فلماذا تكون البداية بمواد الدين وبهذه الموضوعات على وجه الخصوص؟ ومن المسؤول عن الهدر المادي حين تطبع كتب هذا العام ثم تسحب بعد أسابيع لتوزع كتب بديلة عنها؟
2- لم يُستفت العلماء وفي مقدمتهم هيئة كبار العلماء في هذا التغيير، وفي ذلك خرق وتجاوز للأمر الملكي القاضي بإحالة أي تغيير في المناهج الشرعية إلى هيئة كبار العلماء، بل صدرت فتوى لأحدهم، وهو فضيلة الشيخ صالح الفوزان باستنكار التغيير في المناهج، ومما قاله: لا يجوز التغيير في الكتب المؤلفة القديمة بحذف شيء أو زيادة أو شطب شيء أو تقديم أو تأخير ولا حذف أسماء مؤلفيها؛ لأن ذلك خيانة للأمانة العلمية، وهو من جنس تحريف أهل الكتاب لكتبهم... إلخ، بل ذلك خرق لسياسة التعليم في المملكة، والتي نصت أهدافها الإسلامية العامة على: 1- تنمية روح الولاء لشريعة الإسلام، وذلك بالبراءة من كل نظام أو مبدأ يخالف هذه الشريعة... إلخ (ص 10)، كما نصت سياسة التعليم في المملكة في أهداف المرحلة الثانوية (وهي المرحلة التي حذف منها باب الولاء والبراء) على: متابعة تحقيق الولاء لله وحده، وجعل الأعمال خالصة لوجهه ومستقيمة في كافة جوانبها على شرعه (ص12)، ونصت كذلك على أن غاية التعليم في المملكة فهمُ الإسلام فهماً صحيحاً متكاملاً، وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها (ص10) الطبعة الرابعة.
وإذا نصت هذه الوثيقة المعتبرة على الولاء والبراء وعلى فهم الإسلام فهماً متكاملاً في أكثر من بند فكيف يحذف هذا الباب برمته من المنهج؟ وإذا كان يخطط لتعديل سياسة التعليم برمتها فالأمر أدهى وأمر ويحتاج إلى وقفة حازمة وعلى مستوى أعلى، وهل يلام من قام بمرافعة للتجاوزات على سياسة التعليم؟
3- إن أمر المناهج الدراسية عظيم فعليها تتربى أجيال الأمة في كافة المراحل، ومن خلالها تصاغ عقول الطلاب والطالبات، المناهج الدراسية ذات صلة بمشروع الأمة الحضاري، ومحددة لقيمها وأسلوب تعاملها مع الآخرين، هي عامل من عوامل الوحدة والبقاء، وهي لون من ألوان التميز، ومرتكزٌ للصمود أمام التحديات العالمية.
وإذا كانت تلك بعض قيم المناهج، فالتغيير فيها لا ينبغي أن ينفرد بالقرار فيه امرؤٌ أو فئة معينة، بل هو حق للمجتمع كله بدءاً من الطالب ومروراً بالمعلم، ثم ولي أمر الطالب، وانتهاءً بولاة الأمر، ومنهم العلماء، فهل يليق أن تصادر آراء هؤلاء جميعاً، ويصدر القرار بشكل أحادي أو فتوى؟ أين الدعاوى بتقدير وجهة نظر الآخرين؟ ألسنا ننتقد سياسة الإقصاء، أولسنا نعيب احتكار الآراء، وما بالنا نمارس ذلك في أخطر القضايا؟
ومهما قيل إن التغيير بسبب الأحداث والتفجيرات الأخيرة، فالحديث عن التغيير في المناهج سابق لذلك، ومهما استنكرنا حوادث التفجير في بلادنا فلا ينبغي أن نعالج الخطأ بخطأ آخر.
4- إن قضيتنا مع المناهج، بل مع التعليم برمته قصة طويلة، ومنذ زمن والمستغربون وأهل العلمنة يدندنون حول التعليم مرة بالدعوة إلى الاختلاط ومرة بتغيير المناهج، وثالثة بإدخال التربية الرياضية في مدارس البنات... وهكذا، ومع الإصرار ومستجدات الأحداث بدأت الخطوات الأولى لتنفيذ المخطط، وينبغي أن يصرَّ الخيِّرون وأصحاب الفكر السليم على وقف التنفيذ، والتنبه للخطوات المستقبلية، وأين القول بأن (الدمج) مجرد قرار إداري؟ وهل لنا أن نقول: إن هذه أول ثماره المرة؟
5- وثمة طرفٌ آخر يصر على التدخل في مناهجنا، ولكنه يُسِرُّ بذلك من قبل، ثم بات يجهر ويعلنها صراحة وتهديداً، واصفاً إياها بالتطرف، وناسباً لها تدمير حضارتهم، والحق أن مناهجنا لم تدمر منشآت الغرب، وإنما دمّر الغربُ أنفسهم بأنفسهم، وذلك بظلمهم وطغيانهم وتدميرهم للآخرين، ولقد شهد شاهد منهم بذلك، فقد قال (أحدُ) أصحاب مدرسة المخابرات المركزية الأمريكية (بيل كريستان): إن الهدف الحقيقي للمتطرفين هو تخليص العالم الإسلامي من الهيمنة الأمريكية، إنهم لم يسعوا إلى تدمير أمريكا بقدر ما سعوا إلى إخراجها من أرضهم، [مستقبل العالم الإسلامي وتحديات في عالم متغير (كتاب البيان) 1424هـ ص563-564].
6- إننا حين نستجيب لهذا الاستفزاز ونغيِّر في المناهج لا عن قناعة وإنما لإقناع الآخرين، فنحن بهذا التصرف نصدِّق التهمة، وسيظل القوم يتهمون، ونحن نغير، حتى لا يبقى لنا من مناهجنا شيء نتميز به، وأعداؤنا في الغرب والشرق يدركون أن التأثير على التعليم مدخلٌ للسيطرة على الفرد والأمة، وهو أسلوب لتدجين المجتمعات الإسلامية وسلخها من هويتها المسلمة، وهو نوع من الإرهاب الفكري والاستعمار الثقافي لا يتورع الغرب عنه، ومن العجب أن هؤلاء الذين يمارسون التدخل في مناهج الآخرين يرون التدخل في مناهجهم نوعاً من الحرب عليهم، وأمريكا وقبل عشرين عاماً تقول: لو قامت قوة بفرض نظام تعليمي علينا لكان ذلك مدعاة لإعلان حرب علينا. (الدويش، البيان/173)، وعلى المجتمع والأمة أن تدرك آثاره ومخاطره المستقبلية، وأن تتبصر في المخطط والأدوات ووسائل التنفيذ، وتسعى جاهدة لإيقاف صلاحيته وسريانه.(4/394)
7- وسؤال مهم يطرح نفسه، وماذا عن مناهج القوم التعليمية، وما هي رؤية المسؤولين في التعليم عندهم؟ ودعونا نُمثِّل بأقرب نموذج يجاورنا في البلاد المحتلة (فلسطين) - عجَّل الله بتحريرها من أيدي الصهاينة الغاصبين - حيث يُحدد وزير المعارف والثقافة الإسرائيلي السابق (زبولون هامر) أهمية التربية في المجتمع اليهودي بقوله:"إن صمودنا أمام التحدي الكبير الذي يواجهنا يتمثل في مقدرتنا على تربية قومية مرتبطة بالتعاليم الروحية اليهودية تربيةً يتقبلها الطفل راغباً وليس مكرهاً، ولهذا فإن على جهاز التعليم الرسمي والشعبي أن يتحمل التبعية الكبيرة للصمود أمام التحديات التي تواجه إسرائيل..".
ويعمم التربية وأثرها على كل أفراد المجتمع اليهودي أولُ رئيس وزراء لإسرائيل (ابن غوريون) حين يقول: إنه لن يكون للحركة الصهيونية مستقبلٌ بدون تربية وثقافة عبرية لكل يهودي بوصفه واجباً ذاتياً (انظر: هكذا يربي اليهود أبناءهم في إسرائيل، مقال في مجلة البيان عدد 173/1423هـ).
هكذا ينظر المسؤولون في دولة اليهود إلى قيمة التعليم وتأصيل المناهج بنظرتهم المرتبطة بتعاليم التوراة المحرفة، ومصيبة حين يتشبث أهل الباطل بباطلهم، ويتوارى أو يستحي أصحاب الحق من إظهار حقّهم.
وفي أمريكا وبريطانيا وبقية الدول الغربية تبرز المدارس اليهودية كنموذج متطرف في الحفاظ على الهوية والتميز الديني، وذلك من خلال فتح مدارس منظمة ينخرط فيها مُربون ومعلمون متمكنون في مجال التربية والتعليم، ومختصون بدراسة الأبعاد النفسية والاجتماعية للجالية اليهودية في المجتمعات الغربية (الجمهور: التعليم الإسلامي في الغرب، ملف مجلة البيان).
بل تقول الدراسات التربوية وتشهد الإحصاءات الرقمية على تنامي وزيادة المدارس الدينية في الغرب، حتى وصلت إلى ثمانية عشر ألف مدرسة تضم أكثر من مليوني تلميذ في عام 1980م، والأهم من ذلك أن في مناهج الغرب بشكل عام تطرفاً وإساءة للعرب والمسلمين ولم نسمع من يطالب بتغييرها (محمد الدويش: هل لمناهجنا صلة بالتطرف والإرهاب؟) إننا في زمن العودة للهويات، فالأصولية الإنجيلية، واليمين المتطرف، والتوراتيون ونحوها من مسميات القوم شاهد على ذلك، والتطرف بضاعة القوم إن رموا غيرهم بها.
وسؤالٌ أيضاً يضاف إلى سابقه: مناهجنا الدراسية إلى أين؟
ومدارسنا الدينية ما حالها؟ وما حجمها؟ مع الاعتبار بأن ديننا الإسلام هو الحق المُنزّل من عند لله، وغيرُنا"شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ"(الشورى: من الآية21).
8- وثمة ملحظٌ تربوي قيمي على التغيير في المناهج، فالولاء والبراء وإن حذف أو أُضعف في المناهج المدرسية فهو محفوظ بنصوص الكتاب والسنة، وبماذا نجيب الطالب في مادة التفسير عن آيات الولاء والبراء ومدلولاتها، أو ليس عيباً أن نحذف في المنهج ما يقرأه الطالب صباح مساء في كتاب الله؟ ومثل ذلك يُقال عن آيات الجهاد وهي تملأ القرآن الكريم عرضاً وبياناً وإرهاباً للعدو، وغلظة ومقاتلة للذين يلونكم من الكفار، هل من حقنا أن نتدخل فيما أنزل الله، أو نغيِّر فيما شرع الله؟ وهل نريد أن نوقع الناشئة في نوع من الاضطراب، بل وفي نوع من عدم الثقة والشك في تراث الأمة ومدونات العلماء، وهي حافلة بالحديث المفصل عن هذه القضايا الحية والأصيلة في عقيدتنا وتراثنا؟
9- إننا - وحسب سنة الله في التدافع - قد نضعف في زمن من الأزمان أمام عدونا، وقد نُهزم في معركة السلاح العسكري، وهذا ضعفٌ وتقصير، ولكن المذل أن ننهزم في تحقيق قيمنا وفي الجهر بإسلامنا.. المصيبة حين نُهزم من داخل أنفسنا، وأخطر من ذلك حين نعمق الهزيمة لتصل إلى أبنائنا وأحفادنا، وذلك بالعبث بأي مفردة أصيلة من مفردات مناهجنا التي يتربى عليها أبناؤنا وبناتنا وهي تعمق فيهم العزة بالإسلام والنصرة للمسلمين، وجهاد الأعداء والانتصار للمظلومين.
إن الأمانة توجب علينا أن نعلم الأجيال أمرَ الإسلام - كما أنزله الله - مهما كان واقعنا، ومهما خطف العدو من مكاسبنا واستباح من أرضنا وخدش من كرامتنا، ونخون الأمانة إن خرَّجنا أجيالاً يلتبس عليها الحق بالباطل، وتفهم العدو صديقاً حليفاً، والماكرَ المستعمر رجلاً مهذباً محترماً؟
إنه خليق بالعقلاء والمفكرين والنبلاء وقادة الفكر ورجال التربية - من باب أولى - ألا يتورطوا في تربية جيل ضعيف في انتمائه لأمته ووطنه متذبذب في نظرته، حائر في منهجه، متشكك في شيء من مسلمات دينه.
إنها أمانة العلم ومسؤولية التعليم عَهِد بها إلينا من سبقنا بيضاءَ نقية، وينبغي أن نُسلمها لمن بعدنا كذلك، وليس من لوازم ذلك أن نجمد ولا نُطور، لكنه التطوير المدروس والنافع الذي يجمع بين الثبات والمرونة، والأصالة والمعاصرة، ولا يكتب في ظروف الانكسار والهزيمة، وهل نحن راضون عن تطويرنا في العلوم التجريبية، ونحوها من المعارف المادية التي قصّرنا فيها وسبقنا إليها الآخرون، ولم يبق لنا إلا أن نغيّر في قيمنا وثوابتنا.(4/395)
10- ومفارقات عجيبة يدركها العامة فضلاً عن العاملين والمتابعين للأحداث، فهل يليق أن نُهمش (الولاء والبراء) أو نستحي من ذكر (الجهاد) في زمن أعلن الأعداء حربهم علينا، ولم يرقبوا في مؤمن إلاً ولا ذمة، قُصفت بلاد المسلمين بأحدث أسلحتهم، ودُمرت المنشآت والبُنى (الفوقية والتحتية) بطائراتهم وقنابلهم ومدفعياتهم، تيتم الأطفال، وترملت النساء، واستبيحت الأموال، وعُبث بالأعراض، وضاقت الأرض وشكت السماء من ظلمهم، وترسخ في عقول المسلمين وقلوبهم ناشئتهم وكبارهم، بل وفي عقول غير المسلمين الكره لهؤلاء الغزاة المستعمرين، ودرسوا ذلك من الواقع المشاهد قبل أن يقرؤوه في المناهج، وفقد الأمل من كان يرجوا الإصلاح على أيدي هؤلاء المفسدين، وخيمت سحابة من الغضب والسب لهؤلاء المجرمين المستكبرين، ونقلت وسائل الإعلام المختلفة شيئاً من مظاهر الغضب والاستياء لهذه الممارسات الظالمة التي تجاوزت مواثيق الأمم، واستهجنت بكرامة الشعوب، ووأدت ما بقي من خداع الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة التي طالما تشدق بها القوم، وهي اليوم رِممٌ مُحنطة تضاف إلى ما في متاحفهم من دُمى عفا عليها الزمن.
أفيليق بنا والحال تلك - في كره العالم للغرب المعتدي - أن نحجب عن أبنائنا وبناتنا هدي الإسلام ومنهج القرآن في أسلوب التعامل وطبيعة العلاقة مع هؤلاء؟ إن مناهجنا ينبغي أن تكون مواكبة للأحداث واعية للمتغيرات.
ومن الخطأ أن يشعر الطالب والطالبة بشيء من التناقض لما يدرس وما يرى على صعيد الواقع.
11- وهنا حقيقة لا بد أن تدرك وهو أن المخطط كبير لتطويق العالم الإسلامي فكره وحضارته واقتصاده، ويظلم نفسه ويسيء إلى أمته من ساهم في تنفيذ شيء من مخطط القوم في بلاد المسلمين من حيث يدري أو لا يدري، ومن لم يمنعه دينه ولا كرامته وإباؤه من الضيم والهوان وسوء المنقلب، فما لجرحٍ بميت إيلامُ، ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا وإخواننا المسلمين، فالتغيير للمناهج بدأ، وستتلوه خطوات أخرى إذا لم يتوقف، وثمة لجان جديدة مشكلة، وثمة وعود بتغيير وطباعة كتب مدرسية جديدة، بل الأمر يتجاوز المناهج والتعليم إلى قضايا وملفات أخرى كالمرأة ومحاولات إفسادها، والمؤسسات الدينية ومحاولة تقليصها، وتحديد مناشطها والهيئات والمؤسسات الإغاثية الإسلامية ومحاولة تطويقها ومحاصرة مناشطها... إلى غير ذلك من نشاط المسلمين ودعوتهم، ولو كانت سلمية هادئة فهي محل غضب الأعداء ويودون إلغاءها أو إضعافها، بل هي في النهاية، وكما أخبرنا الله عنهم"وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ"(النساء: من الآية89)، ألا فلننتبه جميعاً لهذه المخططات والأهداف، وليستشعر كلٌّ منا الخطر، وليساهم في النصرة لدين الله والدعوة للإسلام، أنى كان موقعه ومهما كان حجم مسؤوليته، ورفقاً بأمتكم ومجتمعكم يا مهرولون، ومزيداً من الثقة بإسلامكم وقيمكم يا مسلمون، والقصد القصد تبلغوا، والسكينة السكينة تفلحوا.
12- وبعدُ فهذا هو المأزق فكيف المخرج؟ وما هو الدور المطلوب؟
إنني حين أؤكد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة، أؤكد معها على الحكمة والتعقل والصبر والاحتساب، وأن يقوم كل أحد منا بما يستطيعه، بالكتابة للمسؤولين، ومقابلتهم والنصح لهم، وبزيارة اللجان العاملة في المناهج وتذكيرهم بمسؤوليتهم، ونتائج قراراتهم على البلاد والعباد - حاضراً ومستقبلاً - ومناشدة الكتبة في وسائل الإعلام بالكتابة بما يدينون الله به، واستنهاض همم التربويين خاصة وأساتذة الجامعات بعامة على الكتابة وإبداء رأيهم في تغيير المناهج، ومعلمي المراحل المختلفة في التعليم من باب أولى، ولا سيما من كانوا يدرسون هذه المواد من قبلُ ومن بعدُ أن يكتبوا مرئياتهم وملاحظاتهم، وإذا كان المنهج المدرسي مهماً، فلا تقل عنه أهمية أثر المعلم والمعلمة في تفعيل هذا المنهج، ولذا يوصي المعلمون والمعلمات بتفعيل مناهجهم ويذكّرون بأمانة العلم ومسؤولية التعليم.
أما أنت يا ولي الأمر فبإمكانك أن تقوم بدورك في تربية أسرتك على هدي الإسلام بشموله وتوازنه في وقت يحتدم الصراع وتختل الموازين، ولا بد أن تُسأل الوزارة ما مصير القرارات السابقة؟ ولماذا نُحيت بعض اللجان المختصة العاملة؟ وهل من مبرر لإبعاد البعض عن المناهج؟ وما نوعية اللجان الجديدة؟ وكيف يُتخذ القرار فيها؟ وإذا عُرف أناس بالصلاح والنزاهة في هذه اللجان والمجالس الجديدة، فما مدى تأثيرهم في القرار؟ وهل يصدر شيء باسمهم وهم غير مقتنعين به؟ إنها حمل وأمانة فليتقوا الله فيها، ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ونعيذهم من الأخرى.
يا علماء الأمة مسؤوليتكم في البلاغ والدعوة أعظم من غيركم، فما هو موقفكم تجاه تغيير المناهج الواقع والمتوقع؟ وما هو بيانكم الناصح للراعي والرعية؟
أيها المسؤولون والرعية أمانة في أعناقكم مسيرة البلد وقيادة السفينة إلى بر الأمان، والحفاظ على وحدة المجتمع وخصائص البلد ذمة وعهد عاهدتم الله عليه، فالعهد العهد تُفلحوا، والصدق الصدق تنجوا وتسعدوا وتُسعدوا، ولا يستفزنكم الذين لا يوقنون.(4/396)
أيها المسلمون جميعاً ومهما فعلتم من أسباب فلله الأمر من قبل ومن بعد، فأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له، وادعوه خوفاً وطمعاً، فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض.
http://www.almoslim.net المصدر:
===========(4/397)
(4/398)
الحرب الأمريكية على ساحة التعليم
د. محمد يحيى
بعد غزو العراق أعلنت أمريكا بوضوح أن أهم أهدافها من احتلال العراق هو تغيير نظام التعليم، وبالأصح المناهج والأفكار والمضامين لكي تصبح ديمقراطية ومضادة للدكتاتورية وحديثة.
وعندما بدأ الناس يسمعون بالتفاصيل تبين أن المقصود بصفة عامة هو تغريب تلك المناهج العراقية إلى حد أن الأمريكان تحدثوا عن ترجمة كتب الأفكار العامة التي تدرس في المدارس الأمريكية وفرضها على المدارس العراقية في شتى مراحلها. ومع التغريب جاء هدف العلمنة ونزع الإسلام بأشكاله من الكتب المدرسية العراقية بحجة محاربة الطائفية رغم أنه لا يوجد في العراق سوى الإسلام، وكان التركيز الأمريكي على التعليم مثيرًا للتساؤل؛ لأنه أتى في أولوية تفوق اهتمامهم بالبترول رغم الحديث الكثير على البترول باعتباره الهدف الأمريكي الأسمى من الغزو والاحتلال، والواقع أن الحرب الحقيقية على العراق كانت حربًا ضد العقول والضمائر، وضد الإسلام قبل كل شيء، ولهذا الهدف كانت الأولوية المعطاة لمسألة التعليم والفكر.
لقد عاملوا العراق بالضبط كما عاملوا اليابان وألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، فهناك غيّروا مناهج التعليم بالتحديد لمحو الهوية القومية والثقافية والتاريخية والحضارية، وخلف التبعية الفكرية والذهنية لأمريكا في تلك البلاد، وقد نجح هذا التدبير نجاحًا باهرًا بحيث أصبحت اليابان وألمانيا في الدول التابعة لأمريكا بذلة وخنوع، وتأمرك المجتمع في هاتين الدولتين مع الفارق هو أن المجتمع الألماني لم يكن بحاجة إلى تغريب؛ لأنه مجتمع غربي قح؛ بل هو أحد المجتمعات الثلاثية المؤسسة للحضارة الغربية أو الأوربية مع فرنسا وانجلترا، وقبلهما إيطاليا في عصر النهضة، أما اليابان كمجتمع شرقي؛ فكانت بالفعل قطعت خطوات على طريق التغريب قبل الحرب العالمية الثانية، ثم جاءت تلك الهزيمة لتسير البلاد على هذا الطريق لأبعد مداه وإن لم يكن كاملاً مئة في المئة.
مقاومة التغريب:
أما في العراق وسائر البلاد العربية؛ فإن الأمركة والتغريب والعلمنة كانت ولازالت تلقى المقاومة الشديدة، بحيث أصبح من المطلوب ضربها الآن بالقوة الغاشمة الاحتلالية، ليس في العراق وحده، ولكن في كل البلاد التي يحكمها الأمريكان من خلال النخب. وكذلك فإذا كانت ألمانيا واليابان دولتين علمانيتين شبه كاملتين قبل الحرب العالمية الثانية؛ فإن الأمر لم يتضاعف بعد الحرب لأن العلمانية لم تتضاعف وكانت بالفعل جذورًا راسخة. أما في العراق والدول العربية؛ فإن الحال يختلف أيضًا على الرغم من سيطرة النخب المتغربة المعلمنة على مدى سنوات وعقود طويلة، لأن المجتمعات والبنى الفكرية والثقافية ظلت إسلامية وعربية، ومن هنا تصاعدت بشكل رئيس حدة الهجمة الأمريكية التغريبية العلمانية على الرغم من وجود تيار ديني متعصب صليبي يقود أمريكا، بل على العكس فإن وجود هذا التيار الصليبي الذي لا يؤمن بالعلمانية في تلك البلاد هو الذي دفعه إلى دعم وتحفيز وتصعيد العلمانية في العالم الإسلامي والعربي على سبيل الكيد للإسلام، وهذا هو الجديد في الهجمة العلمانية الجديدة المتصاعدة، ففي الماضي كانت الدول الأوروبية التي تفرض العلمانية على سبيل التحمس لمبدأ تؤمن هي به.
التيار الصليبي المتطرف:
أما الآن فإن التيار الصليبي الحاكم صراحة وليس من وراء ستار أمريكا والصاعد وذا النفوذ في بريطانيا ودول أوروبية أخرى وبالذات في شرق أوروبا؛ يصعّد فرض العلمانية ومعها التغريب في العالم الإسلامي مدفوعًا بكل حقد الكيد للإسلام والرغبة في القضاء عليه..
هذه هي الخلفية التي يجب أن نقرأ عليها الرغبة الأمريكية المحمومة في تعديل بل تشويه مناهج التعليم في العراق قبل فعل أي شيء آخر في تلك البلاد.
إنها الحرب القديمة على الإسلام، لكنها الآن وفي ظل الحكم الصليبي السافر في أمريكا تأخذ شكلاً سافراً وحادًا وهستيريًا هي الأخرى، ومن الناحية الأخرى فإن حكاية الهجمة على النظام التعليمي بهدف تغريبه وعلمنته ليست جديدة ولنفس دوافع ضرب الإسلام لقد توصلت إليها الدول العربية في أواسط الثمانينيات تحت الشعار التونسي الشهير"تجفيف المنابع"، والذي عم جميع البلدان الأخرى، واتخذ شكل تأميم المساجد وفرض الخطب والدروس الدينية المعلمنة، وفرض الفتاوى وضرب الحركات الإسلامية بأبشع الوسائل وفرض القوانين الاستثنائية..
إن الهجمة التغريبية على نظام التعليم في العالم العربي ليست جديدة ولا مرتبطة بوصول الحكم الصليبي الحالي في أمريكا؛ فعلى مدى ما يقرب من العشرين عامًا سمعنا عن مراكز أمريكية لوضع المناهج في مدارس بلدان كبرى في العالم العربي، ومحيت الكتب الدينية أو كادت ومعها تدريس الدين، ووضعت مناهج علمانية سميت بـ"تدريس الأخلاق"كبديل عن الدين الإسلامي بالذات.
فضح العملاء:(4/399)
وسمعنا من العلمانيين أصحاب أمريكا من يعلن بكل فخر أن التعليم هو مشروعه النهضوي للأمة، وكان في ذلك يعني كلمة واحدة هي فقط علمنة وتغريب الأمة، ومحصلة هذا الأمر كله هو أن الحرب على الإسلام أصبحت تدور الآن على ساحة التعليم باعتباره مجال صنع العقول والضمائر للأجيال القادمة، وقد انتقلت من ساحة السياسة إلى الساحة الاجتماعية، ولعل دخول الأمريكان بهذه الفجاجة والغباء وكذلك إلى ميدان كشف الأوراق؛ فضح العملاء، وأثبت للجميع أن كل الدعاوى التي كانت تردد حول تحديث التعليم والمشاريع القومية الكبرى فيه مجاراة العصر ليست سوى تغطية للفكر الأمريكي المفروض على الجميع في هذا المجال.
إنها ليست سوى أوراق توت خائبة يسعى البعض لوضعها، لكن سقطت مع سفور الخطة الأمريكية لحكم العراق وتغييره.
http://www.islamtoday.net المصدر:
============(4/400)
(4/401)
مناهجنا ومقرراتنا الشرعية التعليمية أمانة في أعناقنا جميعا
تتعرض مناهجنا الشرعية في هذه الأيام لهجمة شرسة من قبل من لا يريدون بنا ولا بديننا ولا ببلادنا خيرا، وهذا الهجوم والعداء لمقرراتنا الشرعية في مدارسنا السعودية وجامعاتنا ليس بمعزل عن العداء لدين الله: الإسلام الذي هو الدين الحق وما عداه فباطل، وما بعث الله - تعالى- نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلا ليكون الإسلام هو الدين المهيمن على الدين كله، ولو أن مقرراتنا الشرعية في بلادنا السعودية لا تمثل الإسلام الصحيح أو كانت مشوبة بالتصوف والبدعة لما هوجمت هذا الهجوم، ولكن لأنها تمثل الإسلام في وضوحه ونقائه، و لأنها قائمة على الدليل الصحيح والفهم السليم القائم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولأنها كذلك فقد استحقت العداء والهجوم وإلصاق تهم لا تمت إلى الواقع بأية صلة من قبل من لا يرجون رحمة الله ولا يخشون عذابه.
إن مناهجنا التعليمية الشرعية هي المناهج التي أخرجت رجالات ونساء هذا البلاد منذ تأسيسها وهي مناهج قائمة على العدل والإحسان والنظرة العادلة السامية الصحيحة للإسلام، ولا يستطيع أحد لديه عدالة في البحث واستقلال في النظر وفهم صحيح لدين الله وبعد عن التحيز والتحزب والتعصب أن يثبت أن في مناهجنا الشرعية انحرافا عن شريعة الله - تعالى- ولقد قالوا إن في مقرراتنا تشددا وتطرفا - أي أن فيها غلوا- وهذا باطل وزور، وقد كبرت كلمة تخرج من أفواههم، ولكن تعالوا ننظر في مسألة التطرف والتشدد ومن هو الذي يطلق هذه الصفات والنعوت على مقرراتنا، فإذا عرفنا منهم هؤلاء وما ذا يريدون وإلام يهدفون وما هي المنطلقات التي ينطلقون منها عرفنا سر هذه الهجمة على ديننا ومقرراتنا وتعليمنا:
أولا - منهم الذين يهاجمون مقرراتنا؟
إنهم أناس عرفوا بتخصصاتهم البعيدة تماما عن العلوم الشرعية، وقد قيل: فاقد الشيء لا يعطيه، إذ كيف يسوغ لدارس العلوم السياسية أن ينتقد وأن ينسف مقررات دراسية قام على تأليفها علماء أجلاء لهم تأريخهم الطويل مع العلم الشرعي حتى برعوا فيه بل صاروا من أعلامه في هذا العصر، ومنهم - الذين يهاجمون مقرراتنا التعليمية الشرعية - دارس اللغة الإنجليزية والصحفي الجاهل والحاقد وغير ذلك، فهل هؤلاء هم القضاة الذين ينظرون في القضية ثم يصدرون أحكامهم وليس لهم من الأمر شيء، إلا إذا كان للميكانيكي حق التدخل في استخراج حصاة من كلية مريض أو لمهندس مدني حق الحديث في أصول وأساليب تدريس اللغة العربية، بل إن أمر هذا وهذا أبعد عن ذاك وذاك لأن أمر العلوم والمقررات الشرعية توقيع عن رب العالمين، ويترتب عليها صلاح أمر المجتمع كله، فهل يجوز بعد وضع هذا الأمر في يد غير مؤهلة وغير مؤتمنة البتة للحديث حتى في أولياته؟.
ثانيا - وأما ما هي أهداف الذين يهاجمون هذه المقررات والمناهج؟ وأقول إن أهدافهم معلومة معروفة للجميع، فقد عرف هؤلاء بدعواتهم المريبة الغريبة التي لا ترتبط بديننا ولا بشريعتنا، فهم يطالبون بأن تكون الحياة الغربية غير الإسلامية هي المثال الذي يجب أن يحتذى، وهم لا يدعون إلى هذا مباشرة عند تصديهم لمناهجنا التعليمية الشرعية تنفيرا منها و تعريضا بها، لأنهم بهذا سيفضحون أهدافهم وسيضعون أنفسهم في موضع العداء السافر لكل ما يمت لهذه المقررات بصلة، ولكن كتاباتهم وحواراتهم وأقوالهم الأخرى وفي مناسبات مختلفة ومن خلال منابرهم وكتبهم وأعمدتهم الصحفية يصرحون بهذا، أي بالرغبة في تقليد الغرب غير المسلم في كل شيء مظهرين ضيقهم من التمسك بالإسلام وقيمه وأحكامه في مختلف جوانب الحياة، وهنا يبطل العجب لأن سبب الهجمة على مقرراتنا الشرعية قد عرف.
إن مقرراتنا الدراسية الشرعية في التعليم العام والعالي هي مقررات إسلامية ملتزمة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دون زيادة ولا نقصان، فمن زاد فقد ابتدع ومن نقص فقد أخل وخان الأمانة، وهي مقررات قائمة على الدليل والفهم الصحيح المنضبط البعيد عن الهوى لأن من قام على تأليف هذه الكتب من العلماء وطلبة العلم والمربين قد وضعوا نصب أعينهم النورين: القرآن الكريم والسنة المطهرة ثم اجتهادات العلماء الأثبات المعتبرين عبر القرون.(4/402)
إن مقرراتنا ومناهجنا الشريعة أمانة في أعناقنا جميعا ولا يجوز التفريط في شيء منها ولا من أبوابها وموضوعاتها التي تمثل الإسلام في تكامله، وإن أي نقص أو انتقاص من هذه المقررات أو حذف أو تغيير فيها هو انتقاص للأمانة، وتشويه لحقيقة الإسلام و تفريط في أمانة التبليغ و ظلم لأبنائنا وبناتنا، بل ظلم للمجتمع المسلم وتفريط في أمانة البليغ، لأن مدارسنا وجامعاتنا مؤتمنة في تبليغها لدين الله لطلابها وطالباتها، وسوف يسأل كل من ولي هذه الأمانة أمام الله وسوف يتحمل نتائج الإخلال بهذه الأمانة ويتحمل نتائج ما يصيب هؤلاء الطلبة والطالبات إبان دراستهم ثم بقية عمرهم من الجهل في دين الله نتيجة الانتقاص أو الحذف أو التحوير، لأن التعليم في المدارس والجامعات هو المسؤول أولا وآخرا عن تربية الأجيال على دين الله وتبليغهم أحكامه التي تكون فهمهم لهذا الدين وتشكل أساس عباداتهم ومعاملاتهم مدى حياتهم وحياتهن، فالله الله في الأمانة، وليتق الله كل من له في هذا الأمر قرار أو له به صلة و أن يكون رضا الله نصب عينيه لأن الله - تعالى- قد قال: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) الشعراء.
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ)، هذا وتبليغ دين الله لهؤلاء الطلبة والطالبات أهم واجب من واجبات الوزارات المعنية، وهو واجب من أهم واجبات الدولة، فلنتق الله في ذلك، ولنتق الله في أنفسنا وفي أبناء وبنات المسلمين الذين هم أمانة في أعناقنا جميعا وسيسألنا الله عن هذه الأمانة حفظنا أم ضيعنا قال الحق - تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) البقرة.
اللهم احفظ من حفظ دينك وبلغه كما أمرت، واهد من فرط وبدل، وأصلحنا وأصلح بنا وأصلح لنا يا رب العالمين.
http://saaid.net المصدر:
===========(4/403)
(4/404)
مناهجنا تغيير أم تغريب
عبد الرحمن العقل
يفدح المصاب ويزداد البلاء على هذه الأمة، وتشتد طوارق الإحن عليها، وتمتد سحائب الفتن على أجيالها، وتتراكم أجواء التمحيص لأبنائها حين يكون خصامها في مسلّماتها، ونزالها في ثوابتها وأصولها.
"إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء فتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة؛ فيقول المؤمن هذه هذه"[أخرجه مسلم في الأمارة عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-].
إن أعظم فتنة، وأقسى زلزلة تواجه الجيل الصاعد في هذا العصر، زلزلة الثوابت، وتشكيك شرائح من منهزمي هذه الأمة في معاقد عزها، ومقاعد ثبوتها وبقائها.
ويقبح الأمر أكثر، وتتصاعد الظلمة وتمتد حين يترجم هؤلاء ما لديهم إلى واقع ملموس، ووضع محسوس، وحين يتخطون التنظير بالأقوال إلى التنفيذ بالأفعال، وهذا ما صدم به هؤلاء المجتمع السعودي في هذه الأيام حينما اجترؤوا على خطوة كبيرة نحو الوراء في مناهج التعليم، بهدف غربلة المجتمع، وبت الصلة بين ناشئته وبين أصولهم وعقائدهم.
إنها الخطوة الجريئة الكبيرة للتمهيد لمشروع أكبر، وهو تغريب الأفكار، وصياغة الإسلام على النظر الأمريكي وهيكلة المجتمع على ما تهواه الأم الحنون.
إنه تحقيق مطلب في سلسلة مطالب تنادي بها هذه الأم.
ورغم النداءات المتعددة من النصحة - قديماً وحديثاً- في التأني والتريث؛ إلا أن القاضي في مجلس الكونجرس قد أصدر حكمه سريعاً، فقطعت جهيزة قول كل خطيب.
ولكن أغلقوا الأسماع عنا وأبدوا ضدنا عقداً دفينة
وأنذرناهم الطوفان لكن أبوا إلا حمى الأسس الحصينة
فلما أن قطعنا بعض شوط إذا بالبعض يخرق في السفينة
نهرناهم عن التخريب لكن أجابوا إن فعلتهم جميلة
فماذا يصنع الإنسان فيهم إذا كانت نصائحنا مهينة؟
فلله الشكاية في غريب يرى طرق السلامة ضد دينه
جاء في تقرير اللجنة الأمريكية المكلفة من مجلس الكونجرس بدراسة وفحص أكثر من تسعين كتاباً مقرراً في مختلف المراحل الدراسية في السعودية، جاء من ضمن فقرات التقرير:
1) إن التعليم السعودي يقوم على الإسلام، والدراسات الإسلامية تشكل جزءاً رئيساً في هذه المقررات حتى الكتب العلمية تشير إلى الإسلام.
2) السعوديون يقولون: إن الإسلام هو أساس الدولة والمجتمع والقضاء والتعليم والحياة اليومية.
3) إنهم يصفون المسيحيين واليهود بأنهم كفار، وأنهم أعداء الإسلام.
4) المناهج السعودية لا تعترف بأي حق لليهود في فلسطين وأرض إسرائيل.
5) في المناهج السعودية تركيز على فصل النساء عن الرجال، وحجاب المرأة.
6) هناك آيات قرآنية كثيرة عن حجاب المرأة، وأهمية الالتزام به، وما تقوم به بعض النساء من كشف أجسامهن لرجال غرباء هو ذنب كبير.
7) حديث نبوي أثار كثيراً من النقاش عن اليهود، يقول:"لن يأتي يوم القيامة حتى يقاتل المسلمون اليهود.. حتى يختفي وراء شجر أو حجر"[انظر مجلة البيان العدد (188) 4/1424هـ].
هذه هي نظرة هؤلاء إلينا وإلى مناهجنا، إنها مساومة وقحة على ديننا وعقيدتنا، إنهم ينزعجون حتى من ذكر الإسلام في مناهجنا.
أيها الأحبة:
هذه بعض الملامح التي تدل على معالم التغيير الأمريكي الجديد الذي يصب لصالح اليهود أولاً، والنصارى ثانياً، ولن يكون هو نهاية المطالب، ولا غاية الرضا عند هؤلاء وأولئك، فحتى لو أُعطوا كل ما يطلبون من التغيير؛ فلن يرضوا بذلك، أو يقنعوا به، لأنه لا حد للجشع اليهودي، ولا سقف للمطالب الصليبية.
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) (ودوا لو تكفرون كما كفروا) (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).
إن مما يؤسف له كثيراً أن عدداً من النخب الثقافية والإدارية في مجتمعنا لديه الاستعداد التام -خوفاً أو طمعاً- لقبول خطة الأمركة التعليمية، ولا مانع لديه لقبول مشروع التغيير كاملاً أو مجزَّءاً.
إن المرحلة القادمة حرجة وفظيعة بكل المقاييس، وربما شهدت معركة ضارية على ديننا وبلادنا، وعلى قيمنا وثوابتنا، وسيكشف كثير ممن يسمون أنفسهم بـ (الليبراليين) عن حقيقة ثقافتهم، وجذورهم، ونحسب أن هذا التيار سيكون الأداة الطيعة الذي سيستخدمه العدو في اختراق الأمة، وتسويق مشاريع الثقافة الأمريكية، وبسط هيمنتها على مراكز الرأي ومصادر التأثير.
وباسم الإصلاح والتطوير ونحوها من الكلمات الجذابة والمصطلحات البراقة، يرفع هؤلاء لواء الإفساد ومشروع التغريب والتخريب.
وليس هذا بدعاً من هؤلاء المتغربين والمتأمركين، فلقد قال الله عن أسلافهم من قبل:(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون* ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
إن قضية تغيير المناهج التعليمية في المنطقة الإسلامية لم تفتر أبداً منذ معاهدة (كامب ديفيد)، مروراً باتفاقيات مدريد؛ إلا أن هذه القضية اشتد الإلحاح عليها بله التهديد لأجلها في هذه الأيام، بعد أن طفت على السطح زمناً.(4/405)
ازدادت هذه القضية زخماًَ، وصعد شأنها بعد أحداث سبتمبر الشهيرة، وذلك من خلال الربط الأمريكي بين المناهج التعليمية المقررة في عدد من الدول الإسلامية -وبالأخص السعودية- وبين ما تسميه الولايات المتحدة إرهاباً.
لقد رأى هؤلاء وأعوانهم من المتأمركين المنهزمين فرصة سانحة في هذه الظروف لإجراء عمليات تغيير واسعة في المنطقة خاصة في أمر المناهج.
قال المنصِّر المشهور (تكلي):"يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية، وتعلموا اللغات الأجنبية".
وقديماً قال زعيم المنصِّرين (زويمر) مهنئاً تلامذته المنصرين:"لقد قبضنا في هذه الحقبة من ثلث القرن التاسع عشر على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، وإنكم أعددتم نشئاً في ديار الإسلام لا يعرف الصلة بالله، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده الاستعمار المسيحي، لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يعرف هِمّة في دنياه إلا في الشهوات؛ فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، إنه يجود بكل شيء للوصول إلى الشهوات"[انظر:"مخطط تدمير الإسلام"لنبيل المحيش، وأيضاً"قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله"لجلال العالم].
هذا ما يريده هؤلاء لأجيالنا الإسلامية، وهم المستهدفون المعنيون بكل هذه المشاريع المرسومة والخطط المدروسة منذ أمد بعيد.
أيها الأحبة في الله:
إن الباعث لأمركة المناهج والداعي لغربلتها كما يريد أسياد أمريكا هو أنها أذنبت وأجرمت جرماً واحداً، إنه (جرم تدريس الإسلام، وتعليم القرآن وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -).
إن جريرة المناهج في بلادنا عند الأسياد والأذناب، أنها تعلم عقيدة الولاء والبراء التي جاء بها القرآن العزيز، وتغرس بغض الكافرين وحب المؤمنين.
هذه المناهج، بهذا البناء والغراس، هي التي فرخت الإرهاب كما يقوله هؤلاء، وهي التي ولدت العنف وبثت التطرف وأنشأت الغلو كما يقول أولئك.
أما المناهج الإسرائيلية المتشددة التي يتربى عليها أبناء يهود؛ فهذه لا تزداد مع الأيام إلا قوة، ولا مع الصراعات إلا تماسكاً وثباتاً وتطوراً إلى الأشد؛ لأنها لا تولد إرهاباً ولا عنفاً عند القوم.
جاء في أول كتاب"حول أدبيات التعليم والثقافة العبرية"للبروفسور أوميركوهين -أستاذ التربية في جامعة حيفا- موضوعاً بعنوان"وجوه قبيحة"يركز فيه مؤلفه على مسألة الصراع العربي الإسرائيلي في أدب الناشئة، واعترف فيه أنه حتى نهاية عام 1984م لم تتغير النظرة المشوهة إزاء الإنسان العربي؛ فالنظرة عدائية، ولم تحل محلها نظرة احترام أو قيم".
وقد تأثر الأدب الصهيوني الطفولي بالفكر الصهيوني العنصري القائم على القومية العرقية، والموغل في الاستعلاء المغلف بمفاهيم وتعاليم توراتية وتلمودية.
وقد شرعت القيادة الصيهونية بتسخير أحلامها وتجنيد طاقاتها الفكرية لصياغة أدب جديد يلائم المرحلة القادمة ويرتكز على جانبين:
1) الجانب الاستعلائي العرقي.
2) الجانب الاستيطاني الاستعماري.
فأما الجانب الأول؛ فيعتبر الأدباء فيه أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وشعبها ليست له هوية، وأن سكانها بدو متوحشون، احتلوا البلاد وخربوها؛ لذا يجب أن يعودوا إلى الصحراء، وأن يستولي اليهود على الأرض، لذا فالحرب قائمة بين العرب واليهود إلى أن يتم طرد العرب الذين صوروا بأقبح الصور، على أنهم قطاع طرق قذرون، ثيابهم رثة، ويمشون وهم حفاة على الأقدام.
أما الجانب الثاني الاستيطاني الاستعماري؛ فينظر فيه إلى العرب والمسلمين على أنهم أشجار بلا جذور يتحتم اقتلاعها عاجلاً أو آجلاً، وأنهم عصابات سرعان ما يهربون من الأرض، وهذا عندهم دليل على عدم الانتماء إلى الأرض التي يعيشون فيها، لذا فإنهم مجرد لصوص يسرقون المياه من أرض الأمة العبرانية.
وهناك العديد من القصص التي أُلفت للأطفال اليهود، هدفُها غسيل أذهان أطفال اليهود، وتصوير المسلم والعربي بأنه قاتل مخادع، وبأن الجندي اليهودي مسالم لا يحب الدم والقتل، وإنما دفعه لذلك المسلم المتعطش للدماء والقتل. كما يُصورون المسلم للطفل اليهودي بأنه يمارس تجارة الجنس التي تنتهي عند التهريب والتخريب وخطف الطائرات. [انظر"مناهج التعليم الإسرائيلية والصراع العربي الإسرائيلي"، إعداد مركز دراسات الشرق الأوسط، الأردن، ومجلة البيان 190 جمادى الآخرة 1424 هـ].
هكذا يربون ناشئتهم في ظل هذه الظروف الحرجة، والصراعات الحادة، ونحن نتوارى بديننا من القوم، ونستحي من بيان عقيدتنا؛ بل نحرفها أو نحذفها لإرضاء القوم.
مصاب جلل أن يخجل بعض قومنا من عقيدة الولاء والبراء التي جاء بها كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم . إننا حين نستجيب لمطالب القوم، ونرضخ لهم بما يريدون بسبب قوة مطرقتهم، نصدق التهمة ضدنا بأن عقيدتنا تفرخ الإرهاب، وسيظلون يتهمون ونحن نغير حتى لا يبقى لنا من ديننا شيء (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).(4/406)
إننا حين نلبي مطامحهم بسبب استفزازاتهم؛ فنغير مناهجنا لا عن قناعة منا إنما لإقناعهم، سنظل أذلاء تابعين مقهورين.
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
يجب أن نصرخ بعقيدتنا بكل عزة وافتخار، ونرفع ألويتنا في كل الوهاد والبحار، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون).
إن هذه المطالب، وهذه التغييرات الجديدة لن تزيد - بإذن الله - أهل الحق إلا قوة في دينهم، ومعرفة أكثر بعدوهم ويقيناً أعظم بوعد ربهم، (لن يضروكم إلا أذى..) ومع كل هذا الإصرار من عدونا، إلا أنا أكثر إصراراً وأقوى سنداً، وأشد إلحاحاً، وأعظم تجلداً مع البلوى (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) إننا ورغم لحوق فئام من أمتنا بركاب عدونا، وانهزامهم في أحلك الظروف وأقساها، لن نلين ولن ننثني، وسنظل جبهة قوية متماسكة لمقاومة كل رياح التغيير والتغريب، ومواجهة كل مشاريع العلمنة والأمركة.
إننا في هذه المرحلة الخانقة الحرجة أحوج ما نكون للتماسك صفاً ملتئماً واحداً ضد الهجمات التغريبية الصليبية القادمة هجمة على الإسلام ورسول الإسلام، وهجمة على المبادئ والمثل والأخلاق، وهجمة على المرأة والأسرة والبيت المسلم، وهجمة أخطر وأكبر على المناهج والتعليم كما سبق آنفاً.
إننا في ظل هذه الهجمة نطالب بتعزيز المناهج وتقويتها، وربطها بالإسلام أكثر مما هي عليه، نعم نطالب بتطويرها إلى الأحسن، وتجديد أساليب عرضها، والتفنن في صياغتها وشرحها. ومن المفارقات أن التعليم الديني في دولة يهود يعزز في كل فترة، ويسير وفق خط بياني قد رُسم له منذ قيام دولة يهود، لا يخطئ هذا الخط مساره قدر أنملة؛ بل يتقدم على الخط المرسوم بقفزات تطويرية تضمن للدولة اللقيطة التفوق العلمي والتقني على مجموع الدول العربية.
هذا ما يحصل للتعليم الديني في المناهج المدرسية الإسرائيلية، في زمن يُطالَب فيه المسلمون بتصفية المدارس الدينية، وتقليص - بل حذف- كثير من ثوابت الإسلام وأصوله.
ماذا يُراد بأمة الإسلام من ثلة مأجورة الأقلام
وهبوا الولاء وحبَّهم لعدوهم وتلطخوا بالحقد والإجرام
ما إن تحدق فتنة حتى يُروا ما بين رائش سهمه أو رام
هم أثخنونا من وراء ظهورنا وتكشفوا في أحلك الأيام
يا أمة الإسلام أين مصيرنا نمنا، وأمسى القوم غير نيام
ها هم يكيدون(المناهج)جهرة ويجففون منابع الإسلام
يتكففون رضى العدو وما جنوا غير الإهانة منه والإرغام
والله لن ترضى اليهود ولا النصا رى عن (مناهجنا) مدى الأعوام
حتى نوافقهم ونتبع دينهم ونسير خلف ضلالهم بخطام
يا أمتي صبراً فلن نصل العلا إلا على صرح من الآلام
وتحمل الأعباء أجدر بالفتى من أنّة الشكوى والاستسلام
ومن القنوط إذا أحاط به الأسى ومن الهروب لشرفة الأحلام
يا أمتي ليس الدواء بدمعة نشكو بها من جرأة الأقزام
لكن بعزم صادق وإرادة نقفو بها آثار خير إمام
ونرد كيد المبطلين بنحرهم ونعيدهم لعدالة الإسلام
والله خيرٌ حافظاً وموفقاً أعظم به من خالق علام
وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
http://www.islamtoday.net المصدر:
============(4/407)
(4/408)
المجلات الخليعة ومخاطرها
الحمد لله وحدة، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد أصيب المسلمون في هذا العصر بمحن عظيمة، وأحاطت بهم الفتن من كل جانب ووقع كثير من المسلمين فيها، وظهرت المنكرات، واستعلن الناس بالمعاصي بلا خوف ولا حياء، وسبب ذلك كله: التهاون بدين الله وعدم تعظيم حدوده وشريعته وغفلة كثير من المصلحين عن القيام بشرع الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنه لا خلاص للمسلمين ولا نجاة لهم من هذه المصائب والفتن إلا بالتوبة الصادقة إلى الله - تعالى- وتعظيم أوامره ونواهيه، والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحق أطرا.
وإن من أعظم الفتن التي ظهرت في عصرنا هذا ما يقوم به تجار الفساد وسماسرة الرذيلة ومحبو إشاعة الفاحشة في المؤمنين: من إصدار مجلات خبيثة تحاد الله ورسوله في أمره ونهيه فتحمل بين صفحاتها أنواعا من الصور العارية والوجوه الفاتنة المثيرة للشهوات، الجالبة للفساد، وقد ثبت بالاستقراء أن هذه المجلات مشتملة على أساليب عديدة في الدعاية إلى الفسوق والفجور وإثارة الشهوات وتفريغها فيما حرمه الله ورسوله ومن ذلك أن فيها:
1- الصور الفاتنة على أغلفة تلك المجلات وفي باطنها.
2- النساء في كامل زينتهن يحملن الفتنة ويغرين بها.
3- الأقوال الساقطة الماجنة، والكلمات المنظومة والمنثورة البعيدة عن الحياء والفضيلة، الهادمة للأخلاق المفسدة للأمة.
4- القصص الغرامية المخزية، وأخبار الممثلين والممثلات والراقصين والراقصات من الفاسقين والفاسقات.
5- في هذه المجلات الدعوة الصريحة إلى التبرج والسفور واختلاط الجنسين وتمزيق الحجاب.
6- عرض الألبسة الفاتنة الكاسية العارية على نساء المؤمنين لأغرائهن بالعري والخلاعة والتشبه بالبغايا والفاجرات.
7- في هذه المجلات العناق والضم والقبلات بين الرجال والنساء.
8- في هذه المجلات المقالات الملتهبة التي تثير موات الغريزة الجنسية في نفوس الشباب والشابات فتدفعهم بقوة ليسلكوا طريق الغواية والانحراف والوقوع في الفواحش والآثام والعشق والغرام.
فكم شغف بهذه المجلات السامة من شباب وشابات فهلكوا بسببها وخرجوا عن حدود الفطرة والدين.
ولقد غيرت هذه المجلات في أذهان كثير من الناس كثيرا من أحكام الشريعة ومبادئ الفطرة السليمة بسبب ما تبثه من مقالات ومطارحات. واستمرأ كثير من الناس المعاصي والفواحش وتعدي حدود الله بسبب الركون إلى هذه المجلات واستيلائها على عقولهم وأفكارهم.
والحاصل: أن هذه المجلات قوامها التجارة بجسد المرأة التي أسعفها الشيطان بجميع أسباب الإغراء ووسائل الفتنة للوصول إلى: نشر الإباحية، وهتك الحرمات، وإفساد نساء المؤمنين، وتحويل المجتمعات الإسلامية إلى قطعان بهيمية لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، ولا تقيم لشرع الله المطهر وزنا ولا ترفع به رأسا، كما هو الحال في كثير من المجتمعات، بل وصل الأمر ببعضها إلى التمتع بالجنسين عن طريق العري الكامل فيما يسمونه (مدن العراة) عياذا بالله من انتكاس الفطرة والوقوع فيما حرمه الله ورسوله.
هذا وإنه بناء على ما تقدم ذكره من واقع هذه المجلات ومعرفة آثارها وأهدافها السيئة وكثرة ما يرد إلى اللجنة من تذمر الغيورين من العلماء وطلبة العلم وعامة المسلمين من انتشار عرض هذه المجلات في المكتبات والبقالات والأسواق التجارية فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ترى ما يلي:
أولا: يحرم إصدار مثل هذه المجلات الهابطة سواء كانت مجلات عامة، أو خاصة بالأزياء النسائية، ومن فعل ذلك فله نصيب من قول الله - تعالى-: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.... الآية" [النور:19].
ثانيا: يحرم العمل في هذه المجلات على أي وجه كان سواء كان العمل في إدارتها أو تحريرها أو طباعتها أو توزيعها، لأن ذلك من الإعانة على الإثم والباطل والفساد والله - جل وعلا- يقول: "وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [المائدة:2].
ثالثا: تحرم الدعاية لهذه المجلات وترويجها بأية وسيلة؛ لأن ذلك من الدلالة على الشر والدعوة إليه؛ وقد ثبت عن النبي إنه قال: {من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا} أخرجه مسلم في صحيحه.
رابعا: يحرم بيع هذه المجلات، والكسب الحاصل من ورائها كسب حرام، ومن وقع في شيء من ذلك وجب عليه التوبة إلى الله - تعالى- والتخلص من هذا الكسب الخبيث.
خامسا: يحرم على المسلم شراء هذه المجلات واقتناؤها لما فيها من الفتنة والمنكرات، كما أن في شرائها تقوية لنفوذ أصحاب هذه المجلات ورفعا لرصيدهم المالي وتشجيعا لهم على الإنتاج والترويج. وعلى المسلم أيضا أن يحذر من تمكين أهل بيته ذكورا وإناثا من هذه المجلات حفظا لهم من الفتنة والافتتان بها وليعلم المسلم أنه راع ومسئول عن رعيته يوم القيامة.(4/409)
سادسا: على المسلم أن يغض بصره عن النظر في تلك المجلات الفاسدة طاعة لله ولرسوله وبعدا عن الفتنة ومواقعها وعلى الإنسان ألا يدعي العصمة لنفسه ففد أخبر النبي أن الشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدم. وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى- : كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلاء! فمن تعلق بما في تلك المجلات من صور وغيرها أفسدت عليه قلبه وحياته وصرفته إلى ما لا ينفعه في دنياه وآخرته؛ لأن صلاح القلب وحياته إنما هو في التعلق بالله جل جلاله وعبادته وحلاوة مناجاته والإخلاص له وامتلاؤه بحبه - سبحانه-.
سابعا: يجب على من ولاه الله على أي من بلاد الإسلام أن ينصح للمسلمين وأن يجنبهم الفساد وأهله ويباعدهم عن كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم ومن ذلك منع هذه المجلات المفسدة من النشر والتوزيع وكف شرها عنهم وهذا من نصر الله ودينه، ومن أسباب الفلاح والنجاح والتمكين في الأرض كما قال الله - سبحانه-: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" [الحج:41،40].
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس - عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل شيخ
عضو - عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
عضو - بكر بن عبد الله أبو زيد
عضو - صالح بن فوزان الفوزان
http://www.kalemat.o r g المصدر:
=============(4/410)
(4/411)
حديث الذكريات
ورجع يجر أذيال الخيبة!
محمد توفيق أحمد
- رحمه الله -
أذكر أنه إبان الحرب العالمية الأولى، أقام التبشير الأمريكي داراً له في باب الشعرية بالقاهرة، يشرف عليها القس المبشر [جلوي] وظل يعقد الاجتماعات، ويُلقي المحاضرات، ويقدم الإغراءات المختلفة، فلا يحضرها إلا قلة من ذوي الحاجات!
وأخيراً قرر العودة إلى أمريكا تاركاً نشاطه لنائبه المصري الذي تابع نشاطه بهمة عظيمة، ووزع الكساء والمال بسخاء على رواد دار التبشير من فقراء المسلمين، وزاد الإقبال على الدار بغية الحصول على المنح المادية، وأرسل النائب صورة من هذا النشاط الكبير، وعن العدد العظيم الذي يؤم الدار يومياً لرئيسه في أمريكا طالباً المزيد من العون، وزادت دهشة القس [جلوي] لذلك فقد عاش يخدم داره هذه أكثر من عشر سنوات، ولم يفز بمثل هذا النجاح، فقرر زيارة مصر ثانية، وأعلن نائبه عن ذلك، ودعا الناس لحضور حفل استقباله، وامتلأت دار التبشير هذه بالزبائن، أملاً في الحصول على مزيد من المنح!
وقام النائب بتقديم القس للحاضرين على أنه منشئ هذه الدار، ورب هذه النعمة التي تُقدم إليهم، ثم وقف القس بعد ذلك ليقول كلمته، وبعد هنية تفرس فيها وجوه هذه الجمهرة الكبرى، قال بصوت عالٍ: " وَحِّدُوه …! " وسرعان ما انطلق الجميع في صوت واحدٍ: " لا إله إلا الله، محمد رسول الله ".
فنظر إلى نائبه نظرة عتاب على ما أنفقه لهؤلاء القوم من أموال، ثم تكلم كلمة عامة عن المحبة، وأخيراً قرر إنهاء خدمة نائبه، وإنهاء العمل، وتصفيته!، وعاد إلى أمريكا يجر أذيال الخيبة.
http://www.islamic-mail.com المصدر:
============(4/412)
(4/413)
المسلم الجديد
ماجد بن محمد الجهني
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فإن من المعلوم أن هناك توجه نصراني عالمي لنشر ثقافة الردة بين جموع المسلمين التي يراد لها أن تتحول إلى جموع ممسوخة العقيدة ممسوخة الخلق ممسوخة التفكير، وهذا النشاط النصراني واضح وجلي من خلال ما تقوم به أمريكا قائدة المسيحية في هذا العصر التي تريد من المسلمين أن يقوموا بأنفسهم بتقطيع أوصال دينهم واللعب بأحكامه، ومن ثم يسهل لها استنساخ مسلمين جدد على الطراز الأمريكي ومتوائم مع الموضة الغربية عموما التي تحبذ الطراز المسخي على الأصيل.
ولاشك أن لهذا المسلم الجديد، أو لهذا الممسوخ الجديد مواصفات، ومقاييس، ومعايير تم وضعها من قبل الحزب اليميني المتطرف المسيحي واليمين المتطرف اليهودي، وهذه المعايير لا تمنع هذا المسخ من أداء عباداته كالصلاة والصيام والحج وإن كانت لا تنصح بذلك بكثرة ولكنها أيضاً تحرم عليه وبشدة أن يؤمن بعقيدة الولاء والبراء، أو يعتنق شعيرة الحب في الله والبغض في الله؛ لأنها تنمي روح البغضاء والكراهية للآخر فهي عقيدة تعلم حب المؤمنين الصالحين فقط وما يراد من هذا المسلم الجديد هو أن يحب الناس جميعا ويستوي لديه حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم جميعا - مع حب فرعون وهامان والنمرود وشارون وبوش الأب والولد وحب قولدا مائير فهؤلاء جميعا يشتركون في الآدمية وهذه هي العقيدة الجديدة التي تريد أمريكا النصرانية تصديرها للعالم الإسلامي، وكذلك من مواصفات هذا المسلم الجديد أنه لا يؤمن بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه اعتداء صارخ على حريات الآخرين فلا بأس من التصفيق للزاني والزانية ولشارب الخمر وللمرابي وللوطي فهؤلاء يمارسون حرياتهم والاحتساب عليهم تطرف وإرهاب.
ومن الصفات اللائقة بالمسلم الجديد الذي تريده أمريكا المجرمة أن يكون بعيدا كل البعد عن التفاعل مع قضايا إخوانه المسلمين في أنحاء العالم فهو لا يحزن لمصاب المسلمين ولا يتكافل مع المظلومين منهم ولا يتصدق لنصرة دينه فهذا عبث جنوني وتطرف ومساعدة للإرهاب والإرهابيين في العالم، ومما يجب على هذا المسلم الجديد اعتقاده أنه لا يوجد شيء اسمه الجهاد في سبيل الله لأن هذا الجهاد مفهوم يعلم بغض الآخر وينمي ثقافة العنف وخصوصا إذا كان دفاعا عن مقدسات المسلمين وأعراضهم وحرماتهم أمام عدو غاصب نصراني أو يهودي أو شيوعي أو هندوسي فمقاومة العدو ودفع الصائل جرم خطير قد يدرج صاحبه تحت قائمة الإرهابيين الدوليين المطلوبين للعدالة الأمريكية البائسة.
وهذا المسلم الجديد بما لديه من بعد نظر وشمولية وعمق فكري يتفهم بشكل حضاري كل ما تقوم به أمريكا من قتل للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لأنه من باب الحرب على الإرهاب وليس موجها ضد المسلمين كما أن احتلال بلاد المسلمين إنما هو من باب تعليمهم كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم وبالنسبة لمسألة البترول العراقي المنهوب القصد منه أن تقوم شركات دك تشيني باستثماره للعراقيين في أمريكا إلى أن يستطيعوا تشكيل دولة لحماية هذه الثروات.
والمسلم الجديد متفهم أيضا للأهداف الإسرائيلية السامية من وراء هدم البيوت على رؤوس أهلها وذلك لأن قتلهم ليس الهدف من هذا الهدم وإنما الهدف هو إعادة ترميم تلك البيوت الفلسطينية المتهالكة، وأما ما يحدث من أهل فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والفلبين وأفغانستان من مقاومة للاحتلال فهذا هو التطرف والغلو بعينه ومينه وهذا هو الإرهاب بأبشع صورة وأوضح معانيه إذ كيف يليق بالمسلم المثقف المتنور والمتحضر أن يمارس مقاومة أسياده المحتلين الذين جاءوا لنشر الديموقراطية والسلام؟؟!!
إن على المسلم الجديد في مفهوم أمريكا أن يرمي بجهاد شعب فلسطين عرض الحائط وأن يعتبر حماس والجهاد الإسلامي منظمات إرهابية لأنها تريد استعادة مقدسات المسلمين، وهذا النوع من الإسلام هو مفهوم الردة الذي تريد أمريكا وإسرائيل وذنبهم المنافق الاتحاد الأوروبي وحفنة من علمانيي العالم العربي فرضه على المسلمين.
إنها عملية غسل دماغ كبرى للمسلمين تريد تركيعهم وإجهاض تطلعاتهم ولهذا نجد اقتراحات متوالية فتارة يقترحون حذف آيات من القرآن الكريم واستبدالها بنصوص إنجيلية، وتارة يصمون الجهاد في سبيل الله بأنه إرهاب لأنهم يرون أن الواجب على أي قطر إسلامي تطؤه أقدام الاحتلال أن يرضخ وأن يركع وأن يقول سمعا وطاعة للمحتل بل ويجب على أهل ذلك القطر جميعا وجوبا عينيا أن يقابلوهم بالورود والزهور ولكن هل نجحت أمريكا في فرض هذا اللون من الدين الذي تريده على المسلمين ؟؟؟(4/414)
الجواب طبعا كلا وألف كلا فأمريكا لم تجد من يسوق لبضاعتها المسخ في عالمنا إلا حفنة من الغربان المفلسة التي تجاوزها قطار الزمان والمكان والتي أصبحت في عالم قصي تعيش مع الزواحف والديناصورات البائدة في متاحف الهالكين، وأما الشريحة الكبرى من المسلمين فهي تدين الله - عز وجل - بأن قائدة الإرهاب في العالم هي أمريكا وإسرائيل والغالبية العظمى في العالم الإسلامي نما وعيها وعلا صوتها وزادت عزيمتها واستجمعت شكيمتها لتقول بصوت يشق عنان السماء: كفرنا بأمريكا.. كفرنا ببوش... كفرنا بإسرائيل وشارون وآمنا بالله وحده...لسان حالهم وقالهم " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين "
http://www.saaid.net المصدر:
============(4/415)
(4/416)
رجل قميء.. امرأة جاهلة!
عودتنا "الدراما" العربية ومن قبلها الأعمال الأدبية على صورة نمطية لأهل التدين من الرجال والنساء؛ فالرجل قميء جلف، يسبق سخطه رضاه، ينتزع الابتسامة من بين أسنانه، لا ليبشر بها الناس، وإنما ليعلن لهم مصيرهم الذي ينتظرهم في النار والسعير إن هم خالفوا أمره أو حادوا عن رأيه!
أما المرأة المتدينة فهي جاهلة لا تعرف من الكلام إلا كلمات محدودة، مثل "حاضر.. طيب.. إن شاء الله" مسلوبة الإرادة، مغلوبة على أمرها، معطلة الفكر، لا تصلح إلا أن تكون كالأرنب تنجب الأطفال وترضعهم وتطعمهم فحسب!
على الجانب الآخر فالرجل المنفلت.. جميل، مهذب، ومتحضر أيضاً، يعرف كيف يلاطف الناس ويداهنهم، ولا بأس بسوء أخلاقه أو فساد ذمته وتعاملاته مع الآخرين، المهم أنه لا يؤذي أحداً إيذاء ظاهراً يترتب عليه تنفير الناس أو فقد حبهم!
والمرأة المنفلتة ليست أحسن حالاً من الرجل المنفلت، فمن أولى علامات إيجابيتها وتفاعلها مع من حولها: أن توزع الابتسامات لمن تعرف ولمن لا تعرف، وأن تتحلل من عصر الحريم والجمود، فالملابس القصيرة والألوان الزاهية والعطور النادرة ما صنعت إلا لأجلها هي، ولأجل أن يتمتع من تصادقه أومن تحبه من الرجال، ويجب عليها أن تتمرد على أهلها وأسرتها، وأن تتحدى العالم أجمع في سبيل تحقيق بغيتها في مرافقة من تحب، وإلا فما الفرق بينها وبين تلك الجاهلة التي لا تعرف من دنياها إلا كلمات "حاضر.. طيب.. إن شاء الله"؟!!
واليوم.. قد انتبه أهل التدين والالتزام، رجالاً ونساء، إلى الدور الذي يلعبه المضللون من خلال الأدبيات ووسائل الإعلام؛ فتوجهوا إليها، وعملوا على تجلية الصورة الحقيقة بدأب وإخلاص، فانتشرت الحقيقة، واندحرت الأباطيل، وأصبحت أكاذيب "الدراما" والأدبيات التي تدندن كالسابق لا تلقى رواجاً ولا تجد من يلتفت إليها أصلاً، فبواسطة الإنترنت والفضائيات استطاع المتلقي أن يميز الأفكار الطيبة من الأفكار الخبيثة، واستطاع أن يوازن بين الصورة النمطية والصورة الجديدة التي يطالعها لأهل التدين في الفضائيات والإنترنت؛ ليكتشف "الإرهاب الفكري" الذي مورس علي عقله من قبل، فيكفر بكل هذه الأباطيل، ويؤوب إلى الحق، ليدرك أن أهل التدين رجالاً ونساء هم الأجمل والأرحم والأحب إلى الله، وأن أهل الباطل وأهل الهوى من الرجال والنساء المنفلتين لا يباريهم في قمائتهم وجهلهم إلا اليهود صانعو هذه الألاعيب وأصحاب السبق في غرسها في ديارنا منذ أكثر من نصف قرن!
http://www.lahaonline.com المصدر:
=============(4/417)
(4/418)
الإسلام والغرب في وسائل الإعلام الغربية
د. مازن مطبقاني
موضوع الإسلام والغر ب من موضوعات الساعة،وأصبح يطرق بكثرة في وسائل الإعلام،فلمَ هذا الاهتمام والزخم الإعلامي الكبير حول هذا الموضوع؟
لقد دأبت وسائل الإعلام الغربية على الاهتمام بالإسلام والمسلمين منذ ظهور الحركات الإسلامية بقيادة العلماء المسلمين داعية إلى التحرر من النفوذ الغربي، وكان تناولها لهذه الحركات يتسم بالهجوم على هذه الحركات ووصمها بالتعصب والدعوة إلى كره الأجنبي. وتناولت قضايا محدودة في الإسلام كمسألة علاقة الإسلام بالحضارة الغربية، وموضوع المرأة، ووضع الأقليات غير المسلمة في البلاد الإسلامية، لقد اهتمت وسائل الإعلام الفرنسية مثلا بحركة الشيخ عبد الحميد بن باديس - رحمه الله- (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) كما اهتمت الصحافة الإنجليزية والأمريكية بحركات التحرر في البلاد التي كانت خاضعة للنفوذ الإنجليزي.
وما زلت أذكر مقالة الشيخ عبد الحميد بن باديس (حيث أصدرت ترجمة للشيخ في سلسلة أعلام المسلمين) بعنوان:"وخز الدبابيس " ينتقد فيها جريدة الطان الفرنسية Le Temps التي سماها " عجوز الصحف الفرنسية" لتناولها الإسلام بأسلوب يتسم بالعداء والتهجم.
ولم يتوقف اهتمام الإعلام الغربي بالإسلام وقضايا المسلمين، فالإعلام الغربي بالرغم من أنه ليس إعلاما حكوميا لكنه يميل إلى تأييد مواقف الحكومات الغربية التي تحرص على مصالحها الرأسمالية، والإعلام تملكه (الرأسمالية الغربية) وكان الإعلام الغربي يحارب على جبهتين: الشيوعية، والإسلام، وكان يقرن بينهما دائما. حتى إذا سقطت الشيوعية وجد الإعلام الغربي فراغاً كبيراً مما جعله يتجه إلى ملئه بالعداء المضاعف للإسلام. وقد نبهت إلى ذلك نشرة تصدر عن معهد هارتفورد اللاهوتيHa r tfo r d بمقالة بقلم رئيس مكتب الاهتمامات النصرانية الإسلامية القس مارستون سبايت r ev.Ma r ston Spight حيث ذكر القس أن انتهاء الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والشيوعي يثير تساؤلا: هل يصبح الإسلام الشبح الجديد؟ وقد جاء في المقال:"لم تعد قوة العالم الشيوعي تشكل تهديداً كما كانت في الماضي وذلك نتيجة للأحداث الصاخبة والمدهشة في أوروبا الشرقية، وهكذا وجد الأمريكيون الذين كانوا يسهبون في الحديث عن الخطر المفترض من الشيوعية، وجد هؤلاء أنفسهم فجأة محرومين من موضوعهم المحبب... وقال القس:" والسؤال الذي يطرح نفسه هل تختار العناصر (الإعلام) التي تتولى تحذير الشعب الأمريكي من الخطر مجموعة أخرى من البشر لوضعها أمام الجمهور على أنها تهديد لأمريكا والعالم؟ إن الصورة السيئة التي يصوَّر بها الإسلام في وسائل الإعلام الأمريكية تثير انتباه بعضنا إلى جعل الإسلام الشبح الجديد." وقد أكد القس كلامه بأمثلة من الصحافة الأمريكية تتمثل في تلخيص لمقال لكاتب أمريكي هو شارلز كروتهامر Cha r les K r uthamme r
لا شك أن اهتمام القسيس يثير التساؤل، فهل كانت صورة الإسلام في الإعلام الغربي جيدة قبل نهاية الحرب الباردة؟ وكأنّ القسيس يريد أن يبرّئ الإعلام الغربي والمنصرّين من إثارة العداء ضد الإسلام قبل سقوط الشيوعية. وقد نبهت إلى هذا العداء ضد الإسلام وقبل سقوط الشيوعية حينما تحدث نائب الرئيس الأمريكي دان كويل في خطابه الذي ألقاه في حفلة تخريج دفعة من البحرية الأمريكية يوم 30 مايو 1990 فربط فيه بين الإسلام والشيوعية على أنهما أكبر الأخطار التي تواجه العالم في القرن العشرين، وقد صور نائب الرئيس الحركات الإسلامية بأنها حركات" أصولية" متشددة.
إن اهتمام وسائل الإعلام بالعلاقة بين الإسلام والغرب له أسباب كثيرة منها أن معظم البلاد العربية الإسلامية تعتمد حكوماتها على الدعم الغربي في صور عديدة أهمها الديون الخارجية التي بلغت مئات البلايين من الدولارات،والدعم المعنوي للأنظمة الحاكمة، وأن الغرب هو الذي يرعى مسألة الصلح مع اليهود وهذه نقطة خلاف رئيسة بين الحكومات العربية الإسلامية التي تنفذ مشيئة الغرب وبين الحركات الإسلامية
ولاشك أن في الغرب بعض الأصوات المعتدلة التي تحاول أن تنظر إلى العلاقة بين الإسلام والغرب نظرة موضوعية، ومن هؤلاء أساتذة جامعيون ومفكرون وسياسيون، ويجب أن نتساءل ما حجم هذا التيار المعتدل، وما حجم نفوذه؟ إن الوقت الذي تحدث فيه الأمير شارلز ولي عهد بريطانيا حديثا نال الاستحسان والإعجاب في العالم الإسلامي نتساءل هل له تأثير حقيقي في بلاده؟ الأمير يمتدح الإسلام ورئيس الوزراء يلتقي سلمان رشدي، والحكومة البريطانية تنفق آلاف الجنيهات على حماية هذا المارق، وتبخل بالقليل على المدارس الإسلامية حتى لو كان المتقدم بطلب المساعدة بريطانيا أباً عن جد وهو يوسف إسلام الذي استاء من موقف حكومته فتقدم يشكوها إلى لجنة حقوق الإنسان الأوروبية.
http://medinacente صلى الله عليه وسلم o r g المصدر:
=============(4/419)
(4/420)
الإسلام.. لحظة حاسمة
عبدالواحد الحميد
أن تكون أمريكا أو غيرها دولة كبرى فهذا لا يعني أن القيم والأخلاقيات السائدة فيها هي الأفضل.. لكن المشكلة أن الدولة القوية أو الدولة المنتصرة تصبح - بالتدريج - قدوة.. وهذه هي العلاقة القديمة بين سيكولوجية المهزومين والمنتصرين كما أشار إليها ابن خلدون في كتاباته.
فالمجتمع الأمريكي يشهد تحولاً أخلاقياً خطيراً رغم كل ما يُقال عن سيطرة المحافظين سياسياً.. فالواقع أن النزعة الليبرالية المتحررة هي المسيطرة على المجتمع الأمريكي أخلاقياً.. وخصوصاً ما يتعلق بالقيم الاجتماعية. وعندما تكون أمريكا قدوة عالمية في هذا المجال، فذلك يعني أن العالم يواجه خطراً يهدد قيمه وأخلاقياته.
إنهم في أمريكا يتحدثون، على سبيل المثال، عن حرية زواج المثليين حيث يتزوج الرجل رجلاً وتتزوج المرأة امرأة ويقيمون "عائلة" ويتوارثون وتطبق عليهم كل الامتيازات والحقوق والواجبات التي تُطبق على "عائلة حقيقية".. وقد أجازت كندا أيضاً ذلك.. أما أمريكا فقد تم اتخاذ خطوة اُعتبرت مقدمة عندما قضت المحكمة الدستورية في شهر يونيو الماضي بأن قوانين ولاية تكساس المناهضة للواط غير قانونية. وقد وصف أحد كُتَّاب جريدة نيويورك تايمز هذا الحكم، في حينه، بأن المحكمة الدستورية قد قررت أن "توصد غرف النوم في أمريكا على أهلها" باعتبار أن ما يحدث داخل غرف النوم هو شأن خاص وليس من حق الحكومة أن تتدخل فيه.
الواقع أن هذا هو شأن الأمريكيين.. لكن المصيبة هي مدى تأثيرهم على العالم في ظل الحقيقة التي نشاهدها وهي أن الأمريكيين يرون أن قيمهم هي "القيم الصحيحة" التي يجب على العالم أن يعتنقها وإلا تم وصفه بأنه متخلف وظلامي وغير ديمقراطي.. وربما إرهابي!
وقد كتبت من قبل، وربما أكثر من مرة، كما كتب غيري عن الدور الغائب للإسلام لإنقاذ العالم من جهالاته وإباحياته في هذه المرحلة بالذات بعد الهجمة الشديدة لثقافة الإباحة والشذوذ وكل قذارات ما يُوصف بالعالم المتقدم.. فالمؤسف أن الإسلام لا يأتي ذكره إلا في إطار كراهية الآخرين وقتلهم.. وقد صار "الإسلام" مفردة مرادفة لـ "الإرهاب" في الإعلام العالمي.. ولذلك يصعب على الغربيين تصور أن يكون الإسلام هو المنقذ.
لقد أسهم المسلمون - للأسف - بتكريس هذه الصورة المرعبة عن الإسلام، رغم أنه دين الرحمة والمودة والفضيلة.. ولاشك أن علماء المسلمين مطالبون بتغيير هذه الصورة من خلال إبراز هذه الجوانب وإعطائها أولوية مطلقة في طروحاتهم.
إن ما يجتاح العالم من إباحية وشذوذ أمرٌ مرعب.. ويكفي أن تتجول في شوارع أي مدينة أوروبية أو أمريكية بل وحتى بعض مدن آسيا وأمريكا الجنوبية أو أن تشاهد فضائيات تلك البلدان كي ترى كيف أصبحت ثقافة العري واستغلال جسد المرأة هو الشيء الطبيعي.
إن دور الإسلام في إعادة الحضارة الإنسانية إلى الفضيلة والأخلاق الحميدة هو دور أساسي في الوقت الحاضر.. لكن المسلمين - للأسف - ليسوا بالنموذج المغري للآخرين للاتباع.. وفي هذا خسارة عظيمة للإنسانية.
http://w r ite r s.al r iyadh.com.sa المصدر:
=============(4/421)
(4/422)
المرأة ومغالطة الحقائق
مصعب الطيب
يقول المتنبي:
أومن يغالط في الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع
ما علاقة قضية المرأة بهذا البيت المعبِّر؟! .. ببساطة شديدة - أيها الكرام - أحاول أن أجيب.
عندما تتأمل مجموعة كبيرة من المنشورات في ساحة النشاط الطلابي - مثلاً - أو حزمة مقالات صحفية أو بعض الكتابات التي تطرق قضية المرأة تجد نفسك (محاصَراً!) بنمط وحيد تجاه المرأة يتحدث عن ضرورة (إقحام!) المرأة في كل الأعمال - والموضوعيون جداً ربما يضيفون على استحياء.. "التي تناسبها"!! - ويتحدثون عن مفاسد تعطيل نصف المجتمع والتنفس برئة واحدة! هذا النمط لا يملّ ترديد الدعوة للرجل بفك أسر المرأة وتحريرها وعدم هضمها حقها، ويحذّر بالويل والثبور وعظائم الأمور من عودة التخلّف والرجعية التي تسجن المرأة وتنتهك إنسانيتها!! موجز ما يدعو إليه هؤلاء هو (المساواة) بين الرجل والمرأة، وأن على الرجل أن يمنح المرأة ما استلب (عنوةً) من حقوقها.
وحتى لا يكون لقارئ تلك (الأراجيف) أي فرصة للبحث والتمحيص والتدبر فإنه لا تكاد تمر مقالة إلاّ بعد أن تشن هجوماً كاسحاً وإرهاباً فكرياً عنيفاً على كل من تسوّل له نفسه التشكيك في صحة تلك الدعوى.
وبناءً على الحيثيات أعلاه فإن:
أولاً: (وإجمالاً) هذه دعوى تحمل في سردها ما يكفي لردّها بحمد الله.
ثانياً: نبرة (التنازل والمنح) التي يطالبون بها الرجل، أليس فيها حجة ضد زعمهم هذا؟ وإلاّ فوفق أي منطق يكون الرجل دائماً - عبر كل صفحات التاريخ والمجتمعات - هو الظالم المهيمن؟! كان يجب ألاّ يكون كذلك لو صحّ ادّعاء هؤلاء.
ثالثاً: أمّا (المساواة) فهي خدعة سخيفة تنهار عند أول اختبار عملي؛ فلا شك أبداً أن مطالبة المرأة بالوقوف في صفوف الإجراءات الحكومية - مثلاً - في وهج الهجير مع الرجال، أو نشر إعلان وظائف (لأعمال شاقة) للنساء فقط، أو التصرف معها على نحوٍ لا يليق إلا مع الرجال.. لا شكّ أن هذا إهانة وتحقير لها.. لماذا؟ لأن الأمر بداهةً لا فلسفة فيها هو "المرة ما زي الراجل.." كما تعبّر السجية السودانية ببراءة.
رابعاً: لم يزعم أحدٌ البتة أن (العدل والإنصاف) دائماً في مطلق التسوية! بمعنى أنه يجب أن يساوى بين (المتماثلات) فقط لا غير! ويُفرَّق بين المختلفات.
والتماثل إنما يكون في أسس وأصول الحكم الموجبة للتساوي لا مجرد التشابه في بعض المظهر والمخبر، وإلاّ عُدّ جوراً وظلماً كبيراً وانتهاكاً للحقوق. وأي ظلم أعظم من تكليف النحيل من الناس كلفة الجسيم أو العجوز كلفة الشاب الطرير، ولا حاجة في تقرير حاصل مؤدّاه أن المرأة ليست كالرجل في خلقته وطباعه.
خامساً: ماذا لو تبنّى أحدٌ رأياً يقضي بضرورة (إقحام) المهندسين في مهنة التطبيب بحجة استثمار إمكانيات المجتمع فيما هو أجدى وتشغيل الطاقات المعطّلة والبناء والتعمير، ألا يُعَدّ هذا سفاهةً وسذاجةً منقطعة النظير تستدعي منا دوراتٍ تثقيفية عن "أهمية التخصص" واحترامه، ونتحدث في الصحف عن مخاطر "تقمّص وانتحال الأدوار" في انهيار بنيان المجتمع. وتستدعي منا نشر كتب تنظر في قضية "تنويع التخصصات والمهام" وتعدد مزاياها، ونشجب بشدة - عبر كل أجهزة الإعلام - أي محاولاتٍ للحد من قدر أي تخصص ما، أو تحقير أي وظيفة كانت. ولربما نطالب بأن يُحاكَم صاحب هذه (الخرافة!) بتهمة "الخيانة العظمى" للمجتمع المتحضر!! وإن يكن فما بال أقوامٍ يصرّون على تبخيس دور المرأة في إنشاء الأجيال وصيانة بيت الزوجية؟ وقديماً قيل: (إذا كان الرجال هم الذين يصنعون الحضارة؛ فإن النساء هنّ اللاتي يصنعن الرجال)، ولماذا يتمسك أولئك بزج المرأة في مهام تخرجها عن حياتها وأنوثتها، وتعكّر عليها عفتها، وتُطْمِع في نفسها مَن في قلبه مرض وتخرجها -من قبل- من أنبل وأشرف الوظائف التي هي أهلها:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددتَ شعباً طيّب الأعراقِ
سادساً: قضية المرأة (صناعة رجالية) تأليفاً وبطولةً وإخراجاً - وعلى حدّ زعمهم - فالرجال هم الذين تعسّفوا وظلموا ابتداءً، ثم تنادموا فأدانوا، ثم تواطئوا على لزوم (اقتلاع!) حقها منهم انتهاءً! بينما يبقى صوت المرأة مهما ارتفع على هامش الصراع. فماذا يعني هذا؟ نحيل السؤال بطبيعة الحال إلى أولئك النفر من (الرجال)..
سابعاً: زخم معركة المرأة.. (المفتعل) يوحي بشكل واضح (وفاضح) إلى أن ثمة "مآرب أخرى" تتخفى خلف ذلك الحماس الجهير للقضية وسيل دغدغة المشاعر الأنثوية والإطراء المنمّق والتشبث المريب لكل ما من شأنه توطيد العلائق خارج إطار الزوجية.
إن أكبر الإهانة والتحقير لمكانة المرأة يوم تكون (وسيلةً) لأغراض ساقطة ومرامٍ سافلة تمارس باسم الدفاع عن حقها و(أداةً) لإشباع الرغبات الحرام بدعوى (الصداقة البريئة !!) فأي مغالطة للحقائق أعظم من هذا؟! ولنا عودة.
http://www.meshkat.net المصدر :
=============(4/423)
(4/424)
العولمة..هدم الاقتصاد القديم
د. زكريا مطر
أستاذ اقتصاد
يعتبر العالم الكندي مارشال ماك لوهان، أستاذ الإعلاميات السوسيولوجية في جامعة تورنتو، أول من أشار إلى مصطلح "الكوننة أو العولمة" globalization، عندما صاغ في نهاية عقد الستينيات مفهوم القرية الكونية، وهو الذي تنبأ أيضاً بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستخسر الحرب الفيتنامية، وقد تبنى هذه الفكرة من بعده زيبجينو بريجنسكي، الذي أصبح فيما بعد مستشاراً للرئيس الأمريكي كارتر (1977 - 1980)، وأشار إلى أن تقدم أمريكا، التي تمتلك ما يزيد على 65% من المصادر الإعلامية، يمكن أن يكون (نموذجاً كونيًّا للحداثة) يروج للقيم الأمريكية التي تنادي بها كالحرية وحقوق الإنسان، وذلك عند سعيها حينئذ لإزاحة الأيدلوجيات الاشتراكية التي تبناها السوفييت المعادين للأمريكان، واعتمدت الولايات المتحدة في ذلك على شبكات تلفزة وقنوات فضائية وسينما ومراسلين في كل مكان في العالم ومن خلال الفضاء الكوني.
إن صياغة تعريف دقيق للعولمة مسألة ليست من السهولة بمكان؛ لوجود تعريفات لها بقدر الدارسين لها، حسب انتماءاتهم الفكرية ومستوياتهم الثقافية، ومواقفهم تجاه العولمة سواء بالرفض أو القبول.
ويمكن تقديم تعريف للعولمة من خلال التعريفات المتعددة، يجمع بين مفهومها وخصائصها، رغم أنها ما زالت في مراحلها الأولى، ولم تتبلور بعد إلى شكلها النهائي كالآتي:
العولمة هي تلك الحالة أو الظاهرة التي تسود في العالم حالياً، وتتميز بمجموعة من العلاقات والعوامل والقوى، تتحرك بسهولة على المستوى الكوني متجاوزة الحدود الجغرافية للدول ويصعب السيطرة عليها، تساندها التزامات دولية أو دعم قانوني، مستخدمة لآليات متعددة، ومنتجة لآثار ونتائج تتعدى نطاق الدولة الوطنية إلى المستوى العالمي؛ لتربط العالم في شكل كيان متشابك الأطراف، يطلق عليه القرية الكونية Global village.
تحول مفاهيم الاقتصاد ورأس المال
وقد اقترنت العولمة بظواهر متعددة استجدت على الساحة العالمية أو ربما كانت موجودة من قبل، ولكن زادت من درجة ظهورها، وهذه الظواهر قد تكون اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو اتصالية أو غيرها، ولا شك أن أبرز هذه الظواهر هي الظواهر الاقتصادية التي أهمها:
1 - تحول الاقتصاد من الحالة العينية (الأنشطة التقليدية كتبادل السلع عينيًّا بالبيع والشراء) إلى الاقتصاد الرمزي الذي يستخدم الرموز والنبضات الإلكترونية من خلال الحواسب الإلكترونية والأجهزة الاتصالية، وما ينتج عن ذلك من زيادة حجم التجارة الإلكترونية والتبادل الإلكتروني للبيانات في قطاعات التجارة والنقل والمال والائتمان وغيرها.
2 - تحول رأس المال من وظائفه التقليدية كمخزن للقيمة ووسيط للتبادل إلى سلعة تباع وتشترى في الأسواق (تجارة النقود)؛ حيث يدور في أسواق العالم ما يزيد على 100 تريليون دولار (100 ألف مليار) يضمها ما يقرب من 800 صندوق استثمار، ويتم التعامل يوميًّا في ما يقرب من 1500 مليار دولار - أي أكثر من مرتين ونصف قدر الناتج القومي العربي - دون رابط أو ضابط، وهو ما أدى إلى زيادة درجة الاضطراب والفوضى في الأسواق المالية، وأعطى لرأس المال قوة لفرض شروطه على الدول للحصول على أقصى ما يمكن من امتيازات له. وقد أدى هذا كله إلى زيادة التضخم نتيجة لزيادة قيمة النقود.
3 - تعمق الاعتماد المتبادل بين الدول والاقتصاديات القومية، وتعمق المبادلات التجارية من خلال سرعة وسهولة تحرك السلع ورؤوس الأموال والمعلومات عبر الحدود مع النزعة إلى توحيد الأسواق المالية، خاصة مع إزالة كثير من الحواجز الجمركية والعقبات التي تعترض هذا الانسياب بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية، التي بدأت نشاطها في بداية عام 1995م، وهو ما يشاهد الآن بعد توحًّد بورصة لندن وفرانكفورت اللتين تتعاملان في حوالي 4 آلاف مليار دولار، وكذلك توحد بورصات أوروبية أخرى، وهناك اتجاه متزايد نحو إنشاء سوق مالية عالمية موحدة تضم معظم أو جميع البورصات العالمية، وتعمل لمدة (24) ساعة ليمكن المتاجرة في أسهم الشركات الدولية من أي مكان في العالم. وقد ترتب على إزالة الحواجز والعوائق بين الأسواق أن أصبحت المنافسة هي العامل الأقوى في تحديد نوع السلع التي تنتجها الدولة وبالتالي فإن كثيرًا من الدول قد تخلت عن إنتاج وتصدير بعض سلعها؛ لعدم قدرتها على المنافسة مثل صناعة النسيج في مصر التي انهارت أمام منافسة دول جنوب شرق آسيا، وأصبحت تلك الدول تحصل على حاجتها من دول أخرى لها ميزة تنافسية في إنتاج تلك السلع، وهو ما ينطبق أيضاً على رءوس الأموال التي أصبحت مركزة في بعض الدول المنتجة والمصدرة للبترول، وعلى الدول التي تحتاج إلى تلك الأموال أن تحصل عليها من الدول المتقدمة.
دور أكبر للمنظمات العالمية(4/425)
4 - زيادة الانفتاح والتحرر في الأسواق واعتمادها على آليات العرض والطلب من خلال تطبيق سياسات الإصلاح أو التكييف الاقتصادي والخصخصة ، وإعادة هيكلة الكثير من الاقتصاديات الموجهة واقتصاديات الدول النامية لتتوافق مع متطلبات العولمة (مثلما حدث في مصر ويحدث الآن في دول الخليج فضلا عن باقي دول العالم).
5 - زيادة دور وأهمية المنظمات العالمية في إدارة وتوجيه الأنشطة العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية واليونسكو، ومنظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وغيرها.
6 - التوجه نحو تشكيل العديد من التكتلات الإقليمية الاقتصادية والسياسية والثقافية مثل تكتل الآسيان والاتحاد الأوربي وغيرها، والزيادة الملحوظة في أعداد المنظمات غير الحكومية بعد أن بدأ دور الدولة في إدارة الاقتصاد في التناقص.
تفاقم المديونية وتزايد الشركات متعدية الجنسيات
7 - استشراء ظاهرة الشركات المتعدية الجنسيات، مع سيطرتها على الاستثمار والإنتاج والتجارة الدولية والخبرة التكنولوجية مثل شركات IBM ، ومايكروسوفت وغيرها، خاصة بعد أن ساوت منظمة التجارة العالمية بين هذه الشركات والشركات الوطنية في المعاملة.
8 - تفاقم مشاكل المديونية العالمية وخاصة ديون العالم الثالث والدول الفقيرة مع عدم قدرتها على السداد، وما تزامن مع ذلك من زيادة حجم التحويلات العكسية من الدول الفقيرة إلى الدول المتقدمة، والمتمثلة في خدمة الديون وأرباح الشركات المتعددة الجنسيات وتكاليف نقل التكنولوجيا وأجور العمالة والخبرات الأجنبية، والذي قابله في نفس الوقت تقلص حجم المعونات والمساعدات والمنح الواردة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية وعدم جدواها.
9 - ظهور تقسيم دولي جديد للعمل تتخلى فيه الدول المتقدمة للدول النامية عن بعض الصناعات التحويلية (هي الصناعات التي تعتمد على تحويل المادة الخام إلى سلع مصنعة يمكن الاستفادة منها، كصناعات الصب والبتروكيماويات والتسليح وغيرها) التي لا تحقق لها ميزة نسبية، مثل الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة وكثيفة العمل والملوثة للبيئة، وذات هامش الربح المنخفض، مثل صناعات الصلب والبتروكيماويات والتسليح، بينما ركزت الدول المتقدمة على الصناعات عالية التقنية كصناعة الحاسبات والبرامج وأجهزة الاتصالات والصناعات الإلكترونية، ذات الربحية العالية والعمالة الأقل.
تبديد الفوائض بدلاً من تعبئتها
10 - تغير شكل وطبيعة التنمية، فبعد أن كانت التنمية تعتمد أساسًا على تعبئة الفوائض والتمويل الذاتي (الادخار)، تحولت إلى تنمية تعتمد على الاستثمارات الخارجية والشركات المتعدية الجنسيات، وأصبحت التنمية هي تنمية تبديد الفوائض والمدخرات (الاستهلاك) كناتج أساليب الاستهلاك الترفيهي المتزايدة، تحت ضغط الآلة الإعلانية الجبارة، التي أدت إلى عجز مزمن في موازين المدفوعات وتفاقم أزمة الديون في العالم الثالث، وتركيز التنمية على الجانب الاقتصادي فقط، أي تحولها إلى تنمية وحيدة الاتجاه تهمل الاتجاه الاجتماعي والثقافي، مع اعتماد نظام السوق ليكون أساساً للتنمية في مختلف بلاد العالم. حتى الطبقات عالية الدخل في الدول النامية التي من المفترض أن تكون نسبة ميلها الاستهلاكي (نسبة الإنفاق على الاستهلاك من الدخل الكلي) قليلة وأصبحت تلك الفئات من الفئات المسرفة التي تبدد دخولها على الاستهلاك الترفيهي وبالتالي فإن ميلها الاستهلاكي أصبح مرتفعًا، وقد ساعد على ذلك قدرة الاقتصاديات المتقدمة على إنتاج سلع جديدة والتنوع في السلع القديمة مثل ابتكار طرازات جديدة من السيارات والسلع المعمرة وغيرها.
11 - تراجع نصيب المادة الأولية في الوحدة من المنتج في العصر الحديث بسبب تطور الإنتاج وهو ما يسمى بالتحلل من المادة (Demate r ialization)، وإحلال الطاقة الذهنية والعلمية (الفكر) محل جزء من المادة الأولية، مما أدى إلى تراجع الأهمية النسبية للنشاط الصناعي في الهيكل الإنتاجي في الدول المتقدمة الصناعية وتصاعد الأهمية النسبية لقطاع الخدمات، وقد زادت الأهمية النسبية لنشاط الخدمات داخل النشاط الصناعي ذاته بحيث أصبحت تمثل أكثر من 60% من الناتج الصناعي، لتنامي الصناعات عالية التقنية، وظهور مجموعة جديدة من السلع غير الملموسة كالأفكار والتصميمات والمشتقات المالية استقطبت المهارات العالية، وما ترتب على ذلك من زيادة عملية التفاوت في الأجور، وبالتالي توزيع الدخل القومي توزيعاً غير عادل، سواء على مستوى أفراد الدولة الواحدة أو بين الدول.
زيادة الفوارق بين الطبقات والبطالة(4/426)
12 - تعمق الثنائية الاجتماعية في مجتمعات العالم الثالث، فبعد أن كانت الفوارق مادية، أصبحت هذه الفوارق مادية وتكنولوجية بسبب استحواذ الطبقات مرتفعة الدخل على الإنجازات التكنولوجية عالية القيمة التي يصعب على الفقراء اقتناؤها، كالإنترنت والتليفون المحمول والحاسبات الإلكترونية وغيرها، ويؤدي هذا في المستقبل إلى زيادة وترسيخ التخلف في الطبقات الفقيرة وصعوبة تقليل الفوارق بين الطبقات العالية الدخل والفقيرة في المجتمع مما يهدد الاستقرار الاجتماعي.
13 - زيادة وانتشار البطالة في المجتمعات وخاصة في الدول النامية بسبب الاتجاه إلى استخدام الأساليب كثيفة رأس المال، التي تعتمد على استخدام عدد أقل من القوى العاملة، وذلك بسبب الحاجة إلى تخفيض تكاليف الإنتاج وزيادة مستوى الجودة؛ فلا مكان للمنافسة في السوق العالمية الموحدة بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية.
14 - إحلال مفاهيم جديدة محل القديمة كسيادة مفهوم الميزة التنافسية competitive advantage وحلوله محل الميزة النسبية Compa r ative Advantage بعد توحد الأسواق الدولية وسقوط الحواجز بينها، وكذلك سقوط مفهوم التساقط الذي تبناه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لمدة طويلة، حيث إن الطبقات العالية الدخل في الدول النامية هي طبقات مسرفة لا تدخر ولا تستثمر وتبدد فوائضها في مصارف استهلاكية لا يستفيد منها المجتمع، وهو ما أدى إلى تناقص معدلات النمو في هذه الدول بسبب نقص الاستثمارات وزيادة عجز الموازين التجارية وموازين المدفوعات.
وتعني الميزة التنافسية للدولة قدرتها على إنتاج سلع وتصديرها لتنافس في الأسواق العالمية دون أن تتوفر لها المزايا التي تساعدها على إنتاج هذه السلع مثل الظروف الطبيعية والمناخية والمواد الأولية وذلك نتيجة تفوقها التكنولوجي؛ حيث يمكن لها استيراد المواد الأولية من الخارج وتصنيعها بدرجة عالية من الجودة وبتكلفة أقل لتنافس في السوق العالمي مثلما يحدث في اليابان وسنغافورة ودول جنوب شرق آسيا، وقد ساعد على ذلك تناقص قيمة المادة في السلع وزيادة القيمة الفكرية والذهنية نتيجة استخدام الحاسبات وأجهزة الاتصالات. أما الميزة النسبية فهي تعني توفر مزايا للدولة تساعدها على إنتاج سلع معينة كالظروف الطبيعية والمناخية والمواد الأولية أو القوى العاملة الرخيصة، إلا أن هذه المزايا قد لا تساعدها على المنافسة في الأسواق العالمية؛ ربما لانخفاض الجودة أو لارتفاع التكلفة بسبب غياب التكنولوجيا.
15- اتجاه منظمات الأعمال والشركات إلى الاندماج؛ لتكوين كيانات إنتاجية وتصنيعية هائلة الغرض منها توفير العمالة وتقليل تكاليف الإنتاج والحصول على مزايا جديدة كفتح أسواق جديدة أو التوسع في الأسواق الحالية، وهو ما نشاهده الآن من اندماجات الشركات الكبرى مع بعضها؛ حيث دخلنا فيما يسمى بعصر "الديناصورات الإنتاجية" الهائلة والأمثلة على ذلك كثيرة في مجالات البترول والتكنولوجيا والمعلومات والمصارف، وينتج عن ذلك بالتأكيد تطوير كبير في علم الإدارة والرقابة والسيطرة للتوصل إلى مهارات إدارية وتنظيمية وصيغ جديدة من الأشكال التنظيمية التي تناسب هذه الكيانات الكبيرة.
المصدر:http://www.islam-online.net
============(4/427)
(4/428)
الحضارة الغربية: ضجة عن الحرية ..
وممارسة للهيمنة الثقافية.
د. جعفر شيخ إدريس
الحضارة الغربية حضارة يبوء كاهلها بالمتناقضات: تناقض في الأفكار، وتناقض في القيم، وتناقض في المواقف، وتناقض بين الأقوال والأفعال. لكنها رغم ذلك كله هي الحضارة السائدة التي يعدها أهلها ويعدها بقية العالم ـ إلا من رحم ربك ـ حضارة العصر، الحضارة التي يجب أن يحذو حذوها كل من يريد أن يتبوأ مكانة محترمة، بل وحتى مقبولة في هذا العصر، وإلا كان فيه بجسده وخارجه بروحه وفكره.
ولعل من أبرز أنواع التناقض بين أقوال هذه الحضارة وأفعالها، تناقضها بين ضجتها الصوتية العالية عن حرية الأفراد والشعوب، وسلوكها كل سبيل لفرض قيمها الخلقية، وتجربتها السياسية، ونظمها الاقتصادية، بل ومعتقداتها الدينية على سائر شعوب الأرض، ووصم كل ما يخالفها، بل كل ما يتعارض مع مصالحها، بكونه انتهاكاً للحقوق الإنسانية، أو إضراراً بالمصالح العالمية، أو ممارسة للإرهاب، أو سبباً للتخلف، وما شئت من تهم جائرة، بل ـ وأحياناً ـ أقوال آفكة.
المتعصبون من أهل الحضارة الغربية ضد ثقافات الأمم الأخرى ـ وما كلهم كذلك ـ مصابون بنوع من المرض الثقافي الذي يجعل على بصر صاحبه غشاوة تهول له قيم ثقافته، بل وأباطيلها، حتى يراها هي القيم الإنسانية التي يجب على كل الأمم أن تؤمن بها وتطبق مقتضياتها، بل وهي المعيار الذي تقاس به إنسانية الأمم، ويحدد على أساسه استحقاقها للمصالحة والمساعدة أو المشاقة والإعنات. وقد عبر عن شيء من هذا مندوب ـ أو مندوبة ـ باكستان في جلسة الأمم المتحدة الخاصة بقضية المرأة. قالت لهم المندوبة كلاماً نقلته بعض الصحف الأمريكة فحواه أن مشكلة المرأة في باكستان أن تشرب ماء نقياً، لا أن تتزوج امرأة مثلها، ولا أن تكون لها حرية الاتصال بمن شاءت من الرجال.
هذا موضوع كبير نشرت فيه أوراق وألفت فيه كتب منها كتاب مشهور للأستاذ إدوارد سعيد اسمه الاستعمار الثقافي، لكن حديثنا اليوم عن آخر مظهرين شهدهما الكاتب لهذه الهيمنة. أولهما الاجتماع الخاص بالنساء الذي عقد بالأمم المتحدة والذي تحدثت عنه في مقال سابق. وثانيهما كتاب لرائدة من رواد الحركة الأنثوية feminism.
من مظاهر الهيمنة الثقافية في اجتماع الأمم المتحدة أن المنظمات غير الحكومية التي شاركت فيه، كان أعلاها صوتاً ـ وربما أكثرها عدداً ـ المنظمات الآتية من البلاد الغربية. وحتى التي أتت من البلاد غير الغربية كان كثير منها ـ إن لم يكن معظمها ـ من الجماعات الدائرة في فلك المنظمات الغربية، بل ربما كان بعضها مجرد صدى لها. كان منها مثلاً منظمة من بلد من أكثر البلاد الأفريقية فقراً وجوعاً، لكن مستوى أدائه في الدعاية للقيم الغربية كان مضاهياً لأغنى المنظمات الغربية.
ومن مظاهرها أن اللغة المسيطرة على الاجتماع كله كانت اللغة الإنجليزية؛ فالذي لا يعرفها لا يستطيع أن يشارك مشاركة فعالة.
ومن مظاهرها أن كبار المتحدثات كن من الشخصيات الأمريكية المرموقة؛ فقد تحدثت في اجتماع المنظمات غير الحكومية سيدة أمريكا الأولى، وخاطبت الجمعية العمومية وزيرة خارجيتها، وكان معظم المتحدثين والمتحدثات غير الغربيين من أبواق الغرب، حتى إن عدد المتحدثين والمتحدثات من بلد أفريقي غير الذي ذكرت آنفاً لم يكن متناسباً قط لا مع أهميته ولا مع حجمه.
والقضايا التي أثيرت ونالت اهتماما كبيراً كانت هي القضايا التي يهتم بها الغرب إما لأنها من القضايا التي تشغل بال الناس فيه، أو لأنها مما يعترض عليه الغرب في ثقافات الآخرين. من ذلك قضية ختان البنات، التي حولها الكتاب والساسة الغربيون وأتباعهم من المستغربين إلى قضية كبرى تكاد تكون من أهم معاييرهم للولاء والبراء.
وهذا يقودنا إلى كتاب الرائدة الأنثوية الذي أسمته: المرأة كاملة، أو المرأة بأكملها The Whole Woman. تعرضت المؤلفة فيه لقضية الختان هذه، فذكرت أنها كانت ومازالت معترضة على ختان النساء، لكنها بعد أن سافرت واتصلت بالثقافات الأخرى، تبين لها أن اهتمام الغرب به هو تعبير عن احتقاره للثقافات غير الغربية. واستدلت على ذلك بأدلة لا تخلو من طرافة.
منها أنه لا فرق بين ختان الرجال وختان النساء، لكننا لا نعترض على الأول ولا نثير حوله زوبعة لأنه يمارس في الغرب.
ومنها أن النساء في الغرب يجرين عمليات جراحية تجميلية هي أشد غرابة من الختان. من ذلك العمليات التي يجريها بعض النساء لتصغير أثدائهن. قالت: إنها عندما ذكرت هذا لبعض النساء السودانيات كان استغرابهن له كاستغرابنا للختان، وأنها تعلمت منهن أن الختان أنواع، وأن منه ما لا ضرر فيه، وأنه لا يؤثر على الاستمتاع الجنسي، وأنه ليس أمراً يفرضه الرجال على النساء كما نظن في الغرب.
ومنها أن بعض الناس في الغرب يخرقون ألسنتهم ليدخلوا فيها نوعا من الحلق، كالذي يدخل في الآذان. بل إن منهم من يفعل ذلك لعضو الرجل!(4/429)
لنفترض أن الحديث كان عن أسوأ أنواع الختان، وهو مضر ما في ذلك شك. لكن أهو أضر من هذا الذي ذكرته الكاتبة؟ أهو أضر من شرب الخمر الذي يموت بسببه المئات بل ربما الآلاف في الغرب في ليلة واحدة هي ليلة عيد الميلاد؟ أهو أضر من حمل السلاح الذي يرخص به القانون الأمريكي، والذي يقتل بسببه عدد من الأبرياء ـ وأحياناً حتى الأطفال ـ في كل يوم وليلة؟ أهو أضر من الجمع بين السَكر وحمل هذا السلاح؟ أهو أضر من السفور، وما ينتج عنه من أنواع الاغتصاب؟ أهو أضر من الزنا واللواط الذي تحله القوانين الغربية والذي كان سبباً في مرض الإيدز وأمراض أخرى جسدية ونفسية؟ أهو أضر من التدخين الذي صار من أسباب الموت الأولى في البلاد الغربية، والذي لا مسوغ لإباحته إلا استفادة بعض الشركات منه، كاستفادة أخرى من إباحة حمل السلاح؟
كلا، والله. ولكن الأمر كما قال ربنا: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".
إن قوة الغرب المادية صارت فتنة تعمى الناس ـ ومنهم منتسبون إلى الإسلام ـ عن رؤية عيوبه وشروره. كما أن ضعف المسلمين صار فتنة تصد الناس عن رؤية ما عندهم من خير وعن قبوله.
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم }.
http://www.jaafa r id r is.com المصدر :
=============(4/430)
(4/431)
ماذا يريدون من المسلم؟!
حمزة الميداني
ماذا تريد أمريكا، وماذا يريد الغرب من المسلم، وماذا تريد الحكومات التابعة لأمريكا، المذعنة لها والخاشعة لها؟
هل يريدون من المسلم أن يصلي ويصوم ويحج، ثم يكون بعد ذلك مطية ذلولاً للراكب، وتكون أرضه وأمواله غنيمة للغاصب. هل يريدون منه أن يأكل ويشرب وينام ويشتري البضائع الأجنبية، ويعمل في المصانع الأمريكية ويعتاد على الثقافة الهابطة، ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يجب أن يشكر للغرب هذا الكرم، ويسبح بحمد الحكومات التي أتاحت له الفرصة لتقبيل أيادي الأعداء!!.
هل يريدون تدجين المسلم، والتدجين يذهب بكثير من خصائص الحيوان، فأما البشر فيذهب بمقوماتهم حتى يصبح الإنسان أحط من بعض الحيوان.
تريد أمريكا ولايات عربية (غير متحدة) مدجنة ومؤمركة، وأمريكا هي التي تنظر في أمنها واقتصادها، والمنهزمون (الواقعيون) من العرب سيقولون: ماذا نعمل؟ لا نستطيع المقاومة ولابد لنا من الإذعان، وكل حكومة عربية (تدبر رأسها).
أما الإسلام فيقول للمسلم بعد أن يقوم بالفرائض بـ (كن رجلاً عزيزاً قوياً عالماً، هادياً محسناً كسوباً معطياً، عارفاً بالحياة، سباقاً في ميادينها، صادقاً صابراً هيناً إذا أريد منك الخير، صلباً إذا أُردت على الشر)(1) ...
------------------------------------------
(1) - البشير الإبراهيمي: الأعمال الكاملة 1/283.
http://www.alsunnah.o r g المصدر :
=============(4/432)
(4/433)
من مزالق الدعاة
أ.د. جعفر شيخ إدريس
الدعوة إلى الله أشرف مهمة يقوم بها إنسان، لذلك اصطفى الله ـ تعالى ـ لها أكرم خلقه فجعلهم رسله إلى الناس، والداعية المسلم داعٍ إلى الله ـ تعالى ـ: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة)، وهو نائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المهمة؛ لذلك كان من الطبيعي أن تكون دعوته على بصيرة، أي عن علم بما يقول الله ـ تعالى ـ، وما يقوله رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكان من الطبيعي أن يكون ملتزماً في دعوته أشد الالتزام بما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا يحيد عنه قيْد أنملة، وإلاّ لم تكن دعوته إلى الله، بل كانت إلى ما يراه هو وما يهواه (يا أيها النبي بلغ ما أُنْزِل إليكَ من ربك وإنْ لم تفعلْ فما بلغتَ رسالته والله يعصمك من الناس).
لكن ما أصعب أن يلتزم الداعية ـ حتى لو كان مخلصاً ـ بمثل هذا الالتزام، في بيئة تكون فيها شرائع الإسلام التي يدعو إليها غريبة غير مألوفة! ما أسهل أن ينزلق الداعية فيحيد عما أوحى الله، وهو يحسب أنه يدعو إلى الله! لقد كان سبب العزلة التي سقط فيها بعض الناس ـ وهم من الدعاة ـ أنهم في سبيل جعل الحكم الإسلامي مقبولاً للعقلية الغربية أو المستغربة، بدؤوا يضيقون ذرعاً بكل ما لا تقبله هذه العقلية من تعاليم هذا الدين، وإن كان مما جاءت به النصوص الصريحة، وإن كان محلَّ إجماع بين علماء المسلمين، تراهم لذلك يهرعون إلى تلقُّف كل رأي يخلِّصهم من هذه التعاليم ويسمونه اجتهاداً.
لكنني وجدت في مؤتمر عربي إسلامي نظّمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي هنا بالولايات المتحدة، أن هذا الانحراف أدى عند بعض الناس إلى انحراف آخر أخطر منه، فقد بدا لي من أقوال بعض الذين شاركوا في هذا المؤتمر أنهم ـ في سبيل قبول بعض التقاليد الغربية السياسية ـ بدؤوا يقبلون معها ما يرونه لازماً لها من الأفكار والمعتقدات الغربية، ومن ذلك أنهم في سبيل إيجاد مكان للتعددية السياسية في الدولة الإسلامية صاروا يذمون كل من يظهر استمساكاً شديداً بما يعتقد أنه الحق ويقولون لا أحد غير الله ـ تعالى ـ الذي يسميه بعضهم بالمطلق ـ يمتلك الحقيقة. فكأنهم يقولون: إنك لكي تعترف بالآخر لا بد أن تعتقد أنه قد يكون على صواب وتكون أنت على خطأ. قلت لهؤلاء الإخوة: إن هذا يمكن أن يقال في مجال الأمور الدينية الاجتهادية، والأمور الدنيوية المبنية على الرأي، أما إذا قام الدليل القاطع على أمر ما أنه الحق، فلا مجال للتشكيك فيه سواء كان من الأمور الدين أو من أمور الدنيا. وإلاّ كان معنى هذا القول الاعتقاد بنسبية الحقيقة، والقول بنسبية الحقيقة ـ في غير مجال العلوم الطبيعية ـ هو من أمراض الحضارة الغربية الخطيرة التي تعدُّ كثيرٌ من مشكلاتها الاجتماعية أعراضاً لها. إن القول بنسبية الحقيقة هو الذي يجعل القيم الخلقية قيماً نسبية، فلا يجيز لذلك لإنسان أن يقول عن سلوك إنسان آخر إنه خطأ أو غير خُلُقي أو يذمه بأي نوع من أنواع الذم. ولذلك صاروا الآن يستبدلون بعبارة (الشذوذ الجنسي) عبارة (الميل الجنسي)، أي إن الرجل الذي يكون ميله إلى الرجال أو المرأة التي يكون ميلها إلى النساء هما كالرجال والنساء الذين يكون ميلهم إلى الجنس الآخر، لا فرق بين الميلين، لذلك ينبغي أن لا يكون هنالك تفرقة في المعاملة.
وقلت لهم: هل معنى ذلك أنني في سبيل قبول ما يسمونه بالآخر ينبغي أن لا أجزم بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن كلام الله، وأن الشرك باطل ومذموم؟ هل يقول بهذا عاقل؟ ولكن هذا هو الذي يؤدي إليه القول بعدم امتلاك الحقيقة. نعم إنه لا أحد غير الله ـ تعالى ـ يعرف كل الحقائق، لكن من نعمة الله علينا أن جعل لنا نحن البشر الناقصين سبيلاً إلى معرفة بعض الحقائق التي تهمنا والتي تعتمد عليها حياتنا، وجعل العلم بها والإيمان اليقيني بصوابها شرطاً في نيل مرضاته سبحانه (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)، بل جعل اليقين بها شرطاً للدعوة إليه (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
وقلت: إن تحملي للآخر وتسامحي معه لا يلزم أن يكون مبنياً على شكي وارتيابي فيما عندي، بل يمكن أن أتحمل وأُحسِن إلى من يخالفني وأنا موقن أنني على الحق وأنه على باطل. ألم يقل الله ـ تعالى ـ عن بعض الكفار: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسطوا إليهم إن الله يُحب المقسطين)؟
مجلة منار السبيل
http://www.jaafa r id r is.com/A r abic/aa r ticles/mazaliq.htm
============(4/434)
(4/435)
دور المرأة المسلمة فى مواجهة التغريب
رهام اديب الزعبي
تمر أمتنا الإسلامية في الوقت الحاضر بمرحلة في غاية الخطورة هي محاولة إرساء التغريب في أرضها وإحكام الهيمنة عليها من قِبَلِ أعدائها. والتغريب هنا هو تحويل الثقافة العربية والإسلامية من عقيدة وسلوك، وعادات وتقاليد إلى ثقافة وعادات وتقاليد تابعة للغرب مخالفة تماماً لعقيدتنا وتراثنا الإسلامي، ومن ثم تصبح الهيمنة على أمتنا والسيطرة عليها واحتواؤها سهلاً ميسوراً؛ بحيث تخضع خضوعاً تاماً لما يريده الغرب، الذي يحاول جاهداً دون كلل أو ملل بث أفكاره وثقافته بكل السبل التي يستطيع الدخول من خلالها.
وهذا التغريب قائم على أبحاث ودراسات حشدت لها كل الطاقات والإمكانات لكي تطبق على المسلمين، منها ثقافية وفكرية، ومنها نظم سياسية واقتصادية بعيدة كل البعد عن الإسلام وتشريعاته، مما يؤدي في النهاية بالمجتمع الإسلامي إلى أن يتشبع بالفكر الغربي وثقافته وحضارته المعادية للإسلام، فيقضي على شخصية المجتمع وولائه لدينه وأمته، ويصبح من السهل قيادته وتنفيذ كل ما يطلب منه. والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أهمها ما يتعلق بشؤون المرأة.
ولما كان للمرأة المسلمة أهمية كبيرة في تربية الأجيال ولها تأثيرها المباشر في تنشئتهم على الإسلام عقيدة وسلوكاً، فقد أعطى أعداء الإسلام أهمية قصوى لمحاولة تغريبها والتركيز عليها؛ وذلك من خلال الدعوات البراقة الكاذبة التي انخدع بها كثير من أبناء وبنات أمتنا... تلك الدعوات المسماة بالتحرر وانتزاع الحقوق، وطلب المساواة بينها وبين الرجل!
فإذا استجابت المرأة المسلمة لدعوتهم تلك فسيؤدي ذلك حتماً إلى إفسادها ثم إلى فساد المجتمع وتدميره بأقصر الطرق وأسرعها؛ لما لها من تأثير فعال في ذلك، مما لا يستطيع أن ينكره عاقل.
ومن المؤسف حقاً أن نجد فئة من نسائنا قد انجذبت وانساقت لتلك الأباطيل، فتبنت أفكارهم المضللة تلك، والدعوة لها، وعشن بتبعية كاملة لهم فكرياً واجتماعياً وسلوكياً، مقلدات المرأة الأوربية تقليداً أعمى دون إدراك أو تفكير بحيث ينطبق عليهن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)(1).
ولقد غاب عن وعي أولئك النسوة أن الظروف الاجتماعية والقانونية والتاريخية التي واجهت المرأة الأوربية مختلفة تماماً عمّا واجهته المرأة المسلمة؛ فالمرأة هناك تعيش مجتمعاً قائماً على قوانين من وضع البشر وليست شرائع ربانية؛ فكان هناك انتهاك وهضم لحقوق المرأة مما جعلها تثور وتتمرد لتحصل على حقوقها.
أما المرأة المسلمة فقد أعطاها الإسلام حقوقها كاملة منذ أربعة عشر قرناً؛ فيحق لها أن تفخر وترفع رأسها عالياً بتلك الحقوق التي لم تحصل عليها كثير من النساء في أكثر البلدان التي تدعي الحضارة والتقدم إلى الآن.
لقد كرم الإسلام المرأة أحسن تكريم، ورفع مكانتها ووضعها في المكان اللائق بها، ولم يفرق بينها وبين الرجل، بل ساوى بينهما في الحقوق والواجبات، والثواب والعقاب. ولا أدري والله ما هي الحقوق التي تطالب بها المرأة المسلمة؟ وقد أعطاها الإسلام كامل حقوقها الدنيوية والأخروية.. أما الدنيوية: فمنها حق التعلم والعمل، وحق التملك والتصرف بملكها وتجارتها دون تدخل من زوج أو أب. كما أعطاها حق اختيار الزوج؛ وحق الخلع إذا لم توفق بزواجها. ومن حقها أيضاً المحافظة على اسم عائلتها بعد الزواج؛ وذلك بعكس المرأة الأوربية التي تحمل اسم عائلة زوجها بعد الزواج. وأيضاً أُعطيت المسلمة حق الإرث فهي ترث وتورث، يقول تعالى : ((لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً)) [النساء: 7].
وأما حقوقها ومساواتها مع الرجل في الأجر فقد بينه قوله تعالى : ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى)) [آل عمران: 195]. وقوله تعالى : ((إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ والْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الأحزاب: 35]. وبعد ذلك: ماذا تريد المرأة أكثر منه تعالى : ((قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ(1)لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)) [الكافرون: 1، 2].(4/436)
فعلى المرأة المسلمة أن تقف سداً منيعاً إلى جانب الرجل المسلم في وجه ما يخطط للأمة الإسلامية من خلالها، فلا تكون عوناً لأعدائها وأعداء أمتها؛ بل يجب عليها أن تعي وتدرك ما يدور حولها من خطط لإبعادها عن دينها ورسالتها في هذه الحياة وتهميش دورها في بناء مجتمعها الإسلامي، وإشغالها بتوافه الأمور، وإضاعة وقتها في تتبع ما تبثه الفضائيات، وما تنشره المجلات الهابطة من عروض للأزياء وآخر الموديلات من مكياج وعطورات، ومتابعة أخبار الفنانين والفنانات!
إنه من المؤلم حقاً أن نرى إلحاح الإعلام المرئي والمقروء على جعل تلك الشخصيات الفنية قدوة لأخواتنا وبناتنا المراهقات.. وما كثرة استضافتهن على شاشات التلفزيون وصورهن على أغلفة المجلات وداخلها، غير تأكيد على ذلك؛ وكأن الدنيا قد خلت إلا من هؤلاء!
إن أكثر ما يغيظ الغرب هو تمسك هذه الأمة بدينها؛ فدعوتهم إلى تحرر المرأة المسلمة والمتمثل عندهم بخلعها الحجاب واختلاطها بالرجال حتى يعم الفساد في المجتمع الإسلامي ما هو إلا دليلاً كبيراً على ما يكنه الغرب لنا من عداء؛ فلن يهنأ لهم بال ولا يستقر لهم حال حتى نترك ديننا ونعيش بتبعية كاملة لهم منفذين رغباتهم وأمانيهم التي لا تنتهي إلا باتباع ملتهم كما أخبرنا به سبحانه وتعالى بقوله: ((وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) [البقرة: 120].
فالواجب على المرأة المسلمة أن تعود إلى إسلامها وتتمسك به بكل قوة، وتعيش تعاليمه كلها منهجاً وسلوكاً، وتطبقها على نفسها أولاً ثم على من هم تحت رعايتها. فلا بد أن تعلم المرأة المسلمة قبل كل شيء أن الإسلام كلّ لا يتجزأ؛ عقيدة، وعبادة، ومنهج حياة؛ فإذا أرادت أن تأخذ منه ما يطابق هواها وتترك ما يغايره فإن هذا ينقض العقيدة وسلامتها. يقول تعالى : ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب: 36]. لذلك يجب عليها أن تلتزم التزاماً كاملاً بما أمرها الشرع من حقوق وواجبات، والبعد عن كل ما نهاها عنه قبل أن يستشري الداء ويزيد البلاء، فيعمنا الله بعقابه في الدنيا من قبل أن نلقاه. كما قال تعالى : ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ)) [الأنفال: 25].
ومن الواجب على المرأة المسلمة أيضاً أن تعمل على تثقيف نفسها والتسلح بالعلم الشرعي، وذلك من خلال حضورها لبعض الدروس الشرعية المتاحة في مجتمعها، وسماعها للأشرطة المأمونة المتوفرة في السوق، وكذلك تلاوتها للقرآن وتدبر آياته وحفظ ما تيسر منه، وخصوصاً آيات الأحكام، وكذلك الآيات الكونية، والاطلاع على كتب التفسير والسيرة حتى يساعدها ذلك على أداء مهمتها في الدعوة لهذا الدين العظيم، ذلك الدين الذي جعلنا خير أمة؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما قال تعالى : ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ)) [آل عمران: 110] فإن وجدت في نفسها الكفاءة والقدرة للدعوة لهذا الدين العظيم في محيط مجتمعها فينبغي ألا تدخر جهداً في ذلك؛ فهذا واجب عليها. فإن لم تستطع فبإمكانها الدعوة بين أقربائها وجيرانها، فإن لم تستطع فيكفيها أن تنشئ أبناءها على العقيدة السمحة، وتربيهم التربية الصالحة، وتبث في نفوسهم حب هذا الدين والولاء له والبراء من أعدائه، وأن تشرح لهم معنى قوله تعالى : ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...)) [المجادلة: 22] لأننا اليوم في أمسّ الحاجة لكي يعلم أبناؤنا ما يخططه لنا الغرب الصليبي واليهود الحاقدون ومن شايعهم في محاولتهم الخبيثة لتذويب شخصية شبابنا المسلم في بوتقة الانحراف، وإبعادهم عن هويتهم الإسلامية الصحيحة؛ ففي هذه الظروف التي نراها الآن وتعيشها الأمة الإسلامية وقد تداعت عليها الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتها، نرى أمتنا وقد هانت على أعدائها وتكالبوا عليها لتضليل أبنائها ونهب ثرواتها وخيراتها.. فهم كما نرى يصطنعون الأحداث في بلادنا ويضعون لها الحلول.. يخططون وينفذون ما يريدون؛ ففي مثل هذه الظروف يجب أن تتكاتف الأيدي جميعاً.
فلتكن المرأة المسلمة عوناً للرجل تسانده وتشجعه بالدعوة لهذا الدين والذود عنه، فلا تضيع وقتها فيما لا يعود عليها ولا على أمتها بالخير؛ فالعمر هو الوقت، والمسلم سوف يسأل عن عمره فيما أفناه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن رزقه من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)(2).
فعلى المرأة المسلمة الحذر كل الحذر من أن تقع في شراك أدعياء تحرير المرأة؛ فإنهم يهدفون من وراء ذلك الطعم اصطيادها وتحللها من دينها وقيمها وأخلاقها؛ وحينها تكون ذيلاً لهم وتابعة ذليلة لمناهجهم.(4/437)
إن الأمر جد خطير؛ فلا بد من تعبئة كل القدرات وتهيئتها وتضافر الجهود وبذل الطاقات من أجل صحوة دينية نسائية صادقة هادفة تقوم على أسس هذا الدين ومبادئه؛ فقد آن الأوان لكي نرد لهذا الدين عزته، وللمؤمنين كرامتهم؛ فنحن أحق بأنفسنا من التبعية للأجنبي الغريب، بل نحن أحق بقيادة هذا العالم؛ لأن ديننا صالح لكل زمان ومكان، وهو ينشر العدل والأمن والسلام بين البشر وميزانه: ((إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات: 13] و (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى).
فللّه العزة ولرسوله والمؤمنين... ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
الهوامش :
(1) البخاري: كتاب الأنبياء، حديث (50) وكتاب الاعتصام، حديث (14). ومسلم: كتاب العلم، حديث (6).
(2) الترمذي: كتاب القيامة، حديث رقم (1).
مجلة البيان رقم العدد : 132 , رقم الصفحة : 24
==============(4/438)
(4/439)
أقوال منسية حول (التغريب)
احمد ابراهيم خضر
منذ العشرينيات من هذا القرن والباحثون الغربيون المتخصصون منشغلون بقضايا تغريب العالم الإسلامي بعامة ، وما يسمونه بمنطقة الشرق الأوسط بخاصة ولا يكاد يخلو أي كتاب أو أي مقالة تتعرض لحياة المسلمين من إشارة هنا وأخرى هناك لهذا التغريب ، إلى الدرجة التي حدت بهؤلاء الباحثين إلى القول:
"إن مظاهر التغريب عند شعوب الشرق الأوسط مشاهدة تماماً وبدرجة كافية وإنه لمن السهل عليك أن تضع قائمة طويلة توضح لك كيف أن هذه المظاهر التقليدية التي كانت سائدة منذ مائة أو مائة وخمسين عاماً قد اجتاحتها رياح التغيير ، واستبدلتها بقيم أدخلها الغرب".
لم يكن تغريب المسلمين مسألة متروكة لمجرد الاحتكاك بين الثقافتين الإسلامية والغربية، ثم متابعة آثار هذا الاحتكاك على الإسلام والمسلمين، إنما كانت سياسة موجهة ومدروسة تستند إلى تنظير خاص ، يعتمد في جزء كبير منه على تجارب الاحتكاك بين الإسلام والغرب في الماضي ، وعلى تجربة الثورة الصناعية وما تلاها من آثار على البناء الاقتصادي والاجتماعي والتقني الغربي ، ثم على تحليل مسألة اتساع الهوة بين هاتين الثقافتين بعد الثورة الصناعية؛ بسبب الاستقرار الثقافي في بلاد المسلمين، وتلك التراكمات التي أخذت مكانها في الغرب.
نظرية ومكاسب:
استندت عملية تغريب المسلمين إلى ما يسمى بنظرية (تشويش الأحكام القيمية) أو إيقاع الاضطراب في هذه الأحكام ، وتقوم هذه النظرية على الأساس التالي:
"هناك توازن وتوافق بين عناصر ثقافة المجتمع التقليدي المستقر جيداً ، بمعنى أن القيم التي تحكم وتسود هذا المجتمع تتسق وتؤيد واقعه المعاش ؛ ولهذا تتميز ثقافة هذا المجتمع بالتماسك والتوازن الداخلي.
ويمكن للواقع الثقافي أن يعير وأن يستعير عناصر من ثقافة أخرى مخالفة بصورة أكثر سرعة من استعارة القيم الثقافية ، ولهذا يصعب حدوث تغير في القيم في الوقت الذي يسهل فيه حدوث تغير في الواقع.
وعندما يحدث اتصال بين ثقافتين مختلفتين ، فيدخل واقع جديد إلى إحداهما يمكن هنا أن يتحطم التوازن القديم ، وتتغير القيم الثقافية بتغير الواقع الذي كانت تحكمه وإن احتاج الأمر إلى بعض الوقت ، بسبب هذه الصلة العاطفية التي يحيط بها المجتمع ثقافته الخاصة ، ومقاومته لإدخال أي محتويات ثقافية غريبة أو جديدة.
وهذا لا يعني بالطبع أن مكونات الواقع في ثقافة ما يمكن أن تزرع في ثقافة أخرى دون أن تسبب تغيرات في قيمها ، أو أن قيم ثقافة ما يمكن أن تفرض على الثقافة الأخرى دون أن تحدث تغيرات في مكونات هذه الثقافة ؛ لأن التناسق المحكم والاعتماد المتبادل بين مكونات الواقع والقيم الثقافية يجعل من غير الممكن أن تدخل تغيرات في واحدة منها دون أن تحدث تغيرات في الأخرى".
بهذه النظرية دخل الغرب إلى حياة المسلمين ساعياً بمختلف طاقاته الثقافية والعسكرية والاقتصادية والتقنية إلى إدخال واقع جديد يخص ثقافته هو على ثقافة المسلمين؛ ليحطم التوازن القائم بين واقعها وقيمها ، ويغير من قيمها حتى تصبح مناسبة للواقع الجديد الذي أدخله عليها ، ولقد حقق الغرب هنا مكسبين مهمين: أولهما أنه بتحطيمه لهذا التوازن المشار إليه أوجد هوة عميقة بين الإسلام والمسلمين ، ودمر الصلة العاطفية التي تربط المسلمين بإسلامهم والمكسب الآخر: أنه وهو يخترق هذه الهوة ليملأ الفراغ المترتب عليها حرك الأمور بالطريقة التي تمكنه من تحقيق مكاسب مادية ضخمة على حساب هذا الكيان المنهار.
سنقتصر في مقالتنا هذه على عرض وتحليل ثلاثة من عناصر هذا الواقع الجديد الذي أدخله الغرب على حياة المسلمين فدمر التوازن القائم في ثقافتهم.
أولا صنع هيبة الغرب:
لم يكن هذا الواقع موجوداً من قبل ، كانت العلاقة بين المسلمين وغيرهم تقوم على أساس "الإسلام والكفر،وجاء الغرب وأدخل واقعاً جديداً.. فبعد أن تمكن من إيجاد موطئ لأقدامه في بلاد المسلمين، أحاط نفسه وأهله بهالة من الهيبة والاحترام ، وفرض نفسه على النظام الاجتماعي القائم في بلاد المسلمين، وتقلد الوظائف القيادية، وساهمت حكومات بلاد المسلمين العلمانية في تدعيم هذه الهيبة ؛ بوضع أبناء المستعمر في مواقع قيادية مهمة وسمحت لهم بالحضور إلى مناسبات وطنية وغير وطنية ، لا يدعى إليها عادة إلا كبار رجالات الدولة وعلية القوم فيها.
وزاد الغرب من هيبته في عيون المسلمين بما أدخله عليهم من صناعات وتكنولوجيا ومعرفة في ميادين مهمة انفرد بها ، وكان نتيجة ذلك أن ظهر الغربيون للمسلمين على أنهم هم الأسمى وهم الطبقة العليا.
وهنا تغيرت القيم فأصبح الغرب وأهله هدفاً مرغوباً يسعى بعض المسلمين للانتفاع به ، كما ينتفعون بصناعاته ومنتجاته ، وسهلت هذه الهيبة عند المسلمين طريق محاكاة أسلوب الحياة والسلوك والأخلاقيات والاتجاهات الغربية ، ثم جاء الانهيار الكبير حينما قلد المسلمون الغربيين في فتورهم نحو دينهم وعدم مبالاتهم به وهو عين ما كان يهدف إليه الغرب.(4/440)
يقول (روفائيل باتاي) أستاذ علم الإنسان في (دوبسيي كوليج) بفيلاديلفيا وجامعة كولومبيا في الخمسينيات من هذا القرن:
"... بينما تكشف لنا البدايات التقنية للتغريب عن هذا النجاح العالمي الذي حققته ، تأتي هناك عوامل أخرى أبرزها (نظام الهيبة الجديد) الذي تسرب الغربيون عن طريقه إلى قطاعات الناس المختلفة ، وتمكنوا من السيطرة والرقابة على الوظائف المهمة ، وفرضوا أنفسهم على النظام الاجتماعي ، وظهروا للناس على أنهم هم الأسمى وهم الطبقة العليا.
ليس من السهل أن نحلل المكونات المتعددة التي تصنع الهيبة الغربية ، لقد كان عنصر القوة هو العنصر الأكثر أهمية في أيام الاستعمار الأوربي ، إلا أن هذا العنصر قد استبدل الآن بمزيج متعدد المكونات: مثل الثروة ، وتملك الآلات والمعدات الغربية ذات الهيبة ، أو المعرفة الخاصة في ميادين ذات أهمية متزايدة كالطب والزراعة وغيرهما ، وشغل مراكز تحظى بالثقة والنفوذ تمنحها الحكومات المحلية للغربيين ، والسماح لهم بالحضور الحر في مناسبات معينة مثلما يسمح تماماً وبدرجة متساوية للقيادات العليا في الدولة. إن الهالة والهيبة التي تحيط بالغربي غلفت ثقافته تماماً ، فأصبح اكتساب الثقافة الغربية نتيجة لذلك هدفاً مرغوباً فيه اجتماعياً يفوق بدرجة كبيرة الانتفاع المعترف به لمنتجات هذه الثقافة".
وفي معرض حديثه عن تخلي المسلمين عن مناهجهم التقليدية في الطب واتباعهم لمناهج الطب الحديث يقول (باتاي) في وثيقته:
"إن البحث في الأسباب التي أدت إلى التغيرات في الاتجاهات العقلية التي سادت منذ قرون ، لا يجعلنا نرد هذه التغيرات العقلية إلى الاهتداء المفاجئ إلى التفكير الأكثر عقلانية ولكن إلى (الميل للغرب).. من أين أتى هذا الميل؟!
تكمن الإجابة على هذا السؤال في هذه الهيبة للغربيين وثقافتهم ، إن الهيبة التي يتمتع بها كل شيء غربي في عيون شعوب الشرق الأوسط أوجد فيهم نزوعاً إلى محاكاة كل الطرق الغربية ، إنه أدى إلى رغبة خانعة ليس فقط في الحصول على المعدات الغربية ، ولكن رغبة في تقليد السلوك والاتجاهات الغربية كذلك. لقد قبل الطب الغربي ليس لأنه أظهر أفضلية ولكن لأنه طب غربي ، تبنى سكان الشرق الأوسط ازدراء الغرب للممارسات السحرية وغير العلمية ، ليس لأن ذلك له قيمة فحسب ، ولكن لأنه أمر مؤكد جاء به الغرب (المهاب)".
وعن (اللامبالاة) وعدم الاكتراث بالدين التي قلد فيها المسلمون الغرب يقول (باتاي):
"... وهنا ظهر على المسرح (الغربي) المحمل بالهيبة والذي يحتل وضعاً أعلى ويحمل ثقافة تستحضر الرغبة في محاكاتها: أن هؤلاء الأجانب لا ينتمون فقط إلى دين مختلف ، ولكن اتجاهاتهم نحو دينهم المسيحي كانت فاترة فكان من الطبيعي أن يقلد هؤلاء المعجبون بالطرق الغربية من مجموع ما قلدوه الفتور نحو الدين واللامبالاة به ، فأظهروا عدم الاهتمام بدينهم هم".
ثانيا علمنة الأسرة:
ينظر الغربيون إلى الأسرة المسلمة على أنها أسرة ممتدة ، والأسرة الممتدة في المصطلحات الغربية هي الأسرة التي تتكون بنائياً من ثلاثة أجيال أو أكثر ، وتضم الأجداد وأبناءهم غير المتزوجين والمتزوجين (أو بناتهم) وتضم أحفادهم كذلك.
سعى الغربيون نحو علمنة الأسرة المسلمة، وإلى أن تكون الأسرة الغربية وأشكالها الاجتماعية هي النموذج الجديد الذي يجب على المسلمين الاقتداء به. عمل الغرب على فصل الأسرة المسلمة عن الدين ، وذلك بكسر قبضة الدين من تلك الأسرة الممتدة وتقليص اعتماد الفرد عليها ، والقضاء على تكامله معها وتدمير سلطة الأب على أولاده ، وانفلات الأبناء من الأسرة ؛ حتى ينفلتوا من الجو الديني العام الذي يحيط بالأسرة ، والنظر إلى كل ذلك على أنه ماضٍ يجب أن يرفض.
يقول (باتاي):
"في الوقت الذي كان فيه التأثير المباشر للبعثات التنصيرية على الحياة الدينية في الشرق الأوسط تافهاً ، تميز الغرب بموقفه البارد تجاه الدين لأن الدين في الشرق الأوسط في ظل الظروف التقليدية هو طريقة كلية للحياة: التنظيمات المهنية هي تنظيمات دينية ، ارتداء الزي المحلي أمر يقره الدين الطب والتعليم مهنتان دينيتان ، سلطة الدولة نفسها تقوم على الدين، ليس هناك ترتيب هرمي في الإسلام كما هو في الكنائس المسيحية، وليس هناك قسيس أيضاً ، العديد من سكان الحضر منتظمون في دوائر دينية ، والكثير من العائلات سواء أكانت في الريف أو الحضر تحظى بتأييد المؤسسات الدينية ، أما أكثر المؤسسات التي تمسك بقبضتها على الفرد فهي الأسرة الممتدة ، اعتماد الفرد على أسرته وتكامله معها مسألة عالية الأهمية في ثقافة الشرق الأوسط إلى درجة أنها تعد ثقافة القرابة، الأسرة هنا مؤسسة دينية يعضدها الدين ، أي أن الدين يعضد الأسرة ، وهي بدورها تعضد الدين.(4/441)
ولما جاء التغريب أحدث انهياراً في السلطة الأبوية ، وحطم الأسرة الممتدة وغيّر نظام الاقتصاد العائلي بسبب حركة الهجرة من القرية إلى المدينة إلى نظام اقتصادي يقوم على علاقات غيرشخصية ، أصبحت الأسرة الغربية وأشكالها الاجتماعية نموذجاً يحتذى به بين الطبقات العليا والوسطى ، ولم يترتب على هذه الأمور مجرد تغير جوهري في طبيعة الحياة الأسرية ذاتها فقط ، وإنما ترتب عليها أهم من ذلك كله وهو (علمنة الأسرة) وابتعادها عن الدين ، فحينما ينفلت الشاب من قبضة أسرته كان يخلف وراءه هذا الجو الديني الهام الذي كان يحيط به فيصبح رفضه لهذا الجو جزءاً من رفضه للماضي ، ولهذه الأسرة التي تحكم قبضتها عليه.
ثالثا الحياد الموجه للمشروعات الاقتصادية والفنية الغربية:
هناك الكثير من المشروعات الاقتصادية والفنية الغربية العاملة في البلاد الإسلامية مهمتها الأساسية استنزاف خيراتها وربطها بالغرب،ولقد حرص الغربيون وهم يدخلون هذا الواقع الجديد إلينا هذه المشروعات على تجنب الخوض المباشر في أي موضوعات تتعلق بالعقيدة الإسلامية ، وتركوا هذه المهمة للبعثات التنصيرية بالرغم من تسليمهم بمحدودية عائدها وللشيوعية لكنهم أي الغربيين أولوا الشيوعية اهتماماً وثقلاً أكبر ، فهي في نظرهم التهديد الحقيقي الخطر على عقيدة المسلمين الذي يمكن أن يطيح بتوازنهم الاجتماعي الثقافي ، وقد تركزت الجهود على إقناع المسلمين بأن الشيوعية لا تتطابق مع الإسلام فقط بل إنها التعبير الحقيقي للشكل النقي من الإسلام في أصوله الأولى! ولا يهم هنا أن يكون نظام الحكم القائم في بلاد المسلمين شيوعياً بقدر ما يهم تدمير بنائهم الاجتماعي الثقافي الكلي.
يقول (با تاي):
"تميز مدخل الغرب في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة بصفة خاصة بالاعتناء الشديد بتجنب الخوض في أي قضايا أيديولوجية ، والتركيز على الناحية الفنية فقط بالنسبة للمشروعات الاقتصادية والفنية وما هو على شاكلتها ، دخلت هذه المشروعات إلى الشرق الأوسط عبر الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومعها توجيه أساس بعدم التدخل في القيم والأيديولوجيات الخاصة بالبلاد.
لكن الأمر يختلف بالنسبة للبعثات التنصيرية ، فليس أمر الكف عن التدخل الأيديولوجي موضع حرية اختيار هنا ، إلا أنه يجب أن يوضع في الاعتبار رد فعل المجتمع الإسلامي للمحاولات المكشوفة لتنصيره ، لقد نجحت البعثات التنصيرية في علاج عشرات الآلاف من المسلمين ، كما علمت الآلاف من مرضى الأطفال المسلمين ، وربما أثرت بسلوكياتها ومثلها على النظرة الأخلاقية للعديد من المسلمين، ورغم ذلك فإن الذين تحولوا إلى النصرانية قلة قليلة. إن الدين في الشرق الأوسط يشغل وضعاً محورياً في بنائه ؛ ولهذا يعتبر التنصير عند المسلمين ردة يترتب عليها أن ينفصل المسلم إذا تنصر عن الأسرة والمجتمع والقيم الثقافية ويتعرض لنبذ أصدقائه والمحيطين به ، وأهم من ذلك كله أن اعتناق الإسلام اعتقاداً ثابتاً لا يهتز والنظرة إليه على أنه الدين الحقيقي يعني أن الردة عنه غباء كامل.
رابعا تغريب النخبة:
عمد الغرب بهذا الواقع الجديد إلى ضرب التوازن المستقر الذي أوجده الإسلام بين طبقات المجتمع المختلفة وإلى تمزيق الشرايين الحيوية التي تجري بين الطبقات العليا والدنيا وإيجاد تناقضات بينها ، إلى أن ينتهي الأمر بأن تنظر الطبقة العليا إلى الطبقة الدنيا على أنها جماعة من المتخلفين البدائيين الذين يمثلون ما يسميه الغرب "بالوجه الفقير لثقافة الإسلام التقليدية".
وحتى تتسع الهوة بين هاتين الفئتين عمد الغرب إلى ما يلي:
1- تغريب واحتضان الطبقة العليا التي تملك المال الوفير والفرص المتاحة للسفر والاتصال بالغرب وشراء منتجاته وتبني نمط حياته ، ثم استغلال الدافع الكامن عند الطبقة الدنيا التي تسعى إلى تسلق السلم الاجتماعي لتكون قريبة من الطبقة العليا بإتاحة الفرصة لها لاكتساب الخاصية التي تفردت بها هذه الأخيرة.
2- تدمير الجسر الثقافي الذي يربط بين الفئتين السابقتين بتحويل الطبقة العليا إلى جماعة من المستهلكين الشرهين لكل ما هو مستورد وقادم من الغرب ، بعد أن كانت هذه الطبقة تستخدم أحسن وأجمل وأفضل القوى الثقافية المتوافرة في الأرض الإسلامية ، لقد كان هذا الاستخدام في حد ذاته أساساً من أسس توحد الطبقة العليا في المجتمع مع باقي الطبقات.(4/442)
لم يكن تغريب الطبقة العليا إلا أحد أوجه سلسلة الواقع الجديد الذي أراد به الغرب ضرب التوازن الاجتماعي المستقر في البلاد الإسلامية، وهناك وجهان آخران: أولهما إيجاد طبقة جديدة من العمال الحضريين المحرومين ، ولقد جندت هذه الطبقة من المدن ومن الريف ؛ لدفع عجلة التصنيع الفجائي والمفروض الذي أدخله الغرب على عالمنا الإسلامي ، لقد عاشت هذه الطبقة ظروفاً صعبة وقاسية ولم يكن المهم أن تعيش هذه الظروف فقط ، وإنما كان المهم أن تحرم من الإشباعات العاطفية والروحية التي يمنحها الدين والأسرة الممتدة لأفرادها. كان تجنيد هذه الطبقة من الريف لتحقيق هدف مهم آخر سعى إليه الغرب وهو إيجاد ما يسمى (بثنائية الريف المدينة) حيث القدر الأكبر للمدينة وكل ما قدم منها ويرمز لها ، مع الحط من قدر الريفيين والعمل على هجرتهم إلى المدينة لتشكيل الطبقة الجديدة وتركيز المهنيين (الغير مهمين) والمثقفين في المدينة على حساب المهنيين الذين تشتد الحاجة إليهم كالأطباء والمهندسين وغيرهم.
هذا هو الوجه الأول ، أما الوجه الثاني: فقد كان تدعيم الطبقة الوسطى وإضافة فئات أخرى لها تشابه أكثر وأكثر مثيلتها في البلاد الغربية ، ويعهد إليها بمهمة التطوير الثقافي للبلاد لحساب الغرب.
خامسا إدخال الصناعة والتكنولوجيا:
لم يكن التصنيع (الحديث) والتكنولوجيا واقعاً قائماً في بلاد المسلمين فجاء الغرب وأدخلهما عن عمد كواقع جديد بهدف إحداث اضطراب خطير في النسيج المكون لثقافة المسلمين أولاً ، ولضمان تبعية المسلمين له واستنزاف خيراتهم بطريقة عصرية ، لأن الطرق القائمة لا تسعفه في تحقيق هذا الاستنزاف.
دمر الغرب الصناعات المحلية، وقضى على المهن التقليدية، ونشر بضائعه الاستهلاكية ، وأرغم الصنّاع والحرفيين إما على الخروج من الساحة والانضمام إلى ركب العمال الحضريين، أو تعديل خبرتهم الفنية بحيث ينتجون بضائع ذات نمط غربي يعرف الغرب أنها لن تقوى على المنافسة أمام بضائعه التي تستخدم التقنية الحديثة العالية الجودة المعدلة وفقاً لأذواق المسلمين ، ثم نافس الغرب بعد ذلك المشروعات الصناعية القائمة ، وأدخل مناهجه الغربية في إنتاج ما يصنع محلياً.
اعتقد المسلمون أنهم وهم يستخدمون المعدات والتقنية الغربية قد وصلوا إلى مرحلة من التقدم الاجتماعي ، وأن التغير الذي حدث عندهم بسبب هذا الاستخدام تغير محدود لن يؤثر على قيمهم الأساسية ، ولم يدرك المسلمون وهم في وهم هذا التقدم أن الغرب قد وقف بهم عند حد (طريقة الاستخدام) ولم ولن يصل بهم أبداً إلى (طريقة الإنتاج).. لم يكن المسلمون وهم يستخدمون الصناعة والتقنية الغربية يقفون عند الحدود الشرعية التي تحدد لهم الفرق بين الانتفاع بالثقافة وبين التأثر بهذه الثقافة ، في حين أن الغرب كان يعلم تماماً أن استخدام أي عنصر ثقافي غربي لابد وأن يؤدي بالضرورة إلى استخدام عنصر آخر ، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى تبني طريقة الحياة الغربية ذاتها.
حال الغرب دون تمكين المسلمين من صناعة الآلات التي توجد فيها باقي الصناعات ، فلم توجد لدينا المصانع التي تصنع الآلات من (موتورات) وخلافه ولم تتوفر لدينا آلات من صناعة البلاد تمكننا من صناعة باقي المصانع ، ولقد أعاق الغرب صناعة الآلات في بلاد المسلمين بحجة أنها تحتاج إلى وقت طويل وأنه لابد لنا من صناعة الحاجات الأساسية ، فانصرف المسلمون إلى الصناعات الاستهلاكية وأصبحت بلادهم سوقاً لمصانع أوربا وأمريكا ، وأرسلت أكثر البعثات إلى الخارج لا لتعلم صناعة الهندسة الثقيلة وصناعة الفولاذ ، ولكن لدراسة الآداب واللغويات والعلوم الإنسانية والاجتماعية التي توسع الهوة بين المسلمين وثقافتهم ، فانصرفت البلاد إلى صناعة المنسوجات والورق وخام الحرير ، وأهملت صناعة الآلات.
وبدلاً من استقدام خبراء صناعة الآلات استقدمت الخادمات والمربيات الأجنبيات ، صاغ الغرب لنا كتبنا خاصة في النمو الاقتصادي ، فجعلنا نعتقد أننا لابد وأن نسير في عدة مراحل وبشروط معينة حتى نصل إلى مرحلة التقدم فأطال أمامنا أمل تسلم زمام رأس الصناعة ومنبعها وهو (صناعة الآلات).
أجبرنا الغرب على شراء المصانع والآلات منه وبثمن باهظ ، وإذا أصيبت الآلات بعطب أو كسر اضطررنا لاستقدام خبرائه لإصلاحها أو استيراد الآلة منه وإلا تعطلت المصانع كلية.
لم تكن لبلاد المسلمين سياسة اقتصادية محددة في أن تكون هذه البلاد (صناعية) بمعنى (أن تصنع الآلات)، ولهذا لم تخلص بلادنا حتى الآن ولم تستغنِ عن الغرب لكنها أصبحت بدلا من ذلك أكثر ارتباطاً به وبمنتجاته وآلاته والأهم من ذلك كله بطريقة الحياة الغربية.
يقول (باتاي):(4/443)
ما أن وجد الغربيون لأنفسهم قدماً في قلب الشرق الأوسط حتى بدأوا في إظهار (تكنولوجيتهم) ونشر مظاهر معينة منها عمداً وعرضاً بين السكان المحليين. إن المظاهر التكنولوجية للثقافة هو إيسر ما يمكن أن يستعار، وهذا صحيح فقط عند النظر إلى (استخدام) المنتج التكنولوجي وليس (إنتاجه). إنه يصعب عليك أن تصنع مضخة مياه تعمل بمحرك لكنك تستطيع في دقائق قليلة أن تتعلم كيف تستخدمها، وأن تتعرف على مزاياها التي تفوق استخدامك للأسلوب القديم لرفع المياه عن طريق (الشادوف).
إن قبول سكان الشرق الأوسط للتكنولوجيا الغربية بالإضافة إلى إمكانيات نقلها ووظيفتها الكبرى كمؤشر هام للتقدم ، قد تيسر بواسطة حقيقة مؤداها أنها لا تشغل وضعاً مهماً في ثقافتهم الخاصة.. وبمعنى آخر إن شعوب الشرق الأوسط مثل أصحاب أي ثقافات أخرى لم ترَ أن مجرد التحول إلى استخدام المعدات الغربية يعنى أن قيمهم الأساسية سوف تتأثر، بل رأت أنه مجرد تغير ذو أهمية قليلة ، وأخيراً أدركت بعد أن فات الأوان أن قبول أي عنصر ثقافي غربي منفرد يؤدي إلى قبول عناصر أخرى أكثر وأحدث فتكون النتيجة إحداث اضطراب خطير في النسيج الحيوي المكون لثقافتهم التقليدية.
إن مقارنة نمو التصنيع الغربي بتصنيع الشرق الأوسط يبين لنا أن تصنيع الأخير كان محدوداً وفجائياً ، بالإضافة إلى أنه مفروض من الخارج ، ولم ينمو عضوياً في بيئته المحلية ، ولهذا كان من المحتمل أن يصاحب بتوترات قاتلة يترتب عليها انهيار الأشكال التقليدية من التفاعل الاجتماعي الذي تميزه العلاقات الشخصية والأسرية وانتشار المكانات الموجهة قرابياً ، وتحوله إلى الأشكال الغربية من التفاعل الاجتماعي الذي يقوم على العلاقات غير الشخصية".
هذه خمسة عناصر من عناصر هذا الواقع الجديد الذي أدخله الغرب على حياة المسلمين لتغريبهم وتدمير التوازن القائم في ثقافتهم ، وتندرج جهود الغرب هذه تحت قوله عز وجل ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفَاراْ حسداْ من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق))(1) ، وتشير الوقائع السابقة إلى أن الغرب قد نجح إلى حد بعيد في جهوده تلك رغم التحذير الذي وجهه الله عز وجل للمسلمين من اتباع سبيل الكافرين كما جاء في قوله تعالى: ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم))(2)، وقوله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم))(3) وقوله تعالى: ((لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله))(4)... إلى غير ذلك من الآيات.
لكن نجاح الغرب في تغريب المسلمين لم يكن راجعاً إى كفاءة تنظيره المدروس الذي أسماه (تشويش الأحكام القيمية) ، فليس هذا التنظير كما يخيل للبعض بجهد إبداعي خلاق يضيف هيبة أخرى إلى هيبة الغرب الحالية في عيون المسلمين. إن هذا الجهد يتضاءل أمام قاعدة ابن تيمية رحمه الله التي يقول فيها: "إن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة في الأخلاق والأعمال... فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة ، فكيف بالمشابهة في أمور دينية.. فإن إفضاء هذا النوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم أي اليهود والنصارى تنافي الإيمان"".
ويرجع نجاح الغرب في تغريب المسلمين إلى سببين أساسين:
الأول: أن هذا هو قضاء الله عز وجل النافذ فيما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما سبق في علمه ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة حتى لو دخلوا مجر الضب لدخلتموه ، قال يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال فمن؟)(5).
الثاني: ضعف إيمان المسلمين: الله سبحانه وتعالى ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علماً وعملاً ، يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: "فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى ، فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مَكْفيٌ مدفوع عنه بالذات أين كان ، ولو اجتمع عليه من بأقطارها ، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهراً وباطناً.. وقد قال الله تعالى للمؤمنين ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين))(6) ، وقال تعالى: ((فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم)) (7).
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذا كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره.
الهوامش :
*انظر تفصيلا: صلى الله عليه وسلم APHAEL PATAI, THE DYNAMICS OF WESTE r NIXATION THE MIDDLEEAST JOU r NAL, V. 9 NO. 1, WINTE r 1955 , PP. 1-16.
(1)سورة البقرة ، آية 109.
(2)سورة النساء ، آية 115.
(3)سورة المائدة ، آية 51.
(4)سورة المجادلة ، آية 22.
(5)أخرجه الترمذي ، كتاب الفتن ، وابن ماجة ، كتاب الفتن.
(6)سورة آل عمران ، آية 139.(4/444)
(7)سورة محمد ، آية 35
مجلة البيان رقم العدد : 78 , رقم الصفحة : 37
=============(4/445)
(4/446)
"مهاتير" لليابانيين: التغريب والأمركة ستحطمكم!
كوالالمبور - صهيب جاسم - إسلام أون لاين/ 19-1-2001
"إن سبب أزمتكم الاقتصادية التي تبدون عاجزين عن حلها يعود كليًّا إلى محاولتكم تبني القيم والسلوكيات الغربية".. هكذا فاجأ رئيس الوزراء الماليزي د. مهاتير محمد اليابانيين في أول حديث لمسؤول أجنبي رفيع المستوى في طوكيو عن التغريب وأثره في الأزمات التي تعاني منها اليابان اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، والتي تتعمق يوما بعد يوم، وهو ما اعتبر نظرة مختلفة عن كل ما قيل من أحاديث المسؤولين الأجانب واليابانيين في توصيف الأزمة في اليابان، كما علق مراقبون على ذلك بأنه ينبع من كونه مسلما؛ حيث يتميز المسلمون باهتمامهم بقضية التغريب بشتى أشكاله.
وكان قد واصل مهاتير زيارته إلى اليابان يوم الخميس 18-1-2001 حيث زار مصنعا لشركة شارب، وكلية للإعلام والوسائط المتعددة؛ حيث حضر أحد الفصول ليطلع على الأسلوب الدراسي؛ لينقل التجربة لبلاده، لكن الذي لم تسلط وكالات الأنباء الغربية أضواءها عليه خلال زيارته وهو الأهم هو ما جاء في كلمته عن التغريب واليابان والتي تحدث خلالها في صميم الأزمة، بالرغم من أن ذلك كان مقدمة لكلمته التي ألقاها أول أمس الخميس 18-1-2001 عن "أهمية الدور الياباني في نهضة آسيا" في المؤتمر الدولي لصحيفة ماينيشي شيمبون اليابانية، والتي تسلمت إسلام أون لاين نسخة منها.
وكان المنظمون للمؤتمر قد طلبوا من مهاتير أن يتحدث عن تعزيز التفاهم بين اليابان والدول الآسيوية الأخرى؛ لكنه بدأ كلامه عن الحضارة اليابانية المعاصرة بتذكيرهم بسنن الكون في تاريخ الأمم من نهوض وانحدار، مشيرا إلى "الحضارات العظمى وهي في أوج قوتها، كان أصحابها يظنون أنهم باقون بقوتهم إلى الأبد، كالحضارات الفارسية، والرومانية، والمغولية، والإغريقية.. وبريطانيا العظمى التي كانت توقع معاهدات مع ملايا تدوم ما دامت الشمس والقمر والنجوم... لكننا نعلم أن كل هؤلاء قد اندحروا.."
للتغريب جذوره في اليابان:
ومن هنا بدأ مهاتير يتحدث عن أصول التغريب في المجتمع الياباني منذ أيام حكم إمبراطورية ميجي عندما بدءوا لبس الملابس الغربية إلى اعتماد الأنظمة الغربية في إدارة بعض أجهزة الدولة وقال: "واليوم تنسخ اليابان من الغرب الأيدلوجيات، والأنظمة الاقتصادية، والإدارية، وإنني أخشى أن يتكرر ما حصل عندما تحطمت الإمبراطورية اليابانية بنهاية مأساوية؛ لأن نقل الأيدلوجيات الغربية وأنظمتهم قد تأتي بنفس النتيجة". وأضاف:" إن اليابان اليوم تنسخ من الولايات المتحدة باعتبارها بلدا ديمقراطيا وحرا عظيما، فهم حررونا من اليابانيين عندما كسبوا حرب المحيط الهادي(الحرب العالمية وما بعدها) وكنا نظن أننا سنبقى مائلين لأمريكا إلى الأبد، لكن الأمريكان لم يعودوا مُحرِّرين؛ فقد تغيروا وأصبحوا سُلْطَوِيِّين.. إنه من المحزن أن نرى السفارة الأمريكية اليوم في كوالالمبور محاطة بسياج من الإسمنت المسلح، وهو ما لم يكن معروفا إلا عن السفارتين السوفيتية والصينية..".
ثم بدأ بمهاجمة المقلدين لأمريكا قائلا: "لماذا يريد الكثيرون أن يصيبوا أمريكا بالضرر؟! فإذا كان الأمريكان غير محبوبين ومكروهين؛ فهل يستحقون منا تقليدهم؟!.. نحن نعرف أن اليابان مدينة لأمريكا؛ ولكن خمسين عاما مدة طويلة على اليابان أن تبقى بعدها ملتزمة أخلاقيا لأي أحد.. وإذا كان هناك الكثير من الأمور التي على اليابانيين اتباع أمريكا فيها؛ فهناك الكثير من الأمور التي عليها رفضها أيضا، مع أنه ليس كل شيء أمريكي سيِّئًا" فالأمريكان علموا اليابانيين الانتقال من الصناعات الرخيصة إلى التقنيات الحديثة.
مخالفة الغرب سبب النهوض:
ثم امتدح استقلالية بناء النظرية التسويقية لليابانيين في بداية النهوض، والذين طوروا من النوعية وحافظوا على تنافسية السعر خلافا للأمريكان؛ مما ساعد الدول الفقيرة على استخدام التقنيات الحديثة بسعر مناسب، وحرك النمو الياباني " لكن الغرب لن يتسامح مع اليابان بسب غزوها البضائعي لأسواق أوروبا وأمريكا، غير أن الدول الفقيرة كانت ممنونة لليابانيين الذين لولا انتشار سياراتهم؛ لبقيت الكثير من الشعوب تعيش حياة بدائية ..". وضرب مهاتير مثالا بمساعدة اليابان لماليزيا في التحول الصناعي حتى أصبحت 85% من صادراتها الحالية من القطاع الصناعي.
ثم قال: "ما الذي استفدناه نحن من النموذج الياباني في تطوير وتحديث القدرات الصناعية؟ هو أن عليك ألاَّ تتعلم كل شيء من الغرب بشكل كامل.. انسخ النوعية والجودة ولكن لا تقلد سياسة التسعير مثلا.. ولو تغربت اليابان كليا في سياساتها لما استطاعت أن تتنافس في السوق العالمية.. وبالحفاظ على إستراتيجية تسويقية يابانية فريدة استطاعت اليابان أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم".
التغريب بداية التحطيم!:(4/447)
وبعد كلامه عن بداية النهضة الصناعية في اليابان في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ تحذيره لليابانيين من مستقبل مجهول بقوله : "إن اليابان اليوم تريد تقليد الغرب 100%، في السياسة والاقتصاد والإدارة المالية.. فاليابان اليوم تتخلى تدريجيًّا عن كل سلوكياتها السابقة لصالح المناهج والمعايير الغربية، لقد ألغى كثير من اليابانيين مبدأ العمل طوال الحياة، والتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص، والتعاون الإقليمي، وغير ذلك، حتى الشباب الياباني يريد أن يصبح أشقر وغربيًّا، وأن يقلل من ساعات العمل، ويزيد من ساعات اللهو، وأما الثقافة اليابانية الشرقية؛ فإنها ترمي وتتبنى الثقافة الغربية بما في ذلك إهمالها للورع الديني والانضباط".
ثم رمى بجملته التي جاءت كالصاعقة في آذان التغريبيين من اليابانيين:" إن سبب أزمتكم الاقتصادية التي تبدون عاجزين عن حلها يعود كليًّا إلى محاولتكم في تبني القيم والسلوكيات الغربية، لن يكون الضرر كبيرًا لو حصل ذلك بتدرج، لكن اليابان تريد التغيير والتغريب في يوم وليلة.. ومع أن التغيير دائما يحدث اضطرابا؛ لكن التغيير العاجل يسبب اضطرابًا لكل شيء، ليس كل ما في اليابان والأساليب اليابانية في الحياة سيئًا فلقد نفعت ثقافة اليابان شعبها كثيرا، وما زالت قادرة على العطاء لو ثبت الحسن منها، وتخلى عن السيئ.. وبعد كل هذا.. لنتدبر كم من المرات في التاريخ ثبت لنا أن الغرب كان مخطئًا؟!..".
أخذ الحسن ورفض السيئ من الغرب:
وقال مذكرا بأوج عهد الشيوعية والاشتراكية ثم التخلي عنها: "يوما من الأيام سينتقد الغرب ويتخلى عن جنونه في ليبراليته وسوقه الحرة، ولكن تكلفة ذلك ستكون باهظة للذين حاولوا بلع تلك الأفكار والأنظمة بدون تفكير.. فعلينا جميعا أن نفكر في الديمقراطية الليبرالية والسوق الحرة تماما في العالم غير المحدد بحدود جغرافية لنقرر ما الذي علينا أن نقبله منها وما الذي علينا أن نعدله ثم نتبعه أو ما الذي علينا أن نرفضه تماما " وقال :"إن علينا أن نختار الحسن ونرفض السيئ ففرض الصيغ الغربية لم ينفعنا فالعولمة كمثال تبدو رائعة لكنها بشكلها الحالي لا تنفع إلا الغني وتضر الفقير". وكانت بقية حديثه بالتفصيل عن ضرورة إحياء وتدعيم الدور الياباني في جنوب شرق آسيا في التحول من الاقتصاد التصنيعي الذي عايشته في العقود الماضية إلى الاقتصاد التقني في عصر العولمة
http://www.islamonline.net المصدر
============(4/448)
(4/449)
العصرانيو ن و ضرورة الحجر عليهم
بقلم/ أبي عبدالعزيز النجدي-بريدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول رب العالمين ..
أما بعد ..
ففي ظل إلحاح أبله وتعد مستغرب على التخصص من قبل من يدعي التعقل والفهم وإنزال الأمور منازلها على فصول لا يعقلها .. إنها لمصائب تترى .. وانه لفضول ممجوج .. إن احترام الذات ووضعها على الوجهة المطلوبة شرعا وعقلا لأمر يحمد عليه صاحبه ..
والرسالة الموجهة إلى هؤلاء لا تعني طرح راجح في خلاف محسوم شرعا .. بقدر ما تعني في لبها ذلك التعدي الأهوج على تخصص الآخرين .. إذ ليس من المعقول أن يسمح لكل أحد أن يبحث في أمور هي ليست لكل أحد .. وليس من الحق أن يُساق استفسار في قضايا حساسة يخُاض غمارها عن جهل واضح ..
ما كان لهؤلاء إلا أن يذعنوا لرأي الموقعين عن رب العالمين ..
أسفي على أولئك ونحن نعرفهم بأساليبهم وفكرهم المتحرر عن ثوابت الدين تحت ضغط الواقع أو الشهرة أو الهوى أو الجهل ، أن ينتهوا حيث انتهى سلفهم .. إذ ليسو هم اعلم ولا افقه ولا أدرى ببواطن الأمور و ظواهرها من سلفنا .
وأسفي أن يتولى أحدهم قضية يصوغها بأسلوب عار تماما عن أساليب البحث العلمي .. والذي كان من السهل عليه أن يدعها إلى من هو افقه واعلم منه ، بادعاءات مضللة وحجج واهية تحت راية الأخذ بالدليل وحرية الرأي والفكر ..
إن المشروع الإسلامي في نقد الضلالات وتمييز الخبيث من الطيب يحتم علينا جميعا أن نكون على قدر من المسؤلية من جهة التبيين والإيضاح ، ومن جهة الوقوف أمام زحف الجهلة .. و إلزام النفس ما ليس لها بلازم من قبل هؤلاء جدير أن يسقط جميع المشاريع الإسلامية .
والمطلوب من قبل فئة متطفلة على العلم و أهله أن تكون على قدر حسن من المتابعة لأوامر الدين وخوف من رب العالمين و إحسان التصرف مع النصوص الشرعية وسؤال العلماء عن المشكلات والرجوع إلى بيان أهل العلم الموثوقين من المتقدمين والمتأخرين .
إذ ليس من المعقول ولا من المنقول أن يصادر عقل المسلم بأساليب ناشزة هي عبارة عن تهويشات
وتلميحات عن طريق الحشد الخاطئ لبعض المصطلحات غير المرعية شرعا ولا عقلا ..
إنها ظلمة نتجرع غصص أزمتها حينا بعد حين ..
إن الرزية كل الرزية يا أحبتي أن اعنيَ بحديثي هذا فئة محسوبة على الدين و أهله ..
والواقع المشهود يلاحظ ظهور نبتة سيئة رديئة تصوغ الفساد على أنه الدين .. بسلوكها طريق أهوج من خلال مواقع إعلامية تافهة مشبوهة . إنها لهزيمة مشهودة ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) .
والمواجهة ضد طغمة إنزال الفساد بقالب الدين ضرورة قصوى ..وإن تترك فلسوف تتخبط في أصول الدين وفروعه ..
كنا منذ سنوات قريبة وما زلنا نشكوا من نشوء جهات مشبوهة .. تحاول جاهدة القضاء على الصحوة الإسلامية بطرق شتى تحت مظلة مقنعة بأقنعة شتى ، هذه النبتة الجديدة الفاشلة تسير بسير بعض تلك الجهات شبرا بشبر وذراعا بذراع ، وان كانت تتغير الوجهات والطرائق ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن اسفل منكم ) .. إلا أن الغاية واحدة ، وهي القضاء على الدين من خلال القضاء على علمائه والتشكيك في ثوابته ..
وهذه النبتة الرديئة الجديدة تفترق عنها بتقربها لبعض دعاة الإسلام حيلة منها لسحبهم إليها ، وتعزيزا لمنهجهم الفاسد ..
إن الصحوة الإسلامية والتي فرضت نفسها .. جعلت من لا يرضى عنها أن يرضى بها رغما عنه .. وجعلت من الواقع المشهود مواقع إسقاط وتساقط من يحاول أن يقف في طريق هذه الصحوة المباركة
وليعلم أن أفكار هؤلاء نتيجة إفرازات فكر المستشرقين الغربيين ..ونتيجة لتتلمذ هؤلاء على كتب أهل الفلسفة والاعتزال .. ونتيجة لرسم أهل الحداثة لهم شعروا أم لم يشعروا وهم يحاولون كسر طوق قواعد أهل السنة في محاربة البدعة .. مع استصحاب الجهل والتعالي على الآخرين .. ونتيجة تطبيل جهلة هم كالذي ينعق بما لا يفقه .. ونتيجة انتكاسات دينية مصورة بصورة الفقه الميسر .
إنها يا أحبتي سلسلة القضاء على الدين عن طريق خلخلة مناهج أهل السنة بالحكم على الأشخاص وإسقاطهم باسم علم الجرح والتعديل ..وباسم إعادة النظر في كتب العقائد .. و باسم إعادة النظر في كتابة التأريخ الإسلامي .. وباسم حرية الرأي والفكر وإظهار الخلافات الفقهية للناس ..و باسم تنقية كتب السنة عن ما داخلها من الإسرائيليات والكذب .. و باسم نبذ التمذهب ..
وهلم جرا .
إنها شعارات ظالمة متجنية متنحية عن الحق والعدل والصدق في القول ..
اللهم انصر دينك ..
والمطلوب من هذه الطغمة الفاشلة أن تعي الواقع ، وان تعي كيف تعايش هذا الواقع .. وأن تعلم أن هذه الزعزعة لا تنطلي على عوام المسلمين فضلا عن خواصهم ، مهما زُين لها .
ومن جملة من أتحدث عنهم من أمثال تلك الفئات الفاشلة من تسعى إلى رسم نفسها عن طريق الرقي على أكتاف بعض أهل العلم إما بتصنيفهم بأنهم ينتمون إلى بعض الجماعات وقد رأينا ما تقوم به هذه الزمرة من إلصاق التهم والتجني واختلاق الأكاذيب عليهم .. و باتهام بعضهم بنصر فكر الخوارج من خلال قراءة مذهب الإرجاء ..(4/450)
والإشكال أن هذه الفئة لا يقطعها عن مخاصمة الناس قاطع ولا رادع ، فسبحان من ركب هذه العقليات بتلك الصور .
والرسالة الموجهة إليهم أيضا أن يعوا انهم في مستنقع مليء بالجراثيم .. وانهم أصحاب فشل ذريع و نبتة سيئة رديئة .. لا تكاد ترقى بنفسها ولا أن تغير من مجريات حياتها ..
نعم .. أقولها و أنا اعلم جيدا من هو هذا الجيل الفاشل ..
و المرارة التي يكابدها الشخص .. انك تجد من يريد أن يقحم نفسه بعقبات لا يحتملها .. علما أن جزءا ليس بالقليل من هؤلاء يحتاج إلى إعادة نظر في تكوين عقليته وتركيب تفكيره .. ومنطقه العام .. وجزئيات حياته ..
و النوازع الغريبة التي تتسنم عقلية فئة من الناس لم تتجاوز القنطرة كتلك الفئة .. تحيلك أحيانا إذا لم تكن على إدراك لواقعها .. ولم تكن صارفا لنفسك عنها .. تحيلك إلى هوس فكري متجن ، ذي صبغة مكتئبة
وان كان الأولى أن تعيش تلك الفئة في محاورها البيئية الذاتية فلا تتعداها .. إلا أن الدفع لها تحت ضغط الحاجة أو التعالي أو الهوى أو الجهل أو التعالم أو التعقل أو التحرر أو مجاراة العصر أو غير ذلك جدير بأن يجعل من أمثال هذه الفئات دراسات وبحوث ساخرة من قبل أعداء الإسلام ..
ولذلك فإن من الواجب علينا أخي الحبيب أن نكون على قدر من التوقي لأنفسنا من أن تجتذبنا الزخارف القولية أو العناوين البراقة .. والتي قد تخدع من لا يعي مدى هشاشة فكر من ينتحلها .
فهل هؤلاء مطالبون بأن يكونوا من أهل التمكين الهش المغشوش المجترئ على الحق .. على حساب دعاة الإسلام و مجاهديه .. ولا أقصد بكلامي هذا من هؤلاء الدعاة من هو في طريق نسف ضرورات الإسلام أو ثوابته .
هل تظن تلك الفئة أن التمكين لا يتم إلا بهذا الأسلوب الأخرق أسلوب القضاء على أهل الإسلام وثوابته وأصوله وفروعه .. وهل تتصور تلك الفئة أن الاعتلاء الديني لا يكون إلا بتصفية لغيرها بأسلوب أو بآخر .
إن التصور الأرعن الذي يجعل عقل تلك الفئة خربا بالأسلوب المجتزئ للحق ما هو إلا دعم من مستفيد .. يريد الإفساد .. يفرض هذا الدعم ما تفرضه الحاجة بالحاحات ساقطة أو بحب الذات.
وحتى يتبين لك أمري .. فإن تلك الفئة تشذ بتصوراتها و تظهر مكنوناتها وتتجنى على غيرها عن طريق مخطط مرسوم لحساب جهات تريد هدم الدين ..
ومنصور النقيدان من أقرب الأمثلة ..
إذ لا يزال على وتيرة خلخلة شعائر الدين باسم حرية الرأي والفكر المزعوم .. والأخذ بالدليل عن جهل .. حتى ترى في كتاباته الدعوة إلى الرذيلة ..
فهل الأخذ بالدليل وحرية الرأي والفكر تأمرك :
بالكذب على رسول ا صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته ..
أو بالتعرض لسلف الأمة وعلمائها ..
أو بمدح المبتدعة والضلال ..
أو بخلخلة شعائر الدين ..
أو بتشتيت عقائد العامة ..
أو بسب طلبة العلم ..
أو بنشر الرذيلة ..
أو بأمثال هذه الأمور ؟
والمستغرب من هذا المتعالم انه ينزل إلى مواضع هي اكبر منه بكثير .. والمشكلة انه يتصور انه أهل لأن يبحث في مثل بعض الفصول ، والتي كان عليه أن ينتظر عشرين سنة حتى يصل فيها إلى راجح يحل فيه إشكاله ..إذا لم يأخذ العلم من أهله .
و الإشكال الذي يكابده هذا المذكور . أنه يملك بعض المعلومات العامة .. وبعض الخلافات
الفقهية .. فتراه يتخبط بمواضيعه ومعلوماته فيطرحها وقد تراكمت في عقليته على تلك المعلومات المنسية أكوام من أفكار الكتب الفكرية الاعتزالية الفلسفية المحلول أشكالها من قبل علماء الأمة رحمة الله على الجميع ..
وأيضا تراه يقحم نفسه عن طريق طرح ومناقشة مسائل عظيمة التي لو وقعت في عهد عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر وهو في الحقيقة يعيش خيالا غير متناسق ، في صورة من أصابه نخر عقلي فكري غير قادر هو على اكتشافه .. ويظن انه من خلال ذلك الخيال في تكامل فكري منهجي يواكب شخصية فذة تركت خلفها سنين من التيه والتخلف والجهل ، عاشت فيها بين أوساط ما زالت في تحجر ديني مذهبي عقلي غير مواكبة للعصر الذي لا بد له من أن يجاريه .
والدوران في فلك الاعتداد بالنفس وتصويرها أنها علت شاهقا لم يعلوه غيرها ، وأنها وصلت إلى درجة طرح الواقع بأسلوب المنظّر الموجّه ، أو عن طريق إسقاط غيره بأوصاف متجنية ، قد يتفق فيها مع جملة من الببغاوات ، تجعل هذا المتعالم يكمل بناية عقله الخرب على نسق يجمع العقلاء على انه لا بد من أن يحجر عليه وعلى عقله كالحجر على المجنون ..لأنه فشل في أن يعايش انسجاما مع نفسه ..
والتغيرات التي طرأت عليه لا تتواكب مع فكر مضطرب غير ثابت على وجهة معينة .. حتى إن بعض طلبة العلم أحصى عليه ثلاثة عشر منهجا انتحله .. ولهذا كان كما ذكرنا لا بد من الحجر عليه نسأل الله الثبات ..
وهو أيضا يتخبط في تحرير رأيه الأعوج حينما يريد أن يطرح ما عنده بجهله المدقع بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبالتعالم الذي غلب عليه ، والذي يجعله في كثير من احيانه يبحث عن غرائب الفقه والمعتقد حتى يترأس على من هو أقل منه ، ولذلك ما أسرعه أن يسقط ويكون بذلك كبش فداء لمن هم مستخدمون مثله .
فهل يعي أنه في طريق إهلاك نفسه ..؟(4/451)
وهل هو على استعداد للرجوع إلى الحق .. ؟
وهل يتغلب على الشيطان ؟ أم يتغلب الشيطان عليه ..؟
وهل هو على وعي بالواقع الذي يعيشه ..؟
أسئلة كثيرة تبحث عن إجابة ..؟
اللهم رده إلى رشده .. واهده سبل السلام
اللهم ثبتنا على دينك وصراطك المستقيم ..
الحمد لله على إحسانه ، اللهم صلى على نبينا محمد ..
المصدر: http://www.alsalafyoon.com
============(4/452)
(4/453)
تراث الغير
د. حسن حنفي
ولمّا كان الوعي الحضاري الذي أنتج التراث الذاتي وعياً متفتّحاً على الحضارات الأخرى فإنه سرعان ما تمثّل تراث الغير واحتواه واستعمل لغته، واستعمل أساليبه، واستخدم طرقه، وأكمل نقائصه.
أمّا المُحدَثون فإنهم في انفتاح وعيهم الحضاري الجديد على تراث الغير، التراث الغربي، حَدَثَت لديهم "صدمة الحداثة" وخَلَطوا بين التحديث والتغريب، فكان من الضروري "تحجيم" تراث الغير، وردّه إلى حدوده الطبيعية داخل بيئته المحلية.
(1) الحداثة والتحديث:
تعني الحداثة هنا الانتقال من التراث الذاتي إلى تراث الغير ليس على مستوى الثقافة بل على مستوى السلوك اليومي والعادات والتقاليد.
أـ مظاهر الحداثة:
وقد بَدَت عن أجيالنا المُعاصِرة مظاهر الحداثة لدى الطبقات العليا من المجتمع كي تلحق بالعصر وكما حدث في تركيا بعد الثورة الكمالية وكما حدث في مصر في القرن الماضي حتى قبيل الثورة المصرية في 1952. وقد بدت مظاهر الحداثة كالآتي:
1_ العيش على مستوى الإنتاج الآلي في الغرب، والتمتع بالخدمات الحديثة واستيراد أحدث الاختراعات لتسهيل رغد العيش.
2_ الحداثة في مظاهر الحياة الخارجية في العمارة والهندسة وفي العمران بوجه عام من شقّ الطرق، وتشييد الجسور العلوية، وإقامة الميادين والحدائق العامة، والانتقال من عصر "الجِمال" إلى عصر "الصواريخ" ونقل إنجازات الغير دون اختراعها.
3_ الحداثة في الثقافة، والإطلاع على آخر صيحات العصر في الفكر والفن والأدب دون وعي داخلي لتزيين القصور ولحديث الأندية والمجتمعات. فالثقافة ترف، والفن سلعة، والأدب من المستلزمات العصرية.
ب_ مخاطر الحداثة:
1_ ترويج التقدّم على السطح.
2_ انقطاع الماضي عن الحاضر، وغياب أي تطور طبيعي بينهما مما يسبب في الحياة العامة تجاورهما المكاني دون أي اتصال زماني.
3_ توليد المحافظة من أجل الدفاع عن القديم، وإحداث تيار عكسي للحداثة ورفض ما هو قائم.
4_ القضاء على خصوصية القديم ونوعيته، والتنكّر لها أو الجهل بها تماماً وإحلال الشمول محلّها.
5_ عدم اللحاق بالغرب وإنتاجه السريع، واللهاث وراءه، وهنا تحدث الصدمة الحضارية.
6_ تكوين طبقة من "المستغربين" أو ما سمّاهم فكرنا المعاصر "المُتأورِبين" منعزلة عن جموع الشعب لا أرض لهم، يعيشون في العواصم الأوروبية ويتنقلون بينها، وقد يولدون فيها ويموتون بها مثل مُلاّك الأرض الغائبين على مستوى الدولة.
7_ الولاء للغرب، إذ إنها تدور في فلك الأجنبي، وتمثّل مراكز الاستعمار الثقافي في البلاد، هم النخبة السياسية والثقافية والاجتماعية، أجانب ومصريون متأوربون، وأول من يجرفهم التيار في الثورة الوطنية كما حدث في مصر في ثورة 1952. فقد كان "طرد الأجانب" باستمرار أحد المطالب الوطنية كما حدث في ثورة عرابي.
ح_ دور الحداثة:
بالرغم من سلبيات الحداثة في مظاهرها ومخاطرها فقد كان لها بعض الدور مثل:
1_ تعليم جيل في التخصّصات الدقيقة كان له فاعلية وأثر على حياة البلاد في العمران بوجه عام والحياة الثقافية بوجه خاص، فأنشئت المدن الجديدة، وأقيمت البنايات الحديثة، ومُهّدت الطرق، وشُيّدت الجسور والسدود، إمّا لبقايا من وطنية أو لخدمة الاقتصاد الغربي أو للسيطرة على ثروات البلاد.
2_ تعليم أجيال لاحقة من الوطنيين أصبح ولاء معظمهم للبلاد فاتّسعت قاعدة الفنيين والمتخصصين مما ساعد على إعداد "البناء التحتي" للبلاد، وظلت البلاد في هذا الصراع بين المتخصص غير الوطني والمتخصص الوطني أولاً، ثم بين الوطني غير المتخصص بعد الثورة المصرية وغير الوطني وغير المتخصص في جيلنا هذا ثانياً بعد احتجاب مصر وظهور طبقة من غير الوطنيين وغير المتخصصين، لا أهل خبرة ولا أهل ثقة.
3_ كان المتأوروبون نافذةً لمصر خاصّة وللأمة العربية عامّة على العالم الخارجي. فمن خلالها اطلّع الوطنيون على مظاهر التقدم الأوروبي مما أوحى لبعض الحُكّام جعل مصر "قطعة من أوروبا" وكما حاول الغرب الشيء نفسه مع إيران قبل الثورة، فقد كانوا صحفيين ومفكّرين وسَاسَة ورحّالة، ولكن كان معظمهم علماء ومهندسين وفنيين.
4_ كانوا نافذة للغرب على العالم العربي. فاستطاع الغرب أن يرى من خلالهم الشعوب غير الأوروبية سواء من خلال كتاباتهم عن شعوبهم؛ مصر والشام خاصة، أو من سلوكهم وتقاليدهم وأحاديثهم عن بلادهم في الخارج. فقد رأى الغربيون صورة الشعوب غير الأوروبية مُجَسّدة في أشخاصهم.
(2) التحديث والتغريب:
والحقيقة أن هذه الحداثة في سلوك الأفراد لم تنتج أثراً في تحديث المجتمعات تحديثاً شاملاً نظراً لقيامها على "التغريب" في الوعي القومي، فالتحديث هو محاولة تغيير المجتمعات على يد "المُحدِّثين" الذين هم في واقع الأمر ضحية التغريب في وعيهم الثقافي والوطني.
أ_ النقل والاستيعاب:
يفترض التغريب أن وظيفة الشعوب غير الأوروبية هي النقل والاستيعاب لإبداعات الغرب، وكلّما أبدع الغرب لَحِقَ غيرُ الأوروبي بالنقل دون التمثّل أو الفهم أو حتى مجرد التفكير فيما ينقل. وقد أدى ذلك في الشعوب غير الأوروبية إلى الآتي:(4/454)
1_ الخلط بين العلم والمعرفة، وذلك أن العلم شيء والمعارف العلمية شيء آخر. العلم هو نشأة العلم بناءً على تصوّر علمي للعالم وليس مجموعة من المعارف يحملها جاهل بنشأتها. ولكننا لم نَعِ هذا الخلط لأن وجداننا القومي يرى أنه "رُبّ سامع أوعى من مُبَلّغ" مع أن ذلك في الاستفادة والاستعمال وليس في الإبداع. فلا مانع لدى العالِم أن يكون ناقلاً لآخر النظريات في علوم الذرة ثم يتبرّك بآل البيت، ويغيّر واقعه بالدعاء.
2_ تصوُّرُ أنّ التقدم هو استيراد آخر الاختراعات وإنجازات التكنولوجيا الحديثة وليس إبداع وسائل للسيطرة على الطبيعة حتى اضطرت الشعوب غير الأوروبية إلى انتظار "قطع الغيار" لوسائل لَم تُبدِعها. ولمّا كان مُعدّل النقل أكبر من معدل الاختراع تحوّلت مجتمعاتنا إلى مجتمعات استهلاكية صرفة لما ينتجه الغرب.
3_ القفز إلى النتائج دون المقدمات، وقطف الثمار بلا غَرس، فالإنجازات العلمية إنما أتت بعد تطور طويل للمنظور العلمي منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر حتى عصر الاكتشافات العلمية في القرن الماضي، وتكنولوجيا هذا القرن. ولكن مجتمعاتنا تحاول أن تعيش في عصر النهضة وأن تقفز إلى عصر التكنولوجيا دون أن يحدث تطور طبيعي في منظورها العلمي أو في تصوّرها للعالم لأن التاريخ ومراحله ليس بُعداً في وجداننا القومي.
ب_مخاطر التغريب:
1_ التعلّم المستمر والتتلمذ على أيدي الغير إلى ما لا نهاية، والتهميش والترجمة لما نتعلّم يُرهَق الذهن ويضيع الوقت في الاستيعاب ويتحول الذهن إلى "مُلّقي العلم" وليس إلى "مُبدِع العلم"، ويصبح العلم كمّاً هائلاً بلا كيف، ويغلب على إنتاجنا طابع التجميع والعرض باسم العلم، ويصبح العالِم هو صاحب العلم الغزير، ويكون أفضل عالم هو العالم الموسوعي.
2_ لمّا كان معدّل الإنتاج الغربي أسرع بكثير من معدّل الترجمة، طالت فترة الترجمة والتجميع ولم نتحول بعد إلى التأليف والإبداع، مع أن فترة الترجمة الأولى لم تستغرق أكثر من مائة عام وهو القرن الثاني الهجري جاء بعدها التأليف في القرن الثالث عند الكندي مثلاً. ونحن قد بدأنا الترجمة في القرن الماضي منذ بعثات محمد علي وتحت إشراف الطهطاوي وما زلنا نشكو من نقص التراجم.
3_ تكوين مُرَكّب العظمة الحضاري لدى الشعوب الغربية وفي مقابلها مركّب النقص الحضاري لدى الشعوب غير الأوروبية ما دامت العلاقة أحادية الطرف، طرفٌ يُعطي وطرف يأخذ، طرف يبدع وطرف ينقل، وبمرور الأجيال، تتحول العادة إلى طَبعٍ، ويتحول الطَبعُ إلى سلوك طبيعي.
4_ ضياع قدرة العقل على التفكير وتحويله إلى وظيفة الذاكرة أي التذكُّرُ والاستيعاب. وبالتالي تَقُلُّ قدرات الذكاء، وتختفي محاولات الإبداع وينتقل ذلك الموقف الحضاري العام إلى نمط في الحياة الثقافية في التعليم في المدارس والجامعات حتى في معاهد البحث العلمي.
5_ خلق طبقة من المتخصّصين لنشر العلم والقيام بأعمال الترجمة لمراكز الثقافة الممثّلة للدول الغربية، وتوجيه الرأي العام لدى الشعوب بنوع المعلومات المترجمة ومعظمها عن مآثر النهضة الأوروبية ومميزات المدنية الحديثة حتى يتحوّل الوعي القومي من الذات إلى الغير فتتكسّب هذه الطبقة، وتحوّل العلم من رسالة إلى منفعة شخصية أو إلى وجاهة إجتماعية وسط شعوب في حاجة إلى التعلم والمعرفة.
6_ ويزيد وَلاءُ هذه الطبقة للغير إلى حدّ يَقربُ من الخيانة الوطنية إذا ما أصبحوا أدوات للغزو الثقافي الأجنبي، ورُسُلاً للاستعمار الثقافي وهم على وعي بدورهم، فيجرفهم في النهاية أقرب تيار للثقافة الوطنية.
-----------------------------
المصدر : دراسات فلسفية
http://www.balagh.comالمصدر
=============(4/455)
(4/456)
جهاد العفة . . في مواجهة التغريب
د. أحمد عبدالرحمن
كانت علاقات الرجال بالنساء إحدى التحديات الكبرى التي واجهت الأمة المسلمة في العصر الحديث , وقد طرح الغرب الأوروبي الأمريكي رؤاه لها , فإذا هي تناقِض - في الصميم - شريعة الإسلام التي تنظم تلك العلاقات , وهكذا ظهرت "قضية المرأة" , وتطورت وتضخمت هذه الأيام , ودار الصراع بين الإسلام والرؤية الغربية في محاولات مستميتة لإحلال تلك الرؤية محل الشريعة الإسلامية .
وربما كان "مؤتمر بكين" , ومن قبله "مؤتمر القاهرة" - أحدث الحلقات في ذلك التحدي الاجتماعي , والأخلاقي , والتشريعي الكبير , وها هي وزارة الثقافة المصرية تطرح القضية في "مؤتمر جديد" يروج لوجهة النظر العلمانية .
ونستعيد - أولاً - صورة موجزة لتلك العلاقات كما يمليها الإسلام , فنقول : إن الإسلام لا يقر أي اتصال بين الرجال والنساء إلا من خلال الزواج الشرعي بشروطه الشرعية المعروفة عند المسلمين , وهو يحرم كل ضروب الفحشاء (ما ظهر منها وما بطن) , ويطبق عقوبات رادعة على مقترفيها , وقبل العقوبات يشرع الإسلام لفتح كل الأبواب لتيسير الزواج , والإحصان , كما يغلق كل أبواب الحرام , ويضع من التدابير الوقائية ما يحُول بين المسلمين , وبين الرذيلة , ابتداءً من مجرد النظرة إلى المرأة الأجنبية , والخلوة بها , وهو يحارب الشائعات المغرضة , ورمي المحصنات , وينظف المجتمع المسلم من كل ما يحض على الرذيلة , أو يزينها , أو يهون ارتكابها , ثم إنه يسمح بتعدد الزوجات , ويبيح الطلاق , وينهى عن "عَضْل" النساء , وعن تبتُّل الرجال , هذا فضلاً عن ضمانات العقيدة الإسلامية.
* هذه هي معالم العفة الجنسية في الإسلام , ومعالم نظامه لعلاقات الرجال بالنساء , وتنعكس "العفة" أو "العفاف" على مظهر المسلم وملبسه - رجلاً كان , أو امرأة - فالمرأة منهية عن التبرج , ومأمورة بلباس الحشمة والوقار والستر , والرجل مأمور بستر العورة , وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" ؛ فسأله سائل : فالرجل يكون مع الرجل؟ (يعني : أيجوز أن يكشف الرجل عورته لرجل آخر ؟) , فقال صلى الله عليه وسلم : "إن استطعت ألا يراها فافعل !" , فعاد الرجل يسأل : فالرجل يكون خالياً , (يعني : أيجوز للرجل أن يعري عورته وهو في خلوة ؟) , فقال صلى الله عليه وسلم : "الله أحق أن يُستحيا منه" , وقد تحدثت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن حالها مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : "ما رأيت ذلك منه , ولا رأى ذلك مني" (أورده القرطبي في تفسيره) .
* وهكذا نرى أن معالم النظام الإسلامي هي : العفاف والستر , والحرص الشديد على صيانتهما إلى أقصى الحدود الممكنة .
* وفي مواجهة "العفاف والستر" , جاء التحدي الأوروبي مناقضاً لهما ؛ فأوروبا الحديثة رجعت إلى التراث اليوناني , والروماني الوثني , ونبذت شريعة التوراة والإنجيل , ولم يحافظ على تعاليمهما إلا قلة قليلة من الناس , وعند اليونان كان الشذوذ منتشراً , وقد كانوا وثنيين , وقد لقي الشذوذ عند كُبرائهم الرضا والموافقة, ومن أولئك "سولون" و"يوربيدس" و"أفلاطون" , ومعلوم أن أفلاطون كان قد رسم نظاماً مثالياً لدولته الخيالية , وجعل النساء فيها "مشاعاً" في طبقة الجنود , وعلى هذا التراث بُنيت علاقات الرجال والنساء , بعد الثورات العلمانية الحديثة التي نبذت المسيحية ؛ فكانت مضادة للعفاف الذي يفرضه الإسلام.
* وكان اليونان ضد "الستر" أيضاً , وكان من عادة الرياضيين أن يشاركوا في المسابقات المختلفة , وهم عُراة عُرياً تاماً , وزعم أفلاطون أن "الأفضل تعرية الجسد" , كما زعم أن العري لم يعد يثير السخرية عند اليونانيين ؛ بعد أن كشف لهم العقل عما يثير السخرية , وما لا يثيرها ! (الجمهورية : الفقرة رقم 453) , وكان اليونانيون يظنون أن الجمال البشري يبلغ ذروته في الجسد الإنساني العاري ؛ ولهذا كان الجسد العاري هو الموضوع المسيطر في فن النحت اليوناني , وعند تأسيس كليات الفنون في العالم الإسلامي في العصر الحديث أُبيح رسم الأجساد العارية محاكاة لما يقع في مثيلاتها في بلاد الغرب , دون اعتبار لدين الأمة أو شريعتها !(4/457)
* والحق أن الدول الأوروبية - التي احتلت معظم بلاد المسلمين - سعت منذ وطئت أقدامها تلك البلاد لإحلال نماذج العلاقات الأوروبية بين الرجال والنساء محل "العفاف والستر" , وقد أدركوا أن هذا الإحلال يمثل شطراً مهماً جداً في مشروعهم للقضاء على هوية الشعوب المسلمة واستقلالها الاعتقادي والتشريعي والأخلاقي , وكانت علاقات الرجال والنساء مدخلاً لذلك , فلم يتوانوا عن استغلاله , ووجد المسلمون أنفسهم في مواجهة هذا التحدي , والعدو هو المسيطر على شئون بلادهم ؛ فبيده السلطة والمال , ومعه الشهوات الحيوانية الفطرية , وهو يزين للناس الهبوط والانفلات من ضوابط العفاف والستر , والمسلمون يدعونهم إلى الارتفاع عن الدنايا والرذائل , والالتزام بأخلاقيات دينهم , ورفض الغوايات التي يقدمها المستعمرون , والامتناع عن محاكاة نسائهم في تبرجهم ومجونهم وإسفافهم .
* شرع المستعمرون الأوروبيون - فور احتلالهم للبلاد الإسلامية - في إحلال نظمهم (أو فوْضاهم إن شئت الدقة) محل أخلاقيات "العفاف والستر" الإسلامية , وهذا أنموذج لذلك يتمثل فيما صنعته جيوش فرنسا الاستعمارية في مصر والمصريين بقيادة نابليون .
* إن المؤرخين المغرضين يتحدثون عن العلماء الذين جلبهم نابليون معه لخدمة جيشه , ولا يذكرون أنه جلب معه أكثر من 300 امرأة , كُنَّ بمثابة البذور الخبيثة لنشر البِغَاء في القاهرة , وفي هذا يقول كريستوفر هيرولد - المؤرخ الأمريكي - في كتابه "بونابرت في مصر" : "وأفلحت نساء أُخريات - غير المرافقات بإذن , تنكَّرن في زي جند في فرق أزواجهن - في التسلل إلى ناقلات الجنود , وبلغ عدد النساء المرافقات للحملة جميعاً نحو 300 امرأة" (الترجمة العربية , ص38 , 217) , فماذا فعلت تلك النسوة ؟ , وماذا فعل الضابط والجنود في جيش الاحتلال بأخلاق العفاف والستر ؟ .
* لقد كان المجتمع المصري ملتزماً بالإسلام وأخلاقياته , وكان كل خروج عليها يلقى الردع والعقاب , وكان الحجاب على رؤوس النساء جميعاً , حتى المسيحيات واليهوديات المصريات , ولم تُرَ امرأة سافرة , إلا زوجات القناصل الأوروبيات (نفسه , ص199) , ولكن في مُناخ الاحتلال , ومع انتشار النساء السافرات من الفرنسيات في شوارع القاهرة , واستهتارهن الشديد , وتبذُّلهن , أخذت بعض النساء - غير المسلمات - في محاكاتهن , وبعد حوالي 14 شهراً , انقلبت الأوضاع انقلاباً شنيعاً ! .
* وهذا هو الوصف الذي سطره "الجبرتي" - المؤرخ الأمين , وشاهد العيان على أحداث تلك الفترة الحالكة السواد من تاريخ مصر - حيث يقول في تقريره عن أحداث يوم 24/3/1214 هـ : "وخرجوا تلك الليلة عن طورهم (يقصد أنهم تجاوزوا حدود الشرع والعرف) , ورفضوا الحشمة , وصحبتهم نساؤهم , وقَحَّابهم , وشرابهم , وتجاهروا بكل قبيح من الضحك والسخرية والكفريات , ومحاكاة المسلمين (يقصد تقليد أفعال المسلمين سخرية منهم !) , ووقع تلك الليلة بالبحر (يقصد نهر النيل) وسواحله من الفواحش , والتجاهر بالمعاصي والفسوق , ما لا يكيف ولا يوصف , وسلك بعض غوغاء العامة , وأسافل العالم (يقصد أسافل الناس) ورعاعهم مسالك تسفل الخلاعة , ورذالة الرقاعة , بدون أن ينكر أحد , على أحد من الحكام أو غيرهم , بل كل إنسان يفعل ما تشتهيه نفسه , وما يخطر على باله , وإن لم يكن من أمثاله" !
* وهذه الكلمات الأخيرة تشير إلى ما كان سائداً قبل الاحتلال من إنكار للمنكرات من قِبَل السلطات , ومن قِبل الشيوخ وعامة المسلمين , ثم وقعت التغيرات , و"الجبرتي" يصف ذلك فيقول إنه في سنة 1213هـ - أول سنة للاحتلال - : "لما حضر الفرنسيس - أي الفرنسيون - إلى مصر , ومع البعض منهم نساؤهم , كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم , وهن حاسرات الوجوه , لابسات الفساتين , والمناديل الحرير الملونة , ويركبن الخيول والحمير , ويسوقونها سَوْقاً عنيفاً , مع الضحك والقهقهة , ومداعبة المكارية معهم , وحرافيش العامة (يقصد أسافل العامة) ؛ فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء والأسافل والفواحش" , ومن الواضح أن استبشاع خروج النساء "حاسرات الوجوه" مرُّده إلى ما كان سائداً من الستر للنساء , وتغطية وجوههن بالبراقع , واستنكار الملابس الملونة مرده إلى أن النساء لم يكُنّ يخرجن إلا ملفوفات في العباءات السوداء , أو الثياب السوداء , أو الزرقاء , وكذلك بقية الأوصاف المنكرة التي أوردها , ما رآها كذلك إلا لتناقُضها مع أخلاقيات البلاد المستقرة , وبدأت "الطبقة السفلى" من النساء في تقليد الفرنسيات .(4/458)
* ومن الممكن أن نقول إن "الإحلال" بهذه الأساليب , تم بالإغراء والإغواء والمثل السيئ! , وهو بهذه المثابة غير قسري , لكن المحتلين الفرنسيين لم يقفوا عند تلك الحدود ؛ فبعد موقعة بولاق فتك الجيش الاستعماري بأهاليها : "وغنموا أموالها , وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات اللاتي صِرْنَ مأسورات عندهم , فزيُّوهن بزي نسائهم , وأجروهن على طريقتهن في كل الأحوال , فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية , وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر" (راجع : تاريخ الجبرتي , ج2 , ص436 , ط. دار الجيل , بيروت) .
* ويصف هذه الأوضاع أيضاً "نقولا الترك" - المؤرخ اليوناني الذي شاهد الأحداث - فيقول : "وخرجت النساء خروجاً شنيعاً مع الفرنساوية , وبقيت مدينة مصر (يقصد مدينة القاهرة) مثل باريس ؛ في شرب الخمر والمسكرات , والأشياء التي لا ترضي رب السماوات" (هيرولد : هامش ص219) , ويصف رد فعل الشعب المصري المسلم , فيقول : "إن المصريين كادوا أن يموتوا من الغيظ حين كانوا يرون تلك المناظر" !
* وكان قادة الجيش الفرنسي وضباطه وجنوده ونساؤهم أمثلة ساقطة إلى أبعد الحدود في تردِّيهم في الرذيلة , وافتخارهم بها , وخصوصاً "ديزيه" الذي كان يدمن اغتصاب الفتيات الصغيرات ! (راجع : هيرولد , ص314 , ص348) .
* كان المصريون المسلمون يتميزون من الغيظ حين يرون الفجرة والفاجرات من المحتلين , ومن السفلة الذين سايروهم , وقد تفجرت ثورتهم العامة الأولى - التي تسمى (ثورة القاهرة الأولى) - يوم 21/10/1798م , وهو العام نفسه الذي ابتُليت فيه مصر بالعدوان الفرنسي , وكان إحلال "الإباحية" محل "العفاف" - أحد البواعث الأساسية للثورة (هيرولد : ص261) , وكان الثوار هم "الغلاة في الدين" حسب تعبير "هيرولد" ! , وهم المتدينون من أئمة المسلمين وطلاب الأزهر , الذين قادوا الثورة , ومعهم الطبقة الفقيرة المتدنية , وأُحبطت الثورة بعد أن أُطلقت المدفعية الحديثة على الجامع الأزهر , وعلى المساجد المختلفة في أحياء القاهرة , ولم تمضِ سوى خمسة أشهر وستة أيام حتى ثارت القاهرة من جديد , ولم يجد "كليبر" - قائد - الاحتلال بُدّاً من "قذف المدينة بالمدافع وتجويعها ؛ حتى تسلم" (هيرولد , ص489) .
* وبعد ثلاث سنوات - بأيام - تم طرد المحتلين الفرنسيين , وعاد الحكم العثماني من جديد , وتولى "محمد علي" حكم البلاد باسم الدولة العثمانية - وباختيار الشعب وزعمائه - سنة 1805م , وعاد التوقير لأخلاق العفاف والستر الإسلامية , لكن جرثومة الإباحية والسفور كانت قد أصابت بعض العائلات والأفراد , وأخذت تفعل فيهم فِعلها كالمرض الخبيث .
* وانضمت إلى الجرثومة الفرنسية جراثيم أخرى ؛ ففي تلك الفترة بدأ إرسال البعثات إلى أوروبا - من تركيا وإيران ومصر - لتحصيل العلوم العسكرية , ومن ثم تأسيس جيوش حديثة , وفي مصر بدأ محمد علي باستخدام ضباط فرنسيين سنة 1820م (راجع : عبد الرحمن الرافعي : عصر محمد علي , دار المعارف بمصر , ط4 , سنة 1982 , ص321-377) , وبعد ذلك أرسل محمد علي بعض الضباط المصريين إلى فرنسا وإنكلترا ؛ لإتمام تعليمهم هناك (نفسه , ص378) , وقد بلغ عدد المبعوثين إلى أوروبا في عهد محمد علي (319) , من سنة 1813 إلى سنة 1847م (نفسه , ص409) .
* ثم توالت البعثات إلى أوروبا في مختلف مجالات العلوم , وعاد المبعوثون وقد حملوا معهم توجهات ثقافية مجافية للثقافة الإسلامية , وعبر (رفاعة الطهطاوي) عن هذه التوجهات , وفيما يتصل بموضوعنا نلاحظ أنه ينفي أن يكون التبرج والاختلاط من دواعي الفساد ! , والقرآن الكريم ينهى عن التبرج - كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخلوة , وحين تحدث عن تحلُّل الفرنسيين من ضوابط العفاف والستر سمى التحلل "لخبطة" ! , فقال : "إن نوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن , بل منشأ ذلك التربية الجيدة والخسيسة" , وهذا الكلام فيه تهوين من قيمة "الخمار" الذي أمر به القرآن الكريم بقوله - تعالى - :{وَلْيَضْرِبْنَ بِخمُرِهِنَّ عَلَى جيُوبِهِنَّ} [النور:31] , كذلك سوَّغ الطهطاوي مراقصة الرجال للنساء , حين وصف حفلات الرقص , وقال : "إن الرقص - عندهم - فيه من الفنون ... , ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس, وكأنه نوع من العياقة والشلبنة , لا الفسق" ! (نقلاً عن د.محمد محمد حسين : الإسلام والحضارة الغربية , المكتب الإسلامي , ط1 , سنة 1399هـ - 1979م , بيروت , ص36) (والعياقة , والشلبنة كلمتان عاميتان تعنيان : الأناقة والفتوة , هامش ص36 نفسها) , وهكذا أضيفت جراثيم جديدة ضد أخلاق العفاف والستر الإسلامية .
* وكان محمد علي باشا حريصاً على أن يقف الاقتباس عن أوروبا عند حدود العلوم , ولا يتعداها إلى الثقافة , لكن غيره (في مصر , وفي تركيا , وفي إيران) لم يكونوا حريصين على ذلك , بل أراد بعضهم أن يجعل بلاده قطعة من أوروبا , مثل السلطان "محمود الثاني" , ثم ابنه عبد المجيد في تركيا (نفسه , ص14-16) .(4/459)
* لكن الخديوي "إسماعيل" كان المثل البارز لذلك النوع من الحكام (1863-1879م) , وهو الذي زعم أن مصر صارت "قطعة من أوروبا" , في حين كانت مصر في عهده قد فقدت استقلالها , وأُخضعت لوصاية الدول الأجنبية (راجع : الرافعي , عصر إسماعيل , ج2 , ص81) , وكانت تربية إسماعيل فرنسية , وقد مكث في باريس فترة كطالب بعثة , لكنه لم يحصِّل شيئاً من العلوم , وأحب الفرنسيين جداً , فلما تقلد منصب الخديوية فتح لهم البلاد على مصراعيها , فجاءوا بكثرة , وجلبوا معهم - بطبيعة الحال - أخلاقياتهم التي لا تعترف بالعفاف والستر (نفسه , ص297-298) , وكان أولئك الأوروبيون - أو معظمهم - بشهادة القاضي الهولندي فان بملين Van Bemlen الذي عمل بالمحاكم المختلطة - : "من أحطّ الطبقات , ولم يكن همهم إلا الإثراء على حساب البلاد" (نفسه , ج1 , ص87-88) .
* وكان إسماعيل محباً للفنون الفرنسية , وحاول جلبها إلى مصر , ومن ذلك حفلات الرقص التي أنفق على إقامتها ببذخ , ودعا إليها الكبراء والأثرياء (نفسه , ص298) , وتلك هي البيئة الخصيبة للمجون والتحلل من كل آداب العفاف والستر الإسلامية.
* وكانت مدارس التنصير- في ذلك العهد - تخرِّج أناساً فقدوا الولاء للدين والوطن : "ونال كثير منهم الحماية الأجنبية بواسطة القناصل ؛ فصاروا في حكم الأجانب في انتمائهم للدول الأجنبية , وميولهم إليها" (عصر إسماعيل , ج1 , ص209) , فهؤلاء طرحوا أخلاق العفاف والستر , وحاكوا الأجانب في السفور والتبرج والتحلل , بل إن بعضهم ارتدّ عن الإسلام ! .
* وهكذا اتسعت دائرة التحدي , وصمدت الأمة المسلمة , وجاهدت , وحاصرت الوباء في العواصم , فظل معظم البلاد على أخلاقيات الستر والعفاف , والآن تعود العواصم الإسلامية - بفضل الله تعالى - إلى الحجاب والنقاب والخمار , ويتحقق "الإحلال الحميد" , وينتصر دين الله في هذه التحديات .
* والآن لابد أن نتساءل :
كيف صارت علاقات الرجال بالنساء في المجتمعات التي تحللت من العفاف والستر ؟ , هل صارت أكثر إنسانية ورحمة واستقراراً ؟ , وكيف صار حال الأسرة ؟ , هل قويت وتماسكت ؟ , وهل انعدمت الجرائم الجنسية , أو انخفضت ؟ , وكيف صار حال الأطفال ؟ هل انخفض جنَاحُهم ؟ , هل تمتعوا بحقوقهم في دفء الأسرة وحضانتها وحبها؟ .
* إن هذه الأسئلة تكشف لنا عن الفائز في التحدي , ونحن نتوجه بها إلى الواقع ؛ لنستشهد به , فهو الشاهد التجريبي على الفلاح أو الإخفاق , وهو شاهد لا يكذب , , والإحصاءات الرسمية هي "الأساس العلمي" لمشروعية شهادته , والأجوبة هي التي ستبين إن كانت الاستباحة قد حققت "النجاح الحيوي" , أو العكس .
* ونبدأ بتقرير كندي حكومي - صدر في منتصف عام 1993 - يفيد أن أكثر من نصف عدد النساء في (كندا) كُنَّ ضحايا لجرائم اغتصاب , أو محاولات اغتصاب , وبيَّن التقرير أنه استند إلى دراسة 420 حالة لسيدات - تراوحت أعمارهن بين 16 و64 عاماً - في مدينة "تورنتو" , وثبت أن 98% منهن تعرضن لاعتداءات جنسية , وأكدت نسبة 54% منهن تعرضهن لتجارب جنسية - بالقوة - من قبل بلوغهن سن السادسة عشرة , وهذه الأوضاع تمثل : انهياراً في العلاقات الإنسانية , وخطراً عاماً داهماً , يتهدد كل فتاة وكل امرأة في عِرضها , وفي حياتها .
* وفي الولايات المتحدة ذكرت آخر الإحصائيات أن جريمة اغتصاب تُرتكب كل دقيقة , ويحصي تحقيق شمل عامي 92-1993 - وقوع نصف مليون اعتداء جنسي على الأمريكيات كل عام , وتقول الإحصاءات "إن جرائم الاغتصاب قفزت بنسبة 59% في عام 1991 عما كانت عليه عام 1990", هذا مع ملاحظة أن 49% من حوادث الاغتصاب لا تبلَّغ للشرطة , وعلى هذا يجب أن نعترف بأن مليون اعتداء جنسي يقع على نساء أمريكا كل عام , لا نصف مليون فقط , وبناءً على هذا يندر أن تستطيع سيدة أمريكية الإفلات من التعرض لتلك الجريمة البشعة! .
* وأما الأسرة فتعرضت للدمار في مُناخ التحلل من العفاف , فمنذ عام 1984 تتوالى التقارير الرسمية التي ترسم الخط البياني لانهيار الأسرة البريطانية , ففي بريطانيا تقع "حالة طلاق" كل ثلاث دقائق , ويقول مكتب المساحة والتعداد البريطاني : "إن حالات الطلاق زادت في سنة 1985 بنسبة 11% عنها عام 1984" , وذكر المكتب أن "الانحرافات الأخلاقية" هي أحد أسباب الطلاق , وفي عام 1995 حذرت الإحصاءات الرسمية من خطر انقراض الأسرة البريطانية , وحذر مؤتمر للتعليم في يناير عام 1996 من أنه إذا لم يتم إنقاذ القيم ستعود بريطانيا إلى عصور البربرية في جيلين !(4/460)
* وعلى الرغم من هذا الإخفاق الحيوي المروع , الذي صورنا بعض ظواهره فقط - طلباً للإيجاز - فإن الأمم المتحدة تحاول تعميم أو تدويل التحلل الأخلاقي ! ؛ لقد عبرت مواثيق المنظمة الدولية عن ثقافة أوروبا وأمريكا , ولذلك وجدناها تُدين "القوادة" , لكنها لا تدين البغاء ! (انظر : اتفاقية حظر الاتجار بالأشخاص واستغلال دعارة الغير , التي صدرت في 2/12/1949) , وفي مؤتمر القاهرة للسكان , ثم مؤتمر بكين حاولت المنظمة الدولية اعتماد (الشذوذ والإباحية) في توصياتها , ثم جعْلها دستوراً عالمياً , ينسخ كل الدساتير والأعراق , والشرائع التي تستمسك بالعفاف والستر ! .
* ويمكن القول إن هناك ظواهر أخرى في أمريكا نفسها تشير إلى أن العفة كسبت التحدي ؛ فقد تبلور في السنوات الأخيرة تيار واسع ينادي بالعودة إلى الدين , وإلى أخلاقياته , وكان "ريجان" قد دعا إلى السماح بأداء الصلاة في المدارس , ثم جاء "بوش" فوضع الدين والأخلاق في برنامجه الانتخابي , ويُعزَى فوز الجمهوريين في انتخابات الكونغرس الأخيرة إلى استجابتهم لذلك التيار الشعبي ؛ إذ إنهم وضعوا عناصر دينية وأخلاقية ضمن برامجهم الانتخابية , وقد بيَّن استطلاع للرأي - أجراه معهد "جالوب" - أن أغلبية الأمريكيين توافق على أداء الصلاة في المدارس لمختلف الأديان - بما فيها الإسلام - وتكونت مؤسسات تدعو الأمريكيات إلى الحفاظ على عفتهن , والترفُّع على الإباحية الشائعة .
* ويمكن رد هذه الصحوة الدينية الأخلاقية في أمريكا إلى عوامل عديدة , منها الإخفاق الحيوي الذريع الذي نتج عن الإباحية , ومنها أنها سبب العدوى بكثير من الأمراض , أخطرها الإيدز , ثم السيلان , والزهري , ومنها كتابات عديدة رفضت الإباحية , والإلحاد , والمادية , مثل مؤلفات "بول تيليش" Poul Tilich و"كاريل" و"دوبو" و"سوروكين" وغيرهم .
* لكننا يجب أن نلتزم الحذر في النظر إلى هذه الظواهر ؛ فالرئيس كلينتون - مثلاً - فاز بالرئاسة بأصوات الشواذ , الذين شكَّلوا سُبع الأصوات التي انتخبته , وقد كانت أصواتهم هي الأعلى في مؤتمر بكين , بل سيطروا على المؤتمر , واستبعدوا دعاة الأخلاق ! .
* وأما عندنا - نحن المسلمين - فالعفاف والستر دين , وشريعته قرآن وسُنَّة , وبصرف النظر عن النجاح الحيوي العظيم الذي تحققه أخلاقيات العفاف , فنحن نتمسك بها , ونعَض عليها بالنواجذ , ويجب أن نحافظ على التدابير الوقائية التي قررتها شريعتنا السمحة ؛ لنباعد بين أمتنا , وبين الأوبئة والكوارث الصحية , والأمنية , والاجتماعية التي أفرزتها "إباحة الاستباحة" , وبذلك نقدم للإنسانية "الأنموذج الإسلامي الرفيع" , الذي يضمن الطهارة للرجال والنساء , والسعادة الأخروية والدنيوية لهم , ولأولادهم , ومجتمعهم .
http://www.almana صلى الله عليه وسلم netالمصدر
============(4/461)
(4/462)
المسلمون فى بلجيكا بين هموم التغريب والهجمات العنصرية والتناقضات الأخلاقية
بلجيكا مملكة تقع في الشمال الغربي من أوروبا، مساحتها 513ر30 كم2 وعدد سكانها أكثر من عشرة ملايين نسمة.
وينتمي معظم الشعب البلجيكي إلى فئة الفلمنكيين الذي يشكلون حوالي 55 بالمائة من سكان بلجيكا وهم من سلالة الفرانكيين (قبائل جرمانية، احتلت ما يعرف ببلجيكا فى القرن الخامس الميلادي) ويتكلمون اللغة الهولندية، والوالون حوالي 30 بالمائة ويرجع نسبهم إلى قبائل السلتية التي عاشت في المنطقة إبان الاجتياح الفرنكي ويتكلمون اللغة الفرنسية.
ويعيش في بلجيكا حاليا زهاء نصف مليون مسلم حسب تقديرات المشرفين على المركز الإسلامي والثقافي في بلجيكا معظمهم من المنتمين إلى الجالية الوافدة من البلاد الإسلامية وتحديدا من المملكة المغربية وتركيا والبانيا بشكل رئيسي، إلى جانب مختلف الجنسيات الاخرى.
ويعد المركز الإسلامي والثقافي في بلجيكا أحد اهم المراكز الإسلامية في غرب أوروبا على الإطلاق، وأحد المنارات المتقدمة للدين الإسلامي في أوروبا.
وقد انشئ المركز عام 1936م في مبنى صغير مستأجر في احد احياء بروكسل المتواضعة.
واعترفت الحكومة البلجيكية عام 1968م بالدين الإسلامي كدين رسمي لها، مما يعد سابقة في تاريخ تعامل الحكومات والدول الاوروبية مع الحضور الإسلامي في أوروبا.
وصادقت الدولة البلجيكية عام 1975م بادخال دروس التربية الإسلامية ضمن البرامج المدرسية لابناء الجالية مما زاد من ثقل ومسؤوليات المركز الإسلامي والثقافي في بروكسل.
وشهدت بروكسل في نطاق تطوير نشاطات المركز افتتاح أول معهد إسلامي أوروبي عام 1983م، وفي عام 1986م تم افتتاح أول مسجد في مطار العاصمة البلجيكية تحت إشراف المركز الإسلامي.
ويشهد الدين الإسلامي إقبالا متصاعدا لاعتناقه والدخول تحت عصمته من قبل أبناء الشعب البلجيكي وقطاعات واسعة من الأوروبيين المقيمين في بلجيكا. ويؤدي فريضة الحج هذا العام 2000 حاج من مسلمي بلجيكا.
لكن التحديات العنصرية التي يواجهها المسلمون في أوروبا خصوصا بعد أحداث سبتمبر كان لها حضور واسع في بلجيكا، فبعد قيام أحد المدرسين البلجيكيين بالتهجم على شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم تظاهر المئات من الطلبة الأجانب خاصة أبناء الجاليات الإسلامية والعربية في مدارس مقاطعة أنتويرب البلجيكية، احتجاجا. وعن ملابسات الواقعة التي حدثت داخل مدرسة ثانوية تجارية وأدت إلى خروج المظاهرة، قالت مديرة المدرسة، نورا فيرسخورن إن المدرس البلجيكي يعمل منذ سنوات في المدرسة وأمس أبلغ عن غيابه لسبب مرضي، وان هناك تحقيقا جاريا حول تهجمه. وأضافت في تصريحات لوسائل الإعلام البلجيكية أمس أن المدرس حصل على اجازة لمدة أسبوع، وسوف نتخذ الإجراءات اللازمة عقب انتهاء التحقيق.
من جانبه، قام أحد الطلبة العرب م. الخلفاوي، 17 عاما، إن المدرس معروف لدينا بأنه لا ينظر إلى الإسلام نظرة جيدة مضيفا، كنا نصعد سلالم المدرسة وفجأة وبدون أية أسباب فوجئنا بالمدرس يتهجم على الإسلام والرسولل، ويصف المواطن البلجيكي الذي قام في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بقتل المغربي محمد إشراق (مدرس تربية إسلامية) في مدينة أنتويوب بأنه شخص مقدس. وأضاف الطالب العربي بأنه توجه هو وزملاؤه إلى أحد المدرسين العرب في المدرسة ذهبوا إلى مديرة المدرسة لتقديم شكوى ضد المدرس البلجيكي.
جمعية مدارس بلا عنصرية قالت أمس إنها تتلقى باستمرار عددا من الشكاوى من جانب التلاميذ المسلمين ضد المدرسين وهي تنحصر في إرغامهم على أكل وجبات فيها لحوم الخنزير. ويضيف فرانك فينمانس مسؤول بالجمعية يصل الأمر أحيانا إلى التهديد بمنع الطلبة من تأدية الامتحان إذا حضروا وهم يرتدون الشال الفلسطيني، وأحيانا إلى وصفهم بأنهم أسوأ من طالبان. ويقولون للأطفال أهلا (أسامة) بن لادن الصغير. وكان مركز المساواة ومكافحة العنصرية في بلجيكا قد تلقى في العام قبل الماضي 31 شكوى بسبب العنصرية في مجال التعليم، ونصف تلك الشكاوى تتناول عنصرية المدرسين داخل المدارس.
مصاعب الاندماج العربي في المجتمع البلجيكي
على مدى شهور، نظم دياب ابو جهجه البلجيكي من اصل لبناني مظاهرات تأييد للفلسطينيين وراقب أي سلوك ينم عن عنصرية مزعومة من جانب الشرطة مما أدى إلى تفاقم التوتر في المدينة، وقد اتهم بالتحريض على شغب في انتويرب في نوفمبر، لكن نحو 30 الف مسلم يعيشون في المدينة وبصفة خاصة الشباب يعتبرونه بطلا بعد أن القي القبض عليه لفترة قصيرة في الشهر الماضي بدعوى إثارة أعمال شغب اثر مقتل مدرس مسلم على أيدي رجل بلجيكي ابيض.
ويرفض كثير من المهاجرين المسلمين الأكبر سنا، تشدده، إلا أن حديثه المناهض للاندماج في المجتمع وجد أرضاً خصبة بين المراهقين العرب في انتويرب، حيث فاز حزب فلامس بلوك المناهض للهجرة بثلث الأصوات في الانتخابات المحلية قبل عامين.(4/463)
قال جهجه (31 عاما) لرويترز الاندماج في بلجيكا يعني الاحتواء.. عندما يتحدث السياسيون عن الاندماج يتحدثون عن احتوائنا في ثقافتهم الواحدة مع احتفاظنا بنوع من الصلة بتراثنا الشعبي.. لا نريد الانفصال، بل نريد الاندماج. ولكن نريد ان نبقى كما نحن.
وتظاهر المئات في شوارع انتويرب ثاني اكبر مدن بلجيكا، حيث يقطن 450 الف نسمة قبل قتل المدرس المسلم في الشهر الماضي. وحطم المتظاهرون النوافذ واتلفوا سيارات ورشقوا رجال الشرطة بالحجارة. والقي القبض على عدد من المتظاهرين.
وأثارت أعمال جهجه قلق الحكومة مما دعا رئيس الوزراء جي فيرهوفشتات للتعهد بتقييد أنشطة رابطة الأوروبيين العرب التي يتزعمها. وقال محمد شاكر المتحدث باسم جماعة اتحاد المنظمات المغربية يظهر العداء علنا بمناطق معينة في انتويرب. يوجد فصل عنصري بالفعل في قطاعات معينة من المجتمع.
وأضاف انه أمر غريب. تشعر الأغلبية بأنها مهددة من أقلية لا تملك سلطة سياسية أو ثقافية أو اقتصادية. وقال انه يوافق إلى حد كبير على تحليل جهجه للتمييز ضد المسلمين والسلوك الاستفزازي للشرطة، إلا انه ذكر ان توفير مزيد من الوظائف ومساكن وتعليم أفضل سيخفف من حدة التوتر.
بلجيكا تجيز الزيجات بين مثليي الجنس
وفي حدث متناقض مع الأخلاق السليمة ومتناسب مع الفساد الأخلاقي تبنى مجلس النواب في بلجيكا بغالبية كبيرة مشروع قانون يسمح بالزواج بين شخصين من الجنس نفسه في بلجيكا دونما السماح بتبني أولاد.
وحصل مشروع القانون الذي وافق عليه مجلس الشيوخ على دعم 91 نائبا ومعارضة 22وامتناع تسعة عن التصويت. وسيدخل القانون الجديد حيز التنفيذ خلال أربعة اشهر تقريبا وسيجعل من بلجيكا ثاني دولة اوروبية بعد هولندا تجيز الزواج بين مثليي الجنس.
ويغير النص القانون المدني البلجيكي الذي سينص من الآن وصاعدا على "السماح لشخصين من الجنس نفسه أو من جنسين مختلفين بالزواج". وسيتمتع مثليو الجنس بالحقوق نفسها التي يتمتع بها الأزواج الاخرى خصوصا في ما يتعلق بالملكية والارث باستثناء ما يتعلق بتبني الأولاد.
وفي ما يتعلق بالسحاقيات تعتبر المرأة التي أنجبت الطفل الأم الحقيقية. كما ينص القانون على منع زوجين من مثليي الجنس من تبني أولاد. وقال وزير العدل مارك فيرويلغهن أن "العقليات تطورت وبالتالي ما من سبب لعدم السماح لزوجين من الجنس نفسه بالزواج".
وصرحت انكي هينتجنز المسؤولة في اتحاد رابطات اللواطيين والسحاقيات في فلاندرا (شمال) "إننا مسرورون جدا للتصويت على هذا القانون". ولا يحصر القانون الزيجات بين مثليي الجنس بالبلجيكيين أو الأشخاص الذين يتحدرون من دول تعترف بمثل هذه الزيجات.
وحذر وزير العدل من "احتمال عدم اعتراف بعض الدول بهذه الزيجات إذ تعتبر بلجيكا وهولندا الدولتين الوحيدتين إلى هذا اليوم اللتين تبنتا هذا التشريع".
شبكة النبأ المعلوماتية - الأحد: 9/2/2003 - 7/ ذو الحجة/1423
http://www.annabaa.o r gالمصدر
============(4/464)
(4/465)
التغريب
التعريف:
التغريب هو تيار فكري كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية ، يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة ، والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي ، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية .
التأسيس وأبرز الشخصيات:
- بدأ المشرقيون في العالم الإسلامي مع نهاية القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر بتحديث جيوشهم وتعزيزها عن طريق إرسال بعثات إلى البلاد الأوربية أو باستقدام الخبراء الغربيين للتدريس والتخطيط للنهضة الحديثة ، وذلك لمواجهة تطلع الغربيين إلى بسط نفوذهم الاستعماري إثر بدء عهد النهضة الأوربية .
- لما قضى السلطان محمود الثاني على الإنكشارية العثمانية سنة 1826م أمر باتخاذ الزي الأوروبي الذي فرضه على العسكريين والمدنيين على حد سواء .
- استقدم السلطان سليم الثالث المهندسين من السويد وفرنسا والمجر وانجلترا وذلك لإنشاء المدارس الحربية والبحرية .
- قام محمد علي والي مصر ، والذي تولى سنة 1805م ، ببناء جيش على النظام الأوروبي ، كما عمد إلى ابتعاث خرجي الأزهر من أجل التخصص في أوروبا .
- أنشأ أحمد باشا باي الأول في تونس جيشا نظاميا ، وافتتح مدرسة للعلوم الحربية فيها صباط وأساتذة فرنسيون وإيطاليون وإنجليز .
- افتتحت أسرة الفاجار التي حكمت إيران كلية للعلوم والفنون على أساس غربي سنة 1852م .
- منذ عام 1860م بدأت حركة التغريب عملها في لبنان عن طريق الإرساليات ، ومنها امتدت إلى مصر في ظل الخديوي إسماعيل الذي كان هدفه أن يجعل مصر قطعة من أوروبا .
- التقى الخديوي إسماعيل في باريس مع السلطان العثماني عبد العزيز 1284هـ/1867م حينما لبيا دعوة الإمبراطور نابليون الثالث لحضور المعرض الفرنسي العام ، وقد كانا يسيران في تيار الحضارة الغربية .
- ابتعث كل من رفاعة الطهطاوي إلى باريس وأقام فيها خمس سنوات 1826/1831م وكذلك ابتعث خير الدين التونسي إليها وأقام فيها أربع سنوات 1852-1856م وقد عاد كل منهما محملا بأفكار تدعو إلى تنظيم المجتمع على أساس علماني عقلاني .
- منذ 1830م بدأ المبتعثون العائدون من أوروبا بترجمة كتب فولتير وروسو ومونتسكيو في محاولة منهم لنشر الفكر الأوروبي الذي ثار ضد الدين الذي ظهر في القرن الثامن .
- أنشأ كرومر كلية فيكتوريا بالإسكندرية لتربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط إنجليزي ليكونوا أداة المستقبل في نقل ونشر الحضارة الغربية .
- قال اللورد لويد (المندوب السامي البريطاني في مصر) حينما افتتح هذه الكلية سنة 1936م : كل هؤلاء لن يمضي عليهم وقت طويل حتى يتشبعوا بوجهة النظر البريطانية بفضل العشرة الوثيقة بين المعلمين والتلاميذ .
- كان نصارى الشام من أول من اتصل بالبعثات التبشيرية وبالإرساليات ومن المسارعين بتلقي الثقافة الفرنسية والإنجليزية ، كما كانوا يشجعون العلمانية التحررية وذلك لعدم إحساسهم بالولاء تجاه الدولة العثمانية ، فبالغوا من إظهار إعجابهم بالغرب ودعوا إلى الاقتداء به وتتبع طريقه ، وقد ظهر ذلك جليا في الصحف التي أسسوها وعملوا فيها .
- كان ناصيف اليازجي 1800-1871م وابنه إبراهيم اليازجي 1847-1906م على صلة وثيقة بالإساليات الأمريكية الإنجيلية .
- أسس بطرس البستاني 1819-1883م في عام 1863م مدرسة لتدريس اللغة العربية والعلوم الحديثة فكان بذلك أول نصراني يدعو إلى العروبة والوطنية إذ كان شعاره : حب الوطن من الإيمان . كما أصدر صحيفة الجنان سنة 1870م التي استمرت ست عشرة سنة وقد تولى منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت مشاركا في الترجمة البروتستانتية للتوراة مع الأمريكيين سميث وفانديك .
- أنشأ جورجي زيدان 1861-1914م مجلة الهلال في مصر وذلك في سنة 1892م ، وقد كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان ، كما كانت له سلسلة من القصص التاريخية التي حشاها بالافتراءات على الإسلام والمسلمين .
- أسس سليم تقلا صحيفة الأهرام في مصر وقد سبق له أن تلقى علومه في مدرسة عبية بلبنان والتي أنشأها المبشر الأمريكي فانديك .
- أصدر سليم النقاش صحيفة المقتطف التي عاشت ثمانية أعوام في لبنان انتقلت بعدها إلى مصر في سنة 1884م .
- تجول جمال الدين الأفغاني 1838-1897م كثيرا في العالم الإسلامي شرقا وغربا وقد أدخل نظام الجمعيات التسرية في العصر الحديث إلى مصر ، كما يقال بأنه انضم إلى المحافل الماسونية ، وكان على صلة بالمستربلنت البريطاني .
- كان الشيخ محمد عبده 1849-1905م من أبرز تلاميذ الأفغاني ، وشريكه في إنشاء مجلة العروة الوثقى، وكانت له صداقة مع اللورد كرومر والمستربلنت ، ولقد كانت مدرسته ومنها رشيد رضا تدعو إلى مهاجمة التقاليد ، كما ظهرت لهم فتاوى تعتمد على أقصى ما تسمح به النصوص من تأويل بغية إظهار الإسلام بمظهر المتقبل لحضارة الغرب كما دعا الشيخ محمد عبده إلى إدخال العلوم العصرية إلى الأزهر لتطويره وتحديثه .(4/466)
- كان المستشرق مستربلنت : يطوف هو وزوجته مرتديا الزي العربي ، داعيا إلى القومية العربية وإلى إنشاء خلافة عربية بغية تحطيم الرابطة الإسلامية .
- قاد قاسم أمين 1865-1908م وهو تلميذ محمد عبده ، الدعوة إلى تحرير المرأة وتمكينها من العمل في الوظائف والأعمال العامة . وقد كتب تحرير المرأة 1899م والمرأة الجديدة 1900م .
- كان سعد زغلول : الذي صار وزيرا للمعارف سنة 1906م شديد التأثر بآراء محمد عبده وقد نفذ فكرة كرومر القديمة والداعية إلى إنشاء مدرسة للقضاء الشرعي بقصد تطوير الفكر الإسلامي من خلال مؤسسة غير أزهرية منافسة له .
- كان أحمد لطفي السيد 1872-1963م من أكبر مؤسسي حزب الأحرار الدستوريين الذين انشقوا عن سعد زغلول سياسيا ، وكان يدعو إلى الإقليمية الضيقة وهو صاحب العبارة المشهورة التي أطلقها عام 1907م وهي مصر للمصريين وقد تولى شؤون الجامعة المصرية منذ تسلمتها الحكومة المصرية عام 1916م وحتى 1941م تقريبا .
- وكان طه حسين 1889-1973م من أبرز دعاة التغريب في العالم الإسلامي حيث تلقى علومه على يد المستشرق دوركايم وقد نشر أخطر آرائه في كتابيه الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر .
- يقول في كتابه الشعر الجاهلي ص26: للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا أيضا ، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي .
- ويقول بعد ذلك : وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح . كما أنه ينفي فيه نسب صلى الله عليه وسلم إلى أشراف قريش .
- لقد بدأ طه حسين محاضرة له في اللغة والأدب بحمد الله والصلاة على نبيه ثم قال : سيضحك مني بعض الحاضرين إذا سمعني أبدأ هذه المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه لأن ذلك يخالف عادة العصر .
- ازدهرت حركة التغريب بعد سيطرة الاتحاديين عام 1908م على الحكم في الدولة العثمانية وسقوط السلطان عبد الحميد .
- وفي سنة 1924م ألغت حكومة مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية مما مهد لانضمام تركيا إلى الركب العلماني الحديث ، وفرض عليها التغريب بأقصى صوره وأعنفها.
- علي عبد الرزاق : نشر سنة 1925م كتابه الإسلام وأصول الحكم الذي ترجم إلى الإنجليزي والأردية ، يحاول فيه المؤلف أن يقنع القارئ بأن الإسلام دين فقط وليس دينا ودولة ، وقد ضرب سميث مثلا به عندما أشار إلى أن التحررية العلمانية والعالمية لا تروج في العالم الإسلامي إلا إذا فسرت تفسيرا إسلاميا مقبولا ، وقد حوكم الكتاب والمؤلف من قبل هيئة العلماء بالأزهر في 12/8/1925م وصدرت ضده إدانة أخرجته من زمرة العلماء ، وكان يشرف على مجلة الرابطة الشرقية كما أقام حفل تكريم لأرنست رينان في الجامعة المصرية بمناسبة مرور مائة سنة على وفاة هذا المستشرق الذي لم يدخل وسعا في مهاجمة العرب والمسلمين .
- وكان محمود عزمي من أكبر دعاة الفرعونية في مصر ، درس على أستاذه دور كايم الذي كان يقول له : إذا ذكرت الاقتصاد فلا تذكر الشريعة ، وإذا ذكرت الشريعة فلا تذرك الاقتصاد .
- وسبق أن قدم منصور فهمي 1886-1959م : أول أطروحة للدكتوراه على أستاذه ليفي بريل مهاجما نظام الزواج في الإسلام التي موضوعها حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها ، وفي هذه الرسالة يقول : محمد يشرع لجميع الناس ويستثني نفسه ، ويقول : إلا أنه أعفى نفسه من المهر والشهود ، لكنه انتقد بعد ذلك حركة التغريب في سنة 1915م وجاهر بآرائه في الأخطاء التي حملها طه حسين ومدرسته .
- ويعتبر إسماعيل مظهر من أئمة مدرسة التغريب لكنه لم يلبث أن تحول عنها إبان عصر النهضة الحديثة .
- وكان زكي مبارك في مقدمة تلاميذ طه حسين ، درس على أيدي المستشرقين وسق له أن قدم أطروحة للدكتوراه في الغزالي والمأمون مهاجما الغزالي هجوما عنيفا لكنه رجع عن ذلك فيما بعد وكتب مقاله المعروف إليك أعتذر أيها الغزالي .
- ويعتبر محمد حسين هيكل 1888-1956م رئيس تحرير جريدة السياسة في الفترة الأولى من حياته من أبرز المستغربين وقد أنكر الإسراء بالروح والجسد معا انطلاقا من نظرة عقلانية حياة محمد ، لكنه عدل عن ذلك وكتب معبرا عن توجهه الجديد في مقدمة كتابه في منزل الوحي .
- وكان الشيخ أمي الخولي وهو من مدرسي مادتي التفسر والبلاغة بالجامعة المصرية ، يروج لأفكار طه حسين في الدعوة إلى دراسة القرآن دراسة فنية بغض النظر عن مكانته الدينية ، وقد استمر في ذلك حتى كشفه الشيخ محمود شلتوت سنة 1947م .
- وقاد شبلي شميل 1860-1917م الدعوة إلى العلمانية ومهاجمة قيم الأديان والأخلاق .
الأفكار والمعتقدات :
أفكار تغريبية :
- المستشرق الإنجليزي جب ألف كتاب إلى أين يتجه الإسلام الذي يقول فيه : من أهم مظاهر سياسة التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة وقد أعلن في بحثه هذا صراحة أن هدف إلى معرفة إلى أي مدى وصلت حركة تغريب الشرق وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا التغريب .(4/467)
- عندما دخل اللورد اللنبي القدس عام 1918م أعلن قائلا : الآن انتهت الحروب الصليبية .
- يقول لورنس بروان : إن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع وفي حيويته ، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الغربي . ولهذا فلا بد من الدعوة إلى أن يطبع العالم الإسلامي بطابع الغرب الحضاري .
- تشجيع فكرة إيجاد فكر إسلامي متطور يبرر الأنماط الغربية ومحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية بغية إيجاد علائق مستقرة بين الغرب وبين العالم الإسلامي خدمة لمصالحه .
- الدعوة إلى الوطنية ودراسة التاريخ القديم والدعوة إلى الحرية باعتبارها أساس نهضة الأمة مع عرض النظم الاقتصادية الغربية عرضا مصحوبا بالإعجاب ، وتكرار الكلام حول تعدد الزوجات في الإسلام وتحديد الطلاق واختلاط الجنسين .
- نشر فكرة العالمية والإنسانية التي يزعم أصحابها بأن ذلك هو السبيل إلى جمع الناس على مذهب واحد تزول معه الخلافات الدينية والعنصرية لإحلال السلام في العالم ، ولتصبح الأرض وطنا واحدا يدين بدين واحد ويتكلم بلغة واحدة وثقافة مشتركة بغية تذويب الفكر الإسلامي واحتوائه في بوتقة الأقوياء المسيطرين أصحاب النفوذ العالمي .
- إن نشر الفكر القومي خطوة على طريق التغريب في القرن التاسع عشر وقد انتقل من أوروبا إلى العرب والإيرانيين والترك والإندونيسيين والهنود ، إلى كيانات جزئية تقوم على رابط جغرافي يجمع أناسا ينتمون إلى أصول عرقية مشتركة .
- تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة ، يقول المستشرق جب: وقد كان من أهم مظاهر سياسية التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن … وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا ولكن من الممكن أي يلعب في المستقبل دورا مهما في تقوية القوميات المحلية وتدعيم مقوماتها .
- عرض روكفلر الصهيوني المتعصب تبرعه بعشرة ملايين دولار لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر وملحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن .
- إن كلا من الاستعمار والاستشراق والشيوعية والماسونية وفروعها والصهيونية ودعاة التوفيق بين الأديان "وحدة الأديان" قد تآزروا جميعا في دعم حركة التغريب وتأييدها بهدف تطويق العالم الإسلامي وتطويعه ليكون أداة لينة بأيديهم .
- نشر المذاهب الهدامة كالفرويدية والداروينية والماركسية والقول بتطور الأخلاق (ليفي برويل) وبتطور المجتمع (دوركايم) والتركيز على الفكر الوجودي والعلماني والتحرري والدراسات عن التصوف الإسلامي والدعوة إلى القومية والإقليمية والوطنية والفصل بين الدين والمجتمع وحملة الانتقاص من الدين ومهاجمة القرآن والنبوة والوحي والتاريخ الإسلامي والتشكيك في القيم الإسلامية عن فكرة الجهاد وإشاعة فكرة أن سبب تأخر العرب والمسلمين إنما هو الإسلام .
- اعتبار القرآن فيضا من العقل الباطن مع الإشادة بعبقرية النبي صلى الله عليه وسلم و ألمعيته وصفاء ذهنه ووصف ذلك بالإشراق الروحي تمهيدا لإزالة صفة النبوة عنه .
مؤتمرات تغريبية :
- عقد مؤتمر في بلتيمور عام 1942م وهو يدعو إلى دراسة وابتعاث الحركات السرية في الإسلام .
- في عام 1947م عقد في جامعة برنستون بأمريكا مؤتمر لدراسة (الشؤون الثقافية والاجتماعية في الشرق الأدنى) وقد ترجمت بحوث هذا المؤتمر إلى العربية تحت رقم 116 من مشروع الألف كتاب في مصر، شارك فيه كويلر يونغ وحبيب كوراني وعبد الحق إديوار ولويس توماس .
- عقد مؤتر (الثقافة الإسلامي والحياة المعاصرة) في صيف عام 1953م في جامعة برنستون وشارك فيه كبار المفكرين من مثل ميل بروز ، وهارولد سميث وروفائيل باتاي ، وهارولد ألن ، وجون كرسويل ، والشيخ مصطفى الزرقا وكنت كراج واشتياق حسين وفضل الرحمن الهندي .
- وفي عام 1955م عقد في لاهور بالباكستان مؤتمر ثالث لكنه فشل وظهرت خطتهم بمحاولتهم إشراك باحثين من المسلمين والمستشرقين في توجيه الدراسات الإسلامية .
- انعقد مؤتمر للتأليف بين الإسلام والمسيحية في بيروت 1953م ، ثم في الاسكندرية 1954م وتتالت بعد ذلك اللقاءات والمؤتمرات في روما وغيرها من البلدان لنفس الغرض .
- في سبتمبر 1944م عقد بالقاهرة مؤتمر السكان والتنمية بهدف نشر أفكار التحلل الجنسي الغربية بين المسلمين من إتاحة للاتصالات غير المشروعة بين المراهقين والإجهاض والزواج الحر والسفاح والتدريب على موانع الحمل وقد أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية فتوى بضرورة مقاطعته والحذر من توصياته وأهدافه .
كتب تغريبية خطرة :
- الإسلام في العصر الحديث لمؤلفه ولفرد كانتول سميث ، مدير معهد الدراسات الإسلامية وأستاذ الدين المقارن في جامعة ماكجيل بكندا ، حصل على الدكتوراه من جامعة برنستون سنة 1948م تحت إشراف المستشرق هـ.أ.ر. جب الذي تتلمذ عليه في جامعة كمبريدج وهذا الكتاب يدعو إلى التحررية والعلمانية وإلى الفصل الدين عن الدولة .(4/468)
- نشر هـ.أ.ر.جب كتابه إلى أين يتجه الإسلام ، الذي نشر بلبنان سنة 1932م كان قد ألفه مع جماعة من المستشرقين وهو يبحث في أساب تعثر عملية التغريب في العالم الإسلامي ووسائل تقدمها وتطورها .
- إن بروتوكولات حكماء صهيون التي ظهرت في العالم كله عام 1902م ظلت ممنوعة من الدخول إلى الشرق الأوسط والعالم الاسلامي حتى عام 1952م تقريبا أي إلى ما بعد قيام إسرائيل في قلب الأمة العربية والإسلامية ولا شك بأن منعها كان خدمة لحركة التغريب عموما .
- تصوير بعض الشخصيات الإسلامية في صور من الابتذال والعهر والمزاجية كما في كتب جوردي زيدان ، وكذلك تلك الكتب التي تضيف الأساطير القديمة إلى التاريخ الإسلامي على هامش السيرة لطه حسين والكتب التي تعتمد على المصادر غير الموثوقة مثل محمد رسول الحرية للشرقاوي وكتبه عن الخلفاء الراشدين والأئمة التسعة .
الجذور الفكرية والعقائدية :
- لقد ارتدت الحملة الصليبية مهزومة بعد حطين ، وفتح العثمانيون عاصمة الدولة البيزنطية ومقر كنيستهم عام 1453م واتخذوها عاصمة لهم وغيروا اسمها إلى اسلامبول أي دار الإسلام ، كما أن جيوش العثمانيين قد وصلت أوروبا وهددت فيينا سنة 1529م وقد ظل هذا التهديد قائما حتى سنة 1683م ، وسبق ذلك كله سقوط الأندلس وجعلها مقرا للخلافة الأموية ، كل ذلك كان مدعاة للتفكير بالتغريب ، والتبشير فرع منه ، ليكون السلاح الذي يحطم العالم الإسلامي من داخله .
- إن التغريب هجمة نصرانية صهيونية استعمارية في آن واحد التفت على هدف مشترك بينها وهو طبع العالم الإسلامية بالطابع الغربي تمهيدا لمحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية .
الانتشار ومواقع النفوذ :
- لقد استطاعت حركة التغريب أن تتغلغل في كل بلاد العالم الإسلامي ، وإلى كل البلاد المشرقية على أمل بسط بصمات الحضارة الغربية المادية الحديثة على هذه البلاد وربطها بالغرب فكرا وسلوكا .
- لقد تعالت تأثير حركة التغريب إذ أنه قد ظهر بوضوح في مصر ، وبلاد الشام وتركيا وأندونيسيا والمغرب العربي وتتدرج بعد ذلك في البلاد الإسلامية الأقل فالأقل ولم يخل بلد إسلامي أو مشرقي من آثار وبصمات هذه الحركة .
ويتضح مما سبق :
أن التغريب تيار مشبوه يهدف إلى نقض عرى الإسلام والتحلل من التزاماته وقيمه واستقلاليته والدعوة إلى التبعية للغرب في كل توجهاته وممارساته ومن واجب قادة الفكر الإسلامي كشف مخططاته والوقوف بصلابة أمام سمومه ومفترياته التي تبثها الآن شخصيات مسلمة وصحافة ذات باع طويل في محاولات التغريب ، وأجهزة وثبقة الصلة بالصهيونية العالمية والماسونية الدولية ، وقد استطاع هذا التيار استقطاب كثير من المفكرين العرب ، فمسخوا هويتهم وحاولوا قطع صلتهم بدينهم والذهاب بولائهم وانتمائهم لأمتهم الإسلامية من خلال موالاة الغرب والزهو بكل ما هو غربي وهي أمور ذات خطر عظيم على الشباب المسلم .
http://www.khayma.com/inte r netclinic/mathahb/altak r eb.htm
============(4/469)
(4/470)
التغريب بين اندماج الشباب وانصهارهم
بقلم: عادل القاضي
لا نريد الدخول في أسباب هجرة الكثير من العوائل المسلمة إلى البلدان الغربية، فلقد باتت واضحة لكثرة ما دار الحديث حولها.لكن الذي يهمنا منها هو مشكلة التغريب بالنسبة لشريحة الشباب الذين يقومون بالهجرة تارة بشكل فردي شخصيّ بمعزل عن العائلة، وتارة بالالتحاق بالعائلة التي تتخذ قرار الهجرة.
والشكل الأول اخطر من الثاني لان الشاب في هذه الحالة سيكون مفصولاً تماماً عن عائلته، فلا رقابة ولا توجيه ولا حضانة، الأمر الذي يعني بالنسبة لغالبية المهاجرين من الشباب الانفلات من سلطة العائلة والتحرر من الالتزامات الدينية والاجتماعية والثقافية.
والخطورة تزداد إذا كانت خلفية الشاب الثقافية والدينية والاجتماعية هشّة، فإذا كان هو سلفا يجهل ذلك، أو لا يعلم منه إلا القليل، فإنّه مع تواتر الأيام سيفقد حتى هذا القليل ليملأ الفراغ الحاصل بثقافة المحيط الجديد .. ومن هنا تتعقد المشكلة ولا نقول تنشأ، فهي قد نشأت منذ قرر أن يهاجر لوحده.ولما كان أكثر الذين يهاجرون من الشباب سواء مع عوائلهم أو لوحدهم لا يتوجهون لإكمال دراساتهم إلا ما رحم ربي ولا يلتحقون بالمراكز الإسلامية والأجواء.
الدينية وإنما ينخرطون مباشرة في سوق العمل فإنّ احتمالات تأثير الأجواء الجديدة بشكل سلبي عليهم كبيرة لدرجة الانصهار مع المجتمع الجديد، فلا يبقى من هوية الشاب المسلم سوى اسمها، وإلاّ فتصرفاته وحتى طريقة لباسه وتسريحة شعره ووضع السلاسل على رقبته ومعصمه وتساهله في الاختلاط والعلاقات غير الشرعية مع الفتيات .. تشبه إلى حد بعيد حال الشاب الغربي نفسه.
وربما تعقد الأمر أكثر نتيجة غياب المراقبة والمحاسبة والشعور الديني بالمسؤولية، حتى يصل الى تعاطي المخدرات والى الانضمام إلى منظمات مشبوهة أو معادية للإسلام.
أن مشكلة التغريب عند الشباب تظهر وتتبلور أكثر عندما لا يكون الشباب والفتيات قد تلقوا تعليما أو تربية إسلامية سابقة على الهجرة، فلقد اتضح من خلال بعض الإحصاءات المهجرية أن العوائل الملتزمة والمحافظة والمتدينة التي تعاملت بأسلوب التفاهم والصراحة والاحترام مع أبنائها هي الأقل عرضة لحالات انحراف الأبناء والبنات من الأسر التي أهملت واجباتها في التربية، الأمر الذي يصل بها أحيانا إلى فقدان السيطرة تماما على أبنائها وبناتها حين يستمعون ويستمتعون بالخطاب الذي يقول لهم أنكم شخصيات مستقلة ولا دخل للوالدين في شؤونكم الخاصة .. ولكم حريتكم التي لا يحق لأحد التدخل فيها.
ولذلك، وأمام مشكلة التغريب التي يعيشها الكثير من الشبان المسلمين والفتيات المسلمات، لابد من النظر إلى المشكلة من أكثر من زاوية:
1- إن دور الأسرة في المجتمعات الإسلامية خطير وكبير، فما بالك في المجتمعات غير الإسلامية، إن المسؤولية هنا تتضاعف، فإذا كانت الأسرة حكيمة في تعاملها مع أبنائها قلصت وخففت وربما تمكنت من الحد من عوامل الذوبان في المجتمعات الجديدة بما توفره من أجواء الانسجام والتفاهم والاحترام والحوار بين أعضائها.
2- لابدّ من التفريق بين (الانصهار السلبي) و(الاندماج الذكي) فنحن لا نريد للشباب المسلمين أن يكونوا جزائر منفصلة عن المحيط .. كما لا نريد لهم أن يكون قطرات ذائبة في المحيط .. فإذا انطلق الشباب المسلمون والفتيات المسلمات من قاعدة رصينة - نعني خلفية ثقافية ودينية جيدة - فإنّهم سيكونون عناصر تفاعل جيدة وعناصر تأثير جيدة في الدفاع عن دينهم وحقوقهم وقضاياهم.لقد لوحظ في بعض أوساط الجاليات المسلمة في الغرب أن المنطقة أو الحي الذي يعيش فيه مسلمون ملتزمون تتراجع فيه معدلات الجريمة والمخدرات والفساد الأخلاقي مما أعطى صورة طيبة للمؤسسات المعنية في الدول الأوروبية على إن في المسلمين من يحترمون القوانين ويفون بالعهد والمواثيق، ولهذا الأمر انعكاساته الطيبة في
أسلوب التعامل بين تلك المؤسسات وبين المهاجرين.
3- إما على صعيد الانصهار السلبي والانبهار الذين يعمى ويصمّ، فلقد أفرزت تجربة الاغتراب جيلاً ليس بالصغير أو القليل من الذائبين من الرأس حتى أخمص القدمين بالمجتمعات الغربية، من جراء الإحساس بروحية الدونية والحقارة لانتماءاتهم السابقة، ومن خلال إجراء مقارنات مادية بحتة بين مجتمعاتهم التي كانوا يعيشون فيها والتي يسيطر عليها الظلم في الغالب وبين هذه المجتمعات التي تعيش الحرية والنظام والاستقرار، بل يتطوّر الأمر إلى ما هو أسوأ من هذا وذاك إلى الشعور بالعيب من الإسلام وقيم الدين، ففي حين تجد فتيات مسلمات واثقات من دينهن وشخصياتهن يقاومن محاولات إجبارهن على خلع الحجاب، ترى في المقابل بعضا من فتيات المسلمين من تخلع حجابها من دون أي ضغط وذلك مسايرة للفتيات الغربيات المتبرجات، أو المسلمات الضعيفات الالتزام.
4- وكحل لمشكلة التغريب في أوساط الشباب نقترح ونشجع على السكن في المناطق التي(4/471)
تتواجد فيها جاليات إسلامية اكبر، لان الجو الاجتماعي الإسلامي له تأثيره في قوة الانضباط والانشداد إلى الجماعة الإسلامية، كما أن ارتياد المراكز الإسلامية واختار الأصدقاء الصالحين، وإقامة نواد ومدارس إسلامية يلتحق بها الشبان والفتيات، بل وإيجاد أماكن للترفيه والتسلية الإسلامية ما أمكن ذلك، مما يساعد على الحفاظ على الهوية الدينية واللغة العربية وتأمين الحاجات النفسية والعاطفية للتواصل الاجتماعي وتحقيق الفرص المناسبة لنمو الثقافة الإسلامية التي تعد صمام الامان من الانصهار في المجتمعات الغربية.
http://www.balagh.comالمصدر
=============(4/472)
(4/473)
المصلحون والدعوة إلى التغريب
حسين احمد امين
أخذ من سمّوا بالمصلحين في كل البلاد الإسلامية يدعون دعوات متشابهة، عمادها أن تأخذ شعوبها من المدنية الغربية ما يناسب، وأن يأخذوا من المدنية الإسلامية ما يناسب.. وكانت خلاصة رأيهم "أن عقدة العقد في موقف المسلمين اليوم هي التوفيق بين المدنية الغربية والمبادئ الإسلامية. غير أن المسلمين لحسن الحظ ليسوا مخيرين بين التمسك بدينهم وبين اعتناق الحضارة الغربية. فخير للعالم الإسلامي اليوم أن يأخذ من المدنية الغربية كل علمها وتجاربها في الصناعة والزراعة والتجارة والطب والهندسة وسائر العلوم، من غير قيد ولا شرط، ثم يحتفظ مع ذلك بروحانيته التي يلوّن بها هذا العلم، فتجعله موجها في البشرية لا لغلو ّفي كسب مال، ولا لإفراط في نعيم، ولا للقوة والغلبة، ولكن للخير العام. وهذا هو المبدأ الذي يضيء للمسلمين الطريق، ويبدّد حيرتهم، ويحل الكثير من مشاكلهم. فدينهم الإسلامي لا يمنعهم أيّ منع من ذلك، بل إن الإسلام حث على طلب العلم ولو في الصين، ولا شيء يمنعهم من ذلك إلا تمسكهم بالتقاليد الموروثة، وتقديسهم للعادات المألوفة، ودينهم براء من ذلك... وإنما بزّت أوربا الشرق المسلم في مضمار الحضارة لا لأنها مسيحية، وإنما لعنايتها بتطوير العلوم وإهمال المسلمين لها. وليس في الإقبال على التعليم من الغرب من بأس، ولا هو مدعاة للخجل، فإنما كان الفضل في نهضة العلوم في أوربا راجعًا إلى استفادتها من النقل عن المسلمين الذين عنوا بالحفاظ على تراث الإغريق وتطويره وتنميته ".
هكذا كانت دعوة هؤلاء "المصلحين ". وهي دعوة أيدها المستعمرون وأبهجتهم، خاصة إن صدرت عن رجال الدين البارزين من أمثال الشيخ محمد عبده، إذ رأوها في مجملها دعوة مقنعة إلى التغريب. والذي نتج عن هذه الدعوة هو ما كان متوقعاً منها ؛ فتحت الباب على مصراعيه أمام الاقتباس من مدنية الغرب دون حرج، في حين أغفل الشطر الثاني وكأنما لم يورده الدعاة إلا من قبيل التمويه والنفاق وتسهيل الأمر. وإنه لمن الشائق حقًا أن نقرأ في العدد الأول من مجلة "العروة الوثقى " تحديدًا لأهداف المجلة، ومن بينها " 0000 3- الدعوة إلى التمسك بمبادئ السلف المماثلة في واقع الحال لمبادئ الدول الأجنبية القوية المتقدمة!".
فهنا إذن إحساس بتفوق الغرب، وإدراك لضرورة الدفاع، واعتراف بصحة الأسس التي تقوم عليها حضارة الدول الأوربية تضمّنته الإشارة إلى الشبه بينها وبين مبادئ الإسلام، وهو أكثر صنوف الإطراء والمديح إخلاصًا. وقد شكا المبشرون المسيحيون من أن هؤلاء المصلحين الإسلامين إنما يتبنّون الأفكار والقيم المسيحية، ويسعون إلى تشييد صرح إسلام جديد "مسيحي ". غير أن الواقع أنهم لم يتبنوا القيم المسيحية، وانما نسبوا إلى الإسلام القيم الليبرالية الإنسانية البورجوازية التي عمّت أوربا خلال القرن التاسع عشر، وهي قيم غير مشتقة عن المسيحية.
المصدر :الاسلام و الغرب
http://www.balagh.com
===============(4/474)
(4/475)
نحن و التغريب في وسائل الإعلام
بقلم: نور الحسين
قد تعكس الصورة بعض جمالها أو كله على المضمون، وقد تسيء الصورة للمضمون أو قد يسيء المضمون للصورة أو يجمل مساوئها. فالشاب الوسيم أقدر على أن يحتل مكانة اجتماعية مميزة من القبيح، رغم أن المضمون النفسي قد يكون مغايراً لما في الخارج. وقد ينعكس الموضوع فينعكس جمال أو قبح المضمون على الصورة، فالتقوى النابعة من الأعماق قادرة على أن تهب جمالاً لشخص غير جميل، والخيانة التي تفوح رائحتها المنفرة قادرة على أن تحجبنا عن جمال مظهر الجميل. وقد يتحد المضمون والصورة فيصبحان جمالاً أو قبحاً واحداً.
وفي عالمنا المعاصر حيث الدراسات والأبحاث ووسائل الفن وأدوات الجمال تسهم بدور خطير في التلاعب بأذواق الناس، أصبح من السهل أن ينقلب الحق والصدق والجمال؛ باطلاً وكذباً وقبحاً خصوصاً أن الطاقات المختلفة تتمركز في أيدي من صمت أسماعهم وعميت أبصارهم وزاغت سبلهم عن الحقيقة التي بها خلاص المجتمعات البشرية. وبهذا أصبح العبء الذي يجب أن يتحمله الرساليون أكبر؛ خصوصاً أن الهوة الفاصلة بينهم وبين أدوات التغيير الحديثة كبيرة ويراد لها أن تبقى كذلك.
في زمن الدعاية والإعلام ينبغي أن نتمتع بوعي كاف يكشف لنا طبيعة الهجمة الإعلامية التي تتعرض لها مجتمعاتنا. ولكي نعي بعض ما يمارس على مجتمعاتنا من تلاعب بالذوق والأخلاق الاجتماعية نسرد الملاحظات التالية:
أولاً: إن قبولنا لدخول وسائل الإعلام إلى منازلنا هو قبول غالباً بدخول مظاهر الفساد مهما كانت المبررات، خصوصاً إذا كان تعاملنا بعد هذا الاستسلام هو تعامل عفوي، نتقبل فيه على أقل الاحتمالات القصص العاطفية ومظاهر العنف تارة في صورة أفلام أو مسلسلات، وتارة في صورة أفلام الرسوم المتحركة التي تنخر في سلوكيات الأطفال دون أن نشعر ونحن غافلون، والصور الأخرى كثيرة يطول النقاش فيها و المفاسد أكثر.
ثانياً: إن هذا الفساد يفرض نفسه و يمر من قنوات تسهل نقل مظاهر الفساد وتجعلنا نقف عاجزين عن تحدي زحف مظاهر الفساد، وعند الإشارة لبعض قنوات مرور الفساد يمكننا أن نسرد معادلات المقايضة التالية:
1- الوصول إلى المعلومة والخبر بشرط قبول الدعاية شبه العارية والأخبار المضللة.
2- التسلية و القضاء على الملل من خلال برامج فاسدة، أو مستنزفة للوقت.
3- عرض الإباحية والفساد على أنها مظهر حضاري ينبغي قبوله.
ثالثاً: إن ما نرفضه من مظاهر الفساد اليوم سرعان ما يتحول مع التكرار إلى شيء مألوف نعتاده، مما يؤدي إلى فقدان المناعة والرفض بل قد تحدث تحولات في تفكيرنا تؤدي إلى القبول والتأييد، وهذا ما يشهد عليه التحول في الكثير من المواقف الاجتماعية بين جيل وآخر؛ فكثير مما يرفضه الآباء يمكن أن يقبله الأبناء وهذا التحول في المواقف ليس دائماً مبرراً.
من خلال ما سبق نخلص إلى أن الفساد يمر من خلال قنوات تجعله مقبولا ً،وهذا ما يجب أن ندركه أولاً كي نعي أن التحدي ليس في تبيان أحقية أو مصداقية منهج معين بقدر ما هو عملية دعاية وترويج يسخر لها أحدث آليات الدعاية والإعلام وتعرض بعدة طرق بحيث يمكن تمرير الفساد في قوالب مقبولة والنتيجة تغلغل الفساد وتحوله إلى ذوق وسلوك عام في المجتمع؛ لذا ينبغي ملاحظة النقاط التالية للنجاح في تقديم الدور الرسالي المطلوب:
1- التفاعل مع وسائل الإعلام ومحاولة التأثير فيها من خلال المطالبة ببرامج تتوافق مع أخلاقياتنا والمشاركة في البرامج المفتوحة لتوجيهها وجهة صحيحة.
2- السعي لامتلاك تلك الوسائل سواء على المدى البعيد أو القريب وإعداد الكفاءات المناسبة لذلك.
3- الاهتمام بطريقة العرض والقوالب التي نقدم من خلالها ثقافتنا وأفكارنا وعدم القبول بعرض أفكارنا في قوالب أو مظاهر سيئة لان ذلك سيؤدي لتشويه تلك الأفكار وعدم رواجها.
4- دراسة اثر البرامج المختلفة في وسائل الإعلام غير الملتزم من حيث فاعليتها في تغيير الأخلاقيات والذوق العام ونشر نتائج تلك الدراسات والتحليلات.
5- إعادة تقييم موقفنا من وسائل الإعلام من خلال دراسة التحولات في تعاملنا مع وسائل الإعلام في ضوء المسار الزمني لبروز تلك الأدوات وتحولنا من الرفض إلى القبول بالعادات التي تنتشر في مجتمعاتنا. على أن يتم هذا التقييم من خلال الابتعاد بتقييمنا عن تأثرنا بالإعلام قدر المستطاع.
وأخيراً: ننوه إلى أنه قد يدخل الفساد بيوتنا مختبئ خلف عباءة الحضارة والتقدم والفن والجمال، وقد يطرد الدين منها لغياب وعينا بأهمية الاهتمام بالأساليب الجمالية والإبداعية والحضارية التي يجب أن يعرض من خلالها، فيخرج الدين متهماً بالتخلف والقبح والعنف... وما شابه. لذا فواجبنا الربط بين عظمة المضامين الدينية والقوالب التي يعرض فيها الدين كي لا نسيء إلى الدين من حيث لا ندري.
http://www.qateefiat.com/qa/maqalat/nahn%2031.htm
============(4/476)
(4/477)
لغتنا الجميلة وعاديات التغريب..!
كثيرون وكثيرات، من الرجال والنساء، في المجتمعات الإسلامية، مع ما هم عليه من خير والتزام ظاهر بأحكام الإسلام وآدابه وأخلاقه، يقعون تحت طائلة التبعية الذليلة وإعطاء الدنية من حيث لا يشعرون؟!
فمثلاً تجد بعض الألفاظ الأجنبية ديدناً على الألسنة في المعاملات اليومية بين الناس، والسلع الأجنبية هي المفضلة لدى الكثيرين وذات الرواج في أسواق البيع والشراء. أمَّا الصغار فجلّ حديثهم عن الشخصيات الكارتونية الأجنبية التي يرونها عبر شاشات التلفاز، والتي تغزو عقولهم وقلوبهم بأفكار دخيلة وغريبة على مجتمعاتنا!
وفي المجالس النسائية حدِّث ولا حرج عن الألفاظ الأجنبية التي يبدو أنَّ بعض النساء يتباهين ويتنافسن في كثرة إيرادها وإدراجها في عباراتهم.. فبدلاً من "جزاك الله خيراً" وألفاظ الشكر والدعاء جميلة الوقع في نفس القائل والسامع، تجد مسخاً من ألفاظ أجنبية مثل "مرسي" "أوكي"... إلخ.
وفي أماكن العمل المختلفة التي ينبغي أن يظهر فيها تميز الأخلاق والآداب الإسلامية، يتوارى اللسان العربي، وترى الهوة الواسعة ـ في كثير من الأحيان ـ بين المظهر الإسلامي المشرق الجميل، وبين ألفاظ صاحب هذا المظهر نفسه ـ للأسف! ـ، فترى ـ مثلاً ـ الطبيب المسلم الملتزم الوقور وهو ينادي ممرضة كافرة متبرجة بلفظ "سيستر" ومعناه: أختي! ناهيك بركاكة اللفظ وسماجته! (انظر معجم المناهي اللفظية لفضيلة الشيخ العلاّمة بكر أبو زيد).
إنَّ غلبة الألفاظ الأجنبية الدخيلة على ألسنة المسلمين والمسلمات بهذا الانتشار الواضح لهو نوع من التبعية المنافية لعزة المسلم واعتزازه وترفّعه عن التشبه بمن لا خلاق لهم، وقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم "من تشبّه بقوم فهو منهم" و"المرء مع من أحب"! إضافة إلى أنه مما يفرح به أعداء المسلمين ويجعلهم يشعرون بنوع من التفوق والاستحواذ!
أيضاً فإن المشابهة في العادات ـ ومنها الألفاظ التي يدمن عليها اللسان ـ تورث مشاكلة في الطباع والأخلاق، كما نص على ذلك العلماء، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره.
فهل نراجع أنفسنا وتأخذنا الغيرة على اللسان العربي المبين الذي نزل به قرآن رب العالمين، ونفعِّل هذه الغيرة عمليّاً بتعويد ألسنتنا وألسنة أطفالنا التلفظ بلغتنا العظيمة المباركة، ونشر هذا الوعي تواصياً وتناصحاً مع من حولنا وفي مجالسنا، وصدَّاً لعاديات جحافل "التغريب" من خلال هيمنة الإسلام في أقوالنا وأفعالنا ومعاملاتنا على كلّ كبيرة وصغيرة؟!
http://www.lahaonline.com/المصدر
============(4/478)
(4/479)
المرأة في دول الخليج ومطارق التغريب
دأبت أقلام على السعي من خلال الوسائل والأدوات الإعلامية وبإصرار على معاودة الطرق على أوضاع المرأة في دول الخليج العربي، بل والوصاية عليها، فتارة تتباكى تلك الأقلام وأحيانا ترسم المستقبل الذي تعشقه كما رأته في بلاد الجريمة والاعتداءات على المرأة في عرضها أو مالها أو حياتها.. وأحيانا تندد وتشجب وتتعلق بخيوط العنكبوت لتبني منها أوهامها وتنفث من خلال ذلك الفكر الدخيل لتهدم صروحا وأمجادا بنتها المرأة خلال عقود من الزمن.
فحيث توجد المرأة المسلمة فالإسلام أعطاها أعلى درجات السعادة التي ممكن أن تحصل عليها في الحياة، فالمرأة منذ بداية الإسلام لم تكن شيطانا نجسا لا يعترف به وليس له حق في الملكية الخاصة وليس له حق السعادة والفرح والبهجة، أو معزولة موروثة وخادمة و مهانة لا كرامة لها ولا حقوق، كما هي في الحضارات التي عاصرت كثيرا المد الإسلامي.
فأصول النظام الإسلامي ومصادره تتزاحم فيها النصوص التي تعتني بالمرأة وتحافظ على حقوقها الأصلية، بل كثيرا ما تجعل الخطاب الموجه إليها نصا خاصا ينفرد بالتوجه إليها غير نص الرجال لا في ضمنه ولا في محتواه ولا بالمفهوم فقط، وذلك من إعزازها وتكريمها واستقلالها.
{ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ.........}{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ.....} (سورة النور).
ولقد فرض الإسلام لهن مثل ما عليهن {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
حتى بلغت النصوص درجة الوجوب في العناية بالمرأة وتغليب جانب الخير عند التعامل معها "استوصوا بالنساء خيرا"، بل ربطت خيرية الرجل بمدى خيريته لأهله "خيركم خيركم لأهله".
ومع هذا تطالعنا وسائل الإعلام ببعض الكتابات التي تطل بأعناقها للحديث عن المرأة في بلاد الإسلام.
عجباً!! أو تتناسى أدنى درجات الموضوعية والإنصاف؛ لأنها تنساق في قوالب قد أعدت مسبقا لها؟! فحينا تسمي الإسلام: أوضاعا اجتماعية، ومرات تسميه: مخلفات تراكمية، وتارة تنسبه لعصور الانحطاط ....عجبا!!
نقول هذا ونحن نتداول بين أيدينا مقالا نشرته إحدى الصحف العربية وقد حملت كاتبته مطرقة حديدية هوت بها على أوضاع المرأة المسلمة في إحدى بلدان الخليج العربي؛ استمرارا للحملة التي ما تزال مطارق المنصرين ودعاة انسلاخ المرأة من دينها و فطرتها وعفافها تدق عليه. انظر إلى هذا النص من مقالها تقول:
"تعيش السعوديات حياة صعبة تمزج بين التقاليد الصارمة وقواعد السلوك مع المطالب الحديثة للتعليم والحرية".
أرأيت ـ أخي القارئ ـ لوجود التقاليد ولوجود قواعد السلوك يسمون الحياة صعبة! إنهم يريدونها بلا قواعد للسلوك ولا تقاليد وأعراف البيئة التي رضيتها الشعوب لنفسها! أنهم لا يريدون لأي أمة أن تختار، بل لهم الحق ـ في رأيهم ـ أن يجددوا المنهج للعالم أجمع، ومن رأى لنفسه غير ذلك فهي حياة صعبة وفيها نظم وبنود، ولا حرية هوجاء فيها ولا انفراط من مجتمع القيم والأعراف كما هي المطالب الحديثة التي تتميز بالانحلال وفسخ كل التعاليم إلا ما ترتضيه الأهواء والنزوات، حيث التعليم المختلط والسائب والحرية المزعومة التي تقضي على القيم والأخلاق والأعراف، حيث إن تلك البلد التي تتحدث عنها المجلة أعرافها جلها من الشرع المطهر.
ثم انظر ماذا تقول المجلة: (وبينما يتعين على النساء في المملكة ارتداء الحجاب... ـ إلى أن تقول ـ ولا بد من اصطحاب أحد أقاربهن الذكور كمحرم عند سفرهن للخارج...) (منقول).
إنهم لا يريدون الحجاب ولا يريدون المحرم! اعتراض سافر على أحكام الشريعة وعلى اختيار الناس الذي اقتنعوا به ورضوا به لذواتهم!
(إلا إنهن ابتعدن كثير عن الصورة النمطية السائدة عنهن في الغرب) (منقول).
وهذا هو المطلب، إنه انهزامية من الداخل، كل المراد هو تغيير الصورة عند الغرب.
وفي مقطع آخر من المقال نفسه: (ورغم أن كثيرا من النساء لا يعملن حسب اختيارهن، هناك أيضا بعض القيود على مشاركتهن في المهن المختلفة. وفي بعض الحالات فإن القيود على النساء لا تقرها القوانين وإنما الممارسة).
يا للعجب!!
اعتراض على الحرية الفردية والجماعية للفرد والمجتمع. القانون لا يسمحون له أن يتحكم في الممارسة ولا الأعراف، تدخل سافر وتحكم ومصادرة للحريات.
وفي المقال نفسه: (رغم إن النساء في السعودية يملكن 40 بالمئة من الثروة الخاصة، وآلاف الشركات التي تعمل في مجالات تراوح بين تجارة التجزئة إلى الصناعات الثقيلة، إلا إنهن يواجهن قيودا ثقافية وقانونية محبطة. ويتعين على النساء الاعتماد على وكيل رجل للتعامل مع المكاتب الحكومية ولإدارة الكثير من المعاملات).
كيف تكون أن ما تعمل به الأمة من أنظمة وتشريعات يسمونها قيودا ثقافية وقانونية محبطة وكيف تكون محبطة وهم يقولون (النساء في السعودية يملكن 40 في المئة من الثروة الخاصة وآلاف الشركات التي تعمل في مجالات تراوح بين تجارة التجزئة إلى الصناعات الثقيلة). لكنهم يريدون المرأة تأتي للمكاتب وتحتاج إلى مقابلات ولقاءات.(4/480)
ثم تقول الصحيفة :(ويقول كثيرون إن التقاليد والثقافة هما اللذان يدعمان هذه القيود لا الإسلام، ويشيرون إلى أن الدين يدعم حقوق المرأة في البيت والعمل).
ماذا يقصد بالثقافة، والكل يعرف أن الثقافة التي تنبني عليها أحكام في السعودية هي الثقافة الإسلامية؟
وتقول الصحيفة: (فالإسلام يكفل للنساء حق إدارة ميراثهن بأنفسهن ويمنحهن حقوق الملكية. ويقول مسلمون كثيرون إن القرآن كفل للنساء حقوقاً اقتصادية واجتماعية قبل فترة طويلة من حصول المرأة في الغرب على الحقوق نفسها).
نعم، إنه تناقض كبير بين النداء وبين التحقيق، أو أنه سم في العسل، فإذا كان الإسلام بهذه الصفة فلماذا لم يكن النداء دعوة للتوجه إليه؟!
http://www.lahaonline.comالمصدر
===========(4/481)
(4/482)
الحركة النسوية الغربية و أثرها في المجتمعات الإسلامية
محمد الأحمري
كانت ليلة عاصفة من النقاش مع غير المسلمين. كان النقاش في الكنيسة عن الإسلام وموقفه من قضايا عدة , وقد دعت لهذا اللقاء إحدى كنائس "البروتستانت" في أمريكا. كلفت باللقاء , وتهيبت ما أمامي منه أيما تهيب , وسيحضر اللقاء معي مسلم واحد -حديث العهد بالإسلام - وهذا امتحان لدينه أمامه وأمامهم , وأمامنا لقاء مفتوح مع شخصيات كنسية رغبت في التعرف والنقاش , وهم كثرة ونحن قلة , ومعهم قسيسة متخصصة في الإسلام والعالم الإسلامي , رأيت - قبل قدومي - بعض ما درسته , وعرفت من لقاء سابق , أنها مهتمة جداً بالإسلام ودراسته من شتى الجوانب , عقيدة وسلوكاً وتاريخاً, وبدى ذلك واضحاً من ورقة البرنامج.
وما أن بدأت الحديث , حتى ثارت إحدى الجالسات في لهجة مندفعة وصوت عال وسلوك نزق , تشتم الطريقة التي أجبرها أهلها فيها على اعتناق المسيحية ودراستها ؛ فقد أجبروها على ما تكره , وألزموها ديناً , فيه الكثير من غير المعقول , فتورمت أنوف الشيوخ الكبار والعجائز المشاهدات , وضاقوا بها وبتعرضها وتشويهها للمسيحية أمام المسلمين , وفي موجة غضب , كانت تهجو المسيحية وتسأل المسلمين وتنتقد الموجودين .
ثم هدأ الموقف - بتهدئة ذوي الأحلام - ليأخذ السياق طابع الجد والنقاش المباشر , وقد هيأ الله لنا باباً في الحديث - هم فتحوه - وكان موضوع (المرأة) . ولا يأتي ذكر الإسلام عند الأمريكان خاصة , إلا مرتبطاً بالحديث عن أمر المرأة . وكيف أن الإسلام يمنعها من التعليم والحياة , وموقف الإسلام من المرأة يحدده سلوك "طالبان" في أفغانستان ؛ فهو تجهيل للمرأة وحرمان . كما أن السلوك الإسلامي للرجل , يحدده صدام و القذافي والخميني , فهو كراهية للأجناس الأخرى , وحقد وفشل وحصار .. وما شابه .
ومشكلة المرأة في المجتمع الغربي , عقدة حقيقة في الثقافة الأوروبية القديمة , ثم حملتها المسيحية معها عندما تنصرت الشعوب المتوحشة المتخلفة ؛ فقد كانت هذه الشعوب - قبل تنصرها - تشرب الخمر, وتتزوج زوجة واحدة يمتلكها الرجل مدى الحياة ويخونها , ويزني بمن صادف من زمان التوحش إلى زمان "كلنتون" .. ثقافة يتوارثها الآباء عن الأجداد , في البيوت والمكاتب والمدارس والكتب .. وغيرها .
ذكرت لهم : أن عقدة المرأة لم تكن في المجتمع الإسلامي كما هي في ثقافتهم , وأننا اليوم قد استوردنا المشكلة مع مطاعم "مكدونالد والكوكاكولا", وأصبح همهم في هذه "الكنيسة" هو همّ الشارع "المسلم" , فيكفي أن تطلقوا نكتة أو تحدث مشكلة ؛ فتصبح مشكلتنا ! يكفي أن تنشر عندكم صورة إمرأة "بلباس غريب" أو "موضة حديثة" فتكون - هذه - موضة المغلوبين على أمرهم , ولم تسمعوا ولم تروا ولم تكبر عندكم كما كبرت عندنا .
وقرأت "لشريعتي" في مقارنته بين أسلوب تقدم المرأة في البلاد المتخلفة والدول القوية "أن المرأة تقدم في "فرنسا" على أنها بطلة من أبطال المقاومة ضد "ألمانيا" وتحرير باريس من النازيين , وضمن الأساتذة والكتاب والمترجمين والمكتشفين والمخترعين والمناضلين السياسيين والقائمين بخدمة البشر .. وأمور وتخصصات من هذا القبيل , أي الجهاد والمشاركة الفعالة بأكثر ما يمكن , من المفاخر التي كانت - في الغالب -قاصرة على الرجال , أما المرأة العصرية - هنا في إيران- فإن الإحصائية الوحيدة التي تقدمها كدليل دقيق لمعدل التقدم والتطور والحرية لديها, وأكثر الأناشيد الحماسية التي ينشدنها إيقاعاً , ويعتبرنها من الانتصارات التي اكتسبنها في طريق الحرية والتقدم , إنه منذ سنة 1957 حتى 1976 - وفي فترة لا تزيد عن عشر سنوات تضاعفت - مؤسسات التجميل والزينة وبيع لوازم الزينة والرموش والأظافر الصناعية في (طهران) خمسمائة ضعف , مما أسعد أصحاب محلات من أمثال كريستين ديور" أ.هـ بتصرف , (العودة إلى الذات ص 80). ثم يشير - في مكان آخر - إلى أن النساء الجاهلات أو الأقل تعليماً ومدنية وفي ريف إيران - أشد تعلقاً بالموضات الفرنسية وإنفاقاً عليها , من ساكنات طهران . وكانت إيران تستورد من مساحيق الزينة , أضعاف ما تستورده من المنتجات الثقافية .
ولما وهب الله المرأة من الحساسية الاجتماعية العالية, وسرعة التقليد , والتي تتمثل في تعلم الأشكال والأصوات , بل والبراعة في تعلم اللغات أكثر من الرجل , وهي أمور تساهم سلباً , كما تساهم إيجاباً. فعلى مجتمع الرجل المنهار- التابع لغير المسلمين - ألا يصب اللوم على المرأة وحدها , ولكن الحل أن يبرز الرجال منهم أساتذة ومن النساء يكن قدوات ؛ فينقلب الأمر, كما حدث في "مجتمع النبوة" الأول , وكما يمكن أن يحدث في أي مجتمع بشري . فالنخبة الواعية قادرة على قلب الموازين الثقافية .(4/483)
ولما عرجت على أن المرأة المسلمة لم تعرف عقدة الكراهية والشتم - التي امتلأت بها كتب النصارى , وأنها تملك حق الزواج والطلاق والميراث , وأن تكون لها تجارتها وعملها ومالها الخاص , منذ أكثر من أربعة عشر قرناً , وأن خديجة - رضي الله عنها - كانت صاحبة مال وأعمال , عمل عندها الرسول صلى الله عليه وسلم في تجارتها . وكان للنساء حضور في الحركة الجهادية والعلمية والسياسية في الإسلام , وما هند بنت عتبة , وعائشة وخطبتها يوم الجمل , بغريبة في الثقافة الإسلامية . قال الذهبي : - ناقلاً عن (الأحنف بن قيس) لقد استمعت لأبي بكر وعمر , فما سمعت مثل عائشة يوم الجمل أفخم كلاماً1. إن مجتمع خفت فيه العقد الداخلية , ولم يستورد أمراض الشعوب الأخرى - كحالنا اليوم - , تمرضه كل هبة ريح , أمل القوي فيستقوي بالوافد , ويضع الصالح لبنة في بنائه الضخم .
ثم أخذنا نستشهد جاء في الإنجيل: "وكما تصمت النساء في جميع كنائس الإخوة القديسين فلتصمت نساؤكم في كنائسكم , فلا يجوز لهن التكلم , وعليهن أن يخضعن كما تقول الشريعة, فإن أردن أن يتعلمن شيئا, فليسألن أزواجهن في البيت, لأنه عيب على المرأة أن تتكلم في الكنيسة2" فليس لها أن تتكلم أو تتعلم في الكنيسة . ودع هذا النص , للتالي العجيب ؛ يقول الإنجيل : "فالمرأة المتزوجة تربطها الشريعة بالرجل ما دام حياً, فإذا مات تحررت من رباط الشريعة .. هذا وإن صارت إلى رجل آخر وهو حي فهي زانية3" وهنا جاء السؤال هل ترون - معشر الحاضرين - هذا عدلاً ؟ وضجوا .. لا ؟!
لقد كان النقاش والتعقيب منا ومنهم , لنا نصراً , وشعرنا بالانشراح والابتهاج ؛ لأنهم اعترفوا بهذه الحقيقة , وليست هناك مشكلة عندها أن تسوق الأمثلة - بلا نهاية - على الشك والتناقض في أصولهم . وختاماً أقرت خبيرتهم فقالت: "بكل بساطة ووضوح , إن المرأة في المسيحية ما هي إلا جزء من ممتلكات الرجل والمسلمون منذ 14 قرناً , أعطوا للمرأة ما ترون . حقاً إنه عدل مبكر جداً".
الانتقام من المسيحية بالحركة النسوية
كنت قبلها بفترة يسيرة , اطلعت على كلمة لأحد الكتاب الأمريكان , قال فيها : "إن تعاملنا مع مسألة المرأة هذه الأيام , يدمر مجتمعنا" . فالمرأة التي تصبح وتمشي على ثقافة الحركة النسوية المتطرفة , والتي تطالب بأن يخاطب الله - عز وجل - بضمير المؤنث أيضاً "عز وجل عما يفترون" لأنهم إن وصفوا الله بضمير التذكير ؛ ففي هذا امتهان للمرأة . بل لا بد من الإشارة بالضميرين بالتساوي . وجعل كلمة "هي" و"هو" في كل مكان سواء . وأيضاً - يقول : "والأسرة التي تسمع , والأطفال .. هذه الحروب الثقافية , كيف يمكن أن تصنع هذه الثقافة أسرة سعيدة ؟ بل وكيف يشعر الأطفال والآباء أن بينهم مودة ومحبة ؟ إن الأصوات الصاخبة بحقوق المرأة , لم تعد عليها إلا بالتدمير والكراهية والطلاق والمضايقة في مواقع العمل والشوارع , والامتهان والسخرية . إن العلاقة بين الزوجين ليست علاقة "قانونية" مجردة , إنها حب ووئام وألفة وإنصاف ومشاركة , يدخل القانون وقت المشكلة فقط .. وكم كانت الحياة سعيدة هادئة , قبل الحركة النسوية ؟
إن سياق الحزازات والمماحكات بين الرجل والمرأة - والتي أدت لحصول المرأة على نصف ممتلكات الرجل عند الطلاق أو الانفصال - هي التي تجعل الرجل يكره الزواج , ما دام الزنا سهلاً , ويصون عليه ماله , ويتهرب به حتى من المسئولية عن أطفاله . بل أوجدت هذه القوانين نوعاً جديداً - بدأه شياطين الأفلام - وهو "زواج العقود" وهو (عقد يظهر فيه الرجل على أنه زوج للمرأة ولكن لا يسجل زواجاً) , ويكتب عقداً يبين فيه أنه في حال الانفصال - لكثرته عندهم - ؛ فليس له عندها شيء , وليس لها عنده أي التزام ؛ لأن الحيلة - بأن توقعه في الزواج أو يوقعها - سادت في المجتمع المنحرف , ليخرج - بعد أيام - بنصف مالها , أو هي بنصف ذلك ؛ فكانت هذه الحيلة - التي تجعل العلاقة علاقة نفاق وعدم ثقة وحرب - مبطنة بالابتسامات للمصورين , والتظاهر بالسعادة والحياة الجميلة . وأكثر من نصف الزيجات تنتهي بالطلاق4 في عامة المجتمع , أما بين هذه الطبقات فلا تكاد النسبة تذكر , للباقين على زواجهم . على الرغم من أن الرجل يعاشر المرأة وتعاشره مدة أطول قبل الزواج , منها بعده .(4/484)
إن النقمة العارمة من التاريخ المسيحي والعرف الوثني الغربي - الذي يحقر المرأة ويجعلها من سقط متاع الرجل - ؛ هو من أسباب سن القوانين المناصرة للمرأة , والتي تفضلها على الرجل , ولكن .. ماذا جاءت به هذه القوانين ؟ بالمزيد من الكراهية والاستهتار . فالأمريكي العنيف , لم يزل يفكر بالفتوة , والرجولة , والقوة , والغلبة على المرأة والهندي والملون . ولا أنسى قول أستاذنا - لزميل لنا عربي حصلت له مشكلة مع رئيسة التسجيل في الجامعة - قال له الأستاذ : "اذهب وقل لها كذا ؛ فرد الطالب بما يوحي بخوفه منها أو تمسكها برأيها , قال له منتهراً : أنت تخاف من امرأة ؟ حدثنا فيما بعد بالقصة .. يتعجب من أسلوب أستاذه في الاستهتار بصاحبة المنصب الرفيع , التي تهتز لقولها فرائص طلاب العالم الثالث (المتخلف) , إذ يقلبون القوانين والثقافة - دائماً - لتكون ضدهم . صحيح .. إنه قول جريء وغريب في ذلك المجتمع ؛ فهم يمارسون قهر المرأة دون صراحة , والعمل الذي يسندونه لها , يعطونها أقل مما يعطون الرجل , وقد تعمل عملاً أكثر وأشق .
المرأة ومرحلة المجتمع:
ولكن المجتمع الأمريكي إلى الآن مجتمع رجولي , وعندما يضعف وينهار سوف تأتي المرأة على رأسه , كما جاءت (تاتشر) عند غروب ونهاية بريطانيا ؛ لتعلن ضياع الأدوار وسقوط همم الرجال , وتواري بأسهم . لقد كان أمراً يستحق الملاحظة أن الدول الإسلامية التي تمت فيها انتخابات حرة ؛ قد تزعمت فيها المرأة أول الحكومات الانتخابية . في تركيا, والباكستان , وبنغلادش , وأندونيسيا .. لماذا ؟ بل وفي الهند والفلبين - إذا ألحقنا دولاً أخرى ضعيفة أو متخلفة بمقاييس العصر - , بينما هذه المرأة الفرنسية , لم تصل في الانتخابات الحرة بعد الثورة , ولا بعد العلمانية المتطرفة , ولا زمن قوة فرنسا , ولم تصل أمريكا بعد , مع كونها أطول الديموقراطيات الرئاسية عمراً , وهذه اليهودية (مادلين ألبرايت) أول امرأة تتولى منصباً مهماً , في تاريخ أمريكا ؛ بسبب مال اليهود ونفوذهم . ولكنها لا تحلم بالرئاسة , ولو كانت هناك من امرأة قريبة أمل بالرئاسة في أمريكا ؛ فهي المترجلة (إليزابيث دول) . ولكن أمريكا القوية لم تصل بعد إلى عهد النساء , واختلاط المهمات . ولماذا المرأة في الدول الإسلامية فازت ؟ سأل أحدهم هذا السؤال في مجلس ؛ فقال أحدهم : "هذه شعوب مريضة ومعقدة تحب أن تثبت أنها متطورة فيهرب رجالها للخلف وتتظاهر الشعوب المقهورة بالتقدم والحرية واختيار المرأة !!" . وقال بعضهم : "إن هذا هو موقع المرأة الحقيقي في هذه الشعوب هي الزعيمة وهي صاحبة القرار في البيت والشارع , ولا يغرك تظاهر الرجال, ولذا لم يفلحوا" . ولكنفترة حكم هذه النساء , في تركيا والباكستان ؛ قد تكشفت عن فساد مالي ووساطات وقرابات , نهبت ميزانية دولهم في عهدهن , فأين القوة والأمانة ؟!
فتش عن العقدة:
لم تكن تلك الحوادث التي تقال على الألسن كافية لأن أعرف سر تطرف بعض العربيات في الحركة النسوية العربية , والتي جاوزت الخلق والأدب والمعقول , وأضحت كتابات مشبعة بالفجور ومستفزة , حتى كان ذات يوم , وأعطاني زميل كتاب (نوال السعداوي) .. "مذكرات طبيبة" , وهي نسخة مترجمة للغة أجنبية, إذ لا مناص من إثبات الولاء والحضور في لغتهم , والتماثل . ومن الصفحات الأولى في الكتاب تظهر لك (العقدة) وعين الأزمة , بلا ستار . لقد كانت عقدتها أنها في أول سنوات بلوغها - وكما تقول هي - ؛ فقد تعرضت لتحرش مؤذ من حارس العمارة - التي كانت تسكن فيها - وهربت منه - كما تقول - وكانت صغيرة جاهلة . وأنشب الخوف والحقد مخالبه فيها منذ ذاك. ثم تبعه - فيما بعد - أزمة علاقات صعبة في البيت مع إخوانها ووالديها , ثم تطورت العقدة إلى زواج فاشل , فنمى الخوف والعقدة , وأزمة البيت والشارع , والجامعة والذكاء والنجاح في الدراسة , والفشل في الحياة ؛ لتخرج بأزمة وأفكار "مريضة" موغلة في الانتقام ممن رأت أنهم "سر" فشلها ومرضها وعقدها المزمنة .
إن الصدمات الموجعة , والتجارب الفاشلة , والعلاقات القاسية في الطفولة والشباب المبكر ؛ تحفر- في النفس والعقل - حفراً كبيرة , يظهر خللها في يوم من الأيام . وتظهر آثار تلك الأزمات في تصرفات غير يسيرة , بل وبأشكال مثيرة ومستفزة , لأن النفس لم تكن سوية , ولم تستطع أن تخفي تلك الحفر (العميقة) , ولا أن يدمسها الزمن ! . لقد كانت مذكرات "هذه المرأة" جواباً لسؤال كبير أحاط بكتابتها , وتفسيراً لعقدة عتيدة , فقد جاوزت الحد , الذي يقال له "شكوى" , وأحرجت النساء ؛ بما وصل له أسلوبها من طريقة تقضي على الود والرحمة التي فطر الله عباده عليها , وجعلها رباط الزوجين .
التعدد والأفراد:(4/485)
إن كنتم تريدون أن يكون الغربي مثالاً , أو الشرقي- الصيني والياباني - مثالاً ؛ فلا بأس , وإن أردتم أن يكون "الشيوعي" - المتظاهر بخدمة الطبقة الكادحة - قدوة , فلكم ما أردتم. أنكم لن تجدوا عندهم - وبلا وصاية من كاتب أو ممل لفكرة - غير رجال يعددون النساء في كل أمة وتحت كل قانون , وأنهم يغيرون زوجاتهم , أو يخونونهن , أو يقتلونهن . ومن قرأ "دعاية السياحة" في بريطانيا - في وسط التسعينات - ؛ فقد كانت مضحكة ومعبرة !! , إنها تقول: "تعالوا إلى بريطانيا فقد مات هنري الخامس منذ زمن طويل" . لماذا "هنري" .. هذا ؟ إنه هو الذي ساق نساءه للمقصلة في برج لندن , فقد كان كلما عاشر زوجة ثم أعجبته امرأة أخرى, اتهمها , ثم قتلها وجاء بالأخرى .. لم كل هذا ؟ لأن هناك رجالاً لا يستطيعون الاكتفاء بواحدة , وهناك قوانين أو أعرافاً سنها الناس , خلاف سنة الله في عباده ؛ فكان لابد للناس أن يدوروا حول هذه القوانين بالحيل , أو يحطموها , أو أن يعبثوا بها .
في الحوار تلك الليلة معهم أشرنا إلى الأنبياء الذين ورد ذكرهم في التوراة والإنجيل , وأنهم كانوا يعددون الزوجات والجواري , أما (عيسى) فقد رفعه الله في نحو الثالثة والثلاثين, أما قادتهم وقادة الإلحاد المعاصر (الحداثة الشيوعية وغيرها) , فهم معددون في أسوأ نماذج التعدد. ولأضرب لذلك مثلاً بأربعة , من شر صناع الفكر والسياسة في القرنين الأخيرين وهم: هيجل , وماركس , ولينين , وماوتسي تونج.
عاش "ابن هيجل" مع الأسرة , من صديقة كان يزني بها ؛ وسبب هذا مشاكل للأسرة بلا نهاية5. أما "ماركس" فقد كان له - أيضاً - ولد من شبه قصة أستاذه "هيجل" , ومات الابن في بريطانيا في نحو عام 1924 بعد انتصار "فلسفة والده" في روسيا6. أما "لينين" فقد كانت "عشيقته" السويسرية , تساكنه شقته, مع زوجته "كروبسكايا" قبل الثورة وفي الكرملين , حتى مات7. أما "ماوتسي تونج" , ففي مذكرات "طبيبه الخاص" من القصص ما لا يحسن ذكره في هذا الجانب . لكن المنحرفين الذين أعماهم التقليد والجهل ؛ لا يجدي معهم شيء ؛ فهم يقولون : إنهم لا يعددون , ولكنهم يفعلون ما هو أسوأ. والمهزوم بالسلاح النووي , يتوقع أن غالبه متميز في كل شيء !! ولله الأمر من قبل ومن بعد .
لقد كنت قبيل محاكمة "كلينتون" , من سامعي البرنامج الذي قدمته شبكة (سي إن إن) , وقد لفت انتباهي , قول أحد الضيوف الكبار, على التلفاز للعالم كله "كلنا نفعل هذا" يقول ذلك عن الرجال الأمريكان , أما الأوروبيون فقد عدوا السؤال والنقاش في الأمر , سخافة وتخلف ؛ فمن عندهم الذي بقي مهتما بمثل هذا الأمر!
ألا ترى المرأة المسلمة , أن التعدد والاعتراف بالفطرة والوضوح والكرامة , خيراً لها . فلنقل إنها هي الزوجة (الأولى) , فكيف ترضى لأختها أن تكون عاهرة , وكيف ترضى أن تكون باقية على نار الشك وعدم الثقة في الرجل سنوات وهي تتوقع منه الانحراف ؟ . ألم تكن هي من يدعو للانحراف , بإصرارها على تحقيق قوانين الشعوب الأجنبية المتضاربة , التي جاءت من مخلفات الهراطقة والمتوحشين؟ . بلاد بلا دين ولا خلق , والتصقت بالمسيحية , التي قال الله - عز وجل - عنهم , أنهم سنوا لأنفسهم الالتزامات , ثم إنهم لم يرعوها حق رعايتها . ليس أفراداً منهم فقط . بل الأغلب منهم لم يرعوها , فقال الله - عز وجل - عنهم "فما رعوها حق رعايتها". لأنه لو كان خرقاً فردياً , لما كان الحكم للمجموع , ولا كان اللوم عليهم , فإما أنهم خرقوا أو , وافقوا , أو سكتوا عن كسر حدود الله . وفي قصة (أصحاب السبت) .. دليل . قد نجد في بلاد المسلمين , رجالاً ونساءاً لا يرعون حدود الله , ولكن ليست بهذه الطريقة الشمولية التي ساقها الله عن غالب أولئك , أو كلهم .
وهل أمنت المرأة - التي تكره وتحارب التعدد - أن تكون هي بحاجة - ذات يوم - أن تكون ثانية , أو ثالثة , أو رابعة لرجل آخر , خير لها من الإهمال والعزوبة والتفرد ؟ وقد تكون نهاية زواجها ؛ بسبب منع زوجها لحقه في الزواج من أخرى , أو بسبب موت أو غيره , فكيف تفكر المسلمة في إلزام الشعوب المسلمة بشرائع الوثنية , التي لم يوقروها ذات يوم ؟ رأيت في المجتمع الغربي - من معايشة طويلة - كيف تتمنى المرأة الغربية - في أحوال عديدة - أن تكون زوجة "ثانية" لمسلم , يكف عنها حياة العدم , والوحدة , والأنانية الطاغية , ولكن المسلمين هناك أيضاً , يقل بينهم من يعدد بسبب الأحوال المادية والقانونية , وبسبب تسرب أفكار الوثنيين للإسلاميين رجالاً ونساءً ؛ فيقدسون قوانين , أو يخشونها , أو يفكرون في صحتها رغم فرار أهلها منها . والأبشع من ذلك أن تنشر مجلة (التايمز) - مقابلة مع إحداهن - وهي تروي كيف سمح لها زوجها بمعاشرة رجال آخرين ؛ لأنه هو لديه نساء أخريات , ويبقى التسجيل القانوني أنهما زوجان , حتى لا تأخذ البيت أو نصفه أو ما جمع من مال ؟(4/486)
وفي ولاية "يوتا" تقوم طائفة حديثة من النصارى "المورمن" بالسماح بالتعدد إلى حد تسع زوجات , وذات يوم جاءت إحدى الزوجات لمذيع لتقص عليه "قصة" هذه الأسرة المكونة من رجل وتسع زوجات (كبرى النساء فوق الخمسين وصغراهن عمرها ثلاثة عشر عاماً) , صورت المقابلة , وأعيد إذاعتها على التلفاز عدة مرات , وما هذه الأسرة إلا واحدة من عشرات الألوف - في تلك الولاية وحدها - من المعددين , ومستوى المشكلات الاجتماعية , أقل من غيرهم, ويحرمون الخمر أيضاً , إلا في أيام قليلة في السنة . جاء المذيع لمحطة الإذاعة التي تعمل فيها هذه الزوجة ؛ وتبين أنها قد تمكنت من أن تقنع زميلتها المذيعة الأخرى لتكون زوجة للرجل نفسه , ثم ذهب المذيع للبيت وقابل الأسرة كاملة , ورأى النساء والأطفال وقد وضع لكل زوجة غرفة , ويرأس النساء وينظمهن أقدمهن وهي "أكبرهن سناً" , أما الصغيرة - التي كانت في الثالثة عشرة - فقد كان أمرها أغرب , لذا ذهب المذيع إلى والدها ووالدتها اللذين زوجاها من هذا العجوز الستيني . وأبو البنت وأمها أصغر من زوج ابنتهما . وقد قال الأب والأم : "إنه كانت لنا بنت أكبر منها , وقد ذهبت مع عشيق أو عشيقة وفسدت , ولا نعرف مصيرها , وقد عرضنا عليه الزواج من ابنتنا , وحببنا لها الأمر , وقبلت وقبل , فهي الآن زوجة لرجل نعرفه في بيت نعرفه . وليس لديها مشكلات , كالتي تعاني منها أختها الهاربة" . قد تكون أمثال هذه الحادثة قليلة أو نادرة , ولكن يبقى أن من الناس - وإن كفروا - أناس قريبين من الفطرة , تهمهم كرامتهم وصيانة أعراضهم , ويواجهون مشكلاتهم بأسلوب عملي , مهما بدا للغرباء غريباً .
وقد يمط أحدهم شفتيه , مستغرباً لنماذج الحياة الأمريكية هذه ؛ فأمريكا - عنده - , والغرب قوة , وفحش , ومسرحيات , وسيارات , وطائرات , وحرية , حتل لا يشعر أن الإنسان بقي هناك - قابعاً مقهوراً - تحت فحش وتفسخ الحداثة وميراث الوثنية , وصرامة العمل , وغياب العاطفة , ورغبة عارمة في التدين .
وهناك من يدأب للبحث عن البدائل , في الهروب من كل أشكال الحضارة المعاصرة ففي مقاطعات "الآمش" هناك اللذين لا يستخدمون أيا من الوسائل الحديثة , فلا يستعملون السيارات , ولا الطائرات , ولا الكهرباء , ولا الهاتف , في استسلام عجيب لمبادئ "كالفن" الدينية تغطي النساء رؤوسهن إلى اليوم والغد - غالباً - بغطاء أزرق , ويزرعون زراعتهم دون كيماويات ولا مخصبات , مما جعل اللذين يسعون إلى الطعام الطبيعي يقبلون على منتوجاتهم , مما عاد عليهم بالأرباح الكبيرة , مع أنهم لم يغادروا تلك الحياة القديمة جداً , في شمال أوروبا , في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين ..
هذه نماذج ليست لتكون هنا سنة أو بديلاً , ولكنها محاولة للهروب من نمط هذه المدنية الغربية وأخلاقها الجشعة . فقد نمى لدى العديد من المفكرين والمؤرخين , مقدار ما أساء به مفكروا اليهود وفلاسفتهم للحياة الغربية , في تدمير الروابط وحل المجتمعات , ووضع المال معيار الحياة الجديدة فقط . وسحق ما عداه.
واستطاع اليهود أن يخرجوا الأفلام السياسية والعقائدية , التي تمجدهم وتهون من غيرهم , فيصورون الإسلام على أنه دين مؤذ ومخيف , ودين رجال بلا خلق ومروءة . ويزيد الحال سوءاً , بعض من يحاول - من العرب - أن يحسن الصورة ؛ فيرمي نفسه عليهم , بشكل بعيد عن احترام النفس والهوية والذات, يتملقهم الفرصة. وكأنه يستجديهم أن يعترفوا به إنساناً من البشر على الأرض . ولكن أنى له - بعد كل الجهود اليهودية - , والواقع العربي المحزن . وقد أشار صلى الله عليه وسلم .. أن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء . وهكذا هي مكرورة اليوم , ولكن اليهود استطاعوا أن يجعلوها "مشكلة العالم" فتنة الناس .. كل الناس , وكل العالم , وهذه الحروب بين الجنسين , من يوقدها كل يوم في الصحف والمجلات والتلفزيون والمدارس والجامعات , إن هذا الشّرَك , أبعد خطراً مما يخطر , لمن يرى تبسيط المسألة .
ولا أبتعد بك بعيداً في الحديث هنا , فشيء من النقاش , والمزاح , ودراسة الخلل الذي يسئ به الرجال للمرأة .. مطلوب , وصحيح وطبيعي ولم يعش البشر , دون هذه الملاطفات والمعاتبات والسخريات المتبادلة , واللوم أحياناً , ولكن الذي نعيبه هنا - وهو الداء الدوي - أن يستلحقنا غيرنا , وأن نحارب في معركة ليست لنا من بدايتها إلى نهايتها , وأن تفرض علينا المواقف في المعركة , ويفرض علينا السلاح .. فأي قيمة لشعوب تسقط في هذه الأحابيل وأي استقلال ؟(4/487)
ولأزيد هذه المسألة بياناً وأمثلة ؛ لعل من قومنا من يفتح عينيه على المشكلة , فقد شاهدنا مئات الآلاف من المسلمين يجندون في الجيش البريطاني , من مسلمي الهند وبدو الجزيرة العربية , والأردن , وسوريا , ورأينا العرب المسلمين يجندون في الجيوش البريطانية والفرنسية والإيطالية , يحاربون لمصالح بريطانيا وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا , ويموتون في سبيل التراث الفرنسي والبريطاني والإيطالي , مقابل دراهم قليلة , أو مقابل شيء من الزاد لبطونهم , لم يكن ذلك بعيداً , فرجال من رجال هذه الحروب , أحياء اليوم في عالم الناس , فكيف لا تجد رجالاً ونساء متعلمين أو جاهلين , يحاربون في مدارس الفكر الغربي , ويحاربون إسلامهم وفكرتهم , دون وعي منهم . وأنصاف المتعلمين - ممن حصلوا على شهادات غربية أو زاروا أمريكا أو أوروبا عدة سنوات أو أيام - جهلهم فاضح بأنفسهم وبغيرهم , جهلهم بنظم الحضارات وصراع الأفكار .. فاحش , وغرورهم بشهاداتهم كبير , وبكلمات لقطوها - دون عمق - أكبر . وبعضهم لا يزيد عن كونه "وسيلة اختراق" ناجحة لمجتمعه دون وعي منه .
وهل المرأة المسلمة بلا مشكلات؟
المرأة المسلمة إن سارت في الطريق ؛ فستكون الأسوأ حظاً بين الجميع , فلديها ما تنوء به من مشكلات المجتمع الذي تخلف وفارقته الحيوية الحضارية , وأثقلته مشكلات الجهل والعزلة والاستبداد , لقد هدت مشكلاتنا العويصة المرأة والرجل , وألقت على الطرفين سلوك الخوف والتردد , والسطحية والسلبية في الحياة , وذلك هو الاستجابة الطبيعية للإنسان المقهور , والمقهور إذا سنحت له فرصة تفلت وتخلص ؛ لم يحسن التعامل معها , أياً كان جنسه , رجلاً أو امرأة .
غير أنني أشير هنا .. إلى أن لكل مجتمع - نساءً ورجالاً - مشكلاته, وليس بحاجة إلى أن تفد عليه مشكلات الآخرين وأفكارهم . فكيف إذا أرهقنا الإنسان المسلم المجروح , بل المحطم , وحملناه أفكار ومشكلات غيره ؟ بل , وما هي أفكار الآخرين - سوى مشكلات ومحاولات حلول - فننقل مشكلاتهم إلى مجتمعنا , ونطالبه بحلول لمشكلات عويصة على المجتمع الغربي نفسه , غارق فيها بلا نهاية , ونطالب أنفسنا أيضاً , بحل مشكلاتنا!! .
إن هذا لضرب من العبث والسذاجة , وإهلاك للقوى دون جدوى . إن هؤلاء الذين يفترضون , أو يرون أن يحملوا المرأة والرجل , ثقل الغرب والشرق ومشكلات حضارتين , لا يزيدون قومهم إلا خساراً ووبالاً , وستكون المرأة الغربية أخف حملاً لأنها تعاني مشكلة , تكاد أن تكون واحدة , مشكلتها الثقافية أو عقدتها مع ثقافات اليهود - الذين مارسوا دورهم من داخل المجتمع الغربي - فهي تواجه أزمة معروفة , أو شبه معروفة الأسباب والحدود في أذهانهم , أما "المسلمة" فسيكلفها عدوها ما لا تطيق ؛ فلن يتحول المجتمع الإسلامي ليكون نصرانياً , ولن يتبنى فلسفة اليهودية , ولا الحداثة , ولا العلمانية , فتحل مشكلاته - كما يتخيل المتغربون من هناك - بفلسفة الغرب نفسه بعد استيطانها .
بل شهد عصرنا هذا , وأيامنا هذه , على خلاف ما كان يتوقعه المتغربون (الاستلحاقيون) , فمن شاهد صور (النساء العراقيات قبل حرب 1990) ومن شاهدها عام 1999 ؛ يرى الفارق الكبير ! فما كنا نرى صورة امرأة "محجبة" آنذاك .. أما اليوم - وفي زمن قصير جداً - ترى عكس ذلك تماماً . مست أمتنا آلام الغرب , وإفساده وقتله , وتشريده بالمسلمين ؛ فهرب منه من كان يأمل منه خيراً أو تقدماً . عادوا للدين عادوا للإسلام . بل إن شياطين "حزب البعث" نفسه , غادروا ثقافته ؛ لما كان فيها من سموم القومية "الغربية" لا العربية . وعند "صدام" اليوم , درجات الترقي - حسب حفظ القرآن . وكم لله في خلقه عجائب ؟ فهذا وزير عربي , درس في "جامعة القاهرة" في بداية الستينات , ثم عاد لها بعد ثلاثين سنة قال : "عدت لأتذكر تلك الأيام ؛ فكان أشد ما شدهني , تحجب النساء , فقبل ثلاثين سنة كانت - ربما - واحدة فقط .. في كل الكلية , تتحجب , أما اليوم , فيقول : "حتى النصرانيات هل يتحجبن" ؟ إن مخلفات الفكر المهزوم والنفوس المبتورة ؛ ستبقى مادام الغرب قوياً لديه السلاح النووي والإعلامي .. هوليوود وما شابه . ولا نتوقع أن تنقطع فصيلة المهزومين والمستلحقين , ولكن علينا أن لا نغرق في بحر بلا ساحل , وفي معارك ليست لنا .
ملحق إحصائي
يبدو أن هذا الكتاب , مكتوب من قبل إحدى العاملات مع الحركات النسوية المتطرفة , ينحي باللائمة على الرجال في ما وصل له وضع المرأة في العالم , وقد لخصت ما رأيت أن له علاقة بالموضوع , في الأرقام التالية:
الاغتصاب:
1- في أمريكا نسبة "إمكان اغتصاب المرأة" ما بين واحدة إلى خمس , والتقديرات المحافظة , واحدة إلى سبع , أي أنه من بين كل (خمس نساء) إلى (سبع نساء) تكون إحداهن تعرضت للاغتصاب , أو ستتعرض له في حياتها. ص 56(4/488)
2- عدد المغتصبات اللاتي سجلن حوادث اغتصابهن عند الشرطة في عام 96 كان90430, أما اللاتي لم يسجلن حادثة الاغتصاب فيقدرن بـ 310000 حالة . وسبب عدم الشكوى ؛ اليأس من إمكان الشرطة أن تعرف أو تساعد , وعدم جدوى التقرير, كما أن عدداً كبيراً , لا يحببن أن يسجل عليهن في البوليس ذلك . هناك نوع آخر من الجرائم , وتسمى "الجريمة المسكوت عنها" , وهي تحرش أرباب العمل أو المديرين أو المدرسين بالنساء , الاتي يقعن تحت نفوذ رجال متنفذين, وفي العادة لا تسجل هذه الجرائم ؛ بسبب خوف المرأة على وظيفتها , أو طمعها في تعويض, أو صعوبة الإثبات , وأشهر الحوادث التي كشف عنها - منذ نحو ثلاثة أعوام - فقدت اشتكت إحداهن رجلاً من رجال (الكونجرس) من "أوريجون" , وحين اشتهر أمره سجلت عليه 26 امرأة , شكاوى من هذا النوع , ممن سبق أن عملن معه في الكونجرس وخارجه.
3- عدد حالات الاغتصاب في كندا : المسجلة (20530) وليس هناك إحصاء لغير المسجلات , ولكن في كندا (150) مركزاً لمساعدة المغتصبات اللاتي يأتين لطلب المساعدة , بعد الاغتصاب. ورقم المراكز في (أمريكا) لا تتوفر له إحصائية , وذلك أن منه الرسمي , والتطوعي .. ومن يعرف المجتمع , يعرف مدى انتشار هذه المراكز, فهي خدمة اجتماعية منتشرة في الأحياء , والجامعات .
4- في أستراليا (75) مركزاً لمساعدة المغتصبات , وفي نيوزيلاندا (66)
5- حالات الاغتصاب المسجلة في ألمانيا (5527 ) - لم تشر الكاتبة لتقدير الأرقام غير المسجلة" .
6- في جنوب إفريقيا (2600 ) حالة مسجلة , وغير المسجل يقدر بـ386000
7- إسرائيل بها سبعة مراكز لمساعدة المغتصبات
8- بنغلاديش بها مركز واحد
9- روسيا سجل فيها (14000) أما التقدير للحالات فهو من أعلى دول العالم : (700000) .
قتل النساء في الولايات المتحدة:
يقتل كل يوم عشر نساء من قبل الزوج أو الصديق , من هذه الحالات (75%) يتم القتل بعد , أن تترك المرأة صديقها , فينتقم منها بالقتل . أو تطلب الطلاق من زوجها , أو تعصي زوجها. ص 26 في روسيا عام 1995 نصف حالات القتل في روسيا , تمت ضد النساء من قبل أزواجهن , أو أصدقائهن, وفي عام 93 قتل (14000) امرأة , وجرح (54000 ) جراحات شديدة . ص27
ملاجئ النساء:
في الولايات المتحدة فقط 1400 ملجأ للنساء المضروبات , أو الهاربات من أزواجهن , وهن اللاتي لا يجدن ملجأ عند أهل أو أقارب . ص 26
- في كندا 400 ملجأ
- في ألمانيا 325
- في بريطانيا 300
- في أستراليا 270
- في نيوزيلندا 53
- في هولندا 40
- في استراليا 19
- في ايرلندا 10
- في اليابان 5
- في الباكستان 4
- في تونس 1
- في بنغلاديش
نسبة حالات العنف ضد النساء في المجتمع:
أعلى الأرقام سجلت - وللأسف - في الباكستان80 % ثم تنزتنيا 60 %. ثم اليابان 59 % بنما 54%. أمريكا 28 %. وكندا 27 % نسبة الطلاق في أمريكا كانت في عام (1970 - 42%) ووصلت في 1990 إلى (55%) وفي فرنسا 32 % , وفي بريطانيا 42% . ص 23 وفي السويد إلى 44% , وفي كندا إلى 38% , وتأخر سن الزواج عن عام 1970 في نيوزيلندا , ليزيد ست سنوات , وثلاث سنوات في أمريكا , وعامين في كل من كندا, وبريطانيا . ص 23
حالات الإجهاض:
المواجهات محتدمة بين أنصار الإجهاض وخصومه في أمريكا , ولذلك أثره الكبير ونقاشه العام , حتى على مستوى من يفوز في الانتخابات , قد يساعد على أن يحدد مصيره , موقفه من الإجهاض ؛ فالمحافظون المتدينون , ضده , ويتهمون المجهضين والموافقين بأنهم قتلة للأطفال , والمعارضون يسمون أنفسهم أنصار الاختيار, والأزمة أغلبها حول أطفال من السفاح , وقد اشتدت المواجهات بالسلاح بينهم . وإليك هذه الإحصائية : بين عامي 1990 و1995 تم اغتيال خمسة من العاملين في عيادات الإجهاض , و12 حادثة , محاولة أخرى , و196 حالة تهديد بالقتل , و65 حادثة مسلحة أو تفجير , تمت للعيادات , و30 محاولة غير ناجحة , و 115 تهديداً بالتفجير, و372 محاولة تخريب و إضرار بالعيادات التي تنفذ الإجهاض . ويموت في العالم ما يزيد عن 200000 امرأة , تموت سنوياً ؛ بسبب محاولات الإجهاض غير المسموح به , أغلبهن في آسيا ص 38 - 39 وقد كان شعار أنصار "عدم" الإجهاض .. (أوقفوا القتل) ولكن لما زادت محاولاتهم في قتل الأطباء وتخريب العيادات ؛ بدأت تظهر دعايات ضدهم , وكاريكاتيرات تقول : "أوقفوا القتل أنتم أيضاً" , وهناك أحد هؤلاء الذين فجروا عيادات في "كارولاينا" , لم يزل هارباً - منذ ما يزيد عن عام - وينشر الرعب , هو وأنصاره , ولم يقبض عليه إلى الآن , وهو هارب في الغابات , ويتهم مجموعة من "المتدينين" أنهم يناصرونه .
الإيدز:(4/489)
في عام 1993 , كان هناك 13000 ألف شخص , يصاب يومياً في العالم . والمتوقع أن يصاب بالإيدز هذا العام 1999 , ما يقدر بـ60 إلى سبعين مليوناً من البشر. ومناطق العالم الإسلامي هي الأقل إصابة به في العالم , فيقدر منطقة المشرق العربي , وإيران , والباكستان , وتركيا , وإسرائيل , والمغرب العربي .. بنحو 76000 في عام 1995 في أمريكا وكندا - رغم التوعية الصحية والإعلامية - ما يزيد عن مليون وثلاثمائة . وأعلى الأرقام في (إفريقيا - جنوب الصحراء) يصل إلى 3 ملايين و360000 .
http://www.almana صلى الله عليه وسلم net/issues/08/3.htm
============(4/490)
(4/491)
ماذا يريدون من المرأة..؟!
مجلة البيان - (ج 149 / ص 62)
أساليب تغريب المرأة وآثارها
محمود كرم سليمان
الحمد لله ـ تعالى ـ والصلاة والسلام على رسوله. وبعد:
فإن فساد المرأة فساد للأسرة كلها وللمجتمع بأسره لما له من أثر عميق على الناشئة والشباب، ولعل أبرز ما نراه اليوم هو هذا التخطيط المرسوم بدقة والذي أخذ طريقه إلى المدارس والجامعات فأدى إلى تغريب المرأة وعلمنتها وابتعادها عن دينها.
كما أصبح الإعلام الحديث بجميع ألوانه سلاحاً يفتك بالمرأة ويغريها على الفساد خاصة أنه قد بلغ من الإبداع والتأثير قدراً كبيراً جعل من المستحيل مقاومة إغرائه، وقد اعتمد هذا الإعلام في معظم برامجه ومصنفاته الفنية والإعلانية اعتماداً محورياً على مظهر المرأة ومفاتنها سواء أكان في التلفاز أو الإذاعة أو الصحف والمجلات أو الإنترنت مؤخراً.
ولا شك أن الانحراف الخطير الذي تردت فيه المرأة قد أصبح ظاهرة واضحة في المجتمع تشهد عليه تلك الآثار المستشرية في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن خروجه عن مبادئ الدين الصحيح وتعاليمه الأخلاقية والإيمانية.
ولا يخفى على الناظر البصير أن هذه الظاهرة في معظمها هي ثمرة لمخططات الاستعماريين والعلمانيين التي وضعت بهدف إفساد المجتمع وتفريغه من المقومات المستمدة من دينه القويم وتراثه الخالد، وبذلك فَقَدَ قدرته على التماسك أمام ضربات الاستعمار الغربي وأصبح لقمة سائغة له.
وقد توسلت هذه المخططات بعديد من الشعارات الزائفة البراقة التي تتخفى تحت مبدأ مساواة المرأة بالرجل وتحرير المرأة من قيود الدين والعرف.
وإمعاناً في إتمام هذه الخطة الخبيثة تم وضع عملاء من أمثال (مرقص فهمي) الذي أصدر كتاب "المرأة في الشرق" ونادى فيه المرأة إلى رفع الحجاب والاختلاط بمحافل الرجال، وهاجم فيه أحكام الشريعة الإسلامية التي تحرِّم زواج المسلمة بغير المسلم ودعا إلى التمرد على هذه الأحكام.
\ وفي عام 1911م تأسس في مصر "حزب بنت النيل" الذي طالب بتحرير المرأة من الحجاب وتقييد الطلاق وكان من قياداته القديمة درية شفيق، وأمينة السعيد وغيرهما.
\ وفي عام 1913م دعيت هدى شعراوي لحضور مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي بروما، وكان من توصياته: العمل على تعديل قوانين الطلاق لوقفه، ومنع تعدد الزوجات، وتقرير حرية المرأة في السفور والاختلاط.
وأصدر قاسم أمين كتابه: "المرأة الجديدة" الذي نادى فيه بالاتجاه الأعمى إلى تقليد الغرب فكرياً واجتماعياً، وعلى دربه سار سعيد عقل ولويس عوض ولطفي السيد ونجيب محفوظ، وعديد من أعضاء المحفل الماسوني، ومن الشعراء صادق الزهاوي، ونزار قباني وغيرهم.
ومما زاد الطين بلة قيام زعيم وطني بتمزيق النقاب من فوق وجه فتاة مسلمة في أكبر ميدان في مصر، كما أمر زوجته بحرق الحجاب أمام الجمهور.
ومن فضل الله ـ تعالى ـ أن قيَّض للأمة الإسلامية في هذا الوقت علماء مجاهدين وقفوا بكل قواهم لصد هذه المخططات ولتفنيد هذه الدعوات المشبوهة مما كان له أثره في التخفيف من مساوئها.
الآثار التي ترتبت على إفساد المرأة:
أولاً: مؤشرات عامة تظهر عمق ما أصيبت به المرأة والمجتمع:
1- البعد عن الدين: وذلك بعدم معرفتها لعقيدته السمحة وفروضه وسنته وشريعته العادلة وأخلاقه الرشيدة، وكذلك عدم الالتزام بأداء العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وذكر وتلاوة وحفظ للقرآن الكريم واستغفار وحمد لله ـ تعالى ـ ودعاء وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
وقد تمرد بعضهن على تعاليم الدين وتنكرن لعقائده وعباداته وأحكامه مخالفات لقول الله ـ تعالى ـ:((ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ)) [البينة: 5].
2- اتباع الشيطان وهوى النفس: وبذلك تمرغت في أوحال الفسوق والانحلال، وسارت خلف نوازع النفس الأمارة بالسوء، وانطبق عليها قول الله ـ تعالى ـ: (($ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ)) [القصص: 50]، وأنكرت قوله ـ تعالى ـ: ((فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً (32) وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)) [الأحزاب: 32، 33] وقد ورد عديد من الأحاديث عن رسول ا صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنف من النساء نذكر منها:
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "إياكم وخضراءَ الدمن! قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء"(1).
روى النسائي أن صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية"(2).
وروى كذلك:"لعن رسول ا صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال"(3).(4/492)
3- التنكر للآداب الدينية: مثل الحجاب وغض البصر وعدم الاختلاط بالرجال إلا بضوابطها الشرعية؛ فهي لا تقيم وزناً لتعاليم الدين التي تنهى المرأة عن الخروج كاشفة لملابسها الفاضحة، أو متزينة بالجواهر والحلي البراقة، أو متعطرة، أو متحلية بالأصباغ في وجهها خارج بيتها حتى لا تفتن الرجال، وقد روى أبو هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم "صنفان من أهل النار: أحدهما نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها"(4).
4 - تضييع الوقت فيما يضر: فالوقت هو الحياة؛ وهذا الصنف من النساء يقتلن وقتهن في السهر في الملاهي التي تغضب الله ـ تعالى ـ كمشاهدة الأفلام الخليعة، وفي قراءة الكتب والصحف والروايات التي لا تراعي الآداب والأخلاق القويمة فيما تنشر، وفي مجالس الغيبة والنميمة والتآمر على الفضيلة وإفساد ذات البين، وغير ذلك من الآثام.
5 - مصاحبة أقران السوء: فالصحبة الفاسدة لها أثر كبير في نشر الفساد؛ فهي كعدوى الأمراض ينتشر خطرها بالاختلاط خاصة بين النساء والرجال كما سبق ذكره.
6 - انشغال المرأة بالعمل والاشتراك في النشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على حساب بيتها وأبنائها؛ والإسلام أباح للمرأة أن تعمل إذا الجأتها الضرورات الاجتماعية إلى العمل لا أن يكون هذا نظاماً عاماً، وعليها حينئذ أن تراعي الشروط التي وضعها الإسلام لإبعاد فتنة المرأة عن الرجل وفتنة الرجل عن المرأة.
وقد أثبتت التجربة الغربية الآثار السلبية لعمل المرأة، ونذكر منها:
في الولايات المتحدة دخل المستشفى أكثر من 5600 طفل في عام واحد متأثرين بضرب أمهاتهم العاملات لهم، ومنهم نسبة كبيرة أصيبوا بعاهات.
في مؤتمر للأطباء عقد في ألمانيا قال الدكتور كلين رئيس أطباء مستشفى النساء: إن الإحصاءات تبين أن من كل ثمانية نساء عاملات تعاني واحدة منهن مرضاً في القلب وفي الجهاز الدموي، ويرجع ذلك ـ في اعتقاده ـ إلى الإرهاق غير الطبيعي الذي تعاني منه المرأة العاملة ـ كما تبين أن الأمراض النسائية التي تتسبب في موت الجنين أو الولادة قبل الأوان قد تعود إلى الوقوف لمدة طويلة أو الجلوس المنحني أمام منضدة العمل أو حمل الأشياء الثقيلة، بالإضافة إلى تضخم البطن والرجلين وأمراض التشوه".
\ توصلت نتائج دراسات أذاعتها وكالات أنباء غربية في 17/7/1991م إلى أنه خلال العامين السابقين هجرت مئات من النساء العاملات في ولاية واشنطن أعمالهن وعدن للبيت.
نشرت مؤسسة الأم التي تأسست عام 8391م في الولايات المتحدة الأمريكية أن أكثر من 15 ألف امرأة انضممن إلى المؤسسة لرعايتهن بعد أن تركن العمل باختيارهن.
في استفتاء نشرته مؤسسة أبحاث السوق عام 1990م، في فرنسا أجري على 2.5 مليون فتاة في مجلة ماري كير كانت هناك نسبة 90% منهن ترغبن العودة إلى البيت لتتجنب التوتر الدائم في العمل ولعدم استطاعتهن رؤية أزواجهن وأطفالهن إلا عند تناول طعام العشاء.
\ وفي الولايات المتحدة 40% من النساء العاملات، وفي السويد 60% منهن، وفي ألمانيا 30%، وفي الاتحاد السوفييتي (سابقاً) 28% يعانين من التوتر والقلق وأن نسبة 76% من المهدئات تصرف للنساء العاملات.
أما في الاتحاد السوفييتي فقد ذكر الرئيس السابق "جورباتشوف" في كتابه عن البروستريكا أن المرأة بعد أن اشتغلت في مجالات الإنتاج والخدمات والبناء وشاركت في النشاط الإبداعي لم يعد لديها وقت للقيام بواجباتها اليومية من أعمال المنزل وتربية الأطفال.
وأضاف قوله: "لقد اكتشفنا أن كثيراً من مشاكلنا في سلوك الأطفال والشباب وفي معنوياتنا وثقافتنا وإنتاجنا تعود جميعاً إلى تدهور العلاقات الأسرية، وهذه نتيجة طبيعية لرغبتنا الملحة والمسوَّغة سياسياً بضرورة مساواة المرأة بالرجل".
\ وفي دول الخليج ظهرت مشكلة من لون آخر فقد زاد عدد المربيات الأجنبيات بسبب عدم تفرغ الأم لرعاية أطفالها، ولو وضعنا في الاعتبار أن نسبة كبيرة من هؤلاء المربيات غير مسلمات، وأن معظمهن يمارسن عباداتهن الخاصة أمام أطفال المسلمين، وأسوأ من ذلك أنهن يزاولن علاقات جنسية مع أصدقاء في منازل مخدوميهن بالإضافة إلى احتسائهن للخمر وتدخين السجائر بمصاحبة الأطفال، ومن ذلك ندرك حجم الخطر الذي يهدد الأسرة المسلمة بسبب تحرر المرأة من تعاليم دينها وإهمالها لواجباتها نحو أولادها وبيتها.
ثانياً: مشكلات أصابت الأبناء من الجنسين:
وهذه مشكلات تشاهد في الجيل الجديد منذ الطفولة حتى من الشباب وتشمل مشكلات تربوية ومشكلات تعليمية وثقافية.
فالمرأة الصالحة ذات الدين إذا كانت زوجة ولها أبناء تؤدي واجبها في تربية الأبناء ورعايتهم بما توفره للأسرة من سعادة، فينشأ الأبناء في رعايتها نشأة سليمة بدنياً ونفسياً وثقافياً بحيث يلتزمون بالعقيدة الصحيحة ويمارسون العبادة لله الخالق العظيم على أكمل وجه، ويتمسكون بالأخلاق الحميدة والسلوك السوي والصراط المستقيم والبر والتقوى.(4/493)
أما النساء المنحرفات فهن محضن لكل فساد، وقدوة سيئة لأبنائهن في كل نواحي الحياة وفي كل أعمارهم منذ طفولتهم؛ فهم لا يكتسبون منهن إلا القيم الفاسدة والعادات السيئة والصفات الذميمة، وهن يتركنهم بدون الرقابة الواجبة ولا التوجيه الرشيد؛ حيث تربيهم الخادمات الجاهلات أو المربيات الأجنبيات فيغرسن فيهم أسوأ الخصال وأرذل القيم؛ ولذلك آثار لا تمحى في أعماق نفوس الأبناء تلازمهم في مستقبل حياتهم مما يكون له نتائج لا شعورية في كل سلوكهم، وقد يؤدي إلى إخفاقهم في الدراسة والعمل بل في تكيفهم مع المجتمع.
أما دور الأم في تعليم أولادها وبناتها خاصة قبل سن التعليم فهو في غاية الأهمية؛ فإن الطفل يخرج إلى الحياة مجرداً عن العلم بأي شيء؛ تأمل قول الله ـ تعالى ـ: (($واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [النحل: 78]، والأم هي التي تقوم بتعليم أطفالها استخدام هذه الأجهزة الربانية في الحركة والكلام والأكل والإمساك بالأشياء واللعب، كما يتعلمون من الأم والأب وغيرهم من المصاحبين لهم اللغة، ويعرفون بالسماع أسماءهم التي ينادون بها، ثم يلي ذلك تعلم القراءة والكتابة البسيطة والنطق الصحيح للألفاظ ويحفظون اسم الله ـ تعالى ـ ومبادئ الدين.
وهذا الدور الهام لا يمكن أن تؤديه الأم المنشغلة عن أولادها التي تقضي وقتها خارج بيتها، كما لا تصلح له الأم الجاهلة بأمور دينها ودنياها وبواجباتها نحو أطفالها.
وعندما يجتاز الأطفال هذه المرحلة يكون دور الأم في تحصيل أبنائها العلمي مساعداً لدور المدرسة؛ فهي تعاونهم على أداء واجباتهم الدراسية في المنزل كما تهيئ لهم الأجواء المناسبة في البيت للشعور بالراحة والأمان والحنان والحب مما يكسبهم الثقة في النفس والتفاؤل والثقة في المستقبل، كما تتولى الأم الإجابة على تساؤلات أبنائها في هذه المرحلة التي يكونون فيها دائمي السؤال عن كل ما يخطر على بالهم؛ ويتوقف على مدى صواب إجابات الأم امتلاء عقولهم وقلوبهم بحقائق الحياة وتعرفهم على الفرق بين الحق والباطل والخير والشر والخطأ والصواب.
وأهمية دور الأم في هذه المرحلة في تعليم أبنائها دينهم ومراقبة ممارستهم للعبادات والتزامهم بالسلوك والأخلاق التي يحض عليها الإسلام وتعريفهم تعاليم الدين المتعلقة بالمجتمع وآدابه في كل شيء؛ وذلك استكمالاً لمقررات الدين في المدرسة ومراقبة تطبيقهم لهذه المعارف والآداب. وهناك أمور تحتاجها الفتاة من الأم تختص بها دون الولد تعتمد على علم الأم بها واهتمامها بها بتبليغ بناتها بها في الوقت المناسب وتدريبهن عليها، نذكر منها ما تحتاجه البنت من معلومات عند البلوغ وواجباتها الخاصة في تدبير المنزل وخدمة الأسرة لتعرف حقوق الزوج والأبناء والبيت عندما تتزوج.
وهذه الواجبات السابق ذكرها لا يمكن أن تؤديها الأم الفاسدة، أضف إلى ذلك أن فساد عقيدة الأم يؤدي إلى دفع أولادها نحو الالتحاق بالمدارس الأجنبية ومن ثَمَّ بالثقافة الغربية مما يكون له أثر بالغ في نشأة شخصيتهم غريبة عن مجتمعهم ودينهم.
ثالثاً:مشكلات أصابت الرجال من أزواج وأقارب كما أصابت المجتمع كله:
1- تأثيرها على الزوج:
حيث قد يدفعه فسادها إلى ارتكاب المعاصي وإلى طريق الشيطان والبعد عن الصراط المستقيم، كما أن عدم التزامها بالحجاب وتبرجها أمام الرجال يثير سخط زوجها وغيرته عليها مما يكون له أثره في ارتكاب الزوج لردود أفعال لجنون الغيرة غير محمودة العواقب.
والمرأة التي لا تحترم الحياة الزوجية تضر بالأسرة وتهدد بتحطيمها بالطلاق أو بإهمال الرجل لبيته أو بالاتجاه إلى زوجة أخرى، أو الهروب إلى المقاهي ودور اللهو؛ وكثيراً ما تكون سبباً في إدمانه للتدخين والمخدرات والمسكرات.
ومشكلة الطلاق في الغرب تعبر عن هذه الظاهرة في بلاد تعيب على الإسلام إباحته للطلاق؛ فقد بلغت نسبة الطلاق إلى عدد الزيجات في السويد 60%، وفي الولايات المتحدة الأمريكية 40%، وفي ألمانيا 30%، وفي الاتحاد السوفييتي 28%، وفي فنلندا 14%. ونذكر هذه الدراسة التي نشرتها مجلة شتيرن من ألمانيا أن ثلثي الراغبات في الطلاق في فرنسا يمارسن عملاً خارج البيت وأن 22% من حالات الطلاق في ألمانيا نتيجة الخيانة الزوجية، و10% منها لأسباب جنسية، و10% منها بسبب الإدمان.
أما في العالم العربي فقد وصلت مشكلة الطلاق إلى حجم غير مألوف مما يحتاج إلى دراسة مستقلة.
ومن المشكلات الاجتماعية عزوف المرأة عن الإنجاب؛ حيث لا ترغب في تحمل متاعب الحمل والوضع؛ وقد يدفعها ذلك إلى الإجهاض، وقد تقصر المرأة العاصية في تلبية حاجات زوجها الجنسية مما يؤدي به إلى الزنا أو الشذوذ.
وقد يؤثر ذلك على صحة الزوج بدنياً ونفسياً، ويجعله عرضة للأمراض الجنسية والنفسية وغيرها.
قد تدفع المرأة إلى انحراف زوجها مالياً لكي يحقق الثراء والكسب الحرام تلبية لمطالبها من الملابس الفاخرة والمجوهرات والسهرات الماجنة والحفلات الصاخبة.(4/494)
2 - تأثيرها على الرجال من الأقارب والآخرين:
المرأة التي لا تلتزم بتعاليم دينها في الحجاب وعدم الاختلاط بالرجال لها خطر عظيم على مجتمع الرجال، لذلك فقد حرص الإسلام على أن يباعد بين الجنسين إلا بالزواج لما يتبع هذا الاختلاط والتبرج من ضياع للأعراض وخبث للطوايا وفساد للنفوس وتهدم للبيوت وشقاء للأسر.
وقد لوحظ في المجتمعات المختلطة بين الجنسين طراوة في أخلاق الشباب ولين في الرجولة إلى حد الخنوثة والرخاوة.
والمرأة التي تخالط الرجال تتفنن في إبداء زينتها ولا يرضيها إلا أن تثير في نفوسهم الإعجاب بها؛ ولذلك أثره في الإسراف في تكاليف التبرج والزينة المؤدي إلى الخراب والفقر.
ويترتب على ذلك انتشار الفحشاء والزنا والأمراض المصاحبة لها في الدنيا، وفي الآخرة عذاب عظيم لمخالفة تعليم رب العالمين نذكرمنها قول الله ـ تعالى ـ: ((قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ولا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [النور: 30، 31].
وقوله ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ)) [الأحزاب: 95].
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم عن ربه ـ عز وجل ـ: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه"(5).
وروي عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "إياك والخلوة بالنساء! والذي نفسي بيده! ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما، ولأن يزحم رجل خنزيراً ملطَّخاً بالطين خير له من أن يزحم منكبيه منكب امرأة لا تحل له"(6).
أخرج النسائي: قول النبي صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية"(7).
وإثم مخالفة تعاليم الله ـ تعالى ـ لا تقف على النساء فقط بل على المخالفين من الرجال؛ ولا يعذرون عند الحساب لا في الدنيا ولا في الآخرة بأنهم كانوا فريسة لفساد النساء ولغواية الشيطان بعد أن حذرهم الله ـ تعالى ـ.
3 - تأثيرها على المجتمع كله:
هذه المشكلات التي تهز اليوم أركان الأسرة والمجتمع بشدة كمشكلة الاغتصاب وخطف الفتيات والأطفال غير الشرعيين وأولاد الشوارع كلها من آثار فساد المرأة. وقد ظهر حديثاً ظاهرة انتشار ما يسمى بالزواج العرفي الذي وضع الأسرة أمام مشكلات جديدة تضع غطاءاً يخفي الفساد الاجتماعي الناتج عن انحراف الفتيات ويؤثر على مستقبل الأجيال القادمة.
كما زادت نسبة جرائم الأحداث والتشرد والتسول والأطفال المعاقين وهي نتيجة لتحطم الأسرة الفاسدة وانحراف الزوجين وإهمال الأبناء.
وأخيراً:
هناك مشكلات اقتصادية تؤثر على المجتمع ترتبت على انحراف المرأة العاملة فضلاً عن انخفاض إنتاجيتها؛ فإنها تؤثر على إنتاجية زوجها وأولادها العاملين وتعوق تفوقهم في العمل وتفرغهم للإنتاج؛ ولذلك أثره المدمر على الاقتصاد الوطني.
وختاماً فإن الحمد والفضل لله ـ تعالى ـ الذي أنزل للإنسانية كتابه الكريم الذي فيه شفاء لكل أمراضها وعلاج لكل مشكلاتها وهداية لها من الضلال. وقال ـ عز وجل ـ: ((يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ ويَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ ويَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [المائدة: 15، 16]، كما تكفل ـ عز وجل ـ بحفظه إلى يوم الدين؛ حيث قال: ((إنا نحن نزّلنا الذَكر وإنا له لحافظون)) [الحجر: 9].
وذلك يبعث الأمل في الإصلاح بالرجوع إلى كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بهما والعودة إلى المجتمع الإسلامي الفاضل.(4/495)
ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا الإيمان ويوفقنا إلى طاعته ذكوراً وإناثاً وبذلك يتحقق صلاح الأمة بأسرها في الدنيا وتنال رضوان الله ـ تعالى ـ في الآخرة.
__________
(1) المسند لشهاب، 2/69، وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير، 2/971 (رواه الواقدي من رواية أبي سعيد الخدري وهو معدود من أفراده، وقد علم ضعفه).
(2) رواه النسائي، ح/6305.
(3) رواه ابن ماجة، ح/ 4981.
(4) رواه مسلم، ح/ 1793.
(5) المعجم الكبير للطبراني، 51/371، والمستدرك للحاكم، 4/943، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره العراقي وضعفه المنذري كما في كشف الخفاء للعجلوني، 2/734.
(6) مسند أحمد، 1/62، والتومذي، 4/564 وصححه الحاكم في المستدرك، 1/411 وابن حبان في صحيحه، 01/634.
(7) رواه الترمذي، ح/ 0172.
================(4/496)
(4/497)
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة
موسوعة المقالات والبحوث العلمية - (ج 147 / ص 1)
رئيسي :أحوال العالم الإسلامي :الخميس21 ربيع الآخر 1425هـ - 10يونيو 2004 م
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، أما بعد،،،
فقد أرشد الله إلى تتبع المجرمين، والنظر في طرقهم في هدم هذا الدين، فقال سبحانه:{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ[55]}[سورة الأنعام]. وأمر الله نبيه أن يجاهد المنافقين، فقال:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ...[73]}[سورة التوبة]. وقد فضح الله المنافقين في سور كثيرة: في سورة البقرة، وسورة النساء، وفي سورة التوبة التي سميت بالفاضحة، حتى قال بعض الصحابة:'ما زالت سورة التوبة تنزل: {وَمِنْهُمْ...}[سورة التوبة:الآيات:49،58،61،75] حتى ظننا أنها لا تبقي أحداً' .
وفي سورة الأحزاب بيان عن مواقفهم وقت الشدائد، وسمّى الله سورة في كتابه الكريم عن هذه الفئة، وهذه الفئة مهما تخفت فإن الله يظهر ما تضغنه صدورهم، وما تبطنه قلوبهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ[29]وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ[30]}[سورة محمد]. فهي فئة مفضوحة، يفضحها الله، ويظهر خباياها ليعرفها الناس، ولا ينخدعوا بها، وكل إناء بما فيه ينضح .
والتعرف على هذه الفئة، وعلى أساليبها وطرقها في محاربة الأمة، ومحاولتها تقويض دعائم الإسلام يعد من الأهمية بمكان، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:' إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية' . فيظهر أهل الجاهلية من أجل تقويض عرى الإسلام، فلا يقبل منهم أهل الإسلام ذلك؛ لمعرفتهم بهم وبجاهليتهم .
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب
ولو رجال مؤمنون لهدمت صوامع دين الله من كل جانب
ولهذا كان لابد من دراسة أساليب الفئة العلمانية في تغريب الأمة كلها، والمرأة بوجه خاص؛ لنبتعد عن هذا الشر الذي ينذر كارثة عظيمة على الأمة المحمدية، ولابد أيضاً أن يعلم كل مسلم أن الفئة العلمانية هي الخطر الأكبر المحدق بهذه الأمة، وهو يعمل على تغريب هذه الأمة، وإبعادها عن دينها .
لماذا التركيز على المرأة من قبل الغرب، وأتباعه المستغربين، العلمانيين؟
ذلك لأنهم فطنوا لمكانة المرأة ودورها في صنع الأمة، وتأثيرها على المجتمع؛ ولذلك أيقنوا أنهم متى ما أفسدوا المرأة، ونجحوا في تغريبها وتضليلها، فحينئذ تهون عليهم حصون الإسلام، بل يدخلونها مستسلمة بدون أدنى مقاومة. يقول شياطين اليهود في 'بروتوكولاتهم':'علينا أن نكسب المرأة، ففي أي يوم مدت إلينا يدها ربحنا القضية'.
وقال آخر من ألد أعداء الإسلام:' كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات' .وهذا صحيح؛ فإن الرجل الواحد إذا نزل في خندق وأخذ يقاوم بسلاحه يصعب اقتحام الخندق عليه حتى يموت، فما بالك بأمة تدافع عن نفسها، فإذا هي غرقت في الشهوات، ومالت عن دينها، وعن طريق عزها؛ استسلمت للعدو بدون أي مقاومة بل بترحيب وتصفيق حار .
ويقول صاحب كتاب تربية المرأة والحجاب:' إنه لم يبق حائل يحول دون هدم المجتمع الإسلامي في المشرق - لا في مصر وحدها - إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل، بل الفساد الذي عم الرجال في المشرق'.
ما هي العلمانية؟ وما حكم هذه العلمانية ؟
العلمانية في الأصل يراد بها: فصل الدين عن التدخل في تنظيم شئون الحياة، فلا تتدخل الشرائع السماوية في تنظيم المعاملات، ولا في مسائل الاقتصاد، والسياسة، ومسائل الحرب والسلم، ومسائل التربية والتعليم، وهكذا، هذا هو أصل كلمة علمانية عند الغرب، فهي اللادينية، والاعتراف والتعامل مع الشيء المشاهد، ونفى الظواهر الغيبية وتدخلها في صياغة الحياة، ولذا يسمحون بتدين الإنسان الشخصي، أما أن يكون للدين تأثير في تدبير شئون الأمة فلا، ثم انتقل هذا الوباء إلى الأمة المحمدية .
والعلمانية بالمفهوم الإسلامي أعم من ذلك المفهوم الغربي، فلو وجد شخص ينادي بتطبيق شريعة الإسلام كلها إلا مسألة واحدة يرفضها مما أجمع عليه المسلمون، وعلم من الدين بالضرورة، فإنه يكون كافراً مرتداً، فعلى سبيل المثال: لو وجد شخص ينادي بتطبيق الشريعة في كل شيء إلا أنه يقول: يجب في الميراث أن نساوى بين الرجل والمرأة، فإنه بهذا يكون علمانياً في الحكم الشرعي، لأنه رد حكمًا معلومًا من دين الإسلام بالضرورة .
إذاً هذه هي العلمانية في اصطلاحنا حين نتحدث.
وحكمها بهذا الاصطلاح: كفر أكبر مخرج من الإسلام؛ لأنها تكذيب لله ولرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي إشراك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، إذ أنها تجعل الحكم في بعض المسائل لغير الله، وفي بعضها لله .
التغريب(4/498)
أما التغريب: فقد نشأت عند ساسة الغرب بعد فشل بعض الحملات العسكرية فكرة شيطانية، وهي أنه ينبغي أن تكون الجيوش بعيدة عن المواجهات؛ لأنها تثير ردود فعل عنيفة، وأنه ينبغي عليهم أن يبذلوا الأسباب لتستسلم الأمم المسلمة للثقافة والحضارة الغربية بنفسها طواعية، وبذلك نشأت فكرة التغريب، وأساسها تذويب الشخصية المسلمة في الشخصية الغربية بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي، ولا تعجب إلا بما يعجب به الغرب، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام، وتعتنق هذه الديانة الجديدة التغريبية، وتدخل في عجلة الاستهلاك الاقتصادي التي يروج لها الغرب.
فبرامج التغريب تحاول أن تخدم هدفاً مزدوجاً، فهي تحرس مصالح الاستعمار بتقريب الهوة التي تفصل بينه وبين المسلمين نتيجة لاختلاف القيم، ونتيجة للمرارة التي يحسها المسلم إزاء المحتلين لبلاده ممن يفرض عليه دينه جهادهم، وهي في الوقت نفسه تضعف الرابطة الدينية التي تجمع المسلمين وتفرق جماعتهم التي كانت تلتقي على وحدة القيم الفكرية والثقافية، أو بتعبير أشمل وحدة القيم الحضارية.
فهذا هو التغريب: أي تذويب الأمة المحمدية بحيث تصبح أمة ممسوخة: نسخة أخرى مكررة من الأمة الغربية الكافرة، غير أن هناك فرق فالأمة الغربية هي الأمة القائدة الحاكمة المتصرفة، والأمم الأخرى هي الأمم التابعة الذليلة المنقادة لما يملى عليها، فهذا هو التغريب . وتغريب المرأة المسلمة جزء من مخطط شامل لتغريب الأمة في كل أمورها .
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله:' وكانت برامج التغريب تقوم على قاعدتين أساسيتين - يعني عند المستعمرين الأولين:
الأولى: اتخاذ الأولياء والأصدقاء من المسلمين، وتمكينهم من السلطة، واستبعاد الخصوم الذين يعارضون مشاريعهم، ووضع العراقيل في طريقهم، وصد الناس عنهم بمختلف السبل .
القاعدة الثانية: التسلط على برامج التعليم، وأجهزة الإعلام والثقافة عن طريق من نصبوه من الأولياء، وتوجيه هذه البرامج بما يخدم أهدافهم، ويدعم صداقتهم' .
مظاهر تغريب المرأة المسلمة:
وهي كثيرة يصعب استقصاؤها، ولكن نذكر من أهمها:
1- الاختلاط في الدراسة وفي العمل: ففي معظم البلدان الدراسة فيها دراسة مختلطة، والأعمال أعمال مختلطة، ولا يكاد يسلم من ذلك إلا من رحم الله، وهذا هو الذي يريده التغريبيون، فإنه كلما تلاقى الرجل والمرأة كلما ثارت الغرائز، وكلما انبعثت الشهوات الكامنة في خفايا النفوس، وكلما وقعت الفواحش، لاسيما مع التبرج، وكثرة المثيرات، وصعوبة الزواج، وضعف الدين، وحين يحصل ما يريده الغرب من تحلل المرأة، تفسد الأسرة وتتحلل، ومن ثم يقضى على المجتمع ويخرب من الداخل، فيكون لقمة سائغة .
وإذا بدأ الاختلاط فلن ينتهي إلا بارتياد المرأة لأماكن الفسق والفجور مع تبرج وعدم حياء، وهذا حصل ولا يزال فأين هذا من قول صلى الله عليه وسلم حين خرج مِنْ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ r لِلنِّسَاءِ: [اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ] فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ[. رواه أبو داود، وحسنه الألباني في الصحيحة 854 .
2- التبرج والسفور:
والتبرج: أن تظهر المرأة زينتها لمن لا يحل لها أن تظهرها له. والسفور: أن تكشف عن أجزاء من جسمها مما يحرم عليها كشفه لغير محارمها . وهذا التبرج والسفور لا يكاد يخلو منهما بلد من البلدان الإسلامية إلا ما قل وندر، وهذا مظهر خطير جداً على الأمة المسلمة، فبالأمس القريب كانت النساء محتشمات يصدق عليهن لقب: ذوات الخدود. ولم يكن هذا تقليداً اجتماعياً، بل نبع من عبودية الله وطاعته، ولا يخفى أن الحجاب الشرعي هو شعار أصيل للإسلام، ولهذا تقول عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:'يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {...وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ...[31]}[سورة النور]. شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا'رواه البخاري. ولهذا كان انتشار الحجاب أو انحساره مقياساً للصحوة الإسلامية في المجتمع ودينونة الناس لله، وكان انتشاره مغيظاً لأولئك المنافقين المبطلين .(4/499)
3- متابعة صرعات الغرب المسماة بالموضة والأزياء: فتجد أن النساء المسلمات قد أصبحن يقلدن النساء الغربيات وبكل تقبل وتفاخر، ولم يسلم لباس البنات الصغيرات، إذ تجد أن البنت قد تصل إلى سن الخامسة عشر وهي لا تزال تلبس لباساً قصيراً، وهذه مرحلة أولى من مراحل تغريب ملبسها، فإذا نزع الحياء من البنت سهل استجابتها لما يجدّ، واللباس مظهر مهم من مظاهر تميز المرأة المسلمة، ولهذا حرم التشبه بالكفار لما فيه من قبول لحالهم، وإزالة للحواجز، وتنمية للمودة، وليس مجهولا أن تشابه اللباس يقلل تمييز الخبيث من الطيب، والكفر من الإسلام، فيسهل انتشار الباطل وخفاء أهله .
والموضة مرفوضة من عدة نواحي منها:
أ- التشبه بالكافرات: و صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ]رواه أبو داود وأحمد وهو صحيح. قال ابن تيمية رحمه الله:' والصراط المستقيم: هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون عادات في الطعام واللباس والنكاح... وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولابد ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً' اهـ فعلم من هذا خطورة هذا التشبه وتحريمه .
ب - الضرر الاقتصادي للتعلق بالموضة: ومعلوم كم تكلف هذه الموضة من أموال تنقل إلى بلاد الغرب الكافرة .
ج - كثرة التحاسد بين النساء: لأنهن يجذبهن الشكل الجميل، فيتفاخرن ويتحاسدن، ويكذبن، ومن ثم قد تكلف زوجة الرجل قليل المال زوجها ما لا يطيق حتى تساوي مجنونات الموضة.
د- خلوة المرأة بالرجل الأجنبي الذي ليس لها بمحرم: وقد تساهل الناس فيها حتى عدها بعضهم أمراً طبيعياً، فالخلوة المحرمة مظهر من مظاهر التغريب التي وقعت فيها الأمة المسلمة حيث هي من أفعال الكافرين الذين ليس لهم دين يحرم عليهم ذلك، وأما احترام حدود الله فهو من مميزات الأمة المسلمة . والجرأة على الخلوة تجاوز لحد من حدود الله، وخطر عظيم، وقد حرمه الشارع بقوله صلى الله عليه وسلم [لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ] رواه البخاري ومسلم .
قاعدة مهمة: كل مبطل لابد أن يُلبس باطله بثوب الإصلاح وزخرف القول؛ حتى يروج بين الناس:
لأن الباطل قبيح ومكروه، فحينما يظهر الباطل على حقيقته، ويعرى على صورته، لا تقبله النفوس، ولا ترضى به الفطر السليمة؛ ولذلك يلجأ العلمانيون التغريبيون إلى إلباس طرقهم وأهدافهم وأفكارهم لبوس الإصلاح والحرص على المصلحة وغير ذلك، فالتوظيف المختلط، والتعليم المختلط، كل ذلك بدعوى مصلحة الأمة، وبدعوى تشغيل نصف المجتمع، ولأن فيها مردوداً اقتصادياً، وهذه هي زخارف القول التي يوحيها شياطين الإنس والجن، ويقول الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ[112]وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ[113]}[سورة الأنعام]. فيخدع به ضعفاء الإيمان، وناقصوا العقول .
ثم إن العلمانيين قد وجدوا عادات في مجتمعات المسلمين ليست من الإسلام، فاستغلوها ووظفوها لينفثوا من خلالها سمومهم، وينفذوا مخططاتهم، ثم أسقطوها على الإسلام، بمعنى أنهم قالوا: إنها من الإسلام فهاجموا الإسلام من خلالها، مثال ذلك: قد تجد بعض المجتمعات المسلمة تظلم المرأة في الميراث، قد تعطي المرأة ميراثها من المنقول من الأموال والمواشي لكنها لا تعطيها حقها من العقار كفعل الجاهلية، قد تجد زوجاً لا يعدل بين زوجاته مخالفاً بذلك أمر الله، فهذه الثغرات يتعلق بها العلمانيون مع أنها ليست من الإسلام في شيء، ولم ينزل الله بها سلطانًا، بل هي في نظر الإسلام: ظلم محرم.
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة:
أساليبهم كثيرة، والمقصود التذكير بأخطرها، ليحذرها المسلمون، وينكروها، ويعلموا على إفشالها، ولتكون منبهة على غيرها، فمن هذه الأساليب:(4/500)
1- وسائل الإعلام بمختلف أنواعها: من صحافة، وإذاعة، وتلفاز، وفيلم، ومجلات متخصصة في الأزياء والموضة، ومن مجلات نسائية، وملحقات نسائية، وغير ذلك، فالإعلام يصنع الآراء، ويكيف العقول، ويوجه الرأي العام، خاصة إذا كانت هذه العقول فارغة لم تحصن بما أنزل الله . أما الصحافة والمجلات، فتجد فيها أمورًا فظيعة منكرة منها فتاة الغلاف، فتاة جميلة عليها أنواع الزينة والأصباغ ثم تسأل في المقابلة معها أسئلة تافهة: هل حدث وأن أحببتي يوماً من الأيام؟ ما هواياتك المفضلة؟ وهل صادقتي شاباً؟ وغير هذا من الكلام الساقط الذي يراد منه إفساد المحصنات العفيفات اللاتي قررن في البيوت، ويملكهن الحياء الذي ربين عليه، فتزيل هذه المجلات الحواجز، والضوابط شيئاً فشيئاً . كما تجد في هذه المجلات الصور الماجنة الخليعة إما بحجة الجمال والرشاقة، أو بحجة تخفيف الوزن والرجيم، أو بحجة ملكات الجمال، أو بحجة أخري مما يمليه الشياطين . ثم تجد فيها من مواضيع الحب والغرام الشيء المهول، وهذا يهدف إلى تهوين أمر الفواحش، وقلب المفاهيم الراسخة، وإحلال مفاهيم جديدة مستغربة بعيدة عما تعرفه هذه الأمة المحمدية، فمن هذه العبارات:
في مجلة سيدتي في عدد 510: قالت من عيوب الزوج العربي [ الغيرة ] !!! .
في مجلة كل الناس عدد 58: قالت إحدى الكاتبات: ماذا لو قالت امرأة: [ هذا الرجل صديقي ] !!!.
في مجلة الحسناء عدد 81: الفضيلة والكرامة تعترضان مسيرة النجاح . أ هـ . فعلى هذا مسيرة النجاح لابد فيها من الفحش والدعارة حسب مفهومهم المريض .
مجلة سلوى عدد 1532 [ لقاء مع راقصة شابة ]، تقول هذه الراقصة: في حياتنا اهتمامات لا داعي لها، ويمكن أن يستغنى عنها، ثم تقول- هذه العبقرية التي جاءت بما عجز عنه الأوائل والأواخر-: كمعامل الأبحاث الذرية لأننا لم نستفد منها شيئاً، يعنى حتى يبقى الأعداء يهددون المسلمين بالأسلحة الذرية . اليهود والهندوس والنصارى والبوذيون - كما تقول - ! سوف نستفيد كثيراً لو أنشأنا مدرسة للرقص الشرقي تتخرج منها راقصة مثقفة لجلب السياح .أهـ . وهكذا تستمر المسيرة لنحارب أعداءنا بالرقص، كما حاربهم جمال عبد الناصر بأغاني أم كلثوم .
في مجلة فرح عدد 43، تقول: الزواج المبكر إرهاق للمرأة، وصداع للرجل .
ولا ننسى مجلة روز اليوسف وهي من أخبث المجلات، ومن أوائل مصادر التغريب النسائي في العالم العربي، في هذه المجلة تجد الخبث والخبائث، وبمجرد أن تأخذ أحد الأعداد سوف تجد العجب . وكذلك مجلات: [ اليقظة، والنهضة، صباح الخير، هي، الرجل، فرح ..... الخ تلك القائمة الطويلة، كما تجد أيضاً داخل هذه المجلات مقالات طبية ونفسية واجتماعية: كأنها تحل مشاكل الفتيات، فتراسلها الفتيات من أنحاء العالم العربي، ثم بعد ذلك يدلها ذلك المتخصص - لكنه ليس متخصصاً في حل المشاكل حقيقة إنما متخصص في التغريب - يدلها على الطرق التي تجعلها تسلك مسالك المستغربات السابقات، كما تجد مقابلات مع الفنانات والممثلات، ومع الغربيات، ومع الداعيات لتحلل المرأة واللاتي يسمين بالداعيات لتحرير المرأة، وتجد فيها الغثاء الذي لا ينتهي، ترهق به المسلمة، ويصدع به المسلم . ثم تجد في هذه المجلات بريد المجلة، أو ركن التعارف من أجل التقريب بين الجنسين، وتلك خطوة لإفساد المجتمعات الإسلامية، وهكذا دواليك .
يقول العلامة محمد بن عثيمين في خطبة قيمة له عن هذه المجلات:' فاقتناء مثل هذه المجلات حرام، وشراؤها حرام، وبيعها حرام، ومكسبها حرام، واهداؤها حرام، وقبولها هدية حرام، وكل ما يعين على نشرها بين المسلمين حرام؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان'أهـ .
2- ومن وسائل العلمانيين الخطيرة التي يسعون من خلالها إلى تغريب المرأة المسلمة التغلغل في الجانب التعليمي ومحاولة إفساد التعليم: إما بفتح تخصصات لا تناسب المرأة وبالتالي إيجاد سيل هائل من الخريجات لا يكون لهن مجال للعمل، فيحتاج إلى فتح مجالات تتناسب مع هذه التخصصات الجديدة التي هي مملوءة بالرجال، أو بإقرار مناهج بعيدة كل البعد عمّا ينبغي أن يكون عليه تدريس المرأة المسلمة . وفي البلاد العربية من المناهج ما تقشعر له الأبدان، وقد نجد في التعليم المناداة بالمساواة بينها، وبين الرجل في كل شيء، ودفع المرأة إلى المناداة بقضايا تحرير المرأة- كما يسمونها-، وفيها:الاختلاط فمعظم البلاد العربية التعليم فيها مختلط إلا ما قل فالشاب بجانبه فتاة، هذا التعليم المختلط سبب كبير من أسباب تحلل المرأة، ومن ثم من أسباب تغريب المرأة . ولذا فإن أحسن الحلول أن تقوم البلاد الإسلامية بإنشاء جامعات متخصصة للنساء، وقد نادي بذلك بعض الباحثين الباكستانيين في دراسة جميلة جيدة بين فيها أن ذلك أفضل سواء في نسب النجاح، أو في التفوق في التخصص، أو في إتقان العمل سواء للشباب، أو للشابات في جميع أنواع الدراسة، وقد لا نوافقه في بعض التخصصات التي نرى أن المرأة لا تحتاجها .(5/1)
3- ومن أساليبهم: التأليف في موضوع المرأة، وإجراء الأبحاث والدراسات التي تُمْلاُ بالتوصيات والمقترحات والحلول في زعمهم لقضايا المرأة ومشاكلها: إحداهن في رسالتها للدكتوراه والتي عنوانها:'التنمية الاقتصادية وأثرها في وضع المرأة في السعودية' تقول- وهي تعد المبادئ الإسلامية التي هي ضد مصلحة المرأة كما تزعم-: إن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وقوامة الرجل على المرأة، ثم تعد الحجاب من المشاكل التي هي ضد مصلحة المرأة، ثم تشن هجوماً على هيئات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم بعد ذلك تنتهي في دراستها أو في رسالتها للدكتوراه إلى التوصيات، ومن توصياتها:
الإقلاع من عمليات الفصل بين الجنسين - يعنى التعليم المختلط الذي ذكرناه سابقاً - .
