرط عدم الخلوة وعند الشهادة أمام القاضي ونحوها، وهذا كله من يُسْر الشريعة وسماحة الإسلام ؛ حيث رُخِّص للمرأة إذا اقتضت المصلحة الراجحة والحاجة الماسة أن تكشف عن وجهها في مثل هذه الأحكام ؛ وليس في هذا أدنى
مُتَعَلَّق لدعاة السفور؛ لأن الأصل هو الحجاب الكامل وهذه رخص تزول إذا زالت الحاجة إليه .
الوقفة الرابعة :
ومن منطلق النصح والشفقة وإقامة الحجة أتوجه بالكلمات الآتية إلى أولئك القوم الذين ظلموا أنفسهم وأساؤوا إلى مجتمعهم وأمتهم وخانوا أماناتهم وحملوا بذلك أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون فأرجو أن تجد هذه الكلمات آذاناً صاغية وقلوباً واعية قبل مباغتة الأجل وهجوم الموت ؛ حيث لا تقبل التوبة ولا ينفع الندم .
* أذكِّركم بموعظة الله تعالى ؛ إذ يقول : (( قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)) (سبأ : 46) .(6/116)
فماذا عليكم لو قام كل فرد منكم مع نفسه أو مع صاحبه ، ثم فكرتم فيما أنتم عليه من إفساد وصد عن سبيل الله عز وجل ، هل أنتم مقتنعون بما تفعلون وبما تجرُّونه على أمتكم من الفتن ؟ وهل هذا يرضي الله تعالى ، ويجلب النعيم لكم في الآخرة ؟ إنكم إن قمتم لله عز وجل متجردين مثنى أو فرادى ، وفكرتم في ذلك فإن الجواب البدهي هو أن الفساد والإفساد لا يحبه الله عز وجل ، بل يمقته ، ويمقت أهله ، وسيأتي اليوم الذي يمقت فيه أهل الفساد أنفسهم، ويتحسرون على ما فرطوا وضيعوا وأفسدوا ، وذلك في يوم الحسرة ؛ حيث لا ينفع التحسر ولا التندم ، فعليكم بالتوبة قبل أن يحال بينكم وبينها .
* أذكِّركم بيوم الحسرة والندامة يوم يتبرأ منكم الأتباع وتتبرؤون من الأتباع ، ولكن حين لا ينفع الاستعتاب ولا التنصل ولا التبرؤ ، بل كما قال تعالى : ((وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (سبأ : 33) .
* أذكِّركم بالأثقال العظيمة التي ستحملونها يوم القيامة من أوزاركم وأوزار الذين تضلونهم بغير علم إن لم تتوبوا ، قال تعالى : ((ولَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ولَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) (العنكبوت : 13).
وقال عز وجل : (( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ ومِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ )) (النحل : 25) .
وإن الظالمين جميعهم رئيسهم ومرؤوسهم، تابعهم ومتبوعهم لهم يوم مشهود ويوم عصيب ، يوم يكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضاً، ويحيل التبعة بعضهم على بعض؛ ولكن حين لا يجدي لهم ذلك إلا الخزي والبوار .
* إن لم يُجْدِ واعظُ الله سبحانه والدار الآخرة فيكم فلا أقل من أن يوجد عندكم بقية مروءة وحياء تمنعكم من إفساد المرأة وإفساد المجتمع بأسره .
إن المتأمل لحال المتبعين للشهوات اليوم ليأخذه العجب والحيرة من أمرهم ! فما لهم وللمرأة المسلمة التي تقر في منزلها توفر السكن لزوجها وترعى أولادها ؟
ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن الحصين تؤدي دورها الذي يناسب أنوثتها وطبيعتها ؟
ماذا يريدون من عملهم هذا ؟ !
ثم ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخير والدين والخصال الكريمة ؟
ماذا يريدون من إفسادهم وتسليط برامج الإفساد المختلفة عليهم ؟ هل يريدون جيلاً منحلاًّ يكون وبالاً على مجتمعه ذليلاً لأعدائه عبداً لشهواته ؟ إن هذه هي النتيجة؛ وإن من يسعى لهذه النتيجة الوخيمة التي تتجه إليها الأسر المسلمة اليوم لهو من أشد الناس خيانة لمجتمعه وأمته وتاريخه .
إن من عنده أدنى مروءة ونخوة فضلاً عن الدين والإيمان لا يسمح لنفسه أن يكون من هؤلاء الظالمين، وما ذُكِرَ من إفساد الأسرة إنما هو على سبيل المثال لا الحصر؛ فيا من وصلوا إلى هذا المستوى من الهبوط والجناية ! توبوا إلى ربكم، وفكِّروا في غايتكم ومصيركم، واعلموا أن وراءكم أنباءاً عظيمة وأهوالاً جسيمة تشيب لها الولدان، وتشخص فيها الأبصار؛ فإن كنتم تؤمنون بهذا فاستيقظوا من غفلتكم وراجعوا أنفسكم ، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعاً، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فراجعوا دينكم ، وادخلوا في السلم كافة قبل أن يحال بينكم وبين ما تشتهون .
* يا قومنا ! أعدوا للسؤال جواباً وذلك حين يسألكم عالم الغيب والشهادة عن مقاصدكم في حملتكم وإجلابكم على المرأة وحجابها وقرارها في بيتها ، فماذا أنتم قائلون لربكم سبحانه ؟ إنكم تستطيعون أن تفروا من المخلوق فتدلِّسون وتلبِّسون ، وقد يظهر ذلك للناس في لحن القول وقد لا يظهر ؛ لكن كيف الفرار ممن يعلم ما تخفون وما تعلنون ؟ ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)) [الحاقة : 81] .
فتوبوا إلى علاَّم الغيوب ما دمتم في زمن التوبة ، وصحِّحوا بواطنكم قبل أن يُبعثَر ما في القبور ويُحَصَّل ما في الصدور .
وختاماً :
أوصي نفسي وإخواني المسلمين الحريصين على دينهم وأعراضهم وسلامة مجتمعاتهم من الفساد بأن يكونوا يقظين لما يطرحه الظالمون لأنفسهم وأمتهم من كتابات وحوارات مؤداها دعوة إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال الأجانب ، فما دامت المدافعة بين المصلحين والمفسدين فإن الله عز وجل يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق . وينبغي أن لا ننسى في خضم الردود على ما يكتبه المفسدون من الشبهات والشهوات ؛ ذلكم السيل الهادر الذي يتدفق من وسائل الإعلام المسموعة والمرئية في بلاد المسلمين ؛ وذلك بما تبثه الإذاعات والتلفاز والقنوات الفضائية من دعوة للمرأة إلى السفور ومزاحمة الرجال في الأعمال والطرقات ، والتمرد على الرجل سواء كان أباً أو زوجاً أو أخاً ؛ ولقد ضربت هذه الوسائل بأطنابها في بلاد المسلمين فكان لزاماً على المصلحين محاربتها وإبعادها عن بيوت المسلمين قدر الاستطاعة ، فإن لم يكن إلى ذلك سبيل فلا أقل من تكثيف الدعاية ضدها والتحذير(6/117)
من شرها ووقاية المسلمين من خطرها ؛ وذلك بإصدار الفتاوى المتتابعة والخطب المكثفة حول أضرارها وأثرها المدمر للدين والأخلاق ؛ فإنها والله لا تقل خطراً عما تكتبه الأقلام الآثمة عن المرأة إن لم تزد عليه ، والمقصود أن لا يكتفي المصلحون بمحاربة ما يكتبه المفسدون في الصحف والمجلات عن المرأة فإن هم سكتوا سكت المصلحون وظنوا أن الخطر قد انتهى . كلا ! إن الخطر لم ينته وإن المعركة مستمرة ؛ لأن الخطر الأكبر لا يزال قائماً ما دامت الوسائل المسموعة والمرئية لا
تكفُّ عن المرأة والاستهزاء بحجابها وقرارها في بيتها وقوامة الرجل عليها، وإثارة الشبهات في ذلك .
أسأل الله عز وجل أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يعز دينه ويعلي كلمته ، وأن يرد كيد المفسدين في نحورهم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
[1] رواه البخاري ، ح/ 6074 .
[2] رواه مسلم ، ح/ 5294 .
[3] انظر عودة الحجاب ، 3/ 734 .
[4] انظر مقدمة عودة الحجاب للدكتور محمد إسماعيل المقدم ، ص 22 ، 32 باختصار وتصرف يسير .
[5] شرح الطحاوية ، ص 683 .
[6] عن كتاب الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور ، للشيخ حمد التويجري رحمه الله .
[7] تفسير سورة النور ، ص 56 .
[8] إحياء علوم الدين ، 4 / 927 .
[9] فتح الباري ، 9/423 .
============(6/118)
(6/119)
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فقد أرشد الله - عز وجل - إلى تتبع المجرمين والنظر في أفعالهم وطرقهم في هدم هذا الدين ، فقال الله - سبحانه - {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}، وأمر الله - عز وجل - نبي صلى الله عليه وسلم أن يجاهد المنافقين ، فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ، وجهاد الكفار يشمل الحجة والسنان ، أما جهاد المنافقين فهو بالحجة والبيان ، لأن لهم حكم الإسلام فهم يتخفون ولا يظهرون ما يعتقدون . وقد فضح الله - عز وجل - المنافقين في كتابه الكريم في سور كثيرة : في سورة البقرة ، وسورة النساء ، وفي سورة التوبة التي سميت بالفاضحة حتى قال بعض الصحابة - رضي الله عنهم - : ما زالت سورة التوبة تنزل {ومنهم } {ومنهم } حتى ظننا أنها لا تبقي أحداً . وفي سورة الأحزاب بيان عن مواقفهم وقت الشدائد ، وسمّى الله - عز وجل - سورة في كتابه الكريم عن هذه الفئة ، وهذه الفئة مهما تخفت فإن الله - عز وجل - يظهر ما تضغنه صدورهم وما تبطنه قلوبهم : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فهي فئة مفضوحة ، يفضحها الله - عز وجل - ويظهر خباياها ليعرفها الناس ولا ينخدعوا بها وكل إناء بما فيه ينضح .
والتعرف على هذه الفئة وعلى أساليبها وطرقها في محاربة الأمة ومحاولتها تقوض دعائم الإسلام يعد من الأهمية بمكان ، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية .
فيظهر أهل الجاهلية من أجل تقويض عرى الإسلام فلا يقبل منهم أهل الإسلام ذلك لمعرفتهم بهم وبجاهليتهم .
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب
ولو رجال مؤمنون لهدمت صوامع دين الله من كل جانب
ولهذا كان لابد من دراسة أساليب الفئة العلمانية في تغريب الأمة كلها والمرأة بوجه خاص لنبتعد عن هذا الشر وهذا الوباء الذي ينذر كارثة عظيمة على الأمة المحمدية .
ولابد أيضاً أن يعلم كل مسلم أن الفئة العلمانية هي الخطر الأكبر المحدق بهذه الأمة ، وهو يعمل على تغريب هذه الأمة وإبعادها عن دينها .
وهذه الكلمات في أصلها محاضرة ألقيت في الرياض بتاريخ 29/4/1414هـ ثم أجري عليها بعض التعديل وأعان على ذلك بعض الأخوة فلهم جزيل الشكر وما كان فيما ذكرت من صواب فمن الله وحده وله الحمد والفضل وما كان فيه من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان . وأرجو من كل أخ في الله رأى خطأ أو استدرك أمراً أو توصل إلى معلومة أن يناصح أخاه فالدين النصيحة بما عنده وأنا له داع وشاكر والتعاون على البر والتقوى واجب شرعي .
{ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
كتبه العبد الفقير إلى ربه العلي القدير
بشر بن فهد البشر
لماذا المرأة ؟
يتبادل إلى أذهان الجميع لماذا التركيز على المرأة من قبل الغرب ومن قبل إتباعه المستغربين العلمانيين ؟
والسر أن هؤلاء قد فطنوا لمكانة المرأة الأساسية ودورها في صنع الأمة وتأثيرها على المجتمع ولذلك أيقنوا أنهم متى ما أفسدوا المرأة ونجحوا في تغريبها وتضليلها فحين ذلك تهون عليهم حصون الإسلام بل يدخلونها مستسلمة بدون أدنى مقاومة .
يقول شياطين اليهود في بروتوكولاتهم : علينا أن نكسب المرأة ففي أي يوم مدت إلينا يدها ربحنا القضية .
ولذلك نجح اليهود في توجيه الرأي العام الغربي حينما ملكوا المرأة عن طريق الإعلام وعن طريق المال .
وقال آخر من ألد أعداء الإسلام : كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع فأغرقوها في حب المادة والشهوات .
وهذا صحيح ؛ فإن الرجل الواحد إذا نزل في خندق وأخذ يقاوم بسلاحه يصعب اقتحام الخندق عليه حتى يموت ، فما بالك بأمة تدافع عن نفسها ، فإذا هي غرقت في الشهوات ومالت عن دينها وعن طريق عزها استسلمت للعدو بدون أي مقاومة بل بترحيب وتصفيق حار .
ويقول صاحب كتاب تربية المرأة والحجاب : ( إنه لم يبق حائل يحول دون هدم المجتمع الإسلامي في المشرق - لا في مصر وحدها - إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل ، بل الفساد الذي عم الرجال في المشرق )
ما هي العلمانية وما حكم هذه العلمانية ؟(6/120)
العلمانية في الأصل يراد بها فصل الدين عن التدخل في تنظيم شئون الحياة ، فلا تتدخل الشرائع السماوية في تنظيم أمور البيع والشراء والمعاملات ولا في مسائل الاقتصاد والسياسة ومسائل الحرب والسلم ومسائل التربية والتعليم وهكذا ، هذا هو أصل كلمة علمانية عند الغرب ، فهي اللادينية ، والاعتراف والتعامل مع الشيء المشاهد ونفى الظواهر الغيبية وتدخلها في صياغة الحياة ، ولذا يسمحون بتدين الإنسان الشخصي ، أما أن يكون للدين تأثير في تدبير شئون الأمة فلا ، ثم انتقل هذا الوباء إلى الأمة المحمدية .
والعلمانية بالمفهوم الإسلامي أعم من ذلك المفهوم الغربي ، فلو وجد شخص ينادي بتطبيق شريعة الإسلام كلها إلا مسألة واحدة يرفضها مما أجمع عليه المسلمون ، وعلم من الدين بالضرورة فإنه يكون كافراً مرتداً ، فعلى سبيل المثال لو وجد شخص ينادي بتطبيق الشريعة في الحدود وفي الاقتصاد وفي السياسة وفي التعليم إلا أنه يقول يجب في الميراث أن نساوى بين الرجل والمرأة، فإنه بهذا يكون علمانياً في الحكم الشرعي، لأنه رد حكما معلوماً من دين الإسلام بالضرورة .
إذاً هذه هي العلمانية في اصطلاحنا حين نتحدث ، وحكمها بهذا الاصطلاح كفر أكبر مخرج من الإسلام لأنها تكذيب لله ولرسول صلى الله عليه وسلم وهي إشراك بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، إذ أنها تجعل الحكم في بعض المسائل لغير الله وفي بعضها لله .
وهنا مسألة مهمة يلزم التنبيه عليها وهي الفرق بين الوصف وبين التعيين ، ففرق أن نقول : إن العلمانية كذا ، وأن القول بكذا وكذا علمانية ، وبين أن نقول إن فلاناً علماني فينبغي أن نفرق فقد يكون هذا الشخص قاله جاهلاً وقد يكون غرر به ، وقد يكون أخذ بقول شاذ وأنت لا تعرفه وهكذا . لكن من علم عنه أمر مع وجود الشروط وانتقاء الموانع حكم عليه بما يستحقه شرعاً من ردة أو غيرها . ثم ينبغي التنبيه إلى أن بعض المسلمين قد يفعل بسبب غفلته أو بسبب جشع مادي أو حتى بحسن قصد بعض ما يفعله أو يريده العلمانيون ، وقد يفعل ما يخدم أهدافهم ؛ فهذا الشخص لا يعد منهم - أي لا يقال عنه : علماني - ومع ذلك لابد من التحذير من عمله ، ولابد من بيان خطئه وخطره ، ولابد من نصحه ورده عن ما هو عليه .
التغريب
أما التغريب : فقد نشأت عند ساسة الغرب ومخططيه أيام الاستعمار بعد فشل بعض الحملات العسكرية فكرة شيطانية ، وهي أنه ينبغي أن تكون الجيوش الاستعمارية بعيدة عن المواجهات لأنها تثير ردود فعل عنيفة ، وأنه ينبغي عليهم أن يبذلوا الأسباب لتستسلم الأمم المسلمة للثقافة والحضارة الغربية بنفسها طواعية ، وبذلك نشأت فكرة التغريب ، وأساسها تذويب الشخصية المسلمة في الشخصية الغربية بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي ، ولا تعجب إلا بما يعجب به الغرب ، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام وتعتنق هذه الديانة الجديدة التغريبية ، وتدخل في عجلة الاستهلاك الاقتصادي التي يروج لها الغرب ،( فبرامج التغريب تحاول أن تخدم هدفاً مزدوجاً ، فهي تحرس مصالح الاستعمار بتقريب الهوة التي تفصل بينه وبين المسلمين نتيجة لاختلاف القيم ونتيجة للمرارة التي يحسها المسلم إزاء المحتلين لبلاده ممن يفرض عليه دينه جهادهم ، وهي في الوقت نفسه تضعف الرابطة الدينية التي تجمع المسلمين وتفرق جماعتهم التي كانت تلتقي على وحدة القيم الفكرية والثقافية ، أو بتعبير أشمل وحدة القيم الحضارية ) ...... الخ(1).
فهذا هو التغريب : أي تذويب الأمة المحمدية بحيث تصبح أمة ممسوخة : نسخة أخرى مكررة من الأمة الغربية الكافرة ، غير أن هناك فرق فالأمة الغربية هي الأمة القائدة الحاكمة المتصرفة والأمم الأخرى هي الأمم التابعة الذليلة المنقادة لما يملى عليها ، فهذا هو التغريب .
وتغريب المرأة المسلمة جزء من مخطط شامل لتغريب الأمة في كل أمورها .
يقول الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله تعالى -(2) : وكانت برامج التغريب تقوم على قاعدتين أساسيتين - يعني عند المستعمرين الأولين : -
الأولى : اتخاذ الأولياء والأصدقاء من المسلمين وتمكينهم من السلطة ، واستبعاد الخصوم الذين يعارضون مشاريعهم ، ووضع العراقيل في طريقهم ، وصد الناس عنهم بمختلف السبل .
القاعدة الثانية : التسلط على برامج التعليم وأجهزة الإعلام والثقافة عن طريق من نصبوه من الأولياء وتوجيه هذه البرامج بما يخدم أهدافهم ويدعم صداقتهم .
بداية التغريب :
يؤرخُ لبداية الدعوة لتغريب المرأة المسلمة في مصر في أوائل القرن التاسع عشر ، ولحقتها بلاد العرب الأخرى بعد ذلك .(6/121)
وكانت البداية أن رجلا اسمه رفاعة الطهطاوي ابتعث من قبل محمد علي باشا حاكم مصر في أوائل القرن التاسع عشر ، ورفاعة هذا من خريجي جامعة الأزهر ومؤهل تأهيلا شرعياً ، وقد ابتعث ليقوم بإمامة البعثة المصرية إلى فرنسا في الصلاة ومرشداً لهم ، ولكنه ما لبث أن ذاب وتأثر بالأفكار الفرنسية ، وفتن فتنة عظيمة ، وعاد إلى مصر ليعرض بضاعته الخبيثة فيها : داعياً للتغريب ، ورافعاً للواء تحرير المرأة ، ونحو ذلك من ركائز التغريب ، وألف كتاباً أودع فيه خلاصة إعجابه بالغرب ( فرنسا بالذات ) أسماه ( تلخيص الأبريز في تلخيص باريز ) ومما قاله فيه : ( السفور والاختلاط بين الجنسين ليس داعياً إلى الفساد ) .
ثم ظهر في عام 1894 م في مصر كتاب (( المرأة في الشرق )) يشن حملة على النظام الإسلامي مهونا الرقص والاختلاط ، ألفه رجل نصراني صليبي يدعى مرقص فهمي .
وبعد ذلك ظهر قاسم أمين الذي ولد في مصر ورحل إلى فرنسا ليتم تعليمه لينبهر بفرنسا كما انبهر رفاعة من قبل حتى صرح قاسم بأن أكبر الأسباب في انحطاط الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة : التمثيل والتصوير والموسيقى )(3) .
وقد ألف قاسم أمين كتاب ( تحرير المرأة ) عام 1899 م حمل فيه على الحجاب ودعا إلى السفور ، وذلك بترديد أن الحجاب عادة وليس تشريعا ، وقد تناول في كتابه أربع مسائل :
- الحجاب .
- اشتغال المرأة بالشئون العامة .
- تعدد الزوجات .
- الطلاق .
وذهب في كل مسألة إلى ما يطابق مذاهب الأوربيين زاعماً أن ذلك هو مذهب الإسلام .
وانجر في كتابه إلى التهكم بالفقهاء وعلماء الشريعة وقد ألبس آراءه هنا لباسا مخادعا حتى قال بعض معاصريه : ( ما رأيت باطلاً أشبه بحق من كلام قاسم أمين ) . وقد أوضح قاسم في مقدمة كتابه أنه ممن يرى التدرج في التغيير شيئاً فشيئا ، وكأنه كان يشير إلى كتابه ( المرأة الجديدة ) الذي صدر بعدئذ ، وأبان فيه عن جانب خطير من فكره وطرحه ، فهو كما يقول العنوان يبحث عن امرأة جديدة : كالأوروبية تماماً ، وقال بأقوال لا تقبلها حتى النساء فهو لا يقبل (حق ملكية الرجال للنساء ) ويرى ترك حرية النساء للنساء حتى لو أدى الأمر إلى إلغاء نظام الزواج حتى تكون العلاقات بين الرجل والمرأة حرة لا تخضع لنظام ولا يحدها قانون ) (4) .
وقد أثار الكتابان ردة فعل واسعة ، وصدرت ردود تبلغ مائة كتاب ، ومنها كتاب للشيخ مصطفى صبري هو ( قولي في المرأة ) ودافع البعض عن قاسم أمين منهم جرجى نقولاباز(5) .
وكأني بمحمد فريد وجدي يتكلم عن واقعنا اليوم ليقول في رده على قاسم أمين : ( إذا أشرنا اليوم بوجوب كشف الوجه واليدين ، فإن سنة التدرج سوف تدفع المرأة إلى خلع العذار للنهاية في الغد القريب كما فعلت المرأة الأوربية التي بلغت بها حالة التبذل درجة ضج منها الأوربيون أنفسهم وبدلا من أن نضرب أمثلة بالغرب دائماً ينبغي أن نولي وجوهنا إلى عظمة مدنيتنا الإسلامية الماضية ) وقد ترجم الإنكليز الكتاب واحتفوا به وبثوا قضاياه .
وقد قال أحمد محرم رحمه الله في هذا الكتاب :
أقيمي وراء الخدر فالمرء واهم
سوى ما جنت تلك الرؤى والمزاعم
إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم
…
أغرك يا أسماء ما ظن قاسم
تضيقين ذرعاً بالحجاب وما به
سلام على الأخلاق في الشرق كله
وقال الشاعر العراقي البناء يهاجم أهل السفور :.
تصيد الصيد في شرك العيون
تقود ذوي العقول إلى الجنون (6)
…
وجوه الغانيات بلا نقاب
إذا برزت فتاة الخدر حسرى
وبعد أن توفي قاسم أمين صدرت مجلة السفور بعد دخول الإنجليز إلى مصر وكتب فيها مصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق - صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم - وكان النساء حتى ذلك الوقت محجبات يرتدين البراقع البيض ، ولا يخالطن الرجال .
وعندما جاء عهد الثورة في مصر انتقلت الحركة إلى طور التنظيم بمؤازرة الزعيم الوطني المزعوم سعد زغلول الذي رتب البريطانيون نفيه ثم أعادوه رئيساً للوزراء ليوقع معهم معاهدة تجعل الاحتلال شيئاً متفقاً عليه ، وقدم سعد وبرفقته زوجته صفية زغلول التي تسمت باسم زوجها اقتداء بالغربيات ، وهي ابنة لمصطفى فهمي الذي كان رئيساً لوزراء مصر أيام الاحتلال وعرف بصداقته الحميمة للإنجليز وبخدمته لهم وبعلاقته الشخصية باللورد كرومر ، وقد قَدِمَ سعد زغلول وزوجته هذه على باخرة ، وكان هناك احتفاء بهم فكان من شأن سعد أن بدأ بالدخول على سرادق الحريم حيث استقبلته هدى شعراوي - الفاعلة المهمة في التحرير المزعوم وهي محجبة فمد يده فنزع الحجاب عن وجهها تبعا لخطة معينة وهو يضحك فصفقت هدى وصفقت النساء لهذا الهتك المشين ( .......... ونزع الحجاب ....... ففعل سعد بيده ما دعا إليه اليهودي القديم بلسانه فكلفه دمه ....... ) (7)(6/122)
وهدى شعراوي ابنة محمد سلطان باشا العميل لجيش الاحتلال الإنجليزي والذي رافق جيش الإنجليز خلال زحفه على القاهرة وطالب الناس بعدم مقاومته ، وقدّم مع فريق من أمثاله هدية من الأسلحة الفاخرة لقادة جيش الاحتلال شكراً لهم على إنقاذ البلاد ، وقد قادت هدى شعراوي وصفية زغلول المظاهرة النسائية الشهيرة عام 1919 م والتي كان هدفها المعلن الاحتجاج على الوجود الإنجليزي في مصر ، فلما وصلت المتظاهرات إلى ميدان الإسماعيلية في القاهرة قمن بإحراق الحجاب وسمي الميدان بعد ذلك ميدان التحرير ، ويا ليت شعري ما علاقة المحتل بالحجاب ؟! بل إن إحراق الحجاب هو ما يريده المحتل ؛ لأن معناه التخلي عن القيم الخاصة بالمجتمع الإسلامي المصري ليتحول إلى مجتمع غربي مصري هجين .
وقد وصف حافظ إبراهيم - رحمه الله - هذه المظاهرة بأبيات رائعة مطلعها :
ورحت أرقب جمعهنه
سود الثياب شعار هنه
…
خرج الغواني يحتججن
فإذا بهن اتخذن من
وبعد ذلك بدأت سلسلة الأحداث المتلاحقة ومنها تأسيس الاتحاد النسائي المصري على يد هدى شعراوي عام 1923 م مع نبوية موسى وسيزا نبراوي شريكاتها في هذه المرحلة .
وقد احتفلت الدوائر الغربية بالاتحاد النسائي المصري وحضرت الدكتورة ريد رئيسة الاتحاد الدولي إلى مصر لتدريس تطور الحركة النسائية فيها . وقد التقت هدى شعراوي هذه بموسوليني عام 1922 وأتاتورك 1935 ، وفي عام 1944 نجحت هدى شعراوي وزميلاتها في إقامة مؤتمر نسائي عربي أصدر عدة قرارات ومطالبات منها :.
- تقييد الطلاق وتعدد الزوجات والحد من سلطة الولي !!.
- المساواة التامة بين الرجل والمرأة !!.
- المطالبة بحذف نون النسوة !!!.
- المطالبة بالجمع بين الجنسين في التعليم الابتدائي !!.
وقد بارك الغرب هذا المؤتمر وأرسلت زوجة الرئيس روزفلت الأمريكي برقية تحية للمؤتمر .
ثم تكون الحزب النسائي عام 1945 م ، وعام 1949 م تكون حزب بنت النيل على يد الدكتور درية شفيق والذي طالب بمنح المرأة حق الاقتراع وحق دخول البرلمان ، والمطمع الثاني كان إلغاء تعدد الزوجات وإدخال قوانين الطلاق الأوربية في مصر وباركت هذا وزيرة الشئون الاجتماعية في انجلترا ، وقامت مظاهرة نسائية واعترفت الدكتورة درية شفيق بأنها - المظاهرة- بتحريض من الوزيرة البريطانية ، وتوالت مباركات الدوائر الغربية لهذا الحزب ، والذي أكتشف أنه كان يمول من قبل السفارة الأمريكية والإنجليزية بألفين من الجنيهات سنوياً عدا الورق المصقول وتقديم المشورة .
ثم توالت الأحداث وانتقلت العدوى لبلاد عربية أخرى(8) وتكاثرت المجلات الهادمة للحجاب والعفاف الداعية إلى السفور والتبرج ولا تزال تزداد يوماً بعد يوم .
وهذا الأسلوب الذي اتبع في مصر اتبع في غيرها من البلاد وكان مدفوعاً من الغرب وحظي التغربيون بحماية الغرب لهم ولا يشبه تدخل إنجلترا لحماية درية شفيق إلا لقاء رؤساء الغرب بسلمان رشدي الذي تعدي على شريعة الإسلام .
والعجب أن الغرب لا يتواني في ملاحظة زلات التغربيين بانحرافهم عن المنهج المرسوم لهم ومن ذلك أن كاتباً عربياً محسوباً على الغرب كتب مقالاً في جريدة عربية وحمل على مواقف الغرب في البوسنة ثم نقل كاتب آخر من مقاله نقلا في جريدة ناطقة بالانجليزية ففوجئ الكاتب العربي خلال زيارته لأمريكا بسياسي أمريكي يعاتبه ويقول له : لماذا تكتب ضدنا وتثير الرأي العام .
مظاهر تغريب المرأة المسلمة
مظاهر تغريب المرأة المسلمة كثيرة جداً يصعب استقصاؤها ولكن نذكر من أهمها :.
1. من مظاهر التغريب التي وقعت فيها المرأة المسلمة والتي نراها ولا تخفى عن كل ذي عينين : الاختلاط في الدراسة وفي العمل ، إذ أنه في معظم البلدان العربية والإسلامية ؛ الدراسة فيها دراسة مختلطة ، والأعمال أعمال مختلطة ، ولا يكاد يسلم من ذلك إلا من رحم الله ، وهذا هو الذي يريده التغريبيون ، فإنه كلما تلاقى الرجل والمرأة كلما ثارت الغرائز ، وكلما انبعثت الشهوات الكامنة في خفايا النفوس ، وكلما وقعت الفواحش لاسيما مع التبرج وكثرة المثيرات وصعوبة الزواج وضعف الدين ، وحين يحصل ما يريده الغرب من تحلل المرأة ، تفسد الأسرة وتتحلل ، ومن ثم يقضى على المجتمع ويخرب من الداخل ، فيكون لقمة سائغة .
وإذا بدأ الاختلاط فلن ينتهي إلا بارتياد المرأة لأماكن الفسق والفجور مع تبرج وعدم حياء ، وهذا حصل ولا يزال فأين هذا من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم حين خرج من المسجد فوجد النساء قد اختلطن بالرجال فقال لهن : ( استأخرن ........... عليكن بحافات الطريق ) رواه أبو داود وحسنه الألباني / الصحيحة 854 .(6/123)
2. ومنها أيضاً : التبرج والسفور : والتبرج أن تظهر المرأة زينتها لمن لا يحل لها أن تظهرها له . والسفور : أن تكشف عن أجزاء من جسمها مما يحرم عليها كشفه لغير محارمها . كأن تكشف عن وجهها وساقيها وعضديها أو بعضها ، وهذا التبرج والسفور فشا في كثير من بلاد المسلمين ، بل لا يكاد يخلو منها بلد من البلدان الإسلامية إلا ما قل وندر ، وهذا مظهر خطير جداً على الأمة المسلمة ، فبالأمس القريب كانت النساء محتشمات يصدق عليهن لقب : ذوات الخدود . ولم يكن هذا تقليداً اجتماعياً ، بل نبع من عبودية الله وطاعته ، ولا يخفى أن الحجاب الشرعي هو شعار أصيل للإسلام ، ولهذا تقول عائشة - رضي الله عنها - : ( يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله{ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شققن مروطهن فاختمرن بها ) البخاري 4758.
ولهذا كان انتشار الحجاب أو انحساره مقياساً للصحوة الإسلامية في المجتمع ودينونة الناس لله ، وكان انتشاره مغيظاً لأولئك المنافقين المبطلين .
3. من مظاهر التغريب : متابعة صرعات الغرب المسماة بالموضة والأزياء ، فتجد أن النساء المسلمات قد أصبحن يقلدن النساء الغربيات وبكل تقبل وتفاخر ، ولذلك تقول إحدى النساء الغربيات ممن يسمونها برائدة الفضاء لما زارت بلداً من بلدان العربية ، قالت : إنها لم تفاجأ حينما رأت الأزياء الباريسية والموضات الحديثة على نساء ذلك البلد .
ولم يسلم لباس الأطفال - البنات الصغيرات - إذ تجد أن البنت قد تصل إلى سن الخامسة عشر وهي لا تزال تلبس لباساً قصيراً ، وهذه مرحلة أولى من مراحل تغريب ملبسها ، فإذا نزع الحياء من البنت سهل استجابتها لما يجدّ ، واللباس مظهر مهم من مظاهر تميز الأمة المسلمة والمرأة المسلمة ، ولهذا حرم التشبه بالكفار ، وهذا والله أعمل لما فيه من قبول لحالهم وإزالة للحواجز وتنمية للمودة ، وليس مجهولا أن تشابه اللباس يقلل تمييز الخبيث من الطيب ، والكفر من الإسلام ، فيسهل انتشار الباطل وخفاء أهله .
والموضة مرفوضة من عدة نواحي منها :
أ- التشبه بالكافرات . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( من تشبه بقوم فهو منهم )) ( رواه أبو داود والإمام أحمد وهو صحيح ) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: والصراط المستقيم : هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك ، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال ، قد تكون عبادات ، وقد تكون عادات في الطعام واللباس والنكاح ........الخ .
وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولابد ارتباط ومناسبة ، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة ، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً ....) انتهى من اقتضاء الصراط المستقيم ، فعلم من هذا خطورة هذا التشبه وتحريمه .
ب - الضرر الاقتصادي للتعلق بالموضة ، ومعلوم كم تكلف هذه الموضة من أموال تنقل إلى بلاد الغرب الكافرة .
وللعلم فإن 30% من ميزانية الأسرة العربية تنفق على احتياجات المرأة نفسها من ملبس وأدوات تجميل ومكياج وتزداد هذه النسبة بازدياد الدخل ومستوى التعليم وينخفض بانخفاضهما(9) .
ج - كثرة التحاسد بين النساء لأنهن يجذبهن الشكل الجميل ، فيتفاخرن ويتحاسدن ، ويكذبن ، ومن ثم قد تكلف زوجة الرجل - قليل المال - زوجها ما لا يطيق حتى تساوي مجنونات الموضة، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وغير هذا من المخالفات الشرعية الكثيرة .
4. ومن مظاهر التغريب : الخلوة ، خلوة المرأة بالرجل الأجنبي الذي ليس لها بمحرم ، وقد تساهل الناس فيها حتى عدها بعضهم أمراً طبيعياً ، فالسائق والطباخ أصبحا من أهل البيت ولا غرابة في ذلك ، حتى ذكر أنه شوهدت امرأة مع رجل أجنبي ليس من أهل بلدها ، فحينما سئل هذا الرجل : كيف تمشى مع هذه المرأة وهي ليست لك بمحرم ؟ قال : إنه من أهل البيت ، لأن له خمس عشر سنة وهو عند الأسرة فهو منها بهذا الاعتبار على حسب زعمه .
فالخلوة المحرمة مظهر من مظاهر التغريب التي وقعت فيها الأمة المسلمة حيث هي من أفعال الكافرين الذين ليس لهم دين يحرم عليهم ذلك ، وأما احترام حدود الله فهو من مميزات الأمة المسلمة الأصلية . والجرأة على الخلوة تجاوز لحد من حدود الله وخطر عظيم وقد حرمه الشارع بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : (( لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم )) رواه البخاري ومسلم .
قاعدة مهمة(6/124)
إن كل مبطل على وجه هذه الأرض لابد أن يُلبس باطله بثوب الإصلاح وزخرف القول ؛ حتى يروج بين الناس ، لأن الباطل قبيح ومستر ذل ومكروه وبشع ، فحينما يظهر الباطل على حقيقته ، ويعرى على صورته ، لا تقبله النفوس ، ولا ترضى به الفطر السليمة والمستقيمة . ولذلك يلجأ العلمانيون التغريبيون إلى إلباس طرقهم وأساليبهم وأهدافهم وأفكارهم لبوس الإصلاح والحرص على المصلحة وغير ذلك ، فالتوظيف المختلط ، والتعليم المختلط ، كل ذلك بدعوى مصلحة الأمة ، وبدعوى تشغيل نصف المجتمع ، ولأن فيها مردوداً اقتصادياً وهذه هي زخارف القول التي يوحيها شياطين الإنس والجن ، ويقول الله - تبارك وتعالى - : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} فيخدع به ضعفاء الإيمان وناقصوا العقول .
ثم إن العلمانيين قد وجدوا عادات في مجتمعات المسلمين ليست من الإسلام فاستغلوها ووظفوها لينفثوا من خلالها سمومهم وينفذوا مخططاتهم ثم أسقطوها على الإسلام ، بمعنى أنهم قالوا : إنما من الإسلام فهاجموا الإسلام من خلالها ، مثال ذلك : قد تجد بعض المجتمعات المسلمة تظلم المرأة في الميراث ، قد تعطي المرأة ميراثها من المنقول من الأموال والمواشي لكنها لا تعطيها حقها من العقار من الأرض والشجر كفعل الجاهلية ، قد تجد زوجاً لا يعدل بين زوجاته مخالفاً بذلك أمر الله - تعالى - ، فهذه الثغرات يتعلق بها العلمانيون مع أنها ليست من الإسلام في شيء ، ولم ينزل الله بها سلطانا ، بل هي في نظر الإسلام : ظلم محرم وجور ، يجازى عليه صاحبه عند الله يوم القيامة إذا لم يتب منها أو لم يعف الله عنه .
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة كثيرة ، ويصعب حصرها ، والمقصود التذكير بما يتيسر من أهمها ومن أخطرها ، ليحذرها المسلمون ، وينكروها ، ويعلموا على إفشالها ، ولتكون منبهة على غيرها . فمن هذه الأساليب :
1. وسائل الإعلام بمختلف أنواعها ، من صحافة وإذاعة وتلفاز وفيلم ومجلات متخصصة في الأزياء والموضة ومن مجلات نسائية وملحقات نسائية ومن غير ذلك ، إذ أن الإعلام يصنع الآراء ، ويكيف العقول ، ويوجع الرأي العام خاصة إذا كانت هذه العقول عقولاً فارغة لم تملأ ولم تحصن بما أنزل الله - عز وجل - على رسوله ، أما الصحافة والمجلات فتجد فيها أمور فظيعة منكرة منها فتاة الغلاف التي أصبحت أمراً لازماً لا تفرط فيها أي من تلك المجلات ، وفتاة الغلاف هذه لا تتكرر إذ يؤتى في كل أسبوع أو في كل شهر بفتاة جميلة عليها أنواع الزينة والأصباغ ثم بعد ذلك لا تأتي مرة أخرى ، وهذا إذلال للمرأة وإغراق في الرق وعودة حقيقية إلى عصر الظلم لها إذ تعامل كجسم ليس له روح مقابل دريهمات معدودات . وتسأل في المقابلة معها أسئلة تافهة : هل حدث وأن أحببتي يوماً من الأيام ؟ ما هواياتك المفضلة ؟ وهل صادقتي شاباً ؟ وغير هذا من الكلام الساقط الذي يراد منه إفساد المرأة المسلمة ، وليس المراد هذه الفتاة - فتاة الغلاف - إذ أنها ما رضيت بالخروج على صفحات المجلات إلا وهي قد انحرفت عن الطريق المستقيم ، لكن المراد غيرها من المحصنات العفيفات اللاتي قررن في البيوت ، ويملكهن الحياء الذي ربين عليه ، فتزيل هذه المجلات الحواجز والضوابط شيئاً فشيئاً . كما تجد في هذه المجلات الصور الماجنة الخليعة إما بحجة الجمال والرشاقة أو بحجة تخفيف الوزن والرجيم أو بحجة ملكات الجمال أو بحجة أخري مما يمليه الشياطين . ثم تجد فيها من مواضيع الحب والغرام الشيء المهول ، وهذا يهدف إلى تهوين أمر الفواحش وقلب المفاهيم الراسخة ، وإحلال مفاهيم جديدة مستغربة بعيدة عما تعرفها هذه الأمة المحمدية ، فمن هذه العبارات :
في مجلة سيدتي في عدد 510 : قالت من عيوب الزوج العربي ( الغيرة ) !!! .
في مجلة كل الناس عدد 58 : قالت إحدى الكاتبات : ماذا لو قالت امرأة : ( هذا الرجل صديقي ) !!!.
في مجلة الحسناء عدد 81 : الفضيلة والكرامة تعترضان مسيرة النجاح . أ .هـ .
فعلى هذا مسيرة النجاح لابد فيها من الفحش والدعارة حسب مفهومهم المريض .
مجلة سلوى عدد 1532 ( لقاء مع راقصة شابة ) ، تقول هذه الراقصة : في حياتنا اهتمامات لا داعي لها ، ويمكن أن يستغنى عنها ، ثم تقول هذه العبقرية التي جاءت بما عجز عنه الأوائل والأواخر - تقول : كمعامل الأبحاث الذرية لأننا لم نستفد منها شيئاً ، يعنى حتى يبقى الأعداء يهددون المسلمين بالأسلحة الذرية . اليهود والهندوس والنصارى والبوذيون - كما تقول - ! سوف نستفيد كثيراً لو أنشأنا مدرسة للرقص الشرقي تتخرج منها راقصة مثقفة لجلب السياح .أ.هـ .(6/125)
وهكذا تستمر المسيرة لنحارب أعداءنا بالرقص ، كما حاربهم جمال عبد الناصر بأغاني أم كلثوم .
في مجلة فرح عدد 43 ، تقول : الزواج المبكر إرهاق للمرأة وصداع للرجل .
ولا ننسى مجلة روز اليوسف وهي من أخبث المجلات ومن أوائل مصادر التغريب النسائي في العالم العربي ، في هذه المجلة تجد الخبث والخبائث ، وبمجرد أن تأخذ أحد الأعداد سوف تجد العجب . وكذلك مجلات ( اليقظة ، والنهضة ، صباح الخير ، هي ، الرجل ، فرح ..... الخ تلك القائمة الطويلة ، كما تجد أيضاً داخل هذه المجلات مقالات طبية ونفسية واجتماعية : كأنها تحل مشاكل الفتيات ، فتراسلها الفتيات من أنحاء العالم العربي ، ثم بعد ذلك يدلها ذلك المتخصص - لكنه ليس متخصصاً في حل المشاكل حقيقة إنما متخصص في التغريب - يدلها على الطرق التي تجعلها تسلك مسالك المستغربات السابقات ، كما تجد مقابلات مع الفنانات والممثلات ومع الغربيات ومع الداعيات لتحلل المرأة واللاتي يسمين بالداعيات لتحرير المرأة ، وتجد فيها الانشغال بأخبار : ديانا ، وكلبها ، ولباسها ، وفساتينها ، وتزلجها فوق جبال الهملايا ، وغير ذلك من الغثاء الذي لا ينقضي ولا ينتهي ، ترهق به المرأة المسلمة ، ويصدع به الرجل المسلم . ثم تجد في هذه المجلات بريد المجلة أو ركن التعارف من أجل التقريب بين الجنسين وتلك خطوة لإفساد المجتمعات الإسلامية ، وهكذا دواليك .
وهناك أبحاث منشورة ، عن حقيقة الدور الذي تقوم به هذه المجلات ، ففي دراسة عن مجلة سيدتي نشرتها مجلة المغترب(10) ذكرت أنها يقصر طرقها على شرائح اجتماعية بعينها ، وكثيراً ما تحمل الطابع الأوربي المبهر في طياتها ، وتقدم الحسناوات والشقراوات كنماذج تحتذي ، وإذا ما حاولت معالجة مشكلات المرأة العربية تعمد في أغلب الأحيان إلى استعارة النموذج الغربي .
وتقول الدكتورة فوزية العطية التي أعدت دراسة أخرى عن هذه المجلات النسائية : إنها غالباً ما تعرض في صورة الإغراء والإثارة .
وتستشهد الباحثة بدراسة مشابهة للدكتورة عواطف عبد الرحمن من مصر تقول فيها : أن التركيز في هذه المجلات منصب على النماذج الغربية للمرأة ويروج القيم الاستهلاكية الغربية من خلال المواد الإعلامية والإعلانات التي تقدمها : كالأزياء والمكياج والعطور ........ إلى آخر ما ذكرته هذه الدراسة المهمة .
ونشرت مجلة زهرة الخليج الظبيانية بتاريخ 20/10/ 1979 م نتائجا لبحث علمي طبق على مجموعة من المجلات النسائية وصفحات المرأة واتضح أن الصحافة النسائية العربية ركزت على الصورة العاطفية للمرأة العربية أكثر من الصورة العقلانية .
ويقول الشيخ العلامة محمد بن عثيمين حفظه الله في خطبة قيمة له عن فتن المجلات :.
وانفتحت طامة كبرى وبلية عظمي ، تلك الصحف والمجلات الداعية إلى المجون والفسوق والخلاعة في عصر كثر فيه الفراغ الجسمي والفكري وسيطرت الفطرة البهيمية على عقول كثير من الناس فعكفوا على هذه الصحف والمجلات فأضاعوا بذلك مصالح دينهم ودنياهم .... الخ .
ثم يقول حفظه الله : وجدت هذه المجلات هدّامة للأخلاق مفسدة للأمة لا يشك عاقل فاحص ماذا يريده مروجوها بمجتمع إسلامي محافظ .
ويقول أثابه الله : ومن مفاسد هذه الصحف والمجلات أنها تؤثر على الأخلاق والعادات بما يشاهد فيها من صور وأزياء فينقلب المجتمع إلى مجتمع مطابق لتلك المجتمعات الفاسدة.
ويقول أيضاً : فاقتناء مثل هذه المجلات حرام وشراؤها حرام وبيعها حرام ومكسبها حرام واهداؤها حرام وقبولها هدية حرام وكل ما يعين على نشرها بين المسلمين حرام لأنه من التعاون على الإثم والعدوان .أ.هـ .
والذي يباع في بلادنا من هذه المجلات عدد هائل جداً ربما لا يخطر على بال ، فمثلاً يدخل إلى أسواقنا أكثر من أربعين صحفية أسبوعياً وشهرياً في غلافها فتاة لا تتكرر أبداً ، وبلغ عدد الصحف الوافدة إلى أسواقنا شهرياً ما يزيد عن خمسة ملايين نسخة شهرياً ، بل إن إحدى المجلات النسائية الشهيرة وهي مجلة يقصد بها تغريب المرأة توزع شهرياً أربعمائة وأربعين ألف نسخة ، فمعنى ذلك أنه سيقرئها ما يقارب من أربعمائة ألف فتاة(11) .
أما التلفزيون وتأثيره فقد جاء في تقرير لليونسكو : إن إدخال وسائل إعلام جديدة وبخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين وممارسات حضارية كرسها الزمن - واليونسكو مؤسسة دولية تابعة للغرب وتدعو إلى التغريب - .
وتبين من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على خمسمائة فيلم طويل أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها ، يعني تقريباً ثلاثة أرباع الأفلام كلها للحب والجريمة والجنس ، وتبين من دراسة أخرى حول الجريمة والعنف في مئة فيلم وجود 68% مشهد جريمة أو محاولة قتل ، وجد في 13 فيلم فقط 73 مشهداً للجريمة ، ولذلك قد تجد عصابات جريمة من الأحداث والصغار لأنهم تأثروا من الأفلام التي يرونها(12) .(6/126)
أما الأفلام فيقول الدكتور هوب أمرلور وهو أمريكي يقول إن الأفلام التجارية التي تنشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في موضوعاتها ، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسية الضارة - فإذا كانت ضارة بميزان هذا الأمريكي فكيف بميزان الشرع - .
ثم يتابع الأمريكي فيقول : وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب والمغازلة والإثارة الجنسية والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما والتلفزيون .
2. ومن وسائل العلمانيين الخطيرة التي يسعون من خلالها إلى تغريب المرأة المسلمة التغلغل في الجانب التعليمي ومحاولة إفساد التعليم ، إما بفتح تخصصات لا تناسب المرأة وبالتالي إيجاد سيل هائل من الخريجات لا يكون لهن مجال للعمل فيحتاج إلى فتح مجالات تتناسب مع هذه التخصصات الجديدة التي هي مملوءة بالرجال ، أو بإقرار مناهج بعيدة كل البعد عن ما ينبغي أن يكون عليه تدريس المرأة المسلمة . وفي البلاد العربية من المناهج ما تقشعر له الأبدان وقد نجد في التعليم المناداة بالمساواة بينهما وبين الرجل في كل شيء ، ودفع المرأة إلى المناداة بقضايا تحرير المرأة كما يسمونها ، وفيها أيضاً الاختلاط فمعظم البلاد العربية التعليم فيها مختلط إلا ما قل فالشاب بجانبه فتاة ، هذا التعليم المختلط سبب كبير من أسباب تحلل المرأة ، ومن ثم من أسباب تغريب المرأة . ولذا فإن أحسن الحلول أن تقوم البلاد الإسلامية بإنشاء جامعات متخصصة للنساء ، وقد نادي بذلك بعض الباحثين الباكستانيين في دراسة جميلة جيدة بين فيها أن ذلك أفضل سواء في نسب النجاح أو في التفوق في التخصص أو في إتقان العمل سواء للرجال الشباب أو حتى للشابات في جميع أنواع الدراسة من دراسات إنسانية أو دراسات تطبيقية من طب وهندسة وغيرها مما ذكر في رسالته ، وقد لا نوافقه في بعض التخصصات التي نرى أن المرأة لا تحتاجها .
3. ومن أساليبهم التأليف في موضوع المرأة وإجراء الأبحاث والدراسات التي تُمْلاُ بالتوصيات والمقترحات والحلول في زعمهم لقضايا المرأة ومشاكلها تقول إحداهن في رسالتها للدكتوراه والتي عنوانها : ( التنمية الاقتصادية وأثرها في وضع المرأة في السعودية ) تقول وهي تعد المبادئ الإسلامية التي هي ضد مصلحة المرأة كما تزعم : إن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل(13) ، وقوامه الرجل على المرأة ثم تعد الحجاب من المشاكل التي هي ضد مصلحة المرأة(14) ثم تشن هجوماً على هيئات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتلوم الرئاسة العامة لتعليم النبات لموقفها من الإبتعاث للخارج(15) ثم بعد ذلك تنتهي في دراستها أو في رسالتها للدكتوراه إلى التوصيات ، ومن توصياتها :
أ- الإقلاع من عمليات الفصل بين الجنسين -يعنى التعليم المختلط الذي ذكرناه سابقاً - .
ب- إنشاء أقسام للنساء في كل مؤسسة حكومية وإنشاء مصانع للصناعات الخفيفة(16) وهذه النقطة الأخيرة وهي إنشاء مصانع نادي بها آخرون أيضاً ونادوا بفتح مجالات دراسة مهنية للمرأة .
كما قدمت امرأتان من الخليج ( دراسة استقصائية بشأن البحوث المعدة عن المرأة في منطقة الخليج ) هذه الدراسة قدمت لمؤتمر عقد في تونس عام 1982 م بإشراف اليونسكو ، حضر المؤتمر كما تقول مقدمة الكتاب 17 عالمة اجتماعية من 12 بلد ونشرت اليونسكو 7 دراسات مما قدم للمؤتمر بعنوان : ( الدراسات الاجتماعية عن المرأة في العالم العربي ) ، والذي يقرأ هذا الكتاب يدرك خطورة الأمر وضخامة كيد الأعداء للمرأة المسلمة ، ومما ذكرته هاتان الكاتبتان عن المرأة في الخليج تحت عنوان : ( الحلول المقترحة للعقبات الرئيسية التي تواجه المرأة في الخليج ) ما يلي :
- ذكرتا أن دراسة أعدها الاتحاد الوطني لطلبة البحرين تطالب بالتعليم المختلط حتى يمكن التغلب على الحواجز النفسية بين الجنسين .
ويلاحظ أن قضية التعليم المختلط تتكرر عدة مرات مما يؤكد أن تغريب التعليم هدف رئيسي للعلمانيين .
وتنقلان أيضاً اقتراحاً بتخطيط السياسات التعليمية من أجل تشجيع مزيد من النساء للانضمام للميادين العلمية والمهنية بدلا من تركيزهن على الميادين الإنسانية والعلوم الاجتماعية ، والسبب في نقلها لميادين مهنية وعلمية حتى تفتح مصانع وبالتالي يحصل الاختلاط المطلوب .
ثم تنقلان عن باحثين آخرين قولهما بضرورة أن تعتبر المرأة في الخليج تحررها بمثابة تحرير وطني - يعني كأنها في استعمار - وعليها أن تناضل من أجل التحرير الوطني .
ثم تنقلان عن باحثين وباحثات من دول الخليج ضرورة منح المرأة في الخليج فرصاً متعادلة في ميدان العمل .
4. ومن أساليبهم عقد المؤتمرات النسائية أو المؤتمرات التي تعالج موضوع المرأة ، أو إقامة لقاءات تعالج موضوعاً من المواضيع التي تهم المرأة سواء كان موضوعاً تعليمياً أو تربوياً أو غير ذلك ، ففي هذه المؤتمرات واللقاءات تطرح دراسات وأفكاراً ومقترحات تغريبية كالمؤتمر السابق في تونس وغيره كثير .(6/127)
وقد عقد المؤتمر الإقليمي الرابع للمرأة في الخليج والجزيرة العربية في 15/2/1976 م(17)، في إحدى دول الخليج وكان التركيز على ما يسمى بقضية تحرير المرأة وأصدر قرارات منها :
أ- لابد من مراجعة قوانين الأحوال الشخصية في ضوء التحولات الاقتصادية والاجتماعية لدول المنطقة ومحاولة الدفع بدراسة قانون الأحوال الشخصية العربية الموحدة - يريد إيجاد قانون علماني والأحوال الشخصية في مصطلحهم يراد بها مسائل النكاح والطلاق - .
ب- التأكيد على أهمية وضرورة النظر في الكتب والمناهج التربوية عند تناولها لقضية المرأة بما يضمن تغيير النظرة المتخلفة لأدورها في الأسرة والعمل .
ثم تتابع هذه الدراسة فتقول : إن القوانين والأنظمة التي كانت تخضع لها الأسرة قبل ألف عام ( لاحظ قبل ألف عام) ما تزال تطبق على العلاقات الأسرية في عصرنا الحاضر دون النظر إلى مدى ملائمتها لنا .
ما هي القوانين التي من ألف عام ؟ إنها شريعة الإسلام .
فهؤلاء النسوة من نساء الخليج يردن تغيير الشريعة الإسلامية التي تطبق على المرأة من ألف عام .
5. ومن وسائلهم في تغريب المرأة المسلمة إبتعاثها للخارج وهذا حصل كثيراً في كثير من بلدان المسلمين وإن كان يختلف من بلد إلى بلد قلة وكثرة ، وحينما تذهب امرأة مسلمة إما لم تدرس شيئاً عن الدين كما في بعض البلدان العربية والإسلامية ، أو ليس معها محرم ، ثم ترمى في ذلك المجتمع المتحلل ، فماذا تتصور لها ؟ وماذا تتوقع لها أن تفعل ؟ ، إنه أمر خطير إذا كان الشاب المسلم يُخشى عليه من الذوبان فيذهب كثيرون مسلمون ويرجعون منحرفين ، فما بالك بفتاة تذهب في بحر متلاطم من الفساد والإفساد .
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
فإذا رجعت هذه الفتاة المبتعثة كانت رسول شر للعالم الغربي من أجل تغريب المسلمات ونقلهن من التمسك بالشرع والخلق الإسلامي إلى التمسك بالمناهج والأفكار والآراء الغربية ، كما فعل أسلافها في مصر والكويت ، وكثير من المستغربات هن من هذا النمط الذي أشبع بالثقافة الغربية في غياب علم بالدين واعتقاد به مما أدى إلى استغرابها - أي كونها متبعة للغرب في نمط حياتها - .
6. ومن أساليب العلمانيين : التعسف في استخدام المنصب ، فقد تجد أحدهم في منصب ما ، ثم بعد ذلك يبدأ يصدر قوانين أو قرارات يمنع فيها الحجاب كما حصل في مصر وفي الكويت ، أو يفرض فيها الاختلاط ، أو يمنع عقد ندوات ونشاطات إسلامية ، أو يفرض فيها اختلاطا في مجالات معينة ، وبالتالي يحصل احتكاك الفتاة بالشاب ، ومن ثم يسهل هذا الأمر ، وكلما كثر الإمساس قل الإحساس ، ثم بعد ذلك تتجاوز الحواجز الشرعية وتبتعد عن حياتها تذوب كما ذاب غيرها .
7. ومن أساليبهم أيضاً : العمل والتوظيف غير المنضبط ، يعني إما باختلاط بتوظيف الرجال والنساء سواسية أو بتوظيف المرأة في غير مجالها ، ويكون هذا على طريقة التدرج ، على الطريقة التي يسميها الشيخ محمد قطب : بطيء ولكنه أكيد المفعول . وعلى طريقة فرض الأمر الواقع ، على سبيل المثال تجد في المستشفيات الكثير من الاختلاط في الوظائف ، وتجد ذلك في الطيران وبعض الشركات ، وتجد ذلك في أماكن كثيرة في بلاد المسلمين ، ومن ذلك التوظيف في بعض المستشفيات الذي حصل في الأقسام الإدارية وفي أقسام العلاقات العامة والمواعيد وفي الأقسام المالية ، بل وصل الأمر إلى توظيف النساء حتى في أقسام الصيانة والهندسة التي يختص بها الرجال . وهنا يحصل الاختلاط ساعات طوال في مكتب واحد في بعض المكاتب الإدارية والمالية .
ومن ذلك أيضاً المشاركة والاختلاط في الأندية التي تكون في المستشفيات أندية ترفيه أو أندية اجتماعية أو غير ذلك ، بل لقد وصل الفساد وعدم الحياء ببعضهن إلى المجاهرة بالتدخين أمام الآخرين من الزملاء ، وليس ذلك في غرف القهوة والمطاعم فحسب ، بل على المكاتب الرسمية .
8. الدعوة إلى إتباع الموضة والأزياء وإغراق بلاد المسلمين بالألبسة الفاضحة ، ومسألة الموضة كما سبق ذكره والأزياء مسألة خطيرة ، فإن اللباس من شعارات الأمم ، وكل أمة لها لباس يخصها ، صحيح أن الإسلام لم يعين للرجل أو المرأة لباساً معيناً لا يجوز له أن يلبس إلا هو ، لكنه وضع ضوابط الشرعي في لباس المرأة وليس فيه تشبه فلا بأس من أي لباس كان مادام مباحاً ، أما إذا لبست المرأة المسلمة لباساً غربياً تقليداً للغربيات ، وتشبهاً بهن ، وإتباعا لهن ، وأخذا بالموضات كما هو حاصل فهذه المحظور الذي نخشاه ، وإن التشبه في الظاهر يؤدي إلى تشبه في الباطن ، وإلى تأثر بالأخلاق والعادات والعقائد كما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ) ولذا فإن المرأة المسلمة مطالبة بالابتعاد عن اتباع الغرب في موضاتهم وأزيائهم ، ولنعلم جميعاً أن المستفيد من ذلك هم تجار اليهود الذين يملكون بيوت الأزياء ومحلات صناعة الألبسة في باريس وفي لندن وفي غيرها .(6/128)
كما أن من خطط العلمانيين إغراق بلاد المسلمين بالألبسة الفاضحة والقصيرة ، فأحدنا لا يستطيع أن يجد لابنته الصغيرة ، لباس ساتراً فضفاضاً إلا بشق الأنفس ، ولذا فنحن بحاجة إلى حماية لدين المستهلك مثل حماية المستهلك من جشع التجار فيحمى المستهلك من الغزو التغريبي للمرأة المسلمة في لباسها وفي لباس ابنتها ، وعلى التجار المسلمين أن يفرضوا ويشترطوا اللباس المقبول عند المسلمين الذي لا يحمل صوراً ولا كتابات وليس بلباس فاضح ولا بضيق ولا بكاشف ، والشركات الصانعة إنما تريد المال ولأجله تصنع لك أي شيء تريد فإذا ترك لها الحبل على الغارب صنعت ما يضر بأخلاق المسلمين .
9. ومن أساليبهم القديمة والتي وجدت في مصر وفي العراق وفي لبنان وفي غيرها :
إنشاء التنظيمات والجمعيات والاتحادات النسائية ، فقد أنشأ الاتحاد النسائي في مصر قديماً جداً على يد هدى شعراوي كما سبق وذلك بدعم غربي سافر ، وكذلك أنشئت الجمعيات النسائية في العراق وفي غيره في وقت مبكر من الحملة التغريبية ثم تبعتها البلاد العربية الأخرى ، هذه الاتحادات النسائية والتنظيمات والجمعيات ظاهرها نشر الوعي الثقافي والإصلاح وتعليم المرأة المهن كالشك والتطريز والخياطة والضرب على الآلة وغير ذلك ، ولكن قد يكون باطنها سما زعافا فتعلم المرأة الأفكار والقيم الغربية الخبيثة التي تنقلها من الفكر الإسلامي النير المستبصر إلى الفكر المظلم من الغرب الكافر ، ولا ينكر أنه يوجد بعض الجمعيات التي تعمل بجد لتحقيق مصلحة المرأة على ضوء الإسلام الصحيح والتي نرجو الله - عز وجل - أن يوفقها لسلوك الطريق المستقيم ، وإذ نقول هذا نسأل المولى أن يمن على جميع الاتحادات والتنظيمات النسائية في العالم الإسلامي بالرجوع إليه - سبحانه - والرجوع بالمرأة المسلمة إلى الصواب الذي أراد الله - عز وجل - أن تسير عليه .
10. ومن أخبث أساليبهم وهي التي يثيرونها دائماً على صفحات الجرائد والمجلات وغيرها التظاهر بالدفاع عن حقوق المرأة وإثارة قضايا تحرر المرأة خاصة في الأوقات الحساسة التي تواجهها الأمة ، وإلقاء الشبهات ، فمرة يلقون قضية تحرير المرأة ومساواتها بالرجل ، ومرة يبحثون في موضوع التعليم المختلط وتوسيع مجال المشاركة في العمل المختلط وغير ذلك ، قد يتم ذلك باسم الدين ، وقد يتم ذلك باسم المصلحة ، وقد يتم ذلك بعبارات غامضة وهذه طريقة المنافقين التخفي خلف العبارات الغامضة الموهمة في كثير من الأحيان .
11. ومن أخبث طرقهم ووسائلهم : شن هجوم عنيف على الحجاب والمتحجبات وعلى العفاف والفضيلة وتمجيد الرذيلة في وسائل الإعلام بأنواعها وفي غيرها أيضاً ، سواء كان في المنتديات والأندية الثقافية والأدبية ، أو كان في الجلسات الخاصة وفي غيرها ، فهذه جريدة الوطن الكويتية في يوم السبت 19 صفر 1414هـ تكتب مقالاً بعنوان ( نحن بين الحجاب والسفور ) وهو مقال يقطر سماً وخبثاً ، والمقال بيد كاتب كويتي يقول : اختلفت الأقاويل في الحجاب والسفور ، فمنهم من يؤيده ، ومنهم من يعارضه ، فملؤوا صفحات الجرائد المحلية بآراء متضاربة فيها مندفع اندفاع كلياً نحو التحرر من الكابوس الثقيل وهو الحجاب ، والفئة الأخرى وهي التي تمثل الرجعية البغيضة تعارض بقوة شديدة السفور وتعتقد بل تجزم أنه سوف يفضي إلى نتائج مريعة تصيب المجتمع بأمراض جسيمة - ثم يقول برأيه التافه الساقط - وكل هذا وذاك لن يقف في الطريق ، ولن يحد من قوة التيار ، فالسفور آت لا محالة على فترات متتابعة شاءت التقاليد أم أبت .
نسأل الله عز وجل - أن يرده من الضلال إلى الهدى ومن الخطأ إلى الصواب .
وقد تولى كبر هذا الهجوم العنيف على الحجاب والمحجبات المجلات والجرائد المصرية والمجلات والجرائد الكويتية ، حتى كتب رئيس تحرير مجلة مصرية مشهورة يقول : إن المحجبات أو اللاتي تبن من الممثلات وتمسكن بالحجاب يعطين أموالاً من دولة أجنبية . وقد رد عليه مجموعة من هؤلاء التائبات على صفحات مجلة المجتمع وقلن فيه : إنهن رجعن إلى الله - عز وجل - وتركن ذلك العفن الفني إلى غير رجعة ، وإنهن قبضن من الله وعداً بأن من تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى غفر الله له وأدخله الجنة .
وكتبت جريدة المسلمون(18) تحت عنوان رائدات العلمانية والحوارات الوهمية تقول :(6/129)
سنوات طوال والحوارات الوهمية بين رائدات التبرج والمجبرات على الحجاب لا تنقطع - طبعاً هذا حوار وهمي يعني ليس بصحيح ، بل تقصد العلمانية أو ذلك الكاتب العلماني الذي يبقى على مكتبه ويتخيل حواراً يشن فيه هجوماً على الحجاب ويظن أن المحجبات مكرهات فيكتب مقالة ثم ينشرها وهو هراء محض - من أبرز هذه الحوارات ذلك الذي جري بين كاتبة صحفية شهيرة ، زارت مدينة عدن ثم انتقلت لمدينة صنعاء وفي الأخيرة أجرت حواراً خيالياً مع فتاة يمنية نهرتها عندما مدت يدها محاولة كشف غطاء رأسها ، ثم ينتهي الحوار بضحكة عالية دوت في سماء صنعاء معلنة قرب ميلاد الفجر الجديد - يعني السفور والتحلل - قالت الجريدة : وما بين البداية القاسية للحوار والنهاية السعيدة به ، قالت فتاة صنعاء ضمن ما قالت : إنها مجبرة على ارتداء هذا القيد ، وأنها تتحايل من أجل الفكاك منه ، وأنها عندما تتوارى عنهم سرعان ما تخلعه ، أما الفجر الجديد فهو ذلك اليوم الذي ينزاح فيه المطالبون بتطبيق شرع الله وترك الناس للشرائع الغريزية بدعوى الحرية .
ولعل صاحبة هذا الحوار كانت بدورها تنتظر هذا الفجر - بفتح الفاء وضمها يعني الفُجر - غير أن ما حدث قد أصابها بسكتة صحفية نتمنى أن تدوم ، لقد تمكن اليمنيون بفضل الله ثم بفضل رؤية أصحاب العقول السليمة من تحديد طريقهم في الحياة وتسابق الجميع وفي مقدمتهم أبناء عدن في تأييد الأخذ بقوانين الشريعة الإسلامية ، إن داعيات التبرج ورائدات العلمانية يهاجمن الحجاب ، ويهاجمن المتحجبات ، ويفترضن أحاديث مكذوبة يزعمن فيها أن المحجبات ، يتمنين اليوم الذي يلقين فيه هذا الحجاب ، وهذا كله كذب ، فالحمد لله العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه يشهد رجعة وتوبة إلى الله العزيز الحكيم - جل وعلا- سواء من الرجال أو النساء ، وحينما تنظر إلى الجامعات وتدرس حالها قبل سنوات تجد قلة المتحجبات ثم انظر إليها الآن ، في كل جامعات الدول العربية الأخرى تجد كثرة المتحجبات في هذا الوقت بحيث أصبحن يشكلن الأغلبية في كثير من الجامعات بحمد الله وهذا ما أوغر صدور أولئك العلمانيين والعلمانيات .
12. ومن أساليب العلمانيين أيضاً تمجيد الفاجرات من الغربيات والممثلات والراقصات والمغنيات وغيرهن ، فتذكر بأنها النجمة الفلانية ، وأنها الشهيرة فلانة ، وأنها الرائدة في مجال كذا ، وأنها التي ينبغي أن تحتذي ، وأنها القدوة في مجال كذا ، وأنها حطمت الرقم القياسي في الألعاب الفلانية أو الطريقة الفلانية ، وهذه الصحف ، وهذه الكتابات العلمانية توهم المرأة المسلمة بأن هذا هو الحق وهذا هو الطريق الذي ينبغي أن تسلكه ، فتتمنى أن تكون مثلها وتحاول أن تتشبه بها ، ولهذا ضاق صدر أولئك بتلك الفنانات التائبات لأنهن سيمثلن قدوة مضادة لما يريدون .
13. ومن أساليبهم : الترويج للفن والمسرح والسينما ، وهذا من أخطر الأساليب العلمانية التي نجح العلمانيون في إغواء المرأة المسلمة من خلالها ، فهم قد ينشرون قصصاً لبعض الكاتبات ويقولون بقلم القاصة فلانة ، وأحياناً ينتشرون قصيدة للشاعرة فلانة ،ومرة أخرى ينشرون مقالة للأديبة فلانة ، وكذلك ينشرون دعاية لمعارض تشكيلية تقيمها الفنانة فلانة ، وقد يدعونها للمشاركة في التمثيل أو في المسرح أو غير ذلك مما يؤدي إلى أن تبهر هذه الفتاة وتغير أفكارها وينغسل عقلها ، ومن ثم تكون داعية للتغريب وللعلمنة ولتحلل المرأة المسلمة ، إذ أنها لابد لها من الانسياق كي تحافظ على مكانتها الوهمية فتنغمس - وهي لا تدري - في ذلك الخبث حتى تصبح لا تدرك خبثه ، ويصبح الطيب خبيثاً لديها ، والعياذ بالله من الانتكاس .
14. ومن أخبث أساليبهم المنتشرة : استدراج الفتيات المسلمات - خاصة النابغات - للكتابة أو للتمثيل أو الإذاعة لاسيما إذا كن متطلعات للشهرة أو للمجد أو لغير ذلك فتدعى هذه الفتاة للكتابة في الصحيفة وتمجد كتاباتها ، وقد تكتب قصة ثم يأتي مجموعة من الفنانين أو من الحداثيين أو من غيرهم فيقومون بتحليل هذه القصة وفي أثناء هذا التحليل ، يلقون في أرواع الناس أن هذه القاصة قد وصلت إلى المراتب العليا في هذا المجال وأنها أصبحت من الرائدات في مجال القصة ، ويلقون عليها هالة عظيمة - والشواهد معروفة - فتندفع بعض الفتيات المغرورات للكتابة والاتصال بهؤلاء من أجل أن ينشروا لهن ما يكتبن ، وقد يقوم بعضهم بكتابة مقالات بأسماء نسائية مستعارة ، ومثل هذا كثير من أجل إيقاع النساء المسلمات في حبائل هؤلاء الشياطين .(6/130)
15. ومن أساليبهم أيضاً : تربية البنات الصغيرات على الرقص والموسيقى والغناء من خلال المدارس والمراكز وغيرها ، ثم إخراجهن في وسائل الإعلام فتجد فتيات في عمر الزهور يخرجن للرقص والغناء وهن يتمايلن وقد لبسن أجمل حلل الزينة ، فكيف يا ترى سيكون حال هذه الفتاة إذا كبرت ! إلى أين ستتجه إن لم تتداركها عناية الله ورحمته ؟والتالي يكون ذلك سبباً من أسباب اجتذاب عدد آخر من الفتيات اللاتي يتمنين أن يفعلن مثل هذه التي ظهرت على أنها نجمة ثم قد تكون في المستقبل مغنية أو ممثلة شهيرة ، عافانا الله والمسلمين .
16. ومن وسائلهم إشاعة روح جديدة لدى المرأة المسلمة تمسخ شخصيتها من خلال إنشاء مراكز يسمونها مراكز الطبيعي للسيدات ، وقد قامت مجلة الدعوة مشكورة بكتابة تقرير عن هذه المراكز في عدد 1328 الصادر في 3/8/1412 هـ ، إذ زارت إحدى الكاتبات بعضا من هذه المراكز وكتبت تقول : في ظل التغيرات والمستجدات التي تظهر بين وقت وآخر ظهر تغير سلبي وهو افتتاح مراكز تسمى مراكز العلاج الطبيعي للسيدات ، والحقيقة أن هذا المركز يخفي ورائه كثير من السلبيات من أبرزها فتح المجال للنساء لممارسة الألعاب الرياضية مقابل قيمة مالية ، وذلك بدعوى إيجاد وسيلة جديدة تمضي فيها المرأة وقتها وتجعلها تحافظ على رشاقة جسمها - كل مبطل يغلف دعواه بالإصلاح ويزخرف القول - قالت : ومع أن هذا سبب مرفوض أيضاً إلا أن هذه المراكز قد تؤدي إلى صرف اهتمامات المرأة المسلمة المحافظة على دينها وتغيير واجهة اهتماماتها وواجباتها الشرعية . ثم تمضي الأخت فتقول : ولمعرفة واقع تلك المراكز وما يدور فيها وما تقدمه لمرتادها قمت بزيارة بعضها والاتصال بالبعض الآخر منها كأي امرأة أخرى تسأل عنها قبل الالتحاق بها وذلك في محاولة للوصول للحقائق الكاملة ومعرفة ما يدور فيها ، وخلاصة التقرير :
- انتشار اللباس الغير ساتر في هذه المراكز ، بل واشتراطه .
- قيام بعض المراكز بتعيين أطباء من الرجال لابد من مرور المتدربات عليهم .
- انتشار الموسيقى الغربية في هذه المراكز ومن شروط بعض المراكز عدم اعتراض المتدربة على ذلك .
- وضع حمامات جماعية للسونا تلبس فيها النساء ملابس داخلية فقط ، ويكن مجتمعات داخله .
- انتشار هذه المراكز حتى في الفنادق والكوافيرات والمشاغل وتقديمها كخدمة مشتركة .
وكل هذا نمط جديد لم نعرفه من قبل ولو قامت النساء بعملهن في بيوتهن لما احتجن لهذا ، والله المستعان .
17. ثم أختم هذه الأساليب بهذا الأسلوب الخطير وهو إشاعة الحدائق والمطاعم المختلطة للعائلات والتي انتشرت مؤخراً :
فقد زار بعض الأخوة بعضا من المطاعم والحدائق العائلية والتي فيها محاذير كثيرة وفتح بها أبواب للشياطين جديدة ، مع أنها دخيلة على نمط الحياة الإسلامية وهي سمة غربية بحتة ، وبدأ النسوة يرتدنها إما منفردات أو يدعو بعضهن بعضا لتناول العشاء أو الغداء - ومن هؤلاء فضيلة الشيخ محمد الفراج جزاه الله تعالى خير الجزاء - ثم كتبوا تقريراً بينوا فيه ما تخفيه هذه المطاعم المختلطة ، وذكروا أن هذه المطاعم يكون فيها اختلاط الشاب بالفتاة ، وأنه قد تدخلها المرأة بدون محرم وجواز المرور بالنسبة للرجل أن يكون معه امرأة سواء كانت خادمة أو كانت طفلة أو غير ذلك ، وبذلك أصبحت مكاناً صالحاً للمواعيد الخبيثة ولغير ذلك ، وذكروا أن هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تواجه من هذه الحدائق وهذه المطاعم مشاكل كبيرة للغاية لأنها يجتمع حولها الشباب وبعضهم قد يدخل وبعضهم قد يبقى خارجها ، ثم بعد ذلك كتب فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين تأييداً لكلام هؤلاء الأخوة ، يقول فيه : الحمد لله وحده وبعد ، رأيت أمثلة مما ذكر في هذا التقرير مما يسترعى الانتباه والمبادرة بالمنع والتحذير )) ا.هـ .
وقد تكون هذه الحدائق والمطاعم أوجدت بحسن نية لكنها سبب مهم من أسباب تغريب المرأة إذ أنها تشيع مظاهر التغريب من اختلاط أو خلوة بالرجل الأجنبي عن المرأة ومن فتحها لباب الفواحش والدخول على النساء الشريفات فيفتن في دينهن وعفتهن مع غلبة الداعي للفحش بسبب كثرة المثيرات والله المستعان .
وأختم هذه الرسالة بخلاصة بحث لـ السيد أحمد المخزنجي الأثر السيكولوجي والتربوي لعمل المرأة على شخصية الطفل العربي جاء فيها : .
يرى الباحث من خلال تبني منهج (( التحليل المقارن )) للنتائج والإحصاءات التي كشفت عن سوء وضع المرأة الأوربية ( العاملة ) وكذلك الدراسات العربية الميدانية المماثلة التي أجريت في عدة دول عربية على هذه المشكلة ، أنه بالإمكان الوصول إلى خلاصة يمكن تركيزها في النقاط التالية :(6/131)
أولاً : يؤكد الباحث على ضرورة إعادة النظر فيما يتعلق بوضع المرأة العربية العاملة استناداً إلى ما كشفت عنه الدراسة من نتائج سلبية تعدى أثرها شخصيتها إلى أطفالها تربويا ونفسياً . وهو ما دعا الباحث إلى المطالبة بضرورة إعادة صياغة الموقف العربي ( الرسمي ) إزاء الرغبة المطردة في تشغيل بناتنا ونسائنا في الدواوين والمصالح الحكومية ولاسيما التي لا تصلح لها المرأة قبل اختيار (( أنسب )) مجالات العمل صلاحاً لها ، والتي تتفق مع طبيعتها ودورها في هذا المجال .
ثانياً : بالرغم من كثرة الحديث عن الأصالة وعن القيم الإسلامية والعربية فإن فلسفة وأساليب رعاية الطفل في الأقطار العربية - بصفة عامة مقتبسة ، للأسف الشديد ، من نظم وسياسات المجتمعات الغربية ، الأمر الذي أدى ، بشكل محزن ، إلى وجود تبعية فكرية ( غربية ) في مجال رعاية الطفولة ، ومن ثم إلى نتائج سلبية خطيرة في مجتمعاتنا لا سبيل لإنكارها أو التغاضي عنها .
ولذا يظل السؤال الذي سبق أن طرحناه في مقدمة البحث : أليس من الممكن وضع إستراتيجية عربية تربوية ذات منظور إسلامي جديد ( معاصر ) تنقذ أطفالنا وأمهاتهم من هذا الواقع المؤسف والأشد إيلاما ؟!
يظل ذلك السؤال مطلباً قائماً بذاته يبحث عن إجابة علمية شافية ... نحسب أن فيما قدمناه رؤية موضوعية لتقدير مشكلة عمل المرأة يعد خطورة أو (( محاولة )) من محاولات بحثية مأمولة ومرجوة في هذا السبيل .
ثالثاً : يؤكد البحث على المطالبة بإلغاء سياسة تشغيل المرأة وخروجها للعمل واستبدال سياسة أنجح وأسمى بها ، وهي رعاية زوجها وتفرغها لتربية أولادها ، ولا يعني ذلك أننا نتبنى موقفاً (( ضدياً )) من تعليم المرأة أو المهمات التي تصلح لها مما يتفق وطبيعتها الإنسانية ، فالتعلم حق للمرأة ، بل وتخصصها فيما يناسبها منه حق لها كذلك ...... ولكن شتان بين أن تعلَّم المرأة في مجتمعاتنا بغرض (( التوظيف )) وأن تتعلم لغرض التعليم والإعداد لأداء دورها ومهمتها الكبرى ورسالتها التربوية السامية في الأسرة داخل البيت وليس خارجه .
رابعاً : إننا تؤكد - بعيداً عن أي شعور عاطفي أو تعصبي جامح - أن تخصيص نسبة مالية ثابتة ( نصف مرتب الزوجة مثلاً ) في ميزانية حكومات دولنا العربية الإسلامية التي تأخذ بسياسة تشغيل المرأة ، بدلاً من ذلك ودفع هذه النسبة بأي أسلوب تراه ، أو إضافتها إلى مرتب الزوج المشتغل ، سيعود على المجتمع العربي الإسلامي بالكثير من الفوائد والميزات :
أولها : تحقيق الاستقرار النفسي والعائلي للزوج في الأسرة وتخليصه من مشاكل زوجته العاملة : الصحية والنفسية والاجتماعية .
وثانيها : دفع الزوج إلى التفاني في العمل من أجل زيادة الإنتاج وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة وهو ما تسعى إليه القيادات السياسية الحاكمة في تلك البلاد عامة(19) .
ملحق
تجمع الأخبار الواردة من الغرب أن القيم والأخلاق في تدهور مستمر وأن المجتمع الغربي يعاني من تفكك مهول وفي هذا الملحق نستعرض بعضاً من هذه الأخبار مع نقول أخرى مناسبة :.
( المرأة الأمريكية تكتشف أن مكانها هو البيت )
، اكتشفت المرأة الأمريكية باقتناع كامل أن أكثر مكان مناسب لها هو البقاء في المنزل ورعاية شؤون أطفالها وعائلتها بل وأكد 48% منهن أن تحركات النساء ونشاطهن في مجال العمل خلال العشرين سنة الماضية جعل الحياة أكثر تعقيداً وصعوبة فقط ولم يؤد أي خير إطلاقاً .
هذا الاستنتاج جاء من استطلاع للرأي قامت به شركة سي إن إن الأمريكية المشهورة بالتعاون مع صحيفة يواس توادي ، وأظهرت نتائج ذلك الاستطلاع أن 45% من النساء يعتقدن أنه يتعين على الرجل العمل والكدح خارج المنزل لتوفير أسباب المعيشة لعائلته بينما يجب على المرأة أن تبقى في المنزل وتكريس حياتها ووقتها بشكل كامل وتام لشؤون العائلة أما نسبة الرجال الذين تم استطلاع آرائهم بهذا الشأن فإن 40% منهم فقط يؤيد بقاء المرأة في المنزل لرعاية شؤون الأسرة وآخر ما قالت في تقريرها هذا : ومن ناحية أخرى اعتبرت صحيفة يومية في كالفورنيا - هي مستنقع من مستنقعات الرذيلة في أمريكا فهي مكان منتدى السينما المشهور بهوليوود - ذلك الاستطلاع بأنه مؤيد ومتعاطف مع فكرة أن النساء يرغبن في العودة مرة أخرى إلى المطبخ والمقلاة .
جريدة الرياض في 29/4/1414هـ
إذا النساء الغربيات قد مللن وسئمن من حياة التحلل التي يسميها دعاة التغريب بالتحرر ويردن أن يراجعن ، والله - سبحانه وتعالى - قد كرم المرأة المسلمة وأنعم عليها بأنها منذ أن تكون جنيناً في بطن أمها إلى أن يواريها قبرها وهي في رعاية رجل .
*********************
( إن إحصائيات عام 1979 م تدق ناقوس الخطر ، فعدد اللواتي يلدن سنويا من دون زوج شرعي ! وفي سن المراهقة لا يقل عن ستمائة ألف فتاة بينهن لا أقل من عشرة آلاف فتاة دون سن الرابعة عشر من العمر ، وإذا أضيف عدد اللواتي يلدن بدون زوج بعد سن المراهقة فإن العدد الإجمالي يتجاوز المليون .........(6/132)
ومما يزيد في حجم الكارثة ارتفاع نسبة الطلاق ، فقد بلغت في عام 1979 م ما يقرب من 40% من جميع حالات الزواج .....) والنسبة أكبر بكثير الآن .
( عمل المرأة في الميزان ص131 عن كاتب أمريكي في مجلة أمريكية كبرى )
- ( مطلقة بريطانية اسمها مانيس جاكسون عرضت ابنها الوحيد للبيع بمبلغ ألف جنيه ... والمبلغ يشمل الطفل وألعابه ، وقد قالت أنها ستبيع ابنها لأنها لا تستطيع الإنفاق عليه وليس لديها دخل لإعاشته ) .
الشرق الأوسط 15/9/1400 هـ
نقلاً عن عمل المرأة في الميزان ص119
****************************
- ( في رسائل النجمة السينمائية الراحلة غريتا جابو تقول : إنها قضت حياتها منعزلة عن العالم ، ولم تكن سعيدة في خلوتها وكانت تعاني من الإحباط وانتفاء الهدف وقلة المعنى في حياتها ) وهم يريدون أن تكون هذه هي قدوة المرأة المسلمة .
الحياة 25/10/1413هـ
**************************
على أية حال ليس ثمة دليل ولا في عصرنا الحاضر على أن وضع المرأة المسلمة في داخل الحريم ليس أكثر إرضاء للمرأة من وضعها في كباريهات الغرب .
ولا نشك في أن نسبة كبيرة من الـ 300 امرأة اللاتي جئن مع الحملة الفرنسية للترفيه كن سيفضلن الحريم عن العودة إلى مواخير باريس ، ولدينا حالة واحدة على الأقل تنفي هذا الزعم الذي طال ترديده عن أفضلية حياة الحانات في الغرب على حياة الحريم في الشرق ، فقد أتيح لامرأة غربية أن تختار واختارت ( أصر ديزيه على أن يرد إلى القدس عاملة فرنسية في أحد مطاعم الجيش وهي أرملة جاويش قتل في المعركة - وكان الباشا قد أخذها ليضمها إلى حريمه ، ووافق الصدر الأعظم ، ولكن زوجة الجاويش لم توافق - على العودة إلى فرنسا - وأعلنت أنها في غاية السعادة حيث هي ، وقد ظلت فعلاً تعيش في القدس سعيدة حتى عمرت ) .
ودخلت الخيل الأزهر - محمد جلال كشك ص 414 .
***********************
- تابع الدكتور ويل هوسمن وليوناردايرون من جامعة أمريكية في كاليفورنيا على مدى 20 سنة مسيرة 40 طفلاً وجدوا خلالها أن الفئة التي شاهدت برامج التلفزيون بكثافة وهي سن الحداثة كانت أقرب إلى ممارسة أنواع مختلفة من العنف لدى الجنسين .
الحياة 15/10/1413هـ
***************************
- في تقرير مفصل بعنوان مراقبة أمريكا : - وجد أن السهرة التلفزيونية الواحدة تحتوي حوالي 12 جريمة قتل و15 عملية سطو و20 عملية اغتصاب وتشليح إضافة إلى عدد كبير من الجرائم المتنوعة ، والواقع أن نسبة الجرائم حسب المعلومات الأمنية 5% بينما تصل على الشاشة إلى 65% هكذا يفعل الإعلام .
- تلميذان يتآمران لقتل معلمتهما باستخدام سكين المطبخ - طبعاً في أمريكا .
جريدة الرياض 15/10/1413هـ
*******************************
- 60% من أطفال الحضانات يعانون من المشاكل النفسية ، أهمها العناد والعدوانية .
جريدة الشرق الأوسط عدد 5250 .
****************************
- في تقرير أخير نشرته مجلة الطب النفسي الأمريكية عن الاعتداء الجنسي خلال العمل ذكرت أنه 42% من النساء العاملات يتعرضن له ، وأنه فقط أقل من 7% من الحوادث يرفع إلى الجهات المسئولة وأن 90% من المعتدى عليهن يتأثرن نفسياً و12% منهن يذهبن لطلب المعونة الطبية النفسية .
مترجم من مجلة الطب النفسي الأمريكية يناير 1994صـ 10 .
*******************************
- شرطة مانشستر تدعو النساء إلى الحجاب : جاء هذا في مجلة النهضة عدد 1181 في 1/12/1410هـ وذكر في الخبر أن الهيئة العامة للشرطة تنظيم حملة متعددة الجوانب للحد من هذه الجرائم ( حوادث الاغتصاب ) فأصدرت كتابين الأول منهما يحمل عنوان (( نصائح بسيطة للمرأة عن العنف الجنسي )) والثاني بعنوان (( نصائح بسيطة للرجل لتحاشي العنف الجنسي مع النساء )) وركز كتاب النساء على إزالة دواعي الاغتصاب ولاسيما الملابس التي ترتديها المرأة سواء كانت طفلة أو فتاة وطريقة ارتدائها لها بل يصل المؤلف إلى حد لوم المرأة على الخلاعة والكشف عن المفاتن إلى الحد الذي يثير الشباب الصعاليك والمهووسين جنسياً ويقول المؤلف إنه إذا (( اقتربت المرأة أو الفتاة من الحجاب ، فلن يلهث وراءها أحد وإلا فالمرأة أو حتى الطفلة هي الملومة أولاً وأخيراً لما يحدث لها ))
ونقول هذا واقعهم فلماذا يصر المستغربون أن نكون مثلهم !!!
******************************
- في بدايات 1990 م أقيم لقاء تلفزيوني مع رئيسة وزراء بريطانيا ما جريت تاتشر جاء فيها :.
- تضاعف عدد الرجال والنساء المرتبطين بعلاقة غير شرعية ثلاث مرات في الفترة من 1979 حتى 1987 والمحصلة 000, 400 طفل غير شرعي وهذا دفع المعلقين إلى المطالبة بإعادة النظر في العلاقات الإنسانية :
- الحكومة سوف تتخذ من الإجراءات ما يجبر هؤلاء الآباء على تحمل نصيبهم من المسئولية .
وتقول لأن المرأة هي الخاسرة ، وهي التي تتحمل العبء الثقيل لهذا التحرر المزعوم .
الشرق الأوسط 21/1/1990 م
(1) محمد محمد حسين ، أزمة العصر ص105 والكتاب من أعظم من وقفوا في وجه الحملة التغريبية في بداياتها .(6/133)
(2) محمد محمد حسين .................. باختصار .
(3) عودة الحجاب : القسم الأول ص 34جـ 4 . للشيخ الفاضل بن أحمد بن إسماعيل .
(4) المؤامرة على المرأة المسلمة د. السيد أحمد فرج ص 70 .
(5) وهو نصراني كما يظهر من اسمه .
(6) راجع عودة الحجاب القسم الأول فقد جمع فاستوفي أثابه الله .
(7) وهبي الألباني - المرأة المسلمة .
(8) راجع المرأة ماذا بعد السقوط لبدرية العزاز وفقها الله فقد أرخت لما حصل في الكويت
(9) المرأة العربية المعاصرة إلى أين ؟ د. صلاح الدين جوهر .
(10) مجلة المغترب تصدر سابقاً في الولايات المتحدة . وانظر أيضاً جريدة الوطن الكويتية في 14/ 6/ 1988 م . وفيها عرض لدراسة أكاديمية عن هذه المجلات .
(11) فتياتنا بين التغريب والعفاف للشيخ الفاضل د .ناصر العمر .
(12) المرجع السابق نقلها عن مقالة الدكتور حمود البدر
(13) التنمية الاقتصادية وأثرها في وضع المرأة في السعودية ، ص 39 .
(14) المرجع السابق : ص 76- 77- 88 .
(15) المرجع السابق : ص 172 - 182 .
(16) المرجع السابق : ص 265 - 267 . راجع المرأة وكيد الأعداء د . عبد الله وكيل الشيخ .
(17) فتياتنا بين التغريب والعفاف للشيخ الفاضل د .ناصر العمر .
(18) جريدة المسلمون في 10/ 3/ 1414 هـ
(19) مجلة رسالة الخليج العربي عدد 34 ص 310 .
=============(6/134)
(6/135)
التربية البدنية في المدارس النسائية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فقد تباينت وجهات النظر في مسألة إدخال التربية البدنية في مدارس البنات ما بين مؤيد ورافض ، وأصبحنا على مفترق طرق في هذه القضية ،وحيث كثر الجدل فيها ومدى شرعية هذا الأمر رأيت أن أكتب للقراء ما يجلي لهم حكم إدخال هذه المادة في مدارس البنات ،وقد قسمت الموضوع إلى تمهيد وخمسة فصول :
التمهيد يتناول : تحرير محل البحث
الفصل الأول : المصالح المرجوة من إدخال التربية البدنية.
الفصل الثاني : المفاسد المتوقعة من حصة التربية البدنية .
الفصل الثالث : البدائل المناسبة .
الفصل الرابع : الحكم الشرعي لإدخال التربية البدنية .
الفصل الخامس : شبهات حول الحكم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
تمهيد
تحرير محل البحث
هذه قاعدة معرفية مهمة وهي قبل أن نحكم على مسألة ما ؛ لابد أن نتصورها جيدا حتى نطلق الحكم الشرعي المناسب فيها ، وبحثنا هذا سنتعرض فيه إلى مسألة ( إقرار مادة التربية البدنية في مدارس البنات ) دون النظر إلى حكم ممارسة الرياضة للنساء ، وإن جاء الحديث عنها عرضا فليست هي المقصودة في هذا البحث .
وقبل هذا كله وبعده لابد أن يكون هدف كل إنسان البحث عن الحق ، والسعي لتحقيق المصلحة العامة ، لا التعصب للرأي ولا النظر إلى مصلحة محدودة بأشخاص أو فئات .
الفصل الأول
المصالح المرجوة من إدخال التربية البدنية
من خلال إطلاعي على ما كتب تبين أن هناك عدة مصالح في نظر المؤيدين من خلالها طالب من طالب بإدخال التربية البدنية في مدارس البنات ، فمن تلك المصالح :
المصلحة الأولى : ( تهيئة المرأة لتقوم بدورها في الجهاد وحماية مقدسات الأمة وأرض الوطن )
ومما قالوه في ذلك : ( المرأة قديما مما توفر لنا من معلومات في التاريخ الإسلامي كانت تشارك في المعارك لنشر الإسلام والدفاع عنه ولم يمنعها الدين فهي الفارسة التي دافعت عن رسول ا صلى الله عليه وسلم وجرحت وطعنت لإعلاء كلمة الله ) ([1][1])
والجواب :
أولاً : أن هذا منسوخ لما جاء في مصنف ابن أبي شيبة ([2][2]) عن سعيد بن عمرو القرشي أن أم كبشة امرأة من بني عذرة قضاعة قالت : يا رسول الله ائذن لي أن أخرج في جيش كذا وكذا ، قال : لا ، قالت : يا رسول الله إني لست أريد أن أقاتل إنما أريد أن أداوي الجريح والمريض أو أسقي المريض ، فقال : «لولا أن تكون سنة ويقال فلانة خرجت لأذنت لك ولكن اجلسي ».
فهذا الحديث يفيد أن المرأة لا تشارك حتى في سقاية الجرحى ومداواة المرضى فهل يبقى بعد هذا لقائل مقال ؟!!
ثانياً : لقد حرص نساء الصحابة أن يتقلدن دور الجهاد الذي أنيط بكاهل الرجل طمعاً في الأجر ؛ فجاء التوجيه النبوي لهن كما يلي : عن عائشة رضي الله عنها قالت : استأذنت صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال : « جهادكن الحج » رواه البخاري([3][3]) ، وعن عَائِشَة قَالَتْ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَخْرُجُ فَنُجَاهِدَ مَعَكَ فَإِنِّي لَا أَرَى عَمَلًا فِي الْقُرْآنِ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ ، قَالَ :« لا وَلَكُنَّ أَحْسَنُ الْجِهَادِ وَأَجْمَلُهُ حَجُّ الْبَيْتِ حَجٌّ مَبْرُورٌ "» رواه النسائي([4][4]) .
قال ابن بطال : ( دل حديث عائشة رضي الله عنها على أن الجهاد غير واجب على النساء ، ولكن ليس في قوله : (جهادكن الحج ) أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد ، وإنما لم يكن عليهن واجبا ؛ لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر و مجانبة الرجال ، فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد ) ([5][5])، بل إن بقائها في بيتها وحفظها لعفافها تدرك بهذا فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جئن النساء إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم فقلن يا رسول الله : ذهب الرجال بالفضل بالجهاد في سبيل الله أفما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم « مهنة إحداكن في البيت تدرك به عمل المجاهدين في سبيل الله »([6][6])
ثالثاً : ما ورد من قتال بعضهن : إنما كان في بداية الإسلام وعلى سبيل الضرورة والدفاع عن النفس أو الدفاع عن رسول ا صلى الله عليه وسلم كما جاء عن أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا فَكَانَ مَعَهَا فَرَآهَا أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خِنْجَرٌ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلممَا هَذَا الْخِنْجَرُ ؟ قَالَتْ : اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلميَضْحَكُ .." رواه مسلم ([7][7]).والضرورة كما هو معلوم تقدر بقدرها(6/136)
رابعاً : ثم أين الجهاد الذي يُحتج بمشاركة المرأة فيه في هذا الزمان والله المستعان ، ولو ارتفعت راية الجهاد لولى هؤلاء الكتاب ومن ظاهرهم النفاق الأدبار ، كما قال الله تعالى عن أسلافهم : } وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ{ [الحشر: 12] .ثم إذا كان هناك حرص على إعداد المرأة للجهاد فلماذا لا نسأل أنفسنا ما هي الأولويات بالعناية في هذا المجال والأكثر أثراً والأسرع في تحقيق الهدف ، هل الرياضة في هذا الصدد أولى من إعلام محافظ يربي المرأة ؟!! ومحاضن تربوية تعدها الإعداد الحقيقي للجهاد ؟!! وهل الرياضة أولى من مضاعفة الجهد في حرب التغريب وحملات التخريب ومقاومة كل ما يسعى لإفساد المرأة ؟!!
وأخيراً ... هل التربية الرياضة للبنين قد أعدت شبابنا للجهاد ؟!!
المصلحة الثانية : أن الرياضة لها أثرها الكبير في عقل الإنسان وفكره .
ومما قالوه في ذلك قولهم ( جميعنا يعرف أن العقل السليم في الجسم السليم ..والتي لا تقتصر على الرجال فقط .. ) ([8][8])
والجواب : هذه المقولة يرددها الكثير ،ولكن لو تأملها ذوو العقل السليم لعرفوا أن فيها بعض المغالطة للحقيقة ، وليست قاعدة ثابتة ، فكم من أناس أجسامهم هزيلة ، وأبدانهم عليلة ومع ذلك عقولهم تزن أمة ؟ وماذا نفعت الأجسام وصحة الأبدان أولئك المجانين الذين امتلأت المشافي بهم ؟ لو أن أحدهم وكزك بيده لقضى عليك ؟وهل صحة أجسام البغال والحمير زادت من عقولها ؟! ألم يضرب الله مثلا لليهود بأسوأ من الحمار في بلادته : } كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً{ (الجمعة: من الآية5) .
ولو استنطقنا التاريخ ليحدثنا عن أناس استطاعوا ـ بفضل الله ـ أن يحولوا عجزهم قدرة ، ونقصهم عطاء فأصبحوا يعدون قمما سامقة ، ومنارات عالية لحدثنا عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود فقد كان رضي الله عنه قصير القامة ، كانت قامته طول الرجل أثناء قعوده ، وكان الصحابة يعجبون من دقة ساقيه ، فهل عاش بدون عقل !! نظرا لقصر قامته وخفة وزنه ، عجبا لمن يهرف بما لا يعرف !!
ولحدثنا التاريخ أيضاً عن الإمام عطاء بن أبي رباح ـ رحمه الله ـ التابعي الجليل فقد كان ـ رحمه الله ـ أعور ، أشل ، أفطس ، أعرج ، أسود ،ثم عمي وقطعت يده مع عبدالله بن الزبير هكذا قال عنه مترجموه ولكن ماذا قالوا عن علمه وجلالته يقول أبو جعفر : ما بقي على ظهر الأرض أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء ، وقال علي بن المديني سمعت بعض أهل العلم يقول : كان ثقة فقيها عالما كثير الحديث .([9][9])
وكم من العلماء في قديم الدهر وحديثه من فقد بصره وعمي في صغره وما ضره ذلك فإذا هو العالم الذي يشار إليه بالبنان ،كالشيخ الإمام محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ مفتي الديار السعودية سابقاً ، والشيخ العلامة عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ مفتى المملكة العربية السعودية ، وسماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ـ وفقه الله وحفظه ـ وغيرهم كثير وترى منهم الخطيب المصقع الذي يزمجر على أعواد المنابر فتصل كلماته سويداء القلوب كأمثال الشيخ عبد الحميد كشك ـ رحمه الله ـ فعجبا لمن يتكلم بما لا يعلم ، ويهذي بما لا يدري !! يقول الشاعر :
فرب ضرير قاد جيلا إلى العلا
وقائده في السير عود من الشجر ْ
وكم من كفيف في الزمان مشهر
لياليه أوضاح وأيامه غررْ
ومن الأمثلة أيضاً التي تدل على ضعف هذه القاعدة ما نراه من أحمد ياسين ـ رحمه الله ـ منظم حركة حماس فهو رجل مشلول شللا كليا ومع ذلك هو يدير أمة ويحرك شعبا !!
وقد قرأت مقالا في المجلة العربية تحت عنوان ( الصاعدون إلى القمة بلا قدم ) ذكر صاحب المقال أمثلة رائعة لأناس غدوا معاقين بالمفهوم الدارج ، إلا أن الأمر يختلف عندما نتناوله بعين نافذة بصيرة ، عندما نرى أعمال هؤلاء وقد فاقت كثيراً ما ينتجه الكثرة من الأصحاء!! من هؤلاء :
( الشاب الإيرلندي ( كريستوفر كولان ) البالغ من العمر 22 عاماً الذي فاز بجائزة الكتاب في بريطانيا لعام 1987م ..وقد حضر حفل تكريمه أكثر من أربعمائة أديب بريطاني ، وهل ستندهش إذا قلت لك أن الشاب أصم وأبكم لا يتكلم ومشلول ، عاجز عن الحركة وأنه للتغلب على اعاقته الجسمية لجأ إلى الكتابة على الآلة الكاتبة بواسطة ذراع صناعية مثبتة في جبهته !!
هل سمعت عن حكاية شابين معاقين في مصر وهما توأمان ولدا مشلولين ولم يمنعهما الشلل من أن يذهب كل منهما إلى الدراسة في كرسي بعجلات وقد تفوقا في الدراسة وحصلا على النجاح في الجامعة بامتياز مع مرتبة الشرف وحصل كل منهما على الدكتوراه مع التقدير وصارا عضوين في هيئة التدريس بالجامعة هناك ؟! )([10][10])
وهذا غيض من فيض ، فهل بعد كل ما تقدم وغيره كثير يستطيع أصحاء الأجسام أن يدعو أنهم الأكثر اقتدارا وملكة وموهبة وإبداعاً ..؟وهل بعد هذا نقول : العقل السليم في الجسم السليم ؟!!
```
المصلحة الثالثة : إدخال التربية البدنية من أجل الحد من ارتفاع نسبة البدانة بين الفتيات.
والجواب : من عدة وجوه :(6/137)
أولاً : هل نفعت حصة التربية البدنية البنين في الحد من ظاهرة السمنة ؟
الواقع يثبت عدم ذلك ،بل الملاحظ ارتفاع نسبة السمنة في صفوف الشباب ، ( إحدى الدراسات أظهرت أن 52% من البالغين في المملكة يعانون من البدانة، ويعاني منها أيضا 18% من المراهقين و15% من الأطفال دون سن المدرسة!!!) ([11][11]). وأي أثر لحصة لا تتجاوز الساعة إلا ربع في الأسبوع الواحد ؛ في الحد من هذه السمنة .
ثانياً : مسيرة التعليم في هذه البلاد وضعت قبل ما يزيد على خمسين عاما ، وهذا الارتفاع في ظاهرة السمنة لم تظهر إلا في الآونة الأخيرة مما يدل على أن الخطة الدراسية لمدارس التعليم لا علاقة لها بارتفاع هذه النسبة .
ثالثاً : إن من أسباب ظهور حالات السمنة هي :
ـ وجود الخادمات في المنزل مما سبب الخمول والكسل عند الكثير من الفتيات .
ـ كثرة تناول الطعام ؛ يقول صلى الله عليه وسلم : « ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ، فإذا كان لا محالة فاعلا ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه » رواه أحمد ([12][12])
رابعاً : يمكن أن تمارس المرأة الرياضة في بيتها وقد أجرت مجلة أسرتنا في عدد (40) استفتاء جاء فيه :
ـ ما رأيك : إذا كانت المرأة حريصة على الرياضة فهل يمكنها ممارستها في بيتها بنجاح ؟ فأجاب 91% بنعم ، و7% لا ، 2% ربما .
فيمكن للمرأة التي تعاني من هذه السمنة أن تمارس الرياضة في بيتها .
خامساً : هل هناك دراسات تثبت حالة ارتفاع السمنة بين الطالبات ؛ فهذه دعوى مجردة والدعاوى إن لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء .
الفصل الثاني
المفاسد المتوقعة على حصة التربية البدنية
هناك مفاسد عديدة من جملتها :
1 ـ خلع ملابسها في المدرسة ولبسها لملابس الرياضة وهذا يخالف ما روي عن صلى الله عليه وسلم من قوله : « ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى »رواه أبو داود ([13][13]).وكون المرأة تهتك ما بينها وبين الله تعالى ليس ذلك بالأمر الهين ولا بالأمر الذي يليق بأي أحد أن يستهين به .
2 ـ قد تسبب زوال أو ضعف الحياء لدى الطالبة ، خاصة وهي تلبس تلك الملابس أمام زميلاتها وجمال المرأة هو في حيائها .
3 ـ قد تكون هذه الحصة عاملا مساعدا في انتشار ظاهرة الإعجاب المتزايدة في مدارس البنات ، خاصة وهي ترى زميلاتها التي تعجب بها بتلك الملابس الجميلة ، والقوام الجذاب فتزداد الفتنة فتنة والبلاء بلاءا .
4 ـ من المعلوم أنه لن يشارك جميع الطالبات في ممارسة الرياضة كما هو الحاصل عند الطلاب مما يساعد على كثرة الأحاديث الجانبية بين الطالبات وربما دارت أحاديث الإغراء والفساد وترويج لبعض الأفكار والأرقام والتشجيع عليها في تلك الفترة والتي لا يمكن للمدربة أن تراقب الجميع .
5 ـ إن اعتماد مادة التربية البدنية في مدارس البنات هو البذرة الأولى للمشروع الرياضي النسائي الكبير ، على غرار المجتمعات الغربية ،والعربية المتغربة ، إذ سيتبع ذلك وبشكل متسارع الرياضة في التعليم العالي ، حيث تفتح التخصصات والكليات التي تعنى بتخريج المدربات والمعلمات للرياضة البدنية وغير البدنية ، ثم يتبع ذلك إقامة البطولات المدرسية والجامعية ..وبهذا نعلم أن ذلك المدخل ليس المراد به تنشيط أبدان الفتيات وتحصيل البنية الصحيحة لهن ، ولكنه سيخرج عن نطاقه ، كما خرج في مجالات أخرى .
6 ـ الاسترجال ؛ فدخول حصة التربية البدنية قد يفقد الفتاة أنوثتها ورقتها ويميل بها إلى الصلابة وطبيعة الرجال ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :« لعن رسول ا صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال ، والمترجلات من النساء » ([14][14]) والمترجلات من النساء يعني اللاتي يتشبهن بالرجال في زيَّهم وهيئتهم فأما في العلم والرأي فمحمود . وقد ( أكد استفتاء أمريكي أجري في ست ولايات أن 34 % من الفتيات والنساء لا يفضلن ممارسة الرياضة بشكل منتظم اعتقاداً منهن أنها تؤثر على أنوثتهن ، وتؤكد التقارير الصحية أن أعمال المنزل العادية أفضل أنواع الرياضة التي تناسب تكوين المرأة )([15][15])
7 ـ من سيتولى تدريب الطالبات ؟ هل ستكون من أهل هذا البلد ؟ وإن كان كذلك ؛ فما مدى خبرتها ؟!!وهل عندنا العدد الكافي للقيام بهذه المهمة ؟!! وإن كانت من بلد آخر فما مدى تمسكها بآداب الإسلام وشعائره خاصة ونحن ندرك وضع المجتمعات الأخرى ومدى التساهل في قضية العورات وكشفها فهل من الأمانة أن يتولى بنات المسلمين أمثال تلك النسوة ؟!!
8 ـ إرهاق أولياء الأمور بالمصروفات المالية ، فالفتاة تحتاج إلى ملابس رياضية والأبناء كذلك ،علما أن الفتاة شديدة الاهتمام بلباسها ومظهرها ، وحالة الناس اليوم إلى الضعف والفقر أقرب منها إلى حالة الغنى واليسر .
9ـ توسع الفتيات في ممارسة الرياضة يسبب لهن عواقب سيئة على صحتهن ؛ يتمثل باضطراب الحيض ونقص الخصوبة ، كما يؤثر على كثافة العظام ([16][16]). وهذا أمر متوقع إذا بدأت النواة في حصة التربية البدنية أن يكون من فتياتنا من تهتم بهذا الأمر اهتماماً بالغاً حتى يصيبها ما ذكره الأطباء آنفاً .(6/138)
10ـ قد تصور الفتاة وهي بلباس الرياضة أو أحيانا وهي تنزع لباسها لتلبس ملابس الرياضة وآلات التصوير في هذا الوقت تعددت فيمكن أن تلتقط الصورة من خلال جهاز الجوال دون أن تعلم الفتاة ، وكم سيحدث من ضياع أعراض بسبب هذه الصورة؟وربما مورس مع الفتاة المصورة الضغط عليها لتخرج مع شاب أو تفضح بهذه الصورة نسأل الله تعالى السلامة والعافية .
11 ـ لبس الطالبة لملابس ضيقة أو شفافة أو قصيرة ؛ مما يتحقق عليها الوعيد الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : « صنفان من أهل النار لم أرهما ..وذكر : « ونساء كاسيات عاريات ، مميلات مائلات ، رؤسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا » ([17][17])
12 ـ قد تصاب الطالبة بالعين ، فقد تكون رشيقة البدن ، جميلة المنظر ، فإذا رأتها غيرها قد تصيبها بالعين ، والعين حق ، وهذا أمر لا يقلل من شأنه ، ولا يستهان بأمره ( أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن صلى الله عليه وسلم قال : « أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس » قال الراوي :يعني بالعين ) ([18][18]).
13 ـ إرسال بعثات إلى خارج البلاد إما للتدريب أو للمباريات أو لغير ذلك كما هو الحاصل في الدول العربية الأخرى ، فيحصل في ذلك الإخلال بقضية السفر بلا محرم ، إضف إلى ذلك الاختلاط مع الرجال الأجانب والذي جاءت النصوص الكثيرة ببيان حرمته .
14 ـ إرهاق ميزانية الدولة دون أن يكون له الأثر الكبير ، فستنفق أموال على المدربات وعلى أدوات الرياضة وعلى تهيئة المدارس لممارسة مختلف أنواع الرياضة ونحوها من العقبات الموجودة الآن فهل تستحق كل هذه الأموال لتنفق في أمر نرى الآن في مدارس الطلاب عدم جدواه على أبناءنا ؟!!
ثم أليس هناك ما هو أهم من هذه المادة ؟ فهل وفرت الوزارة الوسائل التعليمية للطالبات ؟!! وهل استغنت عن المدارس المتهالكة ؟!! وهل فكرت الوزارة في كيفية تطبيق هذه المادة في المدارس المستأجرة ؟!! وهل بنات المسلمين في مأمن من أن يطلع عليهن أحد في تلك المباني أو أن هذا الأمر ليس له كبير اهتمام ؟!!
• واقع مؤلم :
لقد سبقت هذه البلاد بلاد أخرى في إدخال التربية البدنية في مدارس البنات ، وحصل فيها من الصور المؤلمة ، والأحداث المؤسفة ، ما يتفطر له قلب الغيور ، ويعلم علما يقينيا أننا لسنا بمعزل عن هذا الواقع ، وأن تلك المجتمعات ربما جاءتها وعود بعدم حصول تلك المخاطر ولكنها وقعت وحصلت ، خاصة إذا علمنا أن ما نتحدث عنه الآن تطالب به المنظمات الغربية والتي تدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة ،فهل نتصور أنهم سيقفون عند حد إدخال هذه المادة لتؤدى الطالبات تمارين سويدية فقط ؟!! أم سيتطور الأمر إلى وجود مباريات وتصفيات وأندية ومنتخبات. فنسأل الله تعالى أن يكفينا إياهم بما يشاء ؟!
الواقع يثبت أنهم لن يكتفوا بإدخال التربية البدنية في المدارس فقط وإليك نموذج على ذلك : ذكر الأديب الكبير علي الطنطاوي في ذكرياته (8/270) أنه سبق أن درس في مدارس البنات في بداية تعليم الرجال للنساء ..وفي ذات يوم حصل له موقف قال فيه : ( ..حتى سمعت يوماً وأنا ألقي درسي أصواتاً ألتفت بلا شعور إلى مصدرها ، فإذا أربعون من الطالبات في درس الرياضة وهن يلبسن فيه ما لا يكاد يستر من نصفهن الأدنى إلا أيسره ، وكن في وضع لا أحب ولا أستجيز أن أصفه فهو أفظع من أن يوصف ..)
ـ وقال أيضا في ذكرياته ( 5/ 226-227): ( سمعت مرة صوتاً من ساحة المدرسة ، فتلفت أنظر من النافذة ، فرأيت مشهداً ما كنت أتصور أن يكون في ملهى ، فضلاً عن المدرسة ، وهو أن طالبات أحد الفصول ، وكلهن كبيرات بالغات ، قد استلقين على ظهورهن في درس الرياضة ورفعن أرجلهن ، حتى بدت أفخاذهن عن آخرها ..).
وأما عن واقع التربية البدنية للنساء في العراق :
فيقول صاحب كتاب ( الأسس الحديثة للتربية الرياضية النسوية ) : ( بعض المنجزات الرياضية للمرأة العراقية بعد ثورة 17 ـ 30 تموز :
يمكن تلخيص أهم المنجزات الرياضية ..بالنقاط التالية :
1 ـ إرسال الفتيات إلى الخارج للتدريب والتعليم ضمن البعثات وتشجيعهن للتخصص في مجال التربية الرياضية .
2 ـ دعم المرأة في ممارسة أنواع وفعاليات التربية الرياضية كافة من خلال المشاركة في التدريبات والمسابقات جنبا إلى جنب الرجل .
3 ـ مشاركة الطالبات في المدارس والجامعات في درس التربية الرياضية في المسابقات والفرق الرياضية المختلفة إلى جانب المشاركة في العروض والمهرجانات الرياضية المدرسية والجامعية.
4 ـ تأثير كليات الرياضية وأقسامها في القطر حيث إن الفتاة العراقية تدرس في هذه الكليات جنبا إلى جنب مع الفتيان للتخصص بالتربية الرياضية .
5 ـ المشاركة في الاتحادات الرياضية وحتى في تركيب اللجنة الأولمبية لقيادة الحركة الرياضية في القطر إلى جانب إخوانهن من الملاكات المتخصصة . ) (1)(6/139)
وهذا الواقع الذي يتحدث عنه ليس موجودا في بلد بعينه بل كل البلاد التي أدخلت هذه المادة يحصل فيها مثل ما ذكر وأكثر ، ويكفي في بيان ذلك أن تتابع ما تنشره الصحف فتعلم عاقبة التساهل في إدخال هذه المادة في مناهج البنات .
الفصل الثالث
البدائل المناسبة
1ـ القيام بالأعمال الرياضية المناسبة للمرأة داخل منزلها. والمكتبات الإسلامية تزخر بالكتب التي يمكن الاستفادة منها في بعض التمارين الرياضية المهمة للمرأة ([19][19]).
مع العلم أن المرأة مطالبة بأعمال كثيرة جدا في بيتها قد تأخذ وقتها كاملا، ومن العجيب أن عمل المرأة في بيتها يصنف في ضمن الأعمال الشاقة فهو يتطلب مجهودا كبيرا ..([20][20]) وهذه الأعمال تعد وسيلة لتفريغ الطاقات الزائدة وقد ( أكد فريق من الباحثين الأمريكيين أن الأعمال العادية التي يقوم بها الشخص يوميا في منزلة كالكنس والغسيل والعمل بالحديقة والمشي ..لها فوائد التمارين الرياضية ، فهي تقي من انسداد الشرايين والإصابة بأمراض القلب .)([21][21])
بل إن ممارسة التمرينات الرياضية في المنزل أكثر فائدة منها بالأندية ، وقد ( أظهرت دراسة أن ممارسة التمارين الرياضية في المنزل قد يكون أكثر فائدة من التمرين في ناد رياضي . وقد اكتشف الباحثون أن النساء اللواتي يمارسن الرياضة في المنزل يفقدن وزنا أكثر ويصبح شكلهن أحسن من النساء اللواتي يمارسن التمارين في النوادي الخاصة..وقد جاء في الدراسة التي نشرت في مجلة ( الاستشارات ) التي تصدر عن الجمعية الأمريكية لعلم النفس أن النساء السمينات الخاملات بوسعهن مباشرة وتنفيذ برنامج للتمارين الأيروبية في المنزل ..وقال العلماء أن الدراسة تحمل أنباء طيبة للنساء اللواتي لا يجدن الوقت الكافي أو يجدن صعوبة في الذهاب إلى الأندية الصحية ، وقال الباحث موئيل سيرز : ( لقد أظهر البحث الذي أجريناه أنه على المدى البعيد النساء اللواتي يبدأن ممارسة التمارين الرياضية في أجوائهن المنزلية لكون ذلك يناسبهن أكثرهن أكثر احتمالا للاستمرار ببرنامج التمارين والمحافظة على خفة الوزن ، من اللواتي يتجهن إلى الأندية الرياضية ) وقد تناولت الدراسة التي أجراها الباحثون في جامعة فلوريدا (49) امرأة سمينة وغير نشطة بحدود (190) رطلا و (49) سنة من العمر ، وطلب من النساء ممارسة المشي المعتدل لمدة ساعة كل يوم ولخمسة أيام في الأسبوع ، وقدمت للنساء مشورة حول تخفيف الوزن وخطة للحمية الغذائية الوزن وخطة للحمية الغذائية مع التشجيع على المواظبة على التمارين…وتم في الدراسة تقسيم النساء المشاركات إلى مجموعتين تمرن أعضاء المجموعة الأولى على أجهزة المشي في أحد الأندية ، فيما مارس أعضاء المجموعة الثانية بالمشي في الطرق . وبعد ستة أشهر كانت نسبة تخفيف الوزن متساوية تقريبا في المجموعتين وكذلك نسبة المشاركة في التمارين والحالة الصحية العامة .
ولكن بعد مضي سنة كاملة كانت المجموعة التي تمارس التمارين في المنزل متقدمة كثيرا وبعد (15) شهرا كان أعضاء هذه المجموعة قد خففوا وزنهم أكثر بكثير مما خففه أعضاء الفريق الآخر ، حيث بلغ متوسط الخسارة (25) رطلا في المجموعة لأولى و 15 رطلا في الثانية . وبعد 12 شهرا كانت سبع أعضاء قد انسحبن من ممارسة التمارين فيما انسحبت امرأة واحدة من مجموعة التمارين المنزلية . وقال الخبير الفيزيولوجي ريتشارد كوتن الناطق باسم ( مجلس الأمريكي للتمارين ) إن المغزى القوي للدراسة هو أن ممارسة التمارين في المنزل لها قيمتها فعلا ، وأن الذهاب إلى النادي الرياضي يجده كثيرون غير مناسب ) ([22][22])
فهذه دراسات ميدانية حقيقية أجريت على شريحة من المجتمع وتبين من خلالها الحق من الباطل ـ والحق حق ـ فكيف إذا شهدت به الأعداء ، ولكن كما قال الله تعالى : } فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور{ [الحج: من الآية46]
2 ـ إذا كانت المرأة ترغب في رياضية المشي فيوجد الآن في الأسواق الآت للمشي عليها يمكن للمرأة الاستفادة منها ووضعها في المنزل فتحقق بذلك رغبتها وهي في قعر بيتها بدون مضايقات المعاكسين ولا أضرار الشمس ولا غير ذلك وهي في أثناء ذلك يمكنها أن تستمع إلى شريط هادف فتجمع بذلك بين مصلحتين التربية البدنية والتربية العقلية والنفسية .
3ـ الاستغناء عن الخادمات والقيام بالأعمال المنزلية ومزاولتها لما لها من الأثر الفعال على جسم المرأة كما تقدم إثبات ذلك من خلال الدراسات التي أجريت .(6/140)