(3/204)
وللحقيقة فقط ( 5 ) ... 720(3/205)
(3/206)
وللحقيقة فقط ..(6) ... 723(3/207)
(3/208)
وللحقيقة فقط .. ( 7 ) ... 724(3/209)
(3/210)
وللحقيقة فقط ( 8 ) ... 726(3/211)
(3/212)
وللحقيقة فقط .. ( 9 ) ... 727(3/213)
(3/214)
وللحقيقة فقط ( 10 ) ... 729(3/215)
(3/216)
وللحقيقة فقط (11 ) ... 731(3/217)
(3/218)
الهاجانة : ... 733
حرب صهيونية على مواقع الإنترنت الإسلامية ... 733(3/219)
(3/220)
أساليب المجرمين في التصدي للدعوة ... 739(3/221)
(3/222)
الخديعة الكبرى .. ... 742
عالم مستعبد باسم الحرية !! ... 742(3/223)
(3/224)
أسطورة ضربة إسرائيلية لإيران؟! ... 746(3/225)
(3/226)
هل غيرت الأحزاب الهندوسية موقفها من المسلمين؟ ... 750(3/227)
(3/228)
نظرة في : " .. الليبرالية .. " من الداخل ... 752(3/229)
(3/230)
لهذا أعلنت كوريا الشمالية امتلاك السلاح النووي ... 779
والانسحاب من المفاوضات ... 779(3/231)
(3/232)
بول وولفويتز ذئب في حراسة الدجاج ... 782(3/233)
(3/234)
ظهور مسيلمة الكذاب الجديد ! ... 785(3/235)
(3/236)
النخلة المسخ ... 787(3/237)
(3/238)
هل يكون النيل الحد الجنوبي لكيان بني صهيون؟! ... 789(3/239)
(3/240)
ماذا بعد فشل أمريكا في استغلال الدين في دافوس؟! ... 794(3/241)
(3/242)
بنغلاديش بين الحملات المغرضة والقلاقل السياسية ... 800(3/243)
(3/244)
القرن الأفريقي بوابة غزو إسرائيلي لمصر والسودان ... 806(3/245)
(3/246)
القرار 1559 وفتح أبواب التدويل ... 809(3/247)
(3/248)
الإنترنت وسيلة الموساد لمحاربة الجاليات المسلمة ... 813(3/249)
(3/250)
الهجوم على الإسلام مِنْ مَنْ؟ ولماذا؟ ... 815(3/251)
(3/252)
صفحة العمل الخيري الإسلامي بيضاء مشرقة .. ... 825
والإضرار به جريمة ... 825(3/253)
(3/254)
الرد على حكماء الهزيمة ... 828(3/255)
(3/256)
السباق النووي بين الهند وباكستان ومخاوف الحرب الرابعة ... 832(3/257)
(3/258)
العمل الخيري بين التشريع والتطبيع ... 839(3/259)
(3/260)
ماذا يعني منتدى دافوس الأردن ؟ ... 842(3/261)
(3/262)
محاولات صهيونية لاختراق أفكار الشباب ... 844
عن طريق يهوديات بجنسيات مختلفة ... 844(3/263)
(3/264)
يعتبرون رضاها من رضا الرب : ... 851
' المسيحيون الصهاينة '.. في خدمة إسرائيل ... 851(3/265)
(3/266)
رسالة التخريب الأخلاقي ... 857(3/267)
(3/268)
العلاقات الهندية الإسرائيلية إلى أين؟ ... 860(3/269)
(3/270)
مناهج التعليم وخطيئة التبديل ... 864(3/271)
(3/272)
مؤتمر اليهود الأول بروتوكلات حكماء صهيون ... 877(3/273)
(3/274)
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العالم ... 882(3/275)
(3/276)
محاولات جديدة لتفتيت الكثافة الإسلامية في نيجيريا ... 897(3/277)
(3/278)
الزنا جواز مرور للأوربة ... 900(3/279)
(3/280)
التعاون اليهودي الروسيّ وآفاق المستقبل ... 902(3/281)
(3/282)
طلائع التغريب ... 907(3/283)
(3/284)
الملأ ... 911(3/285)
(3/286)
اتفاق تقسيم الثروة في السودان ... 916(3/287)
(3/288)
الشخصيات الدينية الأمريكية المتطرفة أكابر المجرمين ... 918(3/289)
(3/290)
المناهج الصهيونية وتربية الإرهاب ... 920(3/291)
(3/292)
سراويل الجنود الأمريكان لن تستر فضيحة الجيش الصهيوني !! ... 933(3/293)
(3/294)
رسالة إلى أختي المسلمة !! ... 935(3/295)
(3/296)
التنصير يعشعش في دبي ... 938(3/297)
(3/298)
أمريكا في العَراء ... 939(3/299)
(3/300)
رسالة البطريرك ' جريجوريوس '.. ... 940
وهكذا تهدم الأمة ... 941(3/301)
(3/302)
تشيني و رمسفيلد ... وخطة الحرب النووية ! ... 942(3/303)
(3/304)
السلطان عبد الحميد المفترى عليه ... 945
وقوى الشر التي تآزرت ضده ... 945(3/305)
(3/306)
من يصنع التاريخ ؟ ... 953(3/307)
(3/308)
قصة إرهابنا ... 954(3/309)
(3/310)
دور يهود المغرب العربي في تأسيس الدولة العبرية ! ... 956(3/311)
(3/312)
الولايات المتحدة وديمقراطية الأنابيب ... 958
من المغرب إلى باكستان ! ... 958(3/313)
(3/314)
من يجرؤ على الكلام ..؟! ... 965(3/315)
(3/316)
احذروا هذه المؤتمرات ... 969(3/317)
(3/318)
ماذا يجري بين النجف وتل أبيب وواشنطن؟ ... 972(3/319)
(3/320)
هل الحرّة حرة؟ ... 977(3/321)
(3/322)
التغلغل الهندي في دول آسيا الوسطى ... 980(3/323)
(3/324)
معركة العمل الخيري ... 983(3/325)
(3/326)
لماذا لا يتحجب الرجل؟ ... 988(3/327)
(3/328)
ودوا لو تكفرون كما كفروا ... 992(3/329)
(3/330)
دعوة مشبوهة لأغراض غامضة ... 994(3/331)
(3/332)
الهلع الفرنسي من الحجاب ... لماذا ؟ ... 997(3/333)
(3/334)
لما هو آتٍ من الأقوى وكيف؟ ... 1002(3/335)
(3/336)
معيار النصر ... 1005(3/337)
(3/338)
أثيوبيا في مفترق طرق! ... 1006(3/339)
(3/340)
هل يكون العدوان على دمشق بداية عهد إقليمي جديد؟ ... 1010(3/341)
(3/342)
الوهابية ... 1014(3/343)
(3/344)
الحركة الإسلامية وتحديات السلام ... 1020(3/345)
(3/346)
ويرموننا بالطريقة الغربية ... 1023(3/347)
(3/348)
أخطر من الحملات العسكرية ... 1028(3/349)
(3/350)
49% من العمليات والبرامج الثقافية التي تديرها الخارجية الأمريكية في العالم هي مع النساء! ... 1029(3/351)
(3/352)
مشكلاتنا المزمنة.. وكيف يمكن حلها ... 1034(3/353)
(3/354)
لن أنتظر المهدي... لن أنتظر المسيح ... 1037(3/355)
(3/356)
جولة بوش الإفريقية الأهداف و الدلالات ... 1041(3/357)
(3/358)
هل لليهودية جذور في السودان؟ ... 1046(3/359)
(3/360)
اعتذار إلى ملكة جمال فلسطين ... 1049(3/361)
(3/362)
الدعاة بين تبليغ الحق واستغلال الظلمة ... ... 1052(3/363)
(3/364)
أساليب الحرب النفسية والدعائية ضد الصحوة الإسلامية ... 1056(3/365)
(3/366)
مفارقات في مسألة الإسلام والعنف ... 1061(3/367)
(3/368)
الحضارة الإسلامية بين أسباب التدهور وعوامل النهوض ... 1065(3/369)
(3/370)
إبليس زعيم دعاة الحرية ... 1068(3/371)
(3/372)
... 1069(3/373)
(3/374)
تهافت العصرانيون ... 1077(3/375)
(3/376)
... 1078(3/377)
(3/378)
ظواهر أمريكية جديدة .. ... 1082
في التعامل مع الإسلام ... 1082(3/379)
(3/380)
حرب معلوماتية ... 1091(3/381)
(3/382)
الحوار الإسلامي النصراني ... 1093
أو الحوار بين مسلمين ونصارى ... 1093(3/383)
(3/384)
تحدٍّ جديد! ... 1107(3/385)
(3/386)
كلمة للشيخ ابن باز عن الغزو الثقافي وأهمية مواجهته ... 1109(3/387)
(3/388)
حركة تحرير المرأة ... 1110(3/389)
(3/390)
هكذا بدأ الاختلاط ... 1115(3/391)
(3/392)
الفضائيات - غزو جديد ... 1118(3/393)
(3/394)
حتى لا ننسى ... 1126(3/395)
(3/396)
الحفريات الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى المبارك ... 1128
تؤكد أن:الأقصى في خطر ... 1128(3/397)
(3/398)
الشفافية السياسية ... 1139(3/399)
(3/400)
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة ... 1141(3/401)
(3/402)
عدو العدو: أصديق دائماً هو؟ ... 1142(3/403)
(3/404)
والت ديزني والضحايا بإرادتهم ... 1143(3/405)
(3/406)
قبل أن تنهار حصون الأدب؟! ... 1155(3/407)
(3/408)
الحرب على التائبات..! ... 1156(3/409)
(3/410)
السينما صناعة يهودية لترويج أفكار صهيونية ... 1158(3/411)
(3/412)
لصالح من يعملون ... 1162(3/413)
(3/414)
النظام العالمي الجديد .. ستار الهيمنة ... 1164(3/415)
(3/416)
أفيقوا أيها المسلمون فلقد تداعت عليكم الأمم ... 1167(3/417)
(3/418)
(اليهود يهددون بتدمير الكعبة!))) … ... 1177(3/419)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (2)التغريب
الباب الثاني
التغريب
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثاني
التغريب(4/1)
(4/2)
مطايا التغريب
موسى بن ذاكر
mossa25@LIVEISLAM.COM
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين ولأخيرين نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين أما بعد: فإن المسلم في هذه الدار مبتلى بأنواع شتى من البلاء يبتلى أحينا بالسراء وأحيانا بالضراء كما قال - تعالى -{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: 35] وقال - تعالى -{الم (1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3) [العنكبوت] هذه هي سنة الله - عز وجل - التي لا تتغير ولا تتبل على مر العصور. فالصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة حتى يميز الله الخبيث من الطيب قال - تعالى -{مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] إن هذه الفتن والابتلاءات تصقل شخصيات الرجال حتى يتبين الثابت من المتحول وصاحب المبادئ والقيم من الذي كالريشة في مهب الريح. وإن من البلايا التي ابتلي به المصلحون الغيورون على دينهم. بعض المنتسبين للعلم الشرعي و ما يسمون بالمفكرين الإسلاميين الذين سهلوا الطريق أمام التيار التغريبي حتى أصبحت أقوالهم يزج بها في مقالات بعض الكتاب للاستشهاد وإضفاء الصبغة الشرعية على مغالطاتهم. لا أظن أن وهؤلاء المشايخ يجهلون الواقع ولكن ضغط وسائل الإعلام وخوف بعضهم أن يرم بالتشدد والتطرف حدا به الأمر إلى التنازل عن ثوابت الكتاب والسنة حتى أصبحت مواقفهم في كثير من القضايا تشبه إلى حد كبير مواقف المستغربين بل إنك لا تستطيع أن تميز بعضها إلا بالأشخاص - وليس هذا تنقصا لمكانتهم مع تحفظنا على بعضهم - ولكن لبيان الحق فإن الله - سبحانه وتعالى - قال {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وعودا على ما ذكرت آنفا وللتمثيل على ما أقول أقرأ ما قاله الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي فقد نادى بضرورة أن " يفسح للمرأة مكان لتشارك في قضايا الأمة السياسية والاجتماعية والثقافية ناخبة ومرشحة لكل ما تحسنه من الأعمال " وقال أيضا بضرورة اشتراك المرأة في التمثيل!!!
ومن مخالفات أصحاب هذا المنهج أنهم لا يرون بغض الكفار بل إنهم يرون أنهم إخوان لنا في الإنسانية فالإنسان أخ للإنسان على حد زعمهم وجعل شيخ العصرانية محمد عبده ثمانية أصول زعم أنها أصول الإسلام والغريب أنه ليس فيها ركن واحد من أركان الإسلام ولا أركان الإيمان المعروفة!! - فعلى أي أساس جعلها أصولا للإسلام؟!! وجعل الأصل السابع (مودة المخالفين في العقيدة) اهـ وللرد على هذا الأصل المكذوب أقر قول الله - تعالى -{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]
ومن القضايا البارزة عند أصحاب هذا المنهج قضية الحجاب فيرى أصحاب هذه المدرس أن الحجاب خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الترابي. ويقول الدكتور محمد عمارة " إن القضية (الحجاب) ترتبط بالتمدن والتحضر والاستنارة أكثر مما هي مرتبطة بالدين " انتهى كلامه. لك أن تقارن هذا مع ما يكتبه أصحاب التوجه العلماني!! مع أن الدكتور محمد عمارة يصنف على أنه (مفكر إسلامي!!) وهو معتزلي! ويقرر حسين أحمد بأنه " ليس في القرآن نص يحرم سفور المرأة ويعاقب عليه "!! مع إن الله - عز وجل - قال {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}[الأحزاب: 33] وقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[الأحزاب: 59] ولا أدري هل الكاتب قرأ هذه الآيات أم إنها ليست موجدة في القرآن كما يزعم!!!(4/3)
يرى الدكتور يوسف القرضاوي أن كلمة الاختلاط دخيلة على المجتمع فيقول " المهم أن نؤكد هنا أنه ليس كل اختلاط ممنوعا كما يتصور ذلك ويصوره دعاة التشدد والتضييق " ويقول " في الثمانينات حضرت عددا من المؤتمرات في أمريكا وأوربا فوجدت فصلا تاما بين الجنسين... وقد أنكرت هذا !!!..... وقلت إن الأصل في العبادات ودروس العلم هو الاشتراك " ا هـ وأقول هل الاشتراك في الدروس والعبادات يستلزم الاختلاط؟!! ولن أطيل الكلام للرد على ما قاله سماحته!! لكني أدع القارئ الكريم مع حديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم يرد هذه الفتوى!! عن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: استأخرن؛ فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق؛ عليكن بحافات الطريق. فكانت المرأة تلتصق بالجدار؛ حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به" سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 865 فالنبي صلى الله عليه وسلم أنكر الاختلاط مع أنه وقع من غير قصد من الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين وهم أبر قلوبا وأكثر ديانة وخشية لله؛ وفضيلة الدكتور ينكر عدم الاختلاط!! وما ذكرته مجر أمثلة لتبيين هذا الانحراف ولا يحتمل المقال التوسع وإلا هناك قضايا كثيرة كقضية التقريب بين الأديان والتقريب بين المذاهب وقضية الجهاد وأهل الذمة والرق والمساواة وحرية الرأي والتعبير.... إلخ وقد استغل دعاة التغريب مثل هذه الأقوال الغريبة أيما استغلال فأصبحوا يظهرونها ويحيلون عليها في مقالاتهم. ومما يحز في النفوس أن توجد مثل هذه الأقوال المخالفة لشرع الله والمتعسفة ممن يرفع شعار الإسلام
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على النفس من وقع الحسام المهنّد
27-05-2007
http://www.islamselect.com المصدر:
============(4/4)
(4/5)
الحصاد المُر
محمود شنب
ظهرت بشائر الحصاد المر، وبدأت ثمار الترويض والتخويف بعد طول صبر غربي، وحسن تخطيط أمريكي، وبعد أن تمكن الخوارج وتحكم اللصوص وضاع الأمل في المثقفين والشيوخ.
نعيش الآن مرحلة القطف من غير قصف بقيادة العقيد معمر القذافي، والجني من غير ثنى بقيادة الرئيس مبارك، والتركيع من غير ترويع بقيادة ...، والانبطاح من غير إفصاح بقيادة أمراء ورؤساء وملوك....إلخ.
ذهبت سنوات الخيار والحصار، وحلت سنوات الاحتكار والاحتقار.
نمنا طويلاً، وفرطنا كثيراً، وتقاعسنا عن مواجهة الحكام، وعلاج العِلل حتى استفحل الداء، وانتشر الوباء، وسيطر المرض، وخار الجسد، وبات الغرب يجنى ثمار الشرق بتروي وتأني ودون خوف، ولا توجد خلافات بين أفراد العصابة الواحدة - أمريكا وأوربا - فالكل متفق بشأن الضحية، أما الخلافات فإنها شكلية، وتتم من أجل الوصول لأفضل مكاسب عند تقسيم الغنائم.
نمنا في الوقت الذي كان يجب أن نعمل فيه، وصحونا على صوت اللصوص وهم يقتسمون الأرض والثروة!!
كانت إسرائيل مشكلتنا الوحيدة.. كانت قليلة ونحن كثر.. صارت مشاكلنا على امتداد العالم كله فأصبحنا قِلة وهم كثر.. صرنا غنائم حرب غير معلنة، وسبايا معارك لا ندرى متى بدأت ولا متى وضعت أوزارها.
نحن كشعب لا نعرف ما الذي حدث على وجه التحديد.. لا نعرف أي شيء عن أي شيء، ولا نفعل شيء إلا الفرجة!!
كل ما نذكره أننا صحونا ذات يوم لنشاهد في ميدان الفردوس ما هو أقرب للخيال من الواقع، وأقرب للحلم من العلم.. شاهدنا الجميع يصفق لسقوط بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية.. شاهدنا وسائل الإعلام تنقل الخبر بفرحة.. شاهدنا وجوه الخونة واللصوص وقد غمرتها السعادة والنشوة...
نظر كل منا حوله وتحسس موضع قدمه وحجرة نومه.. وجدنا السقوط في كل مكان وفي كل شئ.. وجدنا السقوط في الشيوخ والعلماء، ووجدنا السقوط في البناء والأبناء، ووجدنا السقوط في الفكر والهدف، وشاهدنا السقوط في كل عواصمنا العربية.. في القاهرة والرياض.. في طرابلس والخرطوم.. في عدن وعُمان.. في تونس والأردن.. في قطر والمغرب... وجدنا السقوط من البحر إلى النهر، ومن الشرق إلى الغرب... صحونا لنجد أنفسنا على نفس الحركة التي نمنا عليها.. مقيدون على كراسي الفرجة.. نشاهد الأحداث ولا نصنعها.. نبكى.. ولكن نشرب اللبن وننام!!
نتألم.. ولكن نروح ونأتي ونلعب ونغنى.. نعيش حياتنا التي اعتدناها، ونرشى ضمائرنا بدموع ألفناها...
سأل كل منا الآخر: متى بدأت الحرب؟!!
بعضنا كذَّب الخبر وقال: أبداً الحرب لم تبدأ، وأقسم الآخر: أنها بدأت منذ فترة طويلة ولكن دون إعلان.. يقول الدكتور جمال حمدان: ( هناك من يؤكد أن الحرب العالمية الثالثة بدأت دون إعلان ودون أن نشعر، وقد مارستها أمريكا علينا بالتدرج، وبطريقة حرب عالمية بالقطاعي ).
إن أشد المعارك ضراوة هي تلك التي لا نعرف لها إعلان.. إنها معارك خفية تبدأ باحتلال المواقع الفاعلة في الدولة حتى لا يصبح للحاكم قيمة ولا وزن ولا حتى مساحة للمناورة وتصحيح الأخطاء.. معارك تبدأ بالتمكن من جسد الأمة عن طريق المثقفين والمشايخ والعلماء وحتى الأدباء والفنانين.. إنه التغلغل الخفي الذي يتمكن من كل ما يصيغ وعى الأمة ويحرك إدراكها، ولذلك لم يكن غريباً أن نجد في هذا الزمان شيخاً مثل شيخ الأزهر الحالي - الشيخ سيد طنطاوي - الذي رفض أن يُجير مسلمات فرنسا في أمر إلهي يستند إلى نص قرآني، لكنه خذلهن وهو يدعى إلى الإسلام ويقرأ قوله تعالى: (( وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون )) الآية 6 سورة التوبة... فما بالنا والمستجيرات مسلمات قانتات راكعات ساجدات يُراد لهن الفتنة ونزع الحجاب عن رؤوسهن!!(4/6)
ولم يكن غريباً أيضاً أن نجد في مصر وزير شاذ مثل فاروق حسنى، وممثل داعر مثل عادل إمام الذي يُسخر كل مواهبه الفنية في النيل من الإسلام, وأذكر أن الأستاذ عادل حسين - رحمه الله - قد كتب له منذ أمد بعيد ناصحاً وموضحاً ثم دعا له قائلاً: أسأل الله أن يُعز بك الإسلام, وعلى الرغم من ذلك مازال الرجل في ضلال بعيد - في مجاورة أسامه أنور عكاشة الذي لا يخلو له مسلسل من غير طعن الإسلام -, ولا مجال لحصر الساقطين فالقائمة قد بلغت - مثلما أوضح لنا الدكتور محمد عباس في إحدى مقالاته القريبة - حوالي ثلاثة ملايين داخل مصر وحدها من عملاء أمريكا وأعداء الإسلام, ولن يكون آخرهم هذا المعتوه الكهل الذي يدعى محسن سعيد لطفي السيد - 78 عاماً - والذي تقدم منذ أيام إلى لجنة الأحزاب مطالباً موافقتها على تأسيس حزب علماني في البلاد باسم "مصر الأم" - مثلما نشرت جريدة المساء الأسبوعية في 14/2/2004 - مطالباً بنزع الصبغة الإسلامية والعربية عن مصر، ومطالباً بإلغاء نصوص الدستور المصري التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع الأساسي وأن مصر دولة إسلامية... المعتوه يطالب باعتبار الفتح الإسلامي لمصر احتلال يجب التخلص منه، ويطالب بترجمة القرآن الكريم إلى اللهجة العامية المصرية، وإخراج مصر من الدائرة العربية الإسلامية!!
استفسرت عن الخبر ووجدته صحيحاً.. اتصل بي أستاذ جامعي - صديق - وقال لى: ( إن هذا الحزب سيجمع تحت أهدافه أغلب طوائف الشعب المصري وسيصبح بين يوم وليلة من أكبر الأحزاب المصرية ).. تعجبت من قوله فهو رجل ملتزم وعلى خلق، وأعرفه جيداً... لم يمهلني طويلاً وأتى إلى وأكمل الحديث معي وقال: ( إن هذا الحزب يمثل حزب المستقبل بعيون الغرب.. إنه الحزب الذي أسسته أمريكا في مصر على يد السادات وقد آن الأوان للإعلان عنه.. ستوفر له أمريكا والدول الأوربية كل أسباب التميز والنجاح.. سيمدونه بكل الإمكانيات والموارد حتى يتمكن من استثمار حالة الإحباط والبطالة التي تعيشها البلاد.. سيخلق فرص عمل جديدة لكل أتباعه، وسينضم إليه فريق الانتهازيين وصفوة المجتمع، وكثير من الوزراء والكتاب والمثقفين، وستكون له الغلبة في أي انتخابات قادمة, وبمجرد أن يضرب جذوره في البلاد سيقوم بتشكيل حكومة توافق على تعديل الدستور، وإزالة الفقرات التي تعوق حركته, وسوف يحمى علمانيته بالقوة مثلما تحميها تركيا بالقضاء والقوات المسلحة... يا سيدي إنه ليس فكرة.. إنه مشروع متكامل حان وقت تنفيذه )..
صرخت: ومن سيسمح لهم بذلك؟!!
قال: ومن سيمنعهم؟!!
قلت: الشعب.
قال في سخرية: أرجو أن تبلغ سلامي للشعب.
انصرف الدكتور وتركني في حيرة.. فعلاً.. ما الذي يمنعهم؟!!
لقد كتب الدكتور محمد عباس في ذلك منذ ما يقرب العام, ونشرت الجرائد ذلك، وتناقلته وكالات الأنباء وأذاعته قناة "الجزيرة" فهل تحرك أحد؟!!... أين الشعب وقد بلغت الروح الحلقوم؟!!
الحرب لم تضع أوزارها بعد.. مازال أمامهم الكثير.
نمنا طويلاً طويلاً.. وفرطنا كثيراً كثيراً حتى أصبح في كل بيت مريض وعاطل.. نمنا حتى صار في كل شارع عميل، وفي كل حارة دليل، وفي كل مدينة وكيل، وطابور طويل من العملاء ممن يخونون عن يأس وليس عن عمد.. وممن يخونون عن قهر وليس عن قناعة... الناس في مصر يخونون الأمانة طبقاً لمتطلبات الوظيفة.. وسأضرب على ذلك مثال لما يحدث في التربية والتعليم حيث يتم تدريس الجهل وليس العلم, وفي ذلك خيانة ولكن لا يستطيع المدرس منعها.. فهناك منهج دراسي ومقرر ومتابعة.. في التربية والتعليم أيضاً يقتلون الحياء عن عمد وبتعليمات واضحة, وفي ذلك خيانة ولكن من يستطيع منعها؟!!.. يستغلون براءة الأطفال، وفساد المناهج في بث بذور الشرك, وسأضرب على ذلك عدة أمثلة في مجال التعليم وحده:
* يتم تحويل كل معلم ينتمي للتيار الإسلامي إلى عمل إداري بعيداً عن التدريس، وينقل إلى خارج المحافظة، ويستدعى بين الحين والحين لمباحث أمن الدولة.
* محاربة الحجاب محاربة لا هوادة فيها, ومحاربة أصحاب اللحى والتبليغ عنهم, وآخر ما وصلني في ذلك نشرة وزعت على المديريات والإدارات التعليمية وجميع مدارس الجمهورية نصها كالآتي: (... رابعاً: على السادة مديرو المدارس إرسال خطاب سرى في مظروف مغلق ومختوم يُرسل مع مخصوص بداخله الاسم الرباعي لكل ملتحي أو منقبة واسم الزوج ووظيفته, وغير مسموح بالتأخير, وفي حالة عدم وجود حالات من هذا القبيل في المدرسة يُكتب " لا يوجد " واعتبار هذا الأمر هام وعاجل جداً، ولا يتم التأخير عن يوم الأحد 21/12/2003م ).(4/7)
* نشرة من قطاع التعليم العام - الإدارة العامة للتربية السكانية - موزعة على كل المديريات التعليمية في 20/9/2003 مفادها: ( برجاء طرح المسابقة الآتية على طلاب جميع مراحل التعليم ( إبتدائي ـ إعدادي ـ ثانوي ) والخاصة بعمل "بوستر" يعبر عن رؤية التلاميذ حول قضايا الشباب بعنوان ( الصحة الإنجابية للمراهقين ) على أن ترسل الأعمال في موعد أقصاه 31 أكتوبر 2003 إلى العنوان التالي: مكتب صندوق الأمم المتحدة ـ برج شيراتون 93 ش الجيزة بالدقي الدور الثالث, وسيتم التحكيم في مقر الصندوق بالقاهرة ثم ترسل الأعمال الفائزة إلى مقر صندوق الأمم المتحدة للسكان في نيويورك للدخول في المسابقة الدولية.. وتفضلوا بقبول وافر الاحترام - المدير العام أ: زينب محمد قطب ).
* قصت لى تلميذة صغيرة في الصف الخامس الابتدائي قصة مدرسة الاقتصاد المنزلي معها وقالت: كانت تعلمنا إحدى طرق الطهي البسيطة, وكان الدرس طريقة عمل "المكرونة بالصلصة"، وطريقة عمل "الكفته"، وبعد الانتهاء من الدرس قامت المعلمة بتوزيع ما تم طهيه على التلميذات - تقول التلميذة عددنا كان كثيراً والأكل كان قليلاً.. كل مجموعة مكونة من ست تلميذات كانوا يلتفون حول طبق واحد من المكرونة، وقطعة واحدة من صباع الكفته, ولأن المدرسة في حي فقير فقد تعاركنا على الفوز بأكبر قدر من الوليمة, وأثناء تهافتنا على الأكل قالت لنا المعلمة: ما رأيكم يا بنات لو وزع كل طبق على ثلاثة.. قلنا جميعاً: باليت يا أبله.. قالت: وماذا لو وزع على اثنين.. قلنا بفرحة أكبر: ياليت يا أبله.. قالت: وماذا لو كان لواحدة... سعدنا كثيراً وقلنا: يا سلام يا أبله يكون شئ جميل.. قالت: لابد أن تخبر كل واحدة منكن أمها بأن الأسرة الصغيرة تكون أسرة سعيدة، وأن الزيادة السكانية هي أساس كل بلاء، ولو كنت وحدك في الأسرة لأكلت أفضل مما تأكلين مع إخوتك!!.... توجهت إلى المعلمة وسألتها عن صحة هذه الواقعة - قالت لى باللهجة العامية: يتنيلوا بنيله.. دي لحمة مستوردة، وسمن صناعي.. قلت: هذا لا يهمني.. أنا أسأل عن حكاية أسرة صغيرة وأسرة سعيدة؟!! قالت: لكل درس هدف، وهذا هو الهدف من الدرس.!!
هذه بعض النماذج السيئة التي تزخر بها مدارسنا.. يقوم بها أناس أجبرتهم وظائفهم على اقترافها.. يظهر ذلك بوضوح في محاربة الفضيلة وكل مظهر إسلامي يتمثل في الحجاب واللحى، وفي تشريد الأتقياء والملتزمون ممن تصح على أياديهم التربية ويثمر التعليم، فيُبعد هذا عن التعليم، ويحول إلى عمل إداري, وينقل هذا إلى محافظة أخرى دون ذنب أو جريرة.. وما بين مسابقات بعنوان "الصحة الإنجابية للمراهقين" لتلميذات الابتدائي والاعدادي والثانوي.. وبين استغلال الطعام في المدارس لتحديد نسل الأسرة.. كل هذا يحدث في قطاع واحد من قطاعات الدولة, فما بالنا بباقي مؤسسات الدولة!!
يقول "شكسبير" في مسرحية يوليوس قيصر: يا لها من سقطة أيها المواطنون شملتنا جميعاً أنا وأنتم بينما كانت الخيانة تترعرع فوق رؤوسنا.
ويصرخ "نهرو" قائلاً: أيها السادة أنتم تثيرون فزعي إلى درجة الموت.. إنكم لا ترون ما هو أبعد من موقع أقدامكم، تشغلون أنفسكم باللحظة التي مضت وليس باللحظة القادمة.. إن مستعمريكم السابقين رتبوا أنفسهم قبل أن يوافقوا على استقلالكم، وأقاموا أوضاعاً جديدة تستبدل أعلامهم القديمة بأعلامكم الجديدة.
وهذا ما يحدث بالفعل ويحدث في مجال التعليم على وجه الخصوص.. ما فشل فيه "زويمر" نجح فيه فتحى سرور وحسين كامل بهاء الدين.
في كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" يقول الأستاذ محب الدين الخطيب: ( في مؤتمر المبشرين الذي عقد بالقاهرة عام 1906 وقف الخطباء يقولون: ( لقد فشلنا.. فتحنا المدارس والمستشفيات والملاجئ، وأعطينا الأموال، وقدمنا الخدمات, ثم لا يدخل النصرانية بعد ذلك غير طفل صغير خطفناه من أهله قبل أن يعرف عقيدته، أو رجل كبير جاء إلينا من أجل المال ولا نضمن عقيدته.. فوقف الأب "زويمر" وهو بالمناسبة مبشر بروستانتى كان له نشاط تبشيرى كبير في العالم الإسلامي, وقد أوصى قبل موته بأن يُدفن في مقابر اليهود.. قال "زويمر" وكان مقرر المؤتمر: لقد استمعت إلى إخواني الخطباء ولست موافقاً على ما يقولون, فليست مهمتنا تنصير المسلمين, فهذا شرف ليسوا جديرين به, ولكن مهمتنا هي صرفهم عن التمسك بالإسلام وفي ذلك نجحنا نجاحاً باهراً بفضل مدارسنا التبشيرية والسياسة التعليمية التي وضعناها في البلاد الإسلامية )... كان ذلك عام 1906 وقال: لقد نجحنا نجاحاً كبيراً فأي تسمية تصلح لهذا العهد الذي نعيشه وكل شئ أصبح فيه مشوهاً وملوثاً وكما يريد الغرب وأكثر..
أمامي الآن ثلاثة أوراق إجابة لاختبار شهري أجرته إحدى المدارس في مادة الدراسات الاجتماعية الصف الرابع الإبتدائي ، السؤال يقول ضع خطاً تحت الإجابة الصحيحة من بين الأقواس:(4/8)
أ ـ مصر جزء من العالم ( العربى ـ الأوربى ـ الأمريكى )... تلميذة تدعى رانيا وضعت خطاً تحت ( الأمريكي )، وأسماء وضعت خطاً تحت ( الأوروبي )، بينما وضع أحمد خطاً تحت ( العربي )، وخطاً تحت ( الأمريكي )!!
هذا هو التشوه الحقيقي ونزع الانتماء، والدخول في مراحل سريعة من فقد الثقة وضياع الانتماء.. ولا أحد يتحرك!!
منذ فترة بسيطة أذاعت إحدى القنوات الفضائية المصرية برنامجاً أوضح فيه انتشار الأمية بين تلاميذ المرحلة الإعدادية, حيث وجد بينهم أميون لا يقرؤون ولا يكتبون, وتم مواجهة الوزير بذلك لكنه تهرب كعادته من الإجابة، وناور بعيداً بأسلوب رخيص وكلمات جوفاء، ولم يقل لنا: إن ذلك كان حصاد إلغاء الصف السادس أيام فتحي سرور، وإدخال تدريس اللغة الإنجليزية في الصف الرابع والخامس في عهده, وفي هذا العام زاد الطين بله بقراره تدريس اللغة الإنجليزية في الصف الأول الابتدائي.. نحن لا نعارض تدريس اللغة الإنجليزية، وإنما نعارض تدريسها في تلك المرحلة السِنية، ومزاحمة اللغة الأم بلغة أجنبية في سنوات التعليم الأولى, وليس هذا اجتهاد منا وإنما يحدث في كل الدول المتقدمة والتي تحافظ على هويتها ولغتها.. في فرنسا قانون يحظر تعليم أي لغة غير الفرنسية في جميع مدارس الدولة قبل سن الحادية عشر حتى يتمكن التلميذ من هضم واستيعاب اللغة الأم.
إننا نعيش الكارثة بكل أبعادها وتفاصيلها وتوابعها.. ولا أحد يتحرك!!
عندما جاء "كرومر" إلى مصر كأول معتمد بريطاني فيها قال: ( إن مهمة الرجل الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية في هذه البلاد - مصر - هو تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن )، واختار للتعليم الذي هو وسيلة كل شئ شاب يدعى "دنلوب".. كان دنلوب هذا قسيساً على درجة عالية من الذكاء، وولاه كرومر منصب "مستشار وزارة المعارف المصرية"، وجعل في يده كل السلطات الفعلية لوزارة المعارف.. وضع دنلوب عينه على الأستاذ والتلميذ... يقول الأستاذ محمد قطب في كتاب واقعنا المعاصر: ( كانت عيون المراقبة التي وضعها "دنلوب" تنتقل من المدرس العادي إلى المدرس الممتاز لترى أثره في تطبيق أهداف التغريب فيكافأ على ذلك بإرساله إلى إنجلترا ليزداد صقله، وليُصاغ من جديد صياغة أدق وأشمل، ليستفاد منه على نطاق أخطر فإذا ما عادوا يوضعون في مراكز التوجيه ليكون أثرهم في الإفساد أشمل وأوسع، حتى إذا صار أحدهم في نهاية المطاف وزيراً للمعارف حطم من مقدسات قومه ما لم يكن يجرؤ "دنلوب" على فعله ) وهذا ما يحدث بالفعل, ونفس الأمر يكرره حسين كامل بهاء الدين وبصورة تكاد تتطابق.. إنه يتفاخر بإرسال آلاف المعلمين للتدريب في بريطانيا وأمريكا, ولا يستطيع أن ينكر أن ذلك محظور على كل من ينتمي لجماعة إسلامية أو معروف عنه التمسك بالفضائل!!
إنه جهد قديم لكنه متواصل ومستمر, وفي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر قال القس "زويمر": ( لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية المستقلة أو التي تخضع لنفوذ مسيحي.. لقد أعددنا بوسائلنا جميع العقول إلى قبول السير في الطريق الذي مهدنا له كل التمهيد - أعددنا نشئاً لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجنا المسلم من الإسلام ولم ندخله المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي لا يهتم بعظائم الأمور وحب الراحة والكسل, وإذا تعلم تعلم الشهوات, وإذا جمع فللشهوات, وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شئ ).
هذا ما فعله الغرب فينا، وهذا هديه الذي نسير عليه.. يقول ابن حزم في كتابه مداواة النفوس: ( مُقرب أعدائه قاتل نفسه )، ويقول الدكتور محمد محمد حسين في كتاب "الإسلام والحضارة الغربية": ( لقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من الزعماء الدينيين )، ويقول الدكتور مصطفي محمود: للأسف حطموا القديم ولم يبنوا بديلاً... هل بنى أحد التعليم المصري بعد هدمه؟!! أبداً.. لقد أصبح التعليم في أي مدرسة مصرية أغلى من "هارفارد" بسبب الدروس الخصوصية التي جعلت التعليم هنا أغلى من جامعة "أوكسفورد" ).
أخذنا التعليم كثيراً في هذا المقال, لكنه كان أوضح مثال على ما آلت إليه أحوال البلاد, حيث انعكس أثره على سلبية المواطن، وعدم محاولته التغيير، حيث فسدت التربية، وانتشرت علل مدمرة لم تكن موجودة في الأساس مثل انتشار التدخين بين الطلبة والطالبات، وتناول المخدرات، والزواج العرفي.(4/9)
يكتب الأستاذ عطية النعماني في "آفاق عربية": ( وصلتني هذا الأسبوع رسالة حزينة من طلاب الحركة الإسلامية بجامعة الزقازيق يقولون فيها: تم ضبط ثلاث حالات مخلة بالآداب في دورات المياه داخل كلية الزراعة, وكان رد فعل الإدارة عمل محضر، وتزويج هذه الحالات داخل قسم الشرطة, وفي كلية التجارة قامت إحدى الأسر الطلابية بتغطية حوائط الكلية بإعلانات عن حفل ماجن بأحد النوادي بالشرقية، وكانت مفاجأة الحفل الذي حضره جمع كبير من طلاب الكلية هو تنظيم مسابقة لاختيار ملكة جمال الحفل، وأخرى لاختيار أجمل عيون، وثالثة لاختيار أجمل رقصة شرقي وغربي من بين طالبات الكلية, ورغم حالة الاستياء التي شهدتها الكلية احتجاجاً على هذا الحفل الماجن الذي لا يخرج عن القيم الإسلامية فحسب بل يخرج عن الأعراف في محافظة تشتهر بحفاظها على التقاليد والعادات, وفي الوقت الذي تتجاهل فيه إدارة الجامعة التصدي إلى الانحلال الأخلاقي نجد أحد أعضاء هيئة التدريس بكلية التربية النوعية بنفس الجامعة ينزعج من كتابة حديث شريف على السبورة ويطلب من أحد العمال محوه بقوله: "امسح الزفت ده" ).
ويكتب الأستاذ سعيد إسماعيل في "الأخبار": ( زمان كانت العوالم والغوازي يرقصن في الأفراح والليالي الملاح وبطونهن عارية، ثم أجبرتهن شرطة الآداب على ستر أجسادهن فامتثلن.. الآن.. اللهم احفظنا واحفظ ذوينا من كل الذي يحدث الآن.. أفلتت الأمور وخرجت البطون العارية من شرائط الفيديو كليب إلى الشوارع.. الفتيات المصريات في عمر الزهور تتسكعن في شوارع المهندسين ومصر الجديدة ومدينة نصر حيث توجد الكافتريات، ومطاعم البيتزا والهامبورجر.. الشعر مبعثر، والسجاير بين الأصابع، والمحمول على الأذن، والضحكات تجلجل، والبنطلونات محزقة، والبطون عارية ).
وتنشر الأهرام في 3 مارس 2000 تحت عنوان المؤبد للمدرس المتهم بهتك عرض 5 تلميذات: ( أسدلت محكمة جنايات القاهرة أمس الستار على قضية مدرس الرياضات المتهم بهتك عرض تلميذاته في الدروس الخصوصية، حيث قضت بمعاقبته بالأشغال الشاقة المؤبدة، ودقت المحكمة في حيثيات الحكم ناقوس الخطر لما انحدرت إليه الأخلاق، وطالبت الجميع بوقفة صريحة، وشجاعة مع النفس قبل أن ننحدر إلى الأسوأ وتكون الكارثة، قبل النطق بالحكم تحدث رئيس المحكمة إلى المتهم قائلاً: ( يا عصام حاولنا مساعدتك إلا انك اعترفت في تحقيقات النيابة بجريمتك )، وقالت المحكمة إنها بعد أن قضت بحكمها فإنه ثبت لها في النهاية كلمة وهى: أنه إذا كانت المحكمة قد عاشت ذلك الزمان الغابر الذي كان الجميع فيه يربطهم حب وإخاء تحت مظلة من القيم الروحية التي نادت بها شرائع السماء؛ فإنها تأسف لأنها أدركت هذا الزمان الذي رأت فيه الزوجة تقتل زوجها أمام الصغار، والذئاب البشرية يهتكون الأعراض في وضح النهار، فضلاً عن الحقد والحسد والأنانية وحب الذات والجري وراء الشهوات، وسرقة المال العام والخاص، وعدم اعتراف البعض بالخطوط الفاصلة بين الحلال والحرام, ولذا فإن المحكمة تطالب الجميع بوقفة صريحة وشجاعة مع النفس قبل أن تنحدر الأخلاق إلى الأسوأ فتكون الكارثة ).
ألم أقل في البداية إنه موسم الحصاد المر، هذا ما زرعه دنلوب وزويمر, وهذا ما سار عليه فتحي سرور وحسين كامل بهاء الدين, وليت الأمر قد اقتصر على التعليم - فبعد التعليم الفاسد تتسلمك وزارة فاسدة تسمى وزارة الثقافة حيث تبيح الشذوذ، وتصدر المطبوعات التي تسب الله ورسوله على نفقة الدولة, وكذلك الأمر بالنسبة لوزارة الأوقاف التي أرسلت أخيراً المئات من الأئمة والدعاة لأخذ دورة تدريبية في أمريكا عن الخطابة في المساجد, والأمر يبدو أكثر وضوحاً إذا لاحظنا الانحطاط الأخلاقي في الإعلام المصري.. إنها الكارثة التي ليس لها من دون الله كاشفة.
والمضحك أنه منذ أيام قلائل احتفلت مصر - مثل غيرها - بعيد يسمى "عيد الحب"... قلت في نفسى: ما أحوجنا لعيد يسمى "عيد الكُره" نتعلم فيه كيف نكره وننتقم ممن أفسدوا علينا كل شيء.. عيد نتعلم فيه كره الغاصب والمحتل والعميل والدخيل والمثقف الخسيس.. تعجبت أي حب يقصدون.. هل المقصود بهذا الحب حب من سرقونا وخذلونا ونقلونا من خير أمة أخرجت للناس لأضعف أمة يلعب بها الأنجاس؟!!
هل المقصود هو حب إسرائيل وحب أمريكا؟!!
قد يناسبهم في الغرب عيد مثل عيد الحب يتقاسموا فيه الغنائم، ويقارعوا فيه الكؤوس التي تشرب على شرف أمتنا، وروح عروبتنا، وضياع كرامتنا, ولكن كيف نقلدهم ونحن مازلنا نمد لهم اليد لتلقى المعونات، ومناولة الحذاء الذي يضربوننا به؟!!
كيف نقلدهم ودماء الفلسطينيين دين في أعناقنا، فلا هم يستحقون منا القطيعة، ولا اليهود يستحقون منا الشفقه!!
كيف نقلدهم والعراق يُشوى لحمه، ويُكسر عظمه، واحتلاله وضع مرارة في الفم لا تفارقنا أبداً؟!!
لقد بات العراق لكل مسلم كالدَّين ـ همٌّ بالليل، وذل بالنهار.
يا قوم..
كيف يعرف الحب من يريد الانتقام؟!!
وكيف يعرف الحب مَن مِن الكره لا ينام؟!!
بتصرف يسير : http://www.ala r abnews.com/alshaab/2004/27-02-2004/shanab.htm(4/10)
==============(4/11)
(4/12)
المنظمات الغربية هل هي طلائع استعمارية؟
(دارفور أنموذجاً)
د. محمد بن عبد الله السلومي
العمل الخيري الإسلامي ينطلق من مبادئ وقيم وأخلاقيات واضحة؛ فهو إغاثة وتربية وتعليم لا تحده حدود جغرافية أو سياسية؛ لأنه عقيدة ودين وعبادة لله بعيداً عن جوانب التسييس والاستغلال، وهو التزام بقوله - تعالى -: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9].
بل إن قيم العطاء والمعونات الإسلامية تقدم للعدو الأسير وغالباً يكون غير مسلم دون منٍّ أو أذى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]. وقد انكشفت حقيقة المعونات الغربية وشعارات حقوق الإنسان، وكان آخرها وضوحاً ما حدث على مستوى الحكومات والمنظمات تجاه القضية الفلسطينية حينما أُعلن بشكل مباشر أن أهداف المعونة مقايضات سياسية وتقديم تنازلات وإلا فسيكون التجويع والحصار ومنع المعونة والماعون.
لقد أدرك العالم ـ كل العالم ـ أن المعونة الغربية هي لتحقيق مزيد من انتهاك حقوق الإنسان حينما أوقف عن الشعب الفلسطيني المعونات الأمريكية والأوروبية مع الوعيد الشديد للآخرين بعدم تجاوز هذا الخط الأحمر، وأصبح الشعب الفلسطيني ضحية بريئة من ضحايا خيار الديمقراطية والحرية.
لقد كانت بعض أدوات الاستشراق قديماً تحقق أهداف المستعمر الأوروبي، ومن ذلك على سبيل المثال الشخصية البريطانية المسمى (لورانس العرب) الذي وصل إلى قلب العالم العربي وعمل من خلال بمعلوماته عن نقاط الضعف والقوة وبدراساته وآرائه على الإجهاز على الوحدة الإسلامية بين الأتراك والعرب. وقد جاب العالمَ طولاً وعرضاً مجموعاتٌ أخرى من علماء الآثار والتاريخ والرحالة المستكشفين، ومنهم (مالوان) عالم الآثار الذي حكم ليبيا فيما بعد ذلك، و(شكسبير) الذي قُتل في معركة السبلة، و (عبد الله فِلِبِّي) وغيرهم، وقد تحولت وسائل المستعمر ـ وفق المتغيرات الدولية ـ إلى وسائل جديدة مؤسسية تحقق الأهداف بقوة أكثر وفعالية أكبر وسرعة مضاعفة تحت غطاء مؤسسات العون الإنساني، أو مؤسسات نشر الديمقراطية، أو دعم حقوق المرأة أو التدريب أو التعليم، أو حقوق الإنسان، أو دعم حرية الأديان، أو حق المعونة لفئات دينية أو عرقية بحكم أنها تعاني من التهميش الفئوي أو الطائفي؛ والثورة البرتقالية عام 2005 في أوكرانيا نموذج يؤكد فعالية وآثار وقوة المؤسسات الأمريكية التي ساهمت، أو قامت بتأسيس حزب المعارضة الأوكراني.
وبغض النظر عن الخطأ والصواب في قبول أو رفض المساعدات والتمويل الأجنبي وأهدافه مع الدول المحتاجة، أو الشراكات الأجنبية بين المنظمات الدولية مع الدول الإسلامية الغنية؛ فإن من الحقائق والمسلَّمات أنه يتم استخدام تلك الوسائل من أجل تحقيق أجندات ومشروعات قد تكون سلبية بحق المستفيدين، وقد تختلط فيها السلبيات بالإيجابيات ولكنها أجندات تحددها الجهات المانحة أو دول المبادرة، وكلها تعمل على الأقل لتحقيق هدف (جمع المعلومات) وذلك بعلم أو غير علم من المتلقي أو المستفيد، ومن أقواها أن تكون المنح في مجالات الأبحاث والدراسات أو المنح الطلابية، التي تقوم على جمع البيانات والمعلومات عن الأسرة أو عن المجتمعات أو حتى الدول، ويفسر أحد الباحثين الغربيين أسباب لجوء الدول الرأسمالية لسياسة التمويل الأجنبي وأنه متحقق في جمع المعلومات؛ حيث يقول: «إن الدول العظمى والمنظمات الدولية المانحة للمساعدات أصبحت تعتمد على المنظمات غير الربحية، نتيجة لما تملكه تلك المنظمات من معلومات وإحصائيات مهمة ودقيقة وحديثة عن الأوضاع في الدول التي تعمل فيها، والتي يصعب على الدول والمنظمات المانحة الحصول عليها بطرقها وقنواتها الرسمية والدبلوماسية المباشرة من الدول والمجتمعات المحتاجة والمتلقية للدعم والهبات والقروض للبرامج المختلفة نتيجة لعدم وجودها أصلاً، أو لصعوبة الحصول عليها لعدم تنظيمها بطريقة منظمة، أو لسريتها كما هو في كثير من دول العالم الثالث»(1). وفي هذا الصدد يقول «محمد حسنين هيكل»: أنا غير راضٍ أساساً عن التمويل الخارجي للأبحاث؛ فالمثل الإنجليزي يقول: (الرجل الذي يدفع للزمَّار هو الذي يقرر النغمة التي يعزفها الزمار)(2).(4/13)
الحرص على جمع المعلومات عن المجتمعات الإسلامية والجمعيات الخيرية المانحة المستغنية عن الدعم المادي الأجنبي (المستقلة) يفسر لنا بعض الظواهر القديمة والجديدة من بعض الدول والحكومات الأجنبية، ومنها محاولات إشراك المؤسسات الإسلامية ببرامج التدريب التي تقيمها تلك الدول الأجنبية في بلدانها أو مواقع المؤسسات الإسلامية، ومن ذلك على سبيل المثال حرص بعض السفارات البريطانية في دول الخليج للعمل على إيجاد برامج تدريبية مشتركة مع منسوبي مؤسسات العمل الخيري(3)، كما يفسر ظاهرة محاولة الدخول لعمق المؤسسات الإسلامية من خلال مبادرات وشراكات مثل المبادرة السويسرية (مونترو)(4) مع المؤسسات الخليجية؛ فالمعلومات عن اتجاهات المؤسسات الإسلامية ونقاط الضعف والقوة لها وللمجتمعات الإسلامية أساس مهم في صناعة القرارات، وهذا أقل تفسير لتلك المبادرات.
وفي إطار الشراكات والتدريب للمؤسسات الإسلامية فقد أقامت جامعة جلاسجو البريطانية دورة لمدة ثلاثة أشهر بعنوان (المنظمات والحكومات من خلال مؤسسات المجتمع المدني) في الربع الأول من هذا العام 2006 وشارك فيها متدربون من (32) دولة إسلامية، وفيها تحدث مدير خطة السياسات الخارجية البريطانية وقال: «نحن لا نعتقد بأن حكومات بعض الدول تمثل مصلحة شعوبها، ولا تحقق الدبلوماسية الرسمية كل مصالحنا في تلك الدول، وعليه سنعتمد على منظمات المجتمع المدني لتحقيق مصالحنا وأهدافنا، وقد رصدنا فقط لهذا الغرض 8 ملايين جنيه إسترليني؛ فوسائل الضغوط على الدول أخذت أشكالاً جديدة أهمها المنظمات غير الحكومية (غير الربحية)».
وقد تتجاوز المؤسسات الإسلامية دعاوى الإرهاب المالي أو الفكري أو كليهما بشكل أو بآخر، ولكن فخ العطف والحنان على المؤسسات الإسلامية خاصة المانحة والغنية المستغنية عن المعونات الدولية تحت مسميات الشراكة أو التدريب أو المبادرة أو التعاون كل ذلك يتطلب أخذ الحيطة والحذر من الدوافع والأهداف.
دارفور ولغة الأرقام:
وحسب الإحصائيات الرسمية من (مفوضية العون الإنساني السودانية للإغاثة) فقد بلغت المنظمات الدولية الأجنبية العاملة في السودان أعداداً مذهلة ومريبة خاصة في دارفور التي بلغ عددها 105 منظمات في ولايات دارفور الثلاث، وبعدد إجمالي للأجانب يزيد عن 575 موظفاً، وسيارات بلغت 705 سيارات مزودة جميعها بأجهزة اتصال قصيرة وبعيدة المدى متطورة، إضافة إلى أجهزة الاتصال المحمولة 873 جهازاً محمولاً، وهذا غير أجهزة الاتصال الأخرى المتطورةV-SAT الخاصة بوكالات الأمم المتحدة والتي يتم بها تصوير معسكرات اللاجئين والمتمردين بدقة بالغة، وهذه الأخيرة غير مسموح بها للمنظمات التطوعية الأخرى، كما أن لجميع سيارات المنظمات حق الحصانة على غرار حق سيارات الدبلوماسيين، وهذا العدد والحجم من الحضور لا يتناسب مع حجم أفراد مخيمات اللاجئين والمشردين في ولايات دارفور التي لا يتجاوز عدد أفرادها 400. 000 ألف نسمة، كما تتحرك المنظمات الدولية في جنوب السودان حتى بعد المصالحة الوطنية مع حكومة السودان. وإضافة إلى هذا كله فقد بدأت تحركات جديدة ومريبة في شرق السودان ليكون الشرق السوداني هو الأزمة التالية أو المصاحبة لأزمة دارفور (مما يؤكد استهداف البوابة الرئيسية لأفريقيا المسلمة) والحجة التي تسوِّق لها تلك المنظمات ومن ورائها دولها لهذا الوجود الكبير إعلامياً وسياسياً هي تهميش الجنوب والغرب ثم الشرق، وسوف يتلو ذلك دعاوى التهميش للشمال، ذلك الشعار الذي يسوِّغ التدخل الأجنبي السافر تحت مسمى (حق المعونات الإنسانية) و (حقوق الإنسان).
وعن نوعية وهوية تلك المنظمات فقد بلغت المنظمات الدولية الأمريكية العاملة في السودان 35 منظمة شكلت نسبة مئوية من حجم المؤسسات الدولية الأخرى تقدر بـ 19% من المؤسسات الدولية، كما بلغت المنظمات البريطانية 34 منظمة وتشكل 18% من مجموع المنظمات الدولية الموجودة في السودان، كما أن عدد المنظمات الهولندية 11 منظمة شكلت 6% من المنظمات الدولية، ويلي ذلك بالتساوي: المنظمات الألمانية والكندية والفرنسية 9 منظمات من كل دولة، وتشكل كل دولة 5%، ويلي ذلك المنظمات التالية بالتساوي سبع منظمات لكلٍ من إيطاليا وسويسرا والسويد، ليأتي بعد ذلك حسب حجم الوجود أربع منظمات نرويجية تشكل 2% من مجموع المنظمات الدولية، ثم الدانمركية والأيرلندية والنمساوية وهكذا؛ حيث بلغ مجموع المنظمات الأجنبية الغربية 144 منظمة بينما لم يتجاوز وجود المنظمات الإسلامية غير السودانية نسبة 12. 5% وهي المعنية بالدرجة الأولى بقضية دارفور الإسلامية، كما يشكل الوجود الأجنبي للعاملين الأجانب في تلك المنظمات الدولية حجماً كبيراً حسب الترتيب التالي:(4/14)
الوجود البريطاني 496 موظفاً، ثم الأمريكي 391، ويليه الفرنسي 302، ثم الألماني 176، ويليه الهولندي 165، ليصل الإجمالي 1530 فرداً. وهذا غير وكالات الأمم المتحدة المتخصصة في السودان؛ فقد بلغ الوجود الأمريكي في تلك الوكالات 220 موظفاً أمريكياً ليشكل هذا الوجود 32. 5% من إجمالي الوجود الأجنبي، ويليه الوجود السويسري 202 موظف بنسبة تشكل 29. 6% من إجمالي الوجود الأجنبي، ثم البريطاني 118 موظفاً بنسبة تشكل 17. 3% من إجمالي الوجود الأجنبي، ثم الفرنسي 76 موظفاً بنسبة تشكل 11. 1% من إجمالي الوجود الأجنبي، ثم الألماني 65 موظفاً بنسبة تشكل 9. 5% من إجمالي الوجود الأجنبي، ليكون الإجمالي الأجنبي للعاملين فقط في وكالات الأمم المتحدة المتخصصة بالسودان 681 شخصاً(5).
لعل هذا الوجود الكبير عامل مساعد يكشف حقيقة بعض جوانب أهداف العطاء الخيري الغربي وبعض أهداف المؤسسات الغربية مما يؤكده الواقع المشهود، وتؤكده كذلك بعض المصادر من كتب الكتَّاب الغربيين أنفسهم مثل كتابLO r DS of POVE r TY لغراهام هانكوك، وكتاب THE r OAD TO HELL وهي كتب جديرة بترجمتها إلى جميع اللغات العالمية لكشف الأخطاء والتجاوزات، ولتصحيح مسارات مؤسسات العون الإنساني العالمية، وما أجدر المؤسسات الخيرية ومراكز الأبحاث الاهتمام والعمل على ترجمة ونشر تلك الكتب وأمثالها إثراء لثقافة العمل الخيري، وخدمة للإنسانية، وتوضيحاً وتصحيحاً لمسيرة المؤسسات الخيرية العالمية المانحة والممنوحة، وكذلك للحكومات المعنية.
دار فور ورحمة الجحيم:
وقفات تكشف الكثير عن رحمة المؤسسات الإغاثية الدولية لدارفور:
الأولى: دارفور تاريخياً البلد المسلم 100% الذي سلم من الحكم المباشر للمستعمر الأجنبي، وكان سلاطين الولايات الإسلامية يكسون الكعبة المشرفة كغيرها من أقاليم العالم الإسلامي، ولا يعرف الإنجيل أو الكنائس إلا بعد (أزمة دارفور) 2003م.
الثانية: دارفور بولاياتها الثلاث تسبح على مخزون ضخم من المياه الجوفية، كما أنها تشكل حوالي 28% من الثروة الحيوانية للسودان حيث ملايين الإبل والأبقار والأغنام، إضافة إلى الثروة الزراعية الكبيرة؛ فهي ليست إقليماً فقيراً، لكن يبدو أن مساحة السودان فيها زيادة عن اللازم، ولأهميتها وكونها بوابة أفريقيا المسلمة لا سيما مع محاولات تطبيق الشريعة الإسلامية، وقد سلمت قديماً من مثل تطبيقات (سايكس بيكو).
الثالثة: دارفور غنية بمخزون كبير من النفط والحديد واليورانيوم، وقد أعطي حق امتياز استخراج النفط للشركات الصينية بدلاً من الشركات الأمريكية المكتشفة والمنافسة ليدفع السودان ثمن حريته واختياره، وليكون هذا من الأسباب الرئيسية لمشكلات السودان المتتابعة.
الرابعة: قضية النزاع بين عشائر المزارعين غير العرب والقبائل الرحَّل العرب قديمة، وكانت تتم التسويات لأي نزاع من قِبَل شيوخ تلك العشائر والقبائل، واليوم أصبحت مشكلة عنصرية وعرقية بل وسياسية. الأزمة تتفاقم بحكم التدخل الأجنبي؛ فما إن يتحرك بعض المهاجرين أو النازحين محاولين الرجوع إلى بلدانهم حتى يكون التصعيد المفاجئ والقتل والسلب، وتُضَخَّم تلك الأحداث والأرقام إعلامياً مما يدل على تسييس القضية وتدويلها، ونقلها من نزاع قبلي عشائري على الماء والكلأ إلى قضية سياسية وغطاء للتدخل الأجنبي، والبداية مؤسسات العمليات الإغاثية ودموعها.
الخامسة: كثير من تلك المنظمات تمارس أدواراً مكشوفة؛ فقد تم ضبط الحكومة السودانية لبعض جوانب الفساد الأخلاقي ونشر المخدرات والإيدز، وتصوير أفلام دعارة مدفوعة الأجر لنشر ذلك للرأي العام العالمي ليعكس حسب الخطط ارتفاع معدلات الاغتصاب، وقد ثبت الافتعال قضائياً، كما ثبت على جنود الاتحاد الأفريقي اغتصاب القاصرات.
السادسة: تمارس بعض المنظمات الإغاثية التصريحات والضغوط السياسية والانحياز لقبائل المزارعين الزنوج ضد قبائل الرعاة العرب، وتصعيد الخلافات بين الأطراف المتنازعة، وكمثال فقط ما قامت به حكومة السودان من طرد لاثنين من مدراء (مؤسسة أوكسفام البريطانية) بسبب تدخلاتهم وتصريحاتهم السياسية.
السابعة: القضية لا تخرج عن إطار الصراع الدولي بين بعض الدول الكبرى، وهذا ما انكشف من خلال النزاع الأمريكي الفرنسي غير المعلن في تشاد وما يجاورها في دارفور وغيرها. وأحداث تشاد الأخيرة تكشف عن هذا الإطار، كما تكشف أن التدويل لبعض مناطق الصراع هدف جديد تعمل من أجله المؤسسات الإغاثية والوكالات الغربية خلافاً لأهدافها المعلنة.
الثامنة: معظم المخيمات تتكون من أعواد من الشجر والحطب تكسوها قطع متعددة ومتنوعة من قطع البلاستيك والأكياس وبعض قطع القماش، والحد الأدنى من الطعام والشراب هو الإغاثة المعمول بها، كما أن حجم المخيمات لا يتناسب مع حجم التدخل الدولي وكثرة المؤسسات العالمية الإغاثية من الدول الغنية.
إن مؤسسة إغاثية قوية واحدة تستطيع أن توجد مخيماً صحيحاً جيداً، والواقع يعكس حرص المؤسسات ومن ورائها الدول على استمرار الأزمة وعدم حلها، بل وتصعيدها سواء بقيت المؤسسات أم غادرت.(4/15)
فالتلاعب بالفقر والفقراء والمتاجرة بقضيتهم وأراضيهم وأعراضهم وأديانهم واضحة تحت شعارات نصرة مناطق التهميش، وحقوق الإنسان.
الحقيقة التاسعة: أن تمدد وقوة المؤسسات الإغاثية الغربية ناتج عن انحسار دور ووجود المؤسسات والحكومات الإسلامية التي هي الأحق بتلك الساحات الإسلامية، كما أنه ناتج عن تساهل الحكومة السودانية أو قبولها للضغوط الأجنبية.
فهل دعاوى الإرهاب على المؤسسات الإسلامية وانحسارها عن الساحات جزء من مخطط كبير يستهدف أولاً زيادة مواقع الاحتياجات والصراعات؛ وذلك بزرع الحروب والأزمات، والواقع يؤكد تمدد طلائع الاستعمار في أفغانستان والعراق وباكستان وكشمير وأندونيسيا وأفريقيا كلها، كما يؤكد النوع الآخر من الاستهداف. لقد كشف تقرير للبيت الأبيض أن إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش (الإدارة السياسية وليس المؤسسات) قدمت مساعدات مالية بلغت أكثر من ملياري دولار كمنح للجمعيات الخيرية الدينية خلال العام الماضي فقط 2005م، وهذا الرقم لا يشمل كل المنح التي قدمتها الإدارة الأمريكية حسب الغارديان البريطانية(6).
وختاماً: إن المسؤولية كبيرة على مؤسسات وحكومات العالم العربي والإسلامي، وعلى الحكومات أن تدعم معنوياً وإدارياً مؤسسات الإغاثة الإسلامية بكل أنواع الدعم وتبادر دون تردد بالدعم المالي لئلا تكون العقوبة ويكون دفع الثمن. {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] وما أصبح بالأمس واليوم مناطق جذب بشري فقد كان مواقع ومناطق طرد بشري، ويمكن أن يكون العكس وتدور الدوائر {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} [آل عمران: 26] {إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
----------------------------------------
(*) باحث أكاديمي سعودي، له عناية واهتمام ودراسات علمية عن العمل الخيري الإسلامي، والمشرف العام على مركز القطاع الثالث للاستشارات والدراسات الاجتماعية. صدر له البحث الوثائقي (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب) وكذلك كتاب (ضحايا بريئة للحرب العالمية على الإرهاب) ضمن سلسلة كتاب البيان، وفي الطريق له أبحاث أخرى منها (تنمية مؤسسات القطاع الخيري) و (القطاع الخيري وتحديات العولمة).
(1) انظر: إدارة المنظمات غير الربحية/الأسس النظرية وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية، د. إبراهيم بن علي الملحم.
(2) عن جمع المعلومات من قبل المنظمات الغربية انظر: http://www.islammemo.cc/Taq r e r /onenews.asp?IDNews=765
(3) http://www.islamdaily.o r g/A r / Contents.aspx?AID=3742.
(4) http://www.islamdaily.o r g/A r /Contents.aspx?AID=3737 20/11/2005.
(5) جميع هذه الإحصائيات تم الحصول عليها من (مفوضية العون الإنساني السودانية) بتاريخ 2/4/2006م
(6) الغارديان البريطانية في 11/3/2006.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
-==============(4/16)
(4/17)
المرأة السعودية . . واللجنة الأولمبية!!
نورة السعد
هل نحن في ورطة بسبب اللجنة الأولمبية؟
سؤال كان في بدء مقالة أحدهم في الاقتصادية في عددها رقم 4547 في يوم الجمعة 24/ صفر الحالي. والمقالة مفجعة في مقياس التشريع الرباني فيما يخص المرأة المسلمة بشكل عام ولن أقول (السعودية) فقط فهو يسفه بالتشريع الرباني الذي يُحرم اختلاط النساء بالرجال ويدعي أن عدم مشاركة المرأة السعودية في الألعاب الأولمبية يجيء من (باب الخصوصية)!!
ولأن اللجنة الأولمبية طالبت الدول التي لا تشترك المرأة في الألعاب الأولمبية ومنها السعودية أن تسارع بإشراك المرأة أولمبياً وإلا فإن اللجنة ستمنع هذه الدول من المشاركات الدولية في مختلف ألعابها!!
وحتى لا نخسر دخول (جنة الألعاب الأولمبية) فلا بد أن نخضع تشريعات ربنا لما يتوافق مع مطالب اللجنة الأولمبية!! وذلك من خلال مطالبة صاحب المقال بأنه يجب علينا كي (نخرج من هذا المأزق)!! أن نشجع المرأة على ممارسة رياضات لا تستدعي الملابس الرياضية المكشوفة وذلك كرياضة السلاح (الشيش) وركوب الخيل وارتداء السروال الطويل في ألعاب مثل كرة السلة وكرة اليد وكرة الطاولة وغيرها.. ويقول: (لعلنا بهذا نخرج من هذه الورطة ونفوت من هذا المأزق)!!
ثم يستعرض كيف أن الرياضة النسائية وجه من وجوه التقدم والتحضر!! والمرأة من (حقها) أن (تعبر عن نفسها رياضياً) سواء محلياً أو عالمياً أو أولمبياً.. وأن تدخل المنافسات مع مثيلاتها في مختلف الرياضات وأن تحصل على الكؤوس والميداليات وأن تصنف في قوائم الشرف الدولية والأولمبية!!
وذكر أن هناك (إنذاراً) وجه إلى كل الدول التي لا تمثل نسوياً في الدورات الأولمبية ومنها (السعودية)!!
.. هكذا نستهين بالتشريع وبما جاء في آية الحجاب التي تضع الشروط الربانية وليس الأولمبية لما يجب على النساء المسلمات أن يلتزمن به والتي يقول خالق الكون ورب العالمين ورب الجنة والنار والنور والرحمة وأيضاً العذاب والعقاب.. يقول - جل وعلا -: "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (31) سورة النور.
هذه آية الحجاب الشرعية التي تحدد معنى غض البصر معنوياً واجتماعياً وشرعياً ومعنى الحجاب والستر والابتعاد عن أي مواقع للاختلاط بالرجال الأجانب الذين ليسوا من المحارم الذين تحددهم الآية.
فهل من أجل حرماننا من الأولمبياد نكسر قواعدنا الشرعية ونحور شعارات (حرية المرأة في أن تعبر عن حقوقها رياضياً؟؟
هل الاختلاط بالرجال وممارسة أنواع الرياضة أمامهم بادعاء لبسهن سراويل طويلة!! هو التطبيق لهذه الآية الكريمة؟؟ أم أن الحجاب هنا سيناقض الحجاب الشرعي معنى وفضلاً عن الرجال الأجانب كما هو التشريع وليس كما هو الآن عندما أصبح الحجاب غطاءً للشعر فقط ولا مانع من مشاركة المرأة في العمل المختلط!! والآن المشاركة في النشاطات الرياضية حتى لا نُحرم من جنة وكؤوس الأولمبياد!!
هل بلغت ببعضهم الجرأة أن يطرح هذه القضايا التشريعية في الصحف والغاية هو الخروج من ورطة الأولمبياد؟؟
هل نستهين بشرع الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما جاء فيهما من قضايا توضح حدود خروج النساء للشأن العام بل إن آية "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ" (33) سورة الأحزاب هي توجيه رباني بتقييد هذا الخروج وهذه المشاركة لما تقتضيه الضرورة الاجتماعية الآن.. والمشاركة في الأولمبياد ليس ضرورة شرعية ولا اجتماعية وليس هناك أهداف سامية من هذه المشاركات وليست وسيلة تقدم فليست هي معامل ومختبرات وتقدم علمي وصحي ينفع الأمة.(4/18)
وإذا كان هناك من يردد أن الصحابيات كن يخرجن في الحروب للتمريض مثلاً وهي التي تتردد دائماً كدليل على مشاركة النساء في الحياة العامة ومن يستوعب الوضع الحقيقي لتلك المشاركة أنها كانت تتوقف عند تهيئة هذه الأدوات ولم تلمس امرأة مسلمة رجلاً في تلك الحروب وكن من كبيرات السن والسبب الأخير كان لقلة أعداد الرجال الذين سيقومون بهذا الجانب.. هذا جزء مهم والأهم هو ما جاء من حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع أم حميد التي قالت له: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: « قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خيرٌ من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خيرٌ من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خيرٌ من صلاتك في مسجدي ».. ثم بنِى لها مسجداً في أقصى بيت من بيوتها فكانت تصلي فيه حتى ماتت. هذه الرواية تؤكد ضرورة تقييد المواقع التي تختلط فيها النساء بالرجال حتى ولو في (المسجد) بل إن قوله صلى الله عليه وسلم : « خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها » دلالة أخرى على (عدم اختلاط النساء بالرجال) حتى في أداء الصلاة.. ويؤكدها ما جاء في رواية حمزة بن أسيد الأنصاري عن أبيه - رضي الله عنهما - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال صلى الله عليه وسلم : «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق». فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها.. حتى لا تختلط بالرجال وهي خارجة من المسجد!!
فهل المطالبة الآن بمشاركة المرأة السعودية في الأولمبياد هو (حق) أم هو خروج من الشرع وانتهاك لتشريع ومخالفات شرعية للآيات وللسنة النبوية؟!
وهل خروجنا عن دستورنا القرآن الكريم سيحقق لنا (التقدم والتحضر)؟! هل أوامر الله وسنة نبيه أهون عندكم من رأي رجال الأولمبياد؟!
ترى هل ورطة الأولمبياد هي الأهم الآن أم فتح أبواب جهنم على مصراعيها لمن يحرض ويمرر هذه المخالفات الشرعية؟!
.. إن مجتمعنا الإسلامي لن يحقق تقدمه ولا رفعته إلا باتباع أوامر الله - سبحانه وتعالى - واجتناب نواهيه.. فلا عزة بدون إسلامنا كما جاء في القرآن والسنة..ولا هوان إلا مع خروجنا منهما.
26 - 04 - 2006
http://www.islamway.com المصدر:
==============(4/19)
(4/20)
الأقليات الإسلامية . . واغتيال الهوية الثقافية
شذى شريف
يعاني المسلمون في مختلف أنحاء الأرض -حيثما وُجدت الحكومات المستعبدة المتطرفة في بلدان الغرب وآسيا وأمريكا- من اضطهاد وتفرقة عنصرية على المستوى الشعبي من المتطرفين وعلى المستوى الحكومي، هذا إلى جانب خطر أكبر يهدد هذه الجاليات على مستوى أنحاء العالم، وهو محو الهوية الإسلامية في ظل إعلام غربي يرسخ لمبادئ الانحلال وإعلام عربي وإسلامي ضعيف لا يصل إلى الطوائف المسلمة أينما كانت.
ويبلغ عدد المسلمين الذين يقطنون الدول غير العضو في منظمة المؤتمر الإسلامي نحو (450) مليون مسلم على مستوى قارات العالم الست، وهو ما يقدر بثلث عدد المسلمين، وعلى وجه التحديد يزيد عدد المسلمين في دول الغرب عن (25) مليون نسمة، يعيش منهم (16) مليون مسلم في أوربا ـ عدا ألبانيا والبوسنة حيث المسلمون أكثرية ـ و(8) ملايين مسلم في الأمريكيتين، وحوالي نصف مليون مسلم في استراليا.
محو الهوية!
تواجه الأقليات المسلمة السابق ذكرها محاولات ـ سواء بشكل مقصود أو عفوي ـ لمحو الهوية، أو ما يسميها البعض باغتيال الهوية، لما في هذا الأمر من نية مدبرة من قبل الغرب، وتشمل هذه التحديات المستويات الثقافية والاجتماعية والإعلامية والتربوية والتعليمية. ويكون الاغتيال الاجتماعي عن طريق بث العادات والتقاليد الغربية التي تتسم بقدر كبير من التسيّب، والذي يتنافى مع الدين الإسلامي ويتنافى مع واقع الأسرة المسلمة وعلاقات أبنائها مع بعضهم، والعلاقات الاجتماعية داخل الأقلّيات، وعلاقاتها بالوسط الذي تعيش فيه.
بالإضافة إلى التفكك الأسري، الأمر الذي يؤدي إلى انحراف الأبناء دينياً وسلوكياً، وتمردهم على الأعراف الأسرية والاجتماعية الإسلامية، وقد يجد الأبناء في الصداقات مع أبناء غير المسلمين ملجأ للهروب من ضغوطات البيت.
أما الاغتيال الثقافي فيكون عن طريق اقتلاع التاريخ الإسلامي من الواقع وتحويله إلى مجرد ذكرى مشوّهة في عقولهم، وتستند حكومات الغرب في القيام بهذا الدور إلى إعلام قوي يمكنها من بثّ السم في عقول وحياة الجاليات المسلمة التي ترى من المجتمع ما يكفي لمسخ هويتها الثقافية وتحويلها إلى مجرد ثقافة ممسوخة أخذت من الغرب كل شيء وتحوّلت إلى صورة مماثلة.
وتعتمد ثقافة المسلم التربوية والتعليمية على المصادر الثقافية الإسلامية، وفي مقدمتها القرآن الكريم والسنة الشريفة، وبالطبع مفتاح هذه المصادر هو اللغة العربية، وهنا تكمن مشكلة خطيرة؛ إذ إن الأجيال القادمة بين هذه الأقليات تفتقد إلى عنصر هام جداً، وهو اللغة التي يمكنهم بها أن يتعرفوا على تعاليم الإسلام وأخلاقه عن طريق دراسة قرآنه وسنته، وهي اللغة العربية؛ إذ غالباً ما يتعلمون باللغة الأم للبلد الذي يعيشون فيه، مما يترتب على هذا جهلاً حقيقياً في فهم الإسلام، وتمتد الخطورة هنا إلى العقيدة نفسها وليس الهوية فقط.
حملة منظمة!
وتعمل سلطات البلدان الغربية بأساليب مدروسة ومخططة لمحو الثقافة؛ إذ تعمل دول أوروبا الشرقية على سبيل المثال على القضاء على الأسماء العربية ومنع استخدامها بقوة القانون; لأنها تعتقد أن الشخص الذي يحمل اسم أحمد أو علي يعني بقاء ارتباطه بالإسلام أي المحافظة على الحد الأدنى من الانتماء الثقافي للإسلام، فتعمد تلك السلطات إلى تغيير هذه الأسماء وتعريض من يخالف للعقوبة. في حين تفرض بعض الدول على الأقليات المسلمة وضع مقطع زيادة على أسمائهم العربية لتشويهها؛ فعلى سبيل المثال أحمد يتحول إلى أحمدوف وعلي إلى علييف.
بالإضافة إلى أن بعض تلك الدول تلجأ إلى طمس أي مظهر من مظاهر الإسلام؛ كحملتها المنظمة على الحجاب مثلاً، والتي شنتها فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية تحت مزاعم الإرهاب، إلى جانب هولندا التي شرعت قانوناً لحظر النقاب ودفع المسلمين في اتجاه الأعراف، والتقاليد الاجتماعية السائدة في البلدان الغربية في سلوكيات غير شرعية لدى الأقلّيات المسلمة فيها محاكاة لتلك الأعراف، وفي مقدمتها موضوع الاختلاط والانفتاح بين الرجال والنساء في كل الأماكن والأزمان.
العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة ينتهج خطوات تسعى إلى إحداث الفرقة تمهيداً للتدخل العسكري..
ويدخل في السياق نفسه التبرج والسفور وتسويغ الكثير من المحرّمات الأخرى، كشرب وأكل أطعمة ولحوم غير حلال، وكذلك الجوانب الحقوقية المتمثلة في قضايا الزواج (الشرعي) والإرث وغيرها مما يرتبط بالقوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية. فكثير من البلدان الغربية تفرض على المسلمين القوانين المدنية الوضعية التي يتعارض الكثير منها مع الشرع الإسلامي، ودون شك فإن الانتماء بالجنسية للبلد الغربي سيترتب عليه الالتزام بقوانين هذا البلد بمختلف ألوانها ومضامينها، الأمر الذي يوجد هذه الإشكالية، أي إشكالية الانتماء بالجنسية للبلد الغربي والانتماء بالعقيدة للإسلام وما يترتب على ذلك من خصوصيات.
مهمة إسلامية:(4/21)
وفي ظل ما يواجهه المسلمون من تحديات فيما وراء البحار كان لزاماً على الدول الإسلامية أن تقوم بدور فعّال في بثّ الثقافة الإسلامية إلى هذه الأقلّيات عبر وسائل الإعلام، وعلى شكل كتب تعليمية أو عامة ومجلات وأشرطة سمعية وبصرية وغيرها، ولاسيما تلك المعدّة خصيصاً لمخاطبة الأقلّيات المسلمة في الغرب، إضافة إلى إنشاء مشاريع في دول الغرب نفسها تقوم بمهمة الإنتاج، أو الترجمة كحد أدنى، وصولاً إلى إنشاء إذاعات ومحطات تلفازية ووكالات أنباء خاصة لبث الأخبار الإسلامية بديلاً عن وكالات الأنباء ومصادر الأخبار ووسائل الإعلام التي تشرف عليها وتمولها الدول الغربية.
وكذلك الاهتمام بإعداد الكوادر الإعلامية من أبناء الأقلّيات لسد أي فراغ محتمل في هذا المجال، على أن تتم هذه النشاطات ـ بالنظر لخطورة رسالتها وتأثيرها -تحت إشراف أساتذة وعلماء كمرجعيات في الجانب الشرعي.
ومن المثير للدهشة أن الغرب يستهدف الإساءة إلى الإسلام بأكثر من وسيلة، ويطمح إلى محو الهوية العربية الإسلامية حتى يستبدل بها النموذج الغربي. يقول أحد الكتاب العرب: إن العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة ينتهج خطوات تسعى إلى إحداث الفرقة تمهيداً للتدخل العسكري؛ إذ تحوّلت "الحرب الثقافية إلى حرب عسكرية أفضت إلى احتلال أفغانستان والعراق والطموح إلى غزو دول أخرى كسوريا".
ومن هنا يتضح أن المسلمين يواجهون حملة منظمة يقودها الغرب وغير المسلمين تتطلب الحذر والانتباه، مما يضع على عاتقهم مواجهة هذه الحملة التي جاءت إلى ديارهم إلى جانب وضع آليات للحفاظ على هوية الأقليات.
2/4/1427
30/04/2006
http://www.islamtoday.net المصدر:
=============(4/22)
(4/23)
شباب الروشنة .. إلي أين يمضي ?!
ماجدة أبو المجد
مظاهر عمياء للتقليد الأجوف لكل ما هو أجنبي ووافد، سواء من المغرب أو المشرق، وبين البنين وبنات، وفي جميع أجزاء الجسد، بدءًا بطريقة المشي، وانتهاءً باللبس والكلام، وذلك تحت أسماء ما أنزل الله تعالي بها من سلطان، في سلوك يحذر العلماء والخبراء من أنه جزء من غزو منظم لأفكارنا وعقولنا وأخلاقنا والتزامنا الديني.
والأمر هكذا، كانت البداية مع جولة بين الشباب والفتيات، هذه حصيلتها:
جذب انتباهي ولد - لم أعرف أنه ولد إلا عندما اقتربت منه- كان يرتدي ثوبًا ذا ألوان صاخبة ولم يكتف بذلك، بل كان يطيل شعره ويربطه برباط الشعر كما تفعل البنات، ويصبغ خصلات الشعر كل خصلة بألوان عدة وعندما سألته: لماذا هذا? رد قائلا: إن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - كان يطيل شعره، أما الخصلات فأنا أحب التفرد والتميز عن الآخرين!
وإذا كان بعض الأولاد يصبغون شعرهم للتميز فإن أغلب البنات يتجهن لوضع نقوش علي أيديهن وأكتافهن في صورة لوحات فنية تسمي التاتو ولا يقتصر نقشه علي الأجزاء الظاهرة من الجسد فقط بل يتعداها إلي أجزاء الجسم الداخلية كالبطن والفخذين وغيرهما.. وتختلف تلك النقوش في تجسيد إما الحيوانات المفترسة وإما الأليفة وإما الزهور بألوانها وأشكالها المختلفة وإما بأشكال ليس لها معني، وتكثر هذه النقوش خاصة في ليالي الزفاف.
صرعة البنات
في السياق نفسه فإن موضوع النقش قد انتشر بين الفتيات بصورة كبيرة فأصبحت كل مراكز تجميل النساء تضع أسعارًا خاصة لكل نقش، بداية من 80 جنيها للنقش البسيط ويرتفع السعر بزحمة النقش والمنطقة السكنية.
هذا ما قالته الحاجة نادية - مديرة أحد مراكز تجميل النساء بمدينة نصر.
وكانت موضة هذا العام لملابس البنات: «البدي» والبنطلون القصير أو ما يسمونه «تركوا» والجيب المرقعة والمشرشبة، أما موضة الأولاد فكانت البنطلون النازل.
وفي أحد الميادين العامة وجدت شابا في الثامنة عشرة من عمره يصبغ شعره بألوان غريبة، منها الأزرق الفاتح والقاتم، وعندما تكلمنا معه قال: أحب التقليد وأحب أن أكون «موديل» لأن البنات لا تعجب إلا بالولد الكول الذي يرتدي الغريب ويمسك بيده سلسلة فإنه يلفت أنظارهن وتتجاذب عليه البنات.
أما السيد عبد العزيز - مصفف بمحل كوافير رجالي- فقال: يأتي إلينا يوميا شباب يريدون قص شعرهم بطرق غريبة، بالإضافة إلي ترقيق حواجبهم وإزالة شعر الوجه بالفتلة حتي يصبح وجههم أكثر نضارة وأكثر جمالا!
وتنتقد أم محمود طريقة تفكير أولادها وتشبههم بالبنات في تصرفاتهم إذ يطلب منها الولد أن تصنع له ما يزيل به الشعر الزائد بحسده، كما أنه يرتدي ملابس غاية في الأنوثة ولكنها لا تدري كيف تتصرف.
وتقول عبير عبد النبي: ما المانع أن أرتدي ما يعجبني حتى لو اعترض أهلي عليها فلهم حياتهم الخاصة وأنا لي حياتي الخاصة?! ولماذا يصرون علي أني دائما مخطئة?! وماذا في تلك الملابس التي أرتديها?! ولمن تعرضها محلات الملابس إن لم نرتدها نحن الشباب والفتيات? وكانت عبير طبعا ترتدي بنطلونا قصيرا وبدي يجسد مفاتن جسدها!
ومن الغريب أيضا ما وجدنا عليه علياء، التي ترتدي بنطلونًا يجسد العورة بشكل مخجل وفوقه بلوزة قصيرة جدا، وتقول: لقد تعودت علي ذلك الملبس منذ الصغر ولم يقل لي أحد: إنه حرام!!
أما فاتن - وهي فاتن- فبرغم جمالها وبياض بشرتها ولون عينيها الخضراوين، إلا أنها تخلت عن حواجبها وزرعت حواجب أخري بقلم التحديد، وقالت: إن هذه هي الموضة فأستطيع بها ترقيق الحاجب أو تكثيفه كما تفعل نجمات هوليوود الغرب فلسنا أقل منهن جمالا.
ولقد شاهدت ولدًا يرتدي بنطلون «جينس» قد يُخلع منه فأغمضت عينيّ حتي لا آراه وهو يخلع.. لكن عندما سألت اكتشفت أن هذه هي الموضة فاتهمت نفسي بالتخلف.
ولا تري ديانا نجم -بكلية الآداب قسم لغات شرقية- عيبًا في أن يهتم الولد والبنت بمظهريهما، لكن العيب أن نجد نسبة عالية جدا من السفور يدفع إليها الفيديو كليب، وأن تكون تأشيرة دخول الوسط الفني والغنائي ارتداء المايوه وتلوين الأظافر والتشبه بنجوم الغرب.
شباب «روش»
وبلهجة غريب وطريقة حادة في الكلام قال أحمد عبد الفتاح -بكلية التجارة- علي ما تقوله أماني قائلا: ما المانع أن يكون الشباب لذيذًا «روش» يواكب عصره وأن يكون «ستايل»?! فالشباب بطبعه متمرد لا يريد أن يحكمه أحد وإن لم يكن الشاب كذلك فأعتقد أنه يعاني مرضا نفسيا. واستنكر أن يعيب عليه الجيل السابق.. موضحا أن نفس الجيل كان متمردا بالنسبة لسابقه، وهذه سنة الكون» كل جيل قديم لا يعجبه الجيل الجديد وهكذا تسير الدنيا ونحن كذلك إذا أصبحنا آباء فسوف نعترض علي ما يفعله أبناؤنا. ويضيف: إن لغة العصر هي التي أتاحت لنا استخدام تلك الألفاظ من «روشنة وهنج ونفض وكبر واستارت وروش طحن» وغيرها من الألفاظ المستخدمة.
ويتفق معه محمد يحيي -بكلية الحقوق- مع الرأي السابق» فيؤكد ضرورة مسايرة موضة العصر حتي لا يكون الشباب متخلفا خاصة أنه وجد كل شيء مفتوحا ومتاحا.(4/24)
وعندما وقفت أتحدث مع أحمد علي بادرني بالقول: انظري خلفك. فعندما نظرت خلفي وجدتني أشبه ما أكون في كباريه أو مرقص بملابس.. تلك البنت التي تكشف من جسدها ما لا يصح كشفه برغم دخولها إلي الحرم الجامعي، فقال: ماذا يفعل الشباب تجاه هذه المناظر القبيحة?! فالشاب المحترم في الجامعة تُفرض عليه مناظر غير محترمة وإن لم يحافظ علي نفسه فسوف ينجرف مع التيار وسوف يرتدي ملابس أقبح مما تتخيلين ليغري بجسمه وعضلاته الجنس الآخر.
ويطالب كل من: هيام محمد ونورا سعيد ومحمد علي بضرورة تدريس مادة للقيم والأخلاق والمبادئ بالجامعات المختلفة، وبكل الكليات، بشرط أن تكون مادة امتحان تعوضهم عن التفكير السلبي الذي استحدثته ثقافة الروشنة وتقربهم إلي دينهم أكثر وإلي أعرافهم وتقاليدهم الجيدة.
ويري أحمد إبراهيم ومريم عبد المجيد أن منحني انحراف الشباب في طريقه إلي الانخفاض» بدليل وجود جماعات داخل الكليات المصرية تشترك في برامج صناع الحياة، بالإضافة إلي موجة الالتزام بين الشباب والفتيات بصورة طيبة رغم كل المثيرات حولهم. لكن مريم عابت علي الولد الذي يرتدي «بادي» وتحته تي شيرت ويتشبه بالبنات، برغم أن هذا الملبس لا يجوز للبنات خارج المنزل.
المرض وليس العرض
وفي تعليق للدكتور حاتم آدم -استشاري الصحة النفسية -يؤكد أن كل ما نذكره ويعانيه المراهقون هو عرض وليس مرضًا، فلماذا دائما نبتر الأشياء ولا نحاول البحث عن أساس المشكلة التي تكمن في الغزو الثقافي والفكري لعقول المراهقين واستغلاله في تحطيم الموروث الثقافي والقيمي والديني لدي الشباب مستقبل الغد?! ويري أن المراهق في هذه الأزمة ليس طرفًا، بل مجني عليه من قًبل أجهزة الإعلام المختلفة وافتقاره للقدوة داخل الأسرة والجامع والكنيسة والجامعة والمدرسة والنادي?! فالدراما تعرض أعمالا كاملة لتعلمهم وسائل الانحراف المختلفة، وتعرض حل المشكلات في نهاية العمل علي استحياء» فتعلمه كيف يسرق، وكيف يغتصب، وكيف ينصب، وكيف يرتشي، وكيف يصبح ثريا في وقت قليل جدا، وكيف يتعاطي المخدرات? وكيف يتزوج عرفيا.. وكيف.. وكيف..
ويري د. حاتم أننا كمجتمع مسلم لم نكن نعاني مرحلة المراهقة وأزماتها» لأن الشباب المسلم يقضي وقته فيما يفيده ويفيد وطنه، لكن مع الغزو الثقافي فُرضت علينا عادات بالية، حاول مجموعة من الشباب تجريبها، فأصبحت موضة بينهم، خاصة في المدن الكبري كالإسكندرية والعاصمة. لكن مع ذلك لا يري أن كل شباب مصر يعاني ويعاني أهله معه مرحلة المراهقة، بدليل وجود نماذج في القري تفرغ كل طاقاتها في العمل وتتجه للزواج المبكر فلا تؤرقها مشكلات المراهقة التي يتحدثون عنها، ومن هذه النماذج نموذج قرية شكشوك بالفيوم» حيث الشباب يستيقظون قبل صلاة الفجر ويذهبون للبحر للصيد وتكسب الرزق، ثم يعودون مرة ثانية بعد صلاة الفجر، وطبعا يخرج للصيد كل أفراد الأسرة. وفي مدينة دمياط التي يعمل كل شبابها في أعمال النجارة لدرجة أن ورش النجارة موجودة داخل البيوت لذلك لا تجده يعاني المراهقة، وإن عاناها فلا يفجر كما يفجر ابن المدينة.
مراهق يقاوم المحتل
ويشير الدكتور حاتم آدم إلي أن نموذج المراهق الفلسطيني والعراقي وغيرهما في الأراضي المحتلة لا يعرفان لغة الروشنة -كما يقولون- لأنه لا يعرف إلا لغة واحدة، هي لغة الصمود والكفاح ومقاومة المعتدي والمحتل ولا يعرف نقش التاتو لأنه يعرف فقط الحزام الناسف والعمليات الاستشهادية، فالمجتمع إذن لديه القدرة الجبارة علي توجيه تفكير المراهق لأشياء نافعة أو العكس. لكن لا ينفي ذلك ضرورة تلبية احتياجات المراهق الضرورية والتعرف إلي سمات المرحلة من الناحية النفسية والانفعالية والجسدية والثقافية، حتي يمكن التعامل معه بصورة صحيحة. ومن تلك الحاجات حاجته إلي إثبات الذات» لذلك قد نجده يرتدي ملابس لافتة ليثبت ذاته من خلالها، بالإضافة إلي حاجته إلي إشباع الميول والرغبات الجنسية» حيث التشوق للجنس الآخر لذلك نجده يتزوج عرفيا» لأنه لم يجد الطريق الصحيح بوجود زواج شرعي سهل.. لذا فعلي المجتمع تسهيل الزواج الشرعي، كما أن حاجته تكون ملحة إلي اعتناق فكر ديني وأخلاقي حتي في البلاد التي تنكر وجود الله، فإنهم يتحدثون عن الطبيعة، فضلا عن حاجته للاستقلال المادي» لذا لابد من تعلم مهنة والبحث عن مصدر للتكسب. ويري ضرورة النظر إلي الشطط والشطح بعين الشفقة والرحمة وألا ننظر إليهم بعين الغل والانتقام» حتي لا نتسبب في إحداث أزمة حقيقية داخل نفسية المراهق.. وهكذا تمر مرحلة المراهقة بصورة سوية.
20/04/2005
http://www.al-eman.com المصدر:
=============(4/25)
(4/26)
الجزائر : اتجاه لجعل السبت والأحد إجازة إسبوعية بدلاً من الخميس والجمعة
الحملة التغريبية تواصل نجاحاتها!
والحال أنه لو بدا الخبر مثيراً للكثير من الجدال، إلا أن الغرابة فيه تكمن في أن مطلب تغيير يومي إجازة الأسبوع كان مطلباً ضيق الأفق حملته حفنة من الأحزاب ذات البعد التغريبي الأكثر تطرفاً من غيرها.
فقد شنت حركة العروش الأمازيغية الرافضة للمصالحة الوطنية والرافضة للإسلام السياسي في البلاد، شنت حملة إعلامية وسياسية في الداخل والخارج لتسليط الضوء على أهم مطالبها المتمثلة في تغيير يومي إجازة الأسبوع وجعلها على الطريقة المسيحية تماماً، وهو المطلب الذي اعتبرته العديد من الأحزاب السياسية الأخرى مطلباً ثانوياً، لكن الواقع أثبت أن مطلب العروش لم يكن ثانوياً، وأن الوعود التي أطلقتها الحكومة الجزائرية في إطار الإصلاحات السياسية والاجتماعية بدأت فعلاً عبر جملة من القرارات أولها كان إلغاء مادة التربية الإسلامية من مرحلة البكالوريا في الجزائر، وصولاً إلى قرار سوف يتم تطبيقه مع بداية السنة الميلادية القادمة 2006 والذي قد يثير حالة من الصدمة والترويع في الأوساط الشعبية الجزائرية التي رفضت مثل هذا القرار قبل عشرة أعوام مضت..
اللوبي الفرنكفوني المهيمن
نظرياً، فإن القرار قابل للتطبيق وفق المتغيرات التي حدثت في الجزائر، ربما لأن المصادقة على قانون المصالحة الوطنية والوئام المدني، جعلت الإعلام الفرنكفوني يسوّق في الفترة الماضية فكرة "التضحيات المجانية" التي دفعها الشعب الجزائري في مواجهته للتطرف الذي أوقع أكثر من 150 ألف ضحية، وهي الفكرة التي وجدت العديد من المنساقين إليها في الوسط السياسي؛ ربما لأن أكثر من 41% من الجزائريين مسّهم العنف السياسي الذي استمر منذ عام 1992، وهي النسبة التي راهنت عليها الجمعيات السياسية ذات البعد الاجتماعي والتطلع الفرنكفوني بالخصوص والتي سبق لها أن ساومت وتاجرت بطرق كثيرة على ما اصطلح على تسميته رسميا ب"ضحايا الإرهاب".
ولعل العديد من الجمعيات التي تحمل نفس التسمية لم تخف الدعم المالي واللوجستي التي حصلت عليه من الدول الأوروبية، ومن فرنسا بالخصوص لدعم "ضحايا الإرهاب"، بيد أن الدعم غير المجاني ارتبط في الفترة الأخيرة بالمقابل له، أي بما يمكن للغرب أن يجنيه اليوم من مكاسب توقف الزحف العروبي والإسلامي في الجزائر.فحين انفجرت في منتصف التسعينات فضيحة الدم الملوث التي تاجر بها مدراء سابقون في الهلال الأحمر الجزائري، ببيعه الدم الجزائري إلى فرنسا مقابل دم فرنسي ملوث ومبالغ فرنسية كانت تذهب نسبة منها إلى دعم مشاريع أخرى لا علاقة لها بالجمعيات الخيرية، بل بمدارس فرنكفونية اشتهرت بتشجيعها للثقافة المسيحية بكل أبعادها العقائدية والدينية، بيد أن القضية سرعان ما وجدت من يكتمها في ظروف كانت فيها العمليات المسلحة تأكل الأخضر واليابس في البلاد.. فالتسويق "للحرب الدينية على الإنسان" في الجزائر غذتها العديد من التيارات اليسارية المتطرفة، والعلمانية الفرنكفونية التي وجدت في العنف المسلح الجزائري سبباً في العنف الآخر عبر ربط الإسلام بالإرهاب، وهي الشعارات التي تربعت على صدر كبريات الصحف الفرنكفونية الجزائرية طوال عشرية من الزمن في الجزائر، والحال أن التهليل لإعادة فتح المركز الثقافي الفرنسي المسيحي في الجزائر قبل فترة جاء في وقت وقفت فيه نفس الصحف ضد مشروع التعريب الذي طالبت من خلاله رئيس الدولة إلى النظر فيه، لأنه يناقض الجمهورية المتقدمة التي تسعى الجزائر إلى تكوينها، وسيسمح بالزحف الإسلامي المتطرف إلى بلوغ أهداف كبيرة داخل المجتمع كما جاء في افتتاحية جريدة " لوسوار دالجيري" الصادرة بالفرنسية في الجزائر والمقربة من جبهة القوى الاشتراكية التي يتزعمها شرفيا حسين آيت أحمد.
حرب لغوية ودينية معلنة ومفتوحة!(4/27)
تفجير قضية تورط الفاتيكان في عملية التنصير في الجزائر، كشفتها قبل سنتين جريدة "الشروق" الجزائرية، وقد عملت الصحف الفرنكفونية واليسارية نفسها مدافعاً عن الكنيسة الكاثوليكية وتبرئتها من الفضيحة التي دوت في الجزائر وقتها، بحيث تم العثور على أناجيل وعلى أشرطة تدعو إلى المسيحية تم تسريبها إلى ثانويات في منطقة القبائل وفي مناطق أخرى في الغرب الجزائري، بيد أن الواقع الآخر كان أبعد من ذلك بكثير حين ألقت مصالح الأمن الجزائرية القبض على منصرين كانوا يدعون إلى المسيحية مقابل مبالغ مالية تمنح لكل "وافد إلى الرب" على حد قولهم، مما جعل وزارة الشؤون الدينية تخرج عن صمتها لأول مرة وتصدر بياناً ترفض فيه كل محاولة تغريب وتمسيح للجزائريين، و "القوى التي تريد فرض خياراً تغريبياً على الشعب هي القوى الظلامية الخائنة التي باع آباؤها الوطن من قبل وتحاول أن تبيع الدين اليوم"، كما جاء في التصريح الرسمي الصادر عن وزارة الشؤون الدينية في الجزائر.. لكن تلك الحرب على العربية وعلى الإسلام وجدت من يدعمها إعلامياً في الغرب، عبر ربط مناهضتها بالمساس بالحريات الشخصية كما جاء في افتتاحية جريدة "لوفيجارو" الفرنسية قبل شهرين والتي اعتبرت أن الوقوف في وجه "التغريبيين" عملاً إرهابياً لا يمكن السكوت عنه! أحزاب جزائرية نفسها اعتبرت أن الوقوف في وجه الحريات الشخصية إرهاب فكري، وأيديولوجي، بيد أن الحريات الشخصية ارتبطت في الخطاب السياسي لهؤلاء بالحق في التدين بأي دين، بمعنى الحق في الارتداد عن الإسلام الذي مرة أخرى تربطه بالإرهاب، عبر عبارة قالها المغني القبائلي المغمور الذي تحول إلى سياسي مفاجئ المدعو "فرحات مهنى" قائلا "الإرهاب الذي قتل الجزائريين اسمه الإسلام"! فرحات مهنى هو ما يشبه اليوم الذراع الأيمن الراديكالي لحركة العروش الجزائرية التي يقودها ضمنياً "بن بريكة" كأبرز المتطرفين الرافضين للإسلام، ولكل ما له علاقة بالإسلام في الجزائر، وهو المطالب بفتح الكنائس في منطقة القبائل التي تم إغلاقها بعد الاستقلال في الجزائر، كما طالب بدوره بجعل نهاية الأسبوع يومي السبت والأحد بدل الخميس والجمعة!
"السقوط إلى " القمة"! "
ما نشر في الفترة الأخيرة عن قرار جديد بتحويل يومي السبت والأحد نهاية الأسبوع الرسمية في الجزائر بدل الخميس والجمعة أسوة بدول الجوار (تونس والمغرب) لم يكن في الحقيقة إلا مشهداً آخر لوضع مزري يعيشه الجزائريون والذي يحاول من خلاله "التغريبيون" فرض حالة من الخضوع للأمر الواقع. ولعل لجوء الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى إلقاء خطابه السياسي الموجه إلى الجزائريين باللغة الفرنسية فتح الباب واسعاً للمطالبة ضمنياً بإصلاحات جذرية تشمل العربية والإسلام والقانون المدني وبالخصوص قانون الأسرة الذي شكل في النهاية مربط الفرس لكل تلك الجدالات الأخيرة، في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من 15 مليون جزائري تحت الخط الأحمر من الفقر الشديد قبالة دولة وصلت إيرادات بترولها السنة الماضية إلى 45 مليار دولار!
دراسة جريئة نشرها المعهد الوطني الاجتماعي الجزائري، جاء فيها أن ارتفاع نسبة الفقر في الجزائر ساعد على ارتفاع نسبة الجريمة، وساعد على ارتفاع نسبة العنف أيضاً، وساعد على جعل البلطجة في الجزائر ثقافة محورية بعينها سمحت ببروز العديد من القرارات والقوانين التي مرت مرور الكرام على الرغم من خطورتها الشديدة، بحيث أن الشارع الجزائري انشغل بالبحث عن خبزه اليومي على أن يلتفت إلى حروب تغريبية تمارسها التيارات الموالية لفكرة "التمسيح قدر المستطاع" والتي بدأت كمجرد شعار في السبعينات، رداً على شعار الإخوان المسلمين في الجزائر بعبارة: الإسلام قدر المستطاع، وكانت تلك الحركات المسيحية المتخفية خلف مسميات ديمقراطية أو يسارية أو علمانية تستهدف في المقام الأول المدارس ومراكز التأهيل ومراكز إعادة التربية لأجل نشر ثقافة "التسامح" التي تبلورت في شكل المسيح، وهي الثقافة التي عادت اليوم إلى السطح في ثياب الإصلاحات الشاملة التي تمارس لأجلها الولايات الأمريكية وفرنسا ضغوطات مشتركة لأجل الإسراع فيها في الجزائر وبشكل لا رجعة فيها كما ذكرت جريدة "لاتريبون" الصادرة بالفرنسية في الجزائر. الحكومة الجزائرية التي بدت "غائبة" وغير مكترثة إزاء كل الحملات التغريبية المقصودة لم تتأخر في تواطئها أحيانا فيما يخص تلك الشاكلة من الإصلاحات التي تستهدف ثوابت الأمة، في الوقت الذي بقيت الإصلاحات الاجتماعية التي تمس المواطنين في حياتهم اليومية "محلك سر"، أمام التراجع الرهيب في القدرة الشرائية للمواطنين، وأمام تصاعد التلاعب التجاري والغش والرشوة والفساد الإداري والبيروقراطية. لا شيء حدث لإصلاح هذه الاختلالات الرهيبة في المجتمع والكل هرع إلى اتهام الإسلام بالإرهاب واتهام القوى الوطنية بدعم الإرهاب، واتهام العربية بتزكية التطرف واتهام صلاة الجمعة بمباركة التطرف!(4/28)
تلك أكبر مظاهر الانهيار داخل الواقع الجزائري الراهن كما يراه أكثر من مراقب، بحيث إن المراهنة على الوطنيين لم يعد كافياً، في وقت صار فيه الشعب تحت وطأة التغريبيين الذين يتاجرون اليوم علانية بمستقبله باسم العولمة والحريات الشخصية والحق في الكفر لأجل "مستقبل أفضل"! وعلى رأي المثل الشعبي الجزائري " ما يبقى في الوادي غير أحجاره"!
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
==============(4/29)
(4/30)
المسلمون في مواجهة الغزو الثقافي المعادي
عبد الرحمن حمادي
في شهر حزيران - يونيو 1998 خرجت مجلة " تايم " الأمريكية وعلى غلافها صورة لمئذنة مع يد تحمل رشاشاً ومع عنوان رئيس في أعلى الغلاف نصه: " هل يتوجب علينا الخوف من الإسلام؟ "؛ وفي العدد نفسه تنشر المجلة تقارير لمراسليها في العالم يتحدثون فيها عن انتشار الإسلام وتحوله إلى قوة عالمية يجب أن يحسب لها حساب؛ خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وإضافة جمهوريات إسلامية جديدة في وسط آسيا إلى القوة الإسلامية.
ثم تحذر المجلة في مقال استفزازي الغرب لأنه عاد يدق أبواب العالم بقوة؛ و" قد بدا بتوجيه اللكمات إلى أوروبا والعالم الحر.. " كما تقول المجلة مكرسة نفسها في هذا العدد للتحذير من الإسلام والمسلمين بصورة عدائية استفزازية؛ ومع ذلك فإن عدد ال: تايم: لم يثر القارئ الغربي كثيراً لأن الإعلام الغربي بشكل عام منهمك في محاولة تفسير هذا الانتشار السريع للإسلام في العالم الحديث ويحذر من هذا الانتشار حتى أن صحيفة اللوموند الفرنسية مثلاً نشرت في شهر آذار - مارس 2000 تحليلاً لآلان روبييه قال فيه " إن الغرب منذ 1300 سنة يعيش هاجس مقاومة الإسلام؛ ولكن مع هذا الانتشار السريع للإسلام في الزمن الحالي ما الذي يملك الغرب فعله؛ إنه لم يعد يملك شيئاً؛ فالإسلام هذه المرة ينقض على الغرب وقريباً سوف تنتهي قيم الغرب الروحية والثقافية والمادية إن لم يجد الغرب وسائل لصد الإسلام ".
ما كتبه روبييه يتشابه مع كتبه بريان بيد هام في صحيفة هيرالد تريبيون في أواسط عام 1997 قائلاً: إن الحرب مع الشيوعية كانت ثانوية قياساً بالحروب مع الإسلام والمسلمين؛ فالحرب مع الشيوعية استغرقت سبعين عاماً فقط؛ بينما حروب الغرب مع الإسلام بدأت منذ 1300 سنة ولم تتوقف حتى الآن؛ وإذا استمر الإسلام في انتشاره بهذه السرعة في العالم فإن الغرب سيكون أخيراً هو الخاسر ".
بهذه اللهجة القلقة يتحدث الإعلام الغربي عن انتشار الإسلام؛ وهي لهجة ليست جديدة في هذا الإعلام؛ ولكن المتتبع لها يجد أن حدتها وشراستها كانت دائماً تتوازى مع قوة العالم الإسلامي أو ضعفه؛ ففي العقود الماضية من هذا القرن بدا الخطاب الغربي مطمئناً تجاه الإسلام إلى حد ما؛ فالبلاد الإسلامية كلها تقريباً كانت تحت السيطرة الغربية؛ وانعكس ذلك الاطمئنان في الاجتماع السنوي الثاني والعشرين للجمعية الأمريكية الكاثوليكية التاريخية الذي عقد عام 1941؛ ففيه ألقى مارشال بلدوين رئيس الجمعية خطاباً قال فيه " إن الغرب ما عاد ينظر إلى الإسلام باعتباره خطراً على الحضارة الغربية " ثم ذكّر بلدوين مستمعيه بأن" العالم المسيحي ظل يواجه خطر العالم الإسلامي لفترة تقرب من ألف سنة تمتد من تاريخ وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عام 632. المجتمع حتى تاريخ انهيار آخر هجوم عثماني أمام فيينا عام 1638. م" (1).
والآن؛ إذا قارنا ما بين كلمة بلدوين التي قالها عام 1941. المجتمع وهو مطمئن تجاه الإسلام؛ ومقالتي روبييه وبيد هام وهما في حالة قلق من انتشار الإسلام؛ سنجد أن القاسم المشترك بينها هو اعتبار الإسلام عدواً؛ وأنه بحالة حرب مع الغرب المسيحي منذ 1300 سنة؛ ويجب عدم نسيان الثأر من الإسلام لأنه ألحق الهزائم العسكرية الفادحة بالعالم الغربي عبر التاريخ؛ وهكذا فإن أعداء الإسلام يحرصون على إبقاء نظرة الغرب إلى الإسلام والمسلمين عدائية.
تفاعل أم غزو؟
في الصحوة الإسلامية المعاصرة تفاقمت نظرة العداء نحو الإسلام من قبل أعدائه؛ وبالتالي ازدادت جهودهم لتوسيع المفاهيم الخاطئة عن الإسلام في أذهان الغربيين من جهة؛ وتصعيد عمليات الغزو الثقافي للمسلمين من جهة أخرى؛ والمؤسف أن بعض المفكرين المسلمين يرفضون مصطلح الغزو الثقافي أو الفكري لأن (الغزو) مصطلح عسكري؛ ويطالبون بأن نتحدث عن (استيراد) فكري أو إيديولوجي بمعنى التفاعل مع الغرب؛ ولهذا فإن الحديث عن (الغزو الفكري) في رأيهم يعني الانغلاق على الهوية؛ وهو ما يجب أن يتحاشاه المسلمون
إن أمر هؤلاء عجيب فعلاً؛ فهم يرفضون أن نتحدث عن الغزو الثقافي الذي يستهدف المسلمين كي لا نُتهم بالانغلاق على الهوية؛ في حين أن ألمانيا مثلاً تتحدث عن ضرورة مقاومة الغزو الفرنسي للثقافة الألمانية؛ وفرنسا بدورها تثير بعنف مسألة الغزو الثقافي الأمريكي للفرنسيين؛ ووزير الثقافة الدانمركي وقف مؤخراً أمام البرلمان الدانمركي وتحدث عن أخطار الغزو الثقافي الأمريكي على الدانمركيين؛ بينما المسلمون برأي بعض مفكريهم يجب أن لا يتحدثوا عن الغزو الثقافي الذي يستهدفهم مع أنه أمر واقع وخطير؛ بل إننا نصل مع الدكتور فؤاد زكريا وعلي حرب إلى أنه يجب أن نتحدث عن (انفتاح ثقافي)(2) وهذا يعني أن نتحدث عن خلوّ وفاضنا من الثقافة وضرورة أن نستورد ثقافة الآخرين بلا قيود!!(4/31)
يتناسى هؤلاء بأن الثقافة الموجهة إلينا لم توجه أصلاً إلاّ لغايات عدوانية؛ وما هي إلاّ جهد خبيث للحد من انتشار الإسلام؛ وأن ثقافة الغزو آتية إلينا من أعداء لم ينسوا ثاراتهم مع الإسلام؛ وما من مسلم عاقل يقبل بعد هذا بأن تغزو ثقافة الغرب بهذا الشكل عقولنا؛ وأن تنفذ إلى وجودنا من خلال السينما والتلفاز والأغنيات والأدب وكتب الموضة والمجلات؛ مع أننا يجب أن نعترف بأن العالم شهد تقدماً في العلوم بينما ظللنا متخلفين وعلينا أن نلحق بالركب ونبلغ التقدم وأن نستفيد من علوم الآخرين ونكسبها ولكن دون أن نخضع إلى تأثيرهم أو نكون تابعين لهم وتحت سلطتهم الثقافية؛ ودون أن ننسى بأن لدينا من الإرث الثقافي والفكري والعلمي ما يستحق الاعتزاز؛ وهذا يعني أن ثمة فارقاً بين الغزو الثقافي والتفاعل الثقافي؛ فلكل أمة من الأمم تمايزها الثقافي؛ وهذا التمايز هو الذي يحمل قيم كل أمة وإبداعاتها وإبداعات أبنائها وأصالة هذا الإبداع؛ وما يحدث اليوم هو محاولات حثيثة من قبل أعداء الإسلام لإلغاء التمايز الثقافي للمسلمين وإحلال قيم ثقافات أخرى محل ثقافتهم.
هكذا يفعلون:
ولكي نوضح أن ما يحدث هو غزو وليس تبادلاً فكرياً نورد بعض أشكال وأساليب هذا الغزو حيث نجد أن أهم ما يلجأ إليه الغرب في حربه ضد المسلمين والإسلام هو عرضه الخبيث للفارق بين واقع المسلم وواقع المواطن الغربي من جميع النواحي؛ فهم يصورون الغربي على حالة من الرفاهية والنعيم التي يصعب على المسلم أن يصل اليها؛ ويصورون الغربي في حالة من الحرية والرخاء وحرية القول والعمل؛ بينما المسلم مكبوت مضطهد لا يستطيع أن يتصرف أو يتكلم بحرية!!
وبعد أن يرسخ أعداء الإسلام هذه المفاهيم في أذهان بعض المسلمين وكأنها أمر واقع لا سبيل إلى تغييره يمضون في بث الشعارات والمفاهيم المغرضة؛ ولنعترف بأن هذه المفاهيم المغلوطة قد تكونت لدى كثير من الأجيال المعاصرة واستطاعت أن تحدد للدين دوره بمعزل عن الحياة وفي زاوية ضيقة يلخصها شعار- فصل الدين عن الدولة -أو تلغي دوره من الحياة أساساً؛ فهو لا يرتبط بالواقع من خلال المعاني التي تصنع القوة والحركة والتقدم؛ بل ينظر إليه باعتباره سبب الضعف والجمود والتأخر كما تدل على ذلك شعارات كاذبة مثل " الدين أفيون الشعوب " و " الدين ضد العلم ".... !!
ويمكن أن نعدد أيضاً من أساليب الغزو الثقافي المحاولات التالية:
- توظيف السينما والتلفزة؛ فثمة مئات من الأفلام السينمائية الغربية التي تحاول تشويه صورة الإسلام والمسلمين؛ ويومياً تبث الأقنية الفضائية عشرات المسلسلات التلفزيونية التي تكرس فكرة تخلف المسلمين.
- توظيف الكثير من الكتاب والمؤلفين ليكتبوا ما يشوّه صورة الإسلام بأسلوب خبيث ذكي وليتسرب بذلك السم إلى عقول المسلمين.
- تشجيع الخلافات المذهبية بين المسلمين وتعميقها ثم إبرازها للمسلمين عبر الأقنية الإعلامية على أنها تمثل الإسلام... (3).
ما العمل؟
دعونا نعترف أن الخوف في مسألة الغزو الثقافي الذي يستهدف المسلمين والتصدي له موضوع خطير يحتاج إلى كثير من البحث ولا يمكن أن نفيه حقه عبر هذه العجالة؛ ولكن يجب أن ندرك بأن هذا الغزو الثقافي الذي يستهدف المسلمين قد وصل إلى أشد حالاته شراسة وأنه يزداد عداء وخبثاً مع ازدياد انتشار الإسلام في العالم؛ وهذا يعني أنه لاخيار أمام المسلمين إلا التصدي لهذا الغزو؛ ولا شك في أن سبل التصدي مرهقة وشاقة وتحتاج إلى بذل الكثير من الجهود التي نذكر بعضها:
- مسؤولية القادة والعلماء المسلمين عن شحذ الهمم الإسلامية وبث الفعالية الروحية للأمة الإسلامية.
- الاتجاه السليم إلى الأجيال المسلمة الجديدة وإيجاد حالة التصاق متين بينها وبين الإسلام وقيمه ومبادئه.
- نشر الوعي الثقافي الكفيل بتكوين المسلم المتمتع بالشخصية الإسلامية الحقيقية التي تملك تصوراً شاملاً عن الكون والإنسان.
- التعريف بالتاريخ الإسلامي المضيء وقدرة الثقافة الإسلامية على الوقوف في ساحة الحياة وقدرتها على قيادة الأمة نحو ما تصبو إليه.
- تأمين الوسائل الإعلامية الحديثة بتقنياتها المتطورة والقادرة على التصدي للوسائل الإعلامية المعادية.
إن سبل التصدي كثيرة وشائكة كما قلنا؛ ولكن كل السبل لا يمكن أن تكون فعالة ما لم يلتق المسلمون على صعيد واحد وعلى هدف واحد؛ والالتقاء يجب أن يكون مبنياً على حب الخير والمصلحة لجميع المسلمين دون تمييز؛ ويجب ألا يغرب عن البال بأن الأعداء هم الذين زرعوا الشقاق والخلاف في صفوف المسلمين.
-------------------------------------------------
الهوامش:
1- عبد الرحمن حمادي - صورة المسلمين في السينما العالمية - مجلة البيان - العدد171- الكويت - 1997.
2- سليم علي جواد - نحن والآخر - مجلة الراية - العدد 203 - بيروت - 1988.(4/32)
3- من المؤسف تلك المناظرات التي يتناظر فيها مذهبياً مسلمون غير مؤهلين وبشكل مستمر في صالة نيوجرسي سكوير بالولايات المتحدة الأمريكية وتبثها عدة أقنية فضائية وخاصة الشتائم التي يتبادلها الطرفان أثناء المناظرات؛ وتتناقلها بعض وسائل الإعلام الإسلامية.
http://jmuslim.naseej.com المصدر:
=============(4/33)
(4/34)
تقليد الغرب وأبعاده
سعد بن عبد الله الحميد
لقد كثرت وتنوعت صرخات الموضة عند الغرب في عصرنا الحديث، وأصبحت المرأة الغربية تعرض نفسها في دور الأزياء، تحت شعار صرخة الموضة الجديدة، وقابل هذا الشعار في بلاد المسلمين التقليد لمختلف الصرخات الجديدة، من هذا ما نجده عند المرأة في جميع البلدان الإسلامية، فلقد استغلت استغلالاً تجارياً ليتمتع الرجال بجسدها ومنظرها، وهذا كثير، ومن أمثلة ذلك استغلالها في الدعايات التجارية، كما يشاهد في التلفاز، وفي السلع التجارية كالصابون، وأنواع الشامبو، والألبسة، والعطورات وغير ذلك كثير من البلاءِ الذي داهمنا، ونجد أنَّها اتخذت سلعة في الطائرات كمضيفات، وفي المستشفيات, والمستوصفات، وغير ذلك، وتأخذ منك الدهشة مأخذها حينما تتساءل ما السر وراء جعل من يقوم بهذا العمل هذه المرأة التي انتقيت بسبب جمالها، وأضافت إليها أنواعاً من الزينة المصطنعة؟ كل ذلك لأجل أن تناول الطبيب الأداة الفلانية، أو تأخذ درجة حرارة المريض ومقياس ضغطه، أفلا يستطيع الرجل أن يقوم بكل ذلك، وتبقى المرأة مصونةً مكرمة عن الابتذال للرجال بهذه الصفة التي تدعوك للوقوع في سخط الله، فتنظر إلى ما حرم الله عليك؟ أو ليسوا يدعوننا بلسان الحال للوقوع في الفاحشة؟ إننا أصبحنا كالفارس في وسط الميدان، وقد وجهت له السهام من جهات عدة، فإن ذهب يصد هذا فلا يؤمن عليه أن يصيبه ذاك، فإن حماه الله بحماه وإلاَّ فيا لضعفه، إننا نجد أن مجتمعنا الإسلامي المحافظ قد رمي بما ذكرنا، وما لم نذكر أكثر، فقد كثرت الأجواءِ الموبوءة التي يختلط فيها الرجال بالنساء، وكلنا يرى تلك الحدائق[1] التي يرتادها الرجل عديم الغيرة بنسائه، ليتبادل مع الآخرين النظرات، ولقد رأيت بنفسي ما يحزن قلب كل مؤمن، فما السر وراءَ انتشار الحدائق بهذه الكثرة المدهشة؟ وإن كان هناك عذرٌ نعتذر به، فلماذا لا يكون للنساءِ حدائق خاصة بهن؟ ولقد توفرت الأسواق والمجمعات التجارية التي يختلط فيها الرجال بالنساء، ويأتيها الرجل الفاسق عن أمر ربه لا لقصد الشراء، وإنما لقصد التصيد لفاسقة مثله، أو الظفر بالنظر على الأقل، مع أن واجبنا نحن المسلمين أن نعمل على كل ما من شأنه إبعاد المجتمع عن الوقوع في المعاصي والآثام. ولقد توفرت وسائل النقل بالأجرة، وكثر السائقون، وأصبح من الميسور للمرأة أن تذهب مع السائق إن وجد لأي مكان شاءت، وإذا لم يوجد السائق فسيارات الأجرة (الليموزين) موجودة في كل مكان، ويمكن استدعاؤه عن طريق الهاتف، وأصبح الكل يرى من المناظر المخزية ما يجعلهُ يتوقع نزول العقوبة عمَّا قريب، وليس أدلُ على هذا مما يُشاهد في هذه الأيام من قيامِ هؤلاءِ المستهترين بالأمن والقيم والأخلاق، في حال النشوة والسكر بالخمرة، والافتتان بها، من إيذاء الناس في طرقاتهم، واعتراض محارمهم، وقيام بعض الفتيات بالذهاب مع السائقين لمجاراة هؤلاء المجانين في هوسهم، فقد اعترض هؤلاء المفتونون سيارة أجرة (الليموزين) في نفق من الأنفاق، في ساعة متأخرة من الليل، وفيها نساء، فاستوقفوها، وأخذوا يطلبون من النساء النزول منها أمام جمهرة الناس وازدحامهم، فهم قد رفع عنهم القلم ما دام ذلك في نشوة النصر[2] لمعركة من أشرس المعارك، التي استطعنا بها افتتاح قلاع وحصون الأعداء، فياله من نصر؟!!