إنشاء أقسام للنساء في كل مؤسسة حكومية، وإنشاء مصانع للصناعات الخفيفة، وهذه نادي بها آخرون، ونادوا بفتح مجالات دراسة مهنية للمرأة .
ونشرت اليونسكو سبع دراسات مما قدم بعنوان:'الدراسات الاجتماعية عن المرأة في العالم العربي' والذي يقرأ هذا الكتاب يدرك خطورة الأمر، وضخامة كيد الأعداء للمرأة المسلمة .
4- ومن أساليبهم: عقد المؤتمرات النسائية، أو المؤتمرات التي تعالج موضوع المرأة، أو إقامة لقاءات تعالج موضوعاً من المواضيع التي تهم المرأة سواء كان موضوعاً تعليمياً، أو تربوياً، أو غير ذلك: وفي هذه المؤتمرات واللقاءات تطرح دراسات وأفكاراً ومقترحات تغريبية.
وقد عقد المؤتمر الإقليمي الرابع للمرأة في الخليج، والجزيرة العربية في 15/2/1976 م، في إحدى دول الخليج وكان التركيز على ما يسمى بقضية تحرير المرأة وأصدر قرارات منها:
التأكيد على أهمية وضرورة النظر في الكتب والمناهج التربوية عند تناولها لقضية المرأة بما يضمن تغيير النظرة المتخلفة لدورها في الأسرة والعمل، ثم تتابع هذه الدراسة، فتقول: إن القوانين والأنظمة التي كانت تخضع لها الأسرة قبل ألف عام ما تزال تطبق على العلاقات الأسرية في عصرنا الحاضر دون النظر إلى مدى ملائمتها لنا.
ما هي القوانين التي من ألف عام؟ إنها شريعة الإسلام .. فهؤلاء النسوة من نساء الخليج يردن تغيير الشريعة الإسلامية التي تطبق على المرأة من ألف عام .
5- ومن وسائلهم في تغريب المرأة المسلمة: إبتعاثها للخارج: وهذا حصل كثيراً في كثير من بلدان المسلمين، وحينما تذهب امرأة مسلمة إما لم تدرس شيئاً عن الدين كما في بعض البلدان العربية والإسلامية، أو ليس معها محرم، ثم ترمى في ذلك المجتمع المتحلل، فإذا رجعت هذه الفتاة المبتعثة كانت رسول شر للعالم الغربي من أجل تغريب المسلمات، ونقلهن من التمسك بالشرع والخلق الإسلامي إلى التمسك بالمناهج والأفكار والآراء الغربية، كما فعل أسلافها في مصر والكويت.
6-ومن أساليب العلمانيين: التعسف في استخدام المنصب: فقد تجد أحدهم في منصب ما، ثم بعد ذلك يبدأ يصدر قرارات يمنع فيها الحجاب كما حصل في مصر، وفي الكويت، أو يفرض فيها الاختلاط، أو يمنع عقد ندوات ونشاطات إسلامية، أو يفرض فيها اختلاطًا في مجالات معينة، وبالتالي يحصل احتكاك الفتاة بالشاب، ومن ثم يسهل هذا الأمر، وكلما كثر الإمساس قلّ الإحساس، ثم بعد ذلك تتجاوز الحواجز الشرعية، وتبتعد عن حياتها تذوب كما ذاب غيرها .
7- ومن أساليبهم أيضاً: العمل والتوظيف غير المنضبط: إما باختلاط بتوظيف الرجال والنساء سواسية، أو بتوظيف المرأة في غير مجالها، ويكون هذا على طريقة التدرج: بطيء ولكنه أكيد المفعول . وعلى طريقة فرض الأمر الواقع.
8- المشاركة والاختلاط في الأندية التي تكون في المستشفيات أندية ترفيه، أو أندية اجتماعية، أو غير ذلك: بل لقد وصل الفساد ببعضهن إلى المجاهرة بالتدخين أمام الآخرين من الزملاء، وليس ذلك في غرف القهوة والمطاعم فحسب، بل على المكاتب الرسمية .
9- الدعوة إلى إتباع الموضة والأزياء، وإغراق بلاد المسلمين بالألبسة الفاضحة: ومن خططهم إغراق بلاد المسلمين بالألبسة الفاضحة والقصيرة، فأحدنا لا يستطيع أن يجد لابنته الصغيرة لباسًا ساترًا فضفاضًا إلا بشق الأنفس، فعلى التجار المسلمين أن يفرضوا ويشترطوا اللباس المقبول عند المسلمين الذي لا يحمل صوراً، ولا كتابات، وليس بلباس فاضح، ولا بضيق، ولا بكاشف، والشركات الصانعة إنما تريد المال، ولأجله تصنع لك أي شيء تريد، فإذا ترك لها الحبل على الغارب صنعت ما يضر بأخلاق المسلمين .
10- ومن أساليبهم القديمة والتي وجدت في مصر وفي غيرها:إنشاء التنظيمات والجمعيات والاتحادات النسائية: فقد أنشأ الاتحاد النسائي في مصر قديماً جداً على يد هدى شعراوي وذلك بدعم غربي سافر، ثم تبعتها البلاد العربية الأخرى، هذه الاتحادات النسائية والتنظيمات والجمعيات ظاهرها نشر الوعي الثقافي والإصلاح، وتعليم المرأة المهن كالتطريز والخياطة، وغير ذلك، ولكن قد يكون باطنها سمًا زعافًا فتعلم المرأة الأفكار والقيم الغربية الخبيثة التي تنقلها من الفكر الإسلامي النير إلى الفكر المظلم من الغرب الكافر.(5/2)
11- ومن أخبث أساليبهم وهي التي يثيرونها دائماً على صفحات الجرائد والمجلات وغيرها: التظاهر بالدفاع عن حقوق المرأة، وإثارة قضايا تحرر المرأة خاصة في الأوقات الحساسة التي تواجهها الأمة، وإلقاء الشبهات: فمرة يلقون قضية تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، ومرة يبحثون في موضوع التعليم المختلط وتوسيع مجال المشاركة في العمل المختلط وغير ذلك، قد يتم ذلك باسم الدين، وقد يتم ذلك باسم المصلحة، وقد يتم ذلك بعبارات غامضة، وطريقة المنافقين التخفي خلف العبارات الغامضة الموهمة في كثير من الأحيان .
12- ومن أخبث طرقهم ووسائلهم: شن هجوم عنيف على الحجاب والمتحجبات وتمجيد الرذيلة في وسائل الإعلام بأنواعها وفي غيرها أيضاً، سواء كان في المنتديات والأندية الثقافية والأدبية، أو كان في الجلسات الخاصة وفي غيرها.
13- ومن أساليبهم: أيضاً تمجيد الفاجرات من الممثلات، والراقصات، والمغنيات، وغيرهن: فتذكر بأنها النجمة الفلانية، وأنها الشهيرة فلانة، وأنها الرائدة في مجال كذا، وأنها التي ينبغي أن تحتذي، وأنها القدوة في مجال كذا، وأنها حطمت الرقم القياسي في الألعاب الفلانية، أو الطريقة الفلانية، وهذه الصحف، وهذه الكتابات العلمانية توهم المرأة المسلمة بأن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن تسلكه، فتتمنى أن تكون مثلها، وتحاول أن تتشبه بها، ولهذا ضاق صدر أولئك بتلك الفنانات التائبات؛ لأنهن سيمثلن قدوة مضادة لما يريدون .
14-ومن أساليبهم: الترويج للفن والمسرح والسينما.
15- ومن أخبث أساليبهم المنتشرة: استدراج الفتيات المسلمات - خاصة النابغات - للكتابة، أو للتمثيل، أو الإذاعة- لاسيما إذا كن متطلعات للشهرة، أو للمجد: فتدعى هذه الفتاة للكتابة في الصحيفة وتمجد كتاباتها، فتندفع بعض الفتيات المغرورات للكتابة والاتصال بهؤلاء من أجل أن ينشروا لهن ما يكتبن.
16- ومن أساليبهم أيضاً: تربية البنات الصغيرات على الرقص والموسيقى والغناء من خلال المدارس، والمراكز وغيرها، ثم إخراجهن في وسائل الإعلام: فتجد فتيات في عمر الزهور يخرجن للرقص والغناء، وهن يتمايلن وقد لبسن أجمل حلل الزينة، فكيف يا ترى سيكون حال هذه الفتاة إذا كبرت ! إلى أين ستتجه إن لم تتداركها عناية الله ورحمته ؟والتالي يكون ذلك سبباً من أسباب اجتذاب عدد آخر من الفتيات اللاتي يتمنين أن يفعلن مثل هذه التي ظهرت على أنها نجمة، ثم قد تكون في المستقبل مغنية، أو ممثلة شهيرة.
17- ومن وسائلهم إشاعة روح جديدة لدى المرأة المسلمة تمسخ شخصيتها من خلال إنشاء مراكز يسمونها مراكز العلاج الطبيعي للسيدات: وقد قامت مجلة الدعوة بكتابة تقرير عن هذه المراكز في عدد 1328 الصادر في 3/8/1412 هـ، إذ زارت إحدى الكاتبات بعضًا من هذه المراكز، وكتبت تقول: في ظل التغيرات والمستجدات التي تظهر بين وقت وآخر ظهر تغير سلبي وهو افتتاح مراكز تسمى مراكز العلاج الطبيعي للسيدات، والحقيقة أن هذا المركز يخفي ورائه كثيرًا من السلبيات، ثم تمضي الأخت، فتقول: ولمعرفة واقع تلك المراكز وما يدور فيها وما تقدمه لمرتادها قمت بزيارة بعضها، والاتصال بالبعض الآخر منها كأي امرأة أخرى تسأل عنها قبل الالتحاق بها وذلك في محاولة للوصول للحقائق الكاملة، ومعرفة ما يدور فيها، وخلاصة التقرير:
- انتشار اللباس غير الساتر في هذه المراكز، بل واشتراطه .
- قيام بعض المراكز بتعيين أطباء من الرجال لابد من مرور المتدربات عليهم .
- انتشار الموسيقى في هذه المراكز، ومن شروط بعض المراكز عدم اعتراض المتدربة على ذلك .
- وضع حمامات جماعية للسونا تلبس فيها النساء ملابس داخلية فقط، ويكن مجتمعات داخله .
- انتشار هذه المراكز حتى في الفنادق، والكوافيرات، والمشاغل، وتقديمها كخدمة مشتركة .
وكل هذا نمط جديد لم نعرفه من قبل ولو قامت النساء بعملهن في بيوتهن لما احتجن لهذا.
18- أختم هذه الأساليب بهذا الأسلوب الخطير، وهو إشاعة الحدائق والمطاعم المختلطة للعائلات، والتي انتشرت مؤخراً:
فقد زار بعض الأخوة بعضًا من المطاعم، والحدائق العائلية، والتي فيها محاذير كثيرة، ومن هؤلاء فضيلة الشيخ محمد الفراج، ثم كتبوا تقريراً بينوا فيه ما تخفيه هذه المطاعم المختلطة، وذكروا أن هذه المطاعم يكون فيها اختلاط الشاب بالفتاة، وأنه قد تدخلها المرأة بدون محرم، وجواز المرور بالنسبة للرجل أن يكون معه امرأة سواء كانت خادمة، أو كانت طفلة، أو غير ذلك، وبذلك أصبحت مكاناً صالحاً للمواعيد الخبيثة، ولغير ذلك، ثم بعد ذلك كتب الشيخ عبد الله بن جبرين تأييداً لكلام هؤلاء الأخوة، يقول فيه:' الحمد لله وحده وبعد، رأيت أمثلة مما ذكر في هذا التقرير مما يسترعى الانتباه والمبادرة بالمنع والتحذير' ا.هـ . وقد تكون هذه الحدائق والمطاعم أوجدت بحسن نية، لكنها سبب مهم من أسباب تغريب المرأة؛ إذ أنها تشيع مظاهر التغريب: من اختلاط، أو خلوة بالرجل الأجنبي عن المرأة، ومن فتحها لباب الفواحش والدخول على النساء الشريفات، فيفتن في دينهن وعفتهن مع غلبة الداعي للفحش بسبب كثرة المثيرات والله المستعان .(5/3)
من رسالة:' أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة' للشيخ /بشر بن فهد البشر
=============(5/4)
(5/5)
المخرج من فِتنتَي التغريب والتخريب
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3400)
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
6/6/1425
المسجد الحرام
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فهي سبيل أهلِ الرشاد، وخير زادٍ يبلِّغ لرضا ربِّ العِباد، فتزوّدوا منها ليومِ المعاد، واغتنِموا أيامَ العُمر قبل النفاد، وشمِّروا في تحقيقها عن ساعِد الجدِّ والاجتهاد، واحذَروا مسالكَ أهل الغيِّ والفسادِ وطرُقَ أهل الباطل والضلال والعِناد، تدخلوا جنَّةً لا يخفى نعيمُها على كلِّ رائحٍ وغاد.
أيّها المسلمون، في زَحمةِ الأحداثِ وتسارُع المتغيِّرات وفي خِضمّ تداعياتِ النوازلِ والمستجِدّات وكثرة الأطروحات والتحليلات يَلحظُ المتأمِّلُ الغيورُ غيابًا أو تغييبًا للرؤية الشرعيّة والنظر في فقه السّنَنِ الكونية والاستقراء التّام للأحوال التأريخية والحضارية، حتّى حصل من جرَّاءِ ذلك زللُ أقدام وخَطَلُ أقلام وضلالُ أفهام وتشويشٌ وحيرة عند كثيرٍ من أهل الإسلام وخلطٌ في الأوراق لدى كثير من أرباب الفِكر والثقافة ووسائل الإعلام، ممّا يؤكِّد أهمّيّة المرجعيّة الموحَّدة للأمّة الواحدة، ترتكز في تحقيق أهدافها على الخيّرة صحَّة المعتقد وسلامةِ المنهَج والعناية بمصالح الأمة الكبرى ومقاصِد الشريعة العُظمى، باعتدالٍ في الرؤى وتوازُنٍ في النظر وأسلوبٍ عالٍ في الطرح والحوار، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
معاشرَ المسلمين، الكلُّ يدركُ ما تواجهُه أمّتُنا الإسلامية اليومَ من متغيِّراتٍ متسارعة، تضاعفت من خلالِها نُذُر الأخطارِ المتصاعدة، متغيّراتٍ وجدت فيها الأمةُ نفسَها أمامَ نظامٍ عالميّ جديد دون أن تعلمَ موقعَها فيه ومكانَها في خارطته، متغيِّراتٍ أصبحَت فيه نداءاتُ مقدَّسات المسلمين وصَرخات الأرض المباركة وأنّاتُ فلسطين واستغاثاتُ الأقصى مهدّدةً بالضياع في دهاليز التيهِ وأنفاق الظُّلمَ، وغدت حسراتُ أرض الفرات تتحشرجُ في الحلوقِ بين انعدامِ الأمن وضياع الحقوق وتطاوُلِ إرهاب الصّهاينة المعتدين لتنفيذ مؤامراتهم ضِدَّ أولَى القبلتين ومسرَى سَيّدِ الثقلين، في قفزاتٍ متسارعةٍ لتحقيق أحلامهم في إقامةِ دولتهم الكبرى بزعمهم وإقامةِ جدار الفصل العُنصُري، في إذكاءٍ لثقافةِ الصراع والعنصريّة ولغةِ الحِقد والكراهية بين الشعوب، وبدت ملامحُ التحرُّش الشَّرِس على مقدَّرات الأمّةِ وقِيَمها.
حتى بلاد الجزيرة لم تسلَم من أعمال الاستفزاز والاستهداف، فغُرِّرَ ببعض أبنائها، وأصبحوا أدواتٍ تُنفَّذ من خلالِها أعمالُ العُنف والإرهاب والتخريب والإرعاب وسلوك مسالكِ الغلوّ والتكفير والتفجير والتدمير، وآخرين يعيشون حياةَ التفريط والجفاءِ بين مطرقةِ التغريب وسِندان العولمة، في وضعٍ يمثِّل صورةً صارخةً لمقدار التبعيَّة الفكرية والانهزامية الثقافية لدَيهم، مع جرأةٍ عجيبة في المزايدةِ على الشريعة وتزييف الفِكر والوعي الذي يستمدُّ جذورَه من التنكُّر لعقيدة الأمّة ورسالتها التأريخية والسقوط في مباءات التقليدِ ومتاهات التبعيّة واجترار فكرِ الغير بانهزاميةٍ مُفرِطة، يتبعها سعيٌ حثيث لمسخ هويّة المجتمع وتغيير بنيتِه الفكرية ومنظومته الاجتماعية والطّعن في مناهجه الشرعية وأعماله الخيريّة والإغاثيّة والاحتسابيّة والتلاعُب بقضايا المرأة والحجاب، فكأنّ لهم الوصايةَ عليها والمحاماةَ عنها وهم داؤها لا دواؤها، وجعلِها شمّاعةً يعلِّقون من خلالها ما يرومون من انسلاخٍ عقديّ وفكريٍّ للأمّة وحلٍّ للنسيج الاجتماعيّ المتميِّز فيها، في مشروعَاتِ التغيير وأُطروحات التنوير والتطوير التي يُقصَد بها النيلُ من ثوابتِ الأمة وتغييبُ ثقافتها الشرعية، وهذا الأمرُ ليس بدعًا من الظواهر المعاصرة، فلم يزل أحفادُ عبد الله بن أُبيّ عليهم من الله ما يستحقّون يظهرون ويَتَجدّدون في كلّ زمان، ويلبسون لكلِّ عصر لبوسَه، تختلفُ قوالبُهم، وتتَّحِد قلوبُهم في شرخِ عقيدة الأمّة وإغراق سفينتها، وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:30].(5/6)
أمّةَ الإسلام، وإنّ أخشى ما يُخشى أن تشهدَ المرحلة القادمةُ حَربًا ضروسًا على القِيَم الدينيّة والثوابت الشرعية، وسيسقُط القناع ويُماط اللِّثام عن حقيقة ثقافةِ هؤلاء وجذور أولئك، كما يُخشَى أن يكون كلٌّ من تيّار الغلوّ والغلو المضادّ أداةً طيِّعة للأعداءِ المتربِّصين في اختراق سفينة الأمّة وتسويق مشروعاتهم الفكرية والاجتماعية وبسطِ نفوذهم على مراكز الرأي والتأثير في الأمّة تحت مسمِّياتٍ برّاقة وشِعاراتٍ خلاَّبة تجعل التدمير والتفجير شهادةً وجهادًا، كما تجعل الفسادَ إصلاحًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
ولهذا فإنّ استبانةَ سبيل هؤلاء وأولئك ورصدَ توجُّهاتهم عن طريقِ دراساتٍ واستراتيجيّات تزيل الشُّبَه عن الأجيال اللاحقة يُعَدُّ حفاظًا على الفكر الوسطيّ المعتدِل أمام معاوِل الهدم والتخريب التي تحاول إسقاطَه؛ إما بالتفريط والجفاء أو الإفراط والغلوّ، ممّا يؤكِّد ضرورةَ حماية الأمنِ الفكريّ في الأمّة بتحقيق التعاون بين الجهات العِلميّة والبحثيّة والشرعيّة والأمنيّة والإعلاميّة والتربويّة لصدِّ العدوان الشَّرِس الذي يستهدف بلادَنا في عقيدتها وأمنها وفكرها واقتصادها، لا بدّ من تجفيف منابعِ الإرهاب بنوعَيه والغلوّ والتطرّف بشِقَّيه، وذلك ليس مجرَّدَ ترَفٍ علميٍّ وإعلاميّ، بل هو من الضرورات المهمّة والأولويات الأكيدة التي تحافظ على سفينة الأمّة لتمخر عُبابَها أمام أمواجِ المِحَن وتلاطُم الفِتن؛ لتصلَ إلى برّ الأمان وشاطئ السلامة والاطمئنان، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
إخوةَ الإيمان، والسؤالُ المطروح بإلحاح إزاءَ هذه الأوضاع المزرِية هو: كيف نتجاوز سلبياتِ هذه المرحلة ونُعاودُ البناءَ والإعمار؟ أوَلسنا خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس؟! أوَلسنا أمّةَ الشهادةِ على العالمين؟! أوَلسنا الموعودين بالنصر والتمكين؟! ألم يئن الأوان لتحويل هذه السُّنن الشرعيّة إلى واقعٍ حضاريٍّ فعّال؟! فنحن أمّةٌ لا تعرف التلاشيَ والسُّقوط، ولا يتطرّق إليها اليأسُ والقنوط، فسرعانَ ما تكبو تنهض وتعلو.
إنّه مِن خِلال الوعي بهذه الحقيقةِ بتجديد الثقةِ بالله وقرب نصرِه، ثم إعادة الثقةِ بالنفس وبثِّ أخلاقيات الأمل والتفاؤل والتحصُّن بالرّشد والاعتدال المطلوب للخروج من مرحلة الضّياع التي تكاد تعصِف بالأمَّة خارجَ دائرة العالم الحضاريّة، وبذلك يجتمع الشّتات ويُلَمّ الشّعث وتُسوَّى الصفوف لتصوغَ الأمةَ في كيان واحدٍ كبير وإن تعدَّدت منه الأطياف، لتُكرَّس للتعاوُن والتكاتُف والتكامل، لا للخصام والجفاء والتقاتُل، في توظيفٍ للطاقات وتنميةٍ للقدرات في عصرِ القوى الكبرى والتكتُّلات العُظمى، لتستوعب طاقاتِ الأمّة عامّة والشباب خاصّة وتصفّ نظامَها وتضبطَ عطاءها وتستثمرَ جهودَها على أحسن وجوهِ الانتفاع للبلاد والعباد.
وإنّ أحدًا لا يرضى أن تبقى الأمةُ مفرّقةً لا جامعَ له، تتخبّط في مواطنِ الفتن وتخوض في مواضع المِحَن وتسبح في بحرٍ متلاطِم بلا رُبّانٍ مَهَرة، بل أحيانًا بلا سفينةٍ صالحة، فكيف يكون هذا حالَ أمّةٍ أمرها الله بالتوحيد والوحدة؟! وما الذي يمنع الصفوفَ من التراسّ والمواقف من الاجتماع ونحن أمّةُ الأخوّة والوئام والتكاتُف والتعاون والالتئام والتلاحُم والاعتصام؟! إنّنا نريد أن نتجاوزَ مرحلةَ التأطير والتنظير إلى محطّةٍ من التحرُّك والإيجابية والتفعيل، انطلاقًا من رؤًى شرعية لا تروم المستحيلَ ولا تجافي الواقع، ولكنها تهدف إلى معالجة الأمور على ضوء المقاصدِ الشرعية والضوابط المرعيّة.
إنّ مرجعيَّةً تُعنَى بالقواعدِ والأصول وإن اختلفتِ الفروع وتهتمّ بالكليات وإن تنوّعت الجزئيات وتُعنى بالثوابت والنتائج والمحكَمات وإن تباينتِ الوسائل والمقدّمات والاجتهادات لهي الفريضةُ الأمَل والمخرجُ الصائب والبلسمُ الناجع والتِّرياق المصَفَّى الذي يقضي على الآراءِ الآحاديّة والفتاوى الفرديّة والنظريّات أحاديّة الجانب، ويجتثّ آراءَ الرويبضةِ ممّن يتكلّمون في أمور الشريعة ويخوضون في أمورِ الحلال والحرام وهم ليسوا منها في وِردٍ ولا صَدَر، عبرَ إثاراتٍ صحفية وتلاسُنٍ إعلاميّ فضائيّ مُسطَّح، جرَّ الأمةَ إلى هوّةٍ سحيقةٍ من الفرقة والشتات في الرأي والعَجز والوهَن في المواقف.
إنّه لا اعتصامَ للأمة ولا اجتماعَ ولا امتناع إلا إذا احتمَت بسياج المرجعيّة المعتبرة من الولاية المسلمة والعلماء الربّانيين، فلا بدّ من هبَّةٍ للدين وقومةٍ لله مَثنى وفُرادى، ثم تفكُّرٍ في أساليب وطرائق الصلاح والإصلاح، في صرحٍ من التلاحُم في القلوب قبل القوالب، لا تُميِّلها الرياح، ولا تزعزِعها الأعاصير، ولا تنال منها المعاوِل، بل تضربُ بجذورها وتقوم على أصولها وتُؤتي أكُلُها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها.(5/7)
فيا كلَّ مسلمٍ غيور، ويا كلَّ عبدٍ موحِّدٍ، ويا أيّها القادة المسلمون والعلماء المخلصون والدعاةُ الصادقون والشباب الصالحون، لنبادِر جميعًا بوضع البنية التحتيّة وحجَر الزاوية الأرضيّة في سبيل نُصرة دين الله، معتصمين بشرعه، مدركين أنه لا حولَ لنا ولا قوّةَ إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولن ندركَ غاياتنا إلا بهدايتِه، ولن نُحقِّق أهدافنا إلا بتوفيقه ومعونتِه، ولن نخرجَ من المحَنِ والبلايا والنوازل والرزايَا إلا بإعزازِ دينِه والغَيرةِ على محارمِه وتحكيم شريعتِه والوقوف في صفِّ دعاته، فلا موضعَ بعدَ اليوم للتحيُّز والانفِصام، فضلاً عن المناطحة والصِّدام. وإنّ مخالفةَ الجماعةِ والانطلاقَ من رؤًى ضيّقةٍ من التحيُّز والتحزُّب والإعجاب بالرأي وتسفيه الآخر مؤدّاهُ لا مَحالةَ إلى الفشلِ الذَّريع. وإنَّ حقًّا على جميعِ شرائِح الأمّة وأطيافِ المجتمع أن تتحلَّى بالصّدق في الانتماء لدِينها وعقيدتها وغَيرتها على أمنِ بلادها ووطنها، فلم يعُد الأمرُ محتمِلاً للتَّمحُّلات والأساليب الإعلامية المستهلَكة، كما لم يعُد مجالٌ للسكوت والتغاضي والتصنُّع والمجامَلة أمام كلِّ فِكرٍ دخيل ومنهَج وافدٍ هزيل.
إنّنا مُطالبون جميعًا كلٌّ في ثغرِه ودائرةِ اختصاصه ـ في المسجدِ والأسرة والبيتِ والمدرسة ووسائل الإعلام وقنواتِ التربية والتوجيه ـ بتحرِّي الصدقِ مع الله في خدمةِ عقيدتنا والدّفاع عن بلادنا، بعيدًا عن المصالح الحزبيّة الضيّقة والمكاسِب الدِّعائية المحدودة، وأن ننَزِّه مقاصِدَنا وألسنتَنا وأقلامنا عن تلك الأساليب الممجوجة التي تعُجّ بها بعض الدواوين والصحُف والقنوات الفضائية والشبكات المعلوماتية والأروقة الانتهازيّة والنفعية، فإنه لم يعُد ثَمَّ مجالٌ لغير الصدق مع الله أوّلاً، ثم مع الرعاةِ ثانيًا، والرعيّة ثالثًا، وأمّتِنا الإسلامية رابعًا، وخامسًا المجتمعات الإنسانية والعالمية التي ترقُب حضارتَنا وتتطلَّع إلى محاسِن ديننا وصلاحِ شريعتنا ونُبل قيَمنا، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدَى والبيان، ورزقنا التمسّك بسنّة المصطفى من ولدِ عدنان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمدُ لله المرجوِّ عفوُه وثوابه، والمخوفُ مكرُه وعقابُه، أحمده تعالى وأشكره، غمَر قلوبَ أوليائه برَوح رجائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، منّ على عباده بجزيلِ نعمائه وفَيضِ آلائه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد أنبيائه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وأصفيائه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وعليكم بالجماعة فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها الإخوة الأحبّة في الله، ها قد انقشعَت بفضلِ الله ومَنِّه سحائبُ الفتنةِ التي مرّت على بلادنا حرسها الله، وتساقطت رموزُ الفتنةِ بحمد الله كما يتساقُط ورقُ الخريف، فهلاّ شكرنا المنعِمَ المتفضِّل سبحانه عند تجدُّد النّعَم وتبدُّدِ النِّقَم؟! هلا تفقّهنا في النصوص ووقفنا بحزمٍ مع النفوس في مراجعاتٍ صادِقة ومحاسباتٍ دقيقة، في تجاوزٍ لمرحلة التشفّي والشَّجب والاستنكار إلى وضعِ الخُطَط والبرامجِ للعمَل والحوار حتى لا يُلدَغَ المؤمِن مِن جحرٍ مرتين؟!
ألا ما أَحوجَ الأمّةَ إلى فِقهِ السّياسة الشّرعيّة على وفق فهمِ الصّحابة الأبرار والسّلَفِ الأخيار، لا على وفق المشاعِر والانفعالات، مع التأكيد على وجوبِ الأخذ بالنصوص متكاملةً وضبط المصطلحاتِ الشرعية على وَفق السّلف رحمهم الله، وأن لا نسنحَ للحماس المتدفّق والعواطِف المشبوبَة أن تجرَّنا إلى شطَطٍ في الفهم وهوًى في الرأي واتخاذ المواقف.(5/8)
وإلى الذين تشبَّعوا في الفِكر التغريبيّ والفكر التكفيريّ، إلى هؤلاء وأولئك أن يراجعوا أنفسَهم، وأن يصدروا عن علمائهم، فذلك خيرٌ وأجدَى من أن يظلَّ الإنسان أسيرَ فكرةٍ محدودةٍ أو رأيٍ مجرَّد، وليعلموا أنّ المراجعاتِ سنّةٌ محمودةٌ وطريقة مشهودةٌ، سلكها أهل العلم والفضل والبصيرة منذ صَدر التاريخ، فكيف بمن هو دونهم؟! فهلا اعتبرنا بجماعاتٍ اتّخذت ثقافةَ العُنفِ والتغريبِ مسلكًا، فدخَلت نفقًا مظلِمًا، وكان عاقبة أمرها خسرًا، ثمّ أعلنت بعدَ ذلك تراجُعَها وأسَفَها لذلك الخلَلِ الفكريّ والانحراف المنهجيّ، فهل نستنبِتُ بعدهم في بلادٍ اختصَّها الله بخصائصَ ليست لغيرها مآسيَ وفواجع قد أثمرت ثمارَها المرّة عند غيرنا؟! أوَليس السعيد من وُعِط بغيره؟!
إنّنا نذكِّر من هذا المنبر العالميّ المبارَك الذين لا زالوا يهُمّون أو حتى يتعاطفون أو يسكتون أمام هذه الأفكار الضالة إفراطًا أو تفريطًا أن يعلَموا أيَّ جنايةٍ يجنونها في حقِّ دينهم وأمّتهم وبلادهم، ولذا فإنّ المراجعات واتهامَ الرأي في هذه القضايا العامّة والخطيرة ضرورة قُصوى، فوالله لأن يرجعَ المسلم إلى حقّ ترَكه مهما وصفه الواصفون خيرٌ له من أن يلقَى الله غدًا وقد تلطّخت صفحتُه بدمٍ حَرام سفكَه في غير حِلِّه أو سار على ما لم يَسِر عليه سلفنا الصالح.
لقد تكرّم ولاةُ الأمر بفرصةٍ كافيَة للعفو والمراجعة، وتلك مكرُمة ومنقبةٌ للعُظماء عبرَ التاريخ، فما ملك الأحرارَ كالعفوِ عنهم، فاستجاب من استجاب، وحقُّه علينا الإشَادةُ والتأييد وشفاعةُ الأمةِ أن يجدَ العفو والأمان والصفحَ والغُفران، أمّا من كابر وأصرَّ على ضلالِه فإنما يجني على نفسِه وأُسرته ومجتمعه، وسيجد مغبّةَ استكبارِه عن الحقّ ونتيجةَ إصرارِه على الباطل، فيُندمُ حيثُ لاتَ ساعةَ مندَم، اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
وإنَّ الأملَ في شبابنا وأبنائنا وَهم ولله الحمد والمنّة محلُّ فخارِنا واعتزازنا أن يتبيَّنوا قُدّامَهم محلَّ وقع أقدامِهم، وأن يحذروا من وسائل الإثارة والاستفزاز مهما كان مروِّجوها، ولتهنأ بلادُ الحرمين الشريفين حرسَها الله دائمًا بالأمن والأمان والخير والسلامة والاطمئنان، في بُعدٍ عن أسباب الفِتَن وبواعث المِحَن، وما ذلك على الله بعزيز.
ألا وصلِّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وهادي البشرية كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء وأشرف المرسلين نبيّنا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيّبين الطّاهرين...
=============(5/9)
(5/10)
هموم ثقافية
مجلة البيان - (ج 78 / ص 37
أقوال منسية حول «التغريب»*
د. أحمد إبراهيم خضر
منذ العشرينيات من هذا القرن والباحثون الغربيون المتخصصون منشغلون بقضايا تغريب العالم الإسلامي بعامة ، وما يسمونه بمنطقة الشرق الأوسط بخاصة ولا يكاد يخلو أي كتاب أو أي مقالة تتعرض لحياة المسلمين من إشارة هنا وأخرى هناك لهذا التغريب ، إلى الدرجة التي حدت بهؤلاء الباحثين إلى القول:
«إن مظاهر التغريب عند شعوب الشرق الأوسط مشاهدة تماماً وبدرجة كافية وإنه لمن السهل عليك أن تضع قائمة طويلة توضح لك كيف أن هذه المظاهر التقليدية التي كانت سائدة منذ مائة أو مائة وخمسين عاماً قد اجتاحتها رياح التغيير ، واستبدلتها بقيم أدخلها الغرب».
لم يكن تغريب المسلمين مسألة متروكة لمجرد الاحتكاك بين الثقافتين الإسلامية والغربية، ثم متابعة آثار هذا الاحتكاك على الإسلام والمسلمين، إنما كانت سياسة موجهة ومدروسة تستند إلى تنظير خاص ، يعتمد في جزء كبير منه على تجارب الاحتكاك بين الإسلام والغرب في الماضي ، وعلى تجربة الثورة الصناعية وما تلاها من آثار على البناء الاقتصادي والاجتماعي والتقني الغربي ، ثم على تحليل مسألة اتساع الهوة بين هاتين الثقافتين بعد الثورة الصناعية؛ بسبب الاستقرار الثقافي في بلاد المسلمين، وتلك التراكمات التي أخذت مكانها في الغرب.
نظرية ومكاسب:
استندت عملية تغريب المسلمين إلى ما يسمى بنظرية (تشويش الأحكام القيمية) أو إيقاع الاضطراب في هذه الأحكام ، وتقوم هذه النظرية على الأساس التالي:
«هناك توازن وتوافق بين عناصر ثقافة المجتمع التقليدي المستقر جيداً ، بمعنى أن القيم التي تحكم وتسود هذا المجتمع تتسق وتؤيد واقعه المعاش ؛ ولهذا تتميز ثقافة هذا المجتمع بالتماسك والتوازن الداخلي.
ويمكن للواقع الثقافي أن يعير وأن يستعير عناصر من ثقافة أخرى مخالفة بصورة أكثر سرعة من استعارة القيم الثقافية ، ولهذا يصعب حدوث تغير في القيم في الوقت الذي يسهل فيه حدوث تغير في الواقع.
وعندما يحدث اتصال بين ثقافتين مختلفتين ، فيدخل واقع جديد إلى إحداهما يمكن هنا أن يتحطم التوازن القديم ، وتتغير القيم الثقافية بتغير الواقع الذي كانت تحكمه وإن احتاج الأمر إلى بعض الوقت ، بسبب هذه الصلة العاطفية التي يحيط بها المجتمع ثقافته الخاصة ، ومقاومته لإدخال أي محتويات ثقافية غريبة أو جديدة.
وهذا لا يعني بالطبع أن مكونات الواقع في ثقافة ما يمكن أن تزرع في ثقافة أخرى دون أن تسبب تغيرات في قيمها ، أو أن قيم ثقافة ما يمكن أن تفرض على الثقافة الأخرى دون أن تحدث تغيرات في مكونات هذه الثقافة ؛ لأن التناسق المحكم والاعتماد المتبادل بين مكونات الواقع والقيم الثقافية يجعل من غير الممكن أن تدخل تغيرات في واحدة منها دون أن تحدث تغيرات في الأخرى».
بهذه النظرية دخل الغرب إلى حياة المسلمين ساعياً بمختلف طاقاته الثقافية والعسكرية والاقتصادية والتقنية إلى إدخال واقع جديد يخص ثقافته هو على ثقافة المسلمين؛ ليحطم التوازن القائم بين واقعها وقيمها ، ويغير من قيمها حتى تصبح مناسبة للواقع الجديد الذي أدخله عليها ، ولقد حقق الغرب هنا مكسبين مهمين: أولهما أنه بتحطيمه لهذا التوازن المشار إليه أوجد هوة عميقة بين الإسلام والمسلمين ، ودمر الصلة العاطفية التي تربط المسلمين بإسلامهم والمكسب الآخر: أنه وهو يخترق هذه الهوة ليملأ الفراغ المترتب عليها حرك الأمور بالطريقة التي تمكنه من تحقيق مكاسب مادية ضخمة على حساب هذا الكيان المنهار.
سنقتصر في مقالتنا هذه على عرض وتحليل ثلاثة من عناصر هذا الواقع الجديد الذي أدخله الغرب على حياة المسلمين فدمر التوازن القائم في ثقافتهم.
أولا صنع هيبة الغرب:
لم يكن هذا الواقع موجوداً من قبل ، كانت العلاقة بين المسلمين وغيرهم تقوم على أساس «الإسلام والكفر،وجاء الغرب وأدخل واقعاً جديداً.. فبعد أن تمكن من إيجاد موطئ لأقدامه في بلاد المسلمين، أحاط نفسه وأهله بهالة من الهيبة والاحترام ، وفرض نفسه على النظام الاجتماعي القائم في بلاد المسلمين، وتقلد الوظائف القيادية، وساهمت حكومات بلاد المسلمين العلمانية في تدعيم هذه الهيبة ؛ بوضع أبناء المستعمر في مواقع قيادية مهمة وسمحت لهم بالحضور إلى مناسبات وطنية وغير وطنية ، لا يدعى إليها عادة إلا كبار رجالات الدولة وعلية القوم فيها.
وزاد الغرب من هيبته في عيون المسلمين بما أدخله عليهم من صناعات وتكنولوجيا ومعرفة في ميادين مهمة انفرد بها ، وكان نتيجة ذلك أن ظهر الغربيون للمسلمين على أنهم هم الأسمى وهم الطبقة العليا.
وهنا تغيرت القيم فأصبح الغرب وأهله هدفاً مرغوباً يسعى بعض المسلمين للانتفاع به ، كما ينتفعون بصناعاته ومنتجاته ، وسهلت هذه الهيبة عند المسلمين طريق محاكاة أسلوب الحياة والسلوك والأخلاقيات والاتجاهات الغربية ، ثم جاء الانهيار الكبير حينما قلد المسلمون الغربيين في فتورهم نحو دينهم وعدم مبالاتهم به وهو عين ما كان يهدف إليه الغرب.(5/11)
يقول (روفائيل باتاي) أستاذ علم الإنسان في (دوبسيي كوليج) بفيلاديلفيا وجامعة كولومبيا في الخمسينيات من هذا القرن:
«... بينما تكشف لنا البدايات التقنية للتغريب عن هذا النجاح العالمي الذي حققته ، تأتي هناك عوامل أخرى أبرزها (نظام الهيبة الجديد) الذي تسرب الغربيون عن طريقه إلى قطاعات الناس المختلفة ، وتمكنوا من السيطرة والرقابة على الوظائف المهمة ، وفرضوا أنفسهم على النظام الاجتماعي ، وظهروا للناس على أنهم هم الأسمى وهم الطبقة العليا.
ليس من السهل أن نحلل المكونات المتعددة التي تصنع الهيبة الغربية ، لقد كان عنصر القوة هو العنصر الأكثر أهمية في أيام الاستعمار الأوربي ، إلا أن هذا العنصر قد استبدل الآن بمزيج متعدد المكونات: مثل الثروة ، وتملك الآلات والمعدات الغربية ذات الهيبة ، أو المعرفة الخاصة في ميادين ذات أهمية متزايدة كالطب والزراعة وغيرهما ، وشغل مراكز تحظى بالثقة والنفوذ تمنحها الحكومات المحلية للغربيين ، والسماح لهم بالحضور الحر في مناسبات معينة مثلما يسمح تماماً وبدرجة متساوية للقيادات العليا في الدولة. إن الهالة والهيبة التي تحيط بالغربي غلفت ثقافته تماماً ، فأصبح اكتساب الثقافة الغربية نتيجة لذلك هدفاً مرغوباً فيه اجتماعياً يفوق بدرجة كبيرة الانتفاع المعترف به لمنتجات هذه الثقافة».
وفي معرض حديثه عن تخلي المسلمين عن مناهجهم التقليدية في الطب واتباعهم لمناهج الطب الحديث يقول (باتاي) في وثيقته:
«إن البحث في الأسباب التي أدت إلى التغيرات في الاتجاهات العقلية التي سادت منذ قرون ، لا يجعلنا نرد هذه التغيرات العقلية إلى الاهتداء المفاجئ إلى التفكير الأكثر عقلانية ولكن إلى (الميل للغرب).. من أين أتى هذا الميل؟!
تكمن الإجابة على هذا السؤال في هذه الهيبة للغربيين وثقافتهم ، إن الهيبة التي يتمتع بها كل شيء غربي في عيون شعوب الشرق الأوسط أوجد فيهم نزوعاً إلى محاكاة كل الطرق الغربية ، إنه أدى إلى رغبة خانعة ليس فقط في الحصول على المعدات الغربية ، ولكن رغبة في تقليد السلوك والاتجاهات الغربية كذلك. لقد قبل الطب الغربي ليس لأنه أظهر أفضلية ولكن لأنه طب غربي ، تبنى سكان الشرق الأوسط ازدراء الغرب للممارسات السحرية وغير العلمية ، ليس لأن ذلك له قيمة فحسب ، ولكن لأنه أمر مؤكد جاء به الغرب (المهاب)».
وعن (اللامبالاة) وعدم الاكتراث بالدين التي قلد فيها المسلمون الغرب يقول (باتاي):
«... وهنا ظهر على المسرح (الغربي) المحمل بالهيبة والذي يحتل وضعاً أعلى ويحمل ثقافة تستحضر الرغبة في محاكاتها: أن هؤلاء الأجانب لا ينتمون فقط إلى دين مختلف ، ولكن اتجاهاتهم نحو دينهم المسيحي كانت فاترة فكان من الطبيعي أن يقلد هؤلاء المعجبون بالطرق الغربية من مجموع ما قلدوه الفتور نحو الدين واللامبالاة به ، فأظهروا عدم الاهتمام بدينهم هم».
ثانيا علمنة الأسرة:
ينظر الغربيون إلى الأسرة المسلمة على أنها أسرة ممتدة ، والأسرة الممتدة في المصطلحات الغربية هي الأسرة التي تتكون بنائياً من ثلاثة أجيال أو أكثر ، وتضم الأجداد وأبناءهم غير المتزوجين والمتزوجين (أو بناتهم) وتضم أحفادهم كذلك.
سعى الغربيون نحو علمنة الأسرة المسلمة، وإلى أن تكون الأسرة الغربية وأشكالها الاجتماعية هي النموذج الجديد الذي يجب على المسلمين الاقتداء به. عمل الغرب على فصل الأسرة المسلمة عن الدين ، وذلك بكسر قبضة الدين من تلك الأسرة الممتدة وتقليص اعتماد الفرد عليها ، والقضاء على تكامله معها وتدمير سلطة الأب على أولاده ، وانفلات الأبناء من الأسرة ؛ حتى ينفلتوا من الجو الديني العام الذي يحيط بالأسرة ، والنظر إلى كل ذلك على أنه ماضٍ يجب أن يرفض.
يقول (باتاي):
«في الوقت الذي كان فيه التأثير المباشر للبعثات التنصيرية على الحياة الدينية في الشرق الأوسط تافهاً ، تميز الغرب بموقفه البارد تجاه الدين لأن الدين في الشرق الأوسط في ظل الظروف التقليدية هو طريقة كلية للحياة: التنظيمات المهنية هي تنظيمات دينية ، ارتداء الزي المحلي أمر يقره الدين الطب والتعليم مهنتان دينيتان ، سلطة الدولة نفسها تقوم على الدين، ليس هناك ترتيب هرمي في الإسلام كما هو في الكنائس المسيحية، وليس هناك قسيس أيضاً ، العديد من سكان الحضر منتظمون في دوائر دينية ، والكثير من العائلات سواء أكانت في الريف أو الحضر تحظى بتأييد المؤسسات الدينية ، أما أكثر المؤسسات التي تمسك بقبضتها على الفرد فهي الأسرة الممتدة ، اعتماد الفرد على أسرته وتكامله معها مسألة عالية الأهمية في ثقافة الشرق الأوسط إلى درجة أنها تعد ثقافة القرابة، الأسرة هنا مؤسسة دينية يعضدها الدين ، أي أن الدين يعضد الأسرة ، وهي بدورها تعضد الدين.(5/12)
ولما جاء التغريب أحدث انهياراً في السلطة الأبوية ، وحطم الأسرة الممتدة وغيّر نظام الاقتصاد العائلي بسبب حركة الهجرة من القرية إلى المدينة إلى نظام اقتصادي يقوم على علاقات غيرشخصية ، أصبحت الأسرة الغربية وأشكالها الاجتماعية نموذجاً يحتذى به بين الطبقات العليا والوسطى ، ولم يترتب على هذه الأمور مجرد تغير جوهري في طبيعة الحياة الأسرية ذاتها فقط ، وإنما ترتب عليها أهم من ذلك كله وهو (علمنة الأسرة) وابتعادها عن الدين ، فحينما ينفلت الشاب من قبضة أسرته كان يخلف وراءه هذا الجو الديني الهام الذي كان يحيط به فيصبح رفضه لهذا الجو جزءاً من رفضه للماضي ، ولهذه الأسرة التي تحكم قبضتها عليه.
ثالثا الحياد الموجه للمشروعات الاقتصادية والفنية الغربية:
هناك الكثير من المشروعات الاقتصادية والفنية الغربية العاملة في البلاد الإسلامية مهمتها الأساسية استنزاف خيراتها وربطها بالغرب،ولقد حرص الغربيون وهم يدخلون هذا الواقع الجديد إلينا هذه المشروعات على تجنب الخوض المباشر في أي موضوعات تتعلق بالعقيدة الإسلامية ، وتركوا هذه المهمة للبعثات التنصيرية بالرغم من تسليمهم بمحدودية عائدها وللشيوعية لكنهم أي الغربيين أولوا الشيوعية اهتماماً وثقلاً أكبر ، فهي في نظرهم التهديد الحقيقي الخطر على عقيدة المسلمين الذي يمكن أن يطيح بتوازنهم الاجتماعي الثقافي ، وقد تركزت الجهود على إقناع المسلمين بأن الشيوعية لا تتطابق مع الإسلام فقط بل إنها التعبير الحقيقي للشكل النقي من الإسلام في أصوله الأولى! ولا يهم هنا أن يكون نظام الحكم القائم في بلاد المسلمين شيوعياً بقدر ما يهم تدمير بنائهم الاجتماعي الثقافي الكلي.
يقول (با تاي):
«تميز مدخل الغرب في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة بصفة خاصة بالاعتناء الشديد بتجنب الخوض في أي قضايا أيديولوجية ، والتركيز على الناحية الفنية فقط بالنسبة للمشروعات الاقتصادية والفنية وما هو على شاكلتها ، دخلت هذه المشروعات إلى الشرق الأوسط عبر الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومعها توجيه أساس بعدم التدخل في القيم والأيديولوجيات الخاصة بالبلاد.
لكن الأمر يختلف بالنسبة للبعثات التنصيرية ، فليس أمر الكف عن التدخل الأيديولوجي موضع حرية اختيار هنا ، إلا أنه يجب أن يوضع في الاعتبار رد فعل المجتمع الإسلامي للمحاولات المكشوفة لتنصيره ، لقد نجحت البعثات التنصيرية في علاج عشرات الآلاف من المسلمين ، كما علمت الآلاف من مرضى الأطفال المسلمين ، وربما أثرت بسلوكياتها ومثلها على النظرة الأخلاقية للعديد من المسلمين، ورغم ذلك فإن الذين تحولوا إلى النصرانية قلة قليلة. إن الدين في الشرق الأوسط يشغل وضعاً محورياً في بنائه ؛ ولهذا يعتبر التنصير عند المسلمين ردة يترتب عليها أن ينفصل المسلم إذا تنصر عن الأسرة والمجتمع والقيم الثقافية ويتعرض لنبذ أصدقائه والمحيطين به ، وأهم من ذلك كله أن اعتناق الإسلام اعتقاداً ثابتاً لا يهتز والنظرة إليه على أنه الدين الحقيقي يعني أن الردة عنه غباء كامل.
رابعا تغريب النخبة:
عمد الغرب بهذا الواقع الجديد إلى ضرب التوازن المستقر الذي أوجده الإسلام بين طبقات المجتمع المختلفة وإلى تمزيق الشرايين الحيوية التي تجري بين الطبقات العليا والدنيا وإيجاد تناقضات بينها ، إلى أن ينتهي الأمر بأن تنظر الطبقة العليا إلى الطبقة الدنيا على أنها جماعة من المتخلفين البدائيين الذين يمثلون ما يسميه الغرب «بالوجه الفقير لثقافة الإسلام التقليدية».
وحتى تتسع الهوة بين هاتين الفئتين عمد الغرب إلى ما يلي:
1- تغريب واحتضان الطبقة العليا التي تملك المال الوفير والفرص المتاحة للسفر والاتصال بالغرب وشراء منتجاته وتبني نمط حياته ، ثم استغلال الدافع الكامن عند الطبقة الدنيا التي تسعى إلى تسلق السلم الاجتماعي لتكون قريبة من الطبقة العليا بإتاحة الفرصة لها لاكتساب الخاصية التي تفردت بها هذه الأخيرة.
2- تدمير الجسر الثقافي الذي يربط بين الفئتين السابقتين بتحويل الطبقة العليا إلى جماعة من المستهلكين الشرهين لكل ما هو مستورد وقادم من الغرب ، بعد أن كانت هذه الطبقة تستخدم أحسن وأجمل وأفضل القوى الثقافية المتوافرة في الأرض الإسلامية ، لقد كان هذا الاستخدام في حد ذاته أساساً من أسس توحد الطبقة العليا في المجتمع مع باقي الطبقات.(5/13)
لم يكن تغريب الطبقة العليا إلا أحد أوجه سلسلة الواقع الجديد الذي أراد به الغرب ضرب التوازن الاجتماعي المستقر في البلاد الإسلامية، وهناك وجهان آخران: أولهما إيجاد طبقة جديدة من العمال الحضريين المحرومين ، ولقد جندت هذه الطبقة من المدن ومن الريف ؛ لدفع عجلة التصنيع الفجائي والمفروض الذي أدخله الغرب على عالمنا الإسلامي ، لقد عاشت هذه الطبقة ظروفاً صعبة وقاسية ولم يكن المهم أن تعيش هذه الظروف فقط ، وإنما كان المهم أن تحرم من الإشباعات العاطفية والروحية التي يمنحها الدين والأسرة الممتدة لأفرادها. كان تجنيد هذه الطبقة من الريف لتحقيق هدف مهم آخر سعى إليه الغرب وهو إيجاد ما يسمى (بثنائية الريف المدينة) حيث القدر الأكبر للمدينة وكل ما قدم منها ويرمز لها ، مع الحط من قدر الريفيين والعمل على هجرتهم إلى المدينة لتشكيل الطبقة الجديدة وتركيز المهنيين (الغير مهمين) والمثقفين في المدينة على حساب المهنيين الذين تشتد الحاجة إليهم كالأطباء والمهندسين وغيرهم.
هذا هو الوجه الأول ، أما الوجه الثاني: فقد كان تدعيم الطبقة الوسطى وإضافة فئات أخرى لها تشابه أكثر وأكثر مثيلتها في البلاد الغربية ، ويعهد إليها بمهمة التطوير الثقافي للبلاد لحساب الغرب.
خامسا إدخال الصناعة والتكنولوجيا:
لم يكن التصنيع (الحديث) والتكنولوجيا واقعاً قائماً في بلاد المسلمين فجاء الغرب وأدخلهما عن عمد كواقع جديد بهدف إحداث اضطراب خطير في النسيج المكون لثقافة المسلمين أولاً ، ولضمان تبعية المسلمين له واستنزاف خيراتهم بطريقة عصرية ، لأن الطرق القائمة لا تسعفه في تحقيق هذا الاستنزاف.
دمر الغرب الصناعات المحلية، وقضى على المهن التقليدية، ونشر بضائعه الاستهلاكية ، وأرغم الصنّاع والحرفيين إما على الخروج من الساحة والانضمام إلى ركب العمال الحضريين، أو تعديل خبرتهم الفنية بحيث ينتجون بضائع ذات نمط غربي يعرف الغرب أنها لن تقوى على المنافسة أمام بضائعه التي تستخدم التقنية الحديثة العالية الجودة المعدلة وفقاً لأذواق المسلمين ، ثم نافس الغرب بعد ذلك المشروعات الصناعية القائمة ، وأدخل مناهجه الغربية في إنتاج ما يصنع محلياً.
اعتقد المسلمون أنهم وهم يستخدمون المعدات والتقنية الغربية قد وصلوا إلى مرحلة من التقدم الاجتماعي ، وأن التغير الذي حدث عندهم بسبب هذا الاستخدام تغير محدود لن يؤثر على قيمهم الأساسية ، ولم يدرك المسلمون وهم في وهم هذا التقدم أن الغرب قد وقف بهم عند حد (طريقة الاستخدام) ولم ولن يصل بهم أبداً إلى (طريقة الإنتاج).. لم يكن المسلمون وهم يستخدمون الصناعة والتقنية الغربية يقفون عند الحدود الشرعية التي تحدد لهم الفرق بين الانتفاع بالثقافة وبين التأثر بهذه الثقافة ، في حين أن الغرب كان يعلم تماماً أن استخدام أي عنصر ثقافي غربي لابد وأن يؤدي بالضرورة إلى استخدام عنصر آخر ، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إلى تبني طريقة الحياة الغربية ذاتها.
حال الغرب دون تمكين المسلمين من صناعة الآلات التي توجد فيها باقي الصناعات ، فلم توجد لدينا المصانع التي تصنع الآلات من (موتورات) وخلافه ولم تتوفر لدينا آلات من صناعة البلاد تمكننا من صناعة باقي المصانع ، ولقد أعاق الغرب صناعة الآلات في بلاد المسلمين بحجة أنها تحتاج إلى وقت طويل وأنه لابد لنا من صناعة الحاجات الأساسية ، فانصرف المسلمون إلى الصناعات الاستهلاكية وأصبحت بلادهم سوقاً لمصانع أوربا وأمريكا ، وأرسلت أكثر البعثات إلى الخارج لا لتعلم صناعة الهندسة الثقيلة وصناعة الفولاذ ، ولكن لدراسة الآداب واللغويات والعلوم الإنسانية والاجتماعية التي توسع الهوة بين المسلمين وثقافتهم ، فانصرفت البلاد إلى صناعة المنسوجات والورق وخام الحرير ، وأهملت صناعة الآلات.
وبدلاً من استقدام خبراء صناعة الآلات استقدمت الخادمات والمربيات الأجنبيات ، صاغ الغرب لنا كتبنا خاصة في النمو الاقتصادي ، فجعلنا نعتقد أننا لابد وأن نسير في عدة مراحل وبشروط معينة حتى نصل إلى مرحلة التقدم فأطال أمامنا أمل تسلم زمام رأس الصناعة ومنبعها وهو (صناعة الآلات).
أجبرنا الغرب على شراء المصانع والآلات منه وبثمن باهظ ، وإذا أصيبت الآلات بعطب أو كسر اضطررنا لاستقدام خبرائه لإصلاحها أو استيراد الآلة منه وإلا تعطلت المصانع كلية.
لم تكن لبلاد المسلمين سياسة اقتصادية محددة في أن تكون هذه البلاد (صناعية) بمعنى (أن تصنع الآلات)، ولهذا لم تخلص بلادنا حتى الآن ولم تستغنِ عن الغرب لكنها أصبحت بدلا من ذلك أكثر ارتباطاً به وبمنتجاته وآلاته والأهم من ذلك كله بطريقة الحياة الغربية.
يقول (باتاي):(5/14)
ما أن وجد الغربيون لأنفسهم قدماً في قلب الشرق الأوسط حتى بدأوا في إظهار (تكنولوجيتهم) ونشر مظاهر معينة منها عمداً وعرضاً بين السكان المحليين. إن المظاهر التكنولوجية للثقافة هو إيسر ما يمكن أن يستعار، وهذا صحيح فقط عند النظر إلى (استخدام) المنتج التكنولوجي وليس (إنتاجه). إنه يصعب عليك أن تصنع مضخة مياه تعمل بمحرك لكنك تستطيع في دقائق قليلة أن تتعلم كيف تستخدمها، وأن تتعرف على مزاياها التي تفوق استخدامك للأسلوب القديم لرفع المياه عن طريق (الشادوف).
إن قبول سكان الشرق الأوسط للتكنولوجيا الغربية بالإضافة إلى إمكانيات نقلها ووظيفتها الكبرى كمؤشر هام للتقدم ، قد تيسر بواسطة حقيقة مؤداها أنها لا تشغل وضعاً مهماً في ثقافتهم الخاصة.. وبمعنى آخر إن شعوب الشرق الأوسط مثل أصحاب أي ثقافات أخرى لم ترَ أن مجرد التحول إلى استخدام المعدات الغربية يعنى أن قيمهم الأساسية سوف تتأثر، بل رأت أنه مجرد تغير ذو أهمية قليلة ، وأخيراً أدركت بعد أن فات الأوان أن قبول أي عنصر ثقافي غربي منفرد يؤدي إلى قبول عناصر أخرى أكثر وأحدث فتكون النتيجة إحداث اضطراب خطير في النسيج الحيوي المكون لثقافتهم التقليدية.
إن مقارنة نمو التصنيع الغربي بتصنيع الشرق الأوسط يبين لنا أن تصنيع الأخير كان محدوداً وفجائياً ، بالإضافة إلى أنه مفروض من الخارج ، ولم ينمو عضوياً في بيئته المحلية ، ولهذا كان من المحتمل أن يصاحب بتوترات قاتلة يترتب عليها انهيار الأشكال التقليدية من التفاعل الاجتماعي الذي تميزه العلاقات الشخصية والأسرية وانتشار المكانات الموجهة قرابياً ، وتحوله إلى الأشكال الغربية من التفاعل الاجتماعي الذي يقوم على العلاقات غير الشخصية».
هذه خمسة عناصر من عناصر هذا الواقع الجديد الذي أدخله الغرب على حياة المسلمين لتغريبهم وتدمير التوازن القائم في ثقافتهم ، وتندرج جهود الغرب هذه تحت قوله عز وجل ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفَاراْ حسداْ من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق))(1) ، وتشير الوقائع السابقة إلى أن الغرب قد نجح إلى حد بعيد في جهوده تلك رغم التحذير الذي وجهه الله عز وجل للمسلمين من اتباع سبيل الكافرين كما جاء في قوله تعالى: ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم))(2)، وقوله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم))(3) وقوله تعالى: ((لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله))(4)... إلى غير ذلك من الآيات.
لكن نجاح الغرب في تغريب المسلمين لم يكن راجعاً إى كفاءة تنظيره المدروس الذي أسماه (تشويش الأحكام القيمية) ، فليس هذا التنظير كما يخيل للبعض بجهد إبداعي خلاق يضيف هيبة أخرى إلى هيبة الغرب الحالية في عيون المسلمين. إن هذا الجهد يتضاءل أمام قاعدة ابن تيمية رحمه الله التي يقول فيها: «إن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة في الأخلاق والأعمال... فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة ، فكيف بالمشابهة في أمور دينية.. فإن إفضاء هذا النوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم أي اليهود والنصارى تنافي الإيمان»».
ويرجع نجاح الغرب في تغريب المسلمين إلى سببين أساسين:
الأول: أن هذا هو قضاء الله عز وجل النافذ فيما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما سبق في علمه ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة حتى لو دخلوا مجر الضب لدخلتموه ، قال يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال فمن؟)(5).
الثاني: ضعف إيمان المسلمين: الله سبحانه وتعالى ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علماً وعملاً ، يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى ، فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مَكْفيٌ مدفوع عنه بالذات أين كان ، ولو اجتمع عليه من بأقطارها ، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهراً وباطناً.. وقد قال الله تعالى للمؤمنين ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين))(6) ، وقال تعالى: ((فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم)) (7).
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذا كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره.
الهوامش :
*انظر تفصيلا: صلى الله عليه وسلم APHAEL PATAI, THE DYNAMICS OF WESTE r NIXATION THE MIDDLEEAST JOU r NAL, V. 9 NO. 1, WINTE r 1955 , PP. 1-16.
(1)سورة البقرة ، آية 109.
(2)سورة النساء ، آية 115.
(3)سورة المائدة ، آية 51.
(4)سورة المجادلة ، آية 22.
(5)أخرجه الترمذي ، كتاب الفتن ، وابن ماجة ، كتاب الفتن.
(6)سورة آل عمران ، آية 139.(5/15)
(7)سورة محمد ، آية 35.
============(5/16)
(5/17)
بأقلامهن
مجلة البيان - (ج 132 / ص 24
دور المرأة المسلمة في مواجهة التغريب
رهام أديب الزعبي
تمر أمتنا الإسلامية في الوقت الحاضر بمرحلة في غاية الخطورة هي محاولة إرساء التغريب في أرضها وإحكام الهيمنة عليها من قِبَلِ أعدائها. والتغريب هنا هو تحويل الثقافة العربية والإسلامية من عقيدة وسلوك، وعادات وتقاليد إلى ثقافة وعادات وتقاليد تابعة للغرب مخالفة تماماً لعقيدتنا وتراثنا الإسلامي، ومن ثم تصبح الهيمنة على أمتنا والسيطرة عليها واحتواؤها سهلاً ميسوراً؛ بحيث تخضع خضوعاً تاماً لما يريده الغرب، الذي يحاول جاهداً دون كلل أو ملل بث أفكاره وثقافته بكل السبل التي يستطيع الدخول من خلالها.
وهذا التغريب قائم على أبحاث ودراسات حشدت لها كل الطاقات والإمكانات لكي تطبق على المسلمين، منها ثقافية وفكرية، ومنها نظم سياسية واقتصادية بعيدة كل البعد عن الإسلام وتشريعاته، مما يؤدي في النهاية بالمجتمع الإسلامي إلى أن يتشبع بالفكر الغربي وثقافته وحضارته المعادية للإسلام، فيقضي على شخصية المجتمع وولائه لدينه وأمته، ويصبح من السهل قيادته وتنفيذ كل ما يطلب منه. والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أهمها ما يتعلق بشؤون المرأة.
ولما كان للمرأة المسلمة أهمية كبيرة في تربية الأجيال ولها تأثيرها المباشر في تنشئتهم على الإسلام عقيدة وسلوكاً، فقد أعطى أعداء الإسلام أهمية قصوى لمحاولة تغريبها والتركيز عليها؛ وذلك من خلال الدعوات البراقة الكاذبة التي انخدع بها كثير من أبناء وبنات أمتنا... تلك الدعوات المسماة بالتحرر وانتزاع الحقوق، وطلب المساواة بينها وبين الرجل!
فإذا استجابت المرأة المسلمة لدعوتهم تلك فسيؤدي ذلك حتماً إلى إفسادها ثم إلى فساد المجتمع وتدميره بأقصر الطرق وأسرعها؛ لما لها من تأثير فعال في ذلك، مما لا يستطيع أن ينكره عاقل.
ومن المؤسف حقاً أن نجد فئة من نسائنا قد انجذبت وانساقت لتلك الأباطيل، فتبنت أفكارهم المضللة تلك، والدعوة لها، وعشن بتبعية كاملة لهم فكرياً واجتماعياً وسلوكياً، مقلدات المرأة الأوربية تقليداً أعمى دون إدراك أو تفكير بحيث ينطبق عليهن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)(1).
ولقد غاب عن وعي أولئك النسوة أن الظروف الاجتماعية والقانونية والتاريخية التي واجهت المرأة الأوربية مختلفة تماماً عمّا واجهته المرأة المسلمة؛ فالمرأة هناك تعيش مجتمعاً قائماً على قوانين من وضع البشر وليست شرائع ربانية؛ فكان هناك انتهاك وهضم لحقوق المرأة مما جعلها تثور وتتمرد لتحصل على حقوقها.
أما المرأة المسلمة فقد أعطاها الإسلام حقوقها كاملة منذ أربعة عشر قرناً؛ فيحق لها أن تفخر وترفع رأسها عالياً بتلك الحقوق التي لم تحصل عليها كثير من النساء في أكثر البلدان التي تدعي الحضارة والتقدم إلى الآن.
لقد كرم الإسلام المرأة أحسن تكريم، ورفع مكانتها ووضعها في المكان اللائق بها، ولم يفرق بينها وبين الرجل، بل ساوى بينهما في الحقوق والواجبات، والثواب والعقاب. ولا أدري ـ والله ـ ما هي الحقوق التي تطالب بها المرأة المسلمة؟ وقد أعطاها الإسلام كامل حقوقها الدنيوية والأخروية.. أما الدنيوية: فمنها حق التعلم والعمل، وحق التملك والتصرف بملكها وتجارتها دون تدخل من زوج أو أب. كما أعطاها حق اختيار الزوج؛ وحق الخلع إذا لم توفق بزواجها. ومن حقها أيضاً المحافظة على اسم عائلتها بعد الزواج؛ وذلك بعكس المرأة الأوربية التي تحمل اسم عائلة زوجها بعد الزواج. وأيضاً أُعطيت المسلمة حق الإرث فهي ترث وتورث، يقول ـ تعالى ـ: ((لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً)) [النساء: 7].
وأما حقوقها ومساواتها مع الرجل في الأجر فقد بينه قوله ـ تعالى ـ: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى)) [آل عمران: 195]. وقوله ـ تعالى ـ: ((إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ والْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الأحزاب: 35]. وبعد ذلك: ماذا تريد المرأة أكثر من هذا؟
وهنا سؤال يطرح نفسه: ما هو المطلوب من المرأة المسلمة أن تفعله؟(5/18)
المرأة المسلمة اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى أن تكون سلاحاً في وجه أعدائها؛ وذلك من خلال رفضها لكل الدعوات الكاذبة والخادعة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، متمثلة قوله ـ تعالى ـ: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ(1)لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)) [الكافرون: 1، 2].
فعلى المرأة المسلمة أن تقف سداً منيعاً إلى جانب الرجل المسلم في وجه ما يخطط للأمة الإسلامية من خلالها، فلا تكون عوناً لأعدائها وأعداء أمتها؛ بل يجب عليها أن تعي وتدرك ما يدور حولها من خطط لإبعادها عن دينها ورسالتها في هذه الحياة وتهميش دورها في بناء مجتمعها الإسلامي، وإشغالها بتوافه الأمور، وإضاعة وقتها في تتبع ما تبثه الفضائيات، وما تنشره المجلات الهابطة من عروض للأزياء وآخر الموديلات من مكياج وعطورات، ومتابعة أخبار الفنانين والفنانات!
إنه من المؤلم حقاً أن نرى إلحاح الإعلام المرئي والمقروء على جعل تلك الشخصيات الفنية قدوة لأخواتنا وبناتنا المراهقات.. وما كثرة استضافتهن على شاشات التلفزيون وصورهن على أغلفة المجلات وداخلها، غير تأكيد على ذلك؛ وكأن الدنيا قد خلت إلا من هؤلاء!
إن أكثر ما يغيظ الغرب هو تمسك هذه الأمة بدينها؛ فدعوتهم إلى تحرر المرأة المسلمة والمتمثل عندهم بخلعها الحجاب واختلاطها بالرجال حتى يعم الفساد في المجتمع الإسلامي ما هو إلا دليلاً كبيراً على ما يكنه الغرب لنا من عداء؛ فلن يهنأ لهم بال ولا يستقر لهم حال حتى نترك ديننا ونعيش بتبعية كاملة لهم منفذين رغباتهم وأمانيهم التي لا تنتهي إلا باتباع ملتهم كما أخبرنا به ـ سبحانه وتعالى ـ بقوله: ((وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) [البقرة: 120].
فالواجب على المرأة المسلمة أن تعود إلى إسلامها وتتمسك به بكل قوة، وتعيش تعاليمه كلها منهجاً وسلوكاً، وتطبقها على نفسها أولاً ثم على من هم تحت رعايتها. فلا بد أن تعلم المرأة المسلمة قبل كل شيء أن الإسلام كلّ لا يتجزأ؛ عقيدة، وعبادة، ومنهج حياة؛ فإذا أرادت أن تأخذ منه ما يطابق هواها وتترك ما يغايره فإن هذا ينقض العقيدة وسلامتها. يقول ـ تعالى ـ: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب: 36]. لذلك يجب عليها أن تلتزم التزاماً كاملاً بما أمرها الشرع من حقوق وواجبات، والبعد عن كل ما نهاها عنه قبل أن يستشري الداء ويزيد البلاء، فيعمنا الله بعقابه في الدنيا من قبل أن نلقاه. كما قال ـ تعالى ـ: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ)) [الأنفال: 25].
ومن الواجب على المرأة المسلمة أيضاً أن تعمل على تثقيف نفسها والتسلح بالعلم الشرعي، وذلك من خلال حضورها لبعض الدروس الشرعية المتاحة في مجتمعها، وسماعها للأشرطة المأمونة المتوفرة في السوق، وكذلك تلاوتها للقرآن وتدبر آياته وحفظ ما تيسر منه، وخصوصاً آيات الأحكام، وكذلك الآيات الكونية، والاطلاع على كتب التفسير والسيرة حتى يساعدها ذلك على أداء مهمتها في الدعوة لهذا الدين العظيم، ذلك الدين الذي جعلنا خير أمة؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما قال ـ تعالى ـ: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ)) [آل عمران: 110] فإن وجدت في نفسها الكفاءة والقدرة للدعوة لهذا الدين العظيم في محيط مجتمعها فينبغي ألا تدخر جهداً في ذلك؛ فهذا واجب عليها. فإن لم تستطع فبإمكانها الدعوة بين أقربائها وجيرانها، فإن لم تستطع فيكفيها أن تنشئ أبناءها على العقيدة السمحة، وتربيهم التربية الصالحة، وتبث في نفوسهم حب هذا الدين والولاء له والبراء من أعدائه، وأن تشرح لهم معنى قوله ـ تعالى ـ: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...)) [المجادلة: 22] لأننا اليوم في أمسّ الحاجة لكي يعلم أبناؤنا ما يخططه لنا الغرب الصليبي واليهود الحاقدون ومن شايعهم في محاولتهم الخبيثة لتذويب شخصية شبابنا المسلم في بوتقة الانحراف، وإبعادهم عن هويتهم الإسلامية الصحيحة؛ ففي هذه الظروف التي نراها الآن وتعيشها الأمة الإسلامية وقد تداعت عليها الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتها، نرى أمتنا وقد هانت على أعدائها وتكالبوا عليها لتضليل أبنائها ونهب ثرواتها وخيراتها.. فهم كما نرى يصطنعون الأحداث في بلادنا ويضعون لها الحلول.. يخططون وينفذون ما يريدون؛ ففي مثل هذه الظروف يجب أن تتكاتف الأيدي جميعاً.(5/19)
فلتكن المرأة المسلمة عوناً للرجل تسانده وتشجعه بالدعوة لهذا الدين والذود عنه، فلا تضيع وقتها فيما لا يعود عليها ولا على أمتها بالخير؛ فالعمر هو الوقت، والمسلم سوف يسأل عن عمره فيما أفناه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن رزقه من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)(2).
فعلى المرأة المسلمة الحذر كل الحذر من أن تقع في شراك أدعياء تحرير المرأة؛ فإنهم يهدفون من وراء ذلك الطعم اصطيادها وتحللها من دينها وقيمها وأخلاقها؛ وحينها تكون ذيلاً لهم وتابعة ذليلة لمناهجهم.
إن الأمر جد خطير؛ فلا بد من تعبئة كل القدرات وتهيئتها وتضافر الجهود وبذل الطاقات من أجل صحوة دينية نسائية صادقة هادفة تقوم على أسس هذا الدين ومبادئه؛ فقد آن الأوان لكي نرد لهذا الدين عزته، وللمؤمنين كرامتهم؛ فنحن أحق بأنفسنا من التبعية للأجنبي الغريب، بل نحن أحق بقيادة هذا العالم؛ لأن ديننا صالح لكل زمان ومكان، وهو ينشر العدل والأمن والسلام بين البشر وميزانه: ((إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات: 13] و (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى).
فللّه العزة ولرسوله والمؤمنين... ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
الهوامش :
(1) البخاري: كتاب الأنبياء، حديث (50) وكتاب الاعتصام، حديث (14). ومسلم: كتاب العلم، حديث (6).
(2) الترمذي: كتاب القيامة، حديث رقم (1).
==============(5/20)
(5/21)
ماذا يريدون من المرأة..؟!
مجلة البيان - (ج 149 / ص 62)
أساليب تغريب المرأة وآثارها
محمود كرم سليمان
الحمد لله ـ تعالى ـ والصلاة والسلام على رسوله. وبعد:
فإن فساد المرأة فساد للأسرة كلها وللمجتمع بأسره لما له من أثر عميق على الناشئة والشباب، ولعل أبرز ما نراه اليوم هو هذا التخطيط المرسوم بدقة والذي أخذ طريقه إلى المدارس والجامعات فأدى إلى تغريب المرأة وعلمنتها وابتعادها عن دينها.
كما أصبح الإعلام الحديث بجميع ألوانه سلاحاً يفتك بالمرأة ويغريها على الفساد خاصة أنه قد بلغ من الإبداع والتأثير قدراً كبيراً جعل من المستحيل مقاومة إغرائه، وقد اعتمد هذا الإعلام في معظم برامجه ومصنفاته الفنية والإعلانية اعتماداً محورياً على مظهر المرأة ومفاتنها سواء أكان في التلفاز أو الإذاعة أو الصحف والمجلات أو الإنترنت مؤخراً.
ولا شك أن الانحراف الخطير الذي تردت فيه المرأة قد أصبح ظاهرة واضحة في المجتمع تشهد عليه تلك الآثار المستشرية في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن خروجه عن مبادئ الدين الصحيح وتعاليمه الأخلاقية والإيمانية.
ولا يخفى على الناظر البصير أن هذه الظاهرة في معظمها هي ثمرة لمخططات الاستعماريين والعلمانيين التي وضعت بهدف إفساد المجتمع وتفريغه من المقومات المستمدة من دينه القويم وتراثه الخالد، وبذلك فَقَدَ قدرته على التماسك أمام ضربات الاستعمار الغربي وأصبح لقمة سائغة له.
وقد توسلت هذه المخططات بعديد من الشعارات الزائفة البراقة التي تتخفى تحت مبدأ مساواة المرأة بالرجل وتحرير المرأة من قيود الدين والعرف.
وإمعاناً في إتمام هذه الخطة الخبيثة تم وضع عملاء من أمثال (مرقص فهمي) الذي أصدر كتاب "المرأة في الشرق" ونادى فيه المرأة إلى رفع الحجاب والاختلاط بمحافل الرجال، وهاجم فيه أحكام الشريعة الإسلامية التي تحرِّم زواج المسلمة بغير المسلم ودعا إلى التمرد على هذه الأحكام.
\ وفي عام 1911م تأسس في مصر "حزب بنت النيل" الذي طالب بتحرير المرأة من الحجاب وتقييد الطلاق وكان من قياداته القديمة درية شفيق، وأمينة السعيد وغيرهما.
\ وفي عام 1913م دعيت هدى شعراوي لحضور مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي بروما، وكان من توصياته: العمل على تعديل قوانين الطلاق لوقفه، ومنع تعدد الزوجات، وتقرير حرية المرأة في السفور والاختلاط.
وأصدر قاسم أمين كتابه: "المرأة الجديدة" الذي نادى فيه بالاتجاه الأعمى إلى تقليد الغرب فكرياً واجتماعياً، وعلى دربه سار سعيد عقل ولويس عوض ولطفي السيد ونجيب محفوظ، وعديد من أعضاء المحفل الماسوني، ومن الشعراء صادق الزهاوي، ونزار قباني وغيرهم.
ومما زاد الطين بلة قيام زعيم وطني بتمزيق النقاب من فوق وجه فتاة مسلمة في أكبر ميدان في مصر، كما أمر زوجته بحرق الحجاب أمام الجمهور.
ومن فضل الله ـ تعالى ـ أن قيَّض للأمة الإسلامية في هذا الوقت علماء مجاهدين وقفوا بكل قواهم لصد هذه المخططات ولتفنيد هذه الدعوات المشبوهة مما كان له أثره في التخفيف من مساوئها.
الآثار التي ترتبت على إفساد المرأة:
أولاً: مؤشرات عامة تظهر عمق ما أصيبت به المرأة والمجتمع:
1- البعد عن الدين: وذلك بعدم معرفتها لعقيدته السمحة وفروضه وسنته وشريعته العادلة وأخلاقه الرشيدة، وكذلك عدم الالتزام بأداء العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وذكر وتلاوة وحفظ للقرآن الكريم واستغفار وحمد لله ـ تعالى ـ ودعاء وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
وقد تمرد بعضهن على تعاليم الدين وتنكرن لعقائده وعباداته وأحكامه مخالفات لقول الله ـ تعالى ـ:((ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ)) [البينة: 5].
2- اتباع الشيطان وهوى النفس: وبذلك تمرغت في أوحال الفسوق والانحلال، وسارت خلف نوازع النفس الأمارة بالسوء، وانطبق عليها قول الله ـ تعالى ـ: (($ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ)) [القصص: 50]، وأنكرت قوله ـ تعالى ـ: ((فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً (32) وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)) [الأحزاب: 32، 33] وقد ورد عديد من الأحاديث عن رسول ا صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنف من النساء نذكر منها:
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "إياكم وخضراءَ الدمن! قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء"(1).
روى النسائي أن صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية"(2).
وروى كذلك:"لعن رسول ا صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال"(3).(5/22)
3- التنكر للآداب الدينية: مثل الحجاب وغض البصر وعدم الاختلاط بالرجال إلا بضوابطها الشرعية؛ فهي لا تقيم وزناً لتعاليم الدين التي تنهى المرأة عن الخروج كاشفة لملابسها الفاضحة، أو متزينة بالجواهر والحلي البراقة، أو متعطرة، أو متحلية بالأصباغ في وجهها خارج بيتها حتى لا تفتن الرجال، وقد روى أبو هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم "صنفان من أهل النار: أحدهما نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها"(4).
4 - تضييع الوقت فيما يضر: فالوقت هو الحياة؛ وهذا الصنف من النساء يقتلن وقتهن في السهر في الملاهي التي تغضب الله ـ تعالى ـ كمشاهدة الأفلام الخليعة، وفي قراءة الكتب والصحف والروايات التي لا تراعي الآداب والأخلاق القويمة فيما تنشر، وفي مجالس الغيبة والنميمة والتآمر على الفضيلة وإفساد ذات البين، وغير ذلك من الآثام.
5 - مصاحبة أقران السوء: فالصحبة الفاسدة لها أثر كبير في نشر الفساد؛ فهي كعدوى الأمراض ينتشر خطرها بالاختلاط خاصة بين النساء والرجال كما سبق ذكره.
6 - انشغال المرأة بالعمل والاشتراك في النشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على حساب بيتها وأبنائها؛ والإسلام أباح للمرأة أن تعمل إذا الجأتها الضرورات الاجتماعية إلى العمل لا أن يكون هذا نظاماً عاماً، وعليها حينئذ أن تراعي الشروط التي وضعها الإسلام لإبعاد فتنة المرأة عن الرجل وفتنة الرجل عن المرأة.
وقد أثبتت التجربة الغربية الآثار السلبية لعمل المرأة، ونذكر منها:
في الولايات المتحدة دخل المستشفى أكثر من 5600 طفل في عام واحد متأثرين بضرب أمهاتهم العاملات لهم، ومنهم نسبة كبيرة أصيبوا بعاهات.
في مؤتمر للأطباء عقد في ألمانيا قال الدكتور كلين رئيس أطباء مستشفى النساء: إن الإحصاءات تبين أن من كل ثمانية نساء عاملات تعاني واحدة منهن مرضاً في القلب وفي الجهاز الدموي، ويرجع ذلك ـ في اعتقاده ـ إلى الإرهاق غير الطبيعي الذي تعاني منه المرأة العاملة ـ كما تبين أن الأمراض النسائية التي تتسبب في موت الجنين أو الولادة قبل الأوان قد تعود إلى الوقوف لمدة طويلة أو الجلوس المنحني أمام منضدة العمل أو حمل الأشياء الثقيلة، بالإضافة إلى تضخم البطن والرجلين وأمراض التشوه".
\ توصلت نتائج دراسات أذاعتها وكالات أنباء غربية في 17/7/1991م إلى أنه خلال العامين السابقين هجرت مئات من النساء العاملات في ولاية واشنطن أعمالهن وعدن للبيت.
نشرت مؤسسة الأم التي تأسست عام 8391م في الولايات المتحدة الأمريكية أن أكثر من 15 ألف امرأة انضممن إلى المؤسسة لرعايتهن بعد أن تركن العمل باختيارهن.
في استفتاء نشرته مؤسسة أبحاث السوق عام 1990م، في فرنسا أجري على 2.5 مليون فتاة في مجلة ماري كير كانت هناك نسبة 90% منهن ترغبن العودة إلى البيت لتتجنب التوتر الدائم في العمل ولعدم استطاعتهن رؤية أزواجهن وأطفالهن إلا عند تناول طعام العشاء.
\ وفي الولايات المتحدة 40% من النساء العاملات، وفي السويد 60% منهن، وفي ألمانيا 30%، وفي الاتحاد السوفييتي (سابقاً) 28% يعانين من التوتر والقلق وأن نسبة 76% من المهدئات تصرف للنساء العاملات.
أما في الاتحاد السوفييتي فقد ذكر الرئيس السابق "جورباتشوف" في كتابه عن البروستريكا أن المرأة بعد أن اشتغلت في مجالات الإنتاج والخدمات والبناء وشاركت في النشاط الإبداعي لم يعد لديها وقت للقيام بواجباتها اليومية من أعمال المنزل وتربية الأطفال.
وأضاف قوله: "لقد اكتشفنا أن كثيراً من مشاكلنا في سلوك الأطفال والشباب وفي معنوياتنا وثقافتنا وإنتاجنا تعود جميعاً إلى تدهور العلاقات الأسرية، وهذه نتيجة طبيعية لرغبتنا الملحة والمسوَّغة سياسياً بضرورة مساواة المرأة بالرجل".
\ وفي دول الخليج ظهرت مشكلة من لون آخر فقد زاد عدد المربيات الأجنبيات بسبب عدم تفرغ الأم لرعاية أطفالها، ولو وضعنا في الاعتبار أن نسبة كبيرة من هؤلاء المربيات غير مسلمات، وأن معظمهن يمارسن عباداتهن الخاصة أمام أطفال المسلمين، وأسوأ من ذلك أنهن يزاولن علاقات جنسية مع أصدقاء في منازل مخدوميهن بالإضافة إلى احتسائهن للخمر وتدخين السجائر بمصاحبة الأطفال، ومن ذلك ندرك حجم الخطر الذي يهدد الأسرة المسلمة بسبب تحرر المرأة من تعاليم دينها وإهمالها لواجباتها نحو أولادها وبيتها.
ثانياً: مشكلات أصابت الأبناء من الجنسين:
وهذه مشكلات تشاهد في الجيل الجديد منذ الطفولة حتى من الشباب وتشمل مشكلات تربوية ومشكلات تعليمية وثقافية.
فالمرأة الصالحة ذات الدين إذا كانت زوجة ولها أبناء تؤدي واجبها في تربية الأبناء ورعايتهم بما توفره للأسرة من سعادة، فينشأ الأبناء في رعايتها نشأة سليمة بدنياً ونفسياً وثقافياً بحيث يلتزمون بالعقيدة الصحيحة ويمارسون العبادة لله الخالق العظيم على أكمل وجه، ويتمسكون بالأخلاق الحميدة والسلوك السوي والصراط المستقيم والبر والتقوى.(5/23)
أما النساء المنحرفات فهن محضن لكل فساد، وقدوة سيئة لأبنائهن في كل نواحي الحياة وفي كل أعمارهم منذ طفولتهم؛ فهم لا يكتسبون منهن إلا القيم الفاسدة والعادات السيئة والصفات الذميمة، وهن يتركنهم بدون الرقابة الواجبة ولا التوجيه الرشيد؛ حيث تربيهم الخادمات الجاهلات أو المربيات الأجنبيات فيغرسن فيهم أسوأ الخصال وأرذل القيم؛ ولذلك آثار لا تمحى في أعماق نفوس الأبناء تلازمهم في مستقبل حياتهم مما يكون له نتائج لا شعورية في كل سلوكهم، وقد يؤدي إلى إخفاقهم في الدراسة والعمل بل في تكيفهم مع المجتمع.
أما دور الأم في تعليم أولادها وبناتها خاصة قبل سن التعليم فهو في غاية الأهمية؛ فإن الطفل يخرج إلى الحياة مجرداً عن العلم بأي شيء؛ تأمل قول الله ـ تعالى ـ: (($واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [النحل: 78]، والأم هي التي تقوم بتعليم أطفالها استخدام هذه الأجهزة الربانية في الحركة والكلام والأكل والإمساك بالأشياء واللعب، كما يتعلمون من الأم والأب وغيرهم من المصاحبين لهم اللغة، ويعرفون بالسماع أسماءهم التي ينادون بها، ثم يلي ذلك تعلم القراءة والكتابة البسيطة والنطق الصحيح للألفاظ ويحفظون اسم الله ـ تعالى ـ ومبادئ الدين.
وهذا الدور الهام لا يمكن أن تؤديه الأم المنشغلة عن أولادها التي تقضي وقتها خارج بيتها، كما لا تصلح له الأم الجاهلة بأمور دينها ودنياها وبواجباتها نحو أطفالها.
وعندما يجتاز الأطفال هذه المرحلة يكون دور الأم في تحصيل أبنائها العلمي مساعداً لدور المدرسة؛ فهي تعاونهم على أداء واجباتهم الدراسية في المنزل كما تهيئ لهم الأجواء المناسبة في البيت للشعور بالراحة والأمان والحنان والحب مما يكسبهم الثقة في النفس والتفاؤل والثقة في المستقبل، كما تتولى الأم الإجابة على تساؤلات أبنائها في هذه المرحلة التي يكونون فيها دائمي السؤال عن كل ما يخطر على بالهم؛ ويتوقف على مدى صواب إجابات الأم امتلاء عقولهم وقلوبهم بحقائق الحياة وتعرفهم على الفرق بين الحق والباطل والخير والشر والخطأ والصواب.
وأهمية دور الأم في هذه المرحلة في تعليم أبنائها دينهم ومراقبة ممارستهم للعبادات والتزامهم بالسلوك والأخلاق التي يحض عليها الإسلام وتعريفهم تعاليم الدين المتعلقة بالمجتمع وآدابه في كل شيء؛ وذلك استكمالاً لمقررات الدين في المدرسة ومراقبة تطبيقهم لهذه المعارف والآداب. وهناك أمور تحتاجها الفتاة من الأم تختص بها دون الولد تعتمد على علم الأم بها واهتمامها بها بتبليغ بناتها بها في الوقت المناسب وتدريبهن عليها، نذكر منها ما تحتاجه البنت من معلومات عند البلوغ وواجباتها الخاصة في تدبير المنزل وخدمة الأسرة لتعرف حقوق الزوج والأبناء والبيت عندما تتزوج.
وهذه الواجبات السابق ذكرها لا يمكن أن تؤديها الأم الفاسدة، أضف إلى ذلك أن فساد عقيدة الأم يؤدي إلى دفع أولادها نحو الالتحاق بالمدارس الأجنبية ومن ثَمَّ بالثقافة الغربية مما يكون له أثر بالغ في نشأة شخصيتهم غريبة عن مجتمعهم ودينهم.
ثالثاً:مشكلات أصابت الرجال من أزواج وأقارب كما أصابت المجتمع كله:
1- تأثيرها على الزوج:
حيث قد يدفعه فسادها إلى ارتكاب المعاصي وإلى طريق الشيطان والبعد عن الصراط المستقيم، كما أن عدم التزامها بالحجاب وتبرجها أمام الرجال يثير سخط زوجها وغيرته عليها مما يكون له أثره في ارتكاب الزوج لردود أفعال لجنون الغيرة غير محمودة العواقب.
والمرأة التي لا تحترم الحياة الزوجية تضر بالأسرة وتهدد بتحطيمها بالطلاق أو بإهمال الرجل لبيته أو بالاتجاه إلى زوجة أخرى، أو الهروب إلى المقاهي ودور اللهو؛ وكثيراً ما تكون سبباً في إدمانه للتدخين والمخدرات والمسكرات.
ومشكلة الطلاق في الغرب تعبر عن هذه الظاهرة في بلاد تعيب على الإسلام إباحته للطلاق؛ فقد بلغت نسبة الطلاق إلى عدد الزيجات في السويد 60%، وفي الولايات المتحدة الأمريكية 40%، وفي ألمانيا 30%، وفي الاتحاد السوفييتي 28%، وفي فنلندا 14%. ونذكر هذه الدراسة التي نشرتها مجلة شتيرن من ألمانيا أن ثلثي الراغبات في الطلاق في فرنسا يمارسن عملاً خارج البيت وأن 22% من حالات الطلاق في ألمانيا نتيجة الخيانة الزوجية، و10% منها لأسباب جنسية، و10% منها بسبب الإدمان.
أما في العالم العربي فقد وصلت مشكلة الطلاق إلى حجم غير مألوف مما يحتاج إلى دراسة مستقلة.
ومن المشكلات الاجتماعية عزوف المرأة عن الإنجاب؛ حيث لا ترغب في تحمل متاعب الحمل والوضع؛ وقد يدفعها ذلك إلى الإجهاض، وقد تقصر المرأة العاصية في تلبية حاجات زوجها الجنسية مما يؤدي به إلى الزنا أو الشذوذ.
وقد يؤثر ذلك على صحة الزوج بدنياً ونفسياً، ويجعله عرضة للأمراض الجنسية والنفسية وغيرها.
قد تدفع المرأة إلى انحراف زوجها مالياً لكي يحقق الثراء والكسب الحرام تلبية لمطالبها من الملابس الفاخرة والمجوهرات والسهرات الماجنة والحفلات الصاخبة.(5/24)
2 - تأثيرها على الرجال من الأقارب والآخرين:
المرأة التي لا تلتزم بتعاليم دينها في الحجاب وعدم الاختلاط بالرجال لها خطر عظيم على مجتمع الرجال، لذلك فقد حرص الإسلام على أن يباعد بين الجنسين إلا بالزواج لما يتبع هذا الاختلاط والتبرج من ضياع للأعراض وخبث للطوايا وفساد للنفوس وتهدم للبيوت وشقاء للأسر.
وقد لوحظ في المجتمعات المختلطة بين الجنسين طراوة في أخلاق الشباب ولين في الرجولة إلى حد الخنوثة والرخاوة.
والمرأة التي تخالط الرجال تتفنن في إبداء زينتها ولا يرضيها إلا أن تثير في نفوسهم الإعجاب بها؛ ولذلك أثره في الإسراف في تكاليف التبرج والزينة المؤدي إلى الخراب والفقر.
ويترتب على ذلك انتشار الفحشاء والزنا والأمراض المصاحبة لها في الدنيا، وفي الآخرة عذاب عظيم لمخالفة تعليم رب العالمين نذكرمنها قول الله ـ تعالى ـ: ((قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ولا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [النور: 30، 31].
وقوله ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ)) [الأحزاب: 95].
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم عن ربه ـ عز وجل ـ: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه"(5).
وروي عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "إياك والخلوة بالنساء! والذي نفسي بيده! ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما، ولأن يزحم رجل خنزيراً ملطَّخاً بالطين خير له من أن يزحم منكبيه منكب امرأة لا تحل له"(6).
أخرج النسائي: قول النبي صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية"(7).
وإثم مخالفة تعاليم الله ـ تعالى ـ لا تقف على النساء فقط بل على المخالفين من الرجال؛ ولا يعذرون عند الحساب لا في الدنيا ولا في الآخرة بأنهم كانوا فريسة لفساد النساء ولغواية الشيطان بعد أن حذرهم الله ـ تعالى ـ.
3 - تأثيرها على المجتمع كله:
هذه المشكلات التي تهز اليوم أركان الأسرة والمجتمع بشدة كمشكلة الاغتصاب وخطف الفتيات والأطفال غير الشرعيين وأولاد الشوارع كلها من آثار فساد المرأة. وقد ظهر حديثاً ظاهرة انتشار ما يسمى بالزواج العرفي الذي وضع الأسرة أمام مشكلات جديدة تضع غطاءاً يخفي الفساد الاجتماعي الناتج عن انحراف الفتيات ويؤثر على مستقبل الأجيال القادمة.
كما زادت نسبة جرائم الأحداث والتشرد والتسول والأطفال المعاقين وهي نتيجة لتحطم الأسرة الفاسدة وانحراف الزوجين وإهمال الأبناء.
وأخيراً:
هناك مشكلات اقتصادية تؤثر على المجتمع ترتبت على انحراف المرأة العاملة فضلاً عن انخفاض إنتاجيتها؛ فإنها تؤثر على إنتاجية زوجها وأولادها العاملين وتعوق تفوقهم في العمل وتفرغهم للإنتاج؛ ولذلك أثره المدمر على الاقتصاد الوطني.
وختاماً فإن الحمد والفضل لله ـ تعالى ـ الذي أنزل للإنسانية كتابه الكريم الذي فيه شفاء لكل أمراضها وعلاج لكل مشكلاتها وهداية لها من الضلال. وقال ـ عز وجل ـ: ((يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ ويَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ ويَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [المائدة: 15، 16]، كما تكفل ـ عز وجل ـ بحفظه إلى يوم الدين؛ حيث قال: ((إنا نحن نزّلنا الذَكر وإنا له لحافظون)) [الحجر: 9].
وذلك يبعث الأمل في الإصلاح بالرجوع إلى كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بهما والعودة إلى المجتمع الإسلامي الفاضل.(5/25)
ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا الإيمان ويوفقنا إلى طاعته ذكوراً وإناثاً وبذلك يتحقق صلاح الأمة بأسرها في الدنيا وتنال رضوان الله ـ تعالى ـ في الآخرة.
__________
(1) المسند لشهاب، 2/69، وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير، 2/971 (رواه الواقدي من رواية أبي سعيد الخدري وهو معدود من أفراده، وقد علم ضعفه).
(2) رواه النسائي، ح/6305.
(3) رواه ابن ماجة، ح/ 4981.
(4) رواه مسلم، ح/ 1793.
(5) المعجم الكبير للطبراني، 51/371، والمستدرك للحاكم، 4/943، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره العراقي وضعفه المنذري كما في كشف الخفاء للعجلوني، 2/734.
(6) مسند أحمد، 1/62، والتومذي، 4/564 وصححه الحاكم في المستدرك، 1/411 وابن حبان في صحيحه، 01/634.
(7) رواه الترمذي، ح/ 0172.
==============(5/26)
(5/27)
التغريب أخطر التحديات في وجه الإسلام
الأستاذ أنور الجندي
هناك محاولة خطيرة تستهدف دائماً معارضة القول بأن هناك: ظاهرة تغريب، وغزو ثقافي، أو محاولة احتواء للفكر الإسلامي، أو سيطرة فكر وافد.
وتحاول هذه المحاولة أن تعتمد على أمرين:
الأمر الأول هو القول: "أين هذه المؤسسة التي تسمى التغريب" ذلك لأن هذه المؤسسة ليست بناءاً مجسماً له دار ولافتة مكتوب عليها مدرسة التغريب أو مؤسسته وذلك هو تساؤل السذج الأغرار قصيري النظر البسطاء الذين يعدهم التغريب أحسن أدواته وأكثرها نفعاً لأنهم يقومون بخدمته دون أجر، وعلى حساب النوايا الطيبة.
والأمر الثاني: هو مداواة التابعين العملاء الذين هم كالحية الرقطاء يخادعون الناس ويخفون حقيقة ولاءهم.
ومع الأسف أن الذين يشككون في التغريب هم من النوع الأول: أولئك الحمقى الذين طبع الله على قلوبهم، وأعمى أبصارهم.
ذلك أن التغريب لم يعد بعد هذا الوقت الطويل موضع تساؤل أو تشكيك. وربما كان كذلك في الثلاثينيات حيث كان يغطي العالم الإسلامي والأمة العربية ظلام كثيف وكانت هناك حقائق كثيرة ما تزال محجوبة، ولعل أهمها: بروتوكولات صهيون التي ظهرت في العالم كله عام 1902 م حتى عام 1952 م تقريباً وإلى ما بعد أن قامت إسرائيل في قلب الأمة العربية.
ولقد كشف هذه الحقيقة دعاة التغريب أنفسهم، ولعل أول وثيقة في هذا المجال هي كتاب (وجهة الإسلام) الذي ألفه هاملتون جب مع جماعة من المستشرقين وأعلن فيه صراحة أن هدف البحث هو معرفة:
"إلى أي حد وصلت حركة تغريب الشرق وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا التغريب". وذلك للقضاؤ عليها.
ويمكن لقارئ الكتاب أن يستكشف مناهج التغريب واضحة، كالسهام تندفع في أعماق العيون الضالة والمضللة لتسقط عنها غشاوات الغباء والجهل. وجاء بعد ذلك كثيرون فأشاروا إلى ذلك وأوردوا المصادر والوثائق:
من العرب الدكتوران عمر فروخ والخالدي في كتابهم "التبشير والاستعمار" ومن الغرب: المؤرخ العالمي توينبي في كتابه (العالم والغرب).
وهناك عشرات الأدلة والوثائق التي تضع الحقيقة ناصعة أمام من يريدها لوجه الحق. ولا يمالئ فيها خاصة لأقطاب التغريب ودعاة الجنس وعمالقة الغزو الثقافي.
ومن يتابع كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" وهو سابق سبقاً بعيداً لكتاب هاملتون جب وقد ترجمه العلامة محب الدين الخطيب في جريدة المؤيد قبل أن يبدأ هذا القرن بسنوات وكان اسمه الحقيقي واضح الدلالة على الهدف هو: فتح العالم الإسلامي يجد أن القضية أكيدة واضحة وأن مخططاتها منسقة وموزعة على المؤسسات: مؤسسة المدرسة والجامعة عن طريق الإرساليات ومؤسسة الصحافة والثقافة عن طريق الصحيفة والمجلة والكتاب، ثم هناك مؤسسة أخرى أشد خطراً ظهرت من بعد هي مؤسسة القصة والمسرحية والشاشة والإذاعة المسمومة والمرئية.
وليس بعد ذلك دليل على وجود هذه الحقيقة: حقيقة التغريب ولها دعاتها وكتابها المنبثون في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولعل من يطالع بعض الاجتماعات التي عقدت في إحدى دور الصحف الكبرى يجد أن الأمر واضح وجلي وليس في حاجة إلى دليل جديد أمام الإغرار الحمقى، الذين أعماهم حرصهم على أن يكونوا أتباعاً أذلة للأسماء اللاحقة من كتاب الجنس والقصة. وأن يكونوا ثماراً فجة في هذه الشجرة الملعونة التي شاخت وتحطمت.
ولاريب أن من يرى مؤسسات التبشير والاستشراق وما يصدر من شبهات وتحديات يحكم بما لايدع مجالاً للشك بوجود هذه الظاهرة وحركتها الدائبة.
إن مفهوم مصطلح التغريب في عشرات من تعاريفه إنما يعني: خلق عقلية جديدة تعتمد على تصورات الفكر الغربي ومقاييسه لتحاكم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي من خلالها بهدف سيادة الحضارة الغربية وتسييدها على حضارات الأمم ولاسيما الحضارة الإسلامية.
ولقد ذكر المبشرون والمستشرقون أن هدفهم هو خلق أجيال تحتقر كل مقومات الحياة الإسلامية بل الشرقية وأبعاد العناصر التي تمثل الثقافة الإسلامية عن مراكز التوجيه. ولقد عملت حركة التغريب في موالاة عجيبة ودأب بالغ على تدمير الشخصيات العربية الإسلامية الباهرة وفي مقدمتها الرسول الكريم وصحابته وأبطال الإسلام، ومفكريه كما ركزت على إحياء النماذج الشاذة والإذاعة بها أمثال الحلاج والسهروردي وبشار وابن الراوندي.
ولقد جرت هذه المحاولات من منطلق براق هو الصحف الضخمة والمطبوعات الأنيقة، مع هالة الأسماء وبريق الألقاب وضجيج الشهرة.
واستخدمت أسلوب الأحكام المسبقة، وخلق الافتراضات ثم بناء نظريات على أساسها.
ولقد كان دعاة التغريب هم أكثر الناس إفساداً للمنهج العلمي الذي يدعو إلى التحذير من الحماسة والتقريرية والعاطفة والتعميم فسقطوا في هذه الأخطار وقارفوا هذه المحاذير، وإن واحداً منهم لم يستطع أن يصدع بكلمة الحق والإنصاف، وكانت كتاباتهم جميعاً مشوبة بذلك الاستعلاء والعدوان وعبارة الحقد وأسلوب التعصب.(5/28)
ولعل من أخطر محاولات التغريب هي محاولة وضع البديل في مواجهة الإصيل، والعمل على تقديم بدائل سريعة ذات مظهر لامع، وتحوطها هالة من الضجيج لكل فكرة أصيلة في محاولة لتحويل الرأي عنها في ظل طوابع من الإغراء والتزييف. وتحت اسم البحث العلمي والعبارات البراقة الخداعة.
وليست هذه الطريقة جديدة على الفكر الإسلامي، ولكنها سنة لكل العصور، ولعل أبرز ملامح تاريخ الفكر الإسلامي هو ذلك الكفاح الدائب دون هيمنة الفكر الوافد أو العقلية الخارجية التي سلطها عليهم اليونان والهنود والمجوس واليهود، ولقد بدت هذه المقاومة في صورة ملحمة رائعة كان أعلام المسلمين ومفكريهم ونوابغهم جيلاً بعد جيل يقاومون دون السماح لشخصية الإسلام الحضارية والفكرية ذات الطابع المتميز تحت اسم التوحيد أن تذوب أو تتلاشى في شخصية حضارية أخرى.
ولقد ظل المسلمون قادرون على ذلك في مجال الفكر في العصر الحديث بل لعلهم أقدر عليه في مجال الحرب والسلاح، وأن هذا الرفض ليتجلى في أروع صورة في صمود الجزائريين ومقاومتهم فناء شخصيتهم العربية الإسلامية.
ولقد ظل أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث يوالون الدق على الطبول في مواجهة أخطر المحاولات الدائبة المستمرة لتحريف الفكر الإسلامي (أصوله وتعالميه وأحكامه) تارة بالنقص منها وأخرى بالزيادة فيها وثالثة بتأويلها على غير وجهها.
ولقد كان من أكبر الأخطار التي واجهتنا دون إرادة حرة، هي محاولتنا فهم كثير من الأمور من خلال مناهج الغرب ومقاييسه، هذه المناهج والمقاييس التي كونها الغرب من خلال ظروفه الاجتماعية وتحدياته التاريخية وتركيبه النفسي والاجتماعي.
إن هناك حقيقة لا سبيل تجاوزها أو إنكارها هو أن في العالمن ثقافتين: إسلامية وغير إسلامية ولا يمكن أن يلتقيا في إطار واحد، يخطئ البعض حين يظن أن "التغريب" هو حمل المسلمين والعرب على قبول ذهنية الغرب، وإنما الحقيقة أن التغريب هو محاولة خلق (دائرة فكر) تهدم إرادة المسلمين والعرب وتنتقص فكرهم وتشيع فيه الشبهات والمثالب، ثم لا تدفعهم إلى أي جانب من جوانب البناء أو النهضة مستمدة من أي فكر آخر.
ومن شأن دائرة هذا الفكر اللقيط، أن تحول بين المسلمين وبين أي حركة أو نهضة، وإنما تمسكهم ليدوروا في هذه الدائرة المغلقة، حتى ينتهوا، وتجعلهم يفكرون من داخل دائرة مادية خالصة، معزولة تماماً عن العقيدة الإيجابية المتكاملة التي علمهم إياها الإسلام وهداهم إليها منهاجاً للحياة قادراً على التقدم من ناحية وعلى مقاومة الغزو من ناحية أخرى.
وهم منذ ركنوا إلى هذه الدائرة الصماء فقدوا كل قدرة على الحركة الأصيلة، ذلك أن تركيب الفكر التغريبي الوافد، إنما استخدم أعظم ما استخدم تضارب المذاهب الغريبة وصراعها وأحيا في نفس الوقت كل ما أنشأته الشعوبية والزندقة والباطنية في الفكر العربي الإسلامي من مفاهيم وشخصيات، لتقيم من هذا كله تلك الدائرة التي تقتل النفس العربية قتلاً وتحول بينها وبين الحياة والحركة والبنالء والتقدم جميعاً في الذل والظلام والدوار حول وهم معلق وشبح كاذب.
ونحن نعرف أن شخصيتنا تستمد قوتها من قيمنا، فإذا انحرفنا عن هذه القيم فقدنا الطريق، وتهنا في البيداء وذلك هو ما قصد إليه التغريب واستطاع أن يحققه إلى حد كبير، ولعل أبرز محاولات التغريب هي الحيلولة دون قيام خط التقاء بينل العناصر والشعوب التي يجمعها فكر واحد في الأصل مصدره القرآن واللغة العربية ومنهج محمد بن عبد الله، وذلك عن طريق استهلاكها في الإقليميات والأمميات والمفاهيم التي تفصل القيم وتمزق العناصر التي وحدها الإسلام في كل متكامل جامع.
فإذا أضفنا إلى هذا محاولة هدم المجتمع وتقويضه بنشر الإباحية عن طريق القصة، وفلسفات الوجودية والهيبية وغيرها عرفنا إلى أي مدى تجرى المحاولة الخطيرة.
بل إن ما ألقي إلى العرب والمسلمين من مفاهيم الحرية والتقدم والديمقراطية والعدل الاجتماعي وغيره، إنما كان في الأصل هو "عطاء" الإسلام للبشرية كلها وللحضارة أساساً، قد أعيد إليها وقد شابه اضطراب كبير وإن غلف بأغلفة براقة لامعة.
ولعل أخطر محاولات التغريب إنما ركزت على تفريغ العقل والقلب العربي الإسلامي من القيم الأساسية المستمدة من التوحيد والأخلاق والإيمان بالله، ودفع هذه القلوب والعقول عارية أمام عاصفة هوجاء تحمل معها السموم والجراثيم عن طريق التعليم والصحافة والكتاب والمسرحية والفيلم والأزياء والملابس.
ومن ثم خرجت هذه المؤسسات جميعاً ذلك الجيل الذي حمل دعوة لالهدم وسار بها تحت اسم التقدم والحضارة وعمد إلى متابعة المستشرقين والمبشرين في تحريف التاريخ الإسلامي وتشويه مبادئ الإسلام وثقافته وانتقاص الدور الذي لعبه في تاريخ العالم، مع خلق شعور بالنقص في نفوس المسلمين.
وفي عشرات المجالات والقضايا عمل "التغريب": في مجالات التفرقة بين الإسلام والعروبة، وفي النظرة الجزئية، والفصل بين الدين والمجتمع، واللغة والتاريخ، وعن طريق إحياء الروابط القديمة التي أبادها الإسلام وقضى عليها نهائياً.(5/29)
ثم عمد إلى خلق شبح كريه أسماه القديم والماضي والتاريخ مع أمة واحدة من أمم الشرق والغرب لا تستطيع أن تدعي أنها انفصلت في أي نهضة عن ماضيها وتاريخها.
وأكبر الدعاوي الباطلة التي يثيرها التغريب هي عالمية الثقافة، والحضارة البشرية، ووحدة الفكر البشري وكلها دعوات لها دواخلها وغاياتها المريبة، التي تتمثل في مفهوم واضح هو "تذويب" الفكر العربي الإسلامي و "احتوائه" وصهره في بوتقة الأقوياء المسيطرين أصحاب النفوذ العالمي السياسي المسيطر.
ونحن نعلم أن لكل أمة ثقافتها وقيمها وذاتيتها وفاهيمها وتراثها ومزاجها النفسي الذي شكلته القرون المتطاولة والعقائد والقيم وأنه لا سبيل أن تنصهر إلا الأمم الصعيفة الذليلة، أما الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي فإنه من المستحيل أن ينصهر أو يذوب في أي معدة مهما كانت، ذلك لأنه أعمق جذوراً وأقوى قوة من كل قوى الأرض.
يمكن أن توصف حركة الغزو الثقافي الحديثة التي بدأت تعمل في العالم الإسلامي منذ سيطرة الاستعمار الغربي، أنها امتداد متطور لهذه الحركة التي يحمل لواءها خصوم الإسلام وأعداؤه في كل عصر لإخراجه من قيمه ولإتاحة الفرص للغزو الأجنبي في السيطرة والاستعمار.
وقد ارتبطت حركة الغزو الفكري "التغريب" بالاستعمار ارتباطاً عضوياً وليس ذلك شكلياً إن حركة "تغريب الشرق" هي دعوة كاملة لها نظمها وأهدافها ودعائمها ولها قادتها الذين يقومون بالإشراف عليها. وهي حلقة من مخطط واسع في تأكيد الاستعمار ودعمه قوامها عمل استعماري فكري بعيد المدى قصد به القضائ على معالم شخصية هذه الأمة وتحويلها إلى صورة غربية الملامح لتخليصها من القيم والمثل والتراث الذي يتصل بها والذي كان عاملاً على تكوينها خلال الأجيال الطويلة فقد كان الاستعمار يفهم أنه بعد أن سيطر على العالم الإسلامي بجيوشه وقواه العسكرية ونفوذه السياسي لابد يوماً أن ينسحب فكان لابد من وضع مخطط دقيق لإبقاء نفوذه في المناطق التي احتلها وكان لابد له أن يبقى حتى تتكون له طلائع تخلفه من أهل الأقطار نفسها، يؤمنون بفكره، ويسيرون في اتجاهه، ويخدمون مصالحه يكونهم عن طريق التعليم في مدارسه، ووفق أهدافه، وتكون أمانتهم له أكثر من أمانتهم لأوطانهم.
وليس كل من تثقف بالغرب، أو اتصل بالمستشرقين ودوائر الفكر الغربي كذلك. وليس كل من اتصل بالغرب وآمن به استمر على إيمانه، فإن الحقائق لا تلبث أن تنكشف عن زيف الاستعمار ومغالطته، فلا يلبث الأمر أن يظهر أن هناك خداعاً قوامه كلمات براقة، وشعارات تقول بتنوير الشعوب وتمدينها وتدعو إلى الحرية أو الإخاء أو المساواة أو ما شابه ذلك، ثم لا تلبث الأحداث أو تثبت تعصب الغرب وتناقضه، وائتماره بهذه الأمة وفرض سلطانه بالحديد والنار، هناك تتحول الأفكار عنه ويكفر به من كان قد خدع يوماً.
ولسنا في هذا الرأي نذهب إلى الغض من شأن الفكر الغربي أو نصرف وجوهنا عنه بل على العكس من ذلك، نحن لا نراه فكراً غريباً وإنما نراه فكراً إنسانياً في الأساس وأن انحرف في بعض مفاهيمه ونحن لا نقفل أبوابنا أمام الثقافات العالمية شرقية وغربية فقد شاركنا فيها، وكان لنا دورنا الكبير في بناء هذه الحضارة، دورنا غير المنكور عند المنصفين من كتاب الغرب ومفكريه.
ولكننا قبل أن نفتح الأبواب لكل الثقافات لابد أن نكون من متانة الاستعداد النفسي والذهني والروحي بحيث لا تبتلعنا ثقافات الأمم ولا تحولنا وجهة غير طريقنا، ولا تفسد معالم شخصيتنا الأساسية الواضحة.
فلقد نقلت أوربا ثقافتنا الإسلامية وأقامت عليها أسس حاضرتها ومع ذلك لم يتحجول وجهها عربياً أو إسلامياً أو شرقياً.
كذلك نحن، أمة مقوماتها وكيانها ووجهها ذو الملامح الواضحة، فلابد أن يبقى هذا "الأساس" ثم لنأخذ ما نشاء من حضارات الأمم وثقافاتها، وما يزيد شخصيتنا قوة وحياة ويدفعنا إلى الأمما في ركب الحضارة.
ولعل "حركة التغريب" لم تكن قاسية إلا بالنسبة لهذا الأمر فقد كانت صيحتها على لسان دعاتها وأتباعهم من كتابنا، إن الحضارة الغربية كل لا يتجزأ وأنه لابد من أخذها جميعها أو تركها جميعاً وهذا رأي مدخول فيه من الخطأ والاستهانة بالفكر نفسه ما فيه. فما من أمة تستطيع أن تأخذ كل ما عند الأمة الأخرى، ولقد عاشت الأمم تتقارض الحضارات وتقتبس الثقافات دون أن تتحول عن طوابعها الأساسية.
ولقد كان الاستعمار والنفوذ الأجنبي يعرفان أن السيطرة الكاملة على هذه الأمة أمر مستحيل فإن لها من مقومات شخصيتها القويةل الصامدة العنيدة، ومن أسس فكرها العربي الإسلامي القرآني ما يحول دونها ودون الاستسلام أو الركوع أو الخضوع لأي قوة خارجية أجنبية، فكان لابد من الحملة على هذه المقومات للقضاء عليها وتحويل وجه الأمة إلى قيم أخرى تدمر كيانها وتفرض عليها التسليم للقوى الخارجية في أن تسود وتمتد وتتوسع، وبذلك يبقى الاستعمار حياً في صورة أخرى من صور النفوذ الفكري.(5/30)
إذن فالتغريب هو محاولة "تغيير المفاهيم" في العالم العربي والإسلامي والفصل بين هذه الأمة وبين ماضيها وقيمها، والعمل على تحطيم هذه القيم بالتشكيك فيها وإثارة الشبهات حول الدين واللغة والتاريخ ومعالم الفكر ومفاهيم الآراء والمعتقدات جميعاً.
ولقد صور لورد كرومر منهج هذا العمل الذي اصطنعته فرنسا وإنجلترا وهلوندى في العالم الإسلامي حين قال: "إن ىالشبان الذين يتلقون علومهم في إنجلترا وأوربا يفقدون صلتهم الثقافية والروحية بوطنهم، ولا يستطيعون الانتماء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافته فيتأرجحون في الوسط ممزقين".
وكان هذا بالطبع هو الهدف من الإرساليات المختلفة التي غزت بلادنا في صورة مدارس وجامعات وفي البعثات الموجهة إلى أوربا وإلى عواصم الدول المختلفة بالذات.
وفي هذا، قال جبران إن الشباب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم يسوعية صار سفيراً لفرنسا والشاب الذي لبس قميصاً من نسج مدرسة روسية أصبح ممثلاً لروسيا وكان هذا هو الحق إلى حد كبير، فقد غزا الغرب الشرق، بجحافل من العلماء والمبشرين والمستشرقين والأثريين والصحفيين وشيدت مؤسسات ضخمة في مختلف عواصم العالم الإسلامي لفتح أبوابها لثقافة بلادها. وبدأ هذا النفوذ الفكري يعمل ويسيطر في مجالات المدرسة والجامعة والصحافة، والثقافة والتربية والطب والسينما والإذاعة.
وهكذا كان "التغريب" عملاً خطيراً دقيقاً قوامه الحرب المنظمة للقيم التي عاشت عليها أمتنا، في أسلوب مغلف بالضباب، يحاول أن يثير غمامة كثيفة من التشكيك والتحقير والاستهانة بكل ما لدينا من قيم باسم "القديم" البالي الموروث، ولم تمض سنوات قليلة حتى كان أبرز المسيطرين على "الصحافة" في العالم العربي والإسلامي من هؤلاء المتنكرين لقيمنا الذاهبين مع التغريب فقد كانت الصحف التي تعمل للمبادئ تسقط واحدة بعد أخرى، بينما ظلت الصحف التي تخدم التغريب تقوى وتتوسع. وفي مجال "الترجمة" كان الهدف هو إذاعة القصة المكشوفة والآراء المسومة، وفي الأدب بث فكر جديد قوامه القصص وفي مجال المدرسة كانت تقدم الكتب التي تنتقص من قدرنا وتصم تاريخنا بالضعف وماضينا بالذلة وسيطر على الجو الفكري كله تيار جديد هدام قوامه الاستهانة بكل القيم وفي مقدمتها الدين والمعنويات، كما فرضت الحضارة على بلادنا أسوأ ثمراتها، لم ترسل لنا إلا تجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو بغية تحطيم كيان المجتمع، وبدت في جو مجتمعنا ريح تدعو إلى الرخاوة والمتعة واللذة والتخلص من كل القيود.
ولم تكن هذه الدعوة تهدف إلا إلى تدمير القيم الأساسية لهذه الأمة، قيم المقاومة والصلابة والتصميم وتحويل نظر الأمة عن الجهاد والتضحية والفداء في سبيل الحرية.
كان هدف التغريب واضحاً هو محاولة قتل شخصيتنا، ومحو مقوماتها وتدمير فكرها، وتسميم ينابيع الثقافة فيها.
وفي هذا المجال برزت الدعوة إلى التحرر من طابع العروبة وطابع الدين وجرت الشعارات الجديدة في الارتباط بحضارات البحر الأبيض وبأن مصر جزء من أوربا، وبرزت دعوات الفرعونية في مصر والفينيقية في الشام والأشورية في العراق، وبرزت النعرات القديمة باسم مسيحي ومسلم، وعربي وبربري، وعربي وكردي، وكان الاستعمار هو الذي يحمل لواء هذه الدعوات ويثيرها ويقلب جمرها، ويخرجها من كهوف الماضي ليمنحها الحياة ويجمع حولها بعض أعوانه عن طريق الفكر والكتابة بغية تقسيم الأمة.
ولم يمض وقت طويل حتى اعترف كتاب الغرب بحركة التغريب وجاءوا يبحثون مدى ما وصلت إليه وما حققته من هدف. وقال جب في كتاب "وجهة الإسلام" إن حركة التغريب كانت بعيدة المدى بإنزال الإسلام عن عرشه في الحياة الاجتماعية.
وقد عملت "حركة التغريب" في جملة ميادية، بدأ العمل فيها غربيون نزلوا إلى المعركة قمة، ثم أسلموا مقاليد الأمور من بعد إلى كتاب من العرب والمسلمين، حتى يبعثوا الثقة في نفوس المواطنين إلى الصوت الأليف الذي يجد الصدى، وفي كل ميدان من ميادين العمل كان النفوذ الأجنبي يجد من يعاونه من أبناء الأوطان، وإذا كان هجومه على الدين قاسياً، فإن من المؤسف أن نجد كثيراً ممن حمل لواء هذا الهجوم من الذين ثقفوا أول الأمر ثقافة إسلامية وكانت اللغة والدين في الأغلب هما الميدانان الكبيران للعمل البعيد المدى، وإن كان التغريب لم يترك ميداناً دون أن يوغل فيه ويسممه ويبعث فيه الشك.
وكانت كلمة "حرية الفكر" والتقدمية، ومقاومة الرجعية، والتطور من الكلمات البراقة التي لعبت دوراً كبيراً في خداع الجماهير.
واستطاع التغريب أن يجد المنافذ المرنة الماكرة إلى ما يريد دون أن يصطدم بالعقائد أو يواجه المواقف الحرجة.(5/31)
وإن كان المبشرون قد هاجموا المقومات صراحة، وقاموا بعملهم في عنف أول الأمر، فإنهم لم يلبثوا أن تحولوا عن هذه الخطة، واختفوا من المسرح، واستبطنوا أهدافهم، وحولوها إلى صورة أخرى أكثر دقة ومكراً. فبرزت أحاديث صورية فيها تمجيد للدين وللغة ولمقومات الأمة فإذا تخدرت أفكار القراء، ووثقوا بالكاتب وكتاباته، بدأت عملية التشكيك الخفي، المدخول الدقيق، بل إن بعض الكتاب الذين عملوا مع التغريب وهاجموا المقومات الأساسية في أول الأمر ولم يلبثوا بعد قليل أن تحولوا مظهرياً، وخاضوا الحديث في أقدس مقدسات الأمة، عاملين على كسب الثقة الشعبية العامة في هذا المجال، حتى يتأتى لهم من بعد أن يحققوا في الخفاء ما يهدف إليه دعاة التغريب، لقد اختفت المعركة من على المسرح ودخلت إلى الكواليس، وأصبح مجال العمل، هو مناهج التعليم نفسها، أو مقالات الصحف أو فرض المذاهب الفكرية الغربية، وتأكيدها والاختفاء وراءها. وخاصة ما يتصل منها بمقاومة القيم العربية الإسلامية، كالمذاهب المادية والنظريات الفلسفية والنفسية التي تدمر قيم الإنسان وتعريه وتكشفه على نحو يقلل من كرامته، وفي هذا المجال ظهرت عشرات من النظريات والمذاهب والفلسفات المضطربة الذاهبة إلى كل مجال، وكان من شأن إذاعة هذه المذاهب والنظريات إحداث بلبلة فكرية من شأنها أن تقضي على الإيمان بالقمومات الأصلية. وتدفع الفكر العربي الإسلامي في متاهات وتخبطات.
بل إن الخطط التي قدرها الغربيون إزاء موقف المسيحية والكنيسة حين حاولت أن تقف أمام النهضة والحضارة، فقد حاولوا نقلها إلينا مع الفارق البعيد بين موقف الإسلام من الحضارات والنهضات وموقف المسيحية، فلقد كان الإسلام قادراً دائماً على مواجهة كل تطور، وفيه من السماحة والتفتح والاستجابة ما جعله صالحاً لكل زمان ومكان، فكان هذا الاتجاه في نقل موقف الغرب من جمود الكنيسة ليس إلا لوناً من هذه البلبلة الفكرية التي هي قوام دعوة التغريب.
ولم تكن حملات التغريب على القيم والمقومات والتاريخ واللغة والدين في الشرق قائمة على أساس علمي على نحو ما يذهب إليه أسلوب البحث العلمي، وإنما كانت حملات يغلب عليها الهوى والتعصب وتسيطر عليها ريح الحقد والاستعلاء وخلق الفوارق البعيدة بين الجنس الأبيض وغيره من الأجناس مع سيطرة فكرة التفرقة بين أصحاب الحضارة وبين الشعوب التي كان لها دور من قبل في رحمل الحضارة، حين كانت أوربا تعيش في الوحل والظلام، فإذا أضيف إلى هذا ذلك الإصرار العجيب على إنكار فضل العرب والمسلمين على الحضارة على نحو فيه مغالطة وإنكار لوقائع التاريخ نفسه تبين إلى أي مدى يذهب دعاة التغريب، فآسيا هي المتبربرة، وأوربا هي المتحضرة وليس أكذب ولا أبعد عن الحقيقة ما يحاول الغربيون أن يقولوه في هذا المجال من أن التاريخ والحضارة قد بدأت من أثينا ومرت على روما.. ثم اختفت ألف سنة لتظهر من جديد في حركة النهضة، أما ما قبل النهضة فلا شيء، وفي هذا الرأي ما فيه من الخطأ ومجافاة الحقيقة والواقع.
فإن قبل أثينا كانت حضارات النيل والفرات، وقبل النهضة كان المسلمون والعرب في دورهم الضخم البعيد المدى حين حملوا لواء الحضارة والفكر، وترجموا آثار اليونان وزادوا فيها وأضافوا إليها وحققوا الأسس الكبرى التي قامت عليها الحضارة فيما بعد.
والحق أن حركة تغريب الشرق قامت على المغالطة والتضليل، ومحاولة مسخ القيم والقوميات العربية والإسلامية وإدخال قيم ومقومات جديدة تهدم شخصيتنا وتصيرنا مسخاً لا هو من الشرق ولا هو من الغرب ثم هي بعد ذلك تنكر دورنا وتحاول أن تغض من شأن لغتنا وتاريخنا وتراثنا على نحو لا يصمد أمام البحث العلمي الصحيح، وهو ما تكشف بتوسع في مختلف مجالاته وجوانبه.
استهدف التغريب والغزو الثقافي للإسلام والعالم الإسلامي والأمة العربية هدفاً واضحاً مقصوداً لذاته هو الاستسلام للسيطرة الاستعمارية عن طريق تحلل القيم وتحرريف المفاهيم وإفساد الجذور والأسس التي تقوم عليها الذاتية العربية الإسلامية. وبذلك ينصهر المسلمون والعرب في الغرب وحضارته وثقافته انصهار الذليل التابع، الذي يعجب بها ويوليها وتابعها ويتطلع إلى مصادقتها والتبعية لها تبعية كاملة.
ولاشك أن تحقيق هذا الهدف هو أمر بعيد المنال، بالنسبة لأصالة الإسلام وفكره ومقوماته وجذوره العميقة الضاربة في التربة العربية الإسلامية خلال خمسة عشر قرناً كاملة ومع ذلك فقد عمد الاستعمار إلى تنفيذ مخطط ضخم في سبيل التغريب والغزو الثقافي، قام أساساً على موسيات ضخمة تحمل لواء العمل في مجال التبشير والتعليم والصحافة والاستشراق وكلها تناسق بين خططها وأهدافها لتحقيق غاية واحدة، هذه الغاية هي السيطرة الكاملة على العالم الإسلامي التي عجزت عنها الحروب الصليبية والحيلولة بين الإسلام وأهله وبين القوة والسيطرة والقدرة على الحياة والحركة تخوفاً من خطر مفزع متوهم يتمثل في انقضاض الإسلام على الحضارة الغربية وإسقاطها.(5/32)
وقد سار الغزو الثقافي متقدماً حملة الغزو العسكري والسياسي ومرافقاً لحملات الغزو التجاري والاقتصادي، عامداً إلى مهاجمة الإسلام واللغة العربية والقرآن والرسولل والتاريخ الإسلامي والقيم الأساسية في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية.
كما حرص الاتعمار من ناحية أخرى أن ينقل إلى العالم الإسلامي والأمة العربية الجوانب المضطربة من حضارته وفكره، وأغرق الفكر العربي الإسلامي بعشرات مكن حضارته وفكره، وأغرق الفكر العربي الإسلامي بعشرات من التحديات من خلال الفلسفات المتضاربة الإلحادية والإباحية وإذاعتها.
واتصل ذلك بالنظريات ذات المظهر العلمي البراق التي أوجدها الاستعمار ليحاول إقناع الشعوب الملونة بأنهم أقل من الشعوب البيضاء قدرة عقلية، وإن الرجل الأبيض هو الإنسان الذي خصته العناية الإلهية بتحضير الشعوب المتخلفة، وهي نظريات تبين من بعد أنها قد سقطت في بلادها، ولم تجد من يقبلها أو يعتنقها ولكنها نقلت إلى بلادنا لإثارة البلبة والاضطراب ضمن مخطط التغريب المتعدد الأضلاع.
والواقع أن هذه الفلسفات والمذاهب الغربية التي قذف بها الفكر الإسلامي لم تكن قائمة في الغرب على هذا النحو من التعدد في وقت واحد، وإنما جرت خلال فترة طويلة تمتد إلى أكثر من أربعمائة عام منذ عصر النهضة إلى اليوم ولكن التغريب أراد أن يدفع بها مرة واحدة إلى الشرق رغبة في إثارة الاضطرابات والشكوك وزلزلة العقائد ومع ذلك فقد استطاع الفكر الإسلامي وهو في مطالع اليقظة أن يواجه هذا الإعصار في قوة وأن يدحضه ويرده وكاد أن يقضي عليه لولا بقاء النفوذ الأجنبي المؤيد لحركة التغريب المسيطر عن طريق أعوانه وقد تمثلت هذه الحملات في تيارات متعددة أهمها:
إشاعة قضية الأجناس السامية والآرية التي تستهدف الانتقاص من شأن العرب.
مهاجمة لالدين بعامة والإسلام بخاصة واتهامه بأنه سبب التخلف.
انتقاد العرب والمصريين واتهامهم بأنهم ظلوا مستبعدين لليونان والرومان.
إنكار فضل العرب على الحضارة الحديثة.
الحملة على العقائد والقيم.
الدعوة إلى التجزئة والإقليمية وإحياء الدعوات القديمة الفينيقية الفرعونية.
الدعوة إلى ما يسمى ثقافة البحر الأبيض.
إذاعة الفرقة والخصومة بين الأديان والأجناس: البربر والعرب، الدروز والموارنة، المسلمون والمسيحيون، السنة والشيعية.
وقد اصطنع التغريب في سبيل تحقيق أهدافه مؤسسات عدة أهمها "التبشير" وهي مؤسسة ضخمة عمل بها عدد كبير من المسلمين في بلاد الشرق، بإنشاء المدارس والمستشفيات والمعاهد التي اجتذبت أبناء البلاد وفق منهج مرسوم لإخراجهم من الإسلام، وكانت مؤسسة الاستشراق هي المصنع الذي يمد حركة التبشير بالمادة الخام التي تذيعها عن طريق الكتب والصحافة ومعاهد التعليم.
وقد عمد التبشير إلى استغلال الطلاب والمرضى، وتحويل عقائدهم والتأثير في مفاهيمهم وتحطيم معنوياتهم وتنشئة أجيال ممسوخة مبلبلة العقائد، مضطربة الثقافة، منكرة لقيمها وتراثها ولغتها وتاريخها ويمكن القول بأن المستشرقين هم طلائع المبشرين فقد غلب على معظمهم الهوى والتعصب، فلم يطبقوا المذهب العلمي الذي نادوا به في أبحاثهم، وكان جلة المستشرقين على اتصال دائم بوزارات المستعمرات.
وقد استهدف الاستشراق خدمة الاستعمار عن طريق العلم، وأسس جميع النظريات الاستعمارية التي قامت على التهوين من شأن الشرق والعرب والإسلام، وكلها نظريات انخدع بها باحثون أو خدعونا بها ورددوها في مؤلفاتهم، ولعل أهم ما ركز عليه الاستشراق والتبشير هو "الإسلام والنبي محمد"، فلقد أضافوا إلى مفاهيم الإسلام وتاريخ الرسول كثيراً من الافتراءات والإدعاءات الباطلة، وكان مرجليوث، وفنسنك، ولويس شيخو، وهنري لامانس من أشد المستشرقين تعصباً ضد الإسلام ورسوله.
وقد كشف الباحثون المنصفون أخطاء المستشرقين وسوء نواياهم، من أمثال: حسين الهراوي، وعمر فروخ، وشكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب، ورشيد رضا، وقد استهدف مخطط التبشير أهدافاً أساسية واضحة.
أولاً: تشويه الثقافة الإسلامية والتراث العربي والإسلامي.
ثانياً: إفساد الخصائص المعنوية في البلاد العربية والإسلامية.
ثالثاً: خلق تخاذل روحي وشعوري بالنقص.
رابعاً: توسيع شقة الخلاف بين الطوائف والمذاهب وإثارة النزاع بين الأديان.
خامساً: إخضاع العالم الإسلامي والأمة العربية للاستعمار الغربي.
سادساً: إعداد شخصيات عربية تستسلم ولا تقاوم النفوذ الأجنبي.
وقد استطاع التبشير عن طريق التعليم تزييف التاريخ الوطني الإسلامي والعربي والطعن على العرب والإسلام.
ودفع المبشرون أعوانهم وتلاميذهم الذين خرجتهم معاهد الإرساليات إلى الصدارة في مجال الكتابة والصحافة وإثارة الشكوك والاتهامات وإذاعة الإلحاد والإباحة، ورمى اللغة العربية والإسلام بكل نقيصة.
وكان أبرز ما ركز عليه التبشير هو محاولة إخضاع الإسلام لمذاهب الفكر الغربي، وذلك بانتقاص حقيقة الإسلام التي تقوم على أنه عقيدة ونظام اجتماعي في آن واحد.
==============(5/33)
(5/34)
التغريب في ديار الإسلام
محمد حسن يوسف
عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!! [1]
قال ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: " ضب ": دويبة معروفة ... والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته. ومع ذلك فإنهم - لاقتفائهم آثارهم وإتباعهم طرائقهم - لو دخلوا في مثل هذا الصغير الرديء لتبعوهم .[2]
مظاهر التبعية
إن إتباع آثار اليهود والنصارى، ممثلا في اقتفاء آثار الغرب في طرائق معايشهم ومناهج حياتهم، أصبح من الأمور المميزة لحياة المسلمين في هذا الزمان. وتتعدد مظاهر هذه التبعية في أمور شتى، أحاول استعراض أغلبها أو أهمها فيما يلي:
إعطاء أسماء أجنبية للمحال التجارية: فالسائر في الشارع يهوله هذا الكم الخطير من الإعلانات التي تحمل أسماء أجنبية، إما مكتوبة باللغة العربية أو - وهو الأمرّ - مكتوبة باللغة الإنجليزية. واستعرض فيما يلي طائفة لهذه المسميات: فهذا محل للسيارات يطلق على نفسه " الألفي موتورز "! بدلا من أن يقول " الألفي للسيارات ". ومؤسسة تعليمية تُسميّ نفسها " مودرن أكاديمي " بدلا من " الأكاديمية الحديثة ". ومحل تنظيف ملابس اسمه " فاست كلين "!! ولماذا يُسميّ محل تنظيف الملابس نفسه بهذا الاسم؟!! ومحل أدوات كهربائية اسمه " جمال إليكتريك هاوس ". ومحل ألعاب اسمه " r oyal Club ". و" ميوزيك سنتر " اسم محل لبيع الشرائط. ومحل " Blue Eyes " لبيع المستلزمات الطبية للعيون. ومحل إنشاءات اسمه " نيو ديزاين ". ومحل أجهزة تبريد اسمه " كول لاين ". ومحل للصرافة اسمه " كونتيننتال للصرافة ". ومحل للتحف يسمي نفسه " رياضكو للتحف " - ولا أدري ماذا تعني " كو " بإضافتها لاسم رياض. إن هذه مجرد أمثلة لأسماء عديدة غيرها تصدم المتجول بالشارع، وتجعله يشعر بأنه في بيئة غربية غير البيئة العربية التي يحيا فيها!!!
ومن مظاهر التغريب التي تصدمك في الشارع، تقليد سلوكيات الغرب وعاداتهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. تجد البنت ترتدي الملابس على الموضة الغربية، فتمشي في الشارع شبه عارية. وقلما تجد بنتا بدون أن يصاحبها ولد. فالبنت تمشي متأبطة بذراع الولد، ويتسكعان سويا في الطرقات. وأصبح من النادر رؤية بنت تمشي محتشمة تظهر زيها الإسلامي. بل أصبحت رؤية من ترتدي النقاب أو الخمار ومن يرتدي الجلباب ويطلق لحيته، أصبح ذلك محلا للسخرية والتهكم.
وفي أسلوب الحوار، تجدهم يحاولون إقحام كلمة باللغة الإنجليزية أثناء الحديث، حتى يبدو المتكلم وكأنه " مثقف "!! فلا يخلو الحديث من كلمات مثل " أوكيه " أو " هاي " أو " باي باي " أو " آلو " أو " صباح الخير " ... الخ. وفي ذلك هجران للغتنا وتقليل من شأنها، خاصة مع وجود البدائل لكل تلك الكلمات والعبارات في ديننا وفي ثقافتنا.
وبعد يوم العمل، تأتي أوقات الفراغ التي يحاولون " قتلها "، فتجدهم أمام شاشات التلفاز يشاهدون المسلسلات أو الأفلام التي تبث القيم الغربية البعيدة أو المنافية للإسلام، أو يتابعون المباريات، والتي غالبا ما تتعارض أوقات إذاعتها مع مواقيت الصلاة، فتجدهم يهدرون الصلاة في سبيل إتمام المشاهدة والمتابعة.
وفي التفكير والسلوك، هيمن النمط الغربي للسلوك على أفراد أمة الإسلام. فتجدهم يغرقون في الديون طويلة الأجل من أجل شراء بيت كبير أو سيارة فارهة أو غير ذلك من الكماليات. ولا يهتمون بما إذا كانت هذه المعاملات تَحْرُم لارتباطها بالربا أم لا. فإذا تكلمت مع أحدهم من أجل التصدق على بعض الفقراء أو غير ذلك من أوجه الجهاد بالمال وجدته يشيح عنك بعيدا مبديا تأففه وتبرمه.
وفي المأكل والمشرب. وضع لنا الإسلام آدابا تنظم طريقة الأكل والشرب. ولكننا هجرناها واستعرنا مفاهيم الغرب عوضا عنها. فانتشرت في شوارعنا ثقافة محلات تقديم الوجبات السريعة والسندوتشات والتي يمشي الناس يأكلونها في الشارع. أو يجلسون في تلك المحال فيأكلون على أنغام الموسيقى الصاخبة والأغاني الهابطة.
كل هذه المظاهر هي مجرد نماذج لما أصاب هويتنا في مقتل. ذلك أن أهم شيء فطن إليه أعداؤنا هو ما تضيفه إلينا هويتنا من عزة وفخار. فكانت محاولاتهم الدءوبة والمتكررة لمسخ تلك الهوية وتشويه صورتها. والآن وبعد وضوح هذه المخططات وآثارها على مجتمعاتنا، فإما أن نظل ملتزمين بهويتنا الإسلامية، وإما أن ننجرف مع التيار فيبتلعنا ونهلك وتكون الهاوية.
خطورة هذا النموذج على أمة الإسلام(5/35)
إن التقدم له أسباب ومظاهر. لم يتقدم الغرب بسبب أن شعوبه كانت تمشي تأكل في الشارع، أو لأن أولادها كانوا يأخذون بأيدي البنات ويهيمون على وجوههم في النوادي والملاهي، أو لأنهم كانوا يُقحمون كلمات غريبة عنهم في أحاديثهم. وإنما كان التقدم في الغرب لأسباب انتهجوها: تشجيع البحث العلمي، والتزام الأمانة والجدية في المعاملات، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتشجيع الموهوبين وإفساح المجال لهم، والتخلي عن النفاق، والاهتمام بالشباب ... إلى غير ذلك من القيم التي شجعوها وعملوا بها، فكانت سببا في تقدمهم.
فلما تحقق لهم ما يريدون من تقدم، أرادوا أن تكون لهم حضارة وقيم خاصة بهم، فكانت تلك المظاهر التي انتشرت بينهم في المأكل والمشرب والملبس والمعاملات بين البنات والأولاد. ولذلك فإن اقتباس هذه المظاهر دون العمل بالأسباب الدافعة للتقدم هو مجرد وهم وسراب، ولن يجلب تقدم أو يؤدي إلى تنمية.
إن الفرق بين الحضارة الإسلامية وبين غيرها من سائر الحضارات الأخرى، أن الحضارة الإسلامية عُنيت ببناء الفرد أولا بناءً شاملا، ثم بعد ذلك انتقلت إلى العمران المادي. كما أن حضارة الإسلام هي حضارة تقوم على الجانب الوجداني والقيم، ومنها الجمال والسمو. أما الحضارات الأخرى فقد عُنيت بالتشييد المادي وإعمار الحياة في ميادينها المختلفة، لكنها تتجاهل بناء الفرد من داخله، بل وتعجز تماما عن القيام بهذا الدور الذي تفرد به الإسلام دين الفطرة. كما تقوم الحضارات المستحدثة الدخيلة على ثقافة العشوائية، وليس لها جذور. ويتضح ذلك في شكل الملابس والسلوكيات وطريقة الكلام. وللأسف فالشباب عندنا اتخذوا النموذج الغربي " العشوائي " قدوة، واعتبروا الخروج عن القيم إبداعا وموضة.
وإننا إذا أردنا أن ننهض بأمتنا وأن نعيد إليها عزها المسلوب، علينا أن نقتدي بالرسو صلى الله عليه وسلم الذي أحيا الله به موات العرب، وأن نأخذ أنفسنا بالتربية الإيمانية فهي وحدها سبيل التغيير والتحويل [3].
يقول " يوجين روستو " مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون: " يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية. لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي.
إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا هي جزء مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه. وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي. ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها ".
إن روستو يحدد أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط. وأن ذلك ليس إلا استمرارا للحرب الصليبية [4].
إن التغريب، في أحد أوجهه، ليس إلا اللباس الثقافي للتصنيع. لكن تغريب العالم الثالث ( والذي تتكون معظم دوله من الدول المسلمة ) هو أولا، عملية محو للثقافة، بمعنى أنها تدمير بلا قيد ولا شرط للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية التقليدية، لكي لا يقوم مقامها في حينه سوى كومة كبيرة من الخردة، مصيرها إلى الصدأ ... إن هذا الذي يُعرض على سكان العالم الثالث، لكي يحل محل هويتهم الثقافية الضائعة، إنما يتضمن صنع شخصية وطنية عابثة، ذات انتماء خدّاع إلى مجتمع عالمي ( هو الغرب ) ... إن ضياع الهوية الثقافية الذي ينتج عن ذلك، أمر لا يقبل الجدل، وهذا يساهم بدوره في عدم استقرار الشخصية الوطنية سياسيا واقتصاديا. وما يتبقى بعد ذلك من الإبداع الوطني، يكمن في حالة تبعية إزاء ثقافة تبدو لها أجنبية، وإنها لكذلك [5].
سبل العلاج
? إن أولى خطوات العلاج في سبيل تأصيل هويتنا الإسلامية، هو تمسك الإدارات المحلية والبلدية بعدم إعطاء ترخيص للمحلات إلا إذا كان اسمها عربيا خالصا له معنى في اللغة العربية. ولنا في التجربة الفرنسية أسوة في هذا الموضوع. فقد تشددت فرنسا في عدم استخدام لغات أخرى غير اللغة الفرنسية في جميع المجالات، بل وصل الأمر إلى حد محاولة استخدام اللغة الفرنسية في تطبيقات الحاسب الآلي، حفاظا على الهوية الفرنسية من الضياع أو الاندماج في الثقافة الأمريكية. فيمكن استخدام الأسماء العربية في جميع ميادين الحياة. فتطلق هذه الأسماء على أسماء الشوارع والميادين والمدارس، بل وأسماء الفصول الدراسية في هذه المدارس. فبدلا من القول فصل ثالثة أول أو فصل ثالثة ثاني مثلا، يمكن أن يكون اسم الفصل خالد بن الوليد أو فصل الشجاعة أو فصل " القدس " ... الخ.(5/36)
? تخلي الأسر عن الطموح الجامح، وذلك بأن تعيش في حدود إمكانياتها، والتخلي عن مظاهر الاستهلاك الترفي والمظهري والعودة إلى الدين الصحيح بالالتزام بتعاليم الإسلام فيما يتعلق بعدم الجنوح والإغراق في الديون بغير داعٍ.
? وضع خطة للمبعوثين للدراسة بالخارج في دول أوربا الغربية أو الولايات المتحدة وغيرها، بحيث يكون لكل وفد رئيس من الواعظين ممن يستطيع أن يدحر الشبهات التي تلقى في وجه شبابنا أثناء تلقيهم العلوم بالخارج. كما يجب أن يكون من بين شروط الابتعاث للخارج حفظ قدر معين من القرآن، وليكن خمسة أجزاء على الأقل. كما يفضل تنظيم دورة سريعة لمدة ستة أشهر على الأقل لجميع الأفراد الذين وقع عليهم الاختيار للسفر للدراسة بالخارج يتم فيها دراسة علوم الدين والشريعة وبلغة البلد التي سيتم السفر إليها.
? على الإعلام التوقف عن الترويج للنموذج الغربي بكل قيمه الأخلاقية. فكيف تتحول " مغنيات الهبوط "إلى قدوة لفتياتنا؟ كما أننا نرى المذيعات في بعض المحطات الفضائية بغير الاحتشام المطلوب. فعلى كل المؤسسات أن تقنن الحرية داخلها حتى نعود للاعتدال، لأنه الوسيلة الوحيدة لحياة كريمة ومحترمة.
? كما أننا نفتقد لبيوت أزياء واعية باحتياجات الشباب تستطيع أن تعادل بين احتياجات الشباب والموضة والتقاليد وتطوعها حسب ظروف العصر. فنحن في أشد الحاجة إلى مؤسسة كبرى تدرس مطالب الشباب وتصنع لهم ما يرغبون في ارتدائه وبما يتناسب مع حضارتهم وهويتهم. [6]
? الاهتمام داخل الأسرة بحماية الأخلاق. فيجب على الأب أن يعود لدوره الأصلي في قوامة جميع أفراد أسرته. ذلك أن دور الأب انحصر في الآونة الأخيرة دور " الممول " المتمثل في مجرد جلب المال للأسرة، وترك جميع مقدرات الأسرة تدار بعيدا عنه.
? معرفة أهداف أعدائنا ومخططاتهم والعمل على التصدي لها. ذلك أن معرفة أن كل ما يحدث من حولنا إنما هو بتخطيط واعٍ وتدبير مدروس من القوى الغربية والصهيونية التي لا تريد لراية الإسلام أن ترتفع أبدا، إن معرفة ذلك والوعي به يضعنا جميعا أمام الطريق الصحيح للعلاج.
21 من جمادى الآخرة عام 1425 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 7 من أغسطس عام 2004 ).
-------------------
[1] متفق عليه: صحيح البخاري، 3456، و7320، وصحيح مسلم: 2669(6).
[2] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الحافظ/ ابن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية، 1407 هـ. ج: 6، ص: 574.
[3] القدوة منهاج ونماذج، د/ سعيد قابل، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ص: 97.
[4] الإسلام والغرب، د/ عبد الودود شلبي، مكتبة الآداب، 2004. ص ص: 55 - 56.
[5] التغريب: طوفان من الغرب، لواء/ أحمد عبد الوهاب، مكتبة التراث الإسلامي، 1990. ص ص: 13 - 14. نقلا عن: تغريب العالم، سيرج لاتوش، باريس، 1989.
[6] جريدة الأهرام، عدد يوم 27/7/2004.
==============(5/37)
(5/38)
غول التغريب كسر قيوده
الفضائيات والإنترنت تخلق هوية جديدة للشباب ...
وسائل الإعلام العربية تكرس القيم الغربية، ومسؤولوها لا يملكون رؤية ثقافية ...
البطالة وفشل الأجهزة الرسمية في استيعاب الشباب ساهمت في اندفاعه وراء التقليد الأعمى للغرب ...
الحل في تفعيل المؤسسات الرسمية، وتقديم الدين باعتباره خط الدفاع الأول ...
هل جاءت الفضائيات لنا لتكون نعمة أم نقمة؟
وماذا فعلت بنا شبكة الإنترنت؟ وماذا فعلنا بها؟
وما هو شكل المستقبل في زمن لم يعد يعرف حدودا بين ثقافة وثقافة وخلق وخلق ، بل ودين ودين؟
أسئلة حائرة كثيرة .. ما تزال تطرح نفسها علينا منذ سنوات دون إجابة، ولكن أعراض المرض ما تزال تصدمنا يمينا ويسارا، نلمحها في وجوه شباب لم نعد نقدر على تصنيفه، أهو منّا أم لا يعرفنا.. يحمل تراثنا أم لم يسمع عنه.
الشارع في أي من مجتمعاتنا الإسلامية أصبح لا يعرف الطريق الوسط، دائما هناك فريقان يمشي كل واحد منهما في ضفة من ضفتي الشارع.. فريق أغلق النوافذ والأبواب، عملاً بحكمة توصي بإغلاق كل باب يأتي منه الريح، وفريق آخر، ترك داره، وقرر أن يبيت في العراء نهبًا لعوامل التعرية التي تنحت دينه وخلقه وتراثه ولغته.. وثيابه.
المشاهد متكررة، ويمكن لأي واحد منا أن يمر بنفس التجربة إذا كلف نفسه عناء النزول إلى الشارع والسير على ضفتي الطريق ليرى شبابنا المنقسم على نفسه في موقفه من كل ما هو حديث ووافد في زمن صارت العولمة فيه مرادفة لكلمة التغريب، والثقافة العالمية لا تعبر إلا عن ثقافة الغرب وقيمه.
في جولتنا التي قمنا بها بين شباب مصريين مررنا بأحد المراكز التجارية بمدينة القاهرة .. سألنا إحدى الفتيات عن سر اختيارها لملابسها الغريبة المظهر، والتي يغلب عليها السواد، وشعرها الحليق بصورة هي أشبه بالرجال، مع مكياج صارخ ليس فيه شيء من الألوان المألوفة، مع حلق كبير وضعته في أنفها، فقالت: ما أفعله حرية شخصية، وهذا الحلق يضيف لي شكلا جديدا ومتميزا ولافتا للآخرين.
هل يضفي عليك شيئا من الأنوثة ؟؟ قالت: لم أفكر في ذلك، ولكنني رأيت هذا الزي في أحد أغاني الفيديو كليب الغربية فقررت تقليده.
اللافت للنظر أن نفس الحلق تقريبا، وأزياء لا تقل غرابة رأيناه في أنف شاب في نفس المركز التجاري، وعندما سألناه قال : إنه يشعر أن شكله أفضل مع هذا الحلق الذي يعتبره علامة على الرجولة !!
شاب آخر رأيناه يغطي شعره بطبقة كثيفة من "الجيل"، ويقول عن ذلك : إنه جرب أكثر من تسريحة حتى استقر على تسريحة بطل فيلم "تيتانيك" ليوناردو دي كابريو، وكان لهذه التسريحة دور كبير في جذب الفتيات إليه.
وفي المقابل فإن شابا آخر أقر لنا بأن ميوله صرفته عن ليوناردو دي كابريو ليقلد بدلا منه لاعب كرة القدم البرازيلي رونالدو الذي يحلق شعر رأسه كله، مؤكدا أن هذه "الصلعة" ساهمت هي الأخرى في جذب الفتيات إليه.
فتاة أخرى تقول : إنها تقاطع الراديو لأنه لا يقدم لها إلا الأغاني المملة، وهي تعشق الضجيج والحركة والموسيقى الصاخبة، وخصوصا موسيقى الجاز الأمريكية، وتقول : إنها تحب الأشياء المجنونة وغير التقليدية.
أما وليد مرسي فلا يحب الأفلام العربية، ولكنه يعشق أفلام "الأكشن" الأمريكية المليئة بالمغامرات فهو يستمتع بها جدا، وخصوصا أفلام جيمس بوند ويريد أن يزور أمريكا أو يعيش فيها.
أحد الشباب قال لنا : إنه يجيد أكثر من لغة أجنبية، وساهم عمله في السياحة بالاحتكاك على وجه الخصوص بالسائحين الألمان، وتعرف عن قرب على ثقافتهم وأعجب بها، ولهذا السبب فطالما أراد السفر إلى ألمانيا والعيش هناك بأية وسيلة، ولكن محاولاته المتكررة للسفر تحت غطاء الدراسة باءت بالفشل بعد أن وقفت الأموال حجرة عثرة في طريقه، وكما يقول هذا الشاب: أصبحت أعيش في غربة حقيقة، فأنا أعشق مجتمعا لا أقدر على العيش فيه ولا أنتمي إليه، وأعيش في مجتمع لا أحبه ولا أقدر على الانتماء إليه.
هذه بالطبع ليست كل أشكال التغريب التي يتعرض لها شبابنا من حيث التقليد الأعمى في الملبس وطريقة الكلام وأنماط التفكير الغريبة والتي وفدت إلينا عبر وسائل الإعلام المختلفة، لكن يبقى منها اقتناع الشباب بوجهات نظر غربية في قضايا متعددة مثل مفاهيم الحرية، ودور الأسرة في التوجيه، والدين وأحكامه، ومفاهيم من نوع السلام مع الكيان الصهيوني فضلا عن معرفته بأعدائه.
ولنعبر الآن إلى الجهة الأخرى من الشارع.. هنا فئة من الشباب أغلقوا كل الأبواب في وجه الاحتكاك بالغرب .. النوايا حسنة والارتباط بالثقافة والتراث قوي، ولكن هل يمكن أن يعيشوا في كهف يحميهم عن عيون العالم، ودون احتكاك به.
في المقابل على النقيض من الطرف الأول هناك شباب يفهمون التدين والالتزام على أنه فقط تقصير الثوب وتطويل اللحية والانعزال عن العالم ومقاطعة كل مفرزات الحضارة الحديثة وتقنياتها لأنها من الغرب ... ولا يرون في الغرب إلا الوجه الشيطاني .(5/39)
..هذان نموذجان يعيشان في مجتمعنا، ولكن فلنسأل أنفسنا ومتخصصينا الآن عن مساحات الصواب والخطأ في علاقتنا بالغرب، والوصفة التي تمكن شبابنا الواقف في مفترق الطريق بين التمسك بالتقاليد والعادات وبين الغزو الثقافي الغربي.
أزمة الهوية
يقول الدكتور السيد عليوة - أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان - إن الشباب يعاني من أزمة الهوية والتي لها أسباب منها : سرعة التغيير حيث يتغير العالم بصفة عامة بسرعة كبيرة في كل مناحي الحياة، ومن ثم فإن الشباب مصاب ببلبلة وتشتت وعدم قدرة على التكيف مع هذه المتغيرات تكنولوجياً واقتصادياً واجتماعياً.
ومن أسباب أزمة الهوية أيضًا التشتت النفسي بين الهوية والخصوصية وبين الحضارات الغربية وقيمها ورموزها وطريقة حياة الشعوب فيها، وأدى ذلك إلى تنازع في الهويات في ظل الهوية العالمية التي تموج بها المؤثرات الخارجية عبر وسائل الإعلام المختلفة.
ويؤكد د. عليوة على ضرورة اضطلاع المؤسسات داخل الدولة والتي تتمثل في وزارات الشباب وأجهزة الرياضة ووزارات التربية والتعليم وجميع المؤسسات العاملة في مجال الشباب بالإضافة إلى الأحزاب السياسية والجمعيات الخيرية بالدور المنوط بها لغربلة القيم الثقافية الوافدة، ونبذ الضار منها وتصحيح المفاهيم الخاطئة للشباب، بل وتحصينهم ضد الضار منها ووضع الحقائق جميعها أمامهم دون تزييف أو خلط حتى تكتسب هذه المؤسسات ثقة هؤلاء الشباب فيها.
ويتطلب هذا من الدولة إعداد قواعد بيانات حقيقية عن الشباب وقطاعاتهم المختلفة ومستوياتهم التعليمية وتوزيعهم إلى فئات عمرية وتوزيعهم جغرافيا بين الريف والحضر ، وكذلك دعم المنظمات العاملة في مجال خدمة الشباب مثل الأندية الرياضية والجامعات والمؤسسات الثقافية والإعلامية، ولا بد من قياس مدى نجاح هذه المؤسسات، ولا سيما إذا تم السماح لها بالعمل بصورة ديمقراطية في تكوينها وتنظيمها ونشاطها.
العودة للأصول
ويضيف د. شعيب الغباشي مدرس الإعلام بجامعة الأزهر قائلا : إن السبب الرئيسي في انحراف الشباب وتأثرهم بالوافد يرجع إلى غياب التربية الإسلامية والدور التربوي للمدرسة والجامعة ، وفقد وسائل الإعلام لدورها وعدم قيامها بالدور المطلوب فيها من حيث التوجيه والتوعية لهؤلاء الشباب.
وإذا وقفنا أمام وسائل مثل التلفزيون والإذاعة والصحافة نجدها هي التي كرست لهذا الغزو الثقافي المجنون، وهي التي دعت إليه ونادت به عن طريق دعواتها إلى الأفكار الغربية وتبنيها للفلسفات الأوربية بدافع التقدم ومواكبة الحضارة، وسبب ذلك يرجع إلى أن وسائل الإعلام هذه يقوم عليها مسؤولون متغربون، ورصيدهم من الثقافة العربية والإسلامية فقير أو معدوم فعلا، ولذلك فهم يرددون الأفكار الغربية ويدعون إليها حتى لو كانت تحمل جراثيم فتاكة لمجتمعنا الشرقي المسلم.
ويقول: نستطيع أن نقول : إن الأزهر - كمؤسسة دينية ذات ثقل - كان له دور رائد في التوجيه ، لكن خريج الأزهر صار من الضعف المعرفي والثقافي ما يجعله لا يستطيع الإقناع والتوجيه، وانعكس ذلك على جمهور المسلمين الذين يتلقون معلوماتهم وثقافتهم عن هؤلاء الخريجين الذين فقدوا القدرة على النصح ونبذ الثقافات المخربة والمدمرة.
والعلاج - كما يرى الدكتور شعيب الغباشي - يتمثل في العودة الفورية والحاسمة للدين واستلهام عاداتنا وتقاليدنا منه حتى يصلح الميزان ونخرج من هذه التبعية الاجتماعية والروحية بوعي وفهم، وخاصة أن ديننا الحنيف يدعو إلى التقدم والتحضر وليس دين تخلف ورجعية كما يروج له البعض.
آفة التقليد
أما د. إلهام فراج المدرس المساعد بقسم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة القاهرة فترى أن الغزو الثقافي الآن لا يأتي من دولة واحدة، بل يأتي من عدة دول وعدة ثقافات بعكس ما كان سائدا من خلال الثقافة الشيوعية والرأسمالية، حيث كنا نقول هذا شاب شيوعي أو رأسمالي، فالآن أصبحنا لا نستطيع أن نصنف ثقافة الشباب.
والعالم الآن لا يغزونا إلا بالسلبيات من خلال الأفلام والمسلسلات، وهو إعلام موجه وراءه جهاز إعلامي كبير على مستوى عالمي، والشباب الذي لا يقف ليفكر فيما يشاهده يندفع بصورة عشوائية للتقليد لتصبح الأمور أكثر خطورة، لدرجة أنني رأيت للأسف شابا يلبس "إيشارباً" لأنه رأى شابا أجنبيا يلبس هذا الزي، ولا يعرف هذا الشاب أن الأجانب الذين يقلدهم هم مدمنون لنوع خاص من المخدرات تأتي على شكل طوابع كطوابع البريد تلصق على الجبهة، ودور الإيشارب هنا هو إخفاء هذا الطابع المخدر.
والحل ببساطة من وجهة نظرها تقوم به الدول من خلال عمليات إصلاح شاملة للمؤسسات التي يتعرض لها الشباب مثل النوادي الرياضية والإعلام المرئي والمقروء ونشر الأفكار الصحيحة من خلال الاستعانة بخبرات المتخصصين في ذلك.
ومن الحلول الضرورية أيضا لهذه المشكلة القضاء على البطالة التي تستنفذ قدرات الشباب وتجعلهم فريسة لهذا التقليد الأعمى من خلال تضييع أوقاتهم أمام الفضائيات الأجنبية وأمام شاشات الكمبيوتر عبر شبكة الإنترنت.(5/40)
كما يبقى عامل الدين والتدين أمرا غاية في الخطورة والأهمية لأنه يمثل خط الدفاع الأول في عملية إصلاح الشباب.
عولمة السيطرة
أما الدكتور جمال النجار أستاذ ورئيس قسم الصحافة والإعلام بكلية الدراسات الإسلامية للبنات بجامعة الأزهر فيقول : إنه أعد بحثا حديثا بعنوان "تكنولوجيا الاتصال والغزو الثقافي" الذي يسعى لسلب الآخرين إرادتهم وطمس هويتهم وإيجاد نوع من السيادة الفكرية لحضارة معينة على مختلف الحضارات والثقافات، ويضيف أن الثقافة الأمريكية هي المرشحة للفوز في حلبة هذا الصراع الفكري نتيجة للسبق الإعلامي الفضائي وتفوقها في مجال التكنولوجيا مما يؤدي إلى تحول مباشر من قبل الشباب إلى القيم الأمريكية.
ويشير د. النجار إلى خطورة البرامج والمسلسلات الأمريكية التي تعرضها التلفزيونات العربية مثل : " دلاس- فالكون كريست- الجريء والجميلات .. الخ " والتي تسعى إلى ترويج قيم ومعايير اجتماعية وأنماط حياتية ومفاهيم ثقافية وسلوكية تخدم وجود ونفوذ الدول الاستعمارية حيث يتم مسخ الثقافات الوطنية وازدراؤها وتشويهها.
ويؤكد د. النجار على ضرورة إعداد كوادر إعلامية قادرة على صنع رسائل إعلامية قوية تسحب البساط من تحت أقدام وسائل الإعلام الأجنبية، وحتى تستطيع جذب شبابنا إليها وغرس القيم والمبادئ الصالحة في نفوسهم وتربيتهم عليها، كما يجب أن تتبنى أجهزتنا الإعلامية قضية الأمن الثقافي التي تحافظ على هويتنا الثقافية وعاداتنا وتقاليدنا الأصيلة
=============(5/41)
(5/42)
فتياتنا بين التغريب والعفاف
المقدمة (1)
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:102).
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" (النساء:1).
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب:70، 71).
أما بعد:
فياأيها الإخوة: يطيب لي أن نلتقي في هذه السطور مع موضوع طالما غفل عنه الكثير، موضوع يمس كل فرد في هذه الأمة، فما منا إلا وهو بين أم، أو زوج، أو أخت، أو بنت، أو قريبة، بل كل مسلمة على هذه الأرض لها من وشائج الصلة ما يجعلها مدار اهتمام المسلم، إنه موضوع أمهات المستقبل ومربيات الليوث القادمة، إنه يتحدث عن بناتنا بين العفاف والتغريب.
أيها الإخوة:
أكتب إليكم بقلم المحب المشفق الناصح المنذر. أكتب هذه الكلمات لأسباب عدة أوجزها فيما يلي:
أولاً: نبه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى خطورة المرأة إذا حادت عن سبيلها وضلت طريقها، ونبه أيضاً إلى أنها ثغرة قد ينفذ منها العدو.
إخوتي: قد يصمد الرجل أمام أعتى عدو وأقواه، يصمد في المعارك والحروب، ولكن هذا الرجل العملاق، هذا الرجل الهمام يفاجأ أنه كثيراً ما ينهار أمام المرأة بمغرياتها وفتنها.
وصدق من قال:
يصرعن ذا الجسم (2) حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا
هي الضلع العوجاء لست تقيمها
أتجمع ضعفاً واقتدارا على الهوى ... وهن أضعف خلق الله أركانا
ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أليس غريباً ضعفها واقتدارها
وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :"ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم من إحداكن ".
كم من رجل معروف بقوة الشخصية وشدة الشكيمة يعجز الرجال عن إقناعه، يتسلل من يعرف خفايا الأمور إلى إحدى نسائه، أمًّا أو بِنْتا أو زَوْجًا، فيصبح الممنوع ممكناً، والمستحيل معقولاً.
وقضية المرأة وأثرها على الرجل عجيبة، فإن أثرها ذو جانب نفسي، ولذلك نبهنا رسول ا صلى الله عليه وسلم ،فقال:" اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " (3).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :"ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" (4) وفي الحديث الذي يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ".
ولا شك أن هؤلاء النسوة لسن نساء العفاف والطهر والإيمان، فإن هؤلاء النسوة مما يستعان بهن على العصمة من الفتنة، وتاريخنا حافل بأمثال هذه النماذج الشامخة، فما خديجة وعائشة وفاطمة وأسماء، وبقية أمهات المؤمنين، ونساء الصحابة والسلف الصالح إلا أعظم دليل على ذلك، ولنضرب صفحاً عن قصص الشهيرات منهن كأمثال خديجة وغيرها، ولنذكر مثالين: الأول، في عهد الصحابة. والثاني: من القرون التي بعده.
الأول: عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركاً، أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينحتها عبد آل فلان، وإنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت؟ قال: فانصرف وفي قلبه ذلك ثم أتاها، وقال: الذي عرضت علي قد قبلت. قال: فما كان لها مهر إلا الإسلام(5). قال ثابت البُناني: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهراً من أم سليم.
فلله در تلك الأيادي التي ربت أنساً وأمثاله.
__________
(1) - أصل هذه الرسالة محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ ناصر العمر، وقد أذن لنا مشكورا بإخراجها، ونشرها، حتى يتم النفع بها.
(2) - بيت جرير, يصرعن ذا اللب.
(3) - رواه مسلم.
(4) - متفق عليه.
(5) - إسناده صحيح، انظر سير أعلام النبلاء 2/306.(5/43)
الثاني: روى محمد بن سويد الطحان، قال: كنا عند عاصم بن علي (الحافظ المحدث)، ومعنا أبو عبيد وإبراهيم بن أبي الليث وجماعة، وأحمد بن حنبل يضرب، فجعل عاصم يقول: ألا رجل يقوم معي فنأتي هذا الرجل فنكلمه (أي: المعتصم)، قال: فما يجيبه أحد، ثم قال ابن أبي الليث: أنا أقوم معك. قال: وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط، وفيه: يا أبانا إنه بلغنا أن هذا الرجل (المعتصم) أخذ أحمد بن حنبل فضربه على أن يقول: القرآن مخلوق، فاتق الله ولا تجبه، فو الله لئن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت" (1).
فبأمثال هؤلاء والله ملكنا الدنيا، شرقها وغربها.
وكلماتنا ستكون أكثر تركيزاً عن اللاتي تفرقت بهن السبل، وضللن طريقهن، وإلا فالأصل هن نساء العفاف والطهر، والشاذ غيرهن.
ثانياً: تساهل كثير من الناس وغفلتهم عما يجري داخل بيوتهم ومجتمعهم.
من الملاحظ -أيها الإخوة- أن كثيراً من الرجال والقائمين على البيوت فيهم الخير، وفيهم الطيبة والصلاح، ولكنهم يغفلون كثيراً وكثيراً عما يجري داخل بيوتهم، فكم لطمة خد، ولحظات إغماء من الرجال قد جاءت حسرة، ولات ساعة مندم.
ثالثاً: _وهو سبب رئيس_ ما يقوم به العلمانيون والمنافقون، والمستغربون تبعاً لأسيادهم من اليهود والنصارى، من تنفيذ مخططاتهم، وتغريب المرأة، وسلخها عن دينها.
أحبتي في الله:
إن الذي يجري في عالمنا الإسلامي أمر رهيب كما تحدث بذلك العلماء، وأخص منهم الأستاذ الجليل محمد قطب، في كتابه الرائع (واقعنا المعاصر)، الذي بين فيه ما يخطط له اليهود والنصارى، وما ينفذ بأيدي العلمانيين والمنافقين والمستغربين (أمر مدهش)، وكثير من أهل الخير والصلاح من دعاة وطلبة علم غافلون عما يجري، فضلاً عن العامة، ولهذا وصلت الحال في كثير من الدول الإسلامية إلى حال يندى لها الجبين.
رابعاً: هل الواقع الذي نعيشه في مجتمعنا ونراه صباح مساء من حال قضية المرأة هو الواقع الذي كان عليه سلفنا قبل مدة قصيرة ربما تقل (في بعضها) عن عشرين سنة؟
تساءلوا بعقل لا بعاطفة وأجيبوا على أنفسكم!! إن كل عاقل لبيب يعلم أن ذلك المجتمع في عمومه لا يمكن مقارنته، بل ولا تستساغ المقارنة مع مجتمعنا اليوم (2).
إن ما يجري وما نراه أمر كما سأبينه بعد قليل، نخشى والله من عقوبة تعم الصالح والطالح، إلا أن يتداركنا الله برحمته. إن ما يجري وما يرى أمر خطير، كما سأبينه بعد قليل، أخشى أن يجر علينا عقوبة تعم الصالح والطالح، إلا أن يتداركنا الله برحمته.
خامساً: هذا المجتمع -وكل مجتمع قام على الدين ونور الرسالة- هو مجتمع طيب، من هذا البلد انبثق نور الهدى فاستنارت به الأرض بأسرها، فحملته بقية الأمة إلى شرق الأرض وغربها، (وفي تاريخ الأمة) فرسخ في قلوبنا (عقيدة) هي أنه كلما ضعفت علاقة المجتمع بالدين والشرع حل فيه الضعف والهوان والفقر، وكلما أعاد النظر مرة أخرى وزادت صلته بدينه وبعقيدته عاد لقوته، وهيمنته، وسيطرته، وبسط الرحمة على الأرض.
من أجل الحفاظ على مجتمعنا، هذا المجتمع الطيب المبارك، ومن أجل أن تعود بقية مجتمعات الأمة إلى الأصل الذي به منحنا الخيرية. أكتب محذراً هذا المجتمع ومذكراً لإخوتي في المجتمعات الأخرى حتى تتبين لهم سنة الله التي أدركتهم، ومنبهاً لهم أن هذا يصبح مثلاً لحالهم فيما مضى، فمن أدرك طريق الهبوط قد يستدل به على طريق الصعود.
وقبل أن أشرع في الموضوع أود أن أعرِّف التغريب؛ لئلا تضيق الأفهام عند لفظه فتظن أن البلاء من الغرب فقط.
التغريب
هو: مجموعة الأفكار والمفاهيم والممارسات المتلقاة من الكفار، والتي يقصد بها صرف الأمة المسلمة عن دينها.
واشتقاقها من الغرب لغالبية دورهم في هذا المجال، وإلا فالكفر ملة واحدة،
وأنبه -أخي القارئ- إلى أنني سأركز على قضية التغريب تركيزاً رئيساً، وأختصر في قضية العفاف لسببين:
السبب الأول: أن الأصل في مجتمعنا هو العفاف، وكل بيت من بيوتنا -والحمد لله- يدرك معنى العفاف وأبعاده، ولذلك سيكون تعرضي له من باب الاختصار والذكرى والتنبيه.
السبب الثاني: أن الطبيب يذكر لمريضه مواطن المرض، وليس بالضروري أن يذكر مواطن العافية، فإنه إذا شرح لمريضه بأنه مريض ووصف له العلاج، فإذا اقتنع المريض بمرضه ووجد العلاج عند الطبيب فذاك، وإن لم يجد فسيبحث عن العلاج عند غيره.
إخوتي:
مهمتي هنا أن أقنع الكثير ممن يقرأ هذه الأحرف أن المرض يدب في أوصال مجتمعنا، فإذا اقتنع وأدرك هؤلاء وأولئك هذه القضية سهل عليهم -بإذن الله- تلقي العلاج والبحث عنه. هذه مسألة أحببت أن تكون مدخلاً لموضوعنا، فأقول والله المستعان.
مظاهر التغريب
__________
(1) - تاريخ بغداد 12/248، 249، وسير أعلام النبلاء 9/264.
(2) - انظر كتابنا مقومات السعادة الزوجية لبيان المعاملة الواجبة لمن قال فيهن قدوتنا r (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).
ما هي مظاهر التغريب التي نراها تنخر في المجتمع المسلم ؟ إنها مظاهر عدة اختصرها وأوجزها فيما يلي:
أولاً: السفور(5/44)
هذا الأمر أصبح عاديًّا عند كثير من فتياتنا وبناتنا، والالتزام بالحجاب لم يعد كما أمر الله ، بل ولا كما كنا نعهده في بعض مجتمعاتنا.
ألستم ترون معي المشاهد المخزية المتكررة يومياً، إن من يدخل أسواقنا اليوم قد يرى امرأة محجبة كبيرة في السن وبجوارها فتاة متبرجة، (وإن كانت كاسية)، تلبس الثوب الرقيق، الثوب الذي يصف البشرة، تلبس الغطاء الفاتن، ومن هذه يا ترى؟ إن هذه ابنة تلك _سبحان الله_! هذه المرأة كيف كانت، وكيف أصبحت؟ كيف أصبح أمراً مألوفاً عند هذه المرأة المحافظة المتحجبة أن تسير معها، وأن يكون في بيتها هذه الفتاة الكاسية العارية؟!
لا تتصوروا -أيها الأحبة- أن السفور هو في كشف الوجه فقط -لا- قد يكون كشف الوجه في بعض المجتمعات من أسهل أنواع السفور، وهو خطير ولا شك.
إن السفور أن تغطي المرأة وجهها، ولكنها تمشي وكأنها في صالة عرض لجسمها.
إن السفور أن تلبس الثوب الضيق والعباءة الجذابة منظراً وقصراً، والحجاب الذي يخضع أهل القلوب المريضة.
إن السفور أصبح في كثير من البيوت أمراً غير مستنكر، وهذا ما يزيد الطين بلة _كما يقولون_.
ثانياً: الاختلاط
إن هذا الأمر قد مسخ الفطر، وأفسد الأخلاق في كثير من مجتمعات المسلمين ولا ريب، ففي كثير منها اختلط حابلها بنابلها، وهذه مجتمعات تحتاج إلى نظرة أطول ووقفة أعمق.
ولكن بعضاً ممن لا ينظرون إلى هذا الأمر بشمول يظنون أن الاختلاط لا يكون إلا في المدارس أو الجامعات! أقول لهؤلاء: رويدكم رويدكم، فقد أبعدتم النجعة.
لا شك أن الاختلاط في الجامعات والمدارس جد خطير، ومرحلة متقدمة من المرض، ولكن هناك مجالات أخرى لا تقل خطورة، فالاختلاط في الأسواق أسوأ من الاختلاط في المدارس والجامعات أحياناً، وتجتمع مفاسد الاختلاط في المستشفيات بين الأطباء والطبيبات، بين المرضى والممرضات، بين المريضات والممرضين.
ولا يقل الاختلاط في الحدائق، وبعض الأعراس والمناسبات الاجتماعية، والمطاعم خطورة عن سابقيه.
إن هناك مظاهر كثيرة من الاختلاط تنذر بسخط الجبار -جل جلاله- فإياكم أن تأخذكم الغفلة، وتقولوا: إن الاختلاط تجل عنه مجتمعاتنا.
زعم السفور والاختلاط وسيلة
كذبوا متى كان التعرض للخنا ... للمجد قوم في المجانة أغرقوا
شيئاً تعز به الشعوب وتسبق
ثالثاً: الخلوة
أيها الأحبة:
كم ثلث الشيطان (1) رجلاً وامرأة قد اختليا _سبحان الله_ أيصحب الشيطان فتياتنا؟ نعم، إن هذا الأمر أصبحنا نراه صباح مساء.
ألستم ترون رجالاً قد صحبوا فتيات ونساء في سياراتهم، وواضح من شكل جلوسها وهيئة سائقها أنهما أجنبيان عن بعضهما. إنها صورة من صور الخلوة.
وصورة أخرى؛ إنها بين الخدم والسائقين ونساء البيوت.
أليست هذه خلوة؟ الخلوة هل يرضاها ذو غيرة وشهامة، فضلاً عن أن يكون ذا دين؟
بعض النساء ترفض أن تذهب مع السائق وحدها، بينما تأذن لابنتها أن تخرج مع السائق وحدها.
وهذا -كما قال الأستاذ محمد قطب- امتناع عن الخروج عادة لا عقيدة، لو كان امتناع الأم عقيدة لمنعت ابنتها، ولكنها العادة.
رابعاً: تحديد النسل
هذه الفرية التي بدأت تدب في مجتمعنا، وبدأنا نسمع من جعل تحديد النسل هدفاً من أهدافه.
_سبحان الله، سبحان الله_!! أسمع وتسمعون أن الرئيس الفرنسي يدعو لزيادة النسل، حتى وإن كان عن طريق غير مشروع، وهي دولة تعدادها بعشرات الملايين، ومساحتها وثرواتها لا تقارن بكثير من بلاد المسلمين.
وإن من زار أماكن صرف العلاج في أي بلد مسلم فسيرى عجباً، إن أقل الذي يعرض تكلفة هو وسائل تحديد النسل، بل إن في بعض هذه البلاد يكون من ضمن المعونات التي تقدمها الدول النصرانية لها كميات هائلة من تلك الوسائل. لماذا؟ لأن أعداءنا هم الذين يصنعونها، وهم الذي يصدرونها إلينا لأغراض في نفوسهم..
ذكرت إحدى الصحف المحلية أن رجلاً اتفق هو وزوجته على الاكتفاء بأولاد ثلاثة أو اثنين، فذهب بها إلى المستشفى لعمل عملية يوقف نسلها، وبعد نجاح العملية ذهب الزوج وأولاده لزيارتها، وبعد أن اطمأنوا على أن العملية قد نجحت خرج هو وأولاده، وفي أحد الشوارع وقع لهم حادث توفي على إثره جميع الأولاد.
وكأني بها عقوبة عاجلة قبل الآجلة، والله يمهل ولا يهمل، وإن في ذلك لعبرة.
خامساً: التغريب في اللباس
هل ما تلبسه كثير من بناتنا ونسائنا هو اللباس الشرعي الذي ارتضاه الله ورسوله لنا؟ أبداً وعزة ربنا.
إنه يخرج من دور الأزياء -وإن شئت فارفع الهمزات وأبدل الياء نونا- أتلك الدور في بلاد المسلمين؟ إنها الدور الباريسية الخليعة، والبيوت اللندنية المنحلة.
__________
(1) - إشارة لحديث: "ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما" رواه أحمد والترمذي وصححه شيخنا ابن باز.
والمدهش المحزن أن بعض نسائنا في بعض بلاد المسلمين قد تفصل الأزياء قبل أن تفصل في فرنسا وبريطانيا وغيرها.(5/45)
إن الأزياء مظهر من مظاهر التغريب ووسيلة من وسائله؛ ولذلك جاء شاعرنا ليقول متحدثاً عن الأزياء وعن اللباس الذي يرى على نساء المسلمين، وأصبح أمراً غير مستنكر حتى لدى بعض الموسومين بالخير، فتراه يلبس بنته إلى حد الركبتين، ويقول: إنها صغيرة:
إن الرماح إذا عدلتها اعتدلت ... ولا تلين إذا كانت من الخشب
ويقول غيره:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ... على ما كان عوده أبوه
وها هو شاعرنا يقول:
لحد الركبتين تشمرينا
كأن الثوب ظل في صباح
تظنين الرجال بلا شعور ... بربك أي نهر تعبرينا
يزيد تقلصا حيناً فحينا
لأنك ربما لا تشعرينا
إن هذه الأزياء لا تخلو من أمور تجعلها في زاوية الحظر الشرعي، فمثلاً:
التعري الفاضح في بعض هذه الأزياء، ومن أراد التحقق من هذا اللون من ألوان الانحلال فليكاشف مجلات الأزياء ومشاغل الخياطة.
محبة النساء الكافرات والإعجاب بهن، وهذا قادح في كمال عقيدة المسلم والمسلمة.
التشبه باليهود والنصارى وغيرهم، وهذا باب أوسع من أن يبسط.
التشبه بالرجال في اللباس، ولا نزال نسمع بالأزياء الولادية.
هذا فضلاً عن انتهاب ثروات الأمة، وجعل بعض نسائها تلهث وراء هذه الأزياء وتنسى مهمتها الأساس.
سادساً: قضية العادات الاجتماعية
حتى هذه القضية لم تسلم من التغريب، فكثيراً ما يطرق أسماعنا عبارات مثل: أعياد الميلاد للأولاد، وغيرها من الممارسات الدخيلة.
يقول أحد الفضلاء: اتصلت بي امرأة يبدو من حديثها أنها امرأة صالحة، تقول: أنا امرأة ملتزمة أريد أن أقيم حفلاً بمناسبة بلوغ ابني سنة أو سنتين، وهو حفل -كما تقول هي- ملتزم لا محرمات فيه، فما الحكم؟ سبحان الله! من أين جاءتنا هذه العادة، إطفاء شمعة، أو شمعتين، أو ثلاثة، أو عشر.
كثير من العادات والمناسبات محتاجة لأن توزن بميزان الشرع.
سابعاً: قضايا تتعلق بالزواج والتعدد
قضايا الزواج تغيرت وتبدلت، فالزواج الشرعي أدخل عليه ما هو منه براء - الحب قبل الزواج، اختلاء الخاطب بمخطوبته، الخاتم -الدبلة- التي تحفظ عهد الخاطبين -كما يزعمون-، وهناك أمور أخرى تبكي من كان له قلب، وتجعل العقد الشرعي أمراً رسمياً لا غير -والله المستعان- حتى التصورات العامة حول هذا الموضوع لم تسلم، فلا زواج للفتاة إلا بعد الخامسة والعشرين أو أكثر، ولا شاب يتزوج إلا بعد الثلاثين، بدعوى تكوين نفسه.
أما قضية التعدد فهي قضية مؤسفة محزنة، بدأنا نسمع من يناقش وهو متكئ على أريكته، ما رأيك في التعدد؟ _أعوذ بالله_ كيف نبدي رأياً في قضية حسمها القرآن الكريم، وانظر إلى الإجابة، هذا يؤيد، وهذا يعارض، وهذا يؤيد بشروط، وهلم جرا. وتنشر الصحف هذه المناقشات، وهي قضية حسمها القرآن الكريم، والنقاش فيها من حيث الأصل خطير يخشى على دين من يناقشها، وهناك فرق بين أن نناقش هل فلان يناسبه التعدد أم لا؟ وبين أن نناقش أصل القضية.
ثامناً: عمل المرأة في غير مجالها
وهذا المظهر من مظاهر التغريب التي تتفاوت مجتمعات المسلمين في ابتلائها به، فمن غارق فيها، وعائم يقاوم الغرق.
بدأنا نسمع من يتحدث عن قضية عمل المرأة في المصنع، وامتلاء مدارس البنات، فلماذا لا تعمل في المصنع مع المحافظة على العادات الإسلامية؟! هذه الكلمة التي أصبحت كالطابع تقال في كل مناسبة، وتمرر خلالها كثير من المخططات؛ لأن الخيرين طيبون.
وطيبتهم هنا ليست الطيبة الشرعية، فإنهم إذا سمعوا مثل هذا الكلام اطمأنوا، وإذا علموا أن مصنعاً يريد أن تختلط فيه النساء بالرجال، وقال أهله: نحن نحافظ على عاداتنا وتقاليدنا، ونحافظ على عفة المرأة، أجابوا بالرضا والطمأنينة، فما دامت هي معزولة، فما الذي يمنع.
وكما قال محمد قطب: "بطيء ولكنه أكيد المفعول" خطواتهم في هذه المجالات بطيئة ذكية، "ولكنه أكيد المفعول"،أي: أنه سيغرب المجتمع شاؤوا أم أبوا.
هذه بعض مظاهر التغريب، ولكن ما هي الوسائل التي أوصلت مجتمعاتنا إلى أن تشوه وجهها بتلك المظاهر؟
وسائل التغريب
ما هي الوسائل التي استخدمها الأعداء لتغريب المجتمع الإسلامي ؟
أهي رشاش وبندقية، أم مدفع ودبابة، أم هي حاملة طائرات وصواريخ؟ لو كانت كذلك لكانت أسهل وأهون، ولكن المتربصين بالأمة يعرفون مقوماتها الذاتية -التي تكفل لها بعد حفظ الله وتأييده- النصر في كل معركة مع الباطل. لذا استخدموا ما هو أخطر وأفسد وأشد فتكاً بالفتاة مما ذكر، لقد استخدموا الحرب مع تلك المقومات لدى محاضن الجيل المسلم، فما هي وسائلهم، وكيف كانت نتائجها؟
وسأقتصر في عرضي لها على أهمها:
أولاً: الإعلام
الإعلام يتحمل جريرة ما يجري في قضية تغريب المرأة المسلمة، وسأثبت هذا -بإذن الله- بالأرقام والإحصائيات، عن طريق المسلسلات والأغاني والأفلام، ووسائل الإعلام المقروءة.
أ) الصحف:
وهي نوع من الإعلام ذي الجرعات المنتظمة. أتعلمون كم يدخل إلى سوقنا في الشهر من الصحافة الماجنة التي تغرب المرأة؟ يدخل إليها أكثر من 40 صحيفة أسبوعياً أو شهرياً في غلافها فتاة لا تتكرر أبداً.(5/46)
وبلغ عدد الصحف التي تدخل إلى سوقنا شهرياً ما يزيد على خمسة ملايين نسخة شهرياً، وعندما ذكرت هذا الرقم في مناسبة جاء من يقول لي: لعل فيه مبالغة و_سبحان الله_! تقع في يدي إحصائية جديدة قبل أيام قلائل، من مؤسسة تصدر مجلات لا تخفى عليكم، ويظهر الرقم كالآتي:
إحدى المجلات التي تصدر عن هذه الشركة -واحدة فقط- وهي مجلة قصد بها تغريب المرأة، توزع شهرياً أربعمائة وأربعين ألف نسخة، والعجيب أن هذه الإحصائية تقول: هذا هو العدد الذي يشترى، لا العدد الذي يوزع، ولها مجلة أخرى توزع ثلاثمائة وثلاثين ألفاً في شهر واحد، من مؤسسة واحدة تصدر مجلتين، توزع قرابة ثمانمائة ألف لفتياتنا.
إذن، اسمحوا لي عندما أذكر لكم -أيها الأحبة- أنه يوزع خمسة ملايين نسخة، فهو رقم متواضع، وأنا متأكد أنه يزيد على هذا الرقم بكثير، ولكنني أتيت بالمؤكد الذي لا يقبل الشك.
من يشتري خمسة ملايين نسخة في شهر واحد؟ أهم غير المسلمين الموجودين بيننا، أم هي العمالة الوافدة من الشرق والغرب؟ إن نسبة من يقرأ العربية بينهم لا تذكر.
فمن الذي يقرؤها ويبتاعها؟ إنهم أبناؤنا وبناتنا.
ب) الأفلام:
أما الأفلام -فالله المستعان- كيف أتحدث عن الأفلام؟ كيف أتحدث عن هذه القضايا؟ واستمعوا إلى الأرقام؛ فإن حديث الأرقام اليوم أبلغ من حديث الألفاظ؛ ولأجل ألا يكون للمبالغة أي مجال.
في البداية انظروا إلى هذا التقرير من اليونسكو -ولقد تعجبت كيف تصدر اليونسكو هذا- تقول: "إن إدخال وسائل إعلام جديدة -وبخاصة التلفزيون- في المجتمعات التقليدية أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية كرسها الزمن" اليونسكو تعترف أن وسائل الإعلام غربت أمتنا، إذن يكفي هذا التقرير لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
يقول الدكتور حمود البدر: إنه تبين من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على خمسمائة فيلم طويل أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها، وتبين من دراسة أخرى حول الجريمة والعنف في 100 فيلم وجود 68% مشهد جريمة أو محاولة قتل، بل وجد في 13 فيلماً فقط 73 مشهدا للجريمة.
ويقول الدكتور نشار -وهو أمريكي الجنسية-: تبين من دراسة مجموعة الأفلام التي تعرض على الأطفال أن 29.6% تتناول موضوعات جنسية -والقائل أمريكي- 27.4% تتناول الجريمة، 15% تدور حول الحب بمعناه الشهواني العصري المكشوف - هذه أفلام للأطفال!!!
ويقول الدكتور هوب أمرولر -وهو أمريكي أيضاً-: إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات -وهذا له علاقة مباشرة بموضوعنا- يتعلمن الآداب الجنسية الضارة- من الذي يقول ضارة؟ إنه أمريكي! إذا كانت هذه ضارة في عقل هذا الأمريكي كيف بميزان الشرع، ثم يتابع: وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب والمغازلة والإثارة الجنسية والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما والتلفزيون.
جـ- الدعاية:
هذا البلاء الذي امتلأت به صحافتنا وإعلامنا بسبب سوء التعامل معها.
قام الدكتور سمير حسين بإعداد دراسة حول برامج الإعلانات في التلفزيون، كما يراها المشاهد والمعلنون توصل فيها إلى ما يلي:
98.6% من الأطفال يشاهدون الإعلانات بصفة منتظمة، ويطمئن الآباء لهذه التوجهات لدى أبنائهم، وستعلمون الأرقام المدهشة بعد قليل.
96% قالوا: إن هناك إعلانات يحبونها؛ ولذلك تجدهم يحفظون نص الدعاية المعلن عنها.
ولهذا يقول الدكتور محسن الشيخ: من أخطر البرامج المقدمة من خلال الشاشة الصغيرة هي الإعلانات التجارية؛ لأنها قصيرة ومسلية، وتحمل رسالتها بسرعة إلى الأوتار العقلية فتوقظها.
قد تقولون: وما علاقة الإعلانات والدعاية بقضية المرأة؟
تأملوا ما يأتي ففيه الإجابة: نوقشت رسالة ماجستير في دولة عربية مهمة بعنوان (صورة المرأة في إعلانات التلفزيون) اعتمد الباحث فيها على تحليل مضمون 356 إعلاناً تلفزيونياً بلغ إجمالي تكرارها 3409 مرات، أي: تسع مرات خلال 90 يوما فقط. توصل الباحث إلى ما يلي:
1) استخدمت صورة المرأة وصوتها في 300 إعلان من 356 إعلاناً. نسبة رهيبة جداً!
2) 42% من الإعلانات التي ظهرت فيها المرأة لا تخص المرأة، أي: ليست بالضرورة أدوات تجميل أو أزياء، فلا تعجب إذا رأيت دعاية لإطارات سيارات بجوارها امرأة.
3) 76% من الإعلانات اعتمدت على مواصفات خاصة في المرأة، كالجمال والجاذبية.
4) 51% من الإعلانات تعتمد على حركة جسد المرأة.
5) 12% من الإعلانات استخدمت فيها ألفاظ جنسية.
بئست الحال التي تكون فيها المرأة مهانة إلى هذا القدر. هذه هي الصحافة، وهذه هي الأفلام، وتلك هي الدعاية.
ثانياً: التعليم
التعليم!! إذن نحن ضد التعليم -لا، كلا وحاشا- نحن نريد التعليم، ونطالب بالتعليم، ولكننا نطالب بالتعليم الحقيقي، لا التعليم المزيف.
إن التعليم سلاح ذو حدين، إن كان في الخير فهو خير، وإن كان في الشر فهو كذلك.(5/47)
التعليم الآن: هل هو التعليم الإسلامي في مجتمعنا الإسلامي؟ هل المرأة الآن تدرس في الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية -فضلا عن الجامعة- ما تحتاج إليه في أمور دينها ودنياها؟
ارجعوا إلى مناهج التعليم في العالم الإسلامي؛ لتروا المدهش في هذه القضية، عن طريق التعليم جاءنا الأدب السمج في القصة والمسرحية والقصيدة التي تعني بالحب المبتذل وغيره.
أيها الأحبة:
باسم التعليم عزفت المرأة عن الزواج حتى تكمل تعليمها، أتعلمون أنه في جامعة من جامعاتنا ستة آلاف فتاة، لم يتزوج إلا أربعمائة فتاة.
وباسم التعليم وجد في عينة درست من مائة وعشر فتيات تخرجن من كلية الطب، لم يتزوج منهن إلا إحدى عشرة طبيبة.
قد كنت أرجو أن يقال طبيبة
فقل للتي كانت ترى في قدوة
وكل مناها بعض طفل تضمه ... لقد قيل ماذا نالني من مقالها
هي اليوم بين الناس يرثى لحالها
فهل ممكن أن تشتريه بمالها
هل فتياتنا استخدمن التعليم لتعلم كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم وما يحتجن إليه في حياتهن، أم لقراءة خمسة ملايين صحيفة شهرياً؟ نحن نعرف أن في الأمة خير عظيم في نسائها وفتياتها، ولكننا نتحدث عن أرقام ووقائع ترونها وتبصرونها.
ماذا نرجو من فتاة تعيش خمس سنوات تتعلم الأدب الإنجليزي، وقصص شكسبير، وقصص الحب والغرام؟ ماذا تتوقعون أن تتخرج الفتاة بعد ذلك؟
إن التعليم وسيلة من وسائل التغريب إذا لم يستخدم في مجاله الصحيح، وقضية التعليم قضية طويلة، ولمن أراد المزيد فأحيله على كتاب شيخنا الأستاذ محمد قطب (واقعنا المعاصر)، ولقد صدر فضل المرأة في رسالة مستقلة بعنوان (قضية تحرير المرأة).
ثالثاً: الابتعاث
إذا كان الابتعاث غرب كثيراً من أبنائنا فكيف تتصورون ببناتنا؟ لقد جر الابتعاث على أمتنا الويلات، حتى أصبحنا نرى هياكل نعرفها، ومخابر أجنبية عنا.
وهذه الوسيلة لا تحتاج إلى أرقام، فحقيقتها أكبر من الأرقام، ووضوحها أشد من الشمس في رابعة النهار.
رابعاً: اللباس والأزياء والزينة والعطور
هذه القضية يكفي أن أقرأ فيها هذا النص عليكم: يقول هاري فورد اليهودي: "إن اليهود من أجل تحقيق غاياتهم قد سيطروا على ثلاثة أمور منها الأزياء".
الأزياء يعترف اليهود أنها واحدة من ثلاث وسائل لتغريب فتياتنا.
قضية اللباس، كما قالت شاعرة غيورة:
يا بنت عمي التي حادت بملبسها
آذيت بالملبس المبتور فاطمة
إبليس راض وحزب الله في غضب ... عن المقاييس آذيت المقاييس
بنت النبي كما آذيت بلقيس
على التي فاخرت في حب إبليس
هذه هي الأزياء، وكثير من الأحباب الطيبين لا يتصور أن امرأته أو بنته حين تقف أمام الخياط يبذل لها مادة غربية، يغرب فيها أخلاقها، يقول: ثوب، ماذا فيه؟ نعم، قد لا يكون قصيراً، ولكنه أسوأ من القصير، ثوب عجيب، ضيق مشقق، مفتوح الصدر، قصير الكمين، ماذا تريدون أكثر من ذلك " كاسيات عاريات " العنوهن فإنهن ملعونات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.
وأما عن التشبه، فحدث عن البحر ولا حرج، ويكفي في هذا " من تشبه بقوم فهو منهم ".
أما العطور، فكل يوم تأتينا صرعة من صرعات العطور، تبتذل المرأة فيها أيما ابتذال، وتنهب جيوب بناتنا ونسائنا لتنقل إلى خزائن الناهبين.
إن من تمعن في وسائل الإعلام فسيجد من الدعاية للعطور ما يحيره، ويجعله يتساءل لماذا تفجرت الدعاية للعطور فجأة؟ هل هذا يعني أن وسائل التغريب الأخرى قد سبقته فهو يحاول اللحاق بها أم ماذا؟
خامساً: محلات الكوافير والتجميل
هذه الأماكن من المواضع الغريبة على المجتمع المسلم، فعن القصات لا تسأل، وسل عن أي العاهرات التي تنعت بها هذه القصة لتعلم إلى أين وصل الحال ببعض _وأقول: بعض فتياتنا_.
إن تلك المآسي المنعوتة بالكوافيرات؛ لتوحي لنا إلى أي مدى وصلت حفيدات الفاتحين، وسليلات المجد من الصين إلى الأندلس. يحق لنا أن نبكي بدل الدموع دماً إذا رأينا الفرق بين امرأة تقص ظفائرها لتكون لجاماً لخيل الله المسرجة، وامرأة تقص ظفائرها لتكون أشبه بالغانية.
سادساً: إدمان الخروج من المنزل وتصويره بأنه سجن
تعددت وسائل الخروج من المنزل، حتى كأنه قد حكم على فتياتنا وبناتنا ونسائنا أن تخرج من المنزل.
التي لا تدرس تدرس، والتي لا تدرس تعمل، والتي لا تعمل تخرج إلى المستشفى، والتي لا تخرج إلى المستشفى تخرج إلى السوق، أو تخرج إلى أقربائها، ولا يظن قارئ أننا ندعو إلى أن توضع المرأة خلف أسوار، وتوصد دونها الأبواب، كلا وحاشا، ولكن يجب أن يقتصر الخروج لما لا بد منه، ولقد أرشد الله -جل جلاله- خيرة نساء الأمة -أمهات المؤمنين- "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى" (الأحزاب: من الآية33).
وكما قال محمد قطب: "صور الأعداء لبناتنا أن البيت سجن، وأن البيت انتقاص من الحرية".(5/48)
أعرض عليكم مثالاً واحداً فقط يعرف الجميع أن المرأة في الماضي إذا أرادت أن تخرج إلى السوق لا تخرج إلا لضرورة، وإذا خرجت ورأت بعض الرجال انزوت في جانب الطريق إذا كان الطريق ضيقاً، أما الآن فما الذي يحدث؟ الرجل الصالح هو الذي لا يخرج إلا لضرورة، وإذا خرج وقابلته الفتيات انزوى حتى يخلو له الطريق؛ ولذلك أصبح المرء لا يستطيع أن يخرج بأهله إلى السوق.
إن قضية الأسواق وأوضاعها مأساة من مآسي الأمة.
سابعاً: الاصطياف في الخارج
أصبح السفر إلى الخارج للترفيه والتفرج والسياحة موضة يتسابق فيها كثير من بيوت المسلمين، وما إن يرجع هؤلاء حتى يتسابقون في أيهم أكثر مروراً بالبلدان، وتالله لقد تسابقوا في إضاعة الدين والدنيا.
يخرج الرجل مع بناته فيسلخ حياءهن كما تسلخ الأضحية، وليته عاد بالجلد، ولكنه قد نسيه هناك.
ثامناً: الخدم والسائقون
أعود قليلاً إلى الأرقام:
ذكرت مجلة اليمامة أنه يوجد في بيوتنا سبعمائة وخمسون ألف خادمة، وعدد النساء العاملات في التدريس والطب وغيره ثلاثون ألفا فقط، وهذه دراسة أعدتها إحدى الجامعات.
أيها الأحبة:
إنها دراسة تنسف كل المقارنات، وهي أبلغ من حديث الكلمات.
إنني أخشى أن يتربى جيل تصعب عليه لغة القرآن الكريم، وتلتبس عليه مفاهيمه، فتسأله عن مكة ويجيبك عن مانيلا، وأولادنا هم شباب وفتيات الأمة،
أما السائق -هذا المحرم الجديد- فيقف القلم عن الحديث عن مآسيه.
تاسعاً: محاولة التأثير على المرأة وحديث الذئاب عن حقوقها
يطرح من يلبس لبوس الراعي ويستبطن قلب الذئب مسائل حول حقوق المرأة، فمرة يطرحون قيادة المرأة للسيارة، ومرة قضية الجلوس في البيت، ومرة قضية الحرية، وأخرى حول الزواج قبل التعليم، وخامسة المجتمع يتنفس برئة واحدة، وما علموا أن المرأة في البيت كالدم للجسم، فهي محاضنه، وسادسة نصف المجتمع معطل... إلى آخر الأفكار التي تطرح، ومعروف ماذا يجري بعدها.
عفوية أم تخطيط ؟
إن ما ذكرته لكم لم يأت عفواً، ولم يأت بين عشية وضحاها، إنه مخطط تتقاصر عنده مخططات الحروب وميادين القتال. إنه إفساد وتغريب لأمتنا، وهذه هي الأدلة والبراهين، لا العواطف والتخمين.
يقول اليهود في بروتوكولات حكماء صهيون: "علينا أن نكسب المرأة، ففي أي يوم مدت إلينا يدها ربحنا القضية".
ويقول يهودي آخر: "لا تستقيم حالة الشرق -أي لهم- إلا إذا رفعت الفتاة الحجاب". هل توقف عند هذا المكر فقط؟ لا. إلا إذا رفعت الفتاة الحجاب عن وجهها وغطت به القرآن الكريم.
وقال أحد قادة الماسونية: "كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات".
وربما قال قائل: هذا حديث اليهود والنصارى، فما شأننا نحن؟ وللإجابة على هذا التساؤل أقدم بمقطوعة جميلة للمنفلوطي يقول فيها:
"ذهب فلان إلى أوربا، وما ننكر من أمره شيئا، فلبث فيها بضع سنين، ثم عاد وما بقي مما كنا نعرفه منه شيئاً".
واستمعوا إلى هذه الحقيقة التي تزيل ذلك التساؤل.
عقد المؤتمر الإقليمي الرابع للمرأة في الخليج والجزيرة العربية في 15 / 2 / 1986م في إحدى دول الخليج، وكان التركيز على قضية ما يسمى بتحرير المرأة، وهو -والله- استعبادها لشهوات المتنكرين لدينهم وأمتهم، وأصدر بعضاً من القرارات، منها:
1) لا بد من مراجعة قوانين الأحوال الشخصية في ضوء التحولات الاقتصادية والاجتماعية لدول المنطقة، ومحاولة الدفع باتجاه دراسة قانون الأحوال الشخصية العربية الموحد -قانوني علماني-.
سبحان الله! حتى الأحوال الشخصية لا يريدونها على ضوء الإسلام، في حين أن دولاً علمانية أخرى لم تتجرأ على هذا التشريع.
2) التأكيد على أهمية وضرورة النظر في الكتب والمناهج التربوية عند تناولها لقضية المرأة بما يضمن تغيير النظرة المتخلفة لأدوارها في الأسرة والعمل!
أسألكم بالله أيها الإخوة: هل فهمتم من هذه الفقرة غير النظرة الإسلامية؟ وليهنأ حكماء صهيون والمستعمرون بهذه النماذج من أفراخهم.
ثم تتابع هذه الدراسة التي لم تصغها أيد متوضئة بقولها:
إن القوانين والأنظمة التي كانت تخضع لها الأسرة قبل ألف عام لا تزال تطبق على العلاقات الأسرية في عصرنا الحاضر!! دون النظر إلى مدى ملاءمتها لنا!
وهذه العبارة هي التي كشفت اللثام عن قلوبهم المريضة، فما هي الأنظمة والقوانين قبل ألف عام؟ إنها الشريعة الربانية الإسلامية المرفرفة على أرض الله.
وهذه قرارات ليست حبراً على ورق، إنما حبر على عقول.
وتقول نوال السعداوي: إن نجاح تحقيق التنمية الحقيقية في بلادنا العربية يحتاج إلى تحرير ثقافي، ويحتاج إلى تحرير النساء من سيطرة الرجال بمثل ما يحتاج إلى تحرير البلاد العربية من سيطرة الغرب.
إن هذه مخططات وقرارات، ونحن نائمون غافلون عن هذا الميدان. يقول أحد دعاة الاختلاط في جامعة الكويت: ولعل الدرس الأكبر الذي ينبغي الخروج به من هذه التجربة كويتياً وخليجياً أن الوقوف ضد حركة التبديل الاجتماعي هو جهد باطل، وطاقة مبددة، ووقت مهدور، والتاريخ لا يرفق بالذين يرفضون الصعود في معارك القوة.(5/49)
وأقول: إن الواقع شاهد في معارك القوة هذه، والله المستعان.
إذن، أيها الإخوة: هذه مخططات تجري وتنفذ على أيدي من يدعون الإسلام. يتكلمون بلغتنا، وينتسبون إلى بني جلدتنا، وبعضهم قد يصلي في مساجدنا، مخططات كانت تحاك في الليل، أما الآن فتدار في وضح النهار، وتنفذ أمام الأبصار، وهذه هي القضية وهي قضية خطيرة جداً، وأؤكد أن أساليبهم بطيئة، لكنها أكيدة المفعول.
تساؤل وبيان
أيها الأحبة:
نقول لهؤلاء الذين يدعون إلى تغريب فتياتنا: تعالوا لنتناقش بأدلة الواقع إن كنتم لا تنصاعون إلى نصوص الشريعة.
إنني أسأل كل من يريد أن يغرب فتياتنا: هل هؤلاء النساء في الغرب يعشن في سعادة وراحة وطمأنينة؟
إنني أدع الإجابة لكل ذي لب وعقل نقي من شوائب الفتنة، وذلك بعد أن يقرأ مآسيهم، وأحببت أن يكون الحديث بمنهج مقنع، وأن يشهد شاهد من أهلها.
نشرت مجلة التايم أن ستة ملايين زوجة في أمريكا يتعرضن لحوادث الضرب من جانب الزوج كل عام.
وأن ألفين إلى أربعة آلاف امرأة يتعرضن للضرب الذي يؤدي إلى الموت.
وأن رجال الشرطة يقضون 33% من وقتهم للرد على مكالمات حوادث العنف المنزلي.
ونشر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي عام 1979م أن 40% من حوادث قتل النساء بسبب المشكلات الأسرية، وأن 25% من محاولات الانتحار التي قد تقدم عليها الزوجات يسبقها نزاع عائلي.
وذكر تقرير للشرطة الأمريكية عام 1978م أن 40% من إصابات رجال الشرطة و20%. من حوادث قتل رجال الشرطة في أوربا وأمريكا تقع بسبب وجودهم في أماكن حدوث نزاع عائلي.
أين السعادة لنساء أوربا وأمريكا؟
إن هناك 75% من نساء ألمانيا يشعرن بالخوف خارج المنزل عند حلول الظلام، وترتفع النسبة في بعض المدن إلى 85%، وقد خصصت بلدية لندن حافلات خاصة بالنساء من الساعة السادسة مساء إلى منتصف الليل بسبب الاعتداء عليهن.
يقول الرئيس الفرنسي السابق ديستان: لقد كشفت وزيرة شؤون المرأة النقاب عن الحقوق المزعومة للمرأة التي طرقت جميع أبواب الرجل، حتى أفسد ذلك المجتمع الفرنسي وفكك عرى الأسرة.
بلغ عدد المواليد غير الشرعيين في بريطانيا عام 1986م مائة وواحداً وأربعين ألف مولود، وهذه هي الإحصائية الرسمية.
نشرت جريدة الشرق الأوسط في 19 / 10 / 1410هـ مقالاً قالت في مقدمته: في أحدث دراسة بريطانية أذيعت أمس عن العلاقات الاجتماعية وظاهرة تصاعد نسبة الطلاق التي بلغت 70% بين النساء البريطانيات.
وعن مفهوم الخيانة الزوجية اعترفت 70% من المشاركات في الدراسة أنهن يدركن عقب الزواج بأشهر قليلة خيانة أزواجهن لهن مع أخريات.
بلغت نسبة الاغتصاب في أمريكا 35% من الجرائم عام 1984م، وهذه الإحصائية المسجلة رسمياً، وأكثر منها لم يصل إلى الشرطة ولم يسجل، أما حالات الرضا فتعد على الأصابع.
أيها الإخوة:
هذه هي الحالة التي يريد المستغربون والعلمانيون والمنافقون أن نصل إليها _أخزاهم الله وأذلهم ورد كيدهم في نحورهم_.
موقف عقلاء وعاقلات الغرب
قبل أن أسرد شيئاً من أقوالهم وأقوالهن أقدم هذه الحادثة: "ذهبت فتاة نمساوية إلى المركز الإسلامي بألمانيا وتبرعت بعشرة آلاف مارك، ورغبت في الزواج من شاب مسلم؛ لأنها تقول: لم يعد لنا ثقة بالرجال النصارى؛ لأنهم يعتدون على النساء".
وتقول الكاتبة آرنون: لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن بالمعامل؛ حيث تصبح المرأة ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة.
وتقول إحدى أساتذة الجامعات في بريطانيا وهي تودع طالباتها بعد أن قدمت استقالتها: ها أنا قد بلغت سن الستين من عمري، ووصلت فيها إلى أعلى المراكز، نجحت وتقدمت في كل سنة من سنوات عمري، وحققت عملاً كبيراً في نظر المجتمع، لقد حصلت على شهرة كبيرة، وعلى مال كثير، ولكن هل أنا سعيدة بعد أن حققت كل هذه الانتصارات؟ تجيب هي على نفسها فتقول: لا، إن وظيفة المرأة الوحيدة هي أن تتزوج وتكون أسرة، وأي مجهود تبذله بعد ذلك لا قيمة له في حياتها بالذات.
وتقول الدكتورة -أيبرين-: إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا، وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق، ثم تواصل قولها: إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم (1) هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه.
__________
(1) - لفظ أصله إسلامي يعني فصل الرجال عن النساء. وكان كثير الاستخدام في العهد الإسلامي العثماني.
وقال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي: إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقاً إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة.
وقالت لاديكون: علموا النساء الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد.
أما الممثلة والغانية المشهورة بريجيت باردو فقد سألها صحفي: لقد كنت في يوم من الأيام رمزاً للتحرر والفساد.(5/50)
فأجابته قائلة: هذا صحيح، كنت كذلك، كنت غارقة في الفساد الذي أصبحت في وقت ما رمزاً له، لكن المفارقة أن الناس أحبوني عارية، ورجموني عندما تبت، عندما أشاهد الآن أحد أفلامي السابقة فإنني أبصق على نفسي، وأقفل الجهاز فوراً.
كم كنت سافلة، ثم تواصل قائلة: قمة السعادة للإنسان الزواج، ثم تقول: إذا رأيت امرأة مع رجل ومعها أولاد، أتساءل في سري: لماذا أنا محرومة من مثل هذه النعمة.
فقل للتي كانت ترى في قدوة
وكل مناها بعض طفل تضمه ... هي اليوم بين الناس يرثى لحالها
فهل ممكن أن تشتريه بمالها
أيها الأحبة:
هذا هو التغريب، وهذه وسائله، ونتائجه، ومآله، ولكن ما هو العلاج؟
العلاج
إن العلاج هو شطر العنوان الثاني إنه العفاف.
العفاف الذي توضحه وتبينه الآيات التي تأتي، وفي الاقتصار عليها كفاية، ومن أصدق من الله قيلاً.
يقول _تعالى_ لخيرة نساء الأمة: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى" (الأحزاب: من الآية33).
ويقول _تعالى_: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ" (الأحزاب: من الآية59).
ويقول _عز من قائل_: "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ" (النور: من الآية30)، ثم ينتقل السياق إلى المؤمنات طالبات العفة والصيانة "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا" (النور: من الآية31).
ويقول الحكيم الخبير: "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ" (الأحزاب: من الآية32).
ويقول: "وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ" (الأحزاب: من الآية53).
الله أكبر. أطهر لقلوب من؟ إنها قلوب زوجات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وقلوب خير الأمة، صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم فكيف بحالنا؟ وكيف بنسائنا؟ وكيف برجالنا؟! والله المستعان.
قنوات العفاف
أولاً: كلمة إلى المسؤولين
أقول لهم: اتقوا الله أيها المسؤولون، يا من توليتم أمورنا، وصارت الأمة أمانة في أعناقكم، أنتم مسؤولون أمام الله _جل وعلا_: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" ويقول الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
أيها المسؤولون عن بناتنا، أيها المسؤولون عن إعلامنا، أيها المسئولون عن أمورنا: اتقوا الله فينا، أدوا أمانة الله كما ائتمنكم عليها، وإلا فستتعلق بكم الأمة يوم القيامة، ويقولون: يا رب هؤلاء خانوا الأمانة، فاقتص لنا منهم.
ثانياً: كلمة إلى المصلحين من دعاة وعلماء وطلبة علم
أيها الأحبة: إن مخططات الأعداء وكيد الكائدين أكبر من أن نختلف عليها إلى مسائل لم يفاصل عليها سلف هذه الأمة وخيارها، كما يجب أن نحرص على سلامة المنهج في هذا الشأن وشأننا كله "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" (الأنفال: من الآية25).
ثالثا: كلمة إلى المجتمع
إنني أتساءل كيف دخلت كثير من العادات السيئة إلى مجتمعنا، كيف انسقنا وراءها بدون نظر ولا روية؟ المناسبات الدخيلة، والعادات المستهجنة، وما قضية الأسواق المتردية، وما الخدم والسائقون إلا أمثلة على ذلك.
أيها المجتمع:
لا بد أن تحمي نفسك من مؤامرات أعدائك "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" (الأنفال: من الآية24).
رابعاً: كلمة إلى كل قيم
إنها دعوة لأن يصون كل قيم من تحت يده من زوجة أو بنت أو أخت، أو ممن ولاه الله أمر رعية، فهن -والله- أغلى وأثمن من جواهر الدنيا وكنوزها، والمتربصون بنا كثر: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" (التحريم: من الآية6).
وأدعوه إلى أن يؤدي حق القوامة التي أودعها الله إياه، وأن يقتنع بأن للمرأة دوراً يجب أن تؤديه في مجتمعها وبيتها، وعليه أن يعدها لذلك.
خامساً: كلمة إلى العفيفة
إلى التي تعلم عظم الأمانة الملقاة عليها، إلى من يقفن على ثغرة من ثغور المسلمين، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلهن، إلى اللائي ترخص عليهن النفوس والأموال في سبيل الله، وإلى اللاتي ينشدن:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال
أقول لك أختي الكريمة: إن هناك واجبات عليك لمواجهة كل المتآمرين ضد دينك وعفافك وكرامتك وحيائك، ومن تلك الواجبات:
أ- العلم الشرعي:(5/51)
أقول للعفيفات من فتيات الأمة: عليكن بالعلم الذي ينير بصائركن، فما سما رجال ومجاهدو هذه الأمة إلا بوجود قيادات للتموين الداخلي، فحين كان الرجال على الثغور كانت النساء نعم المعلمات لأطفالهن، بل ولقد كان في الأمة قيادات علمية نسوية يشار إليها بالبنان، فما عائشة ولا أم سلمة إلا أمثلة ساطعة على ذلك.
إننا نريد العلم الحقيقي، لا العلم المزيف، نريد العلم بالله وبشرع الله، ونريد اعتناء بسير الصحابيات وسلف هذه الأمة اللاتي يمثلن مشاعل من نور للسائرين على الطريق.
وإنه لمما يعلم أن المرأة تقبل من المرأة؛ لأن كلا منهما تمثل أحاسيس وشعور الأخرى، فإذا تحدثت أو كتبت فالقبول منها أكبر.
ب- العمل بذلك العلم:
إن كل فتاة تعلمت وعلمت وفطنت لمؤامرة الأعداء عليها ثم تنساق وراء تلك المؤامرة ليخشى عليها أن تكون ممن يلحق بها الوعيد لمن لم يعمل بما علم (1). جـ- أن تكون المرأة داعية:
وإن من الواجبات على الفتاة أن تكون داعية في بيتها وفي مجتمعها وفق ضوابط الشرع وأوامره، فكم سمعنا عن منارات يهتدى بها في ليل التغريب من فتيات صالحات ونساء قانتات كن سبباً في صلاح بيوتهن وأخواتهن _وفقهن الله للسداد والصواب_ "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً_ (فصلت: من الآية33).
وصدق من قال في هذه الأمور السابقة:
والعلم زين وتقوى الله زينته
وحجة الله يا ذا العلم بالغة
تعلم العلم واعمل ما استطعت به
وعلم الناس واقصد نفعهم أبدا
وإن تكن بين قوم لا خلاق لهم
فإن عصوك فراجعهم بلا ضجر ... والمتقون لهم في علمهم شغل
لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيل
لا يلهينك عنه اللهو والجدل
إياك إياك أن يعتادك الملل
فأمر عليهم بمعروف إذا جهلوا
واصبر وصابر ولا يحزنك ما فعلوا
د- ممارسة التربية الصالحة:
إن التربية الصالحة ليست كلمات تتلا، ولا عصا ترفع، إنها حياة كاملة فيها اللين والرقة، كما أن فيها الشدة والحزم، وصدق شاعر النيل حين قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق
نحن نريد الأمهات كخديجة وعائشة وأمهات المؤمنين _رضي الله عنهن أجمعين_، نريد كأم سليم وبنتي عاصم.
نريد من نسائنا أن يعددن أبناء الأمة للجهاد في سبيل الله، ولحمل راية الإسلام مهما واجهوا من متاعب ومصاعب.
وإن الأم التي تبكي وجلاً وخوفاً كلما ذكر الجهاد، لا يمكن أن تخرج يديها مثل أبناء الخنساء.
هـ. القدوة الحسنة:
وإنني أذكر أنه لا تربية بغير قدوة، فإن من تلهث وراء وسائل التغريب ليست أهلاً لأن تكون قدوة لأبناء كابني عفراء اللذين انقضا على أبي جهل كالصقرين، فكانا سبباً في قتله.
و- الوعي بمخططات الأعداء:
إن كل عفيفة تملك علماً لا بد لها من وعي تتقي به -بعد حفظ الله- مخططات أعدائها، وأسأل الله أن أكون قد وفقت لعرض شيء من مخططاتهم، فما الأزياء ولا بعض مظاهر الإعلام إلا حبائل ينصبها أعداؤنا لنا، فلتكوني أختي العفيفة سداً منيعاً ضد هذه المخططات بوعيك والتزامك.
ز- المحافظة على الوقت:
صح عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه "
فإن من علمت أنها سيسألها الله عن كل لحظة من لحظات عمرها حري بها أن تقف وقتها على _رضى الله تعالى_، وما ينفعها في دنياها وأخراها.
ح- التخلق بخلق الحياء:
إذا كان الحياء في الرجال جميل فهو في النساء أجمل، فهو التاج الذي تعتز به كل امرأة سوية، وفقدانه هدم لكيان أخلاق المرأة ومسخ لفطرتها.
وإن الواقع ليشهد مظاهر تنم عن خلع هذا التاج عن جبين مجموعة من النساء، فإن من يعلو صوتها في ممرات المستشفيات والأماكن العامة، ومن تزاحم الرجال في أماكنهم لهي بائعة لهذا اللباس.
فالله الله أن تعدمي الخير أيتها العفيفة، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير.
الرضا بما أعطاها الله:
أقول لأختي المسلمة: عليك بالرضا بما أعطاك الله، فهو الخالق، وهو العالم بما يصلح لخلقه، وإن هذا الرضا من تمام العبودية له _جل شأنه_.
__________
(1) - للاستزادة يراجع كتاب اقتضاء العلم للعمل للحافظ الخطيب البغدادي بتحقيق شيخنا الألباني.
وأكتفي بهاتين الآيتين في هذا الباب ومن أصدق من الله قيلاً: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً" (الأحزاب:36)، وقول الحكيم الخبير: "وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً" (النساء:32).
وختاماً(5/52)
إن ما بين هذه السطور من آيات بينات، وأحاديث شريفة، وحقائق جلية، وأرقام واضحة إنما هو عمل أريد به أن أضع الأمة أمام مسؤولياتها؛ لندرك سوياً الخطر المحدق بنا، وأن سنة الله لا تتغير ولا تتبدل حين توجد في الأمة دواعيها.
ومن تفكر في الأمم حوله أدرك أن الذنوب سبب لأخذ الله _تعالى_ وبطشه "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونًَ (النحل:112).
وقوله _عز من قائل_: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً"(الإسراء:16).
وما هذه الوقفات إلا جهد مقل مناه أن يرى أمته قد علت راياتها، واستقامت على طريق الهدى مجتمعاتها.
أليست الأرض أرض الله؟ والعبد عبد الله؟ والشرع شرع الله؟ فلا مكان في أرض الله لعبد الله إلا شرع الله.
اللهم احفظ فتيات المسلمين من كيد الكائدين وتربص المتربصين، واجعلهن بالصحابيات مقتديات، وعن الضلال معرضات، وللكتاب والسنة مقتفيات.
اللهم أقر أعيننا برؤية زرع الإسلام وقد استوى على سوقه، يعجب الزراع لنغيظ به الكفار، إلهنا إله الحق.
ناصر بن سليمان العمر
================(5/53)
(5/54)
الفتيات السعوديات والابتعاث إلى الخارج
أحاسيسٌ مضطربة...وأنفاسٌ متتابعة...وأحلامٌ كالنجوم هنا وهناك متناثرة....
مشاعرٌ تنتابها وهي تُعد حقائب السفر التي وضعت بداخلها ما يلزمها في تلك الرحلة الطويلة.....رتبت أمورها ، ونسقت المطلوب من أوراقها....وحلمها الكبير يُلامس جنبات قلبها...ويتربع على عرشه.....
كل شيء قد تم ترتيبه، ولم يتبقى إلا أن تودع أهلها....ولا تعلم هل من لقاءٍ ثاني بعد هذا اللقاء أم لا......؟؟؟؟
لكن.....نسيت أن هناك ثَمة أشياء كثيرة لا بُد لها أن تعرفها...وأمورٌ لا بُد أن تفهمها...
ونقاطٌ لا بُد لنا أن نوضحها...لأننّا لها مُحبين...وعليها خائفون..
خطوطٌ مترابطة نحاول أن نفككها معكم في هذه الأسطر... لنقدمها إلى كل فتاة خارج الحدود يراودها تفكيرها من أجل الدراسة....ونسوقها إلى المبتعثات خارج الوطن...
نظراً لما لهذا الموضوع من الأهمية العظمى والخطورة البالغة...كيف لا؟؟ وبعض المبتعثات يسافرن وهن صغيراتٌ لم يتجاوزن العشرين من أعمارهن...!! أفكارهن لم تنضج...وعواطفهن لم تستقر...والتحصين العقائدي والفكري لدى البعض منهن ضعيف.....
تذهب الفتاة إلى هناك....حيث أبوابٌ من الفتن والفساد أمامها مفتوحة...لا رقيب ولا حسيب إلا ما شاء ربي....
أرضٌ غير أرضها...وعادتٌ غير عاداتها...أفكارٌ وثقافة وبيئة ومجتمع وحضارة لم تعهدها من قبل...
- فهل تستسلم الفتاة لتلك الأفكار والاتجاهات والسلوكيات الغربية أم لا...؟؟
- وهل ستستجيب لضغوط الحياة في الثقافة الغربية وتتأثر بها...؟؟
- هل ستحافظ الفتاة على حجابها وحيائها وعفافها كما هي في بلادها...؟؟
- وهل ستكون سفيرةٌ للمرأة المسلمة المتمسكة بتعاليم دينها بكل فخرٍ وعزة..؟
أسئلةٌ كثيرة تتزاحم بين أسطرنا ، وها نحن نبحث عن إجابتها معكم...
مساحة للآراء:-
س1/ لو حصلتِ على بعثة دراسية في الخارج هل تقبلين...ولماذا؟؟ وإذا لم تجد الفتاة المبتعثة محرمٌ يُرافقها...فما الحل في نظرك..؟؟؟؟
سؤالٌ طرحناه على بعض الفتيات فكانت هذه آرائهن....
• مها الدلبحي ( أقبل إذا كان التخصص غير متوفر في بلدي ، بشرط وجود المحرم معي ، والسبب زيادة طلب العلم... أما إذا لم يتوفر المحرم فلا ضرورة للذهاب... فالعلم قد تقدم... ونستطيع الدراسة عن طريق الإنترنت )
• هيفاء الشمري ( لا أقبل البعثة حتى بوجود المحرم....فيكفيني صوت الأذان في بلدي كيف أتركه.... أما من تريد البعثة ولم تجد محرمٌ يرافقها فلا تذهب...ولن يحصل في الدنيا شيئا إذا لم تذهب!!!!)
• فاطمة الربيعان ( أرفض فكرة البعثة.... لأني أخاف أن أتأثر بأخلاق الغرب ، أما إذا لم تجد الفتاة محرم يرافقها فلا تذهب )
• مشاعل ( أفضل الدراسة في بلدي، لأن ما سأحصل عليه في الخارج سأحصل عليه في بلدي....أرفض فكرة البعثة بمحرم أو بدون محرم )
• وضحى ( لن أقبل بها...لأني لا أستطيع أن أفارق بلدي....ومن لم تجد من يرافقها فالأفضل أن تجلس في منزلها حتى تجد لها محرم أو حتى تتزوج!!)
• ن.هـ طالبة جامعية ( لا.. لا أقبل لما رأينا من قبح أفعالهم بالمبتعثين!! فما الذي سنستفيده من قوم يقترفون أبشع القبائح والاضطهاد...أما إذا لم يوجد محرم لا تذهب الفتاة لأننا متمثلون لشرع الإسلام الذي يأمر بأن لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم لما ستجره هذه البعثة من ويلات لا تُحمد عقباها ).
• نوره السبيعي ( لا أقبل بها إلا إذا كان شيء مصيري...لأن بلادنا فيها الأمن والأمان الذي لن أجده في بلاد العالم الأخرى...إذا لم يوجد محرم فلا تذهب الفتاة لأن المرأة دورها في بيتها أولى)
• العنود الدوسري ( أقبل بالبعثة...بشرط أن تكون في البلاد العربية المجاورة..لأن المجتمع هناك سيتقبلني كما أنا في بلدي بعباءتي فلا أكون مُحرجة...وإذا لم تجد الفتاة محرم يرافقها فلا تذهب لأن العادات والتقاليد لا تقبل بذلك فما بالك بالدين!!)
ضيف اللقاء:-
الإبتعاث للخارج...كم من فتاةٍ أشغل تفكيرها....وكم من فتاة أصبح من أحلامها...وكم من فتاة كان الإبتعاث جسر آمالها.....
لذا لنتوقف مع هذه الكلمات الرائعة للشيخ / عبد الله العيادة... داعية ومستشار اجتماعي وأسري ، وموجه في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقصيم فيقول أثابه الله : النفس في هذه الحياة لها رغبات ورغبات.... وهذه الرغبات تتخيل وتترجم حسبما يمنح الله العبد من العقل ، والقدرة على التفكير السليم... وترجمة هذه الأفكار إلى واقعٍ ملموس محسوس... ومن نجاح الأفكار والطموحات أن تكون ترجمتي لهذه الأفكار منضبطة بالشرع الذي أدين فيه... ومنسجمة مع واقعي الذي أعيشه... فإذا عملت هذا أتت هذه الأفكار ثماراً يانعة... وتذوقت حلاوتها....(5/55)
أما إذا كانت أفكاري انبهارية... تحدد مسارها الأضواء الكاشفة... والخيالات البراقة.. القادمة من خارج الحدود... فقد أكون فريسة سهلة الاصطياد... ويتبعثر وقتي.. وتمر لحظات الشباب دون أن أتمكن منها، ودون أن أسجل فيها أي نجاح يذكر... وقد تكون لحظة تمر علي لم اقدر أن احسب حسابها... خدعتني فيها لحظة ضعف... فانسقت وراءها... وإذا بي اسقط في بئر لا قرار لها...!! فما أصعب الندم بعد ذلك مثل قول هذه التي اختصرت مأساتها بأبلغ عبارة وأوجزها :
قالت : رن جرس الهاتف .
فأسرعت إليه بلهفة وشوق .
كان هو ... فكنت الضحية ..؟!!
السفر.. والطموح.. والعلم.. والرؤية.. واكتساب الخبرات... رغبات يسيل لها اللعاب... الذكية التي تعرف كيف تحصل عليها بأقل التكاليف.. وأيسر الطرق.. ودون عناء أو جهد.. خاصة إذا كانت الوسائل متوفرة وفي متناول اليد.. وفي بيئة آمنة... بهذا يتحقق ما نصبوا إليه... وهو إخراج جيل من البنيات نفتخر فيهن ليحملن الراية التوعوية والتثقيفية.. وبث الخير ونشر الفضيلة في المحيط النسائي المحاط بسياج العفاف... والذي نحن بأمس الحاجة لأن يبقى متماسكاً قوياً... يقف سداً منيعاً في وجه تيارات التغريب ومحاولات الانسلاخ.. وقلع الثوابت لهذه الأمة.... من هي التي تتدبر ..؟
وأنا اشكر أسرة هذا الموقع الذين أتاحوا لي هذه الفرصة... وأثاروا هذا الموضوع الهام للتحدث عنه... ومحاورة بعض الفتيات عبر مساحته... ممن يفكرن في الابتعاث خارج الحدود... لإيضاح ماهي العواقب والنتائج من جراء هذا السفر.... الذي صار هو الشغل الشاغل لكثير من الشباب والشابات... وصار خيالاً يُداعب أفكارهم وأفكارهن ....
وأنا لا اعترض على السفر بحد ذاته... ولكن بشرط أن يكون وفق أسس وضوابط مستمدة من تعاليم هذا الدين العظيم... الذي من تمسك به سيكون النجاح والفلاح حليفه بإذن الله .....
س1/ ( أنا واثقة من نفسي)....كلمة كثيراً ما تُرددها بعض الفتيات لزرع ثقة الغير فيها... وأنها على قدرٍ في تحمل المسؤولية...فهل الثقة بالفتاة تكفي لحفظها مما حولها من فتن؟؟
ج 1 ـ الثقة هي إحساس مخادع لبعض الناس... يجعله يقدم على فعل معين لم يحسب حسابه بشكل علمي مدروس... فيجعله رهينة لخسارة فادحة...
هناك أشياء يمكن تعويضها إذا خسرناها هذه أمرها يسير...ولكن هناك أشياء لا يمكن تعويضها... وهنا تكمن الخطورة.. أن نخسر ونحن نظن أننا نثق بأنفسنا.. وإننا نتشح برداء الثقة المزيفة.
المرء منا يا أبنتي... لا يعيش لوحده في هذا الكون.. بل يتصارع مع أمواج هائلة من العقبات.. النفس.. الرغبة.. الهوى.. الشيطان.. الناس المحيطون به.. كل هؤلاء يشكلون الحياة معنا.. وقد لا نستطيع أن ننفك عن هذه الأمور.
وأنتِ عندما تقولين أنا واثقة من نفسي هذا صحيح... لكن ألا تملكين حاسية الانبهار وتذوق الجمال ، والطرب للثناء والمديح ..؟ الإجابة ستكون نعم...كلنا كذلك.. نحن نحب من يمدحنا ونطرب له... فمن هنا قد يلدغ الواثق من نفسه.. من مأمنه.....
فهل تثقين بالشيطان ..؟ الذي يوسوس ويزين ويخادع..؟ وهل تثقين بتلك النظرة من ذلك الشاب.... الذي أرسلها محلاة بابتسامة.. وقع معها كلمة إعجاب فقط قائلا: أنا لا أريد شيئا... أنا أريد اثني فقط على هذا الجمال... ألا تطربكِ هذه الكلمات .....؟
إذاً تحمل المسؤولية ممكن.. إذا كنت مُحاطة بسياج يقطع الطريق على هذا المتربص.. وعلى مثل هذه المواقف... والذي يقطع ذلك ـ بإذن الله ـ هو التقوى والخوف من الله.. ثم من الإشباع العاطفي.. من مصادره التي شرعها الله.. وهي الإشباع من محيط الأسرة... ثم من الزواج بعد ذلك... لأنكِ ستكونين هناك في مجتمع يعج بالمعروضات التي تبهر عيون الناظرين... وليس هناك رقيب ولا حسيب... إلا من بقايا ضمير ووازع إيماني.. كالذي جعل الدكتورة ( الطويرقي ) تبقى على حجابها.. دون الالتفات إلى المكان الذي هي فيه.. ألا يمكن أن تكونين كذلك....؟ فما هو المقياس لذلك....؟
ابنتي.... لا تخدعنكِ هذه الكلمة... كم أوقعت من ( غزال شارة اصطادها الذئب بسهم الثقة... فاردها وقد فقدت بصيرتها )
وأسوق لكِ هذه القصة الحقيقية.... حضر إلي رجل قائلا: أرسلت ابنتي للدراسة في فرنسا لوحدها.. لأني قد ربيتها ووثقت بها أيما ثقة... وبعد شهر تعرفت على شاب من بلدنا يدرس معها... وبدأت اللقاءات ، وحل الواجبات ، ثم حدث ما لم يكن بالحسبان... فقد زين الشيطان لهما ، لأنه كان ثالثهما... فقد استضافها يوماً في غرفته.. فوقع الفأس في الرأس .. ثم انخرط الأب في البكاء قائلا: ماذا افعل..؟ وأنا الذي قد وثقت في ابنتي، ثم سألني ماذا أفعل الآن.....؟
وأنا بدوري يا ابنتي أحيل هذا السؤال لكِ....ما رأيكِ..؟
هذه القصة ليست من نسج الخيال... بل واقع حدث..
والابتعاث في حد ذاته أمر لا غبار عليه ، إذا توفرت عناصر النجاح والحماية اللازمة....فالأمة بحاجة إلى بعض التخصصات النادرة .
*********
س2/ إبتعاث الفتاة وحدها للخارج للدراسة له أضرار ومساوئ قد يجهلها البعض...هل بالإمكان التطرق لهذه الأضرار؟؟(5/56)
ج 2 : لا شك أن للابتعاث أضرار... كما أن له فوائد.. ولا بد أن نكون منصفين في هذا كما قال تعالى: ( وإذا قلتم فاعدلوا.. ).
والخلل والأضرار ، قد يشترك فيها المبتعث والبيئة التي سافر إليها ، فان أحسن التعامل والتعاطي معها ، خرج بنتائج تحقق له مقصوده... ولكن إن اعتمد المسافر على عوامل الثقة بالنفس ـ كما أسلفت ـ وتغافل عن حجم الأضرار التي ستعترض طريقه فقد يكون فريسة سهلة للضياع .
إذاً.... لزاماً أن نذكر بعض الأضرار التي نبتت كالطحالب هناك... وصارت ملء الأشواك التي تصطاد الغرباء الذين تحيط بهم الغفلة أو السذاجة كما قال حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله ، r ، عن الخير وكنت اسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه...
ومن هذه الأضرار ما يلي :
• الخطر العقدي:
من أهم ما يملك المسلم هو المعتقد السليم... الذي يجعله يؤدي شعائر دينه على بصيرة وهدى.. تجعل هذه الشعائر تكون مقبولة عند من فرضها سبحانه وتعالى ، لأنها لابد أن تكون موافقة لما أمر به رسول ا صلى الله عليه وسلم .... والمسافر إلى تلك البلاد قد يواجه حججاً غُلفت برداء المنطق... فتبدو براقة لأول وهلة.. خاصة أنها قد تُكسى بحلل الدفاع عن المطحونين في بلاد الشرق، لأمر يراد، فتنطلي هذه الحيل على الضعفاء، فيسيروا خلف هذه الأفكار.. فلا يحسوا بأنفسهم إلا وقد تشربوا هذه الأفكار، وطبقوها.. ومن ثم إذا عادوا إلى أوطانهم ، قد يدعون إليها ويدافعون عنها ، فهنا تكون الهلكة!! والتي من أشدها أن يطعن المسلم في ثوابت قد تشربها منذ نعومة أظفاره... ويراها أغلال وسدودا تعود اللحاق في ركب الحضارة. (؟!)
• الخطر القيمي:
المشاهد اليوم أن بلاد الغرب وغيرها قد انسلخوا من القيم التي تجعل الأخلاق هي المنظر السائد في الشارع العام ، فأنت إذا سرت في أي ميدان أو شارع عام تجد المناظر التي تجعل الحليم حيرانا.... فتجد صور النساء قد لاصقت على الجدران وواجهات المحلات التجارية... وهن يعرضن مفاتنهن من اجل التسويق لفيلم أو منتج زراعي أو مبيد حشري... فما هي العلاقة بين هذا المنتج ومفاتن المرأة..؟ أو تجد المناظر المباشرة على الشواطئ أو الحدائق العامة، حيث تجد النساء وهن ( يتمرغن ) على رمال الشاطئ أو أعشاب الحدائق وهن شبه عرايا....... الخ.
كل ذلك يجعل هذه المناظر تبدو بعد المشاهدة اليومية تكون مألوفة للناظرين... فلا يجدوا حرجا من الدعوة إليها إذا عادوا إلى أوطانهم.. وهذا مسموع ومحسوس، ومشاهد وكما قيل: إذا كثر المساس قل الإحساس....
• الدعوة لحرية الفرد على حساب المجتمع والقيم:
فأنت ترى اليوم كثير ممن ذهبوا لتلك البلاد بدؤوا يدعون لهذا... وهي الدعوة لممارسة الحرية بكل أشكالها... في العبادات والممارسات... والبقية لا تخفى على كل ذي عقل منصف.
• الدعوة إلى التخلص من إطار الأسرة:
بأن تختار الفتاة ما تريد من الأصدقاء... والخروج متى شاءت... وكذلك الزواج ممن تحب على الطريقة الغريبة ( ؟!) وهذا يأتي من الانبهار الذي خطف عقول كثير من السفهاء، وانجروا خلف هذا الزبد، إلى درجة أن إحداهن تعقد قرانها وبشكل معلن من غربي... ملغية بذلك كل قيم مجتمعها، بسبب هذا الانبهار.. متناسية ما فعله الغرب بقيمنا وهو الهجوم على ديننا ، والهجوم على أوطاننا في وضح النهار.... هذه بعض الآثار ، واعرف أن الكثيرات يعرفن أكثر من ذلك .
*********
س3/ يرى البعض أن اعتراض الأهل ورفضهم لفكرة إبتعاث الفتاة للدراسة خارج وطنها يعتبر وأد للفتاة لكن بطريقة أخرى...وحرمانٌ لها من حقها في طلب العلم...فهل هذا صحيح...؟؟
ج 3 ـ دائما من يريد التخويف من أمر، يقحم عبارات مخيفة من اجل التسويق لمبدأ الخوف.. ليتم له ما يريد.. عندما نسمع مفردة (وأد)، وهي قتل الفتاة وهي صغيرة، بدسها في التراب حتى الموت.. هذا قد طبق في الجاهلية، وجاء الإسلام بنظامه الذي اخرج المرأة من الرق إلى الحرية، وجعلها رقما مهما في جسد الأمة.
أقول : هذه العبارة دائما نسمعها عندما يتعلق الأمر بالمرأة ، من قال إن عدم السماح للسفر للدراسة والابتعاث وأد للفتاة....؟ لا احد يقول بذلك... ولكن لابد أن يكون مع هذه الجوهرة الغالية، حارسا لها من اجل حمايتها من قطاع الطرق واللصوص... وخير حارس لها هو الزوج.. لقطع الطريق على المتربصين بها، وقد تتعرض الفتاة للفتنة حتى ولو كانت مع محرم لها غير الزوج.
والآن كثير من التخصصات متوفرة في بلدنا والحمد لله.. وإذا كان الأمر هاماً وضرورياً ولا تقوم حياتنا إلا بهذا الأمر الذي ستسافر هذه الفتاة من اجله... هذا ضرورة، والضرورات في شريعتنا لها أحكام... فلا تنطلي عليك يا ابنتي الحيل التي تخدعك... فما أكثر المجالات التي تستطيعي من خلالها تحقيق ذاتك... وطموحاتك دون أن تتعرضي لمشاكل السفر، ونحن لا نعيش يا ابنتي عمرنا مرتين .
*********
س4/ قد تقول أحداهن: "أطلب العلم من المهد إلى اللحد...وأنا لم أذهب من أجل الاستجمام والتنزه، وإنما من أجل العلم والاستزادة به......فما تعليقكم على ذلك؟؟(5/57)
ج 4 ماذا تريد من العلم هناك ..؟ ألا يوجد هذا العلم هنا ..؟ إذا كان لا يوجد فلا بأس... بشرط أن يصطحبك حارس قوى وأمين... فلست رخيصة علينا.
*********
س5/ كيف تحافظ الفتاة المسلمة على عقيدتها ونفسها وذاتها وكيانها مما حولها من فتن في تلك البلاد المُبتعثة إليها؟؟
ج 5 ـ عندما أتمسك بشعائر ديني ، عن حب وقناعة وإخلاص... ثم أمارسها عمليا.. سأكون في مأمن من هجمات الشيطان... الذي يوسوس وينزع، ويدعو إلى الانسلاخ منها... وعليه أكون في مأمن من الهجمات الجائعة من عيون اللصوص.. ومن أهمها أن يكون معي حارسي الشخصي... وهو التحصن بالتمسك بما أمرت به ، مثل التستر والحجاب ، والابتعاد عن مواطن التهلكة ، وتأدية الفرائض في وقتها ، وأكون مع محرمي الذي يحرسني بعد ربي ليل نهار.
أقول إن بليت هذه الفتاة بالسفر... ستكون في خدر، وحراسة آمنة، بإذن الله.
*********
س6/ يتساهل البعض في مسألة ضرورة وجود المحرم مع الفتاة المبتعثة.... وأنه لا داعي لوجوده ما دام أنّ الفتاة بالغة عاقلة....ما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟؟
ج 6ـ تأملت كثير من النصوص الشرعية فخرجت بنتيجة.... أن النجاح والفلاح في تطبيقها.. ومنها على وجه الخصوص ، المحرمية للمرأة.... وذلك استجابة لقول رسولنا وقدوتنا، وقرة عيوننا، الذي لا يأمرنا بأمر إلا فيه الخير والصلاح لمن استجاب له... وهو رسول الله محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم والذي قال: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم"... ولا تفهمي من هذا يا أبنتي أن في هذا تعسف لكِ ، وتقيد لحريتك.... أبدا... بل هو شرف لكِ.. فهذا المحرم يكون حارسا لكِ وخادما.... والدليل انك إذا كنت في سفر معه، وأردت شيئا تأكلينه أو تشربينه يأتيك به وأنت جالسة كالملكة في مقعدك.. ماذا يسمى هذا ..؟ ولو لم يكن في هذا التطبيق إلا الامتثال ، لكان فيه الخير العظيم لكِ.
واذكر في يوم من الأيام ، كنت مسافرا في رحلة داخلية في الطائرة... وكان بجوار الكرسي الذي اجلس فيه من الجهة المقابلة... جلست امرأة مع طفل لها، وعندما أقلعت الطائرة، حصل عطل بها، فحصل هرج ومرج في الطائرة.... واخبر قائد الطائر أننا سنغير وجهتنا.
فبكت هذه المرأة...
فقالت لها المضيفة ما بك.؟
قالت: ما معي احد ؟!
ولكن الله سلم.. حيث عادت الطائرة إلى المطار الذي أقلعت منه....ماذا لو اضطرت هذه الطائرة أن تهبط في مطار غير الذي أقلعت منه... ماذا سيكون حال هذه المرأة..؟
إذا المحرم لكِ يا ابنتي هو الحارس الشخصي... ولو تتأملين زعماء العالم... يدربون أقوى الشباب ، ويغدقون عليهم الأموال الطائلة ليكونوا حراسا لهم .
وأنتِ هذا الحارس يخدمك ويطيعك، ويعطيك المال.
*********
س7/ هل هناك شروط ينبغي أن تتوفر في المحرم المرافق للفتاة....أم أن أي محرم للفتاة يكفي حتى لو كان شابٌ لم يتجاوز العشرون من عمره المهم أن يكون قد بلغ سن الرشد؟
ج7 ـ أهم شروط المحرم... أن يكون مثل ما اشترطت بنت شعيب عليه السلام ( القوي الأمين ) ومن كان قويا وأمينا يستطيع أن يحافظ بعد الله على هذه الجوهرة الثمينة.... وركزي يا أبنتي على: قويٌ وأمين .
*********
س8/ خطوطٌ حمراء.....نضعها تحت أمورٌ يجب على الفتاة أن تقف عندها.... ولا تتجاوزها سواء كانت في بلدها أو في بلادٌ أخرى....نرجو من فضيلتكم ذكرها؟؟
ج 8 ـ إذا كان ثمة خطوط حمراء... أو زرقاء.. لوضعها أمام هذه الجوهرة لتقف عندها، هو خط واحد... لا يراك الله حيث نهاك.. وما أصعب أن نفقد شيئا لا نستطيع رده، ويبقى اثر جرحه لا يندمل، حتى بعد الرحيل عن هذه الدنيا... ( احسب انك فهمتي هذه الشفرة يا أبنتي) . وأعظم الألم ، هو الم الندم... لأنه إحساس لا نستطيع إبعاده عن ذاكرتنا .
*********
س9/ رسالة توجهها لمن حملت أمتعتها وحقائبها... متوجهةٌ لخارج البلاد من أجل الدراسة؟؟
ج 9ـ بعدما حملتي حقائبك إلى هناك ، أقول لكِ: يا أبنتي قد لا نلتقي ، وقد لا تعودين... وقد تعودين محملة بأعلى الشهادات... فان كان ذلك في مرضات الله فلك البشرى... وإن كان غير ذلك، فقفي ألف مرة.. وتأملي قبل وأنت تضعين قدمك على سلم الطائرة... أننا مسئولون عن كل لحظة في حياتنا.. وكل فعل يصدر منا ، ( فوربك لنسألنهم أجمعين ، عما كانوا يعملون )..... فماذا سنقول ..؟
اسأل الله العلي القدير أن يجعلكِ جوهرة مصانة ، وان يحرسك بالعفاف والطهر والتقوى... وأن لا يجعل الدنيا اكبر همنا ومبلغ علمنا، وان يوفقنا إلى ما يحب ويرضى....إنه سميع مجيب . وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
صورة مؤلمة....
يذكر أحد الطلاب في موقع الملتقى السعودي بأمريكا (ملتقى الطلبة السعوديين) هذا الخبر المؤلم... فيقول ( فتاة مُبتعثة.... تعرفت على شاب أمريكي...وقد عرض عليها الزواج...فطلبت منه أن يُسلم...فوعدها بالتفكير في الأمر والرد عليها!! وهذه الفتاة تسأل عن رأي المجتمع هل سيتقبل الفكرة أم لا....؟!!)
للأسف هذا نموذج بسيط لما قد تتعرض له الفتاة هناك بسبب الاختلاط...فتحّكم عواطفها في الأمور بدلاً من عقلها....وهنا تبدأ المشكلة.....!!!(5/58)
هل تؤيد إبتعاث المرأة للدراسة في الخارج..؟؟
استبيانا طُرح في موقع منتديات مدينة الرياض...فكانت نتيجة التصويت كالتالي:
نعم 38,78%
لا 61,22%
استوقفتنا إجابة أحد الشباب حين قال:" نخاف على الرجل إذا ذهب هناك....نخاف على دينه ، وعلى خُلقه...فما بالك بفتاةٍ ضعيفة..؟؟!! نعاني من مشاكل بعض فتياتنا في الداخل من معاكسات واغتصاب...فكيف لنا بمن هي خارج الوطن..؟!!)
إجابة كانت صريحة وواضحة....ولكن من يفهمها......؟!!
الإبتعاث ومخاطرة:-
"تحدث أستاذ التاريخ في الجامعات الغربية (برنارد لويس).... في كتابه (الغرب والشرق الأوسط) عن أسباب ابتعاد المسلمين عن دينهم وقبولهم معتقدات الغرب....وأثبت بالأدلة والبراهين بأن دعاة التغيير...وطلائع الذين حاربوا الإسلام وحملته...هم من الطلاب الذين عادوا من ديار الغرب مبهورين بالاختلاط والسفور والتبرج والديمقراطية المطلقة.... التي لا يحدها خُلق...ولا يضبطها دين" (1)
فإذا كانوا الرجال تأثروا بما عند الغرب....وهم أنضج فكراً...وأقوى عزماً من النساء...فكيف بالمرأة التي سرعان ما تنبهر بالأضواء اللامعة...والمغريات الفاتنة؟؟!!
ختاماً:-
يا من عزمتي على السفر... تذكري أن هناك أجواءٌ ملوثة....وأخطارٌ متوقعة...وتحررٌ منفتح....ومتاهاتٌ ملتوية....فكوني على حذر...وتذكري بأن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
ــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1- مجلة المجتمع العدد 265
==============(5/59)
(5/60)
كي لا نسقط في الهاوية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد أخفق العلمانيون في محاولتهم إقناع الأمة بأفكارهم، واستمروا على اختلاف اتجاهاتهم شراذم قليلة معزولة لا تمت إلى عامة الأمة بِصِلَةٍ، وبعد فترة طويلة اتجهوا إلى تطوير استراتيجيتهم؛ فمن محاولة التأثير على الأفكار إلى محاولة تغيير السلوك والأخلاق وتفكيك الأسرة وإفساد المجتمع وطمس هويته من داخله، والقيام بتفريغ عقول الأمة من قيمها وإغراقها بالشهوات من دون ضابط شرعي أو حاجز أخلاقي.
والمتأمل في واقع الأمة اليوم يلمس نجاحًا كبيرًا تحقق للقوم في هذا الاتجاه، وكان المدخل الكبير والباب العريض الذي ولجوا منه إلى ذلك هو التأثير على المرأة دفاعًا عن حريتها وإرجاعًا لحقوقها المهدرة ـ فيما زعموا ـ.
ويعود هذا النجاح إلى أسباب عديدة يمكن إجمالها في جوانب ثلاثة:
الأول: أسباب تعود إلى المرأة والمجتمع، وأهمها:
- الجهل المفرط في أوساط كثير من النساء بقيم الإسلام وأحكامه ومقاصده، وقد زاد من خطورة هذا الأمر عمليات التشويه التي يمارسها العلمانيون تجاه التشريعات الإسلامية المتعلقة بالمرأة عن طريق تناولها بشكل مجزأ يجعلها بعيدة عن التشريعات التي وردت في سياقها، مع إغفال متعمد لبيان مقاصد الإسلام من تشريعها؛ بهدف إظهار قصورها وتجاوز العصر لها ووقوفها حجر عثرة في طريق نيل المرأة لحريتها وحقوقها.
- ظاهرة ضعف الإيمان لدى كثير من النساء نتيجة عدم قيام المؤسسات التربوية في المجتمعات الإسلامية بالدور المنوط بها تجاه هذا الأمر، وتركها الحبل على الغارب لصواحب السوء وذوي الشهوات ليقوموا عبر الوسائل المختلفة بالسيطرة على عقل المرأة ومشاعرها ومن ثَمَّ تحديد اتجاهاتها وتوجيه ميولها حسب ما يشتهون.
- غفلة كثير من النساء عن حقيقة رسالتهن في الحياة، والدور المنوط بهن في بناء الأمة وصيانتها من عوامل الزيغ والانحراف.
- قيام بعض النساء المترفات بتبني دعوات العلمانيين وبروزهن واجهة لكثير من الأنشطة المقامة، وتوفيرهن للدعم المعنوي والمادي الذي تحتاجه بعض الأنشطة،إضافة إلى تغريرهن بقطاع عريض من النساء اللاتي جرت العادة بقيامهن بتقليد مترفات المجتمع وكبرياته لعظم جهلهن وضعف إيمانهن.
- أن جزءًا كبيرًا من المحافظة الظاهرة لدى كثيرات يعود إلى أعراف قبلية وتقاليد اجتماعية متوافقة مع الشرع دون أن يكون لها بعدٌ إيماني في نفوس كثيرات، ومن المعلوم أن الأعراف والتقاليد ليس لها طابع الثبات بل هي قابلة للتبدل بمرور الوقت خصوصًا متى تغيرت أوضاع المجتمع: علمًا وجهلاً، غنىً وفقرًا، انفتاحًا وانغلاقًا، ويتسارع هذا التغير حين توجد جهات تخطط للتغيير وتستخدم سبلاً ملتوية تحتفي فيها بالقديم ـ إذا احتفت ـ معتبرة إياه تراثًا لعصر مضى، وتلمِّع فيها ما تريد نشره وتجعله من متطلبات التقدم وعلامات الرقي والنهضة.
- الانحراف العام والانحطاط الشامل الذي أصاب المجتمع المسلم في كثير من جوانب الحياة المختلفة،والذي بدوره كان له أكبر الأثر في ضعف كثير من النساء وقيامهن بالتفاعل مع الطروحات العلمانية بشكل ظاهر.
الثاني: أسباب تعود إلى العلمانيين، وأهمها:
- عملهم بهدوء وبأساليب خافتة حرصًا على عدم الدخول في مواجهات مكشوفة، وسعيهم إلى تحقيق أغراضهم المشبوهة عن طريق لافتات وشعارات مقبولة، مع الحرص على الاستفادة بأقصى مدى ممكن من بعض أهل العلم وبعض المحسوبين على الدعوة لقبول أعمالهم من قِبَل العامة وتسويغها أمامهم شرعًا من جهة، ولإحداث شرخ في صفوف العلماء والدعاة من جهة أخرى.
- استفادتهم من مرحلة الضعف والهوان التي تمر بها الأمة، ومن قوة الغرب النصراني - حيث يرتبطون به ويعملون على تحقيق مصالحه بصورة فجة - والذي يضغط بقوة في سبيل فرض حضارته وهيمنة قيمه وشيوع سلوكياته في المنطقة تحت مسميات مختلفة كالعولمة والديموقراطية ودعاوى حقوق الإنسان وحرية المرأة وحرية الاعتقاد إلى آخر القائمة.
- إبرازهم لصور الظلم التي تقع على المرأة في مجتمعاتنا، واتخاذها موضوعاً ومدخلاً للحديث عنها بهدف تحقيق مآربهم وإشاعة السلوكيات والأخلاق التي يروجون لها ويدعون النساء إلى تطبيقها.
- العمل على زعزعة الثقة بين العلماء والدعاة من جهة والمرأة من جهة أخرى بهدف إيجاد فجوة بينها وبين الدين، وذلك عن طريق وصمهم لأهل العلم والدعوة بالتخلف والجمود وعدم عيش الواقع وإدراك متطلبات العصر والوقوف حجر عثرة في طريق نهضة المرأة ورقيها، والتسبب في صور الظلم الحاصلة عليها في بعض مجتمعاتنا الإسلامية.
استهواء المرأة وإغرائها وتزيين ما يشتهون لها عن طريق الاستفادة من بعض الخصائص التي تتمتع بها إجمالاً كقوة العاطفة وسرعة التأثر وضعف الخبرة في مجريات الحياة ومكائدها،وحب التزين والرغبة في الترفيه.
- تحسين صورتهم لدى المرأة وكسب ثقتها عن طريق إقامة بعض المؤسسات الطوعية التي تقدم بعض الأنشطة الاجتماعية والجمعيات التي ترفع عقيرتها بالمطالبة بحقوق المرأة وإنصاف المجتمع لها.(5/61)
- الاستفادة من الخلاف الفقهي وشذوذات بعض أهل العلم في بعض المسائل الشرعية المتعلقة بالمرأة في محاولة إيجاد مسوغات شرعية لما يدعون المرأة إليه عن طريق التلفيق بين تلك الآراء والأخذ من كل عالم فتواه التي تخدم أهواءهم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى سعيهم إلى الاستفادة من ذلك في تشويه صورة بعض أهل العلم والدعوة، وزعزعة الثقة بينهم وبين المرأة عن طريق ضرب آراء بعض أهل العلم ببعض، ووصم أصحاب الاجتهادات التي لا تتوافق مع أهوائهم بالتشدد والجمود وإرادة التعسير على المرأة وكبتها والتضييق عليها.
- التدرج في تحقيق أهدافهم؛ فمن المطالبة بحقوق مشروعة هي من صميم قيم الإسلام وتعاليمه إلى مزج ذلك بحقوق تتناقض مع قيم الإسلام إلى العمل على إحلال قيم الغرب وتقاليده محل قيم الأمة وتقاليدها ومطالبة أفراد المجتمع بتغيير هويتهم للوصول إلى الوضع المرتجى لهم.
- سعيهم إلى الفصل بين ما يزعمون أنه الدين الصحيح الذي يرفعون شعار التمسك به والدفاع عنه، وبين العلماء والدعاة الذين يزعم العلمانيون بأن دعوتهم للمرأة ليست من الدين الصحيح في شيء وإنما هي مجرد تشدد وتحكم في المرأة بأمر لا أصل له في الدين.
- تضخيم أخطاء العلماء والدعاة ونسبة بعض الشنائع زوراً إليهم، والاستفادة من ذلك في عملية التشويه وزيادة الفجوة بينهم وبين بعض نساء المجتمع،وفي المقابل تضخيم العلمانيين لأعمالهم والمنكرات التي يروجونها لتضخيم وزنهم في المجتمع،ولتصوير أن جل النساء معهم، ولتيئيس العلماء والدعاة من إمكانية الإصلاح.
الثالث: أسباب تعود إلى العلماء والدعاة، وأهمها:
- ضعف مستوى الجهود والأنشطة العلمية والدعوية الموجهة للمرأة، وقلتها وعدم كفايتها لسد احتياج الساحة، وذلك يعود في ظني إلى قلة الاهتمام وضعف عملية التخطيط وتشتت الأفكار والجهود وعدم التركيز مما أدى إلى عدم استثمار الطاقات بصورة مرضية.
- عدم وجود طروحات متكاملة لقضية المرأة والقيام بطرح النظرة الشرعية مجزأة مما يفقدها قيمتها ويظهرها ـ في كثير من الأحيان ـ بأنها غير صالحة للتطبيق؛ لأنها تتصادم مع جوانب من الواقع المعاش؛ علماً بأن الواقع السيئ للمرأة يرجع إلى عدم أخذها بالتوجيه الشرعي في كافة جوانبه.
- مجاملة بعض العلماء والدعاة للواقع السيئ، ومحاولتهم التعايش مع رغبات بعض أفراد المجتمع المتجهة نحو التغريب، وقيامهم بإصدار الفتاوى المتسقة مع ذلك.
- الرتابة والتقليدية في جل البرامج والأنشطة العلمية والدعوية الموجهة للمرأة، وعدم وجود إبداع أو تجديد فيها مما أدى إلى ضعف التفاعل معها وقلة الإقبال عليها من كثير من النساء.
- عدم أخذ زمام المبادرة في التعامل مع القضايا والأحداث، والتفاعل حسب ردود الأفعال دون أن يكون هناك مشاركة في صنعها أو تأثير في تحديد اتجاهها في غالب الأحيان، وهو مما أفرغ الساحة الاجتماعية أمام العلمانيين، ومكنهم من فعل ما يحلو لهم تخطيطًا وتنفيذًا وتوجيهًا وقطفًا للثمار بما يخدم مصالحهم ويحقق أغراضهم.
- عدم بيان أهل العلم والدعوة لدائرة المباح المتعلق بالمرأة بشكل جيد، وأخذهم لها بالأمثل عن طريق طرحهم للأفكار وتبنيهم للحلول المثلى في كثير من المواقف والقضايا بطريقة يفهم منها بأنها الطرح الشرعي الوحيد في الجانب المتناول.
وقضية الأخذ بالأمثل من الأمور التي لا يطيقها سوى قلة من الصالحات، أما غيرهن من نساء الأمة فقد وسَّع الله عليهن بما أباحه لهن، وواجب العلماء بيانه، وعدم التثريب على من أخذت به ما دامت لم تتعد حدود الله و لم تنتهك محارمه.
- عدم مراعاة بعض الدعاة لتعدد الفتوى ووجود خلاف بين أهل العلم في بعض المسائل الاجتهادية، وقيامهم بمحاولة إلزام المرأة برأي معين مع أنها ليست مكلفة شرعاً إلا بتقليد الأوثق لديها في دينه من أهل العلم لا صاحب رأي أو بلد بعينه.
- حساسية بعض الدعاة المفرطة في التعامل مع المرأة وقضاياها، وانغلاقهم الشديد الذي يمنعهم في أحيان كثيرة من تناول الأمور بموضوعية؛ مما جعل الأمور تتجاوزهم بشكل أدى إلى انفتاح صارخ غير منضبط.
- الخلط بين الأعراف والتقاليد والمنهج، وعدم تمييز بعض العلماء والدعاة بين الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة والمبنية على نصوص الشرع وقواعده وبين آرائهم التي تكون مبنية على أعراف وتقاليد اجتماعية، ولا ريب في أن لهم الحق كغيرهم من أبناء المجتمع في أن يتخذوا ما يشاؤون من مواقف تجاه أعراف المجتمع وتقاليده التي لا تتعارض مع الشرع، وأن يحاولوا إقناع من يشاؤون بمواقفهم تلك كما يحاول غيرهم، لكن الواجب عليهم إيضاح أن تلك الآراء مردها إلى العرف والتقاليد من غير محاولة إلباسها لباساً شرعياً متكلَّفاً فيه، وأن لكل أحد أن يتخذ الموقف الذي يشاء ما دام رأيه غير متعارض مع الشرع، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية الثابتة التي يجب على الناس التزامها كل حسب وسعه وطاقته.(5/62)
- التعميم: بعض من الدعاة يقومون بمحاربة المشاريع والأنشطة النسوية التي تتضمن بعض المخالفات الشرعية في المجتمع بشكل مطلق بدل محاولة مد جسور التفاهم والثقة مع أصحاب تلك المشاريع وتنمية جوانب الخير لديهم، والقيام بترشيد مناشطهم وتوجيهها الوجهة السليمة، مما يدفع القائمين عليها ـ من ذوي النفوذ ورجال الأعمال ـ في أكثر الأوقات إلى استخدام كافة ما يملكون من أوراق لمضي الأمر على ما يريدون.
- هيمنة الأعراف والتقاليد وخوف بعض الدعاة من تجاوزها؛ إلى جانب إغفال بعض المناشط الملائمة للمرأة التي أثبتت نجاحها في مجتمعات أخرى وفسح المجال أمام العلمانيين ليسدوا الفراغ الذي تعاني منه نساء المجتمع من خلال البرامج والأنشطة التي يقيمونها.
- عدم إدراك كثير من العلماء والدعاة لطبيعة التحول الذي حصل في عقلية النساء وسلوكياتهن واحتياجاتهن في وقتنا وحجم ذلك، واستصحابهم لواقع المجتمع في زمن ماض، أو تعميمهم لواقع بيئاتهم الخاصة على البيئة العامة مما جعلهم لا يشعرون بأهمية إعطاء دعوة المرأة أولوية ومزيد عناية.
- إغفال العناية بالجوانب التي فطر الله المرأة على الاهتمام بها كأمر الزينة والجمال، والأمور التي لكثير من النساء تعلق قوي بها في وقتنا كالترفيه بحيث لم يتم تقديم برامج ومشاريع حيوية مباحة في هذا المجال تسد حاجة المرأة وتقطع الطريق على العلمانيين الذين يكثرون من الولوج إلى المرأة عبر هذه البوابة ولا يجدون أدنى منافسة من العلماء والدعاة حيالها.
- ضعف الرصد والمتابعة لجهود العلمانيين وأنشطتهم مع عدم المعرفة بكثير من أعمالهم إلا بعد وقوعها مما يؤخر من مواجهتها ويجعل العلماء والدعاة يتعاملون مع آثارها ويتناسون ـ في الغالب ـ أهدافها والأسباب التي هُيِّئت لنجاحها وشجعت القوم على المضي فيها.
- ضعف كثير من العلماء والدعاة في بناء العلاقات وتكوين الصلات والقيام بواجبهتم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ـ تعالى ـ بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، مما هيأ الفرصة للعلمانيين لكسب كثير من ذوي النفوذ ومثقفي المجتمع ورجال الأعمال لخدمة طروحاتهم ودعم مشاريعهم مع أنهم ليسوا منهم.
الانفصام لدى بعض الدعاة بين النظرية والتطبيق في التعامل مع المرأة فبينما يوجد لدى جلهم إدراك نظري جيد لما يجب أن تكون عليه الأمور، نجد ممارسة سيئة لدى كثيرين تمشياً مع الأوضاع البيئية ورغبة في الراحة وعدم المعاناة في مواجهة شيء من ذلك.
كيف ندافع العلمانيين؟
تعد النجاحات التي حققها العلمانيون في مجال المرأة ثمرة التقصير والغفلة التي عانى منها قطاع كبير من العلماء والدعاة وتيار الصحوة، وعليه فإن المدخل الصحيح للمدافعة يقتضي استشعار الخطر وإدراك ضخامة المسؤولية والتفكير بموضوعية والتنفيذ بجدية للخطوات المراد تحويلها إلى واقع، وما لم يتم ذلك فإن الخطر سيستفحل والخرق سيتسع على الراقع، ولن يجدي عندها كثير من خطوات الحل المؤثرة والمتاحة الآن.
وقبل أن أتطرق إلى ذكر بعض السبل التي يمكن بواسطتها مدافعة القوم وكبح جماحهم أو التخفيف من شرهم، لا بد من ذكر بعض القواعد والمنطلقات التي لا بد من استيعابها قبل الدخول في مواجهة معهم، ومنها:
- لا بد من التوكل التام على الله وصدق اللجوء إليه والاستعانة به والتضرع بين يديه وطلب عونه وتسديده مع الأخذ بالأسباب وإعداد العدة، وذلك لأن من ينصره الله فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له كما قال ـ تعالى ـ: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) [آل عمران: 160].
- الاعتناء بالوضوح الإسلامي في الطرح، والمطالبة بجلاء لكافة أفراد المجتمع بتحقيق العبودية الحقة لله ـ تعالى ـ والانقياد التام له والتسليم لشرعه وعدم الخروج عن أمره والتأكيد على الدعاة بعدم إخفاء حقيقة دعوتهم في طروحاتهم سعياً في استصلاح جوانب الانحراف في المجتمع، وإقامةً للحجة على العباد وإبراءاً للذمة أمام الله ـ تعالى ـ.
الحذر من التفلت الشرعي الذي يقع فيه بعض الدعاة أثناء طروحاتهم عن المرأة، ومع إدراك أن الدافع لبعضهم قد يكون الحرص على الدعوة والسعي إلى تقريب الكثيرات إلى الإسلام؛ إلا أنه قد فاتهم تذكُّر أن الانضباط بالشرع شرط لصحة العمل وأن الغاية مهما كانت شريفة لا تسوِّغ الوسيلة، وأن الباري ـ عز وجل ـ لا يُتقرب إليه بمعصيته ومخالفة أمره بل بطاعته وامتثال شرعه.
- التوجه إلى التخطيط الجاد والمتكامل في دعوة المرأة وتربيتها، والمبني على إدراك عميق للماضي ومعايشة للحاضر واستشراف للمستقبل، وترك الارتجال والعفوية وسطحية التفكير والتنبه إلى أن ذلك وإن قُبِلَ في أزمنة ماضية فإنه غير مقبول بحال اليوم نظراً لضخامة الاستهداف للمرأة والعمق في التخطيط والدقة في التنفيذ لدى العلمانيين، والحذر من أن ينشغل العلماء والدعاة بردود الأفعال تجاه قضايا وأحداث جزئية يصنعها العلمانيون تتصف بالإثارة والهامشية على حساب قضايا جوهرية سواء في جهة البناء والتربية أم في جهة مواجهة القوم ودفع أخطارهم.(5/63)
- العمل على طرح مبادرات إصلاحية جذرية تتسم بالعمق والشمول والواقعية بدلاً من الحلول الترقيعية وتجزئة القضايا بشكل يمكن العلمانيين من التلاعب بالأمر والمزايدة فيه بالدعوة إلى إصلاحات جزئية هامشية لها بريق تستغل في تخدير فئات كثيرة من المجتمع وتحييدهم عن الوقوف في صف العلماء والدعاة والذين يسعون إلى القيام بإجراء إصلاحات جوهرية في القضايا والمجالات الأساسية.
- الاعتناء بالقيام بإجراء تقييم شامل لأنشطة الدعاة وبرامجهم المختلفة والموجهة إلى المرأة، ومراجعتها من حيث الكم والكيف، ويتأكد ذلك اليوم نظراً لتغير الاحتياجات وتبدل الأحوال وتطور الإمكانات، وما لم يتم ذلك وتهيأ له الفرص الكفيلة بالنجاح فإن الزمن سيتجاوز أنشطة الدعاة وبرامجهم، ويجعلهم كمن يوصل الرسائل بين البلدان عبر الأقدام والدواب في زمن الأقمار الصناعية و الإنترنت.
- توحيد الصفوف ولمّ الجهود وسعة الصدر لرأي أهل العلم الأثبات المخالف في مسائل الاجتهاد، والتطاوع فيما لا إثم فيه، والمحاورة بالتي هي أحسن، وحسن الظن بالآخرين، والتماس العذر لهم، ومغفرة زلاتهم، والتجاوز عن هفواتهم... من أهم المهمات التي على العلماء والدعاة العناية بها؛ لأن الاختلاف شر والفرقة عذاب، وتضرر الدعوة من كون بأسها بينها وعدوها من داخلها أعظم عليها جداً من تربص أعدائها بها وكيدهم لها.
-إدراك الدعاة لحقيقة الوضع وأنهم في صراع مع قوم ينتمون إلى جهات تريد اجتثاث قيم الإسلام وأخلاقياته وإحلال قيم وأخلاقيات حضارة أخرى تناقضها مكانها، وعليه فالواجب عليهم طول النفَس وبعد النظر ومحاسبة الذات وإدراك صعوبة الطريق وأن الهدم أسهل من البناء وتهيئة النفْس لتحمل الهزيمة والمواصلة بعدها لأن العاقبة للمتقين، ومعرفة أن الانتصار الحقيقي يكمن في الثبات على المبدأ، أما شيوع المبدأ فالداعية يسعى له ويجد في سبيل ذلك، ولكن ليس من شأنه تحققه، وله أسوة بالأنبياء ـ عليهم السلام ـ إذ قتل بعضهم وطرد آخرون، ويأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي ومعه سواد كثير قد سد الأفق.
- أهمية أن تتجه برامج الدعاة إلى تربية كافة شرائح النساء في المجتمع والبناء الصحيح لشخصياتهن وبخاصة تلك التي لم تؤثر فيها طروحات العلمانيين بعدُ، أو أن تأثيرهم محدود فيها، وأن تشتمل تلك البرامج على جرعات تحصينية ضد أساليب العلمانيين في الطرح، وذلك لأن الوقاية خير من العلاج وما استدفع الشر بمثل الاستعاذة بالله منه، والتعرف عليه للحذر من التلبس به.
- الإقرار بوقوع صور متعددة من الظلم الواقع على المرأة في مجتمعاتنا بسبب الجهل بالشرع وعدم تطبيقه، وهو ما يجب إفهامه للمرأة التي يريد العلمانيون تشويه صورة الإسلام في ذهنها، والإسلام لا يتحمل نتاج البعد عنه.
- الاعتناء بتحلي صغار شباب الصحوة بصفات الحكمة والصبر والحلم والروية وعدم الاستعجال، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والتعامل مع الأحداث بعقل لا بعاطفة مجردة، ومشاورة أهل العلم والخبرة في سبل مدافعة العلمانيين حتى لا تُجَر الصحوة إلى مواقف غير محمودة العواقب، وبخاصة أنه لا توجد لدى (القوم) أي معايير أخلاقية تمنعهم من فعل أي شيء في سبيل تحقيق أغراضهم ومآربهم.
إقامة تعاون إيجابي في المجالات الدعوية والتربوية بين البيئات والمناطق المختلفة يتم بواسطته تبادل الأفكار والخبرات، والبدء في البرامج المختلفة من حيث انتهى الآخرون، وهذا ولا شك سيشجع على مزيد انطلاق، ويوسع دائرة الاختيار أمام الدعاة ويمنع من هدر الطاقات والإمكانات في إقامة برامج ثبت إخفاقها متى امتلك الدعاة الشجاعة الأدبية للتراجع عن أنشطتهم ذات العائد الدعوي والتربوي الأقل، وتجاوز المألوف مما لا بعد شرعياً له وتحمل الضغوط البيئية الناتجة عن ذلك.
سبل المدافعة:
السبل المقترحة لمدافعة العلمانيين في مجال المرأة كثيرة، ومن أبرزها:
أولاً: سبل تتعلق بالمرأة والمجتمع ومن أبرزها:
العناية بتأهيل المرأة وبناء شخصيتها بناءاً متكاملاً في كافة الجوانب التي تحتاجها و من أبرز ذلك:
أ- تعميق قضية الهوية والانتماء لهذا الدين لديها وتوضيح مقتضيات ذلك ولوازمه كوجوب المحبة الكاملة لله، والانقياد التام لشرعه فيما وافق هوى العبد وفيما خالفه، "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"(1).
ب - تجلية رسالة المرأة المسلمة في الحياة والدور المنوط بها في عصرنا في سبيل نهضة الأمة ورقيها واستعادتها لعزتها، والسبل المعينة لها على أداء ذلك.
ج - العناية بالجوانب الإيمانية والعبادية لدى المرأة، وتزويدها بالعلم الشرعي، وبخاصة فيما تحتاج إليه ولا يسعها جهله في مراحل حياتها المختلفة.
د - رفع مستوى ثقافة المرأة وتحبيبها بالقراءة وتدريبها على ممارسة التثقيف الذاتي والاستفادة من الوسائل التقنية المتاحة في ذلك.(5/64)
هـ - رفع مستوى وعي المرأة وإدراكها لواقعها والتغيرات الضخمة الحاصلة فيه، وما يحاك ضد الأمة عموماً والمرأة خصوصاً من مخططات تهدف إلى إبعادها عن دينها، وتهميش دورها في الحياة بشكل يجعلها تعيش في عزلة شعورية عن حاضرها.
و - الرقي باهتمامات المرأة وتعميقها وإبعادها عن السطحية، وتعويدها على الجدية وترتيب الأولويات وعدم الانشغال بالترهات والتوافه.
- تقرير الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة، نحو: كون الأصل قرارها في البيت، والتزام الحجاب، وعدم إبداء الزينة والتبرج تبرج الجاهلية الأولى، ودعوة المرأة إلى التزامها.
- رصد المشكلات التي تعاني المرأة منها في كافة الجوانب المختلفة، والسعي إلى تلافيها والتقليل من نتائجها السلبية.
- العناية بوقت المرأة وشغله بالمفيد واقتراح السبل الملائمة لتحقيق ذلك(2).
- تقوية البناء الأسري وبخاصة في المجال الدعوي؛ إذ إن للدعوة العائلية أهمية فائقة في تعليم المرأة دينها وتحصينها ضد طروحات العلمانيين ومكائدهم.
- تفعيل دور المرأة في مواجهة مخططات العلمنة الساعية لإفسادها، وتشجيعها على القيام بدعوة بنات جنسها؛ لأنها الأعرف بمجتمعاتهن والأكثر تأثيراً فيهن والأقدر على الاتصال بهن والبيان لهن فيما يخصهن، مع أهمية العناية بجانب التحفيز لها وإيجاد الدوافع لديها لمواصلة نشاطها الدعوي حتى لا تفتر أو تصاب باليأس والإحباط نتيجة طول المسير ومشقته(3).
- مطالبة النساء بالعناية ببيئاتهن الخاصة ـ أزواجاً وأولاداً ـ والقيام بالدور المنشود منهن في استصلاحها وإمدادهن بالوسائل والآليات والسبل المناسبة، وخاصة فيما تجهله المرأة مما يناسب في خطابها للرجال من محارمها؛ لأنهن الأكثر دراية بها، والأقدر على توجيهها والتأثير فيها متى استخدمن الحكمة. تفعيل دور الصالحات في المجتمع وإفساح المجال وفتح القنوات والميادين الملائمة أمامهن، ومحاولة إعداد بعض المتميزات ـ علماً وتفكيراً وسلوكاً ـ ثم إبرازهن بصفتهن قدوات لنساء المجتمع.
- توعية المجتمع بأهمية دور المرأة في نهضة الأمة ورقيها، ومطالبة أفراده بمؤازرتها والتواصي برفع صور الظلم المختلفة عنها والموجودة في بعض البيئات، وترك اللامبالاة والغفلة والتهميش للمرأة الذي يقع فيه بعض الأفراد، اقتداءاً بنبينا r في تعامله مع المرأة.
ثانياً: سبل تتعلق بمجابهة العلمانيين، ومن أهمها:
- إبانة أهداف العلمانيين والتي من أبرزها:
أ - التشكيك بالأصول وإزاحة ثوابت الأمة العقدية وأسسها الفكرية والسلوكية وإحلال حضارة الغرب وقيمه مكانها.
ب - إخراج المرأة عن العبودية لله ـ عز وجل ـ والاستمساك بشرعه، وجعلها مجرد متاع في مسارح الرذيلة وملاهي الخنا ووسائل الإعلان وأوراق الصحف والمجلات وشاشات التلفزة والقنوات الفضائية.
ج - الدعوة إلى التفلت الديني والفوضى الاجتماعية تحت مسمى الحرية والمساواة.
د - إيضاح أن حقيقة الحقوق المزعومة التي يطالبون بإعطائها للمرأة حق الإلحاد والزنا والعري والحمل السفاح والشذوذ الجنسي سالكين طريقة التلميع للوسائل والتزوير للحقائق والإظهار للباطل بمظهر أخاذ.
- تتبع العلمانيين وكشف تاريخهم ودراسة إنتاجهم الفكري ورصد أنشطتهم ووزنها بميزان الشرع وإبانة ما فيها مما يتناقض مع ثوابت الأمة والسعي إلى زعزعتها لكي يتم فضح القوم وكشف انعزالهم عن قيم الإسلام وحضارته، وارتباطهم خدمة وتربية وفكراً وسلوكاً بجهات خارجية معادية تسعى إلى استئصال هوية الأمة وإحلال قيمها مكانها، وذلك من شأنه أن يمكن العلماء والدعاة من نقل الطرف الآخر من مرحلة الهجوم إلى الدفاع.
- تتبع مداخلهم النفسية وأنشطتهم الجاذبة لكثير من النساء والعمل على الحد منها والتخفيف من آثارها وإيجاد بدائل إسلامية عنها.
- العمل على استمالة القريبين فيهم من الحق ودعوتهم والعمل على كسبهم إلى جانب الموقف الشرعي الصحيح.
- تحديد الشبهات التي يثيرونها حول النظام الإسلامي في مجال المرأة مما يتخذونه وسيلة لتشكيك المرأة في دينها وزعزة عقيدتها، والقيام بتفنيدها(4) والإثبات ـ عقلاً وواقعاً - أن النظام الإسلامي هو الطريق الأمثل لحماية المرأة من الظلم وصيانة المجتمع من الفساد، وإعطاء كل ذي حق حقه.
- بيان حقيقة واقع المرأة في الغرب وكشف ضخامة الأمراض والمشكلات التي تواجهها على كافة الأصعدة(5)، وفي ذلك أعظم تعرية للعلمانيين والذين يطالبون المرأة في مجتمعاتنا بمحاكاة المرأة الغربية والسير على منوالها إن هي أرادت سلوك طريق التقدم والمضي في دروب الحضارة ـ كما زعموا ـ.
ثالثاً: سبل تتعلق بالعلماء والدعاة، ومن أهمها:
-إدراك الواقع إدراكاً جيداً وتحليل جوانب القوة والضعف لدى الطرفين(6)، والاستفادة من ذلك في تحديد أهداف المرحلة والسبل المثلى للمدافعة. إبانة حقيقة النظام الإسلامي في معاملة المرأة، وتجلية محاسنه وإزالة الشبهات التي تثار حوله؛ لأنه لن يدحض الظلام إلا النور كما قال ـ تعالى ـ: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء: 18].(5/65)
- إيضاح الاختلاف الجذري بين النظام الإسلامي وواقع المجتمعات الغربية، والذي من أبرزه:
أ - أن الأسرة في النظام الإسلامي تعد اللبنة الأولى في تكوين المجتمع؛ بينما يعد الفرد في الغرب هو الركيزة الأساس.
ب - أن العلاقة بين الجنسين في النظام الإسلامي علاقة تكامل وتلاحم وحرص من كلا الطرفين على مصالح الآخر كحرصه على مصالحه، وطبيعة العلاقة في كثير من أرجاء الغرب اليوم قائمة على التنافس والتنافر بين الجنسين وحرص كل من الطرفين ـ وبخاصة المرأة التي تشعر بالاستضعاف ـ على فرض هيمنته على الآخر.
ج - أن النظام الإسلامي يعطي المرأة حقوقها الشرعية كاملة وفي المقابل يطالبها بالقيام بالواجبات الشرعية التي يفرضها عليها والتي لا تقوم الحياة السوية إلا بها، وفي الغرب نجد أن كثيراً منهم ـ يتبعهم العلمانيون في بلداننا ـ يوهمون المرأة بسعيهم لإعطائها حقوقاً هي في واقع الأمر بوابتهم الرئيسة لاستعبادها واستخدامها استخداماً جسدياً قذراً بعيداً عن مراعاة متطلبات روح المرأة وعقلها وقيم المجتمع وأخلاقياته.
- إقامة لجان ومراكز أبحاث مهمتها العناية بالجوانب الإعلامية وإبراز جهود العلماء والدعاة ـ أفراداً ومؤسسات ـ في قطاع المرأة عموماً والأسرة خصوصاً في الجوانب المختلفة: العلمية، الاجتماعية والصحية، وإعداد المعلومات والإحصائيات عنها، ونشر ذلك بشكل دوري عبر وسائل الإعلام لإظهار ضخامة الجهد المبذول وضآلة ما يقوم به العلمانيون مقارنة بها.
- العناية بالنساء في البيئات الخاصة بالدعاة تعليماً وتربية؛ نظراً لإمكانية التأثير القوي والاتصال المباشر لكي يتم تلافي الإهمال غير المتعمد لها الناتج عن الانشغال بالبيئة الخارجية وإبراز قدوات نسائية للمرأة ذات عمق في التفكير وجدية في الاهتمامات وقوة في الأخذ بالإسلام.
- تفعيل دور العلماء والواجهات الاجتماعية الخيرة ـ ذكوراً وإناثاً ـ وكافة أفراد المجتمع ومطالبتهم بالقيام بالدور المنشود منهم في مواجهة طروحات العلمانيين ودفع خطرهم، استفادةً منهم من جهة وتوسيعاً لدائرة المعركة من جهة أخرى بدلاً من جعلها كما يريد العلمانيون بينهم وبين الدعاة فقط.
- زيادة المناشط الدعوية والاجتماعية وتحسينها والاعتناء بتناول الموضوعات المختلفة التي تحتاجها المرأة مع الحرص على التجديد في الأساليب والإبداع في الوسائل لضمان تفاعل المرأة معها بشكل أكبر.
- توثيق الصلة بالمثقفين ورجال الأعمال ومد الجسور معهم لترشيد أعمالهم من جهة والحيلولة دون أن تكون عوناً للعلمانيين على إفساد المرأة من جهة أخرى، وللتنسيق معهم في اقتحام مجالات جديدة تحتاجها المرأة كصناعة الترويح والملابس ونحوها وفق الضوابط الشرعية.
- توسيع دائرة الانفتاح الدعوي على كافة مجتمعات النساء: ملتزمات وغير ملتزمات، مثقفات وعاميات، متزوجات وغير متزوجات، أمهات وأخوات وبنات، وعدم قصر النشاط على فئة دون أخرى.
- اقتحام ميادين وقنوات دعوية جديدة في مجال المرأة، ومن أهم ذلك:
أ - قيام العلماء والدعاة بإنشاء جمعيات تنادي بالحقوق الشرعية للمرأة لقطع الطريق على العلمانيين الذين يَلِجُون من هذا الباب لتحقيق مآربهم.
ب -إقامة مراكز أبحاث نسوية خاصة بشؤون المرأة.
ج - إنشاء مؤسسات إنتاج ودور نشر متخصصة بقضايا المرأة ودعوتها.
العمل على تغيير هيكلة تعليم المرأة ليناسب وضعية المرأة ورسالتها في الحياة، والسعي لتطوير المناهج وفتح التخصصات التي تساعدها على القيام بدورها الأساس المنوط بها زوجةً وأماً ومربية.
وختاماً: فلا بد من إدراك أن الخطب جسيم، ويحتاج إلى استعانة صادقة بالله ـ تعالى ـ وعمل جاد، وتضافر قوي لكافة جهود المخلصين؛ وإلا فإن العاقبة ستكون وخيمة والمصير غير محمود، وعندها سيهيئ الله لدينه جيلاً ينصره ويقوم بأمره، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تاريخ بغداد للخطيب: 4/963، شرح السنة للبغوي: 1/312، وصححه النووي في الأربعين واستبعد ذلك جداً ابن رجب في جامع العلوم والحكم: 2/493، وقال الحافظ في الفتح: 31/203: (أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات).
(2) من الأمور الهامة التي ينبغي تحريض المرأة على ممارستها: العبادة والذكر، مدارسة القرآن والأحاديث النبوية، القراءة المبرمجة، الاستماع إلى الأشرطة النافعة، إدارة المشاريع النسوية التعليمية والاجتماعية ودعمها، التعرف على الأرامل والأسر المحتاجة ومساعدتها، تعلم الأعمال المهنية والأنشطتة الملائمة من خياطة وحاسوب وأشغال فنية ومسائل الأمومة والاهتمام بالطفل ونحو ذلك.
(3) من أهم الحوافز التي ينبغي العناية بها: بيان ما أعد الله للداعين للهدى، وإيجاد الشعور بالتحدي ببيان ضخامة الاستهداف العلماني الموجه للمرأة، وذكر نماذج متميزة لبعض داعيات الحق وأخرى لداعيات الضلال.
(4) من أبرز الجوانب التي يكثر القوم من الطعن فيها: أحكام التعدد والميراث والحجاب والخلوة والاختلاط، ومسائل القوامة والولاية والطلاق.(5/66)
(5) من الأمور التي لا بد للدعاة من الحديث عنها في هذا المجال: نسب العفة والزواج والطلاق والأولاد غير الشرعيين والخيانة الزوجية في الغرب، ومشكلات العنوسة والخروج عن الفطرة والتحرش بالمرأة والأمراض الجنسية والنفسية والتفكك الأسري وواقع الأبناء بعد خروج المرأة للعمل والمعاناة التي تلقاها الفتاة حتى تتزوج هناك، ومسائل النفقة والمعاملة التي تلقاها المرأة الغربية في أطوار حياتها المختلفة: أماً وأختاً وابنةً وزوجةً ومسنةً، متزوجة ومطلقة وأرملة.
(6) من أبرز جوانب قوة العلماء والدعاة: جلاء الحق الذي يدعون إليه، وعمق انتمائهم إليه، والعاطفة في المجتمع نحو الدين، وكراهية أفراده لأعدائه والعاملين لحساب جهات خارجية تريد تقويضه، والعودة الصادقة لكثيرات من نساء المجتمع نحو الالتزام بالإسلام عقيدة وسلوكاً.
=============(5/67)
(5/68)
دور المرأة المسلمة في مواجهة التغريب
تمر أمتنا الإسلامية في الوقت الحاضر بمرحلة في غاية الخطورة هي محاولة إرساء التغريب في أرضها وإحكام الهيمنة عليها من قِبَلِ أعدائها. والتغريب هنا هو تحويل الثقافة العربية والإسلامية من عقيدة وسلوك، وعادات وتقاليد إلى ثقافة وعادات وتقاليد تابعة للغرب مخالفة تماماً لعقيدتنا وتراثنا الإسلامي، ومن ثم تصبح الهيمنة على أمتنا والسيطرة عليها واحتواؤها سهلاً ميسوراً؛ بحيث تخضع خضوعاً تاماً لما يريده الغرب، الذي يحاول جاهداً دون كلل أو ملل بث أفكاره وثقافته بكل السبل التي يستطيع الدخول من خلالها.
وهذا التغريب قائم على أبحاث ودراسات حشدت لها كل الطاقات والإمكانات لكي تطبق على المسلمين، منها ثقافية وفكرية، ومنها نظم سياسية واقتصادية بعيدة كل البعد عن الإسلام وتشريعاته، مما يؤدي في النهاية بالمجتمع الإسلامي إلى أن يتشبع بالفكر الغربي وثقافته وحضارته المعادية للإسلام، فيقضي على شخصية المجتمع وولائه لدينه وأمته، ويصبح من السهل قيادته وتنفيذ كل ما يطلب منه. والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أهمها ما يتعلق بشؤون المرأة.
ولما كان للمرأة المسلمة أهمية كبيرة في تربية الأجيال ولها تأثيرها المباشر في تنشئتهم على الإسلام عقيدة وسلوكاً، فقد أعطى أعداء الإسلام أهمية قصوى لمحاولة تغريبها والتركيز عليها؛ وذلك من خلال الدعوات البراقة الكاذبة التي انخدع بها كثير من أبناء وبنات أمتنا... تلك الدعوات المسماة بالتحرر وانتزاع الحقوق، وطلب المساواة بينها وبين الرجل!
فإذا استجابت المرأة المسلمة لدعوتهم تلك فسيؤدي ذلك حتماً إلى إفسادها ثم إلى فساد المجتمع وتدميره بأقصر الطرق وأسرعها؛ لما لها من تأثير فعال في ذلك، مما لا يستطيع أن ينكره عاقل.
ومن المؤسف حقاً أن نجد فئة من نسائنا قد انجذبت وانساقت لتلك الأباطيل، فتبنت أفكارهم المضللة تلك، والدعوة لها، وعشن بتبعية كاملة لهم فكرياً واجتماعياً وسلوكياً، مقلدات المرأة الأوربية تقليداً أعمى دون إدراك أو تفكير بحيث ينطبق عليهن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)(1).
ولقد غاب عن وعي أولئك النسوة أن الظروف الاجتماعية والقانونية والتاريخية التي واجهت المرأة الأوربية مختلفة تماماً عمّا واجهته المرأة المسلمة؛ فالمرأة هناك تعيش مجتمعاً قائماً على قوانين من وضع البشر وليست شرائع ربانية؛ فكان هناك انتهاك وهضم لحقوق المرأة مما جعلها تثور وتتمرد لتحصل على حقوقها.
أما المرأة المسلمة فقد أعطاها الإسلام حقوقها كاملة منذ أربعة عشر قرناً؛ فيحق لها أن تفخر وترفع رأسها عالياً بتلك الحقوق التي لم تحصل عليها كثير من النساء في أكثر البلدان التي تدعي الحضارة والتقدم إلى الآن.
لقد كرم الإسلام المرأة أحسن تكريم، ورفع مكانتها ووضعها في المكان اللائق بها، ولم يفرق بينها وبين الرجل، بل ساوى بينهما في الحقوق والواجبات، والثواب والعقاب. ولا أدري ـ والله ـ ما هي الحقوق التي تطالب بها المرأة المسلمة؟ وقد أعطاها الإسلام كامل حقوقها الدنيوية والأخروية.. أما الدنيوية: فمنها حق التعلم والعمل، وحق التملك والتصرف بملكها وتجارتها دون تدخل من زوج أو أب. كما أعطاها حق اختيار الزوج؛ وحق الخلع إذا لم توفق بزواجها. ومن حقها أيضاً المحافظة على اسم عائلتها بعد الزواج؛ وذلك بعكس المرأة الأوربية التي تحمل اسم عائلة زوجها بعد الزواج. وأيضاً أُعطيت المسلمة حق الإرث فهي ترث وتورث، يقول ـ تعالى ـ: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً) [النساء: 7].
وأما حقوقها ومساواتها مع الرجل في الأجر فقد بينه قوله ـ تعالى ـ: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى)) [آل عمران: 195]. وقوله ـ تعالى ـ: (إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ والْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب: 35]. وبعد ذلك: ماذا تريد المرأة أكثر من هذا؟
وهنا سؤال يطرح نفسه: ما هو المطلوب من المرأة المسلمة أن تفعله؟(5/69)
المرأة المسلمة اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى أن تكون سلاحاً في وجه أعدائها؛ وذلك من خلال رفضها لكل الدعوات الكاذبة والخادعة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، متمثلة قوله ـ تعالى ـ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ(1)لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) [الكافرون: 1، 2].
فعلى المرأة المسلمة أن تقف سداً منيعاً إلى جانب الرجل المسلم في وجه ما يخطط للأمة الإسلامية من خلالها، فلا تكون عوناً لأعدائها وأعداء أمتها؛ بل يجب عليها أن تعي وتدرك ما يدور حولها من خطط لإبعادها عن دينها ورسالتها في هذه الحياة وتهميش دورها في بناء مجتمعها الإسلامي، وإشغالها بتوافه الأمور، وإضاعة وقتها في تتبع ما تبثه الفضائيات، وما تنشره المجلات الهابطة من عروض للأزياء وآخر الموديلات من مكياج وعطورات، ومتابعة أخبار الفنانين والفنانات!
إنه من المؤلم حقاً أن نرى إلحاح الإعلام المرئي والمقروء على جعل تلك الشخصيات الفنية قدوة لأخواتنا وبناتنا المراهقات.. وما كثرة استضافتهن على شاشات التلفزيون وصورهن على أغلفة المجلات وداخلها، غير تأكيد على ذلك؛ وكأن الدنيا قد خلت إلا من هؤلاء!
إن أكثر ما يغيظ الغرب هو تمسك هذه الأمة بدينها؛ فدعوتهم إلى تحرر المرأة المسلمة والمتمثل عندهم بخلعها الحجاب واختلاطها بالرجال حتى يعم الفساد في المجتمع الإسلامي ما هو إلا دليلاً كبيراً على ما يكنه الغرب لنا من عداء؛ فلن يهنأ لهم بال ولا يستقر لهم حال حتى نترك ديننا ونعيش بتبعية كاملة لهم منفذين رغباتهم وأمانيهم التي لا تنتهي إلا باتباع ملتهم كما أخبرنا به ـ سبحانه وتعالى ـ بقوله: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120].
فالواجب على المرأة المسلمة أن تعود إلى إسلامها وتتمسك به بكل قوة، وتعيش تعاليمه كلها منهجاً وسلوكاً، وتطبقها على نفسها أولاً ثم على من هم تحت رعايتها. فلا بد أن تعلم المرأة المسلمة قبل كل شيء أن الإسلام كلّ لا يتجزأ؛ عقيدة، وعبادة، ومنهج حياة؛ فإذا أرادت أن تأخذ منه ما يطابق هواها وتترك ما يغايره فإن هذا ينقض العقيدة وسلامتها. يقول ـ تعالى ـ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36]. لذلك يجب عليها أن تلتزم التزاماً كاملاً بما أمرها الشرع من حقوق وواجبات، والبعد عن كل ما نهاها عنه قبل أن يستشري الداء ويزيد البلاء، فيعمنا الله بعقابه في الدنيا من قبل أن نلقاه. كما قال ـ تعالى ـ: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الأنفال: 25].
ومن الواجب على المرأة المسلمة أيضاً أن تعمل على تثقيف نفسها والتسلح بالعلم الشرعي، وذلك من خلال حضورها لبعض الدروس الشرعية المتاحة في مجتمعها، وسماعها للأشرطة المأمونة المتوفرة في السوق، وكذلك تلاوتها للقرآن وتدبر آياته وحفظ ما تيسر منه، وخصوصاً آيات الأحكام، وكذلك الآيات الكونية، والاطلاع على كتب التفسير والسيرة حتى يساعدها ذلك على أداء مهمتها في الدعوة لهذا الدين العظيم، ذلك الدين الذي جعلنا خير أمة؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما قال ـ تعالى ـ: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ) [آل عمران: 110] فإن وجدت في نفسها الكفاءة والقدرة للدعوة لهذا الدين العظيم في محيط مجتمعها فينبغي ألا تدخر جهداً في ذلك؛ فهذا واجب عليها. فإن لم تستطع فبإمكانها الدعوة بين أقربائها وجيرانها، فإن لم تستطع فيكفيها أن تنشئ أبناءها على العقيدة السمحة، وتربيهم التربية الصالحة، وتبث في نفوسهم حب هذا الدين والولاء له والبراء من أعدائه، وأن تشرح لهم معنى قوله ـ تعالى ـ: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...) [المجادلة: 22] لأننا اليوم في أمسّ الحاجة لكي يعلم أبناؤنا ما يخططه لنا الغرب الصليبي واليهود الحاقدون ومن شايعهم في محاولتهم الخبيثة لتذويب شخصية شبابنا المسلم في بوتقة الانحراف، وإبعادهم عن هويتهم الإسلامية الصحيحة؛ ففي هذه الظروف التي نراها الآن وتعيشها الأمة الإسلامية وقد تداعت عليها الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتها، نرى أمتنا وقد هانت على أعدائها وتكالبوا عليها لتضليل أبنائها ونهب ثرواتها وخيراتها.. فهم كما نرى يصطنعون الأحداث في بلادنا ويضعون لها الحلول.. يخططون وينفذون ما يريدون؛ ففي مثل هذه الظروف يجب أن تتكاتف الأيدي جميعاً.(5/70)
فلتكن المرأة المسلمة عوناً للرجل تسانده وتشجعه بالدعوة لهذا الدين والذود عنه، فلا تضيع وقتها فيما لا يعود عليها ولا على أمتها بالخير؛ فالعمر هو الوقت، والمسلم سوف يسأل عن عمره فيما أفناه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن رزقه من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)(2).
فعلى المرأة المسلمة الحذر كل الحذر من أن تقع في شراك أدعياء تحرير المرأة؛ فإنهم يهدفون من وراء ذلك الطعم اصطيادها وتحللها من دينها وقيمها وأخلاقها؛ وحينها تكون ذيلاً لهم وتابعة ذليلة لمناهجهم.
إن الأمر جد خطير؛ فلا بد من تعبئة كل القدرات وتهيئتها وتضافر الجهود وبذل الطاقات من أجل صحوة دينية نسائية صادقة هادفة تقوم على أسس هذا الدين ومبادئه؛ فقد آن الأوان لكي نرد لهذا الدين عزته، وللمؤمنين كرامتهم؛ فنحن أحق بأنفسنا من التبعية للأجنبي الغريب، بل نحن أحق بقيادة هذا العالم؛ لأن ديننا صالح لكل زمان ومكان، وهو ينشر العدل والأمن والسلام بين البشر وميزانه: (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13] و (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى).
فللّه العزة ولرسوله والمؤمنين... ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
الهوامش :
(1) البخاري: كتاب الأنبياء، حديث (50) وكتاب الاعتصام، حديث (14). ومسلم: كتاب العلم، حديث (6).
(2) الترمذي: كتاب القيامة، حديث رقم (1).
==============(5/71)
(5/72)
الوجه الآخر
كثيراً ما تثار قضية إنصاف المرأة من الرجل وضرورة الأخذ بحقوقها المسلوبة.. وجميل أن نجد من يثأر لها . ويأخذ بحقها خصوصا ونحن نعلم أنها تحتاج للنصرة في كثير من المواطن والظروف..
لكن العجيب أننا قليلاً ما نسمع من يطالب بإنصاف المرأة من بنات جنسها. فهذه لاشك دعوة من نوع جديد مع أن المجتمع يعيشها ويعاني منها!
فئة ليست بالقليلة من النساء اللاتي يرزحن تحت ظلم المرأة لأختها المرأة..
ولعل من أشنع صور هذا الظلم ما نسمعه بين حين وآخر من فئة من النساء اللاتي يرفعن الخطاب النسوي التغريبي ويطالبن بحقوق هي في الواقع أعباء والتزامات جديدة يثقل بها كاهل المرأة من جديد ومن أمثلتها الدعوة إلى قيادة السيارة أو المشاركة السياسية والتحرر من قوامة الرجل وعدم اشتراط المحرم في السفر...إلخ
تلك الدعاوي الجوفاء التي هي أبعد ما تكون عن المعا ناه الواقعية لكثير من النساء فماذا يمكن أن تقدم هذه الدعاوي أمام تعسف وتشدد بعض الآباء وأولياء الأمور الذين منعوا مولياتهن حق الزواج وردوا الخُطاب حتى تصل الفتاة إلى سن يعزف عنها الرجال أو تزويجها لمن لا ترغبه ؟!
وماذا يمكن أن تقدم هذا الدعاوي لنساء يعانين من سوء معاملة الأزواج وأمام استبدادهم بالرأي والتنصل من المسؤولية وإهمال الزوجة وربما تركها وأولادها تواجه صعاب الحياة وربما طالبها بالنفقة عليه وعلى أولاده أوعضلها لتفتدي نفسها منه بمالها ؟َ!
وماذا يمكن أن نقدم للمرأة التي أخذ مالها ومنعت حقها في الميراث وسلبت حقها في التصرف في مالها ...؟!
الى غير ذلك من صور التي هي حقوق أولية واهتمامات حقيقية للمرأة !!
إن صور الظلم للمرأة من اختها الكثير ومنها ظلم زوجات الآباء وظلم أم الزوج لزوجة ولدها والعكس..!! وظلم المديرات لمن تحت أيديهن من الموظفات..
صور كثيرة قد لا يعرفها إلا من خالط النساء وعلم ما يدور في واقعهن من ظلم وقهر مصدره غالباً المرأة لأختها !!
فهل آن الأوان أن تخفض الأخت لأختها جناح الرحمة والشفقة التي هي أقرب الناس إليها وأعلمهم بحالها ومعرفة واقعها وهمومها ومعاناتها؟
ومتى تتحد الأصوات النسائية الراشدة ليرفعن راية المطالبة بالأخذ بالحقوق ومنع الظلم ورفض دعاوى التبرج والسفور والتحرير التي هي في الواقع أبواق للإعلام الغربي الآسن؟!!
كذلك فتح مراكزالإستشارات الأسرية ومناقشة قضايا المرأة في وسائل الإعلام وتصعيد هذه القضايا الهامه من خلال الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب, لتوعية المجتمع بالحقوق والواجبات وتسهيل مهمة وصول المرأة إلى القضاء عند الإعتداء عليها وإقامة المؤتمرات لمعالجة قضايا المرأة والرد على المغرضين ودعاة التحرير وتكثيف اللقاءات التربوية والثقافية النسائية التي تتبناها جهات موثوقة والأهم من كل ذلك : التركيز على تربية المرأة وتوثيق علاقاتها بربها وتخريج جيل قوي يحمل هم الدين والدعوة حتى توصد الأبواب أمام زحف التغريب والعلمنة في ظل النظام العالمي الجديد .
والله أسأل أن يحفظ نساء المسلمين من الفتن ويثبتهن على الحق ويجعلهن هاديات مهتديات 00آمين.
==============(5/73)
(5/74)
يا مصلحون : أوصدوا الأبواب أمام زحف التغريب
إنه لمن المستغرب ما نسمعه ونشاهده اليوم من هجمة شرسة على الكل بوجه عام، وعلى المرأة بوجه الخصوص، في هذه البلاد التي أعزها الله وشرفها بكونها مهبط الوحي، منبع الرسالة ومقر الحرمين الشريفين.
غير أن فئة من المستغربين، وأدعياء التحرر والمساواة، لا يريدون لها ذلك، فهم يسعون جاهدين لهتك ستر الفضيلة والحياء بدعوى الحرية والمساواة ورفع الظلم عن المرأة - زعموا - وبالتأمل في دعواتهم وشعاراتهم نجد أن هناك ثغرات استطاعوا الدخول منها إلينا، وهي سلوكات مرفوضة من الدين، وتبدر من بعض ضعاف الإيمان. أذكر أبرزها:
* التعسف والتشدد من بعض الآباء وأولياء الأمور ومنع مولياتهن الزواج ورد الخطاب، حتى تصل الفتاة إلى سن يعزف عنها الشباب الراغب في النكاح، أو تزويجها بمن لا ترغب فيه.
* سوء معاملة الأزواج لزوجاتهن، واستبداد الرجل بالرأي، وعدم مشاركة الزوجة حتى في أخص الخصوصيات كتزويج ابنتها .. أو نحو ذلك.
* عدم العدل لمن تزوج بأخرى، وإهمال الزوجة الأولى بعد الزواج بأخرى، والتنصل من المسؤولية، وتركها وأولادها تواجه صعاب الحياة.
* منع المرأة حقها في الميراث، وخصوصاً في بعض القرى، وفي حين مطالبتها بهذا الحق يتحامل عليها الأولياء، وتقطع من قبلهم.
* تسلط الأولياء على المرأة، وأخذ مالها، ومنعها حق التصرف فيه.
* العضل سواء من ولي المرأة، أو زوجها لتفتدي نفسها دون أن تجد لها نصيراً.
* منع النفقة الواجبة للزوجة على الزوج، ومطالبتها بالنفقة، خصوصاً إن كانت ذات مال.
* الظلم الذي تعانيه كثير من المطلقات بعد وقوع الطلاق من الإضرار بها، ومنعها حق رؤية الأبناء أو الاتصال بهم، أو ترك الأولاد معها بدون نفقة أو رعاية من الأب، بالإضافة إلى ما تجده المرأة المطلقة من سوء معاملة الأهل والأقارب. ومما تجدر الإشارة إليه مقال نشرته جريدة عكاظ في العدد 1266 يوم الجمعة 7 ذوالحجة من عام 1421هـ بعنوان "المطلقات في الأرض" تكلم فيه الكاتب عن تصرف بعض الرجال مع زوجاتهم السابقات، وطلاقهم لهن بعد طول العشرة بدون اعتبار لمعاناتهن وتضحياتهن من أجل هؤلاء الأزواج، ثم تبقى بدون عائل ولا ناصر... ويختم مقاله بقوله: "أعلم أن الزوج غير ملزم بالنفقة على مطلقته، فماذا تعمل هذه المطلقة؟ وإلى أين تلجأ؟ وكيف تعيش؟ ومن ينصرها؟
أسئلة كثيرة تتقافز من مخابئها، وأنا لا أملك أو لا أعرف أي إجابة فقهية لمثل هذه الأسئلة، فقط أتمنى أن أجد إجابة شافية عند مشايخنا الأفاضل حول أولئك الرجال الذين يقذفون بزوجاتهم عند نصف المشوار أو آخره، من غير أن يكون للزوجة أهل أو مأوى أو مجال للاكتساب ...." إلخ.
ولو راجع الكاتب باب النفقات في كتب الفقه لعرف كيف أن الإسلام قد ضمن الحقوق وأوجد التكافل بين جميع أفراد المجتمع (راجع المغني لابن قدامة9/256،257،7/582،583)، فهذه المطلقة لا بد أن تكون أماً أو أختاً أو عمة أو جدة، ومن هنا فالإسلام قد ضمن لها حق النفقة علىولدها أو ولد ولدها أو ابن أخيها... وهكذا، وإن لم يوجد قريب على الإطلاق فهناك "الضمان الاجتماعي" وهذه غالباً حالات شاذة.
ومن هنا أبين موقف الإسلام من مثل هذه الحالات - باختصار - حتى لا يظن ظان أن ذلك من الإسلام، فأما ما يتعلق بتزويج الفتاة فالإسلام اعتبر رضاها فلا تزوج إلا بإذنها، ففي الحديث "لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر".
يقول ابن قدامة - رحمه الله -: "أما الثيب فلا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن إذنها الكلام للخبر، ولأن اللسان هو المعبر عما في القلب..." اهـ (6/493)، أما البكر فإذنها صماتها، أي سكوتها كما في الصحيح: "لا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، فكيف إذنها؟قال: أن تسكت" (متفق عليه).
وأما ما يتعلق بسوء معاملة الزوجات فنعلم أن الإسلام قد حث على حسن معاملة الزوجة، وجعل خير الرجال خيرهم لأهله، كما في الحديث: "خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" (صحيح الجامع:3314).
وفي الحديث: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم" (رواه الترمذي وابن حبان والحكام وصححوه).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر" أو قال: "غيره".
وما زال صلى الله عليه وسلم يوصي بهن خيراً حتى آخر لحظة من حياته فعند موته يوصي بقوله صلى الله عليه وسلم "استوصوا بالنساء".
وكان يداعب أهله ويلاعبهن، ويسرب البنات لعائشة - رضي الله عنها - ليلعبن معها، ويستشيرهن في المهمات كما استشار أم سلمة - رضي الله عنها - في صلح الحديبية.
وقد أباح الإسلام التعدد ولكن بشروط منها العدل، والقدرة وحذر من الميل لإحداهن ومنع الحق عن الأخرى، في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل" (رواه النسائي).(5/75)
كما أن المرأة لها الحق في الميراث كالرجل تماماً، وهذا الحق فرضه الله تعالى لها دون أن يلزمها بحقوق النفقات، فهي تأخذ النصف مما يأخذه الرجل ومع ذلك فعلى الرجل أن ينفق عليها، ومن هنا ألفت النظر إلى تكريم الإسلام للمرأة التي كانت في الجاهلية تورث كسائر المتاع.
كما أن الإسلام أعطاها حق التصرف في مالها ولا يحق لأحد من الأولياء منعها من التصرف، أو التعدي على شيء من مالها ما لم تطب بذلك نفسها.
كما حرم الإسلام العضل، وأصل العضل الحبس والمنع والتضييق، يقال: عضل فلان فلانة عن الأزواج يعضلها عضلاً (انظر لسان العرب 11/451) وهو منعها الزوج ظلماً.
قال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (البقرة:232).
قال ابن جرير - رحمه الله - ويعني بقوله تعالى: {فلا تعْضلُوهُنَّ}: لا تضيقوا عليهن بمنعكم إياهن أيها الأولياء من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد. تبتغون بذلك مضارّتهن..." اهـ كلام جامع البيان (2/487).
وأما ما يخص الطلاق فنجد أن الإسلام قد حد من وقوعه بشتى الوسائل، فقال سبحانه: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً} (النساء: 34) ولكن عند استحالة صلاح الحياة الزوجية يكون الطلاق حينئذ مخرجاً وحلاً لكلا الطرفين. ومع ذلك يجب على الزوج أن لا يخرجها من بيتها حتى تنتهي العدة، وتجب عليه نفقتها في حالة الطلاق الرجعي، وأما البائن بينونة كبرى ففي وجوب السكن روايتان، ومن قال بها اشترط: أن يكون معها ذو محرم، وأن تكون في مكان لا يراها، وبينها وبينه باب مغلق.
وأما الأولاد فتجب عليه نفقتهم بإجماع العلماء. ومن شروط صحة الطلاق: أن يقع في طهر لم يجامعها فيه، فيحرم طلاقها وهي حائض.
كما أباح الإسلام الخلع للمرأة في حالة كراهية الزوج وعدم استطاعة العيش معه، ولست الآن بصدد التفضيل في مثل هذه القضايا الفقهية، فالمؤلفات فيها كثيرة جداً، ومن أراد التوسع في ذلك فليراجع الكتب الفقهية التي تناولت مثل هذه الموضوعات. وأنبه إلى أن مثل هذه الحالات قليلة. وهي سلوكات شاذة تصدر من بعض ضعاف الإيمان، وأما غالبية النساء فهن يعشن معززات مكرمات بجانب الولي الذي هو الزوج أو غيره من أوليائها، قد منحها حبه ورعايته، يحوطها وينفق عليها. وما دعوات هؤلاء القوم إلا خارجة عن محيط ما تعانيه المرأة من هموم، أو هي هموم طائفة من شواذ المجتمع الذين تربوا في خارج هذه البلاد، وتشربت قلوبهم حب أعداء الله تعالى، فأحبوا أن ينقلوا ما تعلموه إلى هذه البلاد.
وإني أتساءل: ماذا عسى المرأة أن تنال من الحقوق إن هي قادت السيارة، وتولت إدارة الشؤون خارج بيتها، ونبذت حجابها، واختلطت بالرجال، وشاركت في الاجتماعات واللجان والمؤتمرات والنوادي، وسافرت بلا محرم هنا وهناك، وتعلمت الفن والرياضة والرقص والغناء والتمثيل، بل وشاركتفي وسائل الإعلام وأبرزت جمالها ومحاسنها للرجال...؟!
لا شك في أن هذه أعباء ومسؤوليات هي في غنى عنها... بل هي شقاء لها وحرمان من الاستقرار والتمتع بواجبات الأمومة ورعاية الأسرة وتهيئة الجو الهادئ والسكن النفسي للزوج والأولاد، ومخالفة لفطرة المرأة وأنوثتها، بل قل لي بربك: من يتولى رعاية وتربية الجيل إذا شغلت الأم بكل هذا؟! وهذه نتيجة حتمية لإخراج جيل ضائع مترف لا هم له سوى الشهوات والملذات والاستغراق في المجون والمخدرات.
يقول فضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد - حفظه الله -: "ومن أشأم هذه المخاطر وأشدها نفوذاً في تمييع الأمة وإغراقها في شهواتها، وانحلال أخلاقها: سعي دعاة الفتنة، الذين تولوا عن حماية الفضائل الإسلامية في نسائهم ونساء المؤمنين، إلى مدارج الفتنة، وإشاعة الفاحشة ونشرها، وعدلوا عن حفظ نقاء الأعراض وحراستها إلى زلزلتها عن مكانتها، وفتح أبواب الأطماع في اقتحامها، كل هذا من خلال الدعوات الآثمة، والشعارات المضللة، باسم "حقوق المرأة" و "حريتها" و "مساواتها بالرجل" وهكذا .. لإسقاط الحجاب وخلعه، ونشر التبرج والسفور والعري، والخلاعة، والاختلاط، حتى يقول لسان حال المرأة المتبرجة: "هيت لكم أيها الإباحيون"!! اهـ (حراسة الفضيلة ص908).
ومن هنا أضع بين يدي علمائنا ودعاتنا المصلحين بعض المقترحات لعلها توصد الأبواب أمام زحف التغريب والعلمنة أو كما تسمى في عصرنا "نظرية الخلط" في ظل "النظام العالمي الجديد". ومن هذه المقترحات:
* إنشاء جمعيات خيرية تهتم بمعالجة المشكلات الاجتماعية والأسرية يشرف عليها نخبة من العلماء وذوي الرأي، ويوجد فيها فرع نسوي تشرف عليه الداعيات وطالبات العلم بعد تهيئتهن لهذه المهمات، مع المحافظة على السرية التامة عند معالجة هذه المشكلات.
* توعية المجتمع وعقد دورات للرجال والنساء في كيفية التعامل مع الزوج، ومعرفة حقوق الزوجة وحقوق المرأة على العموم، وواجبات كل طرف .(5/76)
* تسهيل مهمة وصول المرأة إلى القضاء عند تعدي أحد الأولياء عليها، ولو عن طريق الهاتف والفاكس، وذلك بإيجاد رقم هاتف خاص يستقبل مثل هذه القضايا وسرعة البت فيها؛ حتى يرتدع الأولياء عن التعدي على مولياتهن.
* إقامة مؤتمرات لمعالجة قضايا المرأة، والرد على المغرضين ودعاة التحرير يشارك فيها العلماء والدعاة وعلماء الاجتماع .
* أن ينشط الكتاب والمؤلفون ودور النشر للمشاركة في صد هذا الزحف، من خلال الكتابة في الصحف والمجلات وتأليف الكتب.. والتركيز على رد الشبهات وتفنيدها بأسلوب متين ومنهج علمي وموضوعية بحتة.
* التركيز على تربية المرأة، وتخريج جيل قوي من الداعيات، ومن خلال التركيز على دور التحفيظ النسائية، ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، وذلك باختيار الكفاءات للتدريس والإشراف ووضع المناهج والخطط التربوية، وتوجيه المتميزات، واستغلال الطاقات بإقامة دورات خاصة لهن وإعدادهن للقيادة، وحمل هم الدعوة.
هذا وأسأل الله جل وعلا أن يحفظ نساء المسلمين من التبرج والسفور وأن يثبتنا على الحق، وأن يرزقنا العلم والعمل والإخلاص، إنه سميع مجيد
=============(5/77)
(5/78)
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ).
الحرب على السلفيّة..!
( نقد الفكر "الليبرالي" السعودي )
فئة ضالة جديدة
بقلم/ د. محمد بن عبد العزيز المسند
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
قسم الدراسات القرآنية
وعضو الجمعية العلمية السعودية للقرآن وعلومه
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنّ من المعلوم أنّ هذه الدولة السعوديّة منذ نشأتها على يد الإمامين الجليلين محمّد بن عبد الوهّاب ومحمّد بن سعود ـ رحمهما الله تعالى ـ قد قامت على العقيدة السلفيّة النقيّة التي كان عليها السلف الصالح منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم.. والإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله لم يأت بجديد فيما دعا إليه، وإنّما جدّد ما اندرس من معالم هذا الدين لا سيّما ما يتعلّق بالتوحيد ونبذ الشرك، فكانت دعوته تحريراً للعقول من الجهل والخرافات والخزعبلات، وجرى على ذلك أتباعه من بعده حكاماً ومحكومين، ولقد تعرّضت هذه الدولة السلفيّة المباركة منذ نشأتها للكثير من الأذى والمواجهات والتحديات من قبل جهات عدّة، لكنّها ـ بفضل الله تعالى ثم بفضل تمسّك أهلها بهذه العقيدة السلفيّة النقية ـ صمدت في وجه أعدائها، وعاودت الظهور كلّما ظنّ أعداؤها أنّها قد زالت إلى الأبد..
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثمّ الأحداث التي وقعت في هذه البلاد من تفجيرات آثمة، مع ما صاحب ذلك من وفاة كبار أئمّة هذه الدعوة السلفيّة المعاصرين الذين كان لهم كبير الأثر في حمايتها والذود عنها؛ وجد الأعداء فرصتهم في النيل من هذه الدعوة السلفية ممثلّة في أهلها والقائمين عليها، ولم يكن عدوّها الخارجي بأخطر من عدوّها الداخلي المتمثلّ في بعض أبنائها العاقّين الذين تشرّبوا مبادىء وأفكاراً منحرفة، كان منهم طائفة تبنت الفكر الاعتزالي القديم، وراحت تدعو إليه وتنافح عنه، وترى في السلفيّة عدوّاً لدوداً له، وهم بذلك يسعون إلى إعادة فتنة سلفهم القديمة مع إمام أهل السنة في وقته الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكن بوجه عصري جديد يتماشى مع ما يريده العدو الخارجي المتمكن، هذا الوجه يتلخص في اتهام هذه السلفية النقيّة بأنّها هي مصدر الإرهاب ـ الذي لم يتم الاتفاق على تعريفه إلى هذه اللحظة ـ، ومصدّرته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فجعلوا السلفية المسكينة هي السبب الرئيس في جميع النكبات التي حلّت بالأمّة من تخلّف وتأخر وتفرّق(!)، وأنّه لا سبيل إلى التقدم والازدهار إلا بنبذ هذه السلفية النقية التي تدعو إلى اتّباع منهج السلف الصالح ابتداء من رسول ا صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ومروراً بأئمّة الإسلام العظام كسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير والأئمّة الأربعة وابن تيمية وانتهاء بأئمة السلفية المعاصرين كابن باديس وابن باز وابن عثيمين وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، وفي الوقت نفسه راحوا يبشّرون بمشروعهم التغريبي الجديد المتمثّل في إحياء الفكر الاعتزالي العقلاني، بدعوى الإنسانية والتعددية.. وقد رأيت أن أقصر الحديث على هذه الطائفة الاعتزالية دون غيرها لأسباب أهمّها:
1. أنّهم من أبناء جلدتنا اللصيقين، ويتكلّمون بألسنتنا..
2. تمكنهم من بعض وسائل الإعلام المحلية، وإعطاؤهم الضوء الأخضر من قبل القائمين على تلك الوسائل ليقولوا جلّ ما يريدون، وعدم السماح بنشر الردود عليهم إلا بشكل ضئيل جداً.
3. أنّهم يتحدّثون باسم الدين ويلبسّون على الناس بخلط الحقّ بالباطل، وإثارة الشبه القديمة التي أثارها الأعداء من قبل.
4. تمكنهم من بعض المنابر الجامعية في بلادنا، وبلبلة أفكار الطلاب وتشكيكهم في دينهم وعلمائهم بل وفي أقرب الناس إليهم وفي هذا يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13709: " ما أؤكّده لطلابي دائماً، ويقع منهم موقع الغرابة أنّ الفكر الخارجي حالة ليست ببعيدة عنا، الحالة الخارجية لها نسبتها الخاصة، وقد تنمو داخل الفرد ببطء دون أن يشعر، وقد تتسرب إليه من أقرب الأقربين، بل قد يكون أقرب الناس إليه ـ والداه أو إخوته مثلاً ـ من غلاة الخوارج، ولكنه يستبعد أن يكون هذا القريب الذي يطمئن إليه غاية الاطمئنان من الخوارج الغلاة الذين يقرأ عنهم وعن تكفيرهم ووحشيتهم.. لا يكادون يصدقون هذا، مع أنهم يعرفون تمام المعرفة أن الخوارج القدامى خرجوا من صميم المجتمع... "، بهذه الطريقة الماكرة يشكك الأستاذ الجامعي تلاميذه في والدِيهم وإخوانهم، بل العجيب أن يتحوّل مدرس العربية، إلى أستاذ في العقيدة، ليلقنهم درساً في الفِرَق، وهذا الذي طالما استنكروه في صحفهم، وعدّوه من أسباب تدني التعليم عندنا كما يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( دعاة لا معلمون ) الوطن: 921.
ثم يقول الأول في مقاله: إن الطلاب لا يكادون يصدقون ما يقوله..!!، وكيف يصدقون هذا الهراء من كاتب يعلمون خبثه وانحرافه العقدي والفكري، وقد قابلت بعض طلابه فأبدوا استياءهم من فكره المنحرف الذي يبثه في قاعة الدرس..(5/79)
ولقد كنت منذ زمن أتتبع كتاباتهم التي يسوّدون بها الصحف والمجلات، فجمعت منها كمّاً هائلاً مليئاً بالجهالات والمغالطات والتلبيس والدسّ الرخيص، وتقرير العقائد الباطلة، وغير ذلك من أنواع الباطل، وما فاتني منها ربما أضعاف ما جمعته، مما يصعب معه نقد هذا الفكر نقداً شاملاً دقيقاً، إذ يحتاج ذلك إلى مجلدات ضخمة ربما فني العمر قبل الفراغ منها.. ولا أقول ذلك مبالغة وإنّما هي الحقيقة، لذا سأحاول نقد ما تيسر لي من هذا الفكر بحسب ما يتسع له الوقت، وهو كاف ـ بإذن الله ـ لفضحه وبيان فساده وخطله..
وسيكون الحديث عنهم في النقاط التالية:
أوّلاً: سماتهم الشكلية الظاهرة..
ثانياً: سماتهم الفكرية والثقافية من خلال كتاباتهم المعلنة..
ولن أحرص على ذكر الأسماء، لأنّ الأسماء تتغيّر وتتبدّل، بخلاف السمات فإنّها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان إلا قليلاً، وهذا هو منهج القرآن في الحديث عن مثل هذه الطائفة..
هذا؛ ومن الملاحظ من خلال كتاباتهم أنّهم يتبادلون الأدوار، فبعضهم متخصّص في الطعن في السلفية وتشويهها وتنفير الناس منها، وبعض آخر متخصّص في التقليل من خطورة المذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة، بل الدعوة إلى بعضها وتلميعها وخصوصاً الفكر الاعتزالي كما سيأتي بإذن الله، وهكذا، وبعض ثالث متخصّص في النيل من حضارتنا الإسلامية، وتشويهها، والثناء المغالي على الحضارة الغربية، وتمجيدها إلى حدّ الهوس، وهلمّ جرّاً..
أمّا مصادرهم التي ينهلون منها، فهي بعض الكتب الفكريّة لبعض الكُتّاب المنحرفين من تلامذة المستشرقين الحاقدين، ومن أصحاب التوجّهات العلمانية المشبوهة، الذين يجيدون بثّ الشبه، والتشكيك في أصول الدين ومصادره، وتاريخ المسلمين، بطريقة ماكرة، وغير منهجية، قد تخفى على كثير من الشباب الغضّ الذي ليس له حظّ وافر من العلم الشرعي، ومن أبرز هؤلاء المفكّرين، وأكثرهم حضوراً في كتاباتهم: المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري، ففي الوقت الذي يطعنون فيه بأئمّة السلف وعلماء الأمّة كما سيأتي؛ نجدهم يسبغون أوصاف التعظيم والتبجيل لهذا المفكر وأمثاله، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401: " فلسطين والنهضة العربية، أيّهما الوسيلة، وأيّهما الهدف؟ تاه العربي في هذا السياق وغمّ عليه! وأصبحت الحيرة في هذا من الإشكاليات المزمنة في الوعي العربي ذي البعد الوحدويّ؛ كما يرى ذلك المفكّر المغربيّ الكبير: محمد عابد الجابريّ.. "!!! .
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد، وتقرير مذهب الاعتزال ـ في مقال له بعنوان ( غرس المفاهيم من خلال الطرح غير العقلاني ) الرياض: 13477: " يرى الدكتور محمد عابد الجابري أنّه لكي يتمّ غرس المفاهيم الحداثية في الذاكرة الجمعية لمجتمع معين مثل مفاهيم الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان والمجتمع المدني فلا بدّ من تجذيرها تراثياً.. " ويستمر الكاتب في شرح وجهة نظر الجابري، وعلى الرغم من أنّه أبدى شيئاً من التحفظ المؤدب تجاه تلك الوجهة، إلا أنّه يختم مقاله بقوله: " وهذه على الأقلّ تظلّ مجالاً للتساؤلات التي على المفكّرين الكبار من طراز الجابري بالذات أن يولونها ( هكذا ) اهتمامهم.."، وأضع تحت كلمتي ( طراز ) و( بالذات ) عدّة خطوط.
وفي مقال آخر بعنوان ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551، يقول الكاتب نفسه: " مفكرون عرب كبار وعلى رأسهم الجابري.. ".
أمّا ترديد أفكار الجابريّ، وحتى ألفاظه ومصطلحاته، فهو كثير في كتاباتهم، ومن ذلك:
• ( بنية العقل العربي) من مقال بعنوان: (بائعو الكلام) الرياض: 13490.
• ( الإيبيستيمولوجيا، النظام البياني والعرفاني والبرهاني ) من مقال بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551.
• ( التاريخ السياسي المتدثّر برداء الدين، والمحافظ على أيدلوجيته القبليّة، ومكاسبه الغنائميّة.. ) من مقال بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667.
• ( المخيال الجمعي ) من مقال بعنوان: ( مفهوم الحاكمية ) الرياض: 13716، وغيرها من العبارات.
بل إنّ أحد كبرائهم ـ وهو أشدّهم افتتاناً بالحضارة الغربيّة وتمجيدًا لها ـ صرّح في مقال له بعنوان: ( أسباب التباس مفهوم الثقافة ) الرياض: 13789 بمنهجهم في التلقّي، يقول: " أمّا التوغّل الفردي في اكتساب المعرفة المقروءة، والتحليق في آفاق المعارف الإنسانيّة؛ فهو من التغيّرات التي طرأت على الحياة البشريّة، وهو عالميّ المصدر، فرديّ الاهتمام، فهو لا يكون جماعياً، ولا يمثّل سياقاً عامّاً، أو نسقًا سائدًا، وإنّما هو عمل فرديّ يقتصر مداه على صاحبه ومن يتأثّرون به، ويستجيبون له [ يقصد حزبه الليبراليّ ]، وتكون مرجعيّته المعرفيّة من خارج النسق الثقافي المحلّي المغلق(!)، إنّه يعتمد على المصادر المكتوبة الممحصّة(!)، وهي مصادر مجلوبة من خارج الثقافة السائدة "(5/80)
هذه هي مرجعيّتهم، إنّها مجلوبة من خارج الثقافة السائدة(!) وهي كتب المستشرقين الحاقدين، وأذنابهم من الزنادقة الملحدين، والمفكّرين المنحرفين كما تدلّ على ذلك كتاباتهم!!!.
ثمّ يواصل: " فالفرد المهتّم يكوّن ذاته بذاته منفردًا، ويفتح ذهنه لكلّ المتاح من الإنتاج العالميّ، من الأفكار والمعارف والآداب(!) والفنون حيث يتجاوز الفرد بهذا التحليق(!) الثقافة السائدة تجاوزًا موغلاً(!) معتمدًا في ذلك على التأمّل العميق والاستقصاء الدقيق، والبحث الدائم، والمعايشة المنفردة(!) ".
فهو يرى أنّ مجرّد القراءة الفرديّة، والجهد الفرديّ في التلقّي، ومن مصادر خارج النسق الإسلاميّ المنضبط، هو سرّ التميّز والتثقيف والتقدّم المنشود، وهو إذ يقول ذلك ـ بهذه السذاجة الغريبة ـ لا يخاطب جمعًا من المثقّفين والنخب الذين لديهم التمحيص والتمييز بين الغثّ والسمين، والنافع والضارّ، وإنّما يخاطب الناس جميعًا في صحيفة سيّارة، فكيف يصدر مثل هذا من كاتب يعدّ نفسه من نخبة النخبة(!)، وقد حذّر سلفنا الصالح من هذا النوع من التلقّي، وشاعت بينهم المقولة الشهيرة: ( من كان شيخه كتابه، كثر خطؤه، وقلّ صوابه )، وهي مقولة صحيحة يؤكّدها الواقع القديم والحديث، فإنّك لا تجد رجلاً تفقّه وتعلّم وتتلمذ على الكتب إلا وتجد له من الأخطاء والشذوذ ما يفوق الحصر.
ثمّ إنّ هؤلاء وهم يتّهمون السلفية بالتقليدية، ويلمزونها بذلك، وهي من أشدّ المذاهب حرصاً على اتّباع الدليل، ونبذ التقليد؛ نراهم يقلّدون هذا الجابري وأمثاله، ويردّدون ذات الأفكار، بل ذات الألفاظ التي يردّدونها، والتي صدرت ـ أوّل ما صدرت ـ من المستشرقين الحاقدين، وأخذها عنهم هؤلاء المقلّدون، فعاد الأمر إلى تقليد المستشرقين، وترديد شبههم..، وإذا كان ولا بدّ من التقليد، فتقليد السلف الصالح خير من تقليد المنصّرين، من المستشرقين، وأذنابهم من المفكّرين بعقول غيرهم(!!!).
وبعد، فهذا أوان البدء بالمقصود:
أوّلاً: السمات الظاهرة: فأمّا سماتهم الشكلية الظاهرة ـ التي يتستّرون بها على أفكارهم ـ، فأبرزها إعفاء اللحى مع الأخذ منها، أو على حدّ تعبير أحد مشايخنا الأجلاء ـ اللحى الليبرالية ـ، حتى إنّ أشدّهم تطرّفاً لو رأيت صورته لحسبته من الصالحين، بينما كتاباته تمتليء حقداً وغلاً على الصالحين والمصلحين لا سيما أصحاب المنهج السلفي القويم من الأوّلين والآخرين كما سيأتي.. وليس ذلك خاصّاً بهم، فقد يشترك معهم في ذلك بعض العامّة ممن لا يحمل فكرهم المنحرف..
ومع ذلك، فقد تقتضي مرحلة من المراحل الظهور بغير لحى، فهي ليست ضرورية عندهم..
كما أنّ من سماتهم الظاهرة حضور الجمع والجماعات، مع انتقادهم الشديد ـ غير الموضوعي ـ لأئمّة المساجد واحتقارهم وكراهيتهم، إلى درجة الطعن والتشكيك في دينهم أحياناً، والتأليب عليهم، وأحياناً السخرية منهم والتندّر بهم لا سيما إذا خالفوهم في الأفكار المطروحة.. ويظهر ذلك جليّاً في مواقعهم على الأنترنت، فما لا يقدرون على بثه في صحفهم ومجلاتهم بأسمائهم الصريحة، يبثونه عبر تلك المواقع بأسماء مستعارة.. بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً وبذاءة ـ دعا في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، إلى فرض الوصاية على الخطباء ـ الذين هم في الغالب من طلاب العلم وأساتذة الجامعات ـ وكتابة الخطب لهم بل حتى الأدعية، فلا يكون لهم دور إلا مجرد قراءة الخطب المكتوبة فقط(!)، هذا مع طنطنة هذا الكاتب وغيره من هذه الفئة على ضرورة رفع الوصاية المفروضة على عامة الناس من قِبل العلماء، والتي تحول بينهم وبين الاقتناع بالأفكار المضللة التي تدعو إليها هذه الفئة الضالة وغيرها، وهذه من أعجب تناقضاتهم كما سيأتي إن شاء الله..
يقول أحدهم ـ وهو من أكثرهم حديثاً عن السياسة والدعوة إلى الفكر الاعتزالي ـ في مقال له تفوح منه رائحة العلمنة بعنوان: ( التجييش الطائفي على المنابر ) الرياض: 13770، ـ وكلّ من يدعو إلى الدين والعقيدة عندهم فهو طائفي ـ، يقول: " أدركتني صلاة الجمعة الماضية مع أحد الخطباء ذي الباع الطويل في التسييس المنبري(!) ومنذ قد غادرت مسجده منذ مدّة ليست بالقصيرة عندما أدركت حينها أنني لا أكاد أسمع وأنا منصت لخطبته إلا تحاليل(!) سياسية رديئة المضمون(!) رائجة السوق لدى الخطاب الديماغوغي(!) القابل للتجييش بطبيعته.. " إلى آخر ما ذكر بأسلوبه الركيك المتهالك، أمّا الخطاب الديماغوغي!!! فهذا الذي لم أفهمه إلى هذه الساعة، ولعلّه مشتق من الدماغ، والله تعالى أعلم، أما (التحاليل)، فذكرتني بالمستشفيات، والدماء المسحوبة للتحليل، ولعله اختار هذا اللفظ لمناسبته للإرهاب وسفك الدماء..(5/81)
وفي مقال بعنوان: ( نجاحات الأمن قدوة كيف نبرر قتلنا المجاني ) الوطن: 1156، يلمز أحدهم خطيب العيد الذي صلى خلفه، لأنّه ـ كما يقول ـ ذكر أنّ للتطرف وجهين، وجه محسوس وهو الذي يؤدي إلى التفجير والتخريب، والوجه الآخر تطرف فكري وهو تطرف العلمانيين والمنحرفين من كتّاب ومثقفين... وذِكْرُ هذا الوجه الأخير هو الذي أقضّ مضجع هذا الكاتب، واغتاظ منه ( كاد المريب أن يقول خذوني )، فما كان منه إلا أن اتهم الخطيب بالتبرير للإرهاب المحسوس، مع أنّه لم يقل ذلك، لكنه الصيد في الماء العكر، والدفاع عن وجودهم، حيث استغلوا الأحداث الأخيرة لتصفية الحساب مع خصومهم التقليديين.
هذه مجمل سماتهم الظاهرة..
أمّا سماتهم الفكرية العامّة التي ظهرت من خلال كتاباتهم المعلنة، فهي كثيرة جداً، أذكرها أوّلاً بإجمال، ثمّ بتفصيل:
أوّلاً: الإجمال:
1. محاربة السلفية.
2. الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم.
3. الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة ).
4. العزف على وتر الإنسانية.
5. الدعوة إلى علمنة الحياة، وإقصاء الدين ( وهو لبّ مشروعهم الذين يدعون إليه ).
6. الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )، ومدحه، وكيل الثناء عليه.
7. الجهل.
8. تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم!!.
9. عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، والتشهير بهم.
10. المزايدة على حبّ الوطن، وهم أشدّ الناس خطرًا على الوطن.
11. الطعن في أئمّة السلف قديمًا وحديثًا، والتقليل من شأنهم، مع إجلال الزنادقة والملحدين والمارقين والمبتدعة.
12. الغرور والكبر واعتقاد امتلاك الصواب..
13. الهجوم الشديد على المؤسسات الدينية والمناشط الدعوية والأشرطة والكتيّبات النافعة.
هذه بعض سماتهم بإجمال، أمّا التفصيل:
السمة الأولى:
محاربة السلفية
وهذه سمة ظاهرة في كتاباتهم، بل هي أبرز سماتهم، يبدونها أحياناً، ويخفونها أحياناً كثيراً، وليس المراد بالسلفية هنا: المدّعاة من قبل بعض النوابت الذين شوّهوا السلفية الحقّة ما بين إفراط أو تفريط، فهؤلاء أمرهم مكشوف لكل ذي بصيرة، بل العجب إنّ بعضهم قد وضعوا أيديهم في أيدي هؤلاء الاعتزاليين المارقين لمحاربة السلفية الحقّة ممثّلة في أهلها العاملين بها.. ومع هذا فإنّ هؤلاء الاعتزاليين يسخرون منهم، ومن سلفيتهم بل من السلفية كلّها أيّاً كانت، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً ـ بأسلوب ماكر لا يخلو من السخرية في مقال له بعنوان: ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، وعلامات التعجب من عندي: " السلفيات وإن تنوعت، بل وإن وقف بعضها من بعض موقف التضادّ؛ إلا أن الوعي الماضوي(!) يجمعها. إن السباق فيما بينها ليس سباقاً في ميدان الحاضر أو المستقبل، وإنّما هو سباق في ميدان الماضي، والسابق هو الذي يصل ـ بأقصى سرعة ـ إلى الماضي السحيق(!).." إلى أن يقول: " وهكذا نجد أنّ كلّ سلفية ـ أيّاً كان نوعها ودعواها وتمظهرها ـ تدعم الوعي السلفي(!) وترسّخ للماضوية، وتكافح في سبيل التقليد، بدعوى أنّه الحصن المنيع ضدّ الابتداع، وهي بهذا تقف ضدّ أي حراك تقدّمي، تقف ضدّ التقدّم كوعي(!)، وإن تهادنت معه في هذا الموقف أو ذاك. إنّ هذه الهدنة من قبل السلفي فعل تكتيكي لا يرقى إلى الاستراتيجي ولا يقاربه، حتى في مداه النسبي، لأنّ السلفية ـ دائماً(!) ـ في صف الماضي على حساب الحاضر(!) ". والماضي السحيق الذي أشار إليه هذا الكاتب، هو رسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، إذ إن هذا هو أقصى ما يرجع إليه السلفي المتبع، فهو تعبير آثم يدلّ على شناعة هذا الفكر التغريبي وقبحه، واستهانته بسلف الأمّة.. وأما اتهام السلفية بأنّها في صف الماضي على حساب الحاضر! فهو محض افتراء وكذب، فلا تعارض بين الماضي السحيق ـ على حدّ تعبير الكاتب ـ الذي منتهاه رسول الهدى r، وبين الحاضر والمستقبل في الفكر السلفي الصحيح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
وقبل الحديث عن هذه الحرب القذرة، لا بد من بيان بعض المصطلحات التي تتردد في كتاباتهم، حتى يتفهم القارىء ما يهدفون إليه.
فمن هذه المصطلحات:
• ( السلفية التقليدية ) ويريدون بها المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة التي تتمثّل فيها هذه السلفية، كهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وسائر علمائنا الكبار..
• ( الفكر الصحوي ) ويريدون به طلبة العلم والدعاة النشطين، وهو الذي يعدونه ـ كما يقول أحدهم ـ " النشاط الحركي العصري للسلفية التقليدية وأنّ العلاقة بينهما علاقة عضوية يستحيل تمايزها " الرياض:13436.
• ( الإسلام الحركي ) أو ( الحراك المتأسلم!! )، ويريدون به أيضاً الدعاة النشطين في الدعوة... فهم لا يريدون إسلاماً نشطاً متحرّكاً، وإنّما يريدون إسلاماً جامداً خاملاً لا يتحرك، حتى يتمكنوا من تنفيذ مشروعهم التغريبي دون مقاومة تذكر!!!.(5/82)
• ( الإسلام السياسي ) ويريدون به العلماء والدعاة الذين يشاركون في الشأن العام، لا سيما القضايا السياسية، ولهم دور فاعل فيها... وهم يريدون إسلاماً "دراويشياً" لا يفقه شيئاً في القضايا العامة حتى تخلو لهم الساحة..
• ( التنميط ) ويريدون به تربية الناس على منهج أهل السنة والجماعة، وعقيدة السلف الصالح، وحمايتهم من المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة..
• ( الأيديولوجيا )، وهو مصطلح وافد غير عربي يتردد كثيراً في كتاباتهم ـ بل يكاد يكون ترداده سمة لهم ـ ويريدون به المعتقد الديني أو الثقافي الذي يؤمن به الفرد ويترجمه سلوكاً في الواقع المعاش. والأدلجة عندهم فيما يتعلّق بالسلفية: تشبه التنميط، فهي دعوة الناس إلى الدين والمعتقد الصحيح وتربيتهم عليه ليكون واقعاً معاشاً، وهذا هو الذي يقضّ مضاجعهم، ويحول بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي.
وقد سلك هؤلاء المارقون في حربهم للسلفية مسالك عدّة، من أبرزها:
1. محاولة تشويه السلفية، والتنفير منها، وتصويرها بصورة مقزّزة لصرف الناس عنها، وذلك للتمهيد لطرح مشروعهم التغريبي العفن المتقنّع بقناع العقلانية والتنوير!! وهم وإن كانوا كلّهم يعملون في هذا السياق؛ إلا أنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وأكثرهم بذاءة ـ قد تخصّص في ذلك كما سبق، فلم يترك شتيمة، ولا نقيصة إلا رمى بها هذه السلفية التي يدين بها عامّة أهل هذه البلاد وغيرهم، وكلّ ما تقاطع معها من "الإسلامويين" ـ كما يعبّرون استهزاء ـ ولو من بعيد، وحتى لا أكون متجنّياً، فإنّي سأذكر بعض هذه الشتائم، ليعلم القارىء مدى الإسفاف الذي وصلوا إليه، مع دعواتهم المتكرّرة للتسامح مع "الآخر" واحترامه وتقديره!!!. فمن هذه الشتائم:(5/83)
( السلفية العتيقة ) الرياض: 12953، ( السلفية التقليدية ) الرياض: 13065، (الانغلاق السلفي ) الرياض: 13338، ( قوى التقليد والجمود والظلام ) الرياض: 13485، ( قوى التقليد والظلام والإرهاب ) الرياض: 13331، ( قوى التأسلم ) الرياض: 13359، ( قوى التخلف والتوحش والانغلاق ) الرياض: 13352، ( قوى التطرف ) الرياض: 13331، ( قوى تخلف وتقليد ) الرياض: 13331، ( التقليدية البلهاء ) الرياض: 13065،( التقليدية الميتة ) الرياض: 13331 ، ( الثقافة الميتة ) الرياض: 13072، ( الثقافة التي تصنع الغباء ) الرياض: 13072، ( الثقافة التقليدية البائسة ) الرياض: 13065، ( ثقافة الانغلاق ) الرياض: 13065، ( ثقافة تقتل الوعي ) الرياض: 13065، ( ثقافة التجميع واللا عقل ) الرياض: 13072، ( ثقافة الموت الوعظية الحمقاء ) الرياض: 13072، ( ثقافة كسيحة ) الرياض: 13156، ( الوعي الكسيح ) الرياض: 13002، ( الوعي المتسطّح الكسيح ) الرياض: 13072، ( الوعي المأزوم ) الرياض: 13380، ( وعي غارق في مخلّفات عصور الانحطاط ) الرياض: 13156، ( القراءة التراثية المبعثرة ) الرياض: 13331، ( الطرح المتسطّح ثقافياً ) الرياض: 13163، ( رؤى الانغلاق وتيارات الكره ودعاة النفي ) الرياض: 13128، ( براثن التنميط والمحافظة والتقليد ) الرياض: 13128، ( الاحتيال اللا معرفي وجرثومة الوصاية ) الرياض: 13065، ( الدروشة الوعظية التي تفتقد الحكمة ) الرياض: 13072، ( الإفلاس المعرفي ) الرياض: 13072، ( الاستغفال المعرفي ) الرياض: 13121، ( الترنح المعرفي ) الرياض: 13282، ( تيار الجمود والارتياب ) الرياض: 13282، ( الاختطاف الثقافي والاجتماعي ) الرياض: 13128، ( قصور معرفي حاد ) الرياض: 13163، ( البلاهة السياسية ) الرياض: 13191، ( الغباء السياسي ) الرياض: ، ( ضمور الوعي السياسي ) الرياض: 13380، ( الجماعات المتأسلمة ) الرياض: 13247، ( نمطية بلهاء ) الرياض: 13338، ( المتأسلمون )، ( تيارات التأسلم ) الرياض: 13282، ( فكر الإقصاء والنفي ) الرياض: 13282، ( اللا وعي بالتاريخ ) الرياض: 13002، ( الفهم القاصر ) الرياض: 13002، ( جماهير الغوغاء ) الرياض: 13002، ( المنزل القديم المتداعي بوحشيته المعتمة ) الرياض: 13002، ( سيكولوجية البدائي ) الرياض: 13002، ( خطاب موعظة لا معرفة ) الرياض: 12953 ، ( ألاعيب الحواة ) الرياض: 13436، ( ممارسة خرقاء ) الرياض: 13436، ( الحراك المتأسلم ) الرياض: 13478، ( الخرافة والتقليد والخداع ) الرياض: 13485 ، ( طمر الحقائق ) الرياض: 13485، ( حراك سلبي ) الرياض: 13485، ( الأيدلوجي المنمط ) الرياض: 13499، ( المجتمعات المحافظة الأصولية ) الرياض: 13499، ( حركات الأدلجة ) الرياض: 13499 ، ( الأدلجة الماكرة ) الرياض: 13324 ، ( تجهيل الجماهير ) الرياض: 13499، ( الجماهير البائسة الظامئة ) الرياض: 13506، ( الجماهير الغائبة المغيّبة ) الرياض: 13338، ( الحواشي وحواشي الحواشي ) الرياض: 13506، ( الإسلام الحركي السياسي ) الرياض: 13506، ( المراهقة الصحوية ) الرياض: 13303، ( أوهام التقليدية الميتة ) الرياض: 13065، ( مفرقعات صحوية ) الرياض: 13289، ( شريط الكاسيت الغبي ) الرياض: 13289، ( الهراء الإعلامي والسطحية ) الرياض: 13289، ( المتأسلمون ) الرياض: 13303، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) الرياض: 13359، ( دعوى النقاء الأخلاقي المزعوم ) الرياض: 13331..
هذه بعض الشتائم المقذعة التي قمت بإحصائها من مقالات كاتب واحد منهم فقط، ودون استقصاء تام(!) ويلاحظ على هذه الشتائم ما يلي:
أ- كثرتها، حتّى إنّها لتصل إلى الخمس والستّ في المقال الواحد!!!!، وفي هذا دليل واضح على افتقاد الحجّة الصحيحة المقنعة، فإنّ المبطل إذا عجز عن الإقناع بالحجّة؛ لجأ إلى السباب والشتائم للنيل من خصمه.
نعم؛ قد يضطر الإنسان أحياناً إلى توجيه بعض الشتائم إلى خصمه اللدود، لكن أن تكون بهذه الكثرة المفرطة، ومن أناس " أكاديميين" يدّعون الفكر والعقل المستنير؛ فهو أمر يدعو إلى التأمّل والعجب!!.
ب- تضمنّها العديد من التهم ذات العيار الثقيل بلا دليل ولا برهان صحيح، وما أسهل أن يطلق المرء على خصومه التهم جزافاً بلا بيّنة صحيحة، والتي قد يصل بعضها إلى الإخراج من الدين والإسلام، كقولهم: ( المتأسلمون )، ( قوى التأسلم ) ، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) ونحوها من الشتائم، فالمتأسلم هو الذي يدعي الإسلام وهو ليس كذلك كما يُفهم من هذا الوصف، ولطالما دندن هؤلاء حول خطورة التكفير، والإخراج من الدين، حتى وإن كان بحقّ، فما بالهم يصفون خصومهم المسلمين بالضد من ذلك !!!.(5/84)
ج- أنّ هذه الشتائم لم تقتصر على أهل العلم والفكر والدعوة من السلفيين من الأوّلين والآخرين، بل تجاوزت ذلك إلى عامّة الناس المقتنعين بهذه العقيدة، والذين يطلقون عليهم وصف ( الجماهير ): فهم ( الجماهير البائسة الظامئة )، و( جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و( الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، لا لشيء إلا لأنّ هذه الجماهير المسلمة اختارت هذه العقيدة النقية، ولم تستجب لدعواتهم التغريبية المضللة، ولن تستجيب بإذن الله تعالى..
د- أنّ الكثير من هذه الأوصاف ( الشتائم ) هم الأقرب إلى الاتصاف بها، والتخلّق بها لمن تأمل ذلك، لكنهم يقلبون الأمور، ويلبّسون على الناس على قول المثل السائر: ( رمتني بدائها وانسلّت )!!.
ه- أنّ مثل هذه الشتائم لا تصدر إلا من نفس موتورة حاقدة، قد تشبّعت بالشبهات، فاستقرّت فيها وتمكّنت منها، وداء الشبهات أعظم أثراً في النفوس والقلوب من داء الشهوات، فكيف إذا اجتمع الأمران، نسأل الله السلامة والعافية.
والعجيب أنّهم يرون أنّ مثل هذه الشتائم القبيحة التي يسمونها نقداً؛ ضرورية لإيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره(!!!)، يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتانناً بالحضارة الغربية ـ في مقال له بعنوان: ( تخصّص في الطب وأبدع في الفكر والمسرح) الرياض: 13502: " وبذلك أدرك ( بريخت ) بأنّ مواجهة الطوفان بالنقد الحادّ، والتهكّم الموجع من أهمّ وسائل إيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره للمصير المظلم الذي يساق إليه ". وبريخت هذا مبدع عالمي عند الكاتب ترك تخصصه في الطب(!)، واشتغل بالمسرح(!)، وهو حين يذكر قول هذا المبدع(!) لسان قلمه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة، كما يدل على ذلك باقي المقال، ومقالاته الأخرى. وقد فهم تلميذه السابق الرسالة ـ وبئست التربية ـ، فأطلق تلك الشتائم والتهكّم الموجع بذلك الكمّ الهائل لمواجهة (طوفان) السلفية، وإيقاظ الفتنة النائمة.. وحتماً سيغرقه هذا الطوفان بإذن الله تعالى.
وأعجب من ذلك أنّ هذا الكاتب نفسه ـ صاحب الشتائم السابقة ـ حينما تحدّث عن بعض الكُتّاب المنحرفين في مقال له بعنوان ( قراءة الإسلام بين العلمية والإيديولوجيا 2/2 ) الرياض: 14185 وصفه بوصف هو أجدر أن يوصف به فقال: " لا غرابة في أن تصدر هذه الشتائم عن إنسان مريض يعاني من عقد الاضطهاد، وربما مر بمواقف زادت من تأزمه واضطرابه، أو ربما كان خاضعاً لتربية غير سوية، قادته إلى استخدام هذه اللغة السوقية التي لا تجد من يلوكها إلا في الحواري الخلفية، وعند الحشاشين والقوادين، وإنما العجب أن تحتفي بعض الصحف المحترمة، كأخبار الأدب، وأدب ونقد، ودور النشر العلمية.. بمثل هذا العابث، والذي لا يمتلك سوى هذا الكلام الذي يراه صاحبه علماً. الجهالة من ناحيتين، جهالة أولية، وجهالة جراء عدم إدراك مستوى ضحالة الذات معرفياً ".
وهو في مقاله هذا نصّب نفسه مدافعاً عن الإسلام والدين، وهو الذي كان يكيل الشتائم لأهل الدين كما سبق، ويرميهم بكل نقيصة، فلم يسلم منه حتى الأئمّة الكبار كابن القيّم وغيره، ولا فرق بين من يطعن في الدين نفسه، ومن يطعن في حملته وأهله، سوى أنّ الأوّل طعن صريح، والثاني خبث مغلّف بتلميح..
وفي مقال له بعنوان ( متطرفون في الزمن الليبرالي ) الرياض: 14220 دعا فيه صراحة إلى اعتناق الفكر الليبرالي وبشّر فيه بها!!! قال: " والمجتمع الليبرالي مجتمع راشد، يتجاوز هذا السباب الطفولي، وإن اضطر في سياق الخطاب اللاهوتي إلى شيء من ذلك - كحق في التعبير عن الرؤية - فإنه يطرحه في سياق موضوعية صارمة، لا يسمح لها بالإساءة المباشرة إلى أحد ". هذا هو نصّ ما قاله: سباب طفولي في سياق موضوعية صارمة !!! ودون إساءة إلى أحد !! وهل بعد ذلك الكمّ الهائل من الشتائم الطفولية السابقة من إساءة تطال كلّ سلفي موحد في هذه البلاد السلفية ؟. أهذه هي الليبرالية التي يدعون إليها ويبشّرون بها؟..
2. ربط السلفية بالإرهاب ـ الذي لم يُتفق على تعريفه إلى هذه الساعة ـ والاستماتة في ذلك، ونسبة بعض المارقين إليها وهو ما يطلقون عليه: ( السلفيّة الجهادية ).. فكلما خالفهم مخالف، أو حاجّهم محاجّ، أو احتسب عليهم محتسب من أهل الدين والعلم والدعوة رموه بالإرهاب بجرة قلم، والعامة يروون في هذا المقام قصة رمزية طريفة، وهي أن امرأة أراد زوجها أن يتزوج عليها، ففكرت في حيلة لمنعه من الزواج، فما كان منها إلا أن اتصلت برجال الأمن، وذكرت لهم ارتيابها من زوجها، وأن له صلة بـ ( الإرهابيين )، وقبيل ليلة الزواج تم القبض عليه بهذه التهمة، واعتذر أهل الزوجة عن تزويجه، وبهذا نجحت الخطة..(5/85)
يقول أحدهم ـ وهو مقيم في لندن ـ في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية..هل تستمر القاعدة بتجنيد السعوديين ) الوطن: 1139 : " ما هي وضعية الحالة الدينية اليوم في السعودية؟.. لا يمكن القول إنّها متسامحة وعصرية، فالأحداث الإرهابية هي نتاج غلو ديني اشترك بعض أفراد المذهبيّة الدينية السلفية السائدة، والأيديولوجيا الصحوية في صنعها في المقام الأوّل بغض النظر عن المسببات الأخرى التي وضعتها في موضع التنفيذ. ومظاهر التشدد الديني التي تلمس كل يوم في خطب الجوامع وأدعية القنوت، والفتاوى المتشددة، والخطاب الديني بمجمله مغرق في التزمت بعيد كل البعد عن حال التسامح واليسر المنتظرة منه "، وهكذا تطلق التهم جزافاً بلا بيّنة سوى أنّ الذين قاموا بالتفجيرات يستشهدون ببعض أقوال السلف، ولو أننا أخذنا بهذا المنطق المعوج لحكمنا على القرآن نفسه بأنّه سبب الإرهاب، لأنّ الخوارج الأوّلين استدلوا به على مذهبهم، وكذلك سائر الفرق الضالة.
ثم، ومن أجل حلّ هذه الأزمة يرى الكاتب أنّ الحل يكمن في: " تغيير الطريقة التي يتم التعامل بها مع الأفكار والطوائف أو الأديان بوصفها كافرة أو مبتدعة أو علمانية، وينبغي أن ينظر إلى نقد وتقييم المناهج والمؤسسات الدينية، وإصلاحها(!) بالطريقة العصرية، والحدّ(!) من تضخّم الأدلجة الإسلاموية.." وهو كلام في غاية الخطورة والضلال، والغلو المضاد، حيث يدعو الكاتب إلى عدم وصف الأديان ـ ويريد بها بطبيعة الحال أصحابها المتدينين بها اليوم ـ بالوصف الذي وصفها الله به في كتابه الكريم، ووصفها به رسوله الأمين كما في قوله تعالى: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.. }، وقوله: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ..}، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم " والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " أخرجه مسلم. ولا خلاف عند أهل الإسلام في كفر اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الملل الأخرى، فمن لم يكفرهم فهو مكذب للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وكذلك يدعو الكاتب إلى عدم تبديع أهل البدع وأهل العلمنة، وفي ذلك مضادة لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة"، وهذا في نظر الكاتب يعدّ إصلاحاً بالطريقة العصرية، وصدق الله إذ يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنترنت والخطاب الديني) الرياض: 13247: " .. كما أظهر هذا الخطاب [ يعني خطاب التطرّف ] أنّ مرجعيّة التطرّف والغلو، ومن ثم الإرهاب، ليس الفكر القطبي، ولا طرح الجماعات المتأسلمة(!) وإنّما مصدر الاستدلال ـ في الغالب العام ـ: السلفية التقليدية، بمرجعيّاتها المشهورة التي لها اعتبارها في الخطاب السلفي ".
إذن، السلفية بمرجعياتها المشهورة هي مصدر الإرهاب، فيجب محاربتها، والقضاء عليها، هذا ما يهدف إليه الكاتب. والردّ عليه كالرد على الذي قبله.
أمّا المرجعيات المشهورة فيريدون بها: أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب رحمهم الله..، وقد صرّح أحدهم بذلك ـ وهو أكثرهم تعالماً، وأشدّهم جهلاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنسان والوطن أهمّ من ابن تيمية) الوطن: (965 )، زعم فيه ـ زوراً وبهتاناً ـ أنّ ابن تيمية هو منظّر الجهاديين، وأنه سبب الإرهاب، معتمداً على نص لابن تيمية مبتور من سياقه، وهو إذ يعيب على من أسماهم بالجهاديين سوء الفهم؛ يقع في الخطأ نفسه وهو لا يشعر.(5/86)
وأخطر من ذلك، ما سطّره الكاتب الأوّل في مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، يتحدّث فيه عمّا أسماه بالفرادة، يقول منظرّاً لهذه الفرادة: " إنّ الأصل في الكائن الإنساني خاصّة هو الاختلاف والتنوّع والتفرّد، وليس التشابه والتماثل كما يحاول دعاة المحافظة والتقليد ترويجه ـ تطبيقاً ـ في بيئتنا الاجتماعيّة، وإن ادّعوا تنظيراً غير ذلك".. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فالفرادة إن كانت فيما لا يتعارض مع أصل الدين وثوابته، ونصوصه القاطعة، فهي مطلوبة، وإلا فإنّها ابتداع وخروج عن الدين، وحقّها ـ لفظاً ـ أن تكون بالمثنّاة ( قرادة )، لكنّ الكاتب تعمد الإطلاق للوصول إلى ما يهدف إليه، لذا فهو يواصل مقاله قائلاً ـ بعد أن قرّر أنّ إلغاء هذه الفرادة المطلقة جريمة ـ: " ويبقى السؤال الأهم في هذا الطرح: إذا كان إلغاء معالم التفرد في الإنسان جريمة، فهل تمارس هذه الجريمة في محيطنا الثقافي والاجتماعي؟، وإذا كانت تمارس، فهل هي مقصودة أم أنها جزء من الحراك الاجتماعي التلقائي؟، وعلى أية صورة تمارس هذه الجريمة؟، هل هي فردية أم جريمة منظمة؟، وما مدى انتشارها وذيوعها؟ ومن الفاعل؟، وأين؟، ومتى؟. وإذا كان بعض هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها تفصيلاً؛ لهذا السبب أو ذاك، فإن الإجابة العامة التي ينطق بها الواقع (الثقافي/ الاجتماعي) لدينا إجابة لا تدعو للتفاؤل، من حيث الوقوع المتعين لهذه الجريمة المعنوية ".
ثم تبدأ معركته مع السلفية، أو على حدّ تعبيره: ( الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا)، وهذا هو المقصود، فيقول: " إن ما فعله - ويفعله - الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا إنما هو عملية قتل متعمد لكل معالم الفرادة الطبيعية، إنه في الحقيقة (اغتيال للعقل) على نحو تدريجي، وبأساليب قد لا تكون واضحة في كل الأحيان، وفي كل الحالات. لا أستطيع أن أقول: إن عملية المسخ الاختياري (والقسر في بعض الأحيان) التي يمتزج بها الاجتماعي بالديني ( وفق رؤية خاصة يتم تعميمها)، بالثقافي، بالواقعي، وبطريقة لا تبقي أي خيار، لا أظن أن لها مثيلاً على مستوى التجمعات الإنسانية المعاصرة كافة..".
وبعد الطعن في السلفية ـ خصمه اللدود ـ بإجمال، يبدأ في التفصيل، فيستعرض المراحل الدراسية جميعها إلى مرحلة الدراسات العليا، فيقرّر أنّ هذه المراحل كلّها عندنا تقضي على هذه الفرادة المزعومة، والسبب أنّها تلتزم بمذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأّمة، أو على حدّ تعبيره: " نمط التربية المستمد من موروث اجتماعي موغل في القدم يبدأ عمله منذ السنوات الأولى للطفولة؛ لكون القائم على التربية الأولى ابناً باراً لثقافة التقليد والمحافظة في الغالب " أو بتعبير آخر له: " أفكار مغرقة في محافظتها وسلفيتها وتزمتها.. "، أو بتعبير ثالث عن النشاط اللا منهجي: " وفق المنطلقات ذات الزوايا الحادة للمنظومة السلفية التقليدية التي تجتهد في التنميط؛ فضلاً عن أن التنميط كامن في البنية العامة للمناهج "..
ثم يتحدث عن المرحلة الجامعية، فيصفها بأنّها: " أكبر (ورشة) للتنميط، وقتل ما أبقته المراحل الأولى من الفرادة العقلية، وترسيخ قيم المحافظة والتقليد، فتمارس بين أروقة الجامعة أكبر عملية اجترار للتراث، بكل ما يحمله من إيجاب وسلب، وبكل ما تعنيه هذه العملية في ذاتها ( من حيث هي اجترار) من نكوص إلى وعي قد طواه الزمن في مقبرته الأبدية، ولكننا نأبى إلا نبش تلك القبور، والبحث في تلك العظام النخرة عن مصدر للحياة!.. ". وهو يريد بذلك الأقسام الشرعية في الجامعات ذات التوجه السلفي خصمه اللدود، أمّا كليات الطب والهندسة والعلوم وغيرها، فلا يتحدّث عنها.
ثم يتحدّث عن مرحلة الدراسات العليا، فيصفها بأسلوب مسفّ ينم عن حقد دفين على المنهج السلفي القويم، مدعم بالافتراء والكذب وكيل التهم الجائرة فيقول: " إن الدارس لا يمكن أن يقبل في هذه الدراسات ابتداء، ولا يمكن أن يتقبل فيما بعد، ما لم يكن ذا مهارة في النسخ، مع قدر لا يستهان به من عدم الأمانة في النقل والاجتزاء؛ لخدمة الفكرة الموروثة في التيار المندغم فيه، فليست الحقيقة هي الغاية، وإنما الإبقاء على ما يؤيده تيار المحافظة من مخلفات القرون الوسطى هو الغاية، وفي سبيلها فليتم الإجهاز على الحقيقة بسيف العلمية!، وبهذا لا يمكن أن يعترف بالدارس باحثاً علمياً في مؤسسات التقليد ما لم يتنكر لبدهيات البحث العلمي. وهذا هو الشرط الأولي لقبوله (باحثاً!) في المنظومة التقليدية ".. إنّها تهم شنيعة، في غاية البشاعة والشناعة لجامعاتنا الإسلامية العريقة التي خرّجت الكثير من العلماء والدعاة والمفكّرين حتى من غير أبناء هذا البلد، ولكن الحقد الدفين يعمي ويصم..
فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة كما أنّ عين السخط تبدي المساويا(5/87)
ثم يدلل هذا الكاتب الموتور على ما ذهب إليه من حقد دفين وفق طريقته السابقة من الافتراء والكذب والتلبيس والألفاظ النابية فيقول: " ومما يدل على مستوى هيمنة هذا النمط الببغاوي في المؤسسات العلمية التي تهيمن عليها الاتجاهات المحافظة، أن الحكم بموضوعية على شخصيات أو تيارات في القديم أو الحديث، بما يخالف رؤية هذه الاتجاهات، وما يسود في أروقتها من مسلمات يودي بصاحبه، ويعرضه للنفي خارج المؤسسة العلمية، فضلاً عن الإقصاء الديني، يشهد على ذلك أن كل دراسة لشخصية أو فكرة أو تيار، تتم في هذه الأقسام تعرف النتيجة فيها سلفا، بل لا يمكن أن تكون النتيجة إلا ما قررته المنظومة في أدبياتها، فمهما حاول (هذا إذا حاول) الباحث الاستقلال فهو لا يستطيع، وموقفه البحثي في النهاية دفاعي عن الأفكار العامة لمؤسسته العلمية التي تحتويه. هذا هو الواقع، وإلا فدلوني على رسالة واحدة طعن(!) صاحبها في فكرة أو شخصية لها وزنها في المنظومة الفكرية لمؤسسته العلمية، أو أثنى على تيار مخالف أو شخصية ليست محل القبول في هذه المؤسسة، فقبلت المؤسسة المحافظة بذلك ".. إنّ هذا الكاتب يريد من الباحث الملتزم بعقيدة أهل السنّة والجماعة أن يطعن في أئمّة السلف أو مذهب السلف، أو يثني على أهل البدع، والفرق الضالة وخاصة المعتزلة(!) ، ويريد من الجامعات الإسلامية أن تفتح المجال لكلّ من أراد ذلك باسم الاستقلال والفرادة كما يزعم، وإلا فإنّ ذلك ضرب من الإقصاء والنفي والقضاء على الفرادة المزعومة، أمّا أن يبتكر الباحث موضوعاً في تخصّصه ـ مع التزامه بثوابت الأمة ومنهج أهل السنّة ـ فذلك ليس من الفرادة في شيء في مفهوم الكاتب، الفرادة عنده هي الخروج عن مذهب السلف، والطعن فيهم ـ كما يفعل هو مراراً في مقالاته كما سيأتي ـ ، إنّ هذا لهو عين الضلال وانتكاس المفاهيم..
ثمّ إني أوجه سؤالاً لهذا الكاتب ولن يستطيع الإجابة عليه فأقول: هل صحيفتك التي تكتب فيها، وتهاجم مِنْ على منبرها مذهب السلف الصالح تسمح بمثل ما ذكرت من نقد لفكرة أو شخص ينتمي إليها أو إلى الفكر الذي تتبناه ؟؟ الجواب: لا وألف لا، لأني قد جربت ذلك، وجربّه غيري، فلم نجد إلا الإقصاء والنفي والتجاهل إلا في حدود ضيقة، فهل من معتبر..؟
ثم يواصل الكاتب بذاءته وافتراءاته وشتائمه المعتادة ـ سأضع تحتها خطاً ـ قائلاً: "بهذا يتضح أن كل مرحلة علمية، وكل تناغم مع المجتمع في تياره المحافظ خاصة، تفقد المرء جزءاً من فرادته، مما يعني أنه كلما قطع مرحلة من ذلك، وظن أنه قد تحقق له شيء من العلم، فإنه لم يزدد بذلك إلا جهلاً. وبمقدار حظه من هذا التنميط والاختطاف الثقافي والاجتماعي يكون حظه من الجهل المركب؛ لأنه بهذا يفقد التفرد في الرؤى والأفكار، بمقدار ما يندغم في تيارات المحافظة، وبقدر ما يتناغم مع المؤسسات العلمية التي تهيمن المحافظة عليها. ويزداد الأمر سوءا ومأساوية، عندما ندرك أن هذا الاغتيال للفرادة، وهنا التنميط الذي يتم في هذه المراحل العمرية لا يجري لصالح رؤى الانفتاح - مع أن اغتيال الفرادة جريمة، أيا كانت مبرراته - وفي سبيل الرقي بالإنسان، وإنما هو لصالح رؤى الانغلاق، وتيارات الكره، ودعاة نفي الآخر، كل ذلك بالإيحاءات الخاصة للسلفية التقليدية التي لا تني عن إنتاج نفسها كلما أشرفت على الهلاك "..
ويختم مقاله بهذا التحذير: " وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول لكل قارئ: احذرهم.. احذرهم (وأنت تعرفهم) أن يفتنوك. قد تكون نجوت منهم كليا أو جزئيا، قد تكون ممن هلك بفتنتهم التي ظاهرها الرحمة، لكن أدرك من نفسك ما يمكن إدراكه، مارس إنسانيتك(!) على أكمل وجه، كن ابن نفسك في كل شيء(!)، حاول قدر الاستطاعة، مهما كلفك ذلك، هذا بالنسبة لك، ولكن، تبقى المهمة الصعبة: استنقاذ الأجيال الناشئة من براثن التنميط والمحافظة(!) والتقليد، وهي مهمة لابد أن ينهض بها كل (إنسان) لتحقيق أكبر قدر من الفرادة (من الإنسانية)(!) قبل أن تغتال في مهدها ".. وهكذا تصبح المحافظة على العقيدة السلفية النقيّة ـ حسب رأي هذا الكاتب ـ فتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويحذّر منها في معقلها ومهدها، فإلى الله المشتكى.
أمّا دندنة الكاتب ـ بل سائر المنتمين إلى هذا الفكر الاعتزالي الليبرالي التغريبي ـ حول ( الإنسانية ) فذلك موضوع آخر سأفرد له سمة مستقلة بإذن الله تعالى.
كما أنّ من الملاحظ أنّ الكاتب(!) جعل عنوان مقالته هذه جزءاً من آية كريمة نزلت في جماعة من اليهود(!)، وهو ها هنا ينزلها على خصومه السلفيين المسلمين المحافظين(!!)، وهذه سمة متكرّرة في مقالات هذا الكاتب وأصحابه، سأفرد لها أيضاً سمة خاصّة بإذن الله تعالى. وهي جريمة نكراء في حقّ كلام الله تعالى، وحقّ إخوانه المسلمين.
وحتى يعرف القاريء حقيقة هذه الفرادة التي تحدث عنها هذه الكاتب وغيره من أصحاب هذا الفكر، وحقيقة موقفهم من عقيدة السلف والعقائد الأخرى المنحرفة وخاصّة المعتزلة؛ أسوق لكم هذه الأقوال لبعضهم:(5/88)
فهذا أحدهم ـ وهو الكاتب السابق نفسه ـ في مقال له بعنوان ( ثقافة تصنع الغباء ) الرياض: 13072، وهذا العنوان من جملة شتائمه المعتادة للسلفية، يقول عن السلفية التي يسميها تقليدية بأنّها: " لا تعدو كونها تأويلاً خاصّاً للإسلام، محلّه متاحف الفكر، لا الحراك الاجتماعي "، فهل رأيتم إقصاء ونفياً أشدّ من هذا الإقصاء والنفي؟!!!
والغريب أنّ هذا الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( من التطرف إلى الإرهاب ) الرياض: 12953،يصف بعض الأقسام في بعض جامعاتنا أنّها " ما زالت معاقل للفكر الذي ينفي الآخر، وما زالت تقتات على الترسيخ لثقافة الإقصاء ونفي الآخر، وتروج لها في أطروحاتها "، ويريد بهذه الأقسام التي في جامعاتنا ـ كما هو ظاهر ـ: الأقسام الشرعية، والعقدية على وجه الخصوص، ويريد بثقافة الإقصاء والنفي ثقافتنا الإسلامية السلفية، أمّا الآخر المنفي فهي الفرق الضالة المنحرفة من معتزلة وحرورية ومرجئة وصوفية وغيرها.
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأكثرهم خلطاً بين النصوص ـ في مقال له بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667: " ومما يجدر التنبيه عليه أنّ مصطلح ( العقيدة ) أمر تواضع عليه العلماء الذين تبنوا مجال البحث في مجال الغيبيات فيما بعد الصدر الأوّل، إذ لم يكن لذلك لمصطلح أساس من النصوص الوحييه سواء من القرآن أو السنة، إذ إنّ المصطلح الأساسي الشرعي الذي جاء به القرآن والسنة النبوية هو مصطلح ( الإيمان ).. " وكأنّ مصطلح ( الديمقراطية) و( الليبرالية ) و(الإيبيستيمولوجيا ) و( الأيديولوجيا ) وغيرها من المصطلحات التي يرددونها في مقالاتهم ليل نهار، لها أصل في الكتاب والسنة !!!
ثمّ يمضي الكاتب في تقريره لحقيقة الإيمان ومن هو المؤمن فيقول: " وهو [ أي الإيمان ] عبارة عن مفهوم بسيط ( هكذا ) يرمز إلى ستة أمور، من آمن بها أصبح مسلماً ومؤمناً كامل الإيمان لا يحتاج معه إلى امتحانات قلبية أو مماحكات لفظية، أو حفظ مدونات عقدية لإثبات إيمان المرء ودخوله حظيرة الإسلام "..
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانحراف واضح عن المنهج القويم والفهم السليم لدين الإسلام.. فإنّ لفظ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا صار لفظ الإيمان مراداً به الاعتقاد الباطن، ولفظ الإسلام العمل الظاهر كالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، كما قال الله تعالى عن الأعراب: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا..} ففرق بين الإيمان والإسلام، وهذا أمر بدهي عند أطفال المسلمين، فمن لم يأت بأركان الإسلام الظاهرة لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، حتى وإن ادّعى الإيمان والإسلام، ولهذا قاتل أبو بكر الصديق t مانعي الزكاة، مع أنّهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ولما أنكر عليه عمر t كما جاء في الصحيح، قال له: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة.. أمّا الامتحان، فقد قال الله تعالى في سورة الممتحنة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..}، وهي تسمى ( آية الامتحان )، وقد سئل ابن عباس t كيف كان امتحان رسول ا صلى الله عليه وسلم النساء؟ قال: كان يمتحنهنّ: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله.. وهذا خلاف ما قرره الكاتب، بل إنّ ما قرّره هو مذهب المرجئة القائلين بأنّ الإيمان مجرّد الاعتقاد بالقلب، وأنّ العمل غير داخل في مسمّى الإيمان، وأنّه لا يضر مع الإيمان ذنب.. فكلّ من ادّعى الإيمان ـ حسب زعمهم ـ صار مؤمناً مسلماً.. وقد صدرت عدة فتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء في هذه البلاد في التحذير من هذا الفكر الإرجائي الخطير.(5/89)
ثم يقرر الكاتب مذهبه الفاسد مؤكّداً فيقول: " وبالتالي فليس هناك من الوجهة الشرعية(!) ما يعرف بأصول العقائد مقابل فروعها، بل هو أصل واحد هو الإيمان، وكلّ ما جاء بعد ذلك مما أصطلح عليه أصول العقائد وفروعها، وهي التي ألحقت بالعقائد وفقاً لأيديولوجية الجماعة أو المذهب القائلة بها؛ فهي مما تواضع عليه من امتهنوا ما اصطلح عليه لاحقاً بعلم العقائد، ومن الطبيعي أن يضطر الباحث إلى مسايرة هذه المواضعة عند البحث عن أي من مفرداتها بعد أن أصبحت واقعاً تراثياً في حياة المسلمين ".. ، وفي موضع آخر يصفها الكاتب بأنّها: " مماحكات ومجادلات سفسطائية، أدخلت في العقيدة قسراً بمؤثرات أيديولوجية" الرياض: 13561، وهكذا يلغي الكاتب بجرّة قلم كلّ ما قرره سلفنا الصالح من العقائد والأصول المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة، مما هو مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، والتي يتميز بها أهل السنة والجماعة عن أهل البدعة ، ليفتح الباب على مصراعيه لكلّ مبتدع وضال ليكونوا جميعاً على درجة واحدة من الإيمان والاعتقاد الصحيح، ولعمر الله إنّ هذا لهو الضلال المبين.
ويقول هذا الكاتب في مقال له آخر بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، بعد أنّ قرر حق ( الآخر )(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد ـ يريد مذهب السلف ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج التعليمية، خاصّة المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرّس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسّس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصّة الفرق الإسلاميّة الماضية المنظور لها على أنّها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي ينظر لها على أنّها ذات أهداف خاصّة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه، بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حقّ وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحقّ حصري لمبادىء مذهبه وقواعد مرجعيته " يريد مذهب أهل السنة والجماعة، ثم يذكر المذهب الاعتزالي على وجه الخصوص ويدافع عنه، وهذا هو مربط الفرس عنده، لتقرير مذهب الاعتزال، فيقول: " ومن ثم فإنّ الحاجة ماسّة لتأسيسٍ جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجردة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة باستصحاب كامل لتاريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً، بدل أن تقدّم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة.."، وهكذا يريدون تمييع العقيدة السلفية الصحيحة، باسم التجرّد والفرادة. وتلميع الفرق الضالة المنحرفة، ومن ضمنها المعتزلة والرافضة والخوارج وغيرها من الفرق التي شوهت الدين، وآذى أصحابها عباد الله المؤمنين، ويلاحظ فيما ختم الكاتب مقاله ملاحظتين، إحداهما: التفسير السياسي للتاريخ والأحداث بشكل عام، وسأتحدث عن هذه المسألة بإذن الله في فصل مستقل. والثانية: التعريض بالحديث النبوي الشريف، حديث الفرقة الناجية، والاعتراض عليه(!)، بحجّة أنّه يخالف العقل، وهذا بناء على مذهبهم العقلي الفاسد.
وفي مقال آخر للكاتب نفسه بعنوان: ( أصالة التعدد في الطبيعة البشرية ) الرياض: 13160، يحاول الكاتب تأصيل مبدأ الاختلاف بين الناس ( التعددية ) وأنّها {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. }، ويستدل بالآية الكريمة الأخرى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم }، واستشهاده بهاتين الآيتين على ما ذهب إليه خطأ فادح يدل على جهل فاضح، فأمّا الآية الأولى فإن من المعلوم ـ بلا خلاف أعلمه ـ أنّ المراد بالفطرة: الإسلام وليس الاختلاف، كما جاء في الحديث الشريف: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه..".. وأمّا الآية الثانية فهي في سياق الحديث عن اليهود، ولا علاقة بالاختلاف الذي بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، بل إنّ نصوص الكتاب تدل على عكس ما أراد الكاتب تأصيله، فالله تعالى يقول: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، وقوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ.. }، فجعل الرحمة في مقابل الاختلاف، فدل ذلك على أنّ الاختلاف ليس برحمة، بل هو شرّ ونقمة، وإن كان الله قد أراده كوناً، لا شرعاً، وأنّ الحقّ واحد لا يتعدد، وتأويل الآيات على غير ما جاءت له سمة بارزة من سمات أصحاب هذا الفكر الاعتزالي كما سيأتي في مبحث جهلهم.(5/90)
ثمّ يواصل الكاتب جهله فيقول مقلداً للجابري: " كان فيروس الضيق قد تحدد سلفاً في الفكر العربي حيث دشّن الخوارج ومباينوهم في الطرف القصيّ من المعادلة ( الأمويون وشيعتهم ) مبدأ ثنائبة القيم الذي يقول عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري إنّه مبدأ (إمّا وإمّا ) ولا مجال لحطّ الركاب بينهما، إمّا مع وإّما ضدّ، إمّا مسلماً وإمّا كافراً، وإمّا ناجياً وإمّا هالكاً، وإمّا مقتفياً وإمّا مبتدعاً.."
إنّ هذه الثنائية التي ذكرها مقلداً الجابري، قد نصّ الله عليها في كتابه الكريم، فقال سبحانه: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ.. }، وقال سبحانه: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }، فهي ذات الثنائية ( إمّا وإمّا ).. والذي أراده الجابري ولم يتفطّن له الكاتب أو تفطّن له ووافق عليه، هو تقرير مذهب الاعتزال القائل بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ( لا مؤمن ولا كافر )، ولهذا قال: ( ولا مجال لحطّ الركاب بينهما )، وهو تقرير في غاية الخفاء والخبث، ويشبه فعل صاحب تفسير الكشّاف المعتزلي في تقريره لمذهب الاعتزال في تفسيره، حتى قال البلقيني رحمه الله: " استخرجت من الكشّاف اعتزاليات بالمناقيش ".. وهذا يحدث في صحيفة سيّارة تصدر في بلاد التوحيد التي قامت على العقيدة السلفية النقيّة، وفي ظني أنّ ولاة أمرنا ـ وفقهم الله لطاعته ـ لو تنبهوا لذلك لما رضوا به..
ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يختم مقاله بتوجيه بعض الشتائم، والانتقاص لأهل السنة وسلف الأمّة، ويضيف إلى ذلك بعض النصوص الحديثية، بطريقة فاضحة لا تدلّ على مقصوده، وما أقبح الجهل والتعالم إذا اجتمعا..
يقول ـ وتأمّلوا ما تحته خط ـ: " إنّ أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي حين مواجهته مشكلة التعددية، وبالذات من النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري، وهي ظن أولئك المتحذلقين والمتقوقعين حول فهومهم الخاصّة أنّهم بنفيهم وإقصائهم لخصومهم إنّما هم آخذون بحجزهم عن النار، وهؤلاء المخالفون ما فتئوا يتفلّتون منهم ويقعون فيها في تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقيّة الأفهام المباينة والمقاربة... ".
فهو يعدّ تصدي سلفنا الصالح لأصحاب الفرق الضالة، والردّ عليهم، أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي، ويخصّ النصف الأّوّل من القرن الثالث الهجري، لأنّه وقت نشوء فرقة المعتزلة التي جنّد نفسه للدفاع عنها، ويلاحظ شتائمه التي وصف بها أهل السنة وسلف الأمّة: ( المتحذلقين المتقوقعين حول فهومهم الخاصّة )، والتهم التي وجهها (النفي والإقصاء للخصوم )، والتعريض بالحديث النبوي الشريف الذي يُشبّه فيه صلى الله عليه وسلم المتهافتين على الباطل ـ كهذا الكاتب وأمثاله ـ كالفراش المتهافت على النار.. وتعريضٌ آخر بحديث الفرقة الناجية الوحيدة دون سائر فرق الضلال، ويصف ذلك ساخراً بلفظ سوقي فضائي بأنّه: ( تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقية الأفهام.. ) ويريد بذلك فهم السلف الصالح!!!، فما حكم من استهزأ بالنصوص الشرعية ؟!.
ثم يستشهد على ما ذهب إليه من التعددية بقوله: " ومن ثمّ يتساءل الإنسان كيف حاص أولئك [ يعني السلف الصالح ] عن حياض المنهج النبويّ الكريم حين كان r يقرّ أصحابه على تباين أفهامهم لما كان يلقي عليهم من نصوص ( قصّة الصلاة في بني قريظة مثلاً ) وعن مسار الصحابة بعده على هذا المنهج المتفرّد في قراءة النصوص، وامتثال مكنوناتها ( اختلاف عمر بن الخطّاب وأبي بكر حول الكيفية التي ينبغي بواسطتها مجابهة مانعي الزكاة فكلاهما انطلق في تفسيره من ذات النصّ ) .. " ا. هـ واستشهاد الكاتب بهاتين الواقعتين فيه جهل عظيم، وتلبيس واضح، وبعد كبير جداً عما أراد التوصل إليه، وهذه هي طريقة هذا الفكر الاعتزالي في التعامل مع النصوص، فأمّا الحادثة الأولى، فهي اختلاف في مسألة فقهية فرعية لا تعلّق لها بمسألة الاعتقاد والإيمان، لذا أقرّ صلى الله عليه وسلم الفريقين على اجتهادهما.. ومثل هذا الاختلاف لم يزل موجوداً عند أهل السنة حتى وقتنا الحاضر، وليس فيه تثريب إذا صدر من مؤهل.. وأمّا اختلاف عمر مع الصديق y في قضية مانعي الزكاة، فهو ليس اختلافاً، وإنّما هو إشكال وقع في نفس عمر، فما لبث أن زال بعد ذلك وحصل الاتفاق على ذلك الأصل، والكاتب ـ للتلبيس ـ لم يذكر تمام القصّة، وهو قول عمر بعد أن زال عنه الإشكال: " فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنّه الحقّ "، فأين في هذين الحادثتين ما يدلّ على ما أراد أن يقرره الكاتب من التعددية في أصول الدين والإيمان والاعتقاد ؟!!(5/91)
ومن قبيل هذا الخلط والتلبيس المتعمّد بين الأصول والفروع، يذكر أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وخبثاً ـ في مقال له بعنوان ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، بعد الخلط المتعمّد بين السلفية الحقّة ، والسلفية المدّعاة أنّ " السلف لم يتفقوا إلا على القليل(!)، واختلفوا على الكثير، فعن أيّهم يأخذ ؟ " يعني السلفي، ثم يذكر مسألة واحدة ـ واحدة فقط ـ اختلف فيها السلف، وهي خروج الحسين بن عليّ على الحاكم، ومخالفة بعض الصحابة له في هذا الخروج رضي الله عنهم جميعاً، وهذا الاختلاف ليس في أصل المسألة، وإنّما هو في بعض تطبيقاتها مع ما صاحب تلك الحادثة من ظروف وملابسات خاصّة، والقول بأنّ السلف لم يتفقوا إلا على القليل ـ من مسائل الاعتقاد ـ قول في غاية التجني والجهل بأحوال السلف ومنهجهم وعقيدتهم، وهو من أعظم التلبيس على عامة الناس، بل المعروف عند صغار أهل العلم، أنّ السلف الصالح في مسائل الاعتقاد الكبرى لم يختلفوا إلا في مسألة واحدة أو مسألتين، وبعض العلماء يعدها من قبيل الخلاف اللفظي لا الحقيقي، وإنّما وقع الخلاف بينهم في الفروع.
وفي سياق الحديث عن الفرق الضالة، يتباكى أحدهم على إقصاء تلك الفرق المارقة بل ـ وحتى الإلحادية منها(!) ـ في مقال له بعنوان ( تلاشي الفكر العربي ) الوطن: 980، فيقول: " نحن حتى اليوم(!) لم نقف على قراءة صحيحة للقضايا الكبرى أو حتّى الصغرى(!) في فكرنا، ولا للحركات الدينية التي مارست أشكالاً متعدّدة من حركات النقد للموروث بطريقة أو بأخرى، سواء الحركات الإلحادية أو الصوفية أو المعتزلية أو حتى الحركات الشعرية، فمن التجنّي إقصاء كلّ هذا الموروث وعدم الإفادة منه(!!!).."، ولا أدري ما الذي يريد بالقراءة الصحيحة التي لم نقف عليها حتى اليوم، ووقف عليها هو وأضرابه؟! وليست القضايا الكبرى فقط، بل حتى الصغرى !!!!. كما لا أدري ما الذي سنفيده من الحركات الإلحادية، والصوفية والمعتزلية الضالة ؟!!.
3. الطعن في مذهب السلف، والتندّر به، وكيل التهم له بلا حساب..
ففي مقال بعنوان: ( التاريخ وأزمة الفكر الإسلامي ) الرياض: 13688، كتب أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ مقالاً تحدّث فيه عن مسألة عقدية، وهي الكف عما شجر بين الأصحاب، وترك الخوض في ذلك، لأن الله U أثنى عليهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب فله أجران، ومجتهد مخطيء فله أجر واحد، وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، ولذا يذكر في كتب العقائد، وقد عدّ الكاتب هذه العقيدة المتفق عليها عقبة تقف ـ حسب زعمه ـ دون تحقيق الحدّ الأدنى من الموضوعية العلمية(!)، ثم يقول بأسلوب ماكر خفي: " دراسة طبيعة الفكر الديني، وتتبع مراحل تشكله في فتراته الحاسمة تواجه الرفض في مجتمعات تقليدية لا تزال تستعصي على العلمية، وتتماهى مع الأسطرة(!)، بل والخرافة بوعي منها بهذا التماهي وما يتضمنه من مدلولات في الفكر والواقع أو بلا وعي. وهذا الرفض إما أن يكون رفضاً للدراسة ذاتها أي للمراجعة الفاحصة باعتبارها تتناول ميداناً مقدّساً لا يجوز الاقتراب منه، وإما أن يكون رفضاً للآلية ( المنهج النقدي) التي تجري مقاربة الموضوع بواسطتها، وفي أكثر الأحيان يجتمع السببان كمبرر للرفض"، أستاذ اللغة العربية، وصاحب الفكر الاعتزالي المنحرف، الحاقد على منهج السلف، يريد أن يخضع تاريخ الصحابة الأطهار y للفحص والمراجعة!!!، أمّا الآلية التي يريد أن يسلكها فهي آلية شيخه الجابري تلميذ المستشرقين والتي تتلخص في انتقاء بعض الصور القاتمة من بعض المصادر المشبوهة التي لا تميز بين الغث والسمين، وجعلها مناطاً للأحكام والنتائج، هذه هي الموضوعية التي يتحدّث عنها(!).
ثم يقول: " لا شيء يزعج البنى التقليدية الراسخة في الأعماق الوجدانية [ يريد عقيدة أهل السنة ] سوى إعادة فحص الحدث التاريخي، والنظر إليه من خلال أبعاد أخرى(!) غير التي اعتادت التقليدية أن تقدمه بها "، إنه يريد منا أن نسلك منهجاً آخر غير منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد، ليفتح الباب على مصراعيه لكل مبتدع وحاقد وموتور ليقرر ما يريد، وتالله ذلك هو الضلال البعيد..
ثم يواصل: " مما يعني أن الأشخاص ( الذوات المقدسة صراحة أو ضمناً ) ستكون على المحك، ولن تبقى كما هي عليه من قبل في تراتبيتها التي تتغيا الفكرة ـ براجماتياً(!) ـ في النهاية "، وهذا هو مربط الفرس عنده: النيل من الصحابة، على حد قول أهل الاعتزال: (هم رجال ونحن رجال ) وشتان بين أولئك الرجال وهؤلاء أشباه الرجال ولا رجال..(5/92)
ثم يضرب مثالاً للذوات التي يصفها بالمقدّسة بالخلفاء الراشدين y ومذهب أهل السنة في ذلك أن التفاضل بينهم على حسب ترتيبهم في الخلافة، لكنّ هذا الكاتب لا يروق له ذلك، ويعده أمراً مبيتاً في الضمائر قبل وجوده(!!!)، يقول: " جرى الحدث التاريخي فيما يخص السلطة على التراتبية المعروفة بالنسبة للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومع أنه ـ أي الترتيب التاريخي للخلفاء ـ كان حدثاً تاريخياً مجرداً إلا أنه قد جرى تحميله معنى دينياً في تراتبية الأفضلية لهؤلاء، وهنا يظهر أثر الحدث التاريخي الواقعي ـ بأقصى حدود الواقعية الصريحة ـ على الفكري، وكيف جرى ضمه إلى مجمل المنظومة العقائدية بوصفه معبراً عن مضمر عقائدي كان موجوداً قبل وجوده المتعين في الواقع "، فهو لجهله ـ أو خبثه ـ يرى أن ترتيب الخلفاء كان حدثاً تاريخياً مجرداً..!! ولم يكن الأمر كذلك، بل إن الصحابة y اجتهدوا في تعيين الأفضل، بدليل أنهم توقفوا طويلاً بعد موت عمر t أيهما الأحق والأفضل عثمان أم علي، وكان عبد الرحمن ابن عوف t يطوف حتى على العذارى في خدورهن يسألهن حتى انتهى الأمر إلى تقديم عثمان t. ولهذا يقول أحد السلف: " من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار "، فكيف يقال إن ترتيب الخلفاء الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة كان حدثاً تاريخياً مجرداً ؟! لكنه الجهل والهوى، وإذا كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي، فإنهم لم يختلفوا في أبي بكر وعمر.. .
ولا يفوته في مقاله هذا أن يعرج على الصحابي الجليل، وكاتب الوحي معاوية t ويتهمه ببعض التهم الجائرة التي تنال من عدالته ونزاهته بناء على ما قرره سابقاً من الفحص والمراجعة(!)، ثم في نهاية مقاله يتباكى على مذهبه الاعتزالي العقلاني فيقول: " لا شك أن هذا يفسر كيف أن تيار العقلانية لا يظهر في مكان من العالم الإسلامي إلا ريثما يندثر، لا يتم هذا بقرار سلطوي في الغالب، وإنما بإرادة جماهيرية لا تزال تتدثر بلحاف الخرافة الصريحة أو الخرافة التي تؤسس على هذا القول أو ذاك "، وشتم الجماهير سمة بارزة من سماتهم كلما عجزوا عن بث فكرهم المنحرف، وستستمر الجماهير المسلمة التي تتدثر بلحاف أهل السنة والجماعة في رفض هذا الفكر الضال الذي ينال من ثوابتها وعقيدتها الراسخة ورموزها الشامخة ولو كره أدعياء العقلانية والتنوير بل التزوير.
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله y كما وصفهم الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[الحشر:10]، وطاعة صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم .." إلى أن قال: " ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، والصحيح أنهم معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم.. " إلى آخر ما ذكر.
هذا مثال واحد على طعنهم في عقيدة السلف والتشكيك فيها بطريقة ماكرة خفية، لا تخلو من مسلك التقية، مع ما فيها من التصريح ببعض ما تكنه نفوسهم، ومع هذا فهم يشتكون من عدم تمكنهم من قول كل ما يريدون. كفانا الله شرهم.
وفي مقال بعنوان: ( هيمنة الخرافة ) الرياض: 13566، يسخر آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً(!) ـ من عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي إثبات كرامات الأولياء، ـ وهي عقيدة ثابتة بالكتاب والسنة ـ، فيعدّها من الخرافة، ثم يقرر(!!) أنّ الخرافة والعقل ضدان لا يجتمعان!! ولا أدري أي عقل يقصد، فعقله يرى أنها خرافة، وعقول أئمة أهل السنة والجماعة بناء على ما جاء في الكتاب والسنة يرون أنها عقيدة ثابتة، فإلى أي عقل نتحاكم ؟ ثم يخلط الكاتب ـ وهذه عادتهم في الخلط والتلبيس ـ بين هذه العقيدة الثابتة وبين بعض الاجتهادات البشرية من بعض المجاهدين أو بعض المنحرفين فكرياً، وهذا الخلط منهج فاسد يدل إما على الجهل الفاضح، وإما على الهوى الواضح، للتوصل إلى أغراض في نفس الكاتب..
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات.. "..
السمة الثانية:
الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم
وذلك ناتج عن تلوث المصادر الفكرية التي ينهلون منها، وهل تلد الحيّة إلا الحية!..وقد سبق شيء من انحرافاتهم العقدية، ويضاف إليها:(5/93)
1. نسبة الإعطاء والمنح والضرب للطبيعة(!)..
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الثقافة والإرهاب علاقة تضادّ ) الرياض: 13772، عازفاً على وتر الإرهاب والإنسانية: " والإرهاب تنكّر للبعد الإنساني في الإنسان، ومحاولة جنونية للرجوع إلى ما قبل الفطري والإنساني، أي أنّه محاولة رجعية ليست للقضاء على مكتسبات الأنسنة(!) فحسب، بل وللقضاء على ما منحته الطبيعة فطرياً للإنسان "، وسيأتي الحديث عن موضوع الأنسنة لاحقاً بإذن الله تعالى.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، يكرر هذا الخلل العقدي مع عزفه المعتاد على وتر الإنسانية، وشتم السلفية، يقول: " ربّما كان من قدر المرأة لدينا أن تواجه أكثر من سور منيع يحول بينها وبين الحصول على أقلّ القليل من حقوقها الفطرية، تلك الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة ابتداء.. "، وهكذا تصبح الطبيعة الجامدة هي المانحة ابتداء(!!!)، أليس هذا هو منطق الإلحاد ؟.
وفي السياق نفسه يقول آخر في مقال له بعنوان: ( إعصار كاترينا وعصارة الكره ) الرياض: 13607، وهو يتحدّث عن الإعصار الذي ضرب أمريكا: " ما ذنب أطفال وشيوخ وعجائز وأبرياء ضربتهم قوى الطبيعة(!) حتى غدوا كأنهم أعجاز نخل خاوية أن نحملهم وزر حكوماتهم في أخف المبررات(!) أو نربط بين ما حل بهم وبين ما مارسوا فيه حقهم المضمون(!) من رب العالمين في اختيار المعتقد الذي يريدونه في أسوأ المبررات.."، فربنا جل وعلا يقول: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ }[سبأ:17 ]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، والكاتب يقول: لا تسمعوا لكلام الله بل إنّ الضارب والمهلك هي قوى الطبيعة!!!. أمّا الكفر الذي هو ظلم للنفس قبل أن يكون جريمة يستحق صاحبها العذاب، فهو عند الكاتب حق مضمون من رب العالمين لأولئك الكفرة..!! فأي خلل أعظم من هذا الخلل العقدي الصارخ.
ثم يضيف إلى هذه الخلل خللاً آخر أطم فيقول: " لماذا لا نجيد إلا التشفّي والتمني بالمزيد بعد أن قصرت بنا الثقافة المنغلقة عن إشاعة ثقافة العون والمساعدة المنبثقة من روح الأخوّة الإنسانية التي تشكل أصلاً من أصول الإنسان العظيم الإسلام في صفائه ونقائه وعزته وإنسانيته قبل أن تختطفه قوى الظلام والكراهية لتجعل منه أيديولوجية ساخطة على العالم كله.." ، والأخوّة الإنسانية التي يتحدث عنها سيأتي الحديث عنها بشكل مفصل بإذن الله، أمّا التشفي فلا أعلم قوماً أشدّ تشفياً من هؤلاء القوم، لا سيما مع خصومهم السلفيين، وقد رأينا قمة هذا التشفي في حادثة حريق الرئاسة، نثراً وشعراً ورسماً، وبكائيات عجيبة لوفاة بضع فتيات من آثار التدافع والهلع، لا بسبب الحريق.. ولم يقتصر الأمر على هذا بل حاولوا الزج بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه القضية زوراً وبهتاناً، وبطريقة قذرة، لولا تصريحات المسؤولين المبرئة للهيئة.. ثم هم ينكرون تشفي (بعض) المسلمين المظلومين الذين فقدوا الكثير من أولادهم وأعزائهم والكثير من أموالهم وممتلكاتهم بسبب الجبروت الأمريكي المدمر في كثير من بلاد المسلمين.. ثم أي أخوّة إنسانية مع قوم يمتهنون المصحف الشريف في سجونهم، ويسخرون من سيد الخلق وخاتم المرسلين عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
2. الدفاع عن القبوريين وأصحاب المذاهب الكفرية..
ففي مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، يقول الكاتب السابق، بعد أن قرر أن مرجعية من وصفهم بالخوارج هي السلفية ( التقليدية ): "إننا نريد أن نعرف من هؤلاء الخوارج القعدة هل نحن أي كدولة ومجتمع في نظرهم مسلمون أم لا؟ "
إلى أن يقول: " أنا هنا لا أقصد موقفهم من عموم المجتمعات الإسلامية، لأنها في تصنيفهم العام غير المفصّل كافرة إمّا لأنها لا تحكم بما أنزل الله أو تسكت عن الحاكم في هذا الأمر وإمّا لأنها بدعية أو مذهبية أو قبورية أو حزبية.. إلخ هذا الهراء وإما لا تنكر كل ذلك "..
والقبوريّون هم عبّاد القبور، المعظّمون لها بالذبح والنذر والسجود وغير ذلك من أنواع الشرك الأكبر، وهؤلاء لا شكّ في كفرهم، والكاتب يجعل ذلك من الهراء، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فإنّه إذا كان تكفير المسلم الموحّد لا يجوز، فكذلك عدم تكفير الكافر هو أيضاً لا يجوز، وهو تطرّف مضادّ للتطرف الأوّل الذي أراد أن يحذّر منه..
وأمّا حديثه عن الدولة والمجتمع، وتمسّحه بذلك، فهو من باب التقيّة التي يشتركون فيها مع الرافضة، وذلك أنّهم أصلاً لا يرون شرعية هذه الدولة السلفيّة (الوهابيّة في نظرهم) لأنّها غير ديموقراطية، أي غير منتخبة من الشعب، وهم يسعون لتحقيق مشروعهم التغريبي الغربي إلى إزاحة هذه الدولة، لإقامة دولتهم ( الإنسانية ) المرتقبة التي لا دين لها ولا مذهب ولا طعم ولا لون ولا رائحة.!!!.(5/94)
وأمّا المجتمع الذي يزعمون تكفيره من قبل الخوارج القعدة، فهو المجتمع الذي استعصى عليهم ولذا فهم يرمونه ـ على سبيل الشتم ـ بالتجهيل، أو على حدّ تعبيرهم كما سبق: (الجماهير البائسة الظامئة )، و(جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و(الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، وهي الآن بعد هذه الشتائم أصبحت متّهمة بالكفر من قِبَل من يزعمون أنّهم قد اختطفوها، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض الحادّ ؟!!.
3. الخلل في مفهوم الولاء والبراء..
وقد كتب أحدهم ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأشدّهم جهلاً ـ مقالاً بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، وقرر مفهوماً غريباً للولاء والبراء، يفرّغه من مضمونه الشرعي الذي أراده الله U ، بل يضادّه ويخالفه، يقول: " وهو يشي بعلاقات سلمية قوامها الصلة والإحسان والبرّ ودعم ممكنات السلام الاجتماعي الذي أتى الإسلام ليجعلها الأصل في حياة الناس قبل أن تختطفها جماعات الإسلام السياسي لتجعل بدلاً منها العنف والقتل والدمار هو الأساس في علاقة الإسلام بغير من الديانات الأخرى افتئاتاً على الله تعالى ورسوله ومكراً للسوء ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ".. فهو يخلط بجهل فاضح بين عقيدة الولاء والبراء التي قوامها ولبّها وروحها: الحب والبغض وموالاة المسلم أيّاً كان، والتبرّي من الكافر ومعاداته أيّاً كان، وبين معاملة الكفّار والتفريق بين من كان منهم محارباً، ومن كان منهم مسالماً.. وبغض الكافر ومعاداته كما قال الله عن الخليل إبراهيم u: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، فنحن نبغض الكافر ونعاديه بقلوبنا من أجل كفره، لكن ذلك لا يمنعنا من بره إذا كان قريباً مسالماً كالوالدين ونحوهما، وكذلك لا نظلمه بل نقسط إليه، ونحسن معاملته ترغيباً له في ديننا، ومن أجل إنقاذه من الكفر الذي هو فيه، بل إنّ عقيدة الولاء والبراء لا تختص بالكافر، بل تشمل حتى العاصي، فنبغضه لمعصيته، لكن نحبه من وجه آخر لما عنده من الإيمان والإسلام، فمن لم يبغض الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، فلديه خلل في هذه العقيدة العظيمة، وما تأخر المسلمون، ولا تسلط عليهم العدو، إلا لتخليهم عن هذه العقيدة، أو اختلال مفهومها لديهم.
ولم يقف الأمر عند هؤلاء على مجرد الاختلال في المفهوم، بل تجاوزه إلى ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو إلغاء هذه العقيدة من أصلها(!)، يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني وضرورة التجديد ) الجزيرة: 11595، عن مفهوم الولاء والبراء: "هذا المفهوم كان في الماضي، وفي زمن عدم وجود ( الدولة ) بمعناها وشكلها الحالي، ضرورة احترازية، ودفاعية وقائية مهمة، فقد كان بمثابة آلية عالية الفعالية آنذاك لمنع ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم ( منع اختراق مجتمعاتنا من الآخر ) في حقبة كان الصراع والتطاحن فيها بين الأمم والثقافات هو السمة الطاغية على العلاقات الدولية، أما اليوم فقد تغير الوضع حيث أصبح التعاون بين الأمم(!!!) وتكريس كل ما من شأنه إثراء هذا التعاون، هو الثقافة السائدة بين شعوب الدنيا، لهذا فإن التغير النوعي في العلاقات الدولية الذي نعايشه اليوم كان يجب أن يتبعه تغير مواكب في مفهومنا للولاء والبراء بالشكل الذي يحافظ على فعالية هذا المفهوم.."، وقد ذكرني قوله ( ضرورة احترازية ودفاعية وقائية ) بالحرب الاستباقية الوقائية التي دشّنها ( الآخر ) في ظل التعاون الدولي بين الأمم(!) دفاعاً عن نفسه، ولو كان ذلك مبنياً على استخبارات خاطئة أو مبالغ فيها، وهي ليست مجرّد عقيدة في القلب، أو بغض باللسان، وإنما حرب بالأسلحة المدمرة وربما المحرمة دولياً التي لا تفرق بين المحارب والمدني، ويبدو أن مفهوم هذه العقيدة قد انتقل إلى ذلك الآخر في حين غفلة منا، فكان علينا التخلي عنه.. أما التعاون بين الأمم! فصحيح لكنه ضد الإسلام وأهله، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها مما يطمع فيه ( الآخر )..
ويستشهد الكاتب المذكور على ما ذهب إليه من تعطيل مفهوم الولاء والبراء، بقول كبيرهم الجابري الذي يقول: " إذا تعارضت المصلحة مع النصّ، روعيت المصلحة(!) باعتبار أنّ المصلحة هي السبب في ورود النصّ، واعتبار المصلحة قد يكون تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف(!)".(5/95)
فتأمّلوا هذا القول العجيب الذي يفترض تعارض المصلحة مع النصّ، ثمّ من الذي يحدّد المصلحة ؟، وكيف يكون اعتبار المصلحة تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف؟ فما قيمة الدين حينئذ، إذا كانت ثوابته عرضة للاعتداء والإلغاء بحجّة المصلحة المزعومة ؟.. نعم قد يتخلّى المسلم عن عقيدة الولاء والبراء ظاهراً في حالات استثنائية خاصّة جداً، لكنّها تبقى عقيدة قلبية لا يجوز له أن يتخلّى عنها: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[النحل:106].
4. الثناء على الفرق الضالّة، وخصوصاً المعتزلة ـ التي تتّخذ من السلفية خصماً تقليدياً لها ـ والدفاع عنها، بل الدعوة إليها !!...
ففي مقال بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، كتب أحدهم يستنكر فزع خصومه السلفيين عند شتم مذهب السلف، وكيل التهم للسلفية بلا حساب ولا برهان، والذي يعدّونه من النقد!!. ويقرّر بفهم مغلوط ومنقوص للآية الكريمة: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }[هود:118]، أنّ الاختلاف بين البشر أمر جبلّي قد فُطر عليه البشر، وليس بمذموم، ولو أتمّ الآية لتبين له خطأ ما ذهب إليه، فإنّ الله قال بعدها: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[هود:119]، فجعل الله الاختلاف مقابل الرحمة. وقوله: ( ولذلك خلقهم ) قيل للاختلاف. وقيل للرحمة. وقيل للأمرين: فريق في الجنّة وفريق في السعير، وهو الصحيح. ولذا ختم الآية بتوعّد الكافرين من الجنّ والإنس بنار جهنّم، ولم يعذرهم بكفرهم بحجّة أنّ الاختلاف أمر جبلّي فطريّ كما يقول هذا الكاتب الجاهل، ويدلّ على أنّ الأصل هو الاجتماع والاتفاق على التوحيد والإيمان الصحيح قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً..}[البقرة:213]، وقد روي عن ابن عباس t أنّ الناس قبل نوح كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم حدث الاختلاف والتفرق بعد أن زين الشيطان لقوم نوح عبادة الأصنام وتعظيم الصور..فكان نوح u هو أوّل الرسل لمحو الشرك.
ثم يقرر هذا الكاتب " حق الآخر (الكافر)(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد!! أياً كان هذا الجانب... "..
ثم يقول مدافعاً عن المذهب الاعتزالي ـ وهذا هو مربط الفرس لديه ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصة الفرق الإسلامية الماضية المنظور لها على أنها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي يُنظر لها على أنها ذات أهداف خاصة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حق وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحق حصري لمباديء مذهبه وقواعد مرجعيته "، وبعد هذا التلميح غير المليح، ينتقل إلى التصريح فيقول: " المذهب الاعتزالي مثلاً عندما أسس للنظرة العقلية في الإشراقات(!) المبكرة من تألق الحضارة الإسلامية كان له هدف نبيل واضح وهو محاربة الهجمة الشعوبية على الإسلام آنذاك المتخذة من مذهب الشك أساساً لإتيان بنيان الإسلام من قواعده، فكان أن قام المعتزلة بالتأسيس للمذهب العقلي القاضي بتقديم العقل(!!!!) على النقل كسلاح مماثل ووحيد لردّ تلك الهجمة على الإسلام... " إلى آخر ما ذكر من التلبيس وقلب الحقائق، فأما الشك الذي يتحدث عنه فهم أهله والداعون إليه كما سبق من دندنتهم حول أنّ أحداً ما ـ أيّاً كان دينه ومذهبه ـ لا يمتلك الحقيقة المطلقة، فأي شك بعد هذا الشك ؟!، وأما تقديم العقل على النقل فهو الضلال المبين، فكيف تكون السيئة حسنة يُمدح صاحبها ؟!، إن هذا من انقلاب المفاهيم..
ثم يختم مقاله بالتعريض بالحديث الشريف ـ حديث الافتراق والفرقة الناجية ـ، وهو مخالف للعقل عندهم(!)، فيقول: " ومن ثم فإن الحاجة ماسّة لتأسيس جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجرّدة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة(!) باستصحاب كامل لتأريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً بدل أن تقدم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة... "، أما التفسير السياسي للتاريخ والأحداث، واستبعاد الدين والعقيدة كمؤثّر رئيس، فذلك من أبرز سماتهم كما سيأتي، للتوصّل إلى ما يهدفون إليه من العلمنة.(5/96)
وفي مقال لهذا الكاتب بعنوان: ( العقل قبل ورود السمع ) الرياض: 13688، الذي هو أصل من أصول المعتزلة، يثني الكاتب على هذا الأصل، الذي يعلي من شأن الفلسفة والمنطق وعلم الكلام المذموم، ويصف موقف السلف من ذلك بالركام الظلامي الراكد على ثقافتنا منذ قرون... أمّا تراجع بعض كبار أساطين الفلاسفة عنها، وتسجيل اعترافاتهم في ذمّها، وأنّها لا تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، فيعدّه الكاتب في مقال له ساخر بعنوان: ( التراجعات المذهبية ) الرياض: 13572، مجرّد دعوى لا حقيقة لها، وأنّ ما قالوه، معظمه منحول عليهم، ولا يخفى ما في قوله هذا من اتّهام للسلف بالكذب والافتراء على أولئك المتراجعين، ودفاع عن تلك الفلسفة البائسة العقيمة باعتراف أساطينها.
وفي هذا السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( تعميق التعددية الفكرية... تأسيس لتطور المجتمعات ) الوطن: 2305، مثنياً على مذهب الاعتزال، ولامزاً مذهب السلف: " ويزخر تاريخنا القديم بمدارسَ فكرية متعددة شاركت في زمانها في حراكٍ فكري ثقافي في قضايا فلسفية متعددة كثيرة شغلت تلك المدارس بالتأليف والردود, وأفرز ذلك الحراك الفكري الثقافي مدرسةً فلسفيةً عقلية وهي فكر الاعتزال بيد أننا لم نستفد من تلك المدرسة العقلية التي كانت تُحاكي عقل الإنسان ولم نحاول أن نبرز الأدوات والوسائل التي كانت أساساً لتلك المدرسة, بل قد أُبرزت تلك المدرسة على أنها ضارة وغير نافعة وهذه إشكاليةُ فكرٍ تفردَ بمجتمعٍ فأصبح يملي عليه ما يجوز التفكير فيه وما لا يجوز وساهم في ترسيخ منظور ومنهج واحد تدرسُ من خلاله تلك المدارس الفكرية العقلية التي تزخرُ بالثقافة, فهل سوف تتغير طريقة طرحنا للمدارس الفكرية المتعددة كي نوظفها في خدمة الحراك الفكري الثقافي لكي يمارسه أفراد مجتمعنا ويتفاعلوا معه والذي هو مطلب أساسي للإصلاح والتطوير أم إننا سوف نبني سداً يحول بين عقولنا وآليات تفعيلها كي تبقى على القديم ؟ وكيف سوف نغير طريقة طرحنا؟ ومتى؟".
أنّها دعوة صريحة إلى تبنّي مذهب الاعتزال ، ونبذ منهج السلف الذي يصفه بأنّه ( فكر تفرّد بمجتمع )، فهو لا يفرّق بين الفكر والعقيدة التي لا مجال للمساومة عليها، بل إنّه يعدّ الأخذ بمذهب الاعتزال المنحرف مطلباً أساسياً للإصلاح والتطوير !!!!!..
5. الدعوة إلى نقد الثوابت(!) والتشكيك فيها، والتي يعبّرون عنها تارة بالمسلّمات، وتارة بالحتميات، وتارة بالمعرفة الأولى... الخ ..وهي دعوة خطيرة تكشف عن حقيقة ما يطرحونه من فكر..
يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتاناً بالغرب ـ في مقال له بعنوان: (ظهور الفكر النقدي شرارة الانطلاق الحضاري ) الرياض: 14083: " إن إخفاق العرب والمسلمين في تحقيق الإفلات من قبضة التخلف وعجزهم عن إحراز النهوض وعدم القدرة على التفاهم وغياب تبادل الاحترام واستمرار التمركزات المتنافرة بين الأقطاب المختلفة داخل الأمة والاحتكام إلى القوة والعجز عن الاتفاق عند أي اختلاف ان هذه كلها وغيرها من المعضلات المزمنة تعود بشكل أساسي إلى حرمانهم من آليات النقد التي كانت المفتاح الذي اهتدت إليه بعض الأمم وأحسنت استخدامه فحقق لها الوئام المنتظم والتكامل المكتظ والنمو المطرد ومكنها من الازدهار المتجدد.. أجل إن النقد للأفكار والرؤى والأوضاع والأعراف والتقاليد والمواضعات والمسلّمات هو محرك الحضارة وهو صانع التقدم في كل مجالات الفكر والفعل وهو الشرارة التي فجرت طاقات الإنسان وصنعت له أمجاد الفكر والعلم ووفرت له أسباب الازدهار فالأمم التي اعتمدت هذه الآلية الرائعة حققت طموحاتها وأنجزت إثبات ذاتها ووقفت شامخة بين الشعوب في سباقات الفكر والفعل أما الأمم التي أخمدت هذا المحرك الأكبر أو تجهله أو لا تحسن استخدامه فقد بقيت عاجزة عن مبارحة خنادق التخلف بل بقيت رافضة بأن تتجاوز هذه الخنادق لأن حرمانها من النقد والمراجعة حرمها من اكتشاف نقائصها كما حرمها من التعرف على ما في الدنيا من آفاق وبدائل فبقيت تتوهم أنها الأفضل والأرقى وظلت رهينة هذا الوهم .."(5/97)
فهو قد ساوى بين الأفكار والرؤى والأوضاع والأعراف والتقاليد.. وبين المسلّمات التي هي الثوابت، ولم يستثن من ذلك شيئاً.. فكلّها يجب أن تكون خاضعة للنقد حسب رأيه، وهو يستشهد على ذلك بالحضارة اليونانية ووريثتها الحضارة الغربية حسب تعبيره، فيساوي بين دينهم وثوابتهم المحرّفة الباطلة، وثوابتنا وديننا الصحيح الذي لا يقبل النقد، بل يعدّ هذا التفريق بين الدينين وثوابتهما ضرباً لما أسماه بامتلاك الحقيقة المطلقة، بمعنى أنّك حين تعتقد أيها المسلم بأنّ دين الإسلام هو وحده الحقّ وما سواه باطل، فإنّك حينئذ تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة!!! هذا ما يفهم من إطلاقه حيث يقول: "ولكن لن ندرك عظمة هذا السبق المذهل الا إذا تذكرنا أن أصعب معضلة واجهت الإنسانية وسببت لها الفظائع والشرور وعرقلت مسيرتها الحضارية هي الانغلاق الثقافي الناتج عن توهم الكمال واعتقاد كل طرف من المختلفين أنه هو وحده الذي يملك الحقيقة النهائية المطلقة وأن كل الأطراف الأخرى غارقة في الأباطيل والحماقات والعمى والضلال وانحلال الأخلاق وأن كل المخالفين يستحقون الاقصاء والاستئصال لأنهم في نظره خطر على الحقيقة وعلى الوجود ولأن هذا الوهم يجري من الناس مجرى الدم ومحتجب عن الوعي خصوصاً في الثقافات المغلقة [ ويقصد بها ثقافتنا ] فإنه قد بقي ويبقى محصنا عن أضواء العقل وغير متأثر بفتوحات العلم ومحمياً من عمليات التحليل والفحص والمراجعة فتوهّم الانفراد بامتلاك الحقيقة يؤدي إلى الانغلاق الثقافي ومعاداة كل المغايرين وتوهّم الخطر من أي مخالف . إن ادعاءات كل طرف سواء بين الأمم المختلفة أو بين المذاهب والطوائف والاتجاهات داخل الأمة الواحدة بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة وأن الآخر ليس لديه سوى الضلال والعمى كانت وما زالت من أقوى أسباب البؤس الإنساني والفرقة والاقتتال والعداوات وحجب الحقائق وتزييف الوقائع وإفساد الأخلاق وملء النفوس بالأحقاد وتلويث العقول وإعاقة المعرفة وعرقلة الحضارة ومنع الانسجام الإنساني لذلك كان تأسيس الفكر النقدي وتقويض أوهام الانفراد بامتلاك الحقيقة النهائية المطلقة من أعظم الاختراقات الإنسانية.."
وهذا الكلام تضمن حقّاً وباطلاً، وخلطاً عجيباً يدلّ على غبش في التصور، أو ضلال في الفكر، وسيأتي قريباً إن شاء الله الحديث عما يسمّى بامتلاك الحقيقة المطلقة..
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرادة الإنسانية.. المستقبل يصنعه الإنسان ) الرياض: 14073، هاجم فيه ما أسماه بالحتميات التي هي الثوابت، يقول: " لا أريد أن أتحيز إلى تهميش الحتميات؛ بقدر ما أريد التأكيد على قدرة الإرادة الإنسانية على تجاوزها، والتحرر منها؛ مع الإقرار بنسبية هذا التحرر. بل إن حضورها الطاغي أحيانا هو ما يبعث روح التحدي إزاءها، ويجعل من التحرر منها تحقيقا لتحرر الإرادة الإنسانية مما سوى الإنساني ".
فهو يرى في مقاله الطويل الذي يكتنفه الغموض أنّ الحتميات التي هي الثوابت ـ ويعني بها ثوابتنا نحن لكنّه لم يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها ـ هي العائق عن تحقيق التقدّم والإرادة الإنسانية، في الوقت الذي يثني فيه على الإنسان الغربي الذي يمثل في نظره مقدمة الوعي الإنساني، ومثال الإرادة الحرة الواعية بذاتها. لأنّه الإنسان الأقل خضوعا للحتميات، والأشد تحررا من أسرها !!!!!. إنّها قمّة الانهزامية والتبعية والانحراف الفكري، أو بتعبير بعض الفضلاء: ( الأدمغة المفخخة ).
وفي مقال بعنوان: ( ثقافة معاقة )(!) الوطن: 2252 كتبت إحداهنّ داعية إلى الشك في الثوابت، والتشكيك فيها، تقول بكلّ جرأة: " يقال إن الفرد قد حقق هويته عندما تكون سلوكياته العملية في جميع جوانب حياته نتاجاً لمفاهيم وقناعات اختبرت صحتها بعقلية حرة مستقلة ولم تكن نتاج وراثة أو برمجة بطريقة الترديد الببغائي لما يقوله الوالدان والمدرسة ووسائل الإعلام كالمسجد والتلفزيون والكتيبات، وليصل الإنسان لهذا المستوى فلابد أن يمر بمرحلتين الأولى وفيها يتم وضع كل ما تم تلقينه إياه في فترة طفولة الفكر وهي مرحلة الطفولة وحتى نهاية المراهقة موضع الشك والاختبار دون النظر إلى ما يسميه مجتمعه أعرافاً أو ثوابت فيبدأ المراهق بالتساؤل حول مصداقية التعليمات التي جاءت من قبل الكبار وتشكيكه فيها بالبحث والقراءة والاستطلاع بهدف الغربلة والتصحيح فيدخل سن الشباب وقد كوّن فكره المستقل الذي يعكس ما يدل عليه ثم يظهر الالتزام بالمعرفة الجديدة وتطبيقها عملياً كمؤشر ملموس على تحقق الهوية ".(5/98)
فهي تدعو الشاب الغض بعد سنّ المراهقة أن يختبر قناعاته ـ حتى الثوابت(!) ـ بعقلية حرة مستقلة كما تقول(!!!) وهي لا تعلّم أنّ ثوابتنا لا سيما العقدية لا تخضع للعقل، ولا مدخل للعقل فيها، فهي تعتمد على الإيمان والتسليم المطلق { الذين يؤمنون بالغيب }[ البقرة: 2]، ولو كانت الكاتبة تتحدث عن مجتمع غير مجتمعنا، ثوابته من وضع البشر لكان لكلامها وجاهة، أمّا وهي تتحدّث عن مجتمعنا السلفي المسلم بمناهجه النقية التي تولّى إعدادها علماء أجلاء، فلا وجه لهذه النزعة التشكيكية المتلقّاة من الغرب الكافر الذي لا ثوابت له سوى ما وضعه البشر..
ثم كيف لشاب غضّ في مقتبل العمر أن يختبر تلك القناعات والثوابت التي وضعها له علماؤه ومشايخه، وهي مما اتفق عليه سلف الأمة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا ؟!!
ثم تقول: " وقد يظن أي معاق الهوية أن الأخلاق والقيم والمبادئ غير قابلة للتطور ويجب أن تبقى ثابتة وأننا نعني بهذا المقال التأثير على شبابنا ودفعه للتخلي عن قيمنا وأخلاقنا العظيمة ونقول له بل هي قابلة للتطور والتحسن ويجب أن تعامل بمرونة أكثر وسأعطي مثالاً على نمو المبادئ وتطورها ففي ثقافتنا الإسلامية الجميلة كنا من رواد الدعوة لحقوق العبيد ولتضييق موارد الاستعباد ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساسا ومن هذا المنطلق يمكن حتى أن نطور مفاهيمنا حول حقوق المرأة والطفل ".
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانهزامية بائسة، فديننا ولله الحمد قد أكمله الله وأتمّه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }[ المائدة: 3] فلسنا بحاجة لنطور ثوابتنا وقيمنا عن طريق أمم لا قيم لها ولا أخلاق أصلاً إلا الأخلاق التجارية إن صحّ التعبير، والمثال الذي ضربته دليل صارخ على جهلها فإنّ إلغاء الرقّ الذي أقرّه الإسلام ليس تطويراً وإنّما هو مضادة لحكم الله وشرعه، فالرق باق ما توفّرت أسبابه، وقولها: ( ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساساً ) كلام خطير حيث جعلت هذا النقض لحكم الله مستوى أعلى مما شرعه الله وأقرّه.. فجعلت حكم الطاغوت أعلى من حكم الله، ولا أظنّها لجهلها تدرك ذلك، فإلى الله المشتكى من جهل هؤلاء وجرأتهم وتعالمهم..
ثم أي استعباد أعظم مما تفعله الدول الكبرى اليوم من استعباد الدول والشعوب وإذلالها والضغط عليها لتنفيذ أجنداتها، والسير في ركابها، والاستيلاء على ثرواتها ومقدّراتها ؟!! ومن يخالف ذلك فإنّ مصيره إلى الإقصاء والإبعاد والاتهام بالإرهاب، وتسليط المرتزقة عليه وغير ذلك من الأساليب الماكرة.
وتختم مقالها بما لا يقل خطورة عما سبق، فتقول: " وأخيرا تحت شعار حماية ثقافتنا خوفا من المتربصين وهذا الخوف الذي ينادي إلى التقهقر ومحاولة إحياء عصر ما قبل ألف سنة بحذافيره وهذا الفكر خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية وجعل عقولنا راكدة متوقفة عن العطاء نعيش عالة ولا نساهم في أي إضافة للمجتمعات لا تقنيا ولا ثقافيا بالرغم من أننا نشكل خمس سكان العالم ".
فتأملوا قولها: ( إحياء عصر ما قبل ألف سنة ) وهو عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، أي القرون الأولى المفضّلة التي قال عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( خير القرون قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم.. )) وجعلت إحياء مثل هذا العصر المجيد سبباً من أسباب خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية... ألا يعدّ هذا الكلام من الكفر الصريح، أم أنّ هذه الكاتبة تردّد ببغائية ما لا تدرك معناه ؟!
وفي ذات السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( التفكير في المعرفة الأولى ) الوطن: 2259: "يعتبر كثير من الباحثين في الفكر العلمي، باشلار من أبرزهم، أن المعرفة الناتجة عن التجربة الأولى، أي الاتصال الأول بالموضوع، تعتبر عائقا معرفيا أمام الحصول على معرفة علمية موضوعية. وبالتالي فإن المعرفة العلمية الحقيقية تأتي لتواجه وتتجاوز هذه المعرفة الأولى ".
إلى أن يقول: " هذا المفهوم يمكن توسعته أيضا إلى معارفنا الأولى عن الكون والحياة والأفكار والثقافات وعن أنفسنا ومحيطنا الصغير والكبير. خصوصا أن أغلب معارفنا في هذا الإطار اكتسبناها ونحن صغار في فترات التعلم الأولى. تعلمنا في البيت وفي المدرسة ومن خلال التفاعل الاجتماعي أشياء كثيرة. تعتبر كلها معارف أولى تبقى متأثرة بثقتنا بمن علمنا إياها وبالهالة التي لهم عندنا...."
إلى أن يقول: " يمكن سحب هذا الفهم على المعرفة الأولى التي اكتسبناها في المدرسة من المعلم وتلك التي اكتسبناها من إمام المسجد وتستمر حتى إلى المعرفة الأولى التي تحصلنا عليها من الجامعة أو أي مصدر معرفي آخر ". وهذا هو مربط الفرس عندهم: المعلم، المسجد....(5/99)
وهكذا تستمر الدعوة إلى التشكيك في ثوابتنا ومسلّماتنا الشرعية بحجّة النقد والتمحيص، وهم يقيسون مجتمعنا المسلم على المجتمعات العلمانية الكافرة التي لا ثوابت لها إلا ما صنعه البشر كما سبق ضاربين بثوابتنا الشرعية عرض الحائط.
ويبدو أنّهم بدأوا في تطبيق ما يدعون إليه، فهذا أحدهم في مقال له بعنوان (الأمن الفكري والركض في الطريق الآخر!! ) الوطن: 2322، يطعن في مذهب أهل السنّة والجماعة، ويقرر الفكر الليبرالي المنحرف فهو يرى أنّ الأمن الفكري هو : " أن يفكر جملة الناس وأفرادهم تفكيرا لا يؤدي إلى إيقاع الخطر بالمجتمع ".
ثم يقرر " إن هناك رؤيتين مختلفتين في تحقيق هذا الهدف. الأولى تقول إن الفكر الآمن هو الفكر "السلمي". بمعنى الفكر الذي يطرح آراءه وأفكاره بطريقة سلمية دون أن يلزم أحد بها أو يفرضها بالقوّة " وهذه هي الرؤية الليبرالية التي يريد أن يقررها .
ويواصل: " الرؤية الثانية ترى أن الفكر الآمن هو الفكر الذي يسير في الطريق المحددة سلفاً. طريقة يرى أصحاب هذه الرؤية أنها هي السليمة قطعا وبالتالي فإن تحقيق الأمن للفكر يكون في السير على هذه الطريقة وكل ما يخرج عنها يعتبر فكرا خطرا ويهدد الأمن الفكري ". وهذه هي الرؤية السلفية الصحيحة، وهي التي يريد أن ينقضها، ولذا يقول: " شتّان بين الرؤيتين فكل منهما تنطلق من أساس فكري ورؤية للإنسان والحياة تختلف عن الأخرى. الرؤية الأولى التي ترى الأمان الفكري يكمن وينبع من التفكير السلمي بدون إضافة أي قيد آخر على هذا التفكير تنطلق من مبدأ حرية التفكير غير المحدودة إلا بكونها سلمية. حرية التفكير التي هي حق أولي للإنسان وشكل من أشكال تحقيق وجوده الحقيقي في الحياة. هذه الحرية هي منطلق وطريق كل الإنجاز البشري وأفكار التقدم والتحرر على مدار التاريخ. كل الفلاسفة والمصلحين على مدى التاريخ انطلقوا من هذا الحق حين كانوا يواجهون بمعارضة شديدة من مجتمعاتهم في البدايات. صحيح أن الكثير منهم انقلب على هذا المبدأ بعد أن استقر لأفكارهم الأمر إلى أن المبدأ الأول كما شملهم يفترض أن يشمل من بعدهم بالتأكيد . الرؤية الثانية تنطلق من أن فكرة أن الحق معروف سلفاً، في جملة آراء جماعة ما " يقصد أهل السنة والجماعة، ثم يواصل: "وبالتالي فإنه لا يسع أحد أن يخرج عن هذا الفكر وإلا اعتبر مباشرة خارجاً عن الحق".
ثم يقول ساخراً: " لا تهتم هذه الرؤية بحرية الفكر، ولا تعتد بها، بل تحاربها بقدر ما تستطيع، وتعتبرها سبباً من أسباب الدمار والبلاء. ولذا فعلى الناس استمرار الاتباع للحق، الذي هو حق محدد عندهم في جملة من الأقوال والآراء وفي ما وافقها فقط "..
وحرية الفكر عند هؤلاء تعني حرية الكفر، والسخرية بالدين وأهله، والتشكيك في الثوابت كما سبق..!! أما الحقّ المحدّد في جملة من الأقوال والآراء ـ حسب وصفه ـ فواضح أنّه يريد به مذهب السلف، وهل هناك حقّ غيره عندنا ؟.
وفي مقال بعنوان ( لا إجحاف ) الوطن: 2322، كتبت إحدى الكاتبات من أصحاب هذا الفكر ـ وهي التي سبق قريباً أنها طالبت بالشكّ في الثوابت ـ تنتقد وبصراحة وقحة بعض الثوابت المتعلّقة بالمرأة، والتي وردت فيها نصوص صحيحة وصريحة، وقد خلطتها مع بعض القضايا الأخرى التي هي محل اجتهاد، ومن هذه الثوابت التي انتقدتها وأنكرتها ـ وسأذكرها بالنصّ الذي ذكرته ـ:
" ممنوعة من السفر بدون إذن، ممنوعة من استئجار غرفة بفندق بدون إذن، ممنوعة من إلحاق أبنائها في المدرسة التي تحب بدون إذن، ممنوعة من استخراج جواز سفر بدون إذن، ممنوعة من الخروج من المنزل بدون إذن، ممنوعة من الخروج من الدوام (للمعلمات والطالبات) دون إذن، ممنوعة من الالتحاق بالعمل بدون إذن، ممنوعة من استئجار منزل وحدها بدون إذن، ممنوعة من الاستفادة من البعثات الخارجية بدون إذن، ممنوعة من تزويج نفسها بدون إذن، ممنوعة من التوقف عن الإنجاب بعملية بدون إذن، ممنوعة من الخروج من المستشفى إذا نومت فيه بدون ولي لاستلامها، ممنوعة من دخول الإدارات الحكومية ومقابلة المسؤولين بدون ولي، ممنوعة من الامتناع عن فراش الزوجية بدون عذر، ممنوعة من طلب الطلاق بدون عذر ودفع غرامة، ممنوعة من اللحاق بأطفالها إذا أخذهم طليقها خارج البلاد دون إذن وليها، ممنوعة من تزويج بناتها دون إذن، ممنوعة من الوقوف في محل بيع أو مقهى هي تملكه، ممنوعة من استلام مناصب تنفيذية عليا في القطاع الخاص والحكومي، ممنوعة من لقاء وفد لعقد صفقة عمل، محرم عليها الركوب مع سائق وحدها، محرم عليها العمل في المكان المختلط، محرم عليها إغضاب زوجها، وأخيراً صوتها عورة لا يجب أن يظهر للملأ لتبقى قضيتها طي الكتمان.. ".(5/100)
ويلاحظ أنّ أغلب ما ذكرته يدور حول أخذ الإذن من الزوج أو الولي في الخروج والسفر ونحوه، والاختلاط والخلوة المحرّمة، وقد وردت في ذلك نصوص شرعية صحيحة، فهذه الكاتبة ـ أصلحها الله ـ تريد من نسائنا أن يخرجن من بيوتهن، بل يسافرن حيث شئن ويتزوجن من شئن دون إذن من أوليائهنّ، ومعلوم شرعاً وعقلاً وذوقاً وأدباً في أي تجمّع، أو مؤسسة، أو إدارة حكومة أو أهلية، أنّ الموظّف لا يخرج من عمله إلا بإذن، وإلا لأصبح الأمر فوضى وتسيب، فكيف بمؤسسة الأسرة التي هي المحضن الأوّل للتربية والتعليم.. فهل تريد هذه الكاتبة من نسائنا أن يكن فوضويات متسيبات بلا رقيب ولا حسيب ؟! وإذا كانت هي ترى نفسها مثقفة وواعية، فهل كل النساء والفتيات كذلك؟!.
أما الاختلاط بين الجنسين ـ وأعني به الاختلاط المقصود ـ فهو أم البلايا ومقدمة الرزايا، فهو المقدمة للخلوة المحرمة المنتهية بالمآسي العظيمة، ولدي قصص مفجعة لضحايا الاختلاط من الجنسين، ولولا خشية الإطالة والخروج عن المقصود من هذه الدراسة، لذكرت شيئاً من ذلك، والعاقل اللبيب ينظر ويتأمل.
والعجيب أنّ بعض نساء الغرب العاقلات أكثر وعياً وإنصافاً للمرأة المسلمة، من هذه الكاتبة المنتسبة إلى الإسلام.. ففي مقابلة أجرتها مجلة الوطن العربي (العدد 314 ) مع امرأة فرنسية متخصصة في الفن الإسلامي قالت: " وجدتُ المرأة العربية ( المسلمة ) محترمة ومقدرة داخل بيتها أكثر من الأوروبية ، وأعتقد أن الزوجة والأم العربيتين تعيشان سعادة تفوق سعادتنا.."
ثم توجه نصحها للمرأة المسلمة قائلة: " لا تأخذي من العائلة الأوروبية مثالاً لك، لأنّ عائلاتنا هي أنموذج رديء لا يصلح مثالاً يحتذى ".
وفي مقابلة أجرتها مجلة صدى الأسبوع مع فتاة إنجليزية أعلنت إسلامها، كان من الأمور التي دفعتها أن تترك النصرانية وتدخل الإسلام: الأسرة المسلمة ومكانة المرأة، قالت: " المرأة المسلمة دائماً في حماية ورعاية، تجد من يعيلها أينما حلت، وهي جزء هام من المجتمع الإسلامي، جو عائلي تفتقده الكثير من الأسر الغربية.." .
والخلاصة أنّ ما تدعو إليه هذه الكاتبة حث نسائنا وبناتنا على التمرّد على أوليائهنّ، وأن يخرجن بلا حسيب ولا رقيب، وينزعن جلباب الحياء بلبس اللباس غير الساتر، ويرفعن أصواتهن في المجامع، ويختلطن بالرجال ليكن فريسة للذئاب البشرية، ولو غضب أولياؤهن، حيث إنّ الكاتبة أباحت لهن ذلك.. هذا ما يُفهم من مقالها، فما الذي بقي من الثوابت في قضايا المرأة ؟ وهل سيقف هؤلاء في نقدهم عند مثل هذه الثوابت الجزئية، أم سيتعدّى الأمر إلى الثوابت الأخرى ؟
السمة الثالثة:
الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة )
وأنّ أحداً من الناس ـ كائناً من كان ـ لا يمتلك هذه الحقيقة، وهم لا يفرقون عن عمد بين أمور الاعتقاد ( الثوابت )، وبين غيرها من الأمور الخاضعة للنظر والاجتهاد، بل ظاهر كلامهم ينصرف إلى هذه الثوابت للتوصّل إلى مرادهم، وهو التشكيك في مذهب أهل السنّة والجماعة، أو ما يطلقون عليه: ( السلفية التقليدية )، فلا أحد عندهم يمتلك الحقيقة المطلقة حتى في أصول الدين وأمور الاعتقاد التي أجمع عليها سلف الأمّة منذ فجر الإسلام، وإلى وقتنا الحاضر، فالمسلم الموحد، واليهودي، والنصراني، والمبتدع، كلّهم سواء من ناحية الحقيقة، لا حقّ لأحد منهم ـ حسب زعم هؤلاء ـ في امتلاكها(!) وهذا هو حالهم على الحقيقة، فهم حائرون تائهون مرتابون، أمّا نحن ـ ولله الحمد والمنّة ـ فليس لدينا شك في ديننا وعقيدتنا، فنحن مطمئنون موقنون. إمامنا في ذلك رسولنا الكريم الذي قال الله له: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }.
وفيما يلي بعض أقوالهم في هذه القضية التي أقلقتهم، وأقضّت مضاجعهم، وحالت بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي:
تقول إحدى الكاتبات في مقال لها بعنوان ( النزعة الإنسانية ) الجزيرة: 11966 " تتميز التوجهات الفكرية المحافظة والمغلقة على نفسها، بالجمود والتشدد وعدم الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير أو المختلف، يرافق هذا شعور متأصل بالرعب والتهديد من العالم الخارجي، على اعتبار أنّ هذا العالم هو غابة من الشرّ والفساد والعهر.. حتى تصبح حالة من التيبس داخل طهرانية وأوهام بامتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين.."، ولا أدري عن أي مجتمع محافظ تتحدث ـ وهي بالتأكيد تتحدث مجتمعنا السلفي المسلم المحافظ، لكنها لا تجرؤ على التصريح ـ، فهل يوجد اليوم مجتمع ليس لديه الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير والمختلف، يبدو أنّ الكاتبة تتحدث عن بعض مجتمعات مجاهل أفريقيا، أو الواق واق.. أمّا أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين فهو الشاهد من هذا النقل التغريبي الواضح.(5/101)
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551: "..العنف ومن ثم التطرف ينتج غالباً من اعتقاد المجتمع عموماً ( وهو ما يربى أفراده عليه بالطبع ) بأنّه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم، وردهم لحياض الحقيقة المطلقة "..
وهكذا ينبغي للناس ـ كما يريد الكاتب ـ ألا تكون لديهم عقيدة ثابتة راسخة يقينية، يربيهم عليها علماؤهم، ليظلوا في ريبهم يترددون.
ويوضّح هذا الكاتب ما أجمله في هذا المقال في مقال آخر له بعنوان: ( الخوف من النقد) الرياض: 13509، فيقول: " يعتضد ذلك السلوك المبني على تضعضع الحجّة [ ويقصد به الرعب عند الطعن في الأصول ونقدها ] بانعدام التربية ـ كجزء من الحالة الثقافية المعاشة ـ على مراعاة حقّ الآخر في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد، أيّاً كان هذا الجانب، سواء أكان فرداً أو جماعة أو هيئة أو مذهباً أو خلافه.. "، فلا فرق ـ على رأي الكاتب ـ بين مذهب أهل السنة والجماعة، وغيره من المذاهب الأخرى المنحرفة، وكلّ ذلك توطئة وتميداً للتبشير بفكرهم الليبرالي الاعتزالي التغريبي.
ويقول آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً ـ في مقال له بعنوان: ( أيضاً في الطائفية ) الرياض: 13503، وهو يساوي بين أهل السنة وبين الرافضة: "وكانت تنشأ في الإسلام [ أي الفرقة والاختلاف ] جرّاء صراعات مريرة بين الطوائف والفرق المتصارعة على النصّ الديني، يغذّيها الوهم الزائف بامتلاك الحقيقة.."، وهكذا أصبح التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة وهم زائف بامتلاك الحقيقة!!!.
وفي هذا السياق يقول أشدّهم تطرّفاً وبذاءة في مقال له بعنوان: ( التفكير.. وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065: " وإذا عرفنا أنّ ( التفرّد ) في الفكر وفي الممارسة المادية، هو المتعين السلوكي لمعنى الحريّة، وأنّ الحرية هي جوهر المعنى الإنساني، وأنّ كلّ إنسان يولد ـ على الفطرة ـ حرّاً؛ أدركنا حجم الجناية التي ترتكبها الثقافة التقليدية البائسة في سعيها الحثيث لقولبة الأفراد وقسرهم على رؤى متشابهة إلى حد التطابق بإلزامهم بأقوال ختمت ـ زوراً ـ بختم المطلق الإيماني والثابت اليقيني، كي يتنازلوا ـ طائعين ـ عن ( فرديتهم/ إنسانيتهم/ وجودهم ) في سبيل أوهام التقليدية الميتة، وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط ".. والثقافة التقليدية البائسة وأوهامها الميتة وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط يريد بها السلفية التي يسمها بالتقليدية كما صرّح بذلك في المقال نفسه، بل إنّه ضرب مثلاً على ذلك بحادثة قتل الجعد بن درهم الذي أعلن كفره وإلحاده وتكذيبه للقرآن فقتله الوالي آنذاك خالد القسري حداً لردته، فينبري هذا الكاتب مدافعاً عنه، فيقول" ولعلّه ليس من قبيل المصادفة أن يتغنى التقليدي في هذا الزمن الراهن بكل ما شهده ذلك الصراع التاريخي من قمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة(!)، ويترحم على القاتل ويلعن المقتول، ويتمنى أمثالها قرابين ترضي مرضه السادي، ولا يزال التقليدي [ يعني السني السلفي ] يطرب كلما سمع أو تذكر قصّة الطاغية الذي ضحى يوم عيد الأضحى بـ ( إنسان ) بدل أضحيته في أوائل القرن الثاني الهجري ".. وهكذا يتحوّل من يقيم حدود الله إلى طاغية، ويتحوّل الطاغية المرتدّ المكذب للقرآن وللرسو صلى الله عليه وسلم إلى ( إنسان ) مسكين يستحق الشفقة، ويصبح إقامة الحد الشرعي جريمة، وقمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة !!!!!! إنّ هذا لعمر الله قلب للحقائق، بل هي ردة يجب أن يستتاب منها هذا الكاتب.
وليته اكتفى بذلك، بل يواصل بذاءته ساخراً من الإمام الرباني ابن القيم رحمه الله وسائر علمائنا السلفيين بعده، وتلامذتهم، واصفاً إياهم جميعاً بالسفهاء(!!) فيقولً: " وأصبحت هذه الجريمة منقبة للقاتل يمتدح بها عبر القرون بحيث لا يخجل أحدهم ـ وكان على علم ـ أن يمتدحه في نونيته التي قالها بعد الجريمة بستة قرون فيقول: (لله درك من أخي قربان )، ويردده من خلفه السفهاء(!) وأشباه السفهاء(!) على مرور الأيام ".. فهل بعد هذا التطرّف من تطرّف، وهل بعد هذا الإرهاب الفكري من إرهاب ؟!!.
والعجيب أنّ أسياده الغربيين وعملاءهم من الباطنية فعلوا مثل ما فعل القسري حين أعدموا صدّام حسين شنقاً في يوم عيد الأضحى ـ مع الاختلاف الشاسع في أسباب الإعدام ودوافعه ـ ومع أنّ الغرب كان هو الداعم الرئيس لمعظم جرائم صدّام، والمبارك لها!! إلا أنّ هذا الكاتب البائس لم يساو بين الجلادَين في الحالتين، وكذلك لم يساو بين الضحيتين في حكمه البائس أيضاً، بل راح يكيل الشتائم لصدّام ويجرّده حتى من الخصال التي اتفق الناس عليها حتى جلادوه، أمّا الجلاد والقاتل الحقيقي فقد عمي عنه هذا الكاتب، ولم يشر إليه ولا مجرّد إشارة، مع الفارق الكبير ـ كما أسلفت ـ بين الحادثتين.. !
السمة الرابعة:
العزف على وتر الإنسانية(5/102)
وذلك في مقابل الأخوّة الإيمانية، وأخوّة العقيدة، وهذا بناء على ما قرّروه سابقاً من أنّ أحداً لا يمتلك الحقيقة المطلقة ! وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( الإنسانية والطائفية: صراع الأضداد ) الرياض: 13754، يؤصّل فيه هذه النزعة الإنسانية شرعاً(!!) في جرأة متناهية حسب فهمه للنصوص ومقاصدها(!!) ـ وبئسما ما فهم ـ، فيذكر إن الإسلام "جاء أوّلاً لتفكيك العصبية القبلية التي كانت سائدة عند العرب في الجاهلية، وعندما خلخل الأساس المعرفي القيمي التي تقوم عليه العصبية الجاهلية؛ قام بتجذير أساس قيمي جديد قوامه { أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وهي نقلة نوعية متطورة ـ كما يقول ـ على طريق أنسنة(!) العلاقات في المجتمع العربي على أنقاض العصبية القبلية وما شاكلها من مقومات الطائفية(!)، ولأنّ القرآن كنص مؤسس لاجتماع جديد لا يستطيع وفقاً لقوانين الاجتماع البشري من جهة، ووفقاً لحركته ضمن جدلية التأثر بالواقع والتأثير فيه أن ينقل مجتمعاً غارقاً في قبليته كالمجتمع العربي القديم من أقصى قيمة سلبية ـ كما هي العصبية القبلية ـ إلى أقصى قيمة إيجابية ـ كما هي الإنسانية المطلقة فقد بدأ باستبدال الأخوة التي تقوم على العصبية القبلية بالأخوّة التي تقوم على الرابطة العقدية من جنس { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، ومن جنس: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ولكنها ليست تجسيداً نهائياً لأنموذج العلاقة التي يجب أن تحتذيها المجتمعات، بل إنّها لا تعدو أن تكون خطوة على طريق الأنسنة الشاملة ليس إلا، يؤيّد ذلك قوله تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } وأيضاً {يا أيها الناس إنا خلقناكم من نفس واحدة }(1) " انتهى كلامه بنصّه، وهو كلام في غاية الخطورة والجهل والجرأة على النصوص الشرعية، حيث جعل النصّ المكيّ المتقدّم ناسخاً للنصّ المدني المتأخّر، وهذا لا يصحّ شرعاً ولا عقلاً، بل هو دليل على غاية الجهل والعبث بالنصوص الشرعية، لتقرير النزعة الإنسانية في مقابل الأخوة الإيمانية والرابطة العقدية التي يصنفها هذا الجاهل بأنّها من ضروب الطائفية(!!!).
وفي هذا السياق يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية ـ موضحاً ولكن بعبارات تمويهية في مقال له بعنوان: ( ما بعد الكائن النمطي ) الرياض: 13499: " فقدان المشروعية الإنسانية يتم عندما يتقدّم سؤال الهويّة ـ أيّة هويّة ـ على سؤال الإنسان، أي على حساب الإنسان.. عندما يبدأ التنميط بإيديولوجيا الهوية ينتهي الإنسان الفرد المحقق للمعنى الإنساني، ومن ثم ينتهي الإنسان "، فهو يرى أنّ إثبات الهوية، ـ ويؤكد ذلك بقوله: (أية هوية) حتى تشمل الهوية الإسلامية والسلفية على وجه الخصوص كما نص على ذلك في بقية مقاله ـ يكون على حساب الإنسان!! وهذه ـ عنده ـ بداية ما يسميه بالتنميط بإيديولوجيا الهوية، أي أن يكون للمسلم هوية وعقيدة تميّزه عن غيره، فذلك عنده يعني نهاية الإنسان..
ويؤكّد ذلك بقوله: " المجتمعات المحافظة ـ والمنتجة للأصولية بالضرورة ـ مجتمعات نمطية يشكل التنميط جوهر حراكها المعلن وغير المعلن، من حيث كونها ترتكز على وحدة القيم الصادرة عن وحدة الرؤية والمرجعية.. ".. فمن هي يا ترى هذه المجتمعات المحافظة والمنتجة للأصولية بالضرورة؟! وماذا يقصد بالأصولية؟ لا شك أنّه يقصد مجتمعنا السعودي المحافظ، بعقيدته السلفية الأصيلة، ومرجعيته المعتبرة، وقد أوضح ذلك فيما بعد من مقاله هذا بمن وصفهم بـ " رموز التنميط الذين كانت تدور عليهم حراك الأيديولوجيا المحلية " وزعم أن هذه الرموز أصبحت ـ بعد الانفتاح الإعلامي الهائل ـ فضيحة إعلامية بعد أن وضعت على المحكّ في مواجهة رموز المعرفة الحداثية التي واجهها ـ وانتصر عليها في الماضي ـ بالأدلجة وبتجهيل الجماهير لا بالحوار المعرفي الجاد.. وهكذا تصبح رموز الحداثة المارقة رموزاً معرفية(!!)، أمّا الرموز الإسلامية بمرجعيتها الشرعية المعتبرة فهي تنميطية مؤدلِجة مجهلّة للجماهير !!!(5/103)
وفي مقال آخر له بعنوان: ( تأملات في الغضب الإسلامي ) الرياض: 13744، وذلك في أعقاب استهزاء الدنمارك بالرسول الكريم يقول: " يخيّل إليك ـ أحياناً ـ أنّ بعض أطياف الإسلامويّة(!) مبتهجة بالحدث لما تراه من تقاطع كثير من الأصوات الغاضبة مع شعاراتها، وإذا كنا لا بد أن نغضب ـ مهما استخدم غضبنا لغير ما نأمل ونريد؛ فإننا لا بد أن نكون حذرين غاية الحذر في لغة الإدانة التي نختارها، كيلا نسهم في الحشد والتجييش لفصائل ليست من خياراتنا الحضارية(!)، بل تقف ـ من خلال مجمل مضامينها ـ على الضد من المنحى الإنساني الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرّر الإنساني(!) ".. فهو لم ينس خصومه الذي ينعتهم استهزاء بالإسلامويين حتى في هذه النازلة الكارثية التي لم يسبق أن اجتمع المسلمون اليوم جميعا مثل اجتماعهم عليها ، كما لا ينسى أن يبشّر بمشروعهم التغريبي ذي المنحى الإنساني(!) الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرر الإنساني، في مقابل قوى التقليد والظلام والإرهاب والتأسلم والتخلف والتوحش والانغلاق والتطرف، وهي الأوصاف الذي أسبغها كما سبق على السلفية وكل ما تقاطع معها من الحركات الإسلامية ولو من بعيد. أمّا قوى التقدّم والتحرّر الإنساني عنده فهي القوى الحاملة للواء الحداثة ـ لا بوصفها منهجاً أدبياً فقط ـ كما يصفها في مقال له بعنوان: (المرأة والحداثة ) الرياض: 13457: فيقول: " نزل خطاب الحداثة إلى الواقع كخطاب نهضة واعدة، نهضة تتمركز حول الإنسان(!)، وتعنى بكل ما تقاطع مع البعد الإنساني، من مساواة(!) وتحرير، وديمقراطية.. الخ، وهذا الإنساني في خطاب الحداثة يعني ـ بالضرورة ـ أنه خطاب مهموم بالمسألة النسوية بوصفها إشكالاً يلازم المجتمعات التقليدية التي تسعى الحداثة لتقويضها(!!!) "، فهو يصرّح بأنّ الحداثة تسعى إلى تقويض المجتمعات التي يصفها بالتقليدية، ويريد بذلك ـ كما تدل عليه سائر مقالاته ـ المجتمعات المسلمة المحافظة، وخاصّة السلفية منها كمجتمعنا، لكن هؤلاء الكتّاب على عادتهم لا يجرؤن على التصريح وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.
وفي مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401، يكثر من العزف على هذا الوتر ـ وتر الإنسانية ـ فهو يقرّر أوّلاً أنّ الصراع بين الطرفين ليس صراعاً عقدياً، ويَسِمُ من يعتقد ذلك بأنّه متطرّف: يقول: " المتطرّفون من هنا (العرب والمسلمون ) ، ومن هناك ( الإسرائيليون ) يفترضون الصراع الدائر الآن صراعاً عقائدياً، لا مجرّد وقائع سياسية تقوم على دعاوى عقائدية ".. ولم يحدثنا الكاتب عن سبب اختيار اليهود لدولة فلسطين ( أرض الميعاد ) دون غيرها من بقاع الأرض، ولا عن هيكل سليمان ـ عليه السلام ـ الذي يراد بناؤه على أنقاض المسجد الأقصى، فكل ذلك في نظره ليس شأناً عقائدياً، والحقيقة أنّ اليهود أنفسهم هم الذين ألقوا في روع المسلمين أنّ هذا الصراع ليس عقائدياً ليأمنوا جيشان العقيدة في نفوس المسلمين، وليعزلوا الفلسطينيين المسلمين عن باقي المسلمين!
ثم يهزأ بالأحاديث الشريفة التي تُحدّث عن نهاية هذا الصراع، ومنها الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة t أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله ) ولعلّ هذا الحديث لا تقبله عقولهم المريضة لأنّ فيه نطق الحجر، وهذا أمر مخالف للعقل عندهم، فيقول: " إنّهم يرونه صراعاً لا في لحظته الراهنة فحسب، وإنّما هو كذلك منذ البداية وحتى النهاية "..!!(5/104)
ثم يبدأ العزف على وتر الإنسانية ساخراً ببعض النصوص الأخرى التي تفصّل في هذا الصراع، فيقول: " النهاية عقائدية كما يراها مَن هنا ومَن هناك، وهي ذات ملامح تفصيلية في ضمير الغيب الآتي، ملامح تلتهم إمكانيات الرؤية الواقعية الآنية، وتحدد خيارات الحوار(!) والحراك. إنّها رؤية إيمانية قطعية عند كلا الطرفين ومن ثم يصعب الحلّ تحت هذا السقف أو ذاك، فلا خيار للإنسان.. يتم تصوّر ما هو كائن وما سيكون بواسطة تفكير غيبي يلغي الفاعلية الإنسانية أو يكاد، ويؤطّر ما بقي منها لينتهي في مضمار الإلغاء.."، وهكذا يساوي بين الرؤية الإيمانية القطعية عند الطرفين، فلا فرق عنده بين ما يعتقده المسلمون حسب نصوص الكتاب والسنة التي تكفّل الله بحفظها، وبين ما يعتقده اليهود حسب نصوص توراتهم المحرّفة، ثم هو لا يفرّق أيضاً بين الفلسطيني المسلم صاحب الحقّ والأرض المغتصبة، وبين اليهودي الكافر المحتلّ الذي يمارس أبشع أنواع الإرهاب ضدّ الفلسطيني المسلم الأعزل، بل يرى أن لا ثوابت في هذه القضية أصلاً في ميدان الفعل السياسي، فيقول: " إنّ لدى الفلسطيني ثوابت! كما أنّ لدى الإسرائيلي ثوابت. وثوابت هذا تتناقض ـ واقعياً ـ مع ثوابت ذاك، لكنها ثوابت في التصور لا في الواقع، لأن الواقع ـ وهو ميدان الفعل السياسي ـ لا ثوابت له، ومن هنا فأية جراحة فكرية إنسانية لبنية التصور، كفيلة بأن تمهد للحل السلمي ، ليس الواقع صلداً كما يتصوّره كثير منا، أو كما يريدونه أن يكون، بل هو مفتوح على كافة الاحتمالات، شرط أن تتفتح لها الأذهان!!! ".
وبعد أن ساوى بين الطرفين، أخذ يتباكى على ضحايا هذا الصراع، ولو كانوا من اليهود الغاصبين المحتلين، ويصفهم بالأبرياء عازفاً على وتر الإنسانية، مع أنّ الشعب اليهودي كلّه مجند ضد الفلسطيني المسلم صاحب الأرض، يقول: " للأسف نحن لم ننظر إلى العنف نظرة محايدة، بوصفه ظاهرة لا إنسانية، تطال الإنسان، أيّاً كان هذا الإنسان، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً. ضحايا العنف في معظم الأحيان من الأبرياء(!!!) وحتى ما سوى ذلك، فإنه يبقي خلفه مآسي تطال أبرياء لا محالة. يجب ألا يغيب عن الوعي أن لهؤلاء وهؤلاء أمهات وأبناء وأزواج وأحباب تكاد قلوبهم تتفطر حزناً وألماً بعد كل مشهد من مشاهد العنف، تلك المشاهد التي ليست مقصورة على طرف دون آخر. هل انغرس في وعينا أن الإنسان هو الإنسان على هذا الطرف من أطراف الصراع أو ذاك، مهما حاول أحدهما قصر الإنساني عليه ؟! ما لم يكن هناك إحساس عميق ومشترك بالمأساة التي تطال الإنسان من كلا الطرفين؛ فستبقى دائرة العنف اللا إنسانية تدور رحاها دون توقف ".
ولم يفته في هذا المقام أن يعرض بحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين ـ على عادته في لمز كل ما هو إسلامي ـ، فيقول: " لا شك أن الأيديولوجيا حاضرة بقوة في هذا العنف المتبادل(!)، بدليل أن العنف في طرفي الصراع يصدر بالدرجة الأولى من المحاضن الأيديولوجية، وكلما تضخمت الأيديولوجيا زادت حدة العنف، زادت فعلاً وتهديداً "..
ثم ينكر على المثقفين على امتداد العالم العربي والإسلامي الوقوف مع المقاومة الفلسطينية وتأييدها فيقول: " تزداد المسألة قتامة حين نرى الطلائع الثقافية والفكرية على امتداد العالم العربي والإسلامي تبارك هذا العنف(!) بل وتهتف له، إلا فيما ندر مما يعدّ نشازاً في سياق العنف الذي تباركه جماعات اليقين(!) ، بل أصبح هذا الصوت النادر ـ المنطوي على تصورات إنسانية ـ موضع اتهام وتخوين ".. وصدق من قال: كاد المريب أن يقول خذوني!! أمّا جماعات اليقين التي يسخر منها فهي الواثقة بوعد الله بقتل اليهود ونطق الحجر والشجر لصالح المسلمين كما صحّت بذلك الأخبار، وليسمّ الكاتب ذلك ما يسميه، فإن وعد الله آت لا مرية فيه... هذا وإنّ مما يلاحظ في مقال هذا الكاتب ـ مع طوله ـ أنّه لم يصف المحتل بالوصف الشرعي الذي وصفه الله به وهو اليهودي، وإنّما يصفه بالإسرائيلي، ولذلك دلالته العقدية التي تدل على فكر هذا الكاتب، ونظرته العلمانية ( الإنسانية ) لهذا الصراع التي أفصح عن شيء منها في هذا المقال.
بل إنّ هذا الكاتب نفسه كتب مقالاً بعنوان: ( المستقبل لهذا الإنسان ) الرياض: 13779، وهو يريد بهذا العنوان ـ عن خبث وإلحاد ـ معارضة كتاب سيّد قطب ـ رحمه الله ـ ( المستقبل لهذا الدين )، فانظر كيف جعل الإنسان بدلاً من الدين، بناء على ما قرّروه من تقديم الأخوّة الإنسانيّة على الأخوّة الإيمانية الدينية، وقد انتهى في هذا المقال إلى أنّ الإيمان بالإنسان ـ لا بالدين والعقيدة ـ هو المنتصر دائمًا(!!!).(5/105)
وأخطر ممّا سبق وأشدّ وضوحاً ما سطّره أحدهم ـ وكان تكفيرياً ثم تحوّل بمقدار 180درجة إلى مرجيء غالٍ ـ في مقال له بعنوان: ( كثيراً من الإنسانية قليلاً من الرهبانية ) الرياض: 12928: يقول وهو يقرر مذهب الإرجاء: " إنّ الله يكفيه منّا أن نحمل الشعلة في قلوبنا، أن نكون دائماً على أهبّة الاستعداد للعكوف بمحرابه لنقدّم شيئاً ( لعياله ) لعباده، فهو غنيّ عن عبادتنا(!)".. فهو يزعم ـ مفترياً على الله ـ أنّ مجرّد حمل الإيمان في القلب كاف عند الله، دون الإتيان بالشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وصيام وحج.. الخ
ويؤكّد ذلك فيقول: " الرسو صلى الله عليه وسلم يذكر أنّ رجلاً دخل الجنّة لم يعمل خيراً ولا حسنة في حياته، وارتكب الكثير من الذنوب، ومع ذلك دخل الجنّة، لأنّهم وجدوا له بطاقة يعلن فيها صادقاً مخلصاً عن حبّه له وإيمان به: ( لا إله إلا الله ) ".. هذه هو فهمه لكلمة ( لا إله إلا الله )، وتالله لقد كان أبو جهل ومشركو قريش أعلم منه بهذه الكلمة، فلو أنّ مجرّد الإيمان بها في القلب كاف في دخول الجنّة، لما وقفت قريش بخيلها ورجلها في وجه رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولقالتها وظلت على شركها وطقوسها، ثم كيف يكون المرء صادقاً مخلصاً وهو لم يعمل بمقتضى هذه الكلمة، إلا أن يكون قد منعه مانع، أو حال بينه وبين العمل حائل، كمن أسلم ثم مات قبل أن يعمل ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل الحديث المذكور، أمّا أن يطلق هذا الحكم، فهو أمر في غاية الخطورة، إذ فيه ترغيب للناس على ترك فرائض الإسلام من صلاة وصيام والاكتفاء بمجرد ترديد هذه الكلمة دون عمل، وهذا هو مذهب الإرجاء..
ثم يختم حديثه ـ وهذا هو الشاهد ـ فيقول: " لتعلموا أنّ ديناً لا يسعى لسعادة الإنسان لحفظ مصالحه الحقيقية، ليس إلا وبالاً، وتذكروا قول النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم (إنّ هدم الكعبة أهون عند الله من سفك دم مؤمن) كلّ المؤمنين من كلّ الأديان: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً..}، الإيمان عندي هو كثير من الإنسانية، قليل من الرهبانية، ربما يكون لحياتنا طعم آخر ".. ولا شكّ أنّ الدين الذي لا يسعى لسعادة الإنسان فهو وبال، ولكن ما الحل إذا رفض الإنسان هذا الدين، وأصرّ على دين باطل منسوخ محرّف يسعى لشقائه؟ ويبدو أنّ عدوى التحريف قد انتقلت إلى الكاتب نفسه فحرّف الحديث الشريف، كما حرّف معنى الآية الكريمة.. فأمّا الحديث فلفظه الصحيح: ".. أهون عند الله من سفك دم مسلم "، والكاتب حرّفها إلى ( مؤمن ) لتشمل جميع المؤمنين بزعمه من الأديان الأخرى ممّن أدرك النبيّ الخاتم، ثمّ راح يؤكّد تحريفه مستشهداً بالآية الشريفة التي لم يفهم معناها الصحيح، فإنّ المقصود بها من آمن بالله من الطوائف المذكورة في زمن نبيّهم قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم،وليس بعد البعثة، وسبب نزول الآية يبيّن معناها، فقد نزلت في أصحاب سلمان الفارسي t، فإنّه لما قدم على رسول ا صلى الله عليه وسلم جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم وقال: يا رسول الله، كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنّك تبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " يا سلمان، هم من أهل النار "، فأنزل الله: {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا..} وتلا إلى قوله: { ولا هم يحزنون }. (أسباب النزول للواحدي ص 13 )، فتبين من سبب النزول أنّ الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قبل مبعث النبيّ، كانوا يؤمنون بمبعثه، ويشهدون أنّه رسول من عند الله، لكنّهم لم يدركوه، فأين هؤلاء من قوم أدركوا بعثته، بل راحوا يسخرون من صلى الله عليه وسلم ، ويصورونه في رسوم ساخرة بأنّه إرهابي، أو امرأة، ويتواطئون على ذلك غير مبالين بمشاعر الملايين من أتباعه؟!!!
أمّا مرجعيّة هذه الإنسانية عندهم، فيبيّنها أحدهم ـ وهو مقيم في لندن(!) ـ في مقال له بعنوان تفوح منه رائحة العلمنة والسخرية وهو: ( الإسلام السياسي وتجديد الأحكام السلطانية ) الوطن: 1188، يقول: " إنّ الأخذ بالمفاهيم الإنسانيّة يجب أن يكون على أساس عقلي في المقام الأوّل، بعيداً عن كلّ الاعتبارات المتعلّقة بالنصوص(!) " وليس هذا التأصيل بغريب عليهم إذا كانوا يطمحون إلى إحلال الإنسانية محلّ الرابطة الدينية، وتحطيم عقيدة الولاء والبراء.
السمة الخامسة
ـ وهي لب مشروعهم الذي يبشرون به ـ:
الدعوة إلى علمنة الحياة
وإقصاء الدين بحيث لا يكون له أي سلطان على مناحي الحياة المختلفة، ومن هذا المنطلق فإنّهم يهزؤون من فكرة أسلمة العلوم ـ أي صبغها بالصبغة الإسلامية بعد تنقيتها من الشوائب الكفرية والإلحادية ـ، ويقللون جداً من شأن الإعجاز العلمي في الكتاب والسنّة، ويرفضون أن يكون ( الإسلام هو الحلّ )، ويحاربون كل من يرفع هذا الشعار، بل ويفسّرون التاريخ والأحداث بشكل عامّ تفسيراً سياسياً بمعزل عن الدين، وفيما يلي شواهد من أقوالهم على كلّ ما سبق:(5/106)
يقول أحدهم في مقال له تفوح منه رائحة العلمانية بعنوان: ( ممارسة السياسة شأن مدني خالص ) الرياض: 13756: " من نافلة القول أنّ مثل هذه الشمولية لا تختصّ بها قومية معينة، أو دين بعينه، ولكنّ العبرة تكمن في النهاية في قدرة المجتمع من خلال تجاوز مرحلة تزييف وعيه، ومن ثم عبور ذلك الوهم الأيديولوجي عبر الإيمان المطلق بنسبيّة السياسة ووضعيتها، ومن ثم تعرضها للتغير والتبدل وفقاً لقوانين الاجتماع البشري وليس ثباتها المتوهم وفقاً لما يعرف بمفهوم الحقّ الإلهي في الحكم.." فالكاتب هنا يشير أوّلاً إلى ضرورة إقصاء الدين عن السياسة، وأنّ هذا الإقصاء لا يختصّ بدين بعينه، فيشمل حتى الإسلام، فلا يحقّ لأحد كائناً من كان أن يزعم أنّ ديناً بعينه هو الحلّ(!)، أمّا مفهوم الحقّ الإلهي في الحكم، فيريد به قول الله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ..} فيرى أنّه وهم لا بدّ من تجاوزه(!)، أو على حدّ تعبيره في المقال نفسه: " إنزالها [ إي السياسة ] من السماء إلى الأرض "..
ثم لا يفوته في آخر المقال أن يعرّج على بعض خصومه التقليديين من الإسلاميين، الذين يرفعون شعار ( الإسلام هو الحلّ ) فيسخر منهم بحجج واهية لا تخلو من مغالطات وجهالات، ثم يختم المقال بطامّة كبرى من طاماته فيقول: "ويبقى القول بأنّه لا خيار في مجال السياسة الإسلاميّة إلا استخدام المنطق الذي أعلنه الرسو صلى الله عليه وسلم في وجه مؤسلمي السياسة عندما أعلنها مدويّة بقوله ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم ) وهو منطق مدني على أيّة حال.. " إنّه ـ لعمر الله ـ عبث بالنصوص، واعتداء على حرمة الدين، ومقام سيد المرسلين، فهل ترك النبيّ r السياسة لغيره واعتكف في مسجده، أم أنّه أقام دولة الإسلام، وجيّش الجيوش، وفتح الفتوح، وساس الأمة، أم أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما صوّره الكاتب يقول خلاف ما يفعل ؟!!، وهل قول صلى الله عليه وسلم " أنتم أعلم بأمور دنياكم " مراد به أمور السياسة وشؤون الأمّة، أم المراد قضية عين في أمر دنيوي خالص لا علاقة له بالسياسة العامّة كما يدل على ذلك سبب الحديث؟.. إنّها مهزلة يجب إيقافها ومحاسبة أصحابها احتراماً لديننا وعقيدتنا..
أمّا المجتمع المدني الذي يدندنون حوله كثيراً، ويعدونه النموذج الأمثل للدولة الحديثة، فيصفه أحدهم ـ وهو متخصّص في الكتابة السياسية ـ في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني هل يستمرّ كعائق في الحرب على الإرهاب ) الوطن: 1160، بأنّه: " مجتمع مدني رحب، ليس هناك مساحة لأوصاف من قبيل: ( كافر )، أو ( مبتدع )، أو ( علماني )، أو غير ذلك(!).."، هذا هو المجتمع المدني الذي يريدونه، والذي لا يقوم إلا على أنقاض التوحيد، وعقيدة الولاء والبراء التي وصفها النبيّ r بأنّها أوثق عرى الإيمان، وكأنّهم لم يقرأوا قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }، ولكنّ هؤلاء القوم لا يعقلون، وإن كانوا يدّعون العقلانية.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية 1/398: " قيل لعمر بن الخطاب t إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة ( أي نصراني ) حافظ كاتب فلو اتخذته كاتباً، فقال: قد اتخذتُ إذاً بطانة من دون المؤمنين.." قال ابن كثير رحمه الله: " ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطّلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ".. هذه في مجرد الكتابة، فكيف بغيرها من شؤون الدولة ؟!! وهو أيضاً في الذمي الذي يدفع الجزية وهو صاغر، فكيف بمن يرى أنّه مساو لك في جميع الحقوق والواجبات في ظل مجتمعهم المدني المزعوم.
وفي سياق العلمنة يقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية.. ) الوطن: 1139: وهو يتحدث عن التفجيرات الأخيرة " هل كان هذا بسبب ذنوبنا حسبما يخبرنا رجال الدين(!) نعم، ولكن الذنب هذه المرة هو التطرّف الديني والغلو المتضخم(!) في ثقافة المجتمع. الذنب هو في القبول بصبغ الحياة الاجتماعية كلّها بصبغة الأيديولوجيا الإسلامية، والإصرار على إقحام الدين في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة "، إنّ إقحام الدين ـ حسب تعبيره ـ في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة المارقة ذنب عند هذا الكاتب، وهكذا تصبح العلمنة وإقصاء الدين عن شؤون الحياة حسنة يُدعى إليها.(5/107)
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرهاب من الفكر الخارجي إلى السلوك القرمطي ) الرياض: 13436: " ليس صحيحاً ما يروّج له الإسلامويّ(!) من أنّ الزجّ بالدين في كلّ صغيرة وكبيرة هو عنوان التدين الحقيقي، أو أنّ ممارسه والمتحمّس له من أفراد المجتمع هو الأكثر تديّناً من غيره ".. إلى أن يقول: " تحييد الديني في الوقائع المدنية(!) التي ليس فيها حكم شرعي صريح، أمر ضروري لئلا تمنح القداسة إلا للديني الخالص الذي نصّ عليه الشرع الحنيف..".. أنّها علمنة خفية، تتدثر بلباس العلمية، ولو أنّا أخذنا بقول هذا الكاتب، واقتصرنا على ما فيه نصّ صريح، لما بقي لنا من ديننا إلا القليل، وهذا ما يريده أهل العلمنة.. وإنّ من المعروف لدى صغار طلبة العلم، أنّ الشريعة جاءت بكليات تندرج تحتها جميع الجزئيات، فلم ينصّ الله تعالى على كل جزئية بعينها، إذ إنّ ذلك يطول ولا يكاد ينتهي، مع ما يستجدّ من الجزئيات التي لم تكن قد وجدت عند نزول النصّ، ومهمة العالم أن يرجع هذه الجزئيات إلى كلياتها، ليبين حكمها، وما من قضية ولا مسألة إلا وفي كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم بيان لها، إمّا بالنصّ الصريح، وإمّا بالتلميح من خلال الكليات المذكورة، قال تعالى : { ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }، وقال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً }.
ويقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( ما بعد الأيديولوجيا.. العقد الاجتماعي ) الرياض: 13702 بعد أن شتم السلفيّة أو ما أسماه بالوعي السلفي(!): " لا بدّ من التأكيد على مدنية حراكنا الاجتماعي، وأنّ العقد الذي يجب الالتفاف حوله هو العقد الاجتماعي المدني الذي يضمن التساوي في الحقوق والواجبات، لا طائفية، ولا مذهبية ولا مناطقية ولا جنسوية... لا بدّ أن ينغرس في أعماق كل مواطن أن الجميع متساوون جميعاً دون تعنصر من أي نوع، ولكل بعد ذلك خصوصياته التي يراها ويختارها، دون فرضها على الآخرين، ودون الإخلال بمبدأ المساواة المقدّس ".. فالكاتب يريد مجتمعاً بلا هوية ولا دين، يريد دولة لا دين لها، ولا فرق فيها بين المسلم والكافر ـ كما صرح بذلك غيره من أصحاب هذا الفكر ـ، ولا فرق فيها بين الموحّد والمشرك، وصاحب السنة وصاحب البدعة، بل لا فرق فيها بين الرجل والمرأة كما صرّح بذلك بقوله: " وخاصة التمييز الجنسي ضد المرأة في أي صورة كان ". ويضيف إلى ذلك ( المناطقية ) ليعزف على وتر حسّاس يثير الطائفية التي يحذر منها..
ثم يقول بعد ذلك: " لأجل ذلك؛ يجب أن تكون الخصوصية ـ أيّاً كان نوعها ـ بعد ذلك المقدّس وليس قبله، وإلا بقينا رهن صراع لا ينتهي.. لا بد أن يدرك المؤدلج أنّ العقد الاجتماعي المدني لا يمنحه أكثر من حريّة إبداء الرأي ( المؤدّب ) في سلوك الآخر، وبعد ذلك فليس على أحد بمسيطر ".. فالمقدس لديه هو هذا العقد الاجتماعي العلماني المزعوم، أمّا الدين والتوحيد فليس ذلك بمقدّس عنده، وإنّما هو مجرّد خصوصية تخص كل فرد على حدة، وليته يخبرنا ما الذي جعل رسول الهدى r يعاني في مكة وأصحابه ثلاثة عشر عاماً، ويصبرون على البطش والأذى والتعذيب والتشريد، وقد عرضت قريش عليه كلّ ما يريد مقابل تخلّيه عن دينه وعقيدته ودعوته، والتعايش السلمي معهم، مع الكف عن عيب آلهتهم، فيأبى حتى يقيم دولة الإسلام والتوحيد في المدينة، ومن ثم يعلن الجهاد على المشركين لرفع راية التوحيد خفّاقة، وإزالة كل مظهر من مظاهر الشرك، ولم يكتف بذلك بل يجهّز قبل وفاته جيشاً ضخماً لمحاربة الروم في الشام، وإخضاعهم لدين الله الحقّ ؟!.. سيقول هذا الكاتب وأمثاله: إنّ الزمن تغيّر، ولم يعد دين الرسول الكريم صالحاً لهذا الزمن، وهذه هي الطامة الكبرى والفجيعة العظمى التي حلّت ببعض أبنائنا، ليعتنقوا هذا الفكر المنحرف..
أمّا قوله: ( حرية إبداء الرأي المؤدب(!))، فذلك واضح جداً في أدبه الجم مع خصومه السلفيين والسلفية خاصة، فهو لم يترك شتيمة إلا رماها بها كما سبق ( انظر ص 14 )، فإذا كان هذا هو الأدب الذي يدعو إليه، فعلى الأدب السلام..
وفي هذا السياق نراهم يدافعون عن العلمنة، ويغضبون من ذكرها على سبيل الاتهام، مع أنّهم لا يتورعون عن كيل التهم جزافاً لخصومهم التقليديين ( السلفيين خاصّة والإسلاميين بشكل عام )..(5/108)
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( العلمانية تهمة جاهزة لكل من اختلف معهم ) الجزيرة: 12022: " لا أدافع عن العلمانية، لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ العلمانية على اعتبار أنّها ( فصل الدين عن السياسة ) مصطلح ( وافد ) إلينا من الخارج، وله دلالات فكرية وحمولات تاريخية تجعل من تطبيقه على غير المجتمعات ( المسيحية ) أمر لا بد من التوقف عنده، والتعامل معه بحذر.."، هكذا ينفي التهمة عن نفسه، وعن زملائه الذين يقررون كثيراً في كتاباتهم ـ كما سبق شيء من ذلك قريباً ـ ضرورة تحييد الديني عن المدني كما يقولون، وهو بهذا التعميم ينطبق عليه المثل القائل ( كاد المريب أن يقول خذوني).
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( الإسلاميون والمشاركة السياسية.. الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني ) الوطن: : " أثناء وجودي في ألمانيا الشهر الماضي كان على مقربة من جامعة أيرلنجن حيث أتردد: مكتب حزبي للاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني. لقد ترددت بعض الشيء في دخول المقرّ سذاجة مني لتوهمي أنّه يشبه تلك التجمعات الإسلامويّة المتشددة الموجودة في بعض البلاد العربية، المليئة بالكتيبات والأشرطة الصوتية الصاخبة التي تتحدث عن الحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية التي يتبارى نوابها في المطالبة بإيقاف الكاتب فلان، أو محاكمة السياسي علان، أو حتى في أوقات الاستراحة السياسية يتم التصعيد في البرلمان ضد راقصة أو مغنية بحجّة حماية الأخلاق ومراقبة الذوق العام.." ثم راح بعد ذلك يكيل الثناء لذلك الحزب النصراني الكافر، ويصفه بالحزب الناجح، ويدافع عن تسميته بالحزب المسيحي ( نسبة إلى المسيح u ) في دولة تدعي العلمانية ...!!!! إلى آخر ما ذكر.. ويلاحظ في ما نقلته من هذا المقال سخريته من إخوانه المسلمين المحتسبين الذين يتحدثون عن قضايا شرعية كالحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية، والمطالبة بإيقاف الكتّاب المنحرفين ومحاكمتهم، ومحاربة العفن الفني من رقص وغناء ماجن.. كلّ ذلك يسخر منه الكاتب، ويعدّه تشدداً، فهذا هو مفهوم التشدد عندهم، في الوقت الذي يثني فيه على حزب نصراني زاره للمرّة الأولى، فراح يكيل له عبارات الثناء.. إنّها قلوب مريضة، غطتها ظلمات الشهوات والشبهات، فلم تعد ترى الأشياء على حقيقتها، نعوذ بالله من الخذلان.
أمّا تفسير الأحداث التاريخية والصراعات العقدية تفسيراً سياسياً ( علمانياً ) فهو ديدنهم للتقليل من شأن الدين والعقيدة، وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( خدعوك فقالوا نجد والشرك !! ) الرياض: 1423، قرر فيه بصفاقة عجيبة أنّ دعوة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما كانت صراعاً مريراً حول السلطة والسياسة، وليست ضد الدين. حيث كانت الحالة الأمنية قبل قيام الدولة السعودية ـ كما يزعم ـ تعيش في تأزم وتناحر وتصارع وقد وحُدت بحمده تعالى تحت كيان واحد. بينما كانت الحالة الدينية على مذهب أهل السنة والجماعة ولم يدخل نجداً ما ذكر عنها ابن غنام وغيره من وجود الخرافات والشركيات المنتشرة في جنباتها..!!! هذا ملخّص ما ذكره.وهكذا بجرّة قلم يبطل هذا الأفّاك الأثيم كلّ جهود الشيخ في محاربة الشرك ومظاهره التي كانت منتشرة في نجد، ورسائل الشيخ تنضح بالكثير من هذه الجهود التي يراها الأعمى قبل البصير، لكن هؤلاء عميت بصائرهم، مع سلامة أبصارهم إلا إذا كان يتهم الشيخ بالكذب فتلك طامة آخرى أعظم وأطم.. ثم إنّ السياسة جزء لا يتجزأ من الدين كما سبق، فالفصل بينهما كالفصل بين الروح والجسد، لكنّ هؤلاء المتعلمنين لا يفقهون.
ولم يسلم من هذا التفسير العلماني السقيم حتى إئمّة السلف، فبمثل هذا التفسير فسّروا فتنة خلق القرآن التي تعرّض لها أئمّة السلف وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، حيث ذكروا أنّ الأمر لا يعدوا أن يكون صراعاً سياسياً محضاً بين أهل الحديث وأهل الاعتزال على السلطة، وليس للدين ولا للعقيدة شأن بهذا الصراع إلا من باب ذرّ الرماد في العيون كما يزعمون.. المهم عندهم ألا يكون للدين ولا للعقيدة سلطان على الحياة، لأنّ ذلك يزعجهم كثيراً، وهذا هو الذي يسعى إليه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى لإخماد جذوة الإيمان والعقيدة في نفوس المسلمين، ومن ثم يسهل التغلّب عليهم واختراقهم، وما هذه الفئة المارقة إلا بمثابة الطابور الخامس لهؤلاء الأعداء كما سبق، كفانا الله شرّهم.
وأختم الحديث عن هذه السمة بطامة أخرى أتى بها أحدهم ـ وهو كاتب له روايات أفتى عدد من علمائنا بكفر ما في بعضها ـ، يقرر هذا الكاتب في مقال له بعنوان: ( من خطاب التدمير إلى خطاب التعمير ) الشرق الأوسط: 8952 ، أنّ: " منطق الدولة الحديثة متناقض مع منطق الدين " ثم يوضح ذلك قائلاً: " منطق الدولة محدود ومحدد، ومنطق الدين هو المطلق ذاته، وتأتي الكارثة للدولة والدين معاً حين محاولة الدمج بين منطقين لا يلتقيان، وهنا تكمن معضلة الإسلامويّة(!) المعاصرة وجوداً لا عقلاً .."..(5/109)
وعلى الرغم من العلمنة الواضحة فيما ذكر، مع الجهل الفاضح بدين الإسلام وحقيقته؛ إلا أنّه يحاول أن ينفي هذه التهمة عن نفسه على طريقة ( كاد المريب أن يقول خذوني ) فيقول: " قد يقول قائل هنا: إذن فهي دعوة للعلمانية!، والحقيقة أنّ القضية لا علاقة لها بعلمانية أو أصوليّة إذا كانت الغاية هي البحث عن جواب يخرجنا من المأزق أو المآزق التي نحن فيها .." وهكذا بكل بساطة ينفي التهمة الساطعة كالشمس عن نفسه إذ الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولو كانت هذه الوسيلة هي الإساءة إلى ديننا وانتقاصه، والافتراء على نبينا صلى الله عليه وسلمليرضى عنّا أعداؤنا !!.
السمة السادسة:
الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )
وحبّه، وكيل الثناء عليه بغير حساب، والدعوة إلى احتذائه حتى في ثقافته وأخلاقه، ويريدون بالآخر في الغالب: الغربي الكافر صاحب الحضارة الماديّة، والعقل الفلسفي، وهذا الإعجاب نتاج طبعي للهزيمة النفسيّة، والصدمة الحضارية التي أصابتهم، وعقدة النقص التي تلازم قلوبهم المظلمة الممتلئة بالشهوات والشبهات، ونحن لسنا ضدّ الاستفادة من علوم الآخرين فيما لا يتعارض مع ديننا وعقيدتنا، لكنّ هؤلاء فهموا الحضارة فهماً ناقصاً مغلوطاً، فاختزلوها في صناعة طائرة أو سيارة أو صاروخ، أو أيّ آله من الآلات الحديثة، أو في بناء ناطحات سحاب، أو تقدم طبي أو تقني، وكلّها أمور مادية يمكن لأيّ أمّة وأيّ شعب اللحاق بها والوصول إليها إذا تهيأت له الظروف المناسبة، وسلم من هيمنة هذا الآخر وجبروته وكيده..
إنّ الحضارة الحقيقية هي التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الروحي والأخلاقي، وهذا الأخير هو ما تفتقده الحضارة الغربية المعاصرة التي بلغت الحضيض في تردّي الأخلاق وموت الروح، فهي كما وصفها سيد قطب رحمه الله: كطائر ضخم، أحد جناحيه كبير يرفرف في السماء، والآخر مهيض كسير لا يكاد يقوى على الحركة، فماذا سيكون حاله سوى التخبط وإيذاء من حوله، وهذا هو حال الحضارة الغربية اليوم حيث إنّها ـ مع ما فيها من الجوانب الإيجابية المضيئة ـ نشرت الخراب والدمار، ونشرت معه أسوأ الأخلاق من تفسخ وعري وفساد أخلاقي.
وليس الغرب ملوماً في إقصاء الدين عن الحياة، فقد كان الدين الذي يدينون به محرّفاً، يحارب التقدّم المادي النافع، ويقتل المبدعين والنابغين في العلوم الطبيعية التي لا تتعارض مع ثوابت الدين الصحيح، ولذا فإنّه لا خلاص للبشرية اليوم، ولا سبيل لها إلى الوصول إلى الحضارة الحقّة المكتملة التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الأخلاقي والروحي إلا بأن تعتنق هذا الدين الحقّ ( الإسلام ) الذي تكفّل الله بحفظ مصادره، وجعله الدين الوحيد الذي لا يُقبل سواه، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[ آل عمران: 85].(5/110)
وفي هذا السياق يحاول أحدهم بجهل فاضح أن يؤصّل لهذه المسألة تأصيلاً شرعياً(!!)، فيزعم في مقال له بعنوان ( المقاومة الفكرية للإرهاب ) الرياض: 13561، أنّ الأصل في الولاء والبراء " موالاة ( الكافر ) المسالم الموادع مهما كانت ديانته"، وفي مقال آخر له بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، أتى بما هو أطم، فيقول: " والرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل صحابته الأول إبان الفترة المكية إلى الحبشة اتقاء لشر قريش قال لهم إنّ فيها ـ يعني الحبشة ـ ملكاً لا يظلم عنده أحد، ولم يبرر إرساله لصحابته بإسلام المجتمع الحبشي بدليل أن ذلك المجتمع ظل حتى وفاة النجاشي نصرانياً خالصاً مما يؤكد(!) أن الولاء حين ينصب على العلاقة مع الآخر فهو يدشن لموالاة المسالم والبراءة من المعتدي بغض النظر عما يدين الله به وهذه العلاقة السلمية ـ الأهلية منها والدولية ـ المبنية على الولاء للمسالم والبراء من المعتدي منظمة بشكل واضح لا لبس فيه في القرآن الكريم إذ يقول تعالى في الآية الثامنة من سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة:8]، وهي إشارة إلى موالاة الآخر(!) المسالم الملتزم بشروط العلاقة السلمية ببرّه والقسط إليه.. " إلى أن يقول: " هذا هو المسار الصحيح(!) لمفهوم الولاء والبراء المتكيف مع أصول الإسلام وغاياته العظام(!) " إلى آخر ما ذكر، وأنا أتحدّى هذا الكاتب وغيره أن يأتي بنص واحد من كتاب الله أو سنة رسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى موالاة الكفار أياً كانوا، بل إن نصوص الكتاب والسنة تحذر من موالاة الكفار بإطلاق كما في قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ }[آل عمران:28]، وقوله في سياق الحديث عن المنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }[النساء:144]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[المائدة:51]، بل في السورة نفسها التي استشهد الكاتب بآية منها قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وذلك أنّ مقتضى الموالاة: المحبة والنصرة، وذلك لا يصدر من مؤمن لكافر على الإطلاق، وإنّما الذي أذن الله فيه تجاه الكافر المسالم: البر والعدل كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة:8]، ويوضح معنى الآية سبب نزولها، فقد أخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر y، قالت: أتتني أمي راغبة، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ قال: " نعم " فأنزل الله فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ }. فإذا كان للمسلم أب كافر أو قريب أو جار ونحو ذلك، ولم يكن محارباً، فلا حرج على المسلم أن يحسن إليه ويبره ولا يظلمه، لكن أن يحبه وينصره أو يفضله على إخوانه المسلمين مهما كانوا عاصين، فذلك خلل عقدي عظيم، وهذا هو حال هذه الفئة الضالة، كما سبق قريباً من تفضيل أحدهم الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني على من أسماهم تهكماً بـ (الإسلامويين ) المتشددين الذين يتحدثون عن عفن العلمانية، ويطالبون بمحاكمة الكتّاب المنحرفين فكرياً !!!.
ثم هل الكافر الذي ( يوالونه ) الآن مسالم حقّاً، أم أنّّه يقتل المسلمين بالأسلحة المحرمة دولياً، ويسخر من نبي الإسلام في رسوم سخيفة ماجنة ؟؟؟؟؟، بل ويهين المصحف في معتقلات غير شرعية ولا قانونية.. فأين عقول هؤلاء؟!!!.(5/111)
وبمناسبة ذكر الآخر ( الكافر ) يلاحظ في مقال هذا الكاتب الذي امتد من أعلى الصفحة إلى أسفلها بما يزيد عن نصف المتر أنّه لم يذكر لفظ ( الكافر ) بتاتاً بناء على مذهبهم في ضرورة التخلي عن هذا المصطلح الشرعي الأصيل الذي امتلأ به القرآن والسنة، والعدول عنه إلى ألفاظ مثل: ( الآخر )، و ( غير المسلم )، وما شابه ذلك حتى لا يغضب هذا الآخر، بل بعضهم (يتوّرع ) عن اعتقاد كفر اليهود والنصارى، ويعدهم مؤمنين و(إخوة) لنا في الإنسانية(!)، كما مر سابقاً.
أمّا قضية النجاشي، والهجرة إلى الحبشة، فلا علاقة لها بموضوع الولاء والبراء. وذكرها في هذا المقام من الخلط العجيب، فإنّ المسلم إذا لم يتمكن من إظهار دينه في بلد فله أن يهاجر إلى بلد آخر يتمكن فيه من إظهار دينه، وهذا قبل أن تقوم للإسلام دولة تحكم بشرع الله، فإذا قامت الدولة فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، كما قال الصادق المصدوق r ، فما علاقة ذلك بالولاء والبراء ؟!!.
ويقول آخر ـ وهو من أصحاب التحولات الإنفراجية ـ في مقال له في غاية السذاجة بعنوان: ( نحن وأمريكا والديموقراطية ) الشرق الأوسط: 9212 مدافعاً عن الآخر الكافر: ".. الغرب حينما يدعم الديموقراطية، ويفكر في وضع هذا الجزء من العالم، فليس ذلك من قبيل التبشير أو الاهتداء بروح الأم تيريزا، قدر أنها مصلحة غربية جوهرية تكمن في إنقاذ الشرق الأوسط المتعثر(!!!) "، وعلى الرغم من أن الآخر النصراني ممثلاً في زعيمه صرّح بأنّ الحرب على العالم الإسلامي حرب صليبية، إلا أنّ هؤلاء ( العقلانيين ) لا يزالون أشدّ إخلاصاً للآخر من الآخر نفسه، حيث يعدونه في سذاجة واضحة (جبهة إنقاذ) للشرق المتعثر!!!!.
ولم يكتف هذا الكاتب بالثناء على ( الآخر ) وديمقراطيته المزعومة، بل راح ينتقص دينه الحق ( الإسلام ) ومبدأ الشورى المذكور في القرآن، يقول: " طُرحت فكرة الشورى كبديل أصيل عن الديموقراطية، ولكن اتّضح(!) أنها تختلف اختلافاً فلسفياً ومفارقاً للديموقراطية، فرفضت من الإسلاميين الأصلاء(!)، والليبراليين الخلصاء(!)، أمّا الأخيرون فبحجة أنّ الشورى أبعد ما تكون عن العقد الاجتماعي والمشاركة الشعبية الواسعة، فهي ليست إلا تدبير أهل الحلّ والعقد، وهم طبقة ضيقة من كبار القوم والملأ.." إلى آخر ما ذكر.
السمة السابعة
الجهل
فعلى الرغم من أنّهم أشدّ الناس تعالماً وادّعاءً لفهم النصوص ومقاصد الشريعة، ورميهم العلماء وطلاب العلم السلفيين بالضدّ من ذلك!!؛ إلا أنّهم أكثر الناس جهلاً بالنصوص وبالمقاصد وبالناسخ والمنسوخ والعام والخاصّ والمطلق والمقيّد من نصوص الشريعة، كما تشهد بذلك كتاباتهم، والسر في ذلك أنّ معظمهم ليسوا من أهل التخصّص الشرعي، فإذا انضاف إلى ذلك الهوى وتمكن الشبهات من قلوبهم؛ كانت الطامة أكبر، وفيما يلي بعض الأمثلة على جهلهم بالنصوص الشرعيّة:
1. في مقال لأحدهم بعنوان: ( الذين يجلدون المختلفين معهم في الرأي بإطلاق التهم) الرياض: 13698، يقول: " أُعطي الرسو صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وهي ميزة خصّه الله تعالى بها من بين سائر الأنبياء والمرسلين u، فهو r يقول الكلمة أو اللفظة الواحدة لتكون جامعة لمعاني ومتطلبات موضوع بأكمله، ومن بين ما أخبر ب صلى الله عليه وسلم في ألفاظ قصيرة، لكنّها حملت معاني عظاماً، قول صلى الله عليه وسلم : ( الدين المعاملة ).. ".. ثمّ بنى مقاله على ما زعم أنّه حديث، وجزم بنسبته إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم !! وهو ليس بحديث، وإن اشتهر على ألسنة العامّة، بل إنّ معناه في غاية البطلان لمن تأمّله بعقل منضبط بالشرع، لا بعقل منفلت كعقول هؤلاء الزاعمين بأنّهم عقلانيون، فإنّ مقتضى هذا الحديث المزعوم أنّ الكافر إذا كان حسن المعاملة فهو مسلم ومتدين، والمسلم إذا كان سيء المعاملة ليس بمسلم، لأنّ المقصود بالدين هنا هو الإسلام كما قال تعالى: { إن ّالدين عند الله الإسلام }، وقد ثبت في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، عن عائشة t قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان؛ كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه ؟ قال: " لا ينفعه. إنّه لم يقل يوماً: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين ". فلم ينفعه حسن خلقه، وإحسانه للناس مع كفره.(5/112)
2. وفي مقال آخر بعنوان فضائي: ( الحوار الوطني: سيرة وانفتحت ) الرياض: 13702، يقول الكاتب نفسه: " من غير المجدي وفقاً لمعطيات العمران البشري أن تقسر شخصاً على رؤية معينة، لمجرّد أنّك تعتقد بصوابها، فهذا الآخر الذي تودّ قسره على رؤيتك يملك من الأدلّة والطرائق الحكمية(!) ما يستطيع بها نفي صوابية ما تعتقده حتى وإن كنت لا تؤمن بمرجعيته الدلالية بنفس الوقت الذي لا يعترف فيه هو أيضاً بمرجعيتك في استنباط أدلة تصويبك لرؤيتك، وإذا كان الله تعالى يأمر نبيّه الكريم بأن يعتزل مقام مشركي قريش حين يخوضون في آيات الله تعالى حتى يصرفوا حديثهم إلى جانب آخر، ولم يأمره بحربهم أو قسرهم على رؤيته ممثلاً بقوله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره... } أفلا نترك نحن غيرنا أحراراً ...".. فاستدلاله بهذه الآية في غاية البطلان، ودليل على جهله الفاضح ـ أو تجاهله ـ لنصوص الشريعة، والمراحل التي مرّت بها الدعوة، فماذا يصنع هذا الكاتب بمثل قوله تعالى في سورة التوبة: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد.. }، وقوله في السورة نفسها: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }، وقول صلى الله عليه وسلم :" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.. " الحديث، وقوله: " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحقّ أطراً " أي تقسروهم عليه قسراً، يعني العصاة، فضلاً عن المبتدعة.. وليس في دين الله تعارض، ولكنّ الواجب أن تنزل النصوص منازلها، فاعتزال المشركين كان في العهد المكي، وأما آيات القتال والأطر على الحقّ ففي العهد المدني، وبهذا يتبين جهل هؤلاء بمدلولات النصوص مجتمعة، فكيف يؤتمنون على توجيه الناس في صحف سيّارة !!!!!.
3. وفي مقال بعنوان: ( هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة ؟) الجزيرة: 11980، كتب أحدهم ـ وهو وللأسف الشديد من سلالة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله !!! ـ مقللاً من شأن الحضارة الإسلامية يقول: " الثقافة الإسلامية ثقافة فقه ولغة، وليست ثقافة كشف واختراع وابتكار على مستوى المنجزات الدنيوية.." إلى أن يقول: " وهذا ما نلحظه بوضوح من خلال القراءة لكبار العلماء الدينيين المسلمين، فالإمام ابن تيمية رحمه الله ـ مثلاً ـ اتّخذ موقفاً مناهضاً بشدّة لعلم الكيمياء.." إلى آخر ما ذكر، وهو دليل على جهل فاضح، لأنّه ظن أنّ الكيمياء التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله هي الكيمياء المعروفة اليوم، وليس الأمر كذلك، فالكيمياء التي ذكرها شيخ الإسلام نوع من الغشّ، وصناعة ذهب مغشوش يشبه الذهب الذي خلقه الله، وبيعه على الناس على أنّه ذهب خالص، ولذا قال الشيخ رحمه الله: " وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشاً، ولهذا لا يُظهرون للناس إذا عاملوهم أنّ هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم.. " إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
4. وفي مقال بعنوان: ( فلا يلومنّ إلا نفسه.. فلسفة جديدة ) الوطن: 1173، كتب أحدهم ـ وهو طبيب يكثر من الحديث عن الدين والعبث بالآيات ـ كتب بعد أن ساق الحديث القدسي ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) يقول: " وما يدفعني إلى سرد هذا الحديث فكرة التمعت في ذهني أن أفعل ما فعله النووي، فهذا الرجل جمع أربعين حديثاً اشتهرت باسمه، وهي رياض الصالحين..".. وهذا جهل فاضح، فهو يظن لجهله أنّ كتيب الأربعين النووية الصغير، هو نفسه كتاب رياض الصالحين المجلّد الضخم، وكلاهما للإمام النووي رحمه الله، وصغار طلاب العلم يعرفون الفرق بينهما.
5. وفي مقال بعنوان ( ذكريات غير صحوية وحديث عن الثبات والتحوّل ) الرياض: 12722، كتب أحدهم منظرّاً ـ وكان من هواة التكفير والتفجير ثم أصبح من غلاة المرجئة ـ يقول: " وقد نسمع أحياناً وصف الآخرين بالفسق أيضاً. وفي القرآن الكريم لم يأت وصف الفسق إلا في حقّ الكفّار والمشركين كما في سورة السجدة، غير أنها في فترة متأخّرة جرى التوسّع في استخدام لفظ الفاسق على المسلم الذي يأتي بعض المخالفات الشرعية..".. وهذا جهل فاضح، وجرأة على كلام الله تعالى، وقد يعجب هذا الكاتب إذا علم أنّ وصف الفسق جاء في القرآن الكريم في حقّ أحد أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو الوليد بن عقبة t، كما في قوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }، وذلك باتّفاق المفسّرين. ولكنّ الجهل داء لا دواء له.(5/113)
6. وفي نفس المقال يقول هذا الكاتب: " لبس جوارب اليدين أصبح اليوم دلالة على عفّة المرأة، وشدّة تديّنها، في وقت سابق لم تكن النساء تعرف ذلك.. " وهذا من جهله، فقد كان هذا معروفاً في زمن النبوّة، فقد صحّ عن صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين "، ففيه دليل بيّن على أنّ الصحابيات كن يلبسن القفازين لكمال الستر، وإنّما نهين عن ذلك وقت الإحرام.
هذا غيض من فيض من جهلهم بالنصوص الشرعيّة، وكيفية تعاملهم معها، ومع كلام الأئمة، ولو ذهبت أستقصي جهلهم، من خلال كتاباتهم لطال بي الأمر..
والعجيب أنّهم على الرغم من جهلهم الواضح الذي سبق الكثير منه؛ إلا أنّهم يزعمون أنّهم أكثر فهماً للإسلام ممّن شابت لحاهم في تعلّم العلم الشرعي، ومزاحمة العلماء بالركب، بل أكثر فهماً للإسلام حتى من العلماء الكبار، مع أنّ جلّ أصحاب هذا الفكر قد عاشوا ردحاً من الزمن في بلاد الغرب لتعلّم تخصّصات غير شرعية قد تكون مفيدة في مجالها لكنها لا تؤهل صاحبها للحديث عن الأمور الشرعية الدقيقة.. وفي هذا السياق كتب أحدهم ـ وهو رئيس تحرير إحدى صحفهم ـ في مقال له بعنوان: ( الأسهم تقول إنّهم أقليّة محدودة ) الرياض: 13770 يقول: " نحن جميعاً مسلمون.. بل إنّ معظم الليبراليين هم أكثر فهماً للإسلام وسعياً لحلّ مشاكله وتقديمه بصورته الحضارية للعالم الأجنبي..!! " قال ذلك في أعقاب تصدي بعض العلماء له في محاضرة أقيمت في فعاليات معرض الكتاب الدولي بالرياض.. والليبراليون يعني بهم نفسه وزمرته.
بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ كتب مقالاً بعنوان: ( الجهل كخطاب: مقاربة أولية لنماذج وصور واقعية !! ) الرياض: 14136، رمى فيه جامعاتنا الإسلامية بأنّها معاقل لتفريخ الجهل وإنتاجه، يقول: " إن هذا يتم في نطاق المؤسسات العلمية، أو التي تدعي ذلك، حيث يتم استيراد آليات البحث العلمي، بل أحدثها، ووضعها في خدمة خطاب الجهل. وجراء ذلك، تعتمد الأطروحات، وتناقش في أجواء تشي بالعلمية، بينما هي تستخدم في تعزيز مستوى أعلى وأشد تعقيداً من الجهل الذي لا بد من تفكيكه من زوايا كثيرة، ليس أقلها كشف زيف ادعاء العلمية )!!! ".
وكان سبب هذا الهجوم وهذا التجهيل الجماعي لمؤسساتنا العلمية، أنّ بعض الأساتذة الغيورين حذّر من بعض الكتب المنحرفة فكرياً، وطالب بمنعها في معرض الكتاب وغيره، حيث يقول الكاتب: " لم نستطع أن نفهم كيف ينادي أستاذ جامعي، قضى عقوداً من عمره في القراءة، بضرورة منع هذا الكتاب أو ذاك. لن نستطيع أن نفهم؛ كيف يسمح له ضميره (العلمي!) بمصادرة حق الآخرين في الاختيار القرائي، ما لم نع أن بنيته الذهنية - رغم جامعيتها وقرائيتها - تكونت عبر خطاب الجهل. يحدث هذا، بينما رجل الشارع الذي ليس لديه أدنى اهتمام قرائي، يفتح فاه متعجبا، كيف يكون الكتاب محظوراً، وكيف تكون المعرفة محرمة!. وهذا دليل على أن رجل الشارع أقل جهلاً من ذلك المشتبك منذ عقود مع خطاب الجهل )!!! " وهكذا يجعل رجل الشارع مقياساً للحكم، ولا أدري كيف يصنع بحديث عمر الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ لمّا رأى معه النبيّ صلى الله عليه وسلم كتاباً أصابه من بعض أهل الكتاب، قال له مغضباً: "أمتهوّكون فيها يا ابن الخطّاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. "، أخرجه أحمد وغيره وهو حسن بشواهده، فإذا كان هذا مع عمر الفاروق الذي أجرى الله الحقّ على لسانه؛ فكيف بغيره من الشباب والمراهقين ومن ليس عنده حصانة شرعية كافية!! .
وسيأتي المزيد حول هذه المسألة في مبحث خاص بإذن الله تعالى.
السمة الثامنة:
تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم:(5/114)
وقد سلك هذا المسلك أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية، ففي مقال له بعنوان: (التفكير وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065، شتم فيه السلفية عدة شتائم، يقول: " إنّ ما نراه في الخطاب التقليدي ـ السائد ثقافياً على المستوى الشعبوي(!) خاصّة ـ من محاولة التقليدية البلهاء ـ المتلبّسة بصيانة الأعراف والتقاليد و.. الخ ـ فرض الوصاية على أعين الناس، وعلى آذانهم، وألسنتهم وأقلامهم ليس بدعاً في سلوك المنظومة التقليدية أياً كانت طبيعتها، فهي ـ دائماً ـ تسعى لتعطيل هذه الحواس التي هي نوافذ العقل، ومنها يستمد العقل مادته وتجتهد في لتقنيتها في أتباعها بفرض الوصاية عليها ليصبح الناس ـ إذا تعطلت لديهم فاعلية هذه الحواس ومن ثم تعطل العقل ـ كالأنعام بل هم أضل وهذه الحال شعر الأيديولوجي التقليدي أو لم يشعر منتهى الأماني لديه ". فهو يرى أن تحصين الناس من الأفكار المضللة، وحمايتهم منها، ضرب من ضروب الوصاية، ويرى أن ترك الناس بلا تحصين كافٍ ليعتنقوا مثل أفكاره المنحرفة التي يدعو إليها، ويدافع عنها، لذا فهو يرى أنّ : " مفردات من نوع ( الإرشاد/ التوجيه/ الرعاية الفكرية/ الأمن الفكري/ التحصين ضد الأفكار الهدامة/ مروجي الشبهات/ التغريب/ البرامج الهابطة/ العهر الفضائي ) " مفردات تستخدمها الثقافة التقليدية ( السلفية ) في وقوفها ضد الفكر الحديث ( يعني فكره العفن ) وصدق والله، فهو تحصين ضد الأفكار الهدامة ومروجي الشبهات من أمثاله، وهذا هو سر عدائه للسلفية..
والشاهد هنا من مقاله تنزيل الآية التي وردت في الكفار وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }[الأعراف:179]، وقد أنزلها في الناس السلفيين الذين يفرض عليهم السلفي ( التقليدي ) ـ كما يزعم هذا الكاتب ـ وصايته، وسيأتي المزيد من الحديث عن الوصاية لاحقاً بإذن الله تعالى..
وفي مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، وهو جزء من آية في سورة المائدة، نزلت في اليهود وأذنابهم من المنافقين، وقد أنزلها في خصومه السلفيين، في مقال شتم فيه السلفية على عادته، وقد سبق الحديث عن هذا المقال..
وفي مقال له بعنوان: ( من صور التطرف والاعتدال ) الرياض: 13282، سخر فيه من بعض مناصحيه من السلفيين، إضافة إلى شتم السلفية، والثناء على رموز التغريب؛ لم يكتف بآية واحدة، بل ثنّى بآيتين، إحداهما قوله تعالى: {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }[البقرة:15]، اقتصر على آخرها، وقد أنزلها في ما يراه ضحايا للمدرسة السلفية، وأطلق عليهم ( الأبرياء المذنبون ) حيث يجري توظيفهم من حيث لا يشعرون(!)، يقول: " في الغالب لا يكون التوظيف مباشراً ومقصوداً، بل تفعل المنظومة التي يجري الترويج لها فعلها بقوة الدفع الذاتي فيها، دون أن يشعر بنوها أنهم في طغيانهم يعمهون "(!).
ثم يختم مقاله باتهام الناصح له بالتكفير فضلاً عن بذيء السباب(!)، على الرغم من أنه في هذا المقال يصف الصحوة الإسلامية بالمتأسلمة أو ما أسماه بـ ( تيارات التأسلم ) و(تيار الجمود والارتياب )، وهي تهمة تعني عدم الإسلام الحقيقي.
أما السباب؛ فقد ضمّن مقاله هذا عدداً لا بأس به من الشتائم للسلفية، إضافة إلى تهم الإرهاب وغيره، فضلاً عما في سائر مقالاته من السباب البذيء ليس للأشخاص فحسب، بل للمذهب والمعتقد، وبعد أن اتهم ناصحه بالتكفير والإرهاب(!) راح ينزل عليه آية نزلت في المنافقين، يقول: " أَتَذَكّر كل هذا وأقول: صدق الله العظيم القائل: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }[التوبة:57 ] "، وهكذا يرمي كل من اختلف معه تارة بالآيات التي نزلت في الكفار، وتارة بالآيات التي نزلت في المنافقين، ثم يرميهم بتهم التكفير والإرهاب(!!!!)، فأي إرهاب فكري أعظم من هذا الإرهاب.
وفي مقال له بعنوان: ( ما بعد المعركة الخاسرة ) الرياض: 13303، شتم فيه السلفية على عادته، وتشفّى مما حدث في الفلّوجة من قتل ودمار، وسبب هذا التشفّي أنّ الفلّوجة تعدّ معقل السلفيّة في العراق، ثمّ أنزل عليهم آية نزلت في المنافقين بأسلوب تهكّمي ساخر، يقول: " انتهت معركة الفلّوجة، معركة خاسرة بلا ريب، انتهت معركة. ومعارك أخرى غيرها على صورتها ( صورة طبق الأصل ) في الانتظار ما دامت بيانات الحماس الديني والقومي تشعل أوارها، ومؤتمرات الأحزاب الحالمة تنفخ فيها بالكثير من غبائها التاريخي المجيد!. الإسلاموي(!) والقومي كلاهما نسي التاريخ خاصّة إذا ما كان تاريخ هزائم وعبر، مع أنّه تاريخ ليس بالبعيد، إنهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذكّرون "(!!)، وهذه آية من سورة التوبة نزلت في المنافقين.(5/115)
وفي مقال له بعنوان: ( الاتصال والانفصال بين الديني والمدني ) الرياض: 13324، تفوح منه رائحة العلمنة، يذكر فيه إشكالية العلاقة بين الديني والمدني عنده هو، وعلى عادته في شتم خصومه وتنزيل الآيات التي في الكفار عليهم، يقول: " حلُّ الإشكال يتمّ من خلال الوعي بدرجة تعقيده، لا بتبسيطه أو تجاهله في سبيل الأدلجة الماكرة بأصحابها قبل أن تمكر بغيرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " وهذه آية من سورة إبراهيم نزلت في المشركين !!!.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، وعلى عادته قام بشتم السلفية، وعدّها ( الخصم الأيديولوجي الشرس ) للمرأة، ثمّ أنزل عليها آية نزلت في حقّ الكفار، يقول: " قبل استفحال الأيديولوجيا المتأسلمة ( ويعني بها الصحوة الإسلامية المباركة ) كانت المجتمعات على براءتها الأولى ( يعني الجهل والغفلة ) صحيح أنها كانت محكومة بأعراف وتقاليد تحدّ من حريّة الإنسان، وترسم له كثيراً من الخطوط التي قد لا يرضاها، لكنّها ـ على كلّ حال ـ كانت بريئة من الارتياب الذي يقود إلى التزمّت(!) وإلى خلق مسارات للمجتمع ما أنزل الله بها من سلطان [ ليته ذكر بعض هذه المسارات ] وليست إلا من اتباع الظنّ، والظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً "..
وهكذا يشبّه هذه الصحوة المباركة التي قامت برعاية علمائنا الكبار من أمثال الإمام عبد العزيز ابن باز والعلامة محمّد العثيمين وغيرهما من الأموات والأحياء؛ بحال المشركين الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }[ النجم: 27، 28 ]، ألا يعدّ هذا ضرباً من ضروب التكفير، أو في أقل الأحوال: التضليل الذي ينهون عنه من أجل إقامة مجتمعهم المدني المزعوم؟!!!.
والعجيب أنّ أحدهم كتب مقالاً في الجريدة نفسها بعنوان: ( الشيخ السعدي وميتافيزقيا اللغة ) الرياض: 13058، اتهم فيه الشيخ العلامة المفسّر عبد الرحمن ابن ناصر السعديّ ـ رحمه الله ـ بإنزال الآيات الواردة في أذى المشركين والكفار للمؤمنين الصالحين، على قومه الذين ثاروا عليه وآذوه، وعدّ الكاتب ذلك معضلة، وأنّ الشيخ ـ رحمه الله ـ أخطأ طريق الإصلاح(!!!).. أمّا عنوان كتاب الشيخ السعديّ الذي انتقده هذا الكاتب النكرة فهو: ( الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والخرافات الوثنية المنتشرة في قضاء الظفير )، ويلاحظ من خلال هذا العنوان أنّ القوم الذين أنزل الشيخ السعدي عليهم الآيات ذوو خرافات وثنية، أي أنّهم أهل شرك وخرافة، ولو أنّ هذا الكاتب بدلاً من التنقيب في كتب الأئمّة الأعلام، واتّهامهم بما هم منه براء؛ نظر إلى كتابات زميله في الصحيفة الذي نقلتُ بعض مقالاته آنفاً، وهو يقوم في القرن الحادي والعشرين بتنزيل الآيات التي نزلت في الكفّار والمنافقين على المختلفين معه من أصحاب العقيدة السلفية؛ لو أنّه نظر إلى هذه الكتابات، لوجد فيها ضالّته التي أراد إنكارها، إن كان هذا هو مراده حقّاً، لكنّه عمي عن الجذع في عينه وعين زميله البذيء، وأبصر الذرة في عين غيره، بل أبصر الوهم، فيا لله العجب كيف يفكّر هؤلاء، وكيف يحكمون !!.
والأعجب من ذلك أنّ الكاتب الأوّل نفسه في مقال له بعنوان ( الوحدة الاستراتيجية في التحالف الإرهابي ) الرياض: 13856، اتّهم بعض علمائنا الأجلاء بأنّهم ينزلون الآيات التي نزلت في المنافقين على أناس يعترفون بأنّهم أبناء مجتمعنا(!!) ثمّ يقول: " نسمع ونقرأ مثل هذا، ثمّ نسأل من أين يأتي التكفير.."، وهو الذي ما فتىء في مقالات كثيرة ينزل الآيات التي نزلت في المشركين واليهود على هؤلاء العلماء الأجلاء وغيرهم من عامّة السلفيين، فالحمد لله الذي جعله يحكم على نفسه بأنّه تكفيريّ جلد، بل خارجيّ كما ذكر في مقال له بعنوان ( بيانات التطرّف وبيان الاعتدال ) الرياض: 13863، بأنّ هذه الصفة من صفات الخوارج المارقين، ولا شكّ بأنّ هذه الفئة الليبرالية الاعتزالية الضالّة، خارجة مارقة عن جماعة المسلمين في هذا البلد السلفي الأمين.
السمة التاسعة:
عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، وبغضهم، والتشهير بهم
بل وصلت الوقاحة بأحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ إلى التندّر بأشكالهم وخَلْقهم الذي هو خلق الله ـ عزّ وجلّ ـ!!(5/116)
ففي مقال له بعنوان: ( من صور التطرّف والاعتدال ) الرياض: 13282 ذكر فيه صورًا عدّة لمن ناصحوه، فسخر في إحداها من رجل فاضل حذّره من عميل الفكر الغربيّ طه حسين ( أعمى البصر والبصيرة ). وفي صورة أخرى سخر فيها من قريب له ناصحه(!) ـ وهو شيخ فاضل وأستاذ في العقيدة ـ بل أظهر الرحمة والشفقة عليه(!) لأنّه كما يقول: " ضحيّة ثلاثين عامًا من الاشتغال على الصراع العقديّ ". وهكذا يصبح المشتغل بتصحيح العقيدة، وكشف فرق الضلال ضحيّة، ولا أدري ضحيّة ماذا؟!! ثمّ واصل سخريته باتّهام شيخ العقيدة بالتكفير، وبذيء السباب، وهو الذي ما فتىء يسب ويشتم السلفية وأئمّة السلف في صحيفة سيّارة!!
ثمّ يواصل في الجزء الثاني من مقاله ( من صور التطرّف والاعتدال ) الرياض: 13289 السخرية من الناصحين فيذكر قصّته مع أستاذ العقيدة في جامعته الذي زاره في البيت لمناصحته، وأطال عنده الجلوس، وهو لم يقرأ كتاباته ـ الرواية من طرف واحد ـ، إلى أن قال: " ولولا رقّة في أخلاقه، وسماحة تندى بها ملامحه ( لم تكن سماحة، وإنّما كانت بلادة وبلهًا وخمولاً ) لطردته غير آبه.. "، بهذه البذاءة يصف علنًا من جاء يناصحه سرًا ويحذّره من كتاباته البذيئة، وأفكاره المنحرفة.
ولم يكتف بذلك، بل واصل سخريته واستهزاءه ذاكرًا أنّ اللقاء استمرّ ساعات طويلة، وصف ما تمّ فيها بأنّه " من الهراء الميّت الذي لا طعم ولا رائحة له، ولم يكن للكلام من دور فيها إلا تحسين العلاقات الثنائية بين الطرفين عاطفيّاً لا فكريًا..".
ثمّ يضيف ساخرًا ـ وما أقبحها من سخرية ـ: " وكنت في تلك الأثناء وأنا أنظر إليه، لا أستمع إليه، بقدر ما أتأمّل مقدار ما تحمله تلك العيون الخاملة، والأهداب الذابلة، والجفون المسترخية، من معاني الغباء والبلادة والخمول التي تكاد لكثافتها أن تمتدّ بعدواها إلى متأمّلها، بل والجماد حولها "!!!! فهل ثمّة بذاءة ووقاحة أعظم من هذه البذاءة والوقاحة، وفي صحيفة سيّارة؟ لا أظنّ.
ثمّ ختم هذه الصورة باتّهام هذا الأستاذ الناصح بالتكفير، وهي تهمة جاهزة لكلّ من أقدم على نصح هذا الكاتب، وتحذيره من مغبّة ما يكتب، ومن أمن العقوبة، أساء الأدب.
وفي مقال ساخر لأحدهم بعنوان ( حرّاس الله !! ) الوطن: 293، ـ والسخرية بادية من العنوان ـ سخر فيه من أحد مناصحيه، بعد أن نشر هذا الكاتب النصيحة على الملأ، ثمّ عقّب على هذه النصيحة قائلاً بسخرية سمجة سخيفة: " يا رب ليس لنا إلا أنت، نحتمي بك سبحانك من ( حرّاسك )..".
وعلى عادتهم في قلب الحقائق والتلبيس على الناس وإلقاء التهم جزافاً، فقد اتّهم مناصحه بالحكم على نواياه وما في قلبه قائلاً: " ولكنّ ( حرّاسك ) يؤذون قلوبنا حين يدّعون معرفة ما فيها، وكأنّهم أنت والعياذ بالله ممّا يصفون.. "، مع العلم بأنّ هذا الكاتب قد كتب عدّة مقالات تهجّم فيها على المحاكم الشرعيّة، وسخر فيها من الحجاب!! والناس ليس لهم إلا الظاهر، أمّا ما في القلوب فعلمه عند الله تعالى.
وفي مقال لأحدهم بعنوان: ( الفرق بين العادة والعبادة ) الرياض: 13883، سخر فيه من شابّ ناصحه، يقول هذا الكاتب: " بينما كنت أيمّم وجهي شطر باب المسجد هامًّا بالخروج منه بعد انقضاء إحدى الصلوات؛ اندفع إليّ شابّ حدث لا يكاد يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وبدأ في إبداء نصائحه لي تجاه ما يراه أخطاء وقعت بها أثناء قضاء ما فاتني من الصلاة، وهي في الحقيقة لم تكن أخطاء بقدر ما صوّرت له ذهنيته الآحاديّة أنّها كذلك..". وهكذا نجد أنّ التهم عند هؤلاء جاهزة لإلصاقها بالناصحين، فبدلاً من تقبّل النصيحة بصدر رحب، وشكر الناصحين عليها، نراهم يسخرون منهم علنًا في صحف سيّارة، ويرمونهم بالتهم الجائرة. وحتى لو كان هذا الناصح مخطئاً أو مستعجلاً، كان الواجب تشجيعه على هذه الروح الناصحة، المشفقة على الغير، وتعليمه الطريقة المثلى للنصح، بدلاً من السخرية به، وكيل التهم له، انتصارًا للنفس.
السمة العاشرة:
التناقض الصارخ فيما يأمرون به وينهون عنه
وهو نتاج طبعي للتخبط، واختلال المنهج، والبعد عن منهج الحقّ، فكلمّا كان المرء قريباً من منهج الحقّ؛ كان أقلّ تناقضاً في أقواله وأفعاله، والعكس صحيح: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[ النساء: 82].
ومن ذلك:(5/117)
1. أنّهم ينهون عن التضليل والتبديع والتفسيق، وهم يفعلون ذلك، فيبدّعون العلماء والدعاة وطلاب العلم الذين هم على منهج السلف، وقد كتب أحدهم مقالاً نشره في أحد مواقع الأنترنت المشبوهة، وتواطأت الصحف المحليّة على نشره، وكان عنوان المقال (الصحوية والصحويون!! ) الجزيرة: 12318، شكّك فيه بالصحوة الإسلامية المباركة، وضمّنه الكثير من المغالطات والافتراءات والتهم والنقولات المبتسرة، وفاحت منه رائحة العلمنة، خلص فيه إلى ما نصّه: " ممّا تقدّم يتّضح لنا بجلاء أنّ الصحوة هي التي فجّرت منابع الإرهاب، وأنّ أدلجة المذهب السنّي أدلجة سياسية محضة هي قلب الصحوة النابض، وأنّ فكرة التنظيم - الكهنوت هو الوسيلة، وهو أسّ البلاد، وأنّ استثمار قضايا المرأة السعوديّة هو استثمار سياسي بحت، وأنّ مذهب أهل السنّة والجماعة شيء، والصحوة في جوهرها وأهدافها شيء آخر ".
وهكذا بجرّة قلم يحكم الكاتب الصحفيّ(!) على قطاع كبير من مجتمعنا يمثّل الأغلبيّة من العلماء والدعاة والصالحين ومن يثق بهم من سائر أبناء مجتمعنا، وهم عامّة الناس، بل على مجموعات كبيرة في العالم أجمع تفتخر بانتمائها إلى هذه الصحوة ولله الحمد، يحكم عليهم بأنّهم ليسوا على مذهب أهل السنّة والجماعة، وإنّما هم شيء آخر، أي ضلاّل مبتدعة، ولعمر الله إنّ هذا لشيء عجيب، وقلب واضح للحقائق المبينة، فالذين ينافحون عن مذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأمّة أصبحوا اليوم ليسوا من أهل السنّة والجماعة، أمّا الذين يطعنون في مذهب أهل السّنّة والجماعة وسلف الأمّة كابن تيمية الذي قال عنه هذا الكاتب ـ كذباً وزوراً ـ إنّه يحرّم الكيمياء المعروفة اليوم(!) والذين يبالغون في الثناء على الغرب، فهم الهداة المهتدون، وهم أهل السنّة عند هذا الكاتب، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض.
2.
البحث لما يكتمل.....
(1) صواب الآية: ( يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة.. ) [ النساء: 1 ].
================(5/118)
(5/119)
دور الشباب المسلم تجاه المد التغريبي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
ففي هذا الزمان، علت صيحات منبوذة، وأفكار ممقوتة، تدعو بكل قوة وإصرار إلى اللحاق بركاب الغرب، من أجل إدراك الحضارة العظيمة - كما يزعمون - وكان من لوازم تلك النداءات: التخلي عن القيم والأخلاق، والتنازل عن العقيدة، وجعل الدين هشَّاً لا هوية له، وإنما جسدٌ بلا روح، بل أن بعضهم قد تطاول به الأمر، إلى أن ينسلخ من الروح والجسد، ليُصبح بلا ماهية.
و مع هذه الصيحات، كان على الأمة أن تتخذ الموقف الجاد، وتباشر العمل، في رد هذا العدوان، دفاعاً عن الشريعة، وحماية للتوحيد، وإزهاقاً للباطلِ وأهله، فكان الدور مشتركاً بين العلماء، وكلٌ بحسب طاقته ووسعه - على تفاوتٍ بينهم في ذلك - ولهذا أحببت أن أشارك في بعض ما يتعلق بالشباب من دور، على المدى القريب والبعيد، واخترت بعض الخطوات، التي تحتاج إلى توفيق الله أولاً، ثم الصبر والمصابرة على تحقيق تلك الأهداف، والتي ليست إلا مطيَّة للهدف الأكبر في هذه القضية، فإليكم هذه الخطوات في دور الشباب في مواجهة المد التغريبي:
أولا: الثبات والاستسلام لله:
لما أسلم عمر رضي الله عنه وأرضاه قال المشركون: صبأت؟!، فقال عمر: "كذبتم! ولكني أسلمت وصدَّقت" فثاروا إليه، فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وأعيى من التعب فقعد، فقاموا على رأسه وهو يقول: "افعلوا ما بدا لكم! أحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا".
كل هذا يحدث بعد إسلامه بلحظات!.
ولك أن تتأمل حين جاءه أبو سفيان وهو من أشراف قومه ليشفع له عمر الفاروق عند رسول ا صلى الله عليه وسلم في شد عقد الحديبية، فقال له معلناً البراءة من أعداء الله: " أنا أشفع لكم؟! والله الذي لا إله إلا هو لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به".
اجهر بصوتك أمام كل معاند: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ).
يجب أن يكون الشاب المسلم واثقاً بالمبادئ التي يحملها بين جوانحه، راسخاً في أفكاره رسوخ الجبال الراسيات، يستشعر دائماً معنى العبودية لله والانقياد له، ويعرض كل ما يستجد له على دينه فما خالف الدين نبذه ولو كان من أقرب الأقربين قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا).
إنّ مجرد الاتباع لا يكفى، بل إن الغاية هي الاطمئنان إلى العقيدة والسعي الحثيث للتأثير لا التأثر' وبهذا تكون القوة.
إننا في هذه الأيام نرى ونسمع في كل يوم من يدعو إلى تنحية كلام الله وكلام رسول صلى الله عليه وسلم ، بتصريح أو تلميح!. وذلك من خلال دعواتٍ يُظهرها حثالةٌ من العملاء، ممن يدينون بالولاء لأسيادهم في الغرب والشرق!.
فأين هم من الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه إذ يقول: "لست تاركاً شيئاً كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت من أمره شيئاً أن أزيغ ".
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
و لما أشار بعض المسلمين على أبي بكر رضي الله عنه بأن لا يبعث جيش أسامة لاحتياجه إليه، قال: "والله لو أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة، وأن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين؛ ما رددتُ جيشاً وجهه رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولا حللتُ لواءً عقده رسول ا صلى الله عليه وسلم ، والله لو لم يبقَ في القُرَى غيري لأنفذته، أفأطيعه حياً وأعصيه ميتاً!".
فأنفذ رضي الله عنه جيش أسامة، ثم أعلنها حرباً على المرتدين، فقيل له: "إنهم يقولون: لا إله إلا الله، قال: والله لأقاتلنَّ من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عَناقاً أو عِقالاً كانوا يؤدونه لرسول ا صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه".
وهكذا نصر الله به دينه، فرضي الله عنه وأرضاه.
لقد أسلم ذلك الجيل، واستسلم وانقاد لحكم الله بلا خيار: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). وبلا تنطع في البحث عن الحكمة والعلة؛ لأن ذلك ينافي التسليم والانقياد: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ). وبلا حرج في النفس عند تطبيق النص الشرعي، يقول تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
ولئن أخذنا نحن يميناً أو شمالاً لقد ضللنا ضلالاً بعيداً.(5/120)
لم يكن هذا التسليم والانقياد مقصوراً على الرجال فحسب، بل كان للنساء فيه حظ وافر، وضربن بهذا أروع الأمثلة في الانقياد والاستسلام والثبات دون اكتراث لما يحدث في واقعهن، وهذا يتجلى حينما يختلط الرجال والنساء في الطرق عند الخروج من المسجد، فيقو صلى الله عليه وسلم كما ثبت في سنن أبي داوُد: "استأخرن؛ عليكن بحافَات الطريق". فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من شدة لصوقها به.
ثانياً: العلم الشرعي:
العلم، العلم. وأخص به العلوم الشرعية، ومن أهمها علمُ التوحيد الذي من أجله بعث الله الرسل إلى الناس قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
إنك لو تأملت حال الغزو الذي تُحاك خططه بالليل والنهار من الأعداء في الداخل والخارج لوجدتَ مدارَه على أمرٍ واحد، وكله يدور في فلك الإطاحة بالثوابت، التي هي سر البقاء، عن عمر رضي الله عنه أنه قال "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله هذا". رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين.
نعم، هذا هو السر!. فكلما كان الناس إلى الله أقرب كانوا على أعدائهم أظهر وأغلب.
ولنتأمل في حال السهام الموجهةِ إلى صدورنا ومنابع عزتنا:
سهم موجهٌ إلى حلقات التحفيظ، أي (القرآن) الذي رفعنا الله به.
وسهمٌ يستهدف العقيدة الصافية.
وسهم يروم ذروة سنام الإسلام، وهو الجهاد في سبيل الله.
وسهمٌ مصوّب نحو الولاء والبراء، تلك المنزلة التي ضرب فيها الأنبياء والصحابة والسلف الصالح أروع الأمثلة، وقد خلّد القرآن شيئاً من ذكرهم لنسير على خطاهم، صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين ورضي الله عنهم.
وسهم آخر يتجه صوب المرأة، والتي يصلح المجتمع بصلاحها، فهي كالقلب للجسد، فكما أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، فإن منزلة المرأة في مجتمعها يتوقع منه هذه النتيجة: فإذا صلحت صلح المجتمع كله، وإذا فسدت فسد المجتمع كله، وهذا بالأخص في شأن الأم.
إن الحوارات المؤتمرات والمنتديات التي نرى العدو يسعى حثيثاً لإقامتها هنا وهناك باسم الثقافة والفكر والتواصل بين الحضارات ليست إلا فكرية الاسم عقدية المحتوى في غالبها.
و من هنا تأتي أهمية دراسة كتب العقيدة على منهج السلف الصالح رحمهم الله.
واليوم هاهم دعاة هذا المنهج المنحرف يحذرون العالم من الفِرقة والطائفة المارقة في نظرهم وهي الوهابية كما يسمونها، حيث ألصقوا بدعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب التهم والأباطيل والافتراءات والأقاويل، لأنهم يعلمون أن العقيدة الصافية الناصعة تشكل خطراً عليهم.
وخلاصة القول: إنّ العلم الشرعي هو السلاح، فلنتسلّح به لكي لا ننخدع بمقوله كل فاجر مارق.
روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان". [رواه أحمد في مسنده وابن حبان].
ثالثا: الدعوة إلى الله:
والله ما كان الغرب أو الشرق ليثور على البلدان الاسلامية لولا انتشار هذا النور المبين والسراج الوهاج - وهي الدعوة السلفية - في العالم.
فحينما أصبح الإسلام يشكل خطراً عليهم، تعالت صيحات الحاقدين منهم على الإسلام، وتنادوا بوقف المد الإسلامي الذي بدأ ينتزع منهم هيبتهم: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ).
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره: "والمقصود من أهل الكتب والعلم تمييز الحق من الباطل، وإظهار الحق ليهتدي بذلك المهتدون، ويرجع الضالون، وتقوم الحجة على المعاندين، لأن الله فصّل آياته، وأوضح بيناته، ليميز الحق من الباطل، ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمن عمل بهذا من أهل العلم فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم". أ.هـ
إذاً فكلٌ بحسب ما حباه الله من إمكانات، وما آتاه من قدرات، ولا عذر لنا في التقاعس عن نصرة دين الله تعالى والدعوة إليه، وأمم الأرض تنتظر منا إيصال الرسالة الربانية، ونشر هذا الخير العميم والكنز العظيم، والدلالة على الصراط المستقيم.
رابعاً: اليقين بالحق:
يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "لا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)".
قال بعض المفسرين: "هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة".
فلا يضق صدرك بما ترى وتسمع ولا تأبه كثيراً بما يقوله المرجفون المنافقون لأن الله تعالى يقول: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).(5/121)
ولا شك في أن وعد الله بالنصر واقع قاطع جازم: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا). وكلمة الله قائمة سابقة (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ). وهذه حقيقة ثابتة، فلله الحمد.
خامساً: صفاء مصدر التلقي لدى المسلم:
إن على المسلم أن يتلقى من الدستور الذي ارتضاه الله له، وهو أكمل دستور وأصفى منبع وأعذب منهل قال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
وهذا هو الثبات الحقيقي وهو الانتصار الذي هو مطلب كل إنسان، فحقيقة الانتصار أن تموت وأنت على مبادئك دون مساومة، ودون تنازل أو تراجع عن الحق.
ثبت عند البخاري من حديث عبدِ الله بن سَلامٍ قال: "رأيتُ كأني في روضةٍ، ووسَط الروضةِ عمودٌ، في أعلى العمود عروةٌ، فقيل لي: ارقهْ، قلت لا أستطيع، فأَتاني وصيفٌ فرفعَ ثيابي فرقيتُ، فاستمسكتُ بالعروة، فانتبهتُ وأنا مستمسكٌ بها. فقَصَصْتها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الروضة روضة الإسلام، وذلك العمودُ عمودُ الإسلام، وتلك العروةُ العروةُ الوُثْقى لا تزال مستمسكاً بالإسلام حتى تموت".
اللهم ثبتنا على الحق حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا.
لقد حرصت الشريعة كل الحرص أن تُبعد أبناءها عمّا يزعزع هذا المبدأ، ويهز تلك الحقيقة، ولم يزل رسول ا صلى الله عليه وسلم يثبت في أصحابه هذا الأمر حتى بعد إيمانهم بسنوات، تأكيداً من صلى الله عليه وسلم على ضرورة استصحابه، بل كان يأطرهم عليه، ويحذرهم من مصادر التلقي الأخرى.
روى الإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أتى رسول ا صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة، فقال: يا رسول الله! هذه نسخة من التوراة، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل عمر يقرأ، ووجه رسول ا صلى الله عليه وسلم - يتمعّر ويتغيّر، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: ثكلتك الثواكل يا ابن الخطاب! ألا ترى ما لوجه رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟!.".
وفي رواية: "أن عبد الله بن زيد قال: أمسخ الله عقلك! ألا ترى ما بوجه رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟!، فنظر عمر إلى وجه رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وب صلى الله عليه وسلم نبياً، فقال صلى الله عليه وسلم أمُتَهَوِّكون فيها يا بن الخطاب؟! ألَمْ آتكم بها بيضاء نقية؟! والذي نفسي بيده! لو بدا لكم موسى فتبعتموه وتركتموني لضللتم سواء السبيل، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني".
سادسا: الالتفاف حول العلماء الربانيين:
لأنهم أفقه الأمة، وأبرّهم قلوباً وأعمقهم علماً وأصلحهم تصوراً، فلا نجاة للأمة إلا بهم إذا أنهم ورثة الأنبياء، والعلماء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنّما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.
إنّ العالم الرباني هو خير ما يُرجع إليه عند تلاطم أمواج الفتن، والتباس الحق بالباطل لما يحمله من كلام الله وكلام رسول صلى الله عليه وسلم .
إن العلماء يُبصرون مالا يُبصره طلاب العلم وعامة الناس، بل أنهم يُبصرون ما يخفى على كثيرٍ من كبار طلاب العلم.
وللعلماء مواقف في الشدائد وقف التاريخ متعجباً لها وخلّدها في جبين صفحاته، علماء عاملون دعاة مخلصون، ربانيون راسخون لقد كان علماء الإسلام في المحن من أشد الناس ثباتاً على الدين وأقوى تمسكاً بالسنة، فالمواقف ليست إلا جرعاً تزيد في صلابتهم وقوَّتهم.
سأل الشافعيَّ رجلٌ عن مسألة، فأفتاه بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له: قال رسول ا صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟! فارتَعَدَ الإمام الشافعي، واصفر لونه، وقال: "أرأيت في وسطي زناراً؟! أرأيتني خرجت من كنيسة؟! ويحك! أيُّ أرض تقلني، وأي سماء تظلني إن رويت عن رسول ا صلى الله عليه وسلم شيئاً لم أقل به؟! نعم! أقول به وعلى الرأس والعينين، متى رويت عن رسول ا صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به، فأشهدكم أيها الناس- أن عقلي قد ذهب."
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
قال بعض المفسرين: "أولو الأمر هم العلماء والامراء".
وفي تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ). قال السعدي رحمه الله: "أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة". أ.هـ(5/122)
ولأن العلماء فهموا مراد الله ومراد رسول صلى الله عليه وسلم كما فهمه السلف الصالح، فهم أقوى الناس ثباتاً على هذا الدّين.
وللأسف ينادي بعض المنافقين التغريبيين اليوم بدعوة جديدة وهي أن نبقي النصوص كما هي، وأن نرجع إليها، لكن بفهمنا بما يوافق مقتضيات العصر - بزعمهم - لا بفهم أسلافنا، وهذه دعوة خبيثة.
إذا أردت أن تنظر إلى مكانة أمةٍ ما بين الشعوب فانظر إلى مكانةِ علمائها في المجتمع الذي يعيشونه.
لقد أصبح كثيرٌ من السفهاء من أمم الشرق والغرب، بل ممن هم بين ظهرانينا، أصبح كثيرٌ منهم يُجترئ على الثلب والطعن في علماء الأمّة، ونرى من الجهلاء انشغالاً بأخطائهم، وهذا إذا سلّمنا أنها أخطاء فقد تكون غير ذلك.
فكثير من الجهلة اليوم يُبيحون لأنفسهم الثلب في عالمٍ ما لأنه أخطأ!. وفي النهاية قد نجد المسألة التي جزم هذا الجاهل بأنها خطأ، ليست إلا مسألة خلافية أخذ الشيخ فيها بقول مرجوح. ومَن يسلم من هذا؟!.
ومما يؤسف له أن أهل البدع والخلل العقدي يُكنون لأئمتهم ومشايخهم الولاء والحب، وبعض أهل السنة إذا أتت المصيبة يبدأون بعلمائهم وقادتهم فيهاجمونهم، وهذا مما يندى له الجبين.
سابعاً: الاستعداد العلمي والإيماني لصدِّ التغريب:
لا أنصح الشباب بالخوض في النقاشات الفكرية في سنٍ مبكرة، وهذا أمرٌ انتشر في الآونة الأخيرة.
فقد نجد شاباً ضعيفاً من ناحية الرصيد العلمي، أو حتى بلا رصيدٍ من علم، نجده يحاول التصدّي لمثل هذه القضايا، فيستمع لهذه الشُبَهِ التي تُلقى في قلبه فتبقى منها رواسب تجتمع ثم تتراكم في قلبه شيئاً فشيئاً، حتى تأتي ساعة لا يجد إلا أن يخضع لمثل هذه الأفكار والآراء. وكم من رجل فاق الناس علماً وتقوى، فإذا به في طرفة عين ينكص على عقبيه، ويتخذ هواه إلهاً من دون الله، والله المستعان.
لقد أصبحت المجالس اليوم كأنها منتديات للمضرّة، يُطرح فيها الغث والسمين، فيتفرق الناس، وقد اكتسبوا ما يضرهم في دينهم ودنياهم، وما يحبط عملهم في أخراهم، فالحجة هي السلاح في مثل هذه المواضع، ومن لا حجة لديه فكأنما دخل معركةً بلا سلاح، فهو هالكٌ لا محالة.
و كم تأثر متأثر نتيجة جهله وإقدامه على مثل هذه الأمور من دون مشورة أو علم، فضلَّ وأضل.
و أخيراً:
هذا جهدي، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من زلل أو خطأ فمن نفسي والشيطان.
أسأل المولى القدير بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يُعز الإسلام والمسلمين، وأن يُمكّن لعباده الصالحين في الأرض، وأن يُصلح أحوالنا، إنه ولىُّ ذلك والقادرُ عليه.
و صلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
==============(5/123)
(5/124)
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة بين حديث القرآن والواقع (1- 3)
فإنّ هناك نماذج من التحديات التي تتعرض لها المجتمعات المسلمة في هذا العصر، وهناك أفكارٌ تُطرح وتمثّل تلوثاً فكرياً خطير الأثر على مجتمعات المسلمين، ذلك أن الإنسان مجهز لاستقبال المؤثرات من حوله والإنفعال بها والاستجابة لها، وكمّا أنّه مستعد بحسب تكوينه الذاتي للرقي والارتفاع، فإنه مستعد كذلك لأن ينحطّ إلى أدنى من دركات الحيوان البهيم، يقول الله تعالى فيمن حادوا عن طريق الهدى وتنكبوا الصراط المستقيم: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ). الأعراف 179.
ومن العوامل المؤثرة في ارتفاع أو هبوط الإنسان ما يتلقى من تربية، وما تشيع البيئة حوله من مؤثرات، وما يشتغل به، ويوجه عبره غرائزه.
ومن أخطر ما يواجهنا في هذا العصر هذه الملوثات الفكرية التي تشكّك في الدين، وتهز الثوابت، وتفسد الأخلاق، وتنشر الرذيلة عبر وسائل الاتصال في وقتنا الحاضر، والتي أُسئ استخدامها أيما إساءة.
وما الحديث عن قضية المرأة التي تثار هنا وهناك، والمطالبة بحريتها المزعومة ونفيها عن أسباب الصيانة إلا أحد الأبواب الواسعة لإشاعة الرذيلة في المجتمع.
المرأة أمام التحديات:
إنّ المرأة تمثّل ثغراً من ثغور الفضيلة؛ ففي حفظها حفظٌ للفضيلة، وصيانة للنشء، وفي إفسادها إفسادٌ وتضييعٌ للمجتمع.
وإن مما يؤسف له أن كثيراً من هذه الدعوات صار يحمل لواءها بعضُ أبناء المسلمين، وهذا نتيجة للغزو المبكر لبلاد المسلمين، والذي سعى منذ البداية إلى تخريج جيل بعيد عن الدين، قد أُشربَ الولاء للغرب وقيمه وأنماط حياته، وذلك عن طريق المدارس الأجنبية (التنصيرية) التي تفتح في بلاد المسلمين.
جاء في تقرير إحدى اللجان التابعة للمؤتمر التبشيري الذي عقد عام 1910م:
"إن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثيراً على حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوروبا كلها".
وفي هذه المدارس تخرجت أجيال من أبناء المسلمين أو بالأحرى من متعلميهم ومثقفيهم متأثرة بضرب هذا الغزو المنظم، متطلعة إلى الأفق الغربي تستلهمه الرشد وترى فيه النموذج والمثل الأعلى، وتتشرب في نهم أنماط حياته سلوكاً وفكراً، بلا فحص، ولا بصيرة، ولا رأي سديد" .
وإذا أضفنا إلى ذلك البعثات التي كانت تتقاطر على الدول الأوروبية من أبناء المسلمين الذين يستكملون تعليمهم العالي، كانت هذه نهاية المطاف في الإجهاز على بقايا الإسلام في نفوسهم وطباع الشرق وعاداته، حيث لا يرجعون في الغالب إلا وقد تأثروا بوجهة الغرب وفلسفته، وبذلك أصبحوا رصيداً في حساب أعداء الإسلام بالسلوك والتربية والعادات الجديدة.
وقاسم أمين يُعدُّ واحداً من رواد تحرير المرأة في مصر، وهو نموذج لهذا الغزو، يقول د. عبدالستار فتح الله: "قاسم أمين كان نموذجاً لما يمكن للغزو الفكري وللتعليم الأجنبي أن يفعلاه في النفوس من خلع ولائها لأصلها، وفصل مشاعرها عن ظروف أمتها".
والتعليم كان أحد أخطر ميادين الغزو الفكري وأعمقها أثراً، إلا أن ميادين الغزو الفكري تعددت بأسلحته المتنوعة: "الفكرة والكلمة، والرأي والحيلة، والشبهات والنظريات، وخلابة المنطق، وبراعة العرض، وشدة الجدل، ولدادة الخصومة، وتحريف الكلام عن مواضعه" والقصة والصورة والقيم.
ولقد كان لهذا الغزو من الآثار السيئة في زعزعة المسلمين عن دينهم ما لم يستطعه الغزو العسكري على مدى قرون عديدة. وقال سبحانه: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).البقرة 217 .
ومعنى الفتنة في الآية على ما نقل القرطبي عن الجمهور: "فتنة المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا". "وكان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات وبما علم من الإيذاء والتعذيب" .
ولهذا عقّب تعالى على هذا بقاعدة تمثل قانوناً من قوانين الصراع بين الإسلام والجاهلية على مر العصور فقال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).البقرة217.
والقتال المذكور هنا عام يراد به ما وقع فعلاً من أساليب المشركين في محاولة صد المسلمين عن دينهم بالتعذيب والإيذاء أو التضييق عليهم في أرزاقهم أو تشريدهم في البلاد أو ضربهم بالشبهات وأنواع التشكيك، وما هو محقّق الوقوع في الغد القريب من الحرب المسلحة التي شنها المشركون على المسلمين بعد نزول الآيات، ثم ما يشابه ذلك ويشاكله إلى يوم القيامة .
فهذه التحديات التي يُجابه بها المسلمون في هذا العصر طرف من المعركة التي تركت آثار في بلاد المسلمين.
بعض آثار التحديات التي تواجه المرأة المسلمة:
وسأقف هنا مع بعض الآثار البارزة لتلك التحديات:
1- فقدان الهوية:
لكل أمة شخصيتها المميزة التي تتفرد بها عن غيرها، وهذه الشخصية تنبع من العقيدة التي تدين بها الأمة وما يتبع ذلك من خلق ومنهج وسلوك. وكل أمة واعية تحرص على هذا التفرد، وتنأى بنفسها عن أن تكون عرضة لفقد عناصر تميزها، وأن تصير تابعاً ذليلاً لغيرها.(5/125)
والغزو الفكري وعملية التغريب هدفها أن تستسلم الأمة المسلمة للثقافة والحضارة الغربية، فتذوب الشخصية المسلمة وتقبل الفناء والتلاشي في بوتقة أعدائها "بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي، ولا تعجب إلا بما يعجب به الغرب، ولا تعتنق من الأفكار والمناهج إلا ما هو مستورد من الغرب، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام وتتنق هذه الديانة الجديد التغريبية" .
والناظر إلى حال المجتمعات المسلمة يجد وللأسف أن عملية التغريب والغزو الفكري الموجه إلى المجتمعات المسلمة نجحت إلى حد بعيد في محو ملامح تلك الشخصية والعبث بمقوماتها.
والناظر في حال المرأة المسلمة - خاصة - مربية الأجيال وحصن الفضيلة يروعه "فقدان المرأة المسلمة لهويتها الإسلامية وتمييز شخصيتها، وسحب قدر كبير من انتمائها لدينها" . حتى ضمر الفارق في الاهتمامات والممارسات في كثير من بلاد المسلمين بين المرأة المسلمة والمرأة الغربية . ولو أردنا أن نعقد مقارنة بين الملامح البارزة لشخصية المرأة المسلمة في ضوء الضوابط الشرعية، وبين ما آل إليه حال المرأة المسلمة في كثير من بلاد المسلمين لهالنا الفرق وبعد الشقة بين المثال والواقع.
فشعار المرأة المسلمة الظاهر هو الحجاب بالصفة التي حددها الشرع، يقول الله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ). النور 31.
وهذا أمر من الله لنساء المؤمنين أن يلقين بالخمار إلقاءاً محكماً على المواضع المكشوفة؛ وهي الرأس والوجه والعنق والنحر والصدر، خلافاً لما كان عليه نساء الجاهلية من سدل الخمار من ورائها وتكشف ما هو قدامها.
ونهاها تعالى - لكمال الاستتار - عن الضرب بالارجل حتى لا يصوّت ما عليها من حلى فتعلم زينتاه بذلك فيكون سبباً للفتنة بها. قال تعالى: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ). النور: 31. ونهاها الله تعالى عن التبرج فقال سبحانه: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).الأحزاب 33.
والتبرج يكون بعدة أمور:
• يكون التبرج بخلع الحجاب، وإظهار المرأة شيئاً من بدنها أمام الرجال الأجانب عنها.
• ويكون التبرج بأن تبدي المرأة شيئاً من زينتها المكتسبة.
• ويكون التبرج بتثنّى المرأة في مشيتها وتبخترها وترفّلها وتكسّرها أمام الرجال.
• ويكون التبرج بالخضوع بالقول والملاينة بالكلام.
• ويكون التبرج بالاختلاط بالرجال وملامسة أبدانهن أبدان الرجال، بالمصافحة والتزاحم في المراكب والممرات الضيقة ونحوها .
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الخلوة والسفر بغير محرم: "لا يخلونّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم" . "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم لها" .
فما نصيب المرأة المسلمة من هذه الضوابط التي أوجبها الله تعالى عليها؟!.
إن أكثر النساء المسلمات بعيدات كل البعد عما شرع الله تعالى وأوجب عليهن.
لقد صارت المرأة تخرج في كثير من بلاد المسلمين حاسرة الرأس، مكشوفة الصدر والساقين، متزينة متعطرة متبرجة، تخالط الرجال، وتزاحمهم في كل مكان وميدان.
بل قد بلغ ببعضهن النأي عن أوامر الله سبحانه والإمعان في تقليد المرأة الغربية الكافرة إلى حدّ العري على الشواطئ بلا حياء، والأعتى من ذلك والأمرُّ أن بعض النساء تفخر بهذه التبعية والانسلاخ عن أوامر الله وتعدّه تقدماً ومدنية، تقول إحداهن - وهي فتاة تركية - في بعض الموانئ الإنجليزية: "إننا نعيش اليوم مثل نساءكم الإنجليزيات، نلبس أحدث الأزياء الأوروبية، ونرقص وندخن ونسافر وننتقل بغير أزواجنا".
ومن لم تصل إلى هذه الدرجة ولا يزال المكر بها في أول الطريق فقد تدخلت الموضة في عباءتها وحجابها حتى أفقدتها غايتها من الستر والحشمة "وأصبحت العباءة رمز لإبداء الزينة وإظهار الفتنة وإبراز المفاتن والمحاسن. فهناك تفنن في إدخال بعض النقوش والزخارف والتطريزات، وهناك شفافية في نوع القماش وظهور ألوان متعددة على جوانب العباءة وأطرافها، وهكذا أصبحت العباءة رمزاً للموضة والفتنة" . وهذا التدرج في الإخلال بشروط الحجاب طريق إلى نزع الحجاب كما حدث في كثير من بلاد المسلمين، حتى انسلخت المرأة عن دينها وفقدت هويتها الإسلامية.
سئل حذيفة رضي اله عنه: "في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم؟! قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء ركبوه حتى انسلخوا عن دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه).
==============(5/126)
(5/127)
تعب السعداء والأشقياء
الخطبة الأولى
الحمد الذي يعطي من سأله، ولا يخيب من أمّله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ الذي كرمه ربه ونصره، وآزره حين أرسله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على دربه واقتفي عمله وسلم تسليماً، أما بعد.
فاتقوا الله أيها المسلمون:
حقيقة لا يماري فيها أحد، قررها الواحد الأحد، وعنوانها (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَد).
إنها حقيقة مهمّة لا بد أن ندركها، فالحياة الدنيا لا بد فيها من التعب والجهد، يستوي في ذلك المؤمن والكافر، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، وسائر طبقات الناس، فكل منهم له نصيب من التعب والكَبَد.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَد): في مكابدة ومشاقة وجهد وكد، وكفاح وكدح: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ...).
فمنذ اللحظة الأولى للإنسان يبدأ الجهد الأشق والكَبَد الأمر، وكل خطوة بعد ذلك كَبَد وكل حركة بعد ذلك كَبَد، وعند بروز الإنسان كَبَد، وعند انتصاب القامة كَبَد، وعند الخطو الثابت كَبَد، وعند التعلم كَبَد، وعند التفكّر كَبَد، وفي كل تجربة جديدة كَبَد؛ كتجربة الحبو والمشي، ثم تفترق الطرق وتتنوع المشاق؛ فهذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره وهذا يكدح بروحه، وهذا يكدح للقمة العيش، وخرقه الكساء، وهذا يكدح ليجعل الألف ألوفاً، وهذا يكدح لملك أو جاه، وهذا يكدح في سبيل الله، وهذا يكدح لشهوة ونزوة، وهذا يكدح لعقيدة ودعوة، وهذا يكدح إلى النار، وذاك يكدح إلى الجنة، والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه، وهناك يكون الكَبَد الأكبر للأشقياء، وتكون الراحة الكبرى للسعداء.
"كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"، كل الناس يشتغلون ويتعبون - ولكن النتائج والمآلات تختلف، فغادٍ في طاعة الله، تعب في عبادة الله، صرف جهده وهمه في سبيل مرضاة الله، فهذا قد اعتق نفسه. وآخر غادٍ في معصية الله، موبق نفسه بمعصية الله، مهلكها بانتهاك الحرمات والمحرمات، فهذا قد أهلك نفسه وأوبقها.
حقيقة لا تغفل عنها: إذا كنت تتعب في طاعة الله فلا تظنن غيرك في المعصية مرتاحاً، لا يبذل جهداً ولا كداً، فكل ما تراه من تعب السعداء في طاعة ربهم فاعلم أن الأشقياء يتعبون أضعاف أضعافه في المعصية: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ).
إن الكَبَد طبيعة هذه الحياة الدنيا، تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكَبَد في النهاية، فأخسر الخاسرين هو من يعاني كَبَد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكَبَد الأشق الأمر في الأخرى، وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كَبَد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال رحمة الله.
كل في هذه الحياة يغدو ويتعب، وكل يسعى ويشقى، وكل يعمل على شاكلته: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى). والجزاء مختلف، فليس الخير كالشر، و ليس الهدى كالضلال، و ليس الصلاح كالفساد، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى وليس من صدق وآمن كمن كذب وتولى، وإن لكلٍ طريقاً، ولكل مصيراً ولكل جزاء وفاقاً.
(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى). مختلف في حقيقته، مختلف في بواعثه، مختلف في اتجاهه، مختلف في نتائجه، والناس في هذه الأرض تختلف طبائعهم و تختلف مشاربهم و تختلف تصوراتهم، و تختلف اهتماماتهم، هذه حقيقة.
والحقيقة الأخرى بأنه (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ). (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ). وأن "من جعل الآخرة همه جمع الله له شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، و من كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله، و جعل فقره بين عينيه، و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها".
كلٌّ في هذه الحياة يتعب وينصب ويهتم ويغتم، وإنما الهموم على قدر الهمم، فئة في بيت الله تركع مع الراكعين وتذكر الله مع الذاكرين، وأخرى في الشوارع جلوساً في الزوايا، أو دوراناً في الأحياء، فكلا الفئتين تتعب ولكن شتان ما بينهما.
شباب في حلقات القرآن عاكفون على حفظه وتلاوته، حابسون أنفسهم في بيت الله، و آخرون وفي نفس الوقت يمضون أوقاتهم في دوران وجولان وتفحيط وتفريط، فأي الفريقين أهدى إن كنتم تعلمون. (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
فئة تستثمر جوّالاتها فهي ناصبة في توجيه رسائل هادفة، و نصائح مؤثرة وبث مقاطع نافعة، وفئة تقلب الصور الساقطة وترسل الرسائل الهابطة، فتبوء بإثمها وإثم من تأثر بها وضل بسببها: (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ).؟!
لسان شغل بذكر الله وتلاوة كتابه والدعوة إليه، وآخر يفري في أعراض المسلمين، و كلاهما متعب: (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ).(5/128)
قوم يشدون الرحال و يبذلون الأموال ويجهدون الحال دعوةً إلى الله و نصحاً للعباد و محاربة للفساد، وإخراجاً للتائهين من الظلمات إلى النور. وأخرى تبذل جهدها وتنفق أموالها لتصد عن سبيل الله وتنشر الفساد، وتشيع الفاحشة، وتبث الخنا، و كلا الفريقين يتعب، لكن: (هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ).
ما أعظم الفرق بين واقف يصلي، وواقف يتحدث في الشارع!.
ما أعظم الفرق بين من يسهر ويتجافى جنبه عن المضاجع يدعو ربه خوفاً وطمعاً، وبين من يسهر ويمضي ليله في إيذاء العباد وورود موارد الفساد!.
ما أعظم الفرق بين شباب يجاهدون في سبيل الله ويرابطون في الثغور دفاعاً عن الأمة وحرماتها، وشباب تتعلق آمالهم بغانية وزانية ومرقص وحانة!.
ما أعظم الفرق بين من يجلس في المسجد انتظاراً للصلاة وذلكم الرباط، وبين جالس في بيته عاكف على شاشات الفساد وأفلام السفالة والهبوط.
ألا ما أعظم الفرق بين تعب السعداء وتعب الأشقياء التعساء.
ما أعظم الفرق بين من يكدحون ويتعبون في الدنيا ليستريحوا في الآخرة، لأنهم يدركون أن الدنيا كَبَد، ولا راحة للمؤمن إلا عند أول قدم يضعها في الجنة.
وبين قوم يكدحون وينصبون في الدنيا ليلاقوا كدحاً وتعباً أشد في الآخرة: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى).
فئة عملت و نصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة ولم تجد إلا الوبال والخسارة، فزادت مضضاً وتعباً، فهي عاملة ناصبة؛ عملت لغير الله، ونصبت في غير سبيله، عملت لنفسها ولأولادها وتعبت لدنياها وأطماعها، ثم وجدت عاقبة العمل و الكد، وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد، ووجدته في الآخرة سواداً يؤدي إلى العذاب، وهي تواجه النهاية مواجهة الذليل ومع هذا الذل العذاب والألم: (تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً).
و على الجانب الآخر: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ). حين ترى رضا الله عنها وليس أروح للقلب من أن يطمئن إلى الخير ويرضى عاقبته، ثم يراها ممثلة في رضا الله الكريم وفي النعيم: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً).
إن السعداء يتعبون والأشقياء كذلك، ولكن تعب السعداء تعب في طاعة الله ومرضاته، فهم يحصلون على أجر من الله ومغفرة و رضوان، قال صلى الله عليه وسلم "رأيت ربي عز وجل في المنام في أحسن صورة، فقال لي: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟! قلت: الله تعالى أعلم! قال: فوضع الرب تبارك وتعالى يده بين كتفي حتى وجدت بردها في صدري، ثم قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟!. فعلمتُ ما بين السماء والأرض، فقلت: يختصمون في الكفارات، والدرجات، والدعوات، فقال: وما الكفارات؟! فقال: نقل الأقدام إلى الجمعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكروهات...".
فهذه أمور لها مشقة على النفس وتعب، ولكن جعل الله عز وجل فيها كفارة للذنوب.
تعب السعداء: إما تكفير معصية أو رفع درجة كما في الحديث: "من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة " (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ".
أما تعب الأشقياء فتكثير لذنوبهم ومزيد إثم لهم (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ). (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ).
تعب السعداء مُجازَون عليه وإن كان مجرد همّ: "مَنْ همّ بحسنةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنة، ومن همّ بحسنة فعملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف...".
تعب السعداء مثابون عليه وإن لم يعملوه لعذر إذا مرض: " إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً".
تعب السعداء تصحبه لذة و سرور في القلب يجده المؤمن في الدنيا قبل الآخرة مما يؤدي إلى زوال هذا التعب وتحوله إلى نعيم وراحة ولذة وسرور كما قال أحد السلف: "جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة أخرى".
تعب السعداء يعقبه اطمئنان النفس وراحة القلب: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى). (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
تعب السعداء أدرك ثماره في الدنيا قائل السلف: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف".
إنه تعب يثمر سعادة وانشراحاً، لأنه تعب في طاعة الخالق سبحانه، أما تعب الأشقياء فتعب يعقبه الشقاء والكَبَد و التعب لأنه في معصية الله.(5/129)
الشقي يشعر أن تعبه في معصية الله، فإذا انتهى من لذته وذهب شعوره بها بقيت الحسرة في قلبه وأورثه التعب هماً وحزناً.
إن أهنأ عيشة قضيتها …ذهبت لذاتها و الإثم حل
.تعب الأشقياء تعب يعقبه الضيق و الضنك: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). شعور بتأنيب الضمير، شعور بالقلق من آثار الذنب، شعور بالخوف من مصيبة وعقاب على النفس والمال و الأهل والولد. شعور بالذل والانهزامية ويأبى الله إلا أن يذل من عصاه. تخوّف من الأمراض والفضائح و(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ).
تفنى اللذات ممن ذاق صفوتها …من الحرام و يبقى الإثم و العار
تعب السعداء مؤقت ينتهي بفراق هذه الحياة حين يجد الإنسان عند الموت من التثبيت والبشرى بحياة النعيم الدائم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). ثم الجزاء الأعظم حيث: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، و هناك تنسى المتاعب وتتلاشى المصاعب، وينقطع النصب والهم والحزن.
أما الأشقياء فهم على شقاوتهم وتعبهم في الدنيا، يجدون عند الموت من النذر والعلامات على شقاوتهم ما يجعلهم يموتون شرَّ ميتة، ثم يجدون في قبورهم وفي الآخرة من التعب والعناء أضعاف ما لاقوه في الدنيا.
و في الحديث: "يؤتى يوم القيامة بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة فيصبغ في النعيم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت شراً قط؟! هل مر بك بؤس قط؟! فيقول: لا والله يا رب، ما رأيت شراً قط، ولا مرّ بي شدة قط؟! ويؤتى بأشد أهل الدنيا نعيماً من أهل النار فيصبغ في العذاب صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟! هل مر بك نعيم قط؟! فيقول: لا و الله يا رب، ما رأيت خيراً قط، و لا مر بي نعيم قط".
إن السعداء يدركون أن الحياة الدنيا مهما تطل فهي قصيرة، وأن عناء السعداء وتعبهم مهما اشتد فهو محتمل في سبيل الله ما دامت نهايته الموت وعاقبته الفوز والنعيم المقيم، ومن هنا فالسعداء يستقلون كل تعب لقوه في الدنيا في ذات الله حينما يجدون ثوابه و جزاءه: "لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرماً في سبيل الله لحقره يوم القيامة".
تعب السعداء يصحبه من توفيق الله عز وجل وتيسيره ما ينسي الشقاء والعناء؛ فالسعداء تكفّل الله عزّ وجل بدفع كربتهم وإزالة غربتهم.
كم لاقى رسول الله من التعب والعناء في سبيل دعوته، فقيض الله له من ينصره ويؤازره، وكم لاقى دعاة الإسلام من العنت والنصب وكيد الخصوم فنصرهم الله وأيدهم بنصره، وإننا نجد في واقعنا أن كل تعب يبذله الإنسان في سبيل الله فإنه يلقى جزاءه عاجلاً غير آجل، ويقيض الله للعامل من يعينه وينصره ويذهب عنه آثار الهمّ والتعب.
تعب السعداء يصحبه في هذه الدنيا لطف من الله عز وجل بأن يقيض لك من المؤمنين أو غيرهم من يكون لك عوناً على ما تلقاه من جهد و تعب، أما تعب الأشقياء فعناء مسلوب من التوفيق والنصر الإلهي، فإنّ الله عز وجل يسلط بعضهم على بعض، ويسلط عليهم من المؤمنين من يكون سبباً في شقائهم وعذابهم: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ...).
أما الفرق الأكبر فهو ما يلقاه السعداء في قبورهم من النعيم، ثم يلقونه في الآخرة من السعادة والسرور وألوان اللذة مما لا يخطر على بال، وأعظم ذلك النظر إلى وجه الله عز وجل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ).
أما الأشقياء الذين سخروا جهدهم وتعبهم في معصية ربهم، فإن عناءهم لا ينقضي و حسرتهم لا تنقطع، فهم محرومون من النعيم، و يقاسون من ألوان العذاب ما يقاسون حتى إنهم يطلبون أقل المطالب: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ). (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ).
هذا هو الفرق الأعظم: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) حينئذ تهون عند السعداء كل التضحيات، وتهون كل متاعب الدنيا مهما عظمت ما دامت نهايتها سعادة لا تنقضي ونعيماً لا يزول.
هذا هو الفرق بين السعداء الذين تعبوا في مرضاة ربهم وطاعته، فهم سعيدون في الدنيا بطاعة الله وبلذة المناجاة وبالأنس بقرب الله، سعيدون بما يلقون من الأذى في سبيل الله، وبما يجدون من التعب في طاعة الله، سعيدون بكل معاني السعادة، سعيدون عند الموت بالبشرى، سعيدون في قبورهم بما يلقون من النعيم، سعيدون عند البعث، سعداء بعد الحساب، و هذا هو جزاء المؤمنين الذين قرروا أن يقضوا حياتهم على وفق ما يرضي الله عز وجل وإن تعبوا ونصبوا وحرموا أنفسهم من اللذات.
أما الأشقياء فقد شقوا في الدنيا بالتعب في معصية الله، أشقياء في أجسامهم، في قلوبهم، أشقياء عند موتهم، في قبورهم، عند البعث، عند الحساب، وبعد الحساب: (جَزَاء وِفَاقاً). (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ).(5/130)
هذا هو الفرق بين تعب السعداء وتعب الأشقياء، فإنّ الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير، فليس مثله طمأنينة بال وارتياحاً للبذل واسترواحاً بالتضحية، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين أو للانطلاق من هذه الأثقال ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض. والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل شهوة ونزوة: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ).(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ).
نسأل الله تعالى أن يسخرنا لطاعته وأن يستعملنا في مرضاته وأقول هذا القول، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة السلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
وثمة فرق حاسم بين تعب السعداء و تعب الأشقياء نلحظه من خلال قراءة التاريخ و مشاهدة الواقع.
تعب السعداء تحفه عناية الله وتوفيقه وبركاته، فالسعداء في معية الله، ومن كان الله معه كان التوفيق والتسديد يلاحقه.
انظر إلى أعمال الصالحين وميادين الخير ومجالات البر والإصلاح، قليل مقدارها، عظيمة آثارها.
يدخل الداعية إلى مدينة أو قرية فما يفارقها حتى يُخرجَ جماً من أهلها من الظلمات إلى النور رغم قلة إمكاناته و عف قدراته.
انظر إلى الحلقات القرآنية و لدور النسائية كم نفع الله بها؟! وكم خرّجت من حفظة و حافظات وصالحين و صالحات؟! رغم قصر عمرها، وقلّة مواردها، ورغم الحملة الجائرة عليها لتشويه سمعتها وتحجيم دورها.
انظر إلى جمعيات البر وهيئات الإغاثة ومستودعات البر؛ كم استفاد منها من بائس و كم تعفف بها من فقير وكم فرج بها من مكروب؟!.
انظر إلى جهود الدعاة في أدغال أفريقيا يسلم على أيديهم الآلاف بجهد قليل و مال يسير و زمن قصير؟!.
انظر إلى جهود المصلحين، كم استقام على أيديهم من منحرف؟! و كم صلح بجهودهم من فساد؟! رغم ضراوة الخصوم وشدة مكر الأعداء واشتداد الغرائز وهيجان الشهوات.
إنه تعب السعداء، تظهر آثاره وتتجلى ثماره في الوجود فيسعد به العاملون ويتحول العناء إلى هناء، ويصبح التعب لذة و حبوراً.
أما الأشقياء فيكدحون ويتعبون، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).
لقد كانت غايتهم من إنفاق أموالهم الصد عن سبيل الله، فسيخسرون أموالهم، ثم تصير نفقتهم ندامة عليهم، وكما قال ابن جرير؛ أموالهم تذهب و لا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، لأن الله معل كلمته وجاعل كلمة الكفر هي السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ثم إلى جهنم يحشرون، فأعظم بها من حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك، أما الحي فخرُب ماله، وذهب باطلاً في غير نفع ورجع مغلوباً مقهوراً محروماً مسلوباً، وأما الهالك فقتل وسلب وعجل به إلى نار الله يخلد فيها.
تأمل حال الذين يحاربون الدعوة ويضعون العقبات لمواجهة الدعاة، ويقفون حجر عثرة أمام معالم الخير ومواطن الإصلاح ستجدهم من أتعس الناس وأكثرهم شقاوة.
ترى أحدهم يلهث ويلهث حتى لا تظهر للدعوة كلمة أو ترتفع لها راية، يسهر ليله و يشفي نهاره وينفق ماله في الكيد و المكر لعله ينجح في وأد كلمة خير أو يفلح في نشر رذيلة تبعد الناس عن حياض الفضيلة.
إن من الناس من يستغل كل إمكاناته العقلية وقدراته المالية في تزيين الباطل وتلميعه بشتى ألوان الزينة والإغراء، يريد إضلال الناس وتجهيلهم وإبعادهم عن الهدى، ومن ثَمّ فإن وجهه يتمعّر وجهه غضباً حينما يرى كلمة الحق قد أينعت وآتت أكلها، فلا يهدأ له بال أو يطمئن له حال حتى يفسد تلك الثمار بكل تشنج واضطراب.
مساكين هؤلاء القوم فإن الحسرة تحيط بهم من كل مكان!.
مساكين هؤلاء القوم يظنون أنهم بكلمة عوراء، أو عصا غليظة، أو جحور مظلمة سوف يقضون على شجرة التوحيد، ويقطعون أغصان الفضيلة، وما دروا أن الله متم نوره و مظهر دينه، و ناصر أولياءه.
مساكين هؤلاء القوم الذين اغتروا بجبروتهم، وانتفشوا بغرورهم، و ما دروا أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن الزبد يذهب جفاء وأن الباطل كان زهوقا.
ألا فليعلم دعاة التغريب وأرباب الشهوات وحملة راية الفساد أن تعبهم ستعقبه الحسرة، وأن سعيهم في تباب.
و بعد أيها المسلمون:
و بعد أن أدركنا فصل ما بين السعداء في تعبهم والأشقياء في نصبهم، من بعد هذا: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ).
أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحاً تحمل عبئك، وتجهد جهدك و تشق طريقك لتصل في النهاية إلى ربك بعد الكد و الكدح والجهاد.(5/131)
أيها الإنسان:
إنك كادح حتى في متاعك، إن لم يكن جهد بدن و كد عمل فهو جهد تفكير وكد مشاعر، الواجد والمحروم سواء.
أيها الإنسان:
إنك لا تجد الراحة في الأرض أبداً، إنما الراحة هناك لمن يقوم لها بالطاعة والاستسلام، التعب واحد في الأرض، والكدح واحد، وإن اختلف لونه وطعمه، أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك، فواحدٌ إلى عناء دونه عناء الأرض، وواحد إلى نعيم يمسح عنه آلام الأرض فكأنه لم يكدح ولم يكدّ.
يا أيها الإنسان:
ألا فاختر لنفسك ما يليق بعقلك وإنسانيتك، اختر لنفسك الراحة من الكدح عندما تلقاه.
يا أيها الإنسان:
اجعل كدك وكدحك وتعبك فيما يرضي ربك لكي تحاسب حساباً يسيراً، وتنقلب إلى أهلك مسروراً.
و احذر أن تكون من الوجوه الخاشعة العاملة الناصبة التي تصلى ناراً حامية، والتي تدعوا ثبوراً، لأنها عملت لغير الله ونصبت في غير سبيل الله، ثم وجدت عاقبة العمل والتعب، وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد، ووجدته في الآخرة سواداً يؤدي إلى العذاب.
اللهم اجعل سعينا في مرضاتك، و كدحنا موصلاً إلى جناتك.
اللهم صلي و سلم على سيدنامحمد صلى الله عليه وسلم .
==============(5/132)
(5/133)
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة بين حديث القرآن والواقع (1- 3)
فإنّ هناك نماذج من التحديات التي تتعرض لها المجتمعات المسلمة في هذا العصر، وهناك أفكارٌ تُطرح وتمثّل تلوثاً فكرياً خطير الأثر على مجتمعات المسلمين، ذلك أن الإنسان مجهز لاستقبال المؤثرات من حوله والإنفعال بها والاستجابة لها، وكمّا أنّه مستعد بحسب تكوينه الذاتي للرقي والارتفاع، فإنه مستعد كذلك لأن ينحطّ إلى أدنى من دركات الحيوان البهيم، يقول الله تعالى فيمن حادوا عن طريق الهدى وتنكبوا الصراط المستقيم: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ). الأعراف 179.
ومن العوامل المؤثرة في ارتفاع أو هبوط الإنسان ما يتلقى من تربية، وما تشيع البيئة حوله من مؤثرات، وما يشتغل به، ويوجه عبره غرائزه.
ومن أخطر ما يواجهنا في هذا العصر هذه الملوثات الفكرية التي تشكّك في الدين، وتهز الثوابت، وتفسد الأخلاق، وتنشر الرذيلة عبر وسائل الاتصال في وقتنا الحاضر، والتي أُسئ استخدامها أيما إساءة.
وما الحديث عن قضية المرأة التي تثار هنا وهناك، والمطالبة بحريتها المزعومة ونفيها عن أسباب الصيانة إلا أحد الأبواب الواسعة لإشاعة الرذيلة في المجتمع.
المرأة أمام التحديات:
إنّ المرأة تمثّل ثغراً من ثغور الفضيلة؛ ففي حفظها حفظٌ للفضيلة، وصيانة للنشء، وفي إفسادها إفسادٌ وتضييعٌ للمجتمع.
وإن مما يؤسف له أن كثيراً من هذه الدعوات صار يحمل لواءها بعضُ أبناء المسلمين، وهذا نتيجة للغزو المبكر لبلاد المسلمين، والذي سعى منذ البداية إلى تخريج جيل بعيد عن الدين، قد أُشربَ الولاء للغرب وقيمه وأنماط حياته، وذلك عن طريق المدارس الأجنبية (التنصيرية) التي تفتح في بلاد المسلمين.
جاء في تقرير إحدى اللجان التابعة للمؤتمر التبشيري الذي عقد عام 1910م:
"إن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثيراً على حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوروبا كلها".
وفي هذه المدارس تخرجت أجيال من أبناء المسلمين أو بالأحرى من متعلميهم ومثقفيهم متأثرة بضرب هذا الغزو المنظم، متطلعة إلى الأفق الغربي تستلهمه الرشد وترى فيه النموذج والمثل الأعلى، وتتشرب في نهم أنماط حياته سلوكاً وفكراً، بلا فحص، ولا بصيرة، ولا رأي سديد" .
وإذا أضفنا إلى ذلك البعثات التي كانت تتقاطر على الدول الأوروبية من أبناء المسلمين الذين يستكملون تعليمهم العالي، كانت هذه نهاية المطاف في الإجهاز على بقايا الإسلام في نفوسهم وطباع الشرق وعاداته، حيث لا يرجعون في الغالب إلا وقد تأثروا بوجهة الغرب وفلسفته، وبذلك أصبحوا رصيداً في حساب أعداء الإسلام بالسلوك والتربية والعادات الجديدة.
وقاسم أمين يُعدُّ واحداً من رواد تحرير المرأة في مصر، وهو نموذج لهذا الغزو، يقول د. عبدالستار فتح الله: "قاسم أمين كان نموذجاً لما يمكن للغزو الفكري وللتعليم الأجنبي أن يفعلاه في النفوس من خلع ولائها لأصلها، وفصل مشاعرها عن ظروف أمتها".
والتعليم كان أحد أخطر ميادين الغزو الفكري وأعمقها أثراً، إلا أن ميادين الغزو الفكري تعددت بأسلحته المتنوعة: "الفكرة والكلمة، والرأي والحيلة، والشبهات والنظريات، وخلابة المنطق، وبراعة العرض، وشدة الجدل، ولدادة الخصومة، وتحريف الكلام عن مواضعه" والقصة والصورة والقيم.
ولقد كان لهذا الغزو من الآثار السيئة في زعزعة المسلمين عن دينهم ما لم يستطعه الغزو العسكري على مدى قرون عديدة. وقال سبحانه: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).البقرة 217 .
ومعنى الفتنة في الآية على ما نقل القرطبي عن الجمهور: "فتنة المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا". "وكان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات وبما علم من الإيذاء والتعذيب" .
ولهذا عقّب تعالى على هذا بقاعدة تمثل قانوناً من قوانين الصراع بين الإسلام والجاهلية على مر العصور فقال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).البقرة217.
والقتال المذكور هنا عام يراد به ما وقع فعلاً من أساليب المشركين في محاولة صد المسلمين عن دينهم بالتعذيب والإيذاء أو التضييق عليهم في أرزاقهم أو تشريدهم في البلاد أو ضربهم بالشبهات وأنواع التشكيك، وما هو محقّق الوقوع في الغد القريب من الحرب المسلحة التي شنها المشركون على المسلمين بعد نزول الآيات، ثم ما يشابه ذلك ويشاكله إلى يوم القيامة .
فهذه التحديات التي يُجابه بها المسلمون في هذا العصر طرف من المعركة التي تركت آثار في بلاد المسلمين.
بعض آثار التحديات التي تواجه المرأة المسلمة:
وسأقف هنا مع بعض الآثار البارزة لتلك التحديات:
1- فقدان الهوية:
لكل أمة شخصيتها المميزة التي تتفرد بها عن غيرها، وهذه الشخصية تنبع من العقيدة التي تدين بها الأمة وما يتبع ذلك من خلق ومنهج وسلوك. وكل أمة واعية تحرص على هذا التفرد، وتنأى بنفسها عن أن تكون عرضة لفقد عناصر تميزها، وأن تصير تابعاً ذليلاً لغيرها.(5/134)
والغزو الفكري وعملية التغريب هدفها أن تستسلم الأمة المسلمة للثقافة والحضارة الغربية، فتذوب الشخصية المسلمة وتقبل الفناء والتلاشي في بوتقة أعدائها "بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي، ولا تعجب إلا بما يعجب به الغرب، ولا تعتنق من الأفكار والمناهج إلا ما هو مستورد من الغرب، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام وتتنق هذه الديانة الجديد التغريبية" .
والناظر إلى حال المجتمعات المسلمة يجد وللأسف أن عملية التغريب والغزو الفكري الموجه إلى المجتمعات المسلمة نجحت إلى حد بعيد في محو ملامح تلك الشخصية والعبث بمقوماتها.
والناظر في حال المرأة المسلمة - خاصة - مربية الأجيال وحصن الفضيلة يروعه "فقدان المرأة المسلمة لهويتها الإسلامية وتمييز شخصيتها، وسحب قدر كبير من انتمائها لدينها" . حتى ضمر الفارق في الاهتمامات والممارسات في كثير من بلاد المسلمين بين المرأة المسلمة والمرأة الغربية . ولو أردنا أن نعقد مقارنة بين الملامح البارزة لشخصية المرأة المسلمة في ضوء الضوابط الشرعية، وبين ما آل إليه حال المرأة المسلمة في كثير من بلاد المسلمين لهالنا الفرق وبعد الشقة بين المثال والواقع.
فشعار المرأة المسلمة الظاهر هو الحجاب بالصفة التي حددها الشرع، يقول الله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ). النور 31.
وهذا أمر من الله لنساء المؤمنين أن يلقين بالخمار إلقاءاً محكماً على المواضع المكشوفة؛ وهي الرأس والوجه والعنق والنحر والصدر، خلافاً لما كان عليه نساء الجاهلية من سدل الخمار من ورائها وتكشف ما هو قدامها.
ونهاها تعالى - لكمال الاستتار - عن الضرب بالارجل حتى لا يصوّت ما عليها من حلى فتعلم زينتاه بذلك فيكون سبباً للفتنة بها. قال تعالى: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ). النور: 31. ونهاها الله تعالى عن التبرج فقال سبحانه: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).الأحزاب 33.
والتبرج يكون بعدة أمور:
• يكون التبرج بخلع الحجاب، وإظهار المرأة شيئاً من بدنها أمام الرجال الأجانب عنها.
• ويكون التبرج بأن تبدي المرأة شيئاً من زينتها المكتسبة.
• ويكون التبرج بتثنّى المرأة في مشيتها وتبخترها وترفّلها وتكسّرها أمام الرجال.
• ويكون التبرج بالخضوع بالقول والملاينة بالكلام.
• ويكون التبرج بالاختلاط بالرجال وملامسة أبدانهن أبدان الرجال، بالمصافحة والتزاحم في المراكب والممرات الضيقة ونحوها .
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الخلوة والسفر بغير محرم: "لا يخلونّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم" . "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم لها" .
فما نصيب المرأة المسلمة من هذه الضوابط التي أوجبها الله تعالى عليها؟!.
إن أكثر النساء المسلمات بعيدات كل البعد عما شرع الله تعالى وأوجب عليهن.
لقد صارت المرأة تخرج في كثير من بلاد المسلمين حاسرة الرأس، مكشوفة الصدر والساقين، متزينة متعطرة متبرجة، تخالط الرجال، وتزاحمهم في كل مكان وميدان.
بل قد بلغ ببعضهن النأي عن أوامر الله سبحانه والإمعان في تقليد المرأة الغربية الكافرة إلى حدّ العري على الشواطئ بلا حياء، والأعتى من ذلك والأمرُّ أن بعض النساء تفخر بهذه التبعية والانسلاخ عن أوامر الله وتعدّه تقدماً ومدنية، تقول إحداهن - وهي فتاة تركية - في بعض الموانئ الإنجليزية: "إننا نعيش اليوم مثل نساءكم الإنجليزيات، نلبس أحدث الأزياء الأوروبية، ونرقص وندخن ونسافر وننتقل بغير أزواجنا".
ومن لم تصل إلى هذه الدرجة ولا يزال المكر بها في أول الطريق فقد تدخلت الموضة في عباءتها وحجابها حتى أفقدتها غايتها من الستر والحشمة "وأصبحت العباءة رمز لإبداء الزينة وإظهار الفتنة وإبراز المفاتن والمحاسن. فهناك تفنن في إدخال بعض النقوش والزخارف والتطريزات، وهناك شفافية في نوع القماش وظهور ألوان متعددة على جوانب العباءة وأطرافها، وهكذا أصبحت العباءة رمزاً للموضة والفتنة" . وهذا التدرج في الإخلال بشروط الحجاب طريق إلى نزع الحجاب كما حدث في كثير من بلاد المسلمين، حتى انسلخت المرأة عن دينها وفقدت هويتها الإسلامية.
سئل حذيفة رضي اله عنه: "في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم؟! قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء ركبوه حتى انسلخوا عن دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه).
==============(5/135)
(5/136)
حرب العقائد والدرس المستفاد
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، له العزة والكبرياء، يحكم مايشاء ويختار، والذين يمارون في عزته أو يتشككون في قدرته أولئك هم الحاسرون.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يديل أمما من الناس على أمم تارة، وقد تكون هذه الإدالة بداية النهاية.ويمتحن آخرين فيسلط عليهم أعداءهم، وقد يجعل الله في ثنايا المحن منحا إلهية، وقد يكون بداية النصير المؤزر على إثر الهزيمة الساحقة.وأشهد أن محمدا عبده ورسوله جاهد في الله حق جهاده وناله وأصحابه من ألوان الأذى من أعدائه مالم يستكينوا معه أو ييأسوا ومازالوا يتضرعون حتى كان النصر والفتح المبين... اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطاهرين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.اتقوا الله معاشر المسلمين، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا } .إخوة الإسلام : المتتبع لتاريخ العلاقات مابين الغرب وشعوب الإسلام يلاحظ حقدا مريرا يملأ صدور الغرب حتى درجة الجنون، يصاحب هذا الحقد خوف رهيب من الإسلام والمسلمين. وهذا الحقد وذلك الخوف! ليس مجرد إحساس نفسي لا ظل له ولا أثر في الوجود، وإنما من أهم العوامل التي تبني وتبلور عليها مواقف الحضارة الغربية من الشعوب المسلمة سياسيا واقتصاديا وإعلاميا وسائر جوانب الحياة ا لأخرى.(5/137)
ولم تعد هذه المقولة مجازفة يطلقها المسلمون... 4، كلا والواقع ينطق والحقائق تشهد، والستار الوهمي يزاح، وكما شهدت أرض البوسنة والهرسك اليوم أبشع جريمة، وأسوأ كارثة في التاريخ المعاصر.. سفكت فيها دماء الأبرياء، أغتصبت النساء، وفصل بين الأبناء والآباء، مات الألأف من الأطفال وحيل بينهم وبين الرضاع.. ولم تنتهي الكارثة رغم سوئها عند هذا الحد فالهوية المسلمة يراد طمسها.. والأرض الخاصة لابد من تقسيمها والملأ يأتمرون ويخططون والسادة يباركون، والمنظمات والهيئات الدولية تحمي وتشرف على المخطط الآثم وتضطلع بمسؤوليتها في الجريمة النكراء، ويلف الصمت أمما أو دولا أخرى لها نصيبها في المغنم أو يكفيها أن يوأد الإسلام المتململ، وتنهى- ولو إلى حين- هذه الصحوة الإسلامية المتجددة.ودونك مذابح المسلمين في الشيشان والطاجيك، وبورما، وتايلند، وكشمير، والفلبين، وفلسطين والعراق وغيرها. وكأن من بنود النظام العالمي الجديد السماح لأي دولة تريد الاستقلال وتقرير حق المصير، أما الإسلام وأما المسلمون فيستثنون من هذه القاعدة ولابد من اضطهادهم والتضييق عليهم وعدم تمكينهم.إنها حرب العقائد بكل ما تحمله الكلمة من معاني ومضامين، وممارسة الاستعمار، ولكن بثوب جديد، وميدان المعركة خير دليل على كشف المؤامرة، وبيان هوية المقاتلين، والتصريحات بعدم السماح لدولة ترفع شعار الإسلام في أوربا لم تعد خافية، والجهود لمحاصر؟ هذه النبتة الإسلامية مسؤولية مشتركة حتى ولو كانوا من بني جلدتهم.أيها المؤمنون وإن من السذاجة والتغفيل أن نتصور حرب العقائد وليدة اليوم، وأن عدواة الغرب لنا معاشر المسلمين نبتت هذه الأيام. كلا.. فالتخطيط قديم، والنية للعداء مبيتة، والتصريحات قديمة وإن رغمت أنوف المخدوعين، وهاكم البينة وإليكم الدليل، يقول (أيو جين روستو) رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية... ومستشار الرئيس جونسن لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967 م: (يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافاث بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية، لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصور مختلفة.. إلى أن يقول: إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي ولاتستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها). فهل بعد هذا من صراحة؟ .إذا كانت هذه سياسة أمريكا فقبلها أوربا وقد قال مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952 م- وليت المسلمين يعون ما يقوله الآخرون عنهتم. يقول هذا المسؤول: ليست الشيوعية خطرا على أوربا فيما يبدو لي، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدا مباشرا وعنيفا هو الخطر الإسلامي. فالمسلمون عالم مستقل كل الإستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع- هكذا يقول الكاتب من وجهة نظره المادية، وإلا فهناك أسباب أخرى لانطلاقة المسلمين الكبرى- انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية، ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ... إلى أن يقول الكاتب: إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافا تاما، فهو حائر، وهو قلق، وهو كارة لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر... إلى آخر ماقال .إخوة الإسلام هذه التصريحات الجلية بالعداوة من جانب، وبالتخوف من الإسلام القادم من جانب آخر إذا انضم إليها الواقع المشهود بتآمر الغرب ووحشيته وتآمره على الإسلام والمسلمين في أرض البوسنة والهرسك مثلا باتت سهاما موجعة وضربة قاصمة للعلمانيين في ديار المسلمين أولئك الذين ما فتأوا ينافحون عن الغرب ومؤسساته ويوهمون أمتهم أن الدول المتحضرة لم تغد تقيم للدين وزنا في سياستها وبرامج تخطيطها، وينبغي- حسب نظرتهم الهزيلة- أن يبقى الدين علاقة شخصية بين الفرد وخالقه، لاعلاقة له بتنظيم أمور الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية وا لاعلامية وسواها. أجل لقد واتت الفرصة لكل مخدوع بشعار العلمنة والتغريب أن يكشف القناع عن عينيه، وأن يسمح لأذنيه بسماع مالم يكن يسمح به من قبل، وستتكشف له الحقائق دون غموض، وهذه راعية العلمنة ومصدرة أفكارها تؤوب إلى ديانتها وإن كانت محرفة، وتتخذ من الدين والمعتقد منطلقا أساسيا لسياستها، وتبقي العلمنة شعارا أجوف تخدع به المساكين، وتصدره بضاعة مزجاة لمن لازال في قلبه مرض من(5/138)
أبناء المسلمين، وإذا سقطت العلمانية وأفلس العلمانيون في ديار الغرب، فلا تسأل عن مصيرها في ديار المسلمين، وربك يحكم مايشاء ويختار، فبالأمس سقطت الشيوعية الشرقية وأذنابها داخل يحميها، واليوم تتهاوى العلمانية الغربية ومؤلسساتها وغدا وبعد غد ستتهاوى بإذن الله كل نحلة ضالة، وسينفضح كل نظام مزور مهما خدع الأبصار برهة من الزمن. ويبقى دين الإسلام دين الله في الأرض منسجما مع نظام الكون كله، ويبقى المسلمون يسبحون بحمد ربهم، ويشاركون غيرهم من مخلوقات الله تسبيحهم. ووعد الله حق، ولكن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وانصتوا لعلكم ترحمون لقوله تعالى {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} .نفعني الله وإياكم بهدي القرآن، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره ولايحمد على مكروه سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد أيها المسلمون فطالما تحدث الغرب ومؤسساته وأذنابه عن الأصولية الإسلامية وعن تطرف المسلمين وتعصبهم وخطرهم، وهاهي الأحداث تكشف بجلاء أين مكمن التطرف وأين يكون العداء، فالغرب لايكتفي برفع شعار الدين راية لحروبهم ومساعداتهم، ولا ينتهي عند حد الدفاع عن الصليب مقابل الهلال، بل- ولفرط تطرفهم- يصرون على الدفاع عن مذاهب النصرانية المتنافرة، ويتفقون على اقتسام الغنيمة بين فصائل الكاثوليك والبروتستانت، والأرثوذكس، ففي الوقت ا لذي تساند (المانيا) وأوربا ا لكاثوليكية (الكروات) يبقى (الصرب) في حماية من روسيا واليابان وبقية الدول التي لاتدين بالكاثوليكية. فهل بعد هذا التطرف من تطرف، وحروب اليوم تذكرنا بالحروب الصليبية السابقة فأين المعجبون بالغرب والمروجون لشعاراته الوهمية من الديمقراطية والحرية والعدالة. وحقوق الإنسان أتراهم اليوم يعيدون حساباتهم، ويعلنون انخداعهم فيما مضى، فينصحون لأنفسهم، ويصدقون مع أمتهم، أم تراهم يراوغون ويخادعون ولاتزال عقدة الشعور بالنقص تصاحبهم، والفتنة بالفكر المستورد تطاردهم.(5/139)
أيها الإخوة المؤمنون وبرغم فداحة ماتسمعون من جرائم تقشعر لهولها الأبدان من أمم الكفر على شعوب الإسلام فالحقيقة الغائبة أكبر، والمخطط أعتى وأقسى، وكل يوم تكشف لنا حقائق وإحصاءات لم تتكشف بالأمس، لن يكون آخرها اكتشاف قبور جماعية لمايقرب من ثلاثة آلاف مسلم ومسلمة من شعب البوسنة ردموا فيها بالجرافات في الأحداث المؤلمة الأخيرة، وأمثال هذه الأحداث تؤكد لنا استمرار العداوة بين المسلمين وأهل الكتاب التي أخبرنا عنها ربنا بقوله {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم... }، وتذكرنا بعدم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، كما قالى تعالى {يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق }.. إلى قوله تعالى {وودوا لو تكفرون }.أمة الإسلام.. ومع الصمت والتخاذل والقعود عن نصرة المسلمين المستضعفين فلن تقف العداوة عند هذا الحد. فالهدف اقتلاع الإسلام من جذوره، والمخطط يشمل المسلمين كلهم، وما أجمل ماقيل (فبعد أن ينجز الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس مهمتهم في أوربا لابد وأن يتطلعوا عبر البحر الأبيض المتوسط صوب أراضي المسلمين ليكملوا مايقوم به اليهود) .فهل نعي حقيقة المؤامرة وحجمها، وهل نتخذ من أساليب الوقاية وأسبابها مانحفظ به على أنفسنا وعقيدتنا ولكن هل نتجاوز مجرد الحديث إلى ما بعده من دروس وعبر، وهل نتجاوز مرحلة البكاء والعويل إلى مرحلة الجد والاستعداد للمستقبل القريب، فنتعاون جميعا وبكل ما أوتينا من قوة للوقوف صفا واحدا في وجه العدو الحقيقي لنا، هل نتجاوز الخلافات الوهمية التي يصنعها المغرضون، هل نتجاوز الحدود المرسومة من قبل المستعمرين لتقطيع أوصال الأمة وإشغالها عن قضاياها المهمة والمصيرية، هل نعود عودة صادقة لكتاب ربنا وسنة نبينامحمد صلى الله عليه وسلم ، وكتابنا أصدق الكتب المنزلة، ونبينا خاتم المرسلين، في وقت عاد فيه الآخرون إلى كتبهم المحرفة ودياناتهم المنسوخة؟ هل نحافط على طاقاتنا؟. إن عالم اليوم لامكان فيه لمن يعيش بدون هوية، وإذ تشبث اليهودي والنصراني والبوذي وسواهم بعقائدهم أفيليق بنا معاشر المسلمين أن نعيش هملا نقتات على موائد الآخرين، ونستطعم منهم وكأننا حفنة من المساكين... أين العزة بالإسلام..، أين الغيرة للقرآن وأين نضع خيريتنا وشهادتنا على الأمم بنص القرآن{كنتم خير أمة أخرجت للناس} {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس..} .أن من واجبنا أن ندعم كل مبادرة خيرة صادقة للتضامن مع شعب البوسنة والهرسك، على أن لايتوقف هذا الدعم، وذلك التضامن حتى ينتصر المضطهدون، ويفضح المعتدون، وأن يشمل هذا الدعم والمساندة بقية المسلمين المضطهدين في أنحاء الأرض. إن على وسائل الإعلام بقنواتها المختلفة وفي عالمنا الإسلامي كله، مسؤولية توعية الشعوب بحقيقة المؤامرة، وشراسة الهجمة، والهدف من وراء اللعبة، ولاينبغي أن نقل مصداقية إعلام عن إعلام الغرب حين يشوهون صورتنا ونحن المسلمون المضطهدون ويلهبون مشاعر شعوبهم ضدنا وهم الكفرة المعتدون؟. ومع ذلك كله فينبغي أن لانقف عن حدود التوعية المبرمجة لقضايانا مع أهميتها، ولانكتفي بمجرد المساندة المالية للمضطهدين مع مسيس الحاجة إليها، بل لابد من التفكير بربط علاقات ثقافية مع الشعوب المسلمة يحكمها الإسلام، ولابد من إقامة علاقات اقتصادية مع الشعوب المسلمة لايكون الربح المادي هدفها، بل تهدف إلى إيجاد فرص اقتصادية يستغني بها المسلمون عن استجداء الآخرين. ولابد من تعاون عسكري جاد في محيط الأمة المسلمة، تتقلل منه في البداية عن معونات الأمم الأخرى وتستغني به مستقبلا عن أي صفقة أخرى لاتعطى حتى تؤخذ تنازلاث تقايضها، أو تعطى صراحة لفتة وتحرم أخرى كما يجري اليوم مع المسلمين البوسنة و الصرب النصارى.وحين نصدق مع ربنا، ونتمثل إسلامنا فلن يضرنا كيد الكائدين {إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } ولن يستطيعوا إطفاء نور الإسلام {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} . والله غالب على أمره.
============(5/140)
(5/141)
الحب في الله والبغض في الله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد .
فإن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان ، وتحقيقه في واقعنا هو المقياس الشرعي السديد تجاه الناس بشتى أنواعهم ، والحب في الله والبغض في الله هو الحصن الحصين لعقائد المسلمين وأخلاقهم أمام تيارات التذويب والمسخ كزمالة الأديان والنظام العالمي الجديد والعولمة ونحوها .
ومسائل هذا الموضوع كثيرة ومتعددة ، وقد عُني العلماء قديماً وحديثاً بتحريرها وتقريرها ، لكن ثمت مسائل مهمة - في نظري - تحتاج إلى مزيد بحث وتحقيق وإظهار .
منها : أن الحبّ في الله تعالى والبغض في الله متفرع عن حب الله تعالى ، فهو من لوازمه ومقتضياته ، فلا يمكن أن يتحقق هذا الأصل إلا بتحقيق عبادة الله تعالى وحبّه ، فكلما ازداد الشخص عبادة لله تعالى وحده ازداد تحقيقاً للحبّ في الله ، والبغض في الله ، كما هو ظاهر في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام ، وهو أظهر في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
ومنها: أن الحبّ في الله والبغض في الله له لوازم ومقتضيات ، فلازم الحب في الله : الولاء ، ولازم البغض في الله : البراء ، فالحب والبغض أمر باطن في القلب ، والولاء والبراء أمر ظاهر كالنصح للمسلمين ونصرتهم والذب عنهم ومواساتهم ، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وترك التشبه بالكفار ، ومخالفتهم ، وعدم الركون والثقة بهم ، فإذا انتفى اللازم - الولاء والبراء - انتفى الملزوم - الحب والبغض - هذا التلازم بين الحب والبغض ، وبين الولاء والبراء يتسق مع التلازم بين الظاهر والباطن في الإيمان .
ومنها : أن الحب في الله والبغض في الله من أعظم أسباب إظهار دين الإسلام ، وكف أذى المشركين ، بل إن تحقيقه سبب في إسلام الكافرين ، وهاك بعض الأحداث التي تقرر ذلك ، فقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية جملة مما ذكره الواقدي في معازيه وغيره .
فمن ذلك أن اليهود خافت وذلت من يوم قتل رئيسهم كعب بن الأشراف على يد محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - [1]
ويقول شيخ الإسلام : ( وكان عدد من المشركين يكفون عن أشياء مما يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان بن ثابت ، حتى إن كعب بن الأشراف لما ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة ، فيخرجونه من عندهم ، حتى لم يبق بمكة من يؤويه ) [2]
ولما قتل مُحيَّصة - رضي الله عنه - ذلك اليهودي فزجره أخوه حويصة ، قال مُحيَّصة : ( والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربتُ عنقك فقال حويصة : والله إن ديناً بلغ منك هذا لعَجَبُ ن ثم أسلم حويصة ) [3]
ولعل هذه الرسالة المختصرة تحقق شيئاً من هذا الأصل الكبير عموماً ، وتظهر جملة من المسائل المذكورة خصوصاً ، وبالله التوفيق .
المبحث الأول
أهمية الموضوع
قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم - : (( أوثق عرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله )) وفي حديث آخر قال- صلى الله عليه وسلم - : ((من أحق في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله ؛ فقد استكمل الإيمان)) [4] إذاً الحب في الله والبغض في الله ليس إيماناً فحسب ، بل هو آكد وأوثق عُرى الإيمان ، فحري بنا أن نحرص على هذا الأمر .
كان- صلى الله عليه وسلم - يبايع على هذا الأمر العظيم ، فقد جاء عن جرير بن عبد الله البجلي- رضي الله عنه- أنه قال : أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع فقلت : يا رسول الله ، أبسط يدك حتى أبايعك ، واشترط علىّ وأنت أعلم . فقال : (( أبايعك على أن تعبد الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتُناصح المسلمين ، وتفارق المشركين )) [5] .
هذا هو الشاهد ، فهو- صلى الله عليه وسلم - بايع جرير بن عبد الله على أن يناصح المسلمين وهذا هو الحب في الله ، ويفارق المشركين وهذا هو البغض في الله , تفارق المشركين بقلبك وقالبك . بقلبك بأن تبغضهم وتعاديهم كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله ، وتفارقهم بجسدك كما سيأتي الإشارة إلى الهجرة وهي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا لم يكن الشخص مستطيعاً أن يظهر دينه في بلاد الكفر وكان قادراً على الهجرة ؛ فإذا اجتمع الأمران تعيّن عليه الهجرة والانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام .
جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- لما سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن آيات الإسلام ، فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم - : (( أن تقول أسلمت وجهي لله عز وجل وتخليت، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ثم قال : " كل مسلم على مسلم حرام أخوان نصيران ، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين)) [6](5/142)
فتأمل رحمك الله كيف أنه صلى الله عليه جعل ذلك شرطاً في قبول العمل ، ولا شك أن هذا مقتضٍ البغض في الله لأعداء الله عز وجل من الكافرين والمرتدين . قال شيخ العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله عليهم- : ( فهل يتم الدين أو يقام علمُ الجهاد أو علمُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله ، والمعاداة في الله والموالاة في الله ، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غيرعداوة ولا بغضاء لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل ، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) [7]
الحب في الله والبغض في الله من مكملات حب الله عز وجل وحب الرسو صلى الله عليه وسلم فإن حب الله وحب الرسول من أعظم الفرائض والواجبات وآكدها ، وفي المقابل فإن بغض رسوله أو بغض شيء مما جاء عن الله أو صحّ عن رسول الله فهو من أنواع الردة والخروج عن الملة .
الناظر إلى واقع المسلمين الآن يجد أنهم قد ضيّعوا هذا الأصل ، فربما كان الحب من أجل شهوات فيتحابون من أجل المال ، ويتباغضون من أجل المال ، ويتحابون من أجل القبيلة والعشيرة ويتباغضون من أجلها ، فإذا كان الشخص من قبيلتهم أحبوه ولو كان كافراً ولو كان تاركاً للصلاة مثلاً ، والشخص يبغضونه إن لم يكن منهم أو من عشيرتهم ولو كان أفضل الناس صلاحاً و تقي ، وربما حصل الحب من أجل وطن أو من أجل قومية ، وكل ذلك لا يجدي على أهله شيئاً ، ولا تنفع هذه الصلاة وتلك المودات ؛ فلا يُبتغى بها وجه الله ولا قيمة لها عند الله .
وقد أشار إلى هذا ابن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن فيما معناه : [" من أحب في الله وأبغض في الله ، ووالى في الله وعادى في الله ؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك "] أي إذا أردت أن تكون ولياً من أولياء الله عليك بهذا الأمر .
ثم قال ابن عباس : [" ولن تجد أحدٌ طعمَ الإيمان إلا بذلك ، وقد صارت عامة
مؤاخاة الناس لأجل الدنيا ، وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً "] وصدق- رضي الله عنه- ،فهذا في كتاب الله عز وجل ، قال تعالى : (( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)) (البقرة:166) .
قال ابن عباس ومجاهد : ( المراد بالأسباب هنا : المودات والصلات التي ليست لأجل الله تعالى ) ز
لماذا ؟ لأن الحب في الله والبغض في الله يراد به وجه الله ،والله تعالى هو الباقي سبحانه الدائم ، فلهذا ما كان لله يبقى ، أما ما لم يكن لله فهو يضمحل، فالشخص الذي يحب آخر من أجل الدنيا هذه الرابطة تنتهي وتفني وتتقطع وتجد أن هؤلاء يتعادون .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- : ( والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضاً، وإن كانوا فعلوا بتراضيهم ).
قال طاووس : ( ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلاَّ تفرقا عن تقال، إلى أن قال : فالمخالة إذا كانت على غير مصلحة الاثنين كانت عاقبتها عداوة ، وإنما تكون على مصلحتها إذا كانت في ذات الله ) [8] .
وهذا واقع ؛ فنجد الذين يجتمعون على شر أو فساد - مثلاً - سرعان ما يتعادون وربما فضح بعضهم الآخر .
قال أبو الوفاء بن عقيل ( 513هـ ) رحمه الله : ( إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك ، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة ) .
ثم قال رحمه الله : (عاش ابن الراوندي والمعري عليهم لعائن الله ينظمون وينثرون كفراً ، عاشوا سنين وعُظمت قبورهم واشترت تصانيفهم ، وهذا يدل على برودة الدين في القلب ) .
والآن أيها الإخوة تجدون كثيراً من المجلات والصحف والمؤلفات الساقطة التي تحارب دين الله عز وجل ؛ ومع ذلك ترى الكثير من أهل الصلاة قد انكبوا على شرائها أو الاشتراك فيها .
نحن في زمان حصل فيه تلبيس وقلب للمفاهيم ؛ فتجد بعض الناس إذا تحدث عن الحب في الله والبغض في الله قال : هذا يؤدي إلى نفرة الناس ، يؤدي إلى كراهية الناس لدين الله عز وجل .
وهذا الفهم مصيبة ، فالناس يقون في المداهنة والتنازلات في دين الله عز وجل باسم السماحة ، ولا شك أن هذا من التلبيس، فالحب في الله والبغض في الله ينبغي أن يتحقق ، وينبغي أن يكون ظاهراً ؛ لأن هذا أمر فرضه الله علينا ، ولهذا يقول ابن القيم- رحمه الله- عن مكائد النفس الأمارة بالسوء : [" إنَّ النفس الأمارة بالسوء تُرى صاحبها صورة الصدق وجهاد من خرج عن دينه وأمره في قالب الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم ، وأنه يعرض نفسه للبلاء ما لا يطيق ، وأنه يصير غرضاً لسهام الطاعنين وأمثال ذلك من الشبه "] [9](5/143)
فبعض الناس يقول : لو أحببنا هذا الشخص في الله وأبغضنا فلاناً الكافر أو المرتد لأدّى هذا إلى العداوة وإلى أنه يناصبنا العداء . وهذا من مكائد الشيطان ، فعلى الإنسان أن يحقق ما أمر الله به وهو سبحانه يتولى عباده بحفظه كما قال تعالى : (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) (الزمر:36) وقال عز وجل : (( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)) (الطلاق:3) .
المبحث الثاني
معنى الحب في الله والبغض في الله
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه ( قاعدة في المحبة ) : ( أصل الموالاة هي المحبة كما أن أصل المعادة البغض ، فإنَّ التحاب يوجب التقارب والاتفاق ، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف ) [10]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن- رحمة الله عليهم- : ( أصل الموالاة : الحب ، وأصل المعاداة : البغض ، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة ؛ كالنصرة والأنس والمعاونة وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال ) [11] .
وسئل الإمام أحمد- رحمه الله- عن الحب في الله ، فقال : ( ألا تُحبه لطمع في ديناه) [12]
فمن خلال أقوال هؤلاء الأئمة ونحوهم يتبيّن لنا أن الحب والبغض أمر قلبي ، فالحب محله القلب ، والبغض محله القلب، لكن لا بد لهذا العمل القلبي أن يظهر على الجوارح ، فلا يأتي شخصٌ يقول : أنا أبغض فلاناً في الله ثم تجد الأنس والانبساط والزيارة والنصرة والتأييد لمن أبغضه في الله ! فأين البغض في الله . ... فلا بد أن يظهر على الجوارح ، فلو أبغضنا مثلاً أعداء الله من النصارى ومن اليهود فهذا البغض محلهُ القلب لكن يظهر على الجوارح من عدم بدئهم بالسلام - مثلاً - كما قال- صلى الله عليه وسلم - : (( لا تبدءوا اليهود والنصارى باليهود بالسلام)) أو من خلال عدم المشاركة في أعيادهم ؛ لأن هذه المشاركة من التعاون على الإثم والعدوان ، والله يقول : (( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم)) (المائدة: من الآية2)
وكذلك الحب في الله ، فإذا أحببنا عباد الله الصالحين وأحببنا الأنبياء والصحابة وغيرهم من أولياء الله تعالى ، فهذا الحب في القلب لكن له لوازم وله مقتضيات تظهر على اللسان وعلى الجوارح ، فإذا أحببنا أهل الإسلام أفشينا السلام كما قال عليه الصلاة والسلام : (( ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم )) كذلك النصيحة فعند ما أرى أخاً لي من أهل الإسلام يُقصر في الصلاة كأن يخل بأركانها أو واجباتها فأنصحه فهذا من مقتضى الحب في الله ، فإذا عُدم ذلك فهذا يدل على ضعف الإيمان، فلو وجدنا رجلاً يقول : أنا أحب المؤمنين لكنه لا يسلّم عليهم ، ولا يزور مريضهم ، ولا يتبع جنائزهم ، ولا ينصح لهم ، ولا يشفق عليهم ؛ فهذا الحب لا شك أن فيه دخن ونقص لا بد أن يتداركه العبد .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في فتاويه (( إن الله عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم ، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى ومجوس ومشركين وملحدين ومارقين وغيرهم من ثبت في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم . وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين . وكل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية فإنه تجب محبته وموالاته ونصرته ، وكل من كان بخلاف ذلك فإن يجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة ، فالولاء والبراء تابع للحب والبغض ، والحب والغض هو الأصل ، وأصل الإيمان أن تحبّ في الله أنبياءه وأتباعهم ، وأن تبغض في الله أعداءه وأعداء رسله )) [13]
وقد بيّن أهلُ العلم أن المؤمن تحبُ محبته وإن أساء إليك ، والكافر يجب بغضه وعداوته وإن أحسن إليك .
فالمسلم وإن قصّر في حقك وظلمك فيبغض على قدر المظلمة ؛ لكن يبقى حق الإسلام وحق النصرة وحق الولاية .
ماذا يجب علينا تجاه المسلمين من خلطوا عملاً صالحاً وأخر سيئاً ، فهم ليسوا من أولياء الله الصالحين ، وليسوا من أعداء الله الكافرين ؟
الواجب في حقهم أن نحبهم ونواليهم بقد طاعتهم وصلاحهم ، وفي نفس الوقت نبغضهم على قدر معصيتهم وذنبهم .
فمثلاً : جارك الذي يشهد الصلوات الخمس عليك أن تحبه لهذا الأمر، لكن لو كان هذا الجار يسمع ما حرم الله من الأغاني مثلاً، أو يتعاطى الربا فعليك أن تبغضه على قدر معصيته ، وكلما ازداد الرجل طاعة ازددنا له حبّاً ، وكلما زاد معصية ازددنا له بغضاً .
وقد يقول قائل : وكيف يجتمع الحب والبغض في شخص واحد ؟ كيف أحب الشخص من جانب وأبغضه من جانب ؟
أقول : هذا ميسر ، فهذا الأب ربما ضرب ابنه وآلمه تأديباً وزجراً ، ومع ذلك يبقى الأصل أن الأب يحب ابنه محبة جبلية . فيجتمع الأمران .(5/144)
وكذلك المعلم مع تلاميذه أو الرجل مع زوجته إذا زجرها أو هجرها إذا كان الأمر يقتضي ذلك لكن يبقى الأصل في ذلك محبتها والميل إليها . فإذا كان الشخص يجتمع في إيمان مع ارتكاب محرمات أو ترك واجبات - مما لا ينافي الإيمان بالكلية - فإن إيمانه يقتضي حبّه ونصرته ، وعصيانه يقتضي عداوته وبغضه - على حسب عصيانه .
ومما يبيّن هذا الأمر ما جاء في هدى صلى الله عليه وسلم فقد حقق عليه السلام الأمرين ، والدليل ذاك الرجل الذي يشرب الخمر في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - واسمه عبد الله ، وكان كثيراً ما يؤتى به فيجلد ، فأتي به في أحد المرات فقال أحد الحاضرين : لعنه الله ما أكثر ما يُؤتى به ، فقال عليه السلام : (( لا تلعنه ، أما علمت أنَّه يحب الله ورسوله )) أو كما ورد في الحديث - فمقتضى العداوة والبغضاء أن أقام عليه الحد فجلده ، وفي نفس الوقت أيضاً مقتضى الحب والولاء له أن دافع عنه- عليه الصلاة والسلام- فقال : ((لا تلعنه))
معاودة الكافرين :
هذه المسألة تغيب في هذا الزمان بسبب جهل الناس وتكالب قوى الكفر على إلغاء الولاء والبراء وإلغاء ما يسمى بالفوارق الدينية .
قال الشيخ حمد بن عتيق (ت 1301هـ ) : [" فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أنَّ الله أوجب ذلك وأكد إيجابه ، وحرّم موالاتهم وشدد فيه ، حتى أنه ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر وأبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده "] .
وقال في موضع آخر : " وهنا نكتة بديعة في قوله : (( إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )) (الممتحنة: من الآية4) وهي أن الله قدم البراءة من المشركين العابدين غير الله ، على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله ، لأن الأول أهم من الثاني ، فإنه قد يتبرأ من الأوثان ، ولا يتبرأ ممن عبدها ، فلا يكون آتياً بالواجب عليه ، وأما إذا تبرأ من المشركين ، فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم " [14]
فإذا علم هذا تبين خطأ وانحراف كثير من الناس عند ما يقولون : نتبرأ من الكفر ونتبرأ من عقيدة التثليث عند النصارى ونتبرأ من الصليب ، لكن عند ما تقول لهم تبرؤوا من النصارى . يقولون : لا نتبرأ منهم ولا نواليهم .
لوازم الحب في الله والبغض في الله .
أشرنا إلى أن الحب في الله والبغض في الله عملان قلبيان لكن لهذا الحب لوازم مثل : النصح للمسلمين ، والإشفاق عليهم ، الدعاء لهم ، والسلام ، وزيارة مريضهم ، وتشييع جنائزهم ، وتفقد أحوالهم .
أما لوازم البغض فمنها : ألا نبتدئهم بالسلام ، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وعدم التشبه بهم ، وعدم مشاركتهم في الأعياد - كما هو مبسوط في موضعه .
المبحث الثالث
أحوال السلف الصالح في تحقيق عقيدة الولاء والبراء
يقول أبو الدرداءِ- رضي الله عنه- : ( ما أنصف إخواننا الأغنياء، يحبوننا في الله ويفارقوننا في الدنيا، إذا لقيته قال : أحبكَ يا أبا الدرداء ، فإذا احتجت إليه في شيءٍ امتنع مني ) [15]
ويقول أيوب السيختياني- رحمه الله- : " إنَّه ليبلغني عن الرجل من أهل السنة أنَّه مات، فكأنما فقدتُ بعض أعضائي " .
وكان أحمد بن حنبل- رحمه الله- إمام أهل السنة، [ إذا نظر إلى نصراني أغمض عينيه ، فقيل له في ذلك، فقال- رحمه الله- : ( لا أقدرُ أن أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه ) [16] .
فانظر - يا رعاك الله - كيف كان تعظيم الله وتوقيره في قلب الإمام أحمد يجعله لا يطيق النظر إلى من افترى على الله وكذب عليه ، وأي افتراء أعظم من مقالة النصارى أن لله ولد - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - قال عمر بن الخطاب في شان النصارى : " أهينوهم ولا تظلموهم ، فإنهم سبُّوا الله تعالى أعظم المسبة " .
وهذا بهلول بن راشد- رحمه الله- من أصحاب مالك بن أنس- رحمه الله- دفع إلى بعض أصحابه دينارين ليشتري به زيتاً ، فذُكر للرجل أن عند نصراني زيتاً أعذب ما يوجد . فانطلق إليه الرجل بالدينارين وأخبر النصراني أنه يريد زيتاً عذباً لبهلول بن راشد ، فقال النصراني : نتقرب إلى الله تعالى بخدمة بهلول كما تتقربون أنتم إلى الله بخدمته . وأعطاه بالدينارين من الزيت ما يعطى بأربعة دنانير، ثم أقبل الرجل إلى بهلول وأخبره الخبر، فقال بهلول : قضيت حاجةً فاض لي الأخرى ، رُدَّ علىّ الدينارين فقال : لم ؟ قال: تذّكرت قول الله تعالى : (( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) (المجادلة: من الآية22) .
فخشيت أن آكل زيت النصراني فأجد له في قلبي مودة فأكون ممن حاد الله ورسوله على عرض من الدنيا يسير [17]
وسئل الإمام أحمد عن جار رافضي ؟ فقال : ( لا تسلم عليه ، وإذا سلم لا يُرد عليه ) [18] .
وكان ابن رجاءٍ من الحنابلة، يهجرُ من باع لرافضي كفنه ، أو غسله ، أو حمله [19](5/145)
ولما كان العزُّ بن عبد السلام في دمشق، وقعَ فيها غلاءٌ فاحش، حتى صارت البساتينُ تباع بالثمن القليل ، فأعطتهُ زوجته ذهباً وقالت : اشرِ لنا بستاناً نصيّف فيه، فأخذ الذهبَ وباعهُ، وتصدق بثمنه، فقالت: يا سيدي اشتريت لنا ؟ قال : نعم بستاناً في الجنة. إنِّي وجدتُ الناس في شدةٍ، فتصدقتُ بثمنه، فقالت المرأة : جزاك الله خيراً [20]
وهذا محمد بن عبدوس المالكي، من علماءِ المالكية، كان في غايةِ النصحِ والإشفاقِ على المسلمين، ففي أحدَ المرات ذهبَ إلى أحدِ أصحابه وعليه جُبَّةَ صوف، وكانت ليلةً شاتيةً، فقال له : ما نمتُ الليلةَ غمّاً لفقراءِ أمة محمد ، ثم قال : هذه مائةُ دينار ذهبا،ً غلةُ ضيعتي هذا العام، أحذر أن تُمسي وعندك منها شيء وانصرف .
دخل أبو الوليد الطرطوشي- رحمه الله- على الخليفة في مصر، فوجدَ عنده وزيراً راهباً نصرانياً، قد سلّم إليه القيادة، وكان يأخذُ برأيهِ، فقال الطرطوشي:
يا أيها الملك الذي جودهُ يطلبهُ القاصدُ والراغب
إنَّ الذي شرفت من أجله يزعمُ هذا أنَّه كاذب [21]
فعندئذٍ اشتد غضبُ الخليفة، فأمرَ بالراهبِ فسُحبَ وضُرب ، وأقبل على الشيخِ فأكرمهُ وعظَّمهُ بعد ما كان قد عزم على إيذائه .
يقول القرافي معلقاً على هذه القصة : " لما استحضر الخليفةُ تكذيب الراهبِ للرسول- صلى الله عليه وسلم - وهو سببُ شرفه ، وشرفَ آبائهِ وأهل الأرض ، بعثهُ ذلك عن البعدِ عن السكونِ إليه والمودة، وأبعدهُ عن منازلِ العزِّ إلى ما يليقُ به من الذلِ والصغار [22]
المبحث الرابع
تنبيهات
علينا أن نفرق بين بغض الكفار ومعاداتهم، وبين البرِ والاقساط ، فبعض الناس يخلطُ بين الأمرين، فيجعل البرَ والعدل مع الكفار محبةً لهم ، وعكسَ بعضُ الناس المسألة، فربما ظلمَ الكافر باسم العداوة له .
فالمتعين أن نبغض الكفار؛ لأنَّ الله أمرنا أن نبغضهم، ولكن لا نظلمهم، فقد قال تعالى : (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الممتحنة:8)
وقال تعالى في الحديث القدسي : (( يا عبادي ، إنِّي حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )) .
يقولُ القرافي في كتابه (الفروق ) لما فرقَ بين مسألةِ بُغضهم، ومراعاةُ البرِ والإقساط قال : " وسرُّ الفرق أنَّ عقد الذمة يوجبُ حقوقاً علينا لهم ؛ لأنَّهم في جوارنا ، فيتعين علينا برُّهم في كل أمرٍ لا يكونُ ظاهرهُ يدل على مودةٍ في القلب، ولا تعظيمِ شعائرِ الكفر، فمتى أدَّى إلى أحد هذينِ، امتنع وصار من قبل ما نهى عنه في الآية " [23]
بعض الناس يقول : نحن إذا بغضنا النصارى وعاديناهم - مثلاً - هذا يُؤدي إلى نفرتهم عن الإسلام وبغضهم له .
وليس الأمرُ كذلك ، فإنَّ الله تعالى أرحمُ الراحمين ، وهو سُبحانه وتعالى أحكمُ الحاكمين، حيثُ شرعَ بُغض الكفارِ وعداوتهم ، فلا يتوهم أن تحقيق شعيرةِ البراءةِ من الكافرين يؤولُ إلى النفرة عن الإسلام ، بل إنَّ الالتزامَ بهذه الشعيرة - وسائر شعائرِ الإسلام - سببٌ في ظهورِ الإسلام وقبوله، كما وقعَ في القرون المفضلة ، " جاء في سيرةِ ابن هشام أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال : (( من ظفر به من رجال يهود فاقتلوه)) فوثب مُحيصةَ بن مسعودِ على ابن سُنَينَة ، رجلٌ من تجارِ اليهود يبايعهم ، فقلتهُ، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم ، وكان أسنّ من محيصة ، فلما قتلهُ جعل حويصةُ يضربهُ ويقول : أي عدوَّ الله أقتلته ؟ أما والله لربَّ شحمٍ في بطنك من ماله ، قال محيصة : فقلتُ له : واللهِ لقد أمرني بقتلهِ من لو أمرني بقتلكَ لضربتُ عُنُقك ، قال : فو الله إن كان لأوّل إسلام حويصة ، قال : آلله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني ؟ قال نعم ، والله لو أمرني بضربِ عنقك لضربتها، قال : والله إنَّ ديناً بلغَ بك هذا لَعجَبٌ ، فأسلم حويصة " [24]
وها نحنُ نرى الكثير من المسلمين - في هذا العصر - وقد ارتموا في أحضانِ الكفار ، وأحبُّوهم وداهنوهم ، ولم يكن ذلك سبباً في إسلامهم ، بل امتهن الكفارُ أولئك القوم ، وزادوا عتوّاً ونفوراً عن الإسلام وأهله .
وأمرٌ آخر : أنَّ تحقيق هذا الأصلِ سببٌ في إسلامهم، كما كان اليهودُ والنصارى يدفعون الجزية للمسلمين عن صغارٍ وذلة، فكان هذا سبباً في أن ينظروا إلى الإسلام، ويسلموا من أجلِ أن تسقط عنهم الجزية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( مثل الآصارِ والأغلالِ التي على أهلِ الكتاب ، وإذلالَ المسلمين لهم، وأخذ الجزية منهم ، فهذه قد تكونُ داعياً له إلى أن ينظرَ في اعتقادهِ، هل هو حقٌّ أو باطل، حتى يتبينَ له الحق ، قد يكونُ مُرغباً له في اعتقادٍ يخرج به من هذا البلاء ، وكذلك قهرَ المسلمين عدوهم بالأسرِ، يدعوهم للنظرِ في محاسن الإسلام ) [25](5/146)
البعضُ يقول : إنَّ الكفار تغيّروا، فليسوا كالكفار الأوائل ، نقولُ : هذا غير صحيح، فالكفارُ هم الكفار، وهم أعداؤنا في القديم والحديث ، والله تعالى ذكر في ذلك حكماً عاماً فقال : (( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً )) ٍ(التوبة: من الآية10) وقال : عز وجل : (( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً)) (التوبة: من الآية8) .
البعضُ يحبُ في الله، ويبغضُ في الله، لكن تكونُ هناك شائبة، فعند ما يتفقدُ نفسهُ يجدها تحبُّ لأجل دنيا أو تبغض لأجل دنيا.
مثال: رجلٌ يقول: أنا أبغضُ فلاناً النصراني في الله، لكن عند ما تبحث في أصلِ البغض تجدهُ يبغضهُ لأجل حظٍ أو أثرةٍ. فينبغي أن يمحصَ الحبُّ في الله والبغضُ في الله، بأن يكون خالصاً لله وحده .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- : ( من أحبَّ إنساناً لكونهِ يعطيهِ فما أحب إلاَّ العطاء ، ومن قال إنَّهُ يحبُ من يعطيهِ لله فهذا كذبٌ ومحالٌ وزورٌ من القول ، وكذلك من أحبَّ إنساناً لكونه ينصرهُ إنما أحب النصر لا الناصر ، وهذا كله من اتباع ما تهوى الأنفس ، فإنَّه لم يحب في الحقيقة إلاَّ ما يصلُ إليه من جلب منفعةٍ أو دفع مضرةٍ ، فهو إنما أحبَّ تلك المنفعة ودفع المضرة ، وليس هذا حباً لله ولا لذاته المحبوب ، وعلى هذا تجري عامةُ محبة الخلقِ بعضهم مع بعض ، لا يُثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم ، بل رُبما أدَّى هذا للنفاقِ والمداهنةِ، فكانوا في الآخرة من الأخلاءِ الذين بعضهم لبعض عدو إلاَّ المتقين . وإنما ينفعهم في الآخرة الحبُّ في الله ولله وحده. وأمَّا من يرجو النفعَ والضر من شخصٍ ثُمَّ يزعمُ أنَّهُ يحبهُ لله، فهذا من دسائسِ النفوسِ ونفاقِ الأقوال "] [26]
المبحث الخامس
التحذير من مشاركة الكافرين في أعيادهم
إن الكثيرين من المسلمين الذين ابتلوا بمخالطة الكفار سواء في بلاد الكفر أو في أعمال ربما شاركوا الكفار في أعيادهم البدعية ، إما في حفلاتهم أو في التهنئة ، وهذا أمر خطير جداً ، فمشاركة الكفار في أعيادهم لا شك في تحريمها على أقل الأحوال وربما أفضت إلى الكفر بالله عز وجل . وقد تحدث أهل العلم عن ذلك وحذروا وأنذروا .
قال تعالى في وصف عباد الرحمن : (( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) (الفرقان: من الآية72)) والزور كما قال بعض المفسرين هو : أعياد المشركين .
والرسولل- صلى الله عليه وسلم - لما قدم إلى المدينة وجد أنهم يلعبون ، فسال عن ذلك فقالوا هذا يومان كنا نلعب في الجاهلية فقال- صلى الله عليه وسلم - : ((قد أبدلكم الله خيراً من ذلك عيد الفطر وعيد الأضحى )) [27]
وكذلك ما جاء في الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - على أهل الذمة وهو ألا يظهروا أعيادهم ؛ لأن الأعياد من جملة العبادات ، فكما لا يجوز أن يظهروا صليبهم ونحو ذلك أيضاً لا يجوز أن يظهروا أعيادهم .
ولهذا تجد أهل العلم في غاية التحذير من هذا الأمر حتى إن بعض علماء الأحناف قال : " من أهدى لمجوسي بيضة في يوم النيروز فقد كفر " .
يقول ابن القيم رحمه الله ( في أحكام أهل الذمة ) : ( وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق ؛ مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول : عيد مبارك عليك ، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات ، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثمناً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس ونحوها . وكثير مما لا قدر للدين عندهم يقع في ذلك ولا يدري قبل ما فعل . فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه) [28]
المبحث السادس
آثار وثمار الحب في الله والبغض في الله
تحقيق أوثق عرى الإيمان كما قا صلى الله عليه وسلم : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله )) .
تذوق حلاوة الإيمان كما جاء في حديث أنس مرفوعاً : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان " وذكر منها r " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله )) [29]
أن من حقق هذا الأصل يرجى أن ينال الوعد الكريم في الحديث : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " وذكر صلى الله عليه وسلم " رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه " .
نيل ولاية الله ، فالعبد لا يكون وليا لله إلا إذا حقق ذلك كما مرّ معنا في قول ابن عباس :[ " من أحب في الله وأبغض في الله ، ووالى في الله وعادى في الله ؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك "] . وقال الله تعالى في الحديث القدسي : (( وما تقرب عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه)) .
السلامة من الفتنة والدليل قوله تعالى : (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)) (لأنفال:73)(5/147)
قال ابن كثير في تفسيره : " أي تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس ، وهو التباس واختلاط المؤمنين بالكافرين ، فيقع في الناس فساد كبير منتشر عريض طويل " [30]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله عز وجل ، فيكون حبه لله ولما يحبه لله وبغضه لله ولما يبغضه لله ، وكذلك موالته ومعاداته " [31]
حصول النعم والخيرات والرخاء ، والدليل قوله تعالى عن الخليل عليه السلام : (( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً ، وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً)) (مريم:49 ، 50) . فهذه النعم العديدة ما تحققت لإبراهيم عليه السلام إلا بعد ما حقق هذا الأصل ، فهذا ظاهر أن اعتزال الكفار سبب لهذه النعم كلها ولهذا الثناء الجميل [32]
خاتمة
وفي ختام هذا الموضوع أؤكد على ضرورة العناية بهذا الأصل علماً وعملاً والتواصي بتحقيقه وتربية الأمة على ذلك ، وأن يجتهد في ببان لوازم الحب في الله بين المسلمين ومظاهره ، وتطبيق تلك اللوازم في حياة المسلمين مثل : تعليم الجاهل ، وتنبيه الغافل ، وإحياء التكافل بين أهل الإسلام ، والتعاون على البر والتقوى ، ونصرة المسلمين وتفريج كُربهم ، والأخذ على أيدي سفهائهم .
كما يجب الحذر من موالاة الكفار بشتى صورها ومظاهرها ، مثل نصرة الكفار وتأييدهم أو محبتهم ، أو الركون إليهم ، أو تقريبهم ، أو التعويل عليهم أو إكرامهم أو اتباع أهوائهم .
إن عقيدة الولاء والبراء هي أكبر ضمان في حفظ الأمة من الذوبان والانجراف في تيار الأمم الكافرة ، لا سيما في هذا الزمان الذي صار العالم قرية واحدة ، فظهرت أنواع المؤثرات والاتصالات كالفضائيات وشبكات ( الانترنت ) ونحوها ، فإن عقيدة الولاء والبراء أعظم حاجز في درء الفتن والسلامة من فتن التغريب والتنصير وسائر الشبهات والشهوات ، ألا ترى أصحاب هذه العقيدة الراسخة - أعنى الولاء والبراء - أنهم أعظم الناس استعلاء بإيمانهم ، وأظهر النفوس عزة كما هو ظاهر في سير الأنبياء عليهم السلام والصحابة رضي الله عنهم والأئمة من بعدهم .
إن أصحاب هذه العقيدة لا يرد عليهم بأي حال من الأحوال الانبهار بالكفار أو التشبه بهم أو الإعجاب بأخلاقهم وأفكارهم ، فأنى للأعلى أن يتشبه بالأدنى !
فأما الذين خلت قلوبهم من هذا الولاء والبراء فهم أصحاب أهواء متبعة وشهوات مستبعدة ، فتراهم ينظرون إلى الكفار بكل استحسان وإكبار كما ينظر الطفل الصغير إلى أبيه ، ألا ترى أولئك الشباب الذين أشربوا حب الكرة وغفلوا عن شعيرة الولاء والبراء أنهم من أجل الكرة يحبون ويوالون ، ومن أجلها يبغضون ويعادون ، فهذا لاعب أو مدرب لفريقهم فهم يحبونه حبّاً جمّاً ،وربما حملوه على أعناقهم ، وتنافسوا في التودد له وإكرامه والاحتفاء به ، وذاك الآخر ليس من فريقهم فربما أبغضوه وكرهوه أشد من اليهود والنصارى !
تأمل حال هؤلاء المنهزمين وانظر حال السلف الصالح الذين كانوا يُعلّمون أولادهم حبّ الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وتأمل حال أبناء السلف الصالح الذين كانوا يرمون جنازة بشر المرسي المبتدع بالحجارة [33]
نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ، ويذل فيه أهل معصيته ، والله المستعان .
[1] الصارم المسلول ( 2/152)
[2] الصارم المسلول ( 2/390)
[3] الصارم المسلول ( 2/185)
[4] أخرجه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة في الإيمان وحسنه الألباني .
[5] أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي وصححه الألباني .
[6] أخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
[7] أوثق عرى الإيمان ( ص 38 ) .
[8] مجموع الفتاوى ( 15/128، 129)
[9] كتاب الروح ( ص 392) .
[10] قاعدة في المحبة ( ص 387)
[11] الدرر السنية ( 2/157) .
[12] طبقات الحنابلة ( 1/57) .
[13] الفتاوى السعدية ( 1/98) .
[14] النجاة والفكاك ( ص 22)
[15] الزهد لابن المبارك ( ص 232)
[16] طبقات الحنابلة ( 1/12)
[17] ترتيب المدارك للقاضي عياض ( 1/337)
[18] طبقات الحنابلة ( 2/14)
[19] طبقات الحنابلة ( 2/57) /
[20] طبقات الشافعية للسبكي ( 214)
[21] الذي شرفت من أجله هو النبي صلى الله عليه وسلم
[22] الفروق ( 3/16)
[23] الفروق ( 3/14)
[24] سيرة ابن هشام ( 2/821 )
[25] جامع الرسائل ( 3/238)
[26] جامع الرسائل ( 2/ 256)
[27] أخرجه أحمد وأبو داود .
[28] أحكام أهل الذمة ( 1/205)
[29] أخرجاه .
[30] تفسير ابن كثير ( 2/216)
[31] الفتاوى ( 10 /601 )
[32] انظر منهاج الصواب ( ص 52)
[33] السنة للخلال ( 5/114 ) .
===============(5/148)
(5/149)
الأندية الرياضية النسائية
ومشاركة المرأة في الدورات الأولمبية
فقد اطلعت على ما نشر في عدد من الصحف حول المطالبة بالأندية الرياضية النسائية، وأن تكون تابعة للرئاسة العامة للشباب ، وأن يكون لها المشاركة في الدوري الرياضي النسائي في كرة القدم والسلة والفروسية والتنس وغيرها ، وأن مجلس الشورى سيناقش مشاركة المرأة في الدورات الأولمبية القادمة (عام 2010) . وقد ذيلت كثير من هذه المطالب بقولهم : "وفق الضوابط الشرعية" . أو : " ولا يوجد مانع شرعي من مشاركة المرأة". ورأيت أن من الواجب الشرعي بيان الحق في هذه المسألة في الآتي :
أولاً : أن إنشاء النوادي النسائية ومشاركة المرأة في الدورات الرياضية المحلية أو الأولمبية محرم شرعاً ؛ فمشاركتها من أعظم وسائل مشروع إفساد المرأة ، ضمن مخطط دعاة التغريب في إبعاد شريعة الله تعالى عن الهيمنة في بلادنا . فكيف يرضى المؤمن أن يكون معيناً لهم في تطبيع المجتمع على تقبل هذا الانحراف
المفسدة الثانية : أن مشاركة المرأة فيما ذكر ينافي القرار في البيت الذي أمرها الله تعالى به إلا لحاجة ، والدوري الرياضي ليس بحاجة شرعية . قال الله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى }( الأحزاب 33). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن صلى الله عليه وسلم قال : "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان " أخرجه الترمذي بسند صحيح . والشاهد في قوله فإذا خرجت ، وهو يفيد أن أول ما يتحقق به ستر العورة هو القرار وعدم الخروج . والمنافقون تعتريهم حالة من القلق والتوتر حين سماعهم لهذه الآية وهذا الحديث .
المفسدة الثالثة : أن مشاركة المرأة فيما ذكر يلزم منه ترك الجلباب الشرعي الذي أمر الله تعالى به في كتابه العزيز ، والجلباب هو الذي يسمى بالعباءة أو الملاءة التي توضع على الرأس. قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } (الأحزاب 59). وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : " لَمَّا نَزَلَتْ ( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ) خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنَ الْأَكْسِيَةِ " أخرجه أبوداود بسند صحيح .
المفسدة الرابعة : أن من لوازم مشاركتها غالباً ، وقوعها في الاختلاط المحرم بالرجال ، والأدلة على تحريم الاختلاط كثيرة جداً ، ومنها :
1. حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والدخول على النساء . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أفرأيت الحمو ؟ قال : الحمو الموت" متفق عليه .
2. حديث ابن عمر رضي الله عنهما - في تحديد باب للمسجد مختص بالنساء - قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " لو تركنا هذا الباب للنساء . قال نافع : فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات " أخرجه أبو داود بسند صحيح .
3. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : " أن النساء في عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول ا صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله فإذا قام رسول ا صلى الله عليه وسلم قام الرجال " أخرجه البخاري . قال ابن شهاب (وهو الزهري ) : "فأرى والله أعلم أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم" . وفي رواية للبخاري تعليقاً بصيغة الجزم أنها قالت :" كان يسلم فينصرفُ النساء ، فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول ا صلى الله عليه وسلم ".
ثانياً : تذييل المطالبة بمشاركة المرأة في الدورات الأولمبية بقولهم : وفق الضوابط الشرعية ، ونحوها من العبارات : نوع من الاستهزاء بالشريعة . وينطلي ذلك على البسطاء والسذج من الناس .
ثالثاً : لا يجوز عرض هذا الموضوع للتصويت في مجلس الشورى ؛ لأن التصويت إنما يكون في المباحات أما موضوع الأندية النسائية ومشاركة المرأة في الدوري الرياضي الأولمبي أو المحلي فهو محرم شرعاً لما فيه ذلك من المحاذير الشرعية الظاهرة . والأمر المحرم شرعاً لا يجوز عرضه للتصويت في مجلس الشورى ولا غيره وإلا لكان تشريعاً من دون الله . ولو فرضنا أن المسألة محل اختلاف بين أهل الاختصاص الشرعي ، فلابد من تحريرها ومعرفة الراجح فيها بالدليل من خلال عرضها على ذوي التخصص الشرعي كهيئة كبار العلماء ، أو اللجنة الدائمة للإفتاء ، أو المجمع الفقهي ، أو الأقسام الفقهية في الكليات الشرعية فإذا ثبت حله جاز التصويت عليه . ومن الخطأ البين أن يكون المقرر للحكم الشرعي هم عوام الناس من كتاب الصحف أو غيرهم . وعليه فإن عرض هذا الموضوع في مجلس الشورى مخالف للشرع ، ومخالف كذلك لنظام مجلس الشورى .(5/150)
رابعاً : أدعو كل من خطت يده ، أو نطق بلسانه في نصرة مطالب دعاة الفساد والتغريب أو مناوأة العلماء والمصلحين ، أو الاستهزاء بالدين ، إلى التوبة إلى الله تعالى ، وباب التوبة مفتوح حتى للمنافقين . وأن يتأملوا قول الله جل وعلا : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً}(النساء147).
خامساً : استعمل بعض المطالبين بتغريب المرأة وسيلة الضغط على المجتمع السعودي بدعواهم أن اللجنة الأولمبية تشترط مشاركة المرأة السعودية لانضمام المملكة للدوري الأولمبي لعام (2010 ) . فلو فرضنا جدلاً صحة هذا الخبر فإنه ليس مسوغاً لمشاركة المرأة ، وإني لأتعجب من أقوام يقبلون بضياع الأعراض ، وترك أوامر الله تعالى في مقابل المشاركة في الأولمبياد .
سادساً : كل مسلمة رغبت أو دعيت إلى ناد أو دوري رياضي ، فلتحذر كل الحذر من المشاركة ، وألا تكون طُعماً يَصطادون به وآلةً يستعملونها في معصية الله ورسوله ، وعليها أن تقدم الخوف من الله جل وعلا على رغبات النفوس ، قال الله تعالى :{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (الأحزاب36). أسأل الله تعالى أن يحفظنا وأن يحفظ علينا بلادنا ونساءنا بالإسلام والحمد لله رب العالمين.
قاله وكتبه : د. يوسف بن عبدالله الأحمد .
أستاذ الفقه المساعد بجامعة الإمام
13/3/1428هـ .
ص ب 156616 الرياض 11778
هاتف وناسوخ 4307275/01
=============(5/151)
(5/152)
المرأة وكيد الأعداء
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا، وصرفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزة واقتدارا، وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذاراً منه وإنذارا، فأتم على من اتبع سبيلهم نعمته السابغة، وأقام بهم على من خالف منهجهم حجته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العلل، وقطع المعاذير، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ }وأرسل رسله مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فقبل نعمة الهداية، من سبقت له سابقة السعادة، وتلقاها بيمين، وردها من غلبت عليه الشقاوة، ولم يرفع بها رأساً بين العالمين، فسبحان من أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة. أحمده والتوفيق للحمد من مننه، وأشكره والشكر كفيل بالمزيد من فضله وكرمه، وأستغفره وأتوب إليه، من الذنوب التي توجب زوال نعمه، وحلول نقمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمةً قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وحجته على عباده، وأمينه على وحيه، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للناس أجمعين، ومحجة للسالكين، وحجة على المعاندين، مشمراً في ذات الله تعالى، لا يرده عنه راد، فلم يزل يصده عنه صاد، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت القلوب بعد شتاتها، وامتلأت به الأرض نوراً وابتهاجاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فصلى الله وملائكته والصالحون من عباده عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد.
عباد الله:
لقد جاء الإسلام إلى هذه المعمورة، والشرك قد خيم، والجهل قد استحكم، والمجتمعات يسودها الفوضى، والناس يظلم بعضهم بعضاً، جاء الإسلام ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ناسخاً للأديان كلها، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً}مقرراً أنه لا دين حق إلا هو {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }؛ ذلك لأنه دين الكمال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}ففيه العقائد الفطرية، التي يوافقها العقل الصحيح، وتسمو بالإنسان عن الخضوع والعبودية لغير خالقه ورازقه، ومالك ضره ونفعه، وموته وحياته، فلا إله غيره ولا رب سواه. وفي الإسلام جماع الأخلاق الفاضلة، التي تهذب النفوس، وتطهرها من كل دنس، فلا يستطيع أحد مهما بلغ علمه، وعظم أمره، أن يجد فيها مطعنا، ينفس فيها عن حقده وضغنه، إلا ارتد عليه سهمه، وأصاب كيده نحره
كناطح صخرة يوماً ليوهنها … فلم يضرها وأوها قرنه الوعل
عباد الله:
إن أهل العقل والعلم، ليسوا بمغرورين ولا مبالغين، في تصور أن وراء كل حدث مؤامرة، ولا من المتوهمين أن خلف كل حديث تآمرة. ولكنهم في الوقت ذاته لن يكونوا من أولئك الذين يسلمون القياد، ويرخون الزمام، لتقودهم أفكار فاسدة، أو تضلهم دعوات ماكرة، أو يسيروا خلف كل ناعقة. وأعداء الإسلام يستغلون كل حدث، ليوظفوه في إصابة الأمة في مقتل. ومن ذلك ما يكاد للمرأة في كل وقت وحين، وفي كل مناسبة وحادثة، وإن المستعرض لهذه القضية، يجد بدايتها على أيدي غير المسلمين،الذين خططوا في خفاء، ونفذوا في دهاء، وجندوا من أبناء هذه الأمة، من فقد اعتزازه بعقيدته، وتمسكه بدينه، وانتماءه لأمته، فصنعوا منهم أبطالاً، وخلعوا عليهم ألقاباً، ليخدعوا بهم المغفلين، ويفتنوا بأقوالهم الجاهلين، ويصدوا بهم الناس عن هذا الدين.
ألقاب مملكة في غير موضعها … كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد(5/153)
وقد لقي المسلمون من كيدهم، وأصابهم من مكرهم، ما أوقع بهم كل فتنة دهماء {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }ويكشف الله جل وعلا عن حقيقتهم بقوله: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } يريدون أن يميل المسلمون ميلا عظيما، عن المنهج القويم، والصراط المستقيم، في تنظيم الأسر، وتطهير المجتمع، وتحديد وظيفة كل من الرجل والمرأة، يريدون أن يطلقوا بينهم الغرائز، من كل قيد وعقال، يريدون أن ينتشر الفساد الجنسي المحموم، بلا حاجز ولا رادع، ذلك الفساد الذي لا يقر معه قلب، ولا يطمئن معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا تقوم معه أسرة، يريدون أن يعود الآدميون قطعاناً من البهائم، ينزو فيها الذكران على الإناث، باسم الحرية، وليست إلا شهوة واستعباد، وباسم الإصلاح و ليس إلا الفساد والإفساد. لقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية، وهو ما تسطره الأقلام الهابطة، وتبثه الأجهزة الموجهة، وتدسه الأفكار الهدامة. فاتق الله يا عبد الله { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }اللهم احفظ علينا ديننا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، الذي وفق أهل طاعته للعمل بلا إله إلا الله، وحقق على أهل معصيته ما قدره عليهم وقضاه، أحمده سبحانه على حلو نعمه ومر بلواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا رب سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن نبينا محمداً، عبده ورسوله النبوة، فطوبى لمن والاه وتولاه.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن ما وصل إليه الأمر، في بعض بلدان المسلمين، من التفسخ والتبذل، لم يحدث دفعة واحدة، وإنما بدأ بدايات بسيطة، خطط لها ودبر، وتداعت لنصرتها وسائل إعلامهم، ووزعوا الأدوار فيما بينهم، فهذا يطرح، وذاك يؤيد، والثالث يحكي الإجماع، يتظاهرون بأنهم للمجتمع من الفساد منقذون، وعلى الاقتصاد حريصون،، وأن غيرهم عاجزون، وأنهم في ذلك مصلحون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ…. } حتى آل الأمر إلى ما آل إليه، فعصفت رياح التغيير، وموجة التغريب بالمجتمع، وتعالت أصوات أهل العلمنة، ودعاة التحرير، وأنشبوا أظفارهم في جسد الأمة، فأكثروا فيها من الجراحات، وكلما خمدت نار فتنة أشعلوا فتيلها، بتصعيد إعلامي، من أقلام مأجورة، وجرأة غير معهودة، فخذوا حذركم، واتقوا الله تعالى في أنفسكم، واستقيموا على طاعة ربكم، واشكروا الله على نعمائه عليكم، وعالجوا الأمر بكل وسيلة ممكنة، على ضوء ما دل عليه كتاب ربكم، وسنة نبيكم ، " من رأى منكم منكراً …" واستشيروا في ذلك من رسخت في العلم قدمه، وعلا في( الخير كعبه، واحذروا مكائد الأعداء، فإنهم لا يبالون في أي أودية الهلاك ألقوكم، ولنعلم جميعا أن ما أصابنا من فتن، إنما هو بسبب ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ… } فعلينا يا عباد الله أن نتوب إلى الله تعالى توبة نصوحا، وأن نطرح بين يديه، مظهرين الفاقة والحاجة إليه، وأن نلح إليه بالدعاء والتضرع بأن يصلح ولاة أمرنا، وأن يرزقنا وإياهم البطانة الصالحة الناصحة، وأن يجنبهم بطانة السوء.فاللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين،اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك، أن نغتال من تحتنا، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء، فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم من أراد نساءنا بتبرج وسفور، ومن خطط لاختلاطهن بالرجال، ومن كاد لنزعهن الحجاب، اللهم فأخرس لسانه، وشل يده، وأعم بصره، وعرضه للمصائب، واجعله عبرة للمعتبرين. اللهم واستر على نساء المسلمين.
==============(5/154)
(5/155)
أورام البناء الثقافي
فحين تنبض الثقافة بهمّ الأمة، وحين تمدّ الأمة الثقافة بمقومات صمودها وعوامل بقائها وأصالة منبتها ونبل مخبرها، وإذا توثَّقت العلاقة بين الطرفين؛ كان ذلك مدعاة لسيادتهما جميعاً، وإذا تهاوت تلك العلاقة فلا بقاء لواحدة دون الأخرى. وحينما يكون للأمة رسالة يحملها مثقفوها عبر أقنية الاتصال لإبلاغها دعوة للخير للعالم أجمع، يعيشون آنذاك حالة من الهمّ والقلق لأجلها. وإذا انتفى ذلك وفضل المثقفون سلك طريق غير معبَّد وأسلوب غير ممهَّد وطريقة ومنهج مرسوم بالعبثية والمصلحة الفردية، عند ذاك يظهر الخلل بين الجذر والساق، بين الأمة والثقافة، فلا الساق بقادر على السمو والعلو، ولا الجذر يستطيع وهبه مقومات شموخه، وتغدو العلاقة حالة من العقوق. وفي هذه الوريقات أضع مبضع الجراح على ورم البناء الثقافي، مستحثة المثقفين والمثقفات لمهمة استئصاله قبل أن يتشعَّب فيهلك الجسم الواهن.
الورم الأول: الفجوة الواسعة بين المثقف المحلي ومطالب ورغبات وهموم وتطور المجتمع، والمعنى المقصود: اتساع المسافة الزمنية بين المراحل التاريخية للتطور الثقافي، وهو أمرٌ قد يُلبس بعض المثقفين التهمة حين يقفزون قفزات واسعة متجاهلين المراحل التي يمرّ بها المجتمع دون وعي بأنَّ قفزاتهم قد تبعد بهم عن أرض الواقع.
الورم الثاني: ضعف الجانب الإبداعي لدى المثقف المحلي، حتى غدت التكرارية والتلقي من الآخرين سمت بعض المثقفين.
الورم الثالث: انتفاء الهمّ الثقافي الذي يدافع عنه المثقف ويسعى لإجلائه، فقد يدور في دائرة من النرجسية والخيالية أو العبثية أو الحداثية وما بعدها، وهذا الانتفاء يجعل مساهمات المثقف هزيلة ضعيفة لا تصمد أمام تيارات العولمة وأعاصير التغريب.
الورم الرابع: وضع حدود بين الثقافة العربية والإسلامية، وهي حدود تدلُّ على ضيق أفق واضعيها في فهمهم الشامل لمفهوم الثقافة الإسلامية؛ ممَّا يؤدي إلى تهميش الأصول الثابتة التي ترتكز عليها الثقافة الإسلامية، وبالتالي تحييد قضية الولاء والبراء.
الورم الخامس: استلهام تجارب وثقافات الآخرين دون غربلة لما ينالنا ويمسّ ثوابتنا، ويدخل في ذلك أيضاً المحاور الثقافية التي يدور حولها النص والمصطلحات والجمل التي تعارض أسسنا وقيمنا.
الورم السادس: سعى بعض المثقفين إلى الإيهام بأنَّ هناك خطاباً أنثوياً خاصاً مع ما يجرَّه ذلك من رفض لصيغ الأمر والنهي الواردة في الشرع، والتي يدخل في محتواها الجنسين؛ إذ طالما ـ في فهمهم ـ أنَّ للأنثى خطاباً يوجه لها، فهي غير ملزمة بالخطاب الآخر، وفي ذلك نكسة وعصيان.
الورم السابع: شعور بعض المثقفين أنَّ العادات والتقاليد عنصر كبح لإبداعاتهم، ولهذا فهم يستغلون الفرص للخروج من إطاراتها إلى عوالم أوسع ومجالات أفسح للتقليد والالتحاق بركب الآخر، حتى وإن قاده ذاك الآخر إلى مصير منبوذ، فلا هو ابن أمته، ولم يشأ الآخر أن يتبناه.
الورم الثامن: عدم إدراك بعض المثقفين للحدود التي يجب أن يقفوا عندها في محاولاتهم التجديدية وكتاباتهم الأدبية والتاريخية، بل وحتى العلمية، فهناك حدود لا تمس وثوابت لا تجس، يجب أن يقفوا عندها؛ فالذات الإلهية والعبادات والقرآن وسيرة الرسول وتراجم الصحابة والتابعين وعاداتنا الأصيلة ولغتنا العربية ليست مجالات للتغيير والتبديل والعبث.
الورم التاسع: حصر مفهوم الثقافة بالدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية، واعتقاد ذلك يُحجم مفهوم الثقافة ويضيّق أفق المثقف الذي هو إنسان مبدع.
الورم العاشر: المثقف مجدد، وهو إذا حمل همّ بيئته كان مفجراً لآمالهم معالجاً لأولادهم. وكثير من المثقفين لا يكونوا مماثلين للنابغة الجعدي أو الذبياني، وإنَّما تبدأ سيرهم الثقافية في صغرهم، فتتولاهم أسرهم رعاية واستنباتاً ورياً حتى تنهض هاماتهم الثقافية وتسمو سوقهم الإبداعية الإيجابية، ولا يتأتى ذلك إلا إذا أدركت أسرهم أنَّ مجتمعاً بلا ثقافة إيجابية أو مثقفين إيجابيين، سيستسلمون بلا وعي تحت وقع الإعجاب بالآخر.
الورم الحادي عشر: استعجال كثير من المبتدئين نشر إنتاجهم دون وعي لمدى نضجهم وكفاءتهم، ومن ثم قد تتلقاهم وسائل الإعلام بالدعاية والتلميع دون أن يكون ذاك المثقف قد حوى تجربة ثرة تمكنه أن يعرضها حيث يشمخ مغزاها ويسمو معناها مثلما يعلو إطارها اللفظي وبناؤها الشكلي.
الورم الثاني عشر: تجاوز بعض المثقفين أطر مجتمعهم، متناسين أنَّ الثقافة نتاج عقول الأمة، وهي أعظم راسم للهوية ومحدد للبناء المستقبل. وبمعنى أدق: كثير من المثقفين يتناسون أنَّ تمايز الثقافات يعني تمايز الأمم، وهو أمرٌ ينعكس على تمايز وجودها على الخارطة التاريخية.(5/156)
الورم الثالث عشر: سعى بعض المثقفين إلى العالمية ولو على حساب غموض تصرفهم وأطروحاتهم وعروضهم، فيفضلون كونهم في هوامش مجتمعهم على أن تكون نصوصهم الثقافية في هوامش العالم، مما يعكس وجود فجوة هائلة بينهم وبين الجماهير، فلا هم الذين أخذوا بيد الجماهير إلى العالمية وفق ثوابت وأصول، ولا هم الذين استطاعوا أن يدخلوا العالمية تحت مظلة ثقافية واضحة قادرة على الصمود. يقول شوقي عبدالأمير: "أنا لا أعترض أن يُقال عن شعري إنَّه شعري نخبوي؛ لأنَّه لديَّ هم في القصيدة، وحتى يواكب هذا الهم أي قارئ يجب أن يكون لديّ حقيبة معينة. أنا لا أعتقد أنَّ مهمتي كشاعر هو تحميس الجماهير أو إرضاؤهم، ولا أظن أنَّ الهدف العميق للشعر هو مواكبة الشعب بكل شيعاته وطوائفه بأحاسيسهم اليومية وعواطفهم المباشرة، هذا صعب في مشروعي الشعري الذي الهدف منه تأسيس رؤيا جديدة للعالم.. نحن مطالبون بأن نأخذ بعين الاعتبار بكتابة نص جديد، وإلا سنظل على هامش العالم، فالشاعر إما أن يقع على هامش المجتمع الذي هو فيه، أو يقع النص الشعري على هامش العالم، أنا أفضل أن أشتغل في هامش المجتمع من أجل نصّ شعري يقع في قلب السؤال الحضاري لا العكس" اهـ. (نقلاً عن: مجلة اليمامة، ع1592 ص266،265). وبعد، فإذا كان ذلك حصيلة فحص مبدئي للبناء الثقافي لجعله صامداً أمام محاولات فرض العولمة الثقافية، فإنني أخلص إلى بعض التوصيات:
* من الضرورة أن يولد المثقف في مجتمع ويرضع من مجتمعه وتنبثق أفكاره منه، وحيث تكون علاقته بالمجتمعات الأخرى والثقافات المغايرة علاقة احتكاك وصقل، لا ذوبان.
* من وظائف المثقف أن يجدِّد نفسه ويكثر من الإطلاع، وأن يُدعم بين جوانحه موضوعاً يُسير أطروحاته ومناقشاته، على أن ينبع ذلك الموضوع من حاجات بيئته.
* مثلما يدافع ساسة فرنسا وبريطانيا عن الثقافتين الفرنسية والإنجليزية من ذوبان بعضهما في بعض؛ يجب أن يقف مثقفونا نفس الموقف من الثقافة الإسلامية، بل إنَّ الأمر يجب أن يتعدى الدفاع إلى عرضها كنموذج خلاص من الضحالة الفكرية التي تفرق العالم، كيف وهي تحوي من مقومات الصمود ما لم يتوفر لغيرها، ومن المتوقع إذا دفعها أبناؤها إلى جدار العولمة أن تكون اللبنة الظاهرة فيه؟
* ضرورة أن يدرك المثقفون عامة، وأصحاب النظريات الثقافية خاصة، أنَّ لهم أن يمارسوا إبداعاتهم التجديدية في كل شيء إلا الثوابت.
* على المسارعين إلى العالمية أن يدركوا أنَّ الأدب الإنجليزي العالمي لم يكن عالمياً، إلا بعد أن ذاب في المحلية الإنجليزية، والأدب الفرنسي العالمي لم يكن عالمياً إلا بعد أن خرج من بوتقة اللغة الفرنسية، أو ليس حرياً بنا أن ندخل العالمية تحت مظلة الثقافة الإسلامية؟
وحفظ الله أمتنا.
==============(5/157)
(5/158)
المسلمون والإدالة عليهم
الخطبة الأولى
الحمد لله العليم الخبير ؛ شَرَع لعباده من الدِّين أحسنه ، واختَار لهم من الشَّرائع أكملها ، فأكمل لهم دينهم ، وأتمَّ عليهم نعمتَه ، ورضيَ لهم الإسلامَ دينا ، نحمده على ما شرعَ وأوجبَ ، ونشكرهُ على ما أعطى وأنعم ، وأشهدُ ألاَّ إلهَ إلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له ؛ خلقَ فأتقنَ الخلقَ ، وحكمَ فأحسنَ الحكمَ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقوله تعالى {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله ؛ أنصحُ الخلقِ للخلق ، وأتقاهُم لله تعَالى ، لا خير إلاَّ دلَّنا عليه ، وأمرنا به ، ولا شر إلاَّ حذَّرنا منه، ونَهانا عنه ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ؛ أسرَع هذه الأمة استجابة للأوامر الربَّانيَّة ، وأشدِّهم التزاماً بالأحكام الشرعيَّة ، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يومٍِ الدين.
أما بعد :
فاتَّقوا الله - أيُّها النَّاس - وأطيعُوه ، واعمَلوا في دنياكم ما يَكون زاداً لكم في أُخراكم ، واعلموا أنَّ الدنيا إلى زَوال ، وأنَّ الآخرةَ هيَ دارُ القرَار ، وأنَّ الموتَ حق ، وأنَّ السَّاعة آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأنَّ الله يبعثُ من في القُبور {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }
أيها الناس:
من دلائِل صِدقِ إيمانِ العَبد ، وسلامةِ قلبِه لله تعالى: الإستسلام لأمرٍِه سبحانه في الأُمور كلِّها ، وتعظيم نُصوص الشَّريعَة ، والوُقُوف عِندها ، وتقديمِِها على أقوال الرِّجال مهمَا كانوا {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }(5/159)
وإنَّما تقع الرِّدة والضَّلال ، ويتَأصَّل الزَّيغ والنِّفَاق في قلبِ العبد إذا عارَض شرع اللهِ تعَالى ؛ تقليداً لغيرِِه ، أو لرأيِ أحدثه ، مُتبعاً فيه هَواه ، مُعرضاً عنْ شرعِ الله سبحانه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }ومع عظيم الأسى ، وشديد الأسف فإنَّ الإعلام المُعاصر في أكثر فضائِياته وإذاعاته ، وصُحُفِه ومَجلاَّته ، يُربِّي المتلقين عنه على التَّمرُّد على أوامِر الله تعالى ، وانتِهاك حُرُماته والإجتِراء على شريعتِه ، في كثير من القضَايا التي يلقيها على النَّاس من سِياسيَّة واقتِصاديَّة ، واجْتماعيَّة وثقافيَّة ، ولا سيَّما إذا كان الحديث عنِ المرأة وقضَاياها.لقدِ اعتاد المتلقون عنِ الإعلام وبشكلٍ يومي ، بل وفي كلِّ ساعة ولحظَة ، اعتادوا على مُشاهدة سُفور النِّساء ، وظُهُورِهنّ بأبَهى حُلَّة ، وأَجمَل زِينَة ، مُتكشِّفَات مُبتسِمات ، مُختلِطات بالرِّجال ، تجلِس المرأة بجِوار الرجل وتُمازٍحه وتُضاحِكه ، أمًام ملايين المُشاهِدين والمُشاهِدات ، ولا هيَ قريبتُه ، ولا هو محرم لها ، وليس بينهما رباط إلاَّ رِباط الإعلام والشَّيطَان ، ولا يكاد يخلو برنامج أو فقرة من رجل وامرأة في الأخبار والحِوار والرِّياضة والسِّياسة ، والأزيَاء والطَّبخ ، بل حتَّى برامِج الأطفَال لا بُد فيها من فتى وفتاة ، وهذه الصورة المُتكرِّرة في كُلِّ لحظَة تَهُون هذا المُنكر العَظيم في نُفُوس المُشَاهدين ، وتُحَوِّلُهُ مِن مَعصِية وعَيب إلى لا شَيء ؛ وتِلك والله مِن الفِتَن التي يُرقِّق بعضُها بعضاً كما جاء في الحديث ، واعتياد النَّاس لهذه المَشاهد الآثِمة يجعل إنكارهم لها ، وانصرَافهم عنها ضعيفاً جداً ، بل لرُبَّما أنَكَر أكثرهم على من ينكرها ، أو ينكر على من يُشَاهدها ، فانقلبت مِن كونِها مُنكراً وباطلاً إلى معروف وحق لا يجوز أنْ يُجَادَل فيه أحد.وهذا التَّهوين للمُنكَر بالفِعل والصُّورة الذي يتَكرَّر في كُلِّ سَاعة ولَحظة ، يُصاحِبه تسويغ له بالكلمة والمَقالة ؛ فينبري أجهلِ النَّاس بالشَّريعة ، وأضعف الخلق ديانة لمناقشة مسائل الحِجَاب والسُّفُور والخَلوَة والإختِلاط ، وسَفَر المَرأة بِلا مَحَرم ، وليس نِقاشهم عِلمِياً موضوعياً لإحقاق حق ، وإبطَال باطِل ، وإنَّما هو نسف للشَّريعة ، وإبطَال للقُرآن والسُنَّة ، وإلغَاء لما سَارت عليه الأُمَّة المُسلمَة في قُرونشها السَّالفة ، وإحلال للقوانين والعَادات الغَربية محل شريعة الله تعالى في التَّعظيم والطَّاعة والإمتِثال باسم الإنفِتاح والرُّقي والتَّقدُّم.ومِن آثار هذا التجييش الإعلامي للباطل ، ونشر تلك الرَّذائِل على أوسع نطاق نرى تَغَيُّراً مستمراً في كثيرٍ منَ بُيوتِ المُسلمين ، يَتجلَّى في مََظاهر عِدَّة ، وأخلاقِ بدِيلة لم يكُن المُسلمُون يعرفونَها قبل هذا الغَزو الإعلامي ، من التَّساهل بالحِجَاب ، وسَفَر الفتاة للدِّراسَة بِلاَ مَحَرَم ، ومُزَاحمة المرأة للرِّجال في العمل ، واختلاطِها بِهِم في كَثير مِنَ المجالات والأعمال ، بلا خجل ولا حياء ، وأهل الفساد يوسعون دائرة الإفساد ليجتاح الأمة بأكملها ، ويأتي على البيوت والأسر كلها ، وإذا لم يسع المسلمون لإيقاف هذه الأمراض التي تفتك بالمجتمعات ، ولم يأخذوا على أيدي دعاة الرذيلة وناشري الفساد ؛ فإنه سيأتي اليوم الذي يفقد فيه الرجل سلطانه على نسائه وبناته ، فيخرجن متى أردن ، ويصاحبن من شئن ، ويفعلن ما يحلو لهن ، كما وقع في كثير من بلاد المسلمين التي غزاها شياطين الإنس بأفكارهم ، ودمروها بمشاريعهم التغريبية التخريبية ، وحينها لا ينفع ندم ولا بكاء على عفة فقدت ، وقد كانت من قبل تستصرخ أهل الغيرة ولا مجيب لها ، ونعيذ بالله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين إن يحل بها ذلك.إنَّ الخطَأ خطأ ولو كثر الواقعون فيه ، وإنَّ المنكر لا ينقلب إلى معروف بمجرد انتشاره ، وهكذا الباطل يبقى باطلا ولو زينه المزورون بزخرف القول ، وروجوه بالدعاية ، والواجب على أهل الإسلام إنكار المنكر ولو كان المتجافي عنه غريبا في الناس، كما يجب عليهم إحقاق الحق ولو أعرض عنه أكثر الناس ، فانتشار الباطل وانتشاء أهله ، وغربة الحق وضعف حملته لا يسوغ السكوت والتخاذل. وإلا غرق المجتمع كله في حمأة الباطل ، وطوفان الرذائل. واختلاط المرأة بالرجال هي القضية الأساس التي يسعى المفسدون لنشرها في المجتمع ، ويستميتون في إقناع الناس بها ، ويوجدون لها المسوغات ، ويجعلونها من الضرورات ، ويعزون كل بلاء في الأمة وتخلف وانحطاط إلى ما ساد من عزل المرأة عن الرجل في التعليم والعمل وغير ذلك. ويعلم المفسدون في الأرض أنهم إن نجحوا في نشر الاختلاط وقهر الناس عليه بقوة القرارات الدولية ، والتَّخويف بالدوّل المستكبرَة ، واستغلالِ نفوذِهم في بلادِ المسلمين ، والتفافشهم على أصحابِ القرارَات والتوصيات ، مما يجعلهم قادرين على إلجاء الناس إليه عمليا في العمل والدراسة ، وفرضه بقوة النظام(5/160)
- وهو ما يسعون إليه بجد وقوة - فإن ما بعد الاختلاط من الإفساد يكون أهون ، والنساء إليه أسرع كالخلوة المحرمة ، وسفر المرأة بلا محرم ، وسفورها وتبرجها ، وعرض زينتها وغير ذلك من الإثم والضلال ، وانتهاك حرمات الكبير المتعال. ولن يوقف ذلك إلا إنكار الناس عليهم ، ورفضهم لمشاريعهم التغريبية ، وكشف خططهم ومآربهم لعامة الناس ، والأمر يعني الجميع ، ولا يختص بأحد دون أحد ، ومن حق الناس أن يسعوا إلى ما فيه حفظ بيوتهم وأسرهم ، وبناتهم ونسائهم من أسباب الفساد والانحراف ، وأن يأخذوا على أيدي المفسدين والمفسدات ، من أتباع الغرب وعباد الشهوات. ومن نظر في شريعة الله تعالى يجد أنها أوصدت كل الأبواب المؤدية إلى الإختلاط ، وسدت الذرائع لذلك ، وحمت المجتمع من الفاحشة والرذيلة بتشريعات ربانية تبقي على المجتمع عفته وطهارته ونقاءه ، واستقامة أسره ، وصلاح بيوته ما دام أفراده قائمين بأمر الله تعالى ، ممتثلين لشرعه ، مستسلمين لنصوص الكتاب والسنة ، ولم يسمحوا للمفسدين أن ينخروا ذلك السياج الرباني بين الرِّجال والنِّساء. يقول الله تعالى قوله سبحانه : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } وهذا الخطاب الرباني لأطهر هذه الأمة قلوبا وهم الصحابة رضي الله عنهم ، وفي أعف النساء وهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، فما بالكم بمن هم دونهم من الرجال ، ودونهن من النساء ؟ { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} فالخالق الرازق سبحانه يأمر في كتابه بالحجاب بين الرجال والنساء والمفسدون يريدون تحطيمه وإزالته. وفي خطاب رباني آخر {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ثم قال سبحانه{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } فلو كان الاختلاط سائغا في الشرع لكان في هذه الأوامر الربانية تكليف بما لا يطاق ؛ إذ كيف تختلط المرأة بالرجل ، وتجلس بجواره في العمل أو الدراسة ، ولا ينظر كل واحد منهما للآخر وهما يتبادلان الأعمال والأوراق والدروس. وذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن من حق الطريق: غض البصر ، فإذا كان غض البصر واجبا على الرجال إذا مرت بمجلسهم في الطريق امرأة ، فكيف يسوغ للمزورين أن يزعموا أن شريعة الله تعالى لا تمانع من اختلاط الرجال بالنساء. وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء ) رواه الشيخان. فكيف إذا بالمكث عندهن وأمامهن وبجوارهن في ساعات العمل كل يوم. بل إن صلى الله عليه وسلم عمل على منع الاختلاط في الطريق أثناء الخروج من المسجد ، وما هو إلا لحظات ، وعقب عبادة عظيمة ، والرجال فيه والنساء من المصلين والمصليات ، وهم وهن أقرب للتقوى ، وأبعد عن الريبة ، فكيف بغير ذلك ؟ روت أم سلمة رضي الله عنها: (أنَّ النِّساء في عهدِ رسولِ ا صلى الله عليه وسلم كنَّ إذا سلَّمن من الصَّلاة قمنَّ وثبت رسولُ اللهِ r ومن صلَّى من الرِّجال ما شاءَ الله فإذا قامَ رسولُ اللهِ r قامَ الرِّجال ) رواه البخاري والنسائي. وذات مرة وقع في الخروج من المسجد اختلاط غير مقصود فبادر عليه الصلاة والسلام إلى إنكاره ، وأوصى بما يزيله؛ كما روى أبو أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم للنساء: استأخرن فأنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به) رواه أبو داود. وفي المسجد منع صلى الله عليه وسلم الاختلاط ؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير صفوفَ الرِّجالِ أولها وشرّها آخرهَا وخيرَ صفوف النِّساء آخرهَا وشرّها أولها) رواه مسلم. والمسجد أجل مكان وأشرفه ، والقلوب فيه متعلقة بالله تعالى، بعيدة عن الفساد والشر ، ومع ذلك حسمت فيه مادة الشر ، وسدت فيه ذرائع الفساد. وفي الطواف بالبيت وهو من أجل العبادات وأشرفها منع الاختلاط ؛ كما أخبر التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى أن النساء فيه لم يكن يخالطن الرجال وقال:(كانت عائشَة رضيَ اللهُ عنها تطوفُ حجرة من الرِّجال لا تخالطُهم)رواه البخاري. ولما وقع في عهد عمر رضي الله عنه شيء من اختلاط الرِّجال بالنِّساء في الطَّواف نهى أنْ يطوفَ الرِّجال معَ النِّساء ، فرأى رجلاً معهنّ فضربه بالدرّة. تلك هي شريعَة اللهِ تعالَى في قضيةِ الإختلاط التي يسعى المُنافقون والشَّهوانيون لإقناع النَّاس أنَّ الإختلاط لا يعارضُ الدِّين ، وأنَّه من أسباب الرُّقي والتَّقدُّم ، كذبوا والله وضلُّوا وأضلُّوا. أفبعدَ هذه النصوص المحكمة الواضحة يليق بالمؤمنين والمؤمنات أن يصدقوا أكاذيبهم ، ويرضوا بمشاريعهم ويستسلموا لإفسادهم ، وإخراجهم لنساء المسلمين وبناتهم ،(5/161)
وقتلهم لحيائهن وإحصانهن وعفافهن ، ويتركوهم ينخروا في المجتمع ، ولا ينكرون ذلك عليهم؟! وقد استبان لهم الحق بأدلته ، وبان لهم الباطل بدجله وعورته ، وماذا بعد الحق إلا الضلال.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ , وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً , يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، ونشكره على فضله وإنعامه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم لقائه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه{وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
أيها الناس:(5/162)
عزل الرِّجال عنِ النِّساء ، واختصاصهنّ بأعمالِ المنزل وحضانة الأطفال ، واختصاص الرِّجال بالعمل والإكتساب هي الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وسارت عليها البشريَّة طوال تاريخها في الشَّرق والغرب ، وعند سائر الأمم ، قبل أن تأتي الحضارة المعاصرة بهذا الضَّلال ومن قرأ تواريخ الحضارات والأمم السَّالِفة أيقن بحقيقة ذلك.ونزلت شرائِع الله تعالى على أنبيائِه ورسله عليهم السَّلام بما يوافِق هذه الفطرَة ، وقد أجمعت الشَّرائع كلها حفظ النَّسل من الإختلاط ، وعلى حفظ المجتمعات من الفساد والإنحلال ؛ ولذا كان الزِّنى محرماً على لسان كل المرسلين عليهم السلام، ويجمع كل العقلاء من البشر على أن الإختلاط أكبر سبب للزِّنى ، كما يجمع البشر على أنَّ الزِّنى سبب للأمراض والطَّواعين التي تفتك بالنَّاس ، والواقع يدل على هذه الحقائِق. ولا يماري في شيء من ذلك إلاَّ جاهل أو مكابر ، فمن دعا للاختلاط ورضيه فهو يدعو للزِّنى وانتشار الفواحش ، وهو يدعو كذلك لنشر الطَّاعون في النَّاس ، وإهلاكِهم به ، شاء ذلك أم أبى ؛ إذ إنَّ هذه الأمراض الخبيثة هي نتاج دعوته الخبيثة.وإن تعجب فعجب لأناس يدعون للإختلاط ، وينشرون الرَّذيلة في النَّاس ، ثمَّ يحذرون من انتشار مرض الإيدز ، فهل هم صادقون في تحذيرهم ؟ وهل يعقلون ما يقولون وما يفعلون؟ وهل هم إلاَّ كمَن يسقي الإنسان سماً ثم يصيح به محذراً إيّاه أنْ يموت ممَّا سقاه. إنَّه لن تجدي المُؤتمرات والنَّدوات والتَّوعية الصِّحيَّة والاجتماعيَّة في التَّخفيف من الأمراض المستعصية ، النَّاجمَة عن الممارسات الجنسيّة المُحرَّمة إذا كان المفسدون يخلطون بين الرجال والنساء ، ويوسعون دائرة الإختلاط يوما بعد يوم ؛ وينشرون في إعلامهم ما يسعر الشَّهوات ، ويدعو إلى الرَّذيلة؛ ولذا نوصيهم ألاَّ يكذبوا على النَّاس ويخدعوهم ، ويحذروهم من انتشار الإيدز ؛ لأنَّهم أكبر سبب من أسبابه حين شرعوا للإختلاط ، وأفسدوا الإعلام ، وفرضوا على الناس آراءهم الفكرية الشهوانية. يقول العلاَّمة ابن القيم رحمه الله تعالى : ولا ريب أنَّ تمكين النِّساء من اختلاطهنّ بالرِّجال أصل كل بليَّة وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامَّة، كما أنَّه من أسباب فساد أمور العامَّة والخاصَّة.. وهو من أسباب الموت العام والطَّواعين المهلكة. ولمَّا اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام، وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفسير ، فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات. وكلام ابن القيم رحمه الله تعالى لا يعجب أهل الشر والفساد ، ودعاة الرذيلة والانحلال ؛ لأنهم مستعبدون في أفكارهم لما يمليه عليهم أهل الحضارة المعاصرة ، ومشربون بحب كتابات الغربيين ، فلا بأس من نقل شيء من أقوال الغربيين من باب قول الله تعالى {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } وحيث إنَّ المفسدين يزعمون أنَّهم بمشاريعهم التغريبية التخريبية ينصرون المرأة ويدافعون عن حقوقها في الاختلاط والفساد فإنني سأنقل بعض أقوال النساء الغربيات حتى نعرف رأيهن في الاختلاط وقد جربنه ، وسبقن نساء العالمين إليه ، ولسن متهمات بأنهن مؤدلجات أو متطرفات ، أو يعشن عصور الظلام والحريم كما يقول المنافقون والمنافقات. تقول الصحفية الأمريكية هيليان ستانبري ( أنصحكم بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم ، امنعوا الاختلاط ، وقيدوا حرية الفتاة ، بل ارجعوا لعصر الحجاب ، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا ، امنعوا الاختلاط ، فقد عانينا منه في أمريكا الكثير ، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعًا مليئًا بكل صور الإباحية والخلاعة ، إنَّ ضحايا الإختلاط يملأون السُجون ، إنَّ الإختلاط في المجتمع الأمريكي والأوروبِّي قد هدّد الأسرة وزلزَل القيَم والأخلاَق ).وتقول كاتبة أخرى: إنَّه لعارٌ على بلادِ الإنجليز أنْ تجعل بناتها مثلاً للرَّذائِل بكثرةِ مخالطةِ الرِّجال . وفي بريطانيا حذَّرت الكاتبة الإنجليزية " الليدي كوك " من أخطار وأضرار اختلاط النِّساء بالرِّجال فقالت: على قدر كثرة الإختلاط تكون كثرة أولاد الزِّنى وقالت: علموهنَّ الإبتعاد عنِ الرِّجال.فهل يبقى لدعاة الإختلاَط والفسَاد قول وقد عارضوا شريعةَ اللهِ تعالَى ، وخالفوا الفطرَة التي فطرَ الله النَّاس عليها، وكذبوا على النَّاس فزوَّروا الحقائِق ، وأخفوا النَّتائِج المخزية للإختلاط في البِلاد التي اكتوت بذلك. حمَى الله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين من المفسدين والمفسدات ، والمنافقين والمنافقات ، وردهم على أعقابهم خاسرين ، إنَّه سميع قريب.اللهم صل على محمد وعلى آل محمد....
==============(5/163)
(5/164)
الإختلاط بوابة الشرور
الخطبة الأولى
أيها الأخوة في الله :
سأحلق بكم في هذه اللحظات ..خارج هذه البلاد ..في رحلة سياحية حول العالم ..لنرى من آيات الله تعالى ..ما يكون لنا عبرة ومدكرا..وآية ومعتبرا .. يقول الله تعالى {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } دولاً غربية ..وأخرى إسلامية ..زرناها ..حتى يكون الحكم في قضيتنا واضحا ..كوضوح الشمس في رابعة النهار ..إنها قضية يستميت دعاة التغريب في بلادنا للمطالبة بها ، وفرضها علينا ..بكل الأساليب ، ومختلف الوسائل ، إنها قضية خطيرة بدأت تنتشر في المجتمع ..كانتشار النار في الهشيم ، إنها قضية الاختلاط بين الرجال والنساء .. وحتى لا يحصل اللباس في الموضوع لابد ندرك جميعاً أن اللقاء الذي يحصل بين الجنسين لقضاء حاجة سريعة كسؤال عابر عن متاع أو استفتاء أو بيع و شراء ، فهذا غير داخل في حديثنا اليوم ..إذا توفرت الشروط الشرعية في لقاء المرأة مع الرجل الأجنبي عنها . إذن سيكون الحديث عن الاختلاط المباشر بين الرجال والنساء غير المحارم مع إمكان التحرز منه وعدم الوقوع فيه ،كالذي يحصل في قاعات الدراسة والعمل في الشركات والمؤسسات والمؤتمرات والندوات .
أيها الأخوة في الله :
قد كنا نتساءل ..هل يمكن أن يكون هناك اختلاط برئ ؟ وهل التجربة التي مرت بها تلك الدول الغربية والإسلامية كانت ناجحة ؟ تقول الصحفية الأمريكية " هِيليان ستانبري" في كشف تجربة المجتمع الغربي للاختلاط بين الرجال والنساء ( .. امنعوا الاختلاط ، فقد عانينا منه في أمريكا الكثير ، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعًا مليئًا بكل صور الإباحية والخلاعة ، إن ضحايا الاختلاط يملئون السجون ، إن الاختلاط في المجتمع الأمريكي والأوروبي ، قد هدد الأسرة وزلزل القيم والأخلاق " .. نعم أيها المسلمون إن للاختلاط آثاره المدمرة ..وأخطاره الموجعة ..ولعلي أعرض لكم نماذج يسيرة من آثاره .. واترك المجال للحقائق و الأرقام هي التي تتكلم ..وتُدلي بدلوها ..وأنت الذي تحكم..
أولاً : للاختلاط آثاره الخطيرة على التعليم ..فقد نشرت مجلة ( المصور) بتاريخ 30مارس 1956 استفتاء أجرته بين طلبة الجامعات المصرية وطالباتها ..جاءت نتيجته أن خمسة وستين % منهم قرروا أن تفكيرهم في الجنس الآخر أثناء الاختلاط يؤثر على دراستهم ، إذ أن ثلاثة أرباع وقت فراغهم يضيع بحثاً عن الحب واللهو ، لذلك يرون إنشاء جامعات خاصة بالبنات ) وتقول ( أسماء فهمي ) من مصر على إثر رجوعها من أمريكا ..: ( إن الأمريكيين يرون الآن أن الاختلاط يشغل الفتيات عن الجد والنشاط العلمي بالملابس والزينة وما إلى ذلك ، مما لا يفكرون فيه عندما يفتقدون الفتيان) وهذا رد منطقي لأولئك الأقوام الذين يطالبون أن نسير مع الغرب حذو القذة بالقذة ، فها هو الشعب الأمريكي المتقدم في نظرهم يبدي رأيه في الاختلاط ..فهل يا ترى يقبلونه أم أنه الهوى يعمي ويُصم ؟!!
أيها المسلمون :(5/165)
هذه بعض المواقف التي تحكي واقع الطلاب والطالبات في المدارس المختلطة : تقول طالبة بكلية الحقوق : إن زميلها الفتى يقضي هذه المرحلة من التعليم مفكراً في جد واهتمام في أقرب طريق لعقد صفقات تعارف مع الطالبات تبرأ منها الزمالة العلمية الحقة ..وقد طلب أحدهم مرة كراسة محاضراتها بدعوى حاجته لنقل ما فاته من الدروس ، ففوجئت به وهو يعيدها إليها وقد دس بين أوراقها رسالة غرام عابث رخيص ..وقالت طالبة أخرى في كلية الآداب :إن بعض زملائها في الكلية لم يأتوا لطلب العلم ، وإنما أتوا ليطلبوا القرب من الطالبات فهم يتأنقون إلى حد مبتذل ويمضغون اللبان ويستعرضون أمام زميلاتهم لغزو قلوبهن !! و أناحت طالبتان أخريان باللائمة على زميلاتهن اللاتي يلطخن وجوههن بمواد الزينة ، وهن في طريقهن إلى الجامعة ، ويرتدين من الملابس الضيقة والخفيفة ما لا يتناسب مع قدسية العلم ، ويحرصن على إحاطة أنفسهن بأكبر مجموعة من الزملاء المعجبين المغرمين ، وقالت السادسة : إنه مما يؤسف له أن بيننا زملاء ما يزالون ـ رغم أنهم في الجامعة ـ أطفالاً فهم يطاردون زميلاتهم إلى بيوتهن ، وينشدون من قصائد الحب والغزل ما لا يرضاه الذوق والخلق !! وهذه المواقف إنما هي إجابة واقعية للذين يقولون الاختلاط يزيل الشعور بعدم الثقة بين الرجل والمرأة ، أو الذين يقولون إن عزل الطلاب عن الطالبات تزمت ورجعية ..يقول محمد الوسمي رحمه الله : ( ذات يوم شاهدت رتلاً من السيارات يواصل سيره إلى مكان معين ، فسألت عن هذه السيارات وهدفها ، فعرفت أنها رحلة جامعية مختلطة ، ركبت سيارتي وتبعت القافلة ،ومازلت أتابعها حتى وصلت إلى نويصيب ، وهنا شاهدت شيئا مؤسفاً ومحزنا ، فقد رأيت الطلبة والطالبات مثنى مثنى ، أي أن كل طالبة وطالب يبتعدان عن محط القافلة ، وينفردان ببعضهما في مكان ناء ..سألت السائق فقال : هذا شيء عادي ويحدث كل مرة ) فأين الذين يقولون : إن التعليم من شأنه أن يرتفع بعقل المرأة والرجل عن مستوى عبث الغرائز ولهو العواطف !! ها هي التجربة تحكي واقعاً مريراً ليس من طلاب وطالبات المرحلة الثانوية ، بل المرحلة الجامعية بل وما بعد الجامعة من أساتذة الجامعات ومثقفي المجتمع ورموزه !!!
ثانياً : أما آثار الاختلاط على الأعراض ..فقد تسبب في كثرة الفواحش والتحرشات الجنسية ..وتزايد حالات الإجهاض ..وكثرة أولاد الزنى .. وبالتالي انتشار الأمراض الفتاكة .. والتي فتكت بحياة وصحة الكثير من الفتيان والفتيات ..يقول "جورج رائيلي" : ( والسبب الآخر الخطير الذي عمت لأجله الفوضى الجنسية في المجتمع أن النساء لا يزلن يتهافتن على الأشغال التجارية ووظائف المكاتب والحرف المختلفة ، حيث تسنح لهن فرص الاختلاط بالرجال صباح مساء ، وقد حط ذلك من المستوى الخلقي في الرجال والنساء ) وقد حذرت الكاتبة الإنجليزية " الليدي كوك " من أخطاره وأضراره .. حيث كتبت محذرة في جريدة (ألايكو ): ( على قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنى ، وهاهنا البلاء العظيم على المرأة ..لقد دلنا الإحصاء على البلاء الناتج من حمل الزنى يتعاظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال ..) .
ثالثاً : ومن آثار الاختلاط على الأسرة ..ضياع الأبناء ، وكثرة العوانس ، وفقدان الثقة بين الأزواج ، وانتشار الطلاق : وقد بيَّن الدكتور "سوليفان "هذا بقوله : ( إن السبب الحقيقي في جميع مفاسد أوروبا وفي انحلالها بهذه السرعة هو إهمال النساء للشؤون العائلية المنزلية ، ومزاولتهن الوظائف والأعمال اللائقة بالرجال في المصانع والمعامل والمكاتب جنبا إلى جنب ) .ومن القصص التي حصلت ما ذكره أحدهم قائلاً : ( بعد عامين من زواجي ألحّت علي زوجتي بأن تعمل من أجل حياة أفضل ، رفضت في بادئ الأمر وعملت مربية في أحد معاهد دمشق براتب بسيط جداً ، وبعد عام ركب الغرور رأسها ، طالبت أن تعمل في الوزارات أو في المؤسسات ، قنعت بذلك لثقتي بأخلاقها وشدة حرصها على سمعتها وكرامتها ولأنها أم لطفل صغير . ولم تمض بضعة أشهر على عملها في مؤسسة ما حتى حدثت المأساة الخطيرة التي لم تكن في حسباني .. ماذا حدث ؟ حدث أن طارت الزوجة مع زميل لها في العمل عندما زين لها فكرة الهرب وسلب رشدها بمعسول الكلام فكان له ما أراد ) فهل أدركتم خطورة الاختلاط ..وأثره في هدم الحب والوئام بين الزوجين ؟!!(5/166)
رابعاً : ومن آثار الاختلاط كذلك : فقدان الراحة النفسية ، والسعادة القلبية : وفي المقابل تنتشر الأمراض النفسية بين الفتيان والفتيات ..وبين الفتيات أكثر خاصة إذا كانت الفتاة غير جميلة ..تقول فتاة أمريكية تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً : إنها تحب مدرسة الفتيات فقط التي تدرس فيها. وتضيف قائلة : كنا نشعر بالخوف عندما كان معنا أولاد... كان علينا أن نرتدي ملابس جميلة ونظهر أنيقات... إننا نشعر بالراحة أكثر الآن بوجودنا في محيط كله بنات..ونشرت مجلة الأحد اللبنانية رسالة من أنثى افتتحتها واختتمتها بهذه العبارة : ( ليتني لم أكن أنثى ) وقالت خلال سطورها : ..إنني مضطرة لمسايرة بنات جنسي ، ولأكسب إعجاب الرجال ، أن أطلي وجهي بالأحمر والأبيض والأسود ، وإذا ما كنت في مجتمع رجالي حاولت أن أتقمص الشخصية التي تروقهم ،فأنا حينا رصينة هادئة ، وطوراً لعوب مغناج ، وآونة أخرى ساذجة غريرة ، وفي أحيان كثيرة أتصنع الهبل كل ذلك في سبيل أن أحوز إعجاب كل طائفة من الرجال.ولذا أعجز عن تخطيط شخصيتي أو فهم نفسيتي ، ليتني لم أكن أنثى ..إذن لانطلقت في هذا العالم الواسع أمشي على هواي وألبس على هواي وأتحدث على هواي ) أفليس هذا الذي تعترف به هذه الفتاة العصرية من حيرة وضياع هو نتيجة طبيعية لخروج المرأة عن فطرتها وانصرافها عن وظيفتها ، واهتمامها بغشيان مجتمعات الرجال ، وإنشاء صداقات معهم للظفر بإعجاب كل واحد منهم ، على اختلاف الأهواء والأمزجة في نفوس الرجال ؟!! هذه أيها الأخوة بعض آثار الاختلاط ..والسؤال بعد هذا العرض ..هل يحتاج العقلاء إلى أدلة لتحريم الاختلاط بعد أن عرفوا بعض آثاره الفتاكة ..لقد زرنا في جولتنا هذه .. دولاً غربية ..وأخرى إسلامية ..ووجدنا أن الاختلاط سبب لهم هذه الآثار القاتلة ..ولم يحصدوا منه سوى الضياع والانحلال .. فهل نحتاج الآن إلى الاستدلال بحرمة الاختلاط من الأدلة الشرعية ..فضلاً أن نظن أن الشريعة لن تحرم أمراً هذه بعض أضراره وأخطاره ..بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
أيها المسلمون :
لقد توافرت النصوص الشرعية في الحرص على تباعد الرجال عن النساء درءً للفتنة ..فقد جاءت الأدلة الشرعية بالأمر بقرار المرأة في بيتها وألا تخرج إلا لحاجة ولو كانت الشريعة ترغب في كثرة لقاء الرجال بالنساء لما جاء الأمر بقرارها في بيتها ..كما جاءت الشريعة بالنهي عن الدخول على النساء كقول صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والدخول على النساء ) ولو كانت الشريعة ترغب في كثرة اللقاء بينهما لما جاء النهي عن الدخول على النساء ..ولماذا لم تُلزم الشريعةُ المرأةَ ما يلزم الرجل من الواجبات الاجتماعية ،فعلى سبيل المثال : أجمع العلماء على أن صلاة الجمعة لا تجب على المرأة ، ولا يجب عليها الجهاد في سبيل الله ، وأسقط عنها الشرع النفقة ..وكل هذه الأعمال تحتاج إلى الخروج من المنزل وكثرة احتكاكها بالرجال ..وهذا يبين حرص الشريعة على بعد الجنسين عن بعضهما وقد جاء أيها المسلمون الأمر بتخصيص باب خاص للنساء في المسجد ، فيا ترى لماذا أمر صلى الله عليه وسلم بذلك ، فلو كان r يرغب في كثرة احتكاك الطرفين بعضهما ببعض لما أمر بذلك ولجعلهما يخرجان من باب واحد ..ثم أيها المؤمنون لماذا جاءت الأدلة بالأمر بغض البصر ..فيا ترى.. كيف يغض بصره من كان يعمل في مكتب فيه موظفة ؟ أو في مستشفى فيه طبيبة أو ممرضة ؟ ولماذا فضلت الشريعة صلاة المرأة في بيتها على صلاة الجماعة بل تفضيل صلاتها في بيتها على صلاتها في مسجد رسول ا صلى الله عليه وسلم مع أن الصلاة فيه مضاعفة !! وكيف نجمع بين نفسين تميل بعضهما إلى بعض ؟!! و صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) . ويا ترى ما الداعي لأن يأمر صلى الله عليه وسلم أن يتريث الرجال في الانصراف من المسجد حتى تخرج النساء ..و لو كان الأمر مستويا في الشريعة هل كان يأمر صلى الله عليه وسلم بأن يتريث الرجال لتنصرف النساء ؟!! ولو كان الاختلاط سائغاً ..لماذا جعل خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ..ألا يدل ذلك على تأكيد الشريعة انفصال الرجال عن النساء ؟!! يقول الإمام النووي رحمه الله : ( وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم ثم رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وذم أول صفوفهن لعكس ذلك والله أعلم ) .
أيها المؤمنون :(5/167)
لقد تتابعت أقوال العلماء في بيان حرمة الاختلاط وضرره العظيم على المجتمع يقول الحسن البصري رحمه الله : ( إن اجتماع الرجال والنساء لبدعة ) ويقول الشيخ العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد ـ حفظه الله وشفاه ـ : (حُرِّم الاختلاط، سواء في التعليم، أم العمل، والمؤتمرات، والندوات، والاجتماعات العامة والخاصة، وغيرها؛ لما يترتب عليه من هتك الأعراض ومرض القلوب، وخطرات النفس، وخنوثة الرجال، واسترجال النساء، وزوال الحياء، وتقلص العفة والحشمة، وانعدام الغيرة.).ومن هنا يتبين أن هناك صورا كثيرة من صور الاختلاط أفتى العلماء بحرمتها فمن تلك الصور : الاختلاط في دور التعليم كالمدارس والجامعات والمعاهد والدروس الخصوصية في البيوت ، واختلاط الخدم بالنساء في البيوت ، أو اختلاط الخادمات بأهل البيت ـ أعني الذكور ..و الاختلاط في الوظائف وأماكن العمل ..كالمستشفيات والمصانع والمؤسسات ونحوها ..والاختلاط في المحاضرات الطبيبة أو المؤتمرات أو المنتديات الاقتصادية ونحوها ..والاختلاط في المناسبات والزيارات بين الجيران والأعراس والحفلات ..ويتساهل أقوام بهذه الصورة مع أن صلى الله عليه وسلم عندما قيل له : أفرأيت الحمو يا رسول الله ؟ قال : الحمو الموت ) والاختلاط في أماكن الترفيه والمتنزهات والمطاعم والتي تسمى اليوم بالأماكن العائلية وأخيرا اختلاط الأولاد الذكور والإناث ـ ولو كانوا إخوة ـ بعد التمييز في المضاجع ، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع .
أيها المسلمون :
لم يسكت دعاة التغريب في محاولة مستميتة للتلبيس على الأمة في جواز الاختلاط ..وأخذوا يثيرون الشبه تلو الشبه لمحاولة إقناع الناس بأن الاختلاط أمر لا غضاضة فيه ..ويتلبسون بالدين أحيانا لتحقيق مصالحهم الإبليسية ..فمما قالوه : إن واقع المسلمين منذ عهد الرسو صلى الله عليه وسلم كانوا يؤدون الصلاة في مسجد واحد.. الرجل والمرأة.. ولذلك فإن التعليم لابد أن يكون في مكان واحد. ونقول رداً عليهم ..لقد أجمع العلماء على أن ما كان سبباً للفتنة وانتشار الفساد فإنه يكون محرماً شرعاً ، وقد شهد الواقع والعقل على أن اجتماع الطلاب والطالبات في المدارس من أكبر أسباب الفتنة ولذلك فهو محرم وقد حكى الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره . ومن الشبه ثانياً : الحديث الذي جاء فيه أن رجلاً من الأنصار ضيف ضيفاً لرسول ا صلى الله عليه وسلم وأدخلت المرأة الطعام عليهما وقال لها : تعالي فأطفئي السراج ..فيفهم من الحديث أن المرأة دخلت على الضيف وجلست معه وأكلت وهذا هو الاختلاط ولو كان حراماً لنزل الوحي على رسول ا صلى الله عليه وسلم وأخبره بما جرى كما أخبره عن إيثارهما وكرمهما مما يدل على جواز الاختلاط . والجواب : أن هذه القصة حدثت قبل نزول الحجاب و تحريم الاختلاط ، وذلك أن هذه القصة كانت سبباً لنزول قوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}وهي آية من سورة الحشر ، وسورة الحشر نزلت في بني النضير ، وقد أجلاهم صلى الله عليه وسلم على أكثر الأقوال في سنة أربع ، وآيات الحجاب نزلت في السنة الخامسة ..فيكون أمر هذه القصة كله قبل نزول أحكام الحجاب . ومن الشبه أيضا : قالوا لو كان الاختلاط ممنوعاً لما سمح صلى الله عليه وسلم بالاختلاط بالطواف بالبيت الحرام . والجواب : من قال إن الاختلاط في الطواف جائز أصلا ..إن ما يفعله الناس اليوم خطأ واضح وقد قدمت حلول ومقترحات ، ولذا كانت عائشة رضي الله عنها تطوف في ناحية من الرجال لا تخالطهم كما في صحيح البخاري ..وكانت النساء تطوف بالليل وقبل الطواف يُخرج الرجال ثم يبدأن الطواف ..( ) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ( روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال : نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء ، قال : فرأى رجلاً معهن فضربه بالدرة" ..أرأيتم كيف كان السلف الصالح يحرصون على عدم الاختلاط حتى في أماكن العبادة والتي هي من أبعد الأماكن ريبة فكيف بغيرها ؟!!
أيها المسلمون :
إنني ومن على منبر صلى الله عليه وسلم أناشد كل مسلم غيور أن يسعى قدر المستطاع لإزالة ظاهرة الاختلاط من المجتمع ..ويمنع من استفحالها ..سواء كان ذلك في المستشفيات أو المؤسسات أو المطاعم أو المدارس العالمية أو إدارات البنوك أو غيرها ..فالشرع ونظام البلد يمنع من ذلك ولله الحمد والمنة ..فنحن نعيش في سفينة واحدة والاختلاط سبب من أسباب غرقها ..فليجتهد كل واحد منكم في إنقاذ السفينة من الغرق ..
اللهم جنب المسلمين فتنة الاختلاط بما تشاء يا سميع الدعاء
===============(5/168)
(5/169)
اختلاط النساء بالرجال الحكم والأدلة1
الخطبة الأولى
الحمد لله العليم الخبير ؛ شَرَع لعباده من الدِّين أحسنه ، واختَار لهم من الشَّرائع أكملها ، فأكمل لهم دينهم ، وأتمَّ عليهم نعمتَه ، ورضيَ لهم الإسلامَ دينا ، نحمده على ما شرعَ وأوجبَ ، ونشكرهُ على ما أعطى وأنعم ، وأشهدُ ألاَّ إلهَ إلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له ؛ خلقَ فأتقنَ الخلقَ ، وحكمَ فأحسنَ الحكمَ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقوله تعالى {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله ؛ أنصحُ الخلقِ للخلق ، وأتقاهُم لله تعَالى ، لا خير إلاَّ دلَّنا عليه ، وأمرنا به ، ولا شر إلاَّ حذَّرنا منه، ونَهانا عنه ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ؛ أسرَع هذه الأمة استجابة للأوامر الربَّانيَّة ، وأشدِّهم التزاماً بالأحكام الشرعيَّة ، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يومٍِ الدين.
أما بعد :
فاتَّقوا الله - أيُّها النَّاس - وأطيعُوه ، واعمَلوا في دنياكم ما يَكون زاداً لكم في أُخراكم ، واعلموا أنَّ الدنيا إلى زَوال ، وأنَّ الآخرةَ هيَ دارُ القرَار ، وأنَّ الموتَ حق ، وأنَّ السَّاعة آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأنَّ الله يبعثُ من في القُبور {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }
أيها الناس:
من دلائِل صِدقِ إيمانِ العَبد ، وسلامةِ قلبِه لله تعالى: الإستسلام لأمرٍِه سبحانه في الأُمور كلِّها ، وتعظيم نُصوص الشَّريعَة ، والوُقُوف عِندها ، وتقديمِِها على أقوال الرِّجال مهمَا كانوا {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }(5/170)
وإنَّما تقع الرِّدة والضَّلال ، ويتَأصَّل الزَّيغ والنِّفَاق في قلبِ العبد إذا عارَض شرع اللهِ تعَالى ؛ تقليداً لغيرِِه ، أو لرأيِ أحدثه ، مُتبعاً فيه هَواه ، مُعرضاً عنْ شرعِ الله سبحانه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }ومع عظيم الأسى ، وشديد الأسف فإنَّ الإعلام المُعاصر في أكثر فضائِياته وإذاعاته ، وصُحُفِه ومَجلاَّته ، يُربِّي المتلقين عنه على التَّمرُّد على أوامِر الله تعالى ، وانتِهاك حُرُماته والإجتِراء على شريعتِه ، في كثير من القضَايا التي يلقيها على النَّاس من سِياسيَّة واقتِصاديَّة ، واجْتماعيَّة وثقافيَّة ، ولا سيَّما إذا كان الحديث عنِ المرأة وقضَاياها.لقدِ اعتاد المتلقون عنِ الإعلام وبشكلٍ يومي ، بل وفي كلِّ ساعة ولحظَة ، اعتادوا على مُشاهدة سُفور النِّساء ، وظُهُورِهنّ بأبَهى حُلَّة ، وأَجمَل زِينَة ، مُتكشِّفَات مُبتسِمات ، مُختلِطات بالرِّجال ، تجلِس المرأة بجِوار الرجل وتُمازٍحه وتُضاحِكه ، أمًام ملايين المُشاهِدين والمُشاهِدات ، ولا هيَ قريبتُه ، ولا هو محرم لها ، وليس بينهما رباط إلاَّ رِباط الإعلام والشَّيطَان ، ولا يكاد يخلو برنامج أو فقرة من رجل وامرأة في الأخبار والحِوار والرِّياضة والسِّياسة ، والأزيَاء والطَّبخ ، بل حتَّى برامِج الأطفَال لا بُد فيها من فتى وفتاة ، وهذه الصورة المُتكرِّرة في كُلِّ لحظَة تَهُون هذا المُنكر العَظيم في نُفُوس المُشَاهدين ، وتُحَوِّلُهُ مِن مَعصِية وعَيب إلى لا شَيء ؛ وتِلك والله مِن الفِتَن التي يُرقِّق بعضُها بعضاً كما جاء في الحديث ، واعتياد النَّاس لهذه المَشاهد الآثِمة يجعل إنكارهم لها ، وانصرَافهم عنها ضعيفاً جداً ، بل لرُبَّما أنَكَر أكثرهم على من ينكرها ، أو ينكر على من يُشَاهدها ، فانقلبت مِن كونِها مُنكراً وباطلاً إلى معروف وحق لا يجوز أنْ يُجَادَل فيه أحد.وهذا التَّهوين للمُنكَر بالفِعل والصُّورة الذي يتَكرَّر في كُلِّ سَاعة ولَحظة ، يُصاحِبه تسويغ له بالكلمة والمَقالة ؛ فينبري أجهلِ النَّاس بالشَّريعة ، وأضعف الخلق ديانة لمناقشة مسائل الحِجَاب والسُّفُور والخَلوَة والإختِلاط ، وسَفَر المَرأة بِلا مَحَرم ، وليس نِقاشهم عِلمِياً موضوعياً لإحقاق حق ، وإبطَال باطِل ، وإنَّما هو نسف للشَّريعة ، وإبطَال للقُرآن والسُنَّة ، وإلغَاء لما سَارت عليه الأُمَّة المُسلمَة في قُرونشها السَّالفة ، وإحلال للقوانين والعَادات الغَربية محل شريعة الله تعالى في التَّعظيم والطَّاعة والإمتِثال باسم الإنفِتاح والرُّقي والتَّقدُّم.ومِن آثار هذا التجييش الإعلامي للباطل ، ونشر تلك الرَّذائِل على أوسع نطاق نرى تَغَيُّراً مستمراً في كثيرٍ منَ بُيوتِ المُسلمين ، يَتجلَّى في مََظاهر عِدَّة ، وأخلاقِ بدِيلة لم يكُن المُسلمُون يعرفونَها قبل هذا الغَزو الإعلامي ، من التَّساهل بالحِجَاب ، وسَفَر الفتاة للدِّراسَة بِلاَ مَحَرَم ، ومُزَاحمة المرأة للرِّجال في العمل ، واختلاطِها بِهِم في كَثير مِنَ المجالات والأعمال ، بلا خجل ولا حياء ، وأهل الفساد يوسعون دائرة الإفساد ليجتاح الأمة بأكملها ، ويأتي على البيوت والأسر كلها ، وإذا لم يسع المسلمون لإيقاف هذه الأمراض التي تفتك بالمجتمعات ، ولم يأخذوا على أيدي دعاة الرذيلة وناشري الفساد ؛ فإنه سيأتي اليوم الذي يفقد فيه الرجل سلطانه على نسائه وبناته ، فيخرجن متى أردن ، ويصاحبن من شئن ، ويفعلن ما يحلو لهن ، كما وقع في كثير من بلاد المسلمين التي غزاها شياطين الإنس بأفكارهم ، ودمروها بمشاريعهم التغريبية التخريبية ، وحينها لا ينفع ندم ولا بكاء على عفة فقدت ، وقد كانت من قبل تستصرخ أهل الغيرة ولا مجيب لها ، ونعيذ بالله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين إن يحل بها ذلك.إنَّ الخطَأ خطأ ولو كثر الواقعون فيه ، وإنَّ المنكر لا ينقلب إلى معروف بمجرد انتشاره ، وهكذا الباطل يبقى باطلا ولو زينه المزورون بزخرف القول ، وروجوه بالدعاية ، والواجب على أهل الإسلام إنكار المنكر ولو كان المتجافي عنه غريبا في الناس، كما يجب عليهم إحقاق الحق ولو أعرض عنه أكثر الناس ، فانتشار الباطل وانتشاء أهله ، وغربة الحق وضعف حملته لا يسوغ السكوت والتخاذل. وإلا غرق المجتمع كله في حمأة الباطل ، وطوفان الرذائل. واختلاط المرأة بالرجال هي القضية الأساس التي يسعى المفسدون لنشرها في المجتمع ، ويستميتون في إقناع الناس بها ، ويوجدون لها المسوغات ، ويجعلونها من الضرورات ، ويعزون كل بلاء في الأمة وتخلف وانحطاط إلى ما ساد من عزل المرأة عن الرجل في التعليم والعمل وغير ذلك. ويعلم المفسدون في الأرض أنهم إن نجحوا في نشر الاختلاط وقهر الناس عليه بقوة القرارات الدولية ، والتَّخويف بالدوّل المستكبرَة ، واستغلالِ نفوذِهم في بلادِ المسلمين ، والتفافشهم على أصحابِ القرارَات والتوصيات ، مما يجعلهم قادرين على إلجاء الناس إليه عمليا في العمل والدراسة ، وفرضه بقوة النظام(5/171)
- وهو ما يسعون إليه بجد وقوة - فإن ما بعد الاختلاط من الإفساد يكون أهون ، والنساء إليه أسرع كالخلوة المحرمة ، وسفر المرأة بلا محرم ، وسفورها وتبرجها ، وعرض زينتها وغير ذلك من الإثم والضلال ، وانتهاك حرمات الكبير المتعال. ولن يوقف ذلك إلا إنكار الناس عليهم ، ورفضهم لمشاريعهم التغريبية ، وكشف خططهم ومآربهم لعامة الناس ، والأمر يعني الجميع ، ولا يختص بأحد دون أحد ، ومن حق الناس أن يسعوا إلى ما فيه حفظ بيوتهم وأسرهم ، وبناتهم ونسائهم من أسباب الفساد والانحراف ، وأن يأخذوا على أيدي المفسدين والمفسدات ، من أتباع الغرب وعباد الشهوات. ومن نظر في شريعة الله تعالى يجد أنها أوصدت كل الأبواب المؤدية إلى الإختلاط ، وسدت الذرائع لذلك ، وحمت المجتمع من الفاحشة والرذيلة بتشريعات ربانية تبقي على المجتمع عفته وطهارته ونقاءه ، واستقامة أسره ، وصلاح بيوته ما دام أفراده قائمين بأمر الله تعالى ، ممتثلين لشرعه ، مستسلمين لنصوص الكتاب والسنة ، ولم يسمحوا للمفسدين أن ينخروا ذلك السياج الرباني بين الرِّجال والنِّساء. يقول الله تعالى قوله سبحانه : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } وهذا الخطاب الرباني لأطهر هذه الأمة قلوبا وهم الصحابة رضي الله عنهم ، وفي أعف النساء وهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، فما بالكم بمن هم دونهم من الرجال ، ودونهن من النساء ؟ { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} فالخالق الرازق سبحانه يأمر في كتابه بالحجاب بين الرجال والنساء والمفسدون يريدون تحطيمه وإزالته. وفي خطاب رباني آخر {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ثم قال سبحانه{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } فلو كان الاختلاط سائغا في الشرع لكان في هذه الأوامر الربانية تكليف بما لا يطاق ؛ إذ كيف تختلط المرأة بالرجل ، وتجلس بجواره في العمل أو الدراسة ، ولا ينظر كل واحد منهما للآخر وهما يتبادلان الأعمال والأوراق والدروس. وذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن من حق الطريق: غض البصر ، فإذا كان غض البصر واجبا على الرجال إذا مرت بمجلسهم في الطريق امرأة ، فكيف يسوغ للمزورين أن يزعموا أن شريعة الله تعالى لا تمانع من اختلاط الرجال بالنساء. وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء ) رواه الشيخان. فكيف إذا بالمكث عندهن وأمامهن وبجوارهن في ساعات العمل كل يوم. بل إن صلى الله عليه وسلم عمل على منع الاختلاط في الطريق أثناء الخروج من المسجد ، وما هو إلا لحظات ، وعقب عبادة عظيمة ، والرجال فيه والنساء من المصلين والمصليات ، وهم وهن أقرب للتقوى ، وأبعد عن الريبة ، فكيف بغير ذلك ؟ روت أم سلمة رضي الله عنها: (أنَّ النِّساء في عهدِ رسولِ ا صلى الله عليه وسلم كنَّ إذا سلَّمن من الصَّلاة قمنَّ وثبت رسولُ اللهِ r ومن صلَّى من الرِّجال ما شاءَ الله فإذا قامَ رسولُ اللهِ r قامَ الرِّجال ) رواه البخاري والنسائي. وذات مرة وقع في الخروج من المسجد اختلاط غير مقصود فبادر عليه الصلاة والسلام إلى إنكاره ، وأوصى بما يزيله؛ كما روى أبو أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول ا صلى الله عليه وسلم للنساء: استأخرن فأنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به) رواه أبو داود. وفي المسجد منع صلى الله عليه وسلم الاختلاط ؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير صفوفَ الرِّجالِ أولها وشرّها آخرهَا وخيرَ صفوف النِّساء آخرهَا وشرّها أولها) رواه مسلم. والمسجد أجل مكان وأشرفه ، والقلوب فيه متعلقة بالله تعالى، بعيدة عن الفساد والشر ، ومع ذلك حسمت فيه مادة الشر ، وسدت فيه ذرائع الفساد. وفي الطواف بالبيت وهو من أجل العبادات وأشرفها منع الاختلاط ؛ كما أخبر التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى أن النساء فيه لم يكن يخالطن الرجال وقال:(كانت عائشَة رضيَ اللهُ عنها تطوفُ حجرة من الرِّجال لا تخالطُهم)رواه البخاري. ولما وقع في عهد عمر رضي الله عنه شيء من اختلاط الرِّجال بالنِّساء في الطَّواف نهى أنْ يطوفَ الرِّجال معَ النِّساء ، فرأى رجلاً معهنّ فضربه بالدرّة.(5/172)
تلك هي شريعَة اللهِ تعالَى في قضيةِ الإختلاط التي يسعى المُنافقون والشَّهوانيون لإقناع النَّاس أنَّ الإختلاط لا يعارضُ الدِّين ، وأنَّه من أسباب الرُّقي والتَّقدُّم ، كذبوا والله وضلُّوا وأضلُّوا. أفبعدَ هذه النصوص المحكمة الواضحة يليق بالمؤمنين والمؤمنات أن يصدقوا أكاذيبهم ، ويرضوا بمشاريعهم ويستسلموا لإفسادهم ، وإخراجهم لنساء المسلمين وبناتهم ، وقتلهم لحيائهن وإحصانهن وعفافهن ، ويتركوهم ينخروا في المجتمع ، ولا ينكرون ذلك عليهم؟! وقد استبان لهم الحق بأدلته ، وبان لهم الباطل بدجله وعورته ، وماذا بعد الحق إلا الضلال.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ , وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً , يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، ونشكره على فضله وإنعامه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم لقائه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه{وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
أيها الناس:(5/173)
عزل الرِّجال عنِ النِّساء ، واختصاصهنّ بأعمالِ المنزل وحضانة الأطفال ، واختصاص الرِّجال بالعمل والإكتساب هي الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وسارت عليها البشريَّة طوال تاريخها في الشَّرق والغرب ، وعند سائر الأمم ، قبل أن تأتي الحضارة المعاصرة بهذا الضَّلال ومن قرأ تواريخ الحضارات والأمم السَّالِفة أيقن بحقيقة ذلك.ونزلت شرائِع الله تعالى على أنبيائِه ورسله عليهم السَّلام بما يوافِق هذه الفطرَة ، وقد أجمعت الشَّرائع كلها حفظ النَّسل من الإختلاط ، وعلى حفظ المجتمعات من الفساد والإنحلال ؛ ولذا كان الزِّنى محرماً على لسان كل المرسلين عليهم السلام، ويجمع كل العقلاء من البشر على أن الإختلاط أكبر سبب للزِّنى ، كما يجمع البشر على أنَّ الزِّنى سبب للأمراض والطَّواعين التي تفتك بالنَّاس ، والواقع يدل على هذه الحقائِق. ولا يماري في شيء من ذلك إلاَّ جاهل أو مكابر ، فمن دعا للاختلاط ورضيه فهو يدعو للزِّنى وانتشار الفواحش ، وهو يدعو كذلك لنشر الطَّاعون في النَّاس ، وإهلاكِهم به ، شاء ذلك أم أبى ؛ إذ إنَّ هذه الأمراض الخبيثة هي نتاج دعوته الخبيثة.وإن تعجب فعجب لأناس يدعون للإختلاط ، وينشرون الرَّذيلة في النَّاس ، ثمَّ يحذرون من انتشار مرض الإيدز ، فهل هم صادقون في تحذيرهم ؟ وهل يعقلون ما يقولون وما يفعلون؟ وهل هم إلاَّ كمَن يسقي الإنسان سماً ثم يصيح به محذراً إيّاه أنْ يموت ممَّا سقاه. إنَّه لن تجدي المُؤتمرات والنَّدوات والتَّوعية الصِّحيَّة والاجتماعيَّة في التَّخفيف من الأمراض المستعصية ، النَّاجمَة عن الممارسات الجنسيّة المُحرَّمة إذا كان المفسدون يخلطون بين الرجال والنساء ، ويوسعون دائرة الإختلاط يوما بعد يوم ؛ وينشرون في إعلامهم ما يسعر الشَّهوات ، ويدعو إلى الرَّذيلة؛ ولذا نوصيهم ألاَّ يكذبوا على النَّاس ويخدعوهم ، ويحذروهم من انتشار الإيدز ؛ لأنَّهم أكبر سبب من أسبابه حين شرعوا للإختلاط ، وأفسدوا الإعلام ، وفرضوا على الناس آراءهم الفكرية الشهوانية. يقول العلاَّمة ابن القيم رحمه الله تعالى : ولا ريب أنَّ تمكين النِّساء من اختلاطهنّ بالرِّجال أصل كل بليَّة وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامَّة، كما أنَّه من أسباب فساد أمور العامَّة والخاصَّة.. وهو من أسباب الموت العام والطَّواعين المهلكة. ولمَّا اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام، وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفسير ، فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات. وكلام ابن القيم رحمه الله تعالى لا يعجب أهل الشر والفساد ، ودعاة الرذيلة والانحلال ؛ لأنهم مستعبدون في أفكارهم لما يمليه عليهم أهل الحضارة المعاصرة ، ومشربون بحب كتابات الغربيين ، فلا بأس من نقل شيء من أقوال الغربيين من باب قول الله تعالى {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } وحيث إنَّ المفسدين يزعمون أنَّهم بمشاريعهم التغريبية التخريبية ينصرون المرأة ويدافعون عن حقوقها في الاختلاط والفساد فإنني سأنقل بعض أقوال النساء الغربيات حتى نعرف رأيهن في الاختلاط وقد جربنه ، وسبقن نساء العالمين إليه ، ولسن متهمات بأنهن مؤدلجات أو متطرفات ، أو يعشن عصور الظلام والحريم كما يقول المنافقون والمنافقات.
تقول الصحفية الأمريكية هيليان ستانبري ( أنصحكم بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم ، امنعوا الاختلاط ، وقيدوا حرية الفتاة ، بل ارجعوا لعصر الحجاب ، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا ، امنعوا الاختلاط ، فقد عانينا منه في أمريكا الكثير ، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعًا مليئًا بكل صور الإباحية والخلاعة ، إنَّ ضحايا الإختلاط يملأون السُجون ، إنَّ الإختلاط في المجتمع الأمريكي والأوروبِّي قد هدّد الأسرة وزلزَل القيَم والأخلاَق ).
وتقول كاتبة أخرى: إنَّه لعارٌ على بلادِ الإنجليز أنْ تجعل بناتها مثلاً للرَّذائِل بكثرةِ مخالطةِ الرِّجال . وفي بريطانيا حذَّرت الكاتبة الإنجليزية " الليدي كوك " من أخطار وأضرار اختلاط النِّساء بالرِّجال فقالت: على قدر كثرة الإختلاط تكون كثرة أولاد الزِّنى وقالت: علموهنَّ الإبتعاد عنِ الرِّجال.
فهل يبقى لدعاة الإختلاَط والفسَاد قول وقد عارضوا شريعةَ اللهِ تعالَى ، وخالفوا الفطرَة التي فطرَ الله النَّاس عليها، وكذبوا على النَّاس فزوَّروا الحقائِق ، وأخفوا النَّتائِج المخزية للإختلاط في البِلاد التي اكتوت بذلك.
حمَى الله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين من المفسدين والمفسدات ، والمنافقين والمنافقات ، وردهم على أعقابهم خاسرين ، إنَّه سميع قريب.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد....
==============(5/174)
(5/175)
نقد مقال قراءة في الذِّهنية السلفيَّة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد : فقد نشرت مجلة البيان في عددها ( 156 ) قضية للمناقشة بعنوان : « قراءة في الذهنية السلفية » للكاتب الأستاذ نواف الجديمي ، وقد أحسن الكاتب في اهتمامه بالنقد الذاتي لمناشط السلفيين ، فهذا النقد ومحاسبة النفس أمر متقرر شرعاً والحوار العلمي الجاد وسيلة من وسائل البناء والتصحيح ، كما أحسنت مجلة البيان في قبولها لهذا النقد الذي يتوجه إليها ابتداءاً . وثمة تعقيبات على بعض ما نشره الأخ الكاتب نواف - وفقه الله للصالحات- أسوقها على النحو الآتي :
أولاً : ذكر الكاتب أن هذه المآخذ والإشكاليات تسود غالب الاتجاهات السلفية
المعاصرة ، وهذا تعميم خاطئ ؛ فالكاتب لم يحدد هذه المعاصرة لا زمناً ولا مكاناً ولا حالاً ، ولا سيما أن الكاتب أشار إلى قصور استقرائه ومحدودية تجربته .
ثانياً : ذكر الكاتب الفاضل ثلاث ملحوظات رئيسة في قراءته للذهنية السلفية ،
وأحسب أن هذه الملحوظات توجد بنسب متفاوتة في التيارات الإسلامية الأخرى ، وتخصيص السلفيين بها لا يخلو من نقد ومراجعة ، وخاصة أنه قد يشعر القارئ بأن الكاتب يرى بأن هذا ممَّا تفرّد به السلفيون دون غيرهم .. !
ثالثاً : قرر الكاتب أن التيار السلفي دائماً ما يركز على دائرة المعلومات
ويهمل دائرة الأفكار ، وأن السلفيين يهتمون بالحفظ ويهملون الفكر ، وأن من حفظ الكتب الستة فله شأن عندهم دون من تضلع في أصول الفقه . وأحسب أنه لا يخفى على الكاتب الفاضل أهمية حفظ نصوص الوحيين ، وأن ذلك مطلوب شرعاً ؛ فقد تواتر حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم حيث قال : « نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها ؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » [1] وهذا لفظ الترمذي من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ، لا سيما أن العرب قد خُصوا بالحفظ ، وهذه الأمة موصوفة بأن إنجيلها في صدورها . وكما قال الخليل بن أحمد - رحمه الله - : ليس بعلم ما حوى القِمَطْرُ ما العلم إلا ما حواه الصدرولماذا يفترض الكاتب أن حفظ السلفيين للمعلومات كحفظ الحاسب ؟ وهذا قياس مع الفارق لمن له أدنى فكر وتأمل ! وها هو ابن عباس - رضي الله - عنهما وقد طُبع على الحفظ كان يكره كتابة العلم ، ومع ذلك فقد كان له من الإشراقات والفتوحات في التفسير ما لا يحصى ، كما كان صاحب مناظرات قوية مع الخوارج ونحوهم من أهل الأهواء ، فما كان هذا الحفظ إلا سبيلاً لنشر العلم و « المعلومات » الأصيلة ، وإفحام المخالفين ، وحل المعضلات . فلا إشكال في حفظ النصوص الشرعية ، لكن الإشكالية أن يقتصر على الحفظ مجرداً عن الفهم والفقه ، ولو أن الكاتب عني بهذه الإشكالية ، وطالب بإيجاد برامج عملية لاستنهاض الفهم وتنمية ملكات التفكير والتجديد والإبداع لكان أليق وأنسب . ولما هوّن الكاتب من شأن المعلومات هوّل من شأن الأفكار ، وأقول للكاتب : لماذا هذه التفرقة والانفصام بين المعلومات والأفكار ؟ وهل يمكن أن تتأتى الأفكار إلا بمعلومات ، ولا سيما أن كل إنسان حارث ومفكر ، كما قا صلى الله عليه وسلم : « أصدق الأسماء حارث و همام » ؟ [2] . ثم ألا ترى معي أن الأفكار المجردة عن المعلومات الراسخة تؤدي إلى الخلط والاضطراب ؟! فالمعلومات والأفكار متلازمة لا ينبغي الفصل بينها . فالمعلومات أساس الأفكار، والأفكار ثمرة المعلومات . ولعل مقصود الكاتب أن بعض السلفيين أهملوا كتب الفكر واشتغلوا بالكتب الشرعية ، وأحسب أن العناية بكتب الفكر كانت في مرحلة سابقة ، عندما كانت الاشتراكية والقومية ونحوها من المذاهب المادية التي تشكك في الإسلام وتطعن في الغيبيات رائجة في حقبة زمنية ماضية حيث ظهر - ولله الحمد - من كتابات المفكرين الإسلاميين من يذبّ عن دين الإسلام ويفنّد شبهات الخصوم ، كما هو ظاهر في كتب سيد قطب و المودودي - رحمهما الله تعالى - و محمد قطب ونحوهم . فكانت كتب الفكر الإسلامي الأصيل ضرورية تجاه تلك الأفكار المنحرفة ، وكما فعل من قبل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عندما واجه تلك الأفكار الفلسفية والكلامية والصوفية باللغة والأسلوب الذي يفهمه أولئك ، فأظهر الحجة عليهم وكشف ضلالاتهم ، ومن المناسب أن نورد ما يقرر ذلك من كلامه - رحمه الله - : « ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات ، كالسلاح في المحاربات ، فإذا كان عدو المسلمين في تحصنهم وتسلحهم على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس و الروم ، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع ، وهو الأصلح في الدنيا والآخرة ... إلخ » [3] . وأحسب أن هذه الصحوة المباركة قد ارتقت - نضجاً وعلماً - بدءاً من الكتب(5/176)
الفكرية الأصيلة في تقرير الثقة بالإسلام والرد على أعداء الإسلام إلى الاشتغال بالعلوم الشرعية في تقرير منهج السلف الصالح والرد على المبتدعة إلى غير ذلك ؛ فما كان للسلفيين أن يحقروا الكتب الفكرية الإسلامية الأصيلة وهم يقررون قبول الحق من كل شخص ولو كان كافراً ، وها هو العلاَّمة ابن باز - رحمه الله يقرأ
كتاب ( النظرية السياسية ) للمودودي رحمه الله مقرراً له [4] ، وها هو العلاَّمة الألباني - رحمه الله - يورد كلاماً طويلاً لسيد قطب - رحمه الله - في مقدمة كتابه ( مختصر العلو ) للذهبي .
رابعاً : ادعى الكاتب أن السلفيين لا يعرفون جملة من المذاهب الفكرية
كالقومية العربية والماركسية والبعث العربي .. وأما آخر النظريات الفكرية فإن غالب النخب السلفية لم يسمعوا بأسمائها فضلاً عن دراستها ، هكذا قال الكاتب -
هداه الله - . ويبدو أن الكاتب كان يتحدث عن هذا المأخذ وقد انقدح في ذهنه نمط محدد من السلفيين ، وليس من العدل أن يُحكم على جميع السلفيين أو غالبهم من خلال الحكم على طائفة منسوبة إليهم ، وإلا فكيف غاب عن الكاتب جهود الأستاذ محمد رشيد رضا الإصلاحية ضد الأفكار المنحرفة ؟ وأين جهود العلاَّمة عبد الرحمن السعدي تجاه الملاحدة كما في رسالتيه : « انتصار الحق في الرد على الملاحدة » و « الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين » ؟ بل كتبَ الشيخ السعدي لمحمد رشيد رضا رسالة يؤكد عليه أن تُعنى مجلة المنار بالردّ على الملحدين . وأين إنجازات سيد ومحمد قطب في مواجهة التغريب والمذاهب المادية ومشكلات الحضارة ؟ وأين مؤلفات الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله - في الرد على المذاهب الأدبية والفكرية كما في مؤلفاته أمثال : ( الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ) ، و ( حصوننا مهددة من الداخل ) ، و ( الإسلام والحضارة الغربية ) ؟ وأين مواقف العلماء تجاه الغزو التشريعي والتشكيك في تحكيم الشريعة مثل ما كتبه الشيخ أحمد شاكر ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، والعلاَّمة محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، والشيخ عبد الرحمن الدوسري - رحمهم الله - ؟ [5] . وتأمل ما سطره العلاَّمة السعدي ( ت 1376هـ ) في الرد على تلك الدعوى : « قد عُلِمَ من قواعد الدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد ولا يخفى أنه لا يتم التحرز من أضرار الأمم الأجنبية والتوقي لشرورها إلا بالوقوف على مقاصدهم ودرس أحوالهم وسياساتهم ، وخصوصاً السياسة الموجهة منهم للمسلمين ؛ فإن السياسة الدولية قد أسست على المكر والخداع وعدم الوفاء واستعباد الأمم الضعيفة بكل وسائل الاستعباد ؛ فجهل المسلمين بها نقص كبير وضرر خطير ، ومعرفتها والوقوف على مقاصدها وغاياتها التي ترمي إليها نفع عظيم ، وفيه دفع للشر أو تخفيفه ، وبه يعرف المسلمون كيف يقابلون كل خطر » [6] . ولا يزال باحثو أهل السنة وعلماؤها - في هذه السنوات الأخيرة - يسطرون الكتب والرسائل العلمية تجاه جملة من الأفكار الوافدة [7] . لا شك أننا - معشرَ السلفيين - نعترف بتقصير وإهمال تجاه جملة من النوازل الفكرية المستجدة ، ولا يخفى أن ثمة فرقاً بين الاعتراف بهذا التقصير وبين أن يظن أن السلفيين إنما تركوها تديناً بهذا الترك والإهمال . وأحسب أن هذا التقصير ليس خاصاً بالسلفيين وحدهم ، بل هو مشكلة قائمة عند معظم التيارات الإسلامية ! وأما انتقاد الكاتب السلفيين لعدم دراستهم الديمقراطية ، والدراسات البنكية ، وعلم النفس .. ! فأقول : وهل يتعين على السلفيين أن يدرسوا كل القضايا النازلة ولا سيما أنها قد درسها غيرهم وبطريقة صحيحة [8] ، والحق ضالة المؤمن ؟ أم يريد الباحث أن تؤلف مؤلفات عن موقف أهل السنة من الديمقراطية ؟ وما الفرق بين هذا العنوان وبين : موقف الإسلام من الديمقراطية ؟ ولا سيما أن ثمة كتابات ومؤلفات في هذا الصدد ، وأما الدراسات البنكيةوالبدائل الشرعية فهي موجودة ، ولكن هل ترك لنا عقيل من دار ؟ وعلى كلٍّ فيبدو أن الكاتب يحتاج إلى مراجعة لنتاج أهل السنة قبل أن يصدر هذه الأحكام . كما أن جملة من الإشكالات الواردة جاءت كرد فعل من الكاتب تجاه بعض الممارسات الخاطئة لفصائل من أهل السنة ، كما أن بعض إشكالاته قد عالجها بما يقابل تلك الإشكالات ؛ والانحراف انحراف على كل حال ، والخطأ لا يعالج بالخطأ مثل كلامه عن عداء الكفار للمسلمين ورغبته في تحريره واقعاً دون مجازفة ، مع أن من بدهيات هذا الدين أن عداء الكفار للمسلمين أصل ثابت ومحكم ، وما قد يقع خلاف الأصل فهو لمصالح وملابسات لا تشكك في هذا الأصل . وأما عقدة المؤامرة عند السلفيين فقد توجد مبالغة عند بعضهم ، لكن هذه « العقدة » ، لم تكن ردة فعل تجاه السذاجة وحسن الظن بالأعداء عند الكثير من المسلمين ، بل كانت حصيلة أحداث ووقائع ، ومع ذلك كله فلا حاجة إلى تهويل المؤامرة أو تهوينها . ختاماً : ينبغي التأكيد على أن الحوار الجاد والنقد العلمي البناء مطلب مهم من(5/177)
المطالب الشرعية التي يجب التأكيد عليها ، والتعاون في إشاعتها ، ولهذا أشكر للأخ نواف حرصه على النقد والتصحيح ، وأرجو أن يتسع صدره لنقد النقد ؛ وهذا هو حسن الظن به إن شاء الله تعالى . نسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم .
________________________
(1) أخرجه أحمد ، (3/225) ، والترمذي في كتاب العلم ، ح/7 .
(2) أخرجه أحمد ، ح/ 18258 .
(3) مجموع الفتاوى ، 4/107 .
(4) ذكر الشيخ مسعود الندوي (ت 1373هـ) لقاءه بالشيخ ابن باز سنة 1368هـ وأن الشيخ ابن باز أفاده بأنه قرأ كتاب (النظرية السياسية) للمودودي ، وأبدى الشيخ ابن باز اعتراضه على قول المودودي في الآية الكريمة : { وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (الحديد : 25) بأن معنى الحديد هنا القوة السياسية ثم قال الشيخ : يمكن أن يكون الأصل قوة أساسية ثم جاءت الترجمة « قوة
سياسية » ، فقال الشيخ مسعود : في الأصل قوة سياسية والمترجم التزم الأصل فقال ابن باز : حسناً، هذا أمر يسير ، لا أثر له على كتابه الأصلي انظر كتاب (شهور في ديار العرب) لمسعود الندوي ، ص50 .
(5) قد يظن بعض القراء أن ثمة تساهلاً في إطلاق السلفية على بعض المذكورين ك « محمد رشيد رضا ، وسيد قطب » - رحمة الله عليهم - ، ولا يخفى أن الأستاذ محمد رشيد رضا لا يخلو من نزعة صوفية سابقة ، كما أن عنده لوثة عقلانية ، كما أن سيد - رحمه الله - لا ينفك عن بعض الهنات اليسيرة التي صوبها بعض العلماء ونبهوا علىها ولم يغمطوا للرجل حقه ، وفي الجملة فإن المآخذ على هذين العلمين لا تخرجهما عن دائرة أهل السنة ، فلم تكن مخالفتهما فيما أحسب لقاعدة أو أصل كلي من قواعد الدين وأصوله ، كما حرر هذه المسألة الإمام الشاطبي في الاعتصام .
(6) رسالة وجوب التعاون بين المسلمين ، ص : 13 .
(7) انظر مثلاً : العلمانية ، للحوالي ، ومصادر المعرفة في الإسلام ، لعبد الله القرني ، والانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر ، لسعيد الغامدي وغيرها كثير .
(8) درس بعض باحثي أهل السنة الديمقراطية كما في كتاب الثوابت والمتغيرات ، للصاوي وبنود وسراب الديمقراطية ، للرحال ، وغير ذلك .
================(5/178)
(5/179)
مقتل حاكم العراق
الخطبة الأولى
الحمد لله العلي الأعلى؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، نحمده على نعمه التي لا تحصى، ونشكره على فضله الذي لا ينسى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قسم الدين بين عباده فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، وقسم بينهم الدنيا فيؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى على العالمين نذيرا وبشيرا، وجعله سراجا منيرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن الدنيا مهما طالت زالت، ومهما أزهرت أغبرت، وكم من عزيز تجرع ذلها! وكم من غني ذاق فقرها! ولا يبقى للعبد منها إلا ما عمل فيها {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}.
أيها الناس: مضى عيد المسلمين الكبير بعد أن وقفت جموع منهم على صعيد عرفة يقيمون ذكر الله تعالى، ويعظمون شعائره، يباهي بهم ربهم عز وجل ملائكته، فهو سبحانه من شرع لهم دينهم،ورضي منهم عملهم، فأدوا لله تعالى نسكهم، في لباس واحد، ومكان واحد، وشعار واحد.
وفي يوم العيد الأكبر ذبح المسلمون ذبائحهم، وتقربوا لله تعالى بهداياهم وضحاياهم، قائلين: بسم الله والله أكبر، اللهم إن هذا منك ولك، فما أعظمها من عبادات، وما أجلها من شعائر، تأخذ بالقلوب، وتسيل الدموع؛ فرحا بالله تعالى وبالاجتماع على ذكره وشكره وحسن عبادته، فهنيئا لكم أيها المسلمون ما هديتم إليه من الشرائع، وما قام في قلوبكم من تعظيم الشعائر، واشكروا الله تعالى إذ هداكم، وسلوه الثبات على دينكم.
وخلال هذه الأيام المباركة التي باركها الله تعالى بأن جعلها أفضل أيام السنة، وقضى بأن العمل الصالح فيها أفضل من العمل في غيرها، واختصها بشعيرتي الحج والأضحية، في تلك الأيام المباركة كانت أمة النصارى الضالة تحتفل بعيد ميلاد المسيح عليه السلام وعيد رأس السنة الميلادية في جملة من الشعائر الشركية،والمراسم الشهوانية،التي تشبع غرائزهم ولا تصلح قلوبهم، وترضي شيطانهم، وتسخط ربهم عليهم، ولا تزيدهم إلا ضلالا على ضلالهم،وبعدا عن مناهج الأنبياء وشرائعهم.
وقد تابعهم في ضلالهم هذا جملة من المسلمين، يفرحون بأعياد الضالين، ويشدون رحالهم إليها، ويبحثون عنها في مظانها..يعبون من شهواتها، ويتمتعون بزخارفها، ويهنئ بعضهم بعضا بها، في حين أنهم يضجرون من أعياد المسلمين، فيعطلون شرائعها، ولا يعظمون شعائرها، فنعوذ بالله تعالى من الضلال بعد الهدى، ومن الغفلة والهوى.
ولئن شهدت الأيام الماضية المباركة فرح المسلمين بأعيادهم الشرعية، واحتفل فيها النصارى بأعيادهم الكفرية؛ فإن الأمة الصفوية الباطنية قد خالفت عموم المسلمين في العيد الكبير فأخروه عن العيد الشرعي؛ إمعانا في المخالفة، وقصدا لترسيخ البدعة، وخرقا لإجماع الأمة، ثم عمدوا إلى عيد المسلمين الأكبر فقتلوا فيه حاكم العراق؛ ليؤكدوا لأهل السنة حكمهم لمدينة السلام وما حولها، التي كانوا يحلمون بحكمها منذ القرن السابع لما أسقط أجدادهم بخيانة ابن العلقمي الرافضي خلافة بني العباس تحت أقدام المغول. فعلوا ذلك وهم يرددون الشعارات الطائفية البغيضة التي تنم عن تعصبهم لمذهبهم الضال، وتشي بمدى حقدهم على أهل الإسلام، وتدل على أنهم قوم بهت غدر، يظهرون الضعف والوداعة حتى إذا تمكنوا لم يرقبوا في مؤمن إلا ولا ذمة، وما يفعلونه بأبناء العراق من التعذيب والحرق وتشويه الأجساد وتمزيقها لم يفعله إخوانهم من الصهاينة والصليبيين كأنهم بقتلهم لحاكم العراق الأسير في العيد الكبير يوصلون رسالة مهمة لعموم المسلمين يقولون لهم فيها: أنتم تفرحون بعيدكم، ونحن نأمر وننهى في مدينتكم مدينة السلام، وقد خرجنا عن تقيتنا، وأعلنا شعارنا الطائفي حال قتلنا لزعيم من زعمائكم، وحوّلنا الإعلام من الاهتمام بحجكم إلى مواقع إهانتكم، ومواضع ذلكم، فما أنتم قائلون؟ وماذا ستفعلون؟ وما أنتم إلا عاجزون. حتى إن كاتبا غربيا أثر فيه المشهد وتوقيته فقال:إنه عندما يظهر دكتاتور عرف بوحشيته الاستثنائية وهو يموت بطريقة مشرفة وبشجاعة نادرة على أيدي مجموعة من السفاحين, قطاع الطرق, المقنعين, فإن ذلك يمنحه بكل تأكيد تاج الشهداء.إلى أن قال:من الواضح أن ما أراده المالكي هو بعث رسالة متعمدة إلى سنة العراق مفادها أن الشيعة هم الأسياد الآن, مما يحول الحكومة العراقية الحالية, التي كان هدفها توحيد العراقيين, إلى مجرد عصبة طائفية مصممة على جعل السنة الأقلية التي تدفع ثمن كل القمع الذي مارسه نظام صدام بحق الشيعة .(5/180)
لقد التقت الرغبة اليمينية الإنجيلية مع الحقد الصفوي الباطني، على هدف واحد وهو هزيمة روح المقاومة عند السنة ومن ثم البدء بتشكيل المنطقة وكتابة تاريخ يخطه المنتصرون.
إن مشروع تركيع الشرق الإسلامي لا يمكن أن يطبق دون إجهاز على النفوس المقاومة للظلم والاستعمار والتغريب والتشييع،والذي يحدث في العراق هو تجهيز للمنطقة بكاملها إن على مستوى العنف والقتل والدمار الذي وصل إلى مستوى القاع وليس بعد القاع إلا رمي ركائز الشرق الأوسط الجديد، أو على مستوى السياسات العامة، أو على مستوى التهيئة النفسية. واختيار هذا الموعد لإعدام صدام هو آخر بالونات الاختبار للتأكد من أن التخدير قد جرى في شرايين أبناء المنطقة، وأنهم لم يعودوا يشعرون بالألم فما لجرح بميت إيلام.رد الله تعالى كيدهم عليهم، وحفظ المسلمين من شرهم ومكرهم.
أيها الإخوة: وما أن وقع هذا الحدث الكبير في عالم السياسة، ونقلت وسائل الإعلام إعدام حاكم العراق إلا وتحول اهتمام الناس إليه، وكثرت أقاويلهم فيه، وخصصت برامج إعلامية تحكي سيرة الزعيم المقتول، وعقدت مناظرات لأجله، وسودت صفحات في حياته وأعماله، واختلف الناس فيه اختلافا كثيرا، وضاع العامة في خضم هذا الاختلاف.
فطائفة رأوا في الزعيم المقتول رمزا من رموز الأمة، وعلما من أعلامها، مدافعا عن قضاياها، حريصا على مصالحها، حاميا لبيضتها، وما قصده صهاينة اليهود والنصارى إلا لأنه أعظم خطر عليهم، وما تشفى فيه الفرس الصفويون وأذنابهم إلا لأنه كان السد المنيع دون مشاريعهم التوسعية، ويرى هذا الفريق من الناس أن إعدامه هو إعدام للنظام العربي برمته، وهو رسالة لكل من يقف حائلا دون المشاريع الصهيونية أو المشاريع الباطنية الصفوية بأنه سيلقى نفس المصير، وبالغ كثير منهم فجعلوه شهيد الأمة الذي لن يتوحد العراق بعده، ولا خير في الأمة عقبه، وعدوه في مصاف قادة الإسلام العظماء، وتألى بعضهم على الله تعالى فحكم له بالشهادة والجنة.
وفي كلام هؤلاء حق وباطل، والأمة العاجزة المظلومة تتعلق بأي رمز تراه قد تحدى أعداء الأمة في العلن، ولو كان فيه حيدة عن منهجها ورسالتها، وفي زمن الذل تتعلق القلوب بمن فيهم عزة، وحال انتشار الخوف والجبن يحب الناس الشجاع فيهم، وتعميهم شجاعته وعزته عما فيه من خلل وقصور.
في مقابل هذا الفريق فريق آخر لم يروا في حاكم العراق إلا خائنا لأمته، ممالئا لأعدائها، سفاكا لدمائها، غشوما في حكمها، قوته على شعبه لا على أعدائه، وسياساته الخرقاء، وتصرفاته الرعناء جرت المنطقة إلى ويلات لا عافية منها، ووطنت للصليبيين والصهاينة مواضع أقدام من العسير زحزحتها، ويعزو هذا الفريق من الناس كل بلاء الأمة إليه، ويجزمون بأنه الصفحة السوداء الوحيدة في بلاد الرافدين، ولا يرون له حسنة واحدة، ويعدون تغيره في آخر فترة حكمه، واتجاهه لبناء المساجد، وتوسيع الدعوة إلى الله تعالى، والعناية بالقرآن وحفظه، يعدون ذلك انتهازية لجمع الناس عليه بعد ضجرهم من الحصار، ومساومة منه للغرب، واستخدام الدين سلاحا يهددهم به، ويرون أن ثباته في محاكمته، واصطحابه لمصحفه، ومحافظته على الصلاة في سجنه، ما هو إلا عمل البائس اليائس الذي فقد كل شيء فركن إلى الدين ليخدع الناس، ويكسب تعاطفهم، وتألى بعضهم على الله تعالى فزعموا أن الله تعالى لا يغفر له، وأن جهنم مأواه، وأن نطقه لشهادة الحق قبل موته لا ينفعه، وأن إيمانه كإيمان فرعون حال غرغرته. وكما أن في حكم الفريق الأول حق وباطل ففي ما حكاه هؤلاء حق وباطل.
وبين هذين الرأيين المتباينين أراء أخرى كثيرة مشرقة ومغربة، يضيع كثير من الحق في ثناياها، ويضرب الباطل أوتاده فيها.
والذي ينبغي أن يعلمه كل مسلم أن الله تعالى لا يطالب عامة الناس بالحكم على عباده ومآلاتهم؛ لأن الحكم فيهم إلى الله تعالى، وليسوا مكلفين بالخوض فيما لا يعلمونه من أحوال الرجال، فمن تكلم فيهم وجب ألا يتكلم إلا بعلم وعدل، وأن يتحرى الحق فيما يقول ولو كان ثقيل الوطأة على نفسه، وأن يخلص في حكمه وقوله لله تعالى، لا يبتغي بذلك عرضا من الدنيا،ولا يريد نصر طائفة أو حزب، أو النكاية والشماتة بآخرين، واضعا نصب عينيه قول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} وقوله سبحانه {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}.(5/181)
لقد مرت بحاكم العراق أطوار وأحوال جعلت الناس يختلفون فيه، ويحتارون في أمره، فهو ربان حزب البعث الكافر بالله تعالى، المؤمن بالعروبة، وهو فارضه على أفراد شعبه، وما بلغ الحكم إلا على سيل من الدماء، وأكوام من الجثث، ثم لما حكم الناس أمعن في ظلمهم، وأسكت أصواتهم، وسار سيرة فرعون {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} وكانت جريمته الشنعاء بخيانته لجيرانه، واجتياح بلادهم، واستحلال دمائهم ونسائهم، مما أوجد المعاذير للدول المحتلة أن تضع أقدامها، وتنصب قواعدها في منطقة حرمت منها.فجرى عليه ما جرى من الحرب والحصار، فتغير عقب ذلك وقوَّى الدين وأهله، والله تعالى وحده أعلم بنيته، وليس للناس إلا الحكم على ظاهره، ثم ازداد تمسكه بدينه عقب أسره، فما فارقه مصحفه بشهادة أعدائه قبل أصحابه، وظهر اعتزازه بدينه أثناء محاكمته حتى أحرج قضاة الزور بثباته وعزته، ثم كانت الخاتمه الحسنة برباطة جأشه والحبل على رقبته، ونطقه بالشهادتين قبل شنقه {ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} فنرجو له بنطقه للشهادتين المغفرة والجنة، ولا نجزم له بذلك، فلا يعلم ما في قلبه إلا الله تعالى، ولا نجعل ماضيه الأسود حائلا بينه وبين قبول التوبة؛ فقد قبل الله تعالى توبة من هم أكثر كفرا وإجراما منه، فنقلهم الله تعالى بتوبتهم من كفار فجرة إلى مؤمنين بررة، كمسلمة الفتح من قريش الذين آذوا رسول ا صلى الله عليه وسلم وحاربوه وعذبوا أصحابه.
وقبل سبحانه توبة من قتل مئة نفس وهاجر تائبا إلى قرية مسلمة ، فقبضت روحه قبل بلوغها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فوسعته رحمة الله تعالى، فتولته ملائكة الرحمة.
وغفر الله تعالى لرجل أسرف على نفسه، فأمر أن يحرق جسده بعد موته، وأن ينثر رماده فتذروه الرياح، فلا يجمعه الله تعالى، فشك في قدرته سبحانه على جمعه، ولكن ما حمله على ما فعل إلا خوفه منه عز وجل، فغلب خوفه من الله تعالى شكه في قدرته سبحانه فغفر الله تعالى له (فقال الله تعالى له لما جمعه: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك) رواه الشيخان.
ولعل ما أصاب حاكم العراق من عظيم الابتلاء بخسارة عرشه، وقتل بنيه وبنيهم ، وتشريد أسرته، وسجنه ومحاكمته وقتله، مع توبته ونطقه للشهادتين، لعل ذلك مكفرا لما مضى من ذنوبه.
وأما حقوق العباد ودماؤهم، وظلمه لهم فالحكم فيها للعلي الكبير، وسيقف هو وخصومه يوم القيامة أمام حكم عدل للقصاص، واستيفاء الحقوق، ولا يظلم ربك أحدا.
والواجب على المسلم الذي شاهد هذا المشهد أن يفرح بتوبة جبار العراق حين تاب، وبنطقه للشهادتين، ولا يكون كرهه لطغيانه وأفعاله السيئة مانعا له من الفرح بتوبته، أو يتمنى أنه مات على الكفر أو ختم له بخاتمة السوء؛ فإن من لوازم ذلك محبة الكفر في بعض المواضع، وإرادته من بعض الأشخاص، نعوذ بالله تعالى من الجهل والهوى.
وقد فرح صلى الله عليه وسلم بتوبة مسلمة الفتح رغم أذاهم له ولأصحابه رضي الله عنهم، وفرح عليه الصلاة والسلام بتوبة الغلام اليهودي الذي زاره وهو في سياقة الموت فدعاه للإسلام فأسلم فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول (الحمد لله الذي أنقذه من النار) رواه البخاري.
وهكذا يجب على المؤمن أن يفرح بإيمان الكافر، وتوبة العاصي، ويتمنى أن يختم بالحسنى لكل الناس.كما يجب عليه أن يتوخى العدل في أحكامه وأقواله، ويتجرد من الهوى في حكمه، ولا يحكم إلا بعلم، ولا يقول في الرجال بالظن؛ فإن الله تعالى سائله يوم القيامة عن أقواله وأفعاله(ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وخذوا مما ترون من أحداث عبرا؛ فإن السعيد من اعتبر بغيره.(5/182)
أيها المسلمون: في ضجة هذا الحدث الكبير بمقتل زعيم من زعماء العرب كانت له صولات وجولات يهتم كثير من الناس بذات الحدث، وينشغلون بمجرياته وتفاصيله عن دروسه وعبره، فيكون الحدث مع أهميته عديم الفائدة بالنسبة لهم، وكم مرت بالناس من أحداث قلّ في الناس من استفاد منها، بسبب الجهل والغفلة، وكثرة الشهوات والملهيات. ودروس هذا الحدث الجديد كثيرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ فمما يستفاد منه: أن عاقبة الظلم وخيمة، ونهاية الظالمين أليمة، ولعل ما أصاب حاكم العراق عقوبة له على ظلمه أيام سطوته وجبروته، ولربما رفع مظلوم يديه إلى ربه في حبيب قتله أزلامه فاستجاب الله تعالى دعوته، فجرى عليه ما جرى، ولما نكب البرامكة في دولة الرشيد العباسي قال جعفر بن يحيى لأبيه وهم في القيود والحبس: يا أبت، بعد الأمر والنهى والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس؟ فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله تعالى عنها.
وفي التاريخ القديم والمعاصر عبر في مصارع الظالمين..تأملوا مصرع فرعون وأبي جهل وأبي بن خلف وأبي طاهر القرمطي، وفي التاريخ المعاصر ماذا كانت نهاية هتلر النازي، وموسوليني الفاشي، وشاه إيران، وطاغية رومانيا تشاوشسكوا، وطاغية الصرب ميليسوفتش، وغيرهم كثير. لقد طغوا وتجبروا وظلموا ثم أذاقهم الله تعالى الذل في الدنيا. لقد زالوا كأن لم يكونوا، ويا ويلهم من مظالم تنتظرهم. فحري بكل من ولاه الله تعالى ولاية كبيرة أو صغيرة ألا يغتر بسلطته وقوته، وأن يتوخى العدل في رعيته، وأن يأخذ من سير الظالمين ومصارعهم أعظم العظة والعبرة. وعلى كل عاقل ألا يغتر بالدنيا وزهرتها؛ فإن تقلباتها كثيرة، وكم من عزيز ذاق ذلها! وكم من غني أوجعه فقرها! ولقد مرت أيام على حاكم العراق ظهر فيها مزهوا أمام الشاشات والجموع تحف بموكبه، وتطأ عقبه، وتهتف له، تمنى أثناءها كثير من الناس مكانته، وحلموا بأمواله وقصوره ورفاهيته، ولو علموا نهايته لما تمنى واحد منهم سلطانه، ولا غبطه على ما هو فيه من النعيم لعلمه بالبؤس الذي بعده، ولا حسده على عز يعقبه ذل وأي ذل. وقد روى أنس رضي الله عنه فقال: (كانت ناقة لرسول ا صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء وكانت لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه) رواه البخاري. ثم تأملوا إلى حكمة الله تعالى فيما يقدره على العباد مما يظنونه شرا لهم، وفيه من الخير ما لا يعلمونه، فإنه يغلب على ظننا أن حاكم العراق لما اكتملت له الدنيا كان بعيدا عن الله تعالى، محاربا لأوليائه، ممالئا لأعدائه، قد أسكرته السلطة عن تذكر ربه سبحانه وتعالى، وأغفله الملك عن معرفة دينه، ولو خير وقتها أن يموت على حاله أو يفقد ملكه لاختار الموت. ولكن الله تعالى قضى عليه ما لم يختر فكان خيرا له؛ إذ كان فيما حاق به من عقوبات وابتلاءات مع الإمداد له في عمره، وعدم تمكن أعدائه من قتله في أول أمره فرصة لمراجعة نفسه، وتفقد قلبه، فتغير حاله في الهزيمة والحصار ثم في الأسر والذل عن حاله في الملك والعز. وهكذا فإن العبد قد يصاب في نفسه أو ولده أو ماله فيكون ذلك سببا ليقظته من رقدته، وتنبيهه حال غفلته، فيعود إلى الله تعالى فيختم له بخير عمله، وقد كره من قبل قدر الله تعالى عليه، وقضاءه فيه، فكان ما اختاره الله تعالى له خيرا مما يختار هو لنفسه، فاعرفوا حكمة الله تعالى في عقوباته وابتلاءاته، وتأملوا رحمته سبحانه ولطفه بعباده؛ إذ يجري لهم الخير العظيم من أبواب يظنها العباد شرا محضا، وربنا جل جلاله لا يخلق شرا محضا، والخير بيديه، والشر ليس إليه، سبحانه وبحمده، وتبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره.
وصلوا وسلموا على نبيكم....
=============(5/183)
(5/184)
هل صار الولاء والبراء محرجاً ؟
لا يزال التغيير "المُرتجل" في مناهِج المواد الشَّرعيَّة بالتَّعليم العام محَل استنكَار النَّاصحين وأهل الإختصَاص، ولنْ أتحدَّث في هذه المَقالة عن هذه الإرتجاليَّة المكشوفة في هذا التَّبديل و"الكِتمان" ومُصادمتِها لمشروعات قائِمة لتطوير المَناهِج في وزارة التَّربية والتَّعليم، كما لن أتحدَّث عن الهدْر المالي الواقع بسبب هذا التصرف، فقد استنزفت ملايين الريالات في كُتب قد طُبِعت ووصلت مستودعات إدارات التعليم، ولن أتحدَّث عما يُورثه هذا الحذف من تأكيد وترسيخ نظرة الغرب - وأذنابهم - أن المناهج السابقة تصنع "الإرهاب" و"التَّفجير"! سيكون حديثي في هذه المقالة عن موضوع الولاء والبراء، وهل صار أمراً محرجاً يُستحيى من تعليمه وتدريسه فضلاً عن تطبيقه وتحقيقه؟
لقد بُلينا - في هذه الأيام - بأقوام يتوارون خجلاً من إيراده وتقريره، وربما تأوّلوا بانهزامية ظاهرة وتأويلات مستكره.
إنَّ الحب والبغض أمر فطري لا انفكاك عنه، فكل إنسان سواءً كان برّاً أو فاجراً مؤمناً أو كافراً لديه هذه الغريزة الفطرية والنزعة البشرية من مشاعر الحب والبغض، وهذا أمر معلوم مشاهد، فالكافر يحب ويبغض، كما أن المؤمن يحب ويبغض، لكن الكافر يحب كل ما يهواه فقد يحب الكفر والفجور والاستبداد والخمر والظلم، وأما أهل الإيمان فهم يحبون ما يحبه الله تعالى من الإيمان والتوحيد والعدل والعفاف، كما يبغضون كل ما يبغضه الله _تعالى_ من شرك وظلم وفواحش.
فهؤلاء الذين يتباكون على مشاعر الكراهية والعداء، ويطالبون بإزالتها واستئصالها، حقاً إنهم لا يخالفون الثوابت الشرعية فحسب، بل يصادمون الفطرة الإنسانية ويخالفون الطبيعة البشرية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة، كما أن البغض والكراهة أصل كل ترك" (جامع الرسائل، قاعدة في المحبة 2/193).
ويقول في موضع آخر: "إذا كانت المحبة والإرادة أصل كل عمل وحركة.. عُلِم أنَّ المحبَّة والإرادة أصل كل دين، سواء كان ديناً صالحاً أو ديناً فاسداً". (المرجع السابق 2/217، 218).
إنَّ الحبَّ في الله والبغض في الله ولوازمهما من الولاء والبراء ليس إيماناً فحسب، بل هو أوثق عُرى الإيمان كما ثبت في الحديث عن رسول الله _ r_، وعقيدة الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين من الفرائض الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة، كما أن الولاء والبراء من أعظم الضمانات وأقوى الحصون في حفظ الناشئة من الإنحدار في مهاوي التغريب ومفاسد الانفتاح الإعلامي والعالمي.
ألا فليتق الله _تعالى_ أرباب تبديل المناهج والعامدين إلى إقصاء شعرة الولاء والبراء، وليتذكّروا أنهم موقفون بين يدي الله _تعالى_ وسائلهم عما صنعوه.
ويُقال لأرباب اللجان "المبدِّلة": أبلغ بكم العجز وقصور العلم ألا تجدوا طريقة ملائمة في تدريس الولاء والبراء وتقريبه للناشئة؟
أو تظنون أن الولاء والبراء لا ينفك عن الإرهاب والتفجير؟ - فذلك ظن السوء - فإما أن يحذف الموضوع كله، أو يبقى الولاء والبراء بما لا انفكاك عنه كما توهمتم..!
قد كان يسوغ لكم أن تختاروا أمراً ثالثاً به يزول المحذور المتوقع والإشكال المتوهم، وهي أشبه ما تكون بضوابط وتنبيهات في هذا الموضوع، وقد أشار فضيلة الشيخ صالح الفوزان إلى المداراة مثلاً.
ويمكن أن يلحق بتلك الضوابط الفرق بين عداوة الكافرين وبين البر والإقساط، وأن عداوتهم لا تنافي العدل والبرّ معهم، كما حرّره القرافي في الفروق.
كما أن من الضوابط المهمة: التفريق بين حال القوة لأهل الإسلام، وبين حال ضعفهم ففي القوة لهم أن يبادروا بالجهاد لأعداء الله _تعالى_، وفي حال الضعف لهم أن يأخذوا بآيات الصبر والصفح والعفو كما قرره ابن تيمية في (الصارم المسلول2/413). وكما يُنهى عن التشبه بهم ويغلّظ على من فعل ذلك، لكن قد يجوز ذلك في حال غلبة وقوع الضرر منهم كما وضحه ابن تيمية في (الإقتضاء).
كما أن تقرير مسائل الولاء والبراء أمر جليل، لكن تطبيقها على الواقع يحتاج إلى مراعاة تحقيق المناط، وكذا تطبيقها على الأفراد يحتاج إلى مراعاة عوارض الأهلية كالجهل والتأوّل ونحوهما.
أحسب أن هذه الضوابط ونحوها أليق وأنسب من هذا الحذف والإقصاء.
وإذا كان أرباب التبديل والكتمان قد خافوا أن يصنع الولاء والبراء تفجيراً وإرهاباً، فقد خرّجت هذه المدارس مئات الألوف من الناشئة ولم يكونوا إرهابيين ولا مفجّرين، ولو فرضنا - جدلاً - أن واحداً من تلك الألوف المؤلفة قد درس الولاء والبراء وساء فهمه ثم أعقب ذلك إرهاب وتفجير.. أفيسوغ أن تبدّل المناهج لأجل هذا الواحد - المفترض - ونهمل تلك الألوف المؤلفة؟
وهبّ - مرة أخرى - أن شعيرة الولاء والبراء أورثت تفجيراً، أفيجوز أن نعالج الخطأ بالخطأ، وأن نتداوى بالتي هي الداء؟ إن الخطأ يعالج بالصواب والبدعة ترد بالسنة.(5/185)
إنَّ ما صدر من هذه التصرفات المرتجلة من أجل إقصاء موضوع الولاء والبراء، وما تبعها من هدر مالي ومخالفات نظامية وتجاوزات إدارية، وتكرار في موضوعات.. كل ذلك يكشف عن سوء تدبير وحرمان من التوفيق، ولا غرو في ذلك فإن التأييد والتوفيق والتسديد إنما يناله من حقق هذا الأصل، كما قال _سبحانه_: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} (المجادلة: من الآية22).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن هذه الآية: "فهذا التأييد بروح منه لكل من لم يحب أعداء الرسل وإن كانوا أقاربه، بل يحب من يؤمن بالرسل وإن كانوا أجانب، ويبغض من لم يؤمن بالرسل وإن كانوا أقارب، وهذه ملة إبراهيم" (الجواب الصحيح 1/256).
ويقول في كتاب آخر: "وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين زنكي، وصلاح الدين، ثم العادل، كيف مكّنهم الله وأيّدهم، وفتح لهم البلاد، وأذلّ لهم الأعداء، لما قاموا من ذلك بما قاموا به، وليعتبر بسيرة من والى النصارى، كيف أذلّه الله _تعالى_ وكبته" (مجموع الفتاوى 28/143).
وأخيراً فإنَّ على الدُّعاة وطُلاَّب العِلم أنْ يعنوا بتقرير وتحقيق هذا الأصل من خلال عدة محاور، منها: الأُخُوة الإيمانيَّة، وسلامَة الصَّدر تجاه أهل الإيمان، وحُقوق المُسلم على أخيه، وأحكام التَّشبه بالكفَّار، وصور موالاة الكفَّار وأحكامها، ومفاسد الدعوة إلى تقارب الأديان أو ما يسمى بالإعتراف بالتَّعددية المذهبية الفكرية، فلقد كان سلفنا الصالح يجتهدون في إظهار الإسلام والسنة لا سيَّما عند خفائها واندراسها، ومن ذلك أن الإمام سفيان الثوري - رحمه الله - كان يقول: "إذا كنتَ بالشام فاذكر مناقب عليّ، وإذا كنتَ بالكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر" أخرجه أبو نعيم في (الحلية. (7/260
حيث غلب النصب - بغض عليّ رضي الله عنه - على بلاد الشام آنذاك، كما ظهر التشيع في الكوفة.
ورُئي عمر بن مرّة الجملي بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بمحافظتي على الصلوات في مواقيتها، وحبّي علي بن أبي طالب، "فهذا حافظ على هاتين السنتين حين ظهر خلافهما، فغفر الله له بذلك، وهكذا شأن من تمسّك بالسنة إذا ظهرت البدعة" (منهاج السنة النبوية 8/239).
وأظهر الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - في بغداد تحريم النبيذ من غير العنب مما يسكر كثيره، فألّف كتاب الأشربة، حتى إن الرجل يدخل بغداد، فيقول: هل فيها من يحرم النبيذ؟ فيقولون: لا، إلا أحمد بن حنبل. (انظر نظرية العقد لابن تيمية ص84).
اللهم اجعلنا سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك، وبالله التوفيق.
==============(5/186)
(5/187)
الإختلاط فساد وانحطاط
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جلَّت قدرته وعظمت حكمته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كملت نعمته ووسعت كل شيء رحمته ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المحمودة سيرته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد.
فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين أغمِض عينيك وأصم أذنيك واصرف قلبك عما يتفوّه به المجرمون ويسطِّره الكَتَبة الكاذبون من رموز النفاق وأرباب العلمنة وغلمان الأهواء أدعياء العقلنة من مصادمة للحقائق ومعارضة لحكمة الخالق ولبس للحق بالباطل وكتم للحق وتزيين للباطل كي تميل الأمة ميلاً عظيماً0
لا تُطِع الكافرين والمنافقين ودَع أذاهم وتوكَّل على الله ، وقف هيبة واستسلاماً وخضوعاً وانقياداً بقلبك وجوارحك لحقائق القرآن الذي أنزله من هو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير وتقبل بتصديق ويقين كلام سيد المرسلين الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
استمع إلى حقائق القرآن والسنة واقبلها غير متردد ولا متحرج {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} الأحزاب 36
استمع إلى الحقائق التي تكلَّم بها رب العالمين {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً }النساء 122
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }المائدة50 ،وأعلنها خاتم المرسلين r ولن تجد لسنته مثلاً ولا بديلاً.
اسمعها وارضَ بها ولا يستخفنَّك الذين لا يوقنون.
الحقيقة الأولى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} الأحزاب 33
إنَّ البيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى غير مشوَّهة ولا منحرفة ولا مُلوَّثة ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيَّأَها الله لها بالفِطرة.
وإن الأم المكدودة بالعمل للكسب المرهقة بمقتضيات العمل لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها،
وإنَّ خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة ، أما أن يتطوع الناس بها وهم قادرون على اجتنابها فتلك هي النكسة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول في عصور الإنتكاس والضلال
فأما خروج المرأة لغير العمل ...خروجها للاختلاط وأماكن الملاهي والتسكُّع في النوادي و المجتمعات وحضور الحفلات والمهرجانات فذلك هو الإرتكاس في الحماة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان.
لقد كان النساء على عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعاً ولكن كان في زمن عفّة وتقوى وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد ولا يبرز من مفاتنها شيء ..ومع هذا فقد كرهت عائشة رضي الله عنها لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول ا صلى الله عليه وسلم 0
في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول ا صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس ، وفي الصحيحين أنها قالت :(لو أدرك رسول ا صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل) فماذا أحدث النساء في عهد عائشة ؟ وماذا كان يُمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول ا صلى الله عليه وسلم كان مانعهن من الصلاة ؟ . ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام حيث الخروج لاإلى الصلاة بل لمخالطة الرجال وإبداء الزينة وإثارة الفتنة .
أما الحقيقة الثانية: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ }الأحزاب53
هكذا يقول اللطيف الخبير. أما المنافق الحقير فينعق : نصف المجتمع معطل والمجتمع يتنفس برئة واحدة0
فلا يقل أحد غير ما قال الله ، لا يقل أحد إن الاختلاط وإزالة الحجاب والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب وأعف للضمائر وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازل الجهَّال المحجوبين 0
لا يقل أحد شيئاً من هذا والله يقول {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}الأحزاب53 يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات أمهات المؤمنين وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول ا صلى الله عليه وسلم ممن لا تتطاول إليهم وإليهن الأعناق ...وحين يقول الله قولاً ويقول خلق من خلقه قولاً فالقول لله سبحانه وكل قول آخر هراء لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد
والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله وكذب المدعين غير ما يقوله الله والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار.(5/188)
والحقيقة الثالثة: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ}الأحزاب32 من هنَّ اللَّواتي يحذرهن الله هذا التحذير ؟ إنهنَّ أزواج صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين اللاتي لا يطمع فيهن طامع ولا يرف عليهن خاطر مريض ، وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟ في عهد صلى الله عليه وسلم وعهد الصفوة المختارة من البشريَّة ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول وتترقق في اللفظ ما يثير الطمع في قلوب ويهيج الفتنة في قلوب وإن القلوب المريضة موجودة في كل عهد وفي كل بيئة وتجاه كل امرأة ولو كانت هي زوج النبي الكريم وأُم المؤمنين ، فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش فيه اليوم في عصرنا الذي هاجت فيها الفتن وثارت الشهوات... كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتة ويُهيِّج الشهوة ويُنبه الغريزة ؟ كيف بنا في هذا العصر في هذا الجو ونساء يتكسَّرن في نبراتهن ويتميَّعن في أصواتهن ؟
هل بعد هذا نجد مبرراً أن تقرأ المرأة أمام الرجال وتلقي كلمة أمام الرجال وتخاطب الرجال خاضعة في القول فيطمع فيها مرضى القلوب ويتغنى بجمال صوتها ضعاف النفوس. هذه هي الحقيقة لكن أرباب الشهوات لا يفقهون.
والحقيقة الرابعة: يعلنها صلى الله عليه وسلم قائلاً :"المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها"وقال:"ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء"، وحينما خرج رسول ا صلى الله عليه وسلم من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق قال للنساء:"استأخرن فليس لكُنَّ أن تَحقُقْن الطريق عليكن بحافات الطريق"فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به ... فواعجباً من زمن أصبحت فيه النساء يمشين بكل زهو وتبختر أمام الرجال 0
وحرصاً من صلى الله عليه وسلم على هذا المبدأ فقد أفرد باباً خاصاً للنساء يدخلن منه للمسجد ويخرجن منه لا يخالطهن ولا يشاركهن فيه الرجال ..ومن ذلك تشريعه للرجال أن لا يخرجوا فور التسليم من الصلاة إذا كان في الصفوف الأخيرة نساء حتى يخرجن وينصرفن إلى دورهن قبل الرجال. فقد كان r إذا سلم مكث قليلاً وكانوا يرون أن ذلك كيماًينفذ النساء قبل الرجال 0
إنَّه في أقدس الأماكن وفي أطهر الأعمال وهي الصلاة كان الإسلام يحرص على انفصال النساء عن الرجال كما قال الرسو صلى الله عليه وسلم :( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وشر صفوف النساء أولها وخيرها آخرها) وهذا ابن عباس رضي الله عنه يقول شهدت العيد مع صلى الله عليه وسلم ولولا مكاني من الصغر ما شهدته حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكّرهن 0
قال بن حجر : قوله : ثم أتى النساء يشعر بأن النساء كنَّ على حِدة من الرجال غير مُختلطات بهم ، وقوله : ومعه بلال فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه فالله المستعان من هذا الزمان.
بل قد حرصت الصحابيات على عدم الاختلاط حتى في أشد المساجد زحاماً وفي أشد الأوقات زحاماً في موسم الحج بالمسجد الحرام.
جاء في البخاري :كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم ودخلت على عائشة رضى الله عنها مولاة لها فقالت لها: يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعاً واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً، فقال لها عائشة : لا آجرك الله، لا آجرك الله، تدافعين الرجال ؟ ، ألا كبرت ومررت ، ونهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء ، فرأى رجالاً معهن فضربه بالدرة 0
هذه هي الحقيقة يعلنها r في مقاله وفعاله ويقرر فيها للأمة أن الأنثى هي أنثى مهما استرجلت ، والجمل هو جمل مهما استنوق وأن العواطف والهواتف في أجسادهما تشدهما شطراَ إلى شطر مهما كان الجو الذي يسودهما مفعماً بجد أو هزل، وبفرح أو ترح ، وإنما يخفف من ذلك الشد أو يستره الحياء والدين وما أقلهما في عالم الاختلاط.
وأما الحقيقة الخامسة: فقد نطق بها الواقع وشهد عليها شاهد من أهلها قد أثبتت الإحصائيات المعلنة أن نسبة الحبالى من تلميذات المدارس الثانوية الأمريكية بلغت في إحدى المدن 48% ودلت الإحصاءات في أحد الأعوام على أن 120000 طفل أنجبتهم فتيات بصورة غير شرعية لا تزيد أعمارهن عن العشرين وأن كثيرات منهن من طالبات الكليات والجامعات.(5/189)
وهذه كاتبة إنجليزية تشعر بالخطر فتقول: إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا وهنا البلاء العظيم على المرأة ..ثم تقول : أما آن لنا أن نبحث عما يخفف إذا لم نقل عما يزيل هذه المصائب العائدة بالعار على المدينة الغربية أما آن لنا أن نتخذ طرقاً تمنع قتل الآلاف من الأطفال الذين لا ذنب لهم بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المجبولة على رقة القلب ... ثم قالت : أيها الوالدان لا يغرنَّكم دريهمات تكسبها بناتكم باشتغالهن في المعامل ونحوها ومصيرهن إلى ما ذكرنا علموهنَّ الابتعاد عن الرجال وأخبروهنَّ بعاقبة الكيد الكامن لهنَّ بالمرصاد. ثم تقول :لقد دلتنا الإحصاءات على أنَّ البلاء الناتج من حمل الزنا يعظم ويتفاقم حين يكثر اختلاط النساء بالرجال. ولقد أدت بنا هذه الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في الإمكان وهذا غاية الهبوط في المدينة ) اهـ كلامها.
إنَّ الاختلاط داء ووباء وشر وبلاء بكل صوره ومظاهره ... اختلاط الذكور والإناث في المضاجع ولو كانوا إخوة ...اتَّخاذ الخدم الرجال واختلاطهم بالنساء وحصول الخلوة بهم ...اتَّخاذ الخادمات بلا محرم ... استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب ، الاختلاط في دور التعليم والجامعات ، الاختلاط في الوظائف والأندية والمواصلات والمستشفيات والزيارات وحفلات الأعراس ، الاختلاط في الأعياد والمهرجانات والمناسبات ، الاختلاط في الأماكن الترفيهية والحدائق والأسواق ، حيث في أجواء التسوق والترفيه وتسكع بعض الشباب اللاهث وراء المتعة تحدث ظاهرة خطيرة وهي ظاهرة التعرُّف السريع والإعجاب من النظرة الأولى التي تعقبها خطوات الانحراف.
الاختلاط بكل أشكاله محرم وتعدٍ على حدود الله وانتهاك لمحارمه {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }البقرة229الاختلاط بكل صوره نتائج مرللدعوات الآثمة التي ينفثها أرباب الشهوات في كتاباتهم وزواياهم وينادون من خلالها بالمساواة بين الذكر والأنثى في كل شيء اعتراضاً منهم على فطرة الله ومخالفة لهديه وشريعته0
لقد وُلدت هذه الدعوى جُرأة عند المرأة في إقدامها على غشيان مجتمعات الرجال والاتصال بهم ومحادثتهم بل ومغازلتهم بلا تحفظ ولا حياء ... وولدت هذه الدعوى الظالمة جُرأة عند المرأة فأقدمت على تأليف الجمعيات النسوية واللِّجان النسائية وإصدار الصحف والمجلات وإعلان المسيرات لا في سبيل إصلاح ما فسد من شؤونهنّ وتقويم مااعوجَّ من سلوكهنَّ وإنَّما في سبيل المُطالبة بحق المرأة بالمساواة مع الرجل... تخرج كما يخرج ..وتلبس كما يلبس بل أفضح مما يلبس وتصادق من تشاء وتعمل ما تريد وتغشى الأندية العامة كما يغشاها الرجال وتنادي بتبني قضايا سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو بيئية ليس من شأنهن أن يتصدَّين لها وليس في قدرتهنَّ الفكرية والعملية أن يفلحنَّ في حلِّها ومعالجتها ..وإنَّما النيَّة الخفية من وراء ذلك هي أن يتكشَّفن ويبدين زينتهن ولتذكرهن الصحف وتردد الإذاعات أسماءهن بأنهن المتحضرات المتحررات.وليتهن إذ فعلن ذلك كان حفلهن مستقلاً عن الرجال 0
إن جعبة الباحثين والدارسين لمستنقع الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية والفضائح المشينة التي تمثل صفعة قوية في وجه كل من يجادل في الحق بعدما تبين ..وإن الإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة بل صارخة بخطر الاختلاط على الدين والدنيا ..لخصها العلامة أحمد وفيق العثماني عندما سأله بعض الساسة الأوربيين : لماذا تبقى نساؤكم محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال ويغشين مجامعهم ؟ فأجاب في الحال قائلاً: (لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن) ولما وقعت فتنة الاختلاط من جامعة مصرية كان ما كان من حوادث يندى لها الجبين ولما سُئل عميد قلة الأدب العربي طه حسين عن رأيه في هذا قال: ( لابد من ضحايا) ولكنه لم يبين بماذا تكون الضحية ؟ وفي سبيل ماذا لابد من ضحايا وأي ثمرة يمكن أن تكون أغلى وأثمن من أعراض المسلمين ؟ 0
والآن نعلن وبكل قوة ونجزم بحقيقة لا مراء فيها وهي أنك إذا وقفت على جريمة فيها نهش العرض وذبح العفاف وأهدر الشرف ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي نسجت هذه الجريمة وسهلت سبيلها فإنك حتماً ستجد أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة بين الرجال والنساء ومن خلال هذه الثغرة دخل الشيطان وصدق الله {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27أقول هذا القول ..
الخطبة الثانية(5/190)
أما بعد،،، إنَّنا وكأي أمة مسلمة وكغيرنا من مجتمعات المسلمين يوجد من بيننا دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ، إنَّهم قوم من بني جلدتِنا ويعيشون بين أظهرِنا ويتكلَّمون بألسنتنا يلبسون لباس الإصلاح ويزينون باطلهم بدثار الصلاح {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }البقرة12إنهم أرباب الشهوات ودعاة الشبهات المتهوكون في أودية الباطل أولئك المنهزمون الذين لم يجدوا سبيلاً لرفع رؤوسهم إلا بالتقليد المطلق لكل غربي فهو المحور الذي يدورون فيه واستعلوا بانهزاميَّتهم وتطاولوا بسقوطهم وعدَّوا ذلك باباً من أبواب التَّزين يتبخترون به على غيرهم
إنَّهم فئة تمتد جذورهم الفكرية في فكر أعداء الإسلام تشرب منه وتستمد من تعاليمه ومناهجه ...يدعون الإيمان والإسلام ويزعمون أنَّهم على الهدى والصلاح فإذا ما تكشفت خبيئتهم وجدنا نُفوساً مريضة أسَّرها الهوى وغلبت عليها الشهوات وأحاطت بها الشكوك والشُبُهات يقول قائلهم: كان الرعيل الأول - ويعني بهم دعاة تحرير المرأة - قناديل تغوص ذبالاتها بدرجة أو بأخرى في الفكر الغربي المتقدم..
إن هذه الفئة بكتاباتها وأقوالها وطرحها تسعى إلى جر الأمة لمستنقع الاختلاط ووحل الانحطاط الذي غاصت فيه المسلمات في بلاد أخرى فجنت منه المصاب والعلقم.
إن المأزق الذي يتساقط فيه هؤلاء يوماً بعد يوم هو أنهم لايملكون مشروعاً حضارياً جاداً لنهضة الأمة وإنما غاية ما يملكون أنَّهم يريدون أن يزجوا الأمة في المُستنقع الغربي الآسن ليكون أبناؤها عبيداً يتمرغون تحت أعتابهم 0
حينما رأوا هذه البلاد تعتز بدينها وتحافظ على قيمها ويقف أهلها بإيمانهم وشرفهم صخرة تتحطَّم عليها أفكارهم ورأوا أن ولاة أمرها يؤكِّدون في كلماتهم وقراراتهم على خُطورة الاختلاط ومنعه بدءاً بالكلمة المشهورة للملك عبدالعزيز رحمه الله ...
حينما رأوا ذلك التميز سعوا إلى جر الأمة لويلات الاختلاط عبر سياسة تكسير الموجة وبشعارات برَّاقة وتحت رايات مشبوهة ... تارة تحت مسمى الاقتصاد وتارة تحت غطاء المعارض الثقافية وأخرى تحت ستار حماية البيئة ورابعة بستار الاختراع والمخترعين. ومرة عبر مهرجان الزهور وهكذا إلى أن تتقبل الأمة فكرة الاختلاط وتخضع للأمر الواقع .. ولا بأس عندهم أن تظهر المرأة متحجبة تارة ومتكشفة تارة أخرى حسب البيئة والمجتمع ...وإذا نجحوا في مرحلة تقدموا إلى غيرها إلى أن تتحول الأمة في النهاية إلى مُستنقع من الفساد والانحلال 0. هذا في الوقت الذي ترتفع فيها صيحات العُقلاء في الغرب والشرق منادية المرأة بالعودة إلى بيتها والحِفاظ على كرامتها وفي الوقت الذي تتجه فيه الدول الغربية إلى حماية أخلاقها فأنشأت مستشفيات خاصة بالنساء ومواصلات خاصة بالنساء ومنحت منحت مزايا للمرأة التي تعكف على تربية أولادها0
رُبَّ قائلٍ : ما هذا التهويل وتلك الإثارة ، ولماذا هذه المُبالغة وكأن نساءنا سيظهرن على الشواطىء عرايا أو أن المسارح سُتنصَب في الزوايا ؟
ولهؤلاء أقول : ولِمَ لا يُمكِن أن يكون الأمر كذلك ؟ أولم يخبرنا ربنا أن للشيطان خطوات وحذرنا منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}النور21
أوليس الاختلاط أصبح أمراً واقعاً في كثير من ميادين حياتنا ؟ فهل كان مجتمعنا كذلك قبل سنوات، أليس من نسائنا من تمردن على الفطرة وخلعن جلباب الحياء فنافسن الرجال في قيادة الطائرات وسباق الفروسية والعمل في الشركات والظهور مع الكبراء متبرجات ؟ أوليس الاختلاط واقعا في المستشفيات والمستوصفات وفي وسائل الإعلام وفي الحدائق والمتنزهات وفي بعض الشركات ؟ بل وفي الأجواء على الطائرات ؟ . فكيف حدث هذا ؟ أليس بخطوات خطوات ؟ أفليس إذا تواصلت الخطوات بلا إنكار ولا استنكار سنصل إلى ما يشتهون ؟
أولم تقرأوا كتاب ( تحرير المرأة) والذي يصور المرأة في بلاد مسلمة كانت أكثر تحشماً وتستراً منا فمازالت يد التغريب تعمل حتى سقطت النساء في درك الاختلاط والانحطاط الخُلقِي الذي تسمعون به وربما تُبصرون ..ألا فلتعلموا أن فصول تلك المسرحية تطبق اليوم حذو القذة بالقذة فخذوا حذركم فوالله إن رضينا وسكتنا فسنجد أنفسنا يوماً ما في الدرك الذي سقط فيه غيرنا غارقين في الوحل الذي غرق فيه من حولنا.
إن السعي إلى فرض الاختلاط في مجتمعنا أو الدعوة إليه أو الرضا أو السكوت عليه هو سعي لجر الأمة إلى السقوط والانهيار حينما تخسر أعظم مقوماتها وهي الدين والأخلاق والمثل 0
وإن من يسعى لهذه النتيجة فهو ظالم لنفسه وأمته 0
إننا نناشد المسؤولين المخلصين في بلادنا والغيورين على دينهم وقرآنهم والحريصين على أمن بلادهم أن يقفوا في وجه هذه التيارات ويصدوها فبلادنا أمانة في أعناقهم فليتقوا الله في هذه الأمانة 0(5/191)
وننادي دُعاة الاختلاط والانحطاط : رُويدكم يا أدعياء التقدم والتحضر.. رُويدكم فقد طفح الصاع وطفح الكيل وجاوزتم حدكم وخرجتم عن طوركم ..من أنتم حتى تطاولوا السماء بأعناقكم ..ومن أنتم حتى تنازعوا الله في حكمه ؟ أنتم تقولون قولاً والله يقول قولاً وقولكم مصادمة لقول الله ...أفتريدون أن نصدق كلامكم ونتبع أهواءكم ونُخالف قول ربنا ؟ تالله لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم
إننا ننادي دُعاة الاختلاط من كان جاهلاً بآثار دعوته ونتائجها أن يستغفر ربه ويتقي الله في مقولاته وممارساته قبل أن يأتي يوم يرى فيه نتائج دعوته في أقرب الناس إليه ...يراه في أخواته أو زوجته أو بناته ..ونقول لهم إنَّ المسلم الحقيقي لن يسكتَ ولن يصمت لأنَّه يُدرك تمام الإدراك أن حضارته في إسلامه واستقراره في التزامه وعظمته بإيمانه ..فهو يرفض كل دعوة تصادم إسلامه ويُناهِض كل فِكرة تُعارض التزامه.
إنَّ الشخصية المسلمة ستقف لكم بالمرصاد لأنَّها تُدرك أهداف الدعوات الهابطة وألوان المشاعر المتردية 0
وإننا لنناشد كل مسلم ومسلمة في بلادنا بأن يقف أمام تيار اختلاط ..ندعوه إلى أن يكون أصيلاً وقوياً فلا يتقاعس عن المواجهة بالتي هي أحسن وإنَّ الساكت أمام هذا الخطر شيطان أخرس وسيحمل إثمه وإثم الأجيال القادمة إن فسدت {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }الأنفال51 وإنَّ على علماء الأمة ودُعاتها ووُجهائها الكفل الأعظم في مواجهة تيار التغريب باحياء شعار (الدين النصيحة ، لله ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم) 0
وأمام هذه الموجة القاتلة من ريح التغيير وأعاصير التدمير فإنَّ على الدُعاة وعلى الأولياء والآباء مسئولية ودوراً سأسطره في جمعة أخرى بإذن الله
وختاماً: يا فتاة هذه البلاد وربِّ السماء والأرض إني لكِ من الناصحين ..اقرأى حتى لا تنخدعي واحذري قبل أن تقعي ولا تكرري المأساة التي تورطت بها أختك في بلاد مسلمة وهي الآن تعود إلى رشدها وتؤدب إلى عقلها بعد أن ذاقت مرارة التحرر من عُبودية الله وتجرَّعت ذل العبودية لعباد الله وانكشف لها زيف المفسدين فخذي العبرة من الساقطين السابقين ولا تكوني عبرة للاحقين..
ويقيننا : أن قرون الوعول النفاقية ستتحطم على صخرة الإيمان والثبات والوعي والإدراك ، وإن الله لا يصلح عمل المفسدين.
اللهم صل وسلم على النبي المختار r تسليماً كثيراً ...
===========(5/192)
(5/193)
مناهجنا تغيير أم تغريب
عبدالرحمن بن عبدالعزيز العقل * 18/8/1424
14/10/2003
يفدح المصاب ويزداد البلاء على هذه الأمة، وتشتد طوارق الإحن عليها، وتمتد سحائب الفتن على أجيالها، وتتراكم أجواء التمحيص لأبنائها حين يكون خصامها في مسلّماتها، ونزالها في ثوابتها وأصولها.
"إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء فتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة؛ فيقول المؤمن هذه هذه" [أخرجه مسلم في الأمارة عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-].
إن أعظم فتنة، وأقسى زلزلة تواجه الجيل الصاعد في هذا العصر، زلزلة الثوابت، وتشكيك شرائح من منهزمي هذه الأمة في معاقد عزها، ومقاعد ثبوتها وبقائها.
ويقبح الأمر أكثر، وتتصاعد الظلمة وتمتد حين يترجم هؤلاء ما لديهم إلى واقع ملموس، ووضع محسوس، وحين يتخطون التنظير بالأقوال إلى التنفيذ بالأفعال، وهذا ما صدم به هؤلاء المجتمع السعودي في هذه الأيام حينما اجترؤوا على خطوة كبيرة نحو الوراء في مناهج التعليم، بهدف غربلة المجتمع، وبت الصلة بين ناشئته وبين أصولهم وعقائدهم.
إنها الخطوة الجريئة الكبيرة للتمهيد لمشروع أكبر، وهو تغريب الأفكار، وصياغة الإسلام على النظر الأمريكي وهيكلة المجتمع على ما تهواه الأم الحنون.
إنه تحقيق مطلب في سلسلة مطالب تنادي بها هذه الأم.
ورغم النداءات المتعددة من النصحة -قديماً وحديثاً- في التأني والتريث؛ إلا أن القاضي في مجلس الكونجرس قد أصدر حكمه سريعاً، فقطعت جهيزة قول كل خطيب.
ولكن أغلقوا الأسماع عنا ……
وأبدوا ضدنا عقداً دفينة
وأنذرناهم الطوفان لكن ……
أبوا إلا حمى الأسس الحصينة
فلما أن قطعنا بعض شوط ……
إذا بالبعض يخرق في السفينة
نهرناهم عن التخريب لكن ……
أجابوا إن فعلتهم جميلة
فماذا يصنع الإنسان فيهم ……
إذا كانت نصائحنا مهينة؟
فلله الشكاية في غريب ……
يرى طرق السلامة ضد دينه
جاء في تقرير اللجنة الأمريكية المكلفة من مجلس الكونجرس بدراسة وفحص أكثر من تسعين كتاباً مقرراً في مختلف المراحل الدراسية في السعودية، جاء من ضمن فقرات التقرير:
1) إن التعليم السعودي يقوم على الإسلام، والدراسات الإسلامية تشكل جزءاً رئيساً في هذه المقررات حتى الكتب العلمية تشير إلى الإسلام.
2) السعوديون يقولون: إن الإسلام هو أساس الدولة والمجتمع والقضاء والتعليم والحياة اليومية.
3) إنهم يصفون المسيحيين واليهود بأنهم كفار، وأنهم أعداء الإسلام.
4) المناهج السعودية لا تعترف بأي حق لليهود في فلسطين وأرض إسرائيل.
5) في المناهج السعودية تركيز على فصل النساء عن الرجال، وحجاب المرأة.
6) هناك آيات قرآنية كثيرة عن حجاب المرأة، وأهمية الالتزام به، وما تقوم به بعض النساء من كشف أجسامهن لرجال غرباء هو ذنب كبير.
7) حديث نبوي أثار كثيراً من النقاش عن اليهود، يقول:"لن يأتي يوم القيامة حتى يقاتل المسلمون اليهود.. حتى يختفي وراء شجر أو حجر" [انظر مجلة البيان العدد (188) 4/1424هـ].
هذه هي نظرة هؤلاء إلينا وإلى مناهجنا، إنها مساومة وقحة على ديننا وعقيدتنا، إنهم ينزعجون حتى من ذكر الإسلام في مناهجنا.
أيها الأحبة:
هذه بعض الملامح التي تدل على معالم التغيير الأمريكي الجديد الذي يصب لصالح اليهود أولاً، والنصارى ثانياً، ولن يكون هو نهاية المطالب، ولا غاية الرضا عند هؤلاء وأولئك، فحتى لو أُعطوا كل ما يطلبون من التغيير؛ فلن يرضوا بذلك، أو يقنعوا به، لأنه لا حد للجشع اليهودي، ولا سقف للمطالب الصليبية.
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) (ودوا لو تكفرون كما كفروا) (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).
إن مما يؤسف له كثيراً أن عدداً من النخب الثقافية والإدارية في مجتمعنا لديه الاستعداد التام -خوفاً أو طمعاً- لقبول خطة الأمركة التعليمية، ولا مانع لديه لقبول مشروع التغيير كاملاً أو مجزَّءاً.
إن المرحلة القادمة حرجة وفظيعة بكل المقاييس، وربما شهدت معركة ضارية على ديننا وبلادنا، وعلى قيمنا وثوابتنا، وسيكشف كثير ممن يسمون أنفسهم بـ (الليبراليين) عن حقيقة ثقافتهم، وجذورهم، ونحسب أن هذا التيار سيكون الأداة الطيعة الذي سيستخدمه العدو في اختراق الأمة، وتسويق مشاريع الثقافة الأمريكية، وبسط هيمنتها على مراكز الرأي ومصادر التأثير.
وباسم الإصلاح والتطوير ونحوها من الكلمات الجذابة والمصطلحات البراقة، يرفع هؤلاء لواء الإفساد ومشروع التغريب والتخريب.
وليس هذا بدعاً من هؤلاء المتغربين والمتأمركين، فلقد قال الله عن أسلافهم من قبل:(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون* ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
إن قضية تغيير المناهج التعليمية في المنطقة الإسلامية لم تفتر أبداً منذ معاهدة (كامب ديفيد)، مروراً باتفاقيات مدريد؛ إلا أن هذه القضية اشتد الإلحاح عليها بله التهديد لأجلها في هذه الأيام، بعد أن طفت على السطح زمناً.(5/194)
ازدادت هذه القضية زخماًَ، وصعد شأنها بعد أحداث سبتمبر الشهيرة، وذلك من خلال الربط الأمريكي بين المناهج التعليمية المقررة في عدد من الدول الإسلامية -وبالأخص السعودية- وبين ما تسميه الولايات المتحدة إرهاباً.
لقد رأى هؤلاء وأعوانهم من المتأمركين المنهزمين فرصة سانحة في هذه الظروف لإجراء عمليات تغيير واسعة في المنطقة خاصة في أمر المناهج.
قال المنصِّر المشهور (تكلي):"يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية، وتعلموا اللغات الأجنبية".
وقديماً قال زعيم المنصِّرين (زويمر) مهنئاً تلامذته المنصرين:"لقد قبضنا في هذه الحقبة من ثلث القرن التاسع عشر على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، وإنكم أعددتم نشئاً في ديار الإسلام لا يعرف الصلة بالله، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده الاستعمار المسيحي، لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يعرف هِمّة في دنياه إلا في الشهوات؛ فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، إنه يجود بكل شيء للوصول إلى الشهوات" [انظر:" مخطط تدمير الإسلام" لنبيل المحيش، وأيضاً "قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله" لجلال العالم].
هذا ما يريده هؤلاء لأجيالنا الإسلامية، وهم المستهدفون المعنيون بكل هذه المشاريع المرسومة والخطط المدروسة منذ أمد بعيد.
أيها الأحبة في الله:
إن الباعث لأمركة المناهج والداعي لغربلتها كما يريد أسياد أمريكا هو أنها أذنبت وأجرمت جرماً واحداً، إنه (جرم تدريس الإسلام، وتعليم القرآن وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -).
إن جريرة المناهج في بلادنا عند الأسياد والأذناب، أنها تعلم عقيدة الولاء والبراء التي جاء بها القرآن العزيز، وتغرس بغض الكافرين وحب المؤمنين.
هذه المناهج، بهذا البناء والغراس، هي التي فرخت الإرهاب كما يقوله هؤلاء، وهي التي ولدت العنف وبثت التطرف وأنشأت الغلو كما يقول أولئك.
أما المناهج الإسرائيلية المتشددة التي يتربى عليها أبناء يهود؛ فهذه لا تزداد مع الأيام إلا قوة، ولا مع الصراعات إلا تماسكاً وثباتاً وتطوراً إلى الأشد؛ لأنها لا تولد إرهاباً ولا عنفاً عند القوم.
جاء في أول كتاب "حول أدبيات التعليم والثقافة العبرية" للبروفسور أوميركوهين -أستاذ التربية في جامعة حيفا- موضوعاً بعنوان "وجوه قبيحة" يركز فيه مؤلفه على مسألة الصراع العربي الإسرائيلي في أدب الناشئة، واعترف فيه أنه حتى نهاية عام 1984م لم تتغير النظرة المشوهة إزاء الإنسان العربي؛ فالنظرة عدائية، ولم تحل محلها نظرة احترام أو قيم".
وقد تأثر الأدب الصهيوني الطفولي بالفكر الصهيوني العنصري القائم على القومية العرقية، والموغل في الاستعلاء المغلف بمفاهيم وتعاليم توراتية وتلمودية.
وقد شرعت القيادة الصيهونية بتسخير أحلامها وتجنيد طاقاتها الفكرية لصياغة أدب جديد يلائم المرحلة القادمة ويرتكز على جانبين:
1) الجانب الاستعلائي العرقي.
2) الجانب الاستيطاني الاستعماري.
فأما الجانب الأول؛ فيعتبر الأدباء فيه أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وشعبها ليست له هوية، وأن سكانها بدو متوحشون، احتلوا البلاد وخربوها؛ لذا يجب أن يعودوا إلى الصحراء، وأن يستولي اليهود على الأرض، لذا فالحرب قائمة بين العرب واليهود إلى أن يتم طرد العرب الذين صوروا بأقبح الصور، على أنهم قطاع طرق قذرون، ثيابهم رثة، ويمشون وهم حفاة على الأقدام.
أما الجانب الثاني الاستيطاني الاستعماري؛ فينظر فيه إلى العرب والمسلمين على أنهم أشجار بلا جذور يتحتم اقتلاعها عاجلاً أو آجلاً، وأنهم عصابات سرعان ما يهربون من الأرض، وهذا عندهم دليل على عدم الانتماء إلى الأرض التي يعيشون فيها، لذا فإنهم مجرد لصوص يسرقون المياه من أرض الأمة العبرانية.
وهناك العديد من القصص التي أُلفت للأطفال اليهود، هدفُها غسيل أذهان أطفال اليهود، وتصوير المسلم والعربي بأنه قاتل مخادع، وبأن الجندي اليهودي مسالم لا يحب الدم والقتل، وإنما دفعه لذلك المسلم المتعطش للدماء والقتل. كما يُصورون المسلم للطفل اليهودي بأنه يمارس تجارة الجنس التي تنتهي عند التهريب والتخريب وخطف الطائرات. [انظر "مناهج التعليم الإسرائيلية والصراع العربي الإسرائيلي"، إعداد مركز دراسات الشرق الأوسط، الأردن، ومجلة البيان 190 جمادى الآخرة 1424 هـ].
هكذا يربون ناشئتهم في ظل هذه الظروف الحرجة، والصراعات الحادة، ونحن نتوارى بديننا من القوم، ونستحي من بيان عقيدتنا؛ بل نحرفها أو نحذفها لإرضاء القوم.
مصاب جلل أن يخجل بعض قومنا من عقيدة الولاء والبراء التي جاء بها كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -. إننا حين نستجيب لمطالب القوم، ونرضخ لهم بما يريدون بسبب قوة مطرقتهم، نصدق التهمة ضدنا بأن عقيدتنا تفرخ الإرهاب، وسيظلون يتهمون ونحن نغير حتى لا يبقى لنا من ديننا شيء (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).(5/195)
إننا حين نلبي مطامحهم بسبب استفزازاتهم؛ فنغير مناهجنا لا عن قناعة منا إنما لإقناعهم، سنظل أذلاء تابعين مقهورين.
ومن يتهيب صعود الجبال … …
يعش أبد الدهر بين الحفر
يجب أن نصرخ بعقيدتنا بكل عزة وافتخار، ونرفع ألويتنا في كل الوهاد والبحار، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون).
إن هذه المطالب، وهذه التغييرات الجديدة لن تزيد -بإذن الله- أهل الحق إلا قوة في دينهم، ومعرفة أكثر بعدوهم ويقيناً أعظم بوعد ربهم، (لن يضروكم إلا أذى..) ومع كل هذا الإصرار من عدونا، إلا أنا أكثر إصراراً وأقوى سنداً، وأشد إلحاحاً، وأعظم تجلداً مع البلوى (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) إننا ورغم لحوق فئام من أمتنا بركاب عدونا، وانهزامهم في أحلك الظروف وأقساها، لن نلين ولن ننثني، وسنظل جبهة قوية متماسكة لمقاومة كل رياح التغيير والتغريب، ومواجهة كل مشاريع العلمنة والأمركة.
إننا في هذه المرحلة الخانقة الحرجة أحوج ما نكون للتماسك صفاً ملتئماً واحداً ضد الهجمات التغريبية الصليبية القادمة هجمة على الإسلام ورسول الإسلام، وهجمة على المبادئ والمثل والأخلاق، وهجمة على المرأة والأسرة والبيت المسلم، وهجمة أخطر وأكبر على المناهج والتعليم كما سبق آنفاً.
إننا في ظل هذه الهجمة نطالب بتعزيز المناهج وتقويتها، وربطها بالإسلام أكثر مما هي عليه، نعم نطالب بتطويرها إلى الأحسن، وتجديد أساليب عرضها، والتفنن في صياغتها وشرحها. ومن المفارقات أن التعليم الديني في دولة يهود يعزز في كل فترة، ويسير وفق خط بياني قد رُسم له منذ قيام دولة يهود، لا يخطئ هذا الخط مساره قدر أنملة؛ بل يتقدم على الخط المرسوم بقفزات تطويرية تضمن للدولة اللقيطة التفوق العلمي والتقني على مجموع الدول العربية.
هذا ما يحصل للتعليم الديني في المناهج المدرسية الإسرائيلية، في زمن يُطالَب فيه المسلمون بتصفية المدارس الدينية، وتقليص -بل حذف- كثير من ثوابت الإسلام وأصوله.
ماذا يُراد بأمة الإسلام … …
من ثلة مأجورة الأقلام
وهبوا الولاء وحبَّهم لعدوهم … …
وتلطخوا بالحقد والإجرام
ما إن تحدق فتنة حتى يُروا … …
ما بين رائش سهمه أو رام
هم أثخنونا من وراء ظهورنا … …
وتكشفوا في أحلك الأيام
يا أمة الإسلام أين مصيرنا … …
نمنا، وأمسى القوم غير نيام
ها هم يكيدون(المناهج)جهرة … …
ويجففون منابع الإسلام
يتكففون رضى العدو وما جنوا … …
غير الإهانة منه والإرغام
والله لن ترضى اليهود ولا النصا … …
رى عن (مناهجنا) مدى الأعوام
حتى نوافقهم ونتبع دينهم … …
ونسير خلف ضلالهم بخطام
يا أمتي صبراً فلن نصل العلا … …
إلا على صرح من الآلام
وتحمل الأعباء أجدر بالفتى … …
من أنّة الشكوى والاستسلام
ومن القنوط إذا أحاط به الأسى … …
ومن الهروب لشرفة الأحلام
يا أمتي ليس الدواء بدمعة … …
نشكو بها من جرأة الأقزام
لكن بعزم صادق وإرادة … …
نقفو بها آثار خير إمام
ونرد كيد المبطلين بنحرهم … …
ونعيدهم لعدالة الإسلام
والله خيرٌ حافظاً وموفقاً … …
أعظم به من خالق علام
وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
* الاستاذ بقسم السنة بجامعة الإمام محمد بن سعود الاسل
=============(5/196)
(5/197)
الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان
الحمد لله الذي هدانا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، فأكمله سبحانه لنا وأتمه، وأتم به علينا النعمة، ورضيه لنا ديناً، وجعلنا من أهله وجعله خاتماً لكل الدين وناسخاً لجميع الشرائع قبله، وبعث به خاتم أنبيائه ورسلهمحمدا صلى الله عليه وسلم ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره: ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) (آل عمران: 38)) .
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، وخيرته من بريته، وأمينه على وحيه، أما بعدُ،،، ففي الوقت الذي يجري فيه صريف الأقلام الجهادية من علماء المسلمين في شتى فجاج أرض الله، بالدعوة إلى الله، والتبصير في الدين، ومواجهة موجات الإلحاد والزندقة، ورد دعاوى الجاهلية القديمة والمعاصرة: القومية، البعثية، الماركسية، العلمنة، الحداثة وصد عاديات التغريب والانحراف، والغزو بجميع أنواعه وضروبه، وأشكاله؛ بدت محنة أخرى في ظاهرة هي أبشع الظواهر المعادية للإسلام والمسلمين؛ لإفساد نزعة التدين بالإسلام، والدخول فيه، وتذويب شخصيته في معترك الديانات، ومطاردة التيار الإسلامي، وكبت طلائعه المؤمنة، وسحب أهله عنه إلى ردةٍ شاملة.
وكل ذلك يجري على سنن الصراع والتقابل والتدافع، كما قال الله تعالى: ((وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)) (البقرة:217).(5/198)
وقوله سبحانه: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً )) (النساء:89) وذلك فيما جهرت به اليهود والنصارى، من الدعوة الجادة إلى: 'نظرية الخلط بين الإسلام وبين ما هم عليه من دين محرف منسوخ وزرع خلاياهم في أعماق الإسلام في كل صقع ودار، وصهر المسلمين معهم في قالب واحد: فلا ولاء، ولا براء، ولا تقسيم للملأ إلى مسلم وكافر أبداً، ولا لتعبدات الخلائق إلى حق وباطل. ونصبوا لذلك مجموعة من الشعارات، وعقدوا له المؤتمرات، والندوات، والجمعيات، والجماعات، إلى آخر ما هنالك من مخططات.. وهم في الوقت نفسه في جد ودأب في نشر التنصير، وتوسيع دائرته، والدعوة إليه، واستغلال مناطق الفقر، والحاجة، والجهل، وبعث النشرات عبر صناديق البريد. من هنا اشتد السؤال من أهل الإسلام عن هذه ' النظرية ' التي حلت بهم: ما الباعث لها؟ وما الغاية التي ترمي إليها؟ وما مدى مصداقية شعاراتها؟ وعن حكم الإسلام فيها، وحكم الاستجابة لها من المسلمين، وحكم من أجاب فيها، وحكم من دعا إليها، ومهد السبيل لتسليكها بين المسلمين، ونشرها في ديارهم، ونثر من أجلها وسائل التغريب، وأسباب التهويد، والتنصير في صفوف المسلمين؟ . حتى بلغت الحال ببعضهم إلى فكرة : ' طبع القرآن الكريم، والتوراة والإنجيل في غلاف واحد ؟ وحتى بلغ الخلط والدمج مبلغه ببناء: ' مسجد، وكنيسة، ومعبد ' في محل واحد، في: ' رحاب الجامعات ' و ' المطارات ' و ' الساحات العامة ' ؟ فما جوابكم يا علماء الإسلام ؟؟ آثار هذه النظرية على الإسلام والمسلمين : اقتحام العقبة، وكسر حاجز الهيبة من المسلمين من وجه، وكسر حاجز النفرة من الكافرين من وجه آخر . قدم ' البابا ' نفسه إلى العالم بأنه القائد الروحي للأديان جميعاً، وأنه حامل رسالة : ' السلام العالمي ' للبشرية . أن ' البابا ' اعتبر يوم: 27 / 10 أكتوبر عام 1986 م عيداً لكل الأديان، وأول يوم من شهر يناير، هو: ' يوم التآخي ' . اتخاذ نشيد، يردده الجميع، أسموه: ' نشيد الإله الواحد: رب، وأب ' . انتشر في العالم عقد المؤتمرات لهذه النظرية، وانعقاد الجمعيات، وتأليف الجماعات الداعية لوحدة الأديان، وإقامة الأندية، والندوات . أنه فضلاً عن مشاركة بعض من المنتسبين إلى الإسلام في هذه اللقاءات - على أراضي الدول الكافرة - في المؤتمرات، والندوات، والجمعيات وإقامة الصلوات المشتركة، فإنه ما كادت شعارات هذه النظرية تلوح في الأفق، وتصل إلى الأسماع، إلا وقد تسربت إلى ديار الإسلام؛ فطاشت بها أحلام، وعملت من أجلها أقلام، وانطلقت بالدعوة إليها ألسن من بعد أخرى، وعلى الدعوة بها سدة المؤتمرات الدولية، والنوادي الرسمية والأهلية . وكان منها: في: ' مؤتمر شرم الشيخ بمصر ' في شهر شوال عام 1416، تركيز كلمات بعض أصحاب الفخامة !!!! من المسلمين !!!! على الصفة الجامعة بين المؤتمرين، وهي:' الإبراهيمية ' وهو مؤتمر يجمع لفيفاً من المسلمين، واليهود، والنصارى، والشيوعيين . ومنها أنه بتاريخ: 1416 / 10 / 10 . أعلن بعضهم عن إصدار كتاب يجمع بين دفتيه: القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل ' . وفي بعض الآفاق صدر قرار رسمي بجواز تسمية مواليد المسلمين، بأسماء اليهود المختصة بهم؛ وذلك إثر تسمية مواليد المسلمين باسم: ' رابين ' . وهكذا ينتشر عقد التهويد، والتنصير، بنثر شعاراتهم بين المسلمين، ومشاركة المسلمين لهم في أفراحهم، وأعيادهم، وإعلان صداقتهم، والحفاوة بهم، وتتبع خطواتهم وتقليدهم، وكسر حاجز النفرة منهم بذلك، وبتطبيع العلاقات معهم .. وهكذا في سلسلة يجر بعضها بعضاً في الحياة المعاصرة .(5/199)
هذه خلاصة ما جهرت به اليهود، والنصارى، في مجال نظرية توحيد ديانتهم مع دين الإسلام، وهي بهذا الوصف، من مستجدات عصرنا؛ باختراع شعاراتها، وتبني اليهود، والنصارى لها على مستوى الكنائس، والمعابد، وإدخالها ساحة السياسة على ألسنة الحكام، والتتابع الحثيث بعقد المؤتمرات، والجمعيات، والجماعات، والندوات ؛ لبلورتها، وإدخالها الحياة العملية فعلاً . وتلصصهم ديار المسلمين لها، من منظور: ' النظام الدولي الجديد ' . مستهدفين- قبل هيمنة ديانتهم- إيجاد ردة شاملة عند المسلمين عن الإسلام . وكان منشور الجهر بها، وإعلانها، على لسان النصراني المتلصص إلى الإسلام: روجيه جارودي، فعقد لهذه الدعوة : ' المؤتمر الإبراهيمي ' ثم توالت الأحداث كما أسلفت في صدر هذه المقدمة . ولا يعزب عن البال، وجود مبادرات نشطة جداً من اليهود والنصارى، في الدعوة إلى : ' الحوار بين أهل الديان ' وباسم ' تبادل الحضارات والثقافات ' و ' بناء حضارة إنسانية موحدة ' و ' وبناء مسجد، وكنيسة، ومعبد ' في محل واحد، وبخاصة في رحاب الجامعات وفي المطارات . وكان من مداخل السوء المبطنة لتمهيد السبيل إلى هذه النظرية، وإفساد الديانة: إجراء الدراسات المقارنة في الشرعيات، بين الأديان الثلاثة، ومن هنا يتبارى كل في محاولة إظهار دينه على الدين كله، فتذوب وحدة الدين الإسلامي، وتميزه، وتسمن الشبه، وتستسلم لها القلوب الضعيفة. حكم الدعوة إلى توحيد الأديان: إن الدعوة إلى توحيد دين الإسلام الحق الناسخ لما قبله من الشرائع، مع ما عليه اليهود والنصارى من دين دائر كل منهما بين النسخ والتحريف؛ هي أكبر مكيدة عُرفت لمواجهة الإسلام والمسلمين اجتمعت عليها كلمة اليهود والنصارى بجامع علتهم المشتركة: ' بغض الإسلام والمسلمين ' . فهي في حكم الإسلام: دعوة بدعية، ضالة كفرية، خطة مأثم لهم، ودعوة لهم إلى ردة شاملة عن الإسلام؛ لأنها: تصطدم مع بدهيات الاعتقاد. وتنتهك حرمة الرسل والرسالات. وتبطل صدق القرآن، ونسخه ما قبله من الكتب. وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع. وتبطل ختم نبوة محمد والرسالة المحمدية - عليه الصلاة والسلام - . فهي نظرية مرفوضة شرعاً، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من كتاب وسنة، وإجماع، وما ينطوي تحت ذلك من دليل، وبرهان . لهذا: فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وب صلى الله عليه وسلم رسولاً، الاستجابة لها، ولا الدخول في مؤتمراتها، وندواتها، واجتماعاتها، وجمعياتها، ولا الانتماء إلى محافلها، بل يجب نبذها، ومنابذتها، والحذر منها، والتحذير من عواقبها، واحتساب الطعن فيها، والتنفير منها، وإظهار الرفض لها، وطردها عن ديار المسلمين، وعزلها عن شعورهم ومشاعرهم، والقضاء عليها، ونفيها، وتغريبها إلى غربها، وحجرها في صدر قائلها، ويجب على الوالي المسلم إقامة حد الردة على أصحابها، بعد وجود أسبابها، وانتفاء موانعها، حماية للدين، وردعاً للعابثين، وطاعة لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإقامة للشرع المطهر . وأن هذه الفكرة إن حظيت بقبول من يهود، ونصارى، فهم جديرون بذلك؛ لأنهم لا يستندون إلى شرع منزل مؤبد، بل دينهم: إما باطل محرف، وإما حق منسوخ بالإسلام. أما المسلمون: فلا والله، لا يجوز لهم بحال الانتماء إلى هذه الفكرة؛ لانتمائهم إلى شرع منزل مؤبد، كله حق، وصدق، وعدل، ورحمة . وليعلم كل مسلم عن حقيقة هذه الدعوة: أنها فلسفية النزعة، سياسية النشأة، إلحادية الغاية، تبرز في لباس جديد؛ لأخذ ثأرهم من المسلمين: عقيدة، وأرضاً، وملكاً، فهي تستهدف الإسلام والمسلمين في:
1- إيجاد مرحلة التشويش على الإسلام، والبلبلة في المسلمين، وشحنهم بسيل من الشبهات، والشهوات؛ ليعيش المسلم بين نفس نافرة، ونفس حاضرة .
2- قصر المد الإسلامي، واحتوائه .
3- تأتي على الإسلام من القواعد، مستهدفة إبرام القضاء على الإسلام واندراسه، ووهن المسلمين، ونزع الإيمان من قلوبهم، وَوَأدِه .
4- حل الرابطة الإسلامية بين العالم الإسلامي في شتى بقاعه؛ لإحلال الأخوة البلدية اللعينة: ' أخوة اليهود والنصارى ' .
5- كف أقلام المسلمين، وألسنتهم عن تكفير اليهود والنصارى وغيرهم، ممن كفرهم الله، وكفرهم رسول صلى الله عليه وسلم - إن لم يؤمنوا بهذا الإسلام، ويتركوا ما سواه من الأديان- .
6- وتستهدف إبطال أحكام الإسلام المفروضة على المسلمين أمام الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر ممن لم يؤمن بهذا الإسلام، ويترك ما سواه من الأديان .
7- وتستهدف كف المسلمين عن ذروة سنام الإسلام: الجهاد في سبيل الله، ومنه: جهاد الكتابيين، ومقاتلتهم على الإسلام، وفرض الجزية عليهم إن لم يسلموا .
والله سبحانه وتعالى يقول: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة: 29) .(5/200)
وكم في مجاهدة الكافرين، أعداء الله، ورسوله، والمؤمنين، من ' إرهاب ' لهم، وإدخال للرعب في قلوبهم، فينتصر به الإسلام، ويذل به أعداؤه، ويشف الله به صدور قوم مؤمنين، والله تعالى يقول: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )) (الأنفال: 60) .
فوا عجباً من تفريط المسلمين، بهذه القوة الشرعية ؛ لظهور تفريطهم في مواقفهم المتهالكة: موقف: اغتيال الجهاد، ووأده . وموقف: تأويل الجهاد للدفاع، لا للاستسلام على كلمة الإسلام، أو الجزية- إن لم يسلموا- . موقف: تلقيب الجهاد باسم: ' الإرهاب ' للتنفير منه؛ حتى بلغت الحال بالمسلمين إلى تآكل موقفهم في فرض الجزية على الكافرين في تاريخهم اللاحق !!!
8- وتستهدف هدم قاعدة الإسلام، وأصله: ' الولاء والبراء ' و ' الحب والبغض في الله '، فترمي هذه النظرية الماكرة إلى كسر حاجز براءة المسلمين من الكافرين، ومفاصلتهم، والتدين بإعلان بغضهم وعداوتهم، والبعد عن موالاتهم، وتوليهم، وموادتهم، وصداقتهم .
9- وتستهدف صياغة الفكر بروح العداء للدين في ثوب وحدة الأديان، وتفسيخ العالم الإسلامي من ديانته، وعزل شريعته في القرآن والسنة عن الحياة، حينئذ يسهل تسريحه في مجاهل الفكر، والأخلاقيات الهدامة، مفرغاً من كل مقوماته، فلا يترشح لقيادة أو سيادة، وجعل المسلم في محطة التلقي لِمَا عليه أعداؤه، وأعداء دينه، وحينئذٍ يصلون إلى خسة الغاية: القفز إلى السلطة العالمية بلا مقاوم .
10- وتستهدف إسقاط جوهر الإسلام، واستعلائه، وظهوره وتميزه، بجعل دين الإسلام المحكم المحفوظ من التحريف والتبديل، في مرتبة متساوية مع غيره من كل دين محرف منسوخ، بل مع العقائد الوثنية الأخرى .
11- وترمي إلى تمهيد السبيل: ' للتبشير بالتنصير ' والتقديم لذلك بكسر الحواجز لدى المسلمين، وإخماد توقعات المقاومة من المسلمين؛ لسبق تعبئتهم بالاسترخاء، والتبلد .
12- ثم غاية الغايات: بسط جناح الكفرة من اليهود، والنصارى، والشيوعيين، وغيرهم على العالم بأسره، والتهامه، وعلى العالم الإسلامي بخاصة، وعلى الشرق الأوسط بوجه خاص، وعلى قلب العالم الإسلامي، وعاصمته: ' الجزيرة العربية ' بوجه أخص، في أقوى مخطط تتكالب فيه أمم الكفر وتتحرك من خلاله؛ لغزو شامل ضد الإسلام والمسلمين بشتى أنواع النفوذ: الفكري، والثقافي، والاقتصادي، والسياسي، وإقامة سوق مشترك، لا تحكمه دولة الإسلام، ولا سمع فيه، ولا طاعة لخلق فاضل ولا فضيلة، ولا كسب حلال، فيفشو الربا، وتنتشر المفسدات، وتدجن الضمائر، والعقول، وتشتد القوى الخبيثة ضد أي فطرة سليمة، وشريعة مستقيمة . وما ' مؤتمر السكان والتنمية ' المعقود بالقاهرة في : 29 / 3 / 1415 و ' المؤتمر العالمي للمرأة ' المعقود في بكين عام 1416 . إلا طروحات لإنفاذ هذه الغايات البهيمية . هذا بعض ما تستهدفه هذه النظيرة الآثمة، وإن من شدة الابتلاء، أن يستقبل نزر من المسلمين، ولفيف من المنتسبين إلى الإسلام هذه ' النظرية ' ويركضوا وراءها إلى ما يُعقد لها من مؤتمرات، ونحوها، وتعلو أصواتهم بها، مسابقين هؤلاء الكفرة إلى دعوتهم الفاجرة، وخطتهم الماكرة، حتى فاه بعض المنتسبين إلى الإسلام بفكرته الآثمة:' إصدار كتاب يجمع بين دفتيه:' القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل ' . إن هذه الدعوة بجذورها، وشعاراتها، ومفرداتها، هي من أشد ما ابتلي به المسلمون في عصرنا هذا، وهي أكفر آحاد:' نظرية الخلط بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والهدى والضلالة، والمعروف والمنكر، والسنة والبدعة، والطاعة والمعصية ' . وهذه الدعوة الآثمة، والمكيدة المهولة، قد اجتمعت فيها بلايا التحريف، والانتحال، وفاسد التأويل، وإن أمة الإسلام، لن تجتمع على ضلالة، ولا يزال فيها - بحمد الله - طائفة ظاهرة على الحق، حتى تقوم الساعة، من أهل العلم والقرآن، تنفي عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وصد العاديات عن دين الإسلام . ومن حذر فقد بشر . هذا جواب على سبيل الإجمال يطوّق هذه النظرية الخطرة ويكشف مخططاتها القريبة، والبعيدة في الهدم، والتدمير، وقفزهم إلى السلطة بلا مقاوم .
وخلاصته: ' أن دعوة المسلم إلى توحيد دين الإسلام مع غيره من الشرائع والأديان الدائرة بين التحريف والنسخ بشريعة الإسلام: ردة ظاهرة، وكفر صريح ؛ لما تعلنه من نقض جريء للإسلام أصلاً، وفرعاً، واعتقاداً، وعملاً، وهذا إجماع لا يجوز أن يكون محل خلاف بين أهل الإسلام ' . وإنها دخول معركة جديدة مع عباد الصليب، ومع أشد الناس عداوة للذين آمنوا . فالأمر جد وما هو بالهزل .
مختصر من رسالة : الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان للشيخ/ بكر أبو زيد
=============(5/201)
(5/202)
لماذا فشل مشروع النهضة التغريبي ؟
د. محمد مورو 17/1/1426
26/02/2005
بعد عشرات السنين من اندلاع حركة التحرير الوطني في العالمين العربي والإسلامي ودول العالم الثالث عموماً، وبعد سلسلة من التجارب والمحاولات لتحقيق وبناء النهضة، اكتشفت الجميع قادة ومفكرين أن مشروع النهضة التغريبي، أي الذي استند على وسائل وأساليب وأفكار مستمدة من الشرق أو الغرب قد وصل إلى طريق مسدود، وأنه لم يحقق أياً من أهدافه المرجوة.
وكان من الطبيعي أن يطرح السؤال نفسه، وهو لماذا فشل مشروع النهضة التغريبي ووصل إلى هذا المستوى من الانهيار واللاجدوى؟! وفي رأينا أن هذا المشروع النهضوي الذي استند إلى أ فكار الحضارة الغربية وأساليبها والذي تجاهل خاصية الذات الحضارية لبلادنا كان من الطبيعي والمؤكد أن يصل إلى طريق مسدود؛ لأنه افتقد إلى المقومات البديهية لأية نهضة، ولأنه تجاهل العديد من الحقائق العلمية حول عملية النهضة.
السياق الحضاري
إذا افترضا حسن النية في هؤلاء الذين قادوا محاولات النهضة في بلادنا في تاريخنا المعاصر فإننا نجدهم قد وقعوا في خطأ علمي فادح حينما تعاملوا مع منهجية التغيير بمعزل عن السياق الحضاري لها؛ لأنه في الواقع لا منهج هناك مجرداً من مقولاته ونماذجه؛ لأنه تشكل في أحشاء النماذج التي عالجها واكتسى باللحم من خلال الموضوعات التي ولّدها، والمنهج يقوم ويتشكل عبر عملية معقدة من خلال نمط مجتمعي محدّد مما يحدّد له مبادئه ومقولاته ونماذجه فالمنهج الأوروبي في النهضة تكوّن عبر تاريخ النمط الحضاري الأوروبي، وبالتالي فإن هؤلاء الذين أخذوا منهج التغيير الأوروبي، حتى لو رفضوا نظرياً المقولات الفلسفية الحضارية الأوروبية، إنما هم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ لأن هذا المنهج خرج من خلال منظومة حضارية شاملة منهجاً ونماذج ومقولات وبالتالي فإن هذا النهج اكتسى وأخذ هذا الطابع الحضاري المميز له، ولكل حضارة شخصيتها المتميزة، ويكاد يكون هؤلاء الداعون إلى ما يسمى بالتطعيم الحضاري يتناسون حقيقة علمية معروفة وهي أن التطعيم في علم النبات مثلاً لا ينجح إلا بين النباتات المتقاربة عائلياً، وبديهي أن التطعيم والتلقيح بين الحضارة الإسلامية القائمة على التوحيد والعدل والحرية ورجاء الآخرة والحضارة الغربية القائمة على الوثنية، والمنفعة اللا أخلاقية والقهر والنهب أمر غير ممكن عملياً وموضوعياً.
إن الذين حاولوا بناء نهضة على أسس منهجية غربية لم يدركوا حقيقة موضوعية هامة، وهي أنهم لا يطبقون هذا المنهج في الفراغ، بل إن شعوباً عاشت تجربة حيّة من الإسلام لفترة طويلة جداً، إننا أمام حضارة إسلامية عريقة متميزة وثرية، حضارة تمتلك أصلاً نظرياً إلهياً، وتمتلك ثروة من التطبيقات الاجتماعية الهائلة من خلال ما حدث طوال التاريخ الإسلامي من علاقات وحالات سياسية واقتصادية واجتماعية ارتبطت بالنص الإسلامي أو حادت عنه وواجهت هذه الحضارة مشكلات في كافة الميادين، وترتّب على تلك المشكلات فقه وثقافة وإجابات نظرية وتطبيقية في مختلف الفروع والمجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، فضلاً عن ميادين العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية.
وهكذا فإن القفز على هذا الواقع بكل أوجه الصحة والخطأ والإنجاز، والقصور فيه سبب فجوة هائلة في الوعي والسلوك على حد سواء، وإهدار كل الأساسات فوق التربة أو تحتها، بحيث كان علينا أن نسير منذ البداية وفقاً للمنهج الأوروبي، ناهيك عن أننا نسير في الطريق الخطأ، الأمر الذي يستلزم مئات السنين زمنياً هذا إذا أمكن إخلاء الواقع من الوجدان والتراث الإسلامي وهو مستحيل قطعاً.
إن علم الاجتماع قد أكد على حقيقة بديهية لم يراعِها دعاة النهضة التغريبية وهي أن المنهج العلمي في أساسه أنماط اجتماعية معينة ينبغي أن يتم بمنهج هذه الأنماط ذاتها وليس بمنهج مغاير، وإلا فإن الأخطاء ستكون بالجملة أي أنه لا يمكن استقرار عملية النهضة والتنمية في مجتمعاتنا بمنهج مستمد من نمط الحضارة الأوروبية مثلاً، وبالتالي فإن شرط النهضة هنا هو أن تقرأ الواقع قراءة صحيحة، وشرط الصحة هنا أن تكون القراءة من خلال منهج نابع من هذا النمط الحضاري الذي نحن بصدده، وليس من خارجه.
غياب البعد الثقافي
محاولات النهضة الحديثة في بلادنا تواكبت مع عملية التحرر الوطني منذ الاستعمار ولا شك أن الصراع مع الاستعمار صراع سياسي واقتصادي وعسكري فلا شك أن الغرب الاستعماري قد استعمل ضدنا أقسى الوسائل العسكرية وأبشعها لتحقيق عملية القهر والنهب، وكذلك لم يتورّع عن استعمال كل الوسائل السياسية والاقتصادية في تحقيق أهدافه، وبالتالي كان من الطبيعي أن تشن حركات التحرر الوطني الحرب ضد الاستعمار عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.(5/203)
ولكن البعد الثقافي لتلك المواجهة كان غائباً، وكأن هذا هو السبب بالتحديد في فشل مشروع النهضة بعد رحيل الاستعمار، بل الوصول إلى طريق مسدود أهدر كل المكاسب التي تحققت في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية للمواجهة، بل أقسى من ذلك وأمر أصبحنا مهددين بعودة الاستعمار بجيوشه وأساطيله كالمسابق وبآليات أكثر تعقيداً وأكثر كفاءة.
إن البعد الثقافي للمواجهة كان يعني ضرورة تصفية الرواسب الثقافية الاستعمارية حكومياً وشعبياً، لأن هذا البعد الثقافي مرتبط بتحطيم أو بناء المكونات العقدية والفكرية والحضارية والأنماط المعيشية والإنتاجية وأشكال العلاقات الجماعية والفردية وتحطيمها يعني هدم القلعة من الداخل ومسخ الشخصية وجعلها في حالة عدم قدرة على الصمود والمواجهة فضلاً عن تحقيق مشروع النهضة، أما بناؤها بصورة صحيحة فيعني التماسك الفردي والجماعي، والقدرة على المواجهة ـ والقدرة على تحقيق الذات الحضارية وتحقيق مشروع النهضة بالتالي.
التغريب أدّى إلى الاستبداد
ما حدث بسبب التغريب يمكن أن نشبّهه بنوع من الانفصال الشبكي بين الشعوب والنخبة الحاكمة، فأصبحت الشعوب بمعزل حقيقي عن عملية النهضة ولم تستطع النخبة السياسية أو الفكرية بحكم محدوديّتها أن تنجز عملية النهضة. إن الشعوب كانت وما زالت تحمل الوجدان الإسلامي، كانت وما زالت معبأة بالتراث ومفعمة بالعقيدة، ولا يمكن القضاء على هذا الوجدان أو طريقة التفكير بسهولة، وبالتالي فإن فرض مشروع نهضوي غير قائم على وجدان الجماهير وعقيدتها وحسّها الثقافي وتراثها التاريخي يجعل تلك الجماهير لا تفهم هذا المشروع، ولا تتحمس له أو ترفضه وتعاديه أو يحدث لها نوع من ازدواج الشخصية أو انفصامها، وبالتالي يعود إلى سلسلة من الأخطاء والخطايا تجعل مشروع النهضة في مهب الريح، وإذا كانت النخبة المغتربة جادة في محاولة تحقيق نهضة على أساس تغريبي فإن رفض الجماهير لهذا المشروع النهضوي التغريبي أو عدم حماسها له يجعل تلك النخبة تحاول أن تجبر الجماهير على الانخراط والحماس في هذا المشروع، وبما أن التركيبة الثقافية والوجدانية للجماهير لا تستجيب للتحريض الإعلامي النخبوي بهذا الصدد، فإن النخبة الحاكمة تجد نفسها لاجئة في النهاية إلى قمع الجماهير والاستبداد بها وإجبارها بالقهر على الانخراط في هذا المشروع وبالطبع تبدأ المسألة من هذه الزاوية وتنتهي إلى أن يصبح الاستبداد والقهر سمة أساسية للحكم التغريبي، بمعنى أن يصبح للاستبداد لبنته الخاصة والذاتية حتى بصرف النظر عن مشروع النهضة التغريبي أي أن التغريب يوجد الاستبداد خلقاً.
كلمة في مسألة العلوم الطبيعية
من الأشياء التي يتشدق بها دعاة مشروع النهضة التغريبي، أنهم يستهدفون الحصول على العلوم الطبيعية أو التقنية من خلال مشروعهم التغريبي المرتبط بالمنهج التغريبي في النهضة والمنفتح على الحضارة الأوروبية التي أنجزت تقدماً علمياً باهراً.
وينبغي هنا أن نضع الكثير من النقاط فوق الكثير من الحروف في هذه القضية الخطيرة.
ينبغي أن نعرف أن العلوم الطبيعية تنقسم إلى قسمين، قسم خاص بالحقائق العلمية، والمكتشفات العلمية، وقسم خاص بتوجيه هذه العلوم في اتجاه معين، أي لإنتاج سلعة ضرورية أو كمالية مثلاً، للقضاء على مرض أو لنشر مرض، أي لإنتاج أدوات تسعد الإنسان وتساهم في راحته أو لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، لإصلاح البيئة والمحافظة عليها أو لتخريبها وتلويثها.
أي أن هناك شقاً علمياً وشقاً قيمياً، والشق العلمي تراث إنساني يجب الاستفادة به وليس تراثاً أوروبياً، ولكن الشق القيمي للمسألة أي توجيه العلوم في اتجاه معين تراث حضاري أي خاص بتوجه وقيم كل حضارة، والحضارة الإسلامية مثلاً عندما كانت متقدمة علمياً كانت توجه هذه العلوم لإسعاد الإنسان وتلبية حاجات كل البشر، بل وكانت تسعى سعياً لنشر العلوم ولا تحجبها عن الآخرين، لأن حبس العلم جريمة في الشريعة الإسلامية الغراء، أما الحضارة الأخرى ولظلمها، حجبت هذا العلم عن الشعوب الأخرى، بل وأصدرت القوانين التي تجرّم حصول الآخرين على تلك العلوم مثل قضية الدكتور مهندس عبد القادر حلمي مثلاً، بل وتغتال العلماء في البلاد الأخرى حتى لا تحدث نهضة علمية فيها كاغتيال الدكتور المشد مثلاً".
إذاً فالعلم كحقائق ومعرفة تراث إنساني ساهمت فيه كل الحضارات والمجتمعات بل إن النهضة العلمية الأوروبية الحديثة استفادت من العلوم والمعارف الإسلامية في تحقيق تقدمها المعاصر، وبالتالي فإن الحصول على العلوم واكتسابها ليس قاصراً على المشروع النهضوي التغريبي، بل العكس هو الصحيح؛ فالحصول على العلم هدف أي مشروع نهضوي إسلامي، أما الشق القيمي في العلوم فهذا أمر مرفوض، أي الشق المرتبط بكيفية استخدام هذه العلوم.(5/204)
والعجب هنا، أن مشروع النهضة التغريبي فشل حتى في الحصول على هذه العلوم لسبب بسيط هو أن الحضارة الغربية ترفض إعطاء العلوم للآخرين عن طيب خاطر، وما دام المشروع النهضوي التغريبي مشروع غير تصادمي مع الحضارة الغربية أي متعاون ومهادن لها، فهو لن يحصل على هذه العلوم بل الصحيح أن المشروع الإسلامي للنهضة هو القادر على الحصول عليها؛ لأنه سينتزعها انتزاعاً ثم يستطيع أن يهضمها حضارياً بمعنى أن يوجّهها التوجيه المتفق مع قيمه الحضارية.
==========(5/205)
(5/206)
موجة التقليد والتشبه وأصالة المسلمين وصحوتهم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آل محمد الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فأوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله استجابة لأمر ربكم ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) (التوبة:119)
(( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102).
إخوة الإسلام : ومع ظاهرة التدين العالمية التي لم تعد قصراً على المسلمين وحدهم تجتاح العالم الإسلامي موجةٌ من التقليد الأبله والتشبه المذموم، ويكادُ أفرادٌ وجماعاتٌ من المسلمين أن يفقدوا هويتهم الإسلامية، وتذوب شخصياتُهم في شخصيات الآخرين فالهيئة يُداخلها التشبهُ بالكافرين إذ يُحلق ما حقُّهُ الإعفاءُ ويُعفى ما حقه الإحفاء في الشرع المطهر، قال عليه الصلاة والسلام: (( أَعْفُوا اللِّحَى، وجزوا الشَّوَارِبَ ، وَغَيِّرُوا شَيْبَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَالنَّصَارَى))[1].
والملبسُ يطغى عليه الإسبالُ المحرم، أو تبدوا لقصرِه العورةُ المأمور بسترها، أو يُفصَّلُ على هيئة لباس غير المسلمين فتدعو المشابهة شكلاً إلى عدم المخالفة في الأمور الأخرى، والزينة فيها تعدٍ وتجاوزٌ فالذهبُ يتختم به بعض أبناء المسلمين، ومعلومٌ نصوصُ الشرع في تحريم لبس الذهب للرجال وإباحته للنساء بشكل عام، وفيما يخص التختم: (( رَأَى رَسُول اللهِ r خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ وَطَرَحَهُ وَقَال : يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ ، فَقِيل لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ r خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ ، قَال : لا وَاللهِ لا آخُذُهُ أَبَداً وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ r ))[2].
وهكذا يكون التأسي وكذلك يكون الإتباع .
والأمرُ أدهى وأمر .. وفي مضمار التميع وغياب العزِّة والهوية الإسلامية حين يُحتفي بالكفار ويُقدّر الفُجَّار ويُستهانُ بالمسلمين ويُتهم الأخيار ، وكل ذلك خلافُ هدي الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام : ((لا تَبْدَءُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلامِ ، وَإِذَا لقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُ إِلى أَضْيَقِهِ))[3].
وأخطرُ من ذلك مشاركتهم في أعيادهم وحضورُ احتفالاتهم وتهانيهم بمناسباتهم التي لم يُنْزل الله بها من سلطان، قال تعالى في صفات عباد الرحمن :((وَالذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) (الفرقان: من الآية72).
قال مجاهدٌ والربيعُ بن أنسٍ والقاضي أبو يعلى والضحاك -في تفسيرها- : إنها أعيادُ المشركين [4].
وعن أنس رضي الله عنه قال: (( قَدِمَ رَسُولُ اللهِ r ( المَدِينَةَ ) وَلهُمْ يَوْمَانِ يَلعَبُونَ فِيهِمَا ، فَقَال : مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ؟ قَالُوا : كُنَّا نَلعَبُ فِيهِمَا فِي الجَاهِلِيَّةِ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلكُمْ بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الفِطْرِ ))(رواه أبو داود وأحمد والنسائي على شرط مسلم ) [5]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله-: ((والمحذورُ في أعياد أهل الكتابين التي نقرّهم عليها أشدُّ من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها، فإن الأمة قد حُذِّروا مشابهة اليهود والنصارى وأُخبروا أن سيفعلُ قومٌ منهم هذا المحذور بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلاّ في آخر الدهر عند اخترامِ أنفسِ المؤمنين عموماً، ولو لم يكن أشدَّ منه فإنه مثلُه على ما لا يخفى، إذ الشرُّ الذي له فاعلٌ موجود يُخافُ على الناس منه أكثرُ من شرٍّ لا مُقتضى له قوي )) [6]
أما الفاروق عمرُ رضي الله عنه فقد قال: (( إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يومَ عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تنْزل عليهم))[7].
وفي سبيل التشبه الظاهري بالكافرين تأكلُ وتشربُ فئامٌ من المسلمين بالشمال وكأن الأمر عادةٌ من العوائد ليس فيها ملام، و المصطفى صلى الله عليه وسلم يُحذر من هذا ويقول: ((لا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ)) [8].
وتُستبدل تحيةُ الإسلام ( السلامُ عليكم ) بأنواع من التحايا لا تبلغُ في كمالها ولا في حسنها مبلغَ تحيةِ أهلِ الإسلام هذا فضلاً عن أجر هذه، ووزر تلك إذا قُصد بها التشبهُ بالكافرين بل ويُنهى المسلمون عن مشابهة غير المسلمين في هيئة السلام .(5/207)
أمة الإسلام : ومع خطورة هذه المشابهات الظاهرية ومثيلاتها وما فيها من تبعية للكفار، فالأمرُ أعظمُ وأخطرُ حين يتجاوز ذلك إلى التشبه في الباطن، فلا يقف الأمرُ عند حدود المحسوسات مع خطورتها بل ويشمل المعنويات، ويأتي على القيم وأنماط التفكير، ويشيع التقليدُ في القضايا الخطرة، وجوانب الحياة الأساسية، فثمة مسلمون يفكرون بعقلية غير إسلامية، وثمة كُتابٌ منتسبون إلى الإسلام وكتابتهم ليست من الإسلام في شيء !!
وما أخطرَ التعليم حين تجري مناهجهُ في بلاد المسلمين على وفق مناهج غير المسلمين، فتنشأ ناشئة المسلمين ضائعة الهوية مسلوخة العقيدة الحقة مفتونةً بقيم وحضارات الكافرين .
وليس أقلَّ خطراً منه الإعلامُ حين تُسير قنواتهُ المختلفة محاكيةً لإعلام غير المسلمين، فتضيُع الحقيقة وتُرتهنُ الكلمة الصادقة، ويروجُ الخداعُ والنفاق، ويغيبُ فيه الدفاعُ عن قضايا المسلمين، ويُمجد من لا يستحق التمجيد، وتسوّدُ الصفحات بتوافه الأمور وسواقط الأخبار، وما أعظم الخطبُ في مجال الاقتصاد إذا نسي المسلمون أو تناسوا زواجر القرآن عن أكل المال الحرام فساد الربا وانتشر الاحتكار ومورس القمار وكان الغشُّ في البيع والشراء، وشابه المسلمون الكفار في سياساتهم الاقتصادية المحرمة، وأعلنوا الحرب صراحةً مع الله إذ لم يسمحوا بانتشار الاقتصاد الإسلامي النَزيه أو ضيقوا عليه الخناق وكم هو مصابٌ إذا نحيت شريعةُ السماء عن الحكم في الأرض واستبدلت بالقوانين البشرية المستوردة من الكافرين .
وما أشدَّ البلية حين يُقلّدُ المسلمون غيرهم في بناء المساجد والقباب على القبور أو يُطاف بها أو يستشفع بأصحابها، وتلك من عوائد اليهود والنصارى التي نُهي عنها المسلمون قال عليه الصلاة والسلام : (( لعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) [9]
وفي الحديث الآخر: ((أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ ))[10].
عباد الله : ولم تكن المرأة المسلمة بمعزل عن هذا التقليد الأبله والتشبِّه المذموم وإن شابك شكٌّ فألق نظرةً فاحصةً على عدد من حواضر العالم الإسلامي، ومسيرة المرأة ونمطِ حياتها، وسيهولك الأمر في الشكل والهندام وسيقضُّ مضجعك الاختلاطُ المحموم، والسفورُ المستهتر وتنفطر أكبادُ الغيورين لركض المرأة وراء أحدث الموديلات والموضات، ومسارعتِها الخطا لتقليد الكافرات، وأصبحت المرأة هدفاً لتوصيات المؤتمرات العالمية وضحية تخطيط المنظمات المعادية، ولم يعد في الأمر سرُّ أو استحيا، وكأن المسلمين كلٌّ مباحٌ ورعايا سائبة يحتاجون إلى رعاةٍ وتُفرض عليهم الوصايةُ، ويتنازع الغربُ والشرقُ في الإشراف على برامجهم وتصدير البضائع إليهم ؟!
أجل لقد صدقت فينا معاشر المسلمين نبوءة صلى الله عليه وسلم حين قال: (( لتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ شِبْراً شِبْراً ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ حَتَّى لوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلنَا يَا رَسُول اللهِ : اليَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَال : فَمَنْ )) [11]
يا ويح أمة صلى الله عليه وسلم كيف استساغت التبعية بعد القيادة ؟ وكيف رضيت بمحاكاة التائهين وهي المؤهلةُ لإصلاح فساد الأمم أجمعين ؟ وكيف قبلت أن تشهد عليها الأممُ بذلِّ التبعية وضحالة التفكير، وضعف الانتماء، والارتماء في أحضانِ الآخرين، وهي الأمةُ الوسطُ التي جعلها الله شاهدةً على الناس بمحكم التنْزيل: (( وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَليْكُمْ شَهِيداً )) (البقرة: من الآية143).
وتستمر عدالتُها وتقبل شهادتُها على الأمم المكذبة يوم الدين تأملوا هذا النصَّ وما فيه من العبرة لعلكم تذكرون، أخرج الإمام البخاري في صحيحه أن صلى الله عليه وسلم قال: (( يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالى : هَل بَلغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ أَيْ رَبِّ ، فَيَقُولُ لأُمَّتِهِ : هَل بَلغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : لا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لكَ : فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ r وَأُمَّتُهُ فَتشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلغَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَل ذِكْرُهُ : (( وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ))))[12].
فهل تدركُ الأمةُ حقيقة موقعها وطبيعة تميزها، وضخامة دورها وتفيء إلى أصالتها وتعتِّز بقيمها ؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (( وَلا تَرْكَنُوا إِلى الذِينَ ظَلمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)) (هود:113).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية(5/208)
الحمد لله ربِّ العالمين أحمده تعالى وأشكره وهو للحمد أهل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صلِ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين .
أما بعد : فعباد الله: فحتى تتضح الصورةُ وتتبين الحكمةُ من مخالفة أصحاب الجحيم، وعدم التشبه بالكافرين أسوق لكم عدداً من أدلةِ الكتاب والسنةِ ومدلولاتِها في النهي والتحذير من ذلك، إذ كان ذلك من تكاليف هذه العقيدة الربانية التي ندينُ بها ونؤمن بمنْزلها .
يقول تعالى مخاطباً رسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ أمته: (( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لا يَعْلمُونَ* إِنَّهُمْ لنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )) (الجاثية:18-19).
يقول في تفسيرها شيخُ الإسلام ابنُ تيمية - رحمه الله -: (( جعل اللهُمحمدا صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمرِ شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، ويدخل في الذين لا يعلمون كلُّ من خالف شريعتَه، وأهواءهم: هي ما يهوونه ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسمُ لمادة متابعتهم في أهوائهم، وأعونُ على حصولِ مرضاةِ الله في تركها [13]
وقال تعالى: ((وَلنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ))(البقرة:120).
فانظر كيف قال في الخبر ((ملتهم)) وقال في النهي: ((أهواءهم)) لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملةِ مطلقاً، والزجرُ وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير [14]
معاشر المسلمين : وتأملوا في حادثة تغيير القبلة حينما هاجر النبيُ r وصحبهُ من المدينة - وكان بها يهود - وتوجيه القرآن للمسلمين في قوله تعالى: ((وَلئِنْ أَتَيْتَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلةَ بَعْضٍ وَلئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لمِنَ الظَّالِمِينَ)) إلى قوله تعالى: ((وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَليْكُمْ حُجَّةٌ...) (البقرة: 145-150).
فلقد استمر النبيُ r في الاتجاه بصلاته نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً )) [15]
ولاشك أن هذا التوجيه لقي رغبةً وترحيباً من اليهود إذ يوافقهم النبيُ r في قبلتهم، وربما استغلوا ذلك وقالوا: (يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا) [16]
وكان الرسو صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى الوحي ويرغب التوجه إلى الكعبة عودة إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، ورغبةً في تميز المسلمين بقبلتهم عن اليهود، فنَزل الوحيُّ مبيناً هذه الرغبة ومحقاً للحق ومستجيباً لنبيه ومميزاً للمسلمين عن غيرهم وكاشفاً لأهواء واعتراض السفهاء من الناس: ((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ليَعْلمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)) (البقرة:144).
قال غيرُ واحد من السلف في حكمة تغير القبلة : لئلا يحتج عليكم اليهودُ بالموافقةُ في القبلة فيقولوا: قد وافقونا في قبلتنا فيوشكُ أن يوافقونا في ديننا فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، قال العلماء: ((وهذا المعنى ثابتٌ في كل مخالفة وموافقة فإن الكافر إذا أُتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان - أو قريبٌ مما كان - لليهود من الحجة في القبلة )) [17].
ولم يقف الأمر عند حدود النهي بل أشارت آياتُ القرآن وأحاديثُ المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أن من اتبع الكافرين وقلدهم فهو منهم ومصيرُهم مصيرهم قال تعالى: (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً )) (النساء:115).
((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))(المائدة:51).
وقال عليه الصلاةُ والسلام: (( من تشبه بقوم فهو منهم )) [18]،(5/209)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( إسناده جيد، وأقلُّ أحواله أنه يقتضي تحريم التشبِّه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم كما في قوله تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)).
إخوة الإيمان : إن من لوازم العقيدة الحقة الولاء والبراء، ويكون الولاءُ للمؤمنين والبراءُ من الكافرين، قال تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آمَنُوا)) (المائدة: من الآية55).
ولا حجة لمن قال: إن الولاء في القلب ولا تضرُ المشابهة في الظاهر مع الكره لهم باطنا ً.
قال شيخ الإسلام في كتابه القيم: (( اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم،وهو كتاب قيمٌ نافعٌ في هذا الباب: والموالاةُ والمودة وإن كانت متعلقةً بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعونُ على مقاطعة الكافرين ومبايينهم)) . [19].
إلى أن قال: ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بالكافرين في الولايات، فروى الإمامُ أحمدُ بإسناد صحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه : إن لي كاتباً نصرانياً، قال مالك: قاتلك الله، أما سمعتَ الله يقول: ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) (المائدة:51).
ألا اتخذت حنيفاً ؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين: لي كتابتهُ وله دينهُ، قال ( عمر ): لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزّهم إذا ذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله [20]، وأشار المحقق إلى عدم وجوده له في المسند ( أبي موسى ).
ويقول ابن القيم - رحمه الله - : (( إن الرسو صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، وسرُّ ذلك إن المشابهة في الهدْي الظاهر ذريعةٌ إلى الموافقة في القصد والعمل )) [21]
معاشر المسلمين : والنصوص في هذا كثيرة، وتعليلاتُ العلماء في النهي عن التشبه بالكافرين مقنعة ومبسوطةٌ ومن رام المزيد فليرجع إليها في مظانها، وإنما أردت الذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد .
ومع هذه الموجة العارمة في التشبه بالكافرين في عالمنا الإسلامي في معظم مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية والإعلامية وسلوكيات الناس وعوائدهم الاجتماعية إلا أن من الإنصاف أن نقول: إن هذه وتلك من ركام الماضي ومن مخلفات الاستعمار والمستعمرين، ولئن بقي في المسلمين من لا يزال سادراً في غيِّه مخدوعاً بمشابهة الكافرين وتقليدهم وموالاتهم، فثمة صحوةٌ إسلاميةٌ نشطةٌ تسري في أوساط المسلمين، وثمة وعي وشعور بالعزة الإيمانية لدى الشعوب المسلمة تنتظم الرجال والنساء، لقد بدأ الإسلام يستيقظ في النفوس وبات واضحاً تململ المسلمين من واقعهم المشين وكرههم لأعداء الدين ومعرفتهم بمخططات المستعمرين، ولم تقف حدودُ هذه الصحوة عند قطر دون آخر، ولم تكن في العرب دون العجم، ولا في الشرق دون الغرب، إنها شمسُ الحقيقة بدأ إشراقها وسيعم الخافقين بإذن الله نورُها.
ليس هذا كلاماً عاطفياً يقال، ولا مجرد أحلام لا يرى الناسُ لها مقاماً بل هي الحقيقة يشهد بها العدوُّ قبل الصديق، ويتآمر الكافرون ويخططون لاقتلاع الشجرة قبل أن توتي ثمارها... فتعقد المؤتمرات، وتفتح الملفات وتقترح الوسائل والخطط لمكافحة ما يسمى بالإرهاب والتطرف والأصولية، ونورُ الله قادمٌ لا محالة، والإسلام الحقُّ هو الديانة المؤهلة لقيادة العالم قيادةً عادلة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ولو كره المشركون .
ومن أواخر ما سمع العالمُ ما يحدث اليوم في تركيا ربيبة الاستعمار، ورائدةُ العلمنة في ديار المسلمين، والتي مكث المجرمون في تغيير هويتها ردحاً من الزمن، حتى أعلن استبدال العربية بحروف لاتينية، ومنع الحجاب رسمياً، وأعلنت القوانين الكافرة لتحكم في البلاد قسراً... ومع هذا التغريب والتحدي السافر، بقي الإسلامُ محفوظاً في قلوب الأتراك المسلمين، وبقيت الأصالة رصيداً مدفوناً في الصدور، حتى إذا أُتيحت الفرصة تفاجأ العالمُ كلُّه بالتصويت لحكم الإسلام، وفوز حزب الرفاة الإسلامي وسحقه للأحزاب العلمانية الأخرى، وعادت العلمانية تندب حظهَّا، والكفارُ العلمانيون يجرون أذيال الهزيمة وتهاوي الصنم الوهمي، وأُحبطت القوى العالمية وزادت من تخوفها من الإسلام والمسلمين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون اللهم هيئ للمسلمين من أمرهم رشداً، اللهم وأجمع كلمتهم على الحقِّ والهدى، اللهم عليك بأعداء الدين اللهم وأحصهم عدداً وأقتلهم بدداً ولا تبقِ على الأرض منهم أحداً، هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين .
[1] رواه أحمد بسند صحيح ( صحيح الجامع الصغير 1/352).
[2] أخرجه مسلم (2090)، جامع الأصول 4/716).
[3] رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، انظر: صحيح الجامع الصغير 6/128).
[4] ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم ص181
[5] أبو داود كتاب الصلاة 675ح 1134، الولاء والبراء للقحطاني / 331 .
[6] الاقتضاء 1/435-436 .(5/210)
[7] رواه أبو الشيخ الأصبهاني، والبيهقي بإسناد صحيح، الولاء والبراء 332، والاقتضاء 1/428 بدون لفظة: "فإن السخطة تنْزل عليهم .
[8] رواه ابن ماجة بسند صحيح، صحيح الجامع الصغير 6/126
[9] رواه مسلم 1/377، الاقتضاء 1/298 .
[10] رواه مسلم، السابق 1/297
[11] رواه البخاري 13/300 ح7320، ومسلم 4/2054، ح2669 .
[12] الصحيح مع الفتح 6/371
[13] اقتضاء الصراط المستقيم 1/85، 86 .
[14] الاقتضاء 1/87 .
[15] صحيح البخاري مع الفتح 1/95، ومسلم 1/374، السيرة النبوية الصحيحة للعمري 2/349
[16] نسبه العمري إلى مجاهد ومال إلى تصحيحه، السيرة النبوية الصحيحة 2/351
[17] ابن تيمية الاقتضاء 1/88 .
[18] رواه أحمدُ وأبو داود .
[19] 1 / 163.
[20] الاقتضاء 1/164، 165
[21] إعلام الموقعين 3/140 .
===============(5/211)
(5/212)
الصحوة الإسلامية: الأسباب والحقيقة
د. غازي التوبة 20/3/1428
08/04/2007
أطلق الدارسون اسم "الصحوة الإسلامية" على عدة أفعال ومظاهر إسلامية برزت في السبعينيات من القرن العشرين، وارتبطت بالتدين بشكل عام من مثل: ارتداء المرأة المسلمة الحجاب، وإعمار الشباب للمساجد، وظهور بنوك إسلامية، ومؤسسات تجارية لاربويّة، وانتشار الكتاب الإسلامي، وظهور جمعيات إسلامية تقود العمل الخيري في آسيا وإفريقية، والإقبال على التصويت للإسلاميين في الانتخابات البرلمانية في أكثر من بلد عربي وإسلامي، مما أدّى إلى إشغالهم عدداً كبيراً من مقاعد البرلمانات الخ. . . ولم تقتصر الصحوة على بلد واحد أو منطقة واحدة، بل شملت بلداناً متعددة ذات ظروف تاريخية مختلفة تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، منها: تركيا، الأردن، مصر، فلسطين، تونس، الجزائر، السعودية، الكويت الخ. . . وأعاد أولئك الدارسون تلك الظاهرة إلى عدة أسباب منها:
1- نكسة حزيران 1967م:
ذكر بعض الدارسين أنّ الصحوة الإسلامية جاءت نتيجة هزيمة العرب في مواجهة اليهود سنة 1967م، وعلّلوا ذلك بأنّ الشعوب تلجأ إلى القيم الغيبية لمواجهة الانتكاسات وللتهرب من الواقع المرير، ومن الذين روّجوا لهذا التحليل حسين أحمد أمين في عدد من مقالاته. لكن هذا التعليل غير صحيح؛ لأنّ هناك بلاداً قد ظهرت فيها صحوة إسلامية ولا علاقة لها نهائياً بالنكسة مثل تركيا وتونس، ولكننا يمكن أن نقبل القول بأنّ نكسة حزيران 1967م كان لها دور في توقيت ظهور الصحوة، وذلك لاضطرار الحكام إلى تخفيف قبضتهم عن الشعوب الإسلامية بسبب هزيمتهم أمام اليهود، واضطرارهم إلى السماح بهامش من الحرية مما جعل الشعوب تستفيد من هذا الهامش وتعبّر عن الحقيقة الكامنة في داخلها ووجدانها.
2- حاجة بعض الحكام لمواجهة التيارات اليسارية:
علّل بعض الدارسين اليساريين وجود الصحوة الإسلامية بأنها ثمرة إطلاق الحكام ليد الإسلاميين في العمل السياسي من أجل مواجهة الحركات اليسارية، وأشاروا بهذا الصدد إلى إطلاق أنور السادات يد الحركة الطلابية في مصر لمواجهة الشيوعيين واليساريين من أتباع جمال عبد الناصر في الجامعات المصرية بعد عام 1970م، وأشاروا كذلك إلى سماح بورقيبة للإسلاميين بالعمل في تونس من أجل الحد من نفوذ التيار الشيوعي هناك.
إنّ هذا الكلام الذي يقوله اليساريون قابل للنقاش، ولا يسلّم به على إطلاقه، ولكن لنفترض جدلاً صحة ما يقوله اليساريون، فهذا يعني أنّ الحكام أرادوا الاستفادة من ظاهرة موجودة، ولم يُوجدوا هذه الظاهرة، وهذا ما نريد أن نصل إليه، وهو أنّ الصحوة الإسلامية حقيقة منبثقة عن واقع حياة المجتمع المسلم ومرتبطة به، وذات جذور وأصول بعيدة وليست من صنع الحكام.
3- الظروف الاقتصادية السيئة:
أشار كثير من الدارسين وبالذات الغربيين إلى أنّ الصحوة الإسلامية ثمرة الظروف الاقتصادية السيئة التي تمر بها بعض بلدان العالم الإسلامي، وأنّ القيادات الإسلامية تستغل الظروف الاقتصادية السيئة للزج بالشباب في "أتون الأصولية"، ومما ينفي زعم أولئك الدارسين أنّ الصحوة الإسلامية لم يقتصر انتشارها على البلدان التي تعاني أزمات اقتصادية، بل امتد انتشارها إلى البلدان المستقرة والمزدهرة اقتصادياً مثل الخليج العربي بعامّة والكويت بخاصة، وربما كان العامل الاقتصادي سبباً في تسريع انتشارها، لكنه لم يكن عاملاً أساسياً في إيجادها بحال من الأحوال.
4- الثورة الإيرانية:
عزا بعض الدارسين انبثاق الصحوة الإسلامية إلى قيام الثورة الإيرانية في طهران عام 1979م، وإلى تأثيرها الإعلامي في محيطها الإسلامي، لكن نسي أولئك الدارسون أنّ الثورة الإيرانية شيعية المذهب، لذلك فمن الصعب أن يكون لها تأثير في محيط سني المذهب، وبخاصة إذا علمنا أنّ الصحوة الإسلامية قامت في بلاد سنية المذهب، وإذا كان لابد لنا من الإقرار بالتأثر والتأثير فهو أنّ الثورة الإيرانية حركت مشاعر المسلمين، وأذكت أملهم بإمكانية الانتصار، ودفعتهم إلى حلبة التنافس والتسابق مع إخوانهم الآخرين.
5- انتشار المد الأصولي:
رصد بعض الدارسين أصولية متنامية خلال الفترة الماضية على مستوى الكون لدى جميع الأديان اليهودية والكاثوليكية والهندوسية والبوذية الخ. . . وعلّلوا تلك الظاهرة الأصولية بسقوط الاتحاد السوفييتي الذي يقوم على الإلحاد والذي هو خصم لكل الأديان، واعتبروا الصحوة الإسلامية جزءاً من تلك الظاهرة، لكن نسي الدارسون أنّ الصحوة الإسلامية غير الأصولية الإسلامية، فلكل ظاهرة سماتها المستقلة المختلفة عن الأخرى، وإذا قبلنا التعليل السابق لظهور الأصولية الإسلامية فيجب أن نبحث عن تعليل آخر لظهور الصحوة الإسلامية طالما أنهما في حقيقة الأمر ظاهرتان متمايزتان مختلفتان.
والآن بعد أن فندنا الأسباب التي توهم بعض الدارسين أنها كانت وراء الصحوة الإسلامية، فما أسبابها الحقيقية إذن؟ وما ماهيتها؟ لكي نرد على السؤال السابق لابد من استعراض الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية والفكرية التي سبقت الصحوة الإسلامية.(5/213)
كانت الحضارة الغربية هو التحدي الأكبر الذي واجه الخلافة العثمانية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وانتهى الصراع بسقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وبتفكيك ولاياتها وسقوط معظمها في قبضة الانتدابين: البريطاني والفرنسي، وارتفعت أصوات تنادي بالتغريب من أجل التخلص من التخلف الحضاري ومن أجل اللحاق بالحضارة الغربية، وكان كمال أتاتورك أبرز من حمل لواء التغريب، فألغى الخلافة وأعلن النظام العلماني الذي يقتضي فصل الدين عن الدولة نهائياً، وألغى الشريعة الإسلامية، وأعلن الأذان باللغة التركية، وكتب اللغة التركية بالحرف اللاتيني بعد أن كانت تُكتب بالحرف العربي، وأوجب السفور وألغى كل التشريعات الإسلامية المتعلقة بالأسرة الخ. . .
ذلك ما قام به كمال أتاتورك على الجانب التركي من الخلافة العثمانية، أما الجانب العربي فقد قاد الفكر القومي الأمة فيه، واعتبر اللغة والتاريخ عاملي تكوين الأمة العربية، وتنكّر للدين الإسلامي، ولم يعتبره عاملاً من عوامل تكوينها، وكان ساطع الحصري أبرز من رسخ ذلك الفكر القومي العربي الذي يقوم على العلمانية في كل من العراق وسورية بعد أن احتل مراكز تربوية وعلمية راقية فيهما.
وكانت نتيجة المعطيات السابقة جميعها أنّ القيادات القومية العربية جعلت الحضارة الغربية قدوتها ومثالها، وشرعت في تغريب الإنسان والمجتمع العربيين، فأحلت الرابطة القومية محل الرابطة الدينية، ونقلت التشريعات الغربية وقوانينها في كل مجالات الحياة التجارية والزراعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخ. . . ولم تستثن من ذلك إلاّ قوانين محدودة تتعلق بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق، ونقلت النموذج السياسي الغربي دون أدنى تغيير أو مراعاة لأية ظروف خاصة، ونسخت النظام الاقتصادي الغربي القائم على النظام الربوي بكل شروره وآثامه، ونشرت الآداب والفنون الغربية من مسرح وسينما وتمثيل ورسم ونحت الخ. . . وقد أدى كل ذلك إلى اصطراع عنيف بين النموذج الغربي وبين النموذج الحضاري التاريخي لأمتنا الذي عرفته لقرون طويلة.
أما مصر فقد كان صوت التغريب فيها بعد الحرب العالمية الأولى أعلى من صوته في مثيلاتها العربيات، فقد اعتبر حزب الوفد الذي قاد ثورة 1919م أنّ الشعب المصري أمة فرعونية مكتفية بذاتها، وقد دعا الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي إثر استقلال مصر عام 1936م في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" إلى أخذ الحضارة الغربية كاملة في كل مجال: حلوها ومرها، واعتبر ذلك الطريق الوحيد للرقي وللالتحاق بركب الحضارة البشرية، وقد شهدت مصر بين الحربين العالميتين معارك فكرية صاخبة كان القصد منها خلخلة البناء النفسي للشعب المصري وتهيئته للتغريب الكامل من مثل المعركة التي أثارها علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" نافياً وجود حكم يتطلبه الإسلام، ومن مثل المعركة التي أثارها طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" والتي أنكر فيها وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وأنكر قصة بنائهما للكعبة، واعتبر تلك القصة أسطورة اخترعتها قريش لإثبات الصلة بين اليهود والعرب وأقرها الإسلام لإثبات الصلة بين القرآن والتوراة، وقد أثارت تلك المعارك الأزهر الشريف فحاكم الكاتبين وأعدم الكتابين، ومما يلحق بتلك المعارك الفكرية الصارخة الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية وإلى تغيير قواعد النحو والإملاء والحجة في كل ذلك التيسير.
ثم جاء جمال عبد الناصر إلى الحكم في عام 1952م ونقل مصر من مرحلة القومية الفرعونية إلى القومية العربية، واعتمد في البداية طرح ساطع الحصري القومي العلماني، ثم انتقل عبد الناصر إلى المرحلة الاشتراكية في الستينيات، وقد استمرت مصر ماضية في أمر التغريب، ولكنّ تغريبها هذه المرة مستمد من الشق السوفييتي الاشتراكي، لذلك حكمت المجتمع التطبيقات الاشتراكية من مثل تأميم وسائل الإنتاج، وقيادة العمال والفلاحين، والصراع الطبقي، والعنف الثوري الخ. . . ثم سارت عدة دول عربية على نهج مصر القومي الاشتراكي ومنها: السودان، والجزائر، اليمن...الخ(5/214)
والسؤال الآن بعد هذا الاستعراض الموجز لمحاولات التغريب: ماذا كانت نتيجة محاولات القيادات القومية لتغريب بلادنا منذ الحرب العالمية الأولى؟ هل نجحت في ذلك؟ هل أصبحت قيم الغرب وعاداته وتقاليده ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية متجذرة في حياة الأمة وجزءاً من كيانها؟ لا لم تصبح بدليل الصحوة الإسلامية التي قامت في مختلف أنحاء العالم العربي من تركيا إلى سورية إلى الأردن إلى مصر إلى تونس إلى الجزائر الخ. . . والتي جاءت لتعلن إخفاق التيار القومي في تغريب الأمة، وقد استندت الصحوة الإسلامية في محاربتها محاولة التغريب تلك إلى الوحدة الثقافية التي تمثّلت في مفاهيم مستمدة من أحكام الحلال والحرام والواجب والمندوب المطروحة في كتب الشريعة الإسلامية، وظهرت في تقاليد وعادات وأعراف مستندة إلى سيرة الرسول (، وبانت في سلوكيات معتمدة على قيم الإسلام وأخلاقه وتوجيهاته، وتجلّت في أفكار مأخوذة من عقائد الإسلام ومبادئه، وقامت على أشواق وأذواق مرتبطة بحديث القرآن عن الجنة والنار... الخ
وقد شكل القرآن الكريم والسنة المشرفة أساس الوحدة الثقافية لأمتنا، فهما قد أعطيا المسلمين تصوراً واحداً عن الكون والحياة والإنسان، ورسما لهم أهدافاً واحدة تزاوج بين التطلع إلى الآخرة وإعمار الدنيا، وحدّدا لهم قيماً واحدة تقوم على التطهر والتزكي، وأوجبا عليهم واجبات واحدة تعود على الفرد والمجتمع بالخير في الدنيا قبل الآخرة، وأفعما قلوبهم بتعظيم الله ورجائه وحبّه مما أورثهم غنى نفسياً وامتلاءً معنوياً تجسد في أوقاف بلغت ثلث ثروة العالم الإسلامي، ووجّها عقولهم إلى التفكر والتدبر والأخذ بالتجريب والابتعاد عن الأوهام والظنون مما جعلهم يبتكرون مخترعات تغني الحياة البشرية في مختلف العلوم والمجالات: كالفيزياء والكيمياء والميكانيكا والرياضيات والطب والفلك والصيدلة... الخ
لقد شكلت الوحدة الثقافية التي استندت إليها الصحوة الإسلامية في إفشالها التغريب أبرز مظهر من مظاهر الأمة الواحدة في وقتنا الحاضر بعد أن نجح أعداء الأمة في تمزيق مظاهر الوحدة الأخرى: السياسي والاقتصادي منها، وقد تبين أنّ هذه الوحدة الثقافية أقوى وأعصى على التذويب والتغييب والتفتيت مما يتصورون.
لقد جاءت الصحوة الإسلامية تعبيراً عن رفض الأمة للتغريب من جهة، وقامت استناداً على الوحدة الثقافية للأمة من جهة ثانية.
============(5/215)
(5/216)
أكذوبة حقوق الإنسان
عبد الله السهلي* 8/3/1428
27/03/2007
في تقديري لم يبلغ تسلّط وظلم الإنسان لأخيه الإنسان عبر التاريخ كله كما بلغ في زماننا هذا! وإن من المفارقات الغريبة التنادي لحماية حقوق الإنسان.. ممن؟!! إنه من الإنسان ذاته؛ فهو الخصم والضحية! فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ!!
وعلى الرغم من محاولات بعض الليبراليين تشريع الأنسنة! إلاّ أن مصطلح (الإنسانية) لم يعد يحمل بالضرورة معاني الرحمة والشفقة والتعاطف! بل قد نطلق الإنسانية ونعني بها القتل والحرب والدمار! وعلينا أن نبحث عن مصطلح آخر نعلّق عليه آمالنا! وبعيداً عن جدلية الأصل في الطبيعة البشرية فإن المتنبي قد حسم الموضوع بشكل واضح وصريح:
والظلمُ من شيم النفوسِ فإنْ تجدْ ذا عفةٍ فلِعلّةٍ لا يظلمُ!
وهذا بلا شك نتاج طبيعي لضعف جذوة الإيمان في النفوس أو اضمحلالها، وإن من المفارقات أن مصطلح (حقوق الإنسان) يُعدّ الآن من أكثر المصطلحات تداولاً في الوقت الذي يُعدّ عصرنا أكثر العصور انحطاطاً في مجال حقوق الإنسان! الأمر الذي يحتم علينا قراءة الأحداث والمصطلحات بعيداً عن صخب الآلة الإعلامية الغربية التي باتت تطحننا، وتلقي بنا في أتونها شئنا أم أبينا!!
إن الغرب وأمريكا على وجه الخصوص ترغمنا على التعاطي مع نسبية مصطلحاتها! بل نسبية عقليتها وبراجميتها ومكافيليتها ! وعلينا أن نراوح في فلك فكرها رغم أنوفنا!
إن القضية يمكن إجمالها في مؤداها الأخير أنها قضية قوي وضعيف، قوي يملي مصطلحاته ومضامينها، وضعيف يردّد ما يريد الأقوياء!
إن من الواجب علينا - مفكرين وساسة وحقوقيين- أكثر من أي وقت مضى الانعتاق من المنظومة الغربية لحقوق الإنسان؛ لأنها باختصار جاءت ردة فعلٍ لعقود من الصراع في أوروبا، صراع الإنسان مع الإنسان وصراع الإنسان مع الطبيعة، ولذا تجد فلسفة الصراع جزءاً من كينونة الغربي يجسدها بشكل صريح الفن والتمثيل، بل حتى الرسوم الكرتونية لديهم! هذه الثقافة ألقت بظلالها على عالمنا الإسلامي، ولذا قد تسمع من يقول: "إن الحقوق لا تُمنح بل تُنتزع انتزاعاً"، وهي عبارة تمثل بجلاء مجتمع الصراع، صراع الكل ضد الكل أو مجتمع الإيمان؛ فإن هناك ثنائية الحق والواجب في جوٍ من المسؤولية والمراقبة الذاتية التي لا يعرفها الغرب!
ولذا فإن من الأهمية بمكان معرفة الأسس والمنطلقات الفلسفية والفكرية للبنية العقلية للغرب، والتي تراوح بين الصراع والنفعية والتعاقدية وبطبيعة الحال استبعاد الإيمان وإقصائه، بل بمعنى أدق إلغاؤه من الحس الغربي تماماً، الإيمان الكفيل بإيقاد جذوة الخيرية داخل النفس البشرية.
وفي المقابل فإن المسلمين يملكون - على المستوى النظري والعقدي - منظومة حقوقية لا تضاهيها منظومة على وجه الأرض، وإن من الظلم الواضح محاكمة المسلمين في هذا من خلال أحوال العالم الإسلامي الذي هو نتاج سنوات وعقود من الظلم والاستعمار (وإن شئت أبدل العينَ حاءً) والتغريب والتسلط الغربي الممنهج، باختصار نتاج للمؤامرة التي يحاول البعض إلغاء نظريتها (بل مكر الليل والنهار) والتي يجب ألاّ تقعدنا عن العمل (الجانب السلبي لنظرية المؤامرة).
ومع الأسف فإن كثيراً من المحاولات المؤسسية والمؤتمرات في هذا المجال مجال حقوق الإنسان بما فيها مؤتمر القاهرة 1411هـ قد استبطنت النموذج الغربي بشكل أو بآخر ونظمت على منواله دون التنبه إلى الاختلاف الجذري في الأسس والمنطلقات، إن علينا أن نوضح للعالم بأسره منظومتنا القيمية الحقوقية بعيداً عن الهلامية، وبعيداً عن منهج التوفيق والتلفيق تحت ذرائع المشترك الإنساني أو غيره! وهذا الأمر يتطلب عملاً مؤسسياً وفريقاً بحثياً يضم بين جنبيه علماء الشريعة والفقه والحقوقيين والسياسية الشرعية وتخصصات أخرى. وعند ذاك لا بأس إن كان هناك قدر من المشترك الإنساني، وثمة فرقٌ بين أن نقول: نحن نشابهكم في أمور، وبين أن نقول هذه منظومتنا وأنتم تشابهوننا في أمور .
وهنا ملمح مهم وهو ضرورة التجرد والحيادية في عرض الإسلام، أو أياً من تشريعاته بعيداً عن الذات أو العادات الاجتماعية الصرفة، وعرضه للغرب كما هو مهما تناءت المسافة بينه وبين الفكرة الغربية الوضعية - وهذه الجزئية بالذات - هي عنصر التميز والجذب للغربي عكس ما يعتقده (هواة التلفيق) من أن تمييع القضايا والفكر الإسلامي حتى يكون ظلاً مشوهاً للفكر الغربي أنه عنصر جذبٍ لهم .
وبعد.
هل ما زلنا نصدق أكذوبة حقوق الإنسان!
* باحث وأكاديمي
===============(5/217)
(5/218)
أيصبح العدو اللدود صديقاً حميماً!
اشتق لفظ التطبيع ( No r malizaion) (من الكلمة الإنكليزية) No r mal) ) بمعنى العادي أو المعتاد أو المتعارف عليه ، وفي مختار الصحاح (الطبع هو السجية جبل عليها الإنسان)، وفي المعجم الوسيط (تطبع بكذا أي تخلّق به ، وطبّعه على كذا أي عوّده إياه) ، ولا توجد مادة تطبيع في المعاجم العربية لأنها محدثة ، فالمعنى الحالي مأخوذ من ترجمة هذه الكلمة عن لفظة إنكليزية تم تداولها أخيراً خاصةً بعد اتفاقيات كامب ديفيد، لكن يمكن تصور المعنى من كلمة التطبيع من حيث المبدأ أنه (هو العودة بالأشياء إلى سابق عهدها وطبيعتها).
حقيقة التطبيع مع اليهود : " أنه يشمل ( كل اتفاق رسمي أو غير رسمي أو تبادل تجاري أو ثقافي أو تعاون اقتصادي مع إسرائيليين رسميين أو غير رسميين ) ويهدف إلى ( إعادة صياغة العقل والوعي العربي والإسلامي بحيث يتم تجريده من عقيدته وتاريخه ومحو ذاكرته خاصة فيما يتعلق باليهود، وإعادة صياغتها بشكل يقبل ويرضى بما يفرضه اليهود ) ومآله: الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات شرعية، وتحويل علاقات الصراع بينها وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية وتحويل آليات الصراع إلى آليات تطبيع " (ورقة لحسين عبيدات ألقيت في المؤتمر العام العاشر للصحفيين العرب عام 2004 م ) .
وبذلك يتضح أن المقصود بالتطبيع هو سلام دائم وليس عبارة عن هدنة مؤقتة ومسالمة يركن إليها المسلمون لضعفهم في زمن معين - كما يعتقد بعض من يقولون بجواز التطبيع - باعتبار أنه صُلحٌ أو سِلمٌ جنح له العدو، ولا يخفى أن هناك فرقأً شاسعاً بين اتفاقيات التطبيع وبين أحكام الهدنة والصلح التي ذكرها العلماء، وأهون ما يمكن أن يقال عن هذه الاتفاقيات أنها صلح دائم مع عدو محتل لأرض المسلمين غاصب لمقدساتهم وهذا محرم باتفاق المسلمين ، وقد قال جمع من علماء المسلمين أن الصلح الدائم مع اليهود لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه والاعتراف بحقية يده على ما أغتصبه وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه ، وقد أكدت الفتوى الصادرة من رابطة علماء فلسطين عدم جواز التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني، موضحة أنه 'إذا استوطن أحد من الأعداء أرض المسلمين، فلا يجوز أن يقره على هذا الاستيطان أحد من المسلمين، وأن التطبيع بمثابة إقرار من المسلم المطبع لعدوان العدو واحتلاله،وجاء في فتوى الرابطة أن 'الواجب الديني على كل مسلم نصرة إخوانه ومعاونتهم على إخراج الأعداء من أرضهم، وعدم التطبيع مع الأعداء أبداً؛ لأن التطبيع مع الغاصب خذلان لأصحاب الحقوق وضرر بالغ بهم، فأين التعاون بين المسلمين على الأعداء إذا طبع المسلم مع عدو أخيه ومغتصب أرضه وقاتل بنيه' ( موقع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين على شبكة الإنترنت ).
وأخطر ما في التطبيع الذي يراد إقراره هو أنه في حقيقته صورة من صور الولاء ، الذي يمكن أن ينتهي إلى التولي ، والولاء والتولي لا يجوز إلا للمسلم، قال الله تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ)) ( لممتحنة:1).
ولعلنا نتأمل أقوال بعض زعماء الصهاينة ونظرتهم إلى العلاقة التي يرغبون بإقامتها مع المسلمين ، " يقول اليهودي هركابي ( الأب الروحي لرابين) : لابد من إدماج العرب في المشروع الصهيوني وتوظيفهم لخدمته، وهذا ممكن من خلال التعامل السياسي (وليس العسكري) مع العرب، لأنهم قوم لا يتحلون بالمثابرة والصبر والدأب وسرعان ما يدب فيهم الملل والضجر والاختلاف ، ويسلمون أمورهم حتى لأعدائهم في سبيل الغلبة في معاركهم وخلافاتهم الداخلية كتاب (لا للتطبيع د. عبدالله النفيسي )، ويقول شيمون بيريز : إن البقاء مستحيل لدينين لن يلتقيا ولن يتصالحا، وأنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد ، وفي مؤتمر التسامح الذي عقد قبل عدة سنوات في المغرب العربي قال ديفيد ليفي وزير خارجية العدو حينها( إنه من أجل أن يقوم التسامح بيننا وبين العرب والمسلمين ، فلا بد من استئصال جذور الإرهاب , وإن من جذور الإرهاب سورة البقرة من القران ) .
ثانياً :إستراتيجية اليهود وخططهم في التطبيع
هناك بعض المعالم التي تبين سياسة الكيان الصهيوني للوصول إلى رحلة التطبيع :-(5/219)
1- القضم ثم الهضم هي إستراتيجية الكيان الصهيوني ، ففي السنين الماضية احتلت أجزاء من بلاد المسلمين فتحتاج إلى وقت لهضمها وخلال هذا الوقت يتم الاستعداد لجولة أخرى يتم فيها التهام جزء آخر من بلاد الإسلام .
2- أصبح من المعتاد أن تبدأ الاتصالات سرية أولا بين المندوبين والوسطاء ، ثم تنتقل إلى المسئولين فالزعماء للترتيب لإعلان بداية المفاوضات العلنية للتضليل ، وهي قد انتهت سراً قبل الإعلان ، وما جرى قبل زيارة السادات لفلسطين من اتصالات سرية بدأت في 9/1977م ، وما كشفه موشي ديان في كتابه " أيبقى السيف الحكم " ، وكشفته العديد من الكتب والمذكرات لزعماء يهود ومنها كتاب (تواطؤ عبر الأردن : ليوسي ميلمان ودان رفيف ) من حقائق كثيرة لهو دليل واضح على ذلك .
3- تكوين رابطة الشرق أوسطية التي تربط بين دول المنطقة أجمع باسم الشرق الأوسط وتنبذ الانتماء للإسلام أو العروبة وهذا مشروع اليهودي (شيمون بيريز) الذي طرحه في كتابه " الشرق الأوسط الجديد " عام 1993 م ، ثم طور خطابه في عام 1995 م فذكر بأن الشرق الأوسط بحاجة إلى تبني مواقف ليندمج مع العالم الجديد ، ونصح العرب بتطبيق سياسة اقتصاد السوق علماً بأن الكيان الصهيوني يقيد سياسة السوق ، ومن المعلوم أن اقتصاد السوق الذي ينادي به بيريز هو الطريق اليسير لسيطرة الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية ورؤؤس الأموال الأمريكية على الاقتصاديات العربية ، ثم اسُتنسخ هذا الطرح مع بعض الإضافات والتعديلات في المشروع الأمريكي المسمى ( الشرق الأوسط الكبير ) الذي من أبرز عناصره :
- إقامة أمن إقليمي جديد بدلا من الأمن القومي العربي ويتضمن ذلك إقامة مناورات مشتركة عربية - غربية - إسرائيلية لضمان تطبيع العلاقات وكسر التعبئة النفسية وإضعاف روح الاستعداد المعنوي للمواجهة.
- طبيعة هذا المشروع سياسية في الأصل لكنه يعرض بقالب اقتصادي حيث يوصف بأنه مشروع اقتصادي أو كما يجري اختزاله أحياناً بـ " سوق شرق أوسطية.
4- التطبيع وسيلة فاعلة لليهود تهييء لهم الفرصة لدعم المنافقين والمفسدين لأداء دورهم داخل مجتمعاتهم بشكل يدفع كثيراً من المسلمين إلى الهزيمة النفسية والشعور باليأس من الإصلاح .
5- من أبرز أهداف اليهود سعيهم إلى عزل الدول العربية بعضها عن بعض وخاصة في المفاوضات ليحققوا أطماعهم الخاصة ، فيخسر العرب الكثير من قوتهم بسبب فرقتهم وتفرقهم .
6- أن تصبح جامعات اليهود ومراكز أبحاثهم ودراساتهم مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسّس للمشروع الصهيوني، الموجّه لتدمير الثقافة والهويّة الحضارية الإسلامية للمنطقة العربية بأكملها، وإحداث التفكيك والفوضى في داخل كل بلد عربي.
ثالثاً: مراحل التطبيع
المرحلة الأولى: قبل عام 1967 م ( اللقاءات السرية ) :
كانت بدايات مراحل التطبيع الأولى تتمثل في قدر من التواصل السياسي الذي يتحرك عبر الاتصالات السرية بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني ، كالاتصالات التي كانت قائمة بين المغرب والكيان الصهيوني وبينه والأردن ، وبعضها قبل حرب 1967م ، وما كشفه كتاب ( تواطؤ عبر الأردن ) ، يكفي في بيان المقصود حيث فيه توثيق للعلاقات السرية التي كانت قائمة بين الكيان الصهيوني والأردن ومن ذلك التوقيع على مسودة اتفاق في عام 1950 م تضمن : عدم الاعتداء بين الجانبين لمدة خمس سنوات وتشكيل لجان مشتركة بهدف التوصل إلى تسوية شاملة بين الطرفين ، وقد برز هذا اللون من التطبيع منذ الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو 1967م، وذلك إثر توافق النظام العربي الرسمي بعد اعتراف مصر، ومن ثم سوريا بالقرار الدولي رقم 242 المتضمن أن الكيان الصهيوني قد وجد ليبقى، وأنه ما من سبيل إلى إزالته، لكن هذا التوجّه بدا أكثر وضوحاً بعد عام 1974م عندما انضمت منظمة التحرير الفلسطينية إلى السرب العربي، واعترفت بالقرار المذكور ولم يكن خافياً بالطبع ذلك الترابط بين اعتراف المنظمة بالقرار الدولي وبين الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في مؤتمر الرباط عام 1974م، بل بدأت مشاريع اتصالات سرية مع الكيان الصهيوني من خلال ما عُرف بالاتصالات مع التقدميين الإسرائيليين، أو اليسار الإسرائيلي ، وكان من أبرزها اللقاءات المتتابعة للملك حسين مع اليهود في عامي 75 - 1976م حيث بلغت ستة لقاءات ، وذلك لشعور الملك بخسارته لجزء مما كان يملكه بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ولخوفه من اتفاق وشيك بين مصر و الكيان الصهيوني .
المرحلة الثانية : مرحلة توقيع معاهدة كامب ديفيد وتداعياتها عام1979م ( كسر الحاجز النفسي ):
زار فيها السادات فلسطين المحتلة عام 1977م ، والتقى بقادة اليهود فيها وألقى خطاباً في الكنيست الإسرائيلي ، ثم ما لبثت المفاوضات أن تسارعت حتى تمخضت عن توقيع معاهدة كامب ديفيد برعاية أمريكية وذلك عام 1979م ، وتم عزل مصر عن بقية الدول العربية بهذه المعاهدة المنفردة ، وسيأتي مزيد من التفاصيل عن هذه المرحلة لاحقاً .(5/220)
المرحلة الثالثة: مرحلة أوسلو عام1993م...( الهرولة السريعة ) :
جاءت مرحلة مدريد بعد حرب الخليج الثانية ثم أوسلو لتطلق حصان التطبيع العربي الإسرائيلي من عقاله خاصة مع الطرف المباشر وهم الفلسطينيون؛ فما هي سوى عشرة شهور، وتحديداً في شهر يوليو 1994م، حتى وقع الأردن اتفاقية (وادي عربة), وما أن حدث ذلك حتى انطلق مسلسل سريع من الهرولة العربية صوب تل أبيب؛ من موريتانيا إلى المغرب صاحب العلاقات التاريخية مع تل أبيب، إلى تونس وبقية الدول العربية .
المرحلة الرابعة: مرحلة ما بعد مؤتمر الإسكندرية عام 1995م ( التهدئة التكتيكية ) :
أدركت الدول العربية المحورية، وعلى رأسها السعودية , ومصر، وسوريا أن موجة الهرولة العربية صوب تل أبيب تؤذن بإنجاح مشروع (شيمون بيريز) الشرق أوسطي القائم على فكرة التمدد السياسي والاقتصادي الإسرائيلي في المنطقة من خلال السوق الشرق أوسطية بلا ثمن, وأن إسرائيل تتجاهل النوايا العربية في التطبيع بالحد الأدنى من الحقوق ، وفي هذه الأجواء جاء مؤتمر القمة الذي عقد في الإسكندرية مطلع عام 1995م لتهدئة الهرولة تجاه الكيان الصهيوني ، وبدأت موجة من الضغوط التكتيكية على الدول العربية المطبعة والمتجهة للتطبيع كي تهدئ جماح التطبيع، وهو ما استجابت إليه معظم الدول في واقع الحال؛ إذ بقيت العلاقات الدبلوماسية في حدها الأدنى غالب الأحيان ، غير أن الأهم من ذلك كله هو ما يتعلق بسير المفاوضات؛ فقد كانت استراتيجية الدول الثلاث تقول: إن مسيرة التطبيع يجب أن تتزامن مع سير المفاوضات؛ إذ من دون الوصول إلى تسوية حقيقية لا يمكن الحديث عن تطبيع مع الكيان الصهيوني ، وقد جاءت مسيرة المفاوضات الأولية من خلال جملة الاتفاقات التي تلت (أوسلو) لتؤكد أن نوايا الكيان الصهيوني بالتسوية بعيدة جداً، وهو ما تأكد بعد ذلك في قمة كامب ديفيد صيف عام 2000م، وهي القمة التي أكدت صعوبة التسوية مع مطالب إسرائيلية لا يقبل بها أحد في الساحة الفلسطينية والعربية.
المرحلة الخامسة: مرحلة تصاعد انتفاضة الأقصى واشتداد المقاومة المسلحة(تكافؤ القوى ):
جاءت انتفاضة الأقصى بعد ثلاثة شهور من القمة كامب ديفيد ثم تصاعدت واستمرت وفي أجوائها تصاعدت المقاومة المسلحة لتحصر في زمن قياسي جهود التطبيع التي بذلت طوال سبع أو تسع سنوات في أضيق نطاق ، وبدأت مرحلة جديدة في الخطاب الرسمي العربي حيال الكيان الصهيوني تقوم على هذه الرؤية للتطبيع، حتى أن الدولتين المرتبطتين باتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني ولهما علاقات دبلوماسية معها وهما مصر والأردن قد اضطرتا إلى سحب سفيريهما من تل أبيب تحت وطأة الضغوط الشعبية والرسمية والتكتيك السياسي.
المرحلة السادسة: مرحلة ما بعد قتل عرفات واحتلال أمريكا للعراق ( الهرولة الجماعية ) :
يمكن التأريخ لهذه المرحلة بمقتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات نهاية عام 2004م، وموافقة حركة فتح على تعيين (محمود عباس) خلفاً له، و هو المعروف بمناهضته لبرنامج المقاومة الذي تبنته حركة حماس والجهاد وفصائل فلسطينية أخرى ، أو يمكن التأريخ لها باحتلال العراق، على اعتبار أن ذلك الحدث هو الذي مهّد لمرحلة الرعب بالنسبة للنظام العربي الرسمي الذي شكّل وقوفه خلف (محمود عباس) سبباً أساسياً في إنهاء مرحلة انتفاضة الأقصى، وإعلان التعامل مع التسوية بلغة جماعية جديدة، على رغم عدم توفر أي أفق حقيقي لها في المنطقة بوجود شارون والمحافظين الجدد على رأس السلطة في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ، وفي هذه الأجواء جاءت المبادرة العربية للتطبيع الجماعي .
رابعاً :نماذج من بنود اتفاقيات التطبيع السابقة بين العرب والكيان الصهيوني :
أ- كامب ديفيد الأولى (التطبيع بين مصر و الكيان الصهيوني 1979م)
" نصّت المادة الثالثة من اتفاقيات كامب ديفيد تحت عنوان العلاقات الثقافية على ما يلي:
1- يتفق الطرفان على إقامة علاقات دبلوماسية وتبادل السفراء عقب الانسحاب المرحلي .
2- يتّفق الطرفان على أنّ التبادل الثقافي في كافّة الميادين أمر مرغوب فيه، وعلى أن يدخلا في مفاوضات في أقرب وقت ممكن، وفي موعد لا يتجاوز ستّة أشهر بعد الانسحاب المرحلي، بغية عقد اتفاق ثقافي.
3- كما نصّت المادة الخامسة الفقرة الثانية على تعاون الطرفين على إنماء السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة ويوافق كل منهما على النظر في المقترحات التي قد يرى الطرف الآخر التقدم بها تحقيقا لهذا الغرض. (من كتاب مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية ).(5/221)
ومع ذلك كله فإنه أثناء زيارة (بيغن ) - رئيس وزراء الكيان الصهيوني الهالك - لمصر في 25/8/ 1981م ، أعرب عن استيائه البالغ من استمرار الطلبة في مصر بدراسة كتب التاريخ التي تتحدث عن "اغتصاب إسرائيل لفلسطين" وكتب التربية الإسلامية التي تحتوي على آيات من القرآن الكريم تندّد باليهود وتلعنهم ولعله يقصد مثل قوله تعالى : ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ )) (سورة المائدة: 82)، وقد أشارت الصحف إلى أنّ السادات استجاب على الفور لطلب "صديقه بيغن"، فأصدر أوامره للمختصين في وزارة التربية بإعادة النظر في المناهج الدراسية بما يتلاءم مع طلبات بيغن .
ب- وادي عربة (التطبيع بين الأردن و الكيان الصهيوني 1994 م )
لا يخفى إهتمام اليهود بالجانب الثقافي لما له من أثر كبير في مسيرة التطبيع، فهم في معاهدة كامب ديفيد قد طالبوا بأمور عديدة ، ثم تطورت مطالباتهم في اتفاقية (وادي عربة) على النحو التالي :
- «انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع؛ فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما».
- وجاء في المادة الحادية عشرة: «يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل فيما بينهما والتسامح القائم على ما لديهما من القيم «التاريخية» المشتركة، وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:
أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات؛ وذلك من قِبَل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منهما.
ب - القيام بأسرع وقت ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية، وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبارات العدائية في نصوص «التشريعات» الخاصة بكل منهما.
خامساً: من وسائل التطبيع
من أخطر وسائل التطبيع ، التطبيع الثقافي ومن أهم ما يرتكز عليه:-
1- الاهتمام بعينة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين، وفتح المنابر لهم، وتوفير فرص تدفعهم إلى مناصب سياسية واجتماعية متقدمة حتى وإن كانت مؤهلاتهم الحقيقية متواضعة وضعيفة، أو من خلال جمعيات أهلية عربية تدعم مشروع التسوية، وتدفع باتجاه التطبيع كجمعية بذور السلام غير الحكومية التي تأسست عام 1993م ، إثر اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني .
2- إيجاد أنصار للتطبيع مع دعمهم وإبرازهم من خلال المنظمات الممولة أمريكياً وأوروبياً تحت لافتات متعددة ومتنوعة مثل منظمات الدفاع عن حقوق المرأة ومنظمات الدفاع عن حقوق الانسان داخل المجتمع العربي ليقوموا بالأدوار التالية:
* الطعن في الإسلام وإدعاء عدم صلاحية الشريعة للتطبيق ، وضرورة علمنة المجتمعات العربية والإسلامية وتبديل أحكام الشريعة ومحاصرة دعاة الإسلام واتهامهم بالتطرف والإرهاب والظلامية ...الخ .
* القول إن النص القرآني يجوز التعامل معه كنص تاريخي أو الهجوم على كل تفسير صحيح للإسلام وبشكل خاص الآيات القرآنية التي تتعلق بالجهاد أو بالمواريث أو غيرها.
* الدعوة إلى كل ما يثير الاضطراب داخل المجتمعات الإسلامية والعربية بإثارة المسائل العرقية والطائفية والأقليات ، وإبراز الحضارات السابقة للإسلام كالفرعونية والفينيقية ونحو ذلك.
3- الترويج لما يسمى بثقافة السلام ، الذي وجد طريقه إلى العديد من الكتابات والأفكار التي طرحت في العديد من المؤتمرات والملتقيات الدولية والعربية العامة، وكذلك الندوات والحوارات عبر القنوات الفضائية ، والتي تدعو إلى نسيان التاريخ - تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي - وإلغاء ذاكرة الأمة .
4- التهوين من فتاوى العلماء حتى علماء المؤسسات الرسمية خاصة السنية، للتقليل من أهمية المرجعية العلمية في معظم البلاد العربية والإسلامية ، فترى اليوم كثيراً من الدول العربية والإسلامية ، تفتقد المرجعية العلمية ، بينما تنمى المرجعية العلمية المتميعة والمبتدعة .
5- ممارسة ضغوط على الدول التي لا تتجاوب مع التطبيع بالسرعة المطلوبة فقد حث أعضاء الكونغرس الأمريكي إدارة الرئيس جورج بوش على رفض التوقيع على اتفاق يسمح للسعودية بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية حتى تنسحب من المقاطعة العربية لإسرائيل وأكدوا أنه يتعين على الولايات المتحدة الإصرار على تحقيق تقدم في أربعة ميادين رئيسة قبل تقديم مساعدتها للرياض للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية ، ووضعوا على رأس هذه الميادين إنهاء المقاطعة السعودية للكيان الصهيوني.
6 - تشويه صورة الجهاد والمجاهدين المقاومين للاحتلال في نفوس الشعوب المسلمة والسعي لإيقاف الدعم عنهم ونبزهم بالارهاب.(5/222)
7 - استخدام طوائف من عرب أراضي ثمانية وأربعين الذين هم داخل الخط الأخضر للترويج للتطبيع كما هي خطة ( عزمي بشارة ) التي عرضها على الكنيست الإسرائيلي والتي قدمها كمشروع لدولة المواطنين والتي يدعو فيها إلى المساواة بين الفلسطينيين والصهاينة وهو لا يعني سوى إضفاء شرعية نهائية على اغتصاب فلسطين بشرط الاعتراف بحقوق الفلسطيني في المواطنة.
فالمقصود من كل هذه الوسائل إيجاد تيار عريض يقوم أفراده بدور الطابور الخامس القابع خلف خطوط الدفاع في الأمة ، حيث أنهم يضربون في صميم عقيدة الأمة وملامح هويتها على جميع الصعد ، لجعل الإنسان العربي المسلم مجرد إنسان بلا هوية ، يسهل تشكيل عقله على هوى المحتل ، وقد كان تمويل أمثال هؤلاء يجري في مصر وفق أنماط من الرسمية أو وفق حالات مقننة ، حيث كانت الأموال تصل إليهم عبر وزارة الشئون الاجتماعية وخصماً من المعونة الأمريكية المقدمة للحكومة المصرية ، إلى أن تطور الأمر بعد احتلال العراق وأخذ مدى أبعد حيث أصبحت السفارة الأمريكية في القاهرة هي التي تتولى مباشرة عملية تسليم الأموال في الاحتفالات التي تدعى إليها مختلف أجهزة الإعلام ، ليجري توزيع ما يزيد على 40 مليون دولار سنوياً .
سادساً : من فعاليات التطبيع
ضمن إطار العمل المستمر لدعاة التطبيع من الصهاينة والأمريكيين والعرب من أجل استحداث مؤسّسات وهيئات وجماعات وملتقيات تصب في المشروع التطبيعي ، تكوّنت "مؤسّسة المبادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط" في سبتمبر 1991م، وهي تضمّ نخبة من الشخصيات الأمريكية و الصهيونية والعربية, ويترأسها "جون ماركس" بصفته من الخبراء الأمريكييّن في شؤون المنطقة على مدى العقود الأربعة الماضية, ويعمل في إطار مؤسّسة المبادرة" خمسة وعشرون شخصاً من الأمريكيين والعرب والإسرائيليين، وتعدّ أحد المطابخ الرئيسة في طرح الأفكار والتصوّرات الممّهدة لتأسيس "نظام الشرق أوسطي" على أنقاض النظام العربي، يقوم اليهود فيها بدور القيادة وتتمحور حول مصالحهم وإستراتيجيتهم شبكة التفاعلات الإقليمية الجديدة وقد برزت أخبار هذه "المؤسّسة" إثر خلوتهم السرّية السادسة التي عقدت في مراكش بالمغرب (في الفترة من 18-22 مارس 1994م)، حيث اعترف المجتمعون أن هدف اجتماعاتهم هو إعداد الجماهير العربية لقبول "السلام" بشروطه الحالية أي فرض هذا "السلام" طوعاً بإرادتها، أو رغماً عنها عن طريق تزييف وعي الناس وإرادتهم المقاومة للعدوان والاستيطان والعنصرية الصهيونية، ولتحقيق برنامجها، قررت المجموعة القيام بإجراءات وتحركات واسعة، تتمثّل خطوطُها العامة بما يلي:
- ينبغي إحداث تحولات في التوجهات والإدراك في الشرق الأوسط إذا أريد للمنطقة الانتقال من ثقافة المواجهة والحرب إلى ثقافة السلام.
- يمكن للإعلام أن يلعب دوراً أساسياً في بناء السلام لتجاوز القيود الحكومية والثقافية السائدة، التي تضع عقبات مانعة أمام تقدم السلام.
ثم عُقدت في سبتمبر من عام 1994 م ، "خلوة أنقرة" التي أشرفت عليها ونظمت أعمالها وأسماء المدعوّين إليها وموّلتها المؤسّسة الأمريكية الصهيونية المعروفة بـ "مشروع البحث عن أرضية مشتركة" وقد استمرت أعمالها لثلاثة أيام تحت شعار "نحو ثقافة سلام بالشرق الأوسط"، وقد بدأت بتنفيذ برنامج العمل المستقبلي، الذي كانت أقرته في الاجتماع السادس بمراكش ( مارس 1994م )، مجموعة العمل الأساسية في إطار "المبادرة" من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط، وقد ساهم بدور واضح في "خلوة أنقرة" ، "مركز تاتي ستينمتيز الإسرائيلي لأبحاث السلام" في تل أبيب، الذي يترأسه "شمعون شامير" (الذي كان مديراً للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة)، ومؤسّسة "وقف الأمل" التركيّة بأنقرة وجمعية إعلام العالم بباريس، إضافة إلى تسعة صحفيين عرب .
وقد أجمع المشاركون على ضرورة اتخاذ الخطوات التالية:
- ينبغي على صحف المنطقة نشر مقالات وزوايا دائمة من دول أخرى، وقد قبل أكثر من صحفي عربي دعوة المساهمة في كتابة مقالات في الصحف (الإسرائيلية).
- أن يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة التي تصدر في الصحف (الإسرائيلية)، التي لا يسمح بدخولها إلى الدول العربية من قبل المشاركين، كما يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة، التي تصدر في الصحف الأخرى التي لا تتوافر (للإسرائيليين)، والهدف من ذلك هو رفع مستوى العلاقات وتقويتها بين الصحفيين العرب و(الإسرائيليين).
- ينبغي على الصحفيين المشاركين من دول مختلفة أن يكتبوا مقالات مشتركة، وهذا من شأنه أن يجعلهم يتبنّوا ذات الأفكار والمفاهيم، وقد وافقت (ر.د) مراسلة صحيفة "الحياة" مشاركة صحفي (إسرائيلي) في كتابة مقالات مشتركة.
- أعلن المشاركون عن تشكيل شبكة مهنية لصحافة الشرق الأوسط، ودعوا إلى ضرورة توسيعها والنشر عنها، لضمّ أكبر عدد ممكن من الصحفيين العرب و(الإسرائيليين) وغيرهم إليها، وتقديم إرشادات حول أية مقالات يريدون كتابتها.
من آثار التطبيع :-
أولاً: فلسطين
1 - الجانب السياسي :(5/223)
من أبرز المبادئ اليهودية في إدارة الصراع مع الفلسطينيين العمل على عدم تمكينهم من إقامة دولة فلسطينية مستقلة ، لأن إقامتها يعني وجود منافس حول الشرعية المرتبطة بالأرض التي يعيش عليها اليهود ، وأخطر من ذلك سياسة استيعاب الشعب الفلسطيني عن طريق :
- استيعاب الفرد معنوياً وحضارياً سواء بإيجاد الاحترام والانتماء العربي أو بإيجاد الإعجاب بالحضارة اليهودية .
- تشجيع زواج العربي باليهودية وخاصة الشرقية مع مخالفة ذلك لمبادئ النقاء اليهودي ولكن ذلك قد يؤدي في الأمد البعيد إلى إضعاف العنصر الفلسطيني .
- الاستئصال العضوي وله وسائل متعددة كالقتل أو الطرد أو التشجيع على الهجرة الدائمة .
وإذا نظرنا إلى فصائل المقاومة الفلسطينية ، فإنها تجد نفسها في مأزق، كلما وجدت الدول العربية تهرول باتجاه الكيان الصهيوني غير عابئة بما تجره هذه الهرولة من تنسيق أمني عالٍ مع الكيان الصهيوني في المجال الأمني والإستخباراتي خصوصاً ، مما يضرها وهذا بدوره يقطع كثيراً من طرق الإمداد للمقاومة الفلسطينية، سواء العسكرية أو التموينية، كما تقلل مساحة الوجود للفصائل الفلسطينية على التراب العربي، ومن ثم يقطع سبيل التواصل بين الخارج والداخل لهذه الفصائل 2 - الجانب الاجتماعي :-
سعى اليهود للتقليل من تكاثر المسلمين في فلسطين (عام 1948م ) خاصة وبقية الأراضي المحتلة بوسائل متعددة كنشر الأمراض الجنسية وترويج مواد استهلاكية وأدوية تؤدي إلى العقم ، وقد صرح وزير الصحة الفلسطيني السابق عبد العزيز شاهين عن اكتشاف ما يقارب العشرين طناَ من علكة لبان تسبب العقم كانت توزع داخل فلسطين المحتلة .
3 - الجانب الاقتصادي :
منذ العام 1967م بدأ اليهود باستخدام العملة اليهودية في المناطق المحتلة وتحويل أفرع البنوك العربية إلى بنوك يهودية وفتح باب التبادل التجاري بين المناطق المحتلة و الكيان الصهيوني وتشجيع زراعة المحاصيل الزراعية التي يحتاجها الكيان الصهيوني للاستهلاك المحلي أو قيامه بتصديرها إلى أوربا وتنشيط إدماج العمالة العربية في قوة العمل اليهودية لتوثيق الامتزاج الاقتصادي ولكن بشروط قاسية حيث يعمل العربي ساعات أكثر من اليهودي ويأخذ أجراً يماثل نصف أجر العامل اليهودي الذي يؤدي العمل نفسه ، إضافة إلى تعرض بعض العمال العرب إلى اعتداءات عنصرية من رجال الشرطة أو رجال سلاح الحدود اليهود بل وحتى من العمال اليهود ،ومع استمرار مسلسل الحصار والاجتياح اليهودي للمدن الفلسطينية تزايد عدد الأسر الفقيرة إما بسبب مقتل عائلها أو اعتقاله ، وكان من نتيجة ذلك سيطرة اقتصادية يهودية شبه كاملة على الضفة وقطاع غزة ، بلغ فيه حجم التعامل الاقتصادي مع اليهود 83% وحقق اليهود من ورائها سوقاً يفوق حجم سوقه مع مجموع الدول الأفريقية ، وبعد بدء مسلسل المفاوضات بين السلطة والكيان الصهيوني ظهر منذ البداية الاهتمام الأميركي ـ الصهيوني بالمضمون الاقتصادي للعملية السلمية، حيث تم التركيز بشكل خاص على ضرورة البدء بإقامة تكتل اقتصادي يدمج اقتصاد الكيان الصهيوني واقتصاد الأردن والاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولقد بادرت مدرسة جون كيندي في جامعة هارفارد إلى دعوة اقتصاديين أكاديميين من فلسطين والأردن والكيان الصهيوني ليعملوا تحت أشراف اقتصاديين أميركيين على تحديد مستقبل التعاون الاقتصادي بين بلدانهم وعقد ذلك المؤتمر قبل توقيع اتفاق أوسلو، وتم بعد ذلك اعتماد الكثير من توصياته في الاتفاقية الاقتصادية بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير التي وقعت في باريس العام 1994 م .
وقد كان الفلسطينيون قد وعدوا عند توقيع اتفاقية أوسلو بتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ولكن الواقع الحالي يشهد بما يعانيه ساكني مسرى الأنبياء من فقر وحاجة لا يعلمها إلا اللطيف الخبير .
ثانياً : مصر
1 - الجانب السياسي :(5/224)
تم عزل مصر عن محيطها العربي فلم يكن لها دور في أحداث عظام وقعت بعد توقيعها لاتفاقية ( كامب ديفيد) كتدمير المفاعل النووي العراقي وقمع اليهود للمقاومة الفلسطينية واللبنانية بشراسة ودعمهم لإثيوبيا ولحركة التمرد في جنوب السودان وغيرها من الأحداث ، أما على الصعيد الداخلي فقد كشفت المخابرات المصرية عدداً من شبكات التجسّس (الإسرائيلية)، أغلبها على صلة مباشرة بسفارة "إسرائيل" منها -على سبيل المثال- الشبكة التي كانت برئاسة المستشار العسكري (الإسرائيلي) بالسفارة، والتي كشفت في أوائل أغسطس 1985م ، وكانت تضم عدداً من أعضاء البعثة الدبلوماسية (الإسرائيلية)، وبعض الباحثين "بالمركز الأكاديمي الإسرائيلي"، وأمريكيين يعملان بهيئة المعونة الأمريكية، وسويدياً يعمل وسيطاً في صفقات الأسلحة، وثلاثة مصريين، وكانت هذه الشبكة تستخدم محطة لاسلكية متطورة داخل سفارة العدو، لتبليغ رسالة يومية عن أحوال مصر، بينما يتم نقل التقارير والأفلام والصور والخرائط إلى (إسرائيل) عبر الحقيبة الدبلوماسية، وكذلك قام ضباط "الموساد" بالسفارة (الإسرائيلية) بالقاهرة، بتجنيد عدد من الطلاب عن طريق بعض أقاربهم العاملين بالسفارة، وتشجيعهم على السفر إلى (إسرائيل) ، حصل مقابلها أقاربهم على مكافآت مجزية نظير تجنيدهم!!.
وهناك قضية (الإسرائيليين) الأربعة الذين كانوا يحملون جوازات سفر إنجليزية مزوّرة، وتم ضبطهم عند خروجهم من إحدى نقاط المراقبة الخاصة بقوة حفظ السلام في جنوب سيناء، وبحوزتهم حقيبة تضم 7 وثائق شفرية و19 شريطاً ميكرو فيلماَ للمنشآت المصرية في سيناء ونُظم تسليحها.( المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة الانترنت يوم 30 مايو 2005م ) .
2 -الجانب الثقافي
نشر المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة الانترنت يوم 30 مايو 2005م ، بحثاً بعنوان مراكز الأبحاث والمؤسسات العاملة في خدمة التطبيع والإستراتيجية الصهيونية ، وهذه مقاطع من البحث :-
]ضمن الإطار التطبيعي أقيمت في مصر ستّ وثلاثون مؤسّسة علمية أمريكية، وثقافية "إسرائيلية"، مثّلت وتمثّل مظلّة رسميّة لاختراق الشخصية العربية، والتجسّس على قطاعات المجتمع كافّة ، ومن ذلك -مثلاً- النشاط الذي يقوم به "مركز البحوث السياسية" في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة، الذي يجري كثيراً من الأبحاث بتمويل من "مؤسّسة فورد"، وكذلك نشاط "مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام"، و"معهد التخطيط القومي" وغيرها من المؤسّسات العلمية ، وبغية اختراق العقل العربي وعناصر المجتمع العربي أُنشئ في مصر عام 1982 م "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة"، الذي لعب ويلعب دوراً خطيراً في مجال التمهيد للتطبيع، ونظراً لكونه الأخطر في ميدان إستراتيجية العدو على الأصعدة الأمنية والثقافية والعلمية، فقد توالى على إدارته عدد من أبرز المتخصصين في الدراسات الشرقية والعربية، الذين يرتبطون بعلاقات عضويّة مع أجهزة المخابرات (الإسرائيلية) ، ومع مراكز التخطيط الاستراتيجي في الكيان الصهيوني حيث ركّز المركز جهوده خلال فترة ماضية للحصول على معلومات عن طلبة كليات العلوم والهندسة في جامعات مصر، لمعرفة آخر ما توصل إليه الطلبة النابغون من اختراعات جديدة، فاختير عشرة اختراعات وضعها "مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" تحت المجهر، ووجّه بشأنها رسالة إلى السفير الإسرائيلي بالقاهرة كتب فيها:
بناء على تعليماتكم بإحضار ملفّات كاملة عن آخر اختراعات الشباب المصريين أرسلنا لكم عشرة ملفات عن اختراعات في مجال الزراعة وتحلية المياه والبلاستيك والكمبيوتر وإطارات العربات، ونودّ أن ننبهكم أنّ معظم هذه الاختراعات قمنا بتجربتها وفحصها جيداً، وهي تعد من أحدث ما توصل إليه العلم ، فأرسل السفير الإسرائيلي بالموافقة على شراء أربعة اختراعات وبأسرع وقت، أحدها جهاز لتحلية مياه البحر لطالب في كلية الهندسة، و الثاني جهاز لإنتاج سماد يعيد خصوبة الأرض، ويحول الأرض المالحة إلى أرض صالحة للزراعة، لطالب في كلية الزراعة ، وهو الوحيد الذي قابل السفير الإسرائيلي في اليوم التالي ليعرض اختراعه ، فعرض عليه السفر ، وتجربة الاختراع ذاته بطريقة عملية، شاملة تكاليف الإقامة ومكافأة لكل يوم يقضيه في الكيان الصهيوني ، إضافة إلى حق شراء الاختراع نفسه ومدة الإقامة ثلاث سنوات، وسافر بالفعل بعدما وضع ثمن الاختراع في البنك الأمريكي المصري .
والمؤسّسات والهيئات الأمريكية، التي تمثّل بؤراً تطبيعية في جسد المجتمع المصري لا حصر لها، وسوف نقدّم هنا أكثر هذه المؤسّسات والهيئات شهرة وأكثرها خطراً وهي:
1- الجامعة الأمريكية في القاهرة .
2- المركز الثقافي الأمريكي في مصر .
3- مؤسسة فورد : يرى باحثون منصفون أنها من أخطر مؤسسات التغريب العالمي الأمريكية ، وقد انفردت بتمويل ( أبحاث ودراسات الشرق الأوسط ) وعبر هذه المؤسسة تقوم ( وكالة التنمية الأمريكية: ( aid بتخصيص حوالي مائة مليون دولار سنوياً لمركز البحث العلمي والجامعات المصرية منذ نهاية السبعينات وحتى اليوم .(5/225)
4- مؤسّسة راند الأمريكية وهي مؤسسة دراسات وأبحاث تقدم توصياتها للحكومة الأمريكية.
5- معهد ماساشوستس وفروعه في القاهرة ومعهد "ام-أي-تي" (في مبنى جامعة القاهرة).
6- الأكاديمية الدولية لبحوث السلام.
7- مشروع ترابط الجامعات المصرية الأمريكية ومقره المجلس الأعلى للجامعات في القاهرة. (تبلغ ميزانيته السنوية 27 مليون دولار تقدّمها المخابرات الأمريكية).
8- "مركز البحوث الأمريكي" بالقاهرة، ويتركّز نشاطه في مجال الدراسات الاجتماعية، إلى جانب البحوث الاقتصادية والتاريخية والأثرية.. ويحظى بعضويته الشرفية "الزمالة" عدد من الأساتذة المصريين ومزدوجي الجنسية أمريكي/ مصري، وأمريكي/إسرائيلي , كما ينشط في مجال البحوث المشتركة والمموّلة، وفيما يلي بعض عناوين البحوث والدراسات التي أجراها هذا المركز:
-بحث فاليري هوفمان: "الحياة الدينية للمرأة المسلمة في مصر المعاصرة".
-دراسة ليوناردو بايندر حول "حرية الفكر الإسلامي في مصر المعاصرة".
-دراسة آرثر كريس عن: "الجهاد الإسلامي والاتجاهات الفكرية المختلفة".
ومنذ منتصف الثمانينات كثّف "مركز البحوث الأمريكي" نشاطه في مجال التطبيع والتجسّس العلمي على المجتمع المصري وتمثّل ذلك في عشرات الأبحاث المموّلة ومنها :
دراسة عن العادات والتقاليد المتوارثة للأسرة المصرية، الموالد الشعبية المصرية، تقصي ظاهرة التطرف في الحياة المصرية الحديثة، الإسلام والثورة.. إلخ.
9- هيئة المعونة الأمريكية: استطاعت تمويل مشروع بحثي، أُنجز بالتعاون بين عدد من الجامعات الأمريكية، والجامعات المصرية، شمل أكثر من 500 دراسة بحثية برصيد 60 مليون دولار، وتناولت كل شيء في مصر من الصناعات الاستراتيجية، مثل: صناعة الحديد، والصلب، مروراً بمناهج التعليم والتربية وموقع الدين فيها، وانتهاء بسياسة مصر الخارجية تجاه (إسرائيل)، والتطبيع معها، وقد اشترك في هذا المشروع أكثر من 2007 من الباحثين المصريين، وأكثر من 500 أمريكي، وقد كُتبت جميع هذه الدراسات باللغة الإنجليزية، وحصلت (هيئة المعونة الأمريكية) على نسخ منها، وعلى جميع المعطيات والأرقام والاستنتاجات التي توصل إليها الباحثون إلى الحدّ الذي دفع بعض الباحثين المصريين إلى القول: إن «كمية المعلومات التي حصلت عليها هذه المؤسّسات تفوق ما تعرفه القيادة السياسية، وتفوق ما يعرفه علماؤنا» [
وقد أوردت صحيفة «السياسي» القاهرية في عددها 25/5/1993م تحت عنوان بارز «اليهود والأمريكان... هل اندسوا في تطوير مناهجنا الدراسية؟» بعض المعلومات البالغة الدلالة إذ نشرت الفقرات المحذوفة من المناهج، مشيرة إلى أن «العملية التطويرية للمناهج التعليمية المصرية» قام بها 29 أستاذاً ومستشاراً أمريكياً، بينهم عدد كبير من اليهود بتمويل من المعونة الأمريكية لمصر، وبينت الصحيفة أيضا : أن وزارة التعليم المصرية ألغت كتاب «صور من تاريخ مصر الإسلامية» للصف الخامس الابتدائي، وقررت بدلاً عنه كتاب «تاريخ الفراعنة»؛ بغية غرس محبة الحضارة الفرعونية عوضاً عن الحضارة العربية الإسلامية ، كما ألغي كتاب «الدولة الإسلامية العربية وحضارتها» للصف الثاني الثانوي، وتقرر عوضاً عنه كتاب «تاريخ أوروبا في القرون الوسطى» مع تحريف كتب التاريخ العربي، وتاريخ الحضارة الإسلامية.
3 -الجانب الاجتماعي :
* ازدياد أعداد المصابين بمرض السرطان بسبب الكثير مما يتم استيراده من الكيان الصهيوني .
* انتشار المخدرات بشكل كبير بين فئات المجتمع كلها .
* السماح بدخول اليهوديات بأعداد كبيرة بزعم تنشيط السياحة فقمن بنشر الأمراض واقترنت الكثير منهن بشباب مصريين حتى بلغ عدد الزيجات أكثر من عشرين ألفا زواجاً مختلطاً.
* ظهور جماعات منحرفة من الشباب تحمل عقائد باطلة كمن يتسمون بعبدة الشيطان .
4- الجانب الاقتصادي :(5/226)
يعد هذا الجانب من أبرز الجوانب التي يحرص عليها اليهود لأهميته ، وقد وقعوا مع مصر على اتفاقية الكويز :( QIZ: qualifying indust r ial zones) في 12/2004 م، لإقامة المناطق الصناعية ( في طور التأهيل ) ، وهذه الاتفاقية هي تطبيق للقسم التاسع من اتفاقية التجارة الحرة بين أمريكا والكيان الصهيوني المبرمة عام 1985 م ، وهي ليست اتفاقية مستقلة بين حكومتين من الناحية الفعلية فقد وافق الكونجرس الأمريكي على إعطاء الرئيس الأمريكي الإذن بالسماح لمصر والأردن بتصدير منتجاتهما إلى أمريكا دون دفع رسوم جمركية بشرط احتوائها على مكون إسرائيلي بنسبة 7,11 % كحد أدنى ، وهي تشمل كل الصناعات والسلع ، وقد تم في مصر استبعاد أهم المناطق الصناعية التي تنتج الملابس الجاهزة كمدينة المحلة الكبرى ( قلعة النسيج في مصر ) ومدينة 6 أكتوبر والتي يوجد فيها أكثر من 200 مصنع وغيرها من الأماكن فلا تشملها الاتفاقية ، ويتضح من هذا الاستبعاد مراعاة مصالح خاصة لبعض رجال الأعمال ، واتفاقية الكويز تناقض اتفاقية التجارة الدولية ( الجات ) والتي تؤكد على عدم وضع شروط تفصيلية لبعض الدول دون البعض الآخر ، وكذلك هي مخالفة للقانون والدستور المصري لأنها حفظت في مجلس الشعب دون عرضها للنقاش، بل لم تنشر إلى الآن ؟
ومن أبرز الآثار السلبية لهذه الاتفاقية أنها لم تحدد الحد الأقصى للمكونات الإسرائيلية الداخلة في المنتجات ، وهي ستساهم في زيادة الكساد للمصانع المصرية وستمكن اليهود من اختراق منظومة المعلومات الخاصة بالصناعة المصرية وستدخل غالب الأرباح الناتجة منها للخزينة اليهودية وستتسبب في هروب رؤؤس الأموال العربية وستقضي على حلم السوق العربية المشتركة ، وكذلك فإنها ستمكن بقية الدول العربية من إظهار التطبيع بعد أن كانت تستخفي به، وما سيتبع ذلك من انسحاب الدول المنضمة إلى اتفاقية الكويز من اتفاقية المقاطعة العربية للكيان الصهيوني ، مثلما فعلت الأردن التي أعلنت انسحابها بعد التوقيع على الاتفاقية نفسها قبل مصر.
ومن أبرز المستجدات في الجانب الاقتصادي ، قيام شركة (EMG) الصهيونية - المصرية المشتركة بالتوقيع على صفقة لشراء الغاز الطبيعي مع وزير البترول المصري ( سامح فهمي ) وشركتين حكوميتين تعملان في مجال الغاز في مصر حيث سيتم سنوياً شراء 7 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي المصري ولمدة عشرين عاما بقيمة 5,2 مليار دولار تقريبا ثم بيعه بعد ذلك إلى شركة الكهرباء ( الإسرائيلية ) ، وذكرت مصادر رسمية في مجال الطاقة بالكيان الصهيوني : إن كمية الغاز المتبقية سيتم بيعها لتركيا واليونان ودول أوربية أخرى ، وقالت تلك المصادر : إن نسبة الغاز التي ستنقل لشركة الكهرباء الإسرائيلية تصل إلى1,7 مليون متر مكعب في العام الواحد وتقوم شركة(EMG) حالياً بإجراء مفاوضات مع شركات( إسرائيلية ) أخرى لبيع كميات من الغاز المصري لها ، والشركة يمتلك رجل الأعمال الإسرائيلي ( يوسي ميمان ) نسبة 25% ويمتلك رجل الأعمال المصري (حسين سالم ) نسبة 65% أما الحكومة المصرية فتمتلك 10% فقط من أسهم الشركة .
وكذلك نقل موقع ( مفكرة الإسلام) على شبكة الانترنت الخبر التالي : كشف موقع صهيوني أن الرئيس المصري ( حسني مبارك ) أبلغ ( شيمون بيريز ) نائب رئيس الحكومة ( الإسرائيلية ) بموافقته على إقامة منطقة زراعية مشتركة على الحدود المصرية- الصهيونية وذكر موقع ( القناة السابعة ) العبري الإخباري أن ( بيريز ) أجرى اتصالاً هاتفياً برئيس مجلس مدينة ( رامات هناجف ) بصحراء النقب وأبلغه موافقة الرئيس مبارك على مشروع مشترك لتطوير المنطقة الحدودية بين مصر و( إسرائيل ) وإقامة مشروع زراعي على مستوى عالٍ يندرج ضمن مشاريع التعاون الإقليمي المشتركة ، وقال ( موشيه برائيل ) مراسل الموقع : إن الرئيس مبارك وافق كذلك على مشروع تقدم به مجلس مدينة (رامات هناجف ) يقضي بإقامة معبر سياحي لاستقبال السائحين بالقرب من معبر ( نيتساناه ) الحدودي بين مصر و( إسرائيل ) .
وأخيراً لا يخفى ما يعيشه الناس في مصر من أزمات اقتصادية خانقة متتالية وصل فيها معدل البطالة إلى 5,10 % والدين الخارجي إلى أكثر من 30 مليار دولار وبلغ الدين الداخلي ما يزيد على 300 مليار جنيه .
ثالثاً :- الأردن
الجانب السياسي :(5/227)
" كانت اللقاءات بين الملك حسين واليهود مستمرة عن طريق الوسطاء منذ العام 1950 م ، ثم تطورت حتى بدأ اليهود يبلغون الملك حسين بمحاولات اغتياله ( 1958 م ) عن طريق بريطانيا، وفي عام 1960 م اغتيل رئيس الوزراء الأردني المجالي وكان المستهدف هو الملك حسين ، وكانت أصابع الاتهام تتجه إلى سوريا فقام الملك حسين بنقل جزء من قواته المرابطة على حدوده مع فلسطين إلى حدوده مع سوريا وأكد على اليهود بعدم استغلال ذلك ، ولكنه عدل عن الفكرة فيما بعد، ثم كان اللقاء الأول للملك حسين مع المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية في سبتمبر عام 1963 م ، ثم تتابعت اللقاءات إلى أن التقى الملك حسين مع موشي ديان في لندن عام 1977 م " من كتاب ( تواطؤ عبر الأردن )، ولا يخفي مقولة الملك حسين عندما أدخل اليهود في قائمة المؤمنين حيث قال في خطابه يوم 15\11\1994 م :" إن السلام المعقود مع إسرائيل سيكون سلاما تنعم به الأجيال من العباد المؤمنين من نسل إبراهيم, ويؤدي إلى علاقات الإخوة بين المؤمنين الذين جعل الله لهم القدس محج أنظارهم جميعا.
الجانب الاقتصادي :
بعد أن وقع الأردن على (اتفاقية الكويز) مع الكيان الصهيوني عام 2003 م ، هبط الميزان التجاري الأردني مع الكيان الصهيوني من 24 مليون دولار عام 1999 م إلى عجز بقيمة 26 مليون دولار عام 2003 م وقد تسببت هذه الاتفاقية بخسارة كبيرة لكثير من مصانع المواد الكهربائية وزيادة نسبة البطالة أيضا ، ويمكن رصد عينة من ممارسات التطبيع التجاري والصناعي بين الجانبين خلال الأعوام الماضية :
* يعمل الإسرائيليون على الاستفادة من رخص الأيدي العاملة الأردنية لزيادة إنتاجهم وخفض كلفة الإنتاج ، وذلك عبر نقل مصانعهم إلى الأردن ، أو اتخاذ مصانع وكيلة لهم في المناطق الصناعية .
* تهتم هذه المصانع بالاستفادة من الانفتاح الأردني الواسع على الدول العربية لترويج بعض منتجاتها في دول لا تقيم علاقات اقتصادية مع الكيان الصهيوني بوصف هذه البضائع أردنية المنشأ والإنتاج .
* من المشاريع الهامة التي نجح الإسرائيليون في إقامتها :
* تمكنت شركة " شتراوس " الإسرائيلية المتخصصة في صناعة منتجات الألبان من نقل جزء من صناعاتها إلى الأردن في منتصف عام 1998م ، وقد خطط لتصدير الكثير من الإنتاج إلى الدول العربية ، غير أن الشركة تعاني من صعوبات كبيرة في تسويق منتجاتها حيث اكتشف عدد من التجار مصدر الألبان الذي تصلهم منه ، مما جعل السوق الرئيسي لها هو الدول العربية بوصفها منتجات أردنية .
* خرّجت كلية " شنكر"الإسرائيلية لتعليم مهنة الحياكة وفنون الموضة وإنتاج الملابس الجاهزة خمسة عشر عاملا أردنيا على نفقة مؤسسات إسرائيلية بهدف إلحاقهم بالمصانع الإسرائيلية التي أقيمت في الأردن .
وقبل فترة وجيزة أعلن رسمياً عن تطوير الاتفاق التجاري الذي يربط بين الكيان الصهيوني والأردن، ما يعطي مزيداً من الفرص للتعاون فيما بينهما للتصدير المشترك لأوربا ، فقد أجرت صحيفة (هارتس) العبرية حواراً مع مسئول التجارة بالإتحاد الأوربي (بيتر مندلسون) حيث أكد أن هذا الاتفاق الذي وقعه الاتحاد الأوربي مع الأردن و الكيان الصهيوني لم يكن رد فعل متأخر لاتفاق (الكويز ) الموقع مع الولايات المتحدة ، وقال :إن التعاون معهما بدأ قبل تنفيذ هذا الاتفاق ، وعن إمكانية التوقيع على اتفاق مماثل بين مصر والكيان الصهيوني قال المسئول الأوربي : إنه يتمنى دخول مصر تلك المنظومة التجارية ، كما أشار إلى أن الإتحاد الأوربي يبدي اهتماماً خاصاً باتفاق التجارة الحالي بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية ، وأنه معني باستمراره في قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي منه حيث أن مسئولي الاتحاد الأوربي يرون أن هذا الاتفاق إذا تم وقفه سيؤدي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في القطاع ، كما سيضر بمحادثات السلام بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين حسب رأيهم .
وأخيرا فالشعب الأردني المسلم والذي ظلت قيادته متمسكة بتعهداتها للعدو الصهيوني لا يزال يئن من شدة الحاجة والفاقة ، وأرضه تحوي من الخيرات والثروات الشيء الكثير ، حتى وصل الحال " بحاملي درجة الدكتوراه - العاطلين عن العمل - أن يسيروا في مظاهرات في شوارع عمان " ( تقرير بثته فضائية الجزيرة ).
رابعاً:- موريتانيا(5/228)
وضع موريتانيا الجغرافي وثقلها السياسي الهش جعلها دومًا بعيدة عن الصراع العربي والإسلامي مع الكيان الصهيوني , إلا أن نظام معاوية ولد الطايع (المخلوع) مد جسور العلاقة مع الكيان الصهيوني, وجعل من بلاده أول بلد عربي خارج دول الطوق يكسر حاجز التطبيع مع الصهاينة, ليكون ثالث نظام عربي بعد مصر والأردن يقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني ، ولعلنا نقول: إن علاقات موريتانيا مع الكيان الصهيوني تفوقت واتسمت بدفء مستمر لم تشهده علاقات الكيان مع أية دولة عربية أخرى, ففي نوفمبر 1995 م وقعت موريتانيا اتفاقًا تعترف فيه بالكيان الصهيوني وتقيم علاقات معها، و في أكتوبر 1998م زار وزير الشؤون الخارجية والتعاون الموريتاني الكيان الصهيوني ؛ حيث عقد محادثات مع رئيس الوزراء الصهيوني السابق بنيامين نتانياهو، ثم أقامت موريتانيا علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني في أكتوبر 1999م, وفي ذات العام تواردت الأنباء عن سماح النظام الموريتاني بدفن نفايات نووية من الكيان الصهيوني في البلاد في صفقة لم يتم الكشف عن جميع أبعادها، وقد زار وزير الخارجية ولد عبدي الكيان الصهيوني في مايو 2001م اجتمع خلالها مع رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون ووزير خارجيته شيمون بيريز ، و في أبريل 2002م قاومت الحكومة الموريتانية الضغوط لقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني ، بسبب حملته العسكرية الإجرامية على الفلسطينيين في الضفة الغربية, مع أن مصر قد اضطرت تحت الضغوط الشعبية إلى سحب سفيرها من الكيان الصهيوني وتبعتها في ذلك الأردن، و في مايو 2005 م أجرى وزير الخارجية الصهيوني سيلفان شالوم محادثات مع مسؤولين بارزين في الحكومة الموريتانية.
خامساً :- المغرب
يمثل النظام المغربي حالة فريدة في التطبيع من خلال أدواره التاريخية في تسهيل الاتصالات الإسرائيلية - العربية بالمنطقة ،منذ بداية الستينات حيث كان يعمل على تهجير المغاربة اليهود إلى الكيان الصهيوني مقابل رسوم مالية بالدولار ، ويشكل حجم الجالية اليهودية الكبير وسيلة تواصل دائم بين الجانبين ، حيث يوجد حوالي مليون يهودي مغربي بالكيان الصهيوني و300 ألف يهودي مقيم بالمغرب ، وهو أكبر عدد لطائفة يهودية في دولة عربية، كما يوجد في المغرب عدة جمعيات يهودية تعمل في مجال التطبيع مع الكيان الصهيوني كجمعية هوية وحوارالتي تأسست عام 1974 م ، والتجمع العالمي لليهودية الذي تأسس عام 1985م ، والمركز العالمي للأبحاث حول اليهود المغاربة الذي تأسس عام 1995 م ، ثم الاتحاد العالمي لليهود المغاربة الذي تأسس في 3 مايو 1999م.
وقد قام النظام المغربي بدور كبير في اتفاقية ( كامب ديفيد) ، ففي اللقاء التمهيدي بين الحسن الثاني وموشي ديان - وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك - الذي سأل الملك متعجباَ عن كيفية عمله كمنسق بين الكيان الصهيوني والدول العربية ، أجاب الملك بكل سهولة : ( أتعرف أنه لو علم بوجودك هنا فلن يطيح هذا العمل بي عن العرش والسبب شعبيتي الكبيرة بين اليهود )، ثم تلا ذلك عدد من الاجتماعات بين ( موشي ديان) و حسن التهامي ( أحد ضباط ثورة يوليو وأمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي) مبعوث الرئيس السادات في مدينة (أفران ) بالمغرب سنة 1977 م .(5/229)
وأخيراً لا يخفى ماأعلنته غالب دول الجامعة العربية بما فيها بعض دول الخليج عدم التزامها بالمقاطعة الاقتصادية للكيان اليهودي وذلك عام 1994م، إلا أن بعضها ما زال ملتزماً بشئ يسير منها، وهذه المقاطعة هي التي كبدت اليهود بين عامي 1948م إلى 2004م، ما يقرب من مائة مليار دولار، وما وصفته الصحافة الأميركية بهدف ( إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميا The Inte r national r ehabilitating of "Is r ael" ) وهو هدف يتطلب تحقيق أمرين: الأول إنهاء المقاطعة العربية للكيان الصهيوني ، والثاني إشاعة جو يطمئن الشركات العالمية إلى إن السلام في الشرق الأوسط أصبح حقيقة لا رجوع عنها حتى تقبل على الاستثمار في الكيان الصهيوني ، ففي ثلاث سنوات تقريبا تم تحقيق هدف إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميا، على ثلاثة محاور: المحور الأول إقامة علاقات دبلوماسية مع بلدان كانت لا تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني بسبب الصراع العربي ـ الصهيوني ، وخلال عام واحد بعد توقيع اتفاقية أوسلو، أقام الكيان الصهيوني علاقات دبلوماسية مع 20 دولة، وبعد ذلك استمر يقيم علاقات مع بلدان أخرى، وكان واضحا أن الكيان الصهيوني يولي بلدان جنوب شرقي آسيا اهتماما خاصا ، أما المحور الثاني فهو أن البلاد التي كانت تلتزم قوانين المقاطعة العربية للكيان الصهيوني أخذت تفتح أسواقها للبضائع الصهيونية ، وتقيم مع الكيان الصهيوني مشاريع مشتركة، وعلى سبيل المثال زادت الصادرات من الكيان الصهيوني للبلدان الأسيوية بعد سنة واحدة من اتفاق أوسلو بمقدار 23 في المائة وأصبحت تعادل حوالي 13 في المائة من مجمل الصادرات الصهيونية بعدما كانت اقل من 8 في المائة ولقد ازداد حجم التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني وكوريا الجنوبية حوالي 50 في المائة ما بين 1994 ـ 1996م ، كما أصبحت الصين مستوردا رئيسيا للسلاح والتكنولوجيا الصهيونية، وكذلك فان الشركات الآتية قامت ببناء مصانع أو مراكز لها في الكيان الصهيوني بعد العام 1994م : Intel Gene r al Moto r s, Westinghouse, Motto r ola, Salmon, Cablet Wi r eless, Daimle r B r ewze, Siemens, B r othe r s, ولقد أتت هذه الشركات إلى الكيان الصهيوني لأنها ترى في اقتصاد الكيان الصهيوني شريكا في التمويل والاستثمار والبحث العلمي، وهي لا تقيم مصانعها في الكيان الصهيوني من اجل سوقه المحلي ، ولكن لأنها تستخدم سوق الكيان الصهيوني بوابة لأسواق الشرق الأقصى أولاً، وأسواق الشرق الأوسط ثانياً، وهكذا بينما كان حجم الاستثمارات الأجنبية في الكيان الصهيوني عام 1991م لا يتعدى 400 مليون دولار، أصبح عام 1996م حوالي 2.9 بليون دولار ، وهذا يعني أن حجم الاستثمار الأجنبي في الكيان الصهيوني في العام 1996م ، كان حوالي أربعة أضعاف حجمه في مصر" (مجلة الوسط 1-5-2000م ).
سابعاً : مبادرات التطبيع الجديدة:
أ - خارطة الطريق
إن هذه المبادرة ليست معاهدة رسمية ، بل هي خطة عملٍ تتطلّب من السلطة الفلسطينية ومن دولة الكيان القيام بأعمالٍ عدةٍ في المجالات الأمنية و الإنسانية من أجل تهدئة الأوضاع و تحسين عوامل الثقة بين الطرفين من أجل العودة إلى المفاوضات ، وتتكوّن خارطة الطريق من ثلاث مراحل رئيسة :
المرحلة الأولى : استتباب الأمن للكيان الصهيوني بالقضاء على من يسمونهم بـ (الإرهابيين) - المقاومة الفلسطينية - حيث تعلن السلطة الفلسطينية عدم شرعية المقاومة و تعتبر المقاومين (إرهابيين) خارجين عن القانون يجب محاربتهم و اجتثاثهم بالقوة من المجتمع الفلسطيني و القضاء عليهم كلية , وعليها كذلك أن تمنع و توقف جميع مظاهر التحريض ضد الكيان في أجهزة الإعلام و خطب المساجد و المناهج الدراسية التي ستُبدل إلى منهاجٍ جديدٍ شبيهٍ بالمنهاج الأميركي المُصمّم لمدارس العراق , و تشمل هذه المرحلة أيضاً إصلاحاتٍ جذريةٍ في جميع المؤسسات الحكومية الفلسطينية لكي تتعاون تماماً مع الكيان الصهيوني في جميع مجالات الأمن (أمن الكيان الصهيوني ) , و بعد أن تقوم السلطة الفلسطينية بجميع هذه الأعمال تقوم دولة الكيان بتقديم التسهيلات الإنسانية المعيشية للفلسطينيين و تفكيك مستوطنات ما بعد 28 أيلول 2000م و تجميد عمليات اغتصاب الأراضي و بناء المستعمرات عليها .
المرحلة الثانية : قيام دولة فلسطينية في غضون عامين أي عام 2005 م ، قابلة للاستمرار و للنمو حسب تصوّر الرئيس الأميركي جورج بوش ، وهانحن في بداية عام 2006 م ولم ترى هذه الدولة النور بعد !! .
المرحلة الثالثة : و تعتبر المرحلة النهائية للصراع الفلسطيني الصهيوني حيث يقوم الطرفان بالمفاوضات النهائية من أجل إحلال سلامٍ شاملٍ في المنطقة .
ب - المبادرة العربية(5/230)
هذه المبادرة في الأصل مبادرة سعودية ( مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز عندما كان ولياً للعهد ) ثم سميت بالمبادرة العربية بعد أن تبنتها قمة بيروت وهذه المبادرة لم تأخذ مجمل الحقوق الفلسطينية بعين الاعتبار بل حصرت الحقوق في الانسحاب الإسرائيلي من الضفة والقطاع إلى حدود عام 1967 م وفي الدولة الفلسطينية، ونلاحظ كذلك أن الكيان الصهيوني عندما رحب بهذه المبادرة لم يأخذ منها إلا جانب التطبيع والاعتراف العربي الذي سيحصل عليه، أما ما يترتب عليها من التزامات، وهو الانسحاب الكامل والاعتراف بالدولة المستقلة لم يشر إليه الترحيب اليهودي بل عندما أشار إليه ، قال إن ذلك يأتي عبر المفاوضات ، ومن أبرز بنود هذه المبادرة :-
* إقامة علاقات كاملة بين الكيان الصهيوني وكل الدول العربية الأعضاء بالجامعة العربية .
* العمل طبقاً لأسس وبنود قرارات مجلس الأمن الدولي أرقام 242، 338،425 .
* الالتزام بالقرار 194 لمجلس الأمن خاصة فيما يتعلق بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 م .
* ضرورة توافر ضمانات كتابية أمريكية لنجاح المبادرة والتزام الكيان الصهيوني في حالة قبولها .
* تحديد وضع القدس باعتبارها أراضي عربية احتلت صباح يوم 5 يونيو 1967م، وبهذا ينطبق عليه قرارات مجلس الأمن الداعية لانسحاب إسرائيل الكامل إلى حدود 4 يونيو 1967 م .
* اعتبار الحدود الدولية هي الحدود التي كانت على أرض الواقع يوم 4 يونيو1967م.
* تطبيق مبدأ الأرض مقابل السلام وهو ما جاءت به قرارات مؤتمر مدريد للسلام 1991 م .
وقد اعتبر "شيمون بيريز" وزير الخارجية الإسرائيلي المبادرة "مرنة" بشأن القدس، ومواضيع أخرى، وقال لشبكة "فرانس - 2" التلفزيونية ، الأربعاء 26-2-2002م: إن تقاسم المدينة المقدسة سوف يتضمن الإبقاء على مواقع إسرائيلية في القدس الشرقية، حيث ستبقى بعض القطاعات بين يدي إسرائيل , وأضاف أن الحلول التي تطرحها المبادرة تقوم على "تبادل أراض" بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مع اعترافها في الوقت نفسه بأن وضع المستوطنات اليهودية يشكِّل واقعًا من الصعب جدًّا تغييره, واستبعد إجراء أي "اتصال مباشر" مع المسئولين السعوديين في الوقت الراهن,وكانت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية قد نشرت في 26-2-2002م: إن المبادرة السعودية تنطوي على أهمية كبيرة لإسرائيل، تتمثل في اعتراف 22 دولة أعضاء في الجامعة العربية بها، وإقامة علاقات كاملة معها.
وقد قيل أن المبادرة تأتي في سياق تفاهم أمريكي - عربي في صورة مقايضة بين القضية الفلسطينية والعراق؛ بحيث توافق الدول العربية على إطاحة النظام العراقي في بغداد عبر غزو على غرار غزو أفغانستان مقابل تهدئة الأوضاع في فلسطين، وإقامة الدولة الفلسطينية ، وربما لهذا تم التركيز في هذه المبادرة على فكرة (التطبيع الشامل) وتنبع أهميتها كذلك من أنها صادرة عن أهم دولة إسلامية تحتضن المقدسات الإسلامية، وأكبر مصدر للنفط؛ وذلك بغرض إغراء الصهاينة، ودفعهم لتقديم أقصى تنازلات ممكنة، وبعد هذه الأطروحات كلها أكد بوش في خطابه للعالم بخصوص القضية الفلسطينية في 6 / 2002م، على أن :
* الاحتلال باق و إسرائيل تدافع عن نفسها وهي وأفعالها تحت المظلة الأمريكية .
* العراق دولة تشجع على الإرهاب .
* على سورية التزامات بخصوص الحرب على الإرهاب وعليها القيام بها .
* على الدول العربية إنجاز التطبيع الكامل مع إسرائيل.
جـ - المبادرة الأردنية
قدمت هذه المبادرة إلى قمة الجزائر الأخيرة ، ولقد وصفت القمة بأنها قمة الهرولة نحو التطبيع، خاصة بعد موافقة وزراء الخارجية في الاجتماعات التحضيرية على المبادرة الأردنية، وهي المبادرة التي تنظر إليها أوساط عربية على أنها دعوة إلى الاستسلام وفتح العواصم العربية من دون قيد أو شرط أمام المسئولين الصهاينة، الذين ردوا على مبادرة السلام العربية التي صدرت عن قمة بيروت باجتياح الضفة الغربية، فيما سمي عملية 'السور الواقي'.
والمثير في الأمر حقًا هو تزامن إعلان الأردن عن المبادرة بعد لقاءات خاصة بين العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني ورئيس وزراء الاحتلال الصهيوني شارون، كما كانت قبيل لقاء الملك عبد الله الثاني بالرئيس الأمريكي بوش في واشنطن، والأكثر إثارة هو الإعلان عن عدم مشاركة العاهل الأردني في القمة.
ولكن هذه المبادرة أجهضت ونتيجة لذلك اتهم وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم كلاً من سوريا والجزائر والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى بإعاقة المبادرة التي طرحتها الأردن على قمة الجزائر الأخيرة، وقال شالوم إن هذه المبادرة كانت تحظى بتأييد إسرائيل ، وأظهرت أمريكا عدم رضاها عن القمة من خلال تصريحات رسمية انتقدت القمة العربية، وبالطبع لم تؤسس انتقادها على رفض القمة للتطبيع المجاني مع الكيان الصهيوني ، وإنما لجأت إلى نقطة الضعف التقليدية في النظام العربي، مشيرة إلى أن القمة فشلت في التوجه نحو المزيد من الديمقراطية والحرية في الشرق الأوسط!.(5/231)
ومن جانبه أعلن العاهل الأردني أن ما أثير حول المبادرة الأردنية هو مجرد «سوء فهم» للنوايا الأردنية، و«حادث مؤسف» في سلسلة الأحداث المؤسفة التي ارتبطت بالدبلوماسية الأردنية في الآونة الأخيرة.
ثامناً : آخر تطورات التطبيع :
إن المؤشرات الجديدة تتمثل فيما صرح به وزير الخارجية «الصهيوني» سيلفان شالوم، من أن هناك عشر دول عربية سوف تقيم علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني في وقت قريب ، وهو تصريح يَلْقى مصداقية ـ للأسف ـ مما جرى، ومما أعلن عنه رسمياً في الفترة الأخيرة، ومما تناقلته وسائل الإعلام وسط صمت، أو رفض علني رسمي - وهي السياسة المعتمدة دوماً في جسّ النبض لقرارات بدء التطبيع من قِبَل الأجهزة الرسمية العربية - عن لقاءات وزيارات علنية، وأخرى سرية .
ولعلنا نستعرض ما يجري في بعض الدول العربية من ممارسات تدل على قربها من التطبيع:
الجزائر :-
في أثناء تشييع جنازة الحسن الثاني بالرباط في يوليو 1999 م ، صافح الرئيس الجزائري بو تفليقة ، أيهود باراك رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق ، كما صرح بوتفليقة للصحافة مراراً بوجود آفاق واسعة للتعاون الاقتصادي بين الجزائر و الكيان الصهيوني وبأنه لا يشعر بأي عداء تجاهها ، وعلى هامش مؤتمر حوض الأبيض المتوسط المنعقد في أكتوبر 1999 م التقى بو تفليقة بشيمون بيريز وبوزير الأمن الداخلي للكيان الصهيوني شلومو بنعمي ، ودعماً لهذه الإشارات أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن مشروع إنشاء محطة للتصنت في جنوب الجزائر تابعة لوكالة الأمن الوطني الأمريكية ، تهدف إلى التقاط كل المكالمات الهاتفية وشبكة المعلومات وكل وسائل الاتصال الالكترونية وتحليل معلوماتها لأغراض أمنية،كما تعتزم إقامة قاعدة عسكرية أمريكية في جنوب الجزائر .
تونس :-
استغل الموساد الوجود المكثف لليهود التونسيين الذين يتمتعون بحقوق المواطنة التونسية فورط بعضهم في جمع معلومات عن منظمة التحرير الفلسطينية ونشاطها العسكري والسياسي وقد اعتقلت السلطات التونسية اثنين من هؤلاء وأطلقت سراحهما بعد تدخل حاخام اليهود الأكبر في تونس لدى الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ، ومن الشخصيات الفلسطينية المهمة التي جرى اعتقالها في تونس الرجل الثاني في سفارة فلسطين في تونس عدنان ياسين الذي كلف من قبل الموساد الإسرائيلي بجمع معلومات عن مسودات محمود عباس- أبومازن- وذلك قبل لقاء جرى بين أبو مازن وشيمون بيريز في القاهرة ، وقد تفاجأ أبو مازن بأن شيمون بيريز كان على إطلاع كامل بتفاصيل الأطروحات الفلسطينية المتعلقة باتفاق غزة أريحا أولاً ، وفي 29 يوليو 2001 م تم تعيين بن عامي رئيساً جديداً لمكتب الاتصال الإسرائيلي بالعاصمة التونسية خلفاً لـ شالوم كوهن وكلاهما من أصل مغربي ، وتأتي دعوة شارون لزيارة تونس التي خرقت السقف العربي ، لا سيما في محطاته غير ذات الصلة المباشرة بالصراع ، دليلا واضحا على قرب إعلان التطبيع بين البلدين .
ومن الجدير بالذكر أنه قبل زمن الإصلاح الأمريكي المزعوم الذي نعيشه هذه الأيام ، كانت الولايات المتحدة تلعب ذات اللعبة وإن على نحو مختلف عن الوقت الراهن ، إذ كانت تمارس بعض الضغوط الرامية إلى الابتزاز من خلال بعض المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان، في وقت كانت فيه تونس تتصدر التقارير بانتهاكها المستمر لكل ما له علاقة بحقوق الإنسان ، لكنها كانت تبيع مواقفها على الإدارة الأمريكية بشكل من الأشكال من خلال مقولة أنها الدولة الأفضل في ميدان محاربة الأصولية ، بل إنها تقدم نموذجاً في النجاح من دون التورط في الدم كما جرى في الجزائر ومصر ، بل وصل الحال حد التباهي بالقدرة على الحد من ظاهرة التدين في الشارع التونسي ، من خلال المنع القسري للمظاهر الإسلامية مثل الحجاب في المدارس والجامعات فضلاً عن أماكن العمل الرسمي .
العراق:
هناك في بلاد الرافدين تجري تطورات خطيرة ، تتمثل في وصول عدد الشركات الصهيونية العاملة إلى أكثر من مائة شركة تعمل في مجالات متنوعة كالأمن والأعمال التجارية وغيرها ، وسط دلالات على أن مخطط عودة خط البترول القديم من العراق إلى حيفا عبر الأردن بات تنفيذه مسألة وقت ترتبط بهدوء أو ضعف عمليات المقاومة العراقية ، بالإضافة إلى النشاط المسعور لجهاز الموساد في تنفيذ أعمال الاغتيالات لرموز أهل السنة وعلماء الطبيعة وشراء المباني والأراضي والتنسيق مع بعض الرافضة في كثير من هذه الأعمال .
اليمن :
أما في اليمن فتجري عمليات تطبيع تتوسع باضطراد، تحت عنوان منح اليهود اليمنيين تسهيلات واسعة.
البحرين :(5/232)
نقلت مصادر صحفية عن وزير الخارجية البحريني الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة قوله : إن البحرين قررت إلغاء الحظر على الواردات من البضائع الإسرائيلية، بعد أن وقعت اتفاقا للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وأوردت صحيفة "الرأي العام" الكويتية في مقال نشرته في عددها يوم 21/9/2005 م ،عن الشيخ محمد قوله ــ في نيويورك ــ : "نعم.. اتخذنا بالفعل هذا القرار، وهناك اتفاقية تجارة حرة وقعتها البحرين والولايات المتحدة، واتفاقيات التجارة الحرة لا تطبق قرارات المقاطعة" مشيراً إلى المقاطعة العربية للكيان الصهيوني السارية منذ عقود.
باكستان :
أثر لقاء وزير خارجية الكيان الصهيوني شالوم مع نظيره الباكستاني في تركيا ، فقد شكر شالوم الرئيس الباكستاني على دعم السلام بين "إسرائيل" والعالم الإسلامي مؤكداً بأن هذا اللقاء الأول بين البلدين سيمهد المستقبل للسلام وسيكون لمصلحة جميع شعوب المنطقة وأضاف:"لقائي مع نظيري الباكستاني هام جداً كونه مع وزير دولة إسلامية كبيرة، ثم أضاف قائلاً: لدينا اتصالات سرية مع كل الدول العربية، ونأمل أن تصبح علنية قريباً"، وأن تساعد العلاقات الآخذة بالتوطد بين الدولة العبرية ونظام برويز مشرف في باكستان في تبادل المعلومات بينها وبين المخابرات الباكستانية، وذلك من أجل تكثيف الحرب ضد تنظيم القاعدة !.
تركيا :
يشير المراقبون إلى أهمية الدور الذي لعبته تركيا في أن تكون جسراً للحوار بين باكستان والدولة اليهودية في أول محادثات علنية تجري على الإطلاق بين البلدين مما يدعم موقعها الاستراتيجي المميز، ويؤهلها للعب دور أكبر حيوية في المنطقة ، وكانت صحيفة ميللى جازيت التركية الإسلامية قد انتقدت حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب إردوغان مؤكدة أن هذه الحكومة مستمرة في تأدية دورها والمهام المكلفة بها في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير بهدف خدمة المصالح "الإسرائيلية" في المنطقة مشيرة إلى أن أنقرة وفى هذا الإطار وبتعليمات من إردوغان شخصياً قامت باستضافة اللقاء الباكستاني الإسرائيلي في اسطنبول ، وشددت الصحيفة على أن إردوغان يقترب يوماً بعد يوم من "إسرائيل" جراء ممارسات اللوبي اليهودي الأمريكي مما جعله يتحرك للقيام بدور الوساطة بين باكستان و"إسرائيل" واصفة ما تعيشه العلاقات التركية "الإسرائيلية" هذه الأيام بأنه شهر عسل غير مسبوق.
وقد نشر المركز الفلسطيني للإعلام مقالاً للدكتور ( رفعت سيد أحمد ) قال فيه :
إن التقارير والوثائق الرسمية تقول إن عدة دول عربية قامت خلال عام 2004م ( عام زيادة القتل الصهيوني للفلسطينيين ) بإجراء عمليات تبادل تجارى مع الكيان الصهيوني بلغت قيمتها 193 مليوناً و960 ألف دولار إما مباشرة أو عن طريق دول أخرى ، وهذه الدول جاءت وفقاً للترتيب التالي:
1- المملكة الأردنية الهاشمية بقيمة إجمالية لحجم التبادل التجاري مع الكيان الصهيوني 131 مليوناً 200 ألف دولار وكانت الواردات بقيمة 86 مليوناً و700 ألف دولار.
2- مصر بإجمالي 48 مليوناً و610 آلاف دولار، وواردات بقيمة 26 مليوناً و500 ألف دولار.
3 - المملكة المغربية بلغ إجمالي قيمة التبادل التجاري 7 ملايين و840 ألف دولار ،الواردات فبلغت 6 ملايين و700 ألف دولار.
4- جيبوتي بإجمالي مليون و270 ألف دولار، وكانت الواردات بقيمة مليون و100 ألف دولار.
5- المملكة العربية السعودية بإجمالي مليون و270 ألف دولار وكانت الواردات قيمتها مليون و100 ألف دولار.
6- دولة الإمارات العربية المتحدة بإجمالي 904 ألف دولار وكانت الواردات بقيمة 900 ألف دولار.
7- لبنان بإجمالي 802 الف دولار وكانت الواردات بقيمة 800 ألف دولار.
8- الجزائر بإجمالي 501 الف دولار وكانت الواردات بقيمة 500 ألف دولار.
9- العراق بإجمالي 502 ألف دولار وكانت الواردات بقيمة 500 ألف دولار.
ونتيجة لذلك نجد " أن مؤسسة الحكم الإسرائيلية تعدّ أن تطبيع الدول العربية لعلاقاتها معها سيدفع الفلسطينيين لتخفيض سقف توقعاتهم، وسيمثل أداة ضغط على قيادة السلطة للتقارب مع التصور الإسرائيلي للتسوية، وتشير دوائر صنع القرار العبرية إلى أن هناك الكثير من المؤشرات على ممارسة الدول العربية الضغط على قيادة السلطة من أجل تغيير الكثير من المواقف "التقليدية" المتعلقة بالتصور لتسوية الصراع، لا سيما في مجال دفع السلطة للتنازل بشكل مباشر أو غير مباشر عن حق العودة للاجئين ، وهاهو مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلي (جاك بورسو) يعبر عن ذلك بشكل صريح فيقول: إن هناك بعض الدول العربية تبدي استعداداً لقبول توطين اللاجئين الفلسطينيين، وإضافة إلى ذلك فقد صرح (دوف فايسغلاس كبير مستشاري شارون) بأن تل أبيب ستطرح على الدول العربية -وبتدخل أمريكي فاعل- القيام بإعادة تأهيل مخيمات اللاجئين في قطاع غزة والضفة الغربية وتحويلها إلى أماكن سكن ثابتة ومستقرة، وذلك بتمويل دول الخليج العربي " (بتصرف من مقال لصالح النعامي : موقع الإسلام اليوم ).
تاسعاً : مقترحات وبرامج لمقاومة التطبيع :(5/233)
1- إن النصر من عند الله وحده، وأنه لا يستحقه إلا المؤمنون حقًا، قال تعالى: (( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) (الأنفال: 10).
وقال تعالى:(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )) (محمد: 7)، وقال تعالى: (( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )) (الروم: 47(، وأول الطريق إلى النصر على الأعداء هو الانتصار على النفس في معركة الشهوات والشبهات، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم ينكشف إلا بتوبة، وأن ذنوب الأمة أخوف عليها من عدوها، وأن تقوى الله من أعظم العدة في الحرب، ومن أقوى المكيدة على العدو، وأن كل خطيئة ترتكب في أرض الإسلام فهي حبل من الناس يمد به العدو بمزيد من القوة .
2- إن هذه الأمة منصورة ومرحومة، و العاقبة لها بإذن الله، و لا تزال طائفة منها قائمة على أمر الله لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، و قد مرت عبر التاريخ بأطوار من الضعف والانحطاط أعظم مما تمر به هذه الأيام، وقد خرجت من كل ذلك، واستعادت عافيتها، واستأنفت مسيرتها.
3- الاهتمام البالغ بتزكية الأنفس، وتربية الناشئة على الإيمان والجهاد، وحمايتهم من غوائل التغريب والعلمنة، فإن المعركة طويلة الأمد ، وقد لا تحسم على يد هذا الجيل، فيجب إعداد العدة لمثل هذا الامتداد على مستوى الزمان كما نعد له على مستوى المكان!
4- الاتحاد والائتلاف: فالتنازع والاختلاف هو بريد الفشل وذهاب الريح، وإن نصر الله لا يتنزل على شيع متنازعة متناحرة، وقد قال تعالى: (( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) (الأنفال: 46).
5- التأكيد الدائم على أن القضية الفلسطينية قضية إسلامية، وتخليصها - على الأقل في نفوس المؤمنين بالله واليوم الآخر- من الأقنعة العلمانية، والنزاعات العرقية أو الإقليمية.
وختاماً:
إن المتأمل للواقع اليوم في أرض مسرى صلى الله عليه وسلم يرى البشائر تترى على الأمة من هناك على يد فئة قليلة العدد والعدة ولكنها كبيرة بما تملكه من قلوب مؤمنة واثقة بعون الله تعالى ورعايته - نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا - فقد أثمرت تضحياتهم على مدى سنين قليلة ومن خلال عشرات العمليات وسقوط مئات القتلى من يهود ، أن تنادى إخوان القردة والخنازير أن احموا أنفسكم وأقيموا الجدار الفاصل ، فصدق عليهم قول القوي العزيز : ((لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)) ( الحشر :14 ) ، ثم ها هم وبعد إقامة جزء كبير من الجدار العازل يخربون بيوتهم بأيديهم في مستوطنات قطاع غزة و يخرجون منها أذلة صاغرين ، فيتذكر المؤمن قول مولاه عز وجل : ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ))( الحشر2 ) ، ولا يخفى أن هذا الانسحاب وإن كان محدود المساحة لكنه عميق الدلالة على أهمية الجهاد في سبيل الله وعظم نتائجه ، وقد كانت عدد من الدول العربية قد طالبت اليهود بالانسحاب من قطاع غزة وعلى مدى عقود جرت فيها عشرات اللقاءات لكنها لم تظفر من ذلك بشيء ، ولنتأمل ما ذكرته صحيفة "يديعوت أحرونوت " اليهودية في 22-9-2005 م ، عندما أكدت على حقيقة هامة فقالت :' نحن لم نقض على حماس بقوة القنابل، ولن نقوم بالانتصارعليها بقوة الحواجز المانعة ، وآخر البشائر هو فوز حركة حماس الذي فاجأت به العالم في انتخابات المجلس التشريعي وسعيها لتكوين الحكومة الفلسطينية القادمة التي نرجو العليم الخبير أن يجعلها جالبة لنصر من الله وفتح قريب، وهذا الفوز هو دليل على تعطش الأمة للإسلام وأهله ، و والله إن هذه آية وعبرة رآها العالم أجمع، فهل يعتبر المسلمون حكاما ومحكومين أن المستقبل لهذه الأمة، ما استقامت على أمر الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم وأنها لا تؤتى إلا من قبل نفسها، وأن ذنوبها أخوف عليها من أعدائها، وأنها قد وعدت بأن تبقى طائفة منها مستقيمة على أمر الله، لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى يأتي أمر الله، وأن هذه الطائفة المنصورة هي التي يقوِّم الله بها اعوجاج الأمة ، ولهذا فإننا نقول لإخواننا في أرض الإسراء والمعراج: إن نصر الله قريب، ولينصرن الله من ينصره ،فاصبرواوصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون
==============(5/234)
(5/235)
أزمة الهدر الفقهي
إبراهيم السكران* 23/2/1428
13/03/2007
طوال تاريخ التراث لم يواجه الفقه الإسلامي تحدياً كالذي يواجهه اليوم أمام أسواق المال، وأعمال المصارف، وأنماط التمويل، ومشتقات الائتمان، وأنظمة النقد، وصيغ الاستثمار ونحوها من أشكال الحداثة الاقتصادية المعقدة، ولقد شاع بين كثير من الباحثين المعاصرين استعمال مصطلح (النوازل) في التعبير عن هذه المتغيرات.
وفي تقديري أن إسقاط مصطلح النوازل على هذه الحالة الجديدة يعتبر توظيفاً غير دقيق، ذلك أنه لا يعكس حجم وطبيعة هذه المعطيات الجديدة؛ فالأفق الدلالي لمصطلح النوازل يوحي بمجرد وقائع حادثة تقفز بين فينة وأخرى على هوامش الكتلة الفقهية الفروعية الراسخة والمستقرة، كما هو المعهود في تاريخ التراث الإسلامي المديد، أما في واقع اليوم فالشأن قد اختلف تماماً، ذلك أننا لسنا أمام مجموعة فروع حادثة تزور طاولة الفقيه غباً بقدر ما إننا أمام منظومة اقتصادية جديدة ذات منتجات متدفقة، وتبدلات متسارعة، وتحولات محمومة، وعلاقات مركبة بحيث أصبح الجديد هو الأصل والتقليدي هو الاستثناء.
ومهما شعر المتابع بتعقيد الصورة الاقتصادية المعاصرة في مقابل أزمة (الهدر الفقهي) في البرامج التقليدية للعلوم الشرعية، فإنه لا يمكن أن يتجاهل جهود بعض الرواد من الفقهاء المعاصرين الذين أصروا على خوض غمار هذه المعطيات الجديدة، والاجتهاد في محاولة تقديم أدق تصور شرعي يحقق المراد الإلهي، عبر المشاركة الجادة والمتواصلة في ندوات المصرفية الإسلامية، والمجامع الفقهية، واللجان الشرعية لأعمال المصارف، والمجلات العلمية المتخصصة، والأطروحات الفقهية، والرسائل الأكاديمية المتميزة، وغيرها من القنوات المعنية بالمشكلات الفعلية في حياة المجتمع المسلم، فإلى أولئك وحدهم يعود الفضل الأساسي - بعد الله- في تنمية فقه المعاملات المالية، والدأب على تطويره.
ومهما تطارحنا من نقد حول واقع فقه المعاملات المالية المعاصرة فإن ذلك ينبغي ألاّ ينسينا واجبات الوفاء لأولئك الآباء المؤسسين الذين ضحّوا براحتهم الشخصية، وقاوموا كثيراً من ارتباطاتهم الاجتماعية وضغوطات الحياة المادية من أجل أن يقدموا للمجتمع المسلم منظوراً يبني إمكانياته الاقتصادية والاستثمارية في ظل الاطمئنان الشرعي.
ومع ذلك كله لا تزال في طريق علم (فقه المعاملات المالية) الكثير من الخطوات والمهام الضرورية لاستكمال مسيرة التنمية الفقهية، فبادئ ذي بدء لقد حان الوقت لكي يقرر هذا الفرع الفقهي أن يستقل عن الشجرة الفقهية العامة، كما استقل من قبله علم الفرائض، وعلم القضاء، وعلم السياسة الشرعية وغيرها من الفروع التي احتفلت باستقلالها المبكر في تاريخ الفقه الإسلامي، احتراماً لخصوصيتها وحاجتها للمعالجة المتخصصة.
فقد أصبحت خصوصية فقه المعاملات المالية النابعة من تعقد علاقاته بالعلوم الأخرى كالاقتصاد والمحاسبة والقانون التجاري والإدارة وغيرها من العلوم ذات الصلة أكبر من أن تحتملها فصول معدودة في مدونة الفقه الإسلامي، ويستحيل على الفقيه المعاصر أن يكون مبدعاً في فقه المعاملات المالية طالما أن دراسته لهذا الفرع لا تزال تقتصر على بضع محطات متواضعة في رحلته الفقهية الشاسعة والمنهكة والممتدة من (باب المياه) إلى (باب الإقرار).
لقد أزف الوقت - إن لم يكن قد تأخر كثيراً- لكي يصبح فقه المعاملات المالية تخصصاً مستقلاً يُزوَّد المتدرب فيه بكامل التقنيات المعرفية التي يحتاجها من العلوم الإنسانية الحديثة، وبشكل خاص المفاهيم الأساسية في الاقتصاد والمحاسبة والقانون التجاري والإدارة، بالإضافة إلى الكليات الفقهية والقواعد الأصولية والمبادئ المقاصدية، وتاريخ التشريع ذات المساس المباشر بهذا العلم، بحيث تصبح هذه الوحدة الفقهية مجهزة بكامل المعدات العلمية اللازمة بشكل منظم.
كم هو مؤلم أن تكون كثير من كليات الشريعة والتي من المفترض أن يكون تخصصها الدقيق هو الفقه الإسلامي لا تزود طلابها بمنهج مستقل للمعاملات المالية المعاصرة، فيصطدم الطالب غير المؤهل بنظم الحياة الاقتصادية المعقدة غير قادر على الربط بين النماذج التراثية التي تعلمها والصيغ الحديثة التي يواجهها إلاّ من خلال جهود شخصية خارج البرنامج الرسمي، كثيراً ما تكون متعثرة وغير منظمة.(5/236)
وإذا اتفقنا أن أزمة الهدر الفقهي لا تعود إلى عامل واحد بل ترتبط بشبكة من العوامل الاجتماعية والسياسية والمعرفية، فإنه لا شك أن من أهم المشكلات التي ساهمت في تكريس أزمة الهدر الفقهي مشكلة (تكلف المغايرة) النابعة من القلق غير الطبيعي من توافق بعض الأحكام الشرعية مع صيغ الاقتصاد الغربي؛ فبدلاً من تركيز الجهد الفقهي في تحليل الخيارات الشرعية الممكنة والمتاحة في ضوء واقعنا ونسيجنا الفقهي الخاص، ينجرف كثير من الباحثين في تصوير الفقه الإسلامي للبرهنة على وجود (اقتصاد إسلامي) والواقع أنه ليس من معايير الحقائق الشرعية تناقضها مع الخبرة البشرية، بل على العكس من ذلك فإن من القرائن الدالة على رجحان الاجتهاد الفقهي تأييده واعتضاده بنتائج الخبرة البشرية.
ومن جانب آخر فإن عدم قدرة الفقهاء المعاصرين على إنشاء قاعدة بيانات فقهية كان أحد أهم مصادر الهدر الفقهي؛ إذ افتقد البحث الفقهي القنوات الخاصة التي تضمن تدفق النتائج الفقهية إلى أوعية منظمة بما يمكنها من تحقيق عنصر التراكم، وانعكاساً لهذا الغياب تستمر أزمة تكرار الجهود والدوران في حلقة مفرغة بما يحرم فقه المعاملات المالية من أحد أهم شروط نمو المعرفة.
كما يعاني الفقيه اليوم من غياب الإمكانيات التي تتيح له التعرف على الدراسات السابقة على الإشكالية محل اهتمامه، وكم هو محزن حين يبذل الفقيه جهداً في استيعاب الدراسات الفقهية في الموضوع محل اهتمامه ثم يتفاجأ بأنها جميعاً أعادت بحث الموضوع من خط البداية الأول، ولم يحاول أحد منها أن يواصل شوط البحث من حيث توقف الآخرون. يا ترى كيف سيكون حال الخبرة الفقهية لو أُتيح لنتائج الباحث الأول أن يناقشها، ويعمقها الباحث الثاني، وهكذا دواليك؟
كما أن من أهم مصادر أزمة الهدر الفقهي استنفاد جهود المجامع المتخصصة في دراسة التطبيقات الجزئية الصغيرة عبر التعسف في تعليب المعاملات المستجدة داخل الأوعية الفقهية التقليدية، وقسرها على تقمّص أشكال العقود التراثية فتخرج كثير من البحوث بصورة كسيحة تشي بحجم التكلف الهش، في مقابل إهمال بناء (منظومة القواعد المرجعية) الحاكمة لهذا العلم.
إن المجامع المتخصصة بحاجة -أكثر من أي وقت مضى- إلى أن تبلور للشريحة المستهدفة من مصرفيين ومستثمرين ونحوهم دليل إجراءات منظم، لا ينجرف في ملاحقة الجزئيات وخلافياتها، بل يكرس بشكل أساسي لتنظيم (معايير المعاملات الشرعية) بحيث يحتوي هذا الدليل القياسي على أسس مفاتيح البطلان وقواعد تنظيم الحقوق والالتزامات والمبادئ الأساسية للآثار العقدية، وبمعنى آخر الإجابة عن الأسئلة الثلاثة التالية: ما موانع صحة المعاملة؟ وما هي حقوقك؟ وما هي واجباتك؟ دون إغراق في تفصيلات الخلاف الفقهي بحيث يتمكن الفرد غير المتخصص من استيعاب القواعد الفقهية العامة التي تمنحه الاطمئنان الشرعي في إدارة استثماراته الشخصية ومشاريعه الخاصة، ويكون اعتماد هذا الدليل من المجامع المتخصصة مادة متاحة لبرامج التدريب الشرعي.
ويعود جزء من الهشاشة الفقهية في بعض المعالجات الفقهية المعاصرة المطروحة اليوم في القنوات الفضائية والمجلات الالكترونية إلى إشكالية معرفية في قلب منهج الاستدلال الفقهي، حيث يفتي كثير من المتصدّرين للفتيا في المسائل المعروضة عليهم بناء على مفاهيم إجمالية مطورة استقرت في أذهانهم حول القواعد العامة للمعاملات، كقاعدة الربا أو قاعدة الغرر أو قاعدة الضمان ونحوها، وهذه المفاهيم الإجمالية مأخوذة من الفهم المدرسي المباشر للنصوص الشرعية العامة دون استيعاب تحليلي لتصرفات الشارع التطبيقية في التعامل مع هذه القواعد العامة، ودون استخلاص لكافة القرائن العملية من مجمل السياق التشريعي في عصر النبوة، كما يقول الإمام ابن تيمية: "ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح، أفسد كثيراً من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه" [مجموع الفتاوى لابن تيمية 29/51].
ولنضرب على ذلك مثلاً: فحين يأتي النص العام بالنهي عن الميسر، وأنه قد (نهى صلى الله عليه وسلم عن الغرر) والغرر هو مجهول الحال أو المآل، فإن كثيراً من المتعاطين لفقه المعاملات اليوم كلما رأى مخاطرة في عقد مستجد ناشئة من جهالة الحال أو المآل هجم عليها بإسقاط النصوص العامة في حظر الغرر والميسر.
بيد أن دراسة التعامل النبوي التطبيقي مع عنصر الجهالة والمخاطرة يكشف أن هذا الفهم المجمل لمفهوم الغرر يتعارض مع مراد الشارع، فلم يرد الشارع بحال أن يحسم كل أنواع الغرر والجهالة بهذا الإطلاق الموهوم، فسيرته العلمية والتطبيقية تكشفت عن تشريع أربعة مستويات مختلفة من الغرر؛ إذ أجاز الشارع الغرر في غير عقود المعاوضات كما في هبة المجهول، وأجاز الشارع الغرر اليسير كما في بيع أساسات الدار، وأجاز الشارع الغرر التبعي كما في بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها مضمومة إلى الأصل، وأجاز الشارع الغرر المحتاج إليه كما في بيع المغيبات.(5/237)
وتكمن خطورة هذا المنهج المعتمد على عمومات النصوص دون استيعاب لتصرفات الشارع التطبيقية في أنه يندرج تحت آفة من آفات أحبار اليهود التي نهى الله فقهاء المسلمين عن سلوكها، وهي آفة (تبعيض الكتاب) عبر أخذ بعض نصوصه وترك بعضها الآخر كما قال تعالى في سورة البقرة "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض".
وعلى صعيد آخر.. يخطئ كثيراً أولئك المثقفون المأخوذون بالسياقات الفكرية والفلسفية ممن يستهترون بعلم الفقه الإسلامي، وأن الأمر لا يحتاج كل هذه الجهود على أساس أن الدين واضح ميسر لا يحتمل كل هذا التعقيد الذي يحدث، وفي تقديري أن هناك خلطاً لمصدر التعقيد نشأ بسبب الفهم المجمل الذي يعوزه التفصيل لمكونات الإجابة الفقهية، فالواقع أن أية إجابة فقهية هي مزيج من عنصرين أساسيين هما: قاعدة وواقعة، فأما القواعد الشرعية فهي ميسرة بينة محكمة بمقتضى النص القطعي (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) وأما الوقائع فهي تزداد تعقيداً مع التطور المذهل في الحياة الإنسانية، وهذا يعني أن فقه المعاملات المالية ليس علماً شائكاً بسبب وعورة قواعد الوحي الإلهي - حاشا وكلا- ولكن بسبب حجم وطبيعة المعطيات والوقائع الاستثمارية الحديثة، فالتعقيد في الوقائع لا في القواعد.
وفي إطار محاولات الفقهاء الرواد في التواصل مع العلوم الحديثة ذات الصلة بفقه المعاملات المالية بخصوص تصوير العقود والوقائع المستجدة وتوضيح صيغ علاقاتها المؤثرة على الحكم الشرعي يلاحظ المتابع موقفاً مترعاً بالمفارقة في تحديد وزن العلوم الحديثة التي يمكن الاستفادة منها في هذا المجال.
فقد تم في هذا السياق بناء تواصل إيجابي معقول مع الاقتصاد الحديث، وتبادل للخبرات مع رجالات الاقتصاد من خلال استكتابهم في المجامع الفقهية، والاستناد إلى نتائجهم العلمية، وترجمة دراساتهم الأجنبية في تنام مستمر وملحوظ لمرجعية الاقتصاديين في الوعي الفقهي المعاصر، في مقابل القطيعة والنفور المذهل مع خبراء التشريعات التجارية والمالية الحديثة، على الرغم من أن خبراء التشريع من شُرّاح القانون ونحوهم في المجتمعات المتقدمة هم الوجه الحقيقي المقابل للفقهاء في المجتمع المسلم، بما يعني أن إمكانية استفادة الفقيه في تصوير العقود والمعاملات المعاصرة من خبراء القانون التجاري الحديث أكبر بكثير من إمكانية الاستفادة من خبراء الاقتصاد الحديث بسبب وحدة الوظيفة والهموم المشتركة بين علمي الفقه والقانون، في مقابل التفاوت الواسع بين وظيفة الفقه ووظيفة الاقتصاد، فوظيفة علم القانون دراسة تنظيم العلاقات الحقوقية بين أفراد المجتمع، أما وظيفة علم الاقتصاد فهي دراسة سلوك الإنسان في إدارة الموارد النادرة لإشباع حاجاته.
ولنضرب على ذلك مثلاً: فحين يدرس علم الاقتصاد موضوع (العمليات البنكية) من خلال مادة النقود والبنوك فإنه يدرسها بهدف تحقيق أكبر معدل تنافسي للعائد بصفتها أحد موارد التمويل وتوزيع الائتمان، أما علم القانون فحين يدرس هذه (العمليات البنكية) من خلال مادة القانون التجاري فليس معنياً بالبحث عن أنجع الوسائل لتعظيم الربح، ولكنه معني بدراسة الالتزامات والآثار الحقوقية الناشئة عن هذه العمليات عبر تحليل عناصر العقود والعلاقات بين العاقدين.
ويبرز أثر هذا الاختلاف جلياً في سائر الموضوعات المدروسة في العمليات البنكية بين العلمين، فمثلاً يدرس علم الاقتصاد عقد (الخزانة الحديدية) باعتباره أحد آليات تحقيق الأمان للعميل بما يستقطب المزيد من الأصول، بينما في دراسة فقهاء القانون لهذا العقد يذهب الجهد الأساسي لمناقشة تكييف هذا العقد: هل هو عقد وديعة باعتبار عنصر الحفظ؟ أم هو عقد إيجار باعتبار شراء المنفعة؟ أم هو عقد قرض باعتبار حرية التصرف؟
ويتضح للفقيه أن المدخل الذي يتناول علم القانون موضوعاته من خلاله أقرب إلى علم الفقه وأشبه ببينته المعرفية من المدخل الذي يسلكه علم الاقتصاد، بسبب تركيز علم القانون وإبرازه لذات العناصر والعلاقات التي يستهدفها علم الفقه، ولذا فهو أجدى وأكثر عائدة في تصوير العقود والوقائع المستجدة.
فالمفترض في فقهاء المعاملات المالية المعاصرة اليوم أن يتجاوزوا تلك الحساسيات التاريخية مع علم القانون، والتي نشأت في ظل مناخ من التوترات السياسية أججتها حالة الاحتجاج الشعبي ضد القسر الإمبريالي في تغريب التشريعات.(5/238)
بمعنى أنه يجب على الفقهاء المعاصرين أن يعيدوا علم القانون إلى صورته الطبيعية المتوازنة من حيث كونه علماً وضعياً فيه ما يخدم الفقه الإسلامي، وفيه ما يتعارض معه، فما الذي يجعل علم الاقتصاد الوضعي ذا الصبغة الرأسمالية والمنشأ الغربي يجوز التواصل النقدي معه والتفاعل الإيجابي مع المختصين فيه، بينما يحرم هذا التواصل النقدي والتفاعل الإيجابي مع علم القانون الحديث؟ فواقع الأمر أن كلا هذين العلمين من حيث التصور الشرعي الطبيعي يقفان في ذات الخانة، وهي خانة (العلوم الوضعية) المرتبطة بالخبرة البشرية، والخاضعة للفحص الشرعي، فيؤخذ منها ويرد طبقاً للقاعدة العامة في الموقف من العلوم الوضعية، أي بحسب التوافق والتعارض مع أصول الشريعة.
وفي هذا السياق يجب أن نعترف وبمرارة أن علم (الاقتصاد الإسلامي) ابتعد كثيراً عن وظيفته الحقيقية، فبدلاً من أن يكون رجل الاقتصاد الإسلامي مشغولاً بالإبداع في دراسة وتحليل وتفسير ومعالجة علاقات الناتج القومي والإنفاق الحكومي، والسياسات النقدية، ومعدلات التضخم، واستراتيجيات إدارة الطلب، وقيود التجارة الدولية، واختناقات الائتمان الإسلامي، والحلول التمويلية، وسائر عناصر الظاهرة الاقتصادية في ظل الإطار الإسلامي، تحوّل كثير من الاقتصاديين الإسلاميين عن المشاركة الفعلية في جوهر علم الاقتصاد، وانشغلوا بدور فقهي يختلف تماماً عن دورهم الأساسي، وهو التصدر لـ (فتاوى المعاملات) مع تقديم خلاصات اقتصادية يسيرة على هامش فتاواهم يتم اختصارها من المصادر المدرسية الغربية.
وما لم يتم تدارك الأمر وفرز الحدود الفاصلة بين العلوم الإسلامية والتفريق الواضح بين الدور الاقتصادي والفقهي والقانوني فإن المجتمع المسلم سيظل يعاني من علاقة التبعية بالإبداع الاقتصادي الغربي، ومن أخطر انعكاسات هذه الصيغة من صيغ العلاقة الثقافية بالآخر تسلل الشلل الفكري إلى إمكانيات الإنتاج، والإصابة بعقم الإبداع، نتيجة الاعتماد على جاهزية المنتجات الغربية، وترسيخ عاهات الإنقماع النفسي في قلب الثقافة الاجتماعية.
وعلى أية حال فإن استقلال الإبداع لا يعني التوتر مع منتجات الحداثة الاقتصادية المعاصرة، ولا يعني أن يكون الفقيه مهجوساً بحمل النصوص والتعسف في تصويرها كنقيض للاقتصاد الغربي، ذلك أن القيام بأمانة البيان للناس وحمل رسالة الفقه الإسلامي النبيلة ليس مرتبطاً بمخالفة خبرات الإنسان، بل مرتبط بشكل أساس بتقديم أدق منظور فقهي يستوعب مراد الشارع ومقاصده العامة التي يحبها الله ويرضاها ويتغياها في أحكامه؛ كالعدل، والقيام بالقسط، ورعاية المصالح، ورفع الحرج، وإزالة الضرر، واعتبار العرف، وإظهار الدين ونحوها من الغايات الإلهية الشريفة.
__________
* محامي وباحث إسلامي سعود
================(5/239)
(5/240)
التسلح بالإعلام والسينما!
سارة الراجحي 20/11/1427
11/12/2006
حينما نتساءل: كيف لقلة من اليهود التغلغل والسيطرة على العالم خاصة أمريكا..؟ سنجد أن الكاتب والصحفي الإسرائيلي (إسرائيل آدم شامير) قد أجابنا في كتابه (الجنة.. دراسة في الكابالا) بقوله: "ليس لليهود عباقرة يتميزون بشيء لا يوجد عند الآخرين حتى تمكنوا من توجيه الفكر الغربي، بل هم قوم عاديون، نجحوا في جعل برنامج عملهم برنامجاً عالمياً يتبناه الأوروبيون والأمريكيون..".
ثم يقدم نماذج لذلك النجاح، ومن ذلك أنه في الحرب العالمية الثانية أُلقيت قنبلة نووية على اليابان فمسحت من الخريطة مدينتين كبيرتين هما هيروشيما وناجازاكي، وتعرض اليهود في ذات الوقت لمحرقة على يد الزعيم الألماني النازي هتلر، غير أن الإعلام ركز أكثر على اليهود، ولم يركز على اليابانيين الغابرين في لمح البصر .. وهذا ملموس بالفعل، فلقد اشتهر فيلم (هيروشيما هي حبي)، غير أنه لا يوازي شهرة فلم مثل (لائحة شنايدلر) الذي طمره و غيره، و حصد العديد من جوائز الأوسكار..
وذلك وغيره لأن اليهود سيطروا على وسائل الإعلام والسينما، فتمكنوا من تحويل الناس إلى بهائم مدجّنة على حد تعبير الكاتب شامير..!
والمتتبع لتاريخ اليهود يجد أنهم لم يكونوا سوى قلة محتقرة حينما حذر الرئيس الأمريكي (فرانكلين) منهم في أحد خطاباته: "أينما حل اليهود هبط المستوى الأخلاقي والشرف التجاري. فقد ظلوا دائماً في عزلة، لا يندمجون في أية أمة، يدفعهم الشعور بالاضطهاد إلى خنق الأمم اقتصادياً، كما حدث في أسبانيا والبرتغال. فإذا لم تُقصِهم الولايات المتحدة عن دستورها، فسنراهم في أقل من مائة عام يقتحمون هذه البلاد لكي يسيطروا عليها، ويدمروها، ويغيروا نظام الحكم الذي سالت من أجله دماؤنا ..."
وقد حدث ..!
كانوا يرفلون في التخلف والمهانة، لكنهم بسبب أنشطتهم في"الجيتو"، وفي المسرح "اليديشي" أقبلوا على العمل في مجالات الاستعراض و التمثيل، وبالتالي استقطاب الجمهور من العامة، وشيئاً فشيئاً ظهرت الشركات المتخصصة في هذا المجال، والتي لا تزال إلى الآن تحت سيطرتهم وأبرزها: "فوكس للقرن العشرين- يونيفرسال- جولدن- وارنر- بارامونت- كولومبيا..." وغيرها.. والتي استطاعت على مر العقود الدفاع عن قضايا الصهيونية على الرغم من عدم عدالتها ونزاهتها وتقديمها كقضايا إنسانية تستدر تعاطف المتلقي، إضافة إلى نشر الروح القومية بين يهود العالم، مع تبرعاتها السخية، لتي حصدتها من جيوب المشاهدين بمن فيهم العرب والمسلمون، عبر مراحل تراعي السير وفق الخط التاريخي و السياسي، وبالتالي المساهمة في صنع الأحداث.. فمثلاً اعتمدت في البدء على قصص التوراة لترسخ فكرة أرض الميعاد، وبعد وعد بلفور صارت قضيتها التهجير إلى هذه الأرض.. وبعد حرب 48 أخذت السينما تبث فكرة ضرورة الاقتناع بإسرائيل ونسيان فلسطين.. وتوالت الأفلام التي تحمل فكرة حق اليهودي في استعادة ما سُلب منه، إضافة إلى أفلام (الأوشنينز) و (الهولوكوست) والتي قُدّمت في قالب إنساني.. مع بث فكرة عن اليهود توهم أنهم أكثر الأشخاص ذكاء وعلماً وإنجازاً وإنسانية بعكس العرب الذين يمتلكون الأموال و لا يعرفون كيف ينفقونها إلاّ في الملذات و الإرهاب.. مما جعلهم يكسبون تعاطف الكثير معهم والدفاع عنهم، وتقبل وجودهم وأحقيتهم في فلسطين، وأن ما يجري هناك من اجتياحات حق شرعي في مكافحة إرهاب حجارة الأطفال العرب..!
هذا التغلغل اليهودي عدّه نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان في كتابهما "صناعة الإجماع" أول كابح للإعلام الأمريكي: "فالإعلام الأمريكي ملك لحفنة قليلة من رجال الإعلام الأثرياء والشركات العملاقة، ومهما تكن الحرية التي ينعم بها قانونياً فهو لا يستطيع أن يبث ما يؤثر سلباً على مصالح مالكيه".. فالسكوت عن نقد إسرائيل مسوّغ بملكية اليهود لأهم وسائل الإعلام، مع حاجتهم إلى الدعاية، والخوف من اتهام معاداة السامية الذي تُسنّ لأجله قوانين صارمة، وغير ذلك..
إن التفوق في المعلومات لم يعد مهماً بقدر أهمية السيطرة على المعلومات والتحكم في تقديمها للآخرين وفق المصالح والأيدلوجيا الخاصة بالمُرسِل.. وهذا ما يحدث الآن في عصر الإعلام والعولمة، واللذين كانا غرماً علينا، غنيمة لغيرنا في الغالب.. فهم قد سيطروا على الإعلام بنوعيه المباشر وغير المباشر.. المباشر الذي يصوغ الخبر ويقدمه لك مباشرة أياً كانت صورته، عبر قنوات الأخبار العالمية مثلاً - وهذه القنوات الآن غالباً إما أن تكون تحت سيطرة اليهود مباشرة، أو تكون تحت سيطرتهم بطريقة غير مباشرة - و الإعلام غير المباشر الذي يخفى علينا كثيراً كونه إعلاماً؛ لأنه يبدو كبرامج عادية حيادية لا تهدف لشيء.. إنما هي في حقيقتها ضمن خطة متكاملة تهدف إلى إيجاد حالة لا انتماء وبلادة و ضعف المخزون المعرفي، وبالتالي التهيئة لتمرير الأفكار.. وهاهو إعلامهم يتدفق علينا بإذهال وتنوع سواء في التقارير الإخبارية أو البرامج الوثائقية والحوارية، أو الصحف والمجلات، أو الأفلام، وغيرها..(5/241)
لقد تأخرنا في امتلاك هذه الأدوات، وحينما توفر شيء منها، فغالباً ما سخرها أصحابها النفعيون لنخر مجتمعاتنا بالتافه والساقط والهادم، ولكم أن تقارنوا بين أشهر برامج تلفزيون الواقع لدينا في العالم العربي ومدى ما بثه من إسفاف وإلهاء وميوعة، وبين أحد برامج الواقع الإسرائيلية الذي هدف إلى تلميع صورة الكيان الإسرائيلي عبر اختيار عدد من الشباب والفتيات والمنافسة بينهم لاكتساب مهارات ذلك، من خلال مناقشة قضاياهم حول العالم، ومن ثم ترشيح السفير الذي يجيد إيصال صورة جيدة لبلده وحشد التأييد لها..! ولكم أيضاً أن تقارنوا بين الأفلام التي سُخرت لخدمة الكيان الصهيوني، وبين الأفلام العربية التي تفننت في خدش مجتمعاتنا وقيمنا، ولم تقدم شيئاً إيجابياً يُذكر، فضلاً عن إمكانية الاتكاء عليها في حمل همومنا و قضايانا..!
الإعلام أصبح أقوى من الجيوش، و تلك الشاشة الفاتنة، لها تأثيرها و وزنها، و بإمكانها أن تمحو أو تشوه خلال ساعة ما استغرق البيت والمعلم بناءه خلال أشهر؛ فهي ليست مجرد أداة ترفيه بل أداة توجيه وبث فكري وعقدي سواء كان ذلك ظاهراً أو مستتراً .. فلماذا نعجز عن استغلالها كما فعل اليهود..؟ ولماذا نبتعد بحجة تردي الأمر الواقع، و نستسلم له و ننوح عليه بدلاً من التصارع مع الباطل، وتقديم البديل وإصلاح الواقع..؟! لماذا لا تمتد أيادي حملة هم الأمة إليها بدلاً من الاكتفاء بالوسائل التقليدية التي لا تستطيع مجاراة (رتم) هذا العصر..؟! لماذا لا نمزج بين الفنان المتدين في فنه و رجل الدعوة المتفنن في دعوته..؟
إن اختزال و تصنيف هذه القضية في خانة التحريم ببساطة جعلنا نفقد الكثير، خاصة وأن جزءاً كبيراً من الواقع يعيش خارج نطاق هذا الإفتاء.. وحينما نتجاوز حدود النقاش في حكمها إلى حدود المطالبة باستغلالها لصالحنا لا يعني هذا أننا نخرج عن ثوابت الدين، ما دمنا نؤكد على مسألة الضوابط العقدية والأخلاقية، وعدم إطلاق يد من يقوم عليها كيفما اتفق.. وبالتالي تحويلها من غرم علينا إلى غنم لنا ..
لذلك أعود وأقول بأننا نعيش فقراً فنياً حقيقياً في الإنتاج كماً ونوعاً، على الرغم من توفر روافد هذا الإنتاج، وهي القضايا الإنسانية العادلة، والقيم الرفيعة السامية، والإرث الثقافي والحضاري.. والذي يحتاج إلى من يصوغه ويقدمه باحتراف، عبر استثارة وجدانية كمنفذ ضوء على الحقيقة المتوارية أو التي تحتاج إلى تعزيز، دلاً من الاتكاء على البرامج الحوارية والإلقائية المباشرة،خاصة وأن الكثير منها يعاني من الضعف والخفوت إما مضموناً أو أسلوباً.. أما القدرة على استثارة وجدان الآخرين وتقديم التجارب الإنسانية فإنه يفتح أقصى تخوم النفس، و يستنطق الحقائق التجريدية والرموز، ويسكب حولها الدلائل، أي أنه يحدث تفاعلاً عميقاً بين الوجدان وبين الرؤية العقلية، وبالتالي تحدث رؤية مغايرة للصورة السابقة حتى التي قد تكون نمطية راسخة من الصعب إعادة تشكيلها، و من ثم يتغير التقدير و التعامل مستقبلاً..
إن علينا اجتراح آليات تستمد وقودها من نسقنا العقدي و الاجتماعي والثقافي الذي يفرز قضايا تحتاج إلى نوع من التواؤم ومحايثة المتغير .. خاصة وأن لدينا معيناً لا ينضب من هذه القضايا والتجارب الإنسانية، التي من الممكن استغلالها لضخ الحقائق، كما فعل المخرج العقاد - رحمه الله - في فلم "عمر المختار".. حينما حرّر هذه الشخصية الرائعة و "الكاريزمية" من إسار جمود التاريخ و تصوره المجرد عند كثير من الأجيال إلى شخصية مُجسدة مفعمة بالجهاد و التفاصيل الإنسانية والعميقة لا يفتر لمعانها..
لدينا رسالة عظيمة تحتاج البلاغ .. لدينا فلسطين، والشيشان، والعراق، والنيجر.. لدينا صلاح الدين، وابن تاشفين، والدرة، وإيمان حجو.. لدينا جدار العزل والاستعمار والاحتلال، لدينا الأقليات والأسرى، لدينا الفقر والأمية والبطالة ونهب الثروات والتغريب.. لدينا عمق التاريخ و أصالة التراث، لدينا العبق المشبع بالقيم والجمال.. لدينا الكثير الكثير.. في حين يعاني الغرب واليهود من قلة تلك الروافد، ومع ذلك يستمر إنتاجهم ولو بأفلام الرعب والخيال العلمي و"الأكشن".. ونحن نتفرج بعناية..!
إننا بحاجة إلى إعلام و فن يعكس التصور الإسلامي، و سينما جادة ومؤثرة توظف لصالح قضايانا ومصالحنا المشتركة وتحدّ من تأثير الفن و السينما الغربية التي تنخر في جسدنا منذ أمد.. بحاجة إلى جيل من الكتاب والمخرجين الذين يقدمون القضايا من منطلق إسلامي صحيح و وفق الضوابط، ولديهم القدرة على المزج بين الرقي القيمي والإبداع الفني، عبر لغة تأثيرية، تستنفر حواس المتلقي و تؤثر على سلوكه و آرائه و مواقفه ، فلا يمكنه العودة كما كان، فثمة لغة حرّضت مشاعره وفكره وتساؤله..(5/242)
و في هذا العصر الذي تنبض عروقه بالصور واللغة التأثيرية بكثافة، علينا مداهمة التواءاتها - العصيّة والطيّعة في آن - عبر العمل الدائب والجاد وذي البصيرة لملء أوعيتها بما يخدم الإسلام، و يحقق أهدافه ومقاصده، و يخدم المسلمين ويساهم في إعداد أجيال لها هوية كاملة ومتوازنة، و يحقق الانتماء إلى أمتنا و وشد الوشائج فيها و نبذ الفرقة، و يشكل رأي عام فاضل ومنضبط، و يعزز الفضائل ويمجدها، ويجسم الأخطاء ويُجنّبها، مع احترام مستوى المتلقي وذائقته..
والفن مهما كان جامحاً وهلامياً ومدفوعاً بالشغف إلى الخروج عن المألوف لإحداث الجذب، إلاّ أنه من الممكن استدراجه وتطويعه عبر استجلاب المفاهيم و القيم الضالعة في السمو لتندغم فيه وتنصهر معه، فيحدث- ولو جزئياً - تحقق المقاصد وبلوغ المرامي وإحداث التوازن بين ثنائية الثوابت والمتغيرات التي نعيش في كنفها.. لذلك نهيب بالمؤسسات والمنظمات والقنوات الإسلامية تبني هكذا مشاريع عبر التخطيط والتأليف والاستعانة بالخبرات و الإشراف والتمويل والحوافز، وسيأتي الجني و الأرباح - بأنواعها - تبعاً بمشيئة الله
==============(5/243)
(5/244)
أزمة الحجاب.. على يد وزير الثقافة المصري
د . ليلى بيومي 6/11/1427
27/11/2006
الأزمة التي أثارها فاروق حسني وزير الثقافة المصري، لم تكن مفاجئة للمتابعين للشأنين الثقافي والإسلامي. فالهجوم على الإسلاميين، بصفة عامة، ليس مستهجنًا على المستوى المصري الرسمي، وكذلك على المستويين الثقافي والإعلامي.
القضية بشكل أو آخر، تختزل الصراع الثقافي وصراع الهوية بين النموذج الإسلامي الأصيل والنموذج العلماني الغربي الذي وفد إلى عالمنا العربي والإسلامي مع قدوم الاستعمار الغربي في العصر الحديث.
وقد بدأت عملية "علمنة" المجتمع المصري وتغريبه على يد محمد علي، الذي كان منبهرًا انبهارًا كاملاً بالثقافة الغربية والمدنية الغربية.
ومنذ عهد محمد علي ترسّخت العلمانية في المجتمع المصري، وأصبحنا نرى إنتاجًا ثقافيًا وأدبيًا يحذو حذو الغرب، ويدير ظهره للهوية الإسلامية والتراث الإسلامي، وليته وقف عند هذا الحد فقط؛ بل أصبح همه الأساسي هو الهجوم على التيار الإسلامي ورموزه ومشروعه.
ولقد كانت البعثات العلمية وسيلة من وسائل الدولة المصرية، منذ عهد محمد علي وحتى الآن، لمتابعة الحضارة الغربية وإنجازاتها. وكان فاروق حسني هو واحد من هؤلاء المبتعثين، ثم أصبح ملحقًا ثقافيًا في روما، فاطلع على الثقافة الغربية وانهزم أمامها؛ لأنه لم يكن محصنًا بالثقافة العربية الإسلامية بشكل كاف.
وما حدث لفاروق حسني حدث للكثيرين غيره من روّاد الثقافة، مثل قاسم أمين وأحمد لطفي السيد وطه حسين وهدى شعراوي.. الخ.
نصف علماني ونصف إسلامي
ولقد وجد المسؤولون المصريون على امتداد التاريخ المعاصر أنفسهم في معضلة ليست سهلة. فهم من ناحية يعرضون أنفسهم على أنهم بلد الأزهر والريادة للعالمين العربي والإسلامي، وهذا يستلزم احترامًا معينًا لثوابت الدين والشريعة، وفي نفس الوقت هم خاضعون أيضًا للتراث المصري الذي أسسه محمد علي، والذي يؤكد على علمانية الدولة، أي الفصل بين الدين والدولة.
وقد اتزن ميزان الدولة المصرية عند هذا الحد الدقيق بين النقيضين (الإسلام والعلمانية). وهكذا فإن علمانية مصر ليست هي العلمانية المتطرفة كما هو الحال في تركيا أو تونس، ولكنها علمانية من النوع المخفف، الذي لا يخاصم الشريعة الإسلامية، ولا الرموز الإسلامية بشكل عام.
وما فعله فاروق حسني هو توريط للدولة المصرية ونقلها من حالة العلمانية المخففة إلى حالة العلمانية المتطرفة التي تسخر من الرمز الإسلامي (الحجاب) وتستهزئ به على الرغم من أنه ثابت بالقرآن والسنة، ولا مجال للتشكيك فيه.
كما أن نساء مصر، في غالبيتهن، يرتدين الحجاب (وإن بدرجات متفاوتة وأزياء مختلفة) ليس انطلاقًا من انتماء لتيار إسلامي أو آخر، ولكن لأن هذا الزي أصبح مكافئًا للزي الوطني، الذي يؤكد الهوية الوطنية للنساء المصريات.
ولذلك لم يكن مستغربًا أن يشن نواب الحزب الوطني (الذي هو حزب الحكومة التي ينتمي إليها الوزير) في البرلمان هجومًا كاسحًا على فاروق حسني بصفته تجاوز الخطوط الحمراء التي ما كان له أن يتجاوزها. لدرجة أن الدكتور زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية، والسيد كمال الشاذلي الوزير السابق والقيادي البارز في الحزب الوطني؛ شنّا هجومًا عنيفًا على الوزير، وأكّدا أن زوجتيهما وبناتهما محجبات، ومعظم نساء مصر محجبات، وما كان ينبغي للوزير أن يقع في هذه السقطة التي تجعل الحزب والحكومة في مواجهة مباشرة مع القاعدة العريضة من الجماهير المصرية من مختلف الفئات الاجتماعية والسياسية.
إحراج الدولة
وهكذا وجدت الدولة نفسها في حالة حرج بالغ سببها لها وزير ثقافتها.. خاصة بعد أن وصف المشايخ بأن الواحد منهم "بتلاتة مليم". وفي هذا استخفاف بالمشايخ الذين هم القادة الحقيقيون للمجتمع المصري الذي يكن لهم احترامًا كبيرًا.
الحرج الذي أصاب الدولة المصرية كان حرجًا على المستوى العربي والإسلامي .. فكيف لمصر بعد ذلك أن تتباهى بأنها بلد الأزهر والحصن المنيع الذي يدافع عن المصالح العربية والإسلامية؟
ثم إن الوزير فاروق حسني فعل فعلته بلا أي مسوّغ .. فلم يكن هناك ما يستدعي ذلك، وليس من كياسة الوزراء أن يصدموا الناس في رموزهم الدينية وثوابتهم الشرعية بمثل هذه الفجاجة. لو كانت الدولة تخوض حربًا معينة ضد الإسلاميين لقلنا إن الوزير يقوم بدوره في هذه الحرب.. فأين هذه الحرب؟
ثم إن الوزير لا بد أن يتصف بالذكاء في اختيار ألفاظه، وهو ما غاب عن فاروق حسني. خلاصة القول: إن الوزير الذي استمر (19) عامًا في الوزارة، وهو مقرب بشدة من مؤسسة الرئاسة ارتكب الجرم الذي لا يُغتفر.
هناك الآن عدة سيناريوهات للخروج من المأزق الذي سبّبه فاروق حسني للنظام:
فإما أن يسحب البرلمان الثقة من الوزير وبالتالي يجبره على الاستقالة.. وهو احتمال ممكن ولكنه ليس سهلاً.. بل مستبعدًا لأن الرئيس مبارك لا يؤيد هذا الاتجاه، ولا يميل إليه بل يعارضه. وإما أن تجبر رئاسة الجمهورية الوزير على هذه الاستقالة.. وإما أن يصدر قرار بالإقالة بدون انتظار أن يقدم الوزير استقالته.(5/245)
بين زكي بدر وفاروق حسني
هناك وجه شبه كبير بين ما حدث لوزير الداخلية الأسبق زكي بدر وما يحدث الآن لفاروق حسني. فزكي بدر استمر لسنوات طويلة يهاجم التيارات الإسلامية على اختلاف مشاربها، ويصف قادتها بأشنع الصفات.. ومع ذلك كانت الدولة تشجعه ويعجبها ما يقوم به. ولكن ذات مرة نسى زكي بدر نفسه في أحد الاجتماعات الخاصة، وراح يسب ويلعن الرموز السياسية والثقافية والإعلامية من مختلف الاتجاهات العلمانية واليسارية والقومية والليبرالية، وقام أحد الصحفيين بجريدة "الشعب" بتسجيل كلام الوزير، ونشرته الجريدة في خبطة صحفية كبيرة، فتمت إقالة الوزير بعد ساعات من نشر كلامه في ذلك الاجتماع.
الخطيئة التي وقع فيها زكي بدر هي أنه وسّع دائرة الهجوم، واستهدف اتجاهات أخرى غير الإسلاميين. وكذلك فعل فاروق حسني، فهو لم يهاجم الإسلاميين كتيارات تمارس العمل السياسي أو الثقافي، وإنما استهزأ برمز إسلامي تواترت به نصوص الدين، ويحظى باحترام بالغ في نفوس كافة المصريين على اختلاف مشاربهم وليس الإسلاميين فقط.
المشكلة ليست فاروق حسني
المشكلة إذًا ليست في فاروق حسني ولا فيما قاله، وإنما المشكلة هي في الإطار الفكري العلماني الذي أصبحت له أرضية وجذور لا يُستهان بها في مصر، وأصبح محضنًا يحتضن الكثيرين غير فاروق حسني، الذي لن يكون آخرهم.
إنني لم أستغرب ما قاله الوزير، ولم يقلقني، وإنما أقلقني ما قاله رموز التيار العلماني من مساندة للوزير فيما نطق به (بالحق أو بالباطل). فهؤلاء يعدّون الوزير في مهمة مقدسة دفاعًا عن "حرية التعبير"، التي هي في اعتقادهم حرية الإساءة للثوابت والمقدسات، كما أنها في الوقت نفسه حرية التفلّت من الدين.
تصريحات وزير الثقافة المصري عن الحجاب إذًا ليست شاذة على الأرضية العلمانية، والدليل على ذلك أن كثيرًا من الإعلاميين المتنفذين في وسائل الإعلام المصرية وبعض المثقفين يعتبرون الحجاب ظاهرة "وهّابية"، وانتشاره "وباء" يهدد مستقبل النساء، وهم مع ما قاله الوزير قلبًا وقالبًا، سواء كان هذا رأيه الشخصي أو رؤيته كمسؤول في الدولة، فالحجاب (في رأيهم) نبتة زرعها الرئيس الراحل أنور السادات في سبعينيات القرن الماضي. ويتمادى هؤلاء في غيّهم قائلين إن فرائض الإسلام خمسة ليس من بينها الحجاب، ولا النقاب وعندما فُرض الحجاب كان ذلك على نساء النبي والمؤمنات المعاصرات له فقط.
ويذهب الخيال والكذب ببعضهم حين يزعم أن الحجاب يشكل اعتداءً على مستقبلهن، وأن هناك من يدفع أموالاً لكل من ترتدي الحجاب.
وكلها افتراءات علمانية بغيضة.. الواقع يكذبها وحجاب الفتيات في المدارس والشوارع يؤكد أن الصحوة الإسلامية نبْت ربانيّ، الله وحده يرعاها، ويتكفل بحمايتها وصدق الله القائل: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)
=============(5/246)
(5/247)
الاجتهاد والتجديد .. هل من مزيد؟!
سارة الراجحي 6/9/1427
28/09/2006
يتهيّب الكثيرون من "التجديد"، ويجعلون منه مصطلحاً مرادفاً للتغريب أحياناً، و حينما ينادي بعض المصلحين المخلصين بضرورة التجديد في الفقه الإسلامي مثلاً أو في الخطاب الدعوي، أو في قضايا المرأة .. نجد أن هناك من يعترض، ويقابل ذلك بالتشكيك؛ ظاناً أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان .. عبر نزعة استصحابية تشكل عقدة الحفاظ على العادة والمألوف وبناء حاجز أمام كل جديد، حتى وإن كان هو الأصيل الذي ينبغي الاتكاء عليه!
و إذا كان التجديد هو إعادة الشيء الذي بلي وقدم وتشوهت سماته الأصلية إلى حالته الأولى .. فهذا يعني أنه يرادف الأصالة لا أن يعارضها؛ لأن الأصالة تعني تأكيد الهوية و العودة إلى الأصول والثوابت والمرتكزات التي تنبثق منها الأمور، وهذا يفسر لنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها" رواه أبو داود .. أي أن هذا المجدد لا يبتكر ديناً أو يبدله، إنما يحيي ويصلح أمور المسلمين وعلاقتهم بدينهم، مقوّماً ما انحرف، ومظهراً ما اندرس.. بالإضافة إلى أن عملية التجديد مستمرة، وليست متوقفة عند أشخاص معينين نظن أن الزمان لن يجود بمثلهم.. كما أنه يتضمن الدعوة إلى التجديد عبر اجتهاد المسلمين؛ لأن السماء لا تمطر مجددين..!
لذلك نحن بحاجة إلى التمييز وعدم الخلط بين التجديد الذي يُعدّ جزءاً حيوياً من ديننا، و بين التجديد بمفهومه الغربي الذي يغلب عليه مجاوزته للماضي وانسلاخه منه، والذي ينظر بمنظور الفلسفة "البراغماتية" التي ترفض القيم المطلقة وثباتها، وتتخذ الواقع ونجاح التطبيق مقياساً للحق وصدق الفكرة.. فالتجديد الذي نحن بصدده يعود للأصول ولا يهدرها، ولا يعتمد الواقع مقياساً للحق والصواب، بل يتحرى فيه الوسائل التي ينزل عليها القيم ليرتقي ويرتبط بها.. أي أنه يقرر القيم والمبادئ الثابتة، ويربط بينها وبين واقع العصر عبر منهجية مقاصدية في فهم النصوص، كما كان في عصر الرسول والصحابة، وكما فعل أئمة المجتهدين.. فكل مشروع نريده أن ينهض ويتحضر لا بد أن يتوغل في الأصالة بنفس درجة توغله في الحداثة.. وإلاّ كان مجرد قديم مقلد، أو غريب مستجلب.
و تجدر الإشارة إلى أن الدين به الثابت والمتغير، فلابد من التفرقة بين القطعيات والظنيات، والأصول والفروع، والأهداف والوسائل.. لأن القطعيات والأصول والأهداف ثابتة، لا مجال للتجديد فيها، أما الظنيات والفروع والوسائل فهذه تحظى بمساحة كبيرة من المرونة و قابلية الاجتهاد البشري، وهذا الذي أكسب ديننا صلاحيته لكل زمان ومكان، فالنصوص متناهية، والأحداث والوقائع والقضايا غير متناهية، لا سيما في عصرنا.. فلا بد من الاجتهاد والتجديد الذي يستدعي الأحكام والحلول الشرعية المناسبة لخضم أحداث عصرنا..
إن محاكاة الماضي المطلقة وتقديس التراث بكل أشكاله وإشكالياته يكون حجر عثرة أمام مهمة الاجتهاد، ويشكل برزخاً بين التجديد والأصالة الحقيقية، يفصل روابط الامتداد والتفاعل والحيوية، و يوثق روابط الجمود والإمعية والغياب عن مستجدات الحياة.. ولا يعني هذا إهمال التراث بالكلية وطرحه جانباً - لا يُقصد به القرآن والسنة فهما فوق التراث - بل يعني فهم هذا التراث وإعمال النص والعقل فيه لا مجرد حمله وحفظه والتسليم به، حتى لا يقع الانفصال والجمود وتعطيل البحث والتمحيص.. بل يقع الإحياء والانتفاع والاستئناس به .. فهو إحدى لبنات التجديد ..
و يجدر التنويه هنا إلى ضرورة التفرقة بين كلام الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم و بين كلام بقية البشر؛ لأن البعض يجعل اجتهادات بعض العلماء السابقين كالوحي المنزل من السماء أو كالمسّلمات، فيتوّهم بعضهم الآخر أن تجاوزها هو تجاوز للدين نفسه.. فتقع العداوات والخصومات فيها.. وصارت كالعملاق الذي تتضاءل أمامه أي اجتهادات جديدة، يرمي بعضهم أصحابها بما لا يليق بهم، موهمين الآخرين بأن ثمة معركة بينهم وبين الدين أو الأئمة الأعلام .. بينما اجتهادات الأئمة الأعلام هي في حقيقتها استنباطات تحتمل الصواب والخطأ، و ليست حكم الله، بل الأقرب إليه ظناً، لهم أجران إن أصابوا، وأجر إن أخطؤوا، كما هو الحال تماماً مع الجُدد، وكما أكدّ على ذلك الأئمة أنفسهم حيث ذموا التقليد وندّدوا بمن يدع النظر .. فقد كان الإمام أحمد مثلاً يوصي أصحابه:"لا تقلّدوني ولا مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذوا من حيث أخذوا".(5/248)
نحن بحاجة إلى فهم أهمية التحرر من قيد التقليد والتقديس، واستبداله بالتقدير و الاجتهاد و التجديد .. كي تستهدي عقولنا بهدي الله، وكي تتناغم الشريعة الغراء مع حركة الزمن عبر تطبيق عملي شامل، لا مجرد صندوق من الشعارات نستعين به عند التنظير، وحتى نكون في المنتصف بين اجترار الماضي وتوهم العيش فيه وتقديس التراث بلا مراعاة للواقع وفقهه، وبين الانبهار بالغرب ومحاكاتهم وتقديس حضارتهم بلا مراعاة لأصول الدين.. ونكون بعيداً عن النظرة الأحادية هنا وهناك التي عادة ما تكون قاصرة ومنحازة ..
و بحاجة إلى اجتهادات فردية وجماعية عبر مؤسسات وجمعيات فقهية يقوم عليها علماء أجلاء من مختلف البلدان الإسلامية مشهود لهم بالعلم والفقه وسلامة الرأي والمنهج، يمتلكون أدوات التجديد وضبطه، ليحركوا بها فكرنا وعلومنا الراكدة، ويشرفوا على البحوث العلمية التي تستند إلى الكتاب والسنة، وتراعي الطريقة والعقلية المناسبة لطبيعة عصرنا، يُستفاد فيها من معطيات العصر ووسائل البحث الجديدة، ليبلوروا ويشيعوا "الأصالة المعاصرة" و "المعاصرة الأصيلة"، بعيداً عن وطأة التناقضات التي تفرزها بعض التيارات والتوجهات الفكرية.
==============(5/249)
(5/250)
هيئاتنا الدعويّة الخليجيّة: آن أوان فضائيّاتكم الدعويّة
عبد العزيز محمد قاسم * 1/11/1427
22/11/2006
زرت بلاد المغرب مع أستاذي د.عبدالقادر طاش -يرحمه الله- مع بدايات قناة (اقرأ) الفضائية قبل أكثر من سبعة أعوام، وانطبعت صورٌ اجتماعية عديدة في ذهني ونحن نتجول في أزقتها ونرتاد بعض مقاهيها في أويقات الراحة، وبالطبع كانت الصورة تغريبية بالكامل جرّاء الاستعمار الفرنسي الطويل لتلك البلاد. وتسنّى لي زيارتها قبل عام تقريباً، وألفيت كثيراً من التغيير الايجابي نحو التدين والحمد لله، وكنت أسأل بعض المغاربة عن سبب فُشُوّ ظاهرة الحجاب بين الفتيات، والإقبال الكبير للشباب على المساجد، فكان الجواب الذي ينتصب عالياً أينما يمّمت بسؤالي: إنها الفضائيات الإسلامية والدعاة الجدد أمثال: عمرو خالد ومحمد العوضي وطارق السويدان وعايض القرني.
وقبل شهرين كانت لي زيارة إلى تونس، وكنت حريصاً على ولوج المساجد هناك وأداء الصلوات بها، لفرضية ذلك بالطبع ولولعي بمشاهدة الطقوس التي تسبق أداء الصلاة، أو تلك التي تُؤدّى بعد التسليم، وخصوصاً أنني إزاء مالكية لا يتوافر لمثلي معرفة دقائق مذهبهم، وبالطبع تبدّدت من أول زيارة أوهام مسألة الدخول بالبطاقات للمساجد التي راجت في أوساطنا الإسلامية؛ فتلك كانت فِرية غير صحيحة إطلاقاً، وكنت سعيداً جداً وأنا أرى شباباً غضاً يملؤون المساجد ويواظبون على الجماعة، خلاف ما اعتدناه من حرص كبار السن فقط على اعتياد المساجد. وتستلفتك مناظر الفتيات اللواتي يلتزمن الحجاب الشرعي، وإن كانت نسبتهن أقل مقارنة بما رأيته في المغرب مثلاً، إلا أنني أجزم بأن سنوات قليلات ستمضي، وسنرى جموع هذه الفتيات كأخواتها في مصر.
ما فعله الاستعمار الفرنسي في تغيير هوية دول المغرب العربي ليس سهلاً بالتأكيد، ونحمد لكل أولئك الذين حافظوا على عروبة وإسلام تلك الدول، ووجدتني وأنا إزاء المدن الساحلية السياحية المليئة بمناظر التغريب، أتمتم بيني وبين نفسي كلمات الكاتب الأميركي (باتريك بيوكانان): "إن قوة العقيدة الإسلامية لمدهشة حقاً.. لقد قاومت العقيدة الإسلامية قرنين من الهزيمة والمذلة؛ إذ هُزمت الخلافة العثمانية، وصمدت تلك العقيدة أجيالاً تحت الحكم الغربي، وتغلبت على مسيرة التغريب في مصر والعراق وليبيا وإثيوبيا وإيران.. لقد تغلّب الإسلام بسهولة على المدّ الشيوعي والناصرية القومية، والآن يصارع القوة العالمية الجديدة". وزاد يقيني بمقولة الكاتب والسياسي الأمريكي وأنا أتجول في أروقة جامع الزيتونة في العاصمة تونس، وصلّيت في محرابها، وقد جثمت عليّ صور شيخ المؤرخين ومؤسس علم الاجتماع العلاّمة ابن خلدون الذي كان يلقي دروسه في هذا المسجد حيناً من الزمن، ويفخر به التوانسة كثيراً، وقد أقاموا له نصباً كبيراً في أهمّ شارع بالعاصمة.
الحقيقة أنني رأيت تأثير هذه الفضائيات والدعاة الجدد في الشارع التونسي والحمد لله، مما ألحّ عليّ سؤالات واقتراحات ما فتئت تؤرقني حيال تفعيل دور هذه الفضائيات، وعن سبب إحجام الدعوة في امتطاء هذه التقنية الخارقة التي تخترق الحدود والجغرافيا والحواجز التي تقيمها الأنظمة السياسية على اختلاف توجهاتها.
في تصوّري المتواضع بأنه آن الأوان لأن تنقلب الهيئات الخيرية والدعوية في بلادنا الخليجية على طرقها التقليدية في الدعوة، من أمثال كفالة معلم وكفالة داعية وطبع كتاب ومطويات، على خيرية ذلك كله، إلاّ أنها تبقى وسائل قديمة تشوبها كثيرٌ من المآخذ. لا بدّ على هيئاتنا الدعوية الموقرة من امتطاء الأقنية الفضائية بشكل جديد، وإيلاء هذه التقنية حقها من العناية والاهتمام، وأنا أوجه دعوتي لدعاة عمالقة لهم قدم راسخة وفكر مستنير من أمثال د.عبدالله التركي ود.صالح الوهيبي ود.عبدالوهاب نور ولي ود.عدنان باشا ود.عبدالحميد الزامل ليتلمسوا عينية امتطاء هذه الوسائل في الدعوة إلى الله.
أفلا يَسَعُ هيئاتنا الدعوية الكبيرة من أمثال رابطة العالم الإسلامي والندوة العالمية للشباب وجمعية الإصلاح الكويتية منها والبحرينية والوقف الإسلامي وهيئة الإغاثة، بل حتى وزارة الشؤون الإسلامية، أن تكون لديهم أقنية فضائية دعوية خاصة بهم، لاسيما أن أكلافها المادية لم تعد كبيرة مقارنة ببداياتها، إضافة إلى أنها قناة أمينة موصلة للأدبيات المعتدلة والمنهج الوسطي الذي نروم تقديمه للعالم، بدون أن نُرتهن لجهة ما، أو نتحمل أخطاء داعية منفر أو متعصب أو غالٍ، فالمواد التي نبثها توافق وسطية واعتدال هذه الدولة التي ننتمي ونفخر..(5/251)
مثل هذا المشروع يحتاج إلى تنسيق بين الهيئات الدعوية وتكامل في أدوارها وتخصص في نوعية جمهورها المخاطب، فلا بدّ ابتداء من أن يتداعى مسؤولو هذه الهيئات مع فاعلي الخير من المتبرعين ليجلسوا مع أهل المهنة من الإعلاميين كي يبلوروا المشروع وينسّقوا الأدوار، قطعاً لآفة وثلمة كبيرة في العمل الدعوي وهو داء التكرار الذي يضيع الجهود عبثاً ويقلب الأولويات رأساً على عقب. نحتاج فعلا ًإلى أن تتخصص كل هيئة في جانب ما كي تعمّ الدعوة والخير على أوسع نطاق جغرافي، فلو تخصصت الندوة العالمية مثلاً في بلاد المغرب العربي، وأنشأت فضائية باللغة العربية والفرنسية وجلبت من أهل تلك البلاد ودعاتها من يتحدث لهم، ويفتيهم بالمذهب المالكي الذي يتمذهبون به، وتبقى كل المواد الإعلامية التي تبث دعوية عامة، تدعو الناس للتدين بشقه الواسع ولمبادئ الإسلام العامة. وبذات الطريقة لو تخصصت الرابطة تجاه الجاليات المسلمة في الغرب تخاطبها، وتخاطب أجيالها التي تذوب في تلك المجتمعات باللغة الانجليزية، فيما تتخصص جمعية الإصلاح الكويتية في إفريقية، والوقف الإسلامي في آسيا والجمهوريات الإسلامية، وتخاطب أهل تلك البلاد باللغة الروسية وتراعي مذهبهم الحنفي، وهكذا دواليك..ثقوا أيها السادة أننا -وبدعم أحبتنا من فاعلي الخير وحضور المهنيين المحترفيين من الإعلاميين- لنختصر كثيراً من الوقت والجهد، ونرى النتائج المبهرة لعمل دعوي منظم، وسنجنّب هيئاتنا الخيرية والدعوية ما يرميها به راعي البقر الأمريكي من الإرهاب وتمويله؛ لأننا ضمنا سلامة المنهج الذي نقدمه أمام سمع العالم وبصره من دون أن يفتري علينا أحد.
أيها السادة، إن استخدم غيرنا هذه الفضائيات لترويج الإباحية والمنكر، فدعونا نوجهها إلى بثّ القيم والفضيلة والخير للقلوب العطشى والأرواح الضامئة إلى نفحة إيمان وتدين، يقدمها داعية ربانيّ أوتي الحكمة وفصْل الخطاب.
* مدير تحرير صحيفة(المدينة) السعودية
مشرف ملحق(الرسالة) الإسلامية
===============(5/252)
(5/253)
علوم الشريعة في الجامعات: الواقع والآفاق (*)
أ. د. عماد الدين خليل 6/6/1427
02/07/2006
[ 1 ]
يمكن أن تكون البداية: الحالة النفسية والاجتماعية والوظيفية لطلبة علوم الشريعة وخرّيجيها في القرنين الأخيرين بوجه التقريب، مقارنة بالحالة نفسها في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية.
كان المعني بالعلوم الشرعية، أو الفقيه، يقود الحياة، ثم ما لبث أن انسحب إلى هامش الحياة، فأصبحت تقوده بضغط الضرورات النفسية والاجتماعية والوظيفية.
وكان يملك عقلاً ابتكارياً متوقّداً، يقدر في لحظة على تكييف هذه المفردة أو تلك وفق مقاصد الشريعة، فيعين على تمكين الخبرة الإسلامية من التواصل والاستمرار بالالتحام بالحياة، ثم ما لبث أن فقد هذا التألق، أو تعمد أن يطفئه استجابة لحالة اجتماعية يحكمها تقليد السابقين واتباع خطى الآباء والأجداد، وتعيّن على نسج خيوطها الكالحة ضغوط السلطة الاستعمارية
(الخارجية) تارة، والمحلية (الداخلية) تارة أخرى، وهي الضغوط التي استهدفت عزل الشريعة عن الحياة، ونسف الجسور المقامة بين الطرفين، بما فيها "الفقيه" الذي أُريد له ألاّ يشارك في عملية التغيير أو الصياغة أو إعادة تعديل الوقفة، وأن يتحول إلى واعظ، أو خطيب جمعة تقليدي، أو مدرّس دين ولغة عربية يتلقى في معظم الأحوال أجره الشهري من الحكومات.
وإذْ تعمد أن يكون الأجر زهيداً لا يكاد يسدّ الرمق، وكان العالم أو الفقيه غير قادر على أي حرفة إضافية تعينه على الارتقاء بمستواه المعاشي صوب الحد الأدنى من سوّيته المعقولة، انعكس ذلك كله عليه ، فأصبح مسحوقاً ، ممتهناً ، ضعيفاً لا يملك في معظم الأحيان " الشخصية " الآسرة القوية المؤثرة التي تمكنه من أداء دوره المطلوب.
لقد رأينا جميعاً هذا بأم أعيننا .. ثمة حالات استثنائية بكل تأكيد، ولكنه الاستثناء الذي يعزز القاعدة ولا ينفيها.
يحدثنا الأستاذ (محمد قطب) في كتابه (واقعنا المعاصر) عن اللعبة التي مارستها السلطات الاستعمارية في مصر مع خريجي الشريعة واللغة العربية (كنموذج لما جرى في معظم ديار المسلمين يومها). وكيف أعانها عليها، بمرور الوقت، قوم آخرون من سكنة ديار المسلمين أنفسهم والمحسوبين عليهم، وآل الأمر إلى أن يصير "العالم" أو مدرس الشريعة والعربية، أضحوكة بين الناس، يُتسلّى بها حتى في عروض السينما والإذاعة والتلفاز.
"تولى المستر دنلوب ـ القسيس الذي عينه كرومر مستشاراً لوزارة المعارف ـ مهام منصبه ، وكان في يده السلطة الفعلية الكاملة في وزارة المعارف المصرية الإسلامية (وحين يكون القسيس على رأس السلطة في وزارة التعليم، فما الذي يُتوقع أن يكون من أمر التعليم ؟)
"جاء دنلوب ليضرب الأزهر ـ موطن الخطر على كنيسة المسيح ـ ولكن بغير حماقة نابليون التي كانت سبباً في استثارة المسلمين.
" ترك دنلوب الأزهر على ما هو عليه لم يتعرض له على الإطلاق، ولكنه ـ على الأسلوب البطيء الأكيد المفعول ـ فتح مدارس جديدة تعلم (العلوم الدنيوية) ولا تعلّم الدين إلاّ تعليماً هامشياً هو في ذاته جزء من خطة إخراج المسلمين من الإسلام.
" ... لقد كان المتخرج من هذه المدارس ـ بعد أربع سنوات فقط ـ يُعيّن فور تخرجه في دواوين الحكومة (براتب ذي قوة شرائية عالية) أما خريج الأزهر الذي يقضي في الدراسة عشرين سنة من عمره في بعض الأحيان فلا يجد عملاً، وإن وجد عملاً في إقامة الشعائر في المسجد فبمائة وعشرين قرشاً، تكفي للحياة نعم ، ولكنها حياة ذليلة ضئيلة بالنسبة لخريج المدرسة الابتدائية الذي يعمل في الديوان!
" لقد كان الانتساب إلى الأزهر فيما مضى شرفاً تتسابق إليه الأسر .. أما في عهد دنلوب فلم يعد يذهب إلى الأزهر إلا الفقراء الذين يعجزون عن دفع مصروفات المدارس الحديثة ، وفي الوقت ذاته ينالون جزاء فقرهم ضياعاً في المجتمع وهواناً فيه.
" .. أما المناهج التي وضعها دنلوب في مدارسه (فقد استهدفت اغتيال وتشويه اللغة العربية والدين والتاريخ ) إذ كان الراتب الذي يتقاضاه المدرسون من أصحاب المؤهلات العليا اثني عشر جنيهاً، إلا مدرس اللغة العربية وحده يتقاضى أربعة جنيهات. وكان لهذا الوضع انعكاساته ولا شك في داخل المدرسة أو في المجتمع على اتساعه. فأما في داخل المدرسة فلم يعد مدرس اللغة العربية هو المقدم بل أصبح في ذيل القافلة يتقدمه المدرسون جميعاً ـ بل حتى فراش المدرسة أحياناً ـ ومن ثم لم تعد له كلمة في المدرسة ، فلا هو يُستشار في شؤونها، ولا هو يشارك في شيء من إدارتها، ولم يعد له كذلك عند التلاميذ احترام .. بينما يحظى مدرس الإنجليزية بالذات بأكبر قدر من التوقير والاحترام .. أما في المجتمع فهو أشد ضياعاً منه في المدرسة ـ بسبب انحدار راتبه ـ ويصبح مادة دائمة للسخرية يتحدث الناس عن جهله وتخلفه وضيق أفقه وفقره وانحطاط مستواه الاجتماعي والفكري .. وحين يصبح مدرس اللغة العربية في هذا الوضع المهين الذي لا يبعث على الاحترام فإن وضعه يؤثر حتماً على المادة التي يدرّسها. وقد كان هذا هو الهدف المقصود من وراء ذلك التدبير الخبيث.(5/254)
" .. أما درس الدين في مناهج دنلوب فلا يقل سوءاً إن لم يكن الأسوأ. فمدرس الدين هو نفسه مدرس اللغة العربية الذي وضعه دنلوب في ذلك الوضع المزري المهين ، ولكن يزيد عليه أن أكبر المدرسين سناً هو الذي يوكل إليه تدريس الدين .. وزيد على ذلك أن حصة الدين توضع في نهاية الجدول المدرسي .. فيتلقاها التلاميذ وهم في حالة الضجر والإعياء .. ينتظرون دق الجرس لينفلتوا إلى الشوارع والبيوت، ويتلقونه من مدرس عجوز فانٍ يسعل، ويتفل ويتحرك في تراخٍ ظاهر، فيقترن درس الدين في نفوسهم بالعجز والفناء والضجر والرغبة في الانفلات، فوق أنه درس ميت في طريقة تدريسه، فهو مجموعة من النصوص تُلقى لتُحفظ حفظاً وتُستظهر، بلا حركة ولا حياة ولا روح!
" .. ولكي تعلم أنها خطة مقصودة لتنفير التلاميذ من الدين، فلتعلم أن الدين في المدارس التبشيرية التي يؤمها التلاميذ المسلمون لا يقتصر على درس الدين المسيحي ( الذي تخصص له الساعات الأولى ويُحاط بالنشاط والفرح والبهجة) بل هو روح تُلقى إلى التلاميذ في كل مناسبة، في أثناء الدروس واللعب والوقوف في الصف والانصراف من المدرسة، ومن ثم يكون ذا أثر عميق في نفوس التلاميذ، ولا يكون درس الدين المتخصص رقعة في الثوب متنافرة معه، وغير متناسقة (كما هو الحال مع الدين الإسلامي) بل قطعة طبيعية مع نسيج الثوب متناسقة معه ومزينة له.
" وزيادة في النكاية لدرس الدين (الإسلامي) فقد وضعه المنهج الدنلوبي ضمن المواد الإضافية التي تُحذف في جدول الصيف المختصر الذي يقتصر على المواد الرئيسية، فيُحذَف منه الدين والرسم والأشغال اليدوية والألعاب الرياضية، وهكذا يصبح في حس التلاميذ مادة هامشية ليس لها اعتبار".
في محاضرة عن " قيمة التاريخ " ألقيتها في الموصل قبل عدة سنوات أشرت إلى ما يمكن اعتباره إحساساً بالنقص "مركب نقص" يعاني منه طلبة أقسام التاريخ تجاه الفروع المعرفية الأخرى: إنسانية وصرفة وتطبيقية، بينما نجد هؤلاء الطلبة في جامعات العالم المتقدم يتمتعون بأعلى وتائر الثقة والطموح والاعتقاد بأنهم يمضون للتخصص في واحد من أكثر فروع المعرفة الإنسانية أهمية وفاعلية، ونحن نعرف جيداً كيف أن العديد من قادة الغرب وساسته ومفكريه والمهيمنين على مفاصل الحياة الحساسة فيه هم من خريجي التاريخ.
الحالة نفسها تنطبق ـ بدرجة أو أخرى ـ على طلبة علوم الشريعة، بل إننا قد نجد بعضهم ينحدر باتجاه وضعية من الإحساس بالامتهان النفسي والاجتماعي لم يأذن بهما الله ورسوله لعلماء هذه الأمة ودارسي علومها الشرعية.
وقد يقتضي الأمر أن نقف لحظات عند مسألة (الزي) التي أُرغم طلبة العلوم الشرعية وخريجوها على البقاء تحت معطفه، في مساحات واسعة من عالمنا الإسلامي الفسيح.
والزي المتميز، إذا أردنا الحق، سلاح ذو حدين، قد يكون إيجابياً في حالة، وقد ينقلب إلى النقائض السلبية في حالة أخرى .. وفقهاؤنا زمن فاعليتهم ما كانوا يتميزون بلباس خاص، اللهم إلا بجزئيات متفرقة، قد تتعلق بالعمامة حيناً، وبالرداء حيناً آخر، ولكنهم في كل الأحوال ما كان يفصلهم عن مجتمعهم زي محدد بتفاصيله كافة، يجعلهم فئة متميزة بين الناس .. كانوا ملتحمين مع الحياة والناس في كل شيء، بما في ذلك تقاليد الملابس والأزياء، وهم ـ يومها ـ حتى لو تميزوا بهذه، فإن تميّزهم ما كان يحول بينهم وبين الاندماج في شبكة العلاقات الاجتماعية حيث تنمحي فواصل "التغريب" بينهم وبين سائر الناس.
أما في القرون الأخيرة فإن الفقيه، وقد أريد له أن ينسحب من الحياة، أن يبعد
أكثر فأكثر عن الالتحام الفعّال بالمجتمع، فإن تميزه على مستوى اللباس يصير رمزاً للعزلة والتغرب، فإذا ما انضاف إليه ضعف القدرة المالية على تحسينه وتجميله والاضطرار ـ بالتالي ـ للتعامل معه بعيداً عن المطالب الجمالية، كما هو الحال لدى علماء الطوائف الأخرى، أدركنا كيف يصير الزي ـ أحياناً ـ حلقة أخرى من حلقات اللعبة الماكرة التي أُريد لها أن تمضي بعلمائنا إلى هدفها المرسوم،÷ فتزيدهم دماراً نفسياً واجتماعياً وتفقدهم ـ بالتالي ـ أي قدر من الاحترام وأي قدرة جادة على التغيير أو تسلم مواقع قيادية فاعلة.(5/255)
نحن ـ إذن ـ قبالة حالة نفسية ـ اجتماعية ـ وظيفية تتطلب العلاج والتجاوز وإيجاد البدائل المناسبة لعالم متغير .. عالم تشاء إرادة الله سبحانه الذي لا رادّ لقضائه أن تشتعل فيه على مدى البصر، في مشارق الأرض ومغاربها، قناديل الصحوة الإسلامية المباركة التي تتطلب ترشيداً، من أجل ألاّ تنعطف بها السبل وتضل الطريق بين الإفراط والتفريط .. بين تشدّد لا يشكمه ويعيده إلى الجادة إلاّ العلم الشرعي المنضبط الصحيح، وتسيّب لا يكفه عن الترهّل والارتجال الكيفي إلا العلم الشرعي المنضبط الصحيح. وفي الحالتين لابد من عودة الفقيه، أو العالم، إلى قلب الحياة وتسلمه كرة أخرى مواقع الريادة والقيادة .. لابد من التحقق بأقصى وتائر الفاعلية والتألق من أجل تحقيق الهدف الملح، قبل أن يفلت الزمام وتتشرذم الصحوة المدهشة، ونفقد جميعاً القدرة على توظيفها تاريخياً من أجل تنفيذ المشروع الحضاري الإسلامي الذي آن له أن ينزل إلى الحياة لكي يجيب ـ كما يقول جارودي ـ على كل الأسئلة الكبيرة التي تؤرّق الإنسان في العصر الراهن، ويقدم البديل المناسب بعد انهيار جل النظم والايديولوجيات الشمولية الوضعية التي لم تعرف الله.
وإذا كان الاستعمار يوماً ـ قد مارس دوره الماكر في لعبة تجهيل العالم وإفقاره
وتعجيزه وتغريبه، ومضى أكثر لكي يعزله تماماً عن الحياة و "يفصله" على الصورة التي يريد فما يلبث أن يصير "حالة" يتندّر بها المتندّرون، فإن هذا "المؤثر" السيء قد غادر بلادنا في نهاية الأمر، فلسنا ملزمين بالاستمرار على تقاليده، ولابد من التداعي لتعديل الوقفة الجانحة التي صنعناها بأيدينا ـ أولاً ـ ما في هذا شك ، ثم جاء الاستعمار لكي يزيدها انحرافاً وجنوحاً.
[ 2 ]
ابتداءً لابد من إعادة النظر في مسألة وجود كليات أو معاهد للشريعة منعزلة عن السياقات الأكاديمية. ألا يمكن ـ مثلاً ـ أن تخترق "موضوعات" أو "مفردات" علوم الشريعة سائر الكليات والمعاهد المعنية بالعلوم الإنسانية، أو أن تؤسس أقساماً أو فروعاً لها في تلك الكليات والمعاهد لكسر العزلة، وتحقيق التحام أكثر بين مقاصد الشريعة وبين سائر المعارف الإنسانية: كالإدارة والاقتصاد، والقانون والسياسة، والنفس والاجتماع ، والجغرافيا والتاريخ ،
واللغة والآداب والفنون .. فيكون هذا فرصة مناسبة للتحقق أكثر فأكثر بإسلامية المعرفة، أو على الأقل، تنفيذ بداية صحيحة قد تؤول، مهما طال الوقت، إلى نتائجها المنطقية المتوخّاة
في التعامل مع سائر المفردات المعرفية، في شتى التخصصات، من خلال الثوابت الإسلامية نفسها؟
قد يعترض على هذا بضرورة أن يكون هناك ـ في نسيج الأنشطة الجامعية ـ مؤسسات أكاديمية مستقلة لعلوم الشريعة، من أجل تخريج المتخصصين في هذا الفرع المعرفي بالذات الذي قد تلحق به، قدر ما يسمح به المجال، موضوعات معرفية أخرى، في هذا الحقل أو ذاك، ولكن تبقى مهمة هذه المؤسسات منح الشهادة في علوم الشريعة وليس في أية علوم أخرى.
وهذا حق، وهو ضرورة من ضرورات التخصص العلمي، ولكن هل يمنع هذا من تنفيذ صيغة مضافة تتمثل في مغادرة العلوم الشرعية لمؤسساتها التخصصية والتحامها مع الفروع والأقسام والمعاهد والكليات الإنسانية، بل وحتى العلمية الصرفة والتطبيقية، لتحقيق هدفين ملحّين: أولهما: ذلك الذي أشرنا إليه قبل لحظات من محاولة وضع التأسيسات الأولى لإسلامية المعرفة التي لن تتحقق ما لم يتم اللقاء بين النمطين المعرفيين، فيصير الوحي والوجود معاً، مصدرين لصياغة المفردات ؟
وثانيهما: كسر حاجز العزلة بين علوم الشريعة والحياة، وإعادة الدم إلى شرايينها المتصلبة، ومنحها الحيوية والمرونة التي تمكنها من التموضع في قلب العصر لا بعيداً عنه.
قد يعترض ـ أيضاً ـ بالقول: إن ساعات الفروع والأقسام الإنسانية لا تسمح باستضافة العلوم الشرعية، أو بأن مادة " الثقافة الإسلامية " أصبحت البديل المناسب للقاء بين الطرفين.
وهذا حق كذلك، لكن تبقى هنالك تساؤلات في هذا السياق قد تخطئ وقد تصيب: إن
"ساعات" الفروع والأقسام الإنسانية ليست قدراً نهائياً لا فكاك منه، ولطالما جرى تكييفها واستبدالها وإعادة جدولتها في العديد من الكليات لتحقيق غرض أشد إلحاحاً، ومن ثم فإنه ليس مستحيلاً ـ إذا كنا جادين في إيجاد مواقع مناسبة لعلوم الشريعة في الكليات الإنسانية ـ أن نعيد الترتيب فيما يعطي لهذه العلوم الفرصة المناسبة في خارطة الموضوعات المقررة على مدى سنوات الدراسة الجامعية.(5/256)
وبالنسبة للثقافة الإسلامية فانها حققت ولا ريب قدراً طيباً لدى استضافتها في المعاهد والكليات المختلفة، ولكنه ـ على أي حال ـ ليس القدر المطلوب، لأنها لم تتجاوز ـ في معظم الأحيان ـ ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً، في الأسبوع، لا تكاد تغطي سوى جوانب محدودة من فكر الإسلام وثقافته، فضلاً عن معارفه الشرعية، ويتم فيها التعامل ركضاً، على سطح الظواهر والمفردات، دونما أيّ قدر من التعمق والإيغال. ويتخرج طالب القانون أو السياسة أو الإدارة أو الاقتصاد أو الآداب.. إلى آخره وهو لا يملك عن الإسلام سوى شذرات وقطوف وخطوط عامة في أحسن الأحوال.
إن مادة "الثقافة الإسلامية" ضرورية لتكوين بعض الأطر الفكرية الأصيلة في عقل الطالب الجامعي، لكن هذا وحده لا يكفي إذا أردنا ان يكون القانوني والاقتصادي والإداري والمؤرخ والأديب متوافقين في نبضهم ومعرفتهم وأنشطتهم التخصصية مع مطالب هذا الدين ومقاصد شريعته.
قد يكون هذا حلم، أو هدف بعيد المنال، ولكن الأعمال الكبيرة تبدأ دائماً بالحلم .. بالطموح إلى الأهداف البعيدة .. ورحلة الألف ميل ـ كما يقول المثل ـ تبدأ بخطوة واحدة.
من ناحية أخرى، فإن على المعاهد والكليات المعنية بعلوم الشريعة، أن تتقبل بدورها استضافة أكبر قدر ممكن من موضوعات المعرفة الإنسانية المذكورة، من أجل تمكين طلبة هذه المعاهد والكليات من المعارف المعاصرة في أحدث كشوفها ومعطياتها، ومنحهم الخلفيات الكافية عنها، الأمر الذي يتمخّض ولا ريب عن جملة نتائج، منها ـ على سبيل المثال ـ الإعانة على إزالة حواجز العزلة والتغريب بين الشريعة والمعرفة، وبينها وبين الحياة.
ومنها جعل خريجي هذه المؤسسات أكثر حيوية وقدرة على الخطاب، ووضعهم، بتمكينهم من معارف العصر، في قلب العصر، قديرين على النقد والمقارنة والتمحيص .. قديرين ـ أيضاً ـ على إيصال مطالب المعرفة الشرعية، والتحقّق بمقاصدها، في ضوء تناقضات وإحباطات المعطيات المعرفية الوضعية، وعلى إسهام أكثر فعالية في صياغة المشروع الحضاري الإسلامي البديل.
ان هذا سيقدم ـ بدوره ـ ثمرة أخرى .. تجاوز الإحساس بالنقص الذي أشرنا إليه، والذي هيمن على أجيال المعنيين بالعلوم الشرعية عبر القرنين الأخيرين، والتحقق بالثقة والاعتزاز بالذات، في وتائرها المعقولة التي تتجاوز بهؤلاء الخريجين حالات العقم والشلل وعدم القدرة على الإبداع والإحسان والابتكار.
لقد آن الأوان لتجاوز الاستسلام لتقاليد منهجية قادمة من عصور عتيقة هي غير
عصرنا، محملة بموضوعات ومفردات لم تعد تصلح للقرن الحادي والعشرين، واستبدالها بمناهج أكثر مرونة، تملك القدرة على استضافة واستيعاب المعارف الحديثة، وتمكّن المتعاملين معها من تجاوز العزلة والتغرب والانقطاع، إلى تنفيذ حوار فعّال مع تحديات العصر وهمومه المعرفية والثقافية، والإعانة ـ بالتالي ـ على بلورة وصياغة المشروع الحضاري المرتجى.
وفي السياق نفسه يُستحسن أن نكون حذرين من الانسياق وراء التقسيمات التقليدية لأجدادنا أنفسهم، وهم يتحدثون عن علوم "نقلية" وأخرى "عقلية"، وكأن هناك جداراً فاصلاً بين العلمين.
ويتساءل المرء: ألم يدخل الإسلام لكي يصوغ العلوم العقلية، ويتوغل في جزئياتها ومسالكها برؤيته المتميزة وتحليله الخاص؟ ويتساءل ـ كذلك ـ: ألم تكن العلوم النقلية نفسها عقلية بمعنى من المعاني، أي بكونها استجابة ناجحة متفردة لمطالب العقل البشري في هذا الفرع المعرفي أو ذاك؟
إننا بحاجة إلى التريث قليلاً ونحن نتعامل مع التقسيمات والمصطلحات، وأن نتجاوز الكثير منها ـ إذا اقتضى الأمر ـ لكي ننحت ونصوغ مفرداتنا المنسجمة ورؤيتنا العقدية المتميزة.
إن الحلقات الإسلامية لا تزال تعاني من ثنائية يمكن لمؤسسات علوم الشريعة أن تعين على تجاوزها: ففي أحد الطرفين يقف إسلاميون متمرسون بالمعرفة المعاصرة، ولا يكادون يعرفون شيئاً عن علوم الشريعة، وفي الطرف الآخر يقف إسلاميون متمرسون بعلوم الشريعة، ولكنهم لا يكادون يعرفون شيئاً عن العلوم والمعارف الحديثة.
والخندق عميق، والهوة محزنة ولا ريب، والنتائج السيئة لهذا الانفصال، أو الثنائية، تنسحب على مساحات واسعة من الجهد الإسلامي المعاصر الذي يلتحم بالحياة الثقافية والمعرفية دونما عمق فقهي، أو يمضي بالايغال في هذا العمق حيناً آخر، بعيداً عن مجرى الصراع الفكري المتشكل قبالته صباح مساء.
ولقد أوقعت هذه الثنائية، الطرفين، في "مطبات" عديدة، قد يقود تراكمها إلى تشكل إرث من الأخطاء التي يصعب تداركها ما لم نسارع بإيجاد الحل المناسب .. بالتحقق بتقارب بين الطرفين من خلال بذل جهود استثنائية والاتفاق على منهج أكثر توازناً يضع في حساباته قطبي المسالة .. حيث يصير التعامل الأكاديمي مع علوم الشريعة فرصة طيبة لتحقيق الوفاق.
[ 3 ](5/257)
وما من ريب في أن فقه الحياة التي أراد لنا هذا الدين أن نعيد صياغتها وفق مقاصده، وأن نمسك بزمام قيادتها كي لا يعبث بمقدراتها المضلّون عن سبيل الله، ويميل بها الذين يتبعون الشهوات والأهواء والظنون الميل العظيم الذي حذّر منه كتاب الله.. إن فقه الحياة هذا ليس حالة بسيطة ذات وجه واحد، وإنما هو حالة مركبة ذات وجوه شتى. فهناك الفقه الشرعي الذي يتعامل مع الجزئيات والكليات، أي مع مفردات الشريعة في هذا الجانب أو ذاك، ومع مقاصدها الكبرى التي تجعل المعطيات الفقهية تصب في هدفها الكبير ذي الفضاء الواسع سعة الحياة نفسها.
هناك الفقه الدعوي الذي يمنح الناس في كل زمان ومكان القناعة بأحقية هذه الشريعة في حكم الحياة وقيادتها.
وهناك ، فضلاً عن هذا وذاك، الفقه الحضاري الذي يعيد تشكيل الحياة وفق مقاصد الشريعة في ضوء إدراكه لقوانين الحركة التاريخية، وسنن الله في الخلق والعالم والوجود، وعلى هدى رؤية مقارنة نافذة لخرائط العالم الحضارية، من أجل صياغة مشروعه الحضاري المتميز والتحقق في الوقت نفسه بصيغ مناسبة في التعامل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاء.
إن الفقه الحضاري، كما أنه عمل في التاريخ للبحث عن أصول وقوانين التشكل الحضاري، فهو عمل في صميم العصر، وتطلع للمشاركة في المصير البشري من خلال صياغة المشروع الحضاري البديل الذي يستمد حيثياته ويتلقى توجيهاته من مقاصد الشريعة وآلياتها الفقهية، والذي يجاهد من أجل التجذر في الأرض والانتشار فيها بقوة الفقه الدعوي وآلياته الفاعلة.
والآن، فإن إحدى مشاكل المناهج الجامعية بصدد علوم الشريعة أنها تعطي طلابها الفقه الشرعي، وتمضي معهم في الفقه الدعوي إلى منتصف الطريق، ولكنها لا تكاد تعطيهم شيئاً عن الفقه الحضاري. فها هي ذي الحلقة الضعيفة في "عقل" خريجي المعاهد الشرعية والتي تساعد بدورها على حفر الخنادق وتعميق الهوة بين الشريعة والحياة، وتعين على تأكيد تلك الثنائية المقيتة التي عزلت، ولا تزال حشود الخريجين عن الدخول في نسيج الحياة، وإعادة صياغتها، فضلاً عن تسلم مراكز القيادة فيها والشهادة عليها.
ومما يرتبط بهذا، ذلك الغموض الملحوظ، وعدم التحديد بصدد المصطلح الحضاري، فإن المثقف المسلم، والمتخصص في العلوم الشرعية على السواء، لا يكاد يفقه شيئاً عن مفردات كالحضارة والمدنية والعمران والثقافة والمعرفة والنظم والفكر والعلوم والآداب والفنون .. إلى آخره ..
ويزيد الأمر إرباكاً ذلك الخطأ المنهجي الذي يهيمن على طرائق تدريس الحضارة الإسلامية في معظم معاهد وجامعات البلدان العربية والإسلامية، حيث تفكك هذه الحضارة إلى سياقات منفصلة كالنظم، والفكر، والعلوم، والنشاط الاقتصادي أو العمراني .. إلى آخره، تعطي كل منها في سنة أو بعض سنة، بحيث إن الطالب يتخرج وهو لا يكاد يفقه شيئاً عن الملامح الأساسية للحضارة الإسلامية، وشروط تشكلها ونموها، وعوامل انكماشها وجمودها، وانهيارها في نهاية الأمر.
إن تقطيع جسد هذه الحضارة، وتقديمها للطالب مزقاً وتفاريق، سيفقدها شخصيتها المتميزة وملامحها المتفردة التي تمنحها الخصوصية بين الحضارات، فتصير مجرد أنشطة ثقافية أو معرفية أو مدنية في هذا المجال أو ذاك، قد تتميز ببعض الخصائص، لكنها لا تعكس التصور النهائي لرؤية المنتمين إليها للحياة والعالم والوجود. وهكذا تصير دراسة الحضارة الإسلامية ـ في نهاية الأمر ـ لهاثاً وراء مبسوّغات الجزية، ودفاعاً عن موقف الإسلام من فرضها على أهل الكتاب، وركضاً وراء قوائم الضرائب "اللا شرعية" ومتابعة للمحتسب، وهو يتجوّل في الأسواق لمعاقبة المخالفين.. كما تصير استعراضاً وصفياً صرفاً لمنظومة الدواوين التي لا أول لها، ولا آخر، وللصراع على منصب الوزارة، وللترتيبات الأمنية والعسكرية للشرطة والجيش. كما تغدو ـ في السياق العلمي ـ تصنيفاً فجاً للعلوم النقلية والعقلية، وإحصاءً رتيباً للمدونات التي كتبها الأجداد.. وفي سياق العمران يلقن الطلاب وصفاً مادياً مملاً لمفردات الريازة وقياساتها وأحجامها بعيداً عن الخلفيات الرؤيوية التي وضعت لمساتها عليها وقدمتها للعالم، وهي تحمل خطاباً معمارياً عز نظيره بين الثقافات.
ويتخرج الطالب الجامعي، وهو لا يكاد يملك معرفة معمقة بخصائص حضارته(5/258)
الإسلامية، وبالمكونات التي تميزها عن الحضارات الأخرى، فضلاً عن أنه يتخرج وهو لا يملك الاعتزاز بهذه الحضارة، بما أن النشاط التدريسي في التاريخ والحضارة ينطوي ـ بالضرورة ـ على بعد تربوي، لكن هذا البعد يتفكك ويغيب من خلال الخطيئة المنهجية التي لا تكاد تمنح الطالب أي ملمح يجعله يتشبث بتراثه الحضاري، باعتباره أقرب إلى مطامح الإنسان ومهماته الأساسية في العالم. بل إننا قد نصل في نهاية الأمر إلى نتائج معاكسة تتمثل في رفض حشود الخريجين لتراثهم الحضاري، وإنكاره، وإعلان التمرد عليه، والاندفاع ـ في المقابل ـ باتجاه إغراءات الحضارات الأخرى وإغواء بريقها الظاهري الخادع، وبخاصة الحضارة الغربية. وبهذا يصير تدريس الحضارة الإسلامية سلاحاً نشهره ضد أنفسنا لتدمير الثقة بمقومات حضارتنا وبقدرتها على الاستعادة والفاعلية في صميم العصر، وفي مشاركاتها المحتملة في صياغة المصير، كما يؤكد العديد من المفكرين والباحثين والمستشرقين الغربيين. وللأسف فإن هؤلاء القادمين من خارج دائرة الإسلام كانوا أكثر قدرة، بسبب من رؤيتهم المنهجية الشمولية، على متابعة خصائص الحضارة الإسلامية وصيرورتها والتأشير على عناصر تميزها وتفوقها، وهم الذين أكدوا على أن بصمات الإسلام ونسقه (الموحد) يمضيان لكي يطبعا كل خلية من خلايا هذه الحضارة، ويشكلا كل صغيرة أو كبيرة في معمارها الواسع المتشعب.
وما من شك في أن العقل الغربي تفوق علينا في منهج الدراسة الحضارية، كواحدة من حلقات تفوقه الراهن، وليست محاولة المؤرخ البريطاني المعاصر (أرنولد توينبي) في مؤلفه المعروف (دراسة في التاريخ) بعيدة عن الأذهان. إنه يتعامل مع الحضارات البضع وعشرين التي درسها عبر استقرائه للتاريخ البشري كما لو كانت كل واحدة منها تحمل شخصية متميزة، وملامح متفردة، وخصوصيات تفرقها عن الحضارات الأخرى، ونسغاً يجري في عروقها هو غيره في الحضارات الأخرى.
ونحن اليوم؛ إذ ندرس حضارتنا في المعاهد والجامعات بأمس الحاجة إلى منهج قريب من هذا، يسعى لأن يتعامل مع هذه الحضارة كشخصية أو تكوين متميز: بدءاً وصيرورة ونمواً وانكماشاً وفناء. فإذا تذكرنا أن حضارتنا هذه لم تتشكل من العدم، ولم تلمّ شتاتها بطريقة ميكانيكية من هذه الحضارة أو تلك فتكون عالة عليها، وأنها إنما نشأت بتأثيرات إسلامية، ووفق شبكة شروط وتأسيسات محددة صاغها هذا الدين، وأنها تكوّنت في رحم إسلامي، وليس في أي رحم آخر، وأن بصمات كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على حجيراتها وخلاياها ونبضها من الأمور التي لا يكاد ينكرها باحث جاد.. إذا عرفنا هذا كله أدركنا كم تكون جنايتنا على طلبتنا بتقديم هذه الحضارة مزقاً وتفاريق، وبنوع من فك الارتباط الساذج أو الخبيث الذي يتعمد التعامل معها، كما لو لم يكن للتأثيرات الإسلامية في تكوينها أي حضور ملحوظ، اللهم إلاّ في خانة ما يُسمّى بالعلوم النقلية المعتقلة في المصنفات العتيقة والبعيدة عن تشكيل الحياة والنزول إلى المؤسسة والشارع والمدرسة والبيت.
إن تحديات الحضارة الغربية المعاصرة، ومطالب المشروع الحضاري البديل، يقتضيان ـ كما ألمحنا ـ إجابة كونية بمستوى المشكلة، ولن يكون ذلك دون المزيد من الإيغال في حلقة الفقه الحضاري المتجذر في التاريخ والعقيدة على السواء.
إن مبدأ (التوحيد) المحرر، الذي هو نسغ حضارتنا وجوهرها ومغزاها، والقاسم المشترك لمفرداتها كافة، يقف قبالة كل الصنميات والطاغوتيات والحتميات التاريخية والمادية التي حكمت العقل والوجدان الغربي طويلاً، والذي يجد نفسه اللحظة، مسوقاً لأن يبحث عن الجواب.. عن صيغة للتحرر من الضغوط والخروج من المأزق .. وأيضاً للتحقق بالتوازن الضائع في حياته بين المادة والروح، والذي لن يعثر عليه إلا في إطار هذا الدين.
إن الفقه الحضاري يستدعي دراسة علمية منهجية متأنية لتاريخنا الحضاري من أجل استمداد مؤشرات العمل في الحاضر والمستقبل، وهي ـ كما هو واضح ـ ليست مسألة ترفيه، ولا حتى أكاديمية صرفة، وإنما هي مسألة (حيوية) بكل معنى الكلمة، لأن حلقة كهذه معنية باستخلاص البدائل التي يمكن أن نتقدم بها إلى العالم في سياق مشروع حضاري يشارك في صياغة المستقبل. فضلاً عن أن فقهاً كهذا يمنحنا صورة عن مصداقية تحول الشريعة وتأسيساتها التصورية والاعتقادية إلى واقع تاريخي متحقق في الزمن والمكان، أي في التاريخ، كما أنه سيعرفنا على عوامل الانهيار الحضاري التي ساقتنا إلى المواقع المتخلفة في خارطة العالم، عندما أخذ أجدادنا يقلدون بدلاً من أن يبدعوا، وعندما هيمنت الروح الإرجائية التي فصلت الإيمان عن مقتضياته العملية، وعندما ساد الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، وعندما لم تلتفت القيادات الإسلامية المتأخرة ـ كالمماليك والعثمانيين .. ودول الطوائف ـ إلى مغزى إلحاح القرآن الكريم على التحقق بالقوة، ولم تول الاهتمام الكافي لتحديات التكنولوجيا، وبخاصة تكنولوجيا السلاح .. إلى آخره ..(5/259)
ولطالما درّسنا طلبتنا بإسهاب حيناً، وإيجاز حيناً آخر، عوامل سقوط هذه الدولة أو تلك من دول الإسلام كالأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين.. إلى آخره .. لكننا لم نحاول ـ إلا نادراً ـ أن نقف طويلاً عند ظاهرة انهيار الحضارة الإسلامية نفسها ـ في سياقها التاريخي ـ بعيدا عن الأطر السياسية المحددة، لمتابعة عوامل الشلل المتشعبة والتأشير عليها بقدر من العمق والوضوح، فيما يمكن أن يقدم لنا خبرة بالغة الأهمية تتمثل في إمكان النهوض من جديد في ضوء فهم وإدراك العوامل التي قادتنا عبر قرون طويلة، إلى التدهور والانهيار.. إننا إذا استطعنا أن نحدد الأسباب، وتمكنا ـ بعدها ـ من استجاشة قدراتنا الإيمانية وتحفيز نقاط الارتكاز في تصورنا، من أجل تجاوز هذه الأسباب، نكون قد وضعنا خطواتنا في الطريق الصحيح، وعرفنا كيف ننسج حيثيات المشروع الحضاري في ضوء وعي كهذا يسعى للمضي إلى الهدف بأكبر قدر من التحرر من عوامل الشد والإعاقة والتعطيل.
إن هذه الحلقة تحمل ـ ولا ريب ـ أهميتها الأكاديمية في سياق دراسة الحضارات، ولكنها في تجربتنا المعاصرة، تحمل ـ فوق هذا ـ قيمة مضافة لأنها ستعيننا على بناء مشروعنا الحضاري بأكبر قدر من الوعي والاستبصار، وإن معاهدنا وأقسامنا المعنية بعلوم الشريعة لهي المنوطة ـ أكثر من غيرها بناءً على ذلك كله ـ بالتأصيل الإسلامي
للدراسة الحضارية وبصياغة منهج ملائم لتحقيق ذلك، قبالة محاولات الدارسين من خارج دائرة الإسلام، سواء كانوا مستشرقين أو مسيحيين أو ماديين، وبالإفادة منها في الوقت نفسه .. وإن هذا لن يتأتى إلا بإعطاء المساحة المناسبة للدراسات التاريخية والحضارية في هذه المعاهد والأقسام.
[ 4 ]
هناك ـ بكل تأكيد ـ نقص في محاولة توظيف بعض الحلقات الجامعية للارتفاع بوتائر العمل إلى مستويات أعلى.
بعض هذه الحلقات قد وظف بالفعل ولكن في حدوده الدنيا وبصيغ مترعة بالشروخ والأخطاء (وربما الكسل العقلي)، وحلقات أخرى لم تمسها يد في هذه الجامعة أو تلك. وفي كلتا الحالتين فإن المطلوب هو الإفادة من كل الفرص المتاحة لتخرج عالم الشريعة الأقدر أكاديمياً والأكثر فاعلية وقدرة على الابتكار والعطاء.
هناك ـ على سبيل المثال ـ (البحث الخاص) أو (بحث التخرج) الذي يكلّف به طلبة المرحلة الأخيرة من البكالوريوس (الليسانس) على مدى عام دراسي بأكمله، ويشرف عليه ـ في الغالب ـ أستاذ المادة الأقرب في تخصصه الدقيق، إلى الموضوع مجال البحث.
إن البحث الخاص هذا، فرصة جيدة، في حالة الاختيار الجيد لموضوعاته، لتحقيق تلاحم أكثر مع المعرفة المعاصرة والحياة، ولجعل علوم الشريعة تغادر رفوف المكتبات العتيقة، وتنفض عنها التراب، تتحرك وتنبض وتتنفس في قلب العصر، مقدمة الشاهد "العلمي" على قدرتها التي لا يأسرها زمن أو مكان، على متابعة المتغيرات والشهادة عليها.
والمسألة قد لا تكلف كثيراً، فبمجرد أن يبذل الأستاذ جهداً مخلصاً لترتيب منظومة من موضوعات البحث الخاص في بدء كل عام دراسي، وتوزيعها على طلبة المرحلة المنتهية وفق توجهاتهم ورغباتهم وقدراتهم المعرفية قدر الإمكان، ثم متابعة عملهم أولاً بأول، من أجل أن تأتي بحوثهم بشكل أكثر احكاماً وإبداعاً، بمجرد أن يتحقق هذا وذاك، فإن حصيلة طيبة قد تتمخض عنه متمثلة بحشود من البحوث التي تمرّن خريج العلوم الشرعية على البحث، وتمنحه الدربة المنهجية الكافية، والتي تقدم ـ في الوقت نفسه ـ نويّات أو مشاريع بحوث قد ترفد المكتبة الإسلامية أو تعدها بمزيد من العطاء.
والذي يحدث ـ في كثير من الأحيان ـ اعتبار البحث الخاص، مفردة اعتيادية في مناهج المعاهد والكليات، كأية مفردة أخرى، قد لا تقتضي وقفة خاصة أو جهداً مضافاً أو اهتماماً كبيراً، وبالتالي فان التعامل معها سيتحرك عند سفوحه الدنيا، فلا يبدع ولا يعلم ولا يبتكر ولا يضيف جديداً. بل قد تنعكس الحالة أحياناً لما هو أسوأ من هذا وهي تأكيد عقلية التقليد والاجترار، والتعلق بتقاليد عصور تجاوزها التاريخ، بل ـ ربما ـ تعميق "النفرة" في نفسية الطالب إزاء كل ما يتعلق بعلوم الشريعة واندفاعه ـ في المقابل ـ صوب ما يعتبره تحققاً أكثر مع الحياة التي يعيشها بعقله ووجدانه بعيداً عن مطالب الشريعة ومقتضياتها.
وبموازاة هذا، وفي حلقة تالية، أكثر أهمية، لم يحسن التعامل مع مرحلة (الدراسات العليا : الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه) ولم توظف هذه الفرصة الفريدة للتعامل مع موضوعات غير تقليدية تعين على تحقيق الهدف المنشود.
وها هنا أيضاً يتحتم "الإحسان" في اختيار الموضوعات المناسبة لهذه الرسائل، وتوضيح مسوغاتها، وترتيب خططها، بما يجعل الطالب أقدر على التعامل معها وفق منهج أكثر دقة وإحكاماً.(5/260)
ويتذكر المرء في هذا السياق ما فعلته وتفعله مؤسسة (كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي) من وضع منظومة بحوث للدراسات العليا: بعناوينها، ومفرداتها، وخططها، ومسوغاتها، ومستوياتها الأكاديمية، بين أيدي الباحثين، ليس هذا فحسب، بل الإعانة ـ أحياناً ـ على اختيارها وتنفيذها، ونشرها في نهاية الأمر من أجل دعم أهداف المعهد وتوجهاته المعرفية.
( نشرت مجلة المسلم المعاصر ـ في القاهرة ـ في بعض أعدادها لوحات بهذه الموضوعات).
فلا يكفي ـ في هذه المرحلة ـ أن نترك الطالب يختار موضوعه، فقد يكون هذا الموضوع تكراراً لما سبق وإن عولج أكثر من مرة، وقد يكون غير مناسب، كمشروع عمل لمرحلة الماجستير أو الدكتوراه ، وقد يأتي ـ وهذا هو الأهم ـ بنتائج معاكسة قد تدفع الطالب، والقاريء معاً، إلى تأكيد العزلة والانفصام بين الشريعة والحياة.
ولا يتطلب الأمر أكثر من بذل اهتمام أكبر في مسألة الاختيار، وأن يدخل الأساتذة المشرفون الذين يفترض فيهم الإخلاص والعلم والجدية في مجال تخصصهم، بشكل أكثر فاعلية في إعانة الطالب على العثور على الموضوع المناسب، والأخذ بيده قدر الإمكان، من أجل تنفيذ رسالة ذات مستوى عالٍ من الأداء منهجاً ومضموناً.
هناك ضرورة تنمية الخبرات التدريسية لطلبة الشريعة، قبيل تخرجهم، وتعميق
قدرتهم على الخطاب الإسلامي، من خلال الدورات التدريبية، والاستفادة من علوم النفس والتربية وأصول التدريس، ومنحهم الفرصة " التطبيقية " المناسبة في التدريس في المتوسطات والثانويات، أسوة بما تفعله كليات التربية التي تبذل جهداً "مضافاً" على المطالب الأكاديمية، من خلال منح طلبتها المعرفة والخبرة والآليات التي تمكنهم من أن يكونوا "مدرّسين" أكفاء. وقد ينضاف إلى الخبرة التدريسية بالنسبة لطلبة العلوم الشرعية، الخبرة الخطابية التي يمكن أن تحفز وتمنح الدربة الكافية من خلال فرص التطبيق عبر سني الدراسة الجامعية.
هناك ـ أيضاً ـ ضرورة تحفيز كليات الشريعة ومعاهدها على صياغة وتنفيذ برامج عمل مؤسسية تضعها في قلب العصر، وتزيد من فاعليتها وتدفعها إدارة وأساتذة وخريجين إلى المواقع القيادية المؤثرة في المجتمع.
لقد أخذ هذا التقليد، الذي يتحرك تحت شعار "الجامعة والمجتمع"، ينتشر أكثر فأكثر على مستوى العديد من الكليات والأقسام العلمية عبر العقود الأخيرة، فصرنا نجد مكاتب أو مؤسسات استشارية في هذا القسم أو ذاك من كليات الهندسة، أو العلوم، أو الطب، أو الزراعة، أو القانون، أو الإدارة، أو الاقتصاد، أو السياسة، أو حتى التربية والآداب. وأصبحت هذه المكاتب تحقق ـ بمرور الوقت ـ أكثر من هدف. ففضلاً عن الالتحام أكثر بالمجتمع والحياة، وفضلاً عن منح الفرصة للكفاءات الميدانية للتنفيذ، والإضافة، والاكتشاف والإبداع، فإن هذه الممارسات تجيء بمثابة فرصة مضافة لتعميق القدرات التخصصية والمعرفية للتدريسيين، وربما لطلبتهم كذلك. هذا إلى أن ممارسات كهذه تدرّ دخلاً موفوراً يعين الأقسام والكليات، والإدارة الجامعية في نهاية الأمر، على توظيف هذا المردود لمزيد من العطاء والإبداع.
لماذا تظل معاهد الشريعة وكلياتها، في معظم الأحيان، بمعزل عن هذا كله، في الوقت الذي يتحتم أن تكون الأكثر إفادة من هذه التجربة بسبب من كثرة القنوات التي تصل بينها وبين المجتمع الذي طالما انتظر الإشارة من علمائه وفقهائه لكي يعدلوا وقفته هنا، ويعينوه على المضي هناك وفق أكثر الصيغ التزاماً بمطالب هذا الدين؟
لا يسمح المجال للاستفاضة، فلابد ـ إذن ـ من الاكتفاء بالتأشير على بعض الحلقات الممكنة في ممارسة كهذه من مثل: النشر، مشاريع التأليف المشترك، التحقيق والفهرسة، الأعمال الموسوعية، الحلقات الدراسية، الندوات والمؤتمرات، الإنتاج الفني والإعلامي، إقامة الجسور وتوسيع التعامل مع المؤسسات المعنية بالمعرفة الإسلامية، المشاركة الفعالة في أنشطة أسلمة المعرفة وصياغة حيثيات المشروع الحضاري.
سأقف لحظات عند إحدى الحلقات كمقترح للعمل يمنح كليات الشريعة ومعاهدها فرصة ميدانية للتحقق، ويدفعها باتجاه مزيد من الالتحام بالحياة الاجتماعية وبالواقع اليومي لجماهير المسلمين.
يتضمن المقترح إصدار دورية أو سلسلة كتب ميّسرة في الفقه تعالج المسائل المعاصرة والمستجدة، فضلاً عن القضايا الثابتة، وتعتمد أسلوباً حديثاً في اللغة ونهجاً يسعى لتوحيد المواقف في الحالات الخلافية الحادة التي تحّير المسلم وتربكه.
إن المسلم المعاصر عندما تجابهه معضلة ما يلجأ إلى هذا الكتاب الفقهي أو ذاك، وقد يطلب العون في أبواب المجلات المعروفة بـ "فتاوى فقهية" لكنه لا يلبث أن يجد نفسه بين الحين والحين إزاء لغة سقيمة في الخطاب الفقهي، وإجابات أو مواقف شتى وليست إجابة واحدة أو موقفاً محدداً فيقع في دائرة الحيرة والإرباك.
إنها اللغة السقيمة القادمة من القرون الوسطى، والخلافيات التي قد تصل حد التناقض الكامل، بحيث أنها ترجع بالمسلم ـ أحياناً ـ إلى نقطة الصفر كرة أخرى.(5/261)
يمكن تسمية المحاولة المقترحة بالمورد أو الدليل الفقهي للمسلم المعاصر، أو المنهاج الفقهي، أو كتاب الجيب الفقهي لمفردات المسلم اليومية .. أو غيرها من التسميات.
المهم أن تبذل مؤسسات التعليم المعنية بالعلوم الشرعية جهداً حيوياً في تقديم البدائل الفقهية الواضحة المحددة لعدد من مفردات الحياة والسلوك، وبخاصة تلك القضايا الملحة التي
لم يصدر فيها بعد رأي واضح محدد (من مثل شروط الزكاة في زمن تحول النشاط
المالي والاقتصادي إلى شبكة معقدة من المعطيات التي تنطوي على عشرات الحالات، وهي جميعاً تنتظر الجواب الفقهي .. ومن مثل قضايا الزواج والأحوال الشخصية، والتعليم والعمل الوظيفي، وعمل المرأة والمساحة المتاحة لها للتحرك في الحياة العامة، وشروط الحجاب ..
إلى آخره ..).
إن المحاولة ترتبط ولا شك بمسألة فتح باب الاجتهاد أو توسيع قنواته؛ فلابد ـ أولاً ـ من تنفيذ جهد عملي وآخر دراسي لإضاءة هذه المسألة، وقد يجيء الدليل المقترح محاولة عملية لاختبار إمكان تحقيق تغطية فقهية لأهم المستجدات.
ويُستحسن من أجل نجاح المحاولة أن يقتصر الدليل، أول الأمر، على مسائل محددة، وربما مسألة واحدة كالزكاة لكي تكون أشبه بجهد تجريبي لغرض اختبار مدى نجاحه وانتشاره، وبعدها يمكن التحول لإصدار جزء آخر يعالج مسألة أخرى كقضية الزواج، أو العمل الوظيفي، أو دور المرأة .. الخ.
على المستوى الفني يمكن أن ينفذ المشروع بصيغة دورية أو مجلة فصلية تمضي أعدادها لتغطية المفردات الملحة واحدة إثر أخرى، أو بصيغة كتاب ذي أجزاء متتالية يختص كل جزء بموضوع ما، ويتم توزيع المفردات على عدد من خيرة الفقهاء الذين يجمعون بين الإلمام بالعلوم الشرعية وبين الانفتاح على الثقافة المعاصرة وتحدياتها.
ويمكن ـ كذلك ـ من أجل كسب الوقت ولأغراض إعلامية، فتح ملف في واحد أو أكثر من المجلات الإسلامية المعنية بالموضوع، تطرح فيه ـ أي في الملف ـ كل المسائل المنهجية والفكرية والفنية التي يتطلبها المشروع، وقد تمضي المجلة للبدء في معالجة إحدى المفردات ووضع الحلول الفقهية لجوانبها كافة ثم التحوّل إلى مفردة أخرى، لكي تتشكل في نهاية الأمر بدايات جادة للدليل المقترح.
وقد يكون في سياق جهد كهذا، القيام بمحاولة ببليوغرافية لحصر وفهرسة جل الجهود الدراسية التي عالجت المسائل الفقهية من خلال رسائل الدراسات العليا، أو بشكل مستقل.. في المؤلفات المستقلة، أو على صفحات الدوريات المتخصصة، أو في إصدارات المؤسسات الشرعية والفقهية والقضائية والتشريعية ..
وقد يكون مهماً ـ كذلك ـ وضع منظومة من الموضوعات الملحة مع المسوغات والخطط البحثية التفصيلية المرسومة بعناية، لكي تكون بمثابة حقل للاختيار بالنسبة لطلبة الدراسات العليا (الدبلوم والماجستير والدكتوراه)، ويستحسن توزيع كراريس مستقلة بهذه الموضوعات ومسوغاتها وخططها على المعاهد والجامعات والمؤسسات المعنية بالدراسات العليا في مجال الفقه والعلوم الشرعية.
إن معضلات العصر الحديث ومستجداته تمثل تحدياً ملحاً للعقل المسلم، وهي بمثابة اختبار لقدرته على الفاعلية في صميم العصر من خلال اعتماد وتحكيم الأصول الإسلامية: القرآن والسنة والسوابق الفقهية، وأن الاستجابة لهذا التحدي لا تحقق فقط إجابة على العديد من الأسئلة الملحة في معترك الحياة، وإنما تؤكد ـ على المستويين العقدي والحضاري ـ قدرة هذا الدين على إعادة صياغة الحياة في كل زمن ومكان وفق تصوراته المتميزة، وهي مسألة ترتبط ـ مرة أخرى ـ أشد الارتباط بالمشروع الحضاري الذي يتوخاه المسلم الجاد بمواجهة، أو كبدي ، عن كل الإخفاقات التي شهدتها القرون الأخيرة بسبب من الممارسات الإسلامية الخاطئة نفسها، أو بتأثير من ضغوط الغير، وغزوه الفكري، والحضاري بوجه عام.
إن الاجتهاد جزء أصيل من الالتزام، فالمسلم ـ فرداً وجماعة ـ لا يكفيه أن يصلي ويصوم ويحج إلى بيت الله الحرام .. ولا يكفيه أن ينفذ مقولات عقيدته وشريعته في واقع حياته اليومي .. لا يكفيه أن يثور ويقاتل ويستشهد .. هذه كلها جوانب من التزامه بالعقيدة التي آثر الانتماء إليها، ولكن ثمة ما لا يقل عنها أهمية، وإن كان من قبيل (فرض الكفاية) الذي قد تتحمل تنفيذه هذه الجماعة أو تلك من المسلمين: حمل المعطيات الإسلامية بالفعل الاجتهادي إلى آفاق الزمن والمكان .. تحكيمها في صيرورة الحركة التاريخية .. وضعها في مركز الشاهد على كل صغيرة وكبيرة .. تمكينها من ممارسة إلزامها الدائم في كل تجربة وكل مرحلة .. جعل
(الإسلامية) الحكم والهادي والموجه والدليل الذي يعلّم ويرشد .. بل يبني ويصوغ بالمادة الإسلامية الأصيلة كل ما يقوم على ساحة الحياة من عمارات ومؤسسات، وكل ما يمارس فيها من أنشطة وفاعليات ..
حتى مدننا وشوارعنا ودورنا وأماكن ترفيهنا، يتحتم أن (نجتهد) في أن تكون امتداداً لرؤيتنا الإسلامية، لفكرنا ووجداننا الإيماني، وذوقنا الذي يميل دائماً إلى أن يربط المنظور بالغيب، والتراب بالحركة، والأرض بالسماء.(5/262)
وإذا كانت المنائر الممتدة إلى السماء إشارة على قدرة الفنان المسلم على تصميم المفردة المعمارية التي تعبّر عن تصوره للعالم والحياة والوجود، فإن حياتنا المعاصرة كلها يتحتم إن تنبثق فيها (الإشارات) التي تجتهد أن تحمل دلالتها على كل ما هو إسلامي، وأن يتغلغل الالتزام الديني في سداها ولحمتها، ويكون نولها الذي يمنح نسيجها هذا الشكل أو ذاك.
إن الاجتهاد هو ـ بشكل من الأشكال ـ حماية للتشريع الإسلامي من التيبس والتسيب، وهذه مسألة بديهية، ولكن ثقل الواقع كاد يطمس عليها. إننا منذ قرون لا نمارس الاجتهاد .. فكأننا قد اخترنا أسلوب العمل بصيغة بديهية مضادة لا يمكن قبولها: ترك الممارسة الإسلامية تصاب بتصلب الشرايين أو بالرخاوة والتوسع والإنفلات.
إن الإسلام حركة باتجاه (التوافق) مع سنن الوجود والعالم، وإيقاع الكون والطبيعة، فأحرى به أن يكون متحققاً بالوفاق مع نفسه، أي بعبارة أدق: أن يكون كل تعبير إسلامي، في هذا الجانب أو ذاك من الحياة، وإزاء هذه القضية أو تلك من قضايا الوجود والعالم، يحمل إيقاعه المتوحد مع سائر التعابير عن الجوانب الأخرى من الحياة والقضايا المتنوعة في الوجود.
نسيج وحده، هكذا يجب أن ينزل الفعل الإسلامي المتفرد، المتميز، إلى العالم .. إيقاع متوحد، وتوافق منظور، وتناغم شامل بين كل جزئيات الفعل وأطرافه. فإن لم يعن الفعل الاجتهادي على تحقيق هذا التوحد والتوافق والتناغم بين المعطيات والتعابير الإسلامية وبينها وبين العالم، فمن يتولى هذه المهمة؟ ألا يخشى أن يؤول الأمر بالممارسة إلى التشتت والتصادم والتغاير، فتفقد شخصيتها وسماتها؟
إن الاجتهاد ـ بهذا المعنى ـ تنفيذ لمهمة مزدوجة: الحفاظ على هندسة الإسلام نفسه، من جهة، وتحقيق انطباقه على الواقع التاريخي ـ من جهة أخرى ـ أي على بعدي الزمن والمكان. ولن يكون ذلك إلا لصالح الإنسان ومكانته المتفردة في العالم.
قد يقول قائل: إن جهداً كبيراً كالموسوعة الفقهية التي نفذت أقسام منها في الكويت عبر العقود الأخيرة، يمكن أن يكون كفاءً لمطلب كهذا. والجواب أن عملاً كذاك يمكن أن ينحو منحى أكاديمياً ينطوي على المعطيات الفقهية بمفرداتها كافة، ويشكل على المستوى الكمي ثقلاً كبيراً، قد يبعد به ـ بشكل أو آخر ـ عن أن يكون دليل عمل يومي (عملي) يعين المسلم بيسر وسهولة على وضع اليد على الأجوبة المناسبة لمعضلات حياته اليومية، فضلاً عن أن المطلوب بالدرجة الأولى ليس حصراً للمعطى الفقهي على إطلاقه، وإنما متابعة للمستجدات على وجه الخصوص .. لتعقيدات الحياة الجديدة .. للمطالب المتراكمة التي تزداد ثقلاً يوماً بعد يوم.. للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية التي لا تكاد تستقر على حال إلا لتتجاوزه إلى صيغ أخرى. إن متابعة كهذه ضرورية حتى على مستوى وسائل الترفيه التي تشكل إحدى انفجارات العصر، والتي تتطلب أكثر من فتوى تنير سبل التعامل معها دونما إفراط ولا تفريط، وبعيداً عن حدي العزلة والاندماج اللذين يقودان الممارسة الإسلامية إلى الشلل أو الجنوح.
ثمة ـ فضلاً عن هذا وذاك ـ ضرورة إغناء الخبرات المعرفية والتخصصية لأساتذة علوم الشريعة من خلال التوسع في تنفيذ نظام الأساتذة الزائرين، ذهاباً وإياباً (أي استدعاء أساتذة من أقسام وكليات أخرى لإلقاء محاضرات في أروقة الشريعة، وإرسال أساتذة الشريعة إلى الأقسام والكليات الأخرى للاحتكاك ببيئات تدريسية ومعرفية متنوعة)، وهذا سيمنح التدريسيين والطلبة معاً خبرات أكثر تنوعاً وخصباً على مستوى الأداء التدريسي من جهة، وإغناء التخصص وتعميقه من جهة أخرى.
هذا التبادل المعرفي لن يكون بالضرورة في سياق العلوم الشرعية وحدها، بل يُفضل أن يخرج إلى نطاق العلوم الإنسانية عامة، لتحقيق ما سبق وأن ألمحت إليه هذه الورقات من ضرورة تنفيذ حوار فعّال بين علوم الشريعة وسائر العلوم الإنسانية لتحقيق التحام أكثر بمطالب العصر ومقتضياته، واستجابة أشد فاعلية وتنوعاً وخصباً لمشاكله وتحدياته.
ولابد ـ أخيراً ـ من الإشارة إلى تجربة الجامعات والمعاهد الإسلامية التي بدأت منذ فترة ليست بالبعيدة، في هذا البلد أو ذاك، في تنفيذ مناهج أكثر حداثة في التعامل مع
علوم الشريعة وتدريسها، فكسرت طوق العزلة، والتحمت أكثر بمطالب العصر وقدرت على توظيف معارفه وتقنياته لتقريب أهدافها، وحققت الوفاق الضائع بين المعرفة الشرعية والمعرفة الإنسانية، وسعت ـ ولا تزال ـ لإقامة الجسور المقطوعة بين الفقيه والمفكر من أجل أن تضع الفقيه في قلب الحياة، وتمنح المفكر المسلم خبرة بالمعرفة الشرعية تعينه على التأصيل وتحميه من غوائل الارتجال والجنوح.
لا يستطيع المرء أن يكون مبالغاً في التفاؤل، ولكن رحلة الألف ميل ـ كما يقول المثل ـ تبدأ بخطوة واحدة، ويكفي هذه الجامعات أنها وضعت خطواتها الأولى على الطريق ونفذّت شيئاً من المأمول، وهو كثير، ولكن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه.
ومهما يكن من أمر فإن جامعات كهذه تمثل فرصة للاستفادة من الخبرة قد تعين(5/263)
سائر المعاهد والجامعات الأخرى، إذا أحسنت التعامل معها وأقامت بينها وبينها الجسور، على تعديل وقفتها الخاطئة وإغناء خبراتها التدريسية والأكاديمية، وتمكينها في نهاية الأمر من تجاوز عزلتها، والنزول إلى قلب الحياة للإعانة على إعادة صياغتها بما يريده الله سبحانه ورسول صلى الله عليه وسلم ، لا بما يرسمه لها الكهنة والوضّاعون وأرباب الظنون والمصالح والأهواء.
(*) بحث مقدّم إلى مؤتمر ( علوم الشريعة في الجامعات: الواقع والطموح) الذي عقده المعهد العالمي
للفكر الإسلامي وجمعية الدراسات والبحوث الإسلامية والجامعات الأردنية في عمان في الفترة ما بين
23 ـ 25 آب 1994 م.
=================(5/264)
(5/265)
الإعلام الإسلامي: الممارسة .. بين النظرية والواقع
د. محمد الحضيف 2/5/1427
29/05/2006
مدخل:
ظل هاجس الأسلمة، يلحّ على الإسلاميين منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، على يد الرواد، من زعماء التجديد والإصلاح، من أمثال محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وحسن البنا، وآخرين. الاستعمار الأوروبي لمعظم البلاد العربية، عبر الاحتلال العسكري، والهيمنة السياسية، أفرز آثاراً تغريبية على مجمل نواحي الحياة، وبشكلٍ خاص.. الجوانب الاجتماعية والثقافية.
أدت سيطرة مظاهر الحياة الغربية، على المشهد الثقافي والاجتماعي في العالم العربي، والقطيعة شبه الكاملة مع التراث، من حيث هو محدّد للهوّية، ومعبّر عن أسلوب حياة الناس.. إلى دفع كثير من القيادات الفكرية، والرموز الثقافية، إلى التفكير الجاد، بطرح (بدائل) إسلامية. كانت هناك دعوات لأسلمة النظام السياسي، والمعاملات المالية والاقتصادية.. والثقافة، فظهرت الكتابات، التي تؤصّل دور الإسلام في السياسة، وبرزت أيضاً .. الدعوة إلى إسلاميّة المعرفة، وكذلك أسلمة الأدب.. وهكذا في فترة لاحقة، اتخذت هذه الدعوات، شكل العمل المؤسّسي، فنشأت الأحزاب السياسية، والبنوك، والمؤسسات التعليمية، وقامت رابطة للأدب الإسلامي.. بالإضافة إلى مؤسسات إعلامية، تَركّزَ نشاطها في البداية، على إنتاج وتوزيع دروس ومحاضرات، في الشريط المسموع (الكاسيت)، ومحاولات ضعيفة، لإنتاج أعمال (درامية) على الفيديو.
إشكالية المصطلح:
مثل غيره من الأنشطة الإنسانية، واجهت محاولات أسلمة العمل الإعلامي عقبة فنية، لها علاقة بتحديد الجانب التطبيقي للمصطلح .. ونطاق عمله. المشكلة التي واجهت مصطلح (الإعلام الإسلامي)، لم تقف عند تعريف ماهية النشاط وطبيعة الممارسة، بل تعدتها كذلك إلى وضع آلية لتطبيق المصطلح نفسه، ووضعه موضع التنفيذ .. بسبب تعقد النشاط الإعلامي، وتجاوزه مفهوم الممارسة الإعلامية البسيطة المتمثلة بمحاضر يتحدث من خلال شريط كاسيت.
منذ البداية .. واجه المهتمون بأسلمة الإعلام معضلتين: العنصر البشري، ومضمون الرسالة الإعلامية. السؤال الأساس .. كان:
من الذي (يمثل) الإعلام الإسلامي؟ هل يجب أن يكون (شيخاً) .. أو شخصاً محسوباً على المؤسسة الدينية بالضرورة؟
تحوُّل النشاط الإعلامي إلى صناعة معقدة .. متجاوزاً المفهوم البدائي الأول للإعلام، جعل تحقيق هذا الشرط أمراً مستحيلاً. أدرك الداعون إلى الأسلمة أنه لا يمكن توفر (شيخ) في كل نشاط إعلامي، وأنه إن كان هذا ممكناً، في البرنامج الحواري مثلاً، فإنه يصعب تحقيقه في الدراما.
مأزق العنصر البشري المؤهل، قاد .. كنتيجة حتمية، إلى التركيز على مضمون الرسالة الإعلامية. أصبحت هناك قناعة أن الجمهور يهتم ويتأثر بـ (الرسالة)، بدرجة أكبر، وأن (المؤدّي)، أو الناقل للرسالة، يأتي بالدرجة الثانية. لكنْ .. ثمة سؤال آخر، أنتجته القناعة الجديدة:
ما هي الرسالة الإعلامية، التي يمكن أن يُعَبّرَ عنها، بأنها (إعلام إسلامي)؟
هل هي النصوص القرآنية الكريمة وتفاسيرها، والأحاديث الشريفة وشروحاتها .. و (تمثيل) السلوكيات المرتبطة بهما، من خلال فن من فنون الإعلام؟ أم أن الإعلام الإسلامي: هو كل ما دخل في دائرة (الأخلاقي)، الذي أقره الإسلام، وحضّ عليه .. كما ورد في الأثر، عن النبي صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" .. الجدل حول هذه المسألة، خَلُصَ إلى نتيجة مفادها أن الإعلام الإسلامي:
هو كل قول أو ممارسة إعلامية، منضبطة بضوابط الشريعة، دون أن يكون هناك (نص ديني) يأمر بها مباشرة.
مفهوم الإعلام (النقي):
أحدث الانفجار الإعلامي.. الفضائي منه على وجه الخصوص، رد فعل سلبي، لدى شريحة اجتماعية كبيرة. في غضون فترة قصيرة، امتلأ الفضاء العربي بالعشرات من قنوات الأفلام والموسيقى، التي لا تخضع لأي معيار أخلاقي، بل تعتمد فقط على الإثارة ودغدغة الغرائز. البث الفضائي المنفلت من أي ضابط أخلاقي سبب صدمة للتيار المحافظ العريض، في الشارع العربي.
الشكوى من ( غربة ) الإعلام العربي عن المجتمعات العربية، وانتهاجه منحى (تغريبياً)، بعيداً عن ثقافة المجتمعات العربية، وهوية الأمة.. لم تعد مقتصرة على (الإسلاميين). المشاهد العربي، المحافظ بطبيعته، شعر كذلك، بخطورة ما تبثه تلك الفضائيات، على النسق الأخلاقي للمجتمع، وبآثاره المدمرة على الشباب من الجنسين، وتهديده لتماسك الأسرة.
الواقع (الملوث) للفضائيات العربية، والإعلام العربي بشكل عام.. من وجهة نظر الشريحة المحافظة، واشتمال مضامينه، و (الرسائل الإعلامية) التي يبثها على الكثير من التجاوزات غير الأخلاقية، رفع درجة الاستياء .. وزاد من وتيرة الدعوة لإعلام (نظيف) وَبنّاء const r uctive، أو ما صار يُطلق عليه، لدى بعض (السوسيولوجيين)، والإعلاميين.. بـ (الإعلام النقي) .(5/266)