وليس اللوم على هؤلاء الشبان فقط، بل اللوم على الجميع، إذ يجب على كل منا أن يحرص على صون محارمهِ من الذهاب وحدهن مع هؤلاء السائقين، وأن يحرص على صونهنَّ أيضاً من الانسياق وراء هذه المتاهات والمزالق، بحجة تشجيع النادي أو الفريق الفلاني، ويجبُ على المسئولين أن يتقوا الله في شباب المسلمين، وأن يتقوا الله في بنات المسلمين، فإنهم والله سيسألون عنهم يوم القيامة، وإنَّ هذه الحوادث التي تحدث من مجانين الرياضة، لهي نذيرُ شؤمٍ وطالع خطرٍ يهدد بفقدان الأمن الذي ننعم به، وإنه سيؤدي حتماً إلى استفحال الداء، وتعسر الدواء، فإنَّهم اليوم يفعلون ما يفعلون بحجة الانتصار في الكرة، وسيأتي لهم يوم يستخفون فيه برجال الأمن كما استخفوهم في هذه اللحظات، ثم تكون النتيجة مروعة، فهل ما يحدث الآن أمر عفوي، وزلة من الزلات؟ أم هي مكيدة لإغراق شبابنا وشاباتنا في فتنة نارها تتأجج، ولا يعلم مداها إلاَّ فاطر الأرض والسماء،
يا أمة محمد..الله الله، عليكم بتقوى الله، والتمسك بكتاب ربكم، والاهتداء بسنة الهادي نبيكم صلى الله عليه وسلم فإنكم والله تساقون إلى بلاء، وتغادرون إلى محن، ابذلوا النصح لإخوانكم وأولياء أموركم، حذروهم من الشرور، فكل منكم على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله.
----------------------------------------
[1] والملاهي والمنتزهات.
[2] المزعومة، وأننا قد خفنا.
7/3/1426 هـ
2005-04-16
http://www.islamlight.net المصدر:
-==============(4/35)
(4/36)
لماذا أخفق مشروع النهضة التغريبي ؟
د. محمد مورو *
بعد عشرات السنين من اندلاع حركة التحرر الوطني في العالمين العربي والإسلامي ودول العالم الثالث عموماً، وبعد سلسلة من التجارب والمحاولات لتحقيق وبناء النهضة، اكتشف الجميع قادة ومفكرين أن مشروع النهضة التغريبي ـ أي الذي استند إلى وسائل وأساليب وأفكار مستمدة من الشرق أو الغرب ـ قد وصل إلى طريق مسدود، وأنه لم يحقق أياً من أهدافه المرجوة.
وكان من الطبيعي أن يطرح السؤال نفسه، وهو: لماذا أخفق مشروع النهضة التغريبي ووصل إلى هذا المستوى من الانهيار وعدم الجدوى؟ وفي رأينا أن هذا المشروع النهضوي ـ الذي استند إلى أفكار الحضارة الغربية وأساليبها، والذي تجاهل خاصية الذات الحضارية لبلادنا ـ كان من الطبيعي والمؤكد أن يصل إلى طريق مسدود؛ لأنه افتقد المقومات البديهية لأية نهضة؛ ولأنه تجاهل العديد من الحقائق العلمية حول عملية النهضة.
* إخفاق منهج النهضة:
إذا افترضنا حسن النية في هؤلاء الذين قادوا محاولات النهضة في بلادنا وفي تاريخنا المعاصر فإننا نجدهم قد وقعوا في خطأ علمي فادح؛ حينما تعاملوا مع منهجية التغيير بمعزل عن السياق الحضاري لها؛ لأنه في الواقع لا منهج هناك مجرّداً من مقولاته ونماذجه؛ لأنه تشكل في أحشاء النماذج التي عالجها، واكتسى باللحم من خلال الموضوعات التي ولدها. والمنهج يقوم ويتشكل عبر عملية معقدة من خلال نمط مجتمعي محدد، مما يحدد له مبادئه ومقولاته ونماذجه؛ فالمنهج الأوروبي في النهضة تكوَّن عبر تاريخ النمط الحضاري الأوروبي، ومن ثَمَّ فإن هؤلاء الذين أخذوا منهج التغيير الأوروبي ـ حتى لو رفضوا نظرياً المقولات الفلسفية الحضارية الأوروبية ـ إنما هم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ لأن هذا المنهج خرج من خلال منظومة حضارية شاملة منهجاً ونماذج ومقولات، ومن ثَمَّ فإن هذا المنهج اكتسى وأخذ هذا الطابع الحضاري المميز له. ولكل حضارة شخصيتها المتميزة، ويكاد يكون من المستحيل زرع حضارة في بيئة حضارة أخرى؛ لأن النتيجة ستكون مسخاً أو ربما أسوأ من المسخ، وحتى هؤلاء الداعون إلى ما يسمى بالتطعيم الحضاري يتناسون حقيقة علمية معروفة؛ وهي أن التطعيم في علم النبات ـ مثلاً ـ لا ينجح إلا بين النباتات المتقاربة عائلياً، وبديهي أن التطعيم والتلقيح بين الحضارة الإسلامية ـ القائمة على التوحيد والعدل والحرية ورجاء الآخرة ـ والحضارة الغربية ـ القائمة على الوثنية والمنفعة غير الخلقية والقهر والنهب ـ أمر غير ممكن عملياً وموضوعياً.
إن الذين حاولوا بناء نهضة على أسس منهجية غربية لم يدركوا حقيقة موضوعية هامة؛ وهي أنهم لا يطبقون هذا المنهج في الفراغ، بل إن شعوباً عاشت تجربة حية من الإسلام لفترة طويلة جداً. إننا أمام حضارة إسلامية عريقة متميزة وثرية، حضارة تمتلك أصلاً نظرياً إلهياً، وتمتلك ثروة من التطبيقات الاجتماعية الهائلة، من خلال ما حدث طوال التاريخ الإسلامي من علاقات وحالات سياسية واقتصادية واجتماعية ارتبطت بالنص الإسلامي أو حادت عنه. وواجهت هذه الحضارة مشكلات في كافة الميادين، وترتب على تلك المشكلات فقه وثقافة وإجابات نظرية وتطبيقية في مختلف الفروع والمجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، فضلاً عن ميادين العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية.
وهكذا، فإن القفز على هذا الواقع بكل أوجه الصحة والخطأ، والإنجاز، والقصور فيه سبَّب فجوة هائلة في الوعي والسلوك على حدٍّ سواء، وأهدر كل الأساسات فوق التربة أو تحتها، بحيث كان علينا أن نسير منذ البداية وفقاً للمنهج الأوروبي، ناهيك عن أننا نسير في الطريق الخطأ، وهو الأمر الذي يستلزم مئات السنين زمنياً، هذا إذا أمكن إخلاء الواقع من الوجدان والتراث الإسلامي، وهو مستحيل قطعاً.
إن علم الاجتماع قد أكد على حقيقة بديهية لم يراعها دعاة النهضة التغريبية، وهي أن المنهج العلمي في أساسه أنماط اجتماعية معينة ينبغي أن يتم بمنهج هذه الأنماط ذاتها، وليس بمنهج مغاير، وإلا فإن الأخطاء ستكون بالجملة، أي أنه لا يمكن استقرار عملية النهضة والتنمية في مجتمعاتنا بمنهج مستمد من نمط الحضارة الأوروبية مثلاً، وعليه فإن شرط النهضة هنا هو أن تقرأ الواقع قراءة صحيحة؛ وشرط الصحة هنا أن تكون القراءة من خلال منهج نابع من هذا النمط الحضاري الذي نحن بصدده، وليس من خارجه.
* غياب البعد الثقافي:
محاولات النهضة الحديثة في بلادنا تواكبت مع عملية التحرر الوطني من الاستعمار، ولا شك أن الصراع مع الاستعمار صراع سياسي واقتصادي وعسكري، فلا شك أن الغرب الاستعماري قد استعمل ضدنا أقسى الوسائل العسكرية وأبشعها لتحقيق عملية القهر والنهب، وكذلك لم يتورع عن استعمال كل الوسائل السياسية والاقتصادية في تحقيق أهدافه، ولذلك كان من الطبيعي أن تشنّ حركات التحرر الوطني الحرب ضد الاستعمار عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.(4/37)
ولكن البعد الثقافي لتلك المواجهة كان غائباً، وكان هذا هو السبب بالتحديد في إخفاق مشروع النهضة بعد رحيل الاستعمار، بل الوصول إلى طريق مسدود أهدر كل المكاسب التي تحققت في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية للمواجهة، بل أقسى من ذلك وأمرّ أننا أصبحنا مهددين بعودة الاستعمار بجيوشه وأساطيله كالسابق وبآليات أكثر تعقيداً وأكثر كفاءة.
إن البعد الثقافي للمواجهة كان يعني ضرورة تصفية الرواسب الثقافية الاستعمارية حكومياً وشعبياً؛ لأن هذا البعد الثقافي مرتبط بتحطيم أو بناء المكونات العقيدية والفكرية والحضارية، والأنماط المعيشية والإنتاجية، وأشكال العلاقات الجماعية والفردية؛ وتحطيمها يعني هدم القلعة من الداخل ومسخ الشخصية وجعلها في حالة عدم القدرة على الصمود والمواجهة، فضلاً عن تحقيق مشروع النهضة، أما بناؤها بصورة صحيحة فيعني التماسك الفردي والجماعي، والقدرة على المواجهة، والقدرة على تحقيق الذات الحضارية ومن ثَم تحقيق مشروع النهضة.
* والتغريب أدَّى إلى الاستبداد:
ما حدث بسبب التغريب يمكن أن نشبهه بنوع من الانفصال الشبكي بين الشعوب والنخب الحاكمة، فأصبحت الشعوب بمعزل حقيقي عن عملية النهضة، ولم تستطع النخبة السياسية أو الفكرية بحكم محدوديتها أن تنجز عملية النهضة.
إن الشعوب كانت وما زالت تحمل الوجدان الإسلامي، كانت وما زالت معبأة بالتراث ومفعمة بالعقيدة، ولا يمكن القضاء على هذا الوجدان أو طريقة التفكير بسهولة؛ ولذا فإن فرض مشروع نهضوي غير قائم على وجدان الجماهير وعقيدتها وحسِّها الثقافي وتراثها التاريخي يجعل تلك الجماهير لا تفهم هذا المشروع ولا تتحمَّس له، أو ترفضه وتعاديه، أو يحدث لها نوع من ازدواج الشخصية أو انفصامها، وبذلك يعود إلى سلسلة من الأخطاء والخطايا تجعل مشروع النهضة في مهب الريح. وإذا كانت النخبة المغتربة جادة في محاولة تحقيق نهضة على أساس تغريبي فإن رفض الجماهير لهذا المشروع النهضوي التغريبي أو عدم حماسها له يجعل تلك النخبة تحاول أن تجبر الجماهير على الانخراط والحماس في هذا المشروع. وبما أن التركيبة الثقافية والوجدانية للجماهير لا تستجيب للتحريض الإعلامي النخبوي بهذا الصدد؛ فإن النخبة الحاكمة تجد نفسها لاجئة في النهاية إلى قمع الجماهير والاستبداد بها وإجبارها ـ قهراً ـ على الانخراط في هذا المشروع؛ وبالطبع تبدأ المسألة من هذه الزاوية وتنتهي إلى أن يصبح الاستبداد والقهر سِمَةً أساسية للحكم التغريبي؛ بحيث يصبح للاستبداد لبنته الخاصة والذاتية حتى يصرف النظر عن مشروع النهضة التغريبي، أي أن التغريب يخلق الاستبداد خلقاً.
*في مسألة الحصول على التقنية:
من الأشياء التي يتشدق بها دعاة مشروع النهضة التغريبي، أنهم يستهدفون الحصول على العلوم الطبيعية أو التقنية من خلال مشروعهم التغريبي المرتبط بالمنهج التغريبي في النهضة، والمنفتح على الحضارة الأوروبية التي أنجزت تقدماً علمياً باهراً.
وينبغي هنا أن نضع الكثير من النقاط فوق الكثير من الحروف في هذه القضية الخطيرة.
ينبغي أن نعرف أن العلوم الطبيعية تنقسم إلى قسمين: قسم خاص بالحقائق العلمية والمكتشفات العلمية، وقسم خاص بتوجيه هذه العلوم في اتجاه معين، أي لإنتاج سلعة ضرورية أو كمالية مثلاً، للقضاء على مرض أو لنشر مرض، أي لإنتاج أدوات تسعد الإنسان وتساهم في راحته، أو لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، لإصلاح البيئة والمحافظة عليها أو لتخريبها وتلويثها.
أي أن هناك شِقاً علمياً وشِقاً قيمياً. والشق العلمي تراثٌ إنساني يجب الاستفادة منه وليس تراثاً أوروبياً، ولكن الشق القيمي للمسألة ـ أي توجيه العلوم في اتجاه معين ـ تراثٌ حضاري أي خاص بتوجه وقيم كل حضارة. والحضارة الإسلامية مثلاً عندما كانت متقدمة علمياً كانت توجه هذه العلوم لإسعاد الإنسان وتلبية حاجات كل البشر، بل كانت تسعى سعياً لنشر العلوم ولا تحجبها عن الآخرين؛ لأن حبس العلم جريمة في الشريعة الإسلامية الغراء. أما الحضارة الغربية فإنها عندما تقدمت علمياً استخدمت منجزات العلم في تحقيق أكبر قدر ممكن من النهب وقهر الشعوب الأخرى وظلمها، بل إنها أيضاً حجبت هذا العلم عن الشعوب الأخرى، بل أصدرت القوانين التي تجرم محاولة حصول الآخرين على تلك العلوم، مثل: قضية الدكتور المهندس عبد القادر حلمي مثلاً، بل وتغتال العلماء في البلاد الأخرى حتى لا تحدث نهضة علمية فيها، كاغتيال الدكتور يحيى المشد مثلاً.
إذاً فالعلم كحقائق ومعرفة تراثٌ إنساني ساهمت فيه كل الحضارات والمجتمعات، بل إن النهضة العلمية الأوروبية الحديثة استفادت من العلوم والمعارف الإسلامية في تحقيق تقدمها المعاصر، ومن ثَمَّ فإن الحصول على العلوم واكتسابها ليس قاصراً على المشروع النهضوي التغريبي، بل العكس هو الصحيح؛ فالحصول على العلم هدف أي مشروع نهضوي إسلامي، أما الشق القيمي في العلوم، أي الشق المرتبط بكيفية استخدام هذه العلوم، فهذا أمر مرفوض.(4/38)
والعجب هنا، أن مشروع النهضة التغريبي لم ينجح حتى في الحصول على هذه العلوم لسبب بسيط هو أن الحضارة الغربية ترفض إعطاء العلوم للآخرين عن طيب خاطر، وما دام المشروع النهضوي التغريبي مشروعاً غير تصادمي مع الحضارة الغربية أي أنه متعاون ومهادن لها؛ فهو لن يحصل على هذه العلوم، بل الصحيح أن المشروع الإسلامي للنهضة هو القادر على الحصول عليها؛ لأنه سينتزعها انتزاعاً، ثم يستطيع أن يهضمها حضارياً، أي أن بإمكانه أن يوجهها التوجيه المتفق مع قيمه الحضارية وللمصلحة الإنسانية.
----------------------------------------
* رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
============(4/39)
(4/40)
الخروج من تحت الأنقاض
د. عمر عبد الله
سنوات الغربة التي يمر بها (جمال) خلال غربته الثانية بدت أقل صعوبة وأيسر معاشاً مما توقع، فهو بالرغم من عيشه في هذه البلاد ثلاث سنوات من سنوات الطفولة إلا أنه تهيب من العيش في بيئة مختلفة، وحضارة مغايرة.
لكن الأمر كان أسهل وأيسر، ففي المدينة التي يدرس فيها جالية إسلامية نشطة، ونشاط دعوي مميز، أخذ من وقته، وعاش في شعوره حتى أصبح المجتمع الصغير عالمه ومحيطه، وأصبح إخوة العقيدة الذين لم يربطهم به سوى رابطة الإيمان أشقاء له لم تلدهم أمه، إن جعفر، وعبد الرحمن، وليث، وزاد الحق، ومراد... وغيرهم من إخوة الدرب قد أضاءوا سنوات الغربة بذكريات عزيزة، وأناروا الطريق الموحش بومضات جد ساطعة، كان اليوم هو آخر أيام الأسبوع الأول من الدراسة، وحينما كان جمال يهم بمغادرة الجامعة، وجد رسالة على صندوق بريده، كتب عليها (ج. برهان يود مقابلتك في مكتبه في قسم المحاسبة، غرفة رقم 121، في أي وقت بعد الظهر) حاول أن يتذكر إذا ما كان الاسم المذكور يعني له شيئاً خاصاً، لكن ذاكرته لم تسعفه، وحين كان في الوقت متسع فقد قرر أن يزور صاحب الرسالة في هذا الوقت، وحينما وصل إلى الغرفة المذكورة، طالعه السكرتير متسائلاً هل من خدمة أقدمها لك؟.
- أجاب جمال: اسمي جمال العلي، وجدت رسالة تطلب مقابلة السيد برهان بعد الظهيرة.
كانت لهجته الأمريكية التي اكتسبها خلال تواجده المبكر في هذه البلاد تجعل العديد من الأمريكان يظنون أنه أمريكي من أصل مكسيكي.
- نعم.. إن الدكتور برهان قد طلب مني أن أبلغه بحضورك.. بالرغم من مشاغله الكثيرة، يبدو أنك صديق مخلص له.
- لا أدري، فهذه المرة الأولى التي أقابله.
- على العموم، هو شخص لطيف، وهو منذ انتقاله لهذه الجامعة منذ أسابيع وهو يكسب العديد من الأصدقاء والمعجبين، إنه إنسان رائع.. لحظة من فضلك. دخل السكرتير الغرفة بينما بقي جمال يحاور نفسه ويحاول أن يتذكر مرة أخرى لعله يفلح في الاستذكار.. بدون جدوى.
- السيد برهان في انتظارك.
- شكراً.
دخل جمال الغرفة وما إن وقع نظره على السيد جمال حتى أدرك أنه يقابل وجهاً أليفاً، لكنه لم يستطع أن يتذكر ما تعنيه تلك الملامح بالنسبة له، واستفتحه بلغة عربية صافية.
- أهلاً بالسيد العلي..
أنا جميل برهان، أعمل حالياً رئيسا لقسم المحاسبة في الجامعة، ربما أنك لا تعرفني، كان منظره يوحي برؤية إنسان أمريكي تماماً، لا يدل على كونه عربياً سوى اسمه، ولغته العربية المحكية بلهجة فلسطينية.
- حقيقة إن وجهك مألوف بالنسبة لي، لكني لا أستطيع أن أتذكر أين رأيتك، ومَن تكون!.
- حتى بالنسبة لي فأنا أجد صعوبة بالغة في التعرف عليك، بالرغم من معرفتي القديمة بك؟ - بي.. أين.. ومتى؟ ! ضحك جميل برهان حتى بدت أنيابه.
- منذ زمن طويل، وطويل جداً، لكن دعني أعطِكَ إشارة مساعدة، لقد عشت وقتاً طويلاً في أن (آربر)، وبالتحديد قبل خمسة عشر عاماً...
فهل تساعدك هذه الإشارة؟ - ربما، فقد عشنا في نفس المكان وأنا طفل، في نفس الفترة تقريباً.
- حسناً، أنت في الطريق الصحيح، وربما أنك لا تذكر صديقاً لوالدك كان يدرس معه في نفس القسم، يحمل نفس الاسم؟ - لا أذكر.
- كنت أتوقع ذلك، يسرني أن أقول لك إن أباك إبراهيم العلي كان من أعز أصدقائي، في تلك الفترة على الأقل، لقد كان رجلاً ودوداً وكريماً معي، بالرغم من عدم اتصالنا ببعض لفترة طويلة..
طويلة جداً.
- لكني لا أزال أذكرك، وأنت طفل صغير، حينما كان أبوك يدعوني في أيام ذلك الصيف في حديقة منزلكم لنتناول الحديث، ونتناسى الهموم.
- لا أذكر، فقد كان لأبي الكثير من الأصدقاء، وكنت في تلك الفترة أعيش فترة الطفولة باستغراق جميل.
- لقد دهشت حينما رأيتك فبالرغم من معالم الشبه بينك وبين أبيك: فإنك تبدو مختلفاً في المظهر على الأقل.
- ربما... أدرك جمال ما يعنيه الدكتور برهان، فلحيته المعفاة كانت علامة مميزة في محيط الجامعة.
- وماذا تدرس الآن في هذه الجامعة؟ - أحضّر الماجستير في الهندسة النووية.
- جميل.. رائع.. وهل أنت متأقلم في هذه الجامعة والمدينة؟.
- نعم.. فالأمور تجري بشكل جيد.
- جميل.. إنني أشعر بلذة في اجترار الماضي، أليس ممتعاً أن تستعرض تلك الأيام الحلوة مع شخص عاش ذات الظروف.
- نعم، خصوصاً إذا كان يحمل نفس الهموم والآلام.
التقط، د. برهان الحديث، ورد بلهجة استرجاعية مسترخية.
- نعم، كم كان جميلاً لو أن إبراهيم كان معنا، لقد كان - كما قلت ووصفت - صديقاً رائعاً تقاسمنا الهموم والآلام سوياً، كانت المرحلة التي نحياها مرحلة شباب وزخم، وقد التقينا في صيف عام 1966م، كنت وأبوك نعيش حالة من الفرح الكاذب والأمل الواهم، كانت أمريكا تغرق تدريجياً في وحل فيتنام، فنرى في ذلك هزيمة لروح التسلط التى كانت تمارسها هذه البلاد بوقاحة في تلك الأيام، وننام ونصحو على شعارات قرب زوال الظلم، وإلقاء (إسرائيل) في البحر، ولا تسأل اللاجئ الذي كان يضع رهانه على تلك الدول ولا الشباب المتأثر بالناصرية كإبراهيم، والذي رأى فيها حلم شبابه.(4/41)
- صدقت كان أبي ناصرياً مثالياً، ألا يكفيك أن اسمي خير دليل على ذلك.
- نعم.. لازلت أتذكر حالة الإحباط والتعاسة التي أحاطتنا في صيف عام 1967م، حتى أننا كنا نتحاشى أن نذهب للجامعة حيث كان الصهاينة وأصدقاؤهم الكثيرون يشعروننا بأننا نعيش هزيمة أخرى، لقد كانت أياماً قاسية! لكن خبّرني ما هي أخبار والدك؟ - إنه بخير، وهو على وشك التقاعد، للتفرغ لأعماله.
- وهل لا يزال مثالياً؟ أعني ناصرياً مخلصاً؟ - كلا ولكن سأسألك نفس السؤال؟ - لقد أصبحت أمريكياً.. (يضحك)، أمريكياً مخلصاً، خلعت أشياء كثيرة لكي أصل إلى ما أنا فيه، تركت المثاليات، يممت شطر الجانب الأكاديمي، وها أنا ذا أحقق معظم أحلامي..
- وهل لديك أسرة؟ - نعم لديَّ ابنة تعمل متفرغة في العمل الخيري، إنها رئيسة نادي الليونز في المنطقة! - الليونز.. ؟ ! هل تعرف ما هي المنظمة، وما أهدافها؟ ! - كلا.. ، فابنتي تعرف ذلك، وهى عموماً (تربية أمريكان).. (ويضحك ضحكة مقتضبة)، لقد تزوجت أمها الأمريكية، واتفقنا أن أتفرغ للعمل وتتفرغ هي لإدارة الأسرة.
- وهل لازلت تحتفظ بهويتك؟ أعني لغتك، ودينك.
- لغتي جيدة، وديني لا يَسُر، منذ البداية.
- و لماذا؟ ! - كنت يسارياً في السابق، قبل أن أهاجر إلى هذه البلاد، كنت أعيش في مخيم لاجئين في دمشق، كان معسكر السلام وشعاراته الشيوعية يشكل تيار أغلب التعساء هناك.
- ثم؟ - كفرت بكل الشعارات الكاذبة، والزعامات المغشوشة، وآمنت بالحياة على الطريقة الأمريكية، الفردية، تستطيع أن تكون من تريد حينما تكون لا منتمياً، إنها عقلية الشركات الكبرى، حينما تدوس على المبادئ، سوى مبادئ الشركة وتتخلى عن أي تحالف، سوى ما يساعدك على النجاح! - وهل هذا مبدأ صالح في نظرك؟ - ما يصلح هو ما يعمل، وما يعمل - كما أرى - هو ما يصلح.
- قد يبدو هذا الكلام فلسفياً، لكن الواقع والفلسفة قد يشتبكان. لكن قل لي: هل أنت مثالي؟ - إذا كنت تقصد بالمثالية الالتزام بمنهج، فأنا كذلك.
- وما هو هذا المنهج؟. لقد أصبحت بعيداً عن الساحة العربية كما ترى.
- منهج قديم، جديد..
- ماذا تعني.. ؟ - أعني الإسلام.
- لقد كنت أظن أنك ستقول لي ذلك، منذ أن رأيت تلك اللحية الثائرة، إنها تشبه لحية كاسترو، أو الخميني.
- لعل كاسترو وغيفارا والخميني بل حتى ماركس، هم ما تقدمه الثقافة الأمريكية للتدليل على الخطر الخارجي، والربط بينهم حتى لو لم يكن هناك رابط.
- أوافقك في ذلك، لكن قل لي فلعل معلوماتي خاطئة: هل يعني ذلك أن (الأصولية) هي الموجة الآن؟ - وماذا تعني بالأصولية؟ - أعني الحَرْفية، الجامدة، والتعلق بالنص! -أعطني مثالاً.. لم أفهم! - مثلاً بِلِي غراهام، سويغارت.
- غيرهما.
- لا أتذكر.
- أنت رجل متعلم، هل تؤمن أن نطبق سياسات أمريكا وأوربا الغربية وآلياتهما على العالم الثالث؟.
- لا يمكن، أرضيتان مختلفتان، متباينتان...
- إذن هل تعرف أن هناك اختلافاً بين ما تطلقه من أمثلة وبين الواقع الذي تنعته بالأصولية.
- ربما، لكن الإسلام والمسيحية متقاربان، عذراً، هذا من بقايا الخمسينات، كلاهما أفيون الشعوب، أو في منطق أمريكا الثمانينات، الإسلام السياسي أو الإرهابي يحمل نفس بذور الأصولية التى تريد أن تحكم أمريكا.
- مرة أخرى.. أجد نفسي مضطراً لتذكيرك باختلاف البدايات وحتمية الخطأ النهائي.
- أعترف بأني قد تغيرت كثيراً.. وأعترف أن الحوار ممتع معك، تحمل نفس اللهجة القاطعة والمستيقنة التي كان أبوك يحملها، ولكن تبدو أكثر عقلانية حينما كان يبدو أكثر حماساً وعاطفية، هل نلتقي مرة أخرى؟.
أحس جمال أن الدكتور برهان مشغول وأن المقابلة قد انتهت، فوعده خيراً، وأحس بواجب نحو هذا الغريب، الذي (استنوق) حتى يصل إلى ما يريد، والذي قابل العديد من أمثاله الذين تأمركوا، وضاعوا وأضاعوا، أضاعوا جيلاً ثانياً كان يمكن أن يكون أداة خير فاعلة في هذه الأرض، وتذكَّر مجموعة من المراهقين من أبناء المسلمين الذين ولدوا لآباء كهؤلاء، بعضهم يحترف الدعارة، وبعضهم يحترف تجارة المخدرات، ومجموعة تقود نوادي الليونز، والروتاري، وأخرى - ويا لَحجم المأساة! ! - يعملون منصرين في كنائس مثل (وليم علي)، ذلك المنصر الشاب الذي قابله منذ فترة وتلك مأساة أخرى...
http://www.albayan-magazine.com المصدر :
=============(4/42)
(4/43)
العقول الفارغة !!
مشاري بن عبد الله السعدون
لقد اهتم الإسلام بالعقل اهتماما واضحا، حيث جعله مناط التكليف، وموضع التكريم، الذي به تتحقق أهلية الإنسان لكي يصبح خليفة في الأرض، يسعى في إعمارها كما قال - تعالى- ((...هوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا... )) ذلك أن العقل هو المحور والموجه لهذا البناء، وتلك الخلافة. فالحضارة تقوم على عقول نيرة وأفهام راسخة تنطلق من أرضيات صلبة.
ولقد خاطب القران الكريم العقل الواعي، ورسم له حدود السكون، وحدود الحركة، فأصبح العقل المسلم بعد هذا كله.... عقلاً مدركاً حكيماً رشيداً يميز الأمور، قبل أن يصدر حكماً تجاهها.
فضرب أمثلة عن الأمم البائدة وكيفية استخراج العظات والعبر من خلال سيرها.. قال - تعالى -: (({وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}يوسف109.
والعقل المسلم من أوثق العقول فهماً وإدراكاً نظير ما يستند عليه في فهمه، ومعرفته، واستقائه من المنهج الإلهي، فهو حرٌ لا يخضع لأي مؤثر خارجي سوى منهجه الذي ينطلق منه ويستند عليه.
ولكن مع التردي الحاصل لأمة الإسلام، وخاصة في هذه الأوقات، والتي أصبحت فيه أمتنا كلأً مباحاً لأمم الاستكبار والغطرسة، فأصبح العقل المسلم عقلا رتيباً خاملاً ينزع في تفكيره إلى الإمعية، والتبعية وبذلك تاه العقل المسلم بين ركامات الحضارة الغربية، وبهارجها، والتي يحسبها الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وانطبقت عليه مقولة العلامة ابن خلدون في مقدمته: ((المهزوم دائما مغرم بتقليد المنتصر نظرية التابع والمتبوع -))، وانعكس هذا الأمر جلياُ على أمور الحياة بعمومها...، مما أخرج نتاجاً قبيح الطعم، والمظهر، والذي تولى كِبر هذا التوهان، وهذا الانحراف المشين للعقل المسلم.... هي وسائل الإعلام، بكل ارتباطاتها وما تصل إليه أذرعتها الناطقة والمؤثرة، والتي أخذت على عاتقها حرف العقول المسلمة عن مبتغاها إلى مبتغى، وأهواء القائمين عليها من أساطين الإعلام الغربي، وملاكه.(4/44)
فالإعلام بكل وسائله أصبح له دور رئيس، وكبير في التلاعب بالعقول، والتأثير على، الشعور، والمشاعر، وذلك من خلال اختلاق، واستعمال مختلف الحيل الكلامية، ورسم صور كاذبة، وتمرير تلفيقات مختلقة عن طريق ربطها بجزء بسيط من الحقيقة، لعلمهم أن هاتيك الحيل لا تنتشر، ولا يحفلُ بها المتلقي إلا من خلال خلطها ببعض الحق المجتزئ، ولعل إعلامنا العربي بجميع أنواعه سواءً الحكومي منه أو الفضائي خير مثال على ما يحدثه الإعلام من خللٍ كبير في التصورات، والأحكام بل تعدى ذلك كله في كثير من الأحيان إلى التأثير المباشر في منظومة القيم الإسلامية، والتي تحكم سير المرء المسلم في هذه الحياة، وهذا التأثير المباشر - يطلق عليه دارسي علم الاتصال الإعلامي بنظرية الحقنة (injection theo r y) والتي نجدها واضحة جلية من خلال سيل الرسائل الإعلامية الموجهة لتغيير بعض المفاهيم والقيم الإسلامية، والتي في مجملها تهدف إلى زعزعة استقرار العقلية المسلمة، لكي تؤمن بالتغيير السلبي المراد، ولعل في بعض القضايا المطروحة سواء على الشأن الداخلي أو الخارجي أكبر دليل على ذلك..... وخذوا على ذلك أمثلة توضح بجلاء مدى عمق العملية المنفذة، والمدارة بحرفية تامة لتغييب الرأي الحر، وسلب الإرادة الحرة التي لا تخضع إلا لميزان القيم السماوية.... فخيار المقاومة أصبح إرهابا !!... وتمسك المرأة المسلمة بعزتها وعفافها وحجابها .. أصبح تخلفا ً!!.. والزج بها في غياهب كل مجهول مرة في نوعها ككائن حي (الجندر) ومرة في فكرها وأخرى في حقوقها السياسية - أصبح تقدماً. !!... ومع ذلك، وغير ذلك آمن، وصدق بهذه المقولات الدعية أصحاب العقول الفارغة..... والذين أصبحوا، وللأسف الشديد خطاً رافدا، وداعما لكل تغريب يراد للمجتمعات المسلمة، فهم غنيمة باردة للمستهدفين، وان كنت حقيقة لا أعجب من هذه الاستماتة، وهذا الاستبسال البطولي من قبل الطابور الخامس طابور المستغربين - بالرغبة بضم أولئك الفئام من الناس، ولكن العجب الأكبر، والأكثر خطراً، والذي يحز في النفس حقيقة هو الانقياد الأعمى والبليد من قبل أصحاب العقول الفارغة ممن بلغ سن الرشد، ولا زالت روح المراهقة بكل ما تعنيه هذه الكلمة - تدب في دمه وأوصاله ألهذا الحد تعمل وسائل الإعلام عملها المشين في عقله، وفي مفاهيمه، وفي اعتقاده حتى تجعله يحسب كل صيحة عليه، أين الثبات أين الشخصية السوية التي تحلل بوعي، وتدرس بروية، وتراجع بدقة.. قبل أن تصدر حكما تجاه أي حدث يُثار .... ومن تأمل هذا الأمر حق التأمل وجد أننا أما عملية جدُ خطيرة يراد من خلالها إحداث تغييراً معرفيا لعقلية المسلم (cognitive change)، ولذلك نحن بحاجة ماسة لزرع الثقة بالنفس المسلمة، وتربيتها وتعليمها أكثر مما هي عليه، وإذكاء روح التحدي، وروح المقاومة، وروح المنافسة، والثبات على المواقف التي ترتكز على عقيدة صلبة، وراسخة. لأن التغيير الذي تُحدثه هذه الوسائل لم يأتي إلا من خلال الضعف الحاصل في تكوين الأفراد وضعف بنائهم الذاتي المتمثل في عدم تغلغل واستقرار مكونات ثقافتهم في شخوصهم، وهذا الأثر البالغ التي تحدثه هذه الوسائل نجد أنه يؤثر أكثر في المراهقين، ومحدودي الثقافة الأصيلة لمجتمعهم وقيمهم الإسلامية، مما جعلهم أكثر عرضة لمحتوى الرسائل الإعلامية الموجهه والمخالفة لمنظومة قيم المجتمع الإسلامي. فلذلك يجب على ذوي الرأي في المجتمع المسلم مراجعة الذات والأخذ على أيدي السفهاء من أبنائه، والنصح لهم لكي لا ينحدروا بأمتهم إلى أمور لا تحمد عقباها.
وقى الله أمتنا ومجتمعاتنا كل بلاء ومكروه.
http://www.saaid.net المصدر:
===========(4/45)
(4/46)
جناية الاستغراب على الأدب العربي
خميس بن عاشور
لكل أدب من الآداب خاصية وميزة يتميز بها عن غيره، ولا تكون شخصية الأدب واضحة ما لم يتحلَّ بهذه السمات الخاصة، ولا يعقل أن يتقمص أدب معين جميع الخصائص الفنية للآداب المختلفة في جميع العصور، مثلما يريد المحسوبون على الأدب العربي، فهو عندهم تارة أدب شرقي؟ وطوراً أدب غربي، وفي أحسن الأحوال يجمع بين هذا أو ذاك بأسلوب مبتكر...
إن اللغة العربية لا يسعها أن تقحم في كل الميادين الفكرية المعاصرة إلا مكرهة، لأن الكاتب العربي المستغرب ليس بمقدوره الاستغناء عن أداته في التعبير» اللغة ، هذه اللغة التي ترتبط بمفاهيم عقدية ارتباطاً وثيقاً، وأول هذه المفاهيم تلك التي تضمنها القرآن الكريم، الكتاب الأول للعربية بلا منازع.
فبأي حق تظل الميادين التي تجد فيها العربية ذاتها مهجورة؟ ! وما ذنب هذه اللغة إذا ما انحط أهلها وتخلفوا عن ركب التقدم؟.
نستطيع أن نقول: إن التراث يدخل في صميم التركيب الذي يتكون منه الأدب العربي، ومع ذلك فلا نحتاج إلى من يذكرنا بضرورة المعاصرة؛ لأنه لا يخطر بلب العاقل أن العربي عندما ينشئ أدباً سيعمد إلى مقبرة فيلقي على سكانها من الأموات ما جادت به سليقته وما فاضت به مخيلته.
لقد دأب المستغربون على تشويه شخصياتنا التاريخية عن طريق إحياء أكاذيب القصاص وشعراء الشعوبية، حتى ترسخت بعض المفاهيم الهدامة التي تخدش نزاهة وكرامة أبطالنا التاريخيين الذين قادوا الحضارة الإنسانية...
ولم يبق للمستغربين إلا أن يدعونا صراحة لدخول جحر الضب، حتى تكتمل بذلك أمنيتهم الغالية.
وماذا أفاد » جورجي زيدان « في رواياته التاريخية التي هي انعكاسات لعقيدته وفكره المستغرب الذي يدعم به آراء المستشرقين.
إن الإسلامية أشمل وأعم من تلك المفاهيم الضيقة التي يعتنقها من لا تعنيهم هذه المسألة من المستغربين عامة، فالأدب العربي أدب إسلامي كذلك، وبالتالي فهو أدب عالمي تبعاً لعالمية الإسلام، وهو بذلك لا يحتمل بعض المحاولات الذليلة لجعله إقليمياً انعزالياً، كما يريده عبيد المدرسة الاستغرابية.
وهناك قضية أخرى وهي العالمية، فالعالمية فكرة نسبية تعتمد على مقاييس الذوق الغربي، فالأدب العالمي بالمفهوم السائد هو الأدب الذي ترضى عنه الأذواق والمقاييس الغربية، فالعالمية هي ذلك الطوق الذي يجعله الأديب المستغرب في عنقه ليصل إلى هذا الهدف الكبير، وهو الحظوة بدخول جحر الضب.. !، ومما لا ريب فيه أن متعصبي نصارى العرب من هذه الحيثية ليسوا أمناء على العربية؛ لأنهم عاجزون عن الدخول في كل الميادين التي تميز الأدب العربي منذ القديم.
وربما يتساءل البعض عما قدمه نصارى العرب الأولون سواء في الجاهلية أو في الإسلام، والجواب هو أن مساهمة الأقدمين كانت لصالح اللغة العربية التي كانت قوية بقوة الثقافة الإسلامية آنذاك، أما اليوم فلا يمكن أن تكون هذه المساهمة كذلك بعدما أصبحت الغلبة للثقافة الغربية ذات العقيدة النصرانية في عمومها، ومادام الصراع الثقافي اليوم قائماً بين الغرب القوي المسيطر وبين غيره من الثقافات التي منها ما ذاب في بحار التغريب، ومنها ما يذوب ومنها ما هو باق يتحدى عوامل الإفناء كالعربية أمام هذا الصراع فإنه ليس للأديب اليوم من خيار إلا أن ينحاز إلى فئة من الفئتين، أما محاولة التوفيق فهي مسبقاً في كفة الغرب الراجحة.
ومن هنا كثرت القواقع والحفريات الممسوخة التي تحس ترجيع أصوات الرياح التي تخترقها بشكل وتخرج بأشكال مختلفة..
إن الأدب الذي يسمونه تراثياً رغم رداءة بعضه هو في الحقيقة أدب حي؛ لأنه وإن كان نبتة ضئيلة يمتلك جذوراً يستقي بها مادة الحياة.
وعلى العكس من ذلك فإن حياة الشجرة التي اجتثت من تربتها الأصلية إلى تربة أخرى غريبة عنها موقوفة على مدة بقاء الماء في عروقها وأوراقها، والأدب الذي ينتمي إلى المدرسة الاستغرابية هو أدب ميت، أو هو في طريقه إلى هذا المصير البئيس، وذلك لمجرد ما تنتهي مهمته المتمثلة في التبليغ؛ لأن المثقف الواعي لا يحبذ القراءة لصور منقولة، بل يلجأ إلى الأصل ليقرأ الأدب الغربي بلغة غربية.
فالحروف العربية المقحمة في هذا الأدب هي حروف شكلية، وتحف فنية جميلة مجردة عن الحياة لا مناص من توظيفها مؤقتاً، حتى يصل المارد الغربي فيجوس خلال الديار، وقد مهد لذلك وكلاء الغرب عندنا بالدعوة للعامية والإقليمية والتأليف على منوال هذا المنهج التفكيكي.
وقد يخرج هؤلاء بين الفينة والفينة، لإحداث بعض الزوابع الفكرية والثرثرات الأدبية سرعان ما تقوم مكبرات الصوت المستغربة بتفخيمها إلى درجة الثورات التجديدية؛ والمعارك والحروب الأدبية، تارة بمنح الوسام الفلاني للأديب الفلاني؛ لأن عبقريته أوصلته إلى سب عشيرته واللهو بآثارهم وآدابهم، وتارة بإيثار الكاتب الفلاني بالجائزة الفلانية؛ لأنه أحدث بدعة في مسار الأدب والفكر العربيين، حتى أضحت هذه المكرمات دليلاً كافياً على العمالة والردة الفكرية.(4/47)
إن أفضل الجسور التي يمر عليها الغرب هم عبيد المدرسة الاستغرابية، ولاسيما نصارى العرب الذين يمثلون نسبة لا تعكس كونهم أقلية من ناحية العدد، ولكنهم من جانب آخر نصارى، كما هي عقيدة الغرب الدينية.
فهم إذاً لا يجدون من الحرج ما يجده العرب الآخرون عند الاحتكاك بالثقافة الغربية التي تحن إليهم ويحنون إليها، ولا يفعل مثل ذلك العرب المنتمون إلى الإسلام إلا وفي نفوسهم عقد كثيرة، فغياب هذه العقد عند نصارى العرب جعلهم القنطرة المفضلة للعبور والتلاقح ثم الذوبان البارد..
إن المستغربين لا يستطيعون قراءة التراث بغير عقولهم النابتة على أصول الغرب، ولذلك جاء أدبهم خالياً من الوجدان العربي، ميتاً موتاً معنوياً، وهذا ما يجعلنا نجزم بأن غير العربي المسلم لا يمكن أن يكون أميناً على العربية وآدابها..
إن كثرة الإنتاج النقدي لا تعكس التطور الحقيقي للإنتاج الأدبي الإبداعي، وخاصة بعدما أفل نجم الأسلوبيين من أمثال الرافعي والمنفلوطي ومحمد البشير الإبراهيمي، وقد تكون العلة هي أن الإبداع في الأدب العربي لا يتحقق في معزل عن التراث، فالإنتاج الأدبي اليوم تغلب عليه الانتماءات المختلفة التي تصب في مجملها في بحر الثقافة الأوربية، هذه الانتماءات التي يجمع أغلبها على التنكر للتراث والعبث به، كلما سنحت بذلك فرصة، وهذا ظناً بأن ذلك كفيل بتحقيق الإبداع الذي يرضى عنه الغرب، ولكن النتيجة كانت تراجع الإبداع الأدبي، وتقدم الإنتاج الفلسفي التأملي المشبع بأخلاط من العقائد والنحل، حتى وإن لبس هذا الانتاج أشكالاً أدبية مختلفة، وكذلك فإن سيطرة المدرسة الاستغرابية اليوم على الأدب والنقد رسخ هذا التوجه المنحرف الذي تستحسنه الثقافة الغربية؛ لأنه يضع لها وبدون مقابل أفضل الموصلات التي تنقل مضامين هذه الثقافة إلى الشعوب المختلفة واضحة وضوح كل لغة لدى أصحابها؛ لأن هذه الشعوب تمثل المجال الحيوي لانتشارها الاستعماري في زيه القشيب، وعلى العكس من ذلك فإن الاتجاه نحو الإبداع باعتماد سبله السليمة يقوي الآداب الأهلية ويحميها من الانحلال في الآداب الغازية.
إن بعض الأساليب التي توظف الحرف العربي، إن لم تكن ترجمات رديئة لقراءات مستغربة كحال بعض » المسارات [1] الفكرية العميلة لوكالات الغرب فهي دون شك تثير التقزز والآلام؛ لأننا سنضطر إلى استرجاع معلوماتنا في التحليل النفسي لكي نعثر على الحلول والتوفيقات الملائمة لما يصادفنا من عقد لاشعورية هي نتيجة لعدم القدرة على نسيان ما في هذه اللغة نسياناً تاماً، مع الشعور بالضآلة والقزمية أمام محتويات الفكر والثقافة الغربية الباهرة، ولا ندري لماذا لا تثير الميادين البناءة بالنسبة لنا في الفكر الغربي كلف المستغربين وشغفهم، فهم لا يستوردون إلا ما يجعلنا نتمرغ في تربة الغرب، حتى لا نرفعها مرة أخرى، وقد يطرق بعضهم أحياناً أبواب الديار ولكنه يتخطى الأزمان، لكى يجد نفسه مستريحة إما مع الفراعنة بناة الأهرام، وإما مع الفينقيين أو الوندال.
وفي غياب من الحركة النقدية العربية الأمينة فقد تجرأ الكثيرون على اختراق حدود الأدب والفكر العربي، وصنع أجهزة الدعاية والإعلام الموجه من السخفاء والتافهين عمالقة.
--------------------------------
(1) مجلة (المسار المغربي) تصدر في الجزائر وهي مثال نموذجي لذلك.
http://www.albayanmagazine.com المصدر:
==============(4/48)
(4/49)
صورة الإسلام في الخطاب الغربي ( 8 )
تجريد الإسلام من خصوصياته
محمد عمارة
سعت الغزوة الاستعمارية الأوروبية الحديثة كي تؤبد احتلالها لعالم الإسلام، ونهبها لثرواته إلى تجريد الإسلام من شموله للدنيا مع الآخرة، ومن مرجعيته للدولة والسياسة والاجتماع مع منظومة القيم والأخلاق الحاكمة لسلوك الأفراد...سعت إلى فك الارتباط بين شريعته الإلهية وحركة الواقع في المجتمعات الإسلامية التي استعمرتها هذه الغزوة، وذلك لتُلحق هذا الواقع بالقانون الوضعي الغربي العلماني، حتى لا يبقى للإسلام إلا ملكوت السماء والغيب والدار الآخرة كما هو حال النصرانية المهزومة أمام العلمانية الغربية وسعت هذه الغزوة الاستعمارية كذلك إلى فك الارتباط بين الإسلام والعربية لغة القرآن الكريم وذلك لتغريب اللسان، مع تغريب الفقه والقانون ... وكان خطاب الاستعمار الفرنسي في هذا الميدان نموذجياً، فلقد أعلن فلاسفته ومنظروه:
" أن الأسلحة الفرنسية هي التي فتحت البلاد العربية، وهذا يخوِّلنا اختيار التشريع الذي يجب تطبيقه في هذه البلاد!... ويجب فصل الدين الإسلامي عن القانون المدني... وحصر الإسلام في الاعتقاد وحده "والحيلولة دون اندماج العادات والأعراف في الشرع الإسلامي، ليتيسر دمجها في القانون الفرنسي بدلاً من القانون الإسلامي"!
"كذلك يجب الفصل بين الإسلام والاستعراب.. فالعربية هي رائد الإسلام، لأنها تُعلَّم من القرآن، وإذا سادت الفرنسية بدلاً من العربية، وأصبحت لغة التفاهم، فلن يهمنا كثيراً أن تضم الديانة الإسلامية الشعب كله، أو أن آيات من القرآن يتلوها رجال بلغة لا يفهمونها، كما يقيم الكاثوليك القداديس باللغات اللاتينية والإغريقية والعبرانية"!! (1).
فالمطلوب في خطاب الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة تجريد الإسلام من خصوصياته ومقومات تميزه عن النموذج الحضاري الغربي، وذلك بتغريب الفقه والقانون بالعلمانية بعد تغريب الواقع، لعزل الشريعة عن الحياة... وتغريب اللسان في بلاد الإسلام، لعزل القرآن عن الحياة، وإلحاق المسلمين بالثقافة الغربية، ومنظومة قيمها.
والدارس لواقع بلاد المغرب العربي تونس والجزائر والمغرب حتى بعد ما يقرب من نصف قرن من الاستقلال السياسي يدرك حجم الكارثة التي أحدثها "التغريب الفرنكفوني" في ميادين اللغة والثقافة والتعليم والإعلام، بل والقيم أيضاً، حتى هذه اللحظات.
فالنخبة الفرنكفونية المتغربة تسيطر على ميادين الفكر والثقافة والإعلام.
والصحافة الفرنكفونية الناطقة بالفرنسية تمثل الحجم الأكبر والأهم في الميدان الصحفي.
وطغيان الفرنسية في ميدان التربية والتعليم ظاهر للعيان.
وحركة النشر وسوق الكتاب تغالب فيه الفرنسية العربية فتغلبها.
وحتى النزعات العنصرية التي تريد إحلال البربرية الأمازيغية محل العربية، ما هي إلا ستار لإحلال الفرنسية ومن ثمَّ الفكر الفرنكفوني محل الهوية العربية والإسلامية.
بل لقد بلغت كارثة التبعية والتغريب والاستلاب الحضاري في تلك البقعة العزيزة على أرض الإسلام وأمته إلى الحد الذي زادت فيه معدلات التغريب والفرنكفونية في عهد "الاستقلال" عنه في عهد الاحتلال والمقاومة الوطنية لهذا الاحتلال!!.
ويكفي أن نعلم أن الفرنسية هي لغة التخاطب والتعامل، ليس فقط في إدارات الشركات والمؤسسات، وإنما أيضاً في مداولات ودوائر الحكم ومجالس الوزارات! الأمر الذي يجعل من أوليات تيار الإسلام والعروبة.. الجهاد لتحرير العقل العربي والمسلم من هذا الاحتلال!
-----------------------------------------------------------------
الهوامش
(1) محمد السماك (الأقليات بين العروبة والإسلام) ص57 59، طبعة بيروت سنة 1990م.
http://www.almujtamaamag.com المصدر:
===========(4/50)
(4/51)
واجبنا أمام الأخطار المحدقة
د. عدنان علي رضا النحوي
يدرك كلُّ مسلم اليوم أنَّ الخطر على العالم الإسلاميّ شامل ممتدّة، ينذر بالمزيد من الأخطار مع كلِّ يوم.
ولا تقتصر الأخطار على سقوط بعض أراضي المسلمين تحت احتلال قاسٍ ، كما هو الحال في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، ولكنَّ الخطر الأكبر هو الغزو الفكري للعالم الإسلاميّ كلّه، الذي ابتدأ منذ عهد بعيد، غزواً مصاحباً للغزو العسكري أو ممهِّداً له، غزواً يدخل النفوس والقلوب ويُرْخي العزائم ويُمزِّق الأمة في عواصف من تيارات متصارعة، غزواً مهَّد كثيراً لمسلسل التنازلات في ميدان السياسة والقتال.
لقد ابتدأ الغزو بتقديم زُخرف الحضارة الغربية تحت شعار التقدّم والنموّ والتطوّر، ثمَّ أصبح غزواً شاملاً كلّ وسائل الغزو فكرياً وثقافياً وأدبياً، واجتماعياً واقتصادياً، وتنصيرياً وإعلامياً، وعسكرياً إجرامياً. ولقد كان ضحايا الفكر والثقافة والأدب وغير ذلك مثلَ ضحايا الحروب أو أكثر.
ولقد أثَّر هذا الغزو في عدد كبير من المسلمين الذين أصبحوا من دعاته وقوة له في قلب العالم الإسلامي، مما وفَّر على الغرب المعتدي بعض الجهود والجنود.
كان هؤلاء الذين فُتِنوا بزُخرف الغرب قلّةً لا يكاد يُسمع لهم صوت أو دويّ بادئ الأمر، كنتَ تسمع منهم الصيحة ثمَّ يختفون. وكان الصوت الأقوى دوياً هو صوت الإسلام والمسلمين، بمنابرهم وحشودهم وعلمائهم ودعاتهم.
ثمَّ أخذت الحالة تتغيَّر، وأخذ صوتُ الزُخرف الغربي يتعالى حتى أصبح دوياً عالياً ممتداً دون توقُّف، مع جرأة وتحدٍّ وإصرار، ومع ازدياد التابعين والموالين، ومع بروز حقيقة أخرى أخطر وأشدّ، ذلك أنهم يمضون على نهج مدروس وخطة مدروسة، ويمضون كذلك على تعاون وتكاتف وتنسيق مهما اختلفت مصالحهم ومطامعهم وولاءاتهم.
وكان يُقابل ذلك في الصفّ الإسلاميّ تمزّق يزداد مع الأيام، وضجيجٌ من الشعارات وردود الفعل والارتجال، في مخالفات جليّة للإسلام، لنصوص الكتاب والسنَّة، لحقائق الإيمان وجوهره، بدلاً من المنهج والتخطيط، وبدلاً من التفاؤل والالتئام، وتعددت المناهج والمدارس وتفرَّقت المسالك والدروب، والأهداف والشعارات، على صور تحمل شيئاً كثيراً من العصبية الجاهليّة.
الجهل بالكتاب والسنة
وكذلك، فإن الجهل بالكتاب والسنّة كان طاغياً يَسْحق ملايين المسلمين الذين لم يبق لديهم من الإسلام إلا العاطفة الجارفة، دون أن يجدوا اليد الحانية التي تبني القلوب والعقول بالعلم الحقّ، والدراسة الواعية، والتدريب والرعاية، حتى أقامت كلّ فرقة لها ولاءات يُنابذ بعضها بعضاً على صور شتَّى من التنابذ.
لو وقف المسلمون وقفة إيمانية يُراجعون مسيرتهم وهم يتعرَّضون للغزو الفكري العلماني، لوجدوا أنهم أخطؤوا حين أسرعوا فتداعوْا إلى الاشتراكية، وإلى الديمقراطية وإلى الحداثة وإلى العلمانية، ونسبوا هذه المذاهب إلى الإسلام، في تقليد يَكْشف عن إفلاسٍ وهوانٍ!
لم يستطيعوا أن ينطلقوا إلى العالم بإسلامهم الحقّ، بالكتاب والسنّة واللغة العربية، كما انطلق أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولم يستطيعوا أن يعرضوا الإسلام في ميدان التطبيق ليقدِّموا الحلول العملية الإيمانية من الكتاب والسنَّة لمشكلات البشريّة وأزماتها اليوم. بدلاً من ذلك قدَّموا أشكالاً متصارعة من فهم مضطرب للإسلام، وخلافات واسعة، ونظريات متضاربة، ثمَّ بدأوا يأخذون مناهج العلمانية والديمقراطيّة ويُلصقون بها كلمة الإسلام أو الإسلامية، كما ألصقوا الإسلام من قبل بالاشتراكية والحداثة.
فكيف نظهر عظمة الإسلام للعالم إذا كنَّا نحن لا نتمثّل حقيقة الإسلام ولم نلتق نحن عليه، وإذا كنَّا شُغِلنا بزخارف الحضارة الغربية ولم نستطع أن نبني صناعة قوية، وإعداداً قوياً، وصفّاً واحداً كالبنيان المرصوص؟!
من أين يأتي النصر، والتمزُّق قائم، والخطوات مضطربة والشعارات ضجيج دون نهج ولا خطّة؟! واجبنا أن نتوب إلى الله ونعود إليه صادقين، لتنطلق كلمة الحق في الأمة، كلمة الإسلام.
http://www.almujtamaamag.com المصدر:
============(4/52)
(4/53)
خواطر مسلمة..في معركة السفور والحجاب ( 1- 3 )
يلاحظ الدارسون لتحوُّلات القيم في المجتمع المصري المعاصر أن السفور كان حالة طارئة، بدأت على استحياء منذ ما يقرب من خمسين عاماً، وبلغت أوْجها منذ ثلاثين عاماً،
ثم بدأ صعودها البياني في التوقف، ثم الهبوط، ولا يزال آخذاً في الهبوط السريع منذ عشر سنوات، وأن المؤشرات كلها تؤكد أن السفور يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، وستعود- بالحتم- السيادة لقانون الله، وأمْره بالحجاب.
ويلاحظ الجميع - على سبيل المثال - أن السفور في الواقع لم يكن مسيطراً إلا على شريحة صغيرة من تعداد المرأة المصرية المسلمة والقبطية على السواء، فالمرأة الريفية والصعيدية والشعبية لم تتخلَّ أبداً عن الحجاب، وهذا أمر دليله وبرهانه في جولة يقوم بها ذو عينين مسافراً بين القرى والنجوع. إذن فالبحث يكون مع التساؤل: كيف تسرب السفور - تلك الحالة الطارئة - إلى معاقل الحجاب، وقلاع المرأة المسلمة؟!.
كيف تحولت قضية تحرير المرأة المسلمة إلى حملة سفور؟!
وكيف أخذت كلمة تحرير مدلول سفور، على الرغم من أن التحرير يأخذ - في الإسلام - مدلول الحجاب، فكانت المحجبة هي الحرة، والسافرة هي الأَمَة؟!، وهل كانت المعركة التي انتصر فيها السفور على الحجاب في بلاد الإسلام، هل كانت معركة شريفة حقاً، انتصر فيها السفور؛ لأنه التطور الحضاري المرتقب - كما زعموا ويزعمون - ولأنه الرغبة الفعلية للمرأة، واختيارها الحر من أجل خلاصها؟.
إن الثابت تاريخياً أن حركة السفور تطابقت زمنياً في الدول القوية الثلاث: مصر، تركيا، إيران، فلقد ألقت هدى شعراوي وسيزا نبراوي حجابيهما، وداستاهما بأقدامهما فور وصولهما من مؤتمر النساء الدولي، الذي عُقد بروما صيف عام 1923، وفي تركيا قام أتاتورك عام 1925 بإجبار تركيا بأكملها - وليس المرأة فقط - على هجر الإسلام كلية، حتى الحرف الذي تُكتب به اللغة التركية متشابهاً مع لغة القرآن، أما نزع حجاب المرأة التركية فقد تم بالإرهاب والإهانة في الطرقات، حين كانت الشرطة يقوم بنزع حجاب المرأة التركية بالقوة، وعندما نصَّب الإنجليز الكولونيل رضا خان شاه إيران عام 1926 - مؤسساً للأسرة البهلوية - قام هو الآخر من فوره بأمر الشرطة بالتعرض لكل امرأة محجبة، ونزع حجابها غصباً، وحظر على الفتيات المعلمات وضع الحجاب، ودخول مدارسهن به، ومنع أياً من ضباط الجيش من الظهور في الأماكن العامة في الشوارع برفقة امرأة محجبة، مهما كانت صلتها وقرابتها به.
هذه الرياح العاصفة التي هبت هكذا في منتصف العشرينات؛ لتقلع المرأة المسلمة من اختيارها العقائدي الحر بالتزام الحجاب الشرعي - متدبرة هذه الآية الكريمة: ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً [الأحزاب: 36].
هذه الرياح العاصفة القامعة الإرهابية هل كانت صدفة في المنطقة؟، وهل كان تركيزها على حجاب المرأة المسلمة مسألة عفوية، قُصد بها الحجاب فعلاً، وخلاص المرأة أصلاً، أم كانت تستهدف - في ضميرها - ما هو أخطر وأبعد من الحجاب؟!
إن المتأمل في النصف الأخير من القرن التاسع عشر مع مطلع القرن العشرين - في إطار الوطن الإسلامي - لن يغيب عنه تميُّز هذه الفترة بالنشاط والحيوية، نشاط وحيوية المخاض، التحضير والإعداد وشحذ الهمم والطاقات لإرساء بدايات واعدة لنهضة وبعث شعوب المنطقة من سُباتها الطويل، وتمهيد الأرض لميلاد صحي للأجنة الشرعية المنبثقة من الإسلام، متجاوزة عصور الكبوات والتحريف، مادة حبلها السُّرِّي؛ لتتغذى مباشرة من صدر الإسلام.
لكن هل كان من المقبول - لدى الطيور المفترسة المحوِّمة، القادمة من الغرب المغتصب للانقضاض والثأر من صلاح الدين - أن تترك للمخاض النبيل مداه، حتى يُولد طفل الرؤيا الجميلة؟!
الإجابة هي الواقع الذي حدث على مدار السنوات الطويلة الماضية، والواقع الذي يحدث الآن.
http://muslema.com المصدر:
=============(4/54)
(4/55)
خواطر مسلمة .. في معركة السفور والحجاب .. ( 2من3 )
كان الغرب قد تعلَّم - منذ الحروب الصليبية - أن الحرب الصريحة المعلنة بالجيوش لضرب الإسلام نتيجتها الهزيمة، فقد استجاشت في صدور المسلمين النار الخطرة، التي استعرَّ لهيبها ما يزيد على القرنين،
حتى تم اندحار المعتدين على يد القائد المسلم - الكردي - صلاح الدين، وجنده المسلمين على اختلاف أجناسهم، وكان على الحقد الغربي أن يتريث؛ ليغير أسلوبه للوصول إلى غرضه القديم، وهو اغتصاب كل الأرض التي انتشرت عليها العقيدة الإسلامية، وحصْر أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله في جزيرة العرب، بعد تمزيقها أشتاتاً في قبائل جاهلية مرتدة عن دين الله الحق، يضرب بعضها أعناق بعض.
وكان الغرب قد نجح - بالغدر ونقض العهد والإرهاب - في محو الإسلام نهائياً من أرض الله أسبانيا (أندلس المسلمين) عام 1609 م (أيام العصر الشيكسبيري بعد تأليف هاملت، وقبل وفاة شكسبير بسبع سنوات، أيام العصر الذهبي للحضارة والثقافة الغربية في (أوروبا) - ويشهد المستشرق نيكلسون على أسلوب إبادة المسلمين من أرض الله (أسبانيا)، فيقرر هذه الأسطر (الصفعة) على وجه الحضارة والرقي الأوروبي المزعوم، فيقول نيكلسون - في كتابه التاريخ الأدبي للعرب (ص441) - ما أترجمه حرفياً: في عام 1492م فُتحت آخر قلاع عرب الأندلس لفرديناند وإيزابيللا، وحلَّ الصليب محل الهلال على أبراج غرناطة، وأظهر المنتصرون تعصباً وحشياً، بلغ من بشاعته أنه انتهك تعهداتهم المغلظة، بأن يحترموا الدين وممتلكات المسلمين، وتناقض تعصبهم تناقضاً كاملاً مع التسامح والمعاملة التحرُّرية (الليبرالية)، التي تمتع بها المسيحيون تحت الحكم الإسلامي، وأمام الإجبار على الاختيار بين الردة أو الهجرة - فضَّل الكثير من المسلمين الهجرة، أما هؤلاء الذين بقوا فقد تعرضوا لاضطهاد بشع حتى جاء عام 1609، فتم بأمر من فيليب الثالث - طرد كل مَن كان من أصل عربي، وتم طردهم من الأرض الأسبانية طرداً جماعياً.
وهكذا بعد موقعة النصر - بالغدر والإرهاب - على مسلمي الأندلس الغافلين، استمرأت الشهية الغربية لحوم المسلمين، ووجدوا أن في الصيغة المؤلفة من الخديعة والتسلل مع الإرهاب والغزو - ما يمكِّنهم من الانتصار على صلاح الدين، ولو بعد حين، ومن ثم حين ماج القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بمخاض بعث إسلامي - كانت حربة إبليس ذات الثلاث أسنان قد صُوِّبت ونشبت في لحم المنطقة مجهضة طفل الإسلام الشريف، طارحة - في المقابل - أطفالها: بهائية، صهيونية، ماسونية: توائم دميمة ثلاثة لمنطلق واحد واستراتيجية واحدة، وبتكتيك يختلف باختلاف الموقع والتكليف:
- فالبهائية: تطلب السلام بين القاتل والمقتول، ونزع السلاح من المظلومين والمجني عليهم، بينما تتسلل تفكك عُرى المسلمين مع شريعتهم عروة عروة، حتى الانسلات الكامل.
- والصهيونية: تمارس الاغتيال والإرهاب، واغتصاب الأرض شبراً شبراً، ثم وطناً وطناً.
- والماسونية: تلف حبائلها لتشد وتشل - إلى قيادتها وتوجيهاتها - عقول المثقفين والأدباء والشيوخ والعلماء والقادة الاجتماعيين والساسة، وتصنع على عينيها الأحزاب السياسية، التي تسرق البعث من الإسلام، والوحدة من المسلمين؛ ليصير البعث بعثاً من العصبية العرقية الجاهلية قبل الإسلام، وتكون الوحدة بين كل مَن تبرأ في سلوكه من الإسلام - بدعوى شعار براق آخر هو مسايرة العصر - وكل مَن انحاز للادينية (العلمانية)، وتبنَّى النقاط السبع الجوهرية في البهائية، وأهمها:
1- فصل الدين عن الدولة. 2- إباحة الربا. 3- نزع حجاب المرأة.(4/56)
إن أحداً لا يماري في أن المرأة المسلمة في العالم - وفي مصر - كانت قبل وعند مطلع القرن العشرين، ترسف في أغلال تراكمات السنوات الطويلة من الإهمال والجهل والحرمان من حقوقها الشرعية، التي كفلها لها الإسلام في التعلم والدراسة واختيار الزوج.. الخ، وكانت في إطار الظلم العام، والتآمر الذي كان واقعاً على المواطن المسلم على مساحة الوطن الإسلامي - كانت تعاني ظلماً مضاعفاً، وتتهدد بتآمر أخطر، وكان بعض علماء الدين التقليديين قد ركنوا إلى قواقع، هربوا إليها، منسلخين من مسئوليتهم الإسلامية الجوهرية في ريادة الأمة، والاضطلاع بحمل متطلباتها السياسية والاجتماعية والثقافية، في الوقت الذي لم تأخذ قضية تحرير المرأة المسلمة شيئاً يُذكر من اهتمام الطليعيين من علماء الشريعة، فكان حظ المرأة المسلمة من الالتفات - إسلامياً - لمحنة ظلمها الاجتماعي، الذي أعادها إلى عذابات موروثات من العقلية الجاهلية قبل الإسلام، التي يسودُّ وجهها كلما بُشِّرت بالأنثى، فتلجأ إلى وأْدها، كان حظ المرأة المسلمة ترديداً مبتوراً للآية الكريمة: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّج الجاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا? [الأحزاب: 33]، مع إغفال الآية الملحقة: ?وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خبِيراً? [الأحزاب: 34]، مع ما تعطيه هذه الآية الكريمة من منهج قرآني مرسوم لمهمة المرأة المسلمة، التي أُمرت من قِبَل القرآن بالتزام بيتها - لا لكي تجلس، كما كان يحدث لقرون طويلة، في فراغ أو زحام من الجهل والتفاهة واللافاعلية- ولكن لتأدية عديد من المهمات لإعدادها كادراً إسلامياً، لها موقعها الأساسي في المجتمع الإسلامي منها:
أولاً: المهمات التعبُّدية:
رياضة لجسمها وروحها ?وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً?[الأحزاب: 33].
ثانياً: المهمات التعليمية:
بناءً لعقلها وثقافتها ووعيها، ومن ثم فاعليتها في جسم المجتمع الإسلامي: ?وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خبِيراً?[الأحزاب: 34]، وعند كلمة الحكمة تنبجس - أمامنا - المئات من عيون المعرفة والخبرات، وأبواب توظيفها، وتتشكَّل أمامنا - تربوياً وعلمياً وثقافياً - تلك المرأة المسلمة، كما يرسمها القرآن الكريم، ويريدها الله والرسولل صلى الله عليه وسلم ونرى بعين الرؤية الإسلامية: امرأة نظيفة، نشطة، جادة، لها زيها المتميز عن الجاهلية وعن الكتابية {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً[الأحزاب: 59] تغض بصرها، لكنها لا تخضع بالقول، فهي قوية نابهة، تدربت إسلامياً؛ لتعرف الفرق بين التهذيب والضعف، الذي يثير الطمع، وهي متفقهة في دينها، تعرف كتابها، وتوجيهات رسولها صلى الله عليه وسلم وتتلقى من منابعهما الحكمة، التي تربي وعيها، كذلك لتتعرف على إمام زمانها، الذي عليها أن تبايعه، وتتبعه نصرة لله والرسولل صلى الله عليه وسلم وهي امرأة قارئة، كاتبة، متأملة، مفكرة، مستنبطة، مستوعبة، تعرف تفاصيل قوانين شريعتها وفقهها، كما تعرف أصول حكومتها، وتدرك كيف يكون الحاكم العادل، ومتى يصير - بالمفهوم الإسلامي - جائراً، فتُلزم، وتؤمر - مع مجتمعها المسلم - بتقويمه ونصحه، أو مجاهدته.
هي نصف متزامل مع الرجل المسلم في حشد بديع، يأتي به القرآن صفاً من ضياء وعبق المسك، كما ورد في الآية الكريمة: ?إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجراً عَظِيماً?[الأحزاب: 35].(4/57)
هذه الصورة الكريمة الناصعة للمرأة المسلمة - كما حدد معالمها القرآن الكريم - طُمست وتلاشت (إلا في حالات استثنائية نادرة) عبر القرون التي اتخذ فيها المسلمون ?هَذَا القُرْآنَ مَهْجوراً?[الفرقان: 30]، فتحولت المرأة المسلمة إلى كائن جاهل خامل، متخلف الحس والإدراك، فاقد الوعي، منكمش في تواجد باهت على هامش المجتمع، وكان لا بد أن يؤدي هذا الطمس والجور - على قانون الله - إلى سرقة مطلب تحرير المرأة من منطلقاته وتصوراته الإسلامية، بعد أن تقاعس علماء المسلمين عن أن يكونوا أول مَن يقود الحملة لمحو أمية المرأة، والدفاع عن حقوقها الشرعية، وإعادتها إلى ملامح ومعالم صورتها، كما قررها القرآن؛ لتنبعث حرة عزيزة من أرضيتها العقائدية، وتراثها الثقافي والفكري.
وهكذا - وفي غياب المبادرة الإسلامية للتصويب - وقعت قضية تحرير المرأة المسلمة في أيدي غير الأمناء، ممن لا ينطلقون من أرضية أو تصوُّر إسلامي، وتقدم كل مَن هب ودب؛ ليدلي بدلوه في مسألة تحرير المرأة المسلمة: ما بين صديق جاهل، وعدو ماكر، استطاع في نهاية الأمر - بعدائه ومكره - أن يكتِّل الصديق الجاهل إلى معسكره المعادي للإسلام، ويستثمر جهله لضرب معاقل المسلمات، وهتك سترهن، كجزء من المخطط الأسود الشامل على كل الأصعدة لضرب الإسلام والمسلمين، وإلغاء شريعتهم - لا سمح الله - حيلولة، ومنعاً لانبعاثهم الحتمي رحمة للعالمين، ولو كره الكافرون.
وفي مولد هذا الشعار البَرَّاق - تحرير المرأة - انفسخ المجال أمام الرواد العظام من تجار الشنطة الثقافية، القادمين من أوروبا ومن أمريكا أخيراً - ليصولوا ويجولوا، محمَّلين بأشكال وأنواع بضاعة الثقافة الغربية، بموروثاتها الجاهلية الوثنية الإغريقية، ومعها نماذج المرأة الأوروبية والأمريكية، التي كانت قد نالت حريتها حديثاً، متشكلة من رصيد فكري واجتماعي وديني خاص بها وحدها، لا تنتمي إليه، ولا يمكن أن تنتمي إليه المرأة المسلمة بحال.
وككل الباعة الجائلين، كانت أصوات تجار الشنطة الثقافية - هؤلاء - أعلى الأصوات، وأكثرها صخباً، وككل الباعة الجائلين - كذلك - كانوا يعرفون الكلمة التي تقال لتبهر وتجتذب، والبضاعة التي تُدس لتسلب، ونعجب الآن - ونحن ننظر إليهم على بُعد ما ينيف على النصف قرن - كم كان واضحاً كونهم مندوبي مبيعات شامخي الأنوف مع مواطنيهم، مهدوري الكرامة للرؤوس الأوروبية الغربية الداهية، من صهاينة وصليبيين وماسون، وكم كان واضحاً - على الرغم من الحذلقة - تشتُّتهم الفكري، وسطحيتهم - كنقال ببغاويين - بنداءاتهم الفجة، التي لا تخلو من وقاحة وسوقية، لهجر التأصيل من الذات لحساب التبعية الفكرية لغرب يمقتنا، ديناً وجنساً وتاريخاً، ويمارس معنا فوقية وغطرسة واحتقاراً، وهو يحضر الأنشوطة وراء الأنشوطة؛ لتلتف حول أعناقنا، جاذبة جباهنا عند أقدامه: جباهنا نحن المسلمين أصحاب العزة من الله: ?وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ? [المنافقون: 8].
http://muslema.com المصدر:
==============(4/58)
(4/59)
خواطر مسلمة .. في معركة السفور والحجاب ( 3 - 3 )
كان مطلب تجار الشنطة الثقافية هؤلاء أن يجعلونا ننظر بإكبار لإنجازات أوروبا - بسبب ما وصلت إليه من قوة البخار والكهرباء - ونضعها أمامنا قدوة ومثلاً أعلى، نسعى للوصول إليه، ونتشكل بشكله، ومن ثم يصير كل شيء - ينتسب إلينا، أو ننتسب إليه، يتعلق بنا أو نتعلق به من أصولنا - يصير سلفياً، جامداً، مرفوضاً، يجب التنصل منه، والاعتذار عنه، كأنه جذام أو عاهة، وكان المطلوب أن نعتقد معهم بأن أوروبا والغرب قلعة للحرية والديمقراطية والتمدن واحترام الإنسان، بينما يدوس النعل الأوروبي والغربي وجه الوطن الإسلامي، اغتصاباً وإرغاماً وسحقاً تاماً للإنسان وحريته وكرامته واستقلاله.
هؤلاء الباعة الجائلون الصم العمي الثرثارون - من تجار بضاعة الشنطة الثقافية - يكتب عنهم لويس عوض، مؤيداً بأنهم أبناء الثقافة الغربية والمفهومات الغربية والوثنية الفرعونية - القومية المصرية - ويضعهم بسبب ذلك موضع الاستحسان والافتخار، مما يثبت لنا أن عمليتنا الحسابية سليمة، حيث نضعهم نحن موضع الاستياء والإدانة (2).
ومع سرقة مطلب تحرير المرأة المسلمة ووقوعه في أيدي الجهلة والأعداء وتجار الشنطة الثقافية - كان الدأب منذ البداية لجعْل القضية قضية تحرير المرأة فقط، مع إسقاط التعيين المسلمة، ومن ثم ربطها بقضية تحرير المرأة في العالم، كأنما صارت هناك قومية خاصة اسمها القومية النسائية، تربط المرأة المسلمة بالمرأة المسيحية، بالمرأة اليهودية، بالمرأة عابدة البقر والأوثان، بالمشركة، بالملحدة.. الخ، كأن قضيتهن واحدة، ومطالبهن واحدة، وأهدافهن واحدة، ومعتقداتهن واحدة، وكان السعي - فعلاً - حثيثاً لتأخذ المرأة المسلمة ملامح المرأة الغربية، وكلما تطابقت صورتها مع الغربية زاد الإعجاب بها، وتقريظها بأنها لا تفترق عن الأجنبية!، حتى سقطت المرأة المسلمة فيما لم تسقط فيه حتى عابدة البقر، التي ظلت معتزة بزيها الخاص (الساري)، وتميُّزها بالنقطة الحمراء بين عينيها.
كذلك كان الدأب الأهم لفصل قضية تحرير المرأة المسلمة عن قضية تحرير الوطن المسلم، وفصل قضية الظلم الواقع عليها عن قضية الظلم الواقع على الرجل المسلم - تجزئة للقضية الواحدة من أجل أن تتفتت في مسارات متباينة متعارضة، بل ومتصارعة، إذ لم يقف الأمر عند الفصل، بل تعداه إلى أن جعلت المرأة المسلمة تقف خصماً أمام الرجل المسلم وأمام الوطن المسلم، تقف خصماً ضد شريعتها: تمتلئ رعباً وهلعاً كلما قيل لها: هناك مَن يطالب بتطبيق حكم شريعتك، وتنفرج أساريرها فرحة بانتصار انهزامي كلما خرجت من النظم العلمانية بقانون خائب للأحوال الشخصية، مستلهم من قوانين الغرب المغتصب لبلادها، المهيمن على مقدرات أهلها، المستذل لناسها، المقيد لحرياتهم، والواقف عقبة في طريق تحررهم واستقلالهم، راجية - في بلاهة واستخذاء - العدل من أيدي الجناة، لاجئة إلى السجان والجلاد؛ لكسر قيدها، وعتق رقبتها!
وقد استمر - فعلاً - الالتواء بقضية تحرير المرأة المسلمة، فتحول من قضية للتحرير من عبودية الظلم والجهل، ومطلب للانبعاث من حقوقها الشرعية في التعلم والإنسانية - التي كفلها لها الإسلام - إلى حركة تنحرف إلى المطالبة بنزع الحجاب، وحملة للسفور، وتحقيق ذلك، مع كسر متواصل دؤوب لأصول وميزان الإسلام في البناء العقلي والنفسي والعصبي للمرأة المسلمة المعاصرة، حتى وقعت - في النهاية - فريسة بين جاهليتين: جاهلية قديمة تستمد موروثاتها المتخلفة من عقلية قبل الإسلام، تقوم بوأد البنات، وجاهلية جديدة غربية تستمد موروثاتها المتخلفة من عقلية مادية تجارية، ذهبت إلى طرفي نقيض باستغلال أنوثة الأنثى، واستثمارها في إعلانات تسويق السلع والجذب السياحي والتشويق الفني المحبِّذ لإباحة الأنثى، وشيوعها، وتقديمها كأحد أطباق المتعة للسيد الرجل!
وكانت النتيجة الطبيعية أن وجدنا - بعد مرور كل تلك السنوات على مطلب تعليم المرأة - غالبية النساء المسلمات ظللن أميات جاهلات مسلوبات، حتى من معرفتهن بعموميات الإسلام، التي كانت تلقَّن لهن، بينما تفشت بينهن - بسرعة البرق - نزعة العري والانسياق السوقي وراء قيم ومفاهيم المرأة الغربية، التي وُضعت لهن كمثل أعلى، يحبَّذ اتباعه وتقليده، فلم تتحرر المرأة المسلمة، بل وقعت - بشكل أسوأ - في الرق الجاهلي الجديد.
غير أن تحولات الوعي ودلالات الواقع تؤكد أنه قد آن الأوان لهذا المرض الطارئ - السفور وملحقاته الذي حطَّ على أدمغتنا، وأعمى عيوننا ما ينيف على الخمسين عاماً - أن ينقشع، وأن نبرأ منه ككل باطل مصيره أن نقذف بالحق عليه، فنزهقه ?إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ? [الإسراء: 81].
وطُوبى لمَن تنزع عنها غلالة الردة الرجعية، وتعود من اغترابها وغُربتها، تأتي اليوم وغداً بالحجاب، ومعها العلم والوعي والعمل والحرية بإذن الله، ووفق شريعته.
http://muslema.com المصدر:
=============(4/60)
(4/61)
في مواجهة التغريب قراءة في فكر عبد الله النديم وكتاباته
ناصر الصفدي
لئن دشنت مدافع نابليون أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، بداية حملة غربية تقودها (فرنسا)، في ذلك الوقت، على أمتنا العربية الإسلامية، بغية استئناف الأحلام الغربية بغزو العالم و«تحضيره» و«تنويره» وفق النمط الأوروبي، الذي يرى الإنسان الغربي محور الكون وقطبه الأوحد، أقول: لئن اعتبر كثير من المثقفين والباحثين حملة نابليون تلك مفتتح عهد استعماري جديد، فإن تلك الحملة، وكما يراها عدد من مثقفينا المبهورين بالحضارة الغربية والمولعين بإنجازاتها، كانت في نظرهم نقطة البدء لتعرف أمتنا على الحضارة الغربية، ودخولها تالياً في العصر الحديث وعلومه ومنجزاته عن طريق التلاقح الفرنسي وما نتج عنه من نشوء ما عاد يعرف في أدبياتنا بـ(اليقظة العربية) من قبل القوميين العرب، أو (النهضة الإسلامية الحديثة) من قبل الإسلاميين.
وعلى الرغم من تحفظنا إزاء اعتبار ذاك التاريخ مرحلة تاريخية تدشينية للنهوض واستنهاض الهمم، فمتى كان غزو أمة لأخرى لحظة تاريخية فارقة لصالح نهضتها وتقدمها، ما لم يشكل ذاك الغزو حالة مستفزة بالمعنى الإيجابي للكلمة؟، إلا أننا نتفق في النهاية على أن تدشين عصر اليقظة العربية أو النهضة الإسلامية الحديثة، مع انطلاق مدافع نابليون على مصر، كان بداية مرحلة جديدة من الغزو الغربي لأمتنا، ونوعاً مميزاً منه، امتاز بطغيان الجانب الثقافي والحضاري فيه على الجانب العسكري الذي طالما دحرته الأمة، وامتلكت تجاههه مناعة مكنتها من هزيمته ودحره ولو بعد حين.
ذلك الغزو الثقافي والحضاري الذي حرص الاستعمار الحديث على المضي قدماً فيه جنباً إلى جنب مع الغزو العسكري التقليدي، كان يستهدف هذه المرة استنبات نبت هجين، ينتسب إلى هذه الأمة بالاسم والمولد والجنسية، ويتبنى قيم الحضارة الغربية ومقولاتها ومبادئها في جوهره وحقيقته، سعياً منه لطمس ملامح هويتنا الحضارية التي استعصت على سادته الغربيين من خلال العمل العسكري، في محاولة لعولمة الأرض وفق النموذج الغربي، وفي إطاره المعرفي والثقافي الذي لا يرى بديلاً عنه أو حتى مكافئاً له.
لقد تصدى أبناء هذه الأمة لمحاولات التغريب والإلحاق الثقافي القسري بالقطب الغربي الأوروبي بداية، والأمريكي تالياً، وكان في مقدمة أولئك (عبد الله النديم) الذي سوف تدور سطور هذه المقالة عنه وعن فكره ورؤاه الإستراتيجية في هذا الصدد، من خلال مطالعة واستقراء أهم نتاجه الفكري وكتاباته.
ينتمي(عبد الله النديم) أو (عبد الله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسي الحسني 1845ـ 1896م) فكرياً إلى تيار الجامعة الإسلامية الذي أسسه الشيخ جمال الدين الأفغاني، - رحمه الله تعالى -، وقد كان تلميذاً نجيباً له ولفكره وآرائه، ولد بالإسكندرية، وكان شاعراً وخطيباً وسياسياً مجاهداً، وذا قدم راسخة في ميادين العلوم الإسلامية وعلوم العربية الفصحى، وكاتباً بارزاً باللهجة العامية، شارك في الكتابة في صحافة تيار الإحياء والتجديد الذي تزعمه الأفغاني، فكتب في صحف (المحروسة) و(العصر الجديد). كما شارك في الثورة العرابية، وكان من أبرز خطبائها، وأصدر إبان الثورة صحيفة (التنكيت والتبكيت) و(الطائف) التي حلت محلها ومثلت لسان حال الثورة.
إثر هزيمة الثورة العرابية إزاء التدخل العسكري الإنكليزي في مصر، طاردت سلطات الاحتلال (النديم)، فاختفى لمدة عشر سنوات، وبعد القبض عليه، حبس أياماً ثم نفي إلى فلسطين حتى عفى عنه الخديوي (عباس حلمي الثاني)، فعاد إلى مصر وأصدر مجلة (الأستاذ). ثم نفاه الإنكليز بسبب مقالاته فيها إلى فلسطين ثانية، فذهب إلى الأستانة (استانبول) وصحب أستاذه الأفغاني حتى وافاه الأجل ودفن هناك، وله من المؤلفات الفكرية والأدبية ما ينوف على العشرين مؤلفاً.
لقد كان (النديم) مهجوساً بالسؤال الذي شغل بال مفكري عصره وأقض مضاجعهم عندما تعرفوا إلى الحضارة الغربية، والمتلخص بسر تخلفنا وتقهقرنا الحضاري إزاء تقدم أوروبا والغرب، ولعل كتاباته في هذا السياق من أقدم المحاولات النقدية الجادة للإجابة على هذا التساؤل المفتاحي، واعتبر(النديم) في هذا السياق أن جذور تراجعنا الحضاري ترجع إلى عوامل داخلية ذاتية منها: «حكم التغلب وسلطان الاستبداد، وتجزئة السلطة وتشرذم الأقاليم في ديار الإسلام، وتراجع سلطان العلماء، وتأثير المؤسسات العلمية والتعليمية، وضيق السلاطين بالحرية الفكرية، وتضيقهم على أرباب الأفكار الحرة وأهل الاجتهاد والتجديد»[1].
ولم يهمل (النديم) دور التدخل الخارجي والغزوات الهمجية التي تعرضت لها حضارتنا وأمتنا على يد كل من المغول والصليبين، فأوقفت سير تقدمنا وشغلت الأمة بمهمة الدفاع عن وجودها وكيانها إزاء الأخطار المحدقة بها.(4/62)
ولم يكن(النديم) داعية لمطلق التقدم والنهوض فحسب، بل كان داعية وعلى استبصار مشهود منه وله، إلى تقدم يوقف تيار أوروبا ويضارعها قوة وعلماً، تبصراً منه بالأخطار الحقيقية الكامنة وراء الغزوة الفكرية والعسكرية التي كانت تشنها أوروبا على أمتنا في ذلك الوقت، ولا تزال.
وهو وإن كان يؤخذ على كتاباته تأثرها وانطباعها برؤية ِأستاذه الأفغاني حول مستقبل الصراع بين أمتنا والحضارة الغربية وصياغته على أساس كونه صراعاً بين (الشرق) و(الغرب)؛ معتبراً بذلك «الدائرة الشرقية»، كما أستاذه الأفغاني، دائرة انتمائه الحضاري، لا الإسلام وحده، إلا أنه مع ذلك اعتبر الدولة العثمانية بوصفها كبرى دول الشرق وحامية حماه ضمن إطاره الحضاري و«جامعته الشرقية» على حد تعبيره، جامعة للأجناس والأعراق والقوميات الإسلامية وغيرها، والسياج الذي يتعلق به الشرقيون، على حد تعبيره، اتقاء للخطر الاستعماري الزاحف على ديار الإسلام والشرق عموماً، ومن هنا كان تأييد تيار الجامعة الإسلامية وزعيمه الأفغاني للدولة العثمانية، مع المناداة بضرورة إصلاحها من الداخل والسعي إلى تجديد طاقاتها واستعادة دورها الريادي والحضاري.
وإذ يعترف(النديم) بدور الغرب في إيقاظ الأمة بمعنى إيقاظ المقابل الحضاري لمقابله، ولعبه دور(المستفز الحضاري) للأمة، فإن ذلك لم يغيب عنه ضرورة صياغة مقومات الانتماء وثوابت النهوض التي لا يجوز التفريط فيها ولا التنازل عنها، والتي رآها في: حفظ المظهر والوجاهة، وحفظ الثروة من صناعة وتجارة، وحفظ الوطنية وحقوقها وواجبات أهلها، وحفظ الجنسية بعدم التقليد والاتباع لمحسنات الغير ومجاراته في أقواله وأفعاله، وحفظ اللغة التي هي أداة الحفاظ على الأخلاق وتحسين العادات والمألوفات، وحفظ الدين الذي يمثل حفظه الجامعة الحافظة لكل مقومات الانتماء.
ويركز(النديم) بشكل واضح في معالجته لهذه العناصر على كل من (الدين) و(اللغة)، فالإسلام، «هو مرجع المجد وأصل الشرف»[2]، وهو«أقوى دعائم العمران، والسبب الوحيد في المدنية وتوسيع العمران أيام كان الناس عاملين بأحكامه»[3]. و«ليس هناك حبل متين تقاد به الأمم غير الدين»[4]. وهو بذلك يتصدى لمن ادعى رد سبب تخلف المسلمين وتأخرهم من قبل الأوروبيين إلى الإسلام، كاشفاً عن دوافع تعصبهم الديني إزاءه، ومن هنا جاء دعمه ووقوفه إلى جانب الدولة العثمانية لكونها تقف في مواجهة ذلك ولو ظاهرياً، «فلو كانت الدولة العثمانية مسيحية الدين، لبقيت بقاء الدهر بين تلك الدول الكبيرة والصغيرة، ولكن المغايرة الدينية، وسعي أوروبا في تلاشي الدين الإسلامي، أوجب هذا التحامل»[5].
ورأى (النديم) في «اللغة العربية» ثابتاً هاماً من ثوابت الهوية الحضارية التي لا يجوز المساس بها إطلاقاً، لأنها«لسان الدين» و«ترجمان الوطن»، وعنوان الحفاظ على الهوية الحضارية لأمتنا، وواجه النديم آنذاك التحديات التي هددت اللغة العربية من قبل المتغربين وأبواق الاستعمار وغيرهم، وقد تمثلت تلك التحديات في كل من اللغة التركية التي حاول حزب الاتحاد والترقي فرضها على البلاد العربية، واللغات الأوروبية التي زحفت على الأمة في ركاب الاستعمار ومدارس التنصير والتبشير، وتحدي اللهجة العامية التي سعى أجراء التعريب إلى استبدالها باللغة الفصحى؛ تمهيداً لإزاحة الإسلام والقرآن والتراث وطمس الهوية الحضارية المتميزة لأمتنا.
وعلى الرغم من حالة الصراع الفكري والسياسي التي كان يعيشها النديم في مواجهة الاستعمار الإنكليزي وأبواقه من المتغربين والعلمانيين، إلا أن ذلك لم يحل بينه وبين الاعتراف بالوجه الآخر للحضارة الغربية، وقيامها على مستوى متقدم من العلم والتطور المدني والحضاري، وهو لم يدع يوماً إلى رفض ذاك (الآخر) أو ما قد يأتي منه من معارف وتقنيات وعلوم، بل دعا إلى الأخذ بعد تفحصيه وسبر أغواره ومدى ملاءمته لحضارتنا وهويتنا ومبادئنا وقيمنا الأصيلة.
وكان (النديم) يخوض معركة المواجهة مع تيار التغريب ودعاته على قدم وساق، وبالتوازي مع مواجهته للخطر الاستعماري والغزو الثقافي المباشر، فخاض معاركه الفكرية والثقافية مع خريجي مدارس التبشير ممن عرفوا باسم (المسيحيين الشوام)، أصحاب مجلة (المقتطف) وجريدة (المقطم) من أمثال: (يعقوب صروف، وأمين شميل، وشبلي شميل، وشاهين مكاريوس)، وأضرابهم ممن وهبوا أنفسهم للمحتل وثقافته، ومارسوا التبشير بثقافته وحضارته والتشكيك بهوية الأمة وحضارتها وقيمها وحتى كتابها، وكان النديم يصنف جريدة (المقتطم) ضمن «الجرائد الإنكليزية التي تصدر في مصر»، وكتابها بالأجراء الخونة، عملاء الأجانب الذين خانوا أوطانهم وسلطانهم وأهلهم ودينهم، ممن تعلم في مدارس الغير وباع نفسه لها، بل إن نصب النديم نفسه لمواجهة دعاة هذا التيار وأفكاره كان سبباً مباشراً في إرجاف أولئك الأجراء لدى المحتل وحمله على نفيه خارج مصر، مازجاً بذلك النديم بين الجهاد الفكري والجهاد السياسي.(4/63)
لقد مثل (عبد الله النديم) من خلال كتاباته ونتاجه الفكري والثقافي نموذجاً صادقاً عن رجالات أمتنا الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فحملوا لواء المنافحة عن هوية الأمة ورسالة حضارتها، والتأكيد على مضمونها الإنساني والشمولي للإنسانية جمعاء، في مواجهة كل من الغزو الثقافي الذي رافق الاستعمار العسكري المباشر في ذاك الوقت، وما أشبه اليوم بالأمس، وتيار التغريب الذي اصطنعه الاستعمار الغربي لنفسه وزرعه كالسرطان الخبيث في جنباتنا لينهش في يقيننا بصلاحية ديننا، ويطعن في حضارتنا وإنجازاتها الباهرة. وإذا كان النديم في ذلك العصر قد حاول الإجابة على أسئلة على عصره، وواجه التحديات المحدقة بأمته، فإن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة الآن مع تشابه المعطيات والظروف والأسئلة الكبرى المطروحة علينا الآن، وبعد حوالي القرنين من الزمن، ينحصر في التساؤل عن السر في تشابه الظروف والمعطيات والتحديات التي تواجهنا اليوم بتلك التي واجهت أمتنا وحضارتها مطلع يقظتها الإسلامية منذ قرون، وعن مدى مشروعية الإجابة عليها بالأساليب والإجابات التي قدمها جيل التيار الإسلامي في ذلك العصر، وبالتالي، فهل يعني تكرار الأسئلة والتحديات التي نواجهها خللاً ما في صياغة إجاباتنا عليها سالفاً، أو استمراراً وتكراراً لها من قبل (الآخر) الذي يصر على طمس هويتنا واستقطابنا في فلكه ودائرته الحضارية؟. وهل تكفي العدة المعرفية التي تزود بها رواد مواجهة الغزو الثقافي وأبواقه من المتغربين لمواجهة السعار الغربي الموجه ضدنا؟ أسئلة كثيرة تنتظر منا مزيداً من التأمل والتحليل والتدبر.
----------------------------------------
[1] - مجلة الأستاذ، العدد الخامس عشر، ص 348.
[2] - مجلة الأستاذ، العدد الثاني والعشرون، ص 519.
[3] - مجلة الأستاذ، العدد الخامس والعشرون، ص593، والخامس عشر، ص352.
[4] - مجلة الأستاذ، العدد السابع عشر، ص394.
[5] - مجلة الأستاذ، العدد الثاني والعشرون، ص513.
http://al-shaab.o r g المصدر:
=============(4/64)
(4/65)
خفافيش الظلام
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
الخفافيش يبهرها النور وتأنس بالظُّلْمَة، فـ " نور الحق أضوأ من الشمس، فَيَحِقّ لخفافيش البصائر أن تَعْشُو عنه " كما يقول ابن القيم. ( ولا عَجَب أن تَرى من الكُتّاب أو من يُحْسَبُون من " المفكِّرين " من أعْمَاه نُورُ الحق فلا يَرى إلا في الظُّلْمَة لا عجب أن ترى من يُبصر في الظَّلام، أو يُسمِّي بَلداً من بلاد الكُفر: بَلَد النور! وهو بَلَد النور - فِعلاً - بالنسبة له! لأن من حَمَل صِفَة " الخفّاشيّة " لن يَرى في النور، بل في الظُّلْمَة، والظَّلام نور بالنسبة له! لا عَجَب أن ترى " مُثقّفاً " - زَعموا - يَرى القوّة الكامنة في الضعف البشري!
فَخَيط بيت العنكبوت أوهى من الواهي! ومع ذلك تَراه هي دِرعاً حصيناً!
ولا عَجب إن تَسَاقَط الذُّبَاب فيه! فأحاطته العنكبوت بخيوطها!
لا ريب أن الذُّباب سَيَرى القوة في تلك الخيوط الواهية!
في حين أن ضعف تلك الخيوط يبدو لكل عاقل بصير!
يُزيله الطفل بِلُعْبَتِه!
أو يُتْلِفُه بِرَمْيَةِ كُرَة!
أو تتقاذفه الرِّياح!
الخفافيش يَبهرها نور الشمس؛ فتختفي!
وتأنس بالظُّلمَة؛ فتفرَح وتطير!
يُنصَح الأرمد بِعدم البروز إلى الشمس..وما في الشمس مِن عيب ولا مَرض! والمرض في عيني الأرمد!
فقل للعيون الرُّمْد للشمس أعينُ *** تراها بِحَقٍّ في مَغِيبٍ ومَطلعِ
وسامِح عيونا أطفأ الله نورها *** بأبصارها لا تَسْتَفِيقُ ولا تَعِي
وقد يُنصح المريض بِعَدم شمّ الطِّيب. .وما في الطِّيب من عَيب!
وما على العنبر الفوّاح من حَرَجٍ *** أنْ مَاتَ مِن شَمِّه الزَّبَّال والجَعل!
يَرى أحد الكتّاب أن القوة والعَظمة في أمريكا.. فيُصرِّح ويَصرُخ أن أمريكا قادِرة على " (ترويض) هذه الكوارث الطبيعية "!
وأنها تستطيع تحدِّي الكوارث - بِزعمه!
وهذه النَّظرة تُمثّل الكاتِب ومن على شاكلته - ممن أخلَصوا لأمريكا أكثر من الأمريكيين -!
وهي لا تُمثّل أسرة ينتمي لها
ولا اسْمَاً يَحمِله
وإنما تُمثّل الضبابية في فِكره!
والْخُفَّاشيّة في بَصَرِه!
يُغالِطون أنفسهم.. ويُغلِّطون غيرهم حينما يظنّون أن شمس الحقيقة تَخْفَى!
وَهَبْنِي قُلْتُ هذا الصبح ليل *** أيعمى العالمون عن الضياء؟!
إن مثل هذا الكاتب كمثل أقوام نَخَر النِّفاق قلوبهم فقالوا يوم الأحزاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يَعِدُنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرّز؟!
أو كأسلافهم الذين قالوا: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا).
قال ابن كثير: أما المنافق فَنَجَمَ نِفَاقُه، والذي في قلبه شُبْهَةٌ أو حَسِيكَةٌ لِضَعْفِ حَالِه فَتَنَفَّسَ بما يِجِدُه من الوسواس في نَفْسِه لِضَعْفِ إيمانه، وشِدّة ما هو فيه من ضِيق الحال. اهـ.
لقد حزِن الكاتب لِمُصاب أمريكا! وضاق صدره بإعصارِها!
وحُقّ له ذلك فهي أمّه الرؤوم! ولها ولاؤه!
في حين يقول الأستاذ عبد الله الناصر:(4/66)
وليس عنف كاترينا في التدمير الرهيب المخيف الذي جعل كوكبنا كله يقف حائراً وضائعاً ومستصغراً أمامها.. فلا بنتاغون، ولا طائرات، ولا صواريخ، ولا قنابل ذرية ولا وسائل تجسس، وطابور خاص، ولا ذيول طويلة أو أخرى قصيرة.. بل لاشيء اسمه قوة عظمى قادرة على ردعها أو دفعها أو كفّ وكَبْت جماحها وعنفوانها.. أقول ليست نتائجها في ذلك فقط.. ولكن كاترينا كشفت هشاشة القوة العظمى على المستوى الاقتصادي، والمستوى الاحترازي الاتقائي، والتدخل السريع لإنقاذ مئات الآلاف من البشر الذين حاصرهم الموت، والذعر، والعذاب، لفترة طويلة، والطوفان يغرق شوارعهم، وبيوتهم، وأطفالهم، وكلابهم، والعاصفة تقتلع أشجارهم وأرواحهم، فيستصرخون ولكن لا صريخ لهم، ويستغيثون فلا مغيث لهم، ويستنجدون فلا منجد لهم، وهذا ما جعل عمدة نيوأورلينز يصرخ بأعلى صوته!: عار على أمريكا ما يحدث، عار على أمريكا ما يحدث.. !! لأنه رأى مواطنيه يعبث بهم الهلاك بلا منقذ أو معين. فبعضهم نام تحت الطوفان نومة أبدية، والبعض الآخر هام على وجهه، والناجون صاروا ينامون تحت الجسور، وفي الأنفاق، والكنائس، وملاعب الكرة، هرباً من إرهاب كاترينا! بل لقد كشفت كاترينا ما هو أعظم من ذلك وأخطر كشفت عن هشاشة عظام المجتمع الأمريكي، وقابليته للتحطم، والتهشم، والتكسر السريع.. فلقد تحول كثير من أبناء هذا المجتمع المنكوب إلى لصوص، وقطاع طرق، وإرهابيين، يغيرون مع غارة الإعصار، على البيوت، والمحال التجارية، والبنوك، والممتلكات العامة، يفتكون، وينهبون، ويقتلون، بل ويغتصبون النساء، والفتيات القاصرات تحت تهديد السلاح.. كل هذا يَحْدُث ببركات كاترينا، مما حدا بالحكومة الأمريكية إلى أن تستعين بالجيش، والعتاد الحربي بل وتستدعي بعضاً من جنودها في العراق، لمواجهة هذا الإرهاب!! وهذا دليل مادي قطعي على أن المجتمع الأمريكي ليس مجتمعاً متماسكاً، ولا متجانس الوطنية، والانتماء. إذ أنه في الحوادث والكوارث والأزمات، يكون الناس أكثر تلاحماً وتكاتفاً، وتتحول المحن إلى وسيلة شد وتوثيق اجتماعي، وتصبح الوطنية أكثر جلاء ووضوحاً لأن المأساة واحدة، والهمّ مشترك والمكان واحد، وهذا وضع طبيعي وتلقائي ليس بين بني البشر بل نجده عند البهائم أيضاً فعندما يحدق بها الخطر تراها أكثر تماسكاً وتقارباً في مواجهة المصير الواحد.
غير أن الحال في أمريكا كشفت عن التفكك الاجتماعي المرعب، كما كشفت عن حالة الفردية المسيطرة على هذا المجتمع. وعلى النفعية الأنانية والعزلة الفرداتية الذاتية، وأنه لولا قوة النظام وسلطته وحزم القانون، لأكل الناس بعضهم بعضاً.. بل لقد بلغ الأمر من السوء والتردي إلى ما هو أفظع من ذلك. فرأينا من رجال الأمن من ينهب أو يسطو، ويختلس بقوة السلاح!. ورأينا من يلجأ إلى الانتحار وقتل نفسه تعبيراً عن الغضب، والضياع، واليأس، وعدم تحمل الصدمة.. ! بل لقد كشفت «كاترينا» من أن تحت الرماد وميض نار عنصرية مقيتة فلقد شاهد الناس، واستمعوا إلى الآلاف وهم يصرخون: لو كنا بيضاً لما أهملنا هذا الإهمال الذي لا يليق بالكلاب.. هكذا إذاً تعلن كاترينا عن سوأة المجتمع المثالي الذي إليه ينتهي التاريخ وعن الحضارة التي يجب أن تصرع جميع الحضارات لأنها في نظر مروجيها الحضارة الإنسانية الكاملة للدولة الأقوى والأعظم.. بل لقد قالت «كاترينا» انه لا قوة أبدية مطلقة.. بل انه لا قوة فوق قوة الله،.. لقد وقف وزير الداخلية الأمريكي وقد ملأه الذعر وهو يقول: إن ما حدث هو أشبه بتدمير نووي.. أما التدمير الاقتصادي فقد كنست كاترينا ما تبقى في الخزانة الأمريكية المنهكة بحرب العراق الطائشة، إلى درجة جعلت الدولة الأقوى في العالم، والأغنى في العالم تتلقى الحسنات من دول صغيرة لا ترى على الخارطة إلا بالمجهر، بل ولم تستنكف من أن تقبل العون والمساعدة من دول ذات هوية مطبوعة بالفقر مثل سريلانكا.. والفرد الأمريكي الذي كان يقول في الشدة بكل صلف وشموخ: أمريكا.. يا أمريكا. ها هو يهرع بكل جوارحه ويقول: يا الله.. لقد تعالى صوت أجراس الكنائس في سماء أمريكا كلها طلباً للنجدة الإلهية وطلباً للمغفرة.. ! إذ أن هذه الكارثة ما هي إلا عقاب إلهي كما يقول رجال الدين المسيحيون واليهود على حد سواء حيث يرون أن ما حل بـ " أورلينْز " كان نتيجة لمعصية وذنب عظيم.. إذ أنه في اليوم الذي ضربت العاصفة، ونزلت المصيبة وزلزلت الأرض كان يوماً مضروباً لمؤتمر ضخم يضم مائة وخمسين ألف شاذ " لوطي" من جميع أنحاء أمريكا، وأن هذا العقاب شبيه بما حلّ بقوم لوط حيث قلب الله بلدتهم عاليها بسافلها وأمطرها بحجارة من سجيل جزاء وفاقاً لتلك المعصية النكراء.
على كل حال أظن أن «كاترينا» سوف تغير مفاهيم كثيرة حول القوة والجبروت، والاستفراد بالعالم، وأن الذين يُسْرِفُون في تمجيد وتأليه العظمة، والغلبة الأمريكية عليهم أن يراجعوا أنفسهم، وأن يتأملوا جيداً بل يثقوا جيداً أنه في النهاية لا قوة إلا قوة الله، وأنه لا غالب إلا الله. اهـ.
أقول يا أستاذ:(4/67)
لا زال هناك من " يُسْرِفُون في تمجيد وتأليه العَظَمَة والغَلَبة الأمريكية "! بل لم تَزِدهم هذه القوارع والكوارث والنُّذُر إلا غَياً مع غيِّهم! وفسادَ ذوق مع فسادهم!
وصدق الله: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا).
بل لو جاءته الآيات الناطقات.. ولو تنَزّلَتِ الملائكة، ولو كلّمه الموتى، ولو حُشِرت أمامه جميع الآيات - لما زاده ذلك إلا عُتوّاً وغياً وضلالاً.. وما ذلك إلا لإيغالِهم في الجهل المركّب!
وصدق الله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)..
فنَظرَة أحدِهم لا تَصِل إلى أرنبة أنْفِه فضلاً عن أن تتعدّاها!
والقوارِع والكوارث والنُّذُر إنما ينتفع بها العاقل دون غيره..
قال تعالى: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ).
فإن اعْتَزَى ذلك الكاتب بأمريكا! فالله مولانا ولا مولى لهم!
وإن اغْتَرّ بقوّتها وجبروتها، فالله أقوى، وهو جبار السماوات والأرض.
لهم العُّزّى، ولنا العِزّة - بإذن الله - (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ).
لهم التغرّب ولنا أصولنا الثابتة في جزيرة العرب.. التي فيها مهبِط الوحي، وإليها مأرِزه.
لهم عواصم الظلام! ومأوى كلّ دجّال! ولنا مكة وطيبة التي لا يَدخلها الدجّال!
لهم كأس وغانية! ولنا الغِنى الحقيقي " غِنى النفس "!
12/8/1426 هـ
http://www.saaid.net المصدر:
=(4/68)
(4/69)
قراءات في علم الاستغراب ( 1 - 2 )
قراءة في كتاب ( مقدمات الاستتباع )
د. بدران بن الحسن
لماذا علم الاستغراب؟
من المسائل الشائكة في عالم أفكارنا كيفية التعرف على الغرب ومعرفة أنساقه الفكرية وتجربته الحضارية وخصائصه التي تميزه عن غيره من الكيانات الحضارية. ولذلك تواجهنا مجموعة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات علمية دقيقة تساهم في فهم الغرب وتوفير آليات منهجية للتعامل معه.
وهنا يُثار تساؤل عن كيفية ضبط العلاقة مع الغرب؛ إذ إن الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي جعلنا في موقف ينبغي أن نحدد الصلة به، وخاصة أن ما يفيض علينا وعلى غيرنا من الأمم والشعوب من إنجازاته الحضارية ومن فوضاه الحالية جعل منه مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالعالم كله وبالعالم الإسلامي بوجه خاص.
وهنا يأتي ما يمكن أن نسميه علم الاستغراب كما ذهب إلى ذلك الأستاذ حسن حنفي وغيره من المهتمين بالتأسيس لعلم يقوم على دراسة الغرب. وهذا لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا في حلوله للغرب كما يعتقد كثير من التغريبيين أو غيرهم من دعاة الأصالة الإسلامية وإنما يتطلب منا أن نعرف التجارب الحضارية المختلفة لنتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة.
فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن الظاهرة الحضارية الغربية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة، وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.
فالعالم الإسلامي منذ بداية الجهود التجديدية الحديثة يضطرب، كلما تعلق الأمر بالغرب، غير أنه لم يعد بذلك البريق الذي كان عليه منذ قرن تقريباً، ولم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية ظفر بها على عهد أتاتورك مثلاً، فالعالم الغربي صار حافلاً بالفوضى، ولم يعد المسلم الباحث عن تنظيم نفسه وإعادة بناء حضارته الإسلامية يجد في الغرب نموذجًا يحتذيه، بقدر ما يجد فيه نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحتوي من أخطاء.
فالغرب تجربة حضارية تُعدّ درسًا خطيرًا ومهماً لفهم مصائر الشعوب والحضارات، فهي تجربة مفيدة لإعادة دراسة حركة البناء الحضاري، وحركة التاريخ، ولبناء الفكر الإسلامي على أسسه الأصيلة، وتحقيق الوعي السنني، الذي ينسجم مع البعد الكوني لحركة التاريخ، ذلك البعد الذي يسبغ على حركة انتقال الحضارة قانونًا أزليًا أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)[آل عمران: 140].
فالتأمل في هذه التجربة التي صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية؛ إذ هو يحاول أن يفهم مشكلاته فهمًا واقعيًا، وأن يقوّم أسباب نهضته كما يقوّم أسباب فوضاه تقويمًا موضوعيًا.
وحتى تُنظّم هذه العلاقات، ويُستفاد من هذه التجربة البشرية، ويُدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبتسرة، وأفكارنا عنه عامة، وغير نابعة من اطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوهًا أو جزئيًا.
ولقد أضاع المسلمون كثيراً من الوقت منبهرين بما حققه الغرب، دون أن يتأملوا ويدركوا سر حركة التاريخ في الغرب، فنرى كثيراً من الباحثين والمفكرين المسلمين بمختلف انتماءاتهم يجهلون حقيقة الحياة الغربية والحضارة الغربية بالرغم من أنهم يعرفونها نظرياً، كما أنهم ما زالوا يجهلون تاريخ حضارتها. وإنه بدون معرفة حركة تاريخ هذه الحضارة والمنطق الداخلي الذي يحكمها، فإننا لم ندرك سر قوتها ولا مكامن ضعفها، ولم نعرف كيف تكوّنت، وكيف أنها في طريق التحلّل والزوال لِما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية.
وإذا كانت المائة سنة الأخيرة قد تميزت بتقريب المسافات، واتجاه البشرية نحو التوحّد، في مصيرها، وفي علاقاتها، فإن المثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، ويرتقي إلى إطار الحضور العالمي، وعيًا وإنجازًا، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي؛ إذ لا يمكن أن نطرح مشاكلنا في زمن العولمة والكونية، دون أن نأخذ في الاعتبار كل المعطيات السياسية والجغرافية والإستراتيجية.
وتحديد الصلة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يعطينا تحديدين مهمين في إنجاز مشروعنا التجديدي:
التحديد الأول: هو التحديد السلبي، وذلك من خلال إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه العظمة الحقيقية.
أما التحديد الثاني: فهو التحديد الإيجابي، من خلال تحديد ما يمكن أن نساهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها.(4/70)
وهذا في حد ذاته ينضج ثقافتنا ويعطيها توجهًا عالميًا، فمن المفيد قطعًا أن ننظر إلى حركة التاريخ والواقع من زاوية عالمية لنكتسب بذلك وعياً عالمياً، فإذا أدركنا مشكلاتنا في هذا المستوى، فإننا سندرك لا محالة حقيقة الدور الذي يُناط بنا في حضارة القرن الحادي والعشرين.
ما هو منظور علم الاستغراب؟
إن مسألة تحديد النسق أو المنظور الذي من خلاله نتناول القضايا ومناقشة المشكلات المختلفة من الأهمية بمكان. ذلك أن تحديد المنظور يمكّن الباحث أو الدارس من الإحاطة بالمسألة، وامتلاك القدرة على إدراك مختلف أبعادها، وكذلك إمكانية صياغة حلول متناسقة قائمة على منهج واضح.
وبعبارة أخرى فإن منظور رؤية الأشياء هو الذي يحدد المنهج المقتضي للاتباع وتناول تفاصيل المسائل. وفي هذا السياق فإن النظر إلى مسألة ما من منظور فقهي -مثلاً يؤدي إلى اعتماد منهج يختلف بالضرورة عن المنهج الذي يعتمد على منظور كلامي أو ثقافي أو حضاري أو سياسي.
وتحديد المنظور الذي من خلاله نعالج المسائل يسهل مهمتين للدارس؛ من حيث الاتساق في صياغة المنهج المراد اتباعه لعلاج المسألة موضوع البحث، ومن حيث القدرة على نقد مدى علمية المنهج المتبع في حل قضية ما ومدى اتساقه مع نفسه واتساقه مع الحقيقة الخارجية.
ويمكن القول: إنه بتحديدنا للمنظور، وبالتالي تحديدنا للمنهج المنبني عليه يمكن معرفة مدى شمولية ودقة واستيعاب هذا المنظور أو ذاك لمختلف الأبعاد، ومدى قدرة المنهج المنبني عليه على علاج المشكلات المختلفة للقضية أو الظاهرة أو المسألة موضوع البحث والدراسة.
والكتاب الذي بين أيدينا يُعدّ حلقة مهمة في بناء منظور ومنهجية للتعامل مع الآخر الغربي، ذلك أنه يبحث في جذور الغرب الثقافية والمعرفية التي شكّلت ولا تزال تعامُلَه مع غيره، كما يظهر الكتاب الاستعدادات الثقافية التي مكنت الغرب من أن يبلور، بوساطتها صورة عن ذاته، ويشكل صورة مشوهة للآخر لتأكيد ذاته، والتمركز المستعلي على غيره. ويتناول مصادر خطاب السيطرة على البشر بعد السيطرة على الطبيعة، ثم الاستشراق، وأيديولوجية الهيمنة.
محتوى الكتاب
يقع الكتاب في (160) صفحة من القطع المتوسط، متضمناً تصديراً للدكتور طه جابر العلواني، ومقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
في التصدير أشار الدكتور العلواني إلى أن عنوان الكتاب "الاستتباع" يستدعي إلى الذاكرة مجموعة من المفاهيم والمصطلحات سادت في أوساط مثقفي الأمة منذ منتصف القرن الماضي، مثل: الاستعمار، والاستشراق، والاستغراب، والاستكبار،...النظام العالمي الجديد والإرهاب، والأصولية، والظلامية ونحوها.
والكتاب يستدعي هذه المفاهيم لأنه يعالج "حقلاً معرفياً" واسعاً يتصل بكل هذه المفاهيم. وهذا الكتاب يتناول الغرب بتحليل بنائه وأطره المنهجية، ومسلماته المعرفية (الإبستمولوجية) وفلسفته ونظرياته وقواعده المعرفية، وينقّب عن كيفية تحول الغرب إلى المركزية في رؤيته لذاته وتهميشه للآخرين، بل واستتباعهم.
ويشير إلى الطريقة التي تناول بها العقل المسلم ظاهرة الاستشراق، وأنها كانت دون مستوى الإحاطة بالظاهرة، وانعدام الاهتمام بتحليل البنى المعرفية والأطر المنهجية للاستشراق بوصفه حقلاً معرفياً نشأ في إطار العلم الغربي وفلسفته ونظرياته وأسسه المعرفية، وكان موضوعه الآخر غير الغربي، مستمراً في الشرق المسلم، وأن هذا الحقل المعرفي قد أسس لنفسه علوماً لبناء شبكات في الشرق المسلم، وأن هذا الحقل المعرفي قد أسس لنفسه علوماً لبناء شبكات المفاهيم الجديدة والمنظومات المعرفية المؤطرة في فلسفته (التصدير، 10).
في المقدمة يشير المؤلف إلى عدة أفكار مهمة في سياق معالجته للموضوع، أهمها:
التناول الاجتزائي للاستشراق: فيرى الباحث أن الكتابات حول الاستشراق ونتائجه منذ عقدين من الزمن ونيف، وقع معظمها ضحية منظورات اجتزائية لم تضع الاستشراق ضمن النسق المعرفي المؤسسي العام للحضارة الغربية، فهو ليس ظاهرة موازية للنسق المعرفي المؤسسي الغربي المهيمن ولا منقطعة عنه أو عرضية فيه، إنما على العكس استمدت جذورها من هذا النسق بكل مكوناته المعرفية والمذهبية، نسجت خيوطها في كنفه، وتشكّل جزءاً أساسياً في إنشاء نموذج (الدولةالأمة) في الغرب.
طرق الاستعمار في بسط الهيمنة: إذ لم يلجأ الاستعمار في فرض هيمنته ونمط إنتاجه وإملاء شروطه، بوصفها حقيقة وحيدة لازدهار الحضارة دائماً إلى سياسة النهب الخالص وسياسة المدفع السافرة، إنما اعتمد على أساليب أخرى أيضاً في مرحلة ما قبل الاستعمار المباشر، وذلك عن طريق الاتفاقيات التجارية والعسكرية والعلمية مع حكام دول الأطراف وتكوين أنصار وزبائن مفتونين بمبادئه وقيمه ومؤسساته في المجتمعات المحلية، والتسلل إلى الضمائر وتطويعها وتسخيرها لصالحه.(4/71)
عقدة التفوق الغربي التي تحكم الغرب؛ إذ لكي يستأثر بزمام المبادرة في معالجة التاريخ العالمي يرفض الاعتراف بالقيم والرموز الخاصة بالثقافات المغايرة، أو بفكرة تاريخ متعدد، ويلجأ إلى تقطيع مجتمعات الأطراف إلى شرائح وكيانات قبلية وطائفية، أو عرقية وإقليمية، ويحوّل تواريخ الشعوب إلى أصفار على هامش الحضارة، لا قيمة لها إلا بقدر اندماجها في دائرة السوق المتمم لحاجات إنتاجية المركز الأوروبي.
الجذور الأيديولوجية والمعرفية للغرب: فالجذور الأيديولوجية للغرب ونظريته المعرفية تأسست ابتداءً من عصر النهضة، ومشروع الغرب يتجه نحو تطوير قيم أخلاقية جديدة متحررة شيئا فشيئاً من الدين لصالح نظرية جديدة عن المعرفة، ممثلة في أولوية المعرفة الموضوعية المستمدة من مجالي التجريب والرياضيات.
ذهنية الصراع والسيطرة على الطبيعة والإنسان التي تحكم الغرب في تعامله مع الشرق، ضمن تراتبية تنطوي على إقامة فوارق جوهرية ثابتة بينه وبين سكان الشرق، وجعل نفسه وصياً وحيداً في تقرير مصائرهم تحت شعار تحرير الوثنيين والكفار "الوحوش" أو "الهمج" من "الظلامية" و"العبودية".
بمقتضى هذه الاستراتيجية راح الغرب يُساوي نفسه مع التاريخ، وله وحده الاستحواذ على مواقع النجاح، ولو على حساب ثقافات وتواريخ الشعوب الأخرى ومحوها.
نشأة (الأنثروبولوجيا) الغربية: فالغرب أنشأ هذا العلم لدراسة إنسان ما وراء البحار بمناهج جديدة تهدف إلى عزله عن كل الظروف الاجتماعية التاريخية، ونكران ما يمثله من قيم ثقافية مغايرة. وحسب منظور (الأنثروبولوجيا) الغربية لم يعد ثمة شيء عقلاني، بالمعنى الحرفي سوى النظرية (الأنثروبولوجيا) "الإنسانية" عن ثقافة الشعوب التي اصطلح على تسميتها "بالبدائية" أو "الوحشية"، ولم يعد هناك من ثقافة سوى ثقافتهم من وجهة نظرهم هذه.
وإذا تم الاعتراف بعظمة حضارات (الغير) فبمقدار استجابتها لمصالح وترميزات المركزية الغربية. (ص 19 - 21).
(إيديولوجيا) الفتح، والتسويغ لخطاب السيطرة: إن الخطاب المسيطر والمؤسس في القرن التاسع عشر، تحالف تحت قيادته الدولة المركزية الدستورية والعلم، والجيش والصناعة والكنيسة حاملة رسالة التبشير، لتوزيع المهام وتقاسم النفوذ ضمن إستراتيجية منظمة روّج لها رواد (أيديولوجيا) الفتح أمثال مونتسكيو وهيجيل وماركس ووايتفوغل...
30/7/1426
04/09/2005
http://www.islamtoday.net المصدر:
============(4/72)
(4/73)
من سيكسب الجولة..؟
محمد سعد
جولة جديدة لكنها شديدة، من سلسلة جولات يقودها تيار التغريب، وهي الجولات التي يصارعون فيها شريعة الإسلام، بدعوى رفع الظلم الواقع على المرأة في المجتمعات الإسلامية.
جولاتهم السابقة كان فيها شيء من التروي والمواربة والمراعاة لردود الأفعال، أما الجولة الجديدة فقد بدأت سريعة مفاجئة، وجاءت صريحة واضحة، ولم تخرج من قلب العالم الإسلامي هذه المرة، بل خرجت من الغرب نفسه، حيث بدأت هذه الجولة من نيويورك في أمريكا.
خطوة جريئة حقاً، تثير كثيراً من الأسئلة، وتقتضي الوقوف حيالها بالفحص والدراسة.
دعونا أولاً نستعرض ما فعلته هذه المرأة باختصار:
أمينة ودود (أستاذة مادة الدراسات الإسلامية في جامعة فرجينيا كومونولث الأمريكية)، مهدت أولاً بنشر كتاب (القرآن والمرأة)، الذي وضعت فيها أفكارها التي تبنتها وتدعو إليها، وتتلخص في الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل في التكاليف الشرعية، فترى أن من حق المرأة أن تؤم المصلين رجالاً ونساء، وأن المرأة يمكنها أن تصلي في الصفوف الأولى مع الرجال، ولا مانع أن تكون في الصف مختلطة بهم، وأن من حق المرأة أن تؤذن للصلاة وتقيم لها في المساجد، وروجت لهذه الأفكار، ودعمتها منظمات أمريكية تدعو إلى حرية المرأة المسلمة، وتنظم لذلك النشاطات والمؤتمرات، ليكون مقدمة لخطوتها التالية التي دوى صداها في أرجاء العالم.
وفي يوم الجمعة 18 مارس/ آذار، كما أعلنت أمينة ودود من قبل، وتنفيذاً لما بثته من أفكار، اجتمعت هذه المرأة بمن يؤيدها أو فتن برأيها، لصلاة الجمعة في إحدى الكنائس بسبب تهديدات وصلتها، ورفعت أذان الجمعة امرأة مكشوفة الشعر، وخطبت أمينة ودود الخطبتين، وأمت من وراءها من رجال ونساء مختلطين، وبرزت النساء في الصفوف الأولى، بعضهن متبرجات مكشوفات الشعر لابسات للبنطلون، وكان عدد من صلى وراءها 90 شخصاً تقريباً من الرجال والنساء.
وقد عبّر عن رؤيتهن واعتزازهن بما فعلنه ما قالته بعضهن من أنهن حققن انتصاراً تاريخياً، وإنهن مستعدات الآن لاكتساح باقي أمريكا بلدة بلدة ومدينة مدينة - كما ذكر مراسل قناة الجزيرة ذلك عنهن في تقريره -.
موقف المسلمين في العالم تجاه هذا الحدث كان واضحاً، ففي أمريكا نفسها كان أبرز موقف إسلامي رسمي هو البيان الذي أصدره مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، واستنكر هذا العمل موضحاً بطلانه، وقد خصص للرد على سؤال ورد حول حكم إمامة المرأة لصلاة الجمعة وإلقائها لخطبتها.
وفي غير أمريكا اتفقت ردود الأفعال، سواء منها ما صدر عن بعض العلماء أو ما كان من بحوث مختصرة في حكم إمامة المرأة أو ما كان صادراً في وسائل الإعلام، على أن ما فعلته هذه المرأة باطل مخالف للأدلة الصحيحة وأقوال جمهور العلماء.
وقفات لا بد منها:
لا أريد هنا البحث في القضية من جانبها الفقهي، فقد نشرت كثير من البحوث والدراسات والفتاوى حولها، ولأن بطلان ما فعلته هذه المرأة ومن معها لا يخفى، وإنما أرى - مع هذا- من الأهمية بمكان طرق الجوانب الأخرى، فليست القضية مجرد مخالفة فقهية أو مجرد بدعة فعلها هؤلاء، ينتهي أثرها ببيان حكمها الفقهي فحسب، بل أرى الأمر أكبر من ذلك، فما حدث لا بد أن ننظر إليه في سياقه الكبير، فهو جزء من مخطط كبير، وجولة من جولات يتم سحب المسلمين للدخول فيها بطريقة ماكرة.
لو عقدنا مقارنة بين ما فعلته أمينة ودود وما حدث في نشأة حركة تحرير المرأة لتبين لنا الخطر، فقد نشأت حركة تحرير المرأة مجرد أفكار نشرت في بعض الكتب، وكذلك فعلت أمينة ودود بنشرها أولاً كتابها (القرآن والمرأة)، لكنها ركزت على قضية جديدة للجولة الجديدة وهي المساواة بالرجل في التكاليف الشرعية، أما الكتب التي أسست لظهور حركة تحرير المرأة فكانت تركز على الحجاب، وهي كتاب (المرأة في الشرق) تأليف مرقص فهمي المحامي، نصراني، دعا فيه إلى القضاء على الحجاب وإباحة الاختلاط وتقييد الطلاق، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين النساء المسلمات والنصارى. وكتاب (تحرير المرأة) لقاسم أمين، نشره عام 1899م، زعم فيه - أرجو أن تنتبه هنا- أن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال: إن الدعوة إلى السفور ليست خروجاً على الدين -وهذه حجج أمينة ودود لكنها في إمامة المرأة للرجال وصلاتها في الصفوف الأولى وغير ذلك مما ذهبت إليه- ، كتاب (المرأة الجديدة) تأليف قاسم أمين أيضاً - نشره عام 1900م ضمنه أفكار الكتاب الأول، لكنه استدل فيه على أقواله وادعاءاته بآراء الغربيين. مجلة السفور التي صدرت في أثناء الحرب العالمية الأولى، من قبل أنصار سفور المرأة، وكانت تركز دعوتها على السفور والاختلاط.(4/74)
ثم جاء وقت التنفيذ، وتم اختيار التوقيت بدقة، كما فعلت أمينة ودود التي رأت أن الأجواء العالمية مناسبة لتنفيذ مخططها، حيث افتقد المسلمون الهيبة، وتفرقت فيهم الكلمة، وكذلك خططت نور الهدى محمد سلطان التي اشتهرت باسم هدى شعراوي (نسبة لزوجها علي شعراوي كما يفعل الغرب) من قبل، فقادت النساء في ثورة سنة 1919م في مصر، وبدأت حركتهن السياسية بالمظاهرة التي قمن بها في صباح يوم 20 مارس سنة 1919م، وحانت ساعة التنفيذ حينما نزع سعد زغلول عن وجه هدى شعراوي الحجاب أمام الحاضرين عند استقباله في الإسكندرية بعد عودته من المنفى، واتبعتها النساء فنزعن الحجاب بعد ذلك.
إذن هي خطة مدروسة، استفادت منها أمينة ودود تحاكي فيها السافرة الأولى هدى سلطان (المعروفة باسم هدى شعراوي)، وتريد أن تكسب الجولة كما كسبتها.
إذن القضية منتقاة - كما سيأتي - والوقت مختار بدقة، والمكان مناسب لاستيعاب الحدث، كان المكان مناسباً لهدى شعراوي، فمصر وقتها كانت تحت الاحتلال الإنجليزي مما يعني وجود التضييق على العلماء وكبتهم، وفتح الباب لحركات التغريب، وكذلك كان المكان مناسباً لأمينة ودود، فهي في أمريكا أرض الانحلال والتمرد على كل شيء، والوقت مناسب تماماً، حيث اشتدت الحرب على الإسلام من كل جانب، وتتزعم أمريكا حرب الإسلام، وتؤيد وتدعم تيارات التغريب، وتسعى لتغيير الشريعة وتحريفها بشتى الوسائل.
أما موضوع القضية وهو مساواة المرأة بالرجل في التكاليف الشرعية - وهذا من أشد ما في الحدث من جوانب خطيرة- ، فقد تم اختيار قضية خطيرة جداً، لها جوانب عديدة وكأنهم يريدون - كما يقال - ضرب عصفورين بحجر واحد، فلماذا تم اختيار هذه القضية؟
إذا سلطنا الضوء على الآثار المترتبة على هذه القضية؛ سيظهر لنا لماذا تم اختيارها، ولنعرض تلك الآثار فيما يأتي:
أولاً: في جانب الدليل الشرعي:
هذا العبث سيؤثر تأثيراً خطيراً في نفوس بعض الناس في مكانة الدليل الشرعي الذي يُبنى عليه الدين، ويجرئ أصحاب الأهواء على التلاعب به، فمهما جئت لهم بعدها مثلاً بدليل صحيح قوي الدلالة أجمعت عليه الأمة فلن يكون له صدى في قلوبهم، ولن يردعهم عن باطل وقعوا فيه، كما فعلت هذه المرأة، حيث:
- عبثت بالنصوص الشرعية، فأعملت منها ما ظنته يوافق هواها، وتركت وأبطلت العمل بما لا يخدم رأيها.
- أهدرت قيمة علوم الاستنباط وقواعده التي هي آلة استنباط الأحكام الشرعية، فما توصلت إليه لا علاقة له بأصول الفقه؛ مما يجرئ غيرها على تفسير النصوص بالهوى دون ضابط ولا قواعد.
- خلطت وأضاعت مراتب الاستدلال، وأهدرت قوة الدليل من حيث صحته، ومن حيث دلالته.
- استهترت بمكانة العلماء، وأقوالهم، حيث انفردت بأفكارها، وشذت بها عن عموم المسلمين، ولم تحسب لعلماء الأمة أو لمجامع العلم حساباً، ولم تعرض أفكارها على من هم أعلم منها.
ثانياً: في جانب تغريب المرأة:
فهذه الخطوة جاءت هذه المرة كبيرة وواسعة، ستختصر لو أصروا عليها خطوات وجولات كثيرة كانوا لا يحلمون بإنجازها؛ لأن العائق الأكبر أمامهم هو الدليل الشرعي وهيبته في النفوس وهيبة العلماء ومجامع الفقه والعلم، فحين تأتي خطوة تحطم ذلك مرة واحدة وتزيحه من أمام مخططاتهم فسوف توفر الكثير من الوقت والعمل؛ لأن ما بعد ذلك أمره سهل؛ لأنها ستكون مجرد عادات وتقاليد، يكفي لتغييرها بعض البرامج والأغاني والفيديو كليب والأفلام والأقلام.
وما داموا قد حققوا مخططاتهم في العبادات، فتحقيقها في غيرها من جوانب الحياة سيكون سهلاً.
ثالثاً: في جانب تأصيل هذا التيار التغريبي وتوسيعه:
فهذه الخطوة لا شك ستؤدي إلى توليد دافع حركي كبير في نفوس أتباع هذا التيار في بلاد المسلمين، مما يعني وجود احتمال - بدعم أو بغير دعم - لتكرار ما حدث في أمريكا، ولا شك أن ذلك سيسبقه دراسة للمكان والزمان حتى تنجح المحاولة وتنتشر، بمعنى أن يتم اختيار الدول التي غلب فيها التوجه العلماني لضمان وجود الحماية والتأييد من الجهات المشابهة.
مناقشة سريعة:
ما علاقة العلم بارتداء المرأة للحجاب الإسلامي، وبعدها عن الاختلاط بالرجال؟! وما الذي يمنع أن تتعلم المرأة فتكون أستاذة أو دكتورة أو مفكرة أو أديبة وهي ترتدي الحجاب وتتمسك بأحكام الشريعة الإسلامية! كما هو واقع كثير من المسلمات الفاضلات في هذا العصر، وهل عدمت القرون الماضية في بلاد الإسلام وجود العالمات والأديبات والشاعرات والحافظات لكتاب الله _تعالى_ وهن يرتدين الحجاب ويلتزمن بأحكام دينهم! إنها - دعوى تحرير المرأة من الحجاب- إذن دعوى باطلة وخدعة لن يقع فيها المسلمون _بإذن الله تعالى_.
إن وجود ظلم للمرأة (ولا أعني ما يقصدونه زوراً وبهتاناً من ارتداء المرأة للحجاب وبعدها عن الاختلاط) في المجتمعات المسلمة ليس سببه شريعة الإسلام؛ لأن الإسلام دين الحق والعدل، ولا نحتاج إلى أن ندافع عنه بالقول: إنه أنصف المرأة؛ لأن من رضي بالإسلام ديناً لم يحتج عموماً إلى إثبات هذه البديهية الواضحة، وإن احتاج بعض الناس إلى التذكير بها وبيانها.(4/75)
أما وجود ظلم للمرأة في مجتمعات المسلمين، فهو كما يقع بالمرأة قد يقع بغيرها، كما يحدث في غيرها من المجتمعات البشرية، وهذا من فعل البشر وتقصيرهم، ومن ثم فعلاج الظلم لا يكون بهدم الشريعة، وتحطيم قواعدها، وإهدار أقوال العلماء، وإعلان المعارك والحروب على المجتمع؛ لأن من يفعل ذلك فأحسن ما يوصف به أنه جاهل، وإلا فهو متغرب يسعى لتغريب المجتمع أو مجنون يعبث بهويته وقيمه ومجتمعه. وإنما يكون علاج المشكلات بالدراسة والبحث وتقديم الحلول المبنية على الشرع، كما يحدث في كل مشكلة أو أزمة يواجهها المجتمع.
علاج كل ظلم هو اتباع أحكام الإسلام والتمسك بها؛ لأنه هو العدل الذي لا عدل بعده، قال _تعالى_: "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " (الأنعام: 115)، قال في التفسير الميسر: "وتمت كلمة ربك -وهي القرآن- صدقًا في الأخبار والأقوال، وعدلاً في الأحكام، فلا يستطيع أحد أن يبدِّل كلماته الكاملة، والله _تعالى_ هو السميع لما يقول عباده، العليم بظواهر أمورهم وبواطنها" . وقال _سبحانه_: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" النحل: 89. وقال _عز وجل_: "فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " (الزخرف: 43).
ولماذا لا يدافع هؤلاء عن حق المرأة في ارتداء الحجاب، ولو من باب وصفه بالحرية الشخصية، وذلك حين تمنع المسلمات المحجبات من حقهن في التعليم والتوظيف كما في تركيا، أو يمنعن أو يضيق عليهن في الكليات والمؤسسات والتوظيف كما في بعض البلاد العربية وغيرها، ويمكنك أن تراجع أمثلة كثيرة من الظلم الواقع المستمر بحق المرأة الملتزمة الحجاب، ومن أشهر ذلك المرأة التي طردت من البرلمان التركي لارتدائها الحجاب، والمرأة التي فصلت من وظيفتها في شركة طيران عربية لتمسكها بتغطية شعرها، والمستبعدات من ممارسة التدريس؛ لأنهن يرتدين الحجاب، وتمارس عليهن الضغوط والتهديدات الأمنية وغير ذلك من الظلم. لماذا لا ينادون برفعه عن المرأة المسلمة التي تريد التمسك بدينها لو كانوا صادقين في دعوى رفع الظلم؟!
خطوات عملية في المواجهة:
تيار التغريب أخذ يشتد في حربه لتعاليم الإسلام وأحكامه، مستغلين ضعف الأمة، والأوقات الحرجة التي تمر بها، وهوانها أمام عدوها، وسهولة التواصل والتأثير في الناس عبر وسائل الإعلام المفتوحة لهم ليل نهار، لذا فمواجهته لا يجدي فيها الاكتفاء بإصدار البيانات، وإنما تحتاج المواجهة إلى دراسات وبحوث، ومؤتمرات، لاتخاذ الأساليب المناسبة لاستئصال هذا الورم الخبيث من الأمة؛ لأنهم يرونها معركة يخوضونها ويتخذون لها أسباب القوة، خذ مثلاً كتاباً صدر في مصر، وطبع في سلسلة كتاب الأسرة واسعة الانتشار عام 2004م، باسم (معركة المرأة المصرية للخروج من عصر الحريم)، وهو مجموعة مقالات جمعتها المؤلفة مما نشر عبر منذ بدء حركة تغريب المرأة المسلمة تدعو كلها إلى تغريب المرأة، تقول إحداهن في مقال بعنوان (المساواة)، نشر سنة 1946م: (المساواة حق للمرأة …ولا يمكن الحصول على هذه الحقوق إلا بالقوة . إن الغاصب لا يفكر في رد الحقوق المغتصبة، فيجب أن نأخذها بالقوة…)، وهذا التيار يستند اليوم واقعياً إلى القوة، عبر استغلال الضغوط الخارجية التي تمارس على الدول الإسلامية لتغيير مناهج التعليم، وتعديل قوانين الأحوال الشخصية، وتعديل أحكام الختان والتبني والحضانة وحرية الانحلال... إلخ.
فأرى أن تكون هناك أمام الباطل وقفة حق قوية يسمع بها الداني والقاصي - كما سمع بباطل تلك المرأة وغيرها الداني والقاصي - على المستوى الرسمي وغير الرسمي للمؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، مع إبراز موقف المسلمات العالمات المتخصصات في علوم الشريعة، يبين فيها موقف الأمة مما فعلته هذه المرأة من ضلال، ويحذر من فعلها، ويبين موقف الأمة من تيارات التغريب التي تهدف إلى مسخ المرأة المسلمة، ويكشف حقيقة أهدافها التي يغلفونها بأغلفة براقة، ليرتدع كل من تسول له نفسه العبث بالدين، ويعلم أن الأمة وإن ضعفت قوتها حيناً فهي قوية في دينها، معتزة بقيمها، مستمسكة بشريعة ربها.
1/3/1426
http://www.almoslim.net المصدر:
============(4/76)
(4/77)
القسطية لا الديمقراطية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
الديمقراطية هي الفتنة الجديدة التي ابتلي بها المسلمون، بل الناس عامة. وزاد من الافتتان بها أن الولايات المتحدة، ولا سيما في عهد رئيسها الحالي، جعلت نشرها من أكبر أهدافها التي تنفق في سبيلها الأموال الطائلة وتقيم الحروب الطاحنة، وجعلت الالتزام بها هو معيار تقدم الأمة واستحقاقها لصداقة الولايات المتحدة، أو هكذا
ومما جعل مناقشتها مع مؤيديها والدعاة إليها والراضين بها من المسلمين أمراً صعباً أنه لم يعد لها معنى واحد عند الداعين إليها. بل صارت تشير إلى معان عدة يختار كل واحد منهم ما شاء منها، ولا يدري أن صاحبه يشير بالكلمة إلى معنى غير المعنى الذي يقصده هو.
هذا الاختلاف في مفهوم الدمقراطية أمر يشكو منه كبار منظِّريها وفلاسفتها المعاصرين؛ فهذا أحدهم يقول ما ترجمته: هنالك ميل إلى وصف النظام بالديمقراطي فقط لأننا نوافق عليه. ولكننا عندما نفعل ذلك إنما نتحدث عن آرائنا لا عن النظام.
ويقول: المعتقد عموماً أن «الدمقراطية» عبارة صارت تستعمل استعمالاً واسعاً جعلها كلمة غامضة، بل كلمة لا معنى لها. إن كل شكل من أشكال التنظيمات في المجال السياسي (بل وغير السياسي) أصبح يوصف بالدمقراطية أو الدمقراطي(1).
سنحاول فيما يلي مناقشة صلة الدمقراطية بالإسلام بحسب المعاني المختلفة التي يقصدها أنصارها من المسلمين؛ لأن الإنسان إنما يسأل عن المعنى الذي قصده من عبارته، حتى لو كان استعماله للعبارة خطأ.
وقد أدرنا الحوار في مسائل الدمقراطية هذه بين مسلميْن يدعو أحدهما إلى نظام سياسي إسلامي خالص يسميه القِسْطِيَّة، وآخر من دعاة الدمقراطية.
يبدأ القِسْطي الحوار بقوله: دعونا نتفق أولاً على ما نعنيه بالقسطية، وما نعنيه بالدمقراطية. أما القسطية فهي كما يدل عليها لفظها الحكم بالقِسْط. والحكم بالقسط هو الحكم بما أنزل الله - تعالى -. وما أنزل الله يشمل الأحكام الجزئية التي تدل عليها الأدلة التفصيلية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويشمل المبادئ الأساسية التي يسميها الفقهاء بكليات الشريعة التي تقرر فيما تقرر أن كل ما حقق القسط فهو من شرع الله، فتفتح الباب واسعاً للاستفادة من كل تجربة بشرية نافعة أياً كان مصدرها.
وإذا كانت القسطية هي الحكم بما أنزل الله؛ فإن الدمقراطية هي الحكم بما يراه الشعب. هذا هو معناها الذي يدل عليه لفظها، وهو المعنى المتفق عليه بين منظِّريها. حكم الشعب معناه أن الشعب صاحب السيادة العليا في المسائل التشريعية، وأنه لا سلطة فوق سلطته التشريعية، وعليه فإن كل ما حكم به فيجب أن يكون هو القانون الذي يخضع له كل مواطن من مواطني القطر الذي اختار الدمقراطية نظاماً سياسياً له.
لا يمكن لإنسان يدعي الإسلام ويعرف معناه أن يؤمن بالدمقراطية بهذا المعنى؛ لأنه إيمان يتناقض تناقضاً بيناً مع أصل من أصول الإيمان التي جاء بها دينه، والتي تؤكدها كثير من آيات الكتاب وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم . من ذلك قوله - تعالى -: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50]. {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61]، {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].
ماذا تعني أنت بالإسلام، وما ذا تعني بالدمقراطية؟
ـ الدمقراطي: أما الإسلام فأظننا متفقون على معناه، وأما الدمقراطية؛ فأنا لا أعني بها ما ذكرت. هل تتوقع من إنسان مسلم أن يقول إن من حق الناس أن يشرعوا تشريعات لم ياذن بها الله؟
ـ ماذا تعني بها إذن؟(4/78)
ـ لقد عانت الشعوب العربية كثيراً من الحكم الفردي الدكتاتوري. فالذي أريده هو أن يستبدل بهذا الحكم حكم دمقراطي يكون من حق الشعب فيه أن يختار حكامه في انتخابات حرة نزيهة، وأن يحاسبهم، وأريده أن يكون حكماً يلتزم بما يسمى بحكم القانون فلا يفرق بين الناس في المعاملة، وأن يكون حكماً يستمتع الناس فيه بحقهم في الحرية، حرية التعبير، وحرية الحركة، وحرية تكوين الأحزاب والجماعات، وأن يكون حكماً يتميز بتداول السلطة، وأن يكون حكماً شفافاً لا تحاك الأمور فيه في الظلام بل تُعرض على الناس ليقولوا فيها رأيهم. فحكم الشعب في رأيي ليس المقصود به المقابلة بين ما يراه الشعب وما يحكم به الخالق - سبحانه -، وإنما المقصود به حكم الشعب في مقابلة حكم الفرد.
ـ الاستعمال الصحيح للكلمات هو أن يقصد بها المعنى المتفق عليه بين مستعمليها، ولا سيما المختصين منهم بالأمر. فاستعمالك لكلمة الدمقراطية بهذا المعنى المحدود هو استعمال غالط؛ لأنه إذا كانت الدمقراطية هي حكم الشعب، لزم عن ذلك منطقاً أن كل ما ليس بحكم للشعب فليس بحكم دمقراطي، سواء كان الحاكم به فرداً أو مجموعة من الأفراد، وحتى لو كان هو الخالق - سبحانه -.
لكنني تمشياً مع المبدأ الذي ذكرته ساناقشك في الدمقراطية بحسب فهمك الغالط هذا لها، فأقول لك: إن كل هذا الذي ذكرته هو من مبادئ الحكم التي اختارها الغربيون، فصارت الدمقراطية في نظرك ليست حكم الشعب، ومنهم شعب بلدك، وإنما هي حكم الشعب الأمريكي أو الإنجليزي.
لقد تداول مفكرو الشعب الأمريكي وممثلوه مثلاً الرأي في نوع الحكم الذي يرونه صالحاً لبلادهم، وتأثروا في اختيار ما اختاروه بكبار الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين، كما تأثروا بتاريخهم وقيمهم الدينية وغير الدينية، ثم اتفقوا بأغلبيتهم على وضع دستور يضمن تلك المبادئ. أما أنت فلا تريد لأمتك أن تفكر كما فكروا، بل تريد لها أن تكون أمة مقلدة تأخذ ما توصل إليه أولئك الأصلاء وتطبقه على بلدك مهما كان الاختلاف بينكم وبينهم.
ـ أنا لا أقول بما قلتُ؛ لأن الغربيين قالوا به، وإنما أقول به لأن تلك المبادئ الدمقراطية التي ذكرتها مبادئ إنسانية تصلح لكل البشر في كل زمان ومكان.
ـ هذا أولاً ليس بصحيح؛ فقد كان معظم المفكرين الغربيين ضدها، ولم تلقَ هذا القبول والشعبية إلا بعد الحرب العالمية الثانية؛ فهل تقول: إن الناس لم يكتشفوا شيئاً هو من لوازم بشريتهم إلا قبل من مئة عام؟ ثم إن المبادئ التي ذكرتها ليست من لوازم الدمقراطية بمعنى حكم الشعب، وليست من المتفق عليه بين كل الشعوب التي اخذت بالنظام الدمقراطي.
ـ هل تتكرم بذكر أمثلة لما ترى أنه ليس من لوازم الدمقراطية؟
ـ قد تستغرب إذا قلت لك إن النظام الحزبي ليس من لوازم الدمقراطية، وأن بعض من يسميهم الأمريكان بالآباء الذين صاغوا دستورهم كانوا ضدها وكانوا يعدُّونها مما يُذْكي الخلاف بين الناس ومما يؤدي إلى الفساد. ولذلك لا تجد لها ذكراً في دستورهم. وقد يزيد استغرابك إذا قلت لك إنه حتى الانتخابات ليست من لوازم الدمقراطية. إن كل ما تتطلبه الدمقراطية هو أن يختار الناس من يحكمهم. أما أن يكون الاختيار بهذه الطريقة المعينة؛ فليس من لوازم الدمقراطية.
ـ كيف يكون الاختيار إذن؟
ـ لقد كان الأثينيون يختارون المسؤولين بالاقتراع. ويرى بعض المفكرين الماركسيين اليوم أن طريقة الاقتراع أقرب إلى فكرة الدمقراطية التي تساوي بين الناس وتفترض أن كل واحد منهم من حقه أن يكون حاكماً، وهم يرون أن الانتخابات لا تحقق هذه المساواة؛ لأنها تفتح الباب لتأثير المال وتأثير الإعلام والدعايات، ويستدلون على عدم المساواة هذه بالنسبة الكبيرة للرجال في مقابل النساء، وبالنسبة الكبيرة لمن له مال، أو لمن تخرَّج في الجامعات في مقابل طبقات العمال والمزارعين والعامة. ولو كنت ممن يؤمن بالدمقراطية لاتفقت معهم.
ـ ننتقل إلى موضوع آخر. ألا ترى في الدمقراطية ما يتوافق مع الإسلام؟
ـ بلى فيها الكثير مما يتوافق مع الإسلام.
ـ فلماذا إذن لا نقول إن الدمقراطية التي نريدها هي هذه المبادئ الدمقراطية التي تتوافق مع ديننا؟
ـ لأنني لا أريد أن أنسب إلى الدمقراطية فضلاً ليس لها. فإذا كان ديني هو السابق إلى تلك المبادئ الحسنة؛ فلماذا أنسبها إلى الدمقراطية؟
ـ تنسبها إليها فقط؛ لأنها تتوافق معها.
ـ إن في النصرانية واليهودية الكثير مما يتوافق مع الإسلام مما هو أهم من تلك المبادئ السياسية التي ذكرنها، فهل نقول إن الإسلام نصراني أو يهودي؟
ـ هل تعني أن علينا أن لا نستفيد من تجارب غيرنا، وأن نغلق الباب دون كل فكر حديث وتجربة حديثة؟
ـ أنا لم أقل هذا، بل قلت لك: إن مثل هذه الاستفادة هي من لوازم الحكم بالقسط. لكنَّ هنالك فرقاً بين أن ألتزم بديني، ثم أستفيد من تجارب الآخرين فأضع كل جزئية استفدتها في إطاري الإسلامي، وبين أن أستبدل بإطاري الإسلامي إطاراً آخر، ثم أضع فيه ما يناسبه مما هو في ديني. وهذا الأخير هو ما تدعونا إليه أنتم معاشر الداعين إلى الدمقراطية.(4/79)
ـ نسيت أن أسألك: ما المبادئ الدمقراطية التي ترى أنها تتوافق مع الإسلام؟
ـ منها: مبدأ حق الأمة في اختيار حكامها؛ فيكفيك فيه هذه القصة التي أوردها الإمام البخاري في صحيحه والتي سنجتزئ كلمات منها لضيق المجال. قال عبد الرحمن بن عوف لابن عباس وهم في منى: «لو رأيت رجلاً أتى أميرَ المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً؟...... فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشيةَ في الناس فمحذرهم من هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم(1)................ من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّة(2) أن يُقْتَلا»(3).
ومنها المبدأ المسمى بحكم القانون، فيكفيك فيه قول الله - تعالى -: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقوله - تعالى -: {فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «يا أيها الناس! إنما ضل مَنْ كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها»(1).
ومنها مبدأ الإباحة الذي يسمى الآن بالحرية؛ فإن المبدأ الإسلامي يقول: إن الأصل في الأشياء الدنيوية هو الإباحة. فالإنسان يتحرك ويتكلم، ويأكل ويشرب، ويبيع ويشتري حتى يقول له الدين: لا تفعل كذا أو كذا. وإذا كان الإسلام قد جعل الدعوة إلى الله - تعالى - أعظم مهمة يقوم بها بشر، وإذا كان قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات المميزة للمسلم؛ فكيف لا يبيح له أن يعبر عن نفسه؟ لكنها حرية في إطار القِيَم والأحكام الإسلامية كما أن الحرية في البلاد الغربية الدمقراطية هي في إطار قيمهم وقوانينهم.
ومنها ما صار يسمى بالشفافية. هل رأيت دليلاً عليها أصدق من أننا ما نزال نعرف كل ما دار من كلام بين المسلمين في الشؤون العامة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد خلفائه الراشدين، بل نعرف كثيراً مما دار حتى بعد تلك العهود؟ ألسنا نعرف ما دار في اجتماع المسلمين لاختيار خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم ؟ ألسنا نعرف ما دار بينهم في أمر قتال المرتدين؟ ألسنا نعرف كيفية اختيارهم للخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه؟
ـ إذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا تخلَّف المسلمون في عصورنا هذه في هذه الأمور؟ ولماذا عمت بلادهم إلا قليلاً الحكومات الاستبدادية؟
ـ هذه قصة طويلة لعلنا نناقشها في مناسبة أخرى. أما الآن فيكفي أن أذكِّركم بأن الدين إنما هو هداية وتوجيه، وأوامر ونواه؛ فليس فيه هو نفسه ما يجبر الناس على تطبيق ما يؤمرون به. فإذا كان هنالك من خطأ فهو في الناس وليس في دين الله. ثم إذا كان الناس لم يلتزموا بهذه المبادئ وهم يعلمون أنها من دين الله؛ فهل تظن أنهم سيلتزمون بها لأنها أتتهم من الغرب؟ إنه لا بد من عمل لإصلاح الأمة لتتقبل هذه المبادئ وتضحي في سبيلها.
ـ نحن ندعو إلى الدمقراطية؛ لأن فيها من الآليات ما يحول دون هذا الانحراف؟
ـ كلاَّ، ليس فيها شيء مما تتوهم، بل إن مفكريها يعترفون بأن النظم لا تصلح إلا بصلاح الأمم. وما يقال عن الإسلام يقال أسوأ منه عن الدمقراطية؛ فليس فيها ما يجبر الناس على الالتزام بكل مقتضياتها، ولذلك فإن أسوأ دكتاتور عرفه الغرب إنما جاء بانتخابات حرة، أعني هتلر، كما أن كثيراً من الحكومات المنتخبة كانت حكومات فاسدة. بل إن أكبر القرارات والسياسات الظالمة كانت في عصرنا هذا نتيجة قرارات دمقراطية لا شك في دمقراطيتها. فاستعمار الغربيين لكثير من بلدان العالم بما فيها البلدان الإسلامية كان نتيجة قرارات دمقراطية، وغزو أفغانستان ثم العراق وقتل الآلاف المؤلفة من الأبرياء وتخريب البلاد كان نتيجة قرارات دمقراطية لا يرتاب أحد في دمقراطيتها. فإذا كان ما حدث في العالم الإسلامي إنما يعزى إلى البشر لا إلى الدين؛ فإن كثيراً مما حدث في البلاد الغربية إنما كان شيئاً يأذن به المبدأ السياسي الذي يدينون به.
ـ كل هذا صحيح لا يماري فيه منصف. لكن أظنك تسلِّم معي بأنَّ هنالك شيئاً يُعزى إلى الدين نفسه.
ـ ما هو؟
ـ إن الإسلام يقر مبدأ اختيار الأمة لحاكمها، ولكنه لم يلزم المسلمين بطريقة معينة لاختيار الحاكم.
ـ وكذلك الأمر في الدمقراطية. إنها إنما تقول إن الحكم للشعب، وهذا يقتضي أن يكون الشعب هو الذي يختار حكامه. لكن ليس فيها ما يقول إن الحكام أو النواب يجب أن يُختاروا بالطريقة الفلانية. ولذلك فإنهم يختلفون في ما ينهجون من وسائل لاختيار حكامهم.
ـ لكنها كلها تقوم على مبدأ الانتخابات.(4/80)
ـ نعم لكن هذه هي الطريقة التي رأى الغربيون أنها مناسبة لهم في عصرهم هذا وفي ظروفهم هذه، وليست الطريقة التي تلزمهم بها الدمقراطية. والمسلمون يستطيعون أن يختاروا لأنفسهم من الوسائل ما يحقق مبدأ اختيارهم لحكامهم ذاكرين أن الحاكم في الإسلام إنما يُختار ليحكم بما أنزل الله لا برأي من انتخبوه، ملتزمين في ذلك بمبدأ الشورى كما أشار إلى ذلك الإمام ابن حجر في كلمته التي نقلناها آنفاً. إن عدم تحديد الإسلام للطريقة التي يُختار بها الحاكم هي من محاسنه لا من نواقصه؛ لأن هذه الطرق تتأثر بالظروف والملابسات التي تتغير بتغير الزمان والمكان. ولذلك فإن الغربيين حتى مع اتفاقهم على مبدأ الانتخابات وجدوا أن للانتخابات صوراً شتى تختلف نتائج كل واحدة منها عن الأخرى، ولذلك اختلفوا في ما يتبنون منها. ولا داعي للدخول في تفاصيلها؛ فهي أمور معروفة.
----------------------------------------
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) Ba r ry Holden، Unde r standing Libe r al Democ r acy، Philip Allan، Londeon، 1988، p.2.
(1) قال الإمام ابن حجر «والمراد أنهم يثبون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة. وقد وقع ذلك بعد على وفق ما حذره عمر رضي الله عنه».
(2) تَغِرة: فسرها الإمام ابن حجر بقوله: أي حذراً من القتل... والمعنى: أن من فعل ذلك فقد غرَّر بنفسه وبصاحبه وعرَّضهما للقتل.
(3) كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
(1) رواه البخاري في كتاب الحدود من صحيحه من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
{وَإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
============(4/81)
(4/82)
حرية الفكر في شراك الاستبداد
علاء الدين الجنكو
ليس هناك عاقل يسمح لنفسه أن يتهم وزارة الصحة أو الداخلية أنها متخلفة ومتحجرة لمعاقبتها لمن يستورد بضاعة بغير المواصفات المطلوبة، كأن يكون تاريخ صلاحيتها منتهية، فما بالك إذا كانت فاسدة؟
نعم هذا إجراء سليم للحفاظ على صحة المواطنين وسلامتهم الجسمية وهذا أمر ضروري جداً، وكذلك حماية الضرورات الخمس مهمة جداً، تلك التي لا حياة للإنسان بدونها ألا وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، فهي التي تقف حياة الإنسان عليها، لذا جاء الإسلام بما يضمن الحفاظ عليها.
وليس المقام لبيان الأدلة التي جاء الإسلام بها، وإنما يهمنا هنا هو ضرورة الحفاظ على الدين والعقل، فكل منهما مرتبط بالآخر في موضوعنا، لاسيما وأن الدعوة إلى إعمال العقل وعدم الحجر عليه قد ظهرت من جديد؛ ليكون عنواناً لأمر خطير يتضمنه ألا وهو المروق من الدين بشعارات براقة، وكلمات حق يُرَادُ بها باطل.
فهل يا ترى أصحاب هذه الدعوة يتطلعون إلى حرية الفكر أم حرية الكفر؟
حرية التفكير في الإسلام:
حرية الفكر هي إعمال العقل في بحث المقدمات، وتمحيص واستخلاص النتائج بعد النظر والاستدلال، وفهم القواعد والنصوص، وهذا المفهوم للحرية الفكرية دعا إليه الإسلام، بل أجزم يقيناً بأنه ليس هناك من يدعو إليها كما يدعو الإسلام، حتى جعلها فريضة يجب على الإنسان أداؤها، ويأثم لتركها، فقد دعا الإسلام إلى النظر في الكون فقال تعالى: (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ))، وقال تعالى: (( قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))، وقال تعالى: (( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)).
كما رفض الإسلام الظن وعدم التيقن في المعرفة، وحمل على الذين يتبعون الظن والأوهام حملة عشواء فقال تعالى: (( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً ))، كما حمل على الذين يقلدون آباءهم ورؤساءهم التقليد الأعمى بل وجعلهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً فقال - تعالى- مبيناً حال الكفار الذين يقولون: (( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ ))، وقال - تعالى- في حالهم أيضاً: (( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ))، وقال - تعالى-: (( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً )). ثم دعا الإسلام إلى الاستدلال وإثبات الحقائق بالبراهين فقال - تعالى-: (( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )).
الحرية المظلومة:
لكن حرية التفكير كثيراً ما تستخدم لخداع الأجيال وتدميرها، وصرفها عن أصولها، وإبعادها عن مسارها الصحيح، وتشكيك العوام من الناس في مواريثها.
نعم يريد أصحاب الحرية المزورة تشكيل أفكار مخصوصة؛ حتى تتبدد رسالة الأمة، وتتلاشى وتتفكك مع الأيام، ومن هنا كانت أحياء أفكار وشبهات ماتت من جديد بادعاء أنها تدخل في نطاق حرية التفكير، إن تباين الأفكار واختلافها ضرورة فكرية، ولن يخلو تاريخ الإنسانية منها في أي فترة من فتراتها، ولكن أن تصل الفوضى الفكرية بادعاء الحرية الفكرية إلى حد النيل من العقائد والمقدسات فهذا أمر مرفوض غاية الرفض، ومن المؤسف جداً أن نرى بعض المفكرين المعاصرين من يدافع عن تلك السخافات حتى أصبحت حرية الفكر عندهم تصل إلى ذروتها وقمتها عندما ينال الكاتب من الدين والثوابت، وهو ما حصل بالفعل مع سخافات سلمان رشدي، وتسليمة نسرين، وغيرهم من صعاليك الأدب كما قيل عنهم، كما شد انتباهي الوقفة الصامدة من أولئك مع رواية حيدر حيدر التي لا أتعجب أن يُمْنَحَ جائزة نوبل للأدب يوماً من الأيام على أسخف وأسقط ما قرأت في حياتي، ولولا ضرورة قراءتي لها - حتى لا يدعى أحد أني أحكم عليها من غير قراءتها - لما ضيعت وقتي الثمين مع رواية نجَّسَت الورقة والقلم.
ومن هنا خرجوا!!
بعد أن وضعوا الحبال في عنق لينين في عقر داره، وخروا به أرضاً ليعلن الروس بذلك نهاية عهد من الحكم الشيوعي، وبداية عهد الثمار المجنية من ذلك الحكم، والتي جعلت من روسيا مسرحاً لأكبر العصابات والمافيات ومؤسسات غسيل الأموال في العالم، هذا ما حصل في مهد الشيوعية.
أما الشيوعيون والماركسيون في البلاد الإسلامية فقد باتوا كذيل الأفعى عندما تقطع رأسها، الأمر الذي أدى بهم أن يسلكوا إحدى الاتجاهات التالية:-
- طائفة بقيت صامدة وثابتة تحمل الأفكار الشيوعية.
- طائفة تخلت عن كل ما كانت تعتقده من أفكار، وجلست في بيتها تاركة كل شيء.(4/83)
- طائفة تخلت عن كل مبادئ الشيوعية لتنقلب رأساً على عقب لتحمل الأفكار الرأسمالية المتعلقة بتبني مبادئ الديمقراطية بعد أن كانت تعتبرها وسيلة من وسائل البرجوازية للتسلط على العمال والفلاحين وصغار الكسبة.
- طائفة تخلت عن أفكارها، وتركتها على رفوف متاحف التاريخ ليتجهوا إلى عالم الدين والغيبيات، والخوض فيها، ووضع الدراسات حولها بعد أن حاربتها فترة من الزمن مدعية أنها أفيون الشعوب، وهذه الطائفة الأخيرة كانت ولا تزال الأخطر على تغيير عقائد الناس لأنهم دخلوا غمار الشريعة ليطعنوا في الدين من خلال النيل من مصادره الرئيسية بادعاء إعادة النظر في النصوص، ومعاودة الاجتهاد فيها من جديد!!
وتكمن خطورة هذه الطائفة في عدم دراسة هؤلاء الناس للشريعة والإسلام الدراسة المتفحصة والموضوعية، بل أعادوا ومن جديد ما طرحه المستشرقون من دراسات تشكك في الإسلام وحضارته وتاريخه، بإشاعة الشبهات وفق مبدأ الانتقائية.
ثوابت لكل أمة:
يطلب مدعي حرية التفكير من غير قيود أن يسير المسلمون على نهج أساتذتهم الجدد من الليبراليين الأوروبيين الذين لا تقف أمام ما يطرحونه عوائق، وأتعجب مما يقولون!!
فمن قال لهم بأن ذلك صحيح؟! أنسي هؤلاء ما هو نصوص في قوانين الدول الأوربية كدوائر حمراء لا يجوز للكتَّاب تجاوزها، كمنع المساس بذات المسيح، والذات الملكية كما في القانون الإنكليزي، وعدم الخوض في مناقشة إثبات الهلوكوست ( المحارق اليهودية أبان الحرب العالمية الثانية على يد هتلر ) كما في معظم قوانين الدول الأوروبية، بادعاء أن ذلك جرح لمشاعر السامية!! وما محاكمة المفكّر الفرنسي روحية غارودي على كتابه: الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، إلا خير دليل على ذلك.
بل زاد بعض العلمانيين عندما سمعوا بهذه الحقائق أن يتجاوزوا بحرياتهم ما وصل إليه أقرانهم في أوروبا وذلك برفع القيود عنها؛ حتى لا يناطحهم في مجال حرية التفكير أحد على هذه المعمورة!! فكما أن لأوروبا ثوابت لا يجوز المساس بها، فكذلك المسلمون عندهم ثوابت ومقدسات لا يجوز الاعتداء عليها، فإذا انضبطت الحرية في إيقاعها الإنساني وإطارها السليم، وانتشرت في أصولها الطبيعية؛ تحققت جدواها، وآتت ثمارها وأكلها.
ويُلاحَظ أن من يدعى حرية التفكير في عالمنا الإسلامي إنما يرغب بممارستها في جانب واحد ألا وهو مهاجمة شعائر الدين، والتطاول على القرآن، والمساس بمكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إنها جرأة باسم الحرية الفكرية لا نراها إلا في الساحة الإسلامية، وبدعوى حرية التفكير تمتهن الثوابت الدينية، ويُلفَتُ للنظر احترام هؤلاء المفكرين والكتاب للأديان الأخرى - والإسلام يدعو إلى احترامها - التي لا تعير العقل اهتماماً!! حيث تجعل معبودها بقرة أو صنماً أو شيطاناً، أو حقيقة رياضية عجيبة مفادها: ( 1+1+1= 1 ).
هذا كفر وليس فكر:
كثير منهم أثاروا قضية الردة وعقوبتها في الإسلام على أنها عائق وحجرة عثرة لحرية التفكير، وهذا إدعاء باطل بدليل أن الإسلام لم يجبر أحداً على اعتناق الإسلام بل ترك لهم حرية الاختيار، يختارون ما يعتقدون صوابه قال - تعالى -: (( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ )) فإذا ما اختاروا الإسلام بمحض إرادتهم وقناعتهم، ومن غير إجبار؛ ثم يرفعون دعوة الخروج منه فإنما هذا سخرية ولعب واستهتار بالدين لا يقبله عاقل، والاستهزاء بالدين والسخرية منهم كفر لا محالة يجب معاقبة فاعله، وليس هذا مانع لحرية الفكر بحال من الأحوال، فإدعاؤهم باطل.
كما أن إثارة إثبات النصوص، ورفض السنة النبوية بادعاء أن العقل لا يقبله نوع من الطعن في الدين، حيث يجردون ما يعلم من الدين بالضرورة، من حكمها الواجب، بادعاء أن القرآن لم يأت به، والسنة ليست كلها صحيحة، والصواب ما يراه عقلهم بأنه صحيح!! وهذا الادعاء أيضاً باطل؛ لأن السنة ونصوصها لها المختصون الذين درسوها ونقَّحوها، وبينوا صحيحها من سقيمها متناً وسنداً، فكيف يحق لمن لا يعرف أركان الإسلام - فضلاً عن تطبيقها - أن يضع مصادر تشريعه؟!
ماذا يريدون؟
الذي حصل وشاهدناه أن أكثر من يتجاوز الحدود المسموح له بتخطيها، والذي يتطاول المقدسات والثوابت بادعاء حرية التفكير؛ إنما هو رجل تافه أراد الشهرة، أو امرأة ساقطة رغبت في تلميع اسمها على صفحات الجرائد، ثم هل وجد هؤلاء مبدأ في العالم منحهم حرية التفكير كما منحهم الإسلام؟ الذي يبدو لي - والله أعلم - أن من أهم مقاصد هؤلاء من وراء هذه الدراسات هو إلغاء مسألة الردة بادعاء أنها تناقض حرية التفكير، كما يسعون إلى إلغاء مسألة التكفير في الفكر الإسلامي باعتباره حجرة عثرة أمام الكثير من المسائل التي لا يجوز تخطي الخطوط الحمراء فيها، كما ويرغبون في معاودة النظر في النصوص واستدلالاتها على المسائل الشرعية؛ ليضعفوها أو يبطلوها بدعوى عدم وجودها أو ثبوتها.
لا يحق للمسلم إجبار غيره باعتناق الإسلام:(4/84)
فكما مر (( لا إكراه في الدين )) ولكن وفي المقابل لا يحق للغير أن يطال ثوابت الإسلام، ويحاول إلغاء مصطلحاتها التي لا يؤمن بها من يعتقد بالإسلام أصلاً، فلماذا الحرج منها؟!!
بعد كل هذا يتضح لمن أمعن النظر أن هؤلاء لا يرغبون بحرية الفكر في إطار الإسلام الرحب؛ إنما يقصدون حرية الكفر من وراء الكواليس!
المصدر : http://www.islamselect.com/admin/fback.php
=============(4/85)
(4/86)
أثر القنوات الفضائية في تغريب المرأة (1- 2 )
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
لا يخفى أثر وسائل الإعلام على الأفراد والمجتمعات سلباً كان ذلك الأثر أم إيجاباً؛ لأن الإعلام نوعان:
إعلام يقوم ببيان الحق وتزيينه للناس بكل الطرق والأساليب والوسائل العلمية المشروعة، مع كشف وجوه الباطل وتقبيحه بالطرق المشروعة؛ فهذا إعلام إيجابي.
وإعلام يقوم على تزويد الناس بأكبر قدر من الأكاذيب والضلالات، وأساليب تهيج الغرائز، ويعتمد على الخداع والتزييف والإيهام، فهذا إعلام سلبي.
وهذا النوع الأخير من الإعلام هو ما يجري مع الأسف في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية في العالم الإسلامي باستثناء بعض القنوات والمجلات الإسلامية(1) ولقد كان لهذا النوع من الإعلام دور كبير في تغريب المرأة، وازداد خطره بظهور القنوات الفضائية في عام 1409ه حيث بدأ البث التلفزيوني المباشر(2) عبر الأقمار الصناعية، وكانت البداية للقنوات الفضائية الأجنبية، ثم تبعتها القنوات الفضائية العربية التي كان الغرب يتخوف من ظهورها فقد كتبت كبريات الصحف الغربية: "لا تطلقوا القمر الصناعي العربي...إنه مشروع خطير يدعم ثقافتهم العربية والإسلامية... وانطلقت سلسلة من أقمار ال عرب سات ثم نايل سات وظهرت عشرات القنوات العربية... ولكن لم يتحقق شيء مما كان الغربيون متخوفين منه والسبب: أن القنوات الفضائية العربية صارت مرآة عاكسة للوجه الغربي القبيح.. تُغرِّب ولا تقرب، تهدم ولا تبني"(3).
لقد أصبحت جُلُّ القنوات الفضائية العربية من أشد الوسائل فتكاً وتدميراً لثوابت الأمة العقدية، والأخلاقية، والاجتماعية، والفكرية، والسلوكية، من خلال ما تعرضه من عقائد باطلة، وأخلاق سيئة، وأفكار هدامة، وسلوكيات مدمرة، وهذا التدمير المتعمد تقوم به القنوات الفضائية العربية؛ اعتماداً على مقولة زائفة بأن ما تقوم به هو: "انفتاح حضاري، وثقافي، وإعلامي، ومواكبة للتطورات العالمية في مجال البرامج الإعلامية الإخباري منها، والثقافي، والترفيهي، والاجتماعي... بينما الحقيقة هي أن ما تقدمه يعد غزواً... لا يقل عن الغزو الأجنبي خطورة نظراً لإفساده للدين والفكر والأخلاق والسلوك"، (4) فالقنوات الفضائية تسير في نفس الطريق الذي تسير فيه القنوات الفضائية الغربية الهابطة إن لم يكن بعضها أشد سوءاً، وأكثر انحطاطاً، فهي تبث أكثر من 200 ألف ساعة سنوياً أغلبها فن، ورياضة، وأفلام، وأغان، فماذا كان تأثير ذلك على المرآة؟
الأثر مؤلم وخطير، لقد غربت تلك القنوات كثيراً من نسائنا، فصار من المناظر المألوفة: مشاهدة الفتاة وقد أصبحت غربية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، والمنهج الغربي يطغى على جميع تصرفاتها، وأسلوب حياتها، وتعاملها مع الآخرين.
لقد مارست هذه القنوات العربية اللسان، الغربية الهوى - ولا زالت تمارس - هوايتها في تمرير المشروع التغريبي على الأمة، فهي تزين للمرأة المسلمة النمط الغربي فكراً وسلوكاً؛ فالسفور حرية شخصية، والتبرج والعري جمال وأناقة، واللقاءات المحرمة علاقات شريفة، والخلوات الشيطانية حب بريء، وطريق للزواج الناجح، ورفض قوامة الزوج، وولاية الولي مطالبة بالحقوق المسلوبة، والخلاعة تطور وتحضر، وقرار المرأة في البيت تخلف ورجعية.
ولبيان الدور الخطير والمدمر الذي تقوم به القنوات الفضائية العربية لتغريب المرأة المسلمة جمعت ما تيسر لي من مظاهر تغريبها، وما خفي على أكثر مما عرضته.
ما هو التغريب؟
التغريب هو: "مجموعة الأفكار والمفاهيم والممارسات المتلقاة من الكفار والتي يقصد بها صرف الأمة عن دينها. واشتقاقها من الغرب لغالبية دورهم في هذا المجال، وإلا فالكفر ملة واحدة"، (5) فالمقصود من التغريب: تحويل سلوك المسلمين، وعاداتهم، وتقاليدهم، وقيمهم، وأعرافهم، وثقافتهم لتكون تابعة للغرب.
لماذا التركيز على تغريب المرأة المسلمة؟
لأن المرأة هي محضن الرجال، ومربية الأجيال، وهي حصن المجتمع الحصين الذي إذا تهاوى تهاوت معه الأسرة، ثم تهاوى معه المجتمع، فإذا استجابت المرأة المسلمة لدعوتهم فسيؤدي ذلك إلى إفسادها، وإفساد المجتمع بأقصر الطرق وأسرعها، وهذا ما يريده الأعداء ولا يفقهه المستغربون.
في استبانة وزعت على عدد من النساء سئلن فيها عن نسبة انتشار مظاهر التغريب بين نسائنا فكانت إجاباتهن كالتالي: 36% كثير جداً، 44% كثير، وفي سؤال آخر: في رأيك تبدو مظاهر التغريب أكثر وضوحاً بين نسائنا في المظهر أو الفكر أو في المظهر والفكر معاً؟ كانت إجاباتهن كالتالي: 65% في المظهر والفكر معاً، 35% في المظهر.
هل غرّبت القنوات الفضائية المرأة المسلمة؟(4/87)
تقول د. نورة آل الشيخ عميدة كلية إعداد المعلمات: "ألمس تغيراً في فكر بعض الفتيات عن السابق، ولعل الانفتاح الذي نعيشه من خلال الفضائيات هو السبب"(6) وتقول د. هدى طافش الاستاذة بقسم اللغة الإنجليزية بكلية التربية: "إن للفضائيات تأثيراً لا يستهان به على محاولة تغريب المرأة المسلمة، وجعلها تابعة مبهورة بكل ما ينتجه الغرب، سواء من ناحية الفكر، أو الثقافة، أو الملبس، أو المشرب، أو حتى التصرفات"(7).
مظاهر تغريب القنوات للمرأة:
تم رصد بعض المظاهر لتغريب القنوات الفضائية، واستلابها لعقول كثير من النساء سواء عن طريق برامج متخصصة موجهة أو عن طريق الأفلام والمسلسلات، ومن تلك المظاهر:
أولاً: استرجال المرأة:
وجد في عصرنا صنف من النساء خالفن فطرة الله التي فطر الناس عليها، وتخلقن بصفات لا تليق بالأنثى التي خلقها الله - تعالى -لتتميز بها عن طبيعة الرجال، يحسبن بزعمهن أنهن أصبحن كالرجال، فواجهن من العنت والضيق الشيء الكثير، وحصلت لهن المشكلات الجسدية والنفسية، ومضايقة الرجال، والتعدي عليهن، وأصبحن منبوذات حتى من بنات جنسهن... ولقد جاء الوعيد الشديد لمن خالفت فطرتها، وتخلت عن أنوثتها، وتشبهت بالرجال"(8) قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء"(9). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : "لعن الله المخنثين من الرجال و المترجلات من النساء"(10). وقال صلى الله عليه وسلم : "لعن الله الرجلة من النساء"(11)، ومن تلك الأحاديث يتبين حكم المترجلة التي تتشبه بالرجال بأنه حرام وكبيرة من كبائر الذنوب.
وترجل المرأة ظاهرة غريبة على مجتمعنا المحافظ فما الذي غير بعض النساء حتى أصبحت لا تكاد تفرق بينها وبين الرجل؟ إنها القنوات الفضائية التي تنقل لنا مظاهر حياة المرأة الكافرة المسترجلة المساوية للرجل في كل شيء، فتقوم بعض النساء بتقليدها ومحاكاتها، وقد سُئلت مجموعة من الطالبات الجامعيات عن أسباب هذه الظاهرة فأجاب 24% منهن أن السبب يرجع إلى القنوات الفضائية(12).
ومن مظاهر تشبه المسترجلة بالرجال ما يلي:
1- التشبه في اللباس:
بعد وجود القنوات الفضائية لبست بعض النساء ملابس تشبه ملابس الرجال تماماً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل"(13)، ومن تلك الملابس: (البنطلون)، وفي إجابة للجنة الدائمة للإفتاء عن حكم لبس المرأة للبنطلون: "الغالب في البنطلون أنه ضيق يحدد أجزاء البدن التي يحيط بها ويسترها، كما أنه قد يكون في لبس المرأة للبنطلون تشبه من النساء بالرجال، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال "
2- رفع الصوت بالكلام، ومجادلة الرجال.
3- تقليد الرجال في المشية والحركات.
4- التشبه بالرجال في الهيئة والشكل: كقص الشعر مثل شعر الرجل.
ثانياً: كثرة ارتكاب المرأة للجرائم:
عندما توجد المرأة المسترجلة توجد المرأة التي تفعل ما يفعله الرجل تماماً، ومن ذلك: ارتكاب الجرائم، وهذا لا يعني أن المرأة كانت لا ترتكب الجرائم قبل وجود القنوات الفضائية، ولكن هذه القنوات زادت من نسبة ارتكابها للجريمة، يقول الدكتور سعود الضحيان أستاذ علم الاجتماع بجامعة الملك سعود: "إن جرائم النساء في المملكة في تزايد، وقد شهدت ارتفاعاً ملحوظاً خلال الخمس سنوات الماضية؛ وذلك نتيجة التطورات الاجتماعية، واختلاف أساليب التنشئة وانتشار الفضائيات"(14).
نعم لقد ساعدت الفضائيات على جراءة بعض النساء في ارتكاب الجريمة تقليداً للمرأة الغربية التي تشاهدها في فيلم أو مسلسل أو غيره، ومن أخطر تلك الجرائم التي تؤثر على المرأة وعائلتها ما يتعلق بشرفها وسمعتها. وقد لا يتصور البعض أن بعض النساء في بلادنا وقعن في جرائم تعاطي المخدرات، وشرب المسكرات، بسبب ما يشاهدنه في القنوات الفضائية من أفلام تزين لهن ذلك، وفي تحقيق أجرته صحيفة الرياض مع عدد من النساء المسجونات من المدمنات على شرب الخمور وتعاطي المخدرات كان من إجاباتهن الآتي:
"أعتقد أن الشرب شيء جميل والدليل أن كل الأفلام... فيها شرب".
"أشاهد الأفلام الأجنبية... وعندما أرى الأفلام وهم فيها يشربون أحس بأنهم الأشخاص الذين يعيشون حياة حقيقية".
"رأيت فتيات كثيرات يشربن في الأفلام الأجنبية فحاولت أن أجربه".
يقول الدكتور خليل القويفلي المشرف العام على مجمع الأمل الطبي بالرياض: "إن ظاهرة المخدرات في ازدياد على مستوى الشباب والشابات ما يؤرقنا هو تزايد أعداد المدمنات والمدمنين، فحالات الإدمان تكثر في المراهقات من سن 25 إلى 35 عاماً، وهناك حالات عديدة لطالبات ثانوية مدمنات... وترجع أسباب الإدمان إلى عدة عوامل أكثرها أهمية: الفضائيات التي تعرض أفلاماً وبرامج يكون تناول المخدرات وشرب المسكرات شيئاً ملازماً لها"(15).(4/88)
وارتكاب المرأة للجريمة له أضرار اجتماعية منها: تدنيس سمعتها العائلية، وتدمير حياتها الزوجية إن كانت متزوجة، وربما طلاقها من زوجها، وما يترتب على ذلك من أضرار وخاصة أن كان هناك أطفال من هذا الزواج.
ثالثاً: تدخين المرأة:
التدخين يسبب العديد من الأمراض الخطيرة من أهمها: مرض السرطان، فالدراسات أثبتت علاقة التدخين بعدد من أنواع السرطانات، منها: سرطان الرئة، والمخ، والدم، والغدد اللمفاوية، وهذه الأمراض تسبب الوفيات في الغالب؛ ولذا يعد التدخين من أهم أسباب الوفيات المتزايدة عالمياً، وتشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أن التدخين يؤدي إلى وفاة خمسة ملايين من الناس سنوياً ويقدر أطباء المنظمة أن يزداد عدد ضحايا التدخين إلى عشرة ملايين شخص سنوياً بعد عشرين عاماً؛ ولهذا أفتى أهل العلم بحرمة التدخين، لأن فيه ضرراً على النفس وإهلاكاً لها، وقد قال الله - تعالى -: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (195) {البقرة: 195}.
وإذا كان للتدخين أضرار عديدة فإن هذه الأضرار تزيد إذا كانت المرأة هي التي تدخن. تقول د- هناء الزامل: "التدخين أثناء الحمل والرضاعة يسبب كثيراً من المشاكل الصحية للجنين... وعلى الرغم من تعرض المرأة المدخنة إلى الإجهاض، وانفصال المشيمة، ونقص وزن الوليد؛ فإنها أيضاً تعرض طفلها إلى الإعاقة التي يسببها نقص الأكسجين الذي يحدث أثناء التدخين"(16)، وظاهرة تدخين النساء ظاهرة غريبة جداً على مجتمعنا المحافظ، وقد اختلفت الإحصائيات في أعداد النساء المدخنات في بلادنا ما بين مقل ومكثر في ذلك، ففي محاضرة للدكتور- محمد حسين آل محيا استشاري طب الأسرة بعنوان: التدخين وأضراره أقيمت ضمن الأسبوع الصحي الذي نظمته جامعة الملك خالد ذكر: أن في المملكة أكثر من (600) ألف مدخنة أغلبهن من المراهقات، (17) ويقول رئيس مجلس إدارة جمعية مكافحة التدخين الأستاذ- سليمان بن عبد الرحمن الصبي: "تبلغ نسبة المدخنات للسجائر والمعسل (10%) من نساء المجتمع السعودي... وللأسف هذه إحصائية مخيفة في بلد محافظ على تقاليده كالسعودية، والمجتمع إذا استمر على انفتاحه غير المتوازن... فإن هذه الإحصائيات مهيأة للزيادة"، ورأس هذا الانفتاح القنوات الفضائية. كما أفادت دراسة نشرت في مجلة طبية أمريكية أجريت على مراهقين كان من نتائجها: أن نسبة ممارسة المراهقين لعادة التدخين بسبب مشاهدتهم للممثلين في الأفلام والمسلسلات وهم يمارسون تلك العادة ترتفع بنسبة ثلاثة أضعافها عنها بين أولئك الذين لا يقضون أوقاتاً طويلة في مشاهدة الأفلام(18)، وتشير الدكتورة نورة بنت عبد الله الرويس أستاذ مساعد قسم طب الأسرة والمجتمع بكلية الطب بجامعة الملك سعود إلى أن من مثالب القنوات الفضائية "ترسيخ المفاهيم الخاطئة وإظهارها بشكل إيجابي مثل: عادة التدخين"(19).
رابعاً: المرأة المتحررة:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن"(20)، ولهذا أوجب الشارع الحكيم على الرجال المؤمنين أن يكونوا رعاة لمن تحت أيديهم من الأهل من بنين وبنات وزوجات يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته... "(21)، ويقول صلى الله عليه وسلم : "إن الله - تعالى -سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته"(22)، فالولي مسئول عن من تحت ولايته من بنات وأخوات وزوجات، وعليهن السمع والطاعة له بالمعروف، ما لم يأمرهن بمعصية لله؛ لكن القنوات الفضائية تقوم بإرسال رسائل مباشرة وغير مباشرة محتوى هذه الرسائل: أن تتمرد المرأة على ولاية وليها عليها أباً كان أم أخاً أم غير ذلك، وأن تحطم أي قيود، أو قيم، أو أعراف، أو عادات، أو تقاليد للمجتمع، وأشر من ذلك وأمَرُّ أن ترفض الأحكام الشرعية، وإن قبلت المرأة منها شيئاً قبلت ما ترى أنه يمنحها حقوقاً، ولكنها ترفض ما ترى أنه واجبات ومسئوليات عليها، كل ذلك بدعوى حريتها الشخصية. فحريتها تجعلها تفعل ما تريد، وتقول ما تشاء، وتذهب إلى أي مكان، وتلبس ما تهوى من لباس، وتقيم علاقات مع أي جنس، وتسافر بدون محرم، وتتزوج بمن تحب براً كان أم فاجراً، وليس لأحد ولياً كان أم زوجاً أن يسألها عن ذلك، فضلاً عن أن يوجهها أو يمنعها. وقد كان لذلك آثار ضارة عليها، فعلاقتها مع وليها اهتزت إن لم تكن انقطعت في كثير من الأسر.
خامساً: رفض قوامة الزوج:(4/89)
قال الله - عز وجل -: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على" بعض 34 {النساء: 34} هذه القوامة تتطلب أن يكون الرجل حامياً للمرأة، حافظاً لها من أي اعتداء أو خوف، موفراً لها حاجاتها؛ ولذا فإن المرأة تطلب هذه القوامة بفطرتها، و لا يخل بهذه القاعدة إلا من شذ من النساء، وقد قامت القنوات الفضائية عبر برامجها وأفلامها بدور كبير في إقناع المرأة برفض قوامة الزوج عليها فهي تصور "الزوج بأنه سجّان قاهر، والقوامة سيف مُصلت... حتى أوجد ذلك في نفوس النساء أنفة واشمئزازاً وبحثاً عن الانطلاق بلا قيود"(23).
بدأت بعض الزوجات برفض قوامة الزوج، وقد ترتب على هذا خدش كبير في علاقة الزوج بزوجته أدى إلى حدوث المشاكل بينهما والنزاع والشقاق، وربما الفراق والطلاق؛ "لأن المرأة بفطرتها تُحب أن تأوي إلى ركن تلجأ إليه... ولذلك فإن تنازل الرجل عن قوامته أمر يشقي المرأة ولا يسعدها، ويُسبب وهناً في بناء الأسرة، وتقويضاً في أركانه"(24).
سادساً: إقامة العلاقات المحرمة مع الجنس الآخر:
من قواعد الشرع المطهر أن الله - سبحانه - إذا حرم شيئاً حرم الأسباب والطرق والوسائل المفضية إليه؛ تحقيقاً لتحريمه، ومنعاً من الوصول إليه، أو القرب من حماه، ولو حرم الله أمراً وأبيحت الوسائل الموصلة إليه، لكان ذلك نقضاً للتحريم وحاش شريعة رب العالمين من ذلك.
وفاحشة الزنى من أعظم الفواحش وأقبحها، وأشدها خطراً وضرراً على ضروريات الدين؛ ولهذا صار تحريم الزنى من الدين بالضرورة(25) يقول الله - جل وعلا -: ولا تقربوا الزنى" إنه كان فاحشة وساء سبيلا 32 {الإسراء: 32} يقول العلامة السعدي - رحمه الله تعالى -: "والنهي عن قربان الزنى أبلغ من النهي عن مجرد فعله؛ لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه"(26).
وإقامة العلاقات بين الجنسين من أهم الأسباب للوقوع في فاحشة الزنى؛ ولذا حرمها الشارع الحكيم، ولكن القنوات الفضائية زينت للفتاة ضرورة إقامة تلك العلاقات مع الشاب قبل الزواج بدعوى أنه لا حياة زوجية سعيدة إلا بحب قبلها، وتبين د- خديجة علوي أستاذة علم الاجتماع "أن الصداقة بين الشاب والفتاة قبل الزواج... من ضمن الأفكار الفاسدة التي وردت إلى مجتمعنا بسبب الانفتاح اللا محدود على المجتمعات الغربية"(27)، ومن أعظم وسائل ذلك الانفتاح: القنوات الفضائية.
ما هي نهاية هذا الحب؟
1- وقوع الشباب من الجنسين فيما حرم الله - تعالى -و ارتكابهم للفواحش لإشباع الغريزة الفطرية الموجودة لديهم؛ لأن خلوتهم مع بعض ستجعل الشيطان ثالثهما كما قال النبي: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان"(28) ومن كان الشيطان معهما فسوف يزين لهما المعصية، ويهون عليهما ارتكاب الفاحشة.
2- رد الفتاة للكثير من الأزواج الأكفاء ممن يُرضى دينهم وخلقهم أثناء فترة الحب قبل الزواج؛ انتظاراً لتقدم المحب لخطبتها، والذي في الغالب لن يتقدم لها بل يضحك عليها، فتضيع على نفسها فرصاً كثيرة للزواج من أكفاء، وفي الوقت نفسه لم تمتثل لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ألا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"(29).
3- احتمال بقاء الفتاة عانساً، فبعض الفتيات تظل معلقة به تنتظره، ولا تصحو من غفلتها وتعرف أن هذا المحب لها لن يتقدم لها إلا بعد سنوات فاتها أثناءها قطار الزواج.
4- الأثر النفسي الذي يحدثه هذا الأمر عليها في مستقبل حياتها الزوجية.
5- أن ينتهي الحب قبل الزواج بزواج فاشل غير ناجح، ينتهي غالباً بالطلاق، فالدراسات والأبحاث التي أجريت في بلاد الكفار والمسلمين أثبتت أن معظم الذين تزوجوا بعد قصة حب لم ينجحوا في زواجهم، وأن أكثر حالات الطلاق إنما تقع في الزيجات التي تمت بعد علاقة حب(30).
ــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- الإعلام في العالم الإسلامي، لسهيله زين الدين حماد ص: 12- 13بتصرف.
2- البث المباشر حقائق وأرقام للشيخ- ناصر بن سليمان العمر، ص: 17
3- مجلة الجندي المسلم العدد: 102.
4- مجلة كلية الملك خالد العسكرية عدد محرم 1425ه.
5- فتياتنا بين التغريب والعفاف للشيخ د- ناصر العمر، ص 15.
6- مجلة أسرتنا العدد: 37.
7- مجلة أسرتنا العدد: 33.
8- مجلة الفرقان العدد: 301.
9- أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني برقم: 5100 في صحيح الجامع.
10- أخرجه الترمذي وصححه الألباني برقم: 5103 في صحيح الجامع.
11- أخرجه أبو داود وصححه الألباني برقم: 5096 في صحيح الجامع.
12- مجلة فتيات العدد: 40.
13- أخرجه أبو داود وصححه الألباني برقم: 5095 في صحيح الجامع.
14- صحيفة الرياض العدد: 12613 في 2-11-1423ه
15- صحيفة الرياض العدد 12556- 12557 في 4و5 -9-1423 ه.
16- مجلة أسرتنا العدد: 14.
17- مجلة أسرتنا العدد: 37.
18- أنظر في ذلك مجلة أسرتنا العدد: 41 والعدد: 44.
19- مجلة أسرتنا العدد: 43.
20- أخرجه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: 5624.
21- أخرجه البخاري ومسلم.(4/90)
22- أخرجه النسائي وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: 1774.
23- المرأة وكيد الأعداء للشيخ د- عبد الله وكيل الشيخ، ص: 24.
24- مقومات السعادة الزوجية للشيخ د- ناصر العمر، ص: 24.
25- حراسة الفضيلة للشيخ بكر أبو زيد ص: (112) من الطبعة الرابعة.
26- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة السعدي ص (457).
27- وهم الحب لمحمد بن عبد العزيز المسند، ص: 45.
28- أخرجه أحمد والترمذي.
29- أخرجه الترمذي.
30- المصدر السابق ص:44.
http://jmuslim.naseej.com المصدر:
===============(4/91)
(4/92)
أثر القنوات الفضائية في تغريب المرأة ( 2 - 2 )
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
تناول الكاتب - وفقه الله - تعالى - في حلقته الماضية من المقال لأثر وسائل الإعلام عموماً على الناس، ثم عرّج على تعريف التغريب، ولماذا استهدفت المرأة المسلمة به، وذكر بعض المظاهر لممارسة القنوات الفضائية أشكالاً من التغريب للمرأة المسلمة، ويكمل في هذه الحلقة المظاهر الأخرى من تغريب المرأة في القنوات الفضائية.
سابعاً: عدم قرار المرأة في بيتها:
يقول الله - عز وجل -: " وقرن في بيوتكن(33) " الأحزاب: 33} فقرار المرأة في البيت هو الأصل؛ لأن قرارها فيه خير لها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن"(1) خير لهن من ماذا؟ من الذهاب إلى أفضل البقاع عند الله - تعالى - وهي المساجد، فصلاتها في بيتها أفضل لها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها"(2) ويقول صلى الله عليه وسلم : "خير صلاة النساء في قعر بيوتهن"(3)؛ لأن صلاة المرأة في بيتها أستر لها وأصون؛ ولأن النساء إذا خرجن حتى للمساجد فإن القليل منهن من يلتزم بالضوابط والأحكام والآداب التي قررها الشارع عند خروج المرأة من بيتها؛ ولهذا قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: "لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى من النساء ما رأينا لمنعهن المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها"(4).
إذن فقرار المرأة في البيت هو الأصل، والخروج منه هو الاستثناء؛ لضرورة أو حاجة؛ امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين سودة - رضي الله عنها -: "إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن"(5) قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى -: وقرن في بيوتكن 33 الأحزاب: 33} أي: "الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة"(6).
والشارع الحكيم أمر المرأة بالقرار في بيتها لأن ذلك أفضل لها فهي إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان"(7) ومعنى استشرفها أي: زينها في أعين الرجال، وإذا زينها لهم افتتنوا بها، فهي فتنة كما قال صلى الله عليه وسلم : "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"(8).
القنوات الفضائية صورت للمرأة بأن البيت سجن لها، وكبت لحريتها، يجب تحطيم قيوده، والخروج منه بصورة دائمة لحاجة ولغير حاجة؛ ولذا كثر خروج النساء من بيوتهن بعد ظهور القنوات الفضائية. وهجرت المرأة بيتها، وأصبحت خرّاجة، ولاّجة، تحضر المهرجانات، وتغشى المنتديات، وتشارك في الاحتفالات، وترتاد الأسواق بكثرة، وتذهب للمنتزهات، وتجلس على الشواطئ في أوضاع يندى لها الجبين، وتؤلم كل رشيد، وتوجع كل لبيب، وتحزن كل غيور، وتفرح كل عدو ظاهر وباطن، ويشخص لنا فضيلة الشيخ منصور بن ناصر الراجحي رئيس مركز هيئة الروضة ذلك الخروج فيقول: "لقد تعدى خروجها للمدرسة أو للسوق ولزيارة الأقارب إلى زيارات التسوق بلا حاجة...كما استجدت الدعوات المتبادلة بين الفتيات في المطاعم، واللقاءات في محلات القهوة "كوفي شوب" وفي الأندية النسائية سواء كانت أندية ما يسمى صحية أو غيرها من تجمعات نسائية تؤدي في غالبها رسالة فكرية محددة، وقد نتج عن خروجها غيابها عن رقابة الأسرة، وأدى إلى اختلاطها مع فتيات ذات مذاهب و أفكار شتى؛ لتكون لقمة سائغة لموجات التغريب في أخلاقها أو فكرها"(9)، وعن خطورة الذهاب إلى هذه الأماكن يقول فضيلة مدير عام الهيئة بمدينة الرياض الشيخ صلاح السعيد: "أما السلبيات فتكمن في نوعية بعض النساء اللاتي يأتين لهذه الأماكن، فقد يكون هناك من النساء السيئات من تستغل هذه المجتمعات للشر والفساد... ونقف في بعض الأحيان على قضايا تتمثل في تعرف الفتاة على أخريات سيئات كن السبب في انحرافها"(10).
ثامناً: الاختلاط والخلوة بالرجال:(4/93)
فقد زينت القنوات الفضائية للمرأة وسهلت لها أمر الاختلاط بالرجال، فأصبحت المرأة تختلط بالرجال في أماكن العمل، ووسائل المواصلات، والحدائق، والمنتزهات، والشواطئ، والمطاعم، والأسواق، والمستشفيات مع أن الاختلاط شره مستطير، والمفاسد والأضرار التي تعاني منها المجتمعات التي طبقته وجربته خير دليل، وأصدق برهان على ذلك؛ تقول الصحفية الأمريكية هيليان ستانبري: "أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم... امنعوا الاختلاط فقد عانينا منه في أمريكا الكثير... إن ضحايا الاختلاط يملأون السجون.. إن الاختلاط في المجتمع الأمريكي والأوربي قد هدد الأسرة وزلزل القيم والأخلاق"، وتقول الكاتبة الإنجليزية الليدي كوك: "على قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنى" وبهذا نعلم الحكمة من تحريم الشارع الحكيم للاختلاط، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال صلى الله عليه وسلم : الحمو الموت"(11)، كما أن هذه القنوات الفضائية تعرض خلوة المرأة بالرجل الأجنبي على أنه شيء عادي، ومن هنا تساهلت المرأة بشكل كبير وواضح في الخلوة بالرجل الأجنبي عنها خطيباً كان أم طبيباً أم سائقاً أم بائعاً... مع أن خلوة المرأة بالرجل الأجنبي عنها خطر كبير عليها ولذا حرم الشارع هذه الخلوة، يقول صلى الله عليه وسلم : "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثها الشيطان"(12) ومن كان الشيطان ثالثهما فهو قائد لهما نحو المعصية، وارتكاب الفاحشة.
تاسعاً: قلة الحياء:
للحياء فضائل عديدة، وفوائد كثيرة، منها: أنه مانع للعبد بإذن الله من ارتكاب القبائح، وفعل المعايب يقول الشاعر:
ورب قبيحة ما حال بيني *** وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن *** إذا ذهب الحياء فلا دواء
والحياء من شعب الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"(13)، والحياء لا يأتي إلا بخير كما قال صلى الله عليه وسلم : "الحياء خير كله"(14)، ويقول صلى الله عليه وسلم : "الحياء لا يأتي إلا بخير"(15).
إذا كان الحياء في الرجال جميلاً فهو في النساء أجمل؛ لأنه لها أستر وأكمل، يقول الله - عز وجل -: " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء 25 "القصص: 25} يقول العلامة السعدي - رحمه الله تعالى -: "وهذا يدل على كريم عنصرها، وخلقها الحسن؛ فإن الحياء من الأخلاق الحسنة، وخصوصاً في النساء"(16)،
ومن مظاهر تغريب القنوات الفضائية لنسائنا:
أنها نزعت الحياء منهن، وهونت من شأنه في نفوسهن، فالفضائيات تغتال حياء الطالبات، فوجد لدينا نتيجة لذلك مظاهر مخالفة لشرع الله - تعالى - من أهمها: ما اعترى علاقة المرأة بالرجال الأجانب عنها من تساهل وتهاون. فحديثها وكلامها مع الرجال الأجانب في لحن وإيماء وخضوع في القول، ولين في الكلام مع دعابة، ومزاح وهزل بشكل لم يكن معهوداً قبل وجود القنوات الفضائية، والله - سبحانه وتعالى - يقول: " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا 32 "الأحزاب: 32} يأمر المولى - عز وجل - نساء النبي بعدم الخضوع بالقول وهن أطهر النساء، وإذا كان الأمر كذلك فإن من عداهن من النساء أحوج لهذا التوجيه والتحذير؛ لأن المرأة إذا كان في نبرتها ذلك الخضوع اللين أثارت شهوة الرجال، وحركت غرائزهم، وطمع مرضى القلوب فيها.
عاشراً: العاري في اللباس:
الفطرة السليمة تنفر الإنسان وخاصة المرأة من انكشاف سوأتها، وتحرص على سترها، واللائي يتساهلن في اللباس فيلبسن ما يثير الفتنة بهن، ويبرز مفاتنهن ولا يسترهن فهن يسلبن من أنفسهن في تعرية أجسادهن خصائص فطرتهن وفي نفس الوقت يسلمن أنفسهن للشيطان الذي يريد نزع لباسهن وإظهار عوراتهن" يقول الله - عز وجل -: " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما... 27 الأعراف: 27.
لقد تلاعب الشيطان ببعض المسلمين فأوقعهم فيما يخالف شرع الله - تعالى -، فزين لهم التعري باسم المدنية والحضارة، وكان للنساء النصيب الأكبر في ذلك، وواقع النساء في كثير من ديار المسلمين شاهد على ذلك، وخلال سنوات مضت ظلت النساء في بلاد الحرمين بعيدات عن ارتداء الألبسة العارية إلى وقت قريب حيث بدأت بعض النساء بلبس ألبسة عارية، بموديلات متنوعة، وأنواع مختلفة من ثياب شفافة وقصيرة وضيقة وذات فتحات علوية وسفلية. وخاصة في حفلات الأعراس ونحوها، وكان لانتشار هذه النوعية من الملابس أسباب عدة من أبرزها: القنوات الفضائية، ففي تحقيق لمجلة الدعوة عن العري في ملابس النساء ومن المسئول؟ ذكر أن "القنوات الفضائية أهم عامل تقريباً، فالبرامج التي تبث فيها كلها سموم ذات مفعول قوي"(17).(4/94)
إن النساء اللاتي يلبسن تلك الملابس العارية لا يشعرن براحة نفسية ولا جسمية، فهن يتعبن أثناء لبسها، ولا يهنأ لهن بال لا في قيام ولا في قعود، كما أن لها أضراراً صحية يقول الدكتور وجيه زين الدين: "إن الملابس الضيقة لا تخلو من أضرار منها ما قد تسببه من حساسية الجلد والضغط على الأحشاء الداخلية"(18)، وهذا اللباس ليس بساتر للمرأة؛ بل هو مبرز لمفاتنها.... ومغر بها من رأها، وشاهدها حتى ولو كانت تلبس هذه الملابس بين النساء، يقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى -: " الذي أراه أنه لا يجوز للمرأة أن تلبس مثل هذا اللباس ولو أمام المرأة"(19) والتي تلبس هذه الملابس متوعدة بالعذاب فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "صنفان من أهل النار لم أرهما وذكر منهما: ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا كذا"(20)، فالكاسيات العاريات هن اللاتي يسترن بعض أجسادهن، ويكشفن بعضه الآخر.
الحادي عشر: اللهث وراء الموضة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله - تعالى - جميل يحب الجمال"(21) والجمال والزينة من نعم الله - تعالى -على عبده، والمرأة بطبيعتها مفطورة على حب الزينة قال الله - عز وجل -: " أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين 18 " الزخرف: 18}، والمرأة المتزوجة مشروع لها أن تتزين لزوجها بما أباح الله لها من وسائل زينة، يقول النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: "خير النساء التي تسره إذا نظر... "(22)، هذا هو الأصل فما هو واقع النساء اليوم من الزينة؟ واقع كثير من النساء زيادة الاهتمام والمبالغة في هذا الأمر حتى خرج عن الإطار الشرعي، وأصبح لديهن تقليد أعمى لكل ما هو وارد من الغرب، بل إن بعضهن فقن النساء الغربيات في ذلك، فضاعت هوية المرأة المسلمة، فأضحت لا هم لها إلا متابعة كل جديد في عالم عمليات التجميل؛ اعتقاداً منها أن الجمال الجسدي هو الجمال المطلوب والمنشود، مع أنه في الحقيقة جمال زائف مرهون بفترة عمرية، محدودة. ومن أسباب هذا اللهث خلف الموضات والتعليقات والمديلات سواء في الملابس أو الأصباغ أو قصات الشعر القنوات الفضائية بما يعرض فيها من برامج مخصصة لذلك، وبملاحقتها لكثير من الساقطات من مغنيات وممثلات وجعلن قدوات للفتيات المسلمات فيقلدنهن في قصات الشعر وموضات اللباس وغيره، وقد أفادت إحدى أخصائيات التغذية: "أن عمليات التجميل انتشرت وعمت بشكل ملحوظ وأشارت بأصابع الاتهام إلى القنوات الفضائية في هذا الانتشار المريع"(23).
لقد كثرت وانتشرت المراكز الطبية التي تهتم بعمليات التجميل للمرأة من: تصغير الأنف، وشد الصدر، وشفط الدهون من البطن، ونفخ الشفاه، ورفع الحواجب، وشد الوجه والرقبة، وعلاج القوام، تاتو (وضع مكياج دائم) وغير ذلك من تغيير خلق الله - عز وجل -، والعبث بأجساد المسلمات، واستنزاف الأموال الطائلة عليه.
إن لهذه العمليات أضراراً كثيرة من أهمها:
1- أن من تلجأ لعمليات التجميل بدون ضرورة لذلك كإزالة عيوب خلقية أو تلك الناتجة عن حادث معين، فهي تعبر عن نفس غير راضية بالقضاء والقدر فإن هذا الشكل الذي خلقت عليه المرأة هو قضاؤها وقدرها، وبالتالي فالواجب عليها الرضا بالقضاء والقدر؛ لأن ذلك ركن من أركان الإيمان.
2- صرف الأموال الكثيرة فيها حيث تكلف بعض العمليات عشرات الآلاف من الريالات، وهذا من الإسراف المنهي عنه، قال الله - تعالى -: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 31 صلى الله عليه وسلم الأعراف: 31}.
3- المخاطر الصحية لبعضها يقول د. صبري السعداوي مبارك عن أخطارها: "يترتب عليها أخطار عظيمة كحدوث السرطانات والأورام الخبيثة، والتشوهات عند البعض عاجلاً كان ذلك أم آجلاً".
4- في بعضها شيء من تغيير الخلقة الأصلية، وهذا من إغراء الشيطان، قال الله - عز وجل -: " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله 119 " النساء: 119}.
5- اطلاع الطبيب الرجل على أجزاء من جسد المرأة حسب موضع العملية بدون ضرورة، فقسم التجميل يضم قسمي الجلدية والجراحة، ومن الملاحظ أنه في قسم الجراحة قلما توجد طبيبة فمعظمهم أطباء.
6- الإطلاع على العورة المغلظة للمرأة في عمليات إزالة الشعر من جميع أجزاء الجسد(24)، وهذا محرم لا يجوز.
الثاني عشر: إقامة الحفلات الغريبة:
إلى وقت قريب جداً كان الاحتفال مقتصراً على عيدي الفطر والأضحى وحفلة الزواج، ولكن ظهر في مجتمعنا الاحتفال بالعديد من الحفلات التي لا تمت لديننا وعاداتنا وقيمنا بصلة، من أبرزها:(4/95)
حفلات الديجة: التي تقام في البيوت، وأحياناً في الاستراحات، وروادها من الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 15-30 عاماً، تقيمها الفتاة بمفردها أو تشترك مجموعة من الفتيات في إقامتها، على أن تدفع كل واحدة قسطاً محدداً من المال، تبدأ في ساعة متأخرة من الليل لا تقل بحال من الأحوال عن الساعة العاشرة مساءً، وتستغرق ما لا يقل عن خمس ساعات، اللباس السائد فيها الجينز، الحفلة راقصة بالدرجة الأولى؛ حيث يستأجر عامل أو عاملة لتشغيل اسطوانات غنائية معينة: ديسكو: و لا تغلق الموسيقى أبداً والفتيات يرقصن عليها. ومما ذكر عن هذه الحفلات يتبين اشتمالها على جملة من المنكرات منها:
1- التبذير وصرف الأموال بلا وجه حق، بل تصرف في أمور محرمة.
2- ما تحويه من غناء وموسيقى محرمة.
3- التبرج والتفسخ واللباس العاري الذي تلبسه المدعوات.
4- التصوير للنساء المدعوات.
5-السهر حيث تمتد الحفلة إلى ساعات الصباح الأولى(25).
6- التشبه بالكفار، فمثل هذه الرقصات مأخوذة من الغرب.
من أين جاءت فكرة هذه الحفلات المنكرة التي لم يكن لمجتمعنا عهد بها حتى وقت قريب؟ لقد جاءت من القنوات الفضائية.
الثالث عشر: عدم الالتزام بالحجاب الشرعي:
الحجاب الشرعي هو غطاء الوجه الساتر، والعباءة الفضفاضة التي توضع على الرأس من أعلى، لكن هذا الحجاب تغير، وأصبح حجاباً سافراً متبرجاً، فغطاء الوجه خفيف شفاف، أو به فتحات كبيرة تسمى نقاباً تفتن أكثر مما تستر، والعباءة أصبحت مزركشة مطرزة تلبس على الأكتاف، وبعض النساء تغطي وجهها ولكنها تمشي في الأسواق والطرقات وكأنها في صالة عرض لجسمها. مع أن الواجب عليها شرعاً ستر جميع محاسنها، ومن أهم ذلك الوجه يقول الله - عز وجل -: " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن 53 " الأحزاب: 53}، ويقول - سبحانه وتعالى -: " يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما 59 " الأحزاب: 59}.
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله تعالى -: "أمر الله - سبحانه - جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك" (26)، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزونا كشفناه"(27) يقول فضيلة الشيخ ابن عثيمين: " ففي قولها فإذا حاذونا تعني الركبان سدلت إحدانا جلبابها على وجهها دليل على وجوب ستر الوجه"(28)، لقد تساهلت النساء بالحجاب الشرعي بعد وجود القنوات الفضائية التي تشجعهن على السفور والتبرج؛ ولهذا كثرت مناظر السفور عند نسائنا بعد وجود هذه القنوات.
إن غالب ما يعرض في القنوات الفضائية من أفلام وبرامج ومسلسلات الهدف منها "إفساد الأخلاق، وقتل العفة، ومحاربة الفضيلة... وتطبيع الرذيلة بمكر ودهاء شيطاني... إنها برامج بلا روح ولا معنى تشبه وتقليد وتبعية... لتطبيع الاختلاط، وصداقة الجنس الآخر، والرقص والضم، والتقبيل والسفور، والتبرج، وتشبه كل جنس بالآخر".
برامج وأفلام " تتسلل سمومها بهدوء بمكر وخبث ليصل الفساد أولاً للمظاهر، لتتأثر ثانياً الأخلاق والسلوكيات، ثم تفسد ثالثاً الأفكار والمعتقدات... لقد كان شعار المنافقين: أفسدوا الأفكار تفسد الأخلاق: فلما فشلوا باختراق الأفكار أولاً نكسوا شعارهم فقالوا: أفسدوا الأخلاق أولاً تفسد الأفكار، فتهيأت لهم الفرصة السانحة عبر البث الفضائي، فهل بعد هذا نعطي مثل هذه القنوات المفسدة فرصة انتهاك حرمة بيوتنا"(29) وتشويش عقول نسائنا؟ نحن اليوم بعد أكثر من عقد من الزمن من ظهور القنوات الفضائية في بلادنا ماذا كانت النتيجة وما هو الحصاد؟ إن الواقع يشهد بوضوح لا غبار فيه أن طائفة من نساء المسلمين غُربن في أفكارهن وسلوكهن.
لقد أدرك بعض عقلاء الغربيين خطورة ما يعرض على الشاشات على القيم والأخلاق، فدعوا إلى ضبط مسار ما يعرض فيها، ولكن هذه الأصوات الضعيفة القليلة ضاعت وسط السعار المحموم، وعبودية الشهوات، واستعباد المرأة. اللهم إني أسالك أن توفق نساءنا وأولياء أمورهن لإدراك مخاطر وأضرار القنوات الفضائية عليهم وعليهن وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- أخرجه أبو داود.
2- أخرجه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: 3833.
3- أخرجه أحمد وابن خزيمة وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: 3311.
4- متفق عليه.
5- متفق عليه.
6- تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج3 ص 483.
7- أخرجه الترمذي وصححه الألباني برقم 936 في صحيح الترمذي.
8- متفق عليه.
9- مجلة أسرتنا العدد: 37.
10- مجلة أسرتنا العدد: 37.
11- متفق عليه.
12- أخرجه أحمد والترمذي.
13 - متفق عليه.
14- أخرجه مسلم.
15- أخرجه البخاري.
16- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ السعدي ج4 ص 14
17- مجلة الدعوة العدد: 1519.(4/96)
18- زينة المرأة للشيخ- عبد الله الفوزان ص 35.
19- الفتاوى الجامعة للمرأة المسلمة 3: 855.
20- أخرجه مسلم.
21- أخرجه مسلم.
22- أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: 3298.
23- مجلة أسرتنا العدد: 49.
24- المصدر السابق.
25- مجلة أسرتنا العدد: 35.
26- حكم السفور والحجاب لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - ص 7.
27- أخرجه أحمد وأبو داود.
28- رسالة الحجاب لفضيلة الشيخ محمد ابن عثيمين - رحمه الله - ص 18.
29- مجلة أسرتنا العدد:47.
http://jmuslim.naseej.com المصدر:
=============(4/97)
(4/98)
قمة الثماني أيدت الخطة والناتو ترفضها
الشرق أوسطية مطلب صهيوني ومصلحة أمريكية
رجب الباسل
- د.حسن أبو طالب:أمركة المنطقة ستكون قسراً وطوعاً.
- د.هيثم الكيلاني: الضعف العربي ساعد أمريكا على فرض تصوراتها علينا.
- د. أحمد يوسف أحمد: الطابور الخامس الأمريكي الخطر الأكبر على أمتنا.
- د. عبد الله خطاب: المصلحة الصهيونية والأمريكية الهدف الأكبر للشرق أوسطية.
- د. عمرو عبد الكريم: صفقة غير مكتوبة تمت في قمة الثماني مع الأنظمة الحاكمة.
- عادل الأنصاري: العقيدة تلعب دوراً لا يمكن إغفاله في الهجمة الأمريكية على المنطقة.
انعقدت خلال يومي 6 ـ 7/6/2004م إحدى أهم قمم الثماني من حيث تأثيرها، وانعكاساتها على الوضع في العالم الإسلامي أو الشرق الأوسط الكبير وفقاً للمصطلح الأمريكي الجديد.
حيث تبنت القمة مبادرة الرئيس الأمريكي وخطته للشرق الأوسط الكبير التي تقوم على ثلاثة أركان هي: «التعليم، والإصلاح الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص، وتقوية المجتمع المدني». وهي عناوين براقة لأهداف خبيثة تستهدف تغيير ثقافة المنطقة إن لم يكن عقيدتها تحت دعوى الإصلاح التي تحتاجها المنطقة بالفعل، ولكن ليس وفقاً للأجندة الأمريكية.
فإصلاح التعليم الذي تطلبه الإدارة الأمريكية يهدف إلى تغيير المناهج بإلغاء كل ما يتعلق بمفاهيم الجهاد والمقاومة والعداء للمشروع الصهيوني، وتغيير وضع المرأة في المجتمعات العربية بمنحها مزيداً من الحرية وخاصة في الشأن الاجتماعي والشخصي برفع سن الزواج وتشجيع العلاقات الجنسية خارج النطاق الشرعي، وإلغاء القوانين المقيدة لذلك، وتوفير مِنَحٍ للطلاب لاستكمال تعليمهم في الولايات المتحدة وفي الجامعات الأمريكية الموجودة في المنطقة وفقاً لمنظومة التعليم الأمريكية.
ولقد تراجعت الإدارة الأمريكية فعلاً عن مبدأ فرض الإصلاح السياسي على الأنظمة، وتبنت مقابل ذلك مبدأ الشراكة مع العرب، وهو ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكية (كولن باول) في الاجتماع التحضيري لقمة الثماني الذي عقده وزراء خارجية هذه الدول الصناعية الكبرى في 14/5/2004م «أن وزراء الخارجية قد ناقشوا مبادرة للعمل من خلال الشراكة مع الحكومات ومجتمع رجال الأعمال والمجتمع المدني في الشرق الأوسط من أجل مساعدة عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي من خلال برامج قائمة بالفعل، وبرامج جديدة على حد سواء».
أفكار سابقة:
لم تكن مبادرة الرئيس الأمريكي (بوش) لشرق أوسط جديد ـ التي تبنتها قمة الثماني ـ هي الأولى؛ فقد سبقها عدة اقتراحات للشرق الأوسط تهدف إلى حماية المصالح الأمريكية في المنطقة وإدماج الكيان الصهيوني، وبدأت بمشروعات اقتصادية مثل: مشروع جامعة (هارفارد) الذي يقوم على فكرة إقامة منطقة حرة بين الكيان الصهيوني وفلسطين والأردن تبدأ بإنشاء (بنك الشرق الأوسط للتعاون والتنمية) بتمويل من البنك الدولي للدول الثلاث، ثم يتوسع ليشمل باقي المنظقة، وكذلك دراسة للبنك الدولي تقوم على تحقيق إصلاحات اقتصادية جريئة داخلية، وتحقيق تعاون إقليمي بين دول المنطقة ـ ومنها الكيان الصهيوني ـ يرتكز على الاقتصاد الحر وتوفير دعم دولي للتخفيف من عبء التكاليف الانتقالية، وتكملة الموارد المحلية.
مطلب صهيوني:
يقول الدكتور (عبد الله شحاتة خطاب) مدرس الاقتصاد بجامعة القاهرة: «ظل الكيان العبري حتى معاهدة السلام الصهيونية ـ المصرية مرفوضاً ومنبوذاً من الدول العربية والإسلامية في الإقليم المشار إليه الشرق الأوسطي، ومن ثَمَّ فإن فكرة قيام أي صورة من صور التعاون بين دول المنطقة وإسرائيل لم تلق قبولاً في العقلية العربية والإسلامية؛ لدرجة أن السلام المصري ـ الصهيوني سمي بالسلام البارد؛ حيث لم تصل حدود التعاون إلى ذلك الحد المأمول، ولم يزد حجم التبادل التجاري بين مصر والكيان الصهيوني في التسعينيات ـ باستبعاد البترول ـ عن 40 مليون دولار»، ويضيف شحاتة: «إنه في ظل الرفض العربي والإسلامي ـ الذي بدأ برفض فكرة الدولة العبرية منذ عهد السلطان عبد الحميد مروراً برفض قرارات التقسيم ظل حلم الاندماج في المنطقة العربية يراود قادة وآباء الحركة الصهيونية والكيان المستزرع وإن اختلفت الرؤى حول ماهية الاندماج في المنطقة».
مخاطر الأوسطية:
يرى الدكتور (أحمد جمال الدين موسى) أستاذ الاقتصاد بجامعة المنصورة في دراسة له بعنوان: «مشروع السلام والتمويل الخارجي للتنمية» أن أهم انتقادين لفكرة السوق الشرق أوسطية ـ أحد أهداف مبادرة الثماني ـ هما:
1 - أن الفكرة اختراع صهيوني تستهدف إنعاش الاقتصاد الصهيوني أولاً، وتمكينه بعد ذلك من ممارسة دور السيطرة والهيمنة على المنطقة كلها.
2 - أن الفكرة تقوم في نظر مؤيديها كبديل للنظام العربي؛ كما أنها جزء من خطة الولايات المتحدة لإعادة رسم الشرق الأوسط، كما أن الشرق أوسطية كذلك تطمس هوية المنطقة؛ بحيث تنزع عنها خصوصياتها العربية والإسلامية، ومن ثم تصبح محيطاً جغرافياً لا علاقة له بالإنسان، أو التاريخ.(4/99)
أما الدكتور (زكي حنوش) الأستاذ بجامعة حلب السورية في دراسة بعنوان (الشرق أوسطية والشراكة المتوسطية) فإنه يرى أن مخاطر الشرق أوسطية تكمن في أهدافها وهي:
1 - تأمين السيطرة على النفط والتحكم في أسعاره.
2 - إخماد النزاعات والصراعات الداخلية والإقليمية خاصة الصراع العربي الصهيوني وفق الرؤية الصهيونية.
3 - إعادة تعريف الدور الحيوي للكيان الصهيوني في الاستراتيجية من رديف استراتيجي لأمريكا خلال الحرب الباردة إلى وكيل تجاري وحضاري، وقوة ردع ضد الإسلام (حسب بيريز) الذي يرى أن على الغرب أن يقف وراء «إسرائيل» واعتبارها الحاجز للإسلام والواقي لأوروبا ضد زحفه وعدوانه.
4 - إعادة النظر في هندسة المنطقة لتفكيكها وربطها وفق الاستراتيجية الأمريكية الحالية؛ ومن هنا الحديث عن الانتماء الشرق أوسطي مقابل الدائرة الحضارية العربية والإسلامية.
أسباب خفية:
الخبير الاقتصادي (عبد الحافظ الصاوي) يرى أن المبادئ الاقتصادية التي تم طرحها في مبادرة قمة الثماني من أجل الإصلاح لا يجب النظر إليها في إطار اقتصادي ضيق؛ فالقضية أكبر من ذلك؛ حيث لها بُعْدٌ حضاري يسعى من خلال أطروحات الشراكة المقترحة أو المعمول بها إلى تأمين مقومات استمرار الحضارة الأوروبية وتقدمها، وتهميش مخاطر الهجرة القادمة من دول جنوب المتوسط؛ فالغرب يرى أن الكثافة السكانية العالية في العالمين العربي والإسلامي ـ خاصة جنوب المتوسط ـ مع ارتفاع نسبة البطالة إضافة لوجود خطوط الاتصال والقرب الجغرافي من أوروبا يؤدي ذلك كله إلى زيادة معدل الهجرات وتهديد الأمن الأوروبي من دول جنوب المتوسط. ويضيف الصاوي أن الدعم المقترح الذي ستقدمه مبادرة قمة الثماني هو للمشروعات الصغيرة، ولسيدات الأعمال، وللقطاع الخاص. والهدف من ذلك ـ كما يرى الصاوي ـ هو رغبة الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة في تقديم نوع من الدعم للدول العربية والإسلامية لا يصل بها إلى مرتبة الند المشارك للدول الكبرى؛ فهو دعم هام لسد الرمق ـ لمنع الهجرة والإرهاب ـ لا الوصول لحالة الشبع ومن ثم النِدِّية والقوة؛ وكلاهما مرفوض.
لماذا الشرق أوسطية؟
يقول الدكتور (حسن أبو طالب) رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي: «إن المنظور الأمريكي لتغير النظام العربي ينطلق من أن المنطقة بعيدة تماماً عن الأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية خاصة والغربية عامة، هذا الاختلاف الحضاري والقيمي تحوَّل من وجهة النظر الأمريكية بعد 11 سبتمبر 2001م إلى مصدر تهديد خطير بعد أن وفر بيئة تنتج الإرهاب والعنف والدعوة إلى الجهاد ومنازلة الحضارة الغربية، ومن ثم بات العمل على محاصرة هذا التهديد ذا أولوية قصوى، وهو ما لا يأتي إلا عبر تغيير أسس الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لأهل هذا المنطقة، وبما يترتب عليه توافق تام مع أسس الحضارة الأمريكية والغربية. وعن آليات هذا التغيير الحضاري والقيمي يقول أبو طالب: هناك نوعان من الآليات:
الأولى: آليات تغيير سلمية يمكن أن تقوم بها دول المنطقة بمفردها أو بمساعدة مباشرة من المؤسسات الأمريكية، أو بالأمرين معاً؛ وذلك لمساعدتها على إجراء التغييرات المطلوبة في نظمها التعليمية، والإعلامية، وأوضاعها السياسية، والاقتصادية على النحو الذي يتماشى مع الرؤية الأمريكية؛ وذلك بالتنسيق مع حكومات تلك الدول، وعبر المنح والمعونات، وبرامج الشراكة الاقتصادية.
الثانية: آليات غير سلمية تتمثل في عقوبات اقتصادية وضغوط سياسية متنوعة المستويات، وضغوط عسكرية عبر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بالفعل خاصة تجاه الدول العربية غير الصديقة، مثل: ليبيا، والسودان، وبدرجة أقل سوريا ولبنان.
وحول إمكانية تكرار ما حدث ضد العراق مع دول عربية أُذن لتحقيق التغيير المنشود من المنظور الأمريكي. يقول أبو طالب: «الأسلوب الهجومي لن تقتصر نتائجه على العراق وحسب، بل سيمتد إلى جيرانه المباشرين وإلى ربوع المنطقة ككل»، ويضيف أبو طالب أنه رغم أن هناك نفياً رسمياً بأن يكون العراق مجرد خطوة أولى في سلسلة طويلة من عمليات التدخل العسكري التي تستهدف دولاً أخرى إلا أن الخطاب الرسمي الأمريكي لا ينفي أن مجرد النجاح في العراق وتكوين حكومة صديقة أو بالأحرى عميلة على أن تكون ملتزمة بحسن الجوار، وإقامة نظام سياسي تعددي ديمقراطي، سيكون بداية لسلسلة من التغييرات الأخرى في المنطقة سواء عبر عملية «الانتشار التأثيري» أو وفق «نظرية الدومينو» الشهيرة.
ويرى أبو طالب أن كلمات (باول) أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأمريكي يوم 6/2/2003م الأوضح في مسألة إصرار إدارة بوش على إجراء تغييرات تتلاءم مع السياسة الأمريكية ومصالحها البعيدة والقريبة على السواء. ووفقاً (لباول) فإن الحملة العسكرية على العراق سوف تتيح لبلاده إجراء تغييرات جذرية في الشرق الأوسط، وحل المشكلة الفلسطينية، وتأمين المصالح الأمريكية في المنطقة على المدى البعيد.
الهدف المنشود:
أما التغييرات المطلوبة طبقاً للرؤية الأمريكية فهي كما يرى أبو طالب تتلخص في:(4/100)
- إطلاق عملية تغيير سياسي في معظم الدول العربية؛ حتى تكون موالية للقيم الغربية.
- إعادة صياغة التوازن الإقليمي والعربي بطريقة شاملة تبدأ باعتراف الحكومة العراقية الجديدة بالكيان الصهيوني، أو إقامة تحالف (عراقي ـ صهيوني ـ أمريكي) وهو الأمر الذي سينطوي على تغيير شامل في منظومة العلاقات العربية والإقليمية معاً للتمهيد عملياً لإقامة النظام الشرق أوسطي بديلاً للنظام العربي.
- إتاحة المجال أمام تطبيق التصورات الأمريكية الخاصة بإعادة هيكلة العراق وفقاً للنموذج الألماني والياباني (المركز العسكري الأمريكي طويل المدى).
- تحول العراق إلى قاعدة نفوذ أمريكي من الدرجة الأولى للضغط على الدول العربية الأولى.
- تسوية القضية الفلسطينية وفقاً للرؤية الأمريكية والصهيونية.
- ضمان السيطرة على النفط العربي والضغط به على الدول الأخرى.
لماذا الآن:
الخبير الاستراتيجي السوري (د. هيثم الكيلاني) يرى ملامح الخارطة الأمريكية الجديدة للشرق الأوسط والمتمثلة في إدماج الكيان الصهيوني في المنطقة، والتي بدأت بمؤتمرات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في (الدار البيضاء 1994م وعمان 1995م والقاهرة 1996م والدوحة 1997م) وكذا تقويض النظام الإقليمي العربي المتمثل في الجامعة العربية ـ يرى أنها جاءت في هذه المرحلة لعدد من العوامل أهمها:
1 - مضى أكثر من 85 عاماً على آخر خريطة للمنطقة (سايكس ـ بيكو) التي كانت بين بريطانيا وفرنسا.
2 - الوضع العربي الراهن الضعيف يجعل البيئة مناسبة لطرح مشروع الخارطة الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط؛ إضافة للثروة العربية (النفط ـ الغاز).
لماذا المسلمون؟
أما عن أسباب الاستهداف الأمريكي للمنطقة عسكرياً وسياسياً؛ فإن الكاتب الصحفي المصري (عادل الأنصاري) يرى أن بين الأسباب التي كانت وراء الرغبة الأمريكية في طرح الشرق الأوسط الكبير.. هي إخفاق الأنظمة العربية التي عول عليها النموذج الأمريكي الكثير في تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة العربية والإسلامية على الوجه الأمثل، ومن أبرز ملامح هذا الإخفاق:
- عدم القدرة على تحقيق الأمن الكامل للكيان الصهيوني، وقد بدا هذا واضحاً في عجز الأنظمة العربية عن إبرام اتفاقيات سلام حقيقية وفاعلة مع الكيان الإسرائيلي تتسم بصفة الشعبية والجماهيرية.
- عدم قدرة الأنظمة العربية على إقناع شعوبها بضرورة ووجوب قبول الكيان الإسرائيلي في المنطقة؛ ليس فقط من خلال اتفاقيات وتعايش سلمي، ولكن من خلال إعادة هيكلة المنطقة في صورتها الجديدة التي تقود قاطرتها دولة الكيان الإسرائيلي.
- تفوق المشروع الثقافي الإسلامي على المشروع العلماني على المستوى الشعبي بصورة واضحة رغم عمليات الإجهاض المستمرة على كافة المستويات من قِبَل الأنظمة الحاكمة، ورغم التغاضي الهائل عن الانتهاكات الشاسعة والواسعة لحقوق الإنسان من جانب الولايات المتحدة، ورغم هذه الانتهاكات من جانب الأنظمة، والتغاضي من الجانب الآخر؛ فإن التأييد الشعبي للمشروع الإسلامي أصبح لافتاً للنظر ومتعاظماً على الاحتواء.
- ازدياد الهواجس لدى الولايات المتحدة من عدم القدرة على الحفاظ على الثروات البترولية العربية الهائلة بما تشكله من احتياطات كبيرة.
- بروز بعض المطامع الشخصية لدى بعض الأنظمة العربية، ومن أبرزها أطماع النظام العراقي السابق في الاستيلاء على الكويت.
- عجز الأنظمة العربية عن القضاء على البيئة التي ينمو فيها فكر العنف المسلح، رغم نجاح بعض الأنظمة العربية في كبح جماح هذه الجماعات ذات المرجعيات الإسلامية؛ وهو الأمر الذي وصل إلى خروج الأمر عن السيطرة لتتطور الأحداث وتصل إلى قمتها مع أحداث 11 سبتمبر 2001م.
ويضيف الانصاري: إزاء معركة حقيقية تستهدف الهيمنة الاستعمارية على بلادنا العربية والإسلامية وامتصاص ثرواتها وتحقيق أقصى فائدة ممكنة من إمكاناتها ومقدراتها، وهي معركة تلعب العقائد فيها دوراً لا يمكن إغفاله من خلال:
- قناعات فكرية لدى طائفة وجدت لها مكاناً في مقدمة المعركة داخل الإدارة الأمريكية.
- حافز معنوي لمعارك استعمارية تستهدف تحقيق استفادة لقطاعات رأسمالية داخل المجتمع الأمريكي، وتفتقد إلى الشرعية الدولية والأسس الأخلاقية؛ لذا يطفو على السطح الحافز الديني ليملأ فراغاً.
- مخاوف من طبيعة العقيدة الإسلامية التي ترفض الخنوع، وتفهم عبادة الله على أنها تتنافى مع عبادة وطاعة مَن سواه.
- خلاف فكري مع معطيات الشريعة الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بالمعاملات.
- رفض الشعوب الإسلامية لهيمنة أي دولة غير إسلامية؛ إدراكاً منها أن الهيمنة الاستعمارية تنطوي على تراجع ثقافة وعقائد البلاد الواقعة تحت الاحتلال أو الاستعمار لحساب ثقافة المستعمر، وهي معادلة طبيعية ومنطقية.
- معركة استعمارية تستهدف الحفاظ على السيطرة الأمريكية على العالم بعد الفراغ من كتلة رئيسية تملك من المقومات العقائدية الثقافية ما يدفعها إلى رفض الهيمنة والاستعمار.(4/101)
- إن البلدان العربية والإسلامية هي الحلقة الأكثر خطورة في طريق الولايات المتحدة لقيادة العالم؛ فرغم إمكانية احتواء هذه المنطقة من خلال أنظمة ديكتاتورية يمكنها أن تقمع شعوبها لتذليل العقبات وتحقيق المصالح الأمريكية؛ فإن الواقع يؤكد أن هناك صعوبات بالغة تكتنف إقناع الشعوب بهذه الهيمنة الاستعمارية واستمرارها.
- إن أوروبا تشعر أنها والولايات المتحدة جزء من حضارة واحدة، وإن تباينت المصالح أحياناً، إلا أنهما في نهاية المطاف يتفقان بصورة كبيرة.
- معطيات الواقع تؤكد أن الهيمنة الأمريكية بصورتها الشاملة لا تستثني قُطراً أو دولة من الدول في المنطقة، وأنها ترشح عدداً من الدول العربية والإسلامية للغزو المباشر، بينما ترشح دولاً أخرى للغزو بالوكالة من خلال دول أخرى، وتفرض وجودها من خلال القواعد العسكرية على بعض البلدان دون معارضة من أولي الأمر في تلك البلدان، ودون حاجة إلى غزو عسكري. أما ما تبقى فربما تتراجع أهميته الاستراتيجية أو تقل المخاوف منه، إلا أن الجميع مشمول بالهيمنة الثقافية والفكرية والأخلاقية كإجراء وقائي يضمن عدم الخروج من بيت الطاعة الأمريكي.
رؤية أوروبية:
أما الكاتب الفرنسي (إيمانويل تود) في كتابه «بعد الإمبراطورية» الذي صدر عام 2002م؛ فإنه يرى أن سبب الاستراتيجية الأمريكية للمنطقة «يعبر عن تخوف من إقصاء أكثر منه قدرة على توسيع الإمبراطورية، ويكشف قلق أمريكا أكثر مما يعبر عن قوتها؛ فالتركيز على العالم العربي يفسر أساساً بضعف هذا الأخير الذي يفتقر إلى وجود دولة قوية فهو بطبيعته كبش فداء؛ وعليه فالعالم العربي يعد مسرحاً لاستعراض قوة أمريكا التي بمقدورها أن تحقق فيه انتصارات تذكر سهولتها بألعاب الفيديو؛ فالعرب يعامَلون بسوء؛ لأنهم ضعفاء، ولأن لديهم النفط، ولأنه لا يوجد لوبي عربي فعال في اللعبة السياسية الداخلية الأمريكية».
فأمريكا طبقاً لـ (تود) دخلت مرحلة انكشاف القوة والتحول التاريخي من قوة عظمى إلى قوة كبرى وتفكك النظام الأمريكي؛ حيث أصبحت أمريكا بحاجة إلى العالم أكثر من حاجة العالم إليها.
ويؤكد أن «أمريكا لم تعد الأمة الكبرى كما كانت في السابق؛ وأن نظامها الديمقراطي في أزمة، ولذا فهي تحاول أن تحافظ، على هيمنتها، وشرعيتها وتسوِّغ ذلك باستهدافها بلداناً قليلة الأهمية اقتصادياً وعسكرياً؛ فلذلك يمكن أن نفهم أسباب الاحتلال الأمريكي للعراق طبقاً لـ (تود): «لقد قفز العجز التجاري الأمريكي من 100 إلى 450 مليار دولار سنوياً، ولم تعد أمريكا قادرة على العيش من إنتاجها وحده».
ويضيف (تود): «إن الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط وسياستها حيال العراق وإيران لا تستهدف التحكم في الطاقة الموجهة لأمريكا ـ وإن كانت حاجتها إليها في تزايد ـ وإنما الموجهة للعالم خاصة أوروبا واليابان».
صفقة غير مكتوبة:
يقول الدكتور (عمرو عبد الكريم) الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية: «إن ما تم في قمة الثماني صفقة غير مكتوبة بين الدول الصناعية الكبرى والأنظمة في المنطقة العربية والإسلامية راعت القمة بموجبها تحقيق مصالحها في المقام الأول؛ حيث تنازلت القمة عن شرط الإصلاح السياسي ـ الذي يغضب الأنظمة، ويمكن أن يجعل الإسلاميين بديلاً محتملاً لها ـ مقابل التزام الأنظمة الحالية بالاستجابة لمقررات القمة خاصة في مجالات التعليم والمرأة والانفتاح الاقتصادي.
ويضيف د. عبد الكريم أن الطرح الرائج حالياً أنه إذا حدث انفتاح سياسي في المنطقة العربية والإسلامية فإن النتيجة المتوقعة هي وصول الإسلاميين للحكم في أغلب دول تلك المنطقة، وهو الأمر الذي يعني أن هؤلاء لن يحموا مصالح الغرب في بلادهم، والغرب من جانبه ـ وعلى رأسه الولايات المتحدة ـ يهمهم مصالحهم في المقام الأول وليس الديمقراطية؛ فالطرح الأمريكي هنا للإصلاح ـ الكلام لعبد الكريم ـ أساسه مصلحي وليس مبادئياً؛ بمعنى أن المصلحة هي الأساس في طرح مبادرة الإصلاح وليس المبادئ.
فالإصلاح تم طرحه للتنفيس عن الشعوب للخروج من حالة الاحتقان السياسي والاقتصادي التي تعانيها المنطقة؛ ولمنع انفجاره باتجاه الغرب في شكل هجرات غير شرعية وإرهاب من جانب، ومن جانب آخر استخدام هذه المبادرة كـ (فزَّاعة) للأنظمة في المنطقة للضغط عليها لتحقيق ما تريده الولايات المتحدة؛ والهدف في النهاية ليس الإصلاح، ولكن إعادة رسم خرائط المنطقة سياسياً وجغرافياً وقيمياً بما يحقق مصالحها.
وحول أدوات تلك المبادرة يقول د. عبد الكريم إن الولايات المتحدة تستخدم الأمم المتحدة كأداة من أدوات تحقيق أهدافها؛ وذلك للترويج لمنهج الحياة الأمريكي بأنه ينبغي أن يسود؛ فبعدما كان هذا المنهج طبقاً (لبوش الأب) في قمة (ريو دي جانيرو) عام 1992م مبادئ غير قابلة للتفاوض فإنها بعد أحداث 11 سبتمبر ومع (بوش الابن) أصبحت منهجاً مفروضاً ومعياراً يتم القياس عليه والعودة إليه.
ما العمل؟(4/102)
يرى (الأنصاري) أن الأمة العربية والإسلامية بحاجة للقضاء على التخلف الإيماني ببث روح الإيمان والجهاد في النفوس، وكذا على التخلف في مجالات المعرفة والتقنية والإعلام، ولكن على أسس إسلامية نابعة من عقيدتنا وهويتنا الإسلامية.
أما الدكتور (أحمد يوسف أحمد) مدير معهد البحوث والدراسات العربية فيرى أن هناك عدداً من الخطوات يجب اتخاذها تبدأ بضرورة التحليل الموضوعي الأمين لما جرى في العراق، ثم التصدي الحازم للحرب النفسية الراهنة ضد الأمة، وكذا ضرورة التصدي الحازم للوبي الأمريكي في الوطن العربي أياً كانت الأشكال التي يتخذها والمنابر التي يطل علينا منها؛ حيث بشروا بالتفوق الأمريكي الساحق على العراق قَبْل الحرب كسراً لإرادة المقاومة، والآن يشغلون أنفسهم بمتطلبات الحرب النفسية ضد ما بقي من إرادة الأمة والترويج للمستقبل الأمريكي للوطن العربي الذي يزعمون أنه مستقبل ديمقراطي مزدهر سياسياً واقتصادياً. ويضيف أحمد أنه يجب أيضاً ممارسة أقصى قدر من الضغوط على النظم العربية الحاكمة من أجل رفع مستوى أدائها إلى السقف الممكن، والتصدي للهجمة الواضحة على الجامعة العربية، والنظر فوراً في تفعيل النظام العربي غير الرسمي (الشعبي) والسعي إلى بناء الجسور مع القوى المناهضة للعدوان مع العمل على مواجهة ثقافة الهزيمة بثقافة المقاومة.
مقررات قمة الثمانى
بدأت قمة الثماني يوم 6/6/2004م ولمدة يومين بالولايات المتحدة الأمريكية بحضور رؤساء دول وحكومات (الولايات المتحدة ـ بريطانيا ـ فرنسا ـ كندا ـ روسيا ـ إيطاليا ـ اليابان ـ ألمانيا) وبدعوة رؤساء وملوك دول (أفغانستان، الجزائر، البحرين، الأردن، تركيا، اليمن، العراق).
تبنت القمة مبادرة بعنوان (مبادرة من أجل التقدم والمستقبل المشترك مع الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا).
وافقت الدول الثماني على:
- تأسيس «منتدى من أجل المستقبل» سيجمع معاً في منتدى واحد وزراء الدول الثماني ودول المنطقة للشؤون الخارجية، والاقتصاد، ووزراء آخرين من أجل مناقشات منتظمة حول الإصلاح، مع قادة أعمال ومجتمعات مدنية مشتركة في حوار مواز. وسيعقد الاجتماع الافتتاحي للمنتدى في خريف عام 2004م.
- تبني «خطة دعم» تقدم مساعدة عبر مبادرات جديدة:
- حوار مساعدة ديمقراطية يجمع بين مؤسسات ديمقراطية، ومجموعات مجتمع مدني، وحكومات من الدول الثماني والمنطقة، ودول أخرى لترويج وتقوية المؤسسات الديمقراطية، وتنسيق واقتسام معلومات عن برامج حول الديمقراطية، وتدشين برامج جديدة حول الديمقراطية.
- مبادرة تمويلات صغيرة لتمكين أكثر من مليوني شخص من تنفيذ مشاريع تجارية حرة.
- مبادرة التعليم بما في ذلك تدريب فريق من 100، 000معلم بحلول عام 2009م.
- مبادرة تدريب أصحاب الأعمال الحرة لمساعدة ما يصل إلى 250، 000 مغامر في الأعمال، خصوصاً النساء، وتوسيع فرصهم للتوظف.
- مرفق لتنمية المشاريع الخاصة في مؤسسة التمويل الدولي لاستثمار مبلغ 100 مليون دولار في تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة الحجم.
- شبكة من الصناديق المالية لتنسيق عمل مؤسسات التنمية والمؤسسات المالية الدولية العاملة في المنطقة.
- فريق عمل خاص للاستثمار لمساعدة جهود المنطقة لتحسين جو الأعمال.
- دعم جهود المنطقة لتعزيز حرية التعبير والفكر والعقيدة، ولتشجيع وسائل إعلام مستقلة، بما في ذلك: رعاية التبادلات والتدريب والمنح الدراسية للصحفيين، وتشمل نشاطات مجموعة الثماني.
جمادى الآخرة 1425هـ * يوليو / أغسطس 2004م
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
=============(4/103)
(4/104)
ماذا تريد المنظمات الأجنبية من المرأة المسلمة في شمال نيجيريا ؟
الخضر بن عبد الباقي محمد
تتعرض الأسرة المسلمة في نيجيريا اليوم أكثر من أي وقت مضى لحروب فكرية شرسة ومدروسة لإحداث بلبلة فكرية أولاً، ومن ثم اضطراب في المفاهيم، وكلها ترمي للقضاء على القيم الإسلامية في البلاد، تلك المحاولات تستهدف المرأة المسلمة وعلى التحديد في المناطق الشمالية التي حققت فيها الصحوة الإسلامية مكاسب كبيرة في السنوات الأخيرة، وتأتي المنظمات الأجنبية والجمعيات غير الحكومية كإحدى محكات تلك الحروب نظراً لما تقوم به وتسوّق له من أفكار لا تخرج في جوهرها عن نمط وأشكال الدعوات إلى الإباحية والرذيلة في البلاد، وللأسف- بأسلوب مموّه وبطريقة قذرة قد لا ينتبه إليها أو يدرك مغزاها ودلالاتها العميقة إلا القلة، ترفع هذه المنظمات شعارات براقة جذابة، وتخفي بداخلها جرثومة فتّاكة من دون إثارة الضجيج. إنها بذلك تنقل السموم الغربية والقيم النصرانية المتناقضة لقيم الإسلام بزعم أنها جاءت تستبدل بالتخلف العلمية والتقدم، وتقتل الظلام بالنور الساطع القادم مع الحضارة الغربية.
الخطوط العريضة لهذه المحاولات الخبيثة لا تكاد تختلف عن دعوات سابقة لتحرير المرأة، بل تؤكد الأدبيات الخاصة للجمعيات العاملة في هذا المجال على أن مسألة تقوية المرأة بإعادة الحرية الكاملة لها، من خلال امتلاك إرادة حرة في اتخاذ قراراتها بعيدة عن سلطة الرجل أو الأسرة، وهذه واحدة من الغايات الأسمى التي تهدف إليها تلك المنظمات، بل تعتبر تحقيق ذلك "انتصاراً لقيم الحرية على السلطوية والقهر".
ولسنوات دأبت على تشجيع إدانة ممارسات رجعية على حد زعمها- مثل تعدّد الزوجات، الزواج القسري أو الزواج المبكر، وسعت من خلال التركيز على هذه الأبعاد الحساسة ثقافياً إلى جذب انتباه سلطات محددة، وتتبع منطق الاستفادة السريعة في الانتشار داخل الحياة العامة في نيجيريا وفي داخل عدد من الدول والمجتمعات الأفريقية، وتكثف عملها على إبراز سوء أوضاع النساء من مختلف الأبعاد والتي تمثل نقاط الصدمة للغرب، الشيء الذي يمكن أن يجلب أو يدرّ تمويلاً ومساعدات كبيرة من المؤسسات الغربية المعنية بالقضية.
لماذا شمال نيجيريا؟
جاء اهتمام هذه المنظمات الأجنبية بمناطق شمال نيجيريا بشكل أكثر وضوحاً وتركيزاً من أي وقت مضى، ولعل هذا التركيز لم يكن قد جاء اعتباطا أو مصادفة من حيث التوقيت الزمني أو حتى المكاني بالطبع، فعلى الرغم من أن المحاولات والجهود التي تبذلها تلك المنظمات الناشطة في هذا الاتجاه قد انطلقت منذ فترة ليست بقصيرة، إلا أن تكثيف المناشط والبرامج قد جاء في وقت تصاعدت فيه مظاهر الانبعاث الديني أو الصحوة الإسلامية والمتمثلة في إعلان بدء عدد من الولايات النيجيرية في تلك المنطقة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وجاءت موجة انتقادات شديدة منها باتهامها بمصادرة حريات المواطن خاصة النساء، والتي ترى على حد زعمها "أنهن أكثر تضرراً من تطبيق الشريعة الإسلامية، وأكثر من وقع ضحايا أحكامها، لا سيما في قضايا الأحوال الشخصية أو القضايا الجنائية".
وقد شهدت مناطق شمال نيجيريا تنامي ظهور وانشاء المنظمات والمراكز الجديدة العاملة في مجال المرأة وشؤونها بطريقة أكثر لفتاً للانتباه والاهتمام حسب ما تشير إليه التقارير و الكتابات الأكاديمية المعنية بالشؤون الاجتماعية في تلك المناطق، فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك: مراكز الحق في الصحة(Cente r s fo r the r ight to Health) وامتدت تلك التطورات لتشمل مجال القانون مثل: مركز تنمية المصادر والأبحاث القانونية(Legal r esou r ce and r esea r ch Development Cente r ) والذي يولي اهتماماً كبيراً بالجوانب القانونية وتوفير خدمات واستشارات قانونية للمرأة؛ لإنجاح مشروع دعم وتقوية المرأة وتحريرها من السلطوية الأسرية أو الدينية كما يزعم هؤلاء، وقد كان الذراع الطولى والسند الكبير لدعم هذه الدعوات والأفكار الوكالات والمنظمات الدولية اللا حكومية؛ إذ تؤمن للنشطاء في هذا الاتجاه مساعدات مالية ومصادر تمويل دائمة.
وقد أكدت البحوث العلمية الأكاديمية حدوث حالة تدنٍ في مستوى الذوق العام وظهور ممارسات سلوكية في الوسط الاجتماعي، وحملت بعضها مسؤولية انتشار ظواهر سلبية في المجتمع الشمالي المسلم المحافظ، ويشير الدكتور محمد ثالث الشيخ أستاذ التربية في جامعة بايرو في مدينة كانو في بحث له عن (دور الجمعيات والمنظمات اللا حكومية في إفساد المرأة في شمال نيجيريا) إلى التأكيد على ظهور حالات انحراف سلوكية بين النساء والشباب بالفعل؛ لأسباب ودوافع مختلفة، من بينها ما تنشره تلك الجمعيات من معلومات بالتركيز على مفاهيم مرتبطة بقضايا الجنس والغرائز والمراهقة.(4/105)
كما أنها باتت تنخرط بشكل كبير في أوجه مناشط المجتمع المدني بجميع أشكالها، وأصبحت تجذب أعداداً هائلة في الأوساط النسائية، بدعاوٍ ومزاعم شتى، كدعوى (إصلاح حياة المرأة والعمل أو النضال للرفع من مستواها المعيشي والدفاع عن حقوقها المهضومة)، ورفعت شعار إطلاقها من القيود المفروضة عليها من الأعراف والتقاليد والقيم الدينية الموروثة.
من ناحية أخرى، نلاحظ أن أغلب تلك المنظمات إن لم تكن جميعها كانت تنطلق من مبادئ الفكر العلماني، فهي لا تهتم أو تعتني بالقيم الروحية، ولا الالتزام الديني فضلاً عن القيم الأخلاقية؛ فلا مجال للحديث عندها عن قضايا قيمية مثل: الشرف والعفة والطهارة والنقاء في الجانب المادي أو المعنوي، فلا تحث على النكاح الحلال، ولكنها تدعو وتشجع على ضرورة إطلاق العنان لحرية المرأة والشباب من الجنسين في إشباع الرغبة والغرائز الجنسية بأي طريقة دون التقيد بالإطار المقبول سواء في العُرف أو الشرع، علاوة على ذلك نجد أن التركيز شديد جداً على قضايا تحديد النسل؛ إذ أصبحت الشغل الشاغل على أجندة أولوياتها، وكثّفت حملاتها، وارتفعت وتيرتها خلال السنتين الماضيتين في شمال نيجيريا حول ضرورة ضبط النسل، والاهتمام بالنواحي الصحية للمرأة من خلال خطة مدروسة ومعدة بكل مكر ودهاء لتحظى بالقبول على المستوى الرسمي والشعبي تحت شعار: نحو مجتمع شمالي خالً من الأمراض، (التطعيم) الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقة بين الحكومة الفدرالية وحكومات الولايات الشمالية بسبب موقف تلك الولايات الرافض لهذا المشروع المشبوه والمشكوك فيه.
مداخل التغلغل:
عملت هذه المنظمات على استغلال الأوضاع والظروف الاجتماعية في البلاد كمدخل طبيعي للنفاذ داخل المجتمع النسوي، ولمخاطبة الرأي العام النسائي، بالضرب على أوتار وميول مرتبطة بالاحتياجات الفعلية والمشكلات التي تواجه المجتمع، وكانت من بينها إطلاق سلسلة من المشروعات والبرامج ذات الصبغة الإنسانية والخدمية، مثل (مشروع التطعيم ضد الأمراض والأوبئة)، و(مشروع المكافحة والوقاية من الإصابة بمرض فقد المناعة المكتسبة"الإيدز")، و(مشروع دعم التعليم الأساسي)، و(تأمين حياة أفضل للمرأة)، و(مشروع الصحة الإنجابية) وتتبنى الإشراف على تلك المشروعات منظمات ووكالات أجنبية غربية، مثل منظمة الصحة العالمية(Wo r ld Health O r ganizition) وتعتبر الوكالة الدولية لمشروع صحة المراهقين والمعلومات(Adolescents Health And Info r mation Agent) أكثر تلك المنظمات الدولية والأجنبية ذات قوة ونشاط ونفوذ، وهي تقدم معلومات و أرشادات ونصائح للمراهقين من الجنسين فيما يخص سبل الوقاية من الأمراض التي يمكن أن تنتج عن ممارسة الجنس، تلك المعلومات التي تصفها بأنها " معلومات ومشورات علمية لإقامة علاقة صداقة وعلاقات حب فاعلة على أساس من الثقة لتفادي أي مخاطر صحية ومشكلات في الأداء"!!
وعلى جانب آخر هناك منظمات تقدم خدمات مماثلة للسيدات، مثل منظمة صحة المرأة النيجيرية (Nige r ian Women O r ganization) صحة المرأة وإرشادات عن وسائل منع حدوث الحمل عند ممارسة الجنس هي قضايا اهتمامها، كما تعمل لتكريس عدة مفاهيم لا تخرج عن فكرة تحرير المرأة، وتعمل بالتعاون مع وكالة الولايات المتحدة الأمريكية للتنمية العالمية، والوكالات الوطنية ذات النزعة العلمانية لنشر قيم الثقافة الغربية في التعليم، مثل الدعوة إلى التعليم المختلط، والمطالبة بإلغاء حالة الفصل الموجودة في بعض المدارس، وتعمل منظمة أخرى في مجال نشر الوعي بالحقوق الديمقراطية للمرأة، مثل مشروع تقوية المرأة (Women Empowe r ment p r oject) لمساندة جميع الجمعيات النسائية المحلية في شتى المدن لنيل حقوقهن وتحقيق مطالبهن عبر المؤسسات والمنابر الديمقراطية المختلفة.
وتتّبع هذه المنظمات العديد من الوسائل للترويج لتلك الأفكار والمفاهيم، مثل: عقد ندوات ومؤتمرات، وتنظيم ورش وحلقات نقاش ودورات خاصة للنساء، تحت عناوين ومسميّات مختلفة مخفية الأهداف والمقاصد الحقيقية وراء السطور، من بينها مؤتمر المرأة في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية في شمال نيجيريا، والذي عُقد مؤخراً في مدينة أبوجا، ولم يكن مستغرباً أن يخلص في مداولاته إلى أن تطبيق الشريعة قد أضر بالمرأة النيجيرية وأعاق تقدمها وتحريرها!!(4/106)
ويبقى لنا للأمانة أن نشير إلى مسيس الحاجة إلى بذل المزيد من الجهود للتوعية والإرشاد لملاحقة هذا التغلغل والنفوذ من ناحية، وإلى ضرورة تدارك مواطن الضعف والخلل في الأوضاع الداخلية في تلك الولايات مثل: المظاهر الاجتماعية السلبية كحالة أطفال الشوارع وظاهرة التسوّل، وغيرها من الأمور التي وفّرت أرضية للطعن والتشكيك في مدى قدرة نظام ذي توجه إسلامي في ضبط الوضع على الرغم مما تزخر به خطبه وأدبياته من نظريات في الرعاية والعدالة الاجتماعية، علاوة على ذلك فإن هذه الحالة تطرح تحدياً جديداً لا تقل خطورة عن التحديات الثقافية المعاصرة التي تواجهها الأمة، وهو إشكالية عدم وجود خطاب دعوي مخطط ومنظم للمرأة الأفريقية بما يتناسب ومخاطر المشكلات التي تعيشها، أخيراً يجب أن تتم إعادة طرح جديد لفكرة التربية الجنسية في المناهج الدراسية في البلاد، بعقلية تتجاوز الهاجس الأخلاقي للوصول إلى رؤية متكاملة الأبعاد، مما يجعل الجيل والنشء في مأمن وعلى بصيرة من تلك القضايا الشائكة التي دائماً تُثار للنيل من الإسلام وتعاليمه.
http://www.islamway.com المصدر:
============(4/107)
(4/108)
( اليونسكو ) .. ودورها المشبوه .. ! - حقائق -
سليمان بن صالح الخراشي
لم يعد خافيًا على عاقل أن المنظمات العالمية؛ كهيئة الأمم المتحدة وما يتبعها من منظمات متنوعة هي مجرد أدوات طيعة بيد منشئيها من دول الغرب؛ يسيرونها لتخدم أهدافهم ومخططاتهم وتكريس هيمنتهم الثقافية والعسكرية؛ وإن ستروا ذلك بشيئ لا يُذكر مما يسمونه بالأعمال الإنسانية ذرًا للرماد في العيون؛ أو كما قال الأستاذ خالد أبو الفتوح: (وحتى لا يتضح دور العالم الغربي وعلى رأسه أمريكا في الهيمنة العالمية فسيكتفي الغرب بدور الموجه والمشرف فقط، تاركاً تتميم الإجراءات وفرض رؤى العولمة للمجتمعات المستهدفة نفسها عن طريق المؤتمرات الدولية والإقليمية والمنظمات الدولية، كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية (Wto) والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومنظمة الأغذية والزراعة (Fao) ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة اليونسكو.. ) (مجلة البيان، العدد 136).
ومن تلك المنظمات سيئة الهدف: منظمة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم).
وقد أحببت أن أجمع للقارئ شيئًا من تاريخها غير النزيه مع الإسلام والمسلمين:
نشأتها:
خرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو» إلى حيز الوجود في عام 1946م، وذلك بعد انقشاع رماد الحرب العالمية الثانية، وما صاحبها من تدمير هائل لبنيات المؤسسات التربوية والثقافية والعلمية.
وتشير المعلومات الخاصة بتأسيس (اليونسكو) إلى أن البداية ترجع إلى سلسلة من المؤتمرات لوزراء التربية في الدول الحليفة بدأت في عام 1942م نوقشت من خلالها الكيفية التي يمكن من خلالها استنهاض منظمة دولية للتربية والثقافة من أجل توطيد السلم في العالم. وبمبادرة من الحكومتين البريطانية والفرنسية انعقد المؤتمر التأسيسي لمناقشة دستور المنظمة عام 1945م في مدينة لندن، وتم تشكيل لجنة تحضيرية كلف السير جوليان هكسلي أمينًا تنفيذيًا لها. وقد دخل الميثاق التأسيسي للمنظمة إلى التنفيذ بعد أن وقعت عليه الدولة العشرون (اليونان) وعقد أول مؤتمر عام للمنظمة اجتماعاته في ديسمبر 1946م، حيث تم انتخاب السير جوليان هكسلي أول مدير عام للمنظمة. وشارك في ذلك المؤتمر التأسيسي (44) دولة من ضمنها المملكة العربية السعودية ومصر ولبنان، بل كانت هذه الدول من ضمن قائمة الدول العشرين الأولى التي صادقت على ميثاق المنظمة، لذا تعتبر الدول العربية من أوائل الدول التي شاركت وساهمت في الاجتماعات التأسيسية لمنظمة اليونسكو؛ كما تدعم منظمة اليونسكو بأساليب مختلفة؛ مثل الإسهام في الودائع الخاصة باليونسكو إلى جانب دفع المساهمات السنوية التي تمثل في حدود (5%) من ميزانية اليونسكو، ومن أمثلة الدعم العربي لليونسكو أيضًا برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة.
الوظائف الأساسية لليونسكو:
ويمكن إيجاز الوظائف الأساسية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم في التالي:
- أن تكون معملاً للفكر ييسر تفهم التطورات الكبرى في عالم اليوم ويرسم مبادئ توجيهية فكرية وأخلاقية.
- أن تحث السلطات على وضع أهداف محددة، واعتماد السياسات المحققة لها، في ميادين التربية والعلوم والثقافة والاتصالات وتعزيز القانون الدولي بوضع صكوك معيارية في هذه الميادين.
- أن تكون مركزًا دوليًا لتبادل المعلومات عن الاتجاهات في مجالات التربية والعلم والثقافة والاتصالات.
ويلاحظ أن هذه الأهداف قابلة لشتى التفسيرات والتوجهات! حسب هوية من يسعى في إقرارها وتنفيذها.
(للمزيد عن اليونسكو: انظر: كتاب " مسيرة نحو غاية جليلة - كتاب مرجعي لليونسكو " لميشيل لاكوست، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، 1993م. وانظر: مجلة المعرفة، عدد محرم 1426).
يقول مؤلفو كتاب " المؤامرة على التعليم " (الأساتذة: حسن جودة، محمد خفاجة، أحمد العدل، صلاح الدين محمد، محمد يوسف صبيح، عبدالفتاح غالي) (ص 81-84):
ثانياً: الأمم المتحدة ومنظماتها المشبوهة: اليونسكو ومنظمة الإسلام والغرب
(أ) اليونسكو: ودورها المشبوه
اليونسكو تتعمد تشويه تاريخ الإسلام وتتبنى الإلحاد والعلمانية:(4/109)
كانت اليونسكو عند إنشائها تجنح إلى الفكر الإلحادي الصريح؛ حيث تولى رئاسة اللجنة التحضيرية للمؤتمر التأسيس الأول (جوليان هكسلي)البريطاني الجنسية والذي وضع في كتابه (اليونسكو وأهدافها وفلسفتها) نظرية اسمها " الإنسانية الارتقائية "، لتحل محل الأديان والفلسفات المحلية، وذلك بحجة تذويب الفوارق الثقافية بين الشعوب لتجنب الصراعات الدولية، ولما عارض ذلك عدد من دول العالم الثالث، وطالبوا بالعدالة في تمثيل ثقافات الدول انسحبت أمريكا من اليونسكو مما أفقد المنظمة نحو ثلث مواردها المالية، وعلل جورج شولتز وزير خارجية أمريكا لذلك بقوله: " إن الأفكار والأيدلوجيات التي سادت المنظمة تضر مصالح الأمريكان "! وهذا دليل قاطع على عنصرية التفكير الأمريكي ورغبته المعلنة في تسيير سياسة المنظمة وإلا ما انسحبت منها، وهكذا بدأت منظمة اليونسكو بالإلحاد وانتهت بالعنصرية.
ومن الأمثلة على تحيز اليونسكو ضد الإسلام أنها قررت عام 1947 أن تدرس تاريخ التطور العلمي، وفي أثناء مناقشات المؤتمر العام لليونسكو سنة 1954 علق الوفد المصري على خطة المجلد الثالث لدراسة التاريخ الثقافي العالمي بأنها لا تفسح مكاناً ملائماً لتاريخ الإسلام، وطالب بمشاركة ممثلين عن العالم العربي في هذا العمل، ولكن لم ينل هذا النقد سوى الوعود الكاذبة، وصدرت ستة مجلدات تباعاً بها الكثير من الأكاذيب حول الإسلام والمسلمين.
والمثير للشكوك والريب حول لجان اليونسكو بالعالم العربي والإسلامي أن هذه القضية لم تكتشف إلا عام 1975 عندما أثارها د. عبدالعزيز كامل (عضو جماعة الإخوان المسلمين سابقاً ووزير الأوقاف المصري سابقاً) وذلك في جريدة الأهرام حيث أعلن عن وجود مغالطات عن الإسلام في أهم مؤلفات اليونسكو، ووجد بالفعل في المجلد الثالث فقرات يمكن أن تصدم مشاعر أي مسلم يعتز بدينه.
ثم توالت الأصوات في العالم الإسلامي والعربي تنادي بمنع هذا المجلد من التداول.
وأمام هذه الزوبعة التي أثارها المجلد الثالث، لما فيه من تشويه للتاريخ الإسلامي برمته، تصرف المدير العام لليونسكو أحمد مختار أمبو تصرفاً حكيماً، حيث قرر عمل لجنة لمراجعة هذا العمل ككل، وتنقيحه مما فيه من أغلاط، ولكن هذه اللجنة اكتشفت ثغرات وعيوباً خطيرة ومتعددة؛ بعضها يتعلق بالمنهج وبعضها يتعلق بالموضوع، وكان من أخطر ما جاء في تقرير اللجنة هو الإقرار بوجود " تحريف خطير للحقائق فيما يتعلق بإعداد المصنف وتصميم مادته ".
ويضيف التقرير قائلاً: إنه لا يسعنا إلا أن ندهش إزاء ما يجب تسميته "رؤية لتاريخ البشرية تمركز حول أوربا في المقام الأول" وخلصت اللجنة إلى أنه يجب إعادة كتابة تاريخ البشرية والاستغناء تماماً عن العمل السابق ذي المجلدات الستة.
هذا هو نموذج لموقف اليونسكو من الإسلام وتاريخه، فلا نندهش إذن من تبنيها للمنظمة العالمية المشبوهة: " الإسلام والغرب ".
(ب) منظمة "الإسلام والغرب" المشبوهة
إنه لشيء مؤلم حقاً أن تكتشف فجأة تورط منظمات عالمية لها مكانتها في التآمر على عقول المسلمين ومؤسساتهم التعليمية، ومن ذلك منظمة اليونسكو التعليمية unesco التابعة لهيئة الأمم المتحدة، ومما يؤلم أكثر أن تكتشف أن هناك مشاركاً لها في تلك المؤامرة، من بني جلدتنا، وهم أعضاء المنظمة العربية للتعليم والثقافة التابعة لجامعة الدول العربية، حيث تبنت كل من اليونسكو un r sco والأليسكو Alesco ومؤسسات أخرى غربية قيام منظمة عالمية خبيثة اسمها "الإسلام والغرب" تخصصت في الدس على المناهج والمقررات الدراسية في العالم الإسلامي وبخاصة مادة التاريخ والدين؛ وفيما يلي عرض لبعض أعمال هذه المنظمة المشبوهة ولائحتها التأسيسية ودورها في إفساد الكتب الدراسية وغيرها في طول البلاد الإسلامية وعرضها.
ثم نعرض نماذج تطبيقية من مصر ودولة الإمارات والسعودية حيث اتخذت فيها إجراءات للتطوير في مجال التعليم تكاد تكون هي بحذافيرها التي خُطط لها بهذه المنظمة المشبوهة والتي حضر اجتماعاتها مندوبين عن هذه الأقطار وغيرها.
حقيقة منظمة (الإسلام والغرب): وكيف تخصصت في إفساد مناهجنا الدراسية؟
تكونت هذه الجمعية المشبوهة تحت رعاية اليونسكو unesco، ومنظمة التعليم والثقافة Alesco التابعة لجامعة الدول العربية، حيث عقدت ندوة استشارية حول التوصل إلى تفاهم أفضل بين الإسلام والغرب عن طريق تغيير مناهج التاريخ والعقيدة الإسلامية!! وقد تم ذلك بالفعل في فينيسيا (البندقية) بإيطاليا في المدة من 16: 20 أكتوبر 1977 م.
وكان المشتركون في الندوة خمسة وثلاثين؛ منهم عشرة من المسلمين أما الخمسة والعشرون فمعظمهم من الغربيين الصهاينة والصليبيين من أعلى المستويات التعليمية والسياسية..(4/110)
وقد شكلت الندوة لجنة لتصنع دستوراً لمنظمة (الإسلام والغرب) وتتكون هذه اللجنة من ثمانية أعضاء منهم أربعة من الدول الإسلامية وأربعة من غير المسلمين ويضاف إليهم رئيس هذه المنظمة الدكتور معروف الدواليبي والسيد/ براون والمدير العام اللورد كارادون الذي كان له النفوذ الأكبر هو والأمين العام الدكتورة مارسيل بواسار اليهودية السويسرية، على أن تجتمع اللجنة في فبراير 1978 في باريس لتستخلص الأهداف من المناقشات العامة التي تمت في فينيسيا توطئة لتقديم اقتراح بدستور المنظمة، وذلك للعمل بوجه خاص لإخراج كتب للمراحل الابتدائية والثانوية والتعليم العالي والإذاعة والتلفزيون ودور النشر.
وإلى هنا والأمر لا يشوبه إلا أن المشاركين من الغرب أكثرية وفطاحل ومتمرسون في الصياغات المهلكة مثل (كارادون) وغيره.
وفي المدة من 3: 6 أكتوبر 1979 عقد المؤتمر التأسيسي لجمعية منظمة (الإسلام والغرب) حيث أصدرت دستورها الذي حظي بالقبول، وكان عنوانه (مراجعة كتب تدريس التاريخ وتطوير المواد التعليمية بوصفها السبيل إلى تفاهم أفضل بين الإسلام والغرب) وجاء في قائمة محتويات البرنامج ما يؤكد على الاتجاه العلمي البراجماتي أي النفعي (الأمريكي) ص 10 A p r agmatic app r oach.P. 10، ويؤكد أيضاً على مراجعة الكتب المدرسية، وإعداد المادة الدراسية الخ.
وفيما يلي نقتطف من هذا الدستور بعض الفقرات:
وجد في ص 7: " إن مؤلفي الكتب والمدرسين لا ينبغي لهم أن يسمحوا لأنفسهم بأن يصدروا أحكاماً على القيم سواء صراحة أو ضمناً، كما لا يصح أن يقدموا الدين على أنه معيار أو هدف، وعليهم أن يجتنبوا الخوض فيما يتعلق من الماضي بالحاضر، أو القيم الشخصية التي تتسم بالمفارقات التاريخية، ولا ينبغي لمدرس التاريخ خاصة أن يقدم إحدى الممارسات الدينية على أنه تفوق سائر الممارسات ولا يصح له أن يضفي أفضلية عليها "!!
وأيضاً: " من المرغوب فيه أن الأديان يجب عرضها ليفهم منها التلميذ خصائصها الأساسية فقط ولكن أيضاً ما تشترك فيه مع غيرها من الأديان، على وجه العموم، وذلك في القطر الذي يتم فيه التدريس ".
ص8: " ويلزم فحص الكتب الدراسية التي قامت بتقديم الظاهرة الدينية، على أن يقوم بذلك علماء من مختلف التخصصات وكذلك أعضاء من أصحاب العقائد الأخرى، وكذلك من اللادينيين "!!
تعليق:
كل هذه القرارات غير قابلة للتطبيق إلا في البلاد الإسلامية! وقد طبقت بالفعل كما هو موضح في نموذج دولة الإمارات العربية ومصر، أما دول الغرب ومنها أمريكا فإنه لا يُسمح بتدخل الحكومة سياسياً، في تغيير أي منهج حتى بالنسبة للولايات الفيدرالية، فالعملية التعليمية عندهم بعيدة عن أصابع العبث والتذبذب مع التغيرات السياسية أو غيرها، فتربية النشء عندهم تخضع لسياسات ثابتة تخدم القضايا القومية، وما ذكر عن ضرورة تحول القرارات إلى تطبيق عملي وفرض ذلك بالقرارات السياسية غير مقبول في مجتمعات الغرب ولا يقصدون به إلا مجتمعاتنا، وهو ما تسعى إلى تحقيقه جمعية " الإسلام والغرب " في بلادنا للأسف).
ثم ذكر الأساتذة نماذج من التحريفات في مناهج الدول العربية.
وقال الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه " الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري " (ص 115):
(والغريب أن الهيئات العالمية مثل اليونسكو وهي هيئة دولية تشترك فيها الدول الإسلامية- تستكتب المستشرقين، بوصفهم متخصصين في الإسلاميات، للكتابة عن الإسلام والمسلمين في الموسوعة الشاملة التي تصدرها اليونسكو عن "تاريخ الجنس البشري وتطوره الثقافي والعلمي". وقد أثارت كتاباتهم حفيظة المسلمين على مؤسسة اليونسكو. والمهم ما فيها من مجافاة للحقائق التاريخية وتهجم على نبي الإسلام، وكتب الكثيرون احتجاجات على هذه الإساءات التي ليست إلا وحياً لتقاليد موروثة، وامتداداً للروح الصليبية، وهو عمل كان ينبغي أن تتنزه عنه هذه المؤسسة الكبيرة). وانظر أيضًا: " نظرات في حركة الاستشراق " للدكتور عبدالحميد مذكور، ص7).
قلتُ: وممن كتب الاحتجاجات على هذه المنظمة وتطاولها على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم : الدكتور محمد السمان في كتابه الشهير " مفتريات اليونسكو على الإسلام ".
ومن ذلك: ماتراه في هذين الرابطين: http://www.iu.edu.sa/Magazine/30/19. htm
http://www.iu.edu.sa/Magazine/30/20. htm
أما عن دوراليونسكو في تغريب " المرأة المسلمة " فأحيل القارئ إلى بحث بعنوان " العولمة الاجتماعية للمرأة والأسرة " للأستاذ فؤاد بن عبد الكريم آل عبد الكريم، نشر في مجلة البيان (العدد 170)، قال فيه وهذه المنظمة الأخيرة التي تعرف باسم: « منظمة اليونسكو »، لها دور فاعل ومميز في هذه المؤتمرات من حيث الإعداد والمشاركة فيها؛ فقد قرر المدير العام لهذه المنظمة إنشاء لجنة استشارية معنية بالمرأة، وعهد إلى هذه اللجنة بإعداد ما يمكن لهذه المنظمة الإسهام به في مؤتمر المرأة الرابع في بكين 1995م، وتهدف هذه المساهمة إلى ما يلي:(4/111)
- تعزيز نشاط اليونسكو وتفكيرها بشأن موضوعات المؤتمر الثلاثة: المساواة، والتنمية، والسلام، وإبرازها بصورة أوضح.
- الإسهام في القضاء على القوالب الجامدة التي لا تزال تحدد أدوار وسلوك الرجال والنساء، وتبقي من ثم على أشكال التفاوت والتمييز التي تستند إلى الجنس.. ) الخ.
وأما عن دورها في نشر " العلمنة " والفكر المنحرف بين المسلمين؛ فيكفي شاهدًا عليه مشروعها (كتاب في جريدة) الذي توزعه - للأسف! - بعض صحف بلادنا؛ حيث التركيز المتعمد على أدباء الحداثة العلمانية؛ من أمثال: سعد الله ونوس، نجيب محفوظ، بدر شاكر السياب، صلاح عبدالصبور، غسان كنفاني، أمل دنقل، غالب طعمة، فرمان قيصر، بايّاخو (شاعر إسباني)، يوسف إدريس، توفيق الحكيم، حنا مينة، عبد المجيد بن جلون، محمد خضير، الطيب صالح، إلياس خوري.. فهي أعمال موجهة مختارة لكتّاب أصحاب توجه فكري واضح ومعلوم.. وليس هذا بمستغرب؛ حيث لا بد أن القائمين على اختيار الأعمال سينتقون ما يتوافق مع قناعاتهم، ولتعرف هذه القناعات نذكر قائمة (الهيئة الاستشارية) كما جاؤوا في (كتاب في جريدة) ومنهم: أدونيس محمود درويش جابر عصفور عبد العزيز المقالح يمني العيد ناصر الظاهري أحلام مستغانمي توفيق بكار بدر عبد الملك.
فمن الذي وضع هؤلاء أو أولئك أوصياء على وعي الأمة؟ !
ومن الذي أعطى لليونسكو سلطة تشكيل العقل العربي (أو الإنساني)؟ !. (انظر: البيان، العدد 130).
وأختم بما قاله سيد قطب - رحمه الله -: (إن " العالم الحر"! لا يحاربنا بالمدفع والدبابة إلا في فترات محدودة، ولكنه يحاربنا بالألسنة والأقلام، ويحاربنا بالمنشآت البريئة في مركز التعليم الأساسي، وفي هيئة اليونسكو، وفي النقطة الرابعة، ويحاربنا بتلك الجمعيات والجماعات التي ينشئها وينفخ فيها ويسندها ويمكن لها في المراكز الحساسة في بلادنا... وأخيراً فإنه يحاربنا بأموال أقلام المخابرات التي تشتري الصحف والأقلام، وتشتري الهيئات والجماعات). (مجلة الرسالة: العدد 1018 - 5/1/1953، نقلا عن مجلة البيان، العدد 45).
فهل تعيد الدول الإسلامية النظر في دعمها لهذه المنظمة المشبوهة؟! وأليس باستطاعتها وهي ذات الإمكانات المتنوعة - إذا صدقت النية - أن تستغي عنها بمنظمات إسلامية جادة، تحمل الهم الحقيقي لترقية الشعوب الإسلامية بما ينفعها ولا يضرها؟!
http://www.saaid.net المصدر :
==============(4/112)
(4/113)
خِيانة المثقّفين في السعوديّة
عبد الله العجمي
أكْلَة الجبناء المفضّلة هي الصّمت الذي يتدثّر بالحكمة، وحجّتهم المتهالكة في مواقف اللامبالاة هي فقدان الشّفافية الذي يقود إلى ضبابيَّة تدفع باتجاه التوقف في مِنطقةٍ وسطٍ بين الـ"مع" والـ"ضدّ" !
فالحقيقة عندهم يجب أنْ تكون دائماً مدعومة بشاهدين، ووضوحها يفقأ العين، متجاهلين علمهم بـ"حقيقة " دامغة لم يخفِها عن أعينهم رُكام الضّباب الذي يحتجّون به، ولم تحتجْ لشاهدين، ولا ليمين مُغَلّظة، تلك هي " حقيقة " فقدان الشّفافية !
الثقافة أيِّها المفكّر، وأيَّها المثقّف، وأيِّها الكاتب؛ معجونة بالنّضال شئت أم أبيت، يقول "مكسيم غوركي": " في أساس الفن يكمن نضال " مع " أو " ضدّ"، ولا يمكن أنْ يكون هناك فنّ لا مُبالٍ؛ لأنّ الإنسان ليس آلة تصوير، بل هو يثبت الواقع ويؤكّده أو يغيِّره ويُحطِّمه".
يقول "برتولد بريخت" : " الحقيقة أمر حزبيّ إنَّها لا تكافح الكذب فقط بل تُكافح أيضاً من ينشره ".
ما الذي جعل "إميل زولا" يتهم؟!
ما الذي جعل "نعوم تشومسكي" يحوّل اهتمامه من اللسّانيات إلى السّياسة؟
ما الذي جعل "بول فيندلي" يقف في وجه المجتمع الأمريكي ليصدر كتاب"من يجرؤ على الكلام" وهو الذي يعلم سيطرة اليمين المتصهين؟
ما الذي جعل "فرانسيس ستونر" تصدر كتابها الشهير " الحرب الباردة الثقافيّة " فاضحة رؤوساً ثقافيَّة كبرى، ومتّهمة إياها بالعمالة لجهاز الاستخبارات الأمريكيّة، رغم ما قد تقود إليه هذه الاتهامات من ملاحقات قانونية في مجتمع لا يسير فيه الفرد في الشارع دون أن يكون رقم محاميه الخاص في جيبه؟!
ما الذي جعل الراحل "إدوارد سعيد" يصف الكاتب بجريدة الشرق الأوسط "مأمون فندي" بالعميل، والبوق الذي يبرّر لليمين الأمريكيّ إمبرياليَّته ومخازيه، وغزواته الاستعماريّة؟
لا شيء دفعهم لهذا سوى " الضمير "، " الحقيقة "، " الوئام مع الأنا "، لم يخشَوْا شيئاً، لم يخشَوْا التصنيف، أو الحملات المكارثيَّة، أو العصا التي تلهب الظّهر لكنها لا تقطع اللّسان! التي قد تحني الظهر، لكنّها لا تحني " الحقيقة ".
السعوديَّة تواجه هجمة شرسة من الداخل والخارج دون أنْ يقف في وجه هذه الهجمة أحدٌ سوى ثُلَّة قليلة من المثقفين، والمفكّرين، والأدباء، والكُتَّاب، والمشايخ في حين فضَّل الكثير أكْلة الجبناء المفضّلة.
في السعوديّة يملك الكثير من الكُتّاب، والمثقّفين، والمفكّرين المخزون الأعلى على مستوى العالم في الحجج والأسباب والدواعي التي تدفع باتجاه موقف اللامبالاة السلبي، ودونكم دواعي البعض منهم وتبريراتهم لعدم تصدّيهم لهجمة بُغاث الليبراليّة السعوديّة على مباني الوطن الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والتعليميّة:
• الخوف من التصنيف يأتي على رأسها وخصوصاً حين يُصنَّف المفكّر أو المثقّف أو الكاتب في خانة المتعاطفين مع التيَّار الديني؛ فتلك شتيمة، وأيّ شتيمة أنْ يُوصف بأنَّه سلفِيّ إسلامويّ متديّن وغيرها من توصيفات الاستئصاليّين السعوديّين.
• الخوف على المكانة البورجوازيّة والشرفيَّة التي صنعتها مواقف مسالمة سابقة.
• الشعور بأنَّ المعركة المحتدمة بين الليبراليين والوطنّيين ( بما فيهم الإسلاميّين، أومن يحلو للبعض تسميتهم بـ " المطاوعة " ) هي معركة غير حقيقيَّة، ولهذا فهي لا تستحقّ عناء المشاركة فيها، أو التعليق عليها! رغم تقرير "راندل" الشهير بدعم إسلام علماني جديد ومستنير، ورغم تصريحات أساطين الخارجيّة الأمريكيّة بتغيير البنية الفكريّة والتعليميّة والاجتماعيّة السعوديّة، ورغم دعمهم المعلن لتوجهات علمانيَّة بعينها! لا شيء تحت الطاولة يا سادة.
• اليأس وفقدان الأمل بجدوى المقاومة يُغذّي هذا الشعورَ، الوضعُ البائسُ الذي ينخر فيه التخلّفُ والعنصريّة والمحسوبيَّة، وكأنّنا في مجتمع شرار الناس الذين لا تقوم القيامة إلا عليهم، ولسنا في مجتمع المقاومة والمدافعة على أرض لنا فيها مثل الذي لهم، وعلينا مثل الذي عليهم.
• الالتزام الفكريّ والكتابّي للمطبوعة، والذي يخشى البعض اهتزازه نتيجة الانحياز لطرف يقف أصحاب المطبوعة أو المشرفين عليها على النّقيض منه.
• هَوَس البعض بمخالفة الجماهير أياً كان موقفها، فلا تجتمع الجماهير - في فِقههم - إلا على ضلالة!! فخوف الجماهير على مكاسبها الوطنيَّة، وارتفاع أصواتها، وجأرها بالشكوى أمر غير مبّرر على الإطلاق، وغير عقلانّي، وغير تقدّميّ، وغير واعٍ في عُرفهم.
• شعور البعض بأنَّ هذه الحرب هي حرب تقليديَّة يُستخدم فيها الدّين والوطنيَّة بطريقة غير أمينة، لكنّهم لا يحتجّون بذات الحجّة تجاه من يهاجم خطابنا الديني، ومبانينا التعليميّة والاجتماعيّة، ولا يذكرون شيئاً عن الانتهازيَّة الليبراليَّة غير الأمينة في اختيار هذا الوقت للنقد الذاتّي الذي يُخضِع كلّ شيء لمسامير ومطارق الاستنارة السعوديّة الجديدة، التي تأتي بالتزامن مع التهديدات الأمريكيّة لنا، أَنَقْدٌ ذاتيٌ أمينٌ أتى صدفةً، وجيوش الأعداء على تخومنا؟!(4/114)
• ولها علاقة بما قبلها: الخشية من الوَصْم بعدم الوطنيَّة " سيف المنافقين المسلول "، وكأنَّ من سيصرخ بالحقيقة سيلقيها في وجه سلطان جائر لا في وجه أدعياء، ومرتزقة في ساحة ثقافيَّة مفتوحة للجميع!
• فقدان الجرأة والشجاعة في قول "الحقيقة" و" الحقيقة " - في الحقيقة - نوعان:
حقيقة ملائمة، وأخرى غير ملائمة، في السعوديّة لا يُفضِّل الأدباء، والمثقفون، والكُتَّاب النوع الثاني لما فيه من استحقاقات ثقيلة، ولما ينطوي عليه من حقائق عارية تبدو لأوّل وهلة ثوريَّة، والثوريَّة الثقافيَّة - القائمة على الحقائق غير الملائمة - تُثير الفزع والرّعدة في فرائص المسالمين، أما النوع الأول فكلهم يُحسنه بلا استثناء فكلّهم أبطال للحقيقة الملائمة.
• فقدان حسّ المبادرة في الوقوف ضد الاستئصاليَّة في بداياتها، والانتظار، والتردّد في مواجهتها حتى تقع الفأس في الرّأس، وهذا يحدث نتيجة عدم القراءة السليمة لتجارب الآخرين، وفِتنهم المجتمعيَّة، وعدم فهم آليات الطابور الخامس الاستئصاليّ ومن يقف خلفه.
جاء زلزال الحادي عشر من سبتمبر، وأتوقف هنا لأحكي لكم ما قاله لي أحد المفكّرين العرب قبل سنوات حين كنا نتحاور حول ما يجري في الجزائر الجريحة بعد أنْ أثار دهشتي تصريحٌ لأحد سَدَنة التيَّار الفرانكفوني في الجزائر يدعو فيه الجيش لقتل الثلاثة مليون نسمة الذين صوّتوا لجبهة الإنقاذ - هكذا!! - في الانتخابات الشهيرة التي انتهت بتدخّل الجيش، وقلب الطاولة الديموقراطية، وتمكين التيَّار الفرانكفوني المتفرنس!!
قال صاحبي: الاستئصاليون موجودون في كل مكان حتى عندكم في السعوديّة، لكنّ وقت بلوغهم لم يحنْ بعد، ولن يطلّوا حتى تطلّ الفتن، وسترى وتُنكر! وكما في الجزائر ستجد في السعوديّة من يغير ولاءاته كما يغيّر لباسه، ومن يلحق بالأغنى والأقوى والأكثر توفيراً للأمن الوظيفي، سيردّد بعض المفكّرين والمثقفين والكتاب السعوديّين ما يردّده الغزاة، وسيخلعون القفازات التي أنتنت ليضربوا بأيديهم العارية! انتظر الفتن وسترى.
هل حصل شيء آخر بعد الحادي عشر من سبتمبر خلاف ما قاله صاحبي؟!
ألم يهرول البعض إلى جرائد أعدائنا ينتقدنا فيها، ويستعدي علينا؟
ألم يسخر البعض من تديّن ومحافظة مجتمعنا؟
ألم تُخلع بعض اللّحى ويُلبس بدلاً عنها السموكن، ويُستبدل السّواك بالسّيجار الكوبي؟
ألم يدعُ البعض إلى عين ما دعا له "فريدمان" الصهيونّي من حتميّة تغيير بنيتنا الاجتماعيّة والفكريّة والدينيّة والتعليميّة؟
ألم يتباكى البعض مستنكراً على حكومتنا دعمها للمراكز الإسلاميّة في شرق الأرض وغربها، واصماً هذه المراكز بأنّها إشعاعات للفكر الوّهابي المتخلّف؟
ألم يُسخر من خيار الأغلبيَّة الديني وهابيةً كانت أو سلفيةً أو حنبليةً مرّة بدعوى مكافحة الإرهاب، وأخرى بدعوى تجفيف منابع التطرّف، وثالثة بدعوى مطاردة الفكر التكفيري؟
ألم يرسل البعض سهامه ضد المرأة السعوديّة المحافظة، وضدّ الحجاب الشرعيّ، وضدّ الفصل بين الجنسين؟
ألم ينفخ البعض في نار الاحتراب الداخليّ، والحلول الأمنيَّة العنيفة، مهاجمين كلّ دعوة صادقة لنزع فتيل القنابل البشريّة القابلة للانفجار في أيّ لحظة؟
بل ألم يقم بالأمس "فرعون" في مؤتمر الاستخفاف الذي أطلَّ منه على أهل المنهج المُعلن ليقول: "... مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)[غافر: من الآية29].
وهل كان سبيله المعلن غير الخفي سوى سبيل الإفك والزّور، والاتهامات الطائشة التي درج عليها كل الفراعنة قبله؟ والتي لم تجد من يدحضها رغم ركاكتها وسخافتها، لكنه الاستخفاف الذي وجد طاعة!
تقول صاحبة كتاب " الحرب الباردة الثقافيَّة " في معرض حديثها عن منظمة الحرية الثقافيَّة المملوكة بالكامل لجهاز الاستخبارات الأمريكيَّة: " كانت الغايات تبرر الوسائل حتى وإنْ كانت تتضمن الكذب ( مباشرة أو بالحذف ) على الزملاء، كانت الأخلاقيات تحت إمرة السّياسة، لقد خلطوا دورهم (تقصد المثقّفين المرتزقة) تابعوا أهدافهم باللّعب على حالة الناس الذهنيَّة، اختاروا تحريف الأشياء على نحو معيّن على أمل تحقيق نتيجة معيّنة، كان ينبغي أنْ يكون ذلك عمل السّياسيّين، أما واجب المثقّفين فكان ينبغي أنْ يكون هو فضح الاقتصاد الشديد الذي يُمارسه السياسيّ بالنسبة للحقيقة".
أرأيتم؟ السعوديّون ليسوا بِدْعاً في هذا، هذا موجود دائماً، يدهشني جداً أنْ أجد في بني قومي من لا يزال -حتى اليوم - غير قادر على استيعاب أنّ مجتمعنا الثقافيّ والفكريّ السعوديّ ليس بمعزل عن نشأة العمالة والِخيانة والاستخذاء، وأنّ المجتمع الثقافّي السعوديّ ليس "شعب الله المختار"!! وأنّ أفراده لم يُخلقوا على صورة الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - أمانة وصدقاً، وشرفاً وغيرةً!! وأنّ ما يحصل عند غيرنا قد يحصل عندنا ما دام النفاق لم يمت، والكفر لم يندرس.
أتذكرون مرج أصحاب "تولستوي" الذين نصحهم " الحكيم " بجزّ العشب من جذوره بدلاً من قصقصة أوراقه، فالقصقصة - كما يقول - تدفع لنمو أكبر للعشب؟(4/115)
لقد شتموه ونكّلوا به، ووصفوه بكل الأوصاف القبيحة، وروَّجوا عنه أنَّه يأمر - لا أنَّه ينصح - بجزّ العشب من جذوره دون أنْ يذكروا النصيحة كاملة تامةً غير منقوصة " بدلاً من قصقصة أوراقه، فالقصقصة تدفع لنمو أكبر للعشب"تجاهلوها، أسقطوها، ماذا كانت النتيجة: مزيد من العشب، مزيد من القصقصة ومزيد من الخجل من قولة " لو "!
يجب أنْ يُبادر مفكرونا، ومثقفونا، وأدباؤنا، وكُتَّابنا إلى الوقوف ضدّ هذه الهجمة الشرسة حتى لا يأتي اليوم الذي نلوم فيه أنفسنا كما لام "جون شتاينبك" بني عصره حين لم يقفوا ضدّ المكارثيَّة الاستئصاليَّة في بداية عهدها حتى قويت شوكتها، واحتكرت الثّقافة، وأغلقت متجر الحريَّة محراب كلّ عمل أصيل ونافع، يجب ألا نُؤخذ بالدّعاوى التي تلبس لبوس الوطنيَّة؛ فالدّعاوى إنْ لم يُقيموا عليها بيِّناتٍ أصحابها أدعياءُ.
وما أبلغ الوصف القرآني القائل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ)[البقرة:11و12]
لاحظوا، دققوا في قوله تعالى:"لا يشعرون"، إنَّ عدم شعورهم بفداحة ما يفعلون وفساده لم يجعلهم بمعزل عن الوصف بالإفساد!! قد لا يكونون من الملتزمين تنظيمياً كطابور خامس يقبض مالاً، لكنهم يؤدّون ذات الدور الذي يؤدّيه الطابور الخامس، أو هو ما يصفه أحد النقَّاد بالعلاقة الحتميَّة بين صاحب العمل ومَن يعمل لديه، والتي تكون فيها رغبات الأول متضمََّنة في أفعال الثاني.
سموه حُباً، أو تعاطفاً فكرياً، أو تقاطعاً للمصالح، سموه ما شئتم لكنّه في نهاية الأمر لا يعدو أنْ يكون"خِيانة". إسفيناً، عصا في عجلة الوطن.
إنَّ النفاق - سادتي - موجودٌ " دائماً "، والِخيانة - كما الأمانة - لها وارثوها منذ زمن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وزمن ابن سلول.
فليخترْ كلّ واحد منكم ما يمُليه عليه ضميره، خائناً أو أميناً، أو شيطاناً أخرسَ.
قال تعالى: (... وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد: من الآية38]، ثم لا تكون ضمائرهم أمثال ضمائركم.
15/7/1425 الموافق له 31/08/2004
المصدر: http://www.islamtoday.net/a r ticles/show_a r ticles_content.cfm?catid=39&a r tid=4138
=============(4/116)
(4/117)
معالم الأطروحة البربرية في الجزائر
يحي أبو زكريا
25/2/1426هـ
يعد الكثير من المثقفين الجزائريين أن الأزمة الدموية التي عصفت بالجزائر منذ وقف اللعبة الديموقراطية هي في بعدها ووجهها الآخر أزمة هوية، وأن الصراع الدائر بين السلطة والإسلاميين هو صراع أيديولوجي ثقافي، حيث يمتلك كل فريق من أفرقاء الصراع قناعات فكرية تتصل بهوية الجزائر وانتمائها، وفي أي خانة يمكن أن تصنف الجزائر، ويمكن حصر هذه القناعات في ثلاث خانات:
1- العروبة والإسلام.
2- الأمازيغية أو البربرية.
3- الفرانكفونية والتغريب.
والملاحظة البارزة في حيثيات الصراع الجزائري أن دعاة الأمازيغية والفرانكفونية شكلّوا تحالفاً استراتيجياً لمواجهة دعاة العروبة والإسلام، وأن الأطروحة الأمازيغية عادت بقوة إلى الواجهة السياسية في الجزائر ليطالب دعاتها بالغاء التعريب الذي هو في نظرهم دخيل على الجزائر، والذي وصلها سابقاً على يد الفاتحين العرب والمسلمين، ولاحقاً على يد العروبيين الذين درسوا في المشرق العربي كمصر وسوريا والعراق وغيرها من الدول العربية.
وكان أحد زعماء البربر متجنياً عندما قال: "إذا كان العرب في وقت سابق قد وصلوا على متن النياق إلى المغرب العربي؛ فأنا سأكون معهم رفيقاً، وأعيدهم على متن البوينغ إلى بلادهم الأصلية في الجزيرة العربية".
وإقحام الورقة الأمازيغية - البربرية - في الصراع الجزائري ساهم في تعقيد الأزمة الجزائرية، وتعميق الشرخ داخل الجزائر، وقد يهيئ الجزائر على المدى المتوسط والبعيد لبدايات التدخل الأجنبي، والذي تبلور بوضوح أثناء الأزمة الجزائرية.
وفيما يتعلق بالأطروحة البربرية فلا يمكن فهم أبعادها وأهدافها دون معرفة جذورها، وكيفية تحولهّا إلى ورقة سياسية أرادت فرنسا من خلالها ذات يوم تمزيق صفوف الثوّار الجزائريين الذين أعلنوا الثورة على فرنسا والحلف الأطلسي في الفاتح من نوفمبر عام 1954م، ويجمع المؤرخون الجزائريون كما الغربيون على أن الشعب الذي قطن منطقة الجزائر والمغرب العربي هو شعب أمازيغي بربري - الأمازيغ في اللهجة البربرية هم الأحرار -، وقد كان هذا الشعب الحر أو الأمازيغي معروفاً بالخشونة والمجازفة، والشجاعة والدفاع عن الثغور، ولعّل تسمية سكان الجزائر بالأمازيغ أو الأحرار تعود إلى محاربتهم لكل الغزاة الذين حاولوا استعمار الجزائر كالرومان والوندال، والفينيقيين وغيرهم، وحتى الفتح العربي والإسلامي لاقى في بدايته مواجهة أمازيغية، وكان على رأس المقاومة المرأة التي عرفت باسم الكاهنة، والتي أمرت أبناءها فيما بعد بضرورة اعتناق الإسلام، وعندما أدرك سكان الجزائر أن الفتح العربي والإسلامي يختلف عن الغزوات السابقة التي تعرضت لها الجزائر احتضن الجزائريون دعوة الفاتحين، وحتى الكاهنة تخلت عن مقاومتها للقادمين من الجزيرة العربية، وحثّت أبناءها على مناصرة الفاتحين في فتح الأندلس.
ودعاة الأطروحة الأمازيغية في الجزائر وفي دعوتهم إلى اللغة والثقافة الأمازيغيتين يدعون إلى الأمازيغية بخصائصها قبل الإسلام، وضرورة نبذ الأمازيغية التي انصهرت في بوتقة العروبة والإسلام وتشبعت بهما، كما أن دعاة الأطروحة الأمازيغية يعدون أن أصول الشعب الأمازيغي آريّة؛ أي أن الامتداد العرقي للأمازيغ يتصل بالحقل الجغرافي الغربي، ولذلك تنكّر هؤلاء لعروبة الجزائر، وكانوا يتهمون القائلين بعروبة الجزائر أنهم بعثيون جاؤوا بهذه النغمة من المشرق العربي وعواصم الشرق الأوسط.
والقول بآرية الشعب الجزائري معناه إيجاد توجهات جديدة للشعب الجزائري، واهتمامات بعيدة كل البعد عن العالم العربي، إلى درجة أن سعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري، وغداة تشكيل حزبه قبل سنوات عديدة قال: إن حزبه إذا وصل إلى السلطة فسوف يغيّر بنود الدستور الجزائري، ومنها انتماء الجزائر إلى العالم العربي، وطالب بإلغاء العالم العربي، والبند الذي ينصّ على أن الإسلام هو دين الدولة في الجزائر، وقد نبّه بعض دعاة العروبة إلى خطورة القول بآرية الشعب الجزائري؛ لأن هذه الدعوة تربط مصير الجزائر بمصير الغرب، وتجعل الجزائر غير معنية بقضايا العالم العربي الشائكة وغيرها، وتحديداً القضية الفلسطينية.(4/118)
كما أن القول السالف الذكر يعطي لفرنسا حق احتلال الجزائر باعتبار أنها تريد تخليص الجزائريين من العرب القراصنة الذين في نظرها وضعوا أيديهم على الجزائر، ولذلك أجهد دعاة العروبة أنفسهم في البحث عن جذور الشعب الجزائري، ومنهم الدكتور عثمان سعدي سفير الجزائر الأسبق في دمشق وبغداد، والذي ألّف كتاباً بعنوان " عروبة الجزائر "، وفي هذا الكتاب يؤكد عثمان سعدي أن جذور الشعب الجزائري عربية، ويستشهد بما أورده الطبري في تاريخه، والذي يؤكد أن الأمازيغ نزحوا من اليمن وأطراف الجزيرة العربية إلى الجزائر والشمال الإفريقي عموماً، ويذهب بعض الباحثين إلى القول إن من أدلّة عروبة الأمازيغ هو تشابه بعض مفردات لهجتهم مع اللغة العربية، وقد تدارك دعاة الأمازيغية ذلك فاستبدلوا الأحرف الأبجدية الأمازيغية والتي كانت عربية إلى أحرف لاتينية، وكل ذلك بتخطيط من الأكاديمية البربرية التي أنشأتها باريس، وعينت على رأسها الكاتب الجزائري البربري مولود معمري الذي كان من الدعاة الأوائل إلى أمزغة الجزائر، أي: جعل الجزائر أمازيغية، وذهب رئيس حزب الأصالة الجزائري إلى القول بأن العروبة في الجزائر قد عطلت المسيرة التنموية في الجزائر، وأقحمتها في دائرة التخلف والتقهقر.
والسؤال الذي يمكن طرحه في هذا السياق: هل يتبنى هذه الأطروحة المضادة للعروبة والإسلام عموم الأمازيغ أم أنها حكر على النخبة المثقفة البربرية، والتي تكونت في الجامعات الفرنسية هي فقط الداعية إلى إحياء الأمازيغية!
معظم المؤرخين الجزائريين كالأستاذ توفيق المدني وعبد الرحمن الجيلالي وغيرهم قالوا: إن الشعب الأمازيغي احتضن العروبة والإسلام، وقدّم النصرة للفاتحين الذين جاؤوا من الجزيرة العربية، وعلى امتداد التاريخ الجزائري وقع تمازج وتصاهر بين الفاتحين العرب المسلمين وبين السكان الأمازيغ الذين ناصروا الإسلام، ولم تتسبّب العروبة في إذابة الشخصية الأمازيغية ومسخها، بل أعادت الأمازيغية إلى جذورها العربية، وطعمتها بالإسلام الحضاري.
ومنذ اعتنق الشعب الجزائري الإسلام وهو ينصهر في البوثقة العربية والإسلامية، وباتت المرجعية العربية والإسلامية هي الأساس بالنسبة إليه، ومنذ تاريخ الفتح العربي والإسلامي وإلى بداية اندلاع الثورة الجزائرية سنة 1954م لم تطرح المسألة الأمازيغية كما طرحت بهذا الشكل أثناء الثورة الجزائرية، وبعد استقلال الجزائر، وللإشارة فإن معظم المعاهد التي صانت اللغة العربية في الجزائر ودافعت عنها أثناء الاستعمار الفرنسي هي تلك المعاهد التي أسست في المناطق البربرية كبجاية والبويرة وأمشدالة وغيرها، وبالرجوع إلى كتاب علماء بجاية ومعجم أعلام الجزائر وتاريخ الجزائر العام يتضح أن معظم العلماء الذين خدموا اللغة العربية وعلوم الشريعة الإسلامية سابقاً وأثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر كانوا أمازيغاً وبربراً، وعلى رأسهم شيخ الإصلاح في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس، ولم يكن الشعب الجزائري يفرق بين العروبة والإسلام، بل كان يعد أنهما شيء واحد، وأكثر من ذلك فقد كان يعد العربي مسلماً والعكس صحيح، ولم تتحول العروبة في الجزائر إلى أيديولوجيا ذات مفاهيم علمانية لائكيّة، ولذلك كان الشعب الجزائري يرى أن العروبة هي الإسلام والإسلام هو العروبة، وحتى الذين ظلوا يقطنون جبال القبائل - سلسلة جبال الأطلس -، وحافظوا على اللهجة الأمازيغية ما زالوا إلى يومنا هذا من أشد الناس تمسكّاً بالإسلام، ويعدون المتكلم بالعربية المتقن لها أعرف الناس بالإسلام وأصوله وفروعه.
والمتجول في المناطق البربرية يدرك أن الأمازيغ مسلمون ومتمسكون بالإسلام، وتكثر المساجد في مناطقهم، وعندما تعرضت الجزائر للاستعمار الفرنسي في 5 يوليو - تموز 1830م كان أول من رفع لواء المقاومة ضد المستعمر الفرنسي هم القبائل أو الأمازيغ المسلمون، ومن الثورات التي تصدّت للاستعمار الفرنسي ثورة المقراني - والمقران لفظة بربرية تعني الكبير -، وكان شعار ثورة المقراني الدفاع عن إسلامية الجزائر وعروبتها، ولم يقاوم المقراني من أجل استرجاع الهوية الأمازيغية للجزائر، وقد أدركت فرنسا خطورة هذه العقيدة فراحت تنبش في الذاكرة الجزائرية إلى أن اهتدى استراتيجيوها إلى مبدأ التشكيك في الهوية الجزائرية، وبدأت حملة التشكيك من خلال تكوين نخبة جزائرية مثقفة مشبعة بالفكر الكولونيالي، وقد لعبت هذه النخبة المعروفة جيداً لدى الشعب الجزائري أكبر الأدوار في تمزيق صفوف الحركة الوطنية، حيث تمّ البدء في تصنيف الجزائري بأنه عربي وبربري وشاوي وما إلى ذلك.
وكانت النخبة المذكورة ترى في ارهاصات الثورة الجزائرية على فرنسا انحرافاً خطيراً باعتبار أن الثورة في مضمونها دعوة للانفصال عن الوطن الأم فرنسا، ومع اندلاع الثورة الجزائرية فكرت السلطات الفرنسية في مختلف الطرق التي تؤدي إلى تمزيق الثورة الجزائرية التي تبناها الجزائريون بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم العرقية، فوصلت فرنسا إلى أمرين لتمزيق الثورة الجزائرية من الداخل:
1- الورقة البربرية.(4/119)
2- الورقة الجهوية.
فعلى الصعيد الجهوي نجحت فرنسا في إثارة النعرات الجهوية، فبات يسود آنذاك بين الجزائريين بأن هذا من الغرب وذاك من الشرق، هذا وهراني وقسنطيني وقبائلي وهلمّ جرا، وما زالت الجهوية تلعب دوراً كبيراً في التعيينات الوزارية والرسمية، بل إن التوازن الجهوي يعّد أساس الحكم في الجزائر، وعلى صعيد الورقة البربرية فقد نجحت فرنسا في إثارتها عبر آلياتها ووسائلها، وأثتاء الثورة الجزائرية هناك من طرح فكرة تأسيس جبهة التحرير الأمازيغية مقابل جبهة التحرير الوطني، وبعد الاستقلال بدأت الحركة الأمازيغية تتحدث عن الغبن والمظلومية التي ألمّت بالثقافة الأمازيغية، وتشكلّ حزبان بربريان مركزيان هما التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، وجبهة القوى الاشتراكية، ومن أهداف التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية على وجه التحديد يدعو إلى أمزغة الجزائر لكن يقدم خطابه بلغة فرنسية فصيحة للغاية، ويفهم من ذلك أن التحالف مقدس بين الفرانكوفونية والبربرية، ورموز الثقافة البربرية لا يتكلمون إلا باللغة الفرنسية، ويعدونها رسمية في الجزائر، والأدباء والمثقفون البربر لا يكتبون أدبهم باللهجة الأمازيغية بل باللغة الفرنسية فقط وفقط!!
المصدر : http://www.almoslim.net/figh_wagi3/show_ r epo r t_main.cfm?id=584
===============(4/120)
(4/121)
'الفيروس' الديمقراطي!
خالد حسن
15/2/1426هـ الموافق له 25/3/2005
كل شيء تغير في سرعة الضوء، يوم الخميس وفي بضع ساعات فقط في عاصمة قرغيزستان "بيشكيك" تم اقتحام القصر، هرب المستبد الموالي لروسيا، وبدأ نظام جديد في التشكل، أو ما الذي جرى؟.
الثورة سافرت بحافلة، وقطعت مسافة 500 كيلومتر، وعبرت طريق الحرير انطلاقاً من الجنوب مخترقة الجبال المرتفعة متوجهة نحو العاصمة "بيشكيك" قبل أن تحط الرحال أمام قصر الرئاسة، ليشهد العالم ملحمة التغيير السلمي.
حدث هذا "الزحف" في إثر انتخابات مزورة ومزيفة في فبراير ومارس، وانتشار للفساد المدعوم من قبل عشيرة الرئيس المستبد عسكر أكاييف الذي هرب إلى خارج البلد.
قبل شهرين شد أكاييف الرحال إلى قبلته موسكو لتقديم ابنه إلى الرّئيس فلاديمير بوتين، حيث كان يخطّط لنقل وراثي للسلطة، كما نسق أموره مع جناح "ألياف" في آذربيجان، ليسافر بعدها سراً إلى موسكو ثانية الأحد الماضي، وطبقاً للصحيفة الروسية " V r emia Novosti" حاول الاجتماع ببوتين لكن هذه المرة لم يتمكن من ملاقاته، فاجتمع بالدبلوماسيين الروس بدلاً من ذلك.
ويتوقع مراقبو آسيا الوسطى أن تشهد كازاخستان وأوزبكستان الملحمة نفسها، وإن اختلفت بعض التفاصيل، ويتساءل هؤلاء ما إذا كانت ثورة "الليمون" في قيرغيزتان بداية نهاية لرؤساء هاتين الدولتين، بفعل قوة الشارع، وهل يمكن أن يكون ما حدث لقيرغيزيا في آسيا الوسطى إشارة اختبار للقمع الاستبدادي؟
إنه الاقتصاد يا غبي:
يكفي أن نشير بشكل عابر للوضع الدافع للانفجار الاجتماعي والثورة السلمية، فقد أرغم على الأقل 700,000 قرغيزي من مجموع عدد السكان الذي يبلغ حوالي 5 مليون على الهجرة بحثاً عن العمل، ويشتغل أكثرهم بطريقة غير شرعية في مواقع البناء في روسيا وكازاخستان، ويعتمد اقتصاد قيرغيستان الراكد على مناجم الذهب، الأجهزة الكهرومائية، وبعض السياحة، ويقدر الدين الخارجي 2 بليون دولار وهو يعادل الإنتاج القومي الإجمالي.
من المنظور الجغرافي الاستراتيجي فإن الجيران من آسيا الوسطى بالإضافة إلى روسيا، والصين، والولايات المتحدة لا يمكنهم ببساطة تحمل حالة الفوضى، أو انقسام عرقي في قيرغيزتان، حيث إن هذه الأخيرة تعتبر كأثر جانبي للحرب على "الإرهاب" بيدقا رئيسياً بالنسبة لروسيا، والولايات المتحدة، والصين في اللعبة الكبيرة الجديدة، وذلك راجع بصفة أساسية إلى موقعها الإستراتيجي المحصور بين الصين وكازاخستان.
وتوصف القاعدة العسكرية الروسية في Kant على بعد20 دقيقة عن العاصمة "بيشكيك" من قبل موسكو كـ"رادع للإرهاب الدولي"، في حين تشكل القاعدة العسكرية الأمريكية المجاورة في مطار Manas المدني نظرياً سنداً لقاعدة "باغرام" العسكرية الأمريكية في أفغانستان، لكنها في الحقيقة موجهة وبشكل فعال كأداة نفسية لإرباك الصينيين، ولقربها من إقليم Xinjiang تريد بيكين أيضاً أن تؤسس لها قاعدة عسكرية قرغيزية خاصة!.
وقد باغتت هذه الثورة الروس وجاءتهم على حين غرة من الكرملين إلى الجنرالات، وأبدوا تخوفهم من أن الثورة تنطوي على مخاطر أهمها أن الإسلاميين "المتطرفين" سيستغلون فراغ السلطة لتقديم أنفسهم "كأبطال الطبقة المحرومة"، حيث ظلت موسكو تضرب على الوتر الحساس أن التهديد الذي تتعرض له آسيا الوسطى مصدره "الإسلام الراديكالي"؟!.
ويرى المحللون الغربيون - ومعهم الروس - أن تطورين جديين يمكن أن يتفرعا عن "ثورة الليمون":
الأول: احتمال فرض الحركة الإسلامية لأوزبكستان وحزب التحرير السلمية لجدول أعمالهم، فباستنادهما لنفوذهما داخل قيرغيستان يمكن أن يوسعوا دائرة تأثيرهم إلى جنوب كازاخستان وغرب طاجيكستان وحتى Xinjiang في الصين.
الثاني: احتمال تردي الأوضاع إلى سيناريو مقلق أكثر بكثير، وهو تكرار تجربة الحرب الأهلية الطاجيكيةِ 1992- 97 في قيرغيستان.
إلا أن الشيء الواحد المؤكد: أن ثورة "الليمون" ستستغل حتماً من قبل إدارة بوش باعتبار أن قضية "انتشار الحرية والديمقراطية" نجحت في آسيا الوسطى، وقد أثارت الترسانة الكاملة للمؤسسات الأمريكية - معاهد ومراكز - حركات المعارضة في صربيا وجورجيا وأوكرانيا، ووصل مداها إلى "بيشكيك"، فجيش صغير من الشباب القرغيزيي ذهب إلى كييف بتمويل من الأمريكان، ليستعمل كوقود للثورة "البرتقالية"، أصبح "مصاباً" بالفيروس الديمقراطي!
وعملياً فإن كل ما يرتبط بالمجتمع المدني في قرغيزستان ممول من هذه المؤسسات الأمريكية، أو من طرف الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، حيث إنه على الأقل 170 منظمة غير حكومية مهتمة بتطوير أو ترقية الديمقراطية، تشكلت أو تم تبنيها من الأمريكان.
المصدر : http://www.alas صلى الله عليه وسلم ws/index.cfm?method=home.con&contentid=6491
==============(4/122)
(4/123)
بريد إبليس
عبد السلام البسيوني
من المعلوم لمن له فهم بالإسلام وقواعده أن الله - عز وجل - إذا حرّم أمرًا حرّم كل ما يؤدي إليه، وضيّق السبل الموصلة للوقوع فيه..
فلم يترك الشرع المسلم يحوم حول حمىً محرمٍ، يسيل لعابه له شهوة وتوقًا، وتلتهب جوارحه جؤارًا ورغبة حتى إذا سقط في الحرام قال: لم فعلت كذا؟!
كلا.. بل وضع الإسلام إشارات التحذير، والأضواء الحمراء واللافتات المنبهة لكل ذي عينين قبل أن يصل إلى الحرام بمسافة، لكيلا يكون للناس حجة إذا حاسبهم على اجترائهم على المعصية، وحين حرّم الإسلام الزنا حرّم أشياء كثيرة هي من الموطئان له، المؤديات إليه.
لذا فإننا لا نظن أن رجلاً يزني أو امرأة إلاّ بعد أن يخترق الكثير من المحاذير، ويجترح العديد من المخالفات الممهدة للكبيرة الملطخة.
ومن هذه الموطّئات ما هو أشبه بالبريد الشيطاني الذي يربط بين خائنة الأعين وساقطة الأفكار.. وهي في عصرنا كثيرة.. أذكر منها تمثيلاً لا حصرًا: -
الهاتف: أداة بريئة ولا غنى عنها، وهي أشبه بالطفل، إما أن يبقى على فطرته، أو يهوِّده أصحابه أو ينصروه، أو ينجسوه.
وقد جعله بعضهم رسولاً عصريًّا يؤدي رسالة من أخس الرسائل وأخبثها، فصيّره لسان إبليس، وساعي الرذيلة، وتاجر الفاحشة، تُستغل السرية المفروضة عليه ليكون أشبه بالقوّاد الذي يسعى في نقل العبارات الملتهبة، والآهات الماجنة، ويظل يلح على أذن الضحية ويلح، حتى تنهار مقاومتها، وتتراخى مناعتها، فتستمرئ السماع، ثم تتلهف إلى اجتياز طوره إلى ضرب المواعيد، فاللقاء المحرم..
* والعطر رسولٌ من رسل إبليس يقدر على أن يشد جمعًا حاشدًا من أنوفهم وعيونهم وخلاياهم؛ ليفتشوا عن مصدر الشذى، ومبعث الأريج، وشياطين الأنس مهرة في الترويج لعطور فواحة، وانتقاء الأسماء الموحية لها من مثل:
Femme و Poison و Man و Ecstasy
ولا يخفى على مسلم أن الإسلام أوعد من تخرج متعطرة - ولو إلى المسجد - ووصف من تفعل ذلك ليشم الناس ريحها بأنها زانية!!
* والصوت الناعم سفيرٌ لا يقاوم، بل هو قوة تدك كل مقاومة، وتقضي على كل تمنّع، لذلك أُمرت المرأة المسلمة التقية إن هي خاطبت الرجال أن تكلمهم بصوت جادٍّ، لا ترقيق فيه ولا تكسر، ولا خضوع ولا تأنُّث، حتى تقطع آمال الفسقة، وتسدّ الأبواب أمام المجّان الذين يجيدون الاستدراج والمسامرة {ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرضٌ، وقُلْن قولاً معروفًا}..
ولكم أسقط الكلام الرقيق أجسادًا، ودك قلوبًا، وقطع أواصر، ولكم وقع رجال أسرى الصوت الناعم، والتأنُّث المتبذل، والبريد الإبليسي!!
فالمسلمة إذا سارت سارت وقورًا لا تتثنى ولا تتأود، بل تستر نفسها، وتقيم خطاها، وتخفي زينتها.
وقد نبهت السنة المشرفة المسلمة إذا هي سارت أن تأخذ بجوانب الطريق تأدبًا وتحصّنًا، وألا تفضح بمشيتها زينتها المستورة {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}.
..
* والمشية دليل أبلق، وحجة ساطعة في الشهادة على حسن السلوك أو سوئه،، يوجهها للدلالة على الشر، وتيسير سبل الفتنة؛ لذلك أُمرَ الرجل والمرأة كلاهما بغض البصر، ولم يأذن الشرع إلا في النظرة الأولى القهرية، أو نظرة الفجأة، ونهى عن إحداد البصر، فقال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} وقال: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}.
كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : [لا تتبع النظرةَ النظرةَ؛ فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة].
* ومن أقوى المثيرات والمهيجات: الثياب المخالفة للضوابط الشرعية بسبب ضيق، أو قصر، أو انفراج أو اتساع، أو نوع قماش، أو مخالفة لطبيعة الأنوثة والحشمة، أو غير ذلك من الأسباب..
ولقد حرك إبليس أذنابه فتفننوا في دعوة المرأة المسلمة إلى الاستعانة بهذا البريد لإرسال الفساد والإفساد.. فتحرك رجال الموضة والأزياء، وتحركت شركات أدوات التجميل، وشركات الإكسسوارات النسائية.. واجتذبت عقول النساء وقلوبهن إلى قدوات من نساء الغرب يقلدنهن، ويتبعن طريقتهن.. وتغنى المغنون للتليفون، وللعيون، وللمشية المتكسرة، وللثوب المتهدل، وللصوت وللعطر...
إن إبليس - عليه لعائن الله - يأمر بالفحشاء كما ذكر القرآن الكريم، ويسهل الطريق إلى الانحراف والرذيلة، ويقوم بدور القوّاد الحقير.. حتى إن هذه المهمة لفتت نظر أحد الشعراء المسلمين الذين تعجبوا من سلوك إبليس في رفضه السجود لآدم امتثالاً لأمر الله - تعالى -، ثم رضاه أن يقوم بأخسِّ وظيفة وأدنأ عمل.. وظيفة النخّاس الوضيع، بالجمع بين شخصين في الحرام:
عجبت من إبليس من تيهه *** من سوء ما أظهر من نبتتِه
تاه على آدم في سجدةٍ ** وصار قوّادًا لذريته
فيا للعجب!!
http://www.muslema.com المصدر:
=============(4/124)
(4/125)
استضعاف الدين واستنبات التطرف
جمال سلطان
الإسلام اليوم / في مصر الآن ضجة بسبب تهور أحد المشتغلين بمجال الفن التليفزيوني تحديداً، وهجومه الجارح على أحد الصحابة، ودخوله شريكاً في جدل تاريخي ليس من أهله ولا من خبرائه، وصاحب هذا الهجوم الجارح على شخصية إسلامية تاريخية لها هذه الحساسية - وهو يدرك أن لها هذه الحساسية - صدر من شخص يعمل "كاتب سيناريو" لأفلام ومسلسلات تليفزيونية، معظمها يتصل بتاريخ الراقصات والبغايا وبعض الشأن السياسي، وكان من الحمق والاندفاع إلى حد تكرار الهجوم والسباب عبر أكثر من منبر - بعضها صحافي وبعضها تليفزيوني -، حتى إن البعض لاحظ أنه كلما وجد ردود الفعل عليه عنيفة وقاسية كلما زاد حبوره وابتهاجه، وأوغل في حمقه وابتذاله.
تأملت هذه الحالة الغريبة - أو التي كنت أظنها غريبة -، ثم سريعاً أفقت على حقيقة أن هذه - مع الأسف - أصبحت ظاهرة عامة في العالم العربي، وهي جزء مما يمكن وصفه باستضعاف الدين وأهله، وذلك أن مثل هذا السباب المشين الذي أطلقه هذا الشخص لا يمكن له أن يطلقه على حاكم بلده مثلاً، أو شخصية لها خطرها وأهميتها فيه، لأنه يعلم أن في ذلك قطع رقاب، أو - على الأقل - قطع أسباب العيش عنه وعن ذريته إلى أبعد حفيد، هو يعلم ذلك، ويعلم أنه لو فعل ذلك مع مسؤول الإعلام في بلده - وليس الحاكم - لتحولت كتاباته في الفن إلى أقرب صندوق للقمامة، ولما وجدت طريقها أبداً إلى التليفزيون أو جهات الإنتاج، وقد ذاق الرجل شيئاً من ذلك العذاب المضني لأي مشتغل في قطاع الفن في السنوات الماضية، عندما أعلن عن موقفه الداعم للطاغية العراقي صدام حسين أيام غزوه للكويت، فما كان منه إلا أن كال السباب المسف للخليج وأهله، فعاقبته جهات كثيرة بالطريقة المعهودة وهي منع قبول أي إنتاج يكون هو مشاركاً فيه، وبالتالي امتنعت جهات الإنتاج في مصر وغيرها عن قبول أعماله، لأنها تعلم أنها لن تبيع شيئاً، وستكون خسارتها فادحة، فقطعت أسباب كثيرة لعيشه الرغيد الذي تقلب فيه مع النخبة المترفة، خاصة وقد نسي أوقات الحرمان والعذاب بعد أن انتقل من مدرس لرياض الأطفال متواضع المكانة والدخل؛ إلى كاتب سيناريو كبير يتقلب في النعيم والرفاهية، وهذا الموقف زاده هوساً وحمقاً، فتحول بسبابه وهجائه إلى الصحابة، لأنه اعتبرهم " خلايجة "! - مواطنين خليجيين -، وبالتالي فهم في مرمى سبابه وتصفية حسابه مع الجميع، هذا بالإضافة إلى خرافات أخرى أقدم عليها عندما هاجم شعائر الإسلام، والحجاب، والنقاب، واللحى، والالتزام بالهدي والسنن، واعتبر ذلك غزواً بدوياً لمصر، وبطبيعة الحال يجد له في ما يقوله بعض الأنصار من هنا وهناك ممن يتربصون شراً بكل ما يتصل بهذه الأمة من تاريخ أو دين أو هوية أو كرامة، الأمر الذي يشجعه على مزيد من الحمق والاندفاع، ولكن الذي تحار فيه ويحار فيه العقلاء أن كثيراً من هذه المنابر التي تتضامن معه وتدافع عنه هي مؤسسات رسمية، تنفق عليها الدولة من أموال الناس، سواء كانت منابر إعلامية صحافية أو إذاعية، أو كانت منابر ثقافية، وهو الأمر الذي يعطي الانطباع - الذي قد يكون خاطئاً - بأن هناك دعماً رسمياً لمثل هذا الهجوم على الدين وأهله، وخطورة هذه المسألة أنها تمنح أجيالاً جديدة من الشباب الانطباع بأن الدولة ضد الدين بكل ما تحمله هذه المعاني من خطورة كبيرة على وعي هؤلاء الشباب، وتحولهم المؤكد إلى التطرف وربما العنف من ورائه، ثم تدور الدوائر، وتشتبك الأطراف، ويكثر الجدل، وتضيع المسائل وتغيب وسط هذا كله الحقيقة الأساسية، وإذا ذهبت تبحث في أصولها ومنابتها، تجد أن صناعة التطرف واستنباته لم تكن في خطب المشايخ، أو دروس العلماء، أو مناهج المعاهد الدينية - كما زعم الأمريكان ورجالهم هنا -، وإنما جذور التطرف وميلاده كانت عبر كتابات بذيئة مثل هذه الكتابات التي نشير إليها، واستضعاف مهين للدين وأهله ومقدساته، وغفلة ليست بريئة من الدولة ومؤسساتها الرسمية؛ أعطت الانطباع بأن الدين مستهدف، وأن هناك توجهاً رسمياً لإهانة الدين وتحطيم مكانته في نفوس الناس، إنها ليست بطولة على الإطلاق أن تهاجم الدين ومقدساته، وتهين أهله بالتوازي مع الهجمة الأمريكية على الإسلام ورموزه ومقدساته وأهله، ليست هذه بطولة أبداً؛ بل هي لون من الخسة والنذالة، وادعاء البطولة والشجاعة حيث لا بطولة ولا شجاعة، وإنما هو ركوب للموجة، واستضعاف للدين في أوقات محنته ومحنة أهله، نأمل أن يتضامن كل العقلاء في هذه الأمة، ومن كل تياراتها؛ لوقف هذه الموجة من الابتذال والانتهازية والنذالة، لأن عواقبها بالغة الخطورة، وهي نوع من اللعب بالنار، في وقت نرى بأعيننا الحرائق من حولنا في كل مكان من أرض الله.
المصدر : http://www.almokhtsa صلى الله عليه وسلم com/html/news/1425/09/27/4/31181.php
=============(4/126)
(4/127)
سياج العفاف
فيصل بن عبد الله العمري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد:
العفاف مركز شرفٍ، ومورد عز وفخار، للمجتمعات الإسلامية، وهو من أخص مميزاتها، وأولى اهتماماتها، ومن أهم ما يسعى إلى المحافظة عليه أهلها، إذ به يرتفع شأنهم ويتميز منهجهم، ويسمو قدرهم، مما أغاض أعدائهم من ذوي النفوس الدنيئة والأفكار المنحرفة، والمناهج الضالة، من علمانيين ومتغربين، فسعوا جاهدين إلى النيل منه ونقض عراه، عبر خطط مدروسة، وأفكار مدسوسة، باثين سمومهم وسط المجتمع المسلم عبر وسائلهم المتعددة من منابر إعلامية أو كتابات صحفية، أو صيحات ومطالبات سياسية، يبغون من وراء ذلك كله هدم قيم الإسلام وتفشي قيم الكفر والانحلال، زاعمين بذلك أن هذا هو التقدم وأن البقاء على العادات والتشريعات هو مركز التخلف وعنوان التأخر، حتى قال احدهم وهو يتحدث عن قضية المرأة ما نصه: " وإن كانت قضيتها أقسى لأنها محكومة لا بتقاليد فقط، بل بتشريعات وعادات تزعم أنها دائمة"، وقال أيضاً وهو يتكلم عن قوامة الرجل على المرأة وأنها تعتبر سيطرة وملكية خاصة ما نصه: "يسيطر على المجتمع التقليدي ـ أي المسلم المحافظ ـ خوف عصابي مزمن من مسألة فقدانه السيطرة على المرأة... وهؤلاء هم غالباً من دعاة تعدد الزوجات والتسري، وأنصار الملكية الخاصة ـ أي قوامة الرجل على امرأته ـ ودعاة القيم الأخلاقية والرجولية التقليدية المرتبطة بمجتمعات قديمة ـ أي مجتمعات المسلمين الأولى ـ لا نستطيع أن نقول إلا أن الزمن قد تجاوزها، أو أن علينا أن نتجاوزها إذا أردنا أن نتقدم أو أن ندخل العصر الحديث" (قضية المرأة ـ المقدمة / محمد الخطيب/ وزارة الثقافة دمشق)..
فهذا أنموذج بسيط لبعض أفكارهم الهدامة، وتصوراتهم الخاطئة حول المرأة، وهم بذلك كله يسعون لهدم سياج العفاف، وتحطيم موازين الحياء، من خلال دعاواهم الهدامة على مرتكزات القيم، ومعالم الكرامة للمرأة المسلمة، والتي ننتقي منها هنا أهمها وهي: الحجاب، والاختلاط، والقرار في البيوت.
- الحجاب:
الحجاب عبادة أمر الله بها، وليست عادة فرضها الزمن، أو ترسخت عبر التاريخ، دل على ذلك أدلة الكتاب والسنة المرجعان الوحيدان في التشريعات والأحكام الإسلامية ومنها:
• قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (59: الأحزاب) قالت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهن: "لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية" أخرجه أبو داود.
والجلابيب: جمع جلباب، والجلباب: هو ما تضعه المرأة على رأسها للتحجب والتستر به، أمر الله - سبحانه - جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك؛ حتى يعرفن بالعفة فلا يُفتتن ولا يَفتن غيرهن فيؤذيهن.
قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول الله - عز وجل -: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى.
• وقال - سبحانه -: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ... الآية) (31: النور).
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) يعني بذلك: ما ظهر من اللباس، فإن ذلك معفو عنه، ومراده بذلك - رضي الله عنه -: الملابس التي ليس فيها تبرج وفتنة.
وأما ما يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه فسر (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين، فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب، وأما بعد ذلك فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع، كما سبق في الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيرها.
ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك: ما رواه علي ابن أبي طلحة عنه أنه قال: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة)، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق، وهو الحق الذي لا ريب فيه.(4/128)
وأما ما رواه أبو داود في سننه عن عائشة - رضي الله عنها -: أن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال:: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى وجهه وكفيه - فهو حديث ضعيف الإسناد لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه من رواية خالد بن دريك، عن عائشة، وهو لم يسمع منها، فهو منقطع؛ ولهذا قال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث: هذا مرسل، خالد لم يدرك عائشة.. ولأن في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف لا يحتج بروايته.. وفيه علة أخرى ثالثة، وهي: عنعنة قتادة عن خالد بن دريك وهو مدلس.
• وقال - تعالى -: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (32: الأحزاب).
نهى - سبحانه - في هذه الآيات نساء النبي الكريم أمهات المؤمنين، وهن من خير النساء وأطهرهن عن الخضوع بالقول للرجال، وهو: تليين القول وترقيقه؛ لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا، ويظن أنهن يوافقنه على ذلك، وأمر بلزومهن البيوت، ونهاهن عن تبرج الجاهلية، وهو: إظهار الزينة والمحاسن، كالرأس، والوجه، والعنق، والصدر، والذراع، والساق، ونحو ذلك من الزينة؛ لما في ذلك من الفساد العظيم، والفتنة الكبيرة، وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا.
وإذا كان الله - سبحانه - يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن وطهارتهن، فغيرهن أولى بالتحذير والإنكار، والخوف عليهن من أسباب الفتنة، عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن.
ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن قوله - سبحانه - في هذه الآية: (وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
فإن هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن.
• وقال الله - عز وجل -: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (53: الأحزاب) فهذه الآية الكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم، وقد أوضح الله - سبحانه - في هذه الآية أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء، وأبعد عن الفاحشة وأسبابها، وأشار - سبحانه - إلى أن السفور وعدم التحجب خبث ونجاسة، وأن التحجب طهارة وسلامة.
فيا معشر المسلمين، تأدبوا بتأديب الله، وامتثلوا أمر الله، وألزموا نساءكم بالتحجب الذي هو سبب الطهارة، ووسيلة النجاة والسلامة. (عن رسالة الحجاب والسفور/ ابن باز بتصرف).
وليس مقصود الحجاب فقط هو تستر المرأة بالجلباب وتغطيت بدنها به، وإن كان هذا من أهم مقاصده، لكن مقصوده أبعد من ذلك: فهو حجب كل وسائل الفتنة عن المرأة ومنها، وحمايتها من كل أسباب الرذيلة وهدم سياج العفاف، فكل ما خالف هذا المقصود فهو ليس بحجاب.
لذلك تجد أن أول ما يدعو إليه دعاة الرذيلة هو نزع الحجاب، وكشف الوجه وتميع معنى العباءة في نفس المرأة، لأن نزع الحجاب سبيل تسهيل كل مأربهم الضالة من اختلاط النساء بالرجال، وعمل المرأة بجوار الرجل في مكتب وأحد، ومحادثة المرأة للرجل في السوق والأماكن العامة، وقيادة المرأة للسيارة، وغيرها، لأنه إذا نزع الحجاب تيسر كل ذلك إذ لم يعد عند المرأة ما يمنعها من فعل شيء مما سبق ذكره إذا كان الوجه مكشوفاً والحجاب منزوعاً، والرجال ينظرون إليها بدون مانع ولا حاجز. لذلك تجد كبيرهم الذي علمهم الرذيلة وسنها لهم ـ قاسم أمين ـ يقول في كتابه (تحرير المرأة): كيف يمكن لامرأة محجوبة أن تتخذ صناعة أو تجارة للتعيش منها... كيف يمكن لتاجرة محجوبة أن تدير تجارتها بين الرجال..." إلى أخر كلامه الذي يدلل على مدى ما يسعى إليه من نزع الحجاب وإحلال السفور بدلا منه.
فإذا هدم سياج الحجاب سهل الدخول إلى الاختلاط والسماح به، لأنه لم يعد عند المرأة ما يمنعها عن مخالطة الرجال وقد نزعت حجابها.
- الاختلاط:(4/129)
مما لا يختلف فيه اثنان ما غرز الله في الذكر والأنثى من انجذاب كل واحد منها إلى الآخر ـ حتى تتحقق حكمة التناسل البشري ـ لذلك جعل الله بحكمته البالغة ضوابط وحدود تضبط هذا التجاذب، ومنع من ترتب المفاسد عليه من قيامه على غير وجهه الشرعي، لذلك كله حرم الاختلاط بين الجنسين، وأمر بقيام العلاقة بينهما على وجهها الشرعي بالزواج، وضبط ما عداه في العلاقة بضوابط شداد، فقال - تعالى -مخاطباً صحابة رسول الله صلى لله عليه وسلم عن نسائه: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (53: الأحزاب) فإذا كان هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم مع زكاة نفوسهم، وطهارة قلوبهم، ومع أزواج رسوله صلى الله عليه وسلم وهن أمهات المؤمنين، صاحبات الحياء الكامل والدين المتين، مع خلو زمنهم من دواعي الشهوة، ومثيرات الفتن، وأخبر أن قيام الحجاب بينهم عند سؤال الحاجات هو أطهر لقلوب أمهات المؤمنين وصحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فكيف بحال نساء اليوم ورجاله الذين قد فسدت أخلاقهم، وكثرت دواعي الشهوة في مجتمعاتهم والله المستعان، فإن قيام هذا الحجاب بينهم عند قضاء الحاجات، بمنع الاختلاط وضبط التعامل بميزان الشرع القائم على درء المفاسد وجلب المصالح أولى وأحرى.
وقد ثبتت التجارب، وشهد الواقع، بمفاسد عظيمة ترتبت على هذا الاختلاط بين الجنسين، من فشو الرذيلة، وانتشار الزنا وأولاد الزنا ـ حتى أصبحت أمريكا وحدها فقط تنتج كل سنة مليون ولد من الزنا، بل واشتكى من مخاطر الاختلاط من عاشره وراء مفاسده من نساء ورجال ـ غير ما في الاختلاط من قيام العلاقات المشبوهة المنتهية بالأسى وخاصة في حق المرأة وذويها، وإن دخول الاختلاط في المجتمعات المحافظة لأعظم سبيل إلى إفسادها وهدم سياج عفافها، لذلك ترى دعاة الفساد ينادون صباحا مساء بالسماح للمرأة بالعمل في كل المجلات، حتى في المصنع والورشة وغيره التي لا تتفق مع فطرة المرأة، وليس هذا غيرة منهم على المرأة وتلبية لحاجتها التي قد تكون من وراء العمل، بل لتحقيق أغراضهم الهدامة ومأربهم الضالة من حلول الفساد بدل الصلاح، وانتشار الرذيلة بدل الفضيلة حتى تشبع غرائزهم الشهوانية، وتلبى مطالبهم الحيوانية.
لذلك نهى الله عن تبرج الجاهلية في قوله: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (33: الأحزاب)..
"في هذه الآية حذر - سبحانه - النساء من التبرج تبرج الجاهلية وهو إظهار محاسنهن ومفاتنهن بين الرجال، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" (متفق عليه من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - وخرجه مسلم في صحيحه عن أسامة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - رضي الله عنهما - جميعا)، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (مسلم) ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الفتنة بهن عظيمة ولا سيما في هذا العصر الذي خلع فيه أكثرهن الحجاب وتبرجن فيه تبرج الجاهلية وكثرت بسببه الفواحش والمنكرات وعزوف الكثير من الشباب والفتيات عما شرع الله من الزواج في كثير من البلاد، وقد بين الله - سبحانه - أن الحجاب أطهر لقلوب الجميع فدل ذلك على أن زواله أقرب إلى نجاسة قلوب الجميع وانحرافهم عن طريق الحق". (عن رسالة لابن باز - رحمه الله - حول الاختلاط في لتعليم).
- القرار في البيوت:(4/130)
من حكمة الله الذي خلق الذكر والأنثى أن جعل تكوين كل واحد منهما مختلف عن الآخر، ليقوم كل واحد منهما بواجبه في الحياة على أكمل وجه وأحسنه، فالمرأة قوي فيها جانب العاطفة، والرجل قوي فيه جانب العقل وقوة البدن ليتحمل المشاق ويفكر في الإنتاج وجمع المال، لذلك كلف الله الرجل بالنفقة على من تحته من نساء، وكلف المرأة بالرعاية لشؤون البيت ورعاية الأطفال، إذ النفقة والسعي لها من واجبات الرجال، فهم الذين يجب عليهم جمع المال والإتيان به قال - تعالى -: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق: 17) وقال صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع وكل مسئول عن رعيته... إلى أن قال والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وولده ومسئولة عن رعيتها" (متفق عليه) وبهذا الحديث تتحدد مسؤولية الرجل ومسؤولية المرأة، فالرجل مسئول عن رعاية أهله بالتكسب لهم والنفقة عليهم، والمرأة مسئولة عن رعاية بيتها والعناية بشؤونه.
فهذه هي مهمة المرأة الحقيقية والتي تتناسب مع فطرتها السوية، وتتوافق مع خلقتها البدنية وتتماشى مع تكوينها النفسي.
لذلك أمر الله المرأة بالقرار في البيت، وأمر الرجل بالسعي في الدنيا والبحث عن الرزق فقال - تعالى -في شأن المرة: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ) (33: الأحزاب)، وهذا هو لأمر المتوافق مع طبيعة المرأة الضعيفة، التي تغلبها العاطفة وتسيطر على تصرفاتها، وهذا من حكمة الله الذي يعلم ما خلق: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (14: الملك) حتى تحنوا على ولدها وتصبر على معاناة تربيته ورضاعة، وما يلحقها من ذلك من مشقة، فتصبر عطفا على ولدها وحبا له، وهذا ما لا تجده عند الرجال الذين تغلب عليهم الشدة وقلة الصبر من معاناة الأطفال، وهذا يوصلنا إلى أن قرار المرأة في بيتها هو أصلح لها ولولدها وزوجها ومجتمعها، وأحفظ لدينها وحيائها، وأرعى لعفافها وكرامتها.
ولكن دعاة التغريب وحملة راية الفساد يأبون إلا أن تخرج المرأة من دارها ويّدعون أن بقائها في منزلها تعطيل لمُقدَراتِها، وشل لقُدراتها، وإهمال لنصف المجتمع، غافلين أو متغافلين أن بقاء المرأة في بيتها لا يعني تعطيلها عن خدمة مجتمعها أو قيامها بواجبها واستفادتها من قُدراتها، بل بقائها في بيتها هو تفريغ لها لواجبها الأسمى وتحقيق للفائدة العظمى منها لها ولمجتمعها، فهي في المنزل تربي للمجتمع، وتصنع الرجال وتحفظ النساء، فهي تبنى الإنسان وتُقوِّم سلوكه وتحقق استفادة المجتمع كله منه، وهذا والله هو أعظم واجب تقوم به وأكمله، فإذا كان الرجل يخرج من منزله ليعمل من أجل أن يبنى المجتمع، أو يُطعم ويَسقي، فإن المرأة تصنع الإنسان الذي يصنع المجتمع، وتربي الأجيال الذين يرتقى بهم، وهذا والله أعظم وأكرم من عمل الرجل الذي يتعامل مع الجماد والإنسان كجسد، أما المرأة فهي تتعامل مع الإنسان كروح تحيى بحياتها مجتمعات وتموت بموتها أخرى.
وقد شكي من خروج النساء من منازلهم وتركهم مهمتهم الأولى ـ وهي تربية الأجيال ـ الغرب أنفسهم الذين جربوا ذلك وفقدوا بسببه كثيراً من معاني الحياة الحقيقة، إذ أنه بعمل المرأة وخروجها من بيتها يتعطل المجتمع كله، فيقول أحد أركان النهضة الإنجليزية: إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشاء عنه من الثروة فإن نتيجته هادمة لبناء الحياة المنزلية، لأنه يهاجم هيكل المنزل ويقوض أركان الأسرة ويمزق الروابط الاجتماعية ويسلب الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم وصار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة إذ وضيفتها الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية مثل ترتيب مسكنها وتربية أولادها والاقتصاد في وسائل معيشتها مع القيام باحتياجاتهم البيتية.
ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير المنازل، وأضحت الأولاد تشب على عدم التربية وتلقى في زوايا الإهمال، وانطفأت المحبة الزوجية وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة والمحبة اللطيفة وصارت زميلة في العمل والمشاق، وصارت معرضة للتأثيرات التي تمحو غالبا التواضع الفكري والتوادد الزوجي والأخلاق التي عليها مدار حفظ الفضيلة. انتهى كلامه. (عن رسالة عمل المرأة بين الشرع المطهر والواقع الملموس/ فيصل العمري).
وهذه شهادة مجرب عاش واقع خروج المرأة من بيتها وعدم قرارها فيه، والعاقل من أعتبر بغيره، وكفي بالذي خلق الثقلين بصيراً وخبيرا فقد أمر المرأة بقرارها في بيتها ووجهها إلى رعاية شؤونه ونهاها عن ترك هذه المهمة العظيمة، حتى يتكامل المجتمع، ويقوى بنائه ويصلح حاله.
وكل من ترك ما أمر الله به إلى ما نهاه عنه وجد من مغبة ذلك ومفسدته ما يندم عليه حين لا ينفع الندم.(4/131)
وبهذا نصل إلى نهاية المطاف من تبين سياج العفاف وشد عراه، والذي يسعى أرباب الفساد ودعاة التغريب إلى نقض عراه وهدم بنائه، من خلال الدعوة إلى السفور والاختلاط وترك المرأة لبيتها، وما يلحقها بعد ذلك من مصائب ومفاسد لا يعلمها إلا الله والله المستعان.
فاحذر أخي المسلم واحذري أختي المسلمة من الاغترار بكيدهم أو الانخداع بمكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، حتى ولو تلبسوا بلباس الدين أو تمسحوا بكلمات الشريعة، وعليكم بالأمر العتيق الذي يُحفظ به الدين وتقوم به الشريعة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
13/11/1425
http://www.saaid.net المصدر:
============(4/132)
(4/133)
حركات التحرير في ثوبها الجديد
د. عبد العزيز كامل
التاريخ (الرسمي) الحديث أكثره تاريخ مزيف؛ فأبطاله المعاصرون أكثرهم من الأصنام المصنوعة في صور ثوار ملهمين، أو قادة مصلحين، أو جنرالات وضباط وُصِفوا بالأحرار مع أنهم لم يكونوا سوى حلفاء ثم خلفاء للاستعمار، بعد رحيل هذا الاستعمار شكليّاً ومرحليّاً عن بلاد المسلمين خلال عقود خلت.
وقد جسد هؤلاء العملاء في وضوح مفضوح حقيقة التحالف السرمدي الدنس بين قوى الكفر الظاهر، وتكتلات النفاق المراوغ الذي يتقلب في ألوان الخداع والمكر محاولاً إخفاء حقيقته المعادية لله ولرسوله والمؤمنين: ((يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ))[البقرة: 9].
ولم تكن حقبة الثورات والانقلابات التي عصفت بالمنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين تحت مسمى (حركات التحرير) إلا تعبيراً عن تذبذب هؤلاء في الولاء بين الأمة وأعدائها؛ فهم قد قاموا بثوراتهم، وأطلقوا حركاتهم، وأسسوا أحزابهم باسم تحرير الشعوب، واسترداد السيادة، ومقاومة المعتدين، ولكن هذا الظاهر الطاهر كان يخفي وراءه باطناً شائناً تمثل في قهر الشعوب، وإضاعة مقدراتها، وتمكين الأعداء منها، ومع ذلك ظل هؤلاء (التحرريون) ((مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ وَلا إلَى هَؤُلاءِ))[النساء: 143]، والآية - كما قال ابن كثير - تتحدث عن قوم: «محيَّرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهراً أو باطناً، ولا مع الكافرين ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشك؛ فتارة يميل إلى هؤلاء، وتارة يميل إلى أولئك ((كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا))[البقرة: 20](1).
والمعروف أن الزعامات «التحررية» لم تزعم يوماً أنها تتبنى نهج الإسلام، بل إنها رفعت الرايات المناوئة له، وتبنت النظريات المتناقضة معه، حتى أوقعوا الناس معهم في حيرة بسبب التخبط في المناهج، ومحاولة إلصاق الباطل الذي يجيئون به مع الحق الذي جاء من عند الله، وقد وجدوا من المضللين من يلفق لهم خليطاً هجيناً ليصنعوا منه منهجاً وديناً (( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ))[النساء: 143]؛ فمرة يتحدثون عن الاشتراكية الإسلامية، ومرة عن الديمقراطية الإسلامية أو الإسلام الليبرالي، وأخيراً يجري الحديث اليوم عن خداع جديد يتطلب مخادعين جدداً تحت مسمى (الإسلام المدني الديمقراطي) على ما سيأتي بيانه.
إننا على أبواب عهد جديد تغلق فيه الحقبة الثورية الصاخبة القديمة للتحريريين القدامى الذين أوغلوا في إضاعة الأمة وإضعافها، لنلج في مرحلة جديدة «أبطالها» جيل جديد من فصيلة «التحريريين» ولكن بلا رايات ثورية، ولا شعارات نارية، ولا حناجر ولا خناجر، جيل جرى تجهيزه في دهاليز المخابرات، وأوكار الجاسوسية؛ يمثله فئام من عملاء باهتين مدجنين، يرضون بالقوادة بدل القيادة، ولا يأنفون من الانبطاح لذوي «السيادة» من اليهود والنصارى أو غيرهم.
أما مناسبة تسميتهم بـ (التحريريين) مع كل هذا؛ فلأنهم يتواءمون ويتلاءمون مع مشروعات وأطروحات مرحلة جديدة من خطط (التحرير) الأمريكي التي بدأت في أفغانستان، ثم انتقلت إلى العراق ليجري الترتيب بعد ذلك للمزيد من عمليات (التحرير)، كـ «تحرير» سوريا، و«تحرير» إيران، و«تحرير» لبنان، و«تحرير» السودان، وغير ذلك.
إنها مرحلة جديدة من عهود «التحرير» تختلف جذريّاً عن مراحل الجعجعات النفاقية السابقة بإزالة الاستعمار، ومقاومة الاحتلال، والمقاومة من أجل الاستقلال، إنها مرحلة يدافع فيها «التحريريون» الجدد عن «حسنات» الأجنبي، و«مناقب» المحتل، و«فضائل» المستعمرين الجدد.
وإذا كان التحريريون القدامى قد خبروا على مدى عقود طويلة كيف يخدرون الأمة بشعارات التحرير الزائفة الكاذبة لتجد نفسها في النهاية في أسر التبعية والعبودية؛ فإن التحريريين الجدد يختصرون الطريق، فيبشرون الناس مقدماً بالعجز والإفلاس، وضرورة الاستسلام المبكر باسم الواقعية، وهم يبذلون جهدوهم من الآن لتوطين الهزيمة، وتطبيع المشاعر لـ «التعايش السلمي» مع الغزاة المجرمين.
بين عهدين:
بالرغم من سطوع الحقيقة القائلة بأننا على أبواب عهد جديد من الممارسة النفاقية باسم التحرر؛ إلا أنني أقول إننا لم نَلِجْها بعدُ بشكل كامل، فلا زلنا نعيش في الفترة الانتقالية بين عهدي التحريريين القدامى والتحريريين الجدد؛ إذ لا تزال بقية من الثوريين والتحريريين القدامى تقاوم الفناء، وتستميت في استرضاء الأعداء بإحداث انقلابات فكرية جذرية موتورة، لا تقل في خفتها وسخافتها عن الانقلابات العسكرية الثورية التي كانوا يفاجئون الأمة بها بين آن وآخر.
ولأن هناك أجيالاً ناشئة قد نأت زمانياً أو مكانياً عن عهود التحريريين القدامى فلا بد من استرجاع شيء من مسيرة هؤلاء القدامى الذين مارسوا الإفساد باسم الإصلاح، ورسخوا التبعية باسم التحرير.(4/134)
إن نظرة عاجلة في تاريخ هؤلاء تنبئك بأنهم مسؤولون عن واقع الأمة الأليم اليوم، وما النكبات والنكسات المتوالية على أيديهم إلا أعراض لأمراض مزمنة مرضت بها قلوبهم، وأرادوا أن يمرضوا بها الناس ((فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً))[البقرة: 10]، وتتلخص هذه الأمراض في سوء الظن بالله، والكراهية لما أنزل الله، وشدة العداوة لأولياء الله من المؤمنين الصادقين العاملين لنصرة الدين؛ وذلك في الوقت الذي يحسنون فيه الظن بالأعداء وما هم عليه من باطل وشر، كان دوماً يأسر قلوبهم حتى يبالغوا في تقليده، ويتفننوا في استيراده أو استنساخه في ديار المسلمين، وهم مع كل هذا يستنكفون أن يُنسب المسلمون إلى الإسلام، بل يختلقون من دونه الروابط والمناهج الجاهلية: مرة باسم القومية العربية، وتارة باسم البعث العربي الاشتراكي، وطوراً باسم التقدميين أو الاشتراكيين أو اليساريين، والآن باسم الليبراليين أو التنويريين أو الحداثيين، وفي جميع الأحوال فهم كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون ((وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ))[البقرة: 11 - 12].
لقد انتعشت تلك الحركات في ستينيات القرن المنصرم تحت ما يسمى بـ (ثورات التحرر)، وكان على رأسها الحركات القومية التي تتمثل في ثلاث فصائل رئيسية هي: البعث العربي، والقوميون العرب، والناصريون، وقد تمكنت هذه الحركات من الوصول إلى السلطة مدعية أنها ستحرر شعوبها من آصار الاستعمار، فحكمت في مصر وسوريا، والعراق والجزائر، وليبيا واليمن، والسودان، وبقيت معظم الدول الأخرى في أطر تتسم بالفردانية لا القومية، فكانت في الغالب لا تثور ولا تثير ولا تثار، أما التحريريون القدامى؛ فقد ابتكروا ثم احتكروا شعارات التثوير والتخدير مثل: «ثورة ثورة حتى النصر»، «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، «المعارك مستمرة حتى تحرير آخر شبر» «آخر بوصة» «آخر ذرة من التراب الوطني» «آخر حبة رمل من الأرض العربية»!! ولكن ذلك الـ «آخر» لم يأت في أول عهود الثوريين القدامى ولا في آخرها؛ فهاهم يرحلون عن أسرَّة المرض، أو كراسي الحكم، الواحد تلو الآخر، في وقت لا تجد فيه أقدس وأعز وأغلى أوطان العرب والمسلمين من يتحدث عن تحريرها، فضلاً عن العمل لإنقاذها.
صحيح أن التحريريين عاشوا فترة من الانتفاش والانتعاش لا تزيد عن عقد واحد من الزمن، إلا أن الهزائم بدأت تتوالى عليهم، بدءاً من هزيمة عام 1967م التي كسرت كبرياء زعيم القوميين جمال عبد الناصر، الذي كان قد حاز زعامة شعبية جارفة امتدت من المحيط إلى الخليج بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ولكن عبد الناصر سقط في حرب النكسة أمام (عصابات) اليهود التي توعد بإلقائها في البحر، وسقطت بسقوطه العديد من شعارات التحريريين، ثم توالى السقوط للأنظمة «التحرّرية» الأخرى؛ فما أن مات الزعيم كمداً من خذلان الشرق الشيوعي له، حتى ارتمى أبرز زملائه التحريريين في أحضان الغرب الرأسمالي، سالكين سياسة (الانفتاح) على كل ما هو غربي في الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة، وقد سُبق ذلك بتتابع سقوط الثوريين في دول أخرى غير مصر عبر انقلابات واضطرابات سادت كلاً من اليمن، والجزائر، والسودان، أما ليبيا التي حاول زعيمها أن يتزعم مسيرة القومية العربية والناصرية معاً فقد قام على القومية فانقلب عليها، وتنصل من الناصرية فابتعد عنها، ونأى بليبيا عن العروبة بعد أن بَعُد بها عن تطبيق الإسلام الذي وعد به في أول عهده، وكان سقوط زعامة ليبيا للقومية العربية قد سبقه بوقت غير طويل سقوط قيادة البعث العراقي فكرياً قبل أن يسقط عملياً؛ حيث قَتَل صدام فيمن قتل آخر أمل بقيام وحدة عربية - ولو شكلية - بقيامه بالغزو المفاجئ للجارة الكويت، ولم تبق للقومية التي أسقطها الزعيم القومي صدام من صوت بعد ذلك السقوط إلا في معقل قومي صغير ظل يعمل في سوريا باسم (البعث العربي السوري)، وظل يردد في طنين بلا رنين طموحات التحرير والتغيير و(البعث)، ولكن تحت مشاعر تبعث على الخجل أكثر مما تبعث على الأمل، لاستمرار الجولان في الأسر اليهودي نحو سبعة وثلاثين عاماً، تنادي البعثيين والقوميين والناصريين وكل الثوريين والتحريريين أن هلموا لإنقاذي؛ فأنا (الجولان) أخت القدس والضفة وقطاع غزة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
نتائج متوقعة لمقدمات واقعة:
لم يكن فشل التحريريين القدامى في مجابهة التحديات التي واجهت الأمة إلا تحصيل حاصل؛ فحركاتهم الثورية لم تمارس الثوران إلا على شعوبها، ولم يصرفها عن مواجهة تحديات الخارج المزعومة إلا الانشغال بتحديات الداخل الموهومة.(4/135)
وقد أثبتت الأيام أنه ما من حركة من تلك الحركات أو ثورة من تلك الثورات كانت ذات بأس إلا على قومها رغم دعاوى القومية، ولا كانت ذات جبروت إلا على مواطنيها، مع طنطنات الوطنية، أما الأعداء الحقيقيون فلم يكن أولئك الثوريون يمثلون أمامهم يوماً نموذجاً يبعث على الهيبة فضلاً عن الاحترام.
إن هناك أسباباً موضوعية أوصلت «مشروعات التحرير» إلى التحلل من استحقاقات التغيير الموعود والتحرير المنشود، وأهمها: أن تلك الحركات لم تحمل في الحقيقة مشروعاً حقيقياً للنهوض يليق بتاريخ الأمة وحضارتها ودينها الذي مهما ابتغت العزة بغيره أذلها الله، بل كان الثوريون يحملون خليطاً هجيناً مستهجناً من أفكار الكفار في الشرق الشيوعي، مطعمة بسقطات أصحاب الفلسفات في الغرب الصليبي، وفي ظل ذلك وقع التنافس بين الثوريين و«المحافظين»، وأخذ أشكالاً عديدة من الصراع وصلت في بعض الأحيان إلى التآمر المتبادل مع قوى «أجنبية» لقلب الأنظمة وتصفية الحسابات، وكان هذا التآمر - ولا يزال - سبباً في استهانة ذلك الأجنبي بكلا الطرفين، وازدرائه بقومية تقوم على قيام كل قوم على إخوانهم.
كانت الأولوية في مهمات الأنظمة العربية الثورية هي محاربة الأنظمة العربية غير الثورية، أو الأنظمة المحافظة التي كان الثوريون يدمغونها بالرجعية، وكانت تلك أيضاً لا تدخر وسعاً في دعم خصوم خصومها، لكي ينوبوا عنها في أدوار النكاية والتنكيل، وبينما كانت عقدة العقد عند الثوريين هي «تصدير الثورة» فقد كان جلها عند المحافظين هو احتكار الثروة، وبين نزق الثورة وجشع الثروة ضاعت الأرض، وجاعت الشعوب، وتفرقت الكلمة.
ولم يدخر «الوحدويون» من التحريريين أي جهد لتمزيق وحدة الأمة - أو ما تبقى من وحدتها -؛ فعبد الناصر مثلاً نكَّل بالإسلاميين في مصر، ومع ذلك تمكن من التفرد بزعامة الساحة الشعبية العربية في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، وحاول أن يخطو خطوة على طريق ما كان يسمى بـ (الوحدة العربية) بإقامة كيان (الجمهورية العربية المتحدة) بين مصر وسوريا على أساس القومية الجاهلية العربية، ولكن جاءه من القوميين من يفسد خططه؛ فإذا بالبعث السوري (القومي) ينبعث مسرعاً في منازعته في زعامة القوم، فانسحب ذلك البعث من الوحدة مؤيداً الانفصال، بل بادر البعثيون السوريون إلى تسريح الضباط الموالين لعبد الناصر في الجيش السوري، وأعدموا بعضهم إثر حركة (جاسم علوان) في شهر يوليو / تموز 1963م الذي قاد تمرداً عسكرياً، وطلب من عبد الناصر الحماية، وتقرر بعد ذلك فرض الانفصال بين دعاة الوحدة والتحرر.
وما أن هُزم عبد الناصر بعد ذلك بأربع سنوات - أي في حرب النكسة - حتى انقلبت عليه بقية أخرى من القوميين العرب، وحمّلوه مسؤولية الهزيمة، بل تحول بعضهم من التوجه القومي إلى التوجه الماركسي، فتحولت مثلاً حركة القوميين العرب في اليمن الجنوبي إلى كيان ماركسي تمكن من إقامة دولة شيوعية في جنوب اليمن، فمثلت بذلك سابقة خطيرة في إخضاع شعب مسلم كريم لحكم عصابة من لئام الملحدين، وجرياً على عادة الثوريين المزمنة بتبادل تهم الخيانة؛ بادر المنشقون عن عبد الناصر من القوميين باتهامه بالخيانة بعد أن قَبِلَ بأول مبادرة سلام أمريكية مع اليهود، وهي مبادرة روجرز لعام 1970م(2).
ولم يكن مصير تيار الناصرية والقومية خارج مصر بأحسن منه في داخلها؛ فقد انقلب رفيق درب عبد الناصر على الناصرية والمعسكر الشرقي، ليختط لنفسه سبيلاً موالياً للغرب، عُرِف بـ «النهج الساداتي»، وكان أبرز معالم ذلك النهج الجديد (في العهد الثاني للثورة القومية) هو خلع أردية القومية الجماعية، والمبالغة في لبس مسوح الوطنية الفردية التي انعزلت بها مصر سياسياً عن العرب والمسلمين، لتقترب من اليهود والغربيين ضمن أُطر معاهدات السلام المنفردة مع (العدو المصيري)، الذي لم يجئ الوحدويون التحريريون الثوريون - للأسف - إلا بدعوى مواجهته تحت شعار (قومية المعركة).
ولم تكن الوحدة العربية أسعد بالتحريريين في سوريا منها في مصر؛ فبعد انقلاب البعثيين في شهر فبراير / شباط عام 1966م، قام وزير الدفاع السوري آنذاك (حافظ الأسد) بحركة انقلابية في نوفمبر / تشرين الثاني عام 1970م، أطاح فيها بزعامة حزب البعث القطرية التي كان على رأسها أمين الحافظ الذي لجأ إلى العراق طوال العهد البعثي، ولم يُسمح له بالعودة إلى سوريا حتى بعد سقوط صدام حسين.
وانشق حزب البعث السوري أيضاً على حزب البعث العراقي بعد انشقاق البعثيين السوريين على أنفسهم، ثم انشق البعثيون العراقيون على أنفسهم، فقاد صدام حسين حركة انقلابية ضد رفاقه البعثيين، وقتل منهم عدداً كبيراً، كان منهم قادة كبار من أعضاء القيادة القطرية في العراق، بل قتل صدام عدداً من أعضاء مجلس قيادة الثورة نفسه، وأمر بعض الرفاق بأن ينفذوا حكم الإعدام رمياً بالرصاص في رفاقهم الآخرين عام 1979م، وقد كانت تهمة البعثيين العراقيين لزملائهم من البعثيين العراقيين الآخرين هي التآمر لحساب البعثيين السوريين.(4/136)
أما رفاق التحرر والوحدة في اليمن فلم يكونوا أقل سعياً في تفكيك عُرى الأمة؛ فرغم جعجعاتهم عن الوحدة القسرية المصيرية بين الأمة العربية لم يستطع أولئك (الأحرار) التحرر من نزعة الافتراق والتفرق؛ حتى إن فريقاً منهم اختلفوا في إحدى اجتماعات اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الحاكم، فلم يستطيعوا أن يديروا الحوار بينهم بالكلمات، أو حتى باللكمات؛ فما كان منهم إلا أن أداروا الحوار بينهم بالبنادق والرشاشات، حيث استطاعت الأقلية المعارضة من أعضاء اللجنة المركزية الاشتراكية تصفية شركائها، فقتلت أغلبيتهم في حوار ديمقراطي «تحرري» أسفر عن سقوط حصيلة كبيرة من القتلى.
ملامح العهد التحرري الجديد:
إذا كنا لا نزال نعيش مرحلة انتقالية بين عهدي التحرريين القدامى والتحرريين الجدد القادمين مع مشاريع «التحرر» الأمريكية؛ فلا بد لنا من التعرف على ملامح العهد التحرري الجديد الذي سيسلم فيه قدامى التحرريين مفاتيح المسؤولية طوعاً أو كرهاً للجيل الجديد، الذي سيعيد أو سيساهم في إعادة الاحتلال، وإضاعة ما تبقى من استقلال لصالح المشروعات الأمريكية المعلنة وغير المعلنة في منطقتنا العربية والإسلامية. فلم يعد خافياً أن للولايات المتحدة الأمريكية مشروعاً كبيراً للسيطرة على العالم، ولم يعد خافياً أن هذا المشروع يقوم على نوع من الشراكة والتعاون بين الصهيونيتين اليهودية والنصرانية، ولم يعد خافياً كذلك أن لهذا المشروع آلياته الاستراتيجية، وبرامجه السياسية، وطموحاته الاقتصادية، وطروحاته الحضارية والدينية، ولم يعد خافياً أيضاً أن من وضعوا أسس مشروع السيطرة الأمريكية على العالم باسم (إمبراطورية القرن الأمريكي) قد اختاروا ديار العالم الإسلامي بعربه وعجمه لتكون منطلقاً لذلك المشروع، بعد أن أطلقوا على ذلك العالم الإسلامي اسم (الشرق الأوسط الكبير) ثم (الشرق الأوسع)!
لم يعد هذا ولا ذاك خافياً، أما الذي لا يزال خافياً؛ فهو الخطوات العملية التنفيذية لهذه المشروعات التسلطية من حيث توقيتاتها وطبيعتها المتفاوتة بين الغزو العسكري الخارجي، والانقلابات الداخلية (الديمقراطية) التي سيقودها من يسمون بـ (الإصلاحيين التحرريين)، وفي كلتا الحالتين فإن الأمريكيين سيحتاجون إلى فريق متكامل من هؤلاء التحرريين الجدد ليكوّنوا حكومات على شاكلة حكومة «التحرير» الكرزاوية(3)، وحكومة «التحرير» (العلاوية).
وكما كان الشأن في حكومات التحريريين القدامى؛ فإن مجموعاتهم لن تقتصر على العسكريين، بل سيكون بعض العملاء على شكل سياسيين أو مفكرين أو مثقفين أو حتى رجال دين، لا يجمعهم جميعاً إلا وصف الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ولأن الأمريكيين لن يستطيعوا الانطلاق في مشروعاتهم العالمية إلا من داخل عالمنا العربي والإسلامي؛ فقد كان لزاماً عليهم أن يجهزوا هذا الفريق من المتحررين من المبادئ لكي يعمل كـ «طابور خامس»(4) تحت إمرة المستعمر الأمريكي الجديد.
مهمة الأمريكيين ومن معهم من اليهود في المرحلة القادمة أن يطبقوا المزيد من مشاريع «التحرير»..! ومهمة المنافقين المتعاونين معهم والموالين لهم أن يقوموا على تنفيذ هذه المشاريع بالأمانة كلها لأعداء الأمة، والخيانة كلها لهذه الأمة.
لن يستطيع الأمريكيون والبريطانيون والإسرائيليون وغيرهم من أعداء الأمة أن يستكملوا مشروعاً واحداً إلا بمعاونة أولئك الخائنين أدعياء التحرر والتحديث، لن يستطيعوا إنجاز ما يريدون أو الباقي مما يريدون في أفغانستان أو العراق إلا بالتعاون معهم، ولن يستطيعوا الانتقال إلى ما يليهما من مشروعات لـ «التحرير» في كل من سوريا ولبنان، والسودان وإيران وغيرها إلا بمساندتهم، ولن يجرؤوا على قطع أشواط أخرى في مشروع (الشرق الأوسط الكبير) أو (الشرق الأوسع) إلا بالتواطؤ معهم، ولن يتمكن اليهود من القفز خطوات أخرى في مشروع (إسرائيل الكبرى) إلا بحبل ممدود لهم من الأمريكان، ومن هؤلاء المنافقين لأنهم ((ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ))[آل عمران: 112] وكل هذا يصب في النهاية لخدمة مشروع التسلط الصهيوني - اليهودي النصراني على العالم؛ فهل يتمكن أعداء الخارج من القفز إلى مآربهم على أكتاف أعداء الداخل كما كان يحدث كل مرة؟
إننا لا نستبعد ذلك؛ وخاصة أن أولئك المنافقين من الأعداء الباطنيين يبالغون في الإخلاص الظاهر لهؤلاء الأعداء بما يجعلهم أكثر عداءً للمؤمنين ((هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ))[المنافقون: 4].
إن مشروعاً جديداً من التآمر على الأمة بالتعاون ما بين الكفار والمنافقين يجري الآن تسويغه تمهيداً لتسويقه، ولا يمكن لمثل هذا المشروع أن يجد طريقه أو بعض طريقه إلى التنفيذ دون اتكاء كامل على فريق متكامل من أولئك المنافقين العلمانيين التحرريين المعادين للعقيدة والدين؛ فما هو هذا المشروع؟
استراتيجية «التحرير» من العقيدة:(4/137)
في سياق حربها المعلنة على العالم الإسلامي لم تستطع الولايات المتحدة أن تخفي الجانب الاعتقادي من تلك الحرب، فأخرجت مؤخراً إلى العلن أطروحات ومشروعات وبرامج تستهدف الدين بشكل مباشر، بعد أن كانت الحرب الدائرة تتدثر أحياناً بالأثواب الأمنية أو الاقتصادية، أو السياسية أو العسكرية باسم حماية المصالح.
وقد كشف في الآونة الأخيرة عن مشروع عدائي جديد يتحدث عنه تقرير تحت عنوان: (الإسلام المدني الديمقراطي.. الموارد والاستراتيجيات)، والتقرير أو البرنامج أصدره قسم أبحاث الأمن الوطني في معهد راند(5)، في سانتامونيكا بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وبتمويل من مؤسسة (سميث ريتشارد سون).
والتقرير عبارة عن استراتيجية جديدة ومبتكرة لإطالة أمد الحرب ضد الإسلام، وقد وضعته الباحثة الأمريكية (شريل بيرنارد) المتخصصة في قضايا ما يسمى بـ (تحرير المرأة) في العالم الإسلامي، وهي زوجة رجل المهمات القذرة (زلماي خليل زادة) الأفغاني الأصل، الأمريكي الجنسية، الذي هندس الساحة الأفغانية وهيأها لـ «التحرير» الأمريكي عن طريق ربط خيوط التحالف بين الأمريكيين وتحالف الشمال في أفغانستان، وهو الذي أنيطت به أيضاً مهمة التنسيق بين فصائل المعارضة العراقية العميلة والحكومة الأمريكية لتهيئة الأوضاع في عراق ما بعد صدام، وأنا شخصياً لا أستبعد أن يكون ذلك الزلماي القادم من (مزار الشريف) هو صاحب الدور الأساس في مشروع (الإسلام المدني الديمقراطي)، فما هي الأسس والمعالم التي يقوم عليها ويتسم بها ذلك المشروع؟ علماً بأن مؤسسة (راند) التي صدر عنها التقرير وثيقة الصلة بوزارة الدفاع الأمريكية التي أصبحت مرتعاً للمحافظين اليهود الجدد الذين يحكمون أمريكا اليوم.
إن التقرير يقوم على ما يلي:
` أمريكا ستظل ملتزمة بنشر قيمها في العالم بوجه عام والعالم الإسلامي بوجه خاص، ولا بد من جهات يمكن التعامل معها داخل البلدان الإسلامية على المدى الطويل.
` التعامل مع (الإسلام السياسي) غير ممكن، ولو بمفهوم التعاون التكتيكي القائم على المصالح.
` لا مناص من تأييد العلمانيين (المنافقين) في البلاد الإسلامية ضد المحافظين (الإسلاميين).
` الإسلاميون الأصوليون المعارضون للديمقراطية و«القيم» الغربية يجب اعتبارهم أعداء، وبخاصة بعد ما أظهرته أحداث سبتمبر.
` مناصرة العلمانيين ضد الإسلامين تعني تأييد التفسير العلماني للإسلام، ومساعدة العلمانيين على تأسيس منابر لنشر آرائهم، وإبرازهم على أنهم هم من يمثل الإسلام العصري المقبول، أو الإسلام الديمقراطي، باعتبار أن الإسلام (التقليدي) نظام ديكتاتوري!!
` العلمانيون أنفسهم ليسوا على درجة واحدة من الاستعداد للتعاون مع أمريكا؛ فهناك الوطنيون واليساريون الذين يرفضون التعاون، ولذا ينبغي التركيز على «أنصار الحداثة».
` جوهر الصراع بين العالم الإسلامي والغرب أصبح فكرياً؛ لأن الغرب يتفوق على الشرق الإسلامي في كل شيء، بينما لا ينازعونه المسلمون إلا في مجال الفكر والقيم.
` الحداثة هي ميدان المعركة، والحداثيون والعلمانيون هم عمادها، ومن خلالهم لا بد من وضع تفسير جديد للقرآن؛ بحيث يُستغنى بهذا التفسير عن النقد المباشر للقرآن.
` ولا بد من الاستعانة بالحداثيين والعلمانيين في إعادة تفسير السنَّة والأحاديث، بما يخدم مفاهيم الإسلام «المدني الديمقراطي»، واعتبر التقرير هذا الأمر مهمة عسيرة جداً، وأطلق عليها (حرب الأحاديث)؛ لأن المعركة الأساسية في المفاهيم ستكون حولها؛ فالأصوليون - كما يقول التقرير - يستطيعون أن يعارضوا كل تفسير يقدمه الحداثيون والعلمانيون للأحاديث، وسيتمكنون من جذب شريحة العامة وغير المثقفين إلى جانبهم، ولذلك سيحتدم الصراع.
` لا بد من استغلال احتدام هذا الصراع لإشغال كل من الفريقين بالآخر، بما يؤدي في النهاية إلى جو من البلبلة والتوتر الذي تمكِّن من ضرب الاتجاهات الأصولية في الصميم، ولا بد أيضاً من استغلال ممارسات التيار الجهادي لضرب الاتجاهات الأصولية بوجه عام بواسطة الحداثيين والعلمانيين.
` في أثناء المعركة بين الأصوليين والحداثيين ينبغي استخدام شريحة «التقليديين» - أي العامة - ضد الأصوليين، وجذبهم إلى جبهة العلمانيين، ويحذر التقرير من كسب الأصوليين لهذه الشريحة الواسعة البالغة التأثير، ويرى واضعوه أن شريحة التقليديين هي المجال الخصب الذي يعوَّل عليه لتحقيق أطروحة (الإسلام المدني الديمقراطي)، ولا بد من دعم العلمانيين في عملية كسبهم وجذبهم.
` اقترح التقرير دعم وتشجيع بعض أصحاب المذاهب الإسلامية لمواجهة المذهب السني المتشدد، وفي مقدمة تلك المذاهب: التصوف والتشيع، واقترح أيضاً العمل على توسيع الهوة بين بعض المذاهب السنية نفسها في بعض البلدان باستغلال الخلاف بين الأحناف مثلاً وبقية المذاهب وبخاصة المذهب الحنبلي.(4/138)
` يرى التقرير أن الصوفية هي المذهب الديني المرشح لكي يسد الفراغ الروحي عند من يريد سداد هذا الفراغ؛ لأن الصوفية بما لديها من طقوس شعرية وموسيقية وتأملات فلسفية تمثل جسراً للخروج من «مستنقع» الفكر الوهابي الحنبلي!
معركة الجميع:
بهذا الشمول في توسيع دائرة الحرب الأمريكية على جوهر الوجود الإسلامي؛ يكون الأمريكيون قد حولوا تلك المعركة إلى مواجهة شاملة تستحق فعلاً أن تكون مقدمة لـ (صراع الحضارات) الذي بشروا العالم به منذ عقد مضى، وعندما ينتقل الأمريكيون بتلك الحرب إلى ساحة القرآن وميدان السنة مستخدمين المنافقين من العلمانيين والحداثيين - كما صرحوا بذلك - فإن نظرتنا نحن المسلمين إلى تلك المعركة لا بد أن تتخطى أيضاً ساحة الجهاد العسكري والسياسي إلى ساحة الجهاد الفكري والدعوي، حفاظاً على الأمة أن تجتاحها أعاصير التغيير الأمريكي القادم وراء أقنعة أدعياء التحرر الجديد، وهنا لن يكون النذير والنفير موجهاً إلى القادرين على منازلة الأعداء المغتصبين في الساحات المستباحة فقط، بل سيكون موجهاً إلى كل من له طاقة على إحقاق حق أو إزهاق باطل مما يتواطأ الكفار والمنافقون اليوم على رفع رايته، وإقامة دولته.
فعلى الذين استوعبوا معاني جهاد المنافقين في آيات البقرة والنساء والتوبة وغيرها من سور القرآن أن يضموا جهدهم إلى جهد من استوعبوا معاني جهاد الكافرين في الآيات والسور نفسها؛ فوالله الذي لا إله غيره لن تتحقق الانتصارات العسكرية على الأعداء الظاهرين إلا بتحقيق الغلبة الفكرية والمنهجية على الأعداء المستترين ((هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ))[المنافقون: 4]، ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ))[التوبة: 73].
_____________________
(1) تفسير ابن كثير (1/568).
(2) مبادرة روجرز هي: أول مبادرة أمريكية للسلام بين العرب واليهود، وقد قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية استجابة لطلب إسرائيل من أجل تخفيف خسائر الإسرائيليين الناجمة عن حرب الاستنزاف التي أعقبت حرب يونيو 1967م، وسميت تلك المبادرة بذلك الاسم نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك وليام روجرز.
(3) قال الجنرال (تومي فرانكس) قائد العمليات العسكرية أثناء غزو العراق: إن المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه) اختارت حميد كرازاي لزعامة أفغانستان منذ عام 1996م (أي قبل أحداث سبتمبر بخمس سنوات)، وقد ذكر فرانكس هذه المعلومة ضمن كتابه الذي ألفه بعد تقاعده في شهر يوليو 2003م.
(4) الطابور الخامس تعبير نشأ أثناء الحرب الأهلية الأسبانية التي اندلعت عام 1936م، واستمرت ثلاث سنوات، حيث كانت هناك أربعة طوابير عسكرية من الثوار تعمل تحت قيادة الجنرال فرانكو تسعى لدخول العاصمة مدريد، ولكن لم تستطع تلك الفرق توفير فرص النجاح في اقتحام العاصمة؛ حتى تم تشكيل طابور خامس من الجواسيس والعملاء يعمل في داخل مدريد فاشتهر باسم الطابور الخامس.
(5) معهد راند: هو معهد تابع لمؤسسة راند التي تأسست عام 1948م، وهي مؤسسة ظاهرها النشاط الفكري، لكنها تتعامل مع القضايا العسكرية والمخابراتية التي تتعلق بالأمن القومي الأمريكي؛ ولذلك تمول وزارة الدفاع الكثير من أنشطتها، ولها عدد من الفروع في الدول الأوروبية والعربية، ولها فرع في قطر تعمل به الباحثة التي أعدت ذلك التقرير، ويذكر هنا أن مؤسسة راند هي التي وضعت مشروع توسيع حلف الناتو، ووضعت أسس الحرب العالمية الأمريكية على ما يسمى بالإرهاب.
المصدر : http://www.albayan-magazine.com/bayan-204/bayan-13.htm
============(4/139)
(4/140)
الليبيراليون الجدد بين الأمركة والصهينة
يحي أبوزكريا
15/12/1425هـ
ابتلي العالم العربي والإسلامي على مدى المئة سنة الماضيّة بكثرة ذابحيه وسالخيه وطاعنيه من خارج جغرافيته، ومن داخل جغرافيته.
ولعلّ الفتك الداخلي بهذه الأمةّ هو أخطر من الفتك الخارجي بها باعتبار أنّ القادم المحتّل يفد إلى جغرافيتنا وفي يده صليب، ومشروع فكري وثقافي من نسخ المنظومة الفكرية التي ينتمي إليها، ويشرع في هدم المقومات الحضارية ومعالم الشخصية الثقافيّة في هذه الأمة، وفي تلك أو يقوم بتحويل المساجد إلى إسطبلات أو كنائس كما فعلت فرنسا الاستعمارية في الجزائر وتونس والمغرب وغيرها.
وهذا الهادم الحضاري مكشوف للصغير والكبير، ولا تنطلي لعبته لا على خواص الناس من النخب المثقفة، ولا على عوام الناس من الفلاحين والحرفيين والبسطاء ولذلك حاربه الجميع.
فالثورة الجزائرية، وجبال الأوراس في الجزائر؛ جمعت الطبيب إلى جنب الشاعر، وإلى جنب الفلاح، وراعي الماعز، والبطّال، والأمي، والأمر عينه ينطبق على الثورة المصرية والفلسطينية والسورية، وغيرها من ثورات الانقضاض على الاستعمار الذي أذلّ بلادنا العربية والإسلامية على مدى قرنين كاملين، والذي خرج من قمقمه مجدداً من خلال الأمركة الزاحفة إلى حصوننا المدكدكة في العالم العربي والإسلامي.
ولم تنجح الحركة الاستعمارية التي ربضت على مقدراتنا وجغرافيتنا في تحطيم مقومات الشخصية العربية والإسلامية، حيث كانت الحيّاة تتجددّ في ينابيع هذه المقومات دوماً، بل كانت الملاذ الذي حال بيننا وبين السقوط الحضاري المريع.
ويعترف استراتيجيو الحركات الاستعمارية كديغول في مذكراته، وغلوب باشا في مذكراته، وضبّاط إنجليز كثر من الذين كانوا في طليعة المستعمرين في الهند وبنغلاديش وغيرهم كثير أنّ الأمة العربية والإسلامية كانت تملك دوماً ماء الحياة وهو الإسلام، والثقافة التي صاغها الإسلام هي التي حالت دون تذويب الشعوب المستعمرة - بفتح الميم - في الدول المستعمرة - بكسر الميم -، ولعلّ إستراتيجيي الحركة الاستعمارية قد أدركوا منذ ذلك الوقت أنّ الدبابة وحدها لا تكفي في استئصال هذه الأمم من ثقافتها، وإدماجها في الثقافة الغازية القوية، فأسسوا مدارس كولونيالية ضموا إليها أبناء الإقطاعيين، والمتعاملين مع الحركات الاستعمارية، وكونوّهم على أعينهم، وزجوا بهم بين أبناء الأمة يروجون لثقافة المستعمر بلسان الأمة المحتلة والمغزوة.
وربما لذلك نجد أنّ أغلب الذين تصدوا للإسلام في راهننا وسبوه، وسبوا رسوله واستهانوا به؛ هم من العرب والمسلمين الذين احتضنتهم الحضارة الغربية، وينتمون إلى حضارة مغايرة وهي حضارة الإسلام - إذا جاز هذا التعبير -، وكلفوا بأداء المهمة من قبيل سلمان رشدي في بريطانيا، وتسليمة نسرين التي لجأت إلى السويد، وهرسي (النائبة الهولندية من أصل صومالي) التي سبّت رسول الإسلام في هولندا.
وإذا كانت الأمة العربية والإسلامية قد حسمت موقفها من الحركة الاستعمارية لوضوح نواياها، وافتضاح مشاريعها العدوانية التي تطال الإنسان والكيّان؛ فإنّها ظلّت محتارة في أمر الأقلية الفكرية التي تتكلم بلسان علي وخالد وعمر، وتتبنى فكر جوزيف وبيار وكايم وبيرل وغيرهم.
وهذه الأقلية التي تكتلّت اليوم في إطار ما يعرف بالليبيراليين الجدد تلعب أكبر الأدوار في تحريف الأمة عن مسارها، وتسهيل اندماجها الفكري في المنظومة الاستعمارية الراهنة التي لجأت إلى أساليب جديدة للاستعمار الجديد، وعلى رأسه الاستعمار الأمريكي.
ففي وقت الحركة الاستعمارية شككّ هؤلاء الاستئصاليون في جدوى الثورات على الاستعمار، وعدوا هذه الثورات جزءاً من الجنون والخبل باعتبار أنّ الانفصال عن الحركة الاستعمارية سيورّث ويكرّس الجهالة والأمية، والتخلف والأمراض، وعدم القدرة على تسيير شؤون الدولة والاقتصاد، والثقافة والزراعة، وأنّ الاستعمار هو مصدر القوة، وينبوع العطاء في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.
بل إنّ بعضهم في الجزائر طالب محمداً رسول الإسلام بضرورة مغادرة الجزائر؛ لأنّه دخيل عليها، وقررّت ثورة المليون والنصف مليون شهيد أن تغادر فرنسا ومعها الحلف الأطلسي الجزائر، ويبقى محمد فيها إلى يوم يبعثون.
والليبيراليون القدامى المرجع الروحي لليبيراليين الجدد طالبوا بوأد الثقافة العربية والإسلامية، وإحلال الثقافة الفرانكفونية والإنجلوسكسونية محلها، وطالبوا بالقضاء على التعليم الأصلي، والمعاهد الأصلية التي كانت تخرّج رجالات من قبيل عبدالحميد بن باديس، وعبدالكريم المغربي، وخيرالدين التونسي، وعمر المختار، والسيد المقراني، وعزالدين القسّام وغيرهم من رجالات هذه الأمّة، ولعب المتحالفون مع الاستعمار من أبناء جلدتنا أكبر الأدوار في ترجمة ثقافة المستعمر إلى شعوبنا، ويسروا تسللّها إلى حصوننا ومواقعنا، وهذه النخبة هي التي عناها أحد الاستراتيجيين الفرنسيين بقوله:(4/141)
في السابق كنّا نوجّه آلاف الجنود والدبابات إلى الجغرافيا العربية والإسلامية لاحتلالها، أما اليوم فإننّا نكوّن بعض نخب هذه البلاد في جامعاتنا، ونرسلهم إلى تلك البلاد ليؤدّوا الوظيفة بإحكام.
وفي الواقع لقد أدوها بإحكام بأتمّ معنى الكلمة، ولذلك كوفئوا من قبل الحركات الاستعمارية بتسليمهم مقاليد الأمور في بلادنا، فأدّوا الوظيفة الاستئصالية على أكمل وجه بعد الاستقلالات الوهمية لبلادنا عن الحركات الاستعمارية.
وقد خلف من بعد هؤلاء خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات؛ فسوف يلقون غيّاً، فالليبيراليون الجدد وفي الوقت الذي تتعرّض فيه الأمة العربية والإسلامية إلى أبشع أنواع الإذلال والتركيع، والسلب والنهب؛ يطالبون هذه الأمة بالتخلي عن كل ثوابتها ومتغيراتها، والقبول بالديموقراطية الأمريكية والإسرائيلية، فقد برروا لأمريكا كل تصرفاتها العدوانية في الصومال وأفغانستان والعراق، وفي مواقع مختلفة في العالم العربي والإسلامي.
وعدوا ما يقوم به رجال المارينز الأمريكان جزءاً من عملية تحديث هذه الأمّة ونقلها من الظلامية إلى النور، ومن الأصولية إلى الدمقرطة، وراحوا - وفي خطّ مواز لما يقوم به رجال المارينز الأمريكان - يدكدكون مواقع هذه الأمة، فالجهاد في العراق ضدّ الاستعمار الأمريكي إرهاب، والجهاد في فلسطين ضدّ أعتى دولة عدوانية خرافة ووهم، بل إنّ رموز الليبيراليين الجدد زاروا إسرائيل متحدّين بذلك مشاعر كل العرب والمسلمين في خطوة تدشين التحالف الجديد بين الليبيرالية العربية الجديدة والصهيونية، وطبعاً سيكتب ويتحدث أبواق هذا التيار عن ضرورة الصلح مع اليهود كخطوة مركزية لتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني.
إنّ الليبيراليين الجدد قد أتقنوا بإحكام وبدقةّ فعل الديّوث، والديوثّ هو السمسار الذي يتاجر بأعراض النساء، فهم نجحوا في جلب المستعمر إلى بلادنا، وأجازوا له أن يمارس الفاحشة السياسية والثقافية، والاقتصادية والأمنية مع بلادنا العربية والإسلامية، وهم عاجزون عن تقديم أي مشروع ثقافي وفكري ينهض بهذه الأمة، بل هم في الوقت الذي يتبجحون فيه بالمشروع الديموقراطي يقبضون أموالاً بالجملة والمفرّق من أعتى الدول الملكية والديكتاتورية في العالم العربي والإسلامي.
وهم بعد أن كشفوا عن حلفهم المقدّس مع أمريكا راحوا يتحالفون مع الكيان الصهيوني، وهما بهذا يتحالفان مع أعتي أعداء العالم العربي والإسلامي راهناً - أمريكا والكيان الصهيوني - اللذين هما كطرفي المقّص، ظاهرهما مختلف، وباطنهما متفق على تمزيق العرب والمسلمين.
المصدر : http://www.almoslim.net/figh_wagi3/show_news_comment_main.cfm?id=266
=============(4/142)
(4/143)
أساليب التبشير في المدارس وأثرها على الطفل المسلم
د. نهى قاطرجي
حرص الإسلام على تعليم الأطفال أركان الإسلام والإيمان منذ الصغر، وقبل سن التكليف، وجعل مسؤولية هذا الأمر على عاتق الأهل الموكلين بتربية الطفل التربية السليمة التي تنجيه وتنجيهم في الدنيا والآخرة.
وتكون نجاتهم في الدنيا ببرّ الولد لأهله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (رحم الله والداً أعان ولده على برّه). (1)
قال الإمام الغزالي في تفسير هذا الحديث : أي " لم يحمله على العقوق بسوء عمله ". (2)
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - " أن رجلاً جاء إليه بابنه، فقال : إن ابني هذا يعقني. فقال عمر - رضي الله عنه - للابن : أما تخاف الله من عقوق والدك، فإن من حق الوالد كذا، ومن حق الوالد كذا. فقال الابن : يا أمير المؤمنين، أما للابن على والده حق؟ قال : نعم، حقّه عليه أن يستنجب أمه، يعني لا يتزوج امرأة دنيئة، لكيلا يكون للابن تعيير بها. قال : ويُحسن اسمه، ويعلمه الكتاب. فقال الابن : فوالله ما استنجب أمي، وما هي إلا سِنْدِيّة اشتراها بأربعمائة درهم، ولا حسّن اسمي، سماني جُعَلاً - ذكر الخفاش - ولا علمني من كتاب الله آية واحدة. فالتفت عمر- رضي الله عنه - إلى الأب وقال : تقول : ابني يعقني، فقد عَقَقْتَهُ قبل أن يعقّك، قم عني ". (3)
وتكون النجاة في الآخرة بالفوز بالجنة والوقاية من النار، يقول - تعالى - :
{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}. (4)
وقد جعل بعض العلماء الولد داخلاً في النفس " لأن الولد بعض أبيه ". (5)
قال ابن جرير : إن وقاية الأبناء تكون بتعليمهم " الدين والخير و ما لا يُستغنى عنه من الأدب". (6)
ويشدد الرسول - عليه الصلاة والسلام - على هذه المسؤولية بقوله : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة فهل ترى فيها جدعاء؟ ". (7)
وهذه المسؤولية ممكن أن تكون بصورة مباشرة " إذا علماه اليهودية أو النصرانية أو المجوسية حتى يدين بها، وتكون مسؤوليتهما غير مباشرة إذا تركا تعليمه عقيدة الإسلام ومعانيه، وتركاه فريسة للمجتمع الفاسد الضال الذي تشيع فيه عقائد الكفر والضلال من يهودية أو نصرانية أو مجوسية وغيرها فيؤمن بها أو يدين بها ". (8)
وهذه المسؤولية التي تغافل عنها بعض الآباء، إما بسبب جهلهم بها، أو مواكبة للعصر وتقليدا ًللآخرين، ومن هؤلاء (جون موط) المبشر النصراني الذي قال : " إن الأثر المفسد في الإسلام يبدأ باكراً جداً، من أجل ذلك يجب أن يُحمل الأطفال الصغار إلى المسيح قبل بلوغهم الرشد، قبل أن تأخذ طبائعهم أشكالها الإسلامية ". (9)
ولم يكتف هؤلاء بالمدارس الإرسالية بل عمدوا في بعض الحالات إلى فتح المدارس العلمانية، بغية إحكام السيطرة على تربية أبناء المسلمين وتدمير عقيدتهم، ذلك لأنهم إذا فشلوا في جذب أبناء المسلمين إلى مدارسهم وتلقينهم المبادئ النصرانية، فإنهم يكونون، على الأقل، قد حطموا مبادئهم من الداخل، وهذا ما جاء في كلام المبشر (زويمر) الذي قال : " ما دام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية، فلا بد أن ننشئ لهم المدارس العلمانية، ونسهّل التحاقهم بها، هذه المدارس التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب ". (10)
ويتحجج كثير من الآباء الذين يرسلون أبناءهم إلى الإرساليات بأن التعليم الديني في هذه المدارس ليس إلزامياً، وأن المسؤولين يجعلون للطالب الحرية الكاملة في دخول الكنيسة أو عدم الدخول، وهذا الأمر قد يكون صحيحاً، إلا أن ما سها عن بال هؤلاء الأهل أن ما يخطط له هؤلاء في تدمير عقيدة المسلم يمكن أن يحصلوا عليه بوسائل متعددة، ومن هذه الوسائل:
أولاً : صلة الأطفال بمعلميهم، إذ إن المعروف أن الطفل يتأثر بالكبار من معلمين وأهل، وهذا الأثر قد يبقى لفترة طويلة، قد تمتد طوال عمره، والطفل يؤمن بكل ما يقوله معلمه، لذلك " من الطبيعي أن قِيَمَ المعلم واتجاهاته تُتناقَل للتلميذ بطريق مباشر خلال القواعد والمناقشات والتفسيرات أو التعليقات والأوامر، وأقل أهمية أحياناً ما (يقوله) المدرس بالقياس إلى ما (يفعله)، فالمدرس يؤدي وظيفة القدوة أو المثال النموذجي للصغار، إنهم يتمثلونه ويحاكونه ويحاولون الانطباع به ". (11)
ثانياً : تعلم الأطفال من بعضهم البعض، إذ يشكل الرفاق وسيلة من الوسائل التعليمية المهمة، فالحوار المستمر حول نقاط الخلاف بين الأديان يكثر بين الرفاق الذين يكونون في الغالب من أتباع الديانة الأخرى، كل هذا يجعل هذا الولد يتأثر بكلامهم - وإن لم يُبد ذلك للأهل - أو يُظهر ذلك رغبة منه بالحصول على ودهم وصداقتهم أو رغبة بتجنب سخريتهم واستهزائهم.(4/144)
ثالثا ً : استغلال الوسائل كافة من أجل بث التعاليم الدينية، ومن هذه الوسائل (الطابور الصباحي) حيث يجتمع الأطفال في باحة الملعب قبل الصعود إلى الصف، ويستمعون إلى توجيهات الراهبة أو الكاهن، حيث يقوم هؤلاء باستغلال بعض المناسبات الدينية من أجل التعريف بالدين المسيحي وبث أفكارهم بحرية وبدون رقابة، أو من أجل القيام ببعض الصلوات، ومن أخطر هذه المناسبات (الشهر المريمي) حيث يقوم الطلاب بالصلاة الصباحية الجماعية قبل الدخول إلى الصف، والصلوات يقوم بها الطلاب أيضاً بشكل يومي في باص المدرسة أثناء انتقال الأولاد إلى منازلهم.
رابعاً : استغلال النشاطات المدرسية من أجل القيام ببث الأفكار المسيحية في أذهان الطلاب، ومن هذه النشاطات الرحلات المدرسية إلى الأماكن الدينية، كمزار سيدة حريصا في لبنان مثلاً، حيث تبث هناك بعض التعاليم المخالفة للدين الإسلامي، كالحديث عن السيرة المحرفة للسيدة مريم العذراء - عليها السلام -، والحديث عن معجزاتها، التي تقربها من الآلهة، حسب زعمهم، وقد تجعل الطفل يعتقد أنها قادرة على جلب المنفعة أو دفع الضرر.
ومن هذه النشاطات أيضاً الأفلام السينمائية التي تتحدث عن سيرة المسيح - عليه السلام - ومعجزاته.
خامساً : جهل الآباء بالعقيدة الإسلامية الصحيحة، وبالتالي انصرافهم عن تعليمها لأبنائهم، يجعل الطفل يصدق كل ما يخبره به الطرف الآخر، لسهولة حصوله عنده على أجوبة الأسئلة التي لا يجدها عند أهله.
ومن النماذج عن جهل الطلاب بدينهم، ما ذكره أحد الأشخاص، من أنه حين كان في صف الفلسفة (آخر صف ثانوي قبل الدخول إلى الجامعة)، أخبره أستاذه النصراني أن هناك وحدة بين الأديان، وأنه ورد في القرآن الكريم سورة مريم، فما كان من هذا الطالب المسلم إلا أن أسرع إلى منزله وبحث في المصحف عن (صورة) مريم، فلم يجدها … فمن المسؤول عن هذا؟ …
هذه الأسباب التي ورد ذكرها تتعلق بالآثار المباشرة لتعلم الولد المسلم في المدارس النصرانية، إلا أن المخيف في الأمر أن هذه الآثار قد تبقى في النفس إلى آماد طويلة، وقد لا تزول إلا من نفس من - رحمه الله -، ومن هذه الآثار :
أولاً: رفض الشاب أو الفتاة فكرة أن أهل الكتاب هم من الكفار، لأن رفاقه وأصحابه هم من بينهم، وهو أمضى معهم فترة زمنية طويلة، ويعلم أنهم يتمتعون بالأخلاق الحميدة (وهذا الأمر يشدد عليه النصارى في مدارسهم) لذلك فهو يرفض مقولة أنهم كفار، وبالتالي فإنه قد يرفض في المستقبل محاربتهم أو جهادهم، وإذا فعل فإن هذا قد يشعره بالألم.
ثانياً: إحساسه بعقدة النقص تجاه أتباع الديانة الأخرى، فهو يحاول كسب ودهم بشتى الوسائل، وتحت مختلف الشعارات، كشعار إلغاء الطائفية، وشعار العيش المشترك، هذا التعايش الذي قد يكون في كثير من الأحيان على حساب المسلمين، فإذا أصبح مثل هذا الشخص مسؤولاً في أحد المراكز المهمة، فإنه يُقرب غير المسلم، ويُرقي غير المسلم حتى ولو كان المسلم أحق بالترقية، فهل هكذا يكون الإسلام؟ وهل هذا الأمر بهدف التعايش، أم نتيجة عقدة نقص تجاه الفريق الآخر؟
ثالثاً : تكرار تجربته العلمية (الناجحة في نظره) مع أبنائه، فهو يسجله في المدرسة التي تعلم فيها ليعلمه كما تعلم و (حتى يَطْلَع يِحكي كِلْمْتين فْرِنساوي)، أما إذا سجله في المدارس الأخرى، وخاصة الإسلامية منها، فإنه سيصبح إنساناً معقداً.
إلى هؤلاء نقول : إن ما تفعلونه، هو تدمير ذاتي لكم قبل أن يكون تدميراً للإسلام، لأن الطفل الذي لا تُعلمه دينه، لن يعرف تعاليم الإسلام، من بر الوالدين والإحسان إليهم، والرجل الذي يقرب الأعداء إليه، ينقلب السحر عليه.
وقد حذر الله - تعالى - من هذا الفعل بقوله :
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} (12).
وقال - تعالى - : {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله}. (13)
ومحادّة الله ورسوله " ليست مجرد الكفر، وإنما هي مناصبة العداء للإسلام والمسلمين ". (14)
ولْيَعلَم أبناء الإسلام أن المعركة مع النصارى معركة قديمة، وهم لن يرضوا عن المسلم مهما فعل ومهما حاول التقرب إليهم وإظهار المودة لهم، وقد أكد هذا الأمر القرآن الكريم بقوله - عز وجل - : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير}. (15)
وفي النهاية، لا بد من التأكيد على أن مسؤولية التجاء أبناء المسلمين إلى مثل هذه المدارس لا يقع على عاتقهم وحدهم، بل إن بعض هذه المسؤولية يحملها أبناء الإسلام الذين انصرفوا عن إنشاء المدارس الإسلامية الجيدة التي تستطيع أن تنافس المدارس الإرسالية والعلمانية، كما أن لعزوف بعض المدارس الإسلامية عن تعليم اللغات الأجنبية التي يجب على المسلم إتقانها إذا رغب في معرفة لغة عدوه، أثره في دفع بعض الأهل إلى اختيار هذه المدارس محتجين بالضرورة العلمية في بعض الحالات.(4/145)
-----------
(1) رواه ابن حبان.
(2) الغزالي، إحياء علوم الدين، ج2، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ص216.
(3) السمرقندي، تنبيه الغافلين، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الثانية، 1415هـ، 1995 م، ص130.
(4) سورة التحريم، آية 6.
(5) القرطبي، تفسير القرطبي، ج18، ص195، 196.
(6) الشوكاني، فتح القدير، دار الخير، بيروت ـ الطبعة الأولى، 1413هـ، 1992م، ج5، ص292.
(7) رواه البخاري، الجدعاء، مقطوعة الإذن، يريد أنها لا تولد لا جدع فيها وإنما يجدعها أهلها بعد ذلك.
(8) عبد الكريم زيدان، المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية، ج10، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1417هـ، 1997 م، ص115.
(9) مصطفى خالدي، عمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد الاسلامية، المكتبة العصرية، صيدا 1986، ص68.
(10) يوسف النبهاني، مختصر إرشاد الحيارى إلى تحذير المسلمين من مدارس النصارى، دار البيارق، بيروت، الطيعة الأولى، 1416 هـ، 1995م.
(11) كمال دسوقي، النمو التربوي للطفل والمراهق، دار النهضة العربية، بيروت، 1979، ص373.
(12) سورة الممتحنة، آية 1.
(13) سورة المجادلة، آية 22.
(14) يوسف القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة عشرة، 1405هـ، 1985م، ص308.
(15) سورة البقرة، آية 120.
http : //www. saaid.net المصدر:
=============(4/146)
(4/147)
كأس العالم .. وطقوس النصارى
من يقول إن الحروب الصليبية قد انتهت، فهو غافل أو نائم نومة أهل الكهف أو أكثر قليلاً، إن الحروب الصليبية قد زاد لهيبها واشتعالها، خصوصاً بعد اختراق القنوات الفضائية لأجواء المسلمين...
ولو أردنا استعراض الأثر السيئ لهذه القنوات على أفراد أمة التوحيد، لأخذ منا الأمر كتباً، بل مجلدات، ولكننا في هذا المقال، نستعرض باباً واحداً من أبواب الغزو، ألا وهو كأس العالم، وكرة القدم، وما أدراك ما كرة القدم!
فقد رعوها، ونفخوها في وسائل إعلامهم، وأنفقوا الأموال، حتى يكون لهذه اللعبة بيننا مقام لا ينافسه أحب حبيب، ولا أقرب قريب.
وفي الدورة الأخيرة لكأس العالم، ظهر كثير من الطقوس النصرانية، فمنها على سبيل المثال، هذه الصلبان والشعارات المعلقة في كل ملعب تُقام فيه التصفيات، كذلك رسم الصليب على وجوه الجمهور الحاضر للمباريات، وعلى ملابسهم، وتركيز الكاميرات التي تنقل المباريات إلى أنحاء العالم على هذه الشعارات، كذلك ـ وهو الأخطر والأدهى ـ رسم اللاعبين عند تسجيلهم لأي هدف الصليب بحركات أيديهم على صدورهم، والغريب في الأمر، أن الكاميرات تسلط الأضواء على كل لاعب يقوم بهذه الحركات، كأن في الأمر اتفاقاً، كذلك من الأمور اللافتة للنظر، هذه التقليعات الغريبة والعجيبة والمخالفة في أغلبها لتعاليم الإسلام، التي يعرضها اللاعبون المشاركون في هذا ـ الكرنفال ـ مثل وضع الأقراط في الأذنين، وتلوين الشعر باللون الأخضر والأصفر والأحمر، حتى يظهر اللاعب والعياذ بالله ـ وكأنه عفريت من الجن.
إن المراهق، أو الطفل المسلم، عندما يرى هؤلاء، فإنه بلا شك، سوف يقلدهم لا شعورياً في لبسه، وحركاته، بل ربما فيما يحب وما لا يحب، ولا غرابة أن يتطوَّر الأمر بعد ذلك، ليصبح حب هذا اللاعب، أو ذاك، أكثر من حب الوالدين، أو حب الأنبياء والرسل، بل إننا سمعنا أن بعض هؤلاء اللاعبين أصبح معبوداً من دون الله.. والعياذ بالله.
لقد رأيت ذات مرة، أحد الأطفال يلعب الكرة، وعندما قام بتسجيل هدف، رأيته يرسم الصليب بحركات يديه على وجهه، وهو لا يدري ما يفعله مقلداً بذلك ما رآه في هذا الكرنفال الخبيث المسمى ـ كأس العالم ـ ترى كم من شباب المراهقين ـ المسلمين ـ يعمل مثل هذا الطفل، وهو لا يدري؟!!
http://www.khayma.com المصدر:
-============(4/148)
(4/149)
هل هذا وقت المهرجانات السينمائية الماجنة والحفلات الراقصة ؟!
بين الحين والآخر تحمل إلينا الأنباء أخبار المهرجانات السينمائية والغنائية الدولية التي تنظمها عواصم عربية مثل مهرجان القاهرة السينمائي..ومهرجان قرطاج وغيرهما..
وبين الحين والآخر تشهد عواصم عربية حفلات غنائية وراقصة تعد من اللهو والعبث والمجون.. تسخر لها وسائل الإعلام ساعات طوالاً من البث وتنفق عليها الملايين من أموال الشعوب البائسة.. وتتخذ تلك الحفلات مناسبات إسلامية ووطنية لكي تعلن عن نفسها تحت أسماء كاذبة.. ويتم الترويج لها على نطاق واسع تحت شعارات خادعة.. كما تسللت إلى مجتمعاتنا الإسلامية منذ سنوات مسابقات ما يسمى بملكات الجمال التي تحفل بمشاهد العري الفاضح ويتخللها الابتذال والسقوط المشين. وهكذا تسخر الجهود وتهدر ميزانيات الشعوب وتضيع الأوقات في الترويج والإعداد ورعاية وحماية مثل هذه الفعاليات الهابطة؛ بزعم الترويح عن الشعوب وبزعم الإبداع والفن.. وما هو بفن ولا إبداع ولا ترويح إنما هدم للقيم وإلهاء للشعوب ونزح للأموال.
لقد كان الأحرى بالحكومات وأجهزتها المعنية أن تتدبر أمرها وتعي جيداً ما يخطط للأوطان.. الأرض والثروة والشعوب.. من مشاريع استعمارية واضحة للعيان أخذت تطل برأسها وصارت تدق الأبواب منذرة بخطر قادم ومحقق.. وكان الأحرى بها أن تعيد ترتيب أولوياتها في ضوء تلك الأخطار وتتخلى عن سياسات اللهو والمجون والإفساد وتلتفت إلى بناء الأجيال على تقوى من الله وعلى قيم الإسلام ومبادئه لتنشئة أجيال قادرة على الصمود في وجه الغزوات الاستعمارية والفكرية والعسكرية القادمة.
وكان الأحرى بالحكومات العربية المعنية أن توفر ملايين الدولارات المخصصة لتلك المهرجانات والحفلات والمسابقات الهابطة لضخها في مشاريع التنمية المعطلة وإيجاد فرص عمل للشباب لإنقاذه من براثن البطالة القاتلة نفسياً ومعنوياً.. وإنقاذ الشباب الضائع من الانحرافات والإدمان، وإدخال التقنية الحديثة إلى نظم التعليم وتحديث البنية التحتية ووضع خطط النهضة الشاملة محل التنفيذ، لكن للأسف الشديد فقد تم تعطيل ذلك كله أو إعطاؤه جهداً ووقتاً ومالاً أقل.. بينما تم تقديم الرقص والغناء والمجون.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهنا يجدر بنا التأكيد على ما يلي:
أولاً: إن مثل تلك المهرجانات والحفلات والمسابقات تمثل خروجاً واضحاً على شرع الله - سبحانه وتعالى -، وتمثل مبارزة لله بالمعاصي وهو ما يعد نذير شر وجلب لسخط الله - سبحانه وتعالى -.. ثم إن ذلك يفتح المنافذ والأبواب أمام الموجات اللاأخلاقية التي تفترس الأجيال وتلقي بها في مهاوي الشيطان.. الأمر الذي يصب في تشكيل مجتمعات ضعيفة أخلاقياً، هشة في بنيانها الثقافي، مقطوعة الصلة بربها ودينها وقيمها.. فتصبح لقمة سائغة لموجات الغزو الثقافي والتغريبي.. وتلك هي الخطوة الأولى التي تؤدي إلى سقوط الأوطان في براثن التبعية الاستعمارية.
ولذلك فإننا لا نمل من التحذير من المخطط الغربي الصهيوني الرامي لاقتلاع منظومة الثوابت والقيم والأخلاق السامية التي حمت الأمة طوال تاريخها من حملات التذويب والغزو الفكري، كما لا نمل من التحذير من المخطط القديم المتجدد لإفراغ مجتمعاتنا من الدين والعقيدة والقيم، حتى تصبح كالسائمة تقودها شهواتها إلى مهاوي الهلاك وتصبح قضاياها في أيدي أعدائها يتصرفون فيها كما يشاءون.
ثانياً: إن العدو المتربص بنا ليل نهار لا يكف عن تضخيم قوته وتحديث ترسانة سلاحه.. فالعدو الصهيوني كما هو معلوم يمتلك أكبر ترسانة سلاح في المنطقة ومنها السلاح النووي.
كما أن المؤسسات التنصيرية الدولية لا تكف عن حشد جحافلها لغزو العالم الإسلامي وهي تتحرك اليوم بوضوح في البلاد الإسلامية، كما أنها تنتشر تحت أسماء عديدة في الكثير من البلدان الأخرى.
ولا ننسى في هذا الصدد أن المؤتمر التنصيري الأشهر الذي نظمته "لجنة تنصير لوزان" قبل ربع قرن (عام 1978م) رصد لمخططاته التنصيرية وفق وثائقه 870 مليار دولار و10 آلاف محطة إذاعية وتلفازية وسبعة ملايين منصر و250 دورية وكتاباً. وليس بخافٍ أن هذه الخطط تحميها الجيوش وتساندها الضغوط وتفتح لها الطريق.
وليس بجديد أن نذكّر بمخططات إلغاء التعليم الإسلامي في بلادنا.. في الوقت الذي يتم فيه إنجاز برامج التبادل الثقافي الذي ترعاه الدول الغربية لتغريب عقول أجيالنا، وبرامج التبادل الإعلامي التي تحاول غسل أدمغة أطفالنا وشبابنا.
هذا غيض من فيض من المخططات التي تدبر لنا، وبعض من نماذج الأخطار التي تدق أبوابنا.. فماذا أعددنا لها؟! وماذا خططنا لمواجهتها وحماية الأجيال منها؟!
هل بالمهرجانات السينمائية والحفلات الراقصة والغنائية ومسابقات ما يسمى بملكات الجمال.. وغيرها؟!(4/150)
إن الحكام ومن بيدهم مقاليد السلطة مطالبون بتدبر الأمر جيداً وعدم الانسياق وراء الغرب.. والتنفيذ الأعمى للمخططات التي لا تريد لأوطاننا وشعوبنا الخير.. كما أن عليهم إعادة ترتيب الأولويات قبل أن يجرف الطوفان الجميع.. ويومها لن ينفع الندم.. وستكون العاقبة في الدنيا وخيمة.. ويكون الحساب أمام الله عسيراً "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" (281)(البقرة).
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
-============(4/151)
(4/152)
حتى لا ينهار السد !!
سلطان المهوس
ذكر الله في كتابه الكريم عن قوم سبأ أنهم بنوا سدّا عظيما محكما (سد مأرب) تجتمع إليه سيول أمطارهم وأوديتهم. ولكنهم أعرضوا فأرسل الله عليهم سيل العرم، قال الله - تعالى -: " لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ".
ذكر المفسرون أن الله - عز وجل - لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم، بعث على السد دابّة من الأرض يقال لها الجرذ، نقبت أسافله حتى إذاضعف ووهى، وجاءت أيام السيول صدم الماء البناء فسقط.
ونحن أيها الأخوة والأخوات لدينا سد عظيم بناه النبي صلى الله عليه وسلم ، وجُدِّد بناؤه على مرّ الزمان، ومن آخر من جدّده الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بمؤازرة الأمير محمد بن سعود - رحمه الله -.
وسدّ الدين يواجه هذه الأيام هجمة عنيفة من خارج البلاد وداخلها، تحاول إضعافه وتسعى لهدمه، والهجمة وإن كانت خطيرة من الخارج إلا إنها من الداخل أشد خطرا، فهي بمثابة الجرذان التي تسببت في انهيار سد مأرب، وأعني بها بعض كتّاب وكاتبات الأعمدة في صحفنا المحلية، وكذلك بعض المذيعين والمذيعات والممثلين والممثلات في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، التي تثير الشبه وتشكك في بعض مسلّمات العقيدة.
والمتتبع لما ينشره ويبثه هؤلاء يرى هجمة عنيفة منهم على الدين وأهله، مثل: عقيدة الولاء والبراء، والإنقاص من قدر العلم الشرعي والعلماء، واتهام المناهج بأنها تفرِّخ للإرهاب، وفتح المجال أمام أهل الحداثة في الملاحق الأدبية والثقافية، ومن أبرز ما يتحدثون عنه ويثيرونه ـ كما فعل أسلافهم في البلاد العربية ـ الحديث حول المرأة والتباكي بشأنها والدفاع عن حقوقها المسلوبة ـ كما يزعمون ـ والسعي لتحريرها (وصدق من قال: إنهم لا يريدون حرية المرأة، ولكن يريدون حرية الوصول إلى المرأة).
وحتى لا ينهار سد الدين فالذي ينبغي فضح هؤلاء والرد عليهم ـ كما يفعل الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - وإيقافهم عند حدهم، ومحاسبتهم عما كتبوا، ومنعهم من الكتابة وغيرها، ومحاسبة رؤساء التحرير الذين فتحوا لهم الأبواب ليهدموا العقيدة في النفوس.
أيها الأخوة والأخوات: إن القتل جريمة شنيعة، لكن الفتنة في الدين أشدّ وأكبر، كما قال الله - تعالى -: " والفتنة أشد من القتل " وقال - سبحانه -: " والفتنة أكبر من القتل ".
إن وسائل الإعلام سلاح ذو حدين، فإن لم نحسن استغلالها كانت علينا وبالا، وسببا من أسبا ب انهيار الدين.
أسأل الله أن يحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.....
01 يونيو 2004
http://www.alommah.net المصدر:
=============(4/153)
(4/154)
إصلاح التعليم .. البعد الحقيقي
د.عماد الدين خليل
في سياق المحاولات المحمومة للولايات المتحدة الأمريكية من أجل "أمركة" الشرق الأوسط، والبلدان العربية، وعالم الإسلام على امتداده، يجيء ما يسمى بإصلاح التعليم لفرض النموذج الثقافي الأمريكي على المنطقة.
والنموذج الثقافي الأمريكي يرتطم ابتداءً مع الرؤية الإسلامية للكون والعالم والحياة والمصير، ولمهمة الإنسان في الأرض.. إنه بسبب من ماديته وعلمانيته ونفعيته وإباحيته وتكاثره بالأشياء ورفضه الغيب والإيمان الجاد بالله واليوم الآخر.. يبحر باتجاه معاكس تماماً لما تربّت عليه، وعايشته أجيال المسلمين على مدى أربعة عشر قرناً، ومارسته في عاداتها وتقاليدها وتربيتها وتعليمها وسلوكها وقناعاتها، رغم كل محاولات الانحراف بها ذات اليمين أو ذات الشمال، ولن يكون بمقدور الممارسة الأمريكية، رغم ضغوطها وإغراءاتها الهائلة، أن تمضي إلى أهدافها بسهولة حتى لو تمكنت من توظيف كل وزارات التربية والتعليم في بلدان العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. لنتابع بعض ما تشهده البلدان العربية في هذا المجال للاطلاع على جانب مما يراد بهذه الأمة، والجهود الموصولة التي تبذل لإرغامها على قبول فكر الآخر ورؤيته.
فلقد أكد (أحمد الصياد) المدير العام المساعد لمنظمة اليونسكو في كلمته أمام المؤتمر العربي الإقليمي، الذي عقد في القاهرة في يونيو من العام الفائت، تحت عنوان " التعليم للجميع.. والرؤية العربية المستقبلية للتعليم": "أنه لا خيار أمام الدول العربية سوى قيامها بتغييرات شاملة في الأنظمة التعليمية، وعلى رأس هذه التغييرات تغيير المناهج الحالية في جميع الدول العربية". وأشار إلى أن التغيير في المناهج سيوجد حالة من التواصل مع الآخر!
كما طالب في كلمته بفتح حوار مع الأقليات الدينية والسياسية في الأقطار العربية.
وأضاف: إن حقوق الإناث في التعليم ما زالت متخلفة في العالم العربي.
وقد اعتبرت تصريحات المدير العام المساعد لمنظمة اليونسكو إشارة بدء للتغييرات في المناهج على النسق الأمريكي الغربي.
ومن الجدير بالذكر أن السفير الأمريكي في مصر (ديفيد ولش) حضر الجلسة الافتتاحية للمؤتمر من دون سائر السفراء، وقد اضطر للانسحاب بسبب عدم قبول كثير من الحضور لوجوده! كما قام وزراء التعليم العرب بعمل اجتماع مغلق من أجل مناقشة آليات التغيير في الأنظمة التعليمية العربية. وأكدت مصادر مطلعة أن الوزراء العرب درسوا في الاجتماع المغلق، المقررات الأمريكية لتعديل المناهج التعليمية. ومما يلفت الانتباه أن عبارة "الإقليمي" برزت في العنوان الرئيسي للمؤتمر وفي الكثير من عبارات البيان الختامي. ولنا أن نتساءل عن دلالة حشر هذه الكلمة في الكثير من الاجتماعات والمؤتمرات التي أقيمت في الدول العربية مؤخراً: ألا تكفي عبارة (المؤتمر العربي) حتى يضاف إليها (الإقليمي)؟ أليست هي الكلمة التي يطلقها الغرب على الأحداث التي تقع في الشرق الأوسط وتجمع كل دول المنطقة بما فيها "إسرائيل"؟!.
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
==========(4/155)
(4/156)
التغريب في ديار الإسلام
محمد حسن يوسف
عن أبي سعيد الخدري، - رضي الله عنه -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!! [1]
قال ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: " ضب ": دويبة معروفة... والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته. ومع ذلك فإنهم - لاقتفائهم آثارهم وإتباعهم طرائقهم لو دخلوا في مثل هذا الصغير الرديء لتبعوهم. [2]
مظاهر التبعية:
إن إتباع آثار اليهود والنصارى، ممثلا في اقتفاء آثار الغرب في طرائق معايشهم ومناهج حياتهم، أصبح من الأمور المميزة لحياة المسلمين في هذا الزمان. وتتعدد مظاهر هذه التبعية في أمور شتى، أحاول استعراض أغلبها أو أهمها فيما يلي:
إعطاء أسماء أجنبية للمحال التجارية: فالسائر في الشارع يهوله هذا الكم الخطير من الإعلانات التي تحمل أسماء أجنبية، إما مكتوبة باللغة العربية أو - وهو الأمرّ مكتوبة باللغة الإنجليزية. واستعرض فيما يلي طائفة لهذه المسميات: فهذا محل للسيارات يطلق على نفسه " الألفي موتورز "! بدلا من أن يقول " الألفي للسيارات ". ومؤسسة تعليمية تُسميّ نفسها " مودرن أكاديمي " بدلا من " الأكاديمية الحديثة ". ومحل تنظيف ملابس اسمه " فاست كلين "!! ولماذا يُسميّ محل تنظيف الملابس نفسه بهذا الاسم؟!! ومحل أدوات كهربائية اسمه " جمال إليكتريك هاوس ". ومحل ألعاب اسمه " r oyal Club ". و" ميوزيك سنتر " اسم محل لبيع الشرائط. ومحل " Blue Eyes " لبيع المستلزمات الطبية للعيون. ومحل إنشاءات اسمه " نيو ديزاين ". ومحل أجهزة تبريد اسمه " كول لاين ". ومحل للصرافة اسمه " كونتيننتال للصرافة ". ومحل للتحف يسمي نفسه " رياضكو للتحف " ولا أدري ماذا تعني " كو " بإضافتها لاسم رياض. إن هذه مجرد أمثلة لأسماء عديدة غيرها تصدم المتجول بالشارع، وتجعله يشعر بأنه في بيئة غربية غير البيئة العربية التي يحيا فيها!!!
ومن مظاهر التغريب التي تصدمك في الشارع، تقليد سلوكيات الغرب وعاداتهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. تجد البنت ترتدي الملابس على الموضة الغربية، فتمشي في الشارع شبه عارية. وقلما تجد بنتا بدون أن يصاحبها ولد. فالبنت تمشي متأبطة بذراع الولد، ويتسكعان سويا في الطرقات. وأصبح من النادر رؤية بنت تمشي محتشمة تظهر زيها الإسلامي. بل أصبحت رؤية من ترتدي النقاب أو الخمار ومن يرتدي الجلباب ويطلق لحيته، أصبح ذلك محلا للسخرية والتهكم.
وفي أسلوب الحوار، تجدهم يحاولون إقحام كلمة باللغة الإنجليزية أثناء الحديث، حتى يبدو المتكلم وكأنه " مثقف "!! فلا يخلو الحديث من كلمات مثل " أوكيه " أو " هاي " أو " باي باي " أو " آلو " أو " صباح الخير "... الخ. وفي ذلك هجران للغتنا وتقليل من شأنها، خاصة مع وجود البدائل لكل تلك الكلمات والعبارات في ديننا وفي ثقافتنا.
وبعد يوم العمل، تأتي أوقات الفراغ التي يحاولون " قتلها "، فتجدهم أمام شاشات التلفاز يشاهدون المسلسلات أو الأفلام التي تبث القيم الغربية البعيدة أو المنافية للإسلام، أو يتابعون المباريات، والتي غالبا ما تتعارض أوقات إذاعتها مع مواقيت الصلاة، فتجدهم يهدرون الصلاة في سبيل إتمام المشاهدة والمتابعة.
وفي التفكير والسلوك، هيمن النمط الغربي للسلوك على أفراد أمة الإسلام. فتجدهم يغرقون في الديون طويلة الأجل من أجل شراء بيت كبير أو سيارة فارهة أو غير ذلك من الكماليات. ولا يهتمون بما إذا كانت هذه المعاملات تَحْرُم لارتباطها بالربا أم لا. فإذا تكلمت مع أحدهم من أجل التصدق على بعض الفقراء أو غير ذلك من أوجه الجهاد بالمال وجدته يشيح عنك بعيدا مبديا تأففه وتبرمه.
وفي المأكل والمشرب. وضع لنا الإسلام آدابا تنظم طريقة الأكل والشرب. ولكننا هجرناها واستعرنا مفاهيم الغرب عوضا عنها. فانتشرت في شوارعنا ثقافة محلات تقديم الوجبات السريعة والسندوتشات والتي يمشي الناس يأكلونها في الشارع. أو يجلسون في تلك المحال فيأكلون على أنغام الموسيقى الصاخبة والأغاني الهابطة.
كل هذه المظاهر هي مجرد نماذج لما أصاب هويتنا في مقتل. ذلك أن أهم شيء فطن إليه أعداؤنا هو ما تضيفه إلينا هويتنا من عزة وفخار. فكانت محاولاتهم الدءوبة والمتكررة لمسخ تلك الهوية وتشويه صورتها. والآن وبعد وضوح هذه المخططات وآثارها على مجتمعاتنا، فإما أن نظل ملتزمين بهويتنا الإسلامية، وإما أن ننجرف مع التيار فيبتلعنا ونهلك وتكون الهاوية.
خطورة هذا النموذج على أمة الإسلام:(4/157)
إن التقدم له أسباب ومظاهر. لم يتقدم الغرب بسبب أن شعوبه كانت تمشي تأكل في الشارع، أو لأن أولادها كانوا يأخذون بأيدي البنات ويهيمون على وجوههم في النوادي والملاهي، أو لأنهم كانوا يُقحمون كلمات غريبة عنهم في أحاديثهم. وإنما كان التقدم في الغرب لأسباب انتهجوها: تشجيع البحث العلمي، والتزام الأمانة والجدية في المعاملات، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتشجيع الموهوبين وإفساح المجال لهم، والتخلي عن النفاق، والاهتمام بالشباب... إلى غير ذلك من القيم التي شجعوها وعملوا بها، فكانت سببا في تقدمهم.
فلما تحقق لهم ما يريدون من تقدم، أرادوا أن تكون لهم حضارة وقيم خاصة بهم، فكانت تلك المظاهر التي انتشرت بينهم في المأكل والمشرب والملبس والمعاملات بين البنات والأولاد. ولذلك فإن اقتباس هذه المظاهر دون العمل بالأسباب الدافعة للتقدم هو مجرد وهم وسراب، ولن يجلب تقدم أو يؤدي إلى تنمية.
إن الفرق بين الحضارة الإسلامية وبين غيرها من سائر الحضارات الأخرى، أن الحضارة الإسلامية عُنيت ببناء الفرد أولا بناءً شاملا، ثم بعد ذلك انتقلت إلى العمران المادي. كما أن حضارة الإسلام هي حضارة تقوم على الجانب الوجداني والقيم، ومنها الجمال والسمو. أما الحضارات الأخرى فقد عُنيت بالتشييد المادي وإعمار الحياة في ميادينها المختلفة، لكنها تتجاهل بناء الفرد من داخله، بل وتعجز تماما عن القيام بهذا الدور الذي تفرد به الإسلام دين الفطرة. كما تقوم الحضارات المستحدثة الدخيلة على ثقافة العشوائية، وليس لها جذور. ويتضح ذلك في شكل الملابس والسلوكيات وطريقة الكلام. وللأسف فالشباب عندنا اتخذوا النموذج الغربي " العشوائي " قدوة، واعتبروا الخروج عن القيم إبداعا وموضة.
وإننا إذا أردنا أن ننهض بأمتنا وأن نعيد إليها عزها المسلوب، علينا أن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي أحيا الله به موات العرب، وأن نأخذ أنفسنا بالتربية الإيمانية فهي وحدها سبيل التغيير والتحويل [3].
يقول " يوجين روستو " مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون: " يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية. لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي.
إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا هي جزء مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه. وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي. ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها ".
إن روستو يحدد أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط. وأن ذلك ليس إلا استمرارا للحرب الصليبية [4].
إن التغريب، في أحد أوجهه، ليس إلا اللباس الثقافي للتصنيع. لكن تغريب العالم الثالث (والذي تتكون معظم دوله من الدول المسلمة) هو أولا، عملية محو للثقافة، بمعنى أنها تدمير بلا قيد ولا شرط للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية التقليدية، لكي لا يقوم مقامها في حينه سوى كومة كبيرة من الخردة، مصيرها إلى الصدأ... إن هذا الذي يُعرض على سكان العالم الثالث، لكي يحل محل هويتهم الثقافية الضائعة، إنما يتضمن صنع شخصية وطنية عابثة، ذات انتماء خدّاع إلى مجتمع عالمي (هو الغرب)... إن ضياع الهوية الثقافية الذي ينتج عن ذلك، أمر لا يقبل الجدل، وهذا يساهم بدوره في عدم استقرار الشخصية الوطنية سياسيا واقتصاديا. وما يتبقى بعد ذلك من الإبداع الوطني، يكمن في حالة تبعية إزاء ثقافة تبدو لها أجنبية، وإنها لكذلك [5].
سبل العلاج:
إن أولى خطوات العلاج في سبيل تأصيل هويتنا الإسلامية، هو تمسك الإدارات المحلية والبلدية بعدم إعطاء ترخيص للمحلات إلا إذا كان اسمها عربيا خالصا له معنى في اللغة العربية. ولنا في التجربة الفرنسية أسوة في هذا الموضوع. فقد تشددت فرنسا في عدم استخدام لغات أخرى غير اللغة الفرنسية في جميع المجالات، بل وصل الأمر إلى حد محاولة استخدام اللغة الفرنسية في تطبيقات الحاسب الآلي، حفاظا على الهوية الفرنسية من الضياع أو الاندماج في الثقافة الأمريكية. فيمكن استخدام الأسماء العربية في جميع ميادين الحياة. فتطلق هذه الأسماء على أسماء الشوارع والميادين والمدارس، بل وأسماء الفصول الدراسية في هذه المدارس. فبدلا من القول فصل ثالثة أول أو فصل ثالثة ثاني مثلا، يمكن أن يكون اسم الفصل خالد بن الوليد أو فصل الشجاعة أو فصل " القدس "... الخ.(4/158)
? تخلي الأسر عن الطموح الجامح، وذلك بأن تعيش في حدود إمكانياتها، والتخلي عن مظاهر الاستهلاك الترفي والمظهري والعودة إلى الدين الصحيح بالالتزام بتعاليم الإسلام فيما يتعلق بعدم الجنوح والإغراق في الديون بغير داعٍ.
? وضع خطة للمبعوثين للدراسة بالخارج في دول أوربا الغربية أو الولايات المتحدة وغيرها، بحيث يكون لكل وفد رئيس من الواعظين ممن يستطيع أن يدحر الشبهات التي تلقى في وجه شبابنا أثناء تلقيهم العلوم بالخارج. كما يجب أن يكون من بين شروط الابتعاث للخارج حفظ قدر معين من القرآن، وليكن خمسة أجزاء على الأقل. كما يفضل تنظيم دورة سريعة لمدة ستة أشهر على الأقل لجميع الأفراد الذين وقع عليهم الاختيار للسفر للدراسة بالخارج يتم فيها دراسة علوم الدين والشريعة وبلغة البلد التي سيتم السفر إليها.
? على الإعلام التوقف عن الترويج للنموذج الغربي بكل قيمه الأخلاقية. فكيف تتحول " مغنيات الهبوط "إلى قدوة لفتياتنا؟ كما أننا نرى المذيعات في بعض المحطات الفضائية بغير الاحتشام المطلوب. فعلى كل المؤسسات أن تقنن الحرية داخلها حتى نعود للاعتدال، لأنه الوسيلة الوحيدة لحياة كريمة ومحترمة.
? كما أننا نفتقد لبيوت أزياء واعية باحتياجات الشباب تستطيع أن تعادل بين احتياجات الشباب والموضة والتقاليد وتطوعها حسب ظروف العصر. فنحن في أشد الحاجة إلى مؤسسة كبرى تدرس مطالب الشباب وتصنع لهم ما يرغبون في ارتدائه وبما يتناسب مع حضارتهم وهويتهم. [6]
? الاهتمام داخل الأسرة بحماية الأخلاق. فيجب على الأب أن يعود لدوره الأصلي في قوامة جميع أفراد أسرته. ذلك أن دور الأب انحصر في الآونة الأخيرة دور " الممول " المتمثل في مجرد جلب المال للأسرة، وترك جميع مقدرات الأسرة تدار بعيدا عنه.
? معرفة أهداف أعدائنا ومخططاتهم والعمل على التصدي لها. ذلك أن معرفة أن كل ما يحدث من حولنا إنما هو بتخطيط واعٍ وتدبير مدروس من القوى الغربية والصهيونية التي لا تريد لراية الإسلام أن ترتفع أبدا، إن معرفة ذلك والوعي به يضعنا جميعا أمام الطريق الصحيح للعلاج.
21 من جمادى الآخرة عام 1425 من الهجرة (الموافق في تقويم النصارى 7 من أغسطس عام 2004).
----------
[1] متفق عليه: صحيح البخاري، 3456، و7320، وصحيح مسلم: 2669(6).
[2] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الحافظ/ ابن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية، 1407 هـ. ج: 6، ص: 574.
[3] القدوة منهاج ونماذج، د/ سعيد قابل، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ص: 97.
[4] الإسلام والغرب، د/ عبد الودود شلبي، مكتبة الآداب، 2004. ص ص: 55 56.
[5] التغريب: طوفان من الغرب، لواء/ أحمد عبد الوهاب، مكتبة التراث الإسلامي، 1990. ص ص: 13 14. نقلا عن: تغريب العالم، سيرج لاتوش، باريس، 1989.
[6] جريدة الأهرام، عدد يوم 27/7/2004.
http://www.saaid.net المصدر:
==========(4/159)
(4/160)
تحد جديد
في بداية أحداث الحرب الأمريكية على أفغانستان أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن تأسيس مكتب (التضليل الإعلامي) الذي يهدف إلى تزويد القنوات الإخبارية ووكالات الأنباء العالمية بمعلومات إخبارية مغلوطة وموجهة لخدمة المصالح الأمريكية؛ ساخرة بكل الشعوب، ومستفزة لكل المتشدقين بالديمقراطية والحرية الإعلامية.وقد عدَّ أحد المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية إعلان وزارة الدفاع عن هذا المكتب حماقة سياسية تضعف من التأثير الأمريكي على الرأي العام العالمي، مؤكداً أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء دون أن تعلن عن كل شيء، وبعد أيام ألغي المكتب فيما زعموا..!!
ثم ها هي ذي الولايات المتحدة الأمريكية إمعاناً منها في الغزو الإعلامي تبدأ بث قناة إذاعية باللغة العربية (إذاعة سوا)، رصد لها (30 مليون) دولار لمدة ستة أشهر، وتهدف إلى تحسين صورتها عند العرب، وردم الهوة الثقافية مع صغار السن في الشرق الأوسط، كما جاء على لسان (نورمان بايتتز) صاحب فكرة إنشاء القناة.
وقد أدلت نائبة وزير الخارجية الأمريكي (شارلوت بيرز) التي تتولى مهمة الترويج للولايات المتحدة الأمريكية في الخارج بإفادة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، قالت فيها:إن الإذاعة حققت نجاحاً، وإن على الولايات المتحدة أن تفكر في بث تلفزيوني للشرق الأوسط عبر الأقمار الصناعية.كما أدلى (نورمان بايتتز) بإفادة أمام اللجنة واصفاً المعلومات التي تلقاها عن تأثير إذاعة (سوا) بأنها مدهشة..!!
وندرك يقيناً بأنه لن تجدي المساحيق وعمليات التجميل في إخفاء معالم الوجه الأمريكي القبيح الذي نضحت بُثُوره بالفساد؛ ومع ذلك فإن الخبرات الأمريكية في غسيل الأدمغة، وتزييف الحقائق ربما تجد طريقها عند بعض الجهلة والسذج؛ خاصة أن الإذاعة ركزت في خطابها وطريقة عرضها وإيقاعها على صغار السن من الشباب!
إن هذا الاختراق الجديد لوعي الأمة يجعلنا نؤكد مرات عديدة دور الدعاة والخطباء والمصلحين ومختلف وسائل الإعلام الإسلامية في إحياء الوعي وتوضيح واقع الأمة، وخطورة التحديات التي تواجهها. قال الله - تعالى - : {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
ولئن كان الإعلام هو الأداة الرئيسة في صناعة الرأي، وتشكيل الأخلاق الفكرية والاجتماعية؛ فإن تقصير الإسلاميين في تملك أدواته وتعلم فنونه جعل تأثيرهم ينحسر، ويختزل في شرائح محدودة من المجتمع.
إننا أمام تحد كبير يوجب علينا أن ننهض إلى مستوى المسؤولية، ونفكر بطريقة أكثر حيوية، ونسخر كل طاقاتنا في تبصير الأمة ومواجهة أعدائها، وفضح إسفافهم وفجورهم الإعلامي؛ فهذا العصر عصر الأقوياء، ولا مكان فيه للضعفة المتواكلين..!!
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
رجب 1423هـ *سبتمبر-أكتوبر2002م
http://albayan-magazine.com المصدر:
============(4/161)
(4/162)
المسلمون في الغرب الفرص والمحاذير
ونيس المبروك الفسيي (*)
لا يخفى على الدارس علاقة المسلمين مع شعوب وحكومات الغرب؛ أنّ هذه العلاقة قد شابها الكثير من التوتر، وارتبطت في ضمير أبناء المسلمين بتاريخ مرير وطويل من التنكيل والظلم الذي مارسته جيوش وحكومات الغرب منذ زمن بعيد. ولعل خير شاهد على ذلك؛ ما حدث في الحروب الصليبية، وما كان من مأساة محاكم التفتيش، ونهايةً بالاستعمار الحديث، ثم هيمنة الغرب على شعوب المنطقة عبر المتنفذين والحكام، والتدخل في سياسات الشعوب المسلمة، ومصادرة قرارها السياسي الداخلي والخارجي.
كل هذه الأمور وغيرها؛ شكلت موروثاً ثقافياً يقوم على العداء والرفض، حتى ظن بعض المسلمين أن الأصل في العلاقة مع "الغرب والغربيين" هي الحرب والسيف. وأنّ الغرب كله في سلّة واحدة، ولا يمكن أن تكون هناك نقاط التقاء، أو بؤر للتعاون، ولا أرضية للتعايش، وكل ما نراه من ذكر لحقوق الإنسان، وحريات عامة؛ ما هي إلا فصل من فصول "المؤامرة" على الإسلام والمسلمين.
هذا في ظني ظلم للحق، وهضم للحقيقة، وهو قبل هذا وذاك ابتعاد عن منهج الإسلام الذي ينصف المخالف، وينأى عن التعميم، وينهى عن عاطفة العداء التي تحجب الحقوق، وتقطع الطريق على كل نوع من أنواع التعارف والتعايش والتعاون، التي من أجلها كان الناس شعوباً وقبائل، وتأخذ البريء بجريرة المسيء؛ التي حرمتها كل الأديان والرسائل (أم لم يُنبّأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى، أن لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أخرى) النجم الآيات 36 إلى 38.
كل ذلك لا ينبغي له أن ينسينا أبداً أن لنا أسساً وقيماً وضوابط في التعامل مع هذه القضية، فالمسلم مأمور شرعاً بأن ينطلق في مواقفه ومعاملاته؛ ضمن قواعد الشرع، والتي تحتم عليه ضبط مسارات العاطفة، والعمل ضمن محددات العدل والإنصاف مهما يكن من أمر، وبخاصة في موضوع بعيد الأثر وعظيم الخطر؛ كموضوع حديثنا هذا.
فالإسلام ينطلق في تعامله مع الغير، ولو كان كافراً؛ من أنّ الأصل في العلاقة معه هي السلم لا الحرب. وقد ورد في ذلك الكثير من النصوص الشرعية، قال - تعالى -: (فإن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً)، وقوله - تعالى -(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية).
فالإسلام لا ينزع للحرب ابتداءً، إلا إن كان ظلماً واعتداءً ومنعاً من تبليغ رسالة الإسلام للناس، أما ما عدا ذلك؛ فلا إكراه في الدين، فالباعث على القتال هو الاعتداء، وليس مجرد المخالفة. والإسلام يكره الحرب، ويعتبر كفّ المؤمنين عن القتال من المنن التي يمن الله بها على عباده (وكفى الله المؤمنين القتال).
بل كان النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم ، يغيِّر من أسماء صحابته الذين تسمّوا بحرب ومرة، لكراهته للحرب وأسمائها، فهذا هو الاتجاه العام أو المسار الذي يضبط علاقتنا مع غير المسلمين. والى هذا ذهب كثير من الفقهاء، ومنهم الإمامان الثوري والأوزاعي من السلف. (راجع كتاب العلاقات الدولية في الإسلام، ص 93 وما بعدها، للشيخ الدكتور وهبه الزحيلي - حفظه الله -).
وقد سار سلف هذه الأمة على هذا النهج القويم، ولم تجنح بهم عاطفة البغض لما عليه أهل الكتاب من عناد ورفض للحق بل ومحاربة له، ولم تمنعهم من إنصاف المخالفين من أهل الذمة، وتأدية الحقوق إليهم، مسترشدين في ذلك بكتاب ربهم- تبارك وتعالى -(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنئآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون) المائدة 8، وبقول الرسول الكريم (من ظلم معاهداً أو انتقصه حقاً أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه؛ فأنا حجيجه يوم القيامة) رواه أبو داوود.
وقد تعهدت الشريعة الغراء بكف الأذى عن أهل الذمة وتحريم قتلهم، بل جاء في الفقه الحنفي ما يفيد تحريم غيبة الذمي، إذ ذكر العلامة ابن عابدين في حاشيته على الدرّ المختار ما نصه "إنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته". كما أفتى بعض الصحابة بالسماح لهم بممارسة دينهم وضرب نواقيسهم، وإخراج صلبانهم في أيام أعيادهم، كتاب الخراج لأبي يوسف - يرحمه الله -.
بعض المعالم للواقع الغربي المعاش:
وقبل الولوج في موضوع الفرص والمحاذير؛ أريد التقديم ببعض معالم الواقع المعاش في الغرب، التي ينبغي مراعاتها، ومن الجدير بالذكر التذكير بأنّ تقييم أي واقع يعيشه الناس هو من أصعب المهمات، نظراً لما يتحكم في ذلك من عوامل ثقافية، وتاريخية، وجغرافية، وسياسية، بل لما يتحكم فيه أيضاً من اختلاف الناس في تقييم كل عامل من هذه العوامل، ومدى تأثيره في المعادلة العامة. ومن أهم العوامل التي ينبغي مراعاتها في ظني:(4/163)
أولاً: الواقع العالمي المعاصر، والذي فتح المجال لتفرّد الولايات المتحدة، وحليفها الغربي؛ لسيادة العالم والسيطرة على مفاصل القوة العسكرية والاقتصادية فيه. وهذا المعطى المهم يحتِّم على المسلمين مراعاة تقديرهم لمحاولات النهوض ذات الطبيعة القطرية الضيقة، أو قيام مشروع نهضوي يُشعر الغرب بالخطر على مصالحه. وبخاصة إذا ما كان هذا المشروع ذا طبيعة نخبوية تهتم بحشد النخبة على حساب وعي الجماهير وتفانيها في مشروع التغيير. إنّ عدم مراعاة ذلك المعطى المهم؛ سيؤدي غالباً لوأد كل محاولة في مهدها قبل أن ترى النور أو تأتي ثمارها.
ثانياً: شيوع مفهوم "محاربة الإرهاب"، وضبابية هذا المفهوم المُتعمَدَة، والتي من خلالها تحارب كل محاولات النهوض، أو التميّز بمعزل عن الوصاية الأمريكية. ويراد من وراء ذلك تجفيف ينابيع التديّن الصحيح، الذي يوجب على أهله القيام بدورهم في الشهود الحضاري على الناس.
وبناءً على ذلك؛ فإنّ تقسيم المسلمين إلى متطرف ومعتدل؛ قد يؤجِّل القضاء على أحدهما قبل الآخر، ولكن لا يلغي نظرة العداء لكليهما، وهما وجهان لعملة الإرهاب الواحدة كما ترى القيادة الأمريكية.
ثالثاً: وجود ما يقارب من 432 مليون مسلم يعيشون كأقليات، أي ما يقارب ثلث المسلمين، منهم ما يقارب خمسين مليون مسلم في أوروبا شرقاً وغرباً. إنّ وجود المسلمين في الغرب لم يعد وجوداً سائحاً عابراً، أو مسافراً قاصداً، بل تعدّى ذلك لأن يكون مواطناً أصيلاً، ورقماً مهماً في الغرب. وهذا يدعونا لمراجعة صادقة في النظر لهذه الديار، وأنّ لها حقوق الوطن وآداب المواطنة. والإسلام يدفع المسلمين بالحرص على بناء أوطانهم والسعي في نهوضها ورخائها، فهي مقر معاشهم، وديار أبنائهم من بعدهم، وصلاح هذه الأوطان وأمنها يعود على كل مواطنيها دون فرق، والمسلم الصادق حينما اختار المعيشة في الغرب؛ فإنه اختار أن يكون "جزءاً" من الوطن والمجتمع الذي يعيش فيه، مما يوجب عليه أن يفكِّر في همومه، والتحديات التي تواجهه، ولكن من منظور دينه وعقيدته.
وعلى المسلمين الحذر من أماني العودة التي قد تطول ولا تُطال، وقد يمرّ بنا العمر ونحن ننتظر قطار العودة، فلا هو حملنا وذهب، ولا نحن الذين وضعنا قدماً يمهِّد لاستقرار دعوة الإسلام التي آمنا، نظرياً؛ أنها تصلح لكل "مكان"، ولو كان هذا المكان الغرب نفسه.
رابعاً: ولا أنسى وأنا أتطرق إلى الواقع أن أفرد بالذكر شيئاً من تأثيرات الثقافة الشرقية التي صحبناها معنا إلى هذه الديار، والتي تشكّلت من عادات البلاد التي وُلدنا فيها، ولم تكن من فرائض الشرع، أو من مقتضيات التدين. وكذلك لا ننسى تلك الهموم أو المساجلات الفقهية والفكرية، التي تمثلت على شكل صراعات بين جماعات ومذاهب، نقلناها معنا إلى هذه الديار، وكأنّ الجدل والخلاف بحراً لا يمكن لأسماك الشرق التنفس خارج مياهه.
علينا أن نعترف بأن لنا إرثاً علمياً وزاداً ثقافياً فيه الكثير من الخير النافع، ولكن فيه من الدَخَن أيضاً الشيء الكثير. هذا الدخن ورثناه من عصور من التخلف والتعصب المقيت التي شكّلت الكثير من مشاعرنا تجاه بعضنا بعضاً، ووجهت الكثير من مواقفنا التي لا تعبِّر عن الإسلام، ولكننا حملناها كأنها جزء أصيل من الإسلام لا يمكن أن تنفك عنه. وعدنا لا نفرِّق بين ما هو من الإسلام كدين؛ وما هو من ثقافة المجتمع الشرقي المحافظ.
ولعل أبرز ما يجسد هذه الظاهرة نظرة المسلمين للمرأة، وتعاملهم مع الطفل، وتقييمهم لأهل الكتاب، وتربيتهم الحضارية الجمالية، وقابليتهم للانقياد في مجموعات عمل يتنازل فيها بعضهم لمصلحة المجموع، إلى ما هنالك من موروثات كان للعادات والتقاليد الدور الأكبر في ترسيخ سلطانها على نفوسنا، ثم امتثالنا لسلطانها من حيث لا نشعر أحياناً.
ويمكنك مشاهدة ذلك في سلوكيات بعضنا في ديار الغرب، فهناك من يرى أنّ التمسك بلون معيّن من اللباس هو من مقتضيات التدين أو من مكملاته، وبعضنا يرى أنّ تضييق الطرق على جاره أو زميله في العمل من السنّة المطهرة، وبعضنا الآخر يبذل قصارى جهده حتى لا يبدأ الكافر بالسلام، بالرغم من وجود الروايات الصحيحة التي تعلِّل هذا المنع بحالة الحرب مع بني قريظة، وورود استحباب السلام عليهم عن كثير من الصحابة الكرام كعبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي الدرداء - رضي الله عنهم -، وما نُقل عن عمر بن عبد العزيز والأوزاعي.
فرص..وآمال:
ثم أودّ التركيز على بعض الفرص التي يمكن لنا استثمارها وتنميتها أو المحافظة عليها، ومحاذير، لا بد من التحرّز منها وتطويقها، حتى لا يتفاقم أثرها.
من هذه الفرص وجود عدد كبير من أنصار الحرية والعدل والمساواة في الغرب، وهم بذلك أنصار للقيم التي نادى بها الإسلام العظيم، ونحن نشترك معهم أو يشتركون معنا في ذلك، ويمكن إذا ما أحسنّا التنسيق معهم أن نحصل على الكثير من المكاسب لصالح شيوع أجواء الحريات التي تمثل البيئة الصالحة لنمو وشيوع الإسلام وبزوغ نوره وظهوره على الدين كله.(4/164)
من ذلك؛ وجود جمعيات ومنظمات حقوقية ترخِّص لها الدولة، ويحميها القانون يمكن التحرك من خلالها لنصرة قضايا المسلمين في الغرب والشرق على حدٍ سواء. وإن كنا لا ننسى أنّ هذه المنظمات هي منظمات "حكومية" غير مستقلة، وبالتالي فلا يمكن التعويل الكامل على دورها.
وهناك تذمّر الغرب الأوروبي حكومة وشعباً من الغطرسة الأمريكية، وظهور مجموعات مناهضة للعولمة، والتي تنادي بدور مستقل لأوروبا بعيداً عن الهيمنة الأمريكية، ويمكن من خلال ذلك دفع الغرب لأن يكون له دور فاعل وعادل تجاه شعوب المسلمين وقضاياهم الكبرى.
كما يندرج في الأمر؛ انتشار آلاف المراكز والمؤسسات الإسلامية في أوروبا، لا بد من تفعيلها للقيام بدورها المنشود، لبيان صورة الإسلام الناصعة، وتقديم خدمات للمجتمع بدلاً من التقوقع في إطار روادها من المصلين أو المتعلمين.
ومن الفرص الحقيقية؛ شيوع الفهم المعتدل للإسلام بين الكثير من أفراد الأقليات المسلمة، ونفور الكثير من الناس من العصبية القطرية أو المذهبية، والشعور العام بالحاجة للتوحّد على ما هو أوْلى وأهم، وبخاصة بعد الأحداث الأخيرة في فلسطين الحبيبة، وما يحدث في الهند، وأفغانستان، والعراق. كل ذلك كان أرضية مناسبة لترسيخ قيم الإخوة الإسلامية العامة، وشعور المسلمين بأنهم تجاه عدو مشترك يريد أن يستأصل شأفتهم، لا بد من مواجهته بروح التوحّد على قضايا الأمة، والتعاون على البر والتقوى، ونبذ العصبية، والتعاون على المتفق عليه.
محاذير.. ومخاوف:
إنّ حمل الدعوة الإسلامية في مثل هذه البيئة؛ ليس بالأمر الهين، ذلك لما يحيط بهذه المهمة من صعوبات وتحديات كبيرة، منها ما يتعلق بالبيت الداخلي للدعاة والعاملين للإسلام، ومنها ما يتعلق بظروف المجتمعات الغربية، ومنها أيضاً ما يتعلق بظروف الأوطان التي جاء منها هؤلاء الدعاة.
ومن أهم المحاذير والتخوفات التي أحب التذكير بها هنا هي أنه ينبغي أن لا يتحول الخطاب "الدعوي" ذو السمة التبشيرية السمحة؛ إلى خطب عاطفية حماسية، أو "بيانات" ثورية نضالية سياسية. فبالرغم من الهيمنة السياسية لدول الغرب على شعوبنا في الشرق، وتدخلها السافر في كل الشؤون؛ إلا إنه ينبغي علينا أن لا نخلط بين منهج الدعوة وخطابه الذي يتميز بالسلم والجدال بالتي هي أحسن، وبين "التدافع" السياسي، أو الصراع العسكري. فالعدو المخالف في ساحات الحرب والسنان؛ غير العدو المخالف في ميادين الحوار والبيان، ولكل ظرف سلاحه.
ثم على المسلمين أن يتفطنوا لأي محاولة استدراج يقوم بها الصهاينة عبر الإعلام الغربي، والذي يسعى لتأكيد صفة "الإرهاب" والعنف، وأن المسلمين "لا يعرفون غير لغة الدم"، والإقصاء. فبعض الدعاة للأسف؛ يعطي المبرِّر تلو المبرِّر، ويؤكد للشعوب الغربية مثل هذه الادعاءات، وذلك من خلال بعض الممارسات والمواقف، أو التصريحات الإعلامية غير المسؤولة.
كما ينبغي التركيز على عنصر التفاعل مع البيئة الغربية، وألا ننعزل عنها. فإنّ رسالتنا في الغرب لا يمكن لها أن تؤتي أكلها إلا في أجواء من التعارف والتواصل والتعايش والحوار، وشجرة الإسلام لا تمتد جذورها إلا إذا تفاعلت مع بيئتها، وإلا ستكون بمعزل عن التأثير، ولا يكن لنا تحقيق "الشهود" الحضاري المطلوب دون "حضور" في ساحات الفكر والثقافة وصناعة القرار في الغرب.
وأشير في هذا الصدد أيضاً أنه على المسلمين أن يطالبوا بحقوقهم من منطلق "المواطنة"، التي يتمتعون بها، لا من منطلق التميّز الديني عن أهل هذه البلاد. فإنّ ذلك مما يساعد على تلبية ما يطالبون به، دون الوقوع في فخِّ الصراعات الطائفية والدينية.
ثمّ من الحكمة أن يستبعد الدعاة عند حوارهم للناس هنا الحديث عن نقاط الاختلاف التي تفصل بين المسلمين وغيرهم، سواء في المعتقد أو السلوك، بل أن ينهجوا منهج القرآن في التركيز على نقاط الالتقاء ولو كانت صغيرة، ثم الانطلاق منها لتحقيق تقدّم، سواء على صعيد الفكر أو السياسة. وربما من المناسب إعادة الاجتهاد في صياغة الخطاب الديني لغير المسلمين، فإشعار المخالف بأنّ لديه شيء من الحق، وهذه حقيقة لا ينكرها إلاّ مكابر، يقرِّب مسافة الحوار، ويمهِّد لتواصل بنّاء قد يفضي للكثير من المصالح المشتركة.
هذه بعض الكلمات والمفاهيم، ولا شك أنّ هذا الموضوع بحاجة للمزيد من تسليط الضوء على كثير من جوانبه، تمهيداً لفقه دعوي جديد يبشر بالخير والنور لهذه المجتمعات، والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
_______________________
(*) ونيس المبروك الفسيي هو أستاذ الفقه والعقيدة بالكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية، ويلز، وعضو مجلس الشورى بالرابطة الإسلامية ببريطانيا.
http://www.alta r eekh.com المصدر:
=============(4/165)
(4/166)
التعليم إلى أين ؟
السياسة التعليمية في المرحلة القادمة:
تؤكد المؤشرات أن العولمة تمثل مرحلة من دعم وتعزيز سيادة النموذج الحضاري الغربي في امتداده الرأسمالي وفلسفته اللبرالية في عصر انتهت فيه علاقة توازن القوى وتبلورت فيه سيادة القطب الواحد وبذلك كانت الهيمنة والعولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية.
الهيمنة الاقتصادية: التي سعت أمريكا ودول الاتحاد الأوربي واليابان إليها عن طريق عقد الاتفاقيات الاقتصادية في منظمة الجات والتي تحولت فيما بعد إلى منظمة التجارة العالمية.
كما برزت في هذا البعد موجات التوحد والدمج التي قامت بها كبرى المؤسسات الاقتصادية العالمية من بنوك أو شركات أو مصانع استعداداً لموجة العولمة ومن أجل الصمود أمام المنافسة.
والهيمنة السياسية: المتمثلة في وضع تنظيمات وسياسات تقلص إلى حد كبير من سيادة الدول حتى أضحى العديد من الحكومات والدول ناقصة السيادة وعرضة للتدخلات الكثيرة في شئونها الداخلية لتعارضها مع المبادئ والأنظمة التي أبرزتها العولمة وهناك الهيمنة الثقافية والفكرية الناتجة عن امتلاك الدول الكبرى لوسائل وشبكات الإعلام الكبرى والإنترنت وغيرها مما مكنها من الإقناع والتزيين والتزييف لكثير من الحقائق في الوقت الذي تفتقد فيه الدول الفقيرة والنامية ذلك مما جعل تلك الأخيرة في موقع الملتقى فقط.
من كل ذلك ندرك خطر العولمة ودورهما في إضعاف أمن الدول ووحدتها وزيادة حجم التوتر والإضرابات وضعف الشعور بالمواطنة والانتماء وعزلة الأفراد وغربتهم داخل مجتمعاتهم.
واستمرارا لبلطجة القوة وسيادة مبدأ الغابة وفى ظل الهيمنة الأمريكية خرج علينا كولن باول بدعوة لتعديل مناهج التعليم الإسلامية مشفوعة بالمناهج البديلة وقد ذكر أن إدارته ستعمل من خلال العديد من البرامج لإقناع قادة العالم الإسلامي بذلك. من هنا كانت مسارعة مصر لتطوير التعليم أو لعولمته حتى تواكب العصر الأمريكي.
وحتى تنتظم مصر مع المنظومة الدولية أو المعايير الدولية للتعليم قامت بتجميع 250 خبيراً من خبراء التعليم وأساتذة الجامعة والسياسيين والمفكرين ورجال الدين الإسلامي والمسيحي ومن ممثليين لليونيسيف واليونسكو والاتحاد الأوربي وغيرهم من الهيئات الدولية. وعلى مدار أكثر من عام تم تشكيل لجان وعمل أبحاث وندوات ومؤتمرات.
ونتج عن كل ذلك " وثيقة المعايير القومية للتعليم " في ثلاثة مجلدات المجلد الأول: يتحدث عن الإطار النظرى للمعايير الخمسة المتمثلة في (المدرسة الفعالة ' المعلم الكفء، الإدارة المتميزة، المشاركة المجتمعية، المنهج الدراسي ونواتج التعلم).
المجلد الثاني: يتناول المعايير التفصيلية للمواد الإنسانية (الدين الإسلامي والمسيحي، اللغة العربية، الدراسات، التربية الوطنية، اللغة الإنجليزية والفرنسية).
المجلد الثالث: (المعايير التفصيلية للعلوم والرياضيات):
وبالإطلاع على هذه المعايير وجد أنها جيدة وعلمية وأكاديمية غير أنها مصاغة بطريقة علمانية وبعضها منقولة من الطبعة الإنجليزية وليس الخطورة فى ذلك فقط ولكن الخطورة تكمن في المقررات الدراسية التي تصدرها مراكز التطوير بعد أن انتهى دور هؤلاء العلماء واعتمدت الوثيقة ولقد ظهرت مؤشرات هذا الخطر في المجلد الثاني والثالث وبالتحديد في الحديث عن معايير التربية الدينية الإسلامية والمسيحية والتاريخ والتربية الوطنية واللغة الإنجليزية ولعل أول كتاب صدر في ضوء هذه المعايير من مركز التطوير هو كتاب اللغة الإنجليزية للصف الأول الإبتدائى (Hand in Hand) والكتاب لا يدَّرس لغة بقدر ما يرسخ مفاهيم قيميه عن البيئة والأسرة وإمعانا في الالتزام بهذه المعايير جاء غلاف الكتاب يحمل صور لولد يمسك بيد بنت.
والكتاب قد عولج بطريقة غريبة لم يألفها مدرسو هذه المادة ولم يتدربوا عليها حتى أنهم اختاروا في طريقة تدريسه واكتفى بعضهم بوضع مذكرات بديلة عن الكتاب يدرسونها للتلاميذ!!
أما بالنسبة للمعلم: فلكي يتعامل مع المعايير فلابد وأن يُعاد تدريبه وأن يعاد النظر في أساليب التدريس حتى تتمشى مع الأساليب العالمية الحديثة.
• ولقد تم الاتفاق بين وزارة التربية والتعليم في مصر وبين ثلاث جهات أجنبية هي الاتحاد الأوربي والبنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية تحت مسمى (برنامج تحسين التعليم) وخصوصا تعليم الفتيات. ويتم الإنفاق على هذه البرامج باليورو وأحيانا.
ويجرى التدريب في مدينة مبارك للتعليم بالقاهرة والمراكز الفرعية بالمحافظات وعددهم 25 مركزاً فرعياً على مستوى الجمهورية.
• وحتى الآن تم تدريب حوالي 70 ألف دولار. على أن يقوم بعد عودته بعمل محاضرات لنشر الفكر الذي تلقاه في البعثة بين المعلمين تحت اسم الكتلة الحرجة في الإدارات التعليمية أو وحدات التدريب في المدارس أو بمراكز التدريب الرئيسية.(4/167)
• والأساليب التي تم التدريب عليها تتمثل في " العصف الذهني والتعلم الذاتي، والتعلم التعاوني ولعب الأدوار وحل المشكلات.. " وهى أساليب تتم في الدول المتقدمة حيث تتوفر الإمكانات المادية والبشرية المتميزة وقاعات الدراسة معدة ومجهزة للوصول إلى المعلومات بكل الأوساط المعرفية وعدد الطلاب في كل قاعة لا يتجاوز العشرين والمعلم موسوعي ومؤهل للتعامل مع هذه الأوساط ودوره محدد فهو مرشد ومشرف وموجه ويستطيع تنمية الإبداع والابتكارات وبث روح المنافسة بين المجموعات داخل القاعة.
• والمقرر الدراسي أيضا موضوع وفق هذه الأساليب فليس به محتوى (فصول أو أبواب) ولكن عناوين أساسية وفرعية ومجموعة إرشادات ومجموعة مشكلات أو أسئلة.
• والطالب أو المجموعة في القاعة يبحثون عن المعرفة فيكون هو المحتوى العلمي لهذه الموضوعات وكلها أساليب علمية متطورة رائعة تُنمى الإبداع ونتمنى أن نصل إلى هذا المستوى.
• فإذا تم تطبيق هذه الأساليب وتلك الطرق عندنا تنفيذ لبنود الاتفاقيات والمنع مع الجهات الأجنبية فستكون الصورة كالآتي
مع غياب المعلم الموسوعة والذي لا يعرف كيف يتعامل مع هذه الأوساط " إن وجدت " وعدم توفر الإمكانات المادية ومصادر المعلومات المطورة والحديثة.. وفى وجود أعداد رهيبة داخل الفصل الدراسي تتجاوز أحيانا 60 أو 70 طالباً حتى ل يتوفر لبعضهم مقاعد أحياناً. في هذا الوضع المترضى لابد وأن يكون المنتج ضعيفاً مخالفاً للمواصفات الدولية التي فصلت عليها المعايير.
ولو جئنا لنُطبق هذه المعايير على المقرر الدراسي فسيكون عبارة عن عناوين ومجموعة إرشادات وتوجيهات ومجموعة مشكلات وخاليا من أي محتوى تعليمي.
وعلى هذا فلن يجد المحتوى الذي يقوم بشرحه. ولن يجد الطالب المحتوى الذي يتعامل معه " ولن يجد ولى الأمر ما يمكن أن يتناوله مع ولده.
إذا فكيف تكون صورة التعليم؟ وكيف يقيم الطالب؟
أجاب عن هذا التساؤل القرار الوزاري رقم 305 الذي نص على أن تكون درجة الطالب على النحو التالي:
15 % لامتحان الفصل الدراسي الأول 15 % لامتحان الفصل الدراسي الثاني 20 % للسلوك والأنشطة 50 % لملف التلميذ. وهذا ما يعرف باسم التقويم الشامل الذي يتم تجميعه عن طريق الملاحظة والمعايشة والمشاهدة. وهو نظام صالح للتلاعب إذا ما غاب الضمير. أي سيدفع ولى الأمر مقابل 70 % مُقدماً مكان الدروس الخصوصية ومع وجود الغش في الامتحانات يمكن أن يحصل الطالب على الدرجة النهائية.
في ضوء كل ذلك كيف تكون صورة المنتج التعليمي؟
من أجل كل ذلك ندق ناقوس الخطر ونقول لابد من تكاتف كل الجهود وكل القوى لإنقاذ العملية التعليمية والتربوية، ولابد من التفاعل الإيجابي لدفع خطر العولمة والتسلح ضد الأدوات والوسائل التي استخدمتها العولمة للهيمنة والسيطرة. وذلك يقتضى تقديم نموذج حضاري ضد الأدوات والوسائل التي استخدمتها العولمة للهيمنة والسيطرة. وذلك يقتضى تقديم نموذج حضاري مُنبثق من فلسفة الأمة الإسلامية وخصوصيتها الثقافية. ومستفيد من التقدم العلمي والتطور التقني الحديث بذلك نستطيع الحفاظ على وحدتنا وأبنائنا في عصر العولمة.
23/6/2004
http://www.elbehi r a.com المصدر:
=============(4/168)
(4/169)
حرب الأفكار
مازن أبو بكر باحميد
انطلقت الحملة الصليبية ضد الإسلام والتي طالما كانت حلماً لكثير من المسئولين الأمريكيين، ففي كتابه (1999 نصر بلا حرب) دعى الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون الاتحاد السوفيتي إلى التعاون مع الولايات المتحدة لضرب الأصولية الإسلامية المتنامية - على حد قوله -، وكان ذلك في أوج الحرب الباردة؛ لكن تنافر المصالح بين القطبين، والعواصف السياسية للحرب الباردة حالت دون حدوث ذلك.
والآن وفي ظل النظام العالمي الجديد استطاعت الولايات المتحدة تجنيد معظم دول العالم، والانطلاق بها في حملة صليبية ضد الإسلام، يقول عنها قائدها الرئيس الأمريكي إنها: "حملة صليبية" وغير تقليدية، وبأنها غير محدودة بإطار جغرافي.
وقد أبرز الواقع العملي لهذه الحملة أشكالاً مختلفة من أشكال المواجهة، فمن الحروب المباشرة، إلى الحملات الإعلامية ضد الإسلام والمسلمين، إلى محاصرة العمل الخيري، والتدخل في مناهج التعليم، والدعوى إلى حرب العقائد والأفكار، ولعل هذا الأخير هو الأهم في أشكال المواجهة التي تعول الولايات المتحدة عليها لتحقيق أهداف الحملة على المدى الطويل.
وبما أن هذه الحرب هي حرب ضد الإسلام، ولأن ماهية أي دين عبارة عن عقائد وشرائع وأخلاق - أي مجموعة أفكار ومفاهيم -؛ فإن الحرب الحقيقية كما يراها الغرب يجب أن تكون حرباً ضد هذه الأفكار، فالغرب يدرك جيداً أنه أمام خصم لا تكمن قوته في عدته وعتاده، لكن نقطة القوة الوحيدة لهذا الخصم هي هذه المفاهيم والأفكار التي يحملها، والتي تجعله قادراً على التضحية والإقدام وتجاوز كل حالات الإحباط والهزيمة النفسية المفروضة على أمة الإسلام.
والواقع أن تاريخ الحرب الفكرية التي يمارسها الغرب ضد الإسلام يمتد لقرون، وقد تبنى الاستعمار الغربي الكثير من الحملات المنظمة للغزو الفكري ضد الإسلام، وبعد أن آلت زعامة الغرب إلى الولايات المتحدة في منتصف القرن المنصرم فإن الولايات المتحدة لم تغفل عن هذه القضية، وقد شرعت في إجراءات غاية في التعقيد لمحاصرة المد الإسلامي، ولتخفيف الحماس الديني اللاهب لدى المسلمين، فقد أوردت جريدة الأنباء الكويتية قبيل الغزو العراقي بأقل من شهر مقالاً لكاتب صهيوني يتحدث فيه عن خطة كارتر، ويتهم فيه ممارسات إسرائيل بأنها تقوض جميع الإجراءات الأمريكية المتخذة داخل العالم الإسلامي لتخفيف الحماس الديني اللاهب لدى المسلمين على حد قوله.
والذي تغير اليوم هو أن هذه المخططات والإجراءات انتقلت من السر إلى العلن، فقد أصبحت الولايات المتحدة والغرب تتمتع بهامش مناورة كبير، وباتت حركة الولايات المتحدة أكثر حرية في هذا المجال عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد أجبرت دول العالم -بالاشتراك معها - في حملة ضد الإسلام، متذرعة بأن الإسلام بات يشكل خطراً محدقاً بالأمن العالمي عموماً وأمنها القومي خصوصاً، محتجة في ذلك بما حدث في نيويورك صباح الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وما يحدث هنا وهناك من أعمال تفجير وقتل.
والحديث اليوم عن حرب الأفكار معقد ومتشعب، وبات أكثر حدة وشراسة مما قبل أحداث نيويورك، وبصورة عامة فإن هذه الحرب الفكرية تسير في خطين متوازيين، كل منهما يقوم بدوره في هدم المفاهيم والقيم الإسلامية وهما:
أولاً: معاول هدم من الداخل، وهذا ما يستخدم فيه المداهنون والمنافقون، وأصحاب الفرق الضالة من صوفية ومرجئة ورافضة، ومهمتهم تكمن في استبدال مفاهيم الرسالة المحمدية والعقائد الإسلامية الصحيحة بمفاهيم عصور الانحطاط، وإقناع المسلمين بأن مفاهيم عصور الانحطاط هي المفاهيم الإسلامية الصحيحة، رغبة في تبديل الإسلام وتحريفه كما فعل بولس "شاؤول اليهودي" بدين المسيح - عليه السلام -، وأتذكر هنا كلام للبارون "كارادي فو" حيث يقول: "لنشتت الإسلام، ولنستغل البدع الإسلامية، والطرق الصوفية؛ إذ أن المهمة الأولى للغرب هو إضعاف الإسلام لجعله عاجزاً إلى الأبد عن اليقظة الكبرى"، وقد أفسحت لهؤلاء شاشات الفضائيات، ومنابر الإعلام العربي لتنفيذ مهامهم.
ثانيا: معاول هدم من الخارج، وهذا ما أوكل لعملاء الغرب من الملاحدة والعلمانيين والمنحلين، فهم يعرضون في كل بيت من بيوت الإسلام من خلال شاشات التلفزيون ما يدعو إلى الانحلال والتحرر من القيم والأخلاق، وفرض النظرة الحيوانية في علاقة الرجل بالمرأة، وإثارة الغرائز الجنسية والشهوانية، وعرض صور للحياة الإباحية الغربية بطريقة مدروسة ومحببة للنفوس، وهم لا يترددون في شن حملات إعلامية شرسة لتشويه الإسلام متهيمينه بالتحجر والتخلف وكبت الحريات!! داعين المسلمين إلى الفوضى واستباحة كل شيء باسم الحرية!! وإلى استبدال الثقافة والعادات الإسلامية بالثقافة والعادات الغربية، مستغلين المرأة في تحقيق ذلك، وهم في ذلك يتكتمون على الوضع الاجتماعي والأسري الذي وصل إليه الغرب، وما يعصف بهما من اضطرابات قاتلة، وأزمات مدمرة بسبب الأخلاقيات السائدة هناك.(4/170)
وفي اعتقادي أن ما يسعى إليه الغرب من جذب المجتمع المسلم للتقارب مع أخلاقياته ربما تكون مقدمة لحملات تنصيرية تجتاح المنطقة في المستقبل.
وبين هذا وذاك يقف المسلم في حيرة من أمره، فإن ذهب يبحث عن إسلامه ليسترشد به في حياته وجد الفرق الضالة ومن نصبهم الإعلام الحديث نيابة عن الإسلام، وقد حولوه إلى تقديس للوهم والخرافة، وتقديس للجن والأموات، وعبادة للقبور، وتمجيد للشعوذة والدجل، وتقديس لطواغيت الأرض، وإقرارهم على ظلمهم، والسكوت عن فسادهم، ومدحهم وإطرائهم، ومحاربة لصوت الحق، والاهتمام البالغ بالقضايا الشكلية دون جوهر الإسلام، كل ذلك ممزوج بألوان من الطرب الصاخب باسم الذكر والعنف، والقسوة على الذات باسم العبادة كما يفعل الرافضة يوم عاشوراء، وهذا كله لا يستسيغه ضمير الإنسان وعقله، ويتنافى مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، عندها يموت الضمير، ويتلاشى صوت الفطرة في أعماق الإنسان ليبقى صوت الشهوات والغرائز قوياً ومتفرداً في أعماق الإنسان، وهو ما سيجبر هذا المسلم على الاستسلام أمام هذه الضغوط، والانضمام إلى صفوف الإلحاد والمجون، وإعلان الهزيمة والقبول باستعباد الحضارة الغربية له!!
ومن أصر على الاستمساك بمفاهيم الفرق الضالة والمداهنين وغيرهم ممن نُصِّبوا للحديث نيابة عن الإسلام ظناً منه أن هذه المفاهيم هي الإسلام فإنه سيعيش في أجواء عصور الانحطاط، متقوقعاً متحجراً لا يقدر على شيء، ولن يجد تفسيراً صائباً للفشل الذي يحيط به من كل جانب.
وبعد فإن ما يجري في الواقع في مجال الحرب الفكرية والغزو الفكري ضد الإسلام لهو شيء عظيم، ولشراسة هذه الحملة اليوم فقد غيرت مناهج دراسية سبق أن أشرف على إعدادها جمع من العلماء بما يتفق مع ديننا وتقاليدنا، وحوصر الدعاة وحوصرت أنشطتهم، وازدادت الفضائيات إباحية، كل ذلك عقب أحداث سبتمبر التي حشرت العمل الإسلامي في زاوية مكشوفة، وأعطت الغرب فرصة ذهبية لتجنيد العالم، وضرب النشاط الإسلامي كما كان يحلم، وأدخلت العمل الإسلامي في مواجهة مع العالم بأسره في وقت كان هو في غنىً عن ذلك!
وعلى أي حال فأنني أؤمن - من دون شك - أن جميع حملات الغزو والمؤامرات ضد الإسلام سيكون حليفها الفشل، ولن أدلل على صحة هذا بجدل فلسفي، وتحليل سياسي؛ بل أستدل بقول الله - جل وعلا - في كتابه عن هؤلاء المتآمرين ضد دينه: ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )) فهذه الآية فيها وعد الله بفشل كل المتربصين بالإسلام، وفيها ما يكفي لدفع اليأس والإحباط عن الأمة، وما يكفي للتفاؤل والثقة بمستقبل هذا الدين، ويبقى أن على جميع أفراد الأمة اليوم التصدي لحملات الغزو الفكري، وعدم الاتكالية؛ فهي ليست من قيمنا، وعلينا بذل جهدنا ما استطعنا للدفاع عن الإسلام والدعوة تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والابتعاد عن أعمال التخريب التي تضر بالعمل الإسلامي أكثر مما تنفع، وتكسب العدو مصداقية أكثر حتى في بعض أوساط الرأي العام الإسلامي.
فالأمة اليوم تمر بأخطر مرحلة في تاريخها على الإطلاق، فلم يعد الخطر يهدد أرض المسلمين فقط؛ بل بات يمس مفاهيمهم وعقائدهم وقيمهم، ومما أكسب هذه الحملة قوة وشراسة أكبر أن الغرب اليوم يسخر كل ما في يديه من إمكانيات وتقنيات حديثة للوصول للأهداف المرسومة، وهذا يحتم اليوم تطوير أساليب العمل الدعوي، والاستفادة من التقنيات الحديثة للتصدي لموجات الغزو الفكري، والحاجة إلى مؤسسات إعلامية إسلامية تتصدى لهذه الموجات، وتدعم العمل الدعوي، وتسهم في نشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة خاصة لا تزال قائمة، فالإعلام هو حجر الزاوية في مخططات الغرب!! فهل نسبقه إلى ذلك؟!
المصدر : http//:www.islamselect.com
============(4/171)
(4/172)
حتى لا نؤتى من قبل الثقافة
أنور الشبَحي
في عصر أصبح فيه العالم الإسلامي سوقاً للمذاهب الفكرية والسياسية والثقافية؛ يقف (المثقفون العرب) في هذا الخضم الهائل ينهلون ويغترفون صنوفاً من الأفكار والثقافات، ثم يعيدون تعليبها وتسويقها تحت شعار بقلم/ (اسم عربي)، ثم ينطلقون ناعقين باسم الثقافة، ناشرين آراءً وأفكاراً غربية المنشأ، لا تمت بصلة إلى ثقافتنا الحقيقية كمسلمين، هذا المشهد الثقافي الغريب يدعونا للوقوف أمام إشكالية تحديد مفهوم الثقافة والمثقف مستندين إلى قيمنا الأصيلة وأهدافنا النبيلة كأمة ذات رسالة، وعلى هذا الأساس نتساءل: هل المثقف هو من يحصل أكبر كم من المعارف والمعلومات، أو يحصل على أعلى الشهادات، ثم نجده يعيش بعيداً عن الواقع، ويفكر بعقلية مقطوعة الصلة بقضايا وطنه وأمته، أو ينظر إلى الواقع برؤية لا تعكس الحقائق كما هي، فيزين الانحراف ويسميه حرية، ويذم الصلاح ويسميه رجعية.
هل هذه هي الثقافة التي نعول عليها في عملية الإصلاح والنهوض؟ لا شك أن هذه ليست هي الثقافة التي ننشدها ونعول عليها، فليس ثمة رابط بينها وبين الواقع الذي ننتظر أن تلعب الثقافة والمثقفون دوراً في إصلاحه وتقويمه، بل هي تهدم تراث الأمة، وتنهال على القيم الأصيلة هدماً وتخريباً، غير مدركة أنها بذلك تهوي بالأمة إلى دركات التخلف والسقوط والفساد.
إنه لأمر مؤسف أن نرى أدعياء الثقافة من السفهاء يتعدون على ثوابت الأمة باسم الثقافة والحرية، ونرى الأقزام يتطاولون على الأعلام من العلماء والدعاة، والمفكرين الصادقين
إنها لمأساة أن نرى المرضى يفرغون حثالة أفكارهم السقيمة، ويسكبون قذارة عُقدهم النفسية المزمنة؛ متدثرين برداء الثقافة وحرية التعبير والرأي، مجردين الثقافة من معانيها الأصيلة التي تقوم على سمو الأهداف، ونظافة الوسائل، وتهدف إلى التقويم والإصلاح، والتهذيب، محاولين إقصاء المثقفين الحقيقيين الذين يجمعون إلى المعرفة والعلم الرؤية الثاقبة المؤسسة على الفهم الصحيح للواقع، والذين يتعاملون مع واقعهم بمقتضى القيم والمبادئ، وقاصدين إلى نشر الخير والحق، مستعلين عن التعامل بمقتضى ما تمليه عليهم الشهوات والرغبات والاعتبارات الحقيرة، رافضين أن يكونوا أبواقاً تنعق بما يُراد لها أن تنعق به.
ومن هنا فإن العلماء والمتعلمين الذين يؤدون دوراً وظيفياً بحتاً في شتى المجالات أعدادهم كثيرة، ولكن المثقفين منهم الذين يؤدون دوراً إصلاحياً قلة، وعلى عاتقهم تقع مسئولية كبيرة، لأنهم يحملون هموم الأمة وتطلعاتها، ويفكرون حين تتوقف العقول عن التفكير، ويتكلمون حيث تنعقد الألسن عن الكلام، ويثبتون حين تتساقط التماثيل.
هؤلاء هم المثقفون الحقيقيون من العلماء والمفكرين والمصلحين، هم الأعلام الذين تهتدي بهم الأمة، والنجوم التي يأتم بها السائرون، والأمل الذي نعيش على وهج حرارته، وتباشير إشراقاته.
المصدر : http://www.islamselect.com
=============(4/173)
(4/174)
(4/175)
مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية ( 1 )
مقدمة الناشر:[1]
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن الحملة الصليبية التاسعة التي أعلنها الكاثوليك الفرنسيون - من رهبان وساسة - في المملكة التونسية أثناء عيد الأضحى من عام 1348 ونشرنا فيها كتاباً بعنوان (ظاهرة مريبة) ما زالت بعد ذلك تمعن في الشر وتوغل في العدوان، حتى إذا وافى عيد الأضحى من سنة 1351 صار لهذه الحملة بنادق ورشاشات، ومدافع ودبابات، فأثيرت حفائظ الشعب الإسلامي المسالم، وأرغم على الغضب إرغاما. لأن الذين ارتدوا عن دين الإسلام من التونسيين بتحريض رجال الحملة وأذنابهم أرادت السياسة الصليبية أن تغير حكم الإسلام فيهم، إغراءً لضعاف القلوب والإيمان من المسلمين، حتى يقتدوا بهم ويرتدوا مثلهم عن دينهم، فأوعزت إلى من يؤثر العاجلة على الآجلة من علماء السوء ووزراء السوء أن يصنعوا في ذلك فتوى يقوّلون فيها الإسلام ما لم يقل، ويحوّلون بها حكمه إلى عكس ما أراد الله منه، فتجددت بذلك معركة من معارك هذه الحملة الصليبية. وكان مكتب الأخبار التونسية يراقب وقائع هذه الكارثة بيقظة وانتباه فدوّنها في هذه الرسالة إيقاظا وإنذاراً لشباب العرب والإسلام في جميع أقطار الأرض، وتخليداً للحقيقة في صفحات التاريخ حتى تعرفها الأجيال الآتية من أبناء الشرق وأبناء الغرب كما وقعت.
إن العالم الإسلامي كله جسم واحد، والوطن الإسلامي مهما اختلفت بقاعه فهو وطن للمسلمين جميعاً؛ فيجب على كل مسلم أن يكون واقفاً على ما يقع في أي بقعة من بقاع وطنه الأكبر، ليكون قلبه على اتصال بإخوانه المسلمين فيشاركهم في آمالهم وآلامهم، ويبقى المسلم ضعيفاً في رابطته الإسلامية حتى يستكمل العمل الصحيح بسراء المسلمين وضرائهم، ولذلك نحن نعنى بإصدار مثل هذه الرسالة بين حين وآخر.
القاهرة 20 صفر 1352
محب الدين الخطيب
الحملة الصليبية على الإسلام في شمال أفريقيا:
محاولة القضاء على الإسلام بتجنيس أهله بالجنسية الفرنسية، بعد تحديه بالمؤتمر الأفخارستي، وبالقضاء على حرية الصحافة العربية، ومنع تأسيس جمعية الشباب المسلمين، والحفاوة بجمعية الشبان المسيحيين، ومنع المدارس القرآنية للذكور من الازدياد، وللإناث من التأسيس، وبتحدي جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، وبالظهير البربري في المغرب الأقصى، كل ذلك: إيقاظ وإنذار للعالم الإسلامي والعربي.
إن ثقتنا بما دب في العالم الإسلامي والعربي من شعور وإحساس وروح أشعرته بالكرامة، وسمت به عن التخاذل والاستخذاء، هي التي دفعتنا إلى رفع هذا الصوت مخاطبين به ذلك الإحساس والشعور الشريف، ومستنجدين تلك الروح التي جعلت حداً بمظاهرها الأخيرة بين ظلمة الماضي ونور المستقبل الفياض بالآمال الزاهرة.
إن البرنامج المتحد الذي تهاجم به دول الاستعمار ديار العروبة والإسلام لم يعد يجهله أحد، وان اختلفت ألوانه وآثاره باختلاف منفذيه، فما تقوم به الدول اللاتينية في أفريقيا وبعض بلاد الشرق لا يتفق في لونه مع ما تقوم به غيرها في ما لها من مستعمرات وأن اتحد معه في الغاية والأثر.
فإذا كانت غير الدول اللاتينية تعتني بابتزاز ثروة المستعمرات وجهود أبنائها ولا تعتني بما وراء ذلك - اللهم إلا دعاية نصرانية تقوم على مؤسسات حرة أداتها التشويق ومحاولة الإقناع - فإن الدول الاستعمارية اللاتينية تعتني بالاستحواذ في مصادر الثورة واحتكار الجهود والتحكم المطلق في مصائر الأمم والعمل على تفكيك وحدتها والقضاء على جامعتها لتزول مرة واحدة من الوجود.
فالبلاد التونسية منذ نكبت بالاحتلال وفقدان الاستقلال يعمل فيها المحتلون من الفرنسيين - كما يعملون في غيرها - على محو الذاتية الماثل فيها وجود الأمة بالقضاء على مقوماتها ومشخصاتها: من لغة وأدب، ودين، كل ذلك جرياً وراء تنفيذ خطة لهم في مذهبهم الاستعماري معلومة، تلك هي إزالة سلطان المسلمين من هذه الأرض التي يريدون إسكان عناصر مسيحية بها يعملون على جلبها بمختلف الوسائل من آفاق الأرض ليعمروا بها البلاد، بدل المسلمين الذين أخذوا ينقرضون شيئاً فشيئاً بعوامل سياسة الشدة والإفقار، وليجعلوا بعد ذلك من هذه الأرض إمبراطورية فرنسية كما يقولون.(4/176)
إن هناك فكرة تسود الأوساط الاستعمارية الفرنسية اليوم وهي تكوين إمبراطورية فرنسية من أكبر أجزائها أفريقيا الشمالية - تونس والجزائر والمغرب الأقصى - وما يحيط بها من السوادين، ولما كان وضعية تونس والمغرب الأقصى السياسية غير وضعية الجزائر ابتدأوا بالعمل على توحيد الوضعية بتوحيد هذه الأقطار والعمل لجعلها قطراً واحداً يسكنه رعايا فرنسيون شريعتهم القانون الوضعي الفرنسي ولغتهم لغة فرنسا بدون شك. ومن الوسائل التي يعتمدون عليها في بلوغ غايتهم هذه مسألة تجنيس سكان هذه البلاد بالجنسية الفرنسية، ومن المعلوم أن المتجنس بالجنسية الفرنسية لا يمكن أن يكون لحكومته الإسلامية ولا لأميره عليه من سبيل، وأنه في أحواله الشخصية - من زواج وطلاق وإرث وغير ذلك - لا يحتكم إلى شريعة الإسلام وإنما يحتكم للقانون المدني الفرنسي الذي تخالف أحكامه الشرع الإسلامي على خط مستقيم: فالطلاق بيد الحاكم ولا يوقعه إلا لأسباب أربعة، والأرث على التساوي بين الذكور الإناث، والزواج بعقد مدني لدى الحاكم الفرنسي، وتعدد الزوجات جناية يعاقب مرتكبها. والمتجنس زيادة على ذلك يوجب على نفسه برضا واختيار أن يكون جندياً يقاتل تحت الراية الفرنسية حتى المسلمين أنفسهم. هذا زيادة عن كون المتجنس يخرج طائعاً مختاراً عن جماعة المسلمين ويوهن قوتهم ويؤيد خصمهم عليهم ويسعى بخروجه في تقوية سلطان الإسلام من بلاد الإسلام وإزالة أحكامه.
فتحوا باب التجنيس وأقاموا له من نفوذهم وقواهم الوسائل الكافية لإدخال الناس في جنسيتهم وإخراجهم عن ملتهم، وأول طائفة تسللت من نفوذ الإسلام هم اليهود [2] الوطنيون إذ تجنسوا دفعة واحدة في الجزائر وبصفة فردية في تونس والمغرب الأقصى فاحتج المسلمون على هذا العدوان من الفرنسيين والعقوق والخروج عن عهد الذمة من اليهود، ولكن التيار بقي على حاله. وجاء دور المسلمين في سنة 1923 فتجنس نفر منهم بالجنسية الفرنسية وكونوا بمساعدة الحكومة المحتلة جمعية لهم تدعى جمعية المسلمين الفرنسيين أخذت تعمل لبث الدعوة وتوفير عدد المتجنسين، والحكومة تنشطها من خلف بشتى الوسائل.
ولما استفتى المسلمون في تونس علماءهم عن حكم المتجنس في نظر الشرع الإسلامي حجرت حكومة الاحتلال على العلماء الرسميين [3] الإفتاء وبيان حكم الله في هذا الأمر، فسكتوا وكتموا ما أنزل الله من البينات والهدى، إلا من رحم ربك فأفتى الشيخ أحمد عياد والشيخ التهامي عمار بردة المتجنس وعدم جواز معاملته معاملة المسلم، وأفتى بذلك من مصر الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً، والسيد رشيد رضا والشيخ على سرور.
ولا تسأل عن تأثير هذه الفتاوى في قضية التجنيس، إذ لم يتجنس بعدها إلا نفر أقل من القليل، فضاقت صدور أنصار التجنيس من الفرنسيين وأعوانهم ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين الفرنسيين.
وفي هذه الأيام قام أحد زعماء الفكرة وهو النائب مورينو في مجلس النواب الفرنسي وألقى خطاباً تذمر فيه من قلة عدد المتجنسين واحتج على الحكومة لتقاعسها في هذا الصدد فوعده رئيس الحكومة الفرنسية ببذل أقصى الجهد لإتمام هذا النقص. واتفق أن مات أحد المتجنسين في مدينة بنزرت، فامتنع المسلمون من قبوله في مقابرهم لأنه مرتد بحكم الفتوى، إلا أن السلطة امتنعت من الإصغاء لهذه المعارضة واستفتت مفتي البلدة الشيخ إدريس الشريف فأفتى بالردة وعدم الدفن في مقابر المسلمين، فنزل هذا الأمر على الحكومة نزول الصاعقة ودفن ذلك المارق في مدافن النصارى الغرباء.(4/177)
دهش الجماعة من هذا الأمر ونقمت السلطة على فضيلة المفتي ووقع استنطاقه إرهاباً له وتخويفاً لغيره ونالت قضية التجنيس بذلك صدمة وأي صدمة ضاق بها صدر الحكومة فأخذت تفكر في التخلص مما وقعت فيه بسوء تدبيرها، ووجدت من الوزير الأكبر لسمو الباي وشيخي الإسلام أكبر عون على حل هذا المشكل فدبر ثلاثتهم مؤامرة ضد أميرهم ودينهم ووطنهم، فتواطأوا على وضع سؤال يلقى من الحكومة على أعضاء المجلس الشرعي فيقع الجواب منهم عليه طبق رغبة حكومة الاحتلال ولو أدى إلى انقراض جنسهم وزوال ملك الإسلام وشريعة الإسلام من هذه الديار. واغتنموا عطلة عيد الأضحى لإتمام هذا الأمر ومباغتة الأمة به، ولكن الناس علموا ما يدبر لهم في الخفاء فذهب وفد من الحزب الحر [4] الدستوري التونسي، يتركب من لجنة الحزب العليا وهم السادة أحمد الصافي المحامي بتونس والكاتب العام للحزب، صالح فرجات المحامي، الطيب الجميل المحامي، الطاهر صفر المحامي، عز الدين الشريف، الشاذلي الخلاوي، محمد الصالح ختاش، المنصف المنستيري، الشاذلي خزندار، محي الدين القليبي - ذهب هذا الوفد عشية ثاني أيام العيد إلى كل من الوزير الأكبر وشيخي الإسلام وأبلغوهم نص احتجاج الأمة على هذه المحاولة وأنذروهم وخامة عاقبتها. وزيادة على مافي هذين النصين فقد قام الوفد بمناقشة المتآمرين في هذه المسألة، وأفهمهم جيداً خطورة ما يترتب عليها من دخول المسلمين شيئاً فشيئاً في الجنسية الفرنسية، وخروجهم بذلك على سلطان دولتهم الإسلامية واحتكامهم لغير شريعة الإسلام، وأنه بذلك يقضى على المحاكم الإسلامية ودولة الإسلام في هذه الديار وبين لهم الوفد أيضاً غضب الأمة من هذه المحاولة الخطرة على حياتها ولكن هؤلاء لم يقتنعوا بما قيل لهم، إذ كانت تلوح عليهم علامات الغدر بملتهم ودولتهم وسلطة أميرهم الذي ولاهم هذه الخطط.
وخرج هذا الوفد من لدنهم وهو مقتنع بعزمهم على إبرام ما ائتمروا عليه. فالوزير الأكبر قال لرجال الوفد: إن مسألة بنزرت وفتوى مفتيها بعدم دفن المتجنس في مقابر المسلمين استاءت منها الحكومة فرنسا أيما استياء، ولا يخفى عليكم أن دولة فرنسا هنا بمقتضى معاهدة مع أمير البلاد وأمر واقع لا يسعنا انكاره ولا التعرض له بسوء وهو احتلالها لبلادنا، وهذا الاحتلال يفرض علينا نحوها آداباً لابد من مراعاتها وإزالة كل ما يخدش فيها. ولما كانت فتوى مفتي بلد بنزرت قد اعتدت على تلك الآداب لأنها عبرت عن أن الجنسية الفرنسية شيء قذر لا يقبله المسلمون ولا يدفنون من تلبس به في مقابرهم، فيجب والحالة ما ذكر محو هذا الأثر السيء الذي أحدثته الفتوى في نفوس أبناء الدولة الحامية [5]، وعبثاً حاول أعضاء الوفد إفهامه أن المسألة دينية وأنها فوق هذه الاعتبارات...
----------------------------------------
[1] - محب الدين الخطيب [1886 1967]: ولد ونشأ في دمشق، ووالده الشيخ أبو الفتح الخطيب [1834 1897]، من علماء دمشق وأئمتها وخطبائها، وكان أمين دار الكتب الظاهرية بدمشق منذ تأسيسها إلى يوم وفاته، وأما جده الشيخ عبد القادر الخطيب [1808 1871]، فكان من كبار علماء دمشق.
التحق بكليتي الحقوق والآداب في الآستانة عام 1905 بعد إكمال دراسته الثانوية في دمشق، وقطع دراسته عام 1907 م بسبب مراقبة أجهزة الأمن له وخوفه من الاعتقال لأنه كان من النشطين في صفوف دعاة النهضة العربية.
بدأ عمله الصحفي عام 1908 في صحيفة المقتبس التي كان يصدرها صديقه محمد كرد علي، وفي عام 1909 انضم إلى أسرة تحرير "المؤيد". وانضم للشريف حسين بعد إعلانه الثورة على الأتراك، وأصدر جريدة "القبلة" وكانت صحيفة رسمية للثورة العربية... ثم التحق بالملك فيصل بن الحسين في دمشق عام 1919، وعينته الحكومة العربية مديراً لمطبوعاتها وكلفته بإصدار جريدة الحكومة الرسمية التي سموها "العاصمة".
وعندما احتل الفرنسيون دمشق عام 1920 م خرج محب الدين الخطيب متخفياً حتى وصل القاهرة، وانضم إلى أسرة تحرير الأهرام واستمر يعمل فيها نحو خمس سنوات، وفي عام 1924 أسس إلى جانب المكتبة السلفية ومطبعتها »مجلة الزهراء«. ثم أسس صحيفة الفتح في عام 1926، واستمرت إلى عام 1948، ثم عمل فترة كرئيس لتحرير مجلة الأزهر، ووافته المنية في ديسمبر عام 1969 ولم يكن محب الدين الخطيب مجرد صحفي، بل كانت الصحافة عنده وسيلة لخدمة أهدافه الإسلامية العربية، وكانت له صلات قوية مع الحركات الجهادية في مختلف بلدان العالم الإسلامي، - رحمه الله - رحمة واسعة. [عن كتاب محب الدين الخطيب ودوره في الحركة العربية، للدكتور محمد عبد الرحمن برج].(4/178)
[2] - تعاون المواطنين من اليهود والنصارى مع المستعمرين الذين كانوا يحتلون بلدان العالم الإسلامي غير خاف على كل من عاش هذه الأحداث، ومع ذلك فإن الذين يكتبون التاريخ الرسمي في بلداننا من القوميين والوطنيين العلمانيين، يكثرون من النفاق الممجوج لليهود والنصارى، ويسكتون عن مواقفهم الخيانية خوفاً من التفرقة كما يزعمون. أثناء الاعتداء الثلاثي [الإنكليزي، الفرنسي، اليهودي] على مصر عام 1956، قتل ضابط نصراني من قوات الجيش السوري اسمه "جول جمال"، فأصبح هذا الحدث الشغل الشاغل لأجهزة الإعلام المصرية ومن ورائها أجهزة الإعلام العربية، وسميت أشياء عامة كثيرة في سورية باسم جول جمال، أما جهاد المسلمين المعروف من أهالي بورسعيد وغيرها فقد قوبل بالصمت.
[3] - العلماء الرسميون كانوا مشكلة في هذه المسألة وغيرها في تونس، وكانوا مشكلة في تاريخنا الطويل، وهم مشكلة المشاكل في واقعنا المعاصر. لقد فشل المستعمرون الفرنسيون فيما خططوا له، وانتصرت إرادة الأمة المسلمة في تونس، وذهب العلماء الرسميون يحملون أوزارهم، كما ذهب العلماء الأحرار بأعمالهم الطيبة، وبقيت المسألة حدثاً تاريخياً فهذا يُذكر بعمله الحسن، وذاك يذكر بنفاقه فهل من متعظ؟.
[4] - ألف أنصار الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي الحزب "الحر الدستوري"، أثناء اعتقال الفرنسيين له، وتولى - الثعالبي - رئاسة الحزب عام 1920 م عندما أخلي سبيله.
وكان الحزب يمثل آمال الأمة وتطلعاتها، ولهذا فقد قاد الشعب كله في موقفه من مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية، وواجه العملاء في داخل تونس بكل قوة كما واجه سيدهم المستعمر الدخيل، ومن رجالات هذا الحزب إضافة إلى رئيسه الشيخ الثعالبي، الأستاذ محي الدين القليبي، وقد تلقى تعليمه بجامعة الزيتونة، وتولى رئاسة الحزب أثناء نفي الثعالبي، وتعرض فيما بعد للنفي والتشريد، وتوفي في مدينة دمشق، وكان موضع ثناء وتقدير أساتذتنا الذين صاحبوه خلال إقامته في دمشق.
وقد ضاق الفرنسيون ذرعاً بالحزب الحر الدستوري، واستغلوا نفي الثعالبي، ثم نفي القليبي، فحققوا نجاحاً كبيراً في اختراقهم للحزب، وتمكن الحبيب بورقيبة ومجموعة أخرى من العلمانيين من السيطرة على الحزب، وإبعاد الرجال المؤسسين، وتغيرت أهداف الحزب تغيراً جذرياً، فحقق قادته الجدد ما عجزت فرنسا عن تحقيقه. [عن كتاب الأعلام، لخير الدين الزركلي، ومعلومات أخرى خاصة].
[5] - إن أسلوب المنافقين واحد في القديم والحديث، فكل ما يهتم به الوزير الأكبر [أي رئيس الوزراء] ويعمل من أجله هو إرضاء الحكومة الفرنسية، ولو كان الثمن ردة الأمة كلها عن دينها وعقيدتها.
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
=============(4/179)
(4/180)
مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية ( 2 )
شملت الحلقة الأولى المقدمة التي كتبها الأستاذ محب الدين الخطيب - رحمه الله -، ثم مقدمة الموضوع الذي أعده مكتب الأخبار التونسية، ومن أهم فقراته:
- إيقاظ وإنذار للعالم الإسلامي والعربي.
- تكوين إمبراطورية فرنسية من أكبر أجزائها أفريقيا الشمالية.
- ومن وسائل تكوين هذه الإمبراطورية تجنيس سكان هذه البلاد بالجنسية الفرنسية.
ماذا يعني هذا التجنيس من الناحية الشرعية؟
- امتناع المسلمين في بنزرت من دفن أحد المتجنسين في مقابرهم.
- تواطؤ الوزير الأكبر وشيخي الإسلام على الباي المتعاطف مع شعبه.
- مقابلة وفد الحزب الدستوري للوزير الأكبر وشيخي الإسلامي، وتبليغهم نص احتجاج الأمة على هذه المؤامرة.
ونستمر في هذه الحلقة في عرض دور وفد الحزب.
كان سلطان تونس - الباي - آخر من يعلم بهذه المؤامرة، وكان الوزير الأكبر يستغل جهل الباي، فعندما سأله عن سبب المظاهرة أجابه: سببها البطالة وعسر الحال، وعندما كان يغضب انتصاراً لشعبه كانت التهديدات تأتيه من المقيم العام الفرنسي فيضعف ويتراجع، ووزيره الأكبر هو الذي يرتب هذه الأدوار كلها، وهذا هو شأن الضعفاء، ورحم الله القائل:
وطغوا فأصبح ملكنا متقسماً وإمامنا فيه شبيه الضيف
* * *
ولما رجع أعضاء الوفد ليلاً إلى مقر الحزب الحر الدستوري قرروا إصدار عدد خاص من جريدة الحزب التي يصدرها باللسان الفرنسي (صوت الأمة) وشرح هذه المقابلة ونتيجتها فيه إيقاظاً للشعب وتنبيهاً إلى ما يراد به ويدبر له في الخفاء. وفعلاً أصدروا من الغد (الجمعة 13 ذي الحجة) عدداً خاصاً بعناوين ضخمة مفادها أن الجنسية التونسية في خطر، وكتبوا فيه كشفاً لهذه المؤامرة، فكان لهذا النبأ صداه، ومن الغد "السبت" كان موعد قدوم سمو الأمير [1] إلى العاصمة لقبول تهاني رعاياه بالعيد فاسقتبله الشعب بمظاهرة ولاء عظيمة امتدت على طول الطريق من محطة الأرتال إلى القصر العالي، وكان عدد المتظاهرين نحو الخمسين ألفاً يهتفون على طول الطريق بحياة الجنسية التونسية وسقوط التجنس الأجنبي. وقد اهتز الأمير لهذا النبأ الذي لم يكن له علم به، ولم يعرض عليه قبل ذلك اليوم. وقد سأل وزيره: ما لهؤلاء ولمسألة التجنيس وقد طويت صحيفتها قبل اليوم؟ فأجابه: إن الأزمة يا مولاي أضرت بالقوم، وأن هذا التظاهر بدافع البطالة وعسر الحال. فقال له الأمير: إنهم ينادون بسقوط التجنيس وهو غير الأزمة والبطالة. ولما صعد الأمير إلى قصره وسط ذلك الخضم من المخلوقات الصاخبة الناقمة، وأشرف عليهم من شرفات القصر ليطمئن خاطرهم، اعتلى أحد الشبان هامات الواقفين وألقى على مسامع الأمير خطاباً شرح له فيه حقيقة الحال. فاستاء الأمير أيما استياء، وشاهد الناس مشادة وقعت بينه وبين الوزير دعي على أثرها مدير الداخلية مسيو تيري وانتقد عليه هذا السلوك، وحمله والوزير عواقب ما ينشأ عن هذه الفتنة، فخاطبه مدير الداخلية بأن في الإمكان تفريق هذه الجموع بفرقة من رجال الشرطة. فانتهره الأمير قائلاً: أولئك رعاياي، أريد أن أسمع تظلمهم، ولا أريد أن يظلمهم أحد. ورجع الأمير بعد انتهاء الموكب إلى قصر حمام، وشيعه جمع عظيم من شيوخ العاصمة - من علماء وأعيان وأشراف - وأعينهم باكية وهم في حالة من الهلع أحزنت الأمير وأبكته، لأنهم كانوا يستغيثون من العبث بأحكام الدين، والعمل على ارتداد المسلمين بواسطة التجنيس. وكان الأمير طول الطريق يبكي لبكائهم، ويلاطفهم ويهدئ من روعهم، إلى أن امتطى الرتل إلى قصر الشتاء.
ومن الغد صدرت الصحف ملأى بأنباء هذه المظاهرة العظيمة، مرددة أصوات الاحتجاج الواردة من جهات المملكة وعلى الأخص جريدة الحزب الحر، فإنها كانت مملوءة بعرائض الاحتجاج الواردة من أطراف البلاد التونسية.
وفي يوم الاثنين شاعت أراجيف مفادها أنه وقع سحب الاستفتاء وبطل العمل به، وأنه سيبقى ما كان على ما كان، إلا أن الحزب علم من مصدر وثيق أنه قبل ظهر يوم الاثنين بساعة سلمت جميع الأجوبة على الاستفتاء من طرف المجلسين الحنفي والمالكي، ولم يشذ عن الجواب الذي يرضي الحكومة إلا الشيخ عبد العزيز جعيط من شيوخ الإفتاء المالكية، والشيخ حميد بن مراد والشيخ محمد بن الخوجة من شيوخ الإفتاء الأحناف، فقد علق أولهم وهو المفتى المالكي قبول توبة المتجنس ورجوعه إلى حظيرة الإسلام على رجوعه إلى الأحكام الشرعية والجنسية التونسية، وهو أمر مستحيل قانوناً، وامتنع المفتيان الحنفيان من الموافقة على الاعتراف بقبول التوبة لاستحالة رجوعه إلى أحكام الإسلام قانوناً، ولما تيقن الحزب استلام الحكومة للجواب المصطنع قرر إرسال لائحة إلى وزارة الخارجية الفرنسية تبين رأي الأمة. ومن ذلك الحين أخذت الاجتماعات العظيمة تتوالى بأندية الحزب والخطباء فيها يشرحون الموقف الحرج الذي تجتازه البلاد بتأثير أعمال الوزير وشيخي الإسلام.(4/181)
وأعلن طلبة جامع الزيتونة (الكلية الدينية الكبيرة بشمال أفريقيا) ويقدر عددهم بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة طالب أنهم قرروا الإضراب عن الدروس إلى أن يتخلى عن إدارة الكلية شيخ الجامع الحالي وهو شيخ الإسلام المالكي المسمى الطاهر بن عاشور. وكبر هذا الأمر على الوزير وعلى شيخي الإسلام لما يعلمانه من سوء الأثر الذي سينشأ عن هذا الإضراب، وعبثاً حاولوا إبطاله بشتى الطرق.
وفي يوم الجمعة قرر الناس عدم الإقتداء في الصلاة بجميع الأئمة الذين شاركوا في هذه الفتوى، وأن لا تقام الصلاة وراءهم ولا وراء نوابهم بالجوامع التي هم أئمتها، فأصبحت خاوية على عروشها، وصلى الناس وراء غيرهم صلاة الجمعة وأقيم ذكر اسم "اللطيف" في الجوامع الكبرى احتجاجاً على هذه الفتوى، وذكر الناس ربهم بلسان واحد قائلين "يالطيف يالطيف، ألطف بديننا الحنيف" وقد تأثر الناس من إجراءات علماء السوء وأجراء السوء، وازداد حماسهم وسخطهم على أولئك الشيوخ الذين صاروا محل الزراية والأذى من أخلاط القوم، فإذا مروا بشارع تناولتهم الألسنة بما يشين الكرامة ويزري بالشرف.
وأشيع في عشية الجمعة أن أحد المتجنسين قد مات بنهج الحفير، وأن الحكومة تحاول إخفاء موته لتدفنه في مقابر المسلمين، فتجمهر الناس حول دار هذا الرجل المصاب بداء النقط وقد نزل به هذا المرض المهلك عندما وصلته أوراق تجنسه. ولما خشيت عائلته سخط الجماهير استنجدت القوة الحاكمة فأنجدتها بالبوليس وجنود الدرك المدججة بالسلاح، فامتلأت بهم الشوارع في ذلك المساء، وزاد قدوم القوة في حماسة الناس وتجمهرهم. ولما خيم الليل وقع اصطدام بين القوة والشعب بسبب تضارب أحد المتظاهرين مع ضابط من كبراء قوة الدرك ضرب الضابط الرجل فأدماه فخطف الناس الضابط وأشبعوه ضرباً، فاستنجد جنود الدرك بالجيش فحضرت منه كوكبة مسلحة إلى تلك الساحة التي أخذت تعج بالناس في ظلمة ذلك الليل، وأسفرت المشادة في صبح ذلك اليوم عن 16 جريحاً من الجند والمتظاهرين. وقبض على 27 من التونسيين زجوا في السجن.
وما أصبح الصبح حتى امتلأت تلك الساحات والبطاح بالجنود السود مشاة، وركباناً من الإفرنسيين، ودارت في شوارع العاصمة وفي الحارات الإسلامية منها بالخصوص المدافع الرشاشة والدبابات وأطلقت البنادق في الفضاء إرهاباً للناس ورغبة في تفريقهم. ولكن هذه الرغبة أتت بعكس المقصود فازداد الازدحام وامتلأت الشوارع كافة بالمتظاهرين وبدأت علائم الشر تلوح على الوجوه، وكانت قوات الحكومة قد أوعزت إليها الإدارة بتكوين حوادث دموية في ذلك اليوم الرهيب لأنهم لم يتركوا وسيلة لإثارة حفائظ الناس لم يستعملوها، ولكن الشعب المتظاهر قابل كل تلك المحاولات بما عهد فيه من صبر وأناة، فكنت ترى جنود الدرك والبوليس، وحتى رؤساء هذه القوات، يمعنون في ضرب الناس على وجوههم حتى أدموا الكثيرين منهم وأحدثوا لهم أضراراً كثيرة، فنقل الكثير منهم على أثرها إلى المصحات والمحلات التي أعدت خصيصاً لمعالجة منكوبي المظاهرة.
وحدثت عدة اصطدامات بين الجند والمسلمين في أثر هذه الاعتداءات الفظيعة الصادرة من الجنود وأعوان الحكومة استعمل الجند فيها سلاحهم ورجال الشرطة عصيهم، واستعمل الناس الحجارة والعصي من جهتهم أيضاً، واستمر الحال هكذا بين أخذ ورد إلى الليل، ودام الأمر كامل تلك الليلة وصباح الغد وعربات السجن تحمل الجموع إليه وعربات الإسعاف تحمل المنكوبين إلى ما بعد ظهر الاثنين.
وفي عشية يوم الاثنين رغب الناس في الذهاب إلى قصر حمام لمكاشفة سمو الأمير بما حل برعاياه. وعارض الحزب الحر الدستوري في تنفيذ هذه الفكرة وفضل عدم إدخال ملك البلاد في هذه الخصومة حتى لا يقع استعمال نفوذه فيها ضد إرادة الشعب بتأثير إدارة الاحتلال. وفعلاً فإنه لم يذهب إلا نحو الثلاثمائة شخص فقط تجمهروا أمام قصر الإمارة هاتفين بسقوط التجنيس والفتوى المفتعلة على الدين. واتفق أن كان هناك نائبان في البرلمان الفرنسي قدما إلى تونس بقصد السياحة والإطلاع، فقدمهما المقيم العام في ذلك المساء إلى سمو الباي فشاهدا ذلك الهتاف والتظلم. وقد تأثر المقيم من هذه الصدفة السيئة فأفهم ذينك النائبين غير الحقيقة من تلك المظاهرة، فصرح أحدهما للصحف بما يدل على تبرمه مما شاهده من عدم الإخلاص لفرنسا رغماً عما عرفت به من تسامحها الديني!.(4/182)
مثل وفد من أولئك المتجمهرين أمام سمو الأمير، وقدم له عريضة بما لقيته الأمة. وكان الوزير حاضراً هذا الموطن وكان للأقوال التي قيلت لسمو الباي تأثيرها على نفس الوزير بطل هذه المأساة فرآها فرصة سانحة للاتحاد مع المقيم العام ضد إرادة سمو الباي فجاءا إليه من الغد: الأول يهدد ويتوعد باسم حكومته وقوتها وعظمتها وجندها وسلاحها، والآخر ينصح الأمير بتعديل الموقف خشية حدوث مالا يسر. وقد تليت في هذا الموطن على سبيل التبرك والانتفاع قصة سلطان المغرب مولاي عبد الحفيظ. وبعد جدال ومناقشة دامت ساعتين ونصفاً أذن الأمير لوزيره بأن يعمل ما يهدئ روع الناس، وما يرجع الأمن والطمأنينة إلى ما كانا عليه، فخرج الوزير فرحاً بهذا الانتصار الذي أحرزه ووضع خطة التنفيذ بمعية مدير التشريفات مصطفى صفر عدو الحركة الوطنية القديم. وكانت الخطة إخراج تصريحات على لسان حاجبي الأمير يعربان فيها عن أفكار سموه في هذه المشاكل، تم إصدار بلاغ من الوزير على لسان سمو الأمير يكون حاسماً لمادة النزاع على رأي الوزير الأكبر. وتولت جريدة النهضة التي تخدم ركاب الوزير ومشيخة الإسلام نشر هذين البلاغين فكان يحدث بسببهما الفشل في الشعب لما اشتملا عليه من تغير في الموقف ولكن القابضين على زمام الحركة منعا هذا التأثير من التسرب إلى الأفكار وبادر الحزب حالاً بالرد عليه وخاطب الشعب بوجوب الثبات والاستمرار على حركة الاحتجاج إلى أن يقع حل هذا المشكل بما يرضي التونسيين المسلمين.
وهناك حادثة استغلها الوزير وأثر بها على سمو الأمير لابد من ذكرها هنا بإيجاز لأن البلاغ الأول يصرح بها والثاني يشير إليها، وهي حادثة الخلاف الذي وقع في العام المنصرم بين سمو الأمير ووزيره السابق خليل بوحاجب وشيخ الإسلام السابق حميدة بيروم، وصورة هذا الخلاف أن حملة صحفية عنيفة أقامها الوطنيون ضد الاحتفال بمرور خمسين عاماً على الحماية الفرنسية بتونس فأراد المقيم العام أن يرفع قضية على القائمين بها من رجال الحركة الوطنية، وفعلاً وقع تتبع هؤلاء، وصح العزم على إصدار أحكام قاسية عليهم، فأذاع أعداء ذلك الوزير أن الموعز بهذا التتبع هو الوزير التونسي نفسه، فقامت حملة ضده في الصحافة وحدثت مظاهرات عظيمة كانت نتيجتها حفظ القضايا، وإرجاع الصحف المعطلة ومنها النهضة، وصادف أن وقع الخوض إذ ذاك في مسألة إصلاح نظام التعليم بالجامع الأعظم، فكان شيخ الإسلام السابق من المعارضين فيه، فاغتنم الفرصة شيخ الإسلام الطاهر بن عاشور خصم شيخ الإسلام المذكور وأثار ضده حملة في الصحافة باسم إصلاح الجامع وتحت عنوان إرادة الخير لهذا المعهد الإسلامي الكبير، فأصبحت الحملة متجهة نحو شيخ الإسلام ونحو الوزير الأكبر فتساندا للدفاع عن موقفيهما وكانت لهما منزلة لدى حكومة الاحتلال، ولكن الأمير صمم على عزلهما فعزلا وتولى بدلهما الوزير الحالي الهادي وشيخ الإسلام الحالي محمد بن يوسف والطاهر بن عاشور انتصب شيخاً للإسلام في المذهب المالكي وشيخاً للجامع بعد أن تم أمر إصلاح التعليم فيه على ما يؤمله ويرجوه. ونظراً لما لاقاه الأمير في مسألة عزلهما من العنت من حكومة الاحتلال فقد أصبح لا يحتمل ذكرهما. ولما جاءت هذه الحوادث قال الوزير لسمو الباي: إن هذه الحركة يغذيها الوزير السابق وشيخ الإسلام ليحلا محلي ومحل الطاهر بن عاشور، فخاف سمو الباي أن تكون هذه هي الحقيقة، وأن يصبح يوماً ما أمام أمر واقع. وبهذا الأمر نجح الوزير واستخرج الأذن من سمو الأمير بإصدار ذلك البلاغ الذي لم يخلُ من الإشارة إلى هذه الدسيسة، بينما المسألة لا تخرج عن الاحتجاج على الإفتاء بقبول توبة المتجنس ومعاملته معاملة المسلمين بينما هو لا يحتكم إلى شرعهم ولا يمت إلى جامعتهم بسبب.
حوادث التجنس في أنحاء الإيالة التونسية:
قصبة بنزرت:(4/183)
بينما الحوادث تجري في العاصمة التونسية كما مر في الفصل السابق إذا بحوادث أخرى أفظع منها تقع في قصبة بنزرت "فير يفيل" ذلك أن أحد المتجنسين فيها - وهو المسمى عيسى بو عقلين - توفي وأرادت الحكومة دفنه غصباً في مقابر المسلمين، رغماً عن كونه لا تنطبق عليه الفتوى المفتعلة، على فرض التسليم بصحة ما جاء فيها من أن المتجنس إذا حضر لدى الحاكم الشرعي وأشهد على نفسه أنه تبرأ من جميع الأديان ونطق بالشهادتين تقبل توبته بعد ردته ويعامل معاملة المسلمين ولو مع بقائه على الاحتكام إلى غير شريعة الإسلام. ولما عارض مسلمو قصبة بنزرت في دفنه بمقابرهم عمدت الحكومة إلى فرقة كاملة من الجند أرسلتها ليلاً على هذه البلدة بخيلها وسلاحها وأمطرت المتجمهرين وابلاً من رصاص الرشاشات والبنادق واستمر إطلاقها من الساعة 10 ليلاً إلى السادسة صباحاً فخربت عدة أماكن وجرح الكثير من مسلمي البلدة الوادعين المسالمين، ومن الغد زيد في عدد الجند والسلاح وحوصرت البلدة ومنع الداخل فيها والخارج منها، وقبض على كافة المنتمين للحزب الحر الدستوري بها وأودعوا السجن، ثم حملت جثة المتوفى تحت السيوف والبنادق والرشاشات في مساء ذلك اليوم، وصلى عليه عامل بنزرت محمد بن الخوجة لعدم وجود من يصلي عليه من المسلمين، وغسله أحد أعوان العامل المذكور ودفن في قبره الأول من نوعه لأنه محاط بالإسمنت والحديد خوفاً من نبشه بعد دفنه، وأقيم عليه حرس من الجند لا يزال قائماً إلى الآن.
ثم أرسلت الحكومة الجند على بيوت سكان القرية بدعوى التفتيش على السلاح الموجود فيها، ففتكوا بأهلها وشردوا نساءها وصغارها يهيمون في الجبال، وكسروا كل ما وجدوه من أمتعتهم وأبادوا كل ما ادخروه من أقوات وفي 27 بيتاً فتشوها ولم يعثروا إلا على أربع قطع من السلاح المرخص في حمله للحراسة والصيد فحجزوها، ولا تزال البلدة على روعها محاطة بالجند المدجج بالسلاح والرقابة مضروبة على أهلها والذين أودعوا السجون لا يزالون بها لحد الآن، وقد تطوع للدفاع عنهم محامون من رجال الحزب.
في منزل جميل:
وفي هذه القرية متجنس منعه مسلموها من دخول المسجد لارتداده بالتجنس عن دين الإسلام، فرفع أمره إلى حاكم البلدة وفي أسرع من لمح البصر زحف عليها الجند وأجبروا سكانها على إدخال المتجنس للجامع فتركوه والجامع وأقاموا صلواتهم في أماكن أخرى من البلدة وبقي الجند مرابطاً إلى الآن.
بنزرت:
أخذت السلطة الفرنسية في هذه البلدة تحقق مع الكاتب العام لشعبة الحزب الحر الدستوري هناك السيد الطيب بن القايد حسين وثلة من أحرار البلدة بشأن توقيعهم على عرائض الاحتجاج الموجهة للحكومة ضد الفتوى المتعلقة بالتجنيس، ولا يزالون في استنطاق وهم بحالة سراح إلى الآن، وقد وقع تهديدهم بالسجن والإبعاد إن هم عادوا لمثل هذه الخطة.
ماطر:
تظاهر سكانها وهتفوا في جموع عظيمة بسقوط الفتوى، واجتمعوا في جامعها لذكر اسم الله "اللطيف" إظهارا لامتعاضهم مما نزل بالإسلام وأهله من محنة، وأخذت الإدارة هناك تحقق مع رجال الحزب الحر فيها وبالأخص زعيم الحركة هناك السيد حمودة ميهوب الذي هدد بالإبعاد عن الوطن التونسي بتهمة إثارة القلاقل به في كل مناسبة.
فريانة:
أضرب أهالي هذه البلدة عن العمل يوماً كاملاً، احتجاجاً على فتوى التجنيس، وأرسلوا برقيات بذلك إلى المراجع العليا كما أبرقوا إلى الحزب يؤيدونه في موقفه ضد الفتوى والتجنيس فنقمت السلطة عليهم هذا الأمر وأسرت لهم الإيقاع بهم، واتفق أن حدث من الغد حريق في مناشر الحلفا فأجبرت السلطة أهالي البلدة - كما هي عادتها - على إطفاء ذلك الحريق فامتثلوا، ولكنهم بمجرد الشروع في العمل سمعوا أصحاب الحلفا الفرنسيين واليهود يشتمون دين الإسلام ظناً منهم أن الذي أضرم النار من مسلمي القرية فاحتج المسلمون على هذا الاعتداء وإزاء احتجاجهم استنجد عامل الجهة الجيلاني بن رمضان الذي كان من الوطنيين ثم صار عاملاً لحكومة الاحتلال بقوة الجند والدرك فأرسلت إليه قوة من سوسة وأخرى من قفصة وقبض على المنتمين للحزب في القرية وزجوا في السجن فاحتج رفاقهم وأرادوا أن يدخلوا السجن معهم إعلاناً لتضامنهم فما كان من جنود الدرك إلا أن ضربوهم الضرب المبرح وأدخلوهم السجن ودخل العامل عليهم السجن وأخذ يضربهم بهراوة كانت بيده ومن الغد سيق خمسة منهم إلى سجن مدينة سوسة حيث أحيلوا على محكمتها الفرنسية لتحاكمهم بصفتهم متهمين بضرب جنود الدرك وأطلق سراح الباقين ووضعت عليهم الرقابة من عيون الحكومة وأعوانها السريين.
قفصة:(4/184)
وفي قفصة أغلقت البلاد يومين كاملين وأضرب عن العمل فيها وتظاهر السكان مع من وفد إليها مما حواليها من جموع العربان وطافوا شوارعها وذهبوا إلى إدارة الحكومة وقدموا إليها عرائض احتجاجهم ضد العبث بالدين الماثل في فتوى توبة المتجنس وقبولها، وأرسلوا عرائض إلى سمو الباي وشيخي الإسلام بتونس وإلى مركز الحزب الحر الدستوري يؤيدونه في موقفه ويعاضدونه في دفاعه. وقد أجرت الحكومة أبحاثاً ضد المتسببين في هذه المظاهرة إلا أنها إلى الآن لم تسجن منهم أحداً.
----------------------------
[1]- من المناسب في هذا الصدد عرض نبذة قصيرة عن حياة هذا الباي:
هو: أحمد بن علي بن حسين بن محمود. ولد في تونس [قصر المرسي]، وتولى السلطة سنة 1347 هـ [1929] بعد وفاة ابن عمه الباي محمد الحبيب، كان فيه ورع وميل إلى الأدب، وانسياق إلى مناصرة الحركة الوطنية في بلاده، إلا أنه لم يكن له من الأمر غير الاسم والمظهر، وفي حكومة تونس على عهده 12 ألف موظف فرنسي تبلغ رواتبهم 53% من مجموع الميزانية، والوظائف العليا وقف على الفرنسيين، ولا يزيد عدد الموظفين التونسيين على أربعة آلاف. [عن كتاب الأعلام، لخير الدين الزركلي].
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
=============(4/185)
(4/186)
مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية ( 3 )
الإسلام وإدارة الحزب الحر أيضاً.
نفطة:
ولم تتخلف نفطة عما قام به أهل قفصة وتوزر بل كان فيها ما كان في جارتيها أيضاً من مظاهر الاحتجاج والاستنكار.
وأرسل أهالي المناوي. ودقاش. والحامة. والمطوية، وقابس. وجربة، ورأس الجبل، وعوسجة، والعالية، وغار الملخ، وحاجب العيون، وأبة كسور، والقليبية، ومنزل تميم، ودار شعبان وغيرها من أمثالها من البلدان عرائض وبرقيات الاحتجاج الممضاة من طبقات سكانها فكان لها الوقع العظيم.
سوسة:
وفي صبيحة الثلاثاء 23 ذي الحجة 1351 أصبحت عاصمة الساحل (سوسة) مضربة عن العمل مغلقة دكاكينها وبكر الناس فيها إلى جامعها الكبير، وبعد أداء فريضة الصبح أخذ المصلون في تكرار اسمه - تعالى - »اللطيف« ثم خرجوا من الجامع الكبير في مظاهرة عجت بها أكبر شوارع هذه العاصمة، وسارت المظاهرة بين هتاف الرجال وولولة النساء والمناداة بسقوط الفتوى والتجنس وبحياة وبقاء الجنسية العربية التونسية، وقصد المتظاهرون دار عامل البلدة ومراقبها المدني حيث تقدمت لجنة منهم إلى كل من العامل والمراقب وسلمته عرائض الاحتجاج وتلت على مسامعه خطاباً مؤثراً في الموضوع. وقد أحيطت هذه الجموع بجيوش جرارة من العساكر شاكي السلاح وكذلك البوليس والدرك وقد حاولت هذه القوات تفريق الجماهير المحتشدة ولكن بدون جدوى وبقيت البلدة على هذه الحال إلى آخر النهار.
مساكن:
وكان على أثر مظاهرة سوسة قام سكان بلد (مساكن) بمظاهرة كبيرة واجتماع في جامع البلدة وقدموا عرائض احتجاجهم لخليفة العامل عندهم ووقع الإضراب عن العمل كامل اليوم أيضاً.
القلعة الكبيرة:
تظاهر سكان (القلعة الكبيرة) من الغد أيضاً وأضربوا عن العمل وأبلغوا عرائض احتجاجهم إلى خليفة العامل ببلدتهم أيضاً.
المكنين وقصر هلال:
اجتمع من الغد سكان هاتين البلدتين المتجاورتين، وقاموا بمظاهرة كبيرة خطب فيها الخطباء بما يناسب الموضوع وسلموا عرائض احتجاجهم إلى العامل هناك.
وقد أيدت بلدان الساحل هذه في احتجاجاتها صفاقص والقلعة الصغيرة وأكودة وحماد سوسة والصبيبة والمنستير والساحلين وطبلبة ولمعلة وقصور الساف وطبربة ومجاز الباب والكريب وسليانة.
وبالجملة فإنه لم يبق بلد من بلدان المملكة لم يحتج ضد هذا الصنيع وأصبحت البلاد على أشد حالة من الاضطراب والقلق خصوصاً عند ما قابلت الحكومة مظاهرات الشعب السلمية الهادئة بالجند والسلاح.
المحاكمات:
أول محاكمة هي التي أحيل فيها 17 رجلاً من المتظاهرين بتونس على المحاكم التونسية وتطوع بالدفاع عنهم الأساتذة صالح فرحات الكاتب العام الثاني للحزب والطيب الجميل العضو الأول بلجنة الحزب، فأطلق سراحهم وحكم عليهم بغرامات مالية تتراوح بين المائة والمائة والخمسين فرنكاً من مصاريف نشر الدعوة.
تم محاكمة الذين أحيلوا على المحكمة الفرنسية لتضاربهم مع ضباط الجند وجرح البعض منهم وهؤلاء ناضل عنهم الأساتذة الطيب الجميل المذكور والطاهر صفر ومحمد بورقيبة وعز الدين الشريف. وقد وقعت مشادة بين المدعي العمومي والأستاذ صفر كادت تؤول إلى ما لا تحمد عقباه، لأن الأستاذ صفر قال أن رجال الحكومة من جند وبوليس وغيرهم هم المعتدون لا هؤلاء العزل المسالمون الذين جئتم بهم إلى هنا، فصاح المدعي العمومي إنك تتهم الحكومة وقد أقسمت اليمين على احترامها عندما رخص لك في المحاماة، فأجابه: إنما أقسمت على احترام العدل والحق لا الحكومة، وعندها صاح المدعي العمومي مستنجداً بالرئيس أن يسكت هذا المحامي، فصاح الرئيس: إني أمنعك من الكلام إن سرت على هذا الأسلوب في المرافعة، فقال الأستاذ صفر عضو اللجنة التنفيذية للحزب: إن مهمتي هي الدفاع وإن القانون يعترف بوجود معتد ومعتدى عليه والمعتدي هنا هو الحكومة في نظري فيجب أن أقلب الدعوى عليها بفائدة الموكل المعتدى عليه حتى يتضح الحكم وينزل العدل منزلته وكلنا يحترم العدالة، واستمر الأستاذ في مرافعته وتلاه الآخرون ولم يفسد هذا الجو إلا مرافعة أحد المحامين المسمى محمد علي بن مصطفى بن خير الله ابن مصطفى الذي لعبت فرنسا على يده وبواسطته والوزير الجلولي سابقاً ذلك الدور الذي آل إلى استفتاء الباي محمد الناصر - رحمه الله - وأخ الشاذلي خير الله الذي كان في صفوف الوطنيين ثم لعبت به أيدي أذناب الحكومة فرموا به في هوة الخروج عن الحركة الوطنية وطعنها في الصميم. وقف هذا الأرعن مدافعاً عن أحد المتهمين فقال: إني أخجل من الوقوف أمامكم أيها السادة مدافعاً عن هؤلاء الذين آذوا سمعة فرنسا في جنسيتها، وإنما أقول لكم أنهم بسطاء دفعهم آخرون إلى هذا الاجرام وأرجو أن لا يتكرر هذا العدوان بين من تقلدوا جنسيتكم وبقوا على ديننا... الخ. فامتعض من هذه المرافعة حتى اليهود والافرنج الذين حضروها وكان لها الوقع السيء لدى كافة التونسيين.(4/187)
وأخيراً حكم على أحد المتهمين بعامين سجناً وعلى اثنين بعام لكل واحد وعلى اثنين آخرين بعام ونصف لكل واحد أيضاً، والبقية من ثمانية أشهر إلى أربعة أشهر سجناً، وقد استأنف أكثرهم الحكم إلى محكمة الجزائر الفرنسية.
وبعد هؤلاء جاء دور محاكمة المتهمين في فريانة المحالين على محكمة سوسة وسافر من تونس للنضال عنهم الأستاذ الطاهر صفر وناضل عنهم في سوسة الأستاذ الطيب القسام وحكم عليهم بمدة تتراوح بين العامين والعام مع ما يقرب من الأربعة آلاف فرنك غرامة لكل منهم. وسبب الحكم بالغرامة هو ما طلبه المدعي العام هناك من قوله أن هؤلاء في الحقيقة لا ذنب لهم والمجرمون الحقيقيون لم يصلوا إلى قفص الاتهام بعد، فيجب أن يشملهم الحكم بوضع غرامة يدفعها أولئك الذين دفعوا هؤلاء لوقوف هذا الموقف. وكذلك كان، ولكن المحكوم عليهم استأنفوا الحكم إلى محكمة الجزائر الفرنسية أيضاً.
وبعد هؤلاء أحيل نحو 27 على محكمة المخالفات فحكمت عليهم بغرامات مالية خفيفة مع إخلاء سبيلهم. [1]
القيروان:
ولم تتخل عن هذه الحركة عاصمة الأغالبة والعبيديين، ومحط رحال أصحاب الرسول الأعظم من الفاتحين، فقد أغلقت المحلات التجارية كلها وتجمهر الناس صباحاً في مقام الصحابي الكريم أبي زمعة البلوي - رضي الله عنه - وخرجوا من هناك حاملين الأعلام الوطنية يتقدمهم سيد شباب القيروان الشريف ابن الشريف السيد الشاذلي عطاء الله وطافوا المدينة وتقدموا إلى دار العامل والمراقبة المدنية فوجدوا المراقب بالباب يخاطبهم بلسانه الفرنسي: قدّموا إلي وفداً منكم فتقدم ثلاثة - منهم السيد الشاذلي عطاء الله - فزجهم في السجن وأحاط الجنود بالمتظاهرين فجأة وأخذوا يضربون الناس على وجوههم بمؤخرة البنادق حتى أدموهم، والمراقب بعصاه يمعن فيهم ضرباً وشتماً وأخذ أعوان البوليس يزجون الناس في السجن، وبقي الناس على هذا الحال كامل ذلك اليوم. ومن الغد أحيل ثمانية من الموفدين على المحاكمة وأطلق سراح الباقين. وبعد أيام أطلق سراح السيد الشاذلي عطاء الله وأعلنت محاكمة الباقين فسافر للنضال عنهم السيد الحبيب بورقيبة والأستاذ صالح فرحات فحكم المجلس بإطلاق سراح أحدهم وبالتخلي عن القضية للمحكمة الفرنسية في الباقين لأن القضية سياسية، وعملاً بقانون عام 1926 تحال كل القضايا السياسية على المحكمة الفرنسية. واستأنف المحاميان هذا التخلي إلى محكمة الوزارة بتونس وكادت التحقيقات مع الموقعين على البرقيات والعرائض أن تعم كل الإيالة ولا ندري ماذا تكون نتيجتها بعد.
وفاة زوجة أحد المتجنسين:
وبينما الحالة لم تستقر بعد على قرار إذ بنبأ يثير العاصفة من جديد، ذلك هو نبأ وفاة زوجة عبد القادر القبايلي رئيس جمعية المتجنسين من التونسيين المسماة (جميعة المسلمين الفرنسيين) وهذه المرأة متجنسة أيضاً بالجنسية الفرنسية، ورغماً من إشارة أهلها على زوجها بدفنها في إحدى المقابر المتروكة فإنه صمم على دفنها بمقبرة الجلاز تحدياً للمسلمين الذين نصب نفسه عدواً لهم اعتماداً على ولائه وانحيازه إلى الفرنسيين. وما كان يذاع خبر موتها ليلاً بشاطئ حلق الوادي حيث سكناها حتى اجتمعت حول دارها مظاهرة من لفيف عملة المكان ليلاً وأنذروا زوجها بأنه لا يمكنهم أن يتركوه يضعها في مقابر المسلمين، فاستنجد بجنود الدرك فأنجدته الحكومة بقوة منها "بضباطها" وجاء عامل أحواز الحاضرة التونسية ومراقب تونس وباتوا عنده كامل الليل ومن الغد لم يجدوا من يغسل المرأة، لأن الغاسلات [2] امتنعن من غسلها لاعتبارها مرتدة عن الإسلام فصبت عليها قريباتها الماء وصلى عليها عمها بالدار، ورفعت على سيارة وما كادت تصل إلى مقبرة الجلاز بتونس حتى وجدت الجموع المتراصة تحمي المقبرة، وتمنع هذه المتجنسة من أن تدفن فيها، وجاء الجند والرشاشات والمدافع والدبابات وأخذت هذه القوى تفرق الناس وتحمي الجثة وكان الناس قد هدموا القبر الذي أعد لدفنها وصاحوا بسقوط القبائلي ومشروع التجنيس، وما جاءت الساعة السادسة حتى دفنت هاته الجثة تحت السيوف وأفواه البنادق والرشاشات، وأبقوا فرقة من الجند تحرسها إلى ساعة كتابة هذا خوفاً من أن تخرج من القبر ووقع اعتقال الكثيرين من المشتركين في المظاهرة.
استنطاق رجال العلم:(4/188)
ولما أعيت شيخ الجامع الحيلة في حل الاعتصاب الصادر ضده من طلبة جامع الزيتونة وأثر هذا الاضراب على مركزه ومركز الوزير الأكبر معه، وقوبل من الأمة بالسخط والغضب، عمد إلى استعمال كافة الوسائل لمعالجة الموقف، فلم ينجح، وكان المدرسون بالجامع الأعظم قد امتعضوا من سلوك رجال الافتاء نحو الدين والوطن فأرادوا أن يرفعوا المعرة فأجمعوا على وضع فتوى تعارض الفتوى الأولى فلما بلغ هذا الأمر شيخ الجامع اتهمهم بأنهم المثيرون للاغتصاب والمحرضون على الإضراب، فما كان من الحكومة إلا فتح بحث ضدهم في هذا الشأن ولكنهم أظهروا في هذا الأمر شجاعة كانت مضرب الأمثال لأنهم صرحوا بكل ما يعتقدونه وتعتقده الأمة في شيخ الجامع ونشروا الفتوى المعارضة بعد هذا البحث وكان لها صداها حتى أن سمو الباي قد تأثر بما جاء فيها وطالب بإلحاح إحداث مقبرة خاصة بالمتجنسين اعتماداً على الحكم بردتهم وعدم صحة قبول توبتهم ولازال هناك أخذ ورد بين سمو الباي والمقيم العام في هذا الأمر.
ولا يزال الإضراب عن الدروس مستمراً إلى اليوم وقد بارح أكثر الطلبة العاصمة إمعاناً في الإضراب وتحقيقاً لعدم العودة إلى الدروس إلا أن يعزل شيخ الجامع الذي أفتى في دين الله بغير ما أنزل الله. وقد عمد أخيراً شيخ الجامع الطاهر بن عاشور [3] إلى كتابة مكتوب فيه إعلان الثقة به وسلمه إلى أحد أذنابه يطوف به على المدرسين ويطلب إليهم التوقيع عليه فامتنعوا عن ذلك وتبرأ والد هذا الطائف من أعماله وقبحها على صفحات الصحف.
وتدور إشاعة في البلاد مفادها أن المقيم العام عازم على وضع البلاد تحت حالة الحصار وإبعاد كافة المشتغلين بالحركة الوطنية إلى خارج المملكة وقد تأيدت هذه الإشاعة بعدة أمور منها مجيء رئيس لجنة الأمور الخارجية بفرنسا م. فرنوت إلى تونس لإجراء بحث في أسباب الحوادث الأخيرة واستفيد من محادثاته أن هناك تقريراً أرسله المقيم العام في الحوادث الأخيرة ينذر فيه الحكومة بشر مستطير ويقول يجب أن تطلق يده في البلاد ليعمل تحت مسئوليته ما يريد ولكن لجنة الأمور الخارجية أبت أن تطلق يديه ما لم تتبين الموقف جيداً فأرسلت أحد أعضائها للبحث وقد استقبل هذا العضو من لدن الهيئة الرئيسية للحزب الحر وقررت له الحالة كما هي ونظرية المسلمين فيها وهو الآن يطوف أنحاء المملكة يبحث ويستعلم عن الحالة هناك.
هذه خلاصة ما وقع من الحوادث لحد ساعة كتابة هذا وفي عزم التونسيين أن لا يتركوا متجنساً يدفن في مقابرهم إلا بالقوة القاهرة وبالأمر الذي لا يستطيعون له دفعاً ولا يعلم إلا الله ماذا ينجم عن هذه السياسة الخرقاء التي تتبعها حكومة فرنسا نحو المسلمين في شمال أفريقيا.
خاتمة:
إن المسلمين في تونس قد دافعوا بما يستطيعون عن عروبتهم وإسلامهم وقد كانت نكبتهم هذه المرة على أيدي علماء الدين منهم وحاشا للدين أن يرضى بهذا الانتساب إليه. وكانت حجة فرنسا الوحيدة هي فتوى الشيوخ بتونس فتونس اليوم تستصرخ العالم العربي والعام الإسلامي وتستنجده للدفاع، وعسى أن يجد صوتها المتهدج آذاناً صاغية وقلوباً واعية من رجال الدين والسياسة ومن عامة المسلمين والله ولي المؤمنين...
----------------------------------------
[1] - رغم وحشية الاستعمار الفرنسي، فقد كانت الأحكام الصادرة بحق المعارضين لسياسة التجنيس أرحم من الأحكام التي اتخذها الحبيب بورقيبة ضد الدعاة المعارضين، وأحكام بورقيبة التي وصلت إلى حد اغتيال زملائه المعارضين الذين لجأوا إلى ديار الغرب أقل وحشية من الأحكام الوحشية التي اتخذها - ولا يزال - ابن علي
[2] - كيف كنا وكيف أصبحنا؟ نساء من عامة الناس يرفضن غسل إحدى الهالكات لأنها تجنست بجنسية المستعمر الذي يعمل لطمس الهوية الإسلامية!! ليت الخاصة اليوم يبلغون هذا المستوى.
[3] - شيخ جامع الزيتونة هو الطاهر بن عاشور صاحب المؤلفات الكثيرة ومنها تفسيره "التحرير والتنوير"، وعجيب وقوفه هذا الموقف الشاذ، ولا نرى له عذراً في ذلك، فقد كان سنداً للوزير الأكبر - رجل فرنسا - وكان وإياه في جبهة واحدة ضد الشعب وعلمائه، وضد الباي، ولم يتردد في تنفيذ كل ما طلب منه، بل كان يتخذ مبادرات لا تطلب منه.
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
=============(4/189)
(4/190)
مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية (4)
قدم أحد التونسيين إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء في مصر السؤال الآتي:
س: ما قول سادتنا العلماء أمتع الله بهم الأمة في رجل مسلم تجنس بجنسية أمة غير مسلمة اختياراً منه والتزم أن تجري عليه قوانينها بدل أحكام الشريعة الغراء حتى في الأحوال الشخصية كالنكاح والطلاق والمواريث ويدخل في هذا الالتزام أن يقف في صفوفها عند محاربتها ولو لأمة إسلامية فهل يكون نبذه لأحكام الشريعة الإسلامية والتزامه لقوانين أمة غير مسلمة طوعاً منه ارتداداً عن الدين، وتجري عليه أحكام المرتدين، فلا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين أو كيف الحال؟ وإذا كان خلع أحكام الشريعة من عنقه والتزامه لقوانين أمة غير مسلمة ردة، فهل ينفعه أن يقول بعد هذا الالتزام إني مسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ أفتونا أعلى الله بكم كلمة الدين وجعلكم من العلماء الراشدين المرشدين. أحد التونسيين النازلين بمصر
فأجاب فضيلة الأستاذ - حفظه الله - تعالى - بما يأتي:
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه، وبعد: فقد قرأت شيئاً عن هذا الموضوع موضوع التجنس بالجنسية الفرنسية الذي يشير إليه حضرة السائل في سؤاله، وفي تونس الآن حركة تدمي القلوب وتفتت الأكباد وما يراد بتلك الحركة وأمثالها كالظهير البربري المعروف إلا محو الإسلام من تلك البلاد ذات التاريخ المجيد في خدمة الدين والعلم بما أنجبت من أكابر الفضلاء وفحول العلماء وإنه ليجب على المسلمين أن يتيقظوا لما يدبر لهم في الخفاء وما يراد بهم من الأعداء الذين لا يألون جهداً في الكيد لهم والتفنن في وسائل الإيقاع بهم والعمل على إخراجهم من دينهم واستعبادهم في أوطانهم والسير بهم في طريق يؤدي إلى الكفر لا محالة، وقد استعملوا لذلك ضروب الحيل وشتى الوسائل، ولقد مر بنا من الحوادث ما فيه مزدجر وقام على سوء نيتهم وكذب دعاويهم ما فيه عبرة لأولي الألباب.(4/191)
إن التجنس بالجنسية الفرنسية والتزام ما عليه الفرنسيون في كل شيء حتى الأنكحة والمواريث والطلاق ومحاربة المسلمين والانضمام إلى صفوف أعدائهم معناه الانسلاخ من جميع شرائع الإسلام ومبايعة أعدائه على ألا يعودوا إليه ولا يقبلوا حكماً من أحكامه بطريق العهد الوثيق والعقد المبرم (وهل بقي بعد هذا من الإسلام شيء؟) وإن هناك فرقاً كبيراً بين من تسوقه الشهوات بسلطانها الشديد إلى الزنا وشرب الخمر مثلاً وبين من يلتزم هذه الأشياء مختاراً لها على شرائع الإسلام التي نبذها وراء ظهره وأعطى على نفسه العهود والمواثيق ألا يعود إليها فإن صاحب الشهوة يفعل ما يفعل بمقتضى سلطانها الطبيعي القاهر وهو يتمنى أن يتوب إلى الله عليه فهو معتقد قبح ما يفعل وسوء مغبته، وربما كان قلبه ممتلئاً بمحبة الله ورسوله كما قال: لأصحابه عندما لعنوا ذلك الذي حُد في الخمر مراراً لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله فمثل هذا يوشك أن يندم على ما فعل ويتوب مما اقترف وأما حليف الفرنسيين الخارج من صفوف المسلمين طوعاً واختياراً مستبدلاً لشريعة بشريعة وأمة بأمة مقدماً ذلك على اتباع الرسول بلا قاسر ولا ضرورة فلابد أن يكون في اعتقاده خلل وفي إيمانه دخل وإذا حللنا أحواله القلبية ونزعاته النفسية وجدناه منحل العقيدة فاسد الإيمان فهو من وادي من قال الله فيهم: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً)) [النساء/ 60 - 61]، وهذه الظواهر التي تدل على فساد البواطن ينبغي أن لا نتغافل عنها ولا عن ما صاحبها من تلك القرائن التي تنطق بالبعد عن حقائق الإيمان وتدل على سوء المقصد وقبح الغاية (ولله در المالكية في نظرهم البعيد حيث لم يقبلوا التوبة من الزنديق الذي قامت القرائن على كذبه في دعوى الإسلام وإن لذلك مدى كبيراً في نفسي فقد كان لهم من بعد النظر وحسن السياسة للشريعة المطهرة ما يعرفنا أنهم بالمحل الأول من الحكمة واليقظة ولولا ذلك لكان الإسلام لعبة في يد هؤلاء الزنادقة ولكان المسلمون لديهم مثال الغفلة والبلاهة والجهالة، فما أسرع ما كانوا يهزؤون بهم ويسخرون من عقولهم وقد رأينا ذلك في ملاحدة مصر [1] حيث يأتي الرجل بالكفر الصريح والإلحاد المكشوف والإقذاع الفاحش ثم يكتب على صفحات الجرائد أنه يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ويقول بعض ذوي القلوب السليمة من العلماء أنه إن كفر بالأمس فقد أسلم اليوم، ولم يدر أننا صيرنا الإسلام بذلك هزأة الهازئين وسخرية الساخرين وأضحوكة الزنادقة والملحدين، فجزى الله المالكية عن الإسلام خيراً فما أوسع نظرهم وأعرفهم بتلك النفوس الخبيثة ومقدار تفننها في الخبث والدهاء (وما أعظم استعدادها لأن تظهر بكل لون وتتشكل بكل شكل) على أننا لو تنزلنا غاية التنزيل فلسنا نشك في أن هؤلاء المتجنسين بالجنسية الفرنسية على أبواب الكفر وقد سلكوا أقرب طريق إليه وليس يخفى ضعف النفوس وتأثرها بما تعتاده وتألفه فهي طريق موصلة لغايتها توصيلاً طبيعياً لا محالة وقد رأينا المدنية الأوربية وما فعلت بنا والتقاليد الغربية وما أفسدت من أبنائنا الذين سارت بهم مسيراً تدريجياً في طريق الفساد الذي قضى على الدين والآداب والأخلاق قضاء مبرما، ومما لاشك فيه أن أبناء أولئك المتجنسين لابد أن يكونوا خلواً من الإسلام براء من ذويه لا يعرفون غير الكفر ومحبذيه ولا شك أن الرضا بالكفر كفر، والوسيلة تعطي حكم المقصد وما لا يتم الكفر إلا به فهو كفر ومن عزم على الكفر بعد خمسين عاماً فهو كافر من الآن ولا يمكننا أن نفهم إلا أن هذا استحلال لما حرم الله ورد لما أوجبه - سبحانه وتعالى- [2]. وبعد فإن كان هؤلاء يعتبرون أنفسهم مؤمنين فليعلموا أن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان والحب في الشيطان والبغض في الشيطان من الكفر، وليس هناك ميزان صحيح لوزن الإيمان الصحيح غير الحب في الله والبغض في الله وقد ورد في الصحيح أن المرء مع من أحب فإنه لا يحبه إلا إذا كان بينه وبينه تشاكل في النفوس وتوافق في النزعات وتقارب في الاستعداد وإلا وقع التباين فكانت البغضاء والمقاطعة وقد قال صلى الله عليه وسلم : "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضا: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به". ويقول الله - عز وجل -: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)) [النساء/ 65]، ويقول: ((قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم(4/192)
الفاسقين)) [التوبة/ 24]، ويقول: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم)) [المائدة/ 51]، ويقول عز من قائل: ((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)) [المجادلة/ 22]، والآية على ظاهرها متى كانت المودة قلبية بالغة ذلك الحد الذي ينم عن ما امتلأت به النفس فإن ذلك منبئ عن فساد الإيمان ولابد، وأي حد أبعد من أن يحارب المسلمين ولا يكون في صفوفهم ولا يحرم المحارم ولا يعتبر طلاقاً شرعياً ولا زواجاً شرعياً ولا ميراثاً شرعياً. وعلى الجملة فهو رجل اختار غيرنا فلا نقول إنه منا وكيف نجعله منا وهو ينادي بأنه ليس منا، بل نقول: إنه فتح بفعله هذا باب الكفر ومهد السبيل لأمة بأسرها لخطر الخروج عن حظيرة الإسلام إن عاجلاً وإن آجلاً لا قدر الله. وإنا نرى شبهاً كبيراً بين من يختار أن يسير على شريعة الفرنسيين دون شريعة المسلمين وبين جبلة بن الأيهم الغساني حين لطم الفزاري فأراد عمر رضي الله عنه أن يقتص منه، فلم يرض بحكم الدين، وفر إلى الشام مستبدلاً الإسلام بالمسيحية ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)) [آل عمران/ 85]، وأما تلفظه بالشهادتين فلا يفيده مطلقاً، وقد قلنا إن شأنهم مخادعة المسلمين والهزء بهم إذا خلوا إلى شياطينهم، وأنت تعلم أن هناك مكفرات كثيرة ذكرها العلماء في باب الردة وليس كل من ينطق بالشهادتين يعتبر مسلماً كما بينه الفقهاء، وقد أكثروا من موجبات الردة خصوصاً الحنفية. أو نقول إن هذه الأفعال تكذبه في دعواه الإسلام وتنطق بأن شهادته هذه ليست من قلب ولا عن عقيدة وإلا لم يأت بما يناقضها ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)) [المنافقون/ 1]، ومع ذلك كله فإننا نقبله ونرحب به متى جاءنا رافضاً ما التزمه من العمل بشريعتهم راجعاً إلى حظيرة الإسلام تائباً نادماً على ما كان منه، والتوبة تجب ما قبلها وقد قال - تعالى -: ((... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير)) [الأنفال/38-40].
فيا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ولا تغتروا بأساليب الاستعمار وحيل المستعمرين بعدما اتضح أمرهم وافتضح سرهم ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وليعلم المسلمون أن الروح التبشيرية والنزعة الصليبية لا تفارقهم على الرغم من تلك الدعاوى الكاذبة فهم مبشرون متعصبون في بلادنا ولو كانوا لا دينيين في بلادهم [3]، ولو فرضنا أنهم قهروكم على ذلك وجبت عليكم الهجرة وجوباً لا هوادة فيه وإلا كنتم ممن يقال لهم: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، والأمر أوضح من أن نطيل فيه أو أن نستدل عليه وهو على ما يقول الله - تعالى -: ((قد بينا الآيات لقوم يوقنون))، ((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)) [البقرة/ 120]، هذا وإذا بحثت عن نكبات المسلمين في جميع عصورهم وأدوار تاريخهم وجدتها من علماء السوء وأمراء الهوى. أسأل الله أن يرشد المسلمين إلى صلاح أمرهم واتفاق كلمتهم وأن يقيهم شر زلل العلماء وجهل الأمراء بمنه وكرمه...
يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف.
----------------------------------------
[1] - يشير - رحمه الله - إلى ما كان يكتبه طه حسين وأمثاله في الثلاثينيات من هذا القرن، وقد أصبحت معظم الصحف المصرية مرتعاً لأقلام الملاحدة والمرتدين.
[2] - عدد من القواعد الشرعية لخصها الشيخ في كلمات قليلة، ومنها أن الرضا بالكفر كفر، وهذا ما يجادل به اليوم بعض المنسوبين إلى العلم، نسأل الله لهم الهداية.
[3] - يظهر للقارئ إطلاع الشيخ الجيد على واقع عصره من خلال مقدمة الفتوى والخاتمة.
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
=============(4/193)
(4/194)
مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية ( 5 )
فتوى علماء الهداية الإسلامية:
وضعت دولة فرنسا في تونس قانوناً فتحت به للوطنيين باب التجنس بالجنسية الفرنسية، ومعنى التجنس بهذه الجنسية أن ينسلخ المسلم عن أحكام الشريعة الإسلامية ويلتزم أن تجري عليه قوانين فرنسا حتى في الأحوال الشخصية - كالنكاح والطلاق والمواريث - وأن يقف في صفوفها عند محاربتها ولو لأمة إسلامية، وأن يكون أولاده ومن يتناسل منهم فرنسيين كذلك.
وقد ألفت جمعية الهداية الإسلامية لجنة من أفاضل علمائها تحت رياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ علي محفوظ وكيل الجمعية والمدرس بكلية أصول الدين، وبحثت اللجنة مسألة التجنس، فرأت أن الأدلة القائمة على ردّة المتجنس قاطعة، فكتبت فتوى بذلك وقدمتها إلى مجلس إدارة الجمعية فقرر نشرها بالصحف تحذيراً للمسلمين من الوقوع في هاوية الارتداد عن الدين. وقد جاءت هذه الفتوى موافقة لما أفتى به جماعة من جلّة العلماء أمثال حضرات أصحاب الفضيلة الأستاذ الشيخ الدجوي، والشيخ محمد شاكر، من هيئة كبار العلماء بمصر، والشيخ إدريس الشريف محفوظ مفتي بنزرت، وغيرهم.
ولم تكتف فرنسا بوضع هذا القانون الذي تفسد به على المسلمين أمر دينهم، بل استعملت القوة في دفن هؤلاء المرتدين في مقابر المسلمين.
فجمعية الهداية الإسلامية تنكر على الدولة الفرنسية استعمال القوة في دفن هؤلاء المرتدين في مقابر المسلمين، وترى أن في هذا العمل إهانة للمسلمين واستخفافاً بشعورهم واعتداء عليهم من ناحية من نواحي دينهم، وتنتظر من الدولة الفرنسية أن تدرك قبح هذا الاعتداء وتعرف ما ينتج عنه من سوء العاقبة وتعدل عن اضطهاد المسلمين في تونس وإكراههم على أن يعدّوا المتجنسين مسلمين، ويقبلوا دفن جثثهم وهم مرتدون عن الدين في مقابر معدة لدفن أموات المسلمين.
وهذا نص الاستفتاء والفتوى:
ما قول ساداتنا العلماء - أمتع الله بهم الأمة - في رجل مسلم تجنس بجنسية أمة غير مسلمة اختياراً منه، والتزم أن تجري عليه أحكام قوانينها بدل أحكام الشريعة الغراء حتى في الأحوال الشخصية كالنكاح والطلاق والمواريث، ويدخل في هذا الالتزام أن يقف في صفوفها عند محاربتها ولو لأمة إسلامية، كما هو الشأن في التجنس بالجنسية الفرنسية الآن في تونس.
فهل يكون نبذه لأحكام الشريعة الإسلامية، والتزامه لقوانين أمة غير مسلمة طوعاً منه ارتداداً عن الدين، وتجري عليه أحكام المرتدين، فلا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، أو كيف الحال؟ وإذا كان خلع أحكام الشريعة من عنقه، والتزامه لقوانين أمة غير مسلمة ردة، فهل ينفعه أن يقول بعد هذا الالتزام إني مسلم أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ أفتونا، أعلى الله بكم كلمة الدين، وجعلكم من العلماء الراشدين المرشدين.
أحد التونسيين النازلين بمصر
الفتوى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. أما بعد، فإن التجنس بجنسية أمة غير مسلمة على نحو ما في السؤال هو تعاقد على نبذ أحكام الإسلام عن رضا واختيار، واستحلال لبعض ما حرم الله، وتحريم لبعض ما أحل الله، والتزام لقوانين أخرى يقول الإسلام ببطلانها، وينادي بفسادها.
ولا شك أن شيئاً واحداً من ذلك لا يمكن تفسيره إلا بردة ولا ينطبق عليه حكم إلا حكم الردة، فما بالك بهذه الأربعة مجتمعة في ذلك التجنس الممقوت؟
1 - إن الله - تعالى - يقول في نبذ أي حكم من أحكام الشريعة: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما)).
2 - ويقول جل شأنه في النسيء، وهو من جملة استحلال الحرام وتحريم الحلال: ((إنما النسيء زيادة في الكفر [1] يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، زين لهم سوء أعمالهم، والله لا يهدي القوم الكافرين)).
3 - ويقول - تعالى - فيمن التزم شريعة أخرى غير الإسلام: ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين))، أضف إلى ما سبق أن التجنس المذكور فيه موالاة للكفار، ونصرة لهم على المسلمين، وفيه تعاقد على أن هذا المتجنس يقف في صف الأمة غير المسلمة إذا نفر النفير ولو ضد أمة إسلامية.(4/195)
ومثل هذه الموالاة ينعي الله على أصحابها، ويعتبرهم من جملة من والوهم، ويسمهم بالظلم، ويتوعدهم بأنه لا يهديهم، ويصفهم بمرض القلوب وبالجبن والخوف، ويفند مزاعمهم في احتجاجاتهم الباطلة، وينادي على لسان المؤمنين بحبوط أعمالهم وبخسرانهم، ثم يحكم أخيراً - سبحانه - بردتهم، وينذرهم بالفناء والزوال وأن يستبدل بهم قوماً خيراً منهم. قال جل ذكره في بيان ذلك كله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين، ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين. يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)).
ثم إن مثل التجنس الفرنسي المذكور فيه فوق ما ذكر مودة لدولة تحادّ الله ورسوله، وتشاقّ المسلمين، وتستعمر ديارهم قوة واقتداراَ، وتذيقهم كأس الظلم والإرهاق ألواناً، وتعمل على تنصيرهم بكل الوسائل والحيل، والله جلت قدرته يقول: ((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)).
النطق بالشهادتين:
أما النطق بالشهادتين مع التردي في هذه البؤر الخبيثة الموجبة للردة، ومع عدم الإقلاع عنها والتبرؤ منها والندم عليها؛ هذه الشهادة على تلك الحال لا تنفع صاحبها شيئاً وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، لأن الشهادتين إنما كانتا دليلاً على الإسلام باعتبار أنهما عقد بين العبد وربه على احترام أحكام دينه، والرضا عنه وعن تشريعه، وعدم تخطيه إلى شريعة أخرى. فإذا قامت قرينة ظاهرة تدل على عدم الإذعان لمقتضى هاتين الشهادتين لم يقبل إسلام من نطق بهما، كمن يقول كلمة التوحيد وهو يسجد لصنم، وكمن يقول أنا أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو يهين كتاب الله. فما بالك بالتجنس الآنف وهو جريمة متألفة - كما علمت - من أربع جرائم كل منها يكفي قرينة ظاهرة تدل على عدم الإذعان لكلمة الإسلام، وعلى ترك القيام بحقها.
وما مثل هؤلاء إلا كمثل من قال الله فيهم: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً)).
إن الله - تعالى - سمى أمثال هؤلاء منافقين، واعتبرهم أشد من الكفار الظاهرين، وقال فيهم: ((إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً))، وفضحهم أشنع الفضيحة في سورة التوبة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على أحد منهم مات أبداً أو يقوم على قبره، مع أنهم كانوا يصلون بصلاة رسول الله، وكانوا يقفون في صف الجهاد معه، وكانوا يظهرون خضوعهم لأحكام الله، فكيف أنت بهؤلاء المتجنسين الذين رضوا بالوقوف في صف الجهاد مع فرنسا ولو ضد الإسلام، وأظهروا التبرؤ والانسلاخ من أحكام الله، وانضووا علانية تحت قانون ضد دين الله؟
إن أمثال هؤلاء زنادقة لم يكفهم أن يخرجوا من الإسلام ومن زمرة المسلمين، بل زادوا على ذلك بأن استخفوا بالإسلام وبالمسلمين، فهم أشد ممن قال الله فيهم: ((وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)). نعم زنادقة اليوم أشد من منافقي الأمس، لأن أولئك كانوا يتسترون في انضمامهم إلى العدو، وكانوا يستحيون أن يقولون لشياطينهم إنا معكم إلا حين يخلون إليهم، أما مرتدو اليوم فقد انسلخوا عن الإسلام في جرأة، وناصروا العدو في عقد مكتوب محكم لا يسمح لهم ولا يسمحون هم لأنفسهم أن يرجعوا عنه يوماً، أو يتهاونوا في احترام نصوصه أبداً. وإن الله - تعالى - يقول: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. اتخذوا أيمانهم جُنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون)). وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به". رواه البخاري. [2]
هل لهؤلاء من عذر؟:(4/196)
ولا عذر لهؤلاء المتجنسين لأنهم ليسوا بمكرهين حتى نقول ما قال الله: ((من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان))، بل هم مختارون راضون كما يقول السؤال، وليس ما ينتظرونه وراء التجنس من حطام الدنيا وحظوظ العاجلة بمسوّغ لهذا التجنس، بل يجب أن يفر المرء بدينه متى استطاع، وإن ذهبت دنياه، اقرأ إن شئت قوله - تعالى -: ((قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)).
إن الشارع أوجب الهجرة من دار الكفر إن خاف المسلم على نفسه الفتنة، وتوعد الله - سبحانه - أولئك الذين يبقون في أوطانهم بين الفينة وهم قادرون على الهجرة فقال جلّ من قائل: ((إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا)).
هل لهؤلاء من توبة؟:
بقي الكلام على التوبة، هل تقبل من هؤلاء توبة؟ والجواب أنها تقبل، ولكن على معنى أن التوبة إصلاح للماضي بالندم على ما فرط فيه، وإصلاح للحال بالإقلاع من الذنب فوراً، وإصلاح للمستقبل بالعزم على عدم العودة إلى ذلك الإثم أبداً.
أما التائب الذي لم يقلع عن ذنبه فهو كالمستهزئ بربه وما يأتيه ليس بتوبة، إنما هي حوبة جديدة وأكذوبة سخيفة إذ يقول (تبت) وما تاب، و (رجعت) وما يرجع، مع أن ربه عليم بذات نفسه، لا تخفى عليه خافية.
فهؤلاء المتجنسون إن نبذوا عقد التجنس، وخرجوا عن مقتضياته، وندموا على ما فرط منهم، ورجعوا إلى أحكام الله واحترامها، وصمموا ألا يعودوا إلى ذلك التجنس أبداً؛ إنهم إن فعلوا ذلك فقد تابوا حقاً "والتائب من الذنب كمن لا ذنب له". أما إن بقوا على احترامهم لعقد التجنس، ونبذهم لعقد الله فأولئك لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً، ولو ملأوا الأرض من كلمة التوحيد، ومن ألفاظ التوبة والاستغفار، ومن مظاهر الصلاة والصوم والصدقة. قال - تعالى -: ((والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب)).
نصيحتنا:
وإننا ننصح لإخواننا المسلمين أن يتيقظوا لما يراد بهم في هذا الزمان من أعداء الإسلام وأعوانهم ممن يزعمون الإسلام؛ فإننا أصبحنا في فتن كقطع الليل المظلم، فيها يصبح الرجل مسلماً ويمسي كافراً ويمسي مسلماً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ويكفي ما نحن فيه؛ فقد طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى واتسع الخرق على الراقع. نسأل الله السلامة، وإنا لله وإنا إليه راجعون...
التوقيعات
رئيس اللجنة أمين اللجنة
علي محفوظ محمد عبد العظيم الزرقاني
المدرس بكلية أصول الدين بالأزهر من علماء الأزهر
----------------------------------------
[1] - النسيئ في الآية الكريمة معناه تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر وكان العرب إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر، فانزل الله هذه الآية نهيا لهم عن هذا النسيئ وبين لهم أنه زيادة في الكفر لأنه تحليل ما حرمه الله وتحريم ما أحله. بهو كفر مضموم إلى كفرهم.
[2] - لعل المقصود البخاري في قرة العينين والحديث رواه ابن أبي عاصم في السنة 1/12 وضعفه.
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
=============(4/197)
(4/198)
مسألة تجنيس المسلم بالجنسية الفرنسية ( 6 )
فتوى الشيخ محمد رشيد رضا:
ومن أدلة ذلك في القرآن قوله - تعالى - (4: 59 - 60): {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا}.
الطاغوت مصدر الطغيان ومثاره، ويدخل فيه كل ما خالف ما أنزله الله وما حكم به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه جعل مقابلاً له هنا وفي آيات أخرى. ومنه بعض أحكام القانون الفرنسي كإباحة الزنا والربا، دع مايستلزمه اتباع أي جنسية سياسية غير إسلامية من قتال المسلمين وسلب بلادهم منهم. ومما ورد في تفسير الآية بالمأثور أن سبب نزولها تحاكم بعض المنافقين إلى بعض كهان الجاهلية، وقد سمى - سبحانه - ادعاء هؤلاء المنافقين للإيمان زعماً، والزعم مطية الكذب. وقد بينا في تفسيرنا للأولى منهما اقتضاء الإيمان الصحيح للعمل، وأن الاستفهام فيها للتعجيب من أمر هؤلاء الذين يزعمون الإيمان ويعملون ما ينافيه، وإن الأستاذ الإمام سئل في أثناء تفسيرها في الجامع الأزهر عن القوانين والمحاكم الأهلية [1]، فقال: تلك عقوبة عوقب بها المسلمون أن خرجوا عن هداية قوله - تعالى -: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسولل} فإذا كنا تركنا هذه الهداية للقيل والقال وآراء الرجال من قبل أن نبتلى بهذه القوانين ومنفذيها فأي فرق [2] بين آراء فلان وآراء فلان، وكلها آراء منها الموافق لنصوص الكتاب والسنة، ومنها المخالف له؟ ونحن الآن مكرهون على التحاكم إلى هذه القوانين فما كان منها يخالف حكم الله - تعالى - يقال فيه - أي في أهله - {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} وانظر فيما هو موكول إلينا إلى الآن كالأحكام الشخصية والعادات والمعاملات بين الوالدين والأولاد والأزواج والزوجات، فهل ترجع في شيء من ذلك إلى الله ورسوله؟... الخ ما قاله. وقد وضحت المراد منه فيراجع في الجزء الخامس من التفسير.
وأقول: إن إكراه المصريين على ما يخالف الكتاب والسنة من القوانين قد زال الآن[3] بالاستقلال. فإثم ما يبقى منه بعد انعقاد البرلمان المصري في أعناق أعضائه وأعناق الأمة في جملتها، إذ هي قادرة على إلزامهم إلغاء إباحة الزنا والخمر وغير ذلك من المحرمات بالإجماع، هذا وإن المحاكم الأهلية وقوانينها خاصة بالأحكام المدنية والعقوبات التي تقل فيها النصوص القطعية المعلومة من الدين بالضرورة ومن حكم له فيها بربا محرم فليس ملزماً أخذه، ومن حكم عليه به وأكره على أدائه فهو معذور، ولا يمس عقيدته ولا عرضه منه شيء، والحدود الشرعية في العقوبات خاصة بالإمام الحق، والتعزيرات مبنية على اجتهاد الحاكم - فاين حكم المحاكم الأهلية بالقوانين من قبول جنسية تهدم مافي ا لقرآن من أحكام النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك، وهي اختيارية لا اضطرارية، ومن اختارها فقد فضلها على أحكام الله - تعالى - في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ وفضل أهلها الكافرين على المؤمنين بالفعل.
(ومنها): قوله - تعالى - (4: 64): {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}، قال أبو بكر الجصاص[4] من أئمة الحنفية في تفسيرها من كتابه (أحكام القرآن) ما نصه: (وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله - تعالى - أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ماذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم، لأن الله - تعالى - حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان) اهـ.
وقد بينا في تفسيرنا لهذه الآية ما ملخصه أن الإيمان الحقيقي وهو إيمان الإذعان النفسي المقابل لما يدعيه المنافقون لا يتحقق إلا بثلاث:
1 - تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر أي اختلط فيه الأمر مما يتخاصم فيه الناس.
2 - الرضاء بحكمه وانشراح الصدر له بحيث لا يكون في القلب أدنى حرج أي ضيق وانكماش مما قضى به.
3 - التسليم والانقياد بالفعل.
ولا خلاف بين المسلمين في اشتراط هذه الثلاث في كل ما ثبت مجيئه به صلى الله عليه وسلم من أمر الدين، إذ لا يعقل اجتماع الإيمان الصحيح برسالته مع إيثار حكم غيره على الحكم الذي جاء به عن الله - تعالى -، ولا مع كراهة حكمه والامتعاض منه، ولا مع رده وعدم التسليم له بالفعل.(4/199)
وجملة القول أن المسلم الذي يقبل الانتظام في سلك جنسية يتبدل أحكامها بأحكام القرآن، فهو ممن يتبدل الكفر بالإيمان فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا وقع من أهل بلد أو قبيلة وجب قتالهم عليه حتى يرجعوا. والمعقول أن هذا لا يقع من مسلم صحيح الإيمان بل لا يجوز عقلاً أن يصدر عنه، ذلك بأن الإيمان القطعي بأن أحكام النكاح والطلاق والإرث وتحريم الربا والزنا المنصوصة في القرآن من عند الله العليم الحكيم يقتضي تفضيلها على كل ما خالفها والعلم بأن التزامها من أسباب رضوان الله وثوابه، وترك شيء منها من أسباب عذابه وسخطه، يقتضي الحرص على الاستمساك بها فعلاً لما أوجب - سبحانه - وتركاً لما حرم، ودليله أن العلم بالمضار والمنافع يقتضي فعل النافع وترك الضار بسائق الفطرة، ويعرف ذلك كل إنسان من نفسه بالوجدان الطبيعي، ومن سائر الناس بالتجربة المطردة في جملة المنافع والمضار. وما يشذ من الجزئيات فله أسباب لا تنقض القاعدة التي بيناها مراراً. ويلتبس الأمر على كثير من الباحثين في بعض هذه الجزئيات فيحسبها ناقضة لقاعدة اقتضاء العلم القطعي أو الراجح للعمل، وجل هذا اللبس يرجع إلى خفاء وجوه الترجيح الطبيعي فيما يتعارض فيه العلم القطعي والظن والوجدان والفكر، مثال ذلك: ترك المريض للدواء النافع، وفعله لضده كتناول الغذاء الضار من أمور الدنيا، وتركه لبعض الواجبات أو اجتراحه لبعض السيئات من أمور الدين، ومن محص المسألة يظهر له أن تارك الدواء لاستبشاع طعمه قاطع بضرره المتعلق بالذوق، وهو من الحسيات اليقينية، وغير قاطع بنفعه، بل هو إما ظان وإما شاك فيه، وكذلك مرتكب المعصية وإن كان تحريمها قطعي كالزنا فإن الشك يعرض له في الوعيد عليه من باب الرجاء في العفو والمغفرة بفضل الله - تعالى - أو بالتكفير عنه بالأعمال الصالحة، ولكن لذة الشهوة التي تعرض له لاشك فيها، فيرجح العلم القطعي بالمنفعة وهي اللذة على الظن أو الشك في العقاب، وإنما يقع هذا الترجيح في الكبائر لمن كان ضعيف الإيمان، وهو ما كان عقيدة لم ترتق بها التربية العملية إلى الوجدان، وإنما الإيمان الكامل المقتضي للعمل في أفراد الجزئيات ما كان فيه الاعتقاد الصحيح مصاحباً للشعور الوجداني بالخوف والرجاء في كل منها، وقد يتخلف في بعض دون بعض، فإن من يعيش بين قوم يجاهرون بمعصية لا ينفر وجدانه منها كمن يعيش بين قوم لا يفعلونها إلا ما قد يقع من بعضهم وراء الأستار.
فهذا ملخص ما يحتج به على استلزام الإيمان الصحيح للعمل بجملة ما ثبت عند المؤمن أنه من الشرع، والأدلة الشرعية عليه كثيرة، وبها جعل جمهور السلف العمل ركناً من أركان الإيمان - وقد اختلف العلماء في معنى الحديث المتفق عليه (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... الخ)، بناء على اختلافهم في تعريف الإيمان، فذهب بعضهم إلى أن المنفي هو الإيمان الكامل وهو الوجداني الذي يقتضي العمل فعلاً وتركاً - وقيل إن الإيمان يفارق الزاني حين الزنا، بحيث لو مات في أثنائه مات كافراً، وحقق الغزالي أنه لا يكون عند تلبسه بالزنا مؤمناً لأنه يستلزم سخط الله وعذابه، وهو يصدق بنسيان الوعيد عند ذلك لغلبة الشهوة التي يغيب صاحبها عن إدراك الحسيات أحياناً كما قال الشاعر:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها غطى هواك وما ألقى على بصري
ويصدق بالشك في وقوع الوعيد بما بيناه آنفاً من رجاء المغفرة أو التكفير. ومثل هذا الشك والتأول لا يمكن أن يجري في جملة المأمور به والمنهي عنه ولا في ترك الأحكام الكثيرة التي لا يغلب صاحبها عليها ثورة شهوة، ولا سورة غضب كأحكام الإرث والنكاح والطلاق وثبوت النسب ونفيه - بل هي مما يتفق الدليل العقلي والطبعي مع الدليل الشرعي على أن من رغب عنها إلى غيرها من أحكام البشر لا يمكن أن يكون مؤمناً، وعندي أن تركها بمثل اختيار الجنسية المسؤول عنها ليس إنشاء للكفر وابتداء للردة بل هو أثر له ناشيء عنه.
وإنما أطلت في هذه المسألة التي سبق لي توضيحها مراراً لما بلغني من توقف بعض علماء تونس في الافتاء بكون التجنس بالجنسية الفرنسية ردة.
جنسية الإسلام وإصلاحه للبشر:
ويحسن ختم هذه الفتوى بالتذكير بما كنا نوهنا به مراراً من الركن الأعظم لإصلاح الإسلام لشؤون البشر وتمهيد طريق السعادة لهم.
وبيان ذلك بالإيجاز أن مثارات شقاء البشر محصورة في اختلافهم في مقومات الاجتماع ومشخصاته من العقائد واللغات والأوطان والأحكام والحكومات والأنساب (أي العناصر والأجناس كما يقول أهل هذا العصر، أو الأصناف كما يعبر علماء المنطق) والطبقات والتقاليد والعادات وحسبك من هذا الأخير أن المختلفين في الأزياء من أبناء الوطن الواحد المتفقين فيما عداه من روابط الاجتماع يتفاضلون فيه حتى يحتقر بعضهم بعضاً...(4/200)
جاء دين التوحيد والسلام (الإسلام) يرشد الناس كافة إلى المخرج من كل نوع من أنواع هذا الاختلاف المثيرة لشقائهم بالتعادي والتباغض بجمعهم على دين واحد موافق للفطرة البشرية مرق لها بالجمع بين مصالح الروح والجسد (وهو الجنسية الدينية) ولغة واحدة يتخاطبون بها ويتلقون معارفهم وآدابهم بها (وهي الجنسية الاجتماعية الأدبية) وحكم واحد يساوي بينهم على اختلاف مللهم ونحلهم (وهو الجنسية السياسية) فهو يزيل من بينهم التفاضل والتعالي بالأنساب والامتياز بالطبقات، والتعادي باختلاف الأوطان والعادات، وأودع في تعاليمه وأحكامه جواذب تجذبهم إلى ذلك باختيارهم بالتدريج الذي هو سنة الله في كل تغيير يعرض لجماعات البشر {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وحسبنا هنا من الحجة على ذلك ماهو معلوم بالتواتر من أثره في نشأته الأولى في خير القرون إذ انتشر مع لغته وآدابه وسياسته وأحكامه في العالم القديم من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وطالما شرحنا أسباب ذلك من آيات الكتاب والسنة وعمل الخلفاء وعلوم الأئمة.
وقد قلدته أمم الحضارة الكبرى في هذا العصر، فكل منها تبذل القناطر المقنطرة من الذهب لنشر دينها ولغتها وتشريعها وآدابها وأحكامها في جميع أقطار الأرض مؤيدة ذلك بآلات القهر والتدمير البرية والبحرية والجوية، ولم يبلغ تأثيرها في عدة قرون مع سهولة المواصلات وتقارب الأقطار ودقة النظام ما بلغه تأثير الإسلام في أقل من قرن واحد مع فقد هذه الوسائل كلها - ولو وضع نظام للإمامة الكبرى (الخلافة) يكفل أصولها وأحكامها الشرعية لعم الإسلام ولغته العالم كله، ولتحققت به أمنية الحكماء فيما ينشدونه من المدينة الفاضلة قديماً وحديثاً.
أهمل المسلمون هذه الفريضة الكافلة لجميع الفرائض والفضائل، فما زالوا يرجعون القهقرى، حتى بلغ بهم الخزي ما نسمع وما نرى، وصار مستعبدوهم ومستذلوهم يطمعون في تركهم لما بقي من شريعتهم اختياراً، في الوقت الذي آن لهم فيه أن يعرفوا أنفسهم، ويعرفوا قيمة دينهم وشرعهم، وينهضوا به لإصلاح أنفسهم وتلافي سقوط حضارة العصر بإباداة بعض أهلها لبعض، {فاعتبروا يا أولي الأبصار}.
----------------------------------------
[1] - أنشئت المحاكم الأهلية سنة 1883 هـ، ووضعت لها ستة تقنينات أخذت عن التقنينات الفرنسية، وهي: التقنين المدني، وتقنين المرافعات، والتقنين التجاري، والتقنين البحري، وتقنين العقوبات، وتقنين تحقيق الجنايات، وقد قام قضاة أجانب بوضع هذه القوانين التي ليس لها من اسمها نصيب إذ أنها ليست أهلية وليست وطنية، وقد اختاروا لها هذا الاسم المزور لتمييزها عن المحاكم الأجنبية [مع أنها بقيت أجنبية في قوانينها وفي كثير من قضاتها] والمحاكم الشرعية التي ألغاها نظام جمال عبد الناصر.
[2] - كلام الشيخ محمد عبده لا يدعو إلى الاطمئنان، فلا مجال للمقارنة بين المحاكم التي تطبق شرع الله مهما قيل عن التعصب المذهبي، وبين شريعة فرنسا التي التزمتها المحاكم الأهلية الوطنية.
[3] - غريب هذا القول من رجل مثل رشيد رضا، وهو لا يختلف عن أقوال أصحابنا اليوم الذين يعلّقون أوسع الآمال وأعرضها على البرلمانات، فالمستعمر لا يترك بلداً من البلاد إلا بعد أن يطمئن لمن سيخلفه، ولعل عذر رشيد رضا أن تجربة البرلمانات كانت في بدايتها.
[4] - الجصاص: أحمد بن علي، أبو بكر الرازي، إمام الحنفية في عصره، كان مشهوراً بالزهد، وطلب منه أن يلي القضاء فامتنع، وأعيد عليه الخطاب فلم يفعل.توفي سنة 370 هـ.
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
===============(4/201)
(4/202)
الإسلام الديمقراطي المدني
كريم كامل
الشركاء والمصادر والاستراتيجيات:
منذ الحادي عشر من سبتمبر قام العديد من الكتاب والعلماء وصناع القرار والباحثين بتأمل دور الإسلام في المجتمعات المسلمة؛ في الوقت الذي يتم فيه إعادة رسم الحدود الجيواستراتيجية والثقافية والاجتماعية في كل من واشنطن ولندن، وهي استراتيجية يحاول الغرب من خلالها أن يسيطر على «الأصولية الإسلامية» بمساعدة المسلمين (المعتدلين)، لقد ورد ذلك في تقرير تم تمويله بواسطة أحد المراكز الفكرية الأمريكية المحافظة. إن هذا التقرير وهو بعنوان: الإسلام الديمقراطي المدني: الشركاء والمصادر والاستراتيجيات، قد تم إعداده بواسطة «مؤسسة راند»، ومقرها في الولايات المتحدة، وبتمويل من مؤسسة (سميث ريتشاردسون) المحافظة، وهي مؤسسة تمويلية تقدم ما يزيد على مائة مليون دولار للمنظمات البحثية والجامعات(1).
ويعد هذا التقرير الأحدث في سلسلة من الأوراق السياسية المتخصصة التي تهدف إلى تشديد الهجمة العسكرية والاقتصادية والثقافية الغربية على العالم الإسلامي. وفي جلسة الإيجاز التي عقدت في صيف العام 2002م، لمجلس كبار المستشارين في البنتاجون، وصف (لورينت موراويس) المحلل السابق في «مؤسسة راند»، المملكة العربية السعودية بأنها «نواة للشر، والمحرك الرئيس، وأشد الخصوم خطورة» على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقال: إن على الولايات المتحدة أن تطلب من المملكة العربية السعودية أن تتوقف عن دعم الإرهاب، أو أن تواجه بمصادرة حقولها النفطية وأرصدتها المالية في الولايات المتحدة. كما طالب (موراويس) بشن حملة إمبريالية من عدة مراحل على الشرق الأوسط، ابتداءً بالعراق (المحور التكتيكي) ومروراً بالمملكة العربية السعودية (المحور الاستراتيجي) وأخيراً مصر (الجائزة)(2).
إن تقرير الإسلام الديمقراطي المدني قد كتبته (شاريل بينا رد) وهي عالمة اجتماع قد نشرت روايات تتضمن موضوعات تطالب بمساواة المرأة بالرجل منها: «مقاومة المغول وشجاعة المحجبة» وتسخر فيها من المظاهر الدينية وتصور المرأة المسلمة بأنها مضطهدة وتعيش تحت وطأة حكم شيوخ مستبدين ومصابين بجنون العظمة.
وبالرغم من اعتراض الملايين من المسلمات على حظر الفرنسيين المثير للجدل للحجاب، في المدارس الحكومية الفرنسية، فقد ركزت (بينارد) في تعليق لها مؤخراً في صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) على أن القانون الجديد يعتبر دفعة إيجابية لحقوق المرأة: حيث إن الحجاب في العالم الإسلامي هو شيء ترتديه المرأة أو البنت؛ لأنها مجبرة على ذلك ـ وهو رمز للتقييد والإكراه بالتهديد.
وبالرغم من أن عالمة الاجتماع (بيرنارد) تعتبر نفسها مرجعاً في القوانين الإسلامية، فهي تذكر من بين أشياء أخرى ادعاء صادراً من أحد الكتاب المصريين المغمورين الذي يقول إن الحجاب ليس إجبارياً في الإسلام، بل إن ذلك ناتج عن قراءة خاطئة للقرآن(1).
ومن الطريف أن «شاريل بينارد» متزوجة من «زلماي خليل زاده»، الذي يشغل الآن منصب المساعد الخاص للرئيس بوش، وكبير مستشاري الأمن القومي المسئول عن الخليج العربي وجنوب شرق آسيا. ويعتبر خليل زاده ـ الأمريكي من أصل أفغاني ـ الوحيد الذي ينتمي إلى المحافظين الجدد ويعرف بآرائه المتطرفة(2)، وقد تمكن خلال الثمانينيات من أن يؤمن لنفسه منصباً دائماً في مجلس تخطيط السياسة بوزارة الخارجية، وقد عمل في هذا المنصب تحت إدارة «بول وولفويتز» العقل الموجه لفكر المحافظين الجدد. ثم عمل مساعداً بوزارة الدفاع في إدارة بوش الأولى إبان حربها على العراق عام 1991م. وبعد الانتخابات الرئاسية عام 2000م اختاره (ديك شيني) نائب الرئيس ليرأس اللجنة الانتقالية لشؤون الدفاع.
ويعرف خليل زاده بكونه جزءاً من جهود الولايات المتحدة منذ مدة طويلة للحصول على مدخل إلى احتياطيات النفط والغاز في آسيا الوسطى؛ حيث كان يعمل مستشاراً للطاقة لدى شركة شيفرون، كما عمل مشرفاً لدى شركة النفط الأمريكية العملاقة (ينوكول) والتي كانت ترغب في بناء أنبوب للغاز يربط بين تركمانستان وباكستان عبر أفغانستان. كما أن خليل زاده يعرف عنه تودده للمجموعات المناوئة لصدام وحركة طالبان قبل الغزو الأمريكي وبعده لكلا البلدين.
لقد عبرت (شاريل بينارد) عن نواياها في تقرير الإسلام المدني الديمقراطي؛ حيث إن الهدف هو بناء نموذج جديد من الخطاب الإسلامي غير الفعّال يكون مصَمّماً ليتماشى مع الأجندة الغربية لفترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. وبتركيزها على أكثر المصطلحات وضوحاً لم تدع الكاتبة مجالاً للشك فيما يخص الطموحات العظيمة في مشروعها. وتضيف قائلة: «إن تحويل ديانة عالَم بكامله ليس بالأمر السهل. إذا كانت عملية بناء أمة مهمة خطيرة، فإن بناء الدين مسألة أكثر خطورة وتعقيداً منها» (3).(4/203)
وتوضح (بينارد) بقولها: إن الأزمة الحالية للإسلام تتكون من مكونين رئيسين هما: «عدم قدرته على النمو، وعدم الاتصال مع الاتجاه السائد في العالم». ومن وجهة نظر الكاتبة فإن العالم الإسلامي هو سبب مشكلة الحضارة، «لم يتمكن من مواكبة الثقافة العالمية المعاصرة». حيث إن الكاتبة تستخدم مرة أخرى ما ذكره أحد المستشرقين القدامى عن تصويره للمسلمين بصورة نمطية تقول مرة أخرى «إن المسلمين هم الوجه الآخر للبربريين وأن أسلوب حياتهم يتناقض مع أسلوب الحياة لدى الغرب. فإذا كان الغرب الحديث حركياً، فإن العالم الإسلامي راكد لا يتحرك. وبينما الغرب يحترم حياة الإنسان والحرية، فإن الإسلام مصاب بداء الاستبداديين والإرهابيين و «حرب الأحاديث»(4) التي لا تنتهي، وشباب متعصبين يلبسون المتفجرات ويقدسون الموت ويشجعون المفاهيم التدميرية (النهلستية) مثل الشهادة. ولم تأتِ الكاتبة إلى ذكر الدعم الغربي للأنظمة الاستبدادية العلمانية، ولا إلى برامج إسرائيل التي لا تنتهي ضد الفلسطينيين، ولا إلى التطهير العرقي الذي يمارس ضد المسلمين في أوروبا الشرقية والشيشان، وبالطبع إهمال القصف الأمريكي العنيف لأفغانستان والعراق.
ومن أجل إيجاد صلات وثيقة مع القوى المحبة للغرب، يقترح التقرير تحديد أربعة اتجاهات فكرية في المجتمعات المسلمة للمناقشة في التحكم بقلوب المسلمين وعقولهم، وهي:
1 - المتشددون الذين «يرفضون قيم الديمقراطية والحضارة الغربية المعاصرة».
2 - التقليديون الذين «يشككون في الحداثة والابتكار والتغيير».
3 - الحداثيون الذين «يريدون من العالم الإسلامي أن يكون جزءاً من التقدم الذي يسود العالم».
4 - العلمانيون الذين «يريدون من العالم الإسلامي أن يتقبل فكرة فصل الدين عن الدولة».
ويقول التقرير إن فئتي أنصار الحداثة والعلمانيين هما أقرب هذه الفئات للغرب، ولكنهما بشكل عام في موقف أضعف من المجموعات الأخرى؛ حيث ينقصهم المال والبنى التحتية والبرنامج السياسي. ويقترح التقرير استراتيجية لدعم أنصار الحداثة والعلمانيين؛ وذلك عن طريق طباعة كتاباتهم مقابل تكاليف مدعومة؛ وذلك لتشجيعهم للكتابة لمزيد من القراء وطرح وجهات نظرهم في مناهج المدارس الإسلامية، ومساعدتهم في عالم الإعلام الجديد الذي يهيمن عليه المتشددون والتقليديون.
كما يقترح التقرير أيضاً أن يتم دعم التقليديين ضد المتشددين؛ وذلك من خلال ممارسة الولايات المتحدة سياسة «تشجيع عدم الاتفاق» بين الطرفين. ومن الاستراتيجيات المقترحة أيضاً في هذا التقرير، مواجهة ومعارضة المتشددين من خلال تحدي تفسيرهم للإسلام، ومن خلال فضح ارتباطهم بمجموعات وأنشطة غير قانونية. وذهبت (بينارد) إلى أبعد من ذلك؛ حيث دعت إلى تقوية الصوفية؛ لأنها تمثل تفسيراً أكثر خمولاً واعتدالاً للإسلام.
إن ما يلفت الانتباه في أغلب محتويات التقرير هو عدم التعامل مع المسلمين كأناس عقلاء لهم مخاوفهم المشروعة، بل يتم تقسيمهم إلى مجموعات للتحليل بناءً على انجذابهم نحو القيم والمفاهيم الغربية؛ حيث يتم استخدام هذه المجموعات الفرعية كرهان من أجل تكريس هيمنة الولايات المتحدة وهي سياسة «فرق تسد».
ويتم تصوير المسلمين على أنهم شعوب لا صلة لها بالحقيقة، بل هم يعانون من الجمود الفكري، ومنخرطون باستمرار في جدل روحي عفا عليه الزمن؛ وذلك بدلاً من مواجهة المشاكل المعاصرة من تهميش واضطهاد تفرضه عليهم أنظمة مستبدة مدعومة من الغرب، أو مصممة وفق المتطلبات الإمبريالية في أقاليمهم.
وبناء على اعتقاد الكاتبة، فإن العنف والاحتجاج الإسلامي ليس ردة فعل على عدم العدالة، بل هو تعبير عن حالة الأمية، والغالبية غير المتعلمة التي تقودها فئة منظمة من المتشددين لديها إمكانيات مالية ضخمة؛ حيث قيل لنا إن المتشددين هم الخطر الحقيقي؛ لأنهم يمثلون النسخة العدوانية والتوسعية للإسلام الذي لا يهاب ممارسة العنف، وأن وحدتهم المرجعية هي ليست الدولة أو المجموعة العرقية، بل هو المجتمع المسلم، أي الأمة، وأن تمكُّنهم من السيطرة على عدد معين من الدول الإسلامية سيشكل خطوة في هذا الطريق، ولكنه ليس الهدف الرئيس. ومما يدعو إلى السخرية أن استخدام العنف للحصول على أهداف سياسية ولفرض السيطرة على عدد من الدول الإسلامية، يدل على التشدد؛ إذن فالسياسة الخارجية للولايات المتحدة في العالم الإسلامي هي تطرف جامح بامتياز.
ومن العجيب أن الكاتبة تعترف بأن الكثير من العلمانيين المهمين في العالم الإسلامي لا يحبون أو حتى أنهم يكرهون الولايات المتحدة (الغرب) أشد الكره. ومرة أخرى، فإن السبب وراء هذا العداء ليس هو الوجه القبيح لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل إن الأسباب هي أساليب تفكير ضالة تتجسد في الأفكار اليسارية، والقومية الحاقدة والمعادية لأمريكا.(4/204)
إن تلميحات (بينارد) واضحة: فعندما يكره المسلمون أو يلجؤون إلى العنف؛ فهو لأنهم بطبيعتهم متطرفون أو ضالون، ولكن عندما يأتي الغرب المتحضر والمستنير والكريم، إلى ممارسة نفس الأساليب أو يناصر نفس الأهداف، فإن سلوكه هذا إما أن يتم تجاهله، أو المسارعة إلى تسويغه.
وفي النهاية، فإن أفكار (بينارد) ليست سوى نظرية ميكيافيلية تسعى إلى فرض الهيمنة الغربية والثقافة الإمبيريالية من خلال السياسة القديمة «فرق تسد». إن نموذج الإسلام الذي تناصره (بينارد) هو ذلك النموذج الخامل الضعيف الذي يمكن اختراقه بسهولة ومن ثم تشكيله لكي يتناسب مع أجندة الغرب.
إن النموذج الذي تعوِّل عليه (بينارد) هو تركيا، والتي تعتبرها «واحدة من أنجح الدول الإسلامية» وذلك نسبة لسياستها العلمانية العدائية. لقد تم اختيار حكومتين إسلاميتين عبر الانتخابات في تركيا في السنوات الأخيرة، حيث إن الأخيرة منهما رفضت السماح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها العسكرية قبل الحرب على العراق.
إن الكاتبة لا تحاول فقط تشويه بعض المفاهيم الأساسية في الإسلام مثل الجهاد، والشهادة، والحجاب فحسب، ولكنها تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهي تتساءل عن مدى صحة القرآن نفسه، عندما تقول وبكل وقاحة «بأن اثنين على الأقل من سور الكتاب المقدس للمسلمين مفقودة»(*). إن إطلاق مقولات شنيعة كهذه ضد القرآن دونما استشهاد أو دليل، ليس بالشيء البغيض فحسب، بل هو ممارسة لثقافة بائسة. وأعتقد لو أن عبارات كهذه قيلت في حق اليهود لقاموا بمقاضاتها بتهمة معاداة السامية.
إن مقترحات (بينارد) بالرغم من مسحتها الخبيثة المعادية للإسلام، ومضامينها التي تدعو إلى الفرقة في العالم الإسلامي، إلاّ أنها ليست بالشيء الجديد في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية.
قبل عقدين من الزمان عندما انبعث التشدد الشيعي في إيران، اعتُبر أكبر تهديد للحضارة الغربية، حيث إن المئات من المسلمين السنة التقليديين كان يتم تسليحهم بواسطة الولايات المتحدة ليجاهدوا ضد الاتحاد السوفييتي. فقد كان الافتراض السائد حينها أن الحركة الوهابية من الإسلام السني هي تيار محافظ بالفطرة، ولذلك هو الحليف الطبيعي للولايات المتحدة ضد الشيوعيين والمتشددين الشيعة(1)، أما اليوم، فالصوفية، وأنصار الحداثة، والعلمانيون، وبعض الشيعة، يُنظر إليهم على أنهم القوة الموازنة للمتشددين السنة. وفعلاً نرى أن التاريخ يعيد نفسه بطرق ملتوية.
---------------------------------------
(*) باحث في العلاقات الدولية.
(1) بول رينولد «منع صراع الحضارات» قناة بي بي سي الإخبارية 29 مارس 2004م.
(2) جاك شافير، «مركز القوة الذي هز البنتاجون» سليت MSN 7أغسطس 2002م.
(1) شاريل بينارد، «الحرب الفرنسية على الحجاب الإسلامي، دفعة إيجابية نحو حقوق المرأة» مؤسسة راند، 5 يناير 2004م.
(2) «الخبير في الشؤون الإيرانية خليل زادة يتبنى سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأدنى» خبير إيران، 7 يناير 2002م.
(3) شاريل بينارد، «الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والمصادر والاستراتيجيات» مؤسسة راند.
(4) انظر الملحق: «حروب الحديث» حيث تشير الكاتبة إلى تحريف الحديث النبوي «كوسيلة تكتيكية» من أجل كسب المناظرات ضد المتشددين.
(*) لعلَّ مقالتها هذه مقتبسة من مصادر الشيعة التي تقول بأن هناك سورة اسمها: «سورة الولاية» قد انتزعت من القرآن الكريم، وأن القرآن زيد فيه ونقص منه، انظر: الخطوط العريضة، محب الدين الخطيب، طبعة الدار السلفية، مصر.
(1) توني كارين «الشيعة الذين تعتقد الولايات المتحدة أنها تعرفهم» موقع Time. com 11مارس 2004م.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
=============(4/205)
(4/206)
مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي تحت القصف الأمريكي
كمال حبيب
عرف العالم الإسلامي منذ وجوده الأول المدارس الدينية التي قامت بتفسير القران الكريم والسنة النبوية المطهرة، صحيح أن ذلك بدأ بشكل فردي حيث كان الصحابة يقومون بنقل ما سمعوه عن النبي صلى الله عليه وسلم شفاهة ثم جاء التابعون من بعدهم لنقل ما أثر عن الصحابة ثم تكونت المدارس الفقهية واللغوية والأدبية.وكان كل نشاط العقل المسلم يدور حول الإسلام والقرآن والسنة، وعلماء التفسير والبيان والسنة والجرح والتعديل جميعهم كان نشاطهم العقلي والفكري يستلهم الإسلام ويدور حوله من أجل بيانه وشرحه والحفاظ عليه، ولم تكن المدارس الفقهية أو اللغوية أو الحديثية أو البيانية، ذات بيان ولها رسوم مقررة، ولكنها في أغلبها عمل تطوعي وأهلي ومجتمعي.
فأبو حنيفة مثلاً كان تاجراً لكنه متوافر على تأسيس مدرسة فقهية عريقة تعود بجذورها إلى الصحابي الجليل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي كان يحكم ويقضي ويجتهد؛ هذه المدرسة الفقهية هي تلامذته الذين نقلوا العلم عنه «كأبي يوسف» و «محمد بن الحسن الشيباني» وغيرهم من المجتهدين والعلماء والقضاة، ثم تبلور في النهاية «المذهب الحنفي» الذي هو طريقة في المنهج لفهم الشريعة، وكذا الشافعي وكذا «الإمام مالك» إمام أهل المدينة بلا منازع ثم الإمام «أحمد بن حنبل».
وكان يحدث في هذه المدارس الإسلامية تلاقح فكري وقواعد في الفهم والاجتهاد وهي آية في التضلع الفكري والعلمي العقلي بمعناه الواسع؛ فالنشاط العقلي والفكري للحضارة الإسلامية هو بالأساس نشاط حول الإسلام وعلومه، وهذا الذي مثل النسق المعرفي الإسلامي بالأساس، ثم ظهرت جماعات من شذاذ الفكر الذين تلوثوا بالفكر اليوناني الوثني، والأفكار النصرانية والخوارجية البدعية، وكان ذلك في الواقع جزءاً من محاولة العدوان على الفكر الإسلامي الأصيل، لكن هذا الفكر الشاذ ظل هامشياً، وكان أهله محاصرين بحكم الشعور الإسلامي العام وبحكم علو الشريعة فكراً وسلطة. كما أن طبيعة العصر التي لم تكن تحقق التواصل، وكان كل عالم يعيش وحده، وهو ما جعل آثار هذا التفكير محدودة وليس لها واقع في حياة الأمة والناس؛ لكنه مع نهاية القرن السابع عشر ومع هزيمة الدولة العثمانية عسكرياً أمام الجيوش النصرانية الغربية، بدأت السفارات إلى الغرب، وبدأ استقدام متخصصين في العلوم البحتة ذات الطابع العسكري بالأساس، ولأول مرة جرى استقدام غير مسلمين للتخطيط والتدريس في الجيوش الإسلامية؛ كما بدأ إرسال المبعوثين، وهنا جرى أول اختراق حقيقي للعالم الإسلامي؛ حيث تكونت البذور الأولى داخل المؤسسات الإسلامية والتي تحمل أشواقاً لعالم الأعداء، وتؤمن أن تقليدهم في القيم والأفكار يمكن أن يحقق النهوض للعالم الإسلامي، ثم صار الإيمان بهذا الفكر الوافد قيمة للعمل من أجل تحطيم العالم الإسلامي وليس النهوض به.
ومن المثير أن يكون الجيل الأول من العلمانيين في العالم الإسلامي قد اشتد عوده وقويت شوكته في مؤسسات الدولة العثمانية حاملة راية الإسلام في هذا الوقت، بل إن السلاطين أنفسهم كانوا من الذين حملوا الترويج لهذه الأفكار منذ منتصف القرن التاسع عشر. نعم كانت هناك ضغوط غربية من الخارج! لكن نمط التعليم الغربي اخترق أعلى مؤسسات الدولة كما حدث في الدولة الأموية والعباسية والتي جرى اختراق مؤسسة صنع القرار فيها عبر تبني الخلفاء والملوك للمذاهب القدرية والباطنية، وتسلط على مؤسسة الخلافة ذاتها المعتزلة والمبتدعة. ثم انتقل الأمر من عاصمة الإسلام إلى مصر؛ حيث رحل طلاب العلم إلى أوروبا في كافة الشُّعَب لكن أخطرهم كان «رفاعة الطهطاوي» إمام أول هذه البعثات، وجاء من بعده «محمد عبده» ومن قبله «الأفغاني» وتأسست مدرسة يمكن وصفها بالمصطلحات المعاصرة «مدرسة التفسير الاستعماري للإسلام». ومن المدهش أن يكون سعد زغلول، وقاسم أمين، وعلي عبد الرازق وغيرهم تلامذة في هذه المدرسة التي كانت وثيقة الصلة بالإنجليز. لكن التعليم الإسلامي استرد عافيته بهبة الأمة من أجل الدفاع عن دينها وإسلامها وتعليمها.
تدمير الأزهر:
وظل الأزهر في مصر المدرسة التي تحمي التعليم الديني، وكان لها تقاليد صارمة علمية في الضبط والتحرير والإنتاج العلمي، ثم ظهرت مدرسة «دار العلوم» التي تخرج فيها الشيخ حسن البنا، والأستاذ سيد قطب، ودار القضاء الشرعي التي تخرج فيها الشيخ جاد الحق، وكان القصد منها ضرب الأزهر، لكنه ظل قوياً.
ثم جاء انقلاب يوليو وأصدر قانون «تطوير الأزهر» حيث فصل أوقافه عنه، واستولت عليها وزارة الأوقاف، كما جعل شيخه تابعاً لوزير يساري في هذا الوقت هو كمال رفعت، وأدخل التعليم المدني فيه مثل الطب وغيره بقصد تخريج كوادر دعوية لمواجهة التبشير.(4/207)
وهنا أصبحت المؤسسة الأزهرية التي هي بالأساس مؤسسة أهلية علمية لها أوقافها المستقلة وتمارس الاجتهاد، ولها تقاليدها بعيداً عن يد الدولة ـ أصبحت في قبضة الدولة، وحدثني «الشيخ الشعراوي» الذي كان يعمل مديراً لمكتب الشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر أنه ـ أي الشيخ حسن مأمون ـ لم يكن يستطيع أن ينقل الفراش من مكتبه؛ أي نزعت من الأزهر كل أسلحته، وصار شيخ الأزهر الذي كان يمثل ضمير الأمة كلها مجرد موظف لدى المؤسسة الحاكمة لا يخرج قيد أنملة عما تطلب منه رغم أن العلماء في التقاليد الإسلامية هم بالأساس مراقبون للسلطة وضابطون لسلوكها، وهم معبرون عن الأمة من مواجهة السلطة.
ثم مضى التطوير قدماً حالياً حيث جرى تقصير مدة الدراسة في الفترة الثانوية لتصبح ثلاث سنوات بدلاً من أربع مثل الثانوية العامة، وتم إلغاء دراسة المذاهب الفقهية تماماً والتي هي حافظة لطريقة فهم الشريعة وهي ناقلتها عبر الأجيال، ثم منع الطلاب الراغبون من خارج الأزهر من الالتحاق به وكانوا يمثلون دماءاً فيه لتجديد روح الأزهر وشبابه، ثم رفع سن القبول في المرحلة الابتدائية، وتضاءلت دراسة القرآن الكريم؛ كما حوصرت الكتاتيب، وضعف مستوى طلاب العلوم الشرعية والقسم الأدبي، رغم أن الشيخ الشعراوي قال لي: إن إصلاح الأزهر يكون عن طريق دعم القسم الأدبي والتخلي عن القسم العلمي تماماً للتعليم العام ـ فدعاة الأزهر هم خريجو العلوم الشرعية بالأساس؛ وكل ذلك يجري في إطار ما أطلق عليه: «علمنة الأزهر» أي نزع صفة كونه معهداً لتدريس العلوم الشرعية وتخريج متخصصين في العلوم الشرعية الإسلامية.
وخالف الأزهر عبر شيخه الحالي أعز تقاليده في تحمل الاختلاف الفقهي، فحوصر المخالفون لشيخ الأزهر وحوكموا وعزلوا وشردوا في الآفاق، وظن شيخه أن المركز الذي منحته السلطة له يتيح له أن يستخدم سلطة الإكراه في مواجهة خصومه رغم أن سلطة العلماء بالأساس هي سلطة معنوية لا تستند إلى الإكراه؛ والمتأمل في الاجتماع الإسلامي يلاحظ بوضوح أن السلطة السياسية كانت تعمد إلى فرض الرأي الواحد عبر القوة بينما كان العلماء يعمدون إلى إعطاء الفرصة لكافة الآراء الاجتهادية لا يحتكرها عالم واحد أو مجتهد واحد؛ وموقف الإمام مالك ـ - رحمه الله - ـ في هذه المسألة واضح حين عرض عليه المنصور أن يجعل من «الموطأ» دستوراً فقهياً موحداً للأمة لكنه رفض.
كان كل ذلك يتم في إطار علمنة ثقافة الأمة وتحطيم هويتها عبر مصطلحات مثل «تجفيف الينابيع»؛ فبما أن الأزهر رصيد لتخريج علماء الدين فليجفف، وطالما أن الطلبة الذين يرغبون في الالتحاق به من خارجه يشتبه في أن يكونوا متطرفين فليمنعوا، وهكذا.
وطالما أن مادة الدين في التعلم العام يمكن أن تكون مصدراً لتدين الشباب فلتجعل مادة للثقافة المشتركة مع غير المسلمين حفاظاً على الوحدة الوطنية. لم يكن كل ذلك تحت قصف النيران الخارجية أو في إطار خطة مفروضة من الخارج، بل كان من يقومون بكل هذا ينكرون أن يكون للخارج أي تدخل في فرض أجندته التي تريد أن تفرض التبعية الثقافية على عالمنا الإسلامي وخاصة دول القلب والمركز فيه، لكن أحداث سبتمبر جاءت لتقلب الأمور رأساً على عقب.
ما بعد سبتمبر والقصف الأمريكي لمناهج التعليم:
كما هو معلوم أن العقل الأمريكي ذي الطابع البراجماتي لا يملك القدرة على الغوص في الأمور لفهمها وتحليلها وهو يعتمد منهج التجريب فيما ينهيه إليه أقرب نظرة له أو أقرب طرفة عين عقلية، فإن ثبت خطأه جرب غيره، وهكذا.. وهذا وصناع القرار فيه اتهموا «بغير بينة» ما يطلق عليهم «فوكوياما» الأصوليين، وفي ظن الأمريكيين أن هؤلاء الأصوليين إسلاميون درسوا علوم الشريعة؛ وإذن فالمدارس الدينية في باكستان هي التي أخرجت طالبان والمدارس الدينية في السعودية هي التي تخرج أصوليين، ومناهج التعليم الديني هي التي تحفظ للإسلام قوامه؛ إذن تجب محاصرة هذه المدارس والمناهج، والضغط من أجل ذلك، ومن هنا فما كانت تقوم به الحكومات المحلية في السابق على استحياء أصبحت أمريكا رأساً هي التي تقوم بذلك، وهي تقوم به بعصبية شديدة وانفعال وقلة خبرة تحت تأثير ضربة سبتمبر، وهي تجهل أنها تدخل في قلب الوجود الإسلامي وفي قلب هوية الأمة، وهو ما يعد عدواناً قاسياً وخطيراً يصل إلى حد الحرب.(4/208)
بيد أن أمريكا لم تكتف بذلك، بل إن مسؤولين كباراً في وزارة الخارجية اقترحوا تمويل أئمة المسلمين الذين يعارضون الإرهاب ـ على حد زعمهم ـ ويؤيدون الحرية الدينية. وقالت وكيلة وزارة الخارجية للشؤون العالمية أمام اجتماع «لجنة الحريات الدينية» المعنية بمتابعة الحالة الدينية في العالم وفق الرؤية الأمريكية: «يتحدث كثير من المسلمين عن معارضة الإرهاب لكن ذلك غير كاف، وعلينا أن نواصل القيام بالمزيد لحث المسلمين في الخارج على التحدث علناً عن قيم دينهم التي تعلي من شأن الحياة، وأوضحت أنه «يجب التفكير خارج الإطار التقليدي وتوظيف وسائل خلاقة للنهوض بالحرية الدينية، وهنا علينا التفكير في تمويل علماء مسلمين وأئمة وأصوات أخرى للمسلمين» وزادت توضيحاً بالقول: «علينا أن نضم المزيد من علماء المسلمين إلى برامج التبادل الثقافي والأكاديمي التي تمولها أمريكا، إننا نريد الوصول إلى جمهور أكبر في المجتمعات الإسلامية؛ وذلك بهدف دعم أصوات التسامح في الدول الأخرى وعودة الناس للتسامح».
أي أن أمريكا تريد من المسلمين «إعلاء القيم الدينية التي تحافظ على قيمة الحياة» ويستبطن هذا المعنى إلغاء كل ما يتصل بالقتال في القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبار أن آيات القتال في التصور الأمريكي تهدد حياة الآخرين، كما أن إعلاء قيمة الحياة تعني منع العمليات الاستشهادية في الأراضي المحتلة ضد الصهاينة باعتبار أن اليهودي في التصور الأمريكي هو إنسان محفوظ الدم والحياة؛ لأنه لم يعتد على أرض لهم بل هو صورتهم في الاعتداء على الآخرين.
وأفكار التسامح تعني إلغاء كل ما يتصل بمفهوم الولاء والبراء والتمايز على أساس العقيدة؛ فهم ينظرون «للإنسان» من وجهة نظرهم باعتبار الإنسان الغربي ابن الحضارة الأمريكية والغربية أو التي تصله بها آصرة الثقافة والدين كاليهود.
وهم يروجون لفكرة «الإنسان الكوني» أي الإنسان الذي لا يشعر بأي انتماء خاص لدين أو لوطن أو لعقيدة أو لقضية، وحين يكون إنسان «العالم الإسلامي» أو الإنسان الشرق أوسطي «كما يزعمون بهذه الحالة فإنه سيكون نهباً وعبداً لكل ما يطلب منه.
وتبقى العقيدة الإسلامية والدين الإسلامي هي حصانة العالم الإسلامي في مواجهة الهيمنة الأمريكية الثقافية.
إن أمريكا تسعى اليوم عبر التدخل في مناهج التعليم الديني على وجه الخصوص للتأثير على الأجيال القادمة للأمة الإسلامية، أي أنها تعمل للسيطرة على المستقبل في العالم الإسلامي، وهي تشعر أنها لا يمكنها السيطرة على هذا المستقبل إلا عن طريق السيطرة على عقول شبابه وأبنائه، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق العبث بمناهج التعليم الديني خاصة.
إن الأمة الإسلامية بحكم صفتها هي أمة روحها هو الدين وتاريخها وثقافتها ونشاطها كله بالأساس حول الدين، ونزع دينها أو التلاعب به من قبل قوة خارجية هو خطر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه؛ لأنه خطر وقصف موجه إلى العقل والروح، هو قصف موجه إلى الجذور، وهو خطر يستهدف اغتيال الأمة، ونحن نثق أن الله «غالب على أمره» وحافط دينه {إإِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9] وأن هجمة أمريكا ومكرها سيمتد إليها {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام: 123]. لكن الأمة كلها بحاجة إلى تدبر طبيعة الحرب التي تواجهها: إنها حرب صليبية، الإجلاب فيها بالخيل والرجل من جانب، وبالغزو الفكري والثقافي لهدم قواعد الأمة وأسسها من ناحية أخرى.
أمريكا وتغيير خصائص الشعوب:(4/209)
دارسو السياسة الخارجية الأمريكية يعلمون أنها تعتمد على المدرسة السلوكية وما بعد السلوكية، وهي في جوهرها تقوم على ما يعرف بـ «الخصائص القومية للشعوب» أي تغيير الطبيعة القومية والنفسية للشعوب، وقد نجحت في ذلك مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تشن حرباً نفسية على العالم الإسلامي عن طريق محاولة تغيير خصائصه؛ لكن العقيدة الإسلامية هي التي تحفظه وتقف به صلباً أمام موجات العولمة الحديثة كما وقفت أمام موجات الحرب الصليبية والتبشير والاستشراق والاستعمار «الاستخراب» ومن ثم فالحرب الحضارية بين أمريكا والغرب من جهة والعالم الإسلامي من جهة أخرى هي حرب عقيدية حول الأساس وحول القضايا الثابتة، وهي حرب تضرب في الجذور، وسوف تسعى أمريكا بشكل أساسي لتجنيد العملاء، لكنهم هذه المرة من قلب المحتل الذي تريد أن تحطمه كما قال «زويمر» من قبل: «الشجرة لا يقطعها إلا أحد أبنائها» فالعملاء لن يكونوا يساريين أو علمانيين؛ لكنهم سيكونون من علماء الدين والمتخصصين في العلوم الشرعية من المفتين والقضاة والرؤوس في علوم الإسلام، وأمريكا سوف تمنح وتعطي وتغري وتخاتل وتبدو كالمسيخ الدجال الذي يتلاعب بظواهر الأشياء ويقلب المسميات ويصور للناس أنه يملك الجنة والنار، وهي تقول: «من ليس معنا فهو ضدنا»؛ لذا فالأمر خطير؛ وليحذر كل امرئ وخاصة العلماء من فتنة أمريكية عمياء، القابض فيها على دينه وعلى الحق كالقابض على الجمر. إن الدهشة سوف تلجمنا إذا علمنا أن مؤسسة تسمى «كير» تتبع المخابرات المركزية الأمريكية هي التي تقوم بالتخطيط للمناهج في وزارة التربية والتعليم المصرية.
والدهشة ستمسك بتلابيبنا إذا علمنا أن وفد الـ F. B. I قد التقى شيخ الأزهر، ووفود الكونجرس تلتقيه للاطمئنان على مناهج الأزهر.
ونورد ما قاله وزير التعليم المصري في حوار مع إحدى الصحف قال: «المناهج الدينية تتم صياغتها بإشراف شيخ الأزهر وهو رجل لا يستطيع أحد التشكيك في استنارته وتقدمه، وهو يعلن مسؤوليته دائماً عن كل ما يدرس من تربية دينية داخل وزارة التربية والتعليم، وشارك بنفسه في دورة تدريبية لمدرسي التربية الدينية بالوزارة؛ وبالفعل تم تغيير الكثير من هذه المناهج حتى يمكن صياغة عقل الإنسان الجديد غير المتطرف؛ وذلك لأننا نعتقد أن العقل هو جوهر الإسلام وعشرات الآيات تحض على العقلانية وإعمال العقل والفكر وقبول الآخر والتسامح والأخلاق والتكامل والرحمة» وهذا بالفعل هو ما تريده أمريكا، ونحن نندهش ونتساءل: وهل كانت الوزارة قبل هذا الوزير ومنذ وجدت وزارة التعليم في داهية عمياء بلا عقل ولا فكر ولا قبول الآخر ولا التسامح معه؟ وهل كان الطلاب لا يعرفون كل هذا؟ لكنها الأجندة الأمريكية الجديدة، حين يرتبط العقل والتسامح بها فإنها تعني عقلاً خاصاً وتسامحاً خاصاً تجاه أعداء هذه الأمة وتجاه تاريخها. ومن الإنسان غير المتطرف؟ «أي الإنسان الأمريكي، الإنسان الشرق أوسطي الذي لا يشعر بالهوية ولا يعترف بالقيم وإنما يؤمن فقط بالمصلحة إنسان البراجماتية والنفعية.
وتدرك أمريكا ويدرك الغرب معها أن التعليم في أوروبا كان المدخل للسيطرة على الفرد وعلى الأمة، وكان أساس بناء الدولة القومية العلمانية في أوروبا؛ ففكرة العلاقة بين الهيمنة والتعليم في الغرب أساسية؛ لذا فهم يحاولون الهيمنة والسيطرة والإخضاع عبر التعليم، عبر تغيير مناهج التعليم الديني في مصر والسعودية وباكستان واليمن؛ وعبر القضاء على المدارس الدينية والجمعيات الخيرية التي تدعمها.
وذلك يعني محاولة تدجين المجتمع الأهلي الإسلامي الذي يمثل قاعدة نبض الأمة وحيويتها.
ويغري أمريكا بهذا صداقتها لهذه البلدان؛ لأنها تحاول توظيف هذه الصداقة عبر ترويج فكرة السلام، في اختراق وتسميم هذه المجتمعات الإسلامية.
وهنا فالخطر داهم على الأمة حكاماً وشعوباً؛ ولذا يجب على الكل أن يستيقظ ويرفض المساومة على الثوابت أو التلاعب بالعقائد، وعلى الجميع أن يعرف أن روح الأمة أقوى من كل شيء، والحمد لله أن هذه الهجمة الأمريكية واكبت في الأمة حياة ووعياً مؤثراً، وأجيالاً جديدة حية تدرك وتسعى.
{ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }. [يوسف: 21].
http://albayan-magazine.com المصدر:
==============(4/210)
(4/211)
كفى رفقا بالقوارير على طريقتهم
أنا أُطَالِب بحقوقي..!!!!
ندى عبد العزيز محمد اليوسفي
لقَد أصبَحت مالِئَةَ الدنيا، وشاغلةَ الناس..!!!!، كالكُرَة تُقذَفُ من مقالةٍ لبرنامج فضائي..!!!!، تُتنَاول في مجلسٍ إصلاحي..!!!!، وتَرتَفع بسببها الأصوات في حوارٍ وطني..!!!!، تقيمُ الدنيا ولا تُقعدها في منتدى اقتصادي..!!!!
تلك هي المرأة السعودية، وحقوقها المسلوبة في رأيهم، شوّهوها وصاغوها وأضافوا إليها من التّوابل ما أضافوا، تكلّموا عنها في كل محفَل، أثاروها في كلّ مجلسٍ، و تصدّرَت كل صحيفةٍ وبرنامَجٍ تلفازيٍّ ومَشْهَد.
دخلتُ على دكتورة كبيرةُ السنّ لشأنٍ ما.. وكنتُ كلما زرتها تفتح موضوعاً بشكل غير مباشر.. عن الحجاب.. عن القيادة.. عن تحفّظاتها على ضرورة السفر بمحرم.. لدرجة أنها تتباكى على بعض الأمور الميسّرة للأطباء (الذكور) مما لايسوغ لمرأة مسلمةٍ عاقلة المطالبةَ به..!!!!، كل مرة أصدمها في نفسها.. ألقي عليها الحجة.. أتظاهر أمامها بأني أوافقها و أجعلها تتابع الحديث.. وتتابع وهي تظن أني مندمجة مقتنعة بما تقول ثم تُصدَم.. وتودّعني يائسة..!!!!!!!!!!!
فتحَتْ موضوعاً ما ولما تعذّرت بانشغالي.. فقالت لي لحظة واحدة وأخرجت قصاصة من جريدة.. تقول اقرئي المقال وأعطيني رأيك.. فإذ بالمقال أحدُ تلك المقالات الملغومة، والتي بحقوق المرأة مزيّنةٌ مصفوفة...!!!!!!، قلتُ في نفسي.. سبحان الله.. الطيور على أشكالها تقع..!!!!!!
العجيب أن هذه الدكتورة ذاتها لا تتكاسل ولا تتقاعس عن وظيفةٍ أخرى جعلتها همّاً لها رغم انشغالها، فلا تفوّت أبداً فرصة مرور طالبة طب بعيادتها أو طبيبة أو أيّ ساترة لجسدها ووجهها لمحاورتها ومحاولة إقناعها بعدم ضرورة ذلك وتسرد ما تحوّره ليوافق هواها من استشهاداتها العجيبة، وتغلّف ذلك كله بعطفها وحنانها على فلانة من أن تموت من الحرّ بسبب هذا الحجاب، أو أن يعوقها عن العمل أو متابعة دراساتها العليا، وتعزّزه بمدح جمال فلانة وأن الله يحبّ الجمال فلماذا تحجبه عن العيون وتُعيِّش الناس في كآبة و سواد..!!!!!!!!!!، حتى لو اضطر الأمر منها بعض الأحيان إلى تأخير المريضة المفتَرَض دخولها عليها ساعة كاملة!!!!!!
عندما أتأمّل حالها وجدالها وجهادها في سبيل باطلها، وأتفكّر في حالِ من أوتوا العلم والحق وحسن البيان لكن فصلوا بين الدعوة الميدانية في مقرّ أعمالهم وما يدينون به، أتعجّب من همّة أولئك، من جلَد العاصي، وعَجْزِ الثقة..!!!!!!!!!
بعض النساء ينبهرن بكتابات البعض.. بكلماتهم.. يشعرونهنّ بالقهر.. بالظلم الواقع عليهنّ.. يرين فيهم المنقذ و أطواق النجاة والخلوص من زمن العبودية حسب تعبيرهنّ وتعبيرهم فيحفظن كلماتهم عن ظهر قلب ويخرجنها في كل حين وحين للاستشهاد بها ويدافعن عنها كما لو كانت سطوراً مقدّسة..!!!!!!!
وتناسَيْن أنَّ هناك صنفٌ من النّاس.. ودّوا.. لو يصيب نساءنا ما أصاب نساءهم من مرض الإحساس بالنّقص وما يؤدي إليه من التّقليد والعري وانعدام الحياء..!!!!!، ودّوا.. لو يصيب رجالنا ما أصابهم من أمراضٍ فتّاكة.. انعدام المروءة والغيرة والرجولة..!!!!!!، فنكون سواااااااااااااء..، لا أعلمهم ولا تعلمهم..، الله يعلمهم.
كنا نظنّ سابقاً أنهم مجرّد مفتونين بالحياة الغربية.. معجبين بالحريّة..!!! وإذ بنا نفاجأ أن أهل الأهواء يستشهدون بأقوالهم ويعاضد بعضهم بعضاً..!!!!، فأصبحت كتاباتُهم دعوةً لها مؤيّدون ومناصرون ومُطالِبون لا مجَرّد مادحين وبسحرها مفتونين. لقد تعدّى الأمر وأوذي من هذه الكتابات والأطروحات أُناسٌ حرصوا على حراسة الفضيلة وقمع أهل الشر والرذيلة، أناسٌ نذروا دينهم لحماية جنابِ العقيدة، وحفظ فتياتها من مستَنقَع الضياعِ واللومِ والفضيحة.
أصبح كل من هبَّ ودبّ يناقش أمري، أنا المرأة السعودية، حتى الصحافة الأجنبية لم تفتأ تذكر حالي بحزنٍ وألمٍ ورحمةٍ تخفي وراءها ما تخفي، صوّروني في نظر المجتمعات، امرأة لا تملك من الأمر شيء، مسلوبة الإرادة، جاهلة، أمية، مُجبَرة على التلفّع بسوادٍ يحجبها عن العطاء، ممنوعة من المشاركة في أي عملٍ تنموي، محدودة الأفق، ضعيفة التأثير..!!!!!!!!!!
اختصروا قضيّتي كلها في قطعة قماشٍ تغطي وجهي، وسيارة تنتظرني لأقودها أمام بيتي، تصوّر كيف بلغت بهم التفاهة ليتجاوزوا كل همومي، ويختصروا كل آلامي ومطالِبي وحقوقي، بأمرين لم ألقِ لهما يوماً بالاً ولم أشعر يوماً بضررهما أو حاجتي للتحرّر منهما..!!!!!!!
نخر أذني صوت صراخهم، أضاعوا الساعات والأيام في مجالسٍ يُفتَرَض أن تُناقِش ما هو أهم، أضاعوها في قضايا عجيبة وبنظرة ضيقة محدودة، أضحكت منّا العالمين!!!!!، وضعوا الدراسات وفنّدوا الأدلة والإدّعاءات، ولم يمثّلوا إلا أنفسهم في تلك الحوارات والمجالس..!!!!. لا جَرَمَ أَنَّمَا يدعون إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، وأن مردّنا إلى الله...!!!!!!!(4/212)
إحدى النساء البسيطات.. آتاها الله قوة في البصيرة.. تقول: ((أنا عندي حساسية من كل من يكتب ويتحدّث عن المرأة بهذا الشكل.. خاصة لو كان رجل))..!!!!!!!
أفيقي أخيتي..، تنبّهي، اعرفي من يريد مصلحتكِ، ممّن همّه ضياعك و العبث بكِ وبأمنِك وبيتِك..، تنبّهي، واعلمي حقيقة المعركة الدائرة حولك، حتى تتعلمي كيف تواجهينها وبأيّ سلاح، حتى تكتسبي الانتقائية وتميّزي بين الخبيث المسموم، والطّيب المُحَارَب المأسُور، حتى تنبهي غيركِ ممن انخدَعن وانسقن وراء دعاوى مزيفّة وكلماتٍ منمقة.
أنا المسلمة السعودية أُطَالِب في حقي بأن يمثل أخواتي في تلك الحوارات من نرضاهُ لا أن تُمَكّن من لا نرضاها لتمثيلنا والحديث باسمنا والمطالبة بما تسميه حقوقاً...!!!!!، وأُطَالِب بأن يُمنَع كل من هبّ ودب من الحديث عن شأني والتدخّل في خصوصياتي و الكلام على لساني وإثارة الفتَن وتأليبِ الناس على بعض...!!!!!!
أنا المسلمة السعودية أُطالِب في حقي في تنقية كل مجالاتِ دراستي وعملي مما يخالف نصّاً شرعياً صحيحاً ويحافظ على حيائي و حشمتي...!!!!!، أُطالِب بأن تيسّر لي بيئة العمل والدراسة الطبية- مثلاً فيما فيه حفظ أسباب حيائي وحشمتي، مع مساعدتي على الارتقاء بعلمي وعطائي، في مناخٍ شرعي ترتاح إليه نفسي وأنفس المحيطين بي وتطمئن..!!!!!!، أُطالِب بأن أكون في المستشفى مريضةً كُنتُ أو مرَاجِعة آمنةً مُطمَئِنَة، محميّة من عبثِ العابثين، مستورة العورة، مأمونة الروعة...!!!!
أنا المسلمة السعودية أُطَالِب بعدم تمييع صورتي وإظهارها في وسائل الإعلام بما يخالِف حقيقتها، ويتجاهل كل عطاءاتها و نجاحاتها، وفي الجانب ذاته تبرز المتبرجة وقد بلغت نفس إنجازي أو أقل على أنها فريدة عصرها وزمانها، صورةٌ للجيل المشرق بآمالٍ من ذهب..!!!!!، أُطَالِب بأن تُفسَح لي نفس المساحة من الحرية للتعبير عن أفكاري و المطالَبَة بحقوقي، لا إن كتبتُ ردّاً على أحدهم ممن تسمّى بنصير المرأة السعودية المظلومة أن يُعلّب ويلقى في غياهب أدراج ذلك المكتب..!!!!!!
أنا المسلمة السعودية أُطَالِب بصيانة الحقوق التي كفلتها لي الشريعة كاملة، لا أن يُماطِلني الرجل ويبتزني ويجرجرني في المحاكم وعند القضاة بحثاً عن حقي، لا أن أُطَلّق من رجلِ عابث، لأسرَتِه مضيّع، فلا أجد نفقةً ولا بيتاً يؤويني وبنيي، لا أن أُجبَر على البقاء مع رجلٍ معربدٍ تاركٍ للصلاة، لعائلتِه مفسِد، وأُطَالَب بالصبر عليه، لا أن أُطَلّق أو أترمّل فينزع أبنائي منّي وأُحرَم رؤيتهم، لا أن أكبر في السنّ فلا أجد معيلاً ولا ولداً بارّاً بي رحيماً ولا علاجاً للمرضِ مقيلاً، لا أن.... ولا أن.....، و قائمة القهر تطول...
أرءيتم حقوقي الكثيرة والأكبر بكثير مما اختصرته كلماتكم و مطالِبكم..، وفرّغتم له أقلامكم وأصواتكم وأوقاتكم..، خروج المسلمة السعودية كاشفة الوجه، حاسرة الرأس، تتفاخر بمجالستها فلان وفلان، على رؤوس الأشهاد هل هو رفقاً بها؟!!!، تضييعها مسئوليتها الأصلية، وتعريضها للفتن و تقديم التنازلات هل هو رفقاً بها؟!!!!، سفرها بلا محرم ومشاركتها للرجل في ميدان عمله و حواره دون ضوابط شرعية هل هو رفقاً بها؟!!!!!، كفى.. كفى رفقاً بالقوارير على طريقتكم.. كفى..، مالكم كيف تحكمون.. ها أنتم تحاجّون عن أنفسكم في الحياة الدنيا.. فمن يحاجج الله عنكم يوم القيامة..؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!
كم من دعوةٍ في جوفِ الليلِ من قلوبٍ محترقة لما وصل إليه حالُ المرأة المسلمة اليوم على هدى شعرواي وقاسم أمين - ليست بالهاديةِ وليسَ بالأمين -..!!!!!!!
والقائمة بعدهما طالَت وما زالت تطول وتطول، نسألُ الله السلامة والعافية، والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً..!!!!!!!
فليعلموا وليعلم غيرهم ممن سار على نهجهما واتبع خطاهما؛ أن زوال الدنيا بما فيها أهون من زوال الدين والأخلاق، واختلاط النساء بالرجال، وضياع أسباب حفظ الفضيلة، و انتشار الفاحشة والرذيلة، عند من يقدر قيمة الدين والخلق، ويعلم أن عزة الأمة، وقوتها، ونجاتها وأمنها، بحفاظها على عقيدتها وخيريتها التي اختصها الله - سبحانه وتعالى- بها و قرنها بأمرها بكل معروف ونهيها عن كل منكر.
أسأل الله أن يبارك في جهود الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فهم والله سفينة النجاة، كلٌ في موقعهِ، وأن ينفع بهم الإسلام والمسلمين، وأن يزيدهم توفيقاً وهدى، وإيانا وإياهم وسائر إخواننا من دعاة الهدى وأنصار الحق، وأن يتوفانا جميعاً على دينه غير خزايا ولا مفتونين.
مجلة المتميزة - العدد الثالث عشر - محرم 1425هـ
http://saaid.net المصدر:
==============(4/213)
(4/214)
مناهج التعليم الجزائرية دون «تربية إسلامية»
أميمة أحمد
أثارت بعض التعديلات التي أدخلتها الحكومة الجزائرية على مناهج التعليم انتقادات واسعة مع بدء العام الدراسي الجديد في 11/9/2004، واعتبر البعض هذه التغييرات مساساً بقضية «الهوية الوطنية» من جانب «التغريبيين»، خاصة أن بعضها فاقم مشكلات موجودة بالفعل.
وشملت التعديلات تغيير اسم مادة «التربية الإسلامية» إلى «التربية الدينية والأخلاقية والمدنية»، وتدريس اللغتين الفرنسية كلغة ثانية بدءاً من الصف الثاني الابتدائي، والإنجليزية في السنة الأولى متوسط (السنة السابعة) بعد أن كانت اللغتان تدرسان بدءاً من الصف الرابع، إلى جانب تدريس مقارنة الأديان في المرحلة الثانوية.
وقد وردت تلك التعديلات وغيرها في تقرير «لجنة إصلاح المنظومة التربوية» التي عينها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عام 1999، وأنهت عملها في تموز 2001.
الهوية الوطنية:
وقال الدكتور علي بن محمد (وزير التربية الجزائري السابق، ورئيس «التنسيقية الوطنية لمدرسة جزائرية متفتحة وأصيلة») لـ«إسلام أون لاين» يوم 22/9 الجاري: إن هناك نقصاً كبيراً في عدد مدرسي اللغة الفرنسية عندما كان تدريسها يبدأ بالسنة الرابعة؛ حيث لم تتجاوز التغطية 50% من عموم المدارس الجزائرية.
وتضم «التنسيقية الوطنية لمدرسة جزائرية متفتحة وأصيلة» عدة جهات معارضة للإصلاحات التي شرعت وزارة التربية في تطبيقها، من بينها أحزاب إسلامية، وجمعية الدفاع عن اللغة العربية، والتنسيقية الجزائرية لمناهضة التطبيع مع إسرائيل، ونقابات مستقلة.
أوضح الوزير السابق: «إننا نؤيد الإصلاح الذي يتناول المناهج والبرامج، وتكوين المعلمين، وإعداد المربين، وهذه كلها تدخل في الإصلاحات، أما قضية الهوية والثوابت الوطنية فلا ينبغي أبداً أن تكون عرضة للزيادة والنقصان، لكن في بلادنا يوجد جماعة نسميهم بالتغريبيين والاستئصاليين الذين لا يفهمون الإصلاح إلا بالتراجع عن كل ما يتعلق بالهوية الوطنية، وبالذات اللغة العربية والدين الإسلامي في الجزائر».
وحول ما يقوله أنصار تلك الإصلاحات من أن المعارضة لها «انغلاق على الثقافات الأخرى التي ينبغي معرفتها» نفى ابن محمد ذلك، قائلاً: «بالعكس نحن من دعاة الانفتاح على اللغات الأجنبية، وناضلنا كثيراً من أجل ترسيخ الإقبال على اللغات الأجنبية.. لكن الفرانكفونيين (متحدثي الفرنسية) يريدون إغلاق الأمر علينا حصراً باللغة»، وتابع: «إننا نرفض إصلاحاً يُغير في الهوية الوطنية العربية الإسلامية».
بلا ترتيبات مسبقة:
من جانبه انتقد محمد إيدار رئيس الاتحاد الجزائري للتربية والتكوين إدخال الفرنسية بدءاً من السنة الثانية، خاصة أنه «يأتي دون ترتيبات تربوية مسبقة، لا سيما مع نقص مدرسي الفرنسية»، وأشار إيدار إلى مشكلة أخرى هي نقص كتب الفرنسية.
واقترحت وزارة التربية «استئجار الكتاب المدرسي»، وتساءل إيدار في ذلك حول إمكانية أن يحافظ تلميذ في المرحلة الابتدائية على كتابه للعام القادم في الوقت الذي يتوجب عليه حل تمارين في الكتاب نفسه.
شملت تعديلات الوزارة أيضاً إدراج تدريس اللغة الأمازيغية بجميع الولايات بعدما كانت في 11 ولاية فقط العام الماضي، واتفق إيدار مع ابن محمد على صعوبة توفير أساتذة لتعليم الأمازيغية بجميع المدارس، واعتبرا تلك الخطوة «ورقة للتوظيف السياسي».
وانتقد وزير التربية الجزائري الأسبق تغيير اسم مادة «التربية الإسلامية» إلى «التربية الدينية والأخلاقية والمدنية»؛ لتصبح التربية الإسلامية جزءاً من ثلاثة أجزاء تشكل مادة واحدة.
كما تم تغيير اسم المادة نفسها في المرحلة الثانوية إلى «التربية الدينية»؛ حيث يتم تدريس جميع الأديان بها وليس الإسلام فقط، واحتجت الوزارة في ذلك بأن «التلميذ سيكون متسامحاً أكثر عندما يتعلم جميع الأديان».
وأشار ابن محمد في هذا الصدد إلى أنه «لا توجد مدرسة في العالم تعلم مقارنة الأديان في الثانوي؛ فهذا موضوع في الجامعة نحن معه في كليات الشريعة الإسلامية، ونلح على أن يعرف الطلبة جميع الديانات الأخرى ليحاوروا محاورة حضارية ثقافية ترقى لمستوى الجامعة، أما في المرحلة الأساسية والثانوية فينبغي أن يقتصر التعليم على فهم دينهم بعمق».
وكانت «التنسيقية الوطنية لمدرسة جزائرية متفتحة وأصيلة» قد هددت قبيل بدء الدراسة بما أسمته بـ«سنة بيضاء» إذا شرعت وزارة التربية بالإصلاحات التي طالب بها التقرير، وقال الدكتور ابن محمد: «نعم هددنا بشل التعليم لو طبقت وزارة التربية تقرير العار» الذي وضعته لجنة إصلاح المنظومة التربوية.
لكنه أشار إلى أن الوزارة «لم تطبق شيئاً من الإصلاح، فقط قالوا: سنعلم باللغة الفرنسية من السنة الثانية بالابتدائي»، مشيراً إلى أن «وزير التربية نفسه صرح بأنه لا يملك الوسائل البشرية لتطبيق القرار الآن».(4/215)
ولذلك رأى الوزير السابق أن تدريس اللغة الفرنسية في الصف الثاني ما هو إلا «تراجع عن التعريب، والعودة إلى التعليم باللغة الفرنسية»، واعتبر أن هذا القرار «شكلي على أرض الواقع، لا يستطيعون تطبيقه».
المصدر : http://www.al-aman.com/asubpage.asp?issid=70§ionid=28
===========(4/216)
(4/217)
مسلمون مع وقف التنفيذ
خالد مطهر العدواني
لقد أصيب العالم الإسلامي اليوم بأوجاع سقيمة، والآم مبرحة؛ من جراء الغزو الصليبي العسكري والفكري، حتى أصبح التناقض واضحاً جلياً بين مبادئ الإسلام وواقع المسلمين، وجدنا كما يقولون: مسلمين مع وقف التنفيذ، مسلمين بحكم الاسم والولادة والموقع الجغرافي، وانصرفنا عن الشرق المسلم إلى الغرب الكافر، وخيمت علينا عتامة في الفكر، وغشاوة في البصر، وانحطاط في القوى، وأصبحت أراضينا مستعمرة، بسبب تقاعسنا، وتراخينا عن التمسك بديننا الحنيف، والذي كان ظهوره هو أعظم ما رأى العالم من أحداث، وأكبر فتح في تاريخ الإنسانية والبشرية جمعاء.
فنرى المسلمين اليوم - وقد كانوا قادة العالم بالأمس في الفكر، والحضارة، والثقافة يوم كانت دولتهم - وقد أصبحوا تابعين في الفكر، والوعي، والرأي، والوقف، وجاوز ذلك الأمر إلى تقليد تلك المجتمعات الغربية في ميادين السلوك، والتصرفات، والأعراف حتى لو كانت لا توافق ديننا، أو مجتمعنا، فنجد المسلم منا يحمل اسم الإسلام فحسب أما تصرفاته وسلوكه فيزاحم الأوربيين في عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم نتيجة التقليد الأعمى لهم، فأصبح يقلد المظاهر الأوربية في جميع جوانب حياته المختلفة، مما أدى بكثير من الشباب العربي لفقد توازنه النفسي، فصارت تستهويه التقاليد الغربية التي يسير عليها الشباب الأوروبي، وطفق يأخذ من هذا وذاك دون تمييز بين الغث والسمين، والنافع والضار، حتى لقد أصبح تفكير الشباب يحفل بأفكار مشبوهة عن العلاقة بين الجنسين.
حتى إن النساء المقلدات في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية يبدين مفاتنهن شيئاً فشيئاً بدءاً بالكف واليدين والوجه، ثم الشعر ... دون أن تحس بمقت من مجتمع، أو نهي من دين، أو إرشاد من ولي أو زوج، وصارت المرأة تتعلل بسنة التطور للحاق بالغربيات، وغاب عنها أن المجتمعات الغربية نفسها تنظر نظرة إعجاب وتقدير إلى كل امرأة ذات شخصية مستقلة، وقيم أصيلة، وحضارة متميزة، وثقافة خاصة!!
إن من العجيب أن نرى الراهبة في أوربا أو في الشرق فخورة بدينها، ترتدي زياً متأنقاً يستر كل البدن (عدا الوجه والكفين كما في تعاليم دينها، ولا تكشف أبداً عن ساقيها)، ورداؤها يحجب عنها كل نظرة خبيثة، وهي لذلك موضع احترام وتبجيل ممن ينتمون لدينها، ولم يستنكر ذلك أحد أو يطالبها بأن تتحرر من زيها بدعوى الرجعية.
ولقد كان لوسائل الإعلام الدور الكبير في نقل الأفكار الغربية إلى أذهان أبناء المسلمين، فأصبحوا يتابعونها باستمرار، ويقلدون ما وصل إليهم عبر تلك الوسائل من أفكار وتقاليد منحطة تدمر القيم النبيلة للإسلام والأخلاق العالية لدى أبنائه، ولا يزال البث الفضائي ينحدر انحداراً شديداً نحو أفلام الجنس الرخيص، ومشاهد الإثارة العنيفة.
والأمر يتطلب إلى أن تقوم الحكومات الإسلامية، والمؤسسات المعنية، وذوو الحماسة الإسلامية بحيازة أكثر أدوات الاتصال والإعلام تقدماً للوصول بالكلمة والصورة إلى الأذان، والأفهام؛ حتى تستقبلها النفوس راضية، ويعود المسلمون إلى دينهم، ويصبحوا مسلمين بكل ما تحمله هذه الصفة من معاني، وقيم، وأخلاق، ومفاهيم، فالإسلام هو تاريخ المرحلة المقبلة والأفق الجديد للفكر الإنساني والبشرية، كما يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر جارودي: فنحن بحاجة إلى إنقاذ واقع المسلمين، واستئصال كل رذيلة علقت به من جراء الغزو الفكري، وهو ما يتطلب منا التسلح بالصبر الجميل في مجال العمل الإسلامي الجاد والذي يقع على عاتق علماء هذه الأمة.
المصدر : http://www.islamselect.com
============(4/218)
(4/219)
الجندر
د. حسن بن محمد شبالة
مفهومه أهدافه موقف الإسلام منه
نموذج يمني لدعاته
¨ المقدمة:
(قضية تحرير المرأة) هي التي قامت الحركة النسوية في أوربا بالدعوة إليها بداية القرن الماضي، وتوسعت القضية وتعددت محاورها، ابتداءً من قضية مساواة المرأة بالرجل في الأجر، حتى أصبحت القضية في النهاية هي طلب المساواة التامة مع الرجل في كل شيء.
ودخلت هذه القضية في بداية أمرها إلى العالم الإسلامي - إلى مصر - مع دعاة تحرير المرأة الأوائل كـ (قاسم أمين، وهدى شعراوي، وصفية زغلول) وأمثالهم عام 1919 م؛حين قامت مظاهرة نسوية في ميدان الإسماعيلية بالقاهرة، واحرقن الحجاب.
ثم عمت جميع بلاد الإسلام ومازالت القضية في تقدم نحو السقوط منذ ذلك اليوم حتى وصلت اليوم إلى الدعوة إلى الجندر بصراحة دون حياء.
¨ فما هو الجندر؟ وما مفهومه؟ وما هي أهدافه؟ وما موقف الإسلام منه؟
هذا ما نسلط عليه الضوء في هذه السطور إن شاء الله، ثم نذكر نموذجاً من دعاته في اليمن.
أولاً: مفهوم الجندر: -
الجندر: يعني لغة ومفهوماً : (الجنس) المتعلق بمكونات الذكورة والأنوثة بالدرجة الأولى([1]).
وقد استعير من البيولوجيا، وأن الجندر هو الوجه الاجتماعي الثقافي للانتماء الجنسي([2]).
أو هو الهوية الجنسية للفرد كذكر أو أنثى، كما تحددها الثقافة والمجتمع([3]).
وعلى ضوء هذا المفهوم للجندر، تم عملية اشتقاق كل المضامين والدلالات الاجتماعية الأخرى للوظيفة والدور، ومن منطلق نفس الفروق واختلاف القدرات بيولوجياً بين الجنسين تأتي الدعوة إلى رفض التمييز والفروق الاجتماعية والأدوار والوظائف بين الذكر والأنثى.
¨ منشأ هذه الدعوة: -
بدأ الجدل حول هذا المفهوم منذ أواخر السبعينات للقرن الماضي ومن منطلق الدعوة للانحياز المباشر والضمني لتعزيز موقف المرأة وحقوقها الماسة في المجتمع المعاصر.
وقد انطلقت هذه الدعوة من عمق الحداثة الأوربية والأمريكية، وكانت واضحة من خلال أنشطة الهيئات والمنظمات الدولية، وخاصة في أوساط مجتمعات الدول النامية.
وقد عقدت لهذه الدعوة عدة مؤتمرات وفعاليات عالمية ودولية من أهمها: -
مؤتمر القاهرة عام 1994 م.
مؤتمر بكين عام 1995 م.
مؤتمر بكين عام 2000م.
مؤتمر المرأة الذي نظمه مركز الدراسات النسوية بجامعة صنعاء عام 2000م.
مؤتمر عمَّان عام 2001 م.
وكانت أهداف تلك المؤتمرات واضحة جداً في الدعوة إلى إزالة الفوارق بصفة عامة بين الذكور والإناث، واتهام المجتمعات الشرقية (الدول الإسلامية) بالتخلف الثقافي الجنسي، والحديث عن اضطهاد المرأة في تلك المجتمعات.
وقد قوبلت تلك الأطروحات بالرفض من المجتمعات الإسلامية الغيورة على دينها وفطرتها السليمة، ولُطِّخت سمعة هذا المصطلح واحترقت شخصيات الداعين إليه، كما حصل في اليمن للقائمين على مركز الدراسات النسوية بجامعة صنعاء، حيث فروا إلى خارج اليمن وأنشأوا مراكز مماثلة هناك([4]).
¨ النوع الاجتماعي وعلاقته بالجندر:
بعد الفشل الذي أصاب مفهوم الجندر في العالم الإسلامي حاول المهتمون بقضايا المرأة والجندر تغيير صورتهم الشنيعة إلى صورة مقبولة إلى حد ما داخل المجتمعات الإسلامية، وكان من أهم قرارات مؤتمر القاهرة عام 1994 م إعادة طرح موضوع الجندر من جديد ولكن باسم آخر مقبول إلى حد ما هو " النوع الاجتماعي".
فما هو مفهوم النوع الاجتماعي عند الجندريين ؟!.
" النوع الاجتماعي لا يتعدى بالنسبة لكثير من المهتمين والمعجبين بالجندر أكثر من مجرد ترجمة لكلمة الجندر الإنجليزية، أو مجرد غطاء شكلي للستر على ما قد لحق بمفهوم الجندر من سوء السمعة في المنطقة العربية والإسلامية بالذات"([5]).!
غير أنه يوجد هناك فريق من الجندريين المعتدلين([6]) حاول مسك العصا من الوسط، وحاول إزالة السمعة السيئة عن الجندر وأصحابه، وقسموا مفهوم النوع إلى قسمين : -
النوع البيولوجي : وهو يعني المعنى اللغوي والموضوعي للذكورة والأنوثة، وهذا النوع هو الذي يمكن تمييز الرجل عن المرأة باختلاف الخواص البيولوجية لكل منهما.
النوع الاجتماعي : وهو الأدوار والوظائف الاجتماعية التي لا علاقة لها بالنوع البيولوجي، وهذا هو الذي يجب عدم التمييز بين الرجال والنساء فيه فهم متحدون تماماً، فبإمكان الرجل أن يقوم بجميع أدوار المرأة الاجتماعية، والمرأة تقوم بجميع أدوار الرجل الاجتماعية دون استثناء.
من خلال ما سبق: -
يتضح أن الجندر والنوع الاجتماعي وجهان لعملة واحدة، غير أن النوع الاجتماعي جاء بثوب عربي مهجن، كغيره من المصطلحات المعاصرة التي حاول أذيال الغرب في بلاد الإسلام تهجينها مثل: الاشتراكية الديمقراطية... الخ بنسبتها إلى الإسلام؛والجندر أتى بثوب غربي صرف.
¨ أهداف الجندر (النوع الاجتماعي) وآثاره على المجتمع المسلم:
الهدف الأول : - التشكيك في كثير من ثوابت المجتمع المسلم، العقدية والفطرية والأخلاقية والسلوكية..(4/220)
وذلك من خلال القول بالتفرقة بين (النوع البيولوجي) و(النوع الاجتماعي)، وأنهما مختلفان تماماً ولا علاقة لأحدهما بالآخر، حيث يقرر الجندريون: أن النوع البيولوجي ثابت، والنوع الاجتماعي متغير، ومكتسب، وحصروا مفهوم النوع البيولوجي في الذكورة والأنوثة وما يتعلق بهما من خصائص الحمل والولادة والتناكح والتناسل فقط. والنوع الاجتماعي: فيما عدا ذلك من صفات وأدوار ووظائف متعلقة بالرجل والمرأة على حد سواء، وهذا يعني التشكيك في الثوابت والخصائص المتعلقة بالمرأة، وكذا التشكيك في الثوابت والخصائص المتعلقة بالرجل، وأنها في وجهة نظر الجندريين لا تعدو أن تكون أدواراً ووظائف مكتسبة ومتغيرة.
وبناءً على هذا المفهوم يطالب الجندريون بإعادة النظر فيما يلي: -
أ مفهوم الرجال والنساء.
ب- مفهوم الأمهات والآباء.
ج- مفهوم الأبناء والبنات.
و يدعون إلى قلب هذه المفاهيم بناءً على نظرية (النوع الاجتماعي) المتغير والمكتسب، وأن هذه المفاهيم لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة، فيمكن للذكر أن يكون امرأة وللأنثى أن تكون رجلاً والأب أن يكون أماً والأم أن تكون أباً، وهكذا في الأبناء والبنات.
ونتيجة لتغيير هذه المفاهيم تبعاً لتبادل الأدوار فسيكون من ثمارها ما يلي: -
إلغاء مبدأ قوامة الرجال على النساء.
إلغاء الأحكام الخاصة بالنساء، كأحكام الحجاب والخلوة والاستئذان والسفر والأمومة والحضانة ونحوها.
القضاء على تاج النساء -وهو حياؤهن- وخاصة الفتيات من خلال دعوتهن إلى تبادل الأدوار والوظائف فيما بين الرجال والنساء مهما كانت تلك الوظائف والأدوار.
الهدف الثاني: - تحطيم الأساس الذي يقوم عليه البناء الاجتماعي في المجتمعات المسلمة وتنفيذ مخططات الأعداء في تمزيق الأسرة المسلمة.
وذلك من خلال إلغاء دور الوالدين القيادي والتوجيهي في تنشئة الأسرة، وهذا يؤدي إلى الانحطاط الأخلاقي والسلوكي عند الأبناء، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية الدعوة الصريحة والواضحة إلى ضرورة تبادل الأدوار داخل الأسرة بين المرأة والرجل في الوظيفة والدور الذي وضع لهما شرعاً، والدعوة إلى إعادة تقسيم العمل بينهما بناءً على هذه النظرية.
الهدف الثالث: الدعوة إلى إلغاء قواعد اللغة والثوابت المتعلقة بتمييز النوع والجنس، وإحلال (اصطلاحات مهجنة) بديل عنها، ومن ثم إيجاد فاصل بين ثوابت اللغة ومدلولاتها الشرعية والتاريخية وبين أهل اللغة واللسان العربي في فهم مدلولات النصوص الشرعية والتاريخية، وهي دعوى لم نجدها في أي مجتمع من المجتمعات البشرية.
الهدف الرابع: - الدعوة إلى عدم الارتباط بما خلفه لنا المتقدمون وما ورثناه من تاريخ الأمة من قيم وتقاليد أصيلة، وفهم للنصوص المقدسة، حيث يطالب الجندريون ويدعون إلى الاجتهاد المطلق وفتحه لكل الناس دون ضوابط ولا شروط، بدعوى التطور والتغيير، وكذلك الدعوة إلى فهم عصري جديد لنصوص القرآن والسنة، مخالف تماماً لفهم سلف الأمة وعلمائها؛وإطلاق القول (بأن كل شي قابل للتطور والتجديد) وهذا معناه نسف كثير من الثوابت الشرعية في المجتمع.
الهدف الخامس: - الدعوة إلى مسخ شخصية المرأة ومسخ شخصية الرجل مسخاً كلياً من خلال الدعوة إلى إزالة الفوارق بين الرجال والنساء والدعوة إلى الشذوذ.
بحيث يمكن للمرأة أن تكتسب كل صفات ومميزات ووظائف وأدوار الرجولة الاجتماعية، وتكون بذلك رجلاً دون أن تكون قطُّ ذكراً. والعكس بالعكس صحيح تماماً، ودون أي انتقاص لوجود وإنسانية أي منهما إذا قام بعمل ووظيفة الآخر اجتماعياً. وبمعنى آخر: يمكن للرجل أن يكتسب كل صفات ومميزات ووظائف وأدوار المرأة الاجتماعية، ويكون بذلك أمرأة دون أن يكون قطّ أنثى، ودون انتقاص لوجوده وإنسانيته.
فأي استخفاف بالعقول أشد من هذا، وأي شذوذ أبشع من هذا الذي يطالب به الجندريون.
موقف الإسلام من الجندر:
من خلال ما سبق يتضح لنا أن دعاة الجندر يدعون إلى:
دعوة المرأة إلى الترجل، ودعوة الرجل إلى التخنث!!
وهذا محرم، ومن الكبائر وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يفعله:
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء)([7])
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل)([8]).
و روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال"([9]).
فالجندريون يريدون أن يحوّلوا المجتمع إلى مجتمع تحل عليه لعنة الله - تعالى -، وكل مسلم لا يمكن أن يرضى هذا لنفسه ذكراً كان أو أنثى.
2 الدعوة إلى تسوية المرأة مطلقاً بالرجل!! :
وهذا يعني إلغاء الأحكام الثابتة شرعاً و الخاصة بالنساء؛كأحكام الحجاب والاستئذان والخلوة والسفر بمحرم وعدم الاختلاط بالرجال والشهادة والميراث ونحوها... وهذا لاشك من أبطل الباطل(4/221)
3- الدعوة إلى تحرر المرأة من سلطان الشرع وقوامة الرجل عليها:
بحيث تفعل ما يحلو لها وليس لأحد سلطان عليها، وهذا يتصادم مع قول الله - تعالى -: (الرجال قوامون على النساء) [النساء: 34].
وبالنظر في أهداف الجندرة المذكورة آنفاً يتضح لنا حكم الشرع فيها وأنها دعوة باطلة مشبوهة، تناقض أحكام الإسلام، وتدعو إلى الإباحية ونشر الفاحشة في المجتمع المسلم، وتدمير الأسرة، وإفساد المرأة والرجل على حد سواء، وبناءً على هذا فلا يجوز الانتساب إليها ولا ترويجها في المجتمع، ودعوة المتأثرين بها والمدافعين عنها إلى التوبة والإنابة والرجوع إلى الله قبل أن يحل بهم عذاب الله - سبحانه - الأليم الذي وعد به من أحب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين كما في قوله: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين أمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)}النور: 19.
نموذج لدعاة الجندر في اليمن (عرض ونقد):
النوع الاجتماعي في اليمن مفاهيمه وتحليلاته واتجاهاته، للدكتور / حمود العودي([10]).
حاول الباحث عبثاً أن يفرق بين المتماثلات ويجمع بين المختلفات من خلال نظريته المزعومة في هذا البحث والمسماة بالنوع الاجتماعي الذي من أخص صفاته أنه مكتسب ومتغير وحشد لها أدلة مثل خيوط العنكبوت.
- ففي ص (7) يقول الباحث: " فمفهوم الذكر والأنثى مفهوم بيولوجي خلقي بحت لا علاقة له بالمفاهيم الاجتماعية المكتسبة، كمفهوم رجل وامرأة وشاب وشابة... " الخ.
وبناء على هذه القاعدة بنى أفكاره وأطروحاته، فجعل النوع البيولوجي هو الثابت وحصره بالذكورة والأنوثة وهي تعنى الجنس والحمل والولادة فقط، أما غيرها من الصفات والأدوار والوظائف لدى الذكر والأنثى فقد سماها " النوع الاجتماعي " وجعله متغيراً ومكتسباً يمكن تبادله بين الذكور والإناث بكل سهولة.
- وفي ص (29) يقول: " قد تكون أسرة ما في وسط اجتماعي محافظ أكثر مرونة وانفتاحاً كأن تقبل خروج بناتها بدون حجاب....، لكن الوسط الاجتماعي الثقافي يحول دون ذلك.....، وقد يكون هناك نظم وتشريعات عامة متطورة ومنفتحة......، غير أن منظومة الثقافة العامة في المجتمع على خلاف ذلك فهي أكثر محافظة ورجعية ". وهكذا بهذه العقلية يتهجم على التشريعات الإسلامية ويصفها بالرجعية، ويطالب بإلغاء دور الثقافة العامة للمجتمع التي هي في الحقيقة الثقافة الدينية.
- وفي ص (24) يعد البدهيات من التصرفات البشرية الصحيحة خاطئة، ويستغرب من التفريق بين الذكر والأنثى في الملابس وفي الاسم، وعدم حضور البنت مجالس الناس وعدم السماح لها بإبراز الأعضاء التناسلية لها مثل الولد، وحجم الملابس، ونحو ذلك مما سطره ص (21 22) ويعتبر ذلك خطأ وتمييزاً بين الذكر والأنثى.
ولازم قوله هذا الدعوة إلى مساواة الذكر بالأنثى في كل ما ذكر أعلاه وهذا لا يقوله عاقل.
وهذه الأطروحات والمفاهيم تعد من باب قلب الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية والفطرية، ولم يستند الباحث في إثبات نظريته هذه إلى أدلة علمية بحتة بل سطرها وانصرف عن إثباتها بالأدلة العلمية إلى البناء عليها قصوراً من المفاهيم المغلوطة، فكان حاله كمن أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به.
بيان عوار هذه النظرية وفساد الاستدلال الذي استدل به الباحث: -
أولاً: دعوى الباحث عدم العلاقة بين (النوع البيولوجي) و(النوع الاجتماعي)، دعوى باطلة، وأكثر بطلان منها دعواه بأن القرآن ميز بين النوعين البيولوجي فأورده بمصطلح الذكر والأنثى ولم يرد بغيره فيه، وبين النوع الاجتماعي بمصطلح الرجل والمرأة ولم يرد بخلافه ([11])فليس صحيحاً أن (النوع البيولوجي) لا علاقة له (بالنوع الاجتماعي)، وليس صحيحاً أن مفهوم الذكر والأنثى لا علاقة له بمفهوم الرجل والمرأة، بل الصحيح علمياً أن النوع الاجتماعي ينقسم إلى قسمين : -
القسم الأول: - يحتوي على الصفات والأدوار والوظائف المتعلقة تعلقاً كلياً بالنوع البيولوجي وهي أثر من آثاره، والفصل بينهما من باب الفصل بين السبب والمُسبب، أو من باب الفصل بين العلة والحكم، فلا تسمى المرأة امرأة إلا إذا كانت أنثى واضحة الأنوثة، ولا يسمى الرجل رجلاً إلا إذا كان ذكراً واضح الذكورة، وعند اختلاط صفات الذكورة بالأنوثة فهناك مصطلح ثالث وهو " الخنثى " وقد يكون اختلاط الصفات متداخلاً كثيراً فيسمى "الخنثى المشكل"، وكل من المصطلحات الثلاثة المذكورة سابقاً لكل نوع منها أحكامه الخاصة به في الشرع والفطرة والعرف. وهذا القسم له تعلق كبير جداً بالنوع البيولوجي ودعوى عدم العلاقة بينهما التي حاول أن يثبتها الباحث خطأ علمي وقع فيه بسبب عدم تفريقه بين أقسام النوع الاجتماعي، أو مغالطة يروج لها بالتلبيس والتدليس.
القسم الثاني : - صفات وأدوار ووظائف لا علاقة لها بالنوع البيولوجي، وليست أثراً من آثاره، وهي الصفات والأدوار المشتركة بين الذكر والأنثى والمتعلقة بالحقوق التعبدية التي لا تختلف أحكامها من ذكر إلى أنثى، قال الله(4/222)
- تعالى -: (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) أي في العمل الصالح والعبادات من حيث الجملة، إلا أن الله - سبحانه - اختص المرأة ببعض الأحكام الشرعية تبعاً لخلقتها وفطرتها والظروف التي تعتريها كالحيض والنفاس وما يتعلق بها.
ثانياً: اجتهاد الباحث في المجالات العلمية الشرعية اجتهادات باطلة وقع فيها بسبب جهله بهذه الفنون "ومن تحدث في غير فنه أتى بالعجائب"، وإليك بيانها: -
اجتهاده في مجال اللغة:
يقترح الباحث مجموعة من المصطلحات اللغوية الجديدة؛ليلغي بها المصطلحات اللغوية الأصيلة التي أقرها الشرع وخاطب بها الخلق في تشريعاته، فيقترح استبدال مصطلح (أب أم) بمصطلح (أبم)، ومصطلح (الرجل والمرأة) بـ (رام) والبنت والولد بـ ( بلد) إلى آخر هذيانه كما في ص (16)، على أن كلمة (ولد) تشمل في المصطلح اللغوي الشرعي الابن والبنت، كما قال - تعالى -: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حض الأنثيين ) لكن بسبب جهل الباحث في اللغة قال ما قال.
ولا أدري ما الفائدة من تغيير تلك المصطلحات اللغوية والشرعية المستقرة في أذهان الناس إلى هذه المصطلحات الملفقة التي هي محض هراء وجهل بلغة العرب وألفاظها ومدلولاتها.
لكن هذا التغيير يصب في تحقيق الهدف الأول الذي أشرنا إليه سابقاً وهو الدعوة إلى ثورة على المصطلحات والثوابت الشرعية في المجتمع المسلم.
ب - وفي مجال الفقه: -
يجتهد الباحث في مجموعة من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية ويدعو إلى تغييرها، من ذلك: -
إلغاء مدلول قوله - تعالى -: (فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)، حيث يطالب في نهاية اجتهاده في تفسيرها بإلغاء هذا المدلول أو تسوية ضعف النساء بضعف الرجال، ويطالب بالتسوية بينهما في الشهادة بمعنى إلغاء مدلول النص أو مساواة الرجل بالمرأة في ضرورة أن يكون رجل في مقابل امرأة أو رجلان في مقابل امرأتين.
يطالب الباحث بضرورة تبادل الأدوار بين الرجل والمرأة فيما سماه بالنوع الاجتماعي المتغير والمكتسب ويعنى تبادل الأدوار والوظائف بين الرجال والنساء، أي أن الرجل يمكنه أن يقوم بدور المرأة وأن المرأة يمكنها أن تقوم بدور الرجل دون النظر في نوع تلك الأدوار والوظائف هل هي خاصة بالمرأة أو بالرجل وهذا لا يهمه بناءً على نظريته السابقة. وهذا يعنى عدم ثبات الأحكام الشرعية الخاصة بالنساء، كأحكام الحجاب والاستئذان والخلوة والسفر بمحرم، وعدم الاختلاط بالرجال ونحوها، وأنها متغيرة ومكتسبة يصح إلغاؤها أو تبادلها مع الرجال.
2- دعا الباحث صراحة إلى إلغاء أو تعديل مفهوم القوامة الشرعية كما سيأتي بيانه في اجتهاده في التفسير.
3- يطالب في اجتهاده الفقهي بأن تخرج الفتاة لتبحث لها عن زوج دون أدنى حياء قياساً على الشاب الذي يبحث له عن زوجة، كما صرح بذلك في ص (39). بل يقرر الباحث أن الحق المفترض في مسائل الخطبة والبحث عن الزوج تكون بالنسب التالية: - 70 % من حق البنت في البحث لها عن زوج، 30% من حق أسرة البنت في البحث عن زوج لابنتهم، ولا أدري على أي دليل شرعي بنا ذلك.
ج - في مجال التفسير: -
1- يختار الباحث ما يوافقه من الآيات ويدع الأخرى، وهذه خيانة علمية في البحوث، ولم يكتفِ بهذه السوءة بل أضاف إليها أخرى، حيث يفسر تلك الآيات كما يحلو له دون أن يرجع فيها إلى أقوال المختصين من المفسرين.
حيث يقرر في بحثه هذه القاعدة فيقول ص (8): ( فكل الآيات القرآنية الكريمة التي ورد فيها ذكر الأنثى والذكر قد اقترنت دلالاتها وأحكامها بالأدوار والوظائف البيولوجية للنوع البيولوجي... )، و كذب والله في هذه الدعوى، فقد ذكر (الذكر) (12 مرة) في القرآن، وذكرت الأنثى (18 مرة)، و الأنثيين (6 مرات ) والإناث (6 مرات). وليست كلها مقترنة بالنوع البيولوجي. بل منها ما هو مقترن بالنوع الاجتماعي، كما في آية سورة آل عمران (لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى)، وكما في آية سورة النساء (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن)، وكما في آية غافر (ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن )، وكما في قوله، في سورة آل عمران (وليس الذكر كالأنثى)، فهذه كلها كما رأيت متعلقة بالنوع الاجتماعي ولا علاقة لها بالنوع البيولوجي.
وقد استدل المؤلف بآيتين فقط : الأولى ذكر فيها لفظ الذكر والأنثى وهي آية الحجرات (خلقناكم من ذكر وأنثى) ليستدل بها على النوع البيولوجي، والثانية ذكر فيها لفظ المرأة وهي آية النمل (إني وجدت امرأة تملكهم) واستدل بها على النوع الاجتماعي ثم استنبط وقرر على ضوئهما القاعدة التي ذكرت أعلاه، فأين ذهبت الأمانة العلمية أثناء إعداد البحث ؟ ولكنه الهوى والجهل الذي يفعل في صاحبه فعله.(4/223)
مع أن لفظ (امرأة) وما يضاف إليها ذكر في القرآن (24 مرة)، وليست كلها في النوع الاجتماعي كما يدعى الباحث بل بعضها في النوع البيولوجي الذي يتعلق بالحمل والتناكح والتناسل مثل لفظ (امرأة عمران - امرأة نوح امرأة لوط - امرأة فرعون - امرأة العزيز) وكذا لفظ (امرأتي امرأته امرأتك) وكلها أضيفت إلى الزوج ولها تعلق بالنوع البيولوجي الذي هو التناكح والتناسل، ولم يقل (أنثى عمران أو أنثى نوح أو أنثاك)... الخ
بل قوله - تعالى - على لسان زكريا (وامرأتي عاقر) متعلق بالنوع البيولوجي الذي هو متعلق بالحمل والولادة.
وقول الله - تعالى -: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً) يتعلق بالنكاح الذي هو من النوع البيولوجي، والأدلة على بطلان ما قرره الباحث في قاعدته في القرآن الكريم كثيرة لو تتبعناها لطال بنا المقام.
2- يفسر الباحث آية القوامة على ما يحلو له دون استناد إلى دليل؛ حيث يقول: ص (51) عند قوله - تعالى -: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض) فيقول: "إن علة التفضيل في حكم القوامة في الآية الكريمة محمول على الرزق، وامتلاك الرجال للثروة أكثر من النساء، ووجوب إنفاق من يملك الثروة و الرزق على من لم يملكها بنفس القدر، وحمل مبدأ القوامة كوظيفة ودور اجتماعي للرجل بالنسبة للمرأة كزوجة".
وهذا يعني أن مفهوم القوامة مفهوم متغير وليس ثابتاً بحيث يمكن تبادله بين الرجل والمرأة فحينما تكون المرأة غنية والرجل فقيراً فالقوامة لها، أومتعلمة والرجل أمي فالقوامة لها، أوذكية والرجل غبي فالقوامة لها، وهكذا... وهذا يعنى إلغاء مدلول النص القرآني الثابت في أن القوامة للرجل بناءً على هذا التفسير الذي حصر سبب القوامة في الرزق وامتلاك الثروة فقط مع أن الآية تنص أن هناك سبباً آخر للقوامة، هو ما فضل الله به الرجال على النساء من صفات وخصائص بيولوجية، ولو رجع الباحث إلى أقوال المختصين من العلماء والمفسرين لما وقع في هذا المزلق.
د وفي مجال الحديث: -
يخبط الباحث خبط عشواء حينما يستدل بالحديث الشريف، حيث يستدل على فكرته بأحاديث مكذوبة لا زمام لها ولا خطام حينما تكون في صالحه، وحينما تقابله أحاديث صحيحة تخالف فكرته يشكك في صحتها ثم يؤولها ويفسرها على ما يحلو له، كما فعل في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري (لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة).
استدل الباحث بحديث: (خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء) وهو حديث مكذوب لكنه يؤيد فكرته، ويقول كذباً: وقد ثبت عن عمر أنه ولى منصب الحسبة لامرأة، ولم يبين أين ثبت وما مصدره في ذلك ولكنه كحاطب ليل، نعم أورد ابن حجر في ترجمة الشفاء بنت عبد الله([12]) أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما ولَّاها بعض أمر السوق، لكنه أورد ذلك بدون سند، بل قال ابن العربي عن هذه الرواية ما نصه: " وقد روي أن عمر قدم امرأة على حسبة السوق ولم يصح فلا تلتفوا إليه فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث "([13]).
3- ولم يكتف بهذه التجنيات على العلم الشرعي بسبب جهله، بل يذهب ليقدح ويسب ويشتم أهل العلم ويصفهم بالأوصاف النابية كما في ص (51) وليت شعري من هو الأحق بهذه الأوصاف ومن هو أعمى البصر والبصيرة أهو أم أولئك الكرام؟!.
هذه أهم الجوانب الخطيرة في هذا البحث، وغيرها مماهو دونها كثير، اقتصرت على الإشارة إليها إجمالاً لوضوح مخالفتها لقواعد الإسلام وآدابه وقيمه، بل ومخالفتها للفطر السوية والعقول السليمة وما جرت عليه البشرية منذ آدم - عليه الصلاة والسلام -.
مهلاً يا دعاة الجندر: ليس للمرأة قضية:
ونقول بعد ذلك كله([14]): إذا كانت لقضايا المرأة المطروحة ما يفسر أسباب إثارتها في المجتمعات الغربية، نقول يفسرها ولا يبررها، فإننا لا نجد تبريراً بل ولا تفسيراً لطرح هذه القضايا وإثارتها في مجتمعنا، حيث تسود قيم الإسلام الضابطة لوضع المرأة في المجتمع.
لذلك يأتي تحذيرنا لكل الغيورين في مجتمعنا من مثل هذه الدعوات، التي تريد إخراج المرأة من بيتها وعن مهمتها ورسالتها وطبيعتها، وإذا حصل ذلك لا سمح الله فلا تسأل عن هلكة المجتمع.
إن وضع المرأة في مجتمعنا لا يمكن أن تحلم به تلك المرأة الغربية، سواء كانت بنتاً أو زوجة أو أماً.
وبنظرة موضوعية لوضع المرأة في الغرب، وهي بنت تتقاذفها أيدي الذئاب البشرية، أو زوجة كادحة لا تأوي إلى بيتها إلا كالة مرهقة لتشارك الرجل، حتى في دفع أقساط السيارة والبيت، وإلا فلا قيمة لها.
وأماً يقذفها أولادها بالنهاية في إحدى دور الرعاية الاجتماعية.
نقول بنظرة منصفة إلى حال المرأة المسلمة في مجتمعنا وهي بنت مصونة يحافظ عليها الرجل كجزء من حياته.
أو هي كزوجة مكفولة بواسطة الرجل حتى ولو ملكت ما ملكت من المال، بل يظهر البون الشاسع وهي أم أو جدة تتحول إلى ملكة في كيان أولادها وأحفادها.
إن المرأة في الغرب مظلومة ومبتذلة حقاً، إنها تستحق أن يرفع لها قضية ترافع بها الرجل الذي يبتزها، وذلك من أجل إنصافها.(4/224)
إن قضية المرأة المسلمة ليست هي قضية (المرأة الأوربية!) (فالمرأة الأوربية) قد صارت لها قضية لأنه ليس لمجتمعها منهج رباني يسير عليه، إنما يشرع فيه البشر لأنفسهم، فيظلمون أنفسهم ويظلمون غيرهم، وقد وقع الظلم هناك من تشريع أو عرف وضعه البشر، ثم اختاروا أو اختار لهم الشياطين في الحقيقة حلَّا ساروا فيه حتى أوصلهم في النهاية إلى الخبال، من تفكك الأسرة، وتحلل المجتمع، وشقاء الرجل والمرأة كليهما، وتشرد الأطفال، وجنوح الأحداث، وانتشار الشذوذ، والأمراض النفسية والعصبية والقلق والجنون والانتحار والخمر والمخدرات والجريمة.
أما المرأة المسلمة فقضيتها أن الظلم قد وقع عليها من مخالفة المنهج الرباني، الذي التزمت به مجتمعاتها عقيدة على قصور كبير في جوانبها- ولم تلتزم به عملاً، و رجعت في هذه القضية بالذات إلى أعراف الجاهلية الفاسدة.
وقد يكون الظلم واحداً أو متشابهاً، ولكن العلاج يختلف لاختلاف الأسباب.
فعلاج القضية بالنسبة للمرأة المسلمة هو الرجوع إلى المنهج الرباني الصحيح، والالتزام به عقيدة وعملاً، وليس علاجه هو اتباع الخطوات التي سارت فيها القضية في الغرب، فخرجت من تخبط إلى تخبط ولا تزال.
وحقيقة إن المنهج الرباني هو العلاج لكل مشكلات البشرية، ولو آمنت به أوربا ونفَّذته لحلّت كل مشكلاتها، ولكن الذين ينفذونه بالفعل، أو المفروض أن ينفذوه هم الذين التزموا به فعلاً أي المسلمون فإذا حادوا عنه فإن مهمة [المصلحين] هي تذكيرهم به، ودعوتهم إلى العودة إليه ليطبقوه في عالم الواقع، فتنحل مشكلاتهم ويصلح حالهم.
أما اتباع أوربا، وسير المرأة المسلمة في الخطوات التي سارت فيها (المرأة الأوربية)؛فلن يحل مشكلتها، كما لم يحل مشكلة (المرأة الأوربية) وسيصل بها وبمجتمعها وقد وصل بالفعل إلى المصير البائس ذاته الذي وصل إليه مجتمع (المرأة الأوربية) من قبل([15]).
وأخيراً تلك إطلالة سريعة على النوع الاجتماعي (الجندر)، تلك الدعوة الخبيثة التي يروج لها اليوم في بلاد المسلمين، أرجومن الغيورين على دين الله والباحثين التواصل معي بأفكارهم وأطروحاتهم حول هذا الموضوع.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------
[1] - النوع الاجتماعي في اليمن ص 4 د. حمود العودي، مركز الدراسات السكانية جامعة صنعاء.
[2] - مدخل إلى تصحيح وضع المرأة في منهج التعليم العام، مقارنة جندرية عزة بضون مجلة أبواب العدد 19ص128
[3] - الصور النمطية والجندر في كتب القراء والتربية الاجتماعية والوطنية في مرحلة التعليم الأساسي في اليمن ص6، عبده مطلس نشر مركز البحوث التطبيقية والدراسات النسوية جامعة صنعاء 1999 م.
[4] - سابقاً - لم تتخلى عن هدفها وأنها سارعت إلى إنشاء مركز للدراسات النسوية في هولندا مع مجموعة من النساء العربيات.
[5] - النوع الاجتماعي في اليمن 6 حمود العودي.
[6] - المصدر السابق 7، 8. يتقدمهم حمود العودي استاذ علم الاجتماع جامعة صنعاء.
[7] - نشرت صحيفة المرأة اليمنية في عددها 46 مايو 2000م ص 38 أن رؤوفة حسن مديرة مركز الدراسات النسوية.
[8] - سابقاً لم تتخلى عن هدفها وأنها سارعت إلى إنشاء مركز للدراسات النسوية في هولندا مع مجموعة من النساء العربيات.
[9]- النوع الاجتماعي في اليمن 6- حمود العودي.
[10] - المصدر السابق 8. 7 يتقدمهم حمود العودي أستاذ علم الاجتماع جامعة صنعاء.
[11] - انظر ص (44).
[12] - الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ج 8، ص 202، تحقيق علي معوض وآخرين ط/ دار الكتب العلمية بيروت 1415هـ.
[13] - أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ج3، ص 1457، تحقيق علي البجاوي، ط / دار المعرفة بيروت 1408هـ.
[14] - انظر: قضية تحرير المرأة ك محد قطب ص: 4 و45.
[15] - قضية تحرير المرأة محمد قطب ص 45.
http://www.aljazee r aonline.net المصدر:
============(4/225)
(4/226)
بروتوكولات حكماء واشنطن
د. طارق سيف الكاتب
يظن البعض خطأ أن المواقف المتطرفة التي تتخذها الإدارة الأميركية الحالية مؤقتة، وأن سلوكها المخالف للمجتمع الدولي، وتصرفاتها التي تناقض كل التوقعات، وتعكس ميول التصرف الانفرادي واللامبالاة، هي أشياء ستزول بزوال إدارة بوش الصغير غير مأسوف عليها. ولكن من دون تشاؤم أو تفاؤل أود أن أؤكد على أن هذا السلوك له بعده التاريخي وتأثيره المعاصر ومن ثم ستكون له تداعيات في المستقبل. وحتى نفهم صحة هذه النتيجة يجب أن نتعرف على "بروتوكولات حكماء واشنطن".
في البداية أود أن أوضح أن الهدف الاستراتيجي أو الغاية العليا من تنفيذ هذه البروتوكولات هو "إقامة حكومة أميركية عالمية للكون"، من خلال طرح خطة استراتيجية متوسطة المدى تضمن تشكيل العالم الذي تريده واشنطن وليس العالم الذي قد يتغير بمرور الزمن ويقبل بحكمها، وذلك حتى تستطيع السيطرة من خلاله على ثروات الكرة الأرضية الطبيعية والصناعية، وتفرض إرادتها على من تشاء وقتما تشاء، أي إن البروتوكولات برنامج عمل إيجابي متكامل ينطلق من مبادئ أحادية التوجه وأسس أيديولوجية خاصة بحكماء واشنطن، ولا يهم بعد ذلك قيام إمبراطورية أميركية أو غيره.
كانت البداية مع خروج الولايات المتحدة الأميركية منتصرة في حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وشعورها العميق بأنها حققت هذا النصر منفردة ومن دون حاجة إلى حلفاء أو أصدقاء، وسرعان ما اختطف أصحاب البروتوكولات من الصقور مواقع القرار في الإدارات الأميركية المتعاقبة تحت زعم قدرتهم على صنع العالم الذي تنشده واشنطن، والذي سيحافظ على النصر الأميركي المنفرد بعد حقبة الحرب الباردة، ويقضي على أي قوى تفكر في منافسة الهيمنة الأميركية وسطوتها، لذلك فرضوا برنامجهم على العالم. وفور تولي بوش الصغير مسؤولية الحكم في البيت الأبيض أضحت هذه البروتوكولات سياسة واقعية معلنة للإدارة الأميركية في كل مناحي الحياة على كوكب الأرض.
كانت البداية الحقيقية لتنفيذ البروتوكولات تكمن في صياغة البروتوكول الأول الذي ركز على صناعة التهديدات العالمية وأمركتها، حيث كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 والمبالغة في تصوير التطرف والإرهاب ومدى تهديدهما للأمن الأميركي المباشر السبب الرئيس في طرح الإرهاب الدولي ودول محور الشر كتهديدات عالمية تملك أميركا وحدها قدرات مواجهتها وعلى العالم أن يحدد موقفه، إما أن يكون مع أميركا أو ضدها. لذلك جاء البروتوكول الثاني لحكماء واشنطن في أمركة معادلة الأمن العالمي، وتطلب ذلك إلغاءها للحدود الوطنية والتحول من احترام سيادة الدول إلى حق التدخل والغزو في أي وقت لاعتبارات تراها واشنطن وحدها، وحظر امتلاك الأعداء لأسلحة دمار شامل مع غض الطرف عن امتلاك الأصدقاء لمثل هذه الأسلحة.
وترتب على البروتوكول الثاني صدور الثالث، وهو أمركة القوة العسكرية العالمية من خلال تبني استراتيجية الضربة الاستباقية التي تتيح استخدام الآلة العسكرية وأجهزة الاستخبارات الأميركية ضد أي تحد أو تهديد تراه واشنطن، ومن ثم تصبح الإدارة الأميركية القاضي والجلاد في آن واحد، بينما يُسمح لها بالقضاء على جميع الخصوم وتنصيب حكومتها العالمية، وما تراه من حكم لا يقبل النقض أو الاستئناف أو الطعن وعلى المتضرر أن يغادر كوكب الأرض. وقد تمت ترجمة التفوق العسكري التقني الأميركي في ميدان المعركة إلى هالة لا تقهر، لذلك فليست هناك حاجة سياسية واقتصادية للالتفات إلى وجهات نظر أخرى وأخذها بعين الاعتبار.
أما البروتوكول الرابع فهو يهدف إلى أمركة السياسة الدولية، من خلال فرض السيطرة الأميركية الكاملة على المنظمة الدولية وأجهزتها ومؤسساتها، وإذا لم يتحقق ذلك يتم تهميشها أو حتى إلغاؤها، لأن حكماء واشنطن يعتبرون أن السياسة الواقعية الجماعية قد فشلت في دفع العالم إلى قبول أفكار وقيم النظام السياسي الأميركي. وبالتالي يجب أن يفهم العالم اليوم أنه لا توجد مساواة في العلاقات بين الدول، ولا يوجد ما يسمى بالشراكة الاستراتيجية والمنفعة المتبادلة بين الدول. فمصلحة واشنطن فوق الجميع، كما يجب التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية وفق وجهة النظر الأميركية ووفق إرادتها الكونية الحرة، ولا يهم أميركا استقطاب الآخرين إلى صفها طالما تستطيع أن تفرض عليهم ما تريد ولا يهمها نزعات العداء الشعبي العام، لأنه في النهاية سينظر الجميع من المنظور الأميركي ومن ثم سيتفهمون مواقفها وسلوكها، وفي الوقت نفسه لا تهم شرعية السياسة الأميركية في عيون الآخرين، لأن موضوع الشرعية سيصبح نسبياً عندما تتولى الحكومة الأميركية مهامها العالمية.(4/227)
وحتى يتحقق البروتوكول الرابع يجب تنفيذ البروتوكول الخامس الذي يهدف إلى إجراء تغييرات جذرية في السياسة الداخلية لكل دول العالم، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، لأنها بؤرة التهديد العالمي ووكر التطرف الإسلامي وكهف الجهل المدقع. لذلك يترتب على دول الشرق الأوسط القبول طواعية أو قهراً بصيحات الإصلاح التي تطلقها الإدارة الأميركية من دون مناقشة لتطبيق الديمقراطية الأميركية، حتى يمكن لشعوب هذه الدول فهم التوجهات الأميركية العالمية والانصياع لإرادة حكومتها، والوقوف على أسباب تفوق الجنس الأميركي على باقي البشر، وإلا فإن البديل هو تغيير الأنظمة الحاكمة بالقوة العسكرية. وإذا أدى ذلك إلى حرب أهلية داخل الدول فيمكن الاستيلاء على مصادر ثروتها ودعم أطراف القتال لإذكائه حتى يقضي الجميع على الجميع، ثم تدخل واشنطن لتعيد بناء هذه الدولة وفق ما ترغب عندما يتوافر الوقت. ولذلك فإن دعم الإدارة الأميركية واتصالاتها بالمعارضة السعودية والإيرانية والسورية إنما هي أداة تهديد وضغط لإفساح الطريق لتغيير الأنظمة في هذه الدول عند الحاجة. وإذا كانت أميركا قد تبنت سياسة الأنظمة الحاكمة المستبدة في العالم وتتخلص من معارضيها من الليبراليين ودعاة التحرر من الاستعمار، فلا حاجة بها لأن يفهم الآخرون سياستها، لأن نظرتهم قاصرة ولا تزال تعيش في عصور ما قبل البروتوكولات.
أما البروتوكول السادس فيتعامل مع مصادر الثروة على كوكب الأرض، والتي تراقبها الأقمار الاصطناعية الأميركية على مدار الساعة، حيث يرى حكماء واشنطن ضرورة فرض السيطرة الأميركية المباشرة على مصادر الطاقة في العالم، وعلى جميع دول العالم أن تفتح حقول نفطها وغازها أمام الحكومة الأميركية العالمية تغرف منها وقتما تشاء بالسعر الذي تراه. كما يرى الحكماء أيضاً ضرورة الحفاظ على التقدم التكنولوجي غير المسبوق لأميركا، والعمل على نقل جميع العلماء والمبدعين من دول العالم إلى الولايات المتحدة حفاظاً على الثروة العلمية البشرية وضماناً لعدم تسربها إلى أيدي الأعداء، ومنع تداول التكنولوجيا المتقدمة من دون تصريح أميركي موقّع عليه من حكماء واشنطن المعنيين بالأمر.
ويتعرض البروتوكول السابع إلى أمركة العقول والثقافات من خلال الاعتماد على وسائل الإعلام العالمية والمحلية، وباستخدام الأكاذيب والفضائح والشائعات، حيث يجب اعتماد العالم على شبكات الأخبار الأميركية والإنترنت في استقاء الأخبار ومشاهدة البرامج التي تعبر عن وجهة النظر الأحادية الأميركية، وعلى جميع وسائل الإعلام الأخرى أن تلتزم بالدفاع عن المواقف الأميركية وتعمل ليلاً ونهاراً على نشر الثقافة والقيم الأميركية، وإلا ستكون مخالفة ويلزم إغلاقها، وإذا كان من المقبول مرحلياً استمرار الوضع الراهن الذي يسمح بوجود وسائل الإعلام الأميركية مثل "سوا" وأخواتها من "حرة" و"هاي" جنباً إلى جنب مع القنوات الفضائية المعادية لأميركا مثل "الجزيرة" و"أبوظبي"، فإن هذا لن يستمر طويلاً، لأنه سيتم القضاء عليها بضربة إعلامية استباقية مفاجئة ما لم تعدل مواقفها وتساند الحكومة الأميركية العالمية.
أما البروتوكولات من الثامن إلى العاشر فتتعرض للرؤية الأميركية للعالم تحت حكم واشنطن، حيث الجميع يخضع لحكومتها العالمية، وقد اختفت الحدود بين الدول، وأعلنت الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط الكبير الاستسلام للحكومة العالمية، وانتشرت القيم الأميركية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وانتهت التهديدات الكبرى من إرهاب وتطرف، وبدأ نوع جديد من التهديدات يتمثل في تلوث كوكب الأرض، لذلك تقرر واشنطن نقل مكان الحكم إلى أحد الكواكب الأخرى حتى تضمن الحفاظ على صحة أعضاء الحكومة العالمية واستمرار ممارستهم لمهامهم. وتم حل الصراعات الإقليمية وفق الإرادة السامية لحكماء واشنطن، حيث تم حل الصراع العربي-الإسرائيلي بعد إبادة الجنس الفلسطيني، وأصبح العراق مقسماً إلى ثلاث دويلات، وجرى إنشاء خط أنابيب عالمي لسحب الغاز والنفط من مصادرهما ليتم تخزينهما في مكان حددته الحكومة العالمية لتنفق منه وفق إرادتها.
وبروتوكولات حكماء واشنطن لا تؤمن بوجود ما يسمى صراع الحضارات وصراع الأديان، لأن التبشير "المسيحي الصهيوني" سيعالج كل أسباب الصراع إن آجلاً أو عاجلاً وسيؤمن الجميع بمبادئ هذا التبشير فيتم القضاء على التطرف في كل الأديان الأخرى، ويبقى فقط التطرف اليميني المسيحي.
الدلائل كثيرة على وجود بروتوكولات حكماء واشنطن، وما نراه حالياً من تصرفات غريبة وغير مفهومة للإدارة الأميركية إنما هي إرهاصات لفرض البروتوكولات سيتم إدراك مغزاها في مراحل لاحقة، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.
20/06/2004
http://www.ala7 r ar.net المصدر:
===========(4/228)
(4/229)
الأب لويس شيخو اليسوعي يحرف شعر أبي العتاهية
الدكتور شكري فيصل
كان بين أيدينا نصوص أبي العتاهية كما طبعت في بيروت في المطبعة اليسوعية، وكانت الطبعة الأولى منها سنة 1886م.. ثم تكررت بعد ذلك مرات، أغلب الظن أنها أربع، من غير كبير اختلاف.. ولكنها لم تكن تحمل مقدمة يطمئن القارئ إلى كل مصادرها التي صدرت عنها وإلى كل مواردها التي أخذت منها وإلى تحديد هذه المصادر في كل قصيدة أو مقطوعة.. لم يكن بين أيدينا في الواقع ديوان أبي العتاهية كما صنعه الأقدمون، وإنما كان بين أيدينا، على نحو ما يفجؤنا في العنوان، ديوان صنعه أحد الآباء اليسوعيين، وسماه «الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية».
وما من عجب في أن يصنع معاصر ديوان شاعر قديم، يجمعه ويخرجه ويعرضه للناس على الصورة التي يوفق فيها إلى عرضه.. فذلك ما يجب أن نفعله في شعر الشعراء الذين غيّب الزمان دواوينهم وشعرهم.. ولكن العجيب ألا يكون في هذا الصنع تحديد واضح للخطة التي اتبعها، والنهج الذي أخذ نفسه به، وحديث موثوق عن المصادر التي استمد منها، وعزوٌ للروايات التي أخذ بها أو أشار إليها.
بل إن ما هو أعجب منه أن يكون هنالك طمسٌ لهذه المصادر وسكوت مقصود عنها أو إشارات خرسٌ إليها، فلا يكون في ذلك إلا هذا السطر «الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية، نقلا عن رواية النمري وكتب مشاهير الأدباء كالأصفهاني والمبرد وابن عبد ربه والمسعودي والماوردي والغزالي» في صفحة العنوان.. أما كل ما جاء بعد ذلك في الديوان نفسه فهو إلى التعمية أقرب، على مثل ما سيلقاك من وصف النسخة في الصفحات التالية.
مهما يكن من شيء، فالمؤكد أني لم أستطع وأنا أدرس أبا العتاهية أن أطمئن إلى هذا الديوان أقيم الدراسة عليه.. فكان لابد لي من أن أتلفت يمنة ويسرة أسأل عن أصول موثوقة.
وقرأت للشيخ أحمد محمد شاكر في الشعر والشعراء تعليقه على ترجمة أبي العتاهية قال فيها: «وديوانه معروف مطبوع طبعه الآباء اليسوعيون بمطبعتهم في بيروت، وهم قوم لا يوثق بنقلهم لتلاعبهم وتعصبهم وتحريفهم، ولكن هذا الذي وجد بأيدي الناس». فكانت هذه القالة منارا جديدا لي.. كيف يكون التلاعب والتعصب في نشر ديوان شعري قديم؟. ما طريق التعصب إلى هذا الشعر الذي يتحدث عن الحياة والموت والآخرة؟.. وكيف يكون الأمر على هذا النحو الذي وجد بين أيدي الناس ولا يكون في الناس خلال ثمانين سنة من يملك أن يضع بين أيديهم بعضا من تراثهم على خير من الذي وقع لهم محرفا متلاعبا فيه؟
* * *
يتلخص عمل الأب لويس شيخو في الأنوار الزاهية بالخطوط التالية:
1 - الركيزة الأولى في عمله هي الديوان الذي صنعه ابن عبد البر، وأغلب الظن أنه اطلع على نسخة الظاهرية، ومنها أخذ. وانظر دليلا على ذلك ما جاء في هامش الصفحة 235 من ذكر أحد الأسناد.
2 - عرض الأمهات كالأغاني والعقد والأمالي ونظر في بعض المخطوطات وأفاد منها.
3 - تجاوز الزهديات إلى الأغراض الأخرى فجعلها في قسم آخر سماه «منثورات شتى» وطواه على ستة أبواب: المديح والتهاني، حسن التوصل والطلب والتشكي والتشكر، العتاب والهجو، الرثاء والتعازي، الأوصاف والهدايا والإجازات الشعرية، الحكم.
4 - ألحق بعمله في خاتمته فهرسا لغويا فسر فيه ما رأى أنه غريب أو صعب من شعر أبي العتاهية.
5 - أخرج الديوان مشكولا شكلا كاملا، وسمى أبحر الأبيات، ووضع لكل قطعة عنوانا، رآه تعبيرا عنها.
ولكن عمله بعد ذلك جاء يحمل السمات التالية:
1 - طمس معالم عمل ابن عبد البر حين سكت عنه وأغفل التعريف به ولم يشر إلى مدى ما أفاد منه.
2 - سكت عن وصل الروايات والمقابلات بمصادرها مكتفيا بهذه القالات الصماء: روي له، ويروى، وفي رواية، وفي مخطوطة من باريس..
3 - لم يستوف كل شعر أبي العتاهية في غير الزهديات. والحق أنه ما كان له أن يبلغ ذلك آنذاك، لأن كثرة من ذخائر التراث العربي ومخطوطاته إنما نشرت أو عرفت بعد ذلك.
4 - طوى شعره الغزلي والخمري مهملا له؛ وحرّف بعضه تحريفا، حذف القطعة خير منه، لأنه يجعل الحب ودا، والهوى نوى، والجارية نديما - في تقديم البيت - والوجه رأيا في مثل البيت التالي «ق279 ص663»:
عزة الحب أرته ذلتي
في هواه وله وجه حسن
فيصيّره إلى
عزة الود أرته ذلتي
في نواه وله رأي حسن
5 - في شكل الزهديات أخطاء قد يكون بعضها مما يقع مثله، ولكن الشكل في غير الزهديات كثير. وفي تسمية بعض الأبحر، وبخاصة مخلع البسيط الذي عدّه من المنسرح، وهمٌ وفي بعضها سكوت عن الإشارة إلى أنه مجزوء. وعناوين القطع لا تتساوق دائما مع مضمونها.
6 - ولكن أعظم من ذلك إنما كان في هذه التحريفات التي تعمدها؛ وهي تتنوّع فتتناول الكلمة حينا والجملة حينا والشطر أو البيت مرة والأبيات ذوات العدد في بعض الأحايين.
أ - التحريف في الكلمة الواحدة:
1 - يتناول مثل هذا التحريف ضبط الكلمة المعروف المشهور والمتداول، فلفظ «زُلزِلت، في الآية الكريمة: {إذا زُلزلت الأرض زلزالها} من الألفاظ القرآنية الشائعة ولكن ناشر الديوان يضبطها: زَلزَلت.(4/230)
2 - يتناول التحريف بناء اللفظة أحيانا. فكلمة «أوّاب» مثلا، وهي كلمة قرآنية معروفة، يحرفها الأب شيخور إلى أوْ آب» في البيت الثاني «ق168 ص166»:
طوبى لكل مراقب
ولكل أوآب شكور
3 - ويتناول أحيانا تغيير الكلمة كلها، نسخها بغيرها مما يرتضيه. فكلمة «نشور» وهي كذلك كلمة قرآنية، يحرفها الأب شيخو إلى «نزول» كما في البيت 11 «ق22 ص30»:
أسقام ثم موت نازل
ثم قبر ونشور وجَلَبْ
وطبيعي أنه لا يمكن أن يكون هنالك رواية ما للبيت على هذا اللفظ؛ ولكنها الرغبة في التحريف. أما اللفظ القرآني «سائق وشهيد» فيتحول في البيت «ق125 ص123» إلى سابق وشهيد. كذلك تؤول لفظة «حورهن» إلى «دورهن» في البيت «ق452ص439»:
إن العقول عن الجنان
وحورهن لساهية
4 - وأبعد من هذا أن الأب شيخو كان لا يطيق فيما يبدو أن يرى لفظة «محمد» الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في شعر أبي العتاهية، ولذلك فإنه يحرّف هذه اللفظة، ما صادفها، التحريف الذي يشمل أكثر البيت حتى لا ينتقض الوزن فينقل البيت «ق11ص11»:
وإذا ذكرت محمدا ومصابه
فاذكر مصابك بالنبي محمد
إلى:
وإذا ذكرت العابدين وذلهم
فاجعل ملاذك بالإله الأوحد
ويحوّر البيت «ق100ص100»: بنبي فتح الله به.. إلى: بخطيب فتح الله به. وينقل لفظة «مرسل» إلى لفظة «ابن من» في البيت الذي يليه:
مرسل لو يوزن الناس به
في التقى والبر شالوا ورجح
فإن لم يجد التحريف السبيل حذف البيت كله كما فعل في البيت 28 «ق12ص15»
وهو الذي بعث النبي محمد صلى الإله على النبي المصطفى
ب ـ التحريف في التراكيب:
ويتجاوز التحريف الكلمة الواحدة إلى التعبير الكامل. ومن أمثلة ذلك أن الأب شيخو كان يستبعد التعبير الإسلامي: لا شريك له، في كل مكان يرد فيه، ويضع مكانه تعبيرا آخر: لا مثيل له أو لا شبيه له، كما يبدو في الشطر «ب9ق199ص194»: الحمد لله شكرا لا شريك له، وفي الشطر «ب2ق213ص203» فحسبي الله ربي لا شريك له.
وتعبير: رسول الله، يصير إلى: فنذير الخير في البيت «ق100ص100»:
فرسول الله أولى بالعلى
ورسول الله أولى بالمدح
وتعبير «لست والدا» يؤول إلى «لست محدثا» في البيت الثاني «ق104ص104»:
شهدنا لك اللهم أن لست والدا
ولكنك المولى ولست بمولود
والشطر «هو الذي لم يولد ولم يلد» في «ق119» يؤول على حساب المعنى والوزن إلى: «فهو الذي به رجائي وسندي».
فإذا وجد أن مثل هذا التحريف لا ينقع غلته أسقط البيت كله كما فعل بالبيت التالي «ق273ص261»:
الحمد لله لا شريك له
حاشا له أن يكون مشتركا
جـ - حذف البيت:
قلت إنه يحذف البيت كله، وقدمت على ذلك بعض الأمثلة وهي كثيرة منها مثلا هذا البيت «ق114ص112»:
أين أين النبي صلى عليه الله
من مهتد رشيد وهاد
د - طي الأبيات ذوات العدد:
ويمضي التحريف وكأنما ليست هنالك حرمة للنصوص ولا رعاية للصدق ولا اعتبار لأية واحدة من هذه القيم التي لا يكون العالم عالما إلا بها، فإذا ناشر الديوان يطوي أبياتا برمتها كهذه الأبيات الخمسة «ق116ص116» في مديح الرسول ولست لأستقصي في هذه المقدمة أمثلة التحريف كلها ولكني لأعرّف بها وأدل على بعض منها.. إن وراءها أمثلة أخرى كثيرة يستطيع القارئ المتتبع أن يقع عليها حين ينظر في الحواشي. (1)، وأن ينتهي - مهما يكن لونه - إلى أن مثل هذه التحريفات تتجاوز كل حدود التعصب والتلاعب التي أشار إليها الشيخ شاكر في قالته التي مرّت بنا، وأن هذه التحريفات تتناول كل ما يتصل بألفاظ القرآن وتعابيره، وكل ما يتصل بالنبي صلوات الله عليه ورسالته، وكل ما يتصل بمفاهيم الإسلام من الوحدانية والنشور والآخرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا المقال مأخوذ عن مقدمة كتاب «أبو العتاهية: أشعاره وأخباره» للدكتور شكري فيصل - مطبعة جامعة دمشق 1384هـ - 1965م، ص5، 6، 10-13.
(1) انظر مثلا: ق12ص15ب28 ـ ق27ص51ب1 - ق76ص77ب8 - ق129ص126ب9 و 9-ق157ص154ب6.
نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(15)بتاريخ (1418هـ)
http://www.bab.com المصدر:
=============(4/231)
(4/232)
التصدي للدعوة البربرية في الجزائر
د. محمد علي الفرا
لم تحقق سياسة فرنسة الجزائر ما كانت تهدف إليه فرنسا، كما أن سياسة شق الصف الجزائري، واختلاق هوية بربرية مناهضة ومعادية للعروبة والإسلام لم تجد من يؤيدها في الجزائر، إلا شريحة بسيطة، وعدداً محدوداً من الجزائريين الذين درسوا في فرنسا، وانبهروا بمظاهر حضارتها، أو الذين تخرجوا في المدارس والمعاهد التي أقامها المستعمرون في الجزائر، وتلقوا علومهم على يد مستشرقين فرنسيين وضعوا أنفسهم في خدمة السياسة الفرنسية الاستعمارية، وتخصصوا في اللهجات والثقافة البربرية، والأدب البربري؛ الذي وضع أسسه وقواعده مستشرقون فرنسيون على صلة بالاستعمار الفرنسي.
لقد كان الفضل الأكبر في إفشال هذه السياسة الفرنسية - وبخاصة في منطقة القبائل القريبة من العاصمة الجزائر - يعود إلى نشاط الزوايا التي كانت منتشرة في مدن وقرى القبائل، وقد كانت هذه الزوايا كالسد المنيع أمام دعاة السياسة البربرية، وكانت بمثابة خط الدفاع المتقدم عن شخصية الشعب الجزائري الرافض للفرنسة والتنصير، وحافظت على التقاليد المتبعة التي تقر بأن البربر أصولهم عربية، كما كانت هذه الزوايا مكاناً لتخريج حفظة القرآن الكريم، وقد انتشر هؤلاء الخريجون في أنحاء الجزائر يعلمون القرآن في الكتاتيب، ويحافظون على العبادات، ويدعون إلى التمسك بالعروبة والإسلام، وتعززت جهود الزوايا بنشاط الحركة الإصلاحية في الجزائر المتمثلة في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين "1 3 9 1 6 5 9 1 "، وكان من أبرز هؤلاء العلماء "أحمد توفيق المدني" أحد رواد الجمعية، وقد حذر من أخطار المخطط الفرنسي بمنطقة القبائل في كتابه المسمى "كتاب الجزائر" والمطبوع في الجزائر عام 1 3 9 1، وفيه يقول : "فإني أخشى على هذا القسم من بلاد الوطن " يقصد منطقة القبائل " أن تعبث به الأيدي، وأن ينفصل حبل اتحاده مع بقية البلاد، فإلى تلك الناحية يجب أن تتجه أنظار المفكرين والعلماء المسلمين.
وللشيخ الإمام "محمد البشير الإبراهيمي" جهود كبيرة في التصدي للمخطط الفرنسي في منطقة القبائل وفضحه، وقام نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي بجمع آثار والده وطبعها في أجزاء، وقد أهداني الأخ الدكتور عصام الطاهر نسخاً مصورة عن كتابات ومقالات للإمام محمد البشير الإبراهيمي يدافع فيها عن اللغة العربية، وعروبة الجزائر وإسلامها، يقول الإبراهيمي وهو البربري الأصل في مقال له "اللغة العربية في الجزائر عقيلة حرة، ليس لها ضٌرٌة" نشر في جريدة البصائر العدد 41 بتاريخ 28 ـ 6 ـ 1948 ما نصه: "إن العربي الفاتح لهذا الوطن جاء بالإسلام ومعه العدل، وجاء بالعربية ومعها العلم، فالعدل الذي أخضع البربر للعرب، ولكنه خضوع الإخوة لا خضوع القوة، وتسليم الاحترام لا تسليم الاجتراب"، ويقول أيضاً: "ما هذه النغمة السمجة التي ارتفعت قبل سنين في راديو الجزائر بإذاعة الأغاني القبائلية، وإذاعة الأخبار باللسان القبائلي "البربري "، ثم ارتفعت قبل أسابيع من قاعة المجلس الجزائري بلزوم مترجم للقبائلية في مقابلة مترجم للعربية، أكل هذا إنصاف للقبائلية، وإكرام لأهلها، واعتراف بحقها في الحياة، وبأصالتها في الوطن؟ كلا، انه ترجيل سياسي على طائفة من هذه الأمة، ومكر استعماري بطائفة أخرى، وتفرقة شنيعة بينهما، وسخرية عميقة بهما".
وفي مقالة عن عروبة الشمال الإفريقي يقول الإبراهيمي في العدد 150 من البصائر بتاريخ 9 ـ 4 ـ 1951 ما نصه: "ينكر الاستعمار عروبة الشمال الأفريقي بالقول، ويعمل لمحوها بالفعل، وهو في جميع أعماله، يرمي إلى توهين العربية بالبربرية، وقتل الموجود بالمعدوم، ليتم له ما يريد من محو واستئصال لهما معاً، وإنما يتعمد العربية بالحرب لأنها عماد العروبة، وممسكة الدين أن يزول، ولأن لها كتابة، - ومع الكتابة العلم - وأدباً، ومع الأدب التاريخ، ومع كل ذلك البقاء والخلود، وكل ذلك مما يقض مضجعه، ويطير منامه، ويصخ مسمعه، ويقصر مقامه".
وقد أكد البشير الإبراهيمي على عروبة البربر في مقالة بجريدة البصائر سابق الذكر، بقوله: "إن القبائل مسلمون عرب، وكتابهم القرآن يقرؤونه بالعربية، ولا يرضون بدينهم ولا بلغته بديلاً، ولكن الظالمين لا يعقلون".
لم يتردد الرعيل الأول من رجال الإصلاح من أبناء منطقة القبائل عن مواجهة السياسة البربرية بالمنطقة، فنجحوا في إنشاء ثلاثين مدرسة ظلت تعلم النشء اللغة العربية والفقه الإسلامي حتى عام 1956، كما حرصوا على توعية الناس بتنظيم حلقات الوعظ والإرشاد في المساجد، واستطاعوا تكوين طلائع من الشباب متمسكة بالإسلام، ومعتزة بالثقافة العربية، ومن هؤلاء الرجال الذين خدموا الجزائر بصمت وكرسوا حياتهم لخدمة الإسلام فيها نذكر على سبيل المثال: "السعيد بن زكري" و "ارزقي الشرفاوي" و "أبو يعلى الزواوي" و "الفضيل الورتلاني" وغيرهم كثيرون.(4/233)
وقد اتخذت جمعية العلماء موقفاً صريحاً من السياسة البربرية للإدارة الفرنسية عندما حددت شعار مشروعها الإصلاحي في العمل على الدفاع على ثوابت الدين واللغة والوطن في عبارة : "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا"، وتعززت جهود جمعية العلماء بالنشاط السياسي لمنظمة النجم "5 2 9 1 7 3 9 1 "، وحزب الشعب "7 3 9 1 6 4 9 1 "، وحركة انتصار الحريات الديمقراطية "6 4 9 1 4 5 9 1 " التي تبنت منذ ابتعادها عن التأثير الشيوعي مبدأ المقاومة السياسية من أجل استرجاع السيادة الوطنية المتمثلة في العقيدة الإسلامية واللغة العربية، واعتبر التيار الاستقلالي في الحركة الوطنية الجزائرية أن من أولى مهامه المطالبة بتعليم العربية إجبارياً، فأقرها برنامجه الأساسي في عام 3 3 9 1 ، ولم يتوان عن إنشاء المدارس على غرار جمعية العلماء لتعليم العربية، وندد بالمشروع الاستعماري الفرنسي بالجزائر القائم على فكرة تقسيم الجزائريين وتفريق صفوفهم، وقد أكد على هذا التوجه أحد مناضلي حزب الشعب الشاعر المبدع "مفدي زكريا" من أبناء "ميزاب" البربرية، عندما حدد أهداف النضال السياسي لأبناء المغرب العربي في خطابه بتونس عام 4 3 9 1 والذي جاء فيه : "الإسلام ديننا، وشمال أفريقية وطننا، والعربية لغتنا".
ولعل في خطبة "مصالي الحاج" بالجزائر في 2 ـ 8 ـ 6 3 9 1 رداً على مطالب المؤتمر الإسلامي التي سلمت بمبدأ اندماج الجزائر في فرنسا، موضحاً تمسك الحركة السياسية الوطنية الجزائرية المتمثلة في منظمة النجم وحزب الشعب بثوابت الشعب الجزائري، فقد جاء في هذه الخطبة الشهيرة لمصالي الحاج ما يلي: "احتراماً للغتنا الوطنية اللغة العربية والتي كلنا نعتز بها، ونعجب بها، وأيضاً تقديراً لنبل هذا الشعب الجزائري الشجاع الكريم؛ فقد أردت أن اعبر أمامكم بعد نفي دام اثنتي عشرة سنة بلغتي الأم".
وقد واصلت الثورة الجزائرية النضال ضد سياسة التفرقة العنصرية في الجزائر والمتمثلة في المسألة البربرية، ونجحت في توحيد الشعب الجزائري، وقد كان لرجال منطقة القبائل مساهمة كبيرة وأساسية في هذه الثورة مما أفشل المخططات الفرنسية، وكان من أبرزهم "كريم بلقاسم" و "محمدي السعيد" و "عميروش آيت حمودة" و "محمد ولد الحاج" وغيرهم كثيرون، وقد أفلحت جهودهم في إسقاط المشروع الاستعماري، وفي رص الصفوف، واعتبروا أن أي دعوة لتفريق الصفوف بمنزلة خيانة للوطن.
ويبدو أن هذه الجهود الطيبة تعرضت فيما بعد إلى انتكاسة، فقد استطاع دعاة البربرية إعادة تنظيم صفوفهم، وزرع أنصارهم ومؤيديهم في مختلف أحزاب الجزائر وبخاصة حزب الشعب، وتمكنوا من التسلل إلى أجهزة الدولة الحساسة، واستولوا على المراكز الهامة في الحكومة، وقاموا بمحاربة الإسلام، واللغة العربية، وطعنوا في عروبة الجزائر.
وقد يتساءل البعض كيف حدث هذا الانقلاب الخطير الذي لا زالت تعاني منه الجزائر اليوم، ويهدد وحدتها، ويشتت صفوف شعبها، ويشكك في هويتها العربية الإسلامية؟ وهذا ما نأمل الإجابة عليه في مقال قادم إن شاء الله.
المصدر : http://www.alshaab.com/2004/27-08-2004/11.htm
============(4/234)
(4/235)
هل تصدق ؟ (زوجة قاسم أمين تغطي وجهها ! ودرية شفيق انتحرت! )
سليمان بن صالح الخراشي
حدثني أحد الإخوة أن إحدى الكاتبات الداعيات إلى تغريب المرأة المسلمة في بلادنا متزوجة من أحد الأطباء النفسيين، فكانت إذا اتصلت به إحدى النساء تطلب رأيه أو استشارته في مشكلة ما ترفض هذه الكاتبة أن تسمح برد زوجها على النساء مباشرة إنما تكون وسيطًا بينهما! كالمترجم!
حدثني بهذا الخبر الموثق - لأن بينه وبين الكاتبة نسبًا - وهو متعجب من هذا التناقض بين الفكرة والواقع الذي يعيشه هؤلاء.
فقلت له: لا تعجب! فبعض المنحرفين يعلم خطأ ما يقوم به أو يدعو إليه.. ولكنه ينساق مع شهوته - والعياذ بالله -.
فتجده يرضى للآخرين ما لا يرضاه لنفسه أو لأهله وأحبابه.
ولهذا تجد من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه من يريد الزنا أن ذكره بهذه القضية؛ وهي أنه لا يرضى الزنا لأهله وقراباته؛ فانتهى الرجل.
وأضيف إلى هذا التناقض الذي يعيشه هؤلاء المفسدون هذين الخبرين اللذين رواهما شاهد عيان؛ وهو الصحفي الشهير مصطفى أمين الذي تربى منذ صغره في بيت سعد زغلول لقرابة بينهما:
الخبر الأول عن زوجة من يسمى (محرر المرأة)! قاسم أمين:
يقول مصطفى في كتابه " من واحد لعشرة " (ص 119-120) متحدثًا عن واقع بيت سعد زغلول الذي كان إسلاميًا ثم انتكس وتمت صناعته صناعة (عصرية) (تنويرية)! :
(كان غريباً في تلك الأيام أن يدعى رجل من غير أفراد الأسرة للجلوس على مائدة واحدة مع سيدات الأسرة، ولكن الفلاح الأزهري القديم سعد زغلول كان لا يجد غضاضة في أن يجلس أصدقاؤه المقربون مع أسرته لتناول الغداء والعشاء.
كانت هذه ظاهرة غريبة في بيت سعد زغلول! إن معاصريه ما كانوا ليسمحوا لزوجاتهم برؤية أصدقائهم، ولا يذكر أحد من أصدقاء عدلي يكن باشا أنه رأى وجه زوجته، ولا يذكر أقرب صديق لحسين رشدي باشا أنه تناول معه الغداء في حضور زوجته.. بل الأغرب من هذا كله أن قاسم أمين زعيم تحرير المرأة، كان يتردد باستمرار على بيت سعد زغلول ويتناول الغداء معه ومع صفية، ولكن زوجة قاسم أمين لم تحضر هذا الغداء الدوري مرة واحدة!
ويذكر الطفلان (أي مصطفى أمين نفسه وأخاه علي أمين) بعد وفاة قاسم أمين بعشر سنوات أن زوجته كانت تأتي بين وقت وآخر لزيارة صفية زغلول، فلا تكشف وجهها أمامهما، بل إنها إذا تناولت الغداء مع صفية، كانت تُعد لهما مائدة في غرفة أخرى، وتُناول سعدًا الطعام وحده، ذلك أن قاسم أمين الرجل الذي دعا المرأة المصرية إلى نزع الحجاب فشل في إقناع زوجته بأن تنزع حجابها، وظلت متمسكة بوضع الحجاب على وجهها).
الخبر الثاني: عن داعية شهيرة من داعيات تغريب المرأة (درية شفيق):
قال مصطفى الذي كان جارًا لها في كتابه " شخصيات لا تنسى " (ص 257 وما بعدها) ونقله عنه صاحب " لماذا انتحر هؤلاء " (ص 113-118):
(صدرت جريدة "الأهرام" ذات صباح، وفي صدر الصفحة الأولى صورتان كبيرتان بعرض أربعة أعمدة بعنوان "قران سعيد"، ودهش القراء، فهذه أول مرة تنشر جريدة الأهرام صورة عروسين في الصفحة الأولى، حتى خبر زواج الملك فؤاد من الملكة نازلي نشرته جريدة الأهرام الوقورة في صفحة المحليات في داخل الجريدة.
وتضاعفت دهشة القراء عندما قرأوا أن العريس هو الكاتب الشاب المحبوب أحمد الصاوي محمد، الذي يكتب باب "ما قلّ ودل" في الصفحة الأولى من الأهرام، وقد كان الصاوي يومئذ أحد نجوم الصحافة الموهوبين وكانت كتاباته وقصصه موضع إعجاب السيدات والآنسات فقد كان ينصر المرأة، ويؤيد تعليمها، ويحيي نجاحها في جميع الميادين، وكانت العروس هي الآنسة "درية شفيق" التي تحمل شهادة في الآداب والتي حصلت على (الليسانس) من جامعة السوربون في باريس، والتي تحدث المجتمع عن جمالها ونبوغتها.
ثم زاد ذهول القراء عندما قرأوا في النبأ أن حفلة عقد القران تمت في قصر السيدة "هدى شعراوي" زعيمة النهضة النسائية في مصر، وأن قيمة الصداق كانت خمسة وعشرين قرشاً مصرياً فقط!!
وكان هذا الزواج هو زواج الموسم وخاصة أن بطليه كانا من أنصار المطالبة بحقوق المرأة، وتم عقد الزواج بسرية تامة، ولم يتسرب النبأ أو الإشاعة إلى جريدة أو مجلة، وانفردت الأهرام وحدها بنشر الخبر الخطير.
ولكن الزواج الذي أحدث ضجة كبرى لم يستمر، بل حدث الطلاق قبل الزفاف، فقد كان أحمد الصاوي أوروبياً من الخارج وصعيدياً من الداخل (يعني مسلمًا!!)، ولد في مدينة أسوان وتعلم في باريس، فهو متحرر في كتابته ومحافظ في بيته، وكانت درية شفيق متأثرة بدراستها في السوربون، تطالب للمرأة المصرية بكل حقوق المرأة الفرنسية، تريدها ناخبة ونائبة ووزيرة، وكان الصاوي لا يمانع أن تكون كل امرأة في مصر وزيرة وسفيرة ما عدا زوجته هو فإن مكانها في البيت! وتم الطلاق، وعندما تزوج أحمد الصاوي محمد بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات رفض أن تُنشر صورة زوجته في الصحف، ولم تظهر حتى الآن صورة زوجة الصاوي الثانية على صفحات الصحف، بينما مضى على زواجهما أكثر من خمسة وثلاثين عاماً!!
إلى أن يقول:(4/236)
وذهلت درية في وحدتها: أنصارها تخلوا عنها، صديقاتها انقطعن عن زيارتها، والصحف منعت من ذكر اسمها حتى وهي تذكر القرار بمنح المرأة المصرية حق الانتخاب ودخول نائبات في البرلمان وتعيين وزيرة في الوزارة، نسي الناس اقتحامها البرلمان سنة 1951 مطالبة بحق المرأة في الانتخاب، ونسوا أنها فقدت حريتها وصحفها وما لها وزوجها لأنها طالبت بمزيد من الديمقراطية.
وبقيت درية شفيق شبه مسجونة في شقتها في الدور السادس بعمارة وديع سعد طوال 18 عاماً، لا تزور أحداً ولا يزورها أحد!
وكنتُ أراها من وقت لآخر في مصعد العمارة لأنها كانت جارتي- بلا زينة ولا طلاء، في فستان قديم، وقد كانت قبل ذلك ملكة للجمال وملكة للأناقة، وجهها شاحب، عيناها تبكيان بلا دموع، شفتاها ترتعشان بلا نطق، قلبها ينزف بلا دم، روحها تصرخ بلا صوت، كانت هذه المرأة أشبه بالشيخ، امرأة ميتة تمشي خرساء برغمها...
وبعد ظهر يوم 20 أيلول (سبتمبر) 1975 عدتُ إلى بيتي بعد أن تناولت الغداء في أحد الفنادق، وفي ردهة العمارة رأيت جمعاً من الناس يلتف حول ملاءة بيضاء، وسألت: ماذا حدث؟ قالوا: إن سيدة ألقت بنفسها من شرفة الطابق السادس.
ورفعتُ الملاءة البيضاء ووجدت جثة جارتي "درية شفيق"! ).
انتهى كلام مصطفى أمين؛ وفيه عبرة وموعظة لما يعيشه هؤلاء من تناقض وصراع نفسي بين ما يعرفونه من دين الإسلام، وبين ما يشتهونه... قد يؤدي ببعضهم إلى (الانتحار) - عياذًا بالله - (يذكر البعض أن قاسم أمين نفسه قد انتحر أيضًا).
أسأل الله أن يتوفانا مسلمين، وأن يجنبنا حال دعاة الفساد.
http://saaid.net المصدر:
===============(4/237)
(4/238)
التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي ( 1- 2 )
مهيمن عبد الجبار
إن الحديث عن المدارس الأجنبية حديث يتلاقى ويتماس مع كثير من نقاط واقعنا المعقد؛ فهو يتناول التربية العقدية بمفهومنا ولفظنا، كما يتناول التنشئة السياسية من جهة أخرى، ويتناول قضية الهوية بجوانبها وتشعباتها، وهي سر من أسرار تخلف التنمية، ولها ظلالها الإعلامية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ويمس عصب الأمن القومي.
ولكي نتصور القضية تصوراً صحيحاً لا بد أن نضع في اعتبارنا عدة أمور:
أولها: أن التعليم الأجنبي يأتي ضمن منظومة واسعة لتغريب الأجيال وإبعادهم عن دينهم تتضمن التعليم والإعلام والثقافة، ويتستر خلفها التبشير والاستشراق والاستعمار، وتساندها بقية الأدوات.
وثانيها: أن الكلام حول التعليم الأجنبي يتناول المدارس الأجنبية ومدارس الإرساليات التبشيرية ومدارس الجاليات بالأصالة، كما يشير إلى مدارس اللغات والمدارس التجريبية التي تقفو أثر المدارس الأجنبية ـ وإن تسمَّت بأسماء عربية ـ بالتبعية، كما يتطرق الحديث إلى الابتعاث إلى الدول الغربية.
وثالثها: أن حديثنا عن دور ومخاطر هذا النوع من التعليم يزيد من شأنه ـ ولا يهون ـ ما يتم للتعليم الوطني اليوم في كثير من بلادنا الإسلامية تحت مسميات التطوير والتحديث، ضمن ما يعرف بالعولمة التعليمية التي ترعاها المؤسسات الدولية وتدفع إليها الدول الغربية.
ورابعها: أن التعليم في الإسلام يعني عملية إفراز وتنمية للولاء العقدي الذي هو أعلى وأوثق أنواع الولاء، كما يرتبط بقيمة وجودية للأمة الإسلامية هي الهداية كما قال - تعالى -: {وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } [آل عمران: 79].
كما يرتبط بقيمة أخرى في الآخرة هي الوقاية من عذاب الله - تعالى - : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم: 6]، وهذا ـ كما قال المفسرون ـ يتم بالتعليم والتأديب، وفيه ملمح مهم وهو ارتباط التعليم بالإصلاح، على عكس ما يحدث اليوم في التعليم الأجنبي.
وخامسها: أن دخول أطراف خارجية في العملية التعليمية يعني تعريض أمن الأمة للخطر؛ وذلك حين يتعرض دين الأجيال للتحريف وعقولهم لألوان الغزو الفكري، وهي مسألة لا تقل خطورة عن السماح للأجانب بالالتحاق بالجيش أو أجهزة الأمن التي تسهر على حماية البلاد، بل تزيد؛ لأنها تؤدي مستقبلاً إلى وجود مثل هذه الفئات داخل هذه المؤسسات دون أن ندرك حقيقة الدور الذي تقوم به.
إننا كثيراً ما نلمس آثار هذه المدارس على المتخرجين فيها، لكن ما يغيب عنا أكثر، دون أن يكون لنا ـ أفراداً أو مجتمعات ـ دور يتفاعل مع قضية بهذه الخطورة.
سادساً: إن الحديث عن التعليم الأجنبي اليوم لا يمكن التطرق إليه بمنأى عن الخريطة التعليمية القُطرية والعولمية؛ فلم تعد المدارس الأجنبية هي الخطر الوحيد في المجال التعليمي؛ بل ينبغي تصور خريطة المخاطر المحتفة بالتعليم اليوم؛ فهناك مدارس الإرساليات (علمانية، ودينية)، وهناك المدارس الدينية التي تخص الطوائف النصرانية التي تعيش في بلداننا الإسلامية، والمدارس الخاصة التي تقتفي أثر هذه المدارس، إلى جانب التعليم العام المنجذب مغناطيسياً نحو مجال هذه المدارس كنموذج.
إن نظرة الأمم إلى مسألة التعليم تنطلق من نظرتها لذاتها ودورها وهدفها الأبعد على هذه الأرض وما بعد الأرض؛ ومن ثم فإن الخريطة التعليمية لأي دولة يمكن أن تنبئنا بتطلعات هذه الدولة إلى المستقبل، ويمكن إيضاح ذلك من خلال عدد من التجارب والمواقف:
* كان للتعليم الشرعي دوره الذي بهر العالم كله في نموذج طالبان وسيطرتها على الأوضاع داخل أفغانستان بسهولة، والبدء في خطط تنموية حقيقية رغم الحصار الشديد وضعف الإمكانيات؛ مما جعل التقارير العالمية توصي باتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة بصدد هذا النوع من التعليم في الدول الإسلامية الأخرى، ومن ثم قامت النخب العلمانية بتصفية هذا النوع من التعليم بعدة طرق في تركيا ومصر واليمن وباكستان وغيرها، وما يحدث الآن في أفغانستان يعيد للأذهان حملة نابليون للقضاء على بواكير النهضة العلمية والحضارية التي كادت تزهر في أحضان الأزهر، وزرع التعليم البديل(1).
* كان للمدارس الدينية دورها في إنجاح الثورة الإيرانية في أواخر السبعينيات، كما كان للتعليم الغربي دوره اليوم أيضاً في الانقلاب السلمي على الثورة هناك.
* النهضة الاقتصادية الماليزية بدأت أيضاً بالتعليم؛ ففي سنة 1985م أقيمت مؤتمرات وطنية لقضية التعليم، وقررت أن تكون ماليزيا دولة صناعية؛ ولذا تغيرت مناهج التربية والتعليم على هذا الأساس، كما تغيرت نظم البعثات الدراسية، والهجرة والاستثمار في غضون 10 سنوات، وكانت النتيجة أن ماليزيا أصبحت عاشر دولة صناعية في العالم سنة 1995م.(4/239)
* نموذج الصين واليابان والهند وألمانيا وهي تجارب دول عانت من مشاكل أكثر عدداً وأضخم من المشكلات التي يعلق عليها العرب خيبتهم التعليمية والتنموية؛ ومع هذا استطاعت هذه الدول حين ملكت الإرادة أن تقفز من خلال تعليم هادف قفزات سريعة في فترة محدودة.
* وفي كشمير المحتلة عملت الهند على محاربة التعليم الإسلامي ونشر التعليم العلماني، وتشجيع الحركات العلمانية على حساب الحركات الإسلامية؛ وخاصة بعد ظهور الحركات الجهادية لطمس هوية كشمير وإذابتها داخل المستنقع الهندي.
* كان للمدارس الدينية دورها في إيجاد تيار واسع له أثره البالغ في توجه الدولة اللقيطة وتعاملها مع العرب(1).
* وأخيراً كان للتعليم الأجنبي أثره البالغ على أمن المنطقة العربية واستقلالها من خلال تربية أجيال لا تؤمن إلا بالفكر الغربي، ولا تعرف غير الحضارة الأوروبية، وتتنكر لدينها وحضارتها وقيمها الأصيلة، وكان لهذه الأجيال العير والنفير في مختلف المجالات.
إطلالة على الوجود التعليمي الغربي:
في عام 1863م اقترح المنصِّر هاملين على صديقه روتشيلد اليهودي إنشاء مدرسة ثانوية بجوار «قلعة الروملي» قائلاً: «لقد أنشأ الأتراك حصناً لفتح إسطنبول، وأنا سأنشئ هنا مدرسة لهدمهم». هذه العبارة على وجازتها تلخص لنا الدور الخطير الذي لعبته المدرسة الأجنبية في تفكيك العالم الإسلامي وتفتيت ريحه؛ لقد مكر أهل الكتاب مكر الليل والنهار لرد المسلمين عن دينهم تارة بحروب صليبية وتارة بتدبير المكائد الداخلية، وفي كل مرة كان العالم الإسلامي يهب هبته ينفض عنه مسة أهل الكتاب، وفي كل مرة كان الغرب يبحث عن لبنة سنمَّار حتى ظفر بها أخيراً؛ إنه حبل التلقي الموصول بالله عبر المسجد والمدرسة والأم.. فلتكن المعركة في هذه الساحة لا بهدمها كما صنع بونابرت وإنما بتفريغها من محتواها أولاً وتبديله بمحتوى مخالف أياً كان هذا المحتوى ليفعل فعل السرطان في الجسد عندما تتغير كيميائية خلية واحدة.
يقول جب في كتابه: (وجهة الإسلام): «إن إدخال طرائق جديدة في البلاد الإسلامية كان يتطلب نظاماً جديداً في التربية من عهد الطفولة في المدارس الابتدائية والثانوية قبل الانتقال للدراسات العالية، وإن إصلاح التعليم [يسميه إصلاحاً!] على هذا النحو لم يكن في ذلك الوقت يخطر على بال السلطات المدنية الإسلامية، ولكن الفراغ ملأه هيئات أخرى؛ فقد انتشرت في منتصف القرن التاسع عشر شبكة واسعة من المدارس في معظم البلاد الإسلامية ولا سيما في تركيا وسوريا ومصر؛ وذلك يرجع غالباً إلى جهود جمعيات تبشيرية مختلفة، وقد كان أكثرها عدداً المدارس الفرنسية، وقد كانت المدارس الإنجليزية في الإمبراطورية العثمانية أقل مما في الهند، وكانت المدارس الهولندية قاصرة على جزر الهند الشرقية».
وقد ارتبط التعليم الأجنبي منذ وفوده على البلاد الإسلامية ـ كما ذكر جب ـ بالإرساليات التبشيرية، وتنسب بداية المحاولة إلى الإسباني (ريمون لول)، ثم أخذت الجمعيات التبشيرية في الانتشار في أواخر القرن 18 وأوائل الـ 19 التي كان أحد أهم مناشطها التعليم، خاصة مع تحول الكنائس الكبرى في أوروبا من الإطار الكهنوتي البحت إلى الإطار التعليمي بإنشاء المدارس والمعاهد التابعة لها، وقد بدأت الإرساليات تمارس نفس الدور في العالم الإسلامي خاصة حين أخفقت الأساليب المباشرة للتبشير شرعت في أداء الدور التعليمي، وخاصة بعد أن رأى المبشرون من خلال مؤتمراتهم وخبراتهم المتبادلة أن العمل في جانب الصغار أجدى بكثير من الكبار وفي جانب الفتيات أخطر منه في البنين.
وقد كان الغرض الملحُّ على العقل الأوروبي من بناء المدارس ـ كما قلنا ـ هو حل المسألة الشرقية من الداخل بعد أن استغلق حلها من الخارج.. والناظر في تاريخ سقوط الخلافة يعلم بحق أثر هذه المدارس في الكيد لأهل الإسلام؛ فقد لعبت دوراً أعظم مما أداه جميع سفراء الدول ومعتمديهم السياسيين باعتراف الغرب نفسه.
كانت الشرارة الأولى قدحت في بيروت بإنشاء مدرسة للبنات في الإمبراطورية العثمانية سنة 1830م؛ لأن البنات سيكُنَّ أمهات؛ فإذا تربَّيْن في هذه المدارس النصرانية أثرن على أولادهن!! وكانت تعنى ببنات الأسر والبيوت الكبيرة اللاتي سيكون لهن السيطرة على الجيل المقبل؛ ولهذا قال بعض دعاتهم: «إن مدرسة البنات في بيروت هي بؤبؤ عيني»!!
وقد تركزت في لبنان جهود الأمريكيين والفرنسيين، وقد كان للجامعة اليسوعية (الأمريكية فيما بعد) وجامعة القديس يوسف دور خطير في لبنان بالتقاط النابهين من نصارى الشام وبنائهم نماذج متغربة تعمل لحساب المشروع الغربي؛ حيث ارتبط كثير منهم بالمخطط الماسوني الهادف لإسقاط الدولة العثمانية وتفتيت العالم الإسلامي وغرس الدولة اليهودية في المنطقة.(4/240)
وفي مصر عام 1840م من خلال البعثات التنصيرية قام الآباء بتأسيس الكلية الفرنسية بالإسكندرية والجمعية الإنجيلية البروتستانتية، وجمعية راهبات القلب المقدس عام 1845م، ثم تلتها الإخوة المسيحيون والفرير عام 1847م ثم الآباء اليسوعيون والجزويت ثم الفرنسيسكان 1859م والمير دي ديو (وتعني أم الله! - تعالى - الله عن ذلك علواً كبيراً) 1877م. ثم تبعتها مدارس الآباء اليسوعيين عام 1880م كمقدمة لاحتلال مصر في عام 1882م، وقد بلغ عدد مجموع الطلاب من المسلمين 7117 طالباً مسلماً حتى عام 1891م، وهو رقم مذهل بمقاييس تلك الأيام وظروفها.
كان انتشار المدارس الأجنبية في مصر مكثفاً ومقصوداً حتى إنها الآن تبلغ عشرات الآلاف من المدارس، وتبلغ نسبة الدارسين فيها من المسلمين 52% من الطلاب بمصر، ويشير مؤرخو المدارس الأجنبية أن الجالية اليونانية كانوا كلما حلوا في بلد أنشؤوا فيه كنيسة ومدرسة كما فعلوا في الإسكندرية عام 1843م ثم في المنصورة، وطنطا، وبور سعيد، والسويس، والقاهرة وغيرها، وهكذا الجالية الإيطالية منذ عام 1862م، والجالية الألمانية عام 1866م، واليهود منذ عام 1872م، والمارونيون السوريون، وكانت أولى الجاليات الجالية الأرمنية عام 1828م في بولاق.
أما عن تعليم البنات فقد كان هناك مدرستان في أواخر العقد السادس من القرن الماضي للتعليم العام بحي الأزبكية: واحدة تابعة للكنيسة الأرثوذكسية، والأخرى تابعة لكنيسة الأقباط الإنجيليين. وفي عام 1904م أنشأت الكنيسة القبطية أول مدرسة صناعية ببولاق.
وقد عملت كثير من هذه المدارس بمبدأ المواءمة واستغلال الفرص المتاحة؛ بحيث تظهر ما جاءت من أجله كلما سنحت الفرصة، وتتستر حين تضيق عليها الأمور.
كما شهدت سوريا بالتزامن مع حالة لبنان ومصر جهوداً موسعة لفتح المدارس الإرسالية حتى كان نصيب سوريا وحدها من المدارس الأمريكية عام 1909م: (174) مدرسة في المدن والقرى.
وفي السودان من أنواع المدارس والبعثات التنصيرية الشيء الكثير، بل إن عدد الكنائس في الخرطوم يفوق عدد المساجد!!
وأما في جبال النوبة فقد استولت الإرساليات البريطانية على التعليم فيها منذ عام 1919م وحاصرت توسع الإسلام واللغة العربية، وأقفلت ما يفتح من المدارس الإسلامية عام 1931م(1).
وفي العراق: في أوائل القرن العشرين الميلادي كانت أول مدرسة تبشيرية في البصرة مدرسة للبنات، ثم انتشرت مدارسهم في أنحاء العراق.
وهذا ما جرى عليه الحال في سائر بلاد الإسلام خاصة البلاد التي دخلها الاستعمار.
وقد كان جل اهتمام التنصير منصبّاً على مصر وباكستان تحديداً؛ ولذا نالا قسطاً أكبر من الغزو عموماً ومن خلال التعليم على وجه الخصوص. يقول (ستيف نيل) مؤرخ الكنيسة: «في العالم الإسلامي دولتان تمثلان أكبر أهمية بالنسبة للتنصير، هما باكستان ومصر، وسقوط إحداهما في قبضتنا يعني إزالة أكبر عقبتين من طريق الكنيسة».
تتوافر عن باكستان أمامنا بعض الإحصائيات حول نشاط عدد من أشهر المدارس هناك يمكن أن تعطينا صورة عن حجم النشاط وما يصبو إليه وما يمكن أن يحققه:
نجد في مدرسة القديس باتريك في كراتشي (2100) طالب مسلم و (400) نصراني!
وفي مدرسة القديس يوسف (2100) مسلم، (100) نصراني!
ومدرسة القديس لورانس (1050) مسلماً، (150) نصرانياً!
ومدرسة القديس جوز (100) مسلم، وليس فيها نصراني واحد.
ومدرسة المسيح الملك (700) مسلم، (300) نصراني.
ومدرسة القديس جون (700) مسلم، (200) نصراني.
ومدرسة القديس بونا بونتشر في حيدر آباد (1560) مسلماً، و (40) نصرانياً.
ومدرسة القديسة ماري في حيدر آباد (1558) مسلماً، (139) نصرانياً.
بالنظر في ما تقدم يتضح أن وجود النصارى عبارة عن ذر للرماد في العيون(2).
على أن الأمر لا يتوقف عند حدود مصر أو باكستان أو بلاد الشام، وإنما زحف نحو جميع البلاد في غفلة من المسلمين. وتشير الأرقام إلى وجود 264 مدرسة تنصيرية في ماليزيا، وفي قطر هناك أكثر من 30 مدرسة، وفي مدينة مقديشو وحدها أكثر من ثلاثين مدرسة صليبية!
وطبقاً لإحصائيات عام 1991م توجد 16500 مدرسة نصرانية في أفريقيا وحدها.
أما التعليم الجامعي فلدينا ثلاث مؤسسات كان لها أبلغ الأثر في تحول كثير من أبناء الأمة عن دينهم وهي:
جامعة القديس يوسف في لبنان، وهي جامعة بابوية كاثوليكية (تعرف الآن بالجامعة اليسوعية).
والجامعة الأمريكية التي كانت من قبل تسمى (الكلية السورية الإنجيلية)، ثم كلية بيروت، وقد أنشئت في عام 1865م، وهي جامعة بروتستانتية.
والكلية الفرنسية في لاهور، وأسست في لاهور باعتبار أن هذا البلد يكاد يكون البلد الفريد في تكوينه في شبه القارة الهندية.
إلى جانب (كلية روبرت) في إستانبول، والكلية الأمريكية (الجامعة الأمريكية فيما بعد في القاهرة).
وكلية جوردن (البريطانية) في الخرطوم، وأخيراً الجامعة الأمريكية الجديدة في الشارقة، وفي قطر!
وهناك الجامعة الألمانية والفرنسية ـ في المستقبل القريب ـ في مصر اللتان شرع في تأسيسهما مؤخراً.(4/241)
ومن خلال هذا الجهد المكثف نجح التعليم الأجنبي بمدارسه وجامعاته في تخريج أجيال عملت على خدمة المصالح الغربية على تفاوت فيما بينها؛ فقد تخرج فيها كثير من القيادات القومية الفكرية والسياسية من بين المسلمين والنصارى ـ دون فرق إلى حد بعيد ـ في كل من مصر ولبنان وفلسطين والأردن وسوريا والعراق والسودان، ومن أبرزهم: ميشيل عفلق، وجورج حبش، وقسطنطين زريق، وأنطون سعادة، ولويس عوض وغيرهم، وكان من عملاء هؤلاء المنصرين في تركيا الجنرال: أحمد وفيق باشا الذي أمَّن أرضاً للمدرسة؛ ولذا لما سئل السلطان عبد الحميد الثاني عن المكان الذي سيدفن فيه الجنرال، قال: «في قلعة الروملي؛ ليستمع الرجل الذي باع للبروتستانت أرضاً ليؤسسوا عليها أجراسهم، أصوات هذه الأجراس إلى يوم القيامة».
وقد أولت الدول المستعمرة خلال فترة ما بين الحربين اهتماماً شديداً بتثقيف أبناء الأمراء والعظماء وكبار رجال السياسة، ونقلهم إلى التعليم في المعاهد الأجنبية؛ وذلك لإعداد هذه الطبقة، وقد كان إغراؤهم عجيباً لكثير من أصحاب المراكز العلمية ـ حتى بعض كبار المسؤولين في مجال الإسلام ـ على تعليم أبنائهم وبناتهم، وقد أشارت تقاريرهم إلى ذلك بما أسمته: «نزوع الطبقة الراقية إلى المدارس الأجنبية».
تعليم المخاطر!
نجح الغرب من خلال التعليم في أن يبث سمومه في مختلف مناشط الحياة، وحشد ضمن كل منشط منها مجموعة من المخاطر، ثم راح يؤلف بينها؛ ولهذا نرى المخاطر اليوم تتداعى وتجتمع وتتضافر، ويكمل بعضها بعضاً.
إن أثر النشاط التعليمي الغربي في بلادنا لم يعد يمس زاوية دون أخرى أو يكتفي بجانب دون سواه.. بل أصبح يمثل شبكة من المخاطر كل خطر يوطئ لما بعده ويخدم جوانب أخرى غيره؛ ولهذا فإن تفنيد بعض المخاطر لا يقلل من شأن سواها، وذكر كل منها منفردة لا يعني أنها منبتَّة عما سواها في الواقع؛ فالتعليم بذاته شبكة ضمن شبكة أوسع من المخاطر والمهددات التي تتنامى مع الوقت.
ومن هنا يأتي التعليم الأجنبي على رأس قائمة المخاطر وأدقها وأعمقها أثراً، ويكفي أنه لم يقع أن اتبعت الأمة بمجموعها سنن أهل الكتاب إلا بعد أن أصبحت مدارسهم تنافس مساجدنا، وقد رأينا من آثاره كيف تساق الأمة سوقاً وتقهر قهراً على اتباع سنن أهل الكتاب حذو القذة بالقذة شبراً بشبر وذراعاً بذراع كما جاءت النصوص، وأن هذا ما كان ليتحقق لولا فتح باب التلقي عنهم والانغماس في سوادهم.. وتحسين مسلكهم.. والانبهار بكل ما يأتي عنهم دون تبصر أو تفكر، ووقوع الفتنة بتوليهم ومحبتهم في مقابل خلع ولاية الإيمان.
ونحن بصدد دراسة أهم المخاطر الناجمة عن الوجود التعليمي الغربي في بلادنا للدلالة على ما سواها لا بد أن ندرس أثرها على التيار العام للأمة، وألا نغفل دراسة النماذج الفردية المجلية لأثر التعليم الغربي وإن لم يتح لنا هذا بصورة قوية هنا، لكن تكفي بعض الإشارات الضمنية:
الخطر العقدي:
ويبدأ هذا الخطر حين تقوم هذه المدارس بترويض فكر الطالب شيئاً فشيئاً ليتشرب العقيدة النصرانية، وتنزع عنه حساسية الفطرة والإيمان، من خلال المناهج، والممارسة التربوية، والنموذج التربوي الذي تقدمه هذه المدارس (المثل الأعلى)، وشكل البناء؛ فالمدرسة تبنى بجوار الكنيسة أو داخل فنائها، وأسلوب الإدارة، وتعويد الطفل على رؤية الكهنة والراهبات في منزلة التوقير بما يجعل لهم نفسياً سلطة لا شعورية تبدأ بالاحترام وتنتهي بقبول أفكارهم ومعتقداتهم؛ فلا يجد هذا الطفل حرجاً حين يتخرج أن يرتدي لباس الكهان، بل يظل يحلم بهذه اللحظة، وكأن المدرسة تقول له: قد هيأناك لتكون هكذا! ولا حرج أن يدخل كنيسة المدرسة ظهر كل أحد مع زملائه ليستمع إلى درس الأحد، ولا بأس بعدها أن يدخل أي كنيسة ضيفاً أو زائراً أو مهنئاً أو معزياً..!
وهو في البداية كما قال هوارد ويلس رئيس الجامعة الأمريكية الأسبق في بيروت: «التعليم في مدارسنا هو الطريق الصحيح لزلزلة عقائد المسلم وانتزاعه من قبضة الإسلام».
وهو في النهاية كما يقول بنروز رئيس الجامعة الأمريكية أيضاً: «أثمن الوسائل هي التي استطاع المبشرون أن يلجؤوا إليها في سعيهم لتنصير سوريا ولبنان».
ومن يقرأ تاريخ الأحزاب والحركات الهدامة في العالم الإسلامي في عصرنا الحاضر يلمس دوراً خطيراً للتعليم الأجنبي في تشكيل هذه الحركات وتوجيهها.(4/242)
والمدرسة تبدأ بالطفل خاصة حين يغفل الأبوان عن دورهم في المتابعة، ثم تجعل منها قنطرة إلى أسرته، وهؤلاء تعد لهم المدرسة قائمة طويلة من المناسبات والحجج التي تبدو طبيعية لتوثيق العلاقات، كمجلس الآباء والحفلات الدورية وغيرها من المناسبات، ومن ثم يفتح الباب أمام الكنيسة لتمارس دورها في ربط هؤلاء بحياة الكنيسة، فتشملهم بمجموعة جديدة من الخدمات التعليمية غير النظامية، مثل مدارس القرى، وبرامج التربية الشعبية ومحو الأمية، وبرامج التدريب المهني والحرفي، وتعليم اللغات، والتدريب على الحاسب الآلي، ومجالات السياحة وأعمال مكاتب الطيران، ومراكز تنمية المجتمع، ومراكز رعاية الطفولة و... وتحاول هذه المدارس مع من يلتحق بها أن تعزله عن التأثر بعقيدته الإسلامية ومحيطه الكبير، تارة بإثارة الشكوك.. وأخرى بأساليب السخرية المقنعة والظاهرة.. والتهوين من شأن الإسلام..! وإذا لم يخضع التلميذ وأبدى بعض التمسك كان في انتظاره حزمة من عمليات الحرب النفسية الكفيلة بأحد أمرين: ترك المدرسة، أو عقدة الانطواء؛ ومن ثم تنجح المدرسة في تصوير المتمسك بإسلامه لباقي زملائه على أنه أحد اثنين: إما غير ناجح، وإما معقّد.
ثم تكتمل الحلقة حين يلتحق الطالب بإحدى جامعات الغرب أو فروعها في بلادنا؛ فيجد عشرات من الكتب والرسائل التي تطعن في الإسلام طعناً صريحاً، وتخلط بين الإسلام وما سواه باسم الثقافة، ويجد الزوجة التي تكمل معه المشوار، والأستاذ الذي يأخذ بيده إلى آفاق أخرى، ولهذا لا يعجب المرء بعدها حين يسمع عن تنصر بعض هؤلاء سراً أو علناً.
وكما تعمل المدارس التبشيرية على ترسيخ قيم الكنيسة التي تنتمي إليها، تعمل المدارس العلمانية على ترسيخ القيم المادية من خلال منظومتها التعليمية؛ حيث تطبق المعايير الرأسمالية البحتة على كل شيء بدءاً من عمل المدرسين وأدائهم، وانتهاء بتقييم الطلاب وتحديد أولويات حياتهم.
ومن هنا يزول عجب المرء حين يجد هذا الهجوم الواسع على الإسلام من طوائف واسعة من بني جلدتنا ممن يتحدثون بألسنتنا، وحين يجد الدأب في العمل لخدمة المصالح الغربية على حساب الأمة، حين يعلم المرء أن هذا النتاج هو حصيلة قرن ونصف من العمل الدؤوب في مجال التنشئة.
ومعلوم أن الإنسان يحن إلى طفولته وصباه، ومكوناتهما هي أوتار الحس في بقية مراحل العمر.. وتعلق قلب المتعلم في هذه المدارس يعد مقدمة لما بعده.
فلا عجب أن يُضمَّن الشعر والنثر عقائد أهل الكتاب، ولا غرابة أن تستورد قوانينهم وأفكارهم حتى بعد إحالتها للتقاعد في بلادها، أو أن يصبح إعلامنا بوقاً لترديد ما يشتهون، ومن لم يدركه أثر التعليم مباشرة أدركته توابعه!
وبهذا نجد أن أثر التعليم الأجنبي لا يقف عند حد فرد أو مجموعة وإنما تسري سمومه في جسد الأمة وهي تظن أنها تتداوى. والمتأمل في تاريخ بعض الشخصيات التي تربت في هذه المحاضن يجد أن شؤم التحاق فرد ربما عاد على الأمة كلها بالضرر الكبير، ولدينا أمثلة من حاضرنا تتمثل في أتاتورك رغم أصوله المتصلة باليهود؛ لكن طبيعة نشأته وتكوينه هو ومجموعة الاتحاد والترقي هي التي حركته في الاتجاه الذي سار فيه، و«سنجور» حاكم السنغال السابق الذي نصَّرته مدرسته ـ بينما لا يزال أهله مسلمين ـ وتولت إعداده ليتولى حكم دولة مسلمة بنسبة 99% ويحارب فيها الإسلام، وبعد أن افتضح أمره تفرغ للتنصير، وأقيمت جامعة تحمل اسمه لإعداد المنصِّرين في بلاد المسلمين.
وقل ما هو أعظم من ذلك عن إسماعيل باشا خديوي مصر الذي عاد مع أول بعثة من فرنسا وهو يحلم بتحويل مصر إلى قطعة من فرنسا، ودوره الخطير في تمكين أعضاء المحفل الماسوني من حكم مصر، والسيطرة على قطاع واسع من المنطقة العربية، والذي أغدق الهبات على بعثات التنصير الفرنسية المتعاونة مع الاستعمار من الصين إلى أعماق أفريقيا، وقد ورد في رسالة مسيو «بوجاد» قنصل فرنسا في مصر في 2/5/1869م: «أن إسماعيل منح رئيس أساقفة اللاتين بمصر قطعة أرض مساحتها: 3500 ذراع في موضع حسن جداً (150 ألف فرنك ذهب)، ومنح الراهبات إعانة سنوية (6 آلاف فرنك ذهب) وهبة (200 ألف فرنك)، ومنح أساقفة اللاتين منحة أخرى هي أرض مساحتها 6 آلاف ذراع»(1). وكانت منذ عام 1867م قد بدأت مدارس الاستعمار الفرنسي والبريطاني في العمل في مصر، وجميع عملاء الغرب من رجال الخديوي إسماعيل إنما صنعتهم هذه المدارس.
لقد كان شؤم هؤلاء الثلاثة على عقيدة الأمة وعلى عافيتها أمراً لا يمكن الإحاطة بمداه؛ لأن تبعاته ما زالت تتوالى علينا، وقد كان جهدهم ناتجاً عن عقيدة نجح التعليم في تشكيلهم عليها.(4/243)
ومن العجيب أن نصارى البلاد العربية أبوا أن يلحقوا أولادهم بالمدارس النصرانية الوافدة ـ وهم أهل دين واحد ـ غيرة على مذاهبهم وحرصاً على أبنائهم، فأقاموا مدارس خاصة بهم. أما المسلمون فلم تأنف منهم طائفة أن يسلِّموا أولادهم إلى هؤلاء وهؤلاء! يقول المبشر «تكلى»: «يجب أن نشجع إنشاء المدارس، وأن نشجع على الأخص التعليم الغربي. إن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم حينما تعلموا اللغة الإنجليزية. إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقي أمراً صعباً جداً».
لقد حفلت مناهج التعليم الغربي بجهود المستشرقين في الطعن في الإسلام، وتزيين ما عليه عقيدتهم من باطل، وتحسين مناهجهم وسيرتهم، والفتنة بتاريخهم والتأسي بعظمائهم، والفخر بما حققته مدنيتهم من تقدم مادي، والتنكر لكل ما هو إسلامي وعربي.. كل ذلك ما كان ليبلغ مداه لولا التأسيس لها عقيدياً؛ ولهذا نجد أن كثيراً من أفكارهم الشاذة قد انتقلت من كتبهم إلى بطون الدساتير والقوانين واللوائح العربية، وعبرت عن أفكارهم مئات الصحف والإذاعات، وترجمت إلى آلاف الكتب والرسائل، وأقيم من أجلها ما لا يحصى من المؤتمرات والندوات والجمعيات والهيئات، كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا الغزو العقدي الذي مني به طائفة من المسلمين خلال تربيتهم في هذه المدارس، ويسهرون على نشره ونصره بين مجتمعاتهم اليوم.
الخطر التعليمي والتربوي:
إن ما قام به التعليم الأجنبي ابتداء أشبه بإنشاء جدول صغير خاص به، وتحكم فيما يدخل إلى هذا الجدول كما تحكم في مصبه؛ يسقي منه من شاء، ثم أخذ بتوسيع ذلك الجدول شيئاً فشيئاً، ثم عمد مع الوقت إلى تحويل مجرى الماء الأساسي إلى جدوله لينبع منه ويصب في مصبه هو.
إن من أخطر ما قامت به المدارس الأجنبية أنها استطاعت أن تضع المعايير التي تقاس بها جودة التعليم وفقاً لمآربها هي، مع أن معايير القياس في تجردها فيها جزء مطلق وجزء آخر تحكمه عقيدة المجتمع، لكن الذي حدث أن المدارس فرضت ذلك من خلال طبع صورة الانبهار بها لدى العقل العربي ابتداء، ثم بتمكين خريجيها من توجيه المجتمعات لاحقاً؛ مما أدى إلى فرض صيغة مأزومة للمعايير التي تحكم سير العملية التعليمية الوطنية بعد أن أحاطتها بسياج من الجمود والتخلف والتبعية.
ولو تفحصنا نظرة التربويين إلى عملية التربية لوجدنا أن الأمم الغربية كان لديها حساسية من استعارة معايير خارجة عن المجتمع وظروفه وأهدافه العليا حتى وإن اتفق الطرفان في جزء كبير من العقيدة واللغة والتاريخ. يقول كونانت أستاذ التربية الأمريكي الشهير في كتابه: (التربية والحرية): «إن عملية التربية ليست عملية تعاط وبيع وشراء، وليست بضاعة تصدر إلى الخارج أو تستورد إلى الداخل، إننا في فترات من التاريخ خسرنا أكثر مما ربحنا باستيراد نظرية التعليم الإنكليزية والأوروبية إلى بلادنا الأمريكية»(1).
إن استيراد نظريات التربية الغربية ومعاييرها لا يناسب حال الإنسان المسلم ولا تطلعاته خاصة مع وضوح المفاصلة التي جاء بها القرآن وامتلاء التاريخ بصفحات الكيد والمكر؛ فإذا كانت التربية تعني سعي الأمة للاحتفاظ بنظرية سبق أن آمنت بها، وأقامت عليها حياتها، وجاهدت في سبيل تخليدها.. بنقلها إلى الأجيال القادمة.
ومن ثم فهي الجهد الذي يقوم به آباء شعب ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظرية الحياة التي يؤمنون بها. ووظيفة المدرسة أن تمنح القوى الروحية التي تتصل بنظرية الحياة، وتربي التلميذ تربية تمكنه من الاحتفاظ بحياة الشعب وتمديدها إلى الأمام»(2).
ومن خلال هذه الرؤية التي تزداد خصوصية ووضوحاً إذا ما تعلق الأمر بخير أمة أخرجت للناس نرى أن خطر التعليم الأجنبي لم يقتصر في مزاحمته تعليمنا الداخلي الذي أريد له التخلف والقصور، وإنما في كونه أصبح هو الذي يمسك له البوصلة التي تحدد له اتجاهاته ومساراته، وقيمه ومعاييره، وأهدافه ووسائله، وهنا مكمن الداء في أن الاختراق نجح بإشعاعاته أن يقلب كيميائية التعليم في عدد من بلادنا إلى خلايا سرطانية تتغذى بغذاء الجسد وتعمل في ذات اللحظة على هدمه.
-----------
(1) تتسابق الآن كل من فرنسا والولايات المتحدة في بناء أكبر عدد ممكن من المدارس في أفغانستان ضمن سياسة الفرصة السانحة.
(1) ارتفع التعليم الديني في إسرائيل في السنين العشر الماضية من 48 ألف إلى 111 ألف بنسبة 130%.
(1) أغلب الإحصاءات مستفادة من كتاب المدارس الأجنبية، للدكتور بكر أبو زيد.
(2) نقلاً عن حلقة من برنامج الشريعة والحياة، والضيف هو الشيخ أحمد القطعاني من النشطين في محاربة التبشير، وقد تم اللقاء معه على حلقتين حول التبشير في أفريقيا، وفي آسيا، ومادة اللقاءين منشورة على موقع (الجزيرة نت).
(1) انظر: معالم التاريخ الإسلامي المعاصر. أنور الجندي، ص: 56. عن الغزو الفكري، ص: 107.
(1) انظر: غزو في الصميم، ص: 18، فماذا نقول نحن في بلادنا الإسلامية حين رسم لنا التعليم الأجنبي الطريق، وأراد لنا أن نسير فيه خلفه؟
(2) انظر: غزو في الصميم، ص: (18 ـ 19).(4/244)
صفر 1423 هـ - أبريل- مايو 2002 م
المصدر : http://albayan-magazine.com
===============(4/245)
(4/246)
التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي ( 2- 2 )
مهيمن عبد الجبار
الخطر على الهوية:
خرَّجت المدارس الغربية عشرات الأجيال من المتغربين: منهم من خلع عن نفسه ربقة الإسلام كلية واستبدل بها ما دونها، ومنهم من تشبع بانهزامية وانسحاق أمام الغرب، ومنهم من لم تكن العقيدة ذات بال عنده فانسلك في سياق مادي وقدم نفسه عميلاً أينما وضعه الغرب وجده، ومنهم من انكمش داخل ذاته، ومنهم من رفض كل ذلك لكنه بقي مخترَقاً ببعض القيم الغربية التي تحول بينه وبين الحركة الصحيحة، ومنهم من رفض ذلك علانية فأُقحم في سلسلة من الإهانات والعواصف النفسية التي جعلت منه أنموذجاً مأزوماً منطوياً على نفسه.
هذه المدارس صاغت أخلاق التلاميذ وكونت أذواقهم، والأهم أنها علمتهم اللغات الأوروبية التي جعلت التلاميذ قادرين على الاتصال المباشر بالفكر الأوروبي، فصاروا مستعدين للتأثر بالمؤثرات التي احتكوا بها أيام الطفولة (أي التعليم على الطريقة المسيحية)(1).
إضافة إلى أثر اللغة التي يتعلم بها؛ فثمة علاقة قوية بين اللغة والتكوين العقلي والنظرة إلى الوجود أثبتتها الدراسات الحديثة في علم اللسان، "فأسلوب الاستجابات والمواقف في مجتمع من المجتمعات يرتبط ارتباطاً وثيقاً باللغة والفكر؛ "وعلى هذا فإن الصيغ تؤثر في الذهن وتنظم التفكير بشكل معين". والبناء اللغوي الذي يتلقاه الفرد من محيطه مسؤول مسؤولية مباشرة عن الطريقة التي ينظم بها نظرته إلى العالم(2).
إن إحدى كبريات المعضلات التي يخلفها التعليم الأجنبي هو غرس بذرة القابلية للاستعمار لدى نفوس أتباعه. يقول المستشرق جب: "إن التعليم هو أكبر العوامل الصحيحة التي تعمل على الاستغراب، وإن انتشار التعليم (أي على الطريقة الغربية) سيبعث بازدياد ـ في الظروف الحاضرة ـ على توسيع تيار الاستغراب وتعميقه، ولا سيما لاقترانه بالعوامل التعليمية الأخرى التي تدفع الشعوب الإسلامية في نفس الطريق". وقد أشارت بعض الصحف والمجلات إلى ضعف قضية الولاء لدى خريجي هذه المدارس والجامعات، سواء على مستوى الدين أو على مستوى الدولة أو على مستوى المجتمع.
وأخطر من الاستعمار السياسي والاقتصادي ما يعرف بالاستلاب العقدي؛ لأنه يجعل الإنسان يدور في فلك وإطار حياتي رسم له ولا يرى له وضعاً غير وضعه، ويلجأ إلى ما يسميه بعض المثقفين بالتماهي؛ وهو انبناء الشخصية تبعاً لأنموذج معين حتى يصبح الشخص هو الآخر بأن يكتسب صفاته وهويته دون إدراك منه.
وقد حرصت كثير من الكنائس الشرقية القديمة على بناء المدارس إلى جنب الكنيسة؛ بل في حضن الكنيسة في كثير من الأحيان إشارة منها إلى سلطة العقيدة على الحياة.
ويقول المستشرق "شاتلي": "إن أردتم أن تغزوا الإسلام وتخضدوا شوكته وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة؛ فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم المعنوي وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتهم وتاريخهم، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء منهم لكفانا؛ لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها"(1).
ومع أن لهذه المدارس جوانب لا تنكر في طريقة العرض، وفي جاذبية المناهج، وفي متابعة الطالب وإدارة العملية التعليمية، ولكنها بمثابة ما في الخمر من فوائد؛ لأنها وهي كذلك تعطي مفاتيح مغلوطة للعلم من حيث كنهه وهدفه ووسائل تحصيله ومجالات استثماره خاصة حين يصب في خدمة أعداء الله. نعم! هي تعمل على تنمية الفرد ثقافياً وتجعله يفكر بطريقة منظمة لكن في إطار ما تريد هي، وينتفي هذا النظام إذا تعلق الأمر بالإسلام أو الثقافة أو الحضارة العربية. إذن هي لا تعطيه قيماً تعليمية أو تربوية مطلقة يمكنه من خلالها التفكير المستقل عن الإطار الذي رسم له(2).
ولا يخفى خطرها في إعادة تشكيل الهوية من خلال توظيفها لكل متاح لديها ليخدم في هذا المجال من خلال:
- منظومة القيم التي تحتكم إليها المدرسة ـ نصرانية كانت أو علمانية ـ في إدارتها وفي حكمها على الأمور وكأنها تعوِّده على الرجوع إليها، حتى إذا ما أصبح هذا الخريج في يوم من الأيام مفاوضاً عرفوا كيف يوظفون مواقفه لصالحهم، بل إن قناعته بكثير مما يطمح الغرب إليه يصبح أمراً ذاتياً لديه.
- رسم خريطة الأحلام المستقبلية للطالب؛ بحيث يوضع في اعتباره القيمي مجموعة من الأهداف المستقبلية والطموحات التي ليس من بينها طبعاً العيش في بلاد الإسلام ولا خدمة مصالحها.
- توظيف مناهج هذه المدارس وهي وافدة تدرس بلغة بلدها الأصلي، وتعرض تاريخه وتطوره وثقافته ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ ومن ثم تتجذر قضية الهوية المغايرة في شعور الطالب دون أن يستطيع فهم طبيعة مشكلات مجتمعه هو ولا ينشغل بقضاياه.
وتصبح اللغة الأجنبية لديه لغة العلم والحضارة والتحدث، وتُجعل قالباً للخبرة القيمية؛ لأن اللغة حين تنتقل بتعبيراتها ومضامينها إلى الطالب يتشرب تلك المضامين دون وعي منه.(4/247)
- الجوانب الأدبية والتاريخية، وهي عنصر إلهام؛ فالتاريخ الذي يدرسه الطالب في هذه المدارس ليس هو تاريخ الإسلام، وإنما تاريخ القومية التي تتبعها المدرسة؛ وفي هذا ترسيخ لمفهوم الشعوبية والقومية؛ فعلى سبيل المثال تصور الحروب الصليبية على أنها حملات تنوير، أو أن أسبابها ليست عقيدية وإنما سياسية أو اقتصادية، وأنها نتيجة لخلاف سياسي ناتج عن تنازع المصالح أو عدم تقدير الجانب العربي لمصالح الجانب الغربي؛ ومن هنا تتشكل معالم تذوق جديدة للخير والحق والجمال.
- المعايشة. ومعلوم أثر المعايشة والجو التربوي في بناء الشخصية؛ لأن كثيراً من المستعصيات يمكن أن تحل عن طريق المعايشة.
- وما تقوم به من حملات التشهير المغرضة ضد الإنسان العربي المسلم، ورموزه، ومعطياته الحضارية عبر التاريخ الطويل.
- تعويد الطالب على الفوضى الفكرية باسم التحرر الفكري والحوار؛ حتى يمكنه أن يغير أفكاره كما يغير ملابسه، ولو ذهبنا نتتبع الموضات الفكرية والسياسية المطلة علينا من الغرب لاكتشفنا الصلة المباشرة والقوية لها بالتعليم الأجنبي.
لقد زاد من اتساع الهوة بين الشباب وبين هويته الأصلية أن هذه المدارس ربطت نفسها بمنظومة مستمرة لا تدع للإنسان قراراً منذ أن يقرع بابها إلا على الموت؛ فهي بعد تنشئته تغرس فيه الطموح إلى السفر إلى الغرب لاستكمال التعليم، كما تضمن له غالباً وظيفة مرموقة في شركة من الشركات الأجنبية براتب مرتفع لتزداد العلاقة بالمجتمع تصرماً وانقطاعاً، ثم تفتح له باب الزواج من غربية، ثم تحيطه بإطار واسع ومتشعب من الصداقات والعلاقات الاجتماعية في إطار أعرافها الاجتماعية والثقافية(1).
الخطر الأمني(2):
يتسع مفهوم الأمن ليشمل إلى جانب أمن النظام كمظلة وأمن المجتمع كمحضن ليشمل أمرين سابقين مقدمين عليهما وهما: العقيدة بوصفها أساساً يقوم عليها النظام والمجتمع، والولاء باعتباره صلة تربط بين مكونات المجتمع والدولة. والمفترض أن تعريض واحد من هذين الأمرين للخطر حتى ولو على مستوى فرد يعني تعريض أمن الأمة للخطر. وللأسف فإن نظرية الأمن القومي الأمريكي قد راعت هاتين المسلَّمتين ـ بينما أغفلت في الحس العربي ـ ولكن بنظرتها المخالفة؛ لكنها تقيم لفكرها المنحرف وإنسانها مهما كان وأين كان هذا الاعتبار الأمني.
ومن ثم فإن خطر التعليم الأجنبي على أمن الأمة لا بد أن توضع فيه هذه الاعتبارات، ويوضع على رأس أولويات الأمن القومي للدولة؛ فمجرد ضعف أو إضعاف التعليم الوطني هو تهديد للأمن القومي، ومحاولة جهة ما السيطرة عليه أو التأثير فيه يمثل خطاً أحمر لا يجوز السكوت عنه.
بل إن هذه المدارس في مسألة الأمن قد تخطت هذا إلى ما هو أخطر بكثير إلى التأثير في إعادة صياغة وتشكيل مفهوم الأمن القومي حتى لا تثار ضدها أدنى حساسية؛ فالإعلام والثقافة مدرجان ضمن دائرة الأمن دون أن يُدرَج هذا النوع من التعليم مع أنه أهم وأخطر.
بل على العكس نجد التعليم الإسلامي بكل صوره مدرجاً ضمن مخاطر الأمن القومي في كثير من بلادنا؛ بينما لا نجد أي حساسية من وجود المدارس الأجنبية وانتشارها وهي الدخيلة الزنيمة، والسبب في ظني أن الاختراق التعليمي المبكر لعقل النخبة التي بيدها مقاليد الأمور قد نجح في إقصاء نشاط هذه المدارس من حس العقلية الأمنية ومن حساسيتها؛ وبهذا يقال إن هذه المدارس قد نجحت في توجيه سهامها إلى مقومات الأمن الحقيقية للمجتمعات، ولنا أن نقارن بين دور خريج من خريجي الجامعات يعمل في علن على اختراق عقل الأمة أو تخريب اقتصادها، وبين متهم بالتخابر مع جهة أجنبية في نفس المجالات التي يعمل فيها الخريج: كيف ستكون النظرة إلى الطرفين؟ إن عشرات النماذج في طول بلادنا وعرضها لتخبرنا بما لم يكن متصوراً في حق هؤلاء بل ربما قُدموا للأجيال على أنهم رواد فكر وحضارة دون أن تشعر الأجيال بالخطر الحقيقي الماثل في صنيع هؤلاء، بل لم تثر ضدهم أي شبهات.
أما إذا أضفنا بعداً جلياً ومحسوساً دون كلفة منا وهو الدور المعلوماتي والاستخباري الذي تقوم به كثير من هذه المدارس والمؤسسات التعليمية فإن الأمر يزداد ثقلاً.
إن إحدى كبريات المعضلات التي يخلفها التعليم الأجنبي هو غرس بذرة القابلية للاستعمار لدى نفوس أتباعه، ولو أطلق الإنسان عين البحث في تاريخ هذه المدارس لأمكنه أن يمسك بحبل الصلة بين المدارس الأجنبية وبين الماسونية من خلال أنها تمثل سلطة كونية تعمل على إخضاع العالم لأدواتها.(4/248)
ولا يقف الخطر الأمني عند غرس مفاهيم بعينها ضمن النظرية الأمنية، بل يمتد إلى جوانب أخرى أشار إليها عدد من الباحثين في هذا المجال والتي منها تمييع قضية الولاء والبراء، وتفتيت هذا الولاء بين ولاءات شتى كل حسب مشربه؛ فالذي تلقى تعليمه في المدارس الفرنسية تجد عموم ولائه لفرنسا، ومن تعلم في مدارس أمريكية نجد أن أحلامه أمريكية وهكذا.. وفي هذا إذهاب لريح الأمة وتبديد لطاقاتها بل استثمارها فيما يعود عليها بالضرر. يقول اللورد سالسبوري: "إن مدارس المبشرين أول خطوة من خطوات الاستعمار؛ فهي تحدث في البلاد التي تنشأ فيها انقساماً وتفريقاً بين أهلها، يفقدون بها وحدتهم، فيكونون عوناً للمستعمر على أنفسهم. وقد سجل بعض المؤرخين ملاحظة مهمة تخص هذا النوع من التعليم؛ وهي أنه لم يكن بين الوجود التعليمي البريطاني 1880م والوجود العسكري البريطاني 1882م في مصر سوى عامين فقط"(1).
لقد أشار عدد من الباحثين إلى نجاح التعليم الأجنبي في اختراق جميع مؤسسات الدولة من القمة إلى القاع مرة بالفكر الذي لقنه دائرة واسعة من الناس، ومرة أخرى حين نجح في دعم مجموعة ممن تبناهم بعد تخرجهم وعمل على إبرازهم من خلال وسائل الإعلام؛ لأنه نجح في اختراق الفكر الذي يحكم حركة هذه المؤسسات؛ وذلك حين نجح في زلزلة معاني العقيدة الراسخة داخل المجتمع عن طريق طائفة رباها ثم نجح في تسليط الضوء عليها والسعي في التمكين لها داخل المؤسسات(2).
ومن هنا فإن السماح بدخول أطراف خارجية إلى ساحة التعليم خاصة في المراحل الأولية يعني وجود خلل في إدراك النظرية الأمنية التي تحكم الاستراتيجية المستقبلية للدولة. كما تعني وجود خطر كامن لا يمكن معرفة أبعاده لالتباسه بالحقيقة الداخلية للمواطن، والتي يصعب في كثير من الأحيان تقدير أثرها؛ ولمحلل أو مدقق أن يجري مقارنة بين مسيرة ألف عام في تطور الشخصية الإسلامية على المستوى الفردي والجمعي؛ وبين مسيرة هذه الشخصية خلال مائة عام. وكلي ثقة أن الفارق بين منحنيي التسارع في التغير أجلى من أن ينبه عليه؛ بالإضافة إلى أن مجمل التغير خلال مائة عام فاق بكثير مجمل التغير على مدى ألف عام، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الأمة.
الخطر الاجتماعي:
لقد اهتمت هذه المدارس بتعليم المرأة المسلمة لإخراجها من دينها شيئاً فشيئاً، ولنزع ثوب الحياء عنها. تقول الصليبية (آنَّا مليجان): "ليس هناك طريق لهدم الإسلام أقصر مسافة من تعليم بنات المسلمين في مدارس التبشير الخاصة. إن القضاء على الإسلام يبدأ من هذه المدارس التى أنشئت خصيصاً لهذه الغاية، والتي تستهدف صياغة المرأة المسلمة على النمط الغربي الذي تختفي فيه كلمة الحرام والحياء والفضيلة"! ويوافقها زويمر في ذلك فيقول: "إن أقصر طريق لذلك هو اجتذاب الفتاة المسلمة إلى مدارسهم بكل الوسائل الممكنة؛ لأنها هي التي تتولى عنهم مهمة تحويل المجتمع الإسلامي وسلخه من مقومات دينه.. "، وقد تنبه الغرب لدور المرأة منذ وقت مبكر، فأقام لها مدارس ذات طابع نصراني بنظام الإقامة الكاملة، واحتضن مجموعة منهن كمشاريع رائدات تغرير (تحرير) لأن المرأة أسلس قياداً لكونها مجبولة على التبعية. ولأسباب أخرى نجح الغرب في تكوين إطار نسوي كانت بواكيره في تلك المدارس المغلقة لتصبح المرأة معول هدم بعد أن كانت أداة بناء خاصة حين تتبنى الرؤى الغازية لقضية المرأة والمجتمع. إن مفاهيم تحرير المرأة قد نمت بذرتها في محاضن التعليم الأجنبي من خلال شبهات المستشرقين المبثوثة في المناهج مرة ومن خلال الأمور المكملة من مسرحيات وقصص ونماذج غربية و.. و.. و.. ومن كان يتصور مثلاً أن تصدر في بلادنا العربية سلسلة من القوانين تمكن للمرأة وتسحق الرجل، أو تفسح المجال أمام الشذوذ وتضيقه أمام الزواج، وما يصبغونه على مسالك الغواية من القداسة ضمن تسويق فني وطرح إعلامي يستأثر به صنائع هذه المدارس ليكمل الطوق، ثم تأتي سلسلة القوانين لتفرض مظلة وترسخ لعرف ما كان له أن يشيع بين المؤمنين لولا المكر الكُبَّار؛ فالباليه يُقدَّم على أنه من الثقافة، والرقص ثقافة، والنحت ثقافة، والجنس أيضاً ثقافة.
ترسيخ الطبقية وتفتيت المجتمعات:
وإلى جانب هذا فقد ساهم التعليم الأجنبي في ترسيخ الطبقية داخل المجتمعات؛ حيث إن نظام الالتحاق به كان مبنياً على ذلك؛ فرسوم الالتحاق بهذه المدارس باهظ جداً ولا يستطيعه إلا الأغنياء وهم الطائفة التي تريدهم هذه المدارس وتعطيهم الأولوية حتى يمكنها أن تقيم علاقة مع هذه الطبقة (وهي طبقة الصفوة الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية تبعاً) لتحقق من وراء ذلك عدة أهداف:
- أن الاتصال بهذه الطبقة يسهل عمل هذه المدارس ويفتح لها مغاليق الأبواب.
- أن تربية أبناء هؤلاء مضمون العائد نظراً لأنهم هم الأقرب من امتلاك زمام الأمور سياسياً واقتصادياً وفكرياً في المستقبل.(4/249)
- أن هؤلاء الأولاد غالباً ما يكون الترف قد أكل منهم وشرب؛ وعليه يسهل إقناعهم بأي شيء، ولعلنا لا نمل إذا رددنا أن عبدة الشياطين كانوا من أبناء هذه المدارس ومن نفس الطبقة المستهدفة.
- غالباً ما تكون هذه الأسر في حال تفكك لانشغال الأبوين عن الأولاد؛ ومن ثم فلا توجد سلطة تربوية أو رقابية يمكن أن تفسد ما تغرسه هذه المدارس.
- أن وجود هؤلاء الصفوة يفتح المجال أمام طبقات أخرى أقل في المستوى والمكانة، لكنها مصابة بداء المحاكاة وحب التقليد؛ فتسعى إلى إلحاق أولادها تشبهاً بغيرها؛ وكأن هذا يكسبها مكانة في عين الناس! وساعد في هذا عدد من الأفلام والمسلسلات.
لهذه الأسباب توجهت المدارس الأجنبية لهذه الطبقة فحولتهم إلى نموذجها ورسخت فيهم الشعور بالاغتراب، والنظر إلى المجتمع بنظرة التنقص والنفور، والشعور بالانتماء إلى الغرب بحضارته وقيمه ونظمه، وربما بما هو أكثر: بعقيدته سواء العلمانية أو النصرانية.
المخاطر الأخلاقية:
كثيرة هي المفاسد الأخلاقية التي تورثها الدراسة بهذه المدارس، وأثرها ظاهر فاشٍ؛ ومن أخطرها زوال الحساسية الإيمانية (وازع الإيمان)؛ إذ يقترف الإنسان كثيراً من المنكرات دون أن يهتز منه قلب، بل إننا نرى في كثير من الأحيان مفاخرة ومجاهرة بالحرام.
وبالإضافة إلى ما تبثه من شرور مقصودة، فإنها تعد قناة مباشرة لنقل أمراض المجتمعات الغربية إلى مجتمعاتنا؛ ومن ذلك الانتحار والجرائم الأخلاقية والجريمة المنظمة، ولم يكن من عجب أن يسجل لنا أحد الباحثين المطلعين على أوراق قضية عبدة الشيطان التي تفجرت في منتصف عام 1417هـ أن المنتمين إلى هذه الفئة كانوا جميعاً من منتسبي المدارس الأجنبية وخريجيها!
ومن بينها الاختلاط والتبرج، ونزع الحياء، وإقامة العلاقات المحرمة باسم الحب والصداقة، ومثل هذه المباذل يرسخ التعليم في نفس الطالب أنها من حقوقه، وأنه لا بد أن يمارسها حتى يتخلص من عقدة النقص؛ أي أنهم ركبوا في صورة الإنسان الكامل عشرات من الذنوب والمنكرات من الكذب والغش والخداع، والنفاق والتملق، وأكل الربا والحرص على متاع الدنيا، وترسيخ قيم الفردية والأنانية وعدم الاهتمام بمشاعر الغير، وتفسير كل شيء تفسيراً مادياً؛ والنتيجة ما نرى فضلاً عما نقرأ ونسمع من نمط غربي في الحياة حتى في أدق المسائل حساسية لدى الإنسان العربي. لقد تحدث بعض المطلعين على مثل هذه الأوساط فقال: لقد أصبح من الشائع حتى بلغ درجة العرف بينهم أنه من العيب في حق الشاب حين يتزوج أن يسأل عن عفة زوجته "بكارتها"؛ وكأن الأصل عندهم هو الماضي ـ أي أن لكل فتاة ماضياً ـ ومن العيب أن يسأل عنه كما هو الحال مع الشباب. نسأل الله العصمة والسلامة. ويتناسق هذا ويتناغم مع موضة الثقافة الجنسية وآلاف المواقع والقنوات الاستباحية.
وهكذا نرى أنه كلما نجح هؤلاء في ترسيخ مبدأ جديد في نفوس الأبناء قطعوا شوطاً في إبعاد هؤلاء عن الالتحام مع مجتمعهم والتفاعل مع هويتهم.
أما باقي المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية فالمخاطر فيها تابعة بالضرورة للجوانب التي ذكرت آنفاً، وإن بدا أنها هي التي تؤثر في غيرها؛ لأنه عند التجريد نجد أن السياسة حين تؤثر سلباً على الهوية الاجتماعية أو على الحالة الاجتماعية أو على التعليم فإنها تكون في ذلك الحين قد افتقدت دورها العقدي الأصيل واستبدلته بعقيدة مغايرة كما افتقدت بُعدها القيمي والاجتماعي، كالعضو من الجسد حين يهمل فيعود ضرره على سائر الجسد.
وبعد هذا لم نذكر ما ذكرنا لنيأس من العلاج، ولكن لنشخص ما أصابنا كي يسهل إدراك الدواء؛ والدواء مركب على قدر تركيب الداء، والعافية لا تدرك إلا بتجرع الصبر، وذوق المر والفطام عن أسباب السقام.
الحلول:
إن النظر في حلول أي مشكلة لا بد أن ينبع من معاناة واقعية لعقيدة معينة؛ وحين ذلك تتحول المعاناة من مجرد بحث عن حلول لمشكلات مزمنة إلى بناء حضاري، وهذا ما ينبغي التفكير في إطاره؛ لأنها حين إذن تخرجها من كونها عملية آلية للتغيير إلى عملية إنسانية، وهذا واجب المسلم أينما كان؛ لكن المسألة أكبر من طاقة فرد أو مجموعة، ولا بأس أن يدلي كل بدلوه وينافس غيره، ويتعاون الكل على البر والتقوى.
وما سُجّل هنا من حلول قد سبق إليه أفاضل وأكابر ضم إليه غيره وهو في افتقار إلى زيادة، والجميع في حاجة إلى مبادرة وريادة، وكما قص علينا القرآن: {قّالّ رّجٍلانٌ مٌنّ الّذٌينّ يّخّافٍونّ أّنًعّمّ اللَّهٍ عّلّيًهٌمّا ادًخٍلٍوا عّلّيًهٌمٍ البابّ فّإذّا دّخّلًتٍمٍوهٍ فّإنَّكٍمً غّالٌبٍونّ وعّلّى اللَّهٌ فّتّوّكَّلٍوا إن كٍنتٍم مٍَؤًمٌنٌينّ} [المائدة: 23].
ومن بين هذه الحلول:(4/250)
1 - توعية الآباء وأولياء الأمور بمخاطر هذه المدارس؛ فهي تجمع المعاني التي حرم الخمر والميسر من أجلها، وما الخمر والميسر إلا إحدى ثمارها الخبيثة، وفيها معنى مسجد الضرار، ومجالس الخوض في آيات الله والكفر به، كما أن تقديم الوالدين ولدهما إلى هذه المدارس يجعلهما ضمن من قال النبي صلى الله عليه وسلم : "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه"(1)، ولو لم يكن في ذلك إلا فقد الولد الصالح الذي يدعو له لكفى؛ فكيف وفيها تبعة الدنيا والآخرة؟! ولو أخذنا نموذجاً واحداً من صنائع هذه المدارس لوجدنا أن من دفع بهم إلى هذه المدارس شريك لهم في التبعة، ولا يصح التعلل بوجود رقابة ومتابعة في البيت؛ لأنه لا يدري ما يحدث من ورائه، والقلوب ليست في يده، ولا يدري من يكون أقوى أثراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يورِدَنَّ على مُصِحٍّ ممرض"(2) وقال: "فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد"(3). والمرض البدني أهون في شره من أمراض القلوب والعياذ بالله، وقد كان السلف - رحمهم الله - يشددون النكير في مجالسة أهل البدع؛ فكيف بأهل الكفر الذين يعدون الكيد لنا ديناً؟!
وكيف يسلم الأب ابنه إلى قسيس في ثياب معلم، أو معلم بقلب زنديق ثم يرجو له السلامة؟! وإن على الأب ألاَّ يتصور أن هؤلاء ناصحون مخلصون له في ولده؛ فإنهم وإن أعطوه ما يريد فلن يعطوه إلا بعد أن يأخذوا منه ما أرادوا هم، وهذه شهادة من المبشر هنري هريس جسب يقول فيها: "إن التعليم في الإرساليات التبشيرية إنما هو وسيلة إلى غاية فقط، هذه الغاية هي قيادة الناس وتعليمهم حتى يصبحوا أفراداً مسيحيين وشعوباً مسيحية، ولكن حينما يخطو التعليم وراء هذه الحدود ليصبح غاية في نفسه، وليخرج لنا خيرة علماء الفلك، وعلماء طبقات الأرض، وعلماء النبات، وخيرة الجراحين في الزهو العلمي.. فإننا لا نتردد حينئذ في أن نقول إن رسالة مثل هذه قد خرجت عن المدى التبشيري إلى مدى علماني محض، إلى مدى علمي دنيوي.. "(4). وقد أشرنا إلى أن المدرسة ليست مناهج أو مدرساً وحسبُ، ولكنها نظام يصبغ الطفل مع الوقت بصبغته؛ فإذا أخذنا في الاعتبار فساد الزمان وقلة الناصح ومحاربة سنن الهدى؛ فكيف يمكن أن يفلح في الجمع بين صلاح دينه ونيل دنياه، وقد نهينا عن اقتحام السبل؟!
وحتى نكتشف حجم الخديعة في هذه المدارس يمكن لأي منا أن يجري إحصاء سريعاً حول تعليم النوابغ في بلادنا ليجد أنه لا صلة بين التعليم الأجنبي ونبوغ هؤلاء، بل إن غالبهم من التعليم النظامي.
وقد ذكرنا المخاطر الكامنة في إلحاق الأولاد بهذه المدارس والتي منها فقدان دينه أو تشويه شخصيته إذا ما أبى إلا التمسك بدينه عبر عشرات الإجراءات، والتي منها الاضطهاد، وتشويه صورته أمام زملائه.
والغريب أن هؤلاء المنصِّرين لم تشغلهم أموالهم وأهلوهم عن قضيتهم التي جاؤوا من أجلها؛ بينما نجد من بيننا من شغل أولاده بهمِّ هؤلاء، فضلاً عن اشتغاله بهمِّ دنياهم عن همِّ دينه ودينهم.
2 - نشر فتاوى أهل العلم في تحريم الالتحاق بهذه المدارس، وتحريم تأجير الأماكن لها أو بيع الأراضي لبنائها، أو الترويج لها، والعمل فيها أو معاونتها، وفي وجوب التضييق عليها ووجوب مجابهتم وصدها والتحذير من مخاطرها، ونقلت الفتاوى في ذلك عن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، وقرار هيئة كبار العلماء بالأزهر برئاسة شيخ الأزهر، وفتاوى عدد من العلماء والدعاة ومقالات للمفكرين ومن هؤلاء: الشيخ الخضر حسين شيخ الأزهر، والشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ عبد الرحمن الدوسري، والشيخ رشيد رضا، والشيخ محب الدين الخطيب، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ أبو الحسن الندوي رحمة الله عليهم جميعاً، وغير هؤلاء كثيرون، وكان لفتاواهم صدى في أوقاتها؛ لكنْ مع إلف الواقع وقلة الناصح وقلة الاحتساب ضعفت الهمم وغاب الوعي ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ ففي فتاوى هؤلاء تعرية لحقيقة هذه المدارس وبيان لمخاطرها وبيان لحكمها، ويمكن مراجعتها في كتاب: (المدارس الأجنبية) للدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد.
3 - بيان حكم هجرة علماء الأمة إلى خارج بلاد الإسلام والإقامة هناك؛ وهو التحريم إذا لم يكن لطلب العلم، ولا لاستكمال البحث والدراسة، ثم العودة فور انتهاء مهمتهم؛ وذلك لاحتياج أمتهم إليهم خاصة في حال الحاجة إليهم، وخاصة أن جهودهم اليوم تصب صراحة في دعم العدوان الصريح على الإسلام وأهله، ويشمل هذا جميع الطاقات والتخصصات التي لم تسد حاجة الأمة فيها من بين أبنائها.
4 - تبني الأقسام التربوية والإعلامية والدعوية في الجامعات لخطة بحثية شاملة للخروج بحلول عملية ليس لإنهاء الاستعمار التربوي فقط، وإنما لتلافي الآثار الفكرية والنفسية والسلوكية لهذه المدارس على الأجيال المتخرجة وانعكاساتها السياسية والثقافية على المجتمع.(4/251)
5 - التخطيط التربوي للتعامل مع التحديات القائمة والقادمة؛ فالساحة تحتاج إلى ذوي الخبرات والباحثين في ميدان التربية لوضع خطط متوازية تصلح كل منها للتطبيق في ظل الظروف العالمية الراهنة؛ ومن هنا يمكن إيجاد طبيعة تربوية مرنة تسمح بالتطبيق حتى في ظل التجفيف المستمر لينابيع الإسلام. وأمامنا تجارب متوافرة يمكن الاستفادة منها مثل تجربة الفترة المكية.. تجربة مصر في ظل الحكم العبيدي.. والمسلمين في آسيا الوسطى في ظل الحكم الشيوعي.. وفي تركيا في ظل الكمالية.. وفي الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي.. وفلسطين في ظل الاحتلال الصهيوني.. وتجارب الأقليات الإسلامية والجاليات التي نجحت في بناء هيكلية تربوية وتعليمية خاصة بها.
6 - دراسة حالات النهوض التعليمي المختلفة الشهيرة في العالم، والاستفادة منها مثل التجربة اليابانية والصينية والماليزية والاستفادة منها في إنهاض التعليم الرسمي.
7 - إقامة مجموعة من المواقع الإلكترونية التي تتنوع وتتكامل في نشاطها لتصب في مواجهة الخطر القائم والقادم من قبل التعليم الأجنبي، فتتوزع الأدوار فيما بينها وفق تخصصات مدروسة إما موضوعية أو جغرافية؛ لبيان خطر هذه المدارس في مختلف أركان العملية التربوية، (المناهج، الممارسة، سلوك الإدارة، النظم، الوقائع اليومية، وسائل التأثير، الأدوات المكملة) بما يمهد لمقاطعتها وتحجيم مخاطرها.
8 - علاج أسباب الإقبال على مثل هذا النوع من التعليم وعلاجها ومنها:
أ - تخلف التعليم الرسمي وفقدان الثقة فيه مع أنه على ما فيه من مثالب وعيوب قد خرَّج لنا فطاحل في كل مجال، والمشكلة تكمن في أعراض يمكن علاجها رسمياً، كما يمكن الاستعاضة عن نقصها بتكميلات مجتمعية.
ب - نيل المكانة الاجتماعية التي فرضها واقع هذه المدارس وحين ينافس التعليم الإسلامي والمحلي في الجودة التعليمية؛ فإن مسألة المكانة ستصبح لا قيمة لها خاصة عندما تتلقف الأسواق الخريجين من ذوي الكفاءة والخبرة العالية.
ج - التقليد الأعمى نتيجة ضغط الواقع والأعراف التي تقرن بين الانتساب إلى هذه المدارس وبين المستويات الاجتماعية العالية؛ وعلاجها: إيماني ـ نفسي ـ دعوي.
د - فتح مجالات التوظيف أمام خريجي تلك المعاهد والجامعات الأجنبية بعد عودتهم، وقد نجحت هذه الجامعات الأجنبية أن توفر لخريجيها فرصاً للعمل؛ إذ تعد شهادتها بمثابة وثيقة ضمان لنيل الوظيفة.
هـ - المظهر البراق لأداء تلك المدارس سواء من جهة: الاسم.. البناء.. الملبس.. ومستوى الإدارة.. كفاءة المدرسين.. والرسولم المرتفعة.. والمواصلات.
و - قبول الأطفال في سن مبكرة عن سن التعليم النظامي؛ حيث تقبل الصغار في سن الروضة والابتدائي بحد أقصى يقل شهوراً عن التعليم العام، وهو سبب مهم يجعل أولياء الأمور يلجؤون إليها لاختصار سنة من سنوات التعليم.
ز - تقديم المادة التعليمية بطريقة منظمة ومرتبة، وجودة المناهج من حيث الإخراج والصياغة لا من حيث المادة.
ومثل هذه الأسباب تحتاج إلى نظم خطاب دعوي خاص بهذه الحالة، والاستفادة من بعض أصحاب التجارب في كشف عوار هذه المدارس مع تقديم البديل وعلاج القصور ما أمكن.
9 - ويحتاج إلى نهوض بالتعليم الإسلامي العام الخاص، والعمل على زيادة عدد المدارس ما أمكن. والمراد هنا المدارس الخاصة التي تحل المشكلة وتحقق معايير الجودة الحقيقية للتعليم، وهذا يحتاج إلى رؤوس أموال للاستثمار في هذا المجال وهو مجال مربح جداً على ألا يكون الربح المادي هو الباعث الوحيد للاستثمار؛ لأن الاستثمار في مجال التعليم استثمار بشري في المقام الأول، وقد أثبتت النماذج الإسلامية حينما توفق إلى إدارة جيدة ونماذج تربوية ناجحة تفوقاً على ما سواها من المدارس الأخرى، ومراعاة أحوال المجتمعات وظروف الدول خاصة مع الغزو الإمبريالي المكثف لمجال التعليم في السنوات القليلة الماضية، وقد يكون السمت الإسلامي محارَباً في بعض البلدان لكن يمكن إبقاؤه عند أدنى حد.
10 - جعل قضية رفع مستوى التعليم في المدارس الحكومية همّاً يومياً من هموم الآباء، وجزءاً لا يتجزأ من خطاب الدعاة.(4/252)
11 - عودة وظيفة المؤدب التي عرفتها الخبرة الإسلامية، ويمكن ذلك عن طريق تشجيع أصحاب المواهب التربوية على سلوك هذا السبيل وتنمية مهاراتهم وخبراتهم وكفالتهم مادياً، حتى لو كفلت كل مجموعة من الأسر شاباً ممن يلتمس فيهم الربانية والنبوغ في الجانب السلوكي والتربوي في مقابل تأديب أولادهم بآداب الشرع على أن ينمى تربوياً ويكفل مالياً، وإطلاق الملكات الإبداعية في هذا المجال؛ أي أننا نريد أن نخرج دور المؤدب من العمل الهامشي إلى ممارسة دور رئيس في إطار منتظم يكتسب استمرارية، ويلقى احتراماً من المجتمع، هذا العمل في صورته الصغيرة يمكن أن يحقق طفرات يصعب قطفها أو اجتثاثها أو حتى إعاقتها. ومعلوم تاريخيا أن كل مرحلة تاريخية يمكن أن تولد وظائف وأدواراً جديدة تلقى رواجاً واحتراماً؛ وهذا ما يراد لوظيفة المؤدب بأن يصبح لها إطارها العام وأدبيات الممارسة، ويمكن الاستفادة في هذا من تراث الأمة الضخم في هذا المجال والبناء عليه؛ بحيث يُرعى من خلال الأسر التي يقوم على تربية أولادها، وبهذا نضمن وجود مؤسسة تربوية جانبية يصعب عرقلتها تحت أي ضغوط.
12 - منهجة التربويات والعلوم المختلفة بحيث يقدم خبراء التعليم والمناهج خبراتهم إلى المربين والمعلمين من النوع المشار إليه سابقاً في صورة مناهج قابلة للتدريس.
وختاماً: فإن المواجهة اليوم ضد الإسلام شاملة؛ ولهذا فهي تحتاج إلى نفير شامل؛ وإصلاح الخلل لن يكون إلا بتلمس مواطن الأقدام، ووضعها على الطريق الصحيح؛ والتعليم اليوم هو بؤبؤ العين وحجر الزاوية.
(1) الخنجر المسموم، ص: 27، عن الغزو الفكري التحدي والمواجهة، ص 106.
(2) التخلف الاجتماعي، ص 80.
(1) الاتجاهات الفكرية المعاصرة، ص 12.
(2) ومن الأدلة على ذلك أن البروز الريادي في الجانب العلمي لم يرتبط غالباً بخريجي هذه المدارس والجامعات رغم ما تشيعه هذه المدارس عن نفسها؛ فهي لا تمنح الذكاء ولكنها قد تستغل بعض الأذكياء.
(1) ليلاحظ معي القارئ أن بعض الجامعات الغربية تقوم بنشر إعلانات مدفوعة الأجر تنشر في بعض الصحف والمجلات العربية وخاصة المهاجر منها، تنشر على شكل تحقيقات عن مستوى خريج هذه الجامعات وأنه الأفضل، وأن كل الأبواب مفتوحة أمامه، بل ربما هو الذي يُطرق بابه! وهو أسلوب رخيص في ترسيخ الانهزامية لدى خريج الجامعات الوطنية، ولون من ابتزاز أولياء الأمور لإلحاق أولادهم بهذه الجامعات.
(2) في عام 1992م صدر تقرير عن الكونجرس الأميركي يشير إلى أن أوضاع التعليم في الولايات المتحدة أصبحت تشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي، وأشار إلى أن الوضع لو استمر على ما هو عليه لمدة 20 سنة، فسوف يسبب خطراً على الأمن القومي الأمريكي؛ ولذلك صدر قرار الكونجرس بإصلاح التعليم وتغييره.
(1) في الأشهر الأخيرة نقلت الصحف أخباراً عن اشتعال المظاهرات المعارضة للتواجد السوري في لبنان في جامعة القديس يوسف، وهو نفس الموقف الذي تتبناه الكنيسة المارونية؛ والسؤال عن التوقيت والهدف.
(2) على أنه لا يلزم أن يكون كل خريجي هذه المدارس والجامعات على نحو واحد؛ ففيهم شرفاء ومنهم المنضبط شرعاً ولكنهم قليل، والحكم للأعم الأغلب.
-------------
(1) أخرجه البخاري، رقم 1296. (2) أخرجه البخاري، رقم 5328.
(3) أخرجه أحمد، رقم 9345. (4) غزو في الصميم، ص 25.
ربيع أول 1423 هـ - مايو -يونية 2002 م
http://albayan-magazine.com المصدر :
=============(4/253)
(4/254)
وفاة رفاعة الطهطاوي ـ رائد التغريب
الزمان/ 1 ربيع الآخر ـ 1289 هـ.
المكان/ القاهرة ـ مصر.
الموضوع/ وفاة الشيخ رفاعة الطهطاوي رائد التغريب في العصر الحديث.
الأحداث:
مقدمة:
إن تجربة الالتقاء الحضاري الشامل بين المجتمع العربي الإسلامي والحضارة الأوروبية في بداية القرن التاسع عشر الميلادي الموافق القرن الثالث عشر الهجري، وما خلفته من آثار ما زالت الأمة تتجرع مرارتها حتى الآن ـ لجديرة بالتأمل والتدبر وإمعان التفكير؛ ذلك لأنه قد صبغت وجهة العالم الإسلامي وحددت مساره النفسي والفكري والقيمي لفترة طويلة، وأفرزت عند الأمة هذا المسخ العقلاني القبيح المسمى بالعلمانية التي تسللت لحياة المسلمين واحتلت جانبًا كبيرًا من عقولهم وقلوبهم من حيث لا يعلمون، ولولا رحمة الله - عز وجل - لهذه الأمة ثم الدعوة والصحوة الراشدة التي صححت مسار الأمة بعدما كانت على شفا هلكة وغرق حتمي في مستنقع العلمانية النتن.
والجدير بالذكر أن كافة الانحرافات التي تتصدى لها الصحوة اجتماعيًا وأخلاقيًا وثقافيًا وإعلاميًا جاءت عند حدوث الصدمة الحضارية التي وقعت لبعض المسلمين عندما التقوا مع الحضارة الغربية، وهذه الصدمة أدت للانبهار والهزيمة النفسية والوعي المنقوص، والرغبة في رقي المسلمين كما ارتقى الغربيون، فوقع الخلل، وانحرف المسار، وتشوه التفكير، وانحرفت الأمة إلى طريق التبعية والتقليد الأعمى للغرب، فصارت حضارة المسلمين مثل حضارة القرود تقلد ما تراه ولا تعلم معناه، ونحن على هذه الصفحة نقلب دفاتر أول رائد للتغريب، وأول من تلقى الصدمة الحضارية، لنعلم مدى الأثر البالغ التي خلفته تلك الصدمة المشئومة.
رفاعة رافع الطهطاوي:
في أتون المواجهات العسكرية العنيفة بين الشعب المصري المسلم في صعيد البلاد وبين قوات الحملة الفرنسية النابليونية وبالتحديد سنة 1216 هـ ولد رفاعة رافع بمدينة 'طهطا' من أعمال مديرية 'جرجا' بمحافظة 'المنيا' بعائلة تؤكد شرف انتسابها لآل البيت من الفرع الحسيني، وهذه الدعوة منتشرة بأرض مصر خصوصًا، ولهم نقابة خاصة بهم تعرف بنقابة الأشراف بعضويتها ستة ملايين مصري!!! كلهم يدعي الانتساب لآل البيت، والله يعلم من منهم ينتسب ومن منهم ينتحل، والظن أن أغلبهم منتحلون.
نشأ رفاعة كعادة أبناء جيله على حفظ القرآن الكريم حتى أتمه، وحفظ بعض المتون الشرعية المتداولة حتى توفي أبوه وهو صغير السن، فانتقل للدراسة بالجامع الأزهر، ولم تمر عليه بضع سنين حتى ظهرت نجابته وقوة فهمه وتحصيله العلمي حتى فاق أقرانه، وانتقل إلى طبقة المدرسين وهو في العشرين من عمره، ولكن ضيق ذات اليد كانت تكدر عليه صفو حياته وتعطل مسيرته العلمية وتفرغه للتدريس.
الشيخ المجهول:
ونعني به الشيخ 'حسن العطار'، وكان من كبار علماء الأزهر، حتى إنه قد تولى مشيخة الأزهر في مرحلة من حياته، وكان هذا الشيخ أستاذ رفاعة في الأزهر، وكان له الأثر البالغ في حياة وتفكير رفاعة الطهطاوي رغم جهل الكثيرين بهذا الرجل، ويعتبر حسن العطار أول مشايخ الأزهر افتتانًا بالحضارة الغربية، أو بعبارة أدق أول مصدوم بها، وذلك عندما جاءت الحملة الفرنسية على مصر، واتصل حسن العطار برجالها وتأثر بما عندهم من علوم وتقدم، واشتغل بتعليمهم اللغة العربية، واندمج إلى حد كبير معهم وأنشد في رقيهم وعوايدهم الأشعار، وتوثقت العلاقة بين محمد علي وحسن العطار بعد رحيل الحملة الفرنسية، وأصبح محط ثقته وأحد الركائز التي يعتمد عليها محمد علي في مشروعة الحضاري الجديد القائم في الأصل على الحضارة الغربية.
كان حسن العطار يبث في عقول تلاميذه ـ ومنهم رفاعة الطهطاوي ـ ضرورة التغيير في أوضاع الأمة المسلمة ونقل الحضارة الغربية، ثم جاءت الفرصة عندما طلب محمد علي من حسن العطار أن يرشح له 'إماما' يؤم البعثة المصرية العلمية المتوجهة إلى فرنسا في الصلاة والفتوى، فرشح العطارُ الطهطاوي لتلك المهمة، فتوجه الطهطاوي إلى فرنسا سنة 1241هـ / 1825م، وقد طلب حسن العطار من رفاعة طلبًا خاصًا ألا وهو: تدوين كل ما يراه ويسمعه أثناء هذه الرحلة التي استمرت ست سنوات.
الصدمة الأولى:
الرحلة التي قام بها رفاعة الطهطاوي كانت تمثل اللقاء الأول بين الفكر الإسلامي الأصيل التقليدي والحضارة الغربية في أوج عنفوانها وقوتها عقب الثورة الفرنسية الشهيرة، فوقعت الصدمة الأولى عند هذا الرجل صاحب الثقافة الإسلامية والحضارة التي نبذت لتوها الدين وتخلصت من سلطان الكنيسة بعد الثورة المعروفة، وكانت الحسرة تملأ قلب رفاعة عندما يرى التمدن والحضارة الجديدة قوية راقية مرتفعة ويرى أن المسلمين أولى بتلك القوة من بلاد الكفر، وأن المسلمين أولى من هؤلاء الكفرة بالأخذ بأسباب الحضارة. وهذه كانت بداية الصدمة؛ لأن المسار انحرف بعد ذلك.
مكث رفاعة الطهطاوي ست سنوات يسجل كل ما يراه ويكتبه ويعلق عليه وذلك في كتابه الشهير 'تخليص الأبريز في تلخيص باريس' ووصل بعد هذه الرحلة ـ أو الصدمة الحضارية لعدة قَناعات حددت بعد ذلك مسار حياته عندما رجع إلى مصر.
قَناعات الطهطاوي:(4/255)
ـ ضرورة التقريب بين الأحوال الإسلامية والأحوال الغربية خاصة فيما يتعلق بفكرة التشريع. فيقول في كتابه: 'ومن زاول علم أصول الفقه، وفَقِهَ ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة ـ يقصد أوروبا ـ إليها وجعلوها أساسًا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم قلَّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية'.
وهو بذلك يجعل الشرع الحنيف على قدم سواء مع تشريعات أوروبا الوضعية، فيعتبر بذلك أول من مهد لدخول هذه التشريعات لبلاد المسلمين، وقد ظهر ذلك واقعيًا وعمليًا عندما عاد إلى مصر وقام بترجمة قوانين أوربا الوضعية ونقلها للعربية بناءً على أوامر محمد علي، وما أدى بعد ذلك لاستبدال الشريعة بهذه القوانين الوضعية.
ـ تقديم مفهوم الوطنية من وجهة النظر الأوروبية للعالم الإسلامي لأول مرة بديار الإسلام، فقال في كتابه: 'وما يتمسك به أهل الإسلام من محبة الدين والولوع بحمايته مما يفضلون به عن سائر الأمم في القوة والمنعة يسمونه ـ أي الأوروبيون ـ محبة الوطن'.
وهو بذلك يروج للوطنية على المسلمين السذج مما يمهد السبيل لقطع علائق المسلمين بعضهم ببعض بدعوى ابتعاد أوطانهم واختلافها.
ـ نقل الحرية بالمعنى والمفهوم الفرنسي إلى بلاد المسلمين، بسبب حالة القهر والظلم التي مارسها الطاغية محمد علي على البلاد، مما جعل هذا الشيخ الوافد ينبهر بالحرية التي عليها الناس في أوروبا، فنراه يثني ويدافع عن مراقصة الرجال للنساء ويصفه بأنه نوع من الرياضة والأناقة والفتوة، ويقول عن الاختلاط بين الجنسين: 'ليس داعيًا إلى الفساد'!!!!
ـ ضرورة تحرير المرأة الشرقية والمسلمة. ويكون بذلك أول من أثار هذه القضية بديار المسلمين، فسن بذلك أسوأ السنن حيث حمل بعده رجال راية 'تحرير المرأة' على النمط الغربي، فخُلع الحجاب، وعم الفساد، وانتشر الاختلاط، وضاعت الأنساب.
الحيرة والتخبط:
إن أزمة رفاعة الطهطاوي حقًا تتلخص في الصدمة الحضارية الشديدة التي تلقاها عندما سافر إلى فرنسا، فهو لم ينحرف أو يضل أو يترك شيئًا من عقائده وصلواته، فهو قد ابتعد إيمانيًا عن فرنسا النصرانية، ولكنه اصطدم حضاريًا إلى حد التبعية والتقليد لحضارة فرنسا، ففشل في الجمع بينهما كما فعل الأوائل عندما فهموا ما عند الغير من العلوم وهضموها جيدًا ووظفوها وطوروها بما يخدم أمة الإسلام دون تقليد أو انبهار. ونلمس هذه الحيرة والتخبط في تفكير رفاعة الطهطاوي وأشعاره فمنها:
أيوجد مثل باريس ديار *** شموس العلم فيها لا تغيب
وليل الكفر ليس له صباح *** أما هذا وحقكم عجيب
ـ لقد كان رفاعة الطهطاوي أول من وضع الأفكار النظرية موضع التنفيذ وأنتج أعمالا فكرية تمهد لخطة اجتماعية عملية في التشريع، وفي التعليم، وفي السلوكيات، وكان موضع ثقة محمد علي وأولاده من بعده في تطبيق فكرة التغريب والتحديث الأوروبي في كل الميادين، حتى إن الخديوي 'إسماعيل' طلب منه أن يقنع علماء الأزهر وشيوخه بقبول التشريع الأوروبي الوضعي ودار بينهما هذا الحوار:
قال الخديوي إسماعيل: إنك منهم ونشأت معهم، وأنت أقدر على إقناعهم، أخبرهم أن أوروبا تضطرب إذا هم لم يستجيبوا إلى الحكم بشريعة نابليون.
قال رفاعة: إنني يا مولاي قد شخت، ولم يطعن أحد في ديني فلا تعرضني لتكفير مشايخ الأزهر إياي في آخر حياتي، وأقلني من هذا الأمر. فوافق إسماعيل.
انزوى رفاعة الطهطاوي في آخر حياته عن الساحة وترك مكان الصدارة الذي ظل يشغله طيلة خمسين سنة يترجم علوم وأفكار أوروبا والقوانين الوضعية ويرأس تحرير جريدة 'الوقائع المصرية'، ويكتب المقالات، ويؤلف الكتب ويقنن الأفكار، حتى وافته المنية في 1 ربيع الآخر سنة 1289هـ/1873م. بعد أن قام بالدور الأول في طمس معالم الحضارة الإسلامية وتحويلها لمسخ من الحضارة الغربية، وكلنا يعرف وزر من سن في الإسلام سنة سيئة.
الثلاثاء 5 ربيع الآخر 1425هـ - 25 مايو 2004 م
http://links.islammemo.cc المصدر:
==============(4/256)
(4/257)
من المسؤول عن تغريب الأدب وتذويب هوية الأمة الثقافية ؟
محمد القوصي
منذ عقود خلت احتدمت المعركة بين «الحداثيين» و «المحافظين» وكانت ـ بالفعل ـ معركة حامية الوطيس بين دعاة الخروج على النص الحضاري (لغة وتراثاً وشعراً)، وبين رعاة هذا النص الذين رأوا فيه هويتهم فتمسكوا به، ووجودهم فدافعوا عنه في شجاعة وقوة.
واكتسب «الحداثيون» من خلال الزخم الإعلامي الوافد، والواقع العربي المعقد، اكتسبوا بريقاً في عصر «صناعة النجوم»، لكنهم لم يكسبوا شرعية رغم كتائبهم المدججة بالمال والسلاح، فلم تتبلور لهم ملامح، ولم تتحدد لهم قسمات، بل هي نسخ مكرورة تزداد مع الزمن انغلاقاً رغم ادعاء التفتح، وغموضاً رغم كثرة ما شرحوا متونهم وفسروا رؤاهم في قصائد الشروح والحواشي، والتربيع والتدوير. لقد ظلوا رغم ما يملكون من قوى مادية يحسون بغربة في المسافة، وضيق في المكان، فصبوا غضبهم على التراث، وعلى قدراته في طبيعة الأرض التي ازدهر عليها بالرغم من أنهم جميعاً ـ بالرغبة أو بالإكراه ـ أبناء هذا التراث، إن لم يصبهم من خيره وابل فطلّ.
لقد كانت لهم غاية لا صلة لها بجوهر الشعر ولا بالوعي النقدي التابع له؛ إنها دعوة إلى مقاطعة التراث، وقطع اللسان العربي، وإعلان الحرب على الخليل في عروض لم ينشئها هو، بل كان كاشفاً عنها بأذُن موسيقية بلغت شأواً دونها معامل الصوتيات المعاصرة بآلاتها المبتكرة وعلومها المستحدثة. إنها دعوة إلى القطيعة بين الإنسان في حضارتنا وبين انتمائه؛ فهم يرمون صلتنا بالتراث ـ بل صلة شعراء التفعيلة بالتراث ـ بأنها علاقة عقائدية... ليس هذا فحسب، بل إن مجرد عودة شاعر التفعيلة إلى الشعر العمودي في إحدى قصائده يعتبرونها جريمة لا تغتفر وعثرة لا تقال.
يقول ناقد همام من قادتهم عن الشاعرة العراقية «نازك الملائكة» التي مارست التفعيلة في فترة معينة، ثم عادت إلى «الخليل» مرة أخرى، يقول عنها: «إنها تتجه بخطى واسعة نحو نهاية الشوط، إلى الخاتمة الأسيفة لهذا التيار السلفي الجديد، وهي التحجر والجمود واحتلال جانب المحافظين لحركة التجديد الحديثة في الشعر العربي. إن خطواتها التقليدية تقودها بالرغم عنها إلى حافة اللاوجود الشعري الذي أصاب المحافظين السالفين؛ حيث كتبت أحدث قصائدها في العمود الخليلي كاملاً غير منقوص».
وهكذا أصبحت كتابة القصيدة في العمود الخليلي غير منقوص ردة عن الرؤيا الحديثة للشعر، ونقيضاً للتطور، وسلفية فكرية.
وهذا الذي دعا نزار قباني ليقول: «إن الفخ الخطير الذي وقعت فيه حركة الحداثة هو اعتقادها أن موسيقى الشعر نظام استعماري قديم لا بد من الانقلاب عليه».
وبعد مرور نصف قرن من الزمان لم يظهر بين «الحداثيين العرب» أديب في قامة المنفلوطي أو الرافعي، أو روائي في قامة علي أحمد باكثير أو نجيب الكيلاني، أو شاعر مثل: حافظ إبراهيم أو إبراهيم ناجي أو جميل صدقي الزهاوي... بل كان (الشعر الحر) أكبر همهم ومبلغ علمهم وآخر دعواهم.
خمسون عاماً يقرضون «الشعر الحر» الخالي من الوزن والقافية، والمحشو بالغموض المذموم الذي يكتنف الفكرة سواء أكانت جزئية أم كلية؛ فإنك تقرأ ما يسمى بالقصيدة عندهم فلا تفهم معاني جملها ولا مضمون هيكلها، بل هي عبارة عن كلمات عائمة ـ رُصِفت رَصفاً غريباً متنافراً ـ حتى صارت رطانات وطنطنات عابثة. وسمة الإبداع عندهم أن تخلوَ «القصيدة» من أي غرض أو معنى، ويفلسفون هذا «المسخ» بأن القصيدة التي لا يضمِّنها صاحبها أي غرض أو معنى تظل تنمو وتكبر وتتعدد معانيها بتعدد قرائها...!
لذا، لجأ «الحداثيون العرب» إلى التعابير الغامضة التي تمتلئ بها أشعارهم وكتاباتهم مثل « الممرئية»، رؤياوية»، «التعارض الثنائي»، «اعتباطيات الإشارات»، «اللاحقيقة»، «التموضع الزمكاني»... وغيرها من الألفاظ المائعة والمخنثة.
وفي هذا يقولون: إن «الحداثة» هي الثورة على كل شيء، وآخر يقول: إنها الابتعاد الصارم عن المجتمع.
وفي كتابه «مقدمة في الشعر العربي» يقول الأب الروحي للحداثيين العرب ـ بجرأة شديدة: «.. إن القرآن نفسه إبداع، وكذلك السنَّة؛ فالإبداع القرآني والنبوي أوصدا الطريق أمام الإبداع الأدبي، وأوقعا الخوف في روع الأدباء... ».
ويستطرد هذا الهمام قائلاً: «إن الأدباء العرب لن يبدعوا إلا إذا حرروا أفكارهم من التقيد بالدين والنظم السائدة في المجتمع سواء أكانت اجتماعية أو وطنية أو قومية.. فالأدب، أي الأدب «اللا معقول»، أو «اللاواقع»، أو «اللاحياتي».
أما صاحب كتاب «جدلية الخفاء والتجلي» فيقول: «الحداثة انقطاع معرفي؛ ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني، ولكون الله مركز الوجود... الحداثة انقطاع؛ لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني، ولكون الإنسان مركز الوجود... ».(4/258)
وتقول خالدة سعيد ـ وهي زوجة أدونيس ـ: «.. الحداثة أكثر من التجديد؛ فهي ترتبط بصورة عامة بالانزياح المتسارع في المعارف، وأنماط العلاقات، والإنتاج على نحو يستتبع صراعاً مع المعتقدات؛ مثلما فعل (جبران) في كسر الشرائع وكشف الحقائق... كذلك كان طه حسين وعلي عبد الرازق يخوضان معركة زعزعة النموذج ـ يعني الإسلام ـ بإسقاط صفة الأصالة فيه، ورده إلى الموروث التاريخي، ليؤكدا بأن الإنسان يملك موروثه ولا يملكه هذا الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر في ما اكتسب صفة القداسة [القرآن والحديث] وحق نزع الأسطورة عن المقدس، وحق الأسئلة والبحث عن الأجوبة».
ويقول أحد الحداثيين العرب: «يجب أن نخلع جبة الأصول، وقلنسوة الوعظ، لنترك للشاعر حرية مساءلة النص، ونقض الماضي وتجاربه، ولنترك لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تقترحه من أسئلة. وليس هذا من حق الشاعر فحسب، ولكنه حق حياتنا المعاصرة علينا».
وهذا الكلام يحمل شحنة من التمرد يزعمون أنها وظيفة الأديب والأدب ـ الآن ـ بل إنهم يزعمون أن هذا التمرد لا ينبغي أن يُحصَر في مجال الأدب، ولكنه رسالة العصر سواء أكان المتمرد أديباً أو غير أديب.
وكلمات (الماضي والتراث، وسلطان التاريخ، والقداسة...) وما أشبه هذه الكلمات التي لا يقصد منها الحداثيون إلا الإسلام، وما يتصل به من فكر وأدب، وقيم وسلوك وتراث.
ومنح الحداثيون أنفسهم حق نزع صفة القداسة عن المقدس [الإسلام] ومارسوا حق تصرف الوارث في إرثه، فأخضعوا الإسلام للنقض والأخذ والرد، وأعطوا أنفسهم حق مناقشته وتأويله.
وقد حذر كثير من العقلاء، والأدباء الشرفاء من خطورة موجة الحداثة على الأدب والثقافة العربية الأصيلة، والمؤامرة التي تحاك لسحق هويتنا الثقافية، وإفساد ذوق الجماهير، وتشويه تراثنا وحضارتنا مما يؤدي في نهاية الأمر إلى تحويل أفراد الأمة إلى نباتات مخلوعة من الأرض غير قادرة على النمو والازدهار.
إن هذه التقاليع الأدبية ـ كما يقول رجاء النقاش ـ هي وليدة بعض بيئات الترف والفراغ في أمريكا ومجتمعات أوروبا الغربية المتقدمة التي لم تعد أمامها ما تهتم به أو تسعى إليه في مجال القيم الإنسانية والحضارية، والتي لم تعد تفكر إلا في الرخاء الذي تخشى زواله، وفي الراحة التي أصبح من «المتعب» الحرص عليها والرغبة في منعها من الانهيار.
إن هناك مجتمعات غربية متقدمة لم تعرف هذا الترقي الأدبي والعبث الفني على الإطلاق مثل إنجلترا التي لم نسمع بشاعر فيها يكتب قصائده بالمثلثات أو المربعات والمستطيلات، ولم نسمع بفنان يسمح لنفسه بالهلوسة، ويجد حوله نقاداً يصفقون له ويرفعون رايته ويقولون للعالَم: إن هذا هو الفن الصحيح.
ومن العجيب ـ والكلام لرجاء النقاش ـ أن أصحاب هذه الدعوة الجديدة يقولون إنهم يكتبون قصيدة النثر الخالية من كل قيود القصيدة القديمة، مثل: الوزن أو الموسيقى، وغير ذلك من العناصر الفنية الأساسية في الشعر؛ فهل هذا الادعاء هو ادعاء صحيح؟.. الحقيقة أنه في جوهره ادعاء كاذب؛ لأن الأدب العربي قد عرف منذ عصوره القديمة ذلك النثر المليء بندى الشعر وعذوبته منذ كتابات أبي العلاء في «الفصول والغايات»، وكتابات «أبي حيان التوحيدي»..
وقد عرفنا هذا اللون من النثر المليء بروح الشعر في كثير من كتابات المعاصرين مثل: المنفلوطي، والرافعي، والعقاد، وزكي مبارك، ومي زيادة، وجبران، وأمين الريحاني، وأحمد حسن الزيات... فما أكثر ما كتب هؤلاء نثراً بروح الشعر مليئاً بالوجدان والعاطفة، ولكننا ابداً ما كنا نخرج من كتابات هؤلاء ونحن أشبه بالمجانين الذين فقدوا عقولهم وفقدوا قدرتهم على التمييز بين الأشياء، بل كنا نخرج من كتابات هؤلاء الموهوبين ونحن على العكس ـ في منتهى اليقظة والنشوة العقلية.
*نحن والغرب:
نحن لا ندعو ـ أبداً ـ إلى الانعزال عن الثقافة والآداب العالمية، بل ندعو إلى التواصل معها على أساس مبدأ الانتقاء والاصطفاء الذي يلائم فكرنا وشخصيتنا وانتماءنا العربي والإسلامي، ومجتمعنا الذي يختلف في ظروفه وقضاياه عن المجتمعات الغربية. فهذا هو جبران خليل جبران ـ على الرغم من كونه من دعاة التغريب في أدبنا العربي الحديث ـ إلا أننا نجده يصِف العلاقة بين الشرق والغرب وصفاً صحيحاً؛ حيث يقول: «قلّد الغربُ الشرقَ بحيث مَضَغ وحوَّل الصالح مما اقتبسه إلى كيانه، أما الشرق فإنه اليوم يقلد الغرب، فيتناول ما يطبخه الغربيون ويبتلعه دون إن يحوله إلى كيانه، بل إنه على العكس يحول كيانه إلى كيان غربي، فيبدو أشبه بشيخ هرم فقد أضراسه، أو بطفل لا أضراس له... ».
ويصل جبران إلى حقيقتين: «الأولى: أن الغرب صديق وعدو لنا في آنٍ واحد: صديق إذا تمكنا منه، وعدو إذا وهبنا له قلوبنا وعقولنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا، وعدو إذا وضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه.
ـ أما الحقيقة الثانية: فهي أنه خير للإنسان أن يبني كوخاً بسيطاً من ذاته الأصيلة، من أن يقيم صرحاً شاهقاً من ذاته المقتبسة».(4/259)
ومن أسف أننا وهبنا ـ للغرب ـ قلوبنا وعقولنا، ووضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه. لقد كان كل هذا نتيجة حتمية لهذا المسخ والتقليد والتبعية المطلقة والتهالك على الطارئ. كل ذلك أردى أدبنا العربي في أوحال المادية والعبثية والفحش، وأجهض الكلمة الطيبة بالغموض والنثرية، وتتمثل هذه التبعية ـ بوضوح شديد ـ في المناهج النقدية، وفي فصل الأدب عن الفكر الإسلامي، وبإعلاء الشخصيات المشبوهة، وبالسقوط الأخلاقي، وبضرب لغة القرآن، ومحاكمة الشخصيات الإسلامية بمعايير مادية وفلسفية. وكسر الثوابت، والإيمان بشمولية التغير واستمراره.
ـ كذلك؛ فإن من أشد آثار التغريب والتقليد الفج للآداب الأجنبية أنك تجد الأدب العربي الحديث يعيش بلا هوية، وبلا تماسك، وبلا خصوصية، وأعقب ذلك نهوض أقلام مؤثرة لنبش العفن في موروثنا الأدبي، بحجة أنه موروث، فجاء إحياء الفكر الاعتزالي، والوثني، وشعر الخمر، والمجون، والغزل الفاحش، كما أعيدت ظواهر أدبية وشخصيات مشبوهة لم تكن حاضرة في الذهن رغبة في تحولها إلى قدرة سيئة للناشئة؛ فمثلاً تجد الصعاليك، والزنادقة والشعوبيين والباطنيين، وغلاة المتصوفة، كل أولئك يترددون على ألسنة الأدباء وبشكل لم يسبق له مثيل.
ـ ليس هذا فحسب، بل إن هذا الأدب العربي الحديث ـ بكل أجناسه ـ قد ازداد تأثراً بالمذاهب الأدبية الغربية في لهاث مسعور منذ منتصف القرن العشرين، وتحول بعضه على يد «المتغربين» إلى دعوات فاجرة وهجوم شرس على العقيدة الإسلامية وتراثها، وصار جهداً دؤوباً لتأصيل القيم الغربية في الفن والحياة، ولم يقتصر التأثير على استعادة الأدوات الفنية، بل امتد إلى الخلفيات الفكرية والفلسفية التي تصدر عنها المذاهب الأدبية الغربية، وقد صدرت قصص ودواوين تحمل صورتها وتدعو إليها صراحة وضمناً.
ـ وتبعاً لذلك؛ فقد توزع قسم من أدبنا خلف الأيديولوجيات المختلفة، فوجدت الماركسية قبل سقوطها أدباء يجسدون أفكارها، ويدعون ـ من خلال أعمالهم الأدبية ـ إلى الالتحاق بها، ووجدت نقاداً يجتهدون في تثبيت الواقعية الاشتراكية «الصياغة الأدبية للماركسية».
وبالمثل تماماً؛ فقد وجدت الكتلة الغربية أبواقاً تدعو بقوة إلى اعتناق حضارتها وتقليد فنونها وآدابها.
ومما يدعو للدهشة أن تجد أن النصرانية التي هُزمت في بلادها وعُزلت عن الحياة منذ عصر النهضة، قد دخلت بفضل الغزو الفكري المكثف والضخ الغربي المستمر إلى نتاج عدد من أدبائنا، وقد خلف هذا التيار وذاك آثاراً خطيرة في الأدب المعاصر، وفي مقدمتها الرموز النصرانية المتفشية في الشعر الحديث، وقصص الإنجيل التي أصبحت مادة أساسية لعدد كبير من الشعراء والقاصين.
ـ إلى جانب هذا وذاك، قد تجد أدباً وجودياً، وماركسياً، ومذاهب واتجاهات تسرح وتمرح في وسطنا، وتسهم في تلوُّث وعينا يتبنّاها أبناء المسلمين ويبشرون بها، ويسعون لتكريسها، أو على الأقل يمنحونها مشروعية الوجود، ولا في معاشرتها، وطرد الغربة عنها.
وهكذا اختلطت الأصوات، وتوزع قسم وافر من أدبنا المعاصر وراء المذاهب الأدبية الغربية «المستوردة»، وحمل أدواتها الفنية من جهة، وقيمها وتصوراتها من جهة أخرى، ففقد كثيراً من ملامح الشخصية العربية الإسلامية، وتحول إلى حربة تهاجم الإسلام والمسلمين في عقر دارهم.
ومما يزيد الطين بِلَّة ظهور أعمال أدبية تعبث بالقيم الخلقية ـ التي يحرص عليها الإسلام ـ عبثاً شديداً، وتصوّر العفن والهبوط والنزوات الجنسية المحرمة على أنها عواطف إنسانية رقيقة جديرة بالاهتمام، وتسوّغ التحلل والتفسّخ وتسعى إلى ترسيخه في أعماق الشباب والفتيات تحت ستار الحرية الشخصية.
وقد لاقى هذا الأدب الرخيص تشجيعاً من بعض الأجهزة ومن الهيئات والمؤسسات الثقافية والإعلامية في كثير من بلادنا المغلوبة على أمرها؛ كما أقبلت دور النشر على هذا الأدب المكشوف في سباق محموم، وغطى واجهات المكتبات، بل تسلّل ـ بكل ما فيه من إثارة وتهديم ـ إلى حقائب المدارس ومخادع النوم.
وصارت هذه الأعمال ـ بفضل التطبيع والتغريب والأمركة ـ صارت عنواناً لـ «التنوير» و «الموديرنزم»، وشعاراً لـ «الحداثة»، وطريقاً لـ «التفكير العلمي» الصحيح، وتمشياً مع «روح العصر» وآفاقه وأشواقه الحارة.
ومع كل ما فعله هؤلاء القوم من بني جلدتنا، فإن إيماننا أن الثقافة العربية والإسلامية لهي أقوى من أن تشوّه روعتها بعض الأتربة العابرة، أو أن يطمس نورها الذين يحاولون حجب الشمس بغربالهم الهزيل.
وأخيراً:
أرجو ألا أكون قد نكَّرت لأحد عرشه، أو وضعت «السقاية» في رحله... فأنا لم أجهر بالقول ولم أخافت، ولعلِّي ابتغيت وراء ذلك سبيلاً.
----------------------------------------
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
جمادى الآخرة 1425هـ * يوليو / أغسطس 2004م
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
=============(4/260)
(4/261)
الأفعى النفاقية
12/8/1425
ياسر بن علي الشهري
تشير قضايا العولمة وتأثيراتها المتعددة إلى أن ميدان الصراع القائم والمستقبلي هو ميدان الثقافة والإعلام، حيث تبدلت وتغيرت وسائل السيطرة وإخضاع الشعوب؛ نتيجة للقوة التي تمتلكها تكنولوجيا الاتصال الحديثة في جانبي الوصول إلى كافة بقاع الأرض وما تتمتع به من أساليب إقناعيه وخصائص فنية.
والأمة المسلمة التي تسعى إلى النهوض من جديد، من خلال تقوية صلتها بالله _سبحانه وتعالى_، والاستقامة على أمره، وإقامة الحياة على العلم القائم على الكتاب والسنة النبوية المطهرة، لمواجهة الهيمنة الثقافية الغربية (الإمبريالية الإعلامية الثقافية) لابد لها من بناء إعلامها على الأسس القويمة لدين الله ليعبر عن وجودها المعنوي ومكانتها في حمل الهداية والسعادة والسلام للعالم.
"كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران:110).
ولكن كيف تنهض الأمة، وقد فقدت قوتها المعنوية، وأصبحت منهزمة من الداخل، إذ إن الإعلام الذي ينسب إلى المسلمين اليوم يمثل في غالبه صورة من صور الهزيمة النفسية للأمة أمام الثقافة والقيم الغربية، حتى أفقدهم الثقة في أنفسهم، وأصبح عائقاً أمام محاولات النهوض التي تفتقد في معظمها إلى الوسائل العصرية والفاعلة كوسائل الاتصال الجماهيري.
وعجز الأمة عن استثمار القدرات والإمكانات الهائلة لوسائل الإعلام للنهوض،لا يعني نهاية المطاف، بل إن ذلك يوجب على علماء الأمة، والمتخصصين في هذا المجال تحذير الأمة من استثمار أعدائها لهذا السلاح العصري الخطير وكشف أساليبهم في هدم كيان الأمة، ونسف قيمها ومبادئها، والسير بها خلف التيارات الفكرية المنحرفة، وتقديم التنازلات العقدية والأخلاقية، دون وعي من أبناء المسلمين بدعوى التحضر والحداثة والعصرية.
يقول عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، فيظهر أهل الجاهلية من أجل تقويض عرى الإسلام، فلا يقبل منهم أهل الإسلام ذلك، لمعرفتهم بهم وبجاهليتهم".
وقد حدد القرآن الكريم أعداء الأمة على اختلاف أصنافهم وأشكالهم وطبيعة نياتهم ومواقفهم وسبل مواجهة كل ذلك.
قال _تعالى_: "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ" (الأنعام: من الآية38).
وقال _تعالى_: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل: من الآية89).
والمنافقون هم أكثر العناصر المعادية للإسلام إشاعة للغربة التي حذر منها الرسول _ r_ في المجتمع المسلم، من خلال عملهم الدائم الدؤوب لهدم عرى الإسلام وصرف الناس عنه قال _تعالى_: "هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" (المنافقون: من الآية4).
يقول ابن القيم _رحمه الله_: "إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جداً؛ لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والفساد، فلله كم من معقل للإسلام هدموه؟ وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟ وكم من علم له قد طمسوه؟ فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية ويزعمون أنهم بذلك مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".
وهذه الفئة مهما تخفت فإن الله يظهر ما تضغنه صدورهم وما تبطنه قلوبهم، قال _تعالى_: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ" (محمد:29، 30).
ولذلك ورد الحديث عن النفاق والمنافقين في سبع عشرة سورة مدنية من جملة ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة مئتين وأربعين آية. قال ابن القيم _رحمه الله_: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم".
وعلى ذلك فالمنهج الصحيح هو الكشف عن الأساليب الإعلامية للمنافقين بالعلم الصريح القائم على كتاب الله وسنة رسوله _ r_ للبعد عن الوهم والخرافة والظن، قال _تعالى_: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" (الإسراء: من الآية9) .
فالقرآن الكريم كما يقول سيد قطب _رحمه الله_: "كان دائماً في المعركة الناشئة في القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام، والمعركة الناشئة في الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين يتربصون بها من كل جانب، هذه المعركة كتلك ما تزال قائمة، فالنفس البشرية هي النفس البشرية، وأعداء الأمة الإسلامية هم أعداؤها، ولا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة الإسلامية إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة يخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة".(4/262)
ووسائل الإعلام بما تتمتع به من المميزات والخصائص، تعد من أهم الوسائل المعاصرة التي استخدمها المنافقون بشكل مركز لتحقيق أهدافهم، وتنفيذ مخططاتهم، إذ إنها أسهمت في إلباس الباطل بثوب الإصلاح، وزخرف القول، حتى يروج بين الناس، ولذلك يلجأ المنافقون إلى إلباس طرقهم وأهدافهم وأفكارهم لبوس الإصلاح والحرص على المصلحة. قال _تعالى_: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ" (الأنعام:112).
ويعود تمكنهم من الإعلام وقوتهم في السيطرة عليه وخطرهم، إلى ضعف المسلمين في هذا العصر إذ تلاشت قوتهم، فكان إظهار المنافقين لنفاقهم أشد وأعظم. قال حذيفة بن اليمان _رضي الله عنه_ (أمين سر الرسول _ r_ في المنافقين): "النفاق اليوم أكثر منه على عهد رسول الله _ r_ "أو في الرواية الأخرى" كانوا على عهد النبي _ r_ يسرونه، واليوم يظهرونه".
كما ضاعف من خطورة استغلال المنافقين للإعلام ما تعاني منه الشعوب الإسلامية من الجهل والأمية والفقر والفرقة، بالإضافة إلى الأساليب الإعلامية المستخدمة لتحقيق القبول والإقناع للرسالة الإعلامية، فهي الطريقة التي يتوصل بها إلى الهدف النهائي والقصد الأساسي للاتصال الإعلامي وهو التأثير على المتلقي (الجمهور)، حيث أظهرت الدراسات الإعلامية العامة والدراسات الإعلامية الإسلامية خاصة، اتفاقاً حول أهمية الأسلوب وضرورته للتأثير، وما يصاحب ذلك من المؤثرات التي أفرزتها التقنية، واتفاقاً حول تعدد الأساليب وتنوعها، وارتباط ذلك بموضوع الإعلام وأهدافه والجمهور المخاطب.
ومن هنا فإن على علماء الأمة أن يستجيبوا لحاجة الأمة إلى الكشف عن الأساليب الإعلامية للمنافقين -كما بينها القرآن الكريم- للحذر والتحذير منها ومن أصحابها، ولكشف الأقنعة التي يتخفون وراءها لهدم عرى الإسلام، وإضعاف أهله من خلال حملاتهم لطمس الحقائق، وتزوير الوقائع، والتشكيك في المسلمات، والطعن في الثوابت، والتلبيس والتدليس على العامة، فهذا الموضوع يستمد أهميته من المبررات التالية:
-1 وجوب كشف الأساليب الإعلامية للمنافقين، من خلال فهم كتاب الله وسنة رسوله _ r_ لما يمثله الإعلام اليوم من قوة مادية ومعنوية للأمة، وللحذر والتحذير منهم قال _تعالى_: "هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" (المنافقون: من الآية4).
كما أرشد _سبحانه وتعالى_ إلى تتبع المجرمين والنظر في طرقهم لهدم الدين ومحاربته، قال _تعالى_: "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ" (الأنعام:55).
وعن عمران بن الحصين _رضي الله عنهما_ مرفوعاً إلى رسول الله _ r_ قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي منافق عليم اللسان" أخرجه الإمام أحمد وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1554).
_2 لمجاهدتهم، فقد نزل على الرسول _ r_: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (التوبة:73).
وأعظم الجهاد هو جهاد العلم، حيث ذكر السلف _رضوان الله عليهم_ أن مجاهدة المنافقين تكون باللسان زجراً وتأنيباً وإقامة للحجة عليهم. (تفسير ابن حجر، (10/184).
ويقول تلميذ المصنف الحافظ ابن قيم الجوزية _رحمه الله_: "وكذلك جهاد المنافقين، إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام، فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الأنبياء" (زاد المعاد 3/6)..
واستنفار الأمة لمجاهدتهم ضمن إطار "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" والتحذير من سمات النفاق والمنافقين.
3_ليتجنب المسلمون طاعاتهم، فقد أمر الرسول _ r_ بعدم طاعتهم رغم ما يزخرفون من القول، قال _تعالى_: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً" (الأحزاب:1).
4_لوعظهم فقد يكون منهم الجاهل أو المغرر به، أو قد يهديهم الله _سبحانه وتعالى_ قال _جل وعلا_: " وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً" (النساء: من الآية63).
http://www.almoslim.net/figh_wagi3/show_news_comment_main.cfm?id=212
=============(4/263)
(4/264)
المؤامرة على المرأة في مصر
محمد كمال منصور
لا نقصد بالعنوان تبني فكرة "المؤامرة" بمعناها الشائع؛ حيث إن هناك يداً خفية توجه الأحداث من وراء ستار لتحقيق أهداف ومقاصد خاصة ضد الذين تقصدهم المؤامرة، لكننا نقصد بالمؤامرة هنا مجموعة من الإجراءات والعمليات التي تجري في وضح النهار، يستند القائمون على هذه الإجراءات والعمليات إلى مراكزهم في السلطة والتي تعطيهم الصلاحية في مباشرتها. والمؤامرة تأتي من أن القائمين على تدبير هذه العمليات لا يعبِّرون عن تاريخ الأمة أو مصلحتها أو احترام خصوصيتها ودينها، إن المؤامرة تأتي من فكرة الاغتصاب، سواء على مستوى تولي مواقع السلطة أو الانخراط في مجموعة من الإجراءات التي لا تعبر عن دين الأمة أو نظامها الاجتماعي، وإنما هي تعبير صريح عن رغبة كاذبة في الالتحاق بالمنظومة الفكرية والثقافية للغرب من ناحية، وتعبير - أيضاً - عن إرادة ضعيفة بل ومسلوبة تجاه الاكتساح الغربي - المنظم - للنظام الاجتماعي الإسلامي عبر ما نطلق عليه "عولمة القيم الثقافية والاجتماعية للغرب".
ويستند الغرب في ذلك إلى مجموعة من المعاهدات ذات الطابع الدولي والتي تفرض التزاماً دولياً على من يوقع عليها.. تختفي هذه المعاهدات في الواقع وراء ما يطلق عليه الغرب "حقوق الإنسان".. وتأتي حقوق المرأة في مقدمة هذه الحقوق بحيث تكون مدخلاً لإعادة بناء النظام الاجتماعي الإسلامي بما يحوله في النهاية إلى صورة مشوِّهة للنظم الاجتماعية الغربية.
الانتقال من السياسة إلى المرأة:
في الفترة الاستعمارية كانت حركات التحرر في العالم الإسلامي ومصر تتبنى هدفاً وحيداً وهو الاستقلال والتحرر من الاستعمار، بينما كان يروِّج للأفكار والنظم الغربية مجموعة من المثقفين والمفكرين اللادينيين (العلمانيين) الذين رأوا أن نهضة العالم الإسلامي تتحقق عبر تبني قيم العالم الغربي.. أي أن إجابتهم عن السؤال "كيف تتحقق النهضة؟ " كانت تتمثل في اتباع ما سار عليه الغرب حذو القذة بالقذة شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب دخلناه وراءهم.
الفكرة الأساسية هنا هي أن الحكومات - في الفترة الاستعمارية - كانت تتبنى المطالب السياسية، بينما كان المثقفون من خارج السلطة - وغالبهم تعلم في الغرب وتشرب قيمه - كانوا يدعون إلى نمط الحياة الغربية أي أن الثقافة كانت تعمل في فضاء مختلف عن السياسة، ومع انتهاء الفترة الاستعمارية ومجيء ما نطلق عليه "دول ما بعد الاستعمار"، فإن النظم السياسية الجديدة بدأت في تبني بعض البرامج الاجتماعية والثقافية والسياسية، وبينما كانت السياسة - فيما يبدو - تناطح الغرب، فإن القيم الثقافية والاجتماعية لهذه النظم كانت غربية، لذا دفعت هذه النظم المرأة المسلمة للخروج إلى العمل على نمط المرأة الغربية.
ففي الفترة الناصرية - مثلاً - لم يكن أجر الغالبية العظمى من الرجال يمكنهم من الاستقلال وحدهم بالإنفاق على بيوتهم، ومن ثم كانت الفكرة الرائجة وقتها ضرورة خروج المرأة للعمل؛ لكي تساند في تحمل عبء الإنفاق على الأسرة، وأدى الاستقلال الاقتصادي للمرأة إلى تمردها وفرديتها ومن هنا تراجعت فكرة قوامة الرجل في بيته، كما بدأت ظواهر مجتمعية جديدة تتسلل إلى المجتمع المصري، ومنها: تزايد نسب الطلاق، ارتفاع نسبة جنوح الأطفال، إقامة علاقات خارج نطاق الزواج الشرعي، نبذ الحجاب وتحطيم الحواجز في العلاقة بين الرجل والمرأة بسبب الاختلاط. لقد كان النظام الناصري نظاماً لا دينياً (علمانياً) يتبنى قيم الغرب المجتمعية والثقافية.. باسم الحداثة التي لم تكن تعني في الواقع - لدى النخبة الحاكمة - سوى التغريب.
في هذه المرحلة كان الغرب قد استطاع أن يكوّن زمراً ثقافيةً تتبنى قيمه بحيث أصبحت هذه الزمر وكيل الغرب الثقافي في مصر والعالم العربي والإسلامي.. لم يكن النظام الناصري ليجرؤ على أن يقدم نموذج المرأة المسلمة في مواجهة الغرب الذي زرع في عقول النخبة السياسية والثقافية أن الحضارة والحداثة لها منطقها الذي لا يقاوم وأن المعيار لها هو المعيار الذي وضعه الغرب.. وهذا المعيار هو تقديم المرأة على نمط المرأة الغربية بلا حجاب ولا حياء.. بل إن المبالغة في الالتحاق بالحداثة جعل المرأة في العالم الإسلامي وفي مصر تسرع بخطوات أكثر من المرأة الغربية فبدت الحداثة لديها شكلية متمثلة في المكياج ومقص الخياط والكوافير.. هنا النظم السياسية انتقلت تدريجياً في فترة ما بعد الاستعمار لتتبنى البرامج الاجتماعية التي تعكس القيم الغربية بحيث لم يعد الاستقلال - الذي تحقق - هدفاً، وإنما أصبح الهدف هو تمثل قيم التغريب والحداثة في الجانب الاجتماعي والثقافي كجزء مما يصوره الساسة والنخبة أنه معاصرة.. وإذا كنا نقاوم الغرب سياسياً، فلسنا أقل حق في الاجتماع والسياسة.. وليس نساؤه بأفضل من نسائنا.. ومن هنا كان دفع المرأة دفعاً حتى لو لم تكن راغبة؛ لتكون شهادة للنظام لدى العالم على العصرنة والحداثة.(4/265)
وكما هو معلوم، فإن القيم تأخذ وقتاً طويلاً في تغييرها بأكثر مما تأخذ الأشياء الحادثة.. لكنه في العالم الإسلامي وفي مصر، على وجه الخصوص، فإن القيم الاجتماعية المتصلة بترتيب أوضاع المرأة في المجتمع قد تغيرت على نحو صارخ ومذهل، بحيث لم تأت ستينات القرن إلا وقد تحققت آمال قاسم أمين.. بل إن قاسم نفسه لو رأى ما انتهى إليه حال المرأة في مصر لفزع.. لقد أصبحت المرأة في شوارع القاهرة لا تختلف عن مثيلتها في شوارع باريس ولندن وبرلين وواشنطن.. ولم يكن الأمر فقط أمر ترويج للأفكار الثقافية، وإنما كان أمر تبني النظم السياسية لهذه الأفكار ووضعها موضع التحقيق والتنفيذ. عمل النظام الناصري في هذه الفترة على إلغاء المحاكم الشرعية والتي كانت تقوم بالفصل في المسائل المتصلة بالزواج والطلاق والإرث والنفقة والمتعة وغيرها، وكان القصد من وراء ذلك إثبات علمانية النظام الذي يسعى إلى جعل المرجعية للقانون الوضعي والنظر إلى المواطنين جميعاً باعتبارهم مواطنين متساوين في دولة يحكم علاقتهم بها نظام قانوني موحد.
لقد كانت المحاكم الشرعية مؤسسة تشير إلى وجود بقايا نظام قانوني واجتماعي إسلامي يستند إلى الشريعة وينظر في الفصل فيه قضاة متخصصون في الفقه والأحكام الشرعية، وأحسب أن المحاكم الشرعية كانت المؤسسة الأخيرة ضمن النظام السياسي الناصري والتي كانت تشير إلى المرجعية الإسلامية. وظلت لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ضمن قوانين لا دينية أخرى تمثل القانون الذي يرجع إليه القاضي في المحاكم للفصل في قضايا الأحوال الشخصية. وفي عهد السادات حدثت ضجة ضخمة حول قانون تبنته "جيهان السادات" وقتها للأحوال الشخصية كان أشبه بالقوانين اللادينية التي أقرها بورقيبة في تونس، ووقف الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر - بقوة - ضد هذا القانون اللاديني الذي أباح الزنى ومنع الزواج الشرعي بأخرى.. ووقتها وضع الشيخ "عبد الحليم محمود" قانوناً بديلاً للأحوال الشخصية يستمد كل مواده من الشريعة الإسلامية؛ لأن الرجل رأى أن هناك نية من النظام السياسي للتلاعب بالنظم الاجتماعية ليس على مستوى القيم والثقافة، وإنما على مستوى القوانين.. وتم إجهاض مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي تبنته "جيهان" إبان الفترة الساداتية.
وفي الواقع كان مشروع "جيهان" استجابةً لرغبة النخبة السياسية المتغربة وأفكارها، كما كان استجابةً للمعاهدات الدولية التي تم توقيعها في إطار الأمم المتحدة والتي استهدفت تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة فيما يتصل بمنع الرجل من الزواج بأخرى باعتباره تمييزاً ضد المرأة.. وإعطاء المرأة الحق في السفر بدون إذن الزوج باعتباره تقييداً لحرية المرأة. والنظم السياسية انتقلت من المطالبة بالاستقلال السياسي إلى التلاعب بالنظم الاجتماعية عبر تسميات غامضة، مثل التنمية، وتم إخراج المرأة إلى الشارع وإلى العمل وتم نزع حجابها وتم امتهانها بشكل قاس في وسائل المواصلات والمؤسسات العامة وأصبح معيار "المواطنة" بالنسبة للمرأة هو أن تكون "عاملة" لا "ربة بيت"؛ لأن المرأة العاملة تقبض أجراً في مقابل عملها، بينما ربة البيت لا تتلقى مقابلاً.. بل وفق هذا المنظور المادي الإجرامي، فإن المرأة المواطنة هي التي تقبض أجراً مقابل عملها حتى لو كانت داعرة.. بينما المرأة التي تبقى في منزلها لا تعد مواطنة؛ لأنها لا تأخذ مقابلاً.
مبارك والإجراءات الجديدة:
شهدت فترة حكم مبارك سقوط الاتحاد السوفيتي والانتصار النهائي للغرب عليه، وبدأ مفكرو الغرب يتحدثون عن "نهاية التاريخ" بمعنى توقف الجدل الإنساني؛ لأن للتاريخ والتقدم طريقاً واحداً هي طريق التحررية (الليبرالية) الغربية، وعلى العالم كله أن يتبع طريق الغرب فليس هناك طرق بديلة.. وفي الواقع، فإن مقولة "نهاية التاريخ" التي أطلقها الأمريكي "فوكوياما" هي تعبير عن قمة الغزو الفكري الذي أصبح يُعبر عنه الآن بالعولمة. ورغم أن العولمة تركز على الأبعاد الاقتصادية، إلا أن جوانبها الفكرية والاجتماعية والثقافية لا تقل خطراً وأهمية.. وطرح "هنتجتون" مقولة "صراع الحضارات"، كما طرح مفكرون كثيرون - في الغرب - أطروحة "العدو البديل" والخطر الإسلامي" والخطر الأخضر وقوس الأزمات.. المهم أن انفراد الغرب بقيادة النظام الكوني جعله ينتقل من الصراع السياسي وصراع المصالح مع العالم الإسلامي إلى "صراع الأفكار والنظم والقيم".(4/266)
وجاء في مقدمة "مناطق الصراع" إعادة الهندسة الاجتماعية للعلاقة بين الرجل والمرأة. وإعادة تعريف الأسرة "والحقوق والواجبات داخلها"، أي التدخل في الشئون الداخلية للمجتمعات وفرض نمط اجتماعي من العلاقات والقيم عليها بالقوة. ويمثل مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية - الذي عقد في سبتمبر 1994، ثم مؤتمر المرأة في بكين الذي عقد عام 1995 بعنوان "المساواة والتنمية والسلم" - يمثل آلية دولية ملزمة للدول الموقعة على وثائق المؤتمرين بضمان فرض النمط الاجتماعي الغربي على مصر والعالم الإسلامي. وكنوع من التزام القاهرة بمقررات بكين والقاهرة قامت بتغيير قانون الأحوال الشخصية في مصر، حيث أعطت المرأة المصرية حق الخلع من زوجها بدون رضائه وموافقته، كما كان مقرراً إعطاء المرأة حق السفر بدون إذن زوجها، لكنه تم إحباط هذه المادة.
وكان تغير قانون الأحوال الشخصية جزءاً من الاستجابة لجدول عمل (أجندة) دولي يفرض على الأنظمة عدم التمييز ضد المرأة ومساواتها بالرجل ومنحها الحرية الشخصية في العلاقة مع الأصدقاء ومنحها الحق الإنساني في التصرف بجسدها باعتباره حقاً ذاتياً لها، كما شهدت القاهرة قبل انصرام القرن الماضي مؤتمراً بعنوان "مائة عام على تحرير المرأة". هذا المؤتمر أعده المجلس الأعلى للثقافة (وهو أعلى هيئة ثقافية في وزارة الثقافة) وفيه تجمع شذاذ الآفاق ممن يطلقون على أنفسهم "دعاة الاتجاه النسوي"، وطالبن بحرية المرأة المطلقة في السيطرة على جسدها، كما طالبن بالتمرد على الرجل حتى فيما يتصل بالعلاقة الجنسية به وبناء علاقة جنسية إما مع الذات أو مع المثيل.. ودعاة هذا الاتجاه يطلقن على أنفسهن المبدعات.
لقد كن أكثر تطرفاً في مطالبتهن التسوية مع الاتجاه النسوي في الغرب. ويتم هذا داخل مؤسسة في الدولة.. كان هذا المؤتمر - المجرم - قبل معركة قانون الأحوال الشخصية. ومع مطلع القرن الجديد فُوجئ الناس في مصر بصدور القرار الجمهوري بإنشاء مجلس قومي للمرأة يتبع رئيس الجمهورية وتكون له الشخصية الاعتبارية ويكون مقره القاهرة، ويتكون المجلس من ثلاثين عضواً من الشخصيات العامة وذوي الخبرة في شئون المرأة والنشاط الاجتماعي، ومدة عضويته ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وللمجلس اختصاصات عديدة، أخطرها وأهمها: اقتراح السياسة العامة للمجتمع ومؤسساته الدستورية في مجال تنمية شئون المرأة وتمكينها من أداء دورها الاقتصادي والاجتماعي وإدماج جهودها في برامج التنمية الشاملة، ثم إبداء الرأي في مشروعات القوانين والقرارات المتعلقة بالمرأة قبل عرضها على السلطة المختصة والتوصية باقتراح مشروعات القوانين والقرارات، التي تلزم النهوض بأوضاع المرأة، ثم إبداء الرأي في جميع الاتفاقيات المتعلقة بالمرأة وتمثيل المرأة في المحافل والمنظمات الدولية المعنية بشئون المرأة، وللمجلس لجان دائمة لممارسة اختصاصاته، منها: لجنة الصحة والإسكان ولجنة المنظمات غير الحكومية واللجنة التشريعية.
وفي أول جلسة للمجلس القومي للمرأة تم اختيار "سوزان مبارك" رئيساً للمجلس، بينما تم اختيار مرفت التلاوي أميناً عاماً للمجلس، وحضر "مبارك" جانباً كبيراً من الجلسة الأولى لهذا المجلس، وقالت سوزان مبارك: "إننا سنكون على قدر المسئولية؛ حتى يكون هذا المجلس نقطة تحول حقيقي في تاريخ المرأة المصرية وتطور المجتمع". ويتساءل المرء: إلى أين يريد هؤلاء النسويون الاتجاه بالمرأة؟ ألا يكفيهم ما أحدثوه من تدمير في حياتها حتى الآن ويطمعون في إجراء المزيد.. وفي الواقع، فقد كان إنشاء المجلس القومي للمرأة جزءاً من الاستعداد المصري على المستوى الرسمي لقبول ما يفرضه جدول العمل الدولي الجديد فيما يتصل بترتيب أوضاع المرأة في المجتمع المصري، والذي يؤكد ذلك هو عقد المجلس القومي للمرأة قبل أعمال الدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة بعنوان "المرأة عام 2000" المساواة بين الجنسين والتنمية والسلم في القرن الحادي والعشرين، حيث تمت الموافقة على إصدار تقرير سنوي عن وضع المرأة في مصر على غرار تقرير الأمم المتحدة، حيث سيكون هذا التقرير بمثابة الصك الذي تقدمه مصر للأمم المتحدة والعالم الغربي لتأكيد الرضوخ للمقررات الدولية بشأن أوضاع المرأة، وهو يعني حقيقة أن الكارثة الكبرى بشأن أوضاع المرأة المصرية سوف تأتي في السنوات القادمة، حيث سيكون هذا المجلس هو غرفة العمليات التي تتلقى ما يطلب من مصر لتحويله إلى واقع قانوني واجتماعي.(4/267)
فقد تمت الموافقة على تشكيل مجالس إقليمية للمجلس في أربع عشرة محافظة، ورُصدت ميزانية للمجلس تبلغ خمسة عشر مليون جنيه. وترأست "سوزان مبارك" الوفد المصري في أعمال الدورة الاستثنائية التي عرفت باسم (بكين + 5) وحضرها وفود مائة وسبع وثمانين دولة وهي أكبر تجمع دولي لبحث أوضاع المرأة في العالم منذ المؤتمر الدولي الرابع للمرأة، الذي عقد في بكين عام 1995، وقدم الوفد المصري خلالها تقريراً وضعه المجلس القومي للمرأة من ثلاثة أجزاء حول تنفيذ خطة عمل مؤتمر بكين، وتتمثل في: جهود تحقيق المساواة بين الجنسين للنهوض بوضع المرأة المصرية، والتدابير التالية والمؤسسية من خلال تبني الحكومة لسياسات إدماج المرأة في التنمية، وأخيراً ما حققته مصر من تقدم في تنفيذ خطة عمل مؤتمر بكين بوجه عام، وتزامناً مع انطلاق أعمال الدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة حول قضايا المرأة أعد البنك الدولي مشروع تقرير حول سياسته المتعلقة بالمرأة، وأكد أن تحالف حركة المجتمع المدني في مصر والحكومة بإشراف رجال القضاء والشريعة الإسلامية نجح في إصدار قانون يمثل إنجازاً كبيراً للمرأة المصرية وهو قانون تيسير إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية.. أي أن البنك الدولي - كمؤسسة اقتصادية دولية - يراقب عن كثب تطور الأوضاع القانونية للمرأة في مصر ويمنح شهادة رضى عما تقوم به الدولة ونخبتها بما في ذلك النخبة الدينية.
فليس تغير قانون الأحوال الشخصية استجابة لمشاكل داخلية حقيقية للمرأة في مصر، وإنما هو بالأساس استجابة لإكراه عجيب من قبل المؤسسات الاقتصادية والسياسية والحقوقية الدولية، التي تروج لنظام الاجتماع الغربي وقيمه لفرضه كمرجعية كونية جديدة يجب على كل العالم أن يلتزم بها ولا يحيد عنها.
وفي كلمتها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قالت "سوزان مبارك" إننا لسنا هنا لنستأنف المناقشات أو للتراجع عن الاتفاقيات والقرارات الجماعية التي صدرت في كل من بكين والقاهرة، وإنما نحن هنا لنمضي قدماً ونمهد الطريق لتمكين المرأة من ممارسة حقوقها.. ومضت تقول إن المشاركة هي أكثر القنوات فاعلية لتحقيق إجماع عريض بشأن الأولويات الاقتصادية والاجتماعية، غير أنه من الصعوبة بمكان صياغة مشاركة فاعلة وهو أمر حقيقي خاصة - خلال فترات التحول السريع. وانتهت إلى أنه يجب أن تتلاءم سرعة التغيير مع الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل دولة، "أي أن سوزان مبارك تؤكد الالتزام بمقررات القاهرة وبكين، بل وتسعى للمضي قدماً لتمكين المرأة من المساواة، بيد أنها تنبه المشاركين في تحقيق التحول الاجتماعي والقيمي بشأن المرأة إلى ضرورة المواءمة بين التغيرات وحقائق الاقتصاد والاجتماع والسياسة في البلدان التي يتم السعي لتغييرها. وهنا يبدو لنا كشف لذلك الخطاب المراوغ والخفي الذي يتبناه دعاة التسوية الجديدة في العالم الإسلامي، حيث لا يعبرون عن حقائق مراميهم؛ لأنها تتصادم بعنف مع واقع الناس، ومن ثم فإنهم يستخدمون خطاباً مخالفاً ومخادعاً تمهيداً لحرث التربة لأفكارهم ومشاريعهم.
وقال مندوب مصر في الأمم المتحدة - أحمد أبوالغيط في الاجتماع الذي عقده "كوفي عنان" مع سوزان مبارك قال: إن مصر تسعى جدياً من أجل تنفيذ البرامج المتفق عليها وتطوير التشريعات المصرية، بينما أكدت "سوزان مبارك" أن مصر من أوائل الدول التي تلتزم بتعهداتها فيما يتصل بالقضاء على جميع أشكال العنف والتمييز ضد المرأة. وفي مصر الآن يثور جدل حول اللائحة التنفيذية لقانون الأحوال الشخصية الذي تم إقراره بمصر مطلع هذا القرن، حيث بدأت مشاكل التنفيذ في الظهور.
كما أن هناك وثيقة زواج جديدة أصدرتها وزارة العدل يلتزم فيها الزوج بعدم الاقتران بزوجة أخرى إلا بإذن كتابي من زوجته الأولى، وتفويض الزوج لزوجته بتطليق نفسها وعدم توثيق الزواج إذا كان سن الزوج دون 18 سنة والزوجة 16 سنة، وتحديد من يكون له حق الانتفاع بالمنقولات ومسكن الزوجية في حالة الطلاق أو وفاة الزوج وإدراج وثيقة تأمين باسم الزوجة وعدم الاعتداد بالطلاق إلا إذا كان مطابقاً لوثيقة الطلاق الجديدة.. فمن الواضح - الآن - أن مسألة المرأة هي من المسائل الملحة التي وضع الغرب يده عليها ويريد فرضها على النظم الاجتماعية في البلدان الأخرى خاصة في بلدان العالم الإسلامي.(4/268)
وهكذا يمكننا القول إن صراع الغرب مع العالم الإسلامي انتقل إلى ما يمكن أن نطلق عليه المناطق الحساسة والخطرة المتصلة بالوجود والهوية وهي عصب حياة الناس ووجودهم؛ لذا، فإن إصرار الغرب على طرح جدول أعماله الداعي للمثلية الجنسية وحق الإجهاض وحق ممارسة الجنس المسمى بالآمن للمراهقات واعتبار الفروق الجنسية بين الذكر والأنثى هي فروق اجتماعية تتصل بالدور الذي يمارسه الإنسان وليس بطبيعة الخلق التي خلق الله الناس عليها ومن ثم يمكن للذكر أن يغير دوره ونظرته، كما يمكن للأنثى أن تفعل هي الأخرى، فالفروق ليست بيولوجية ولكنها اجتماعية، كما أن جدول أعمال (أجندة) الغرب المتصل بإعادة تعريف الأسرة وإعادة تعريف الحقوق والواجبات والمسئوليات فيها - والذي يريد أن يفرضها على العالم - تم وصفها في اجتماعات الدورة الاستثنائية الأخيرة للجمعية العامة بأنها نوع من "الاستعمار الجنسي".
فالغرب الآن يسعى لفرض قيمه وهو يتبنى نظرية جديدة لا تعتبر أن الاقتصاد أو الفروق الاقتصادية هي المسببة للتفاوت الطبقي، كما كانت النظرية الشيوعية تفعل، ولكنه يعتقد أن إزالة الفروق بين الرجل والمرأة هي التي تحقق نوعاً من الأهمية الجديدة عابرة القارات وهي الوعاء أو الإطار الذي يوجد بين البشر. إنها ماسونية جنسية جديدة يسعى الغرب من خلالها للسيطرة على العالم الإسلامي وتخريب نظمه الاجتماعية والثقافية.
النتائج المرعبة:
للغرب مصالحه الضخمة في العالم الإسلامي، وهو يسعى - منذ وقت مبكر - إلى إخضاع العالم الإسلامي، وقد أيقن أنه لا يمكنه كسر هذا العالم عبر مواجهة عسكرية، خاصة بعد انتهاء الحروب الصليبية، ومن ثم ابتدع وسائل أخرى هي التي نطلق عليها الغزو الفكري. المثير الآن أن الغزو الفكري قبل انهيار الاتحاد السوفيتي لم يكن وسيلة يرفعها الغرب بشكل سافر وعلني، حيث كان يَعتبِر أن الصراع مع العالم الإسلامي صراع مصالح وسياسات، وليس صراعاً حول القيم والأفكار ونظم الاجتماع والثقافة.. لكنه يعتبر أن أسلوب مواجهته مع العالم الإسلامي يتم عبر صراع اجتماعي وقيمي وفكري ممتد، وأنه، لكي يحقق الغرب هيمنته الفكرية والثقافية، فإن لديه فرصة تاريخية باعتباره القوى المطلقة المتربعة على قمة النظام الكوني.. وهي الفرصة السانحة التي لا يجب أن يضيعها من خلال فرض قيمه ونظمه الاجتماعية باعتبار أن وجود نظم اجتماعية وثقافية وفكرية مختلفة في بلدان أخرى تعوق دون اكتساحه هذه البلدان.
إن العولمة لها أبعادها المختلفة على الرغم من أن التركيز على البعد الاقتصادي فيها أكثر من غيره. فللعولمة أبعادها الاجتماعية والثقافية والفكرية وهي ساحة صراع كبيرة وهائلة بحيث لا يمكن تحقيق الانتصار النهائي للغرب في هذه المعركة، إلا عبر تحطيمه للنظم الاجتماعية والثقافية والفكرية في البلدان الأخرى وخاصة بلدان العالم الإسلامي. من هنا، فإن الإجابة على التساؤل: لماذا يهتم الغرب بالتدخل في شئون بلدان العالم الإسلامي الخاصة، في قضية مثل الختان وجرائم الشرف أو إعادة ترتيب أوضاع العلاقات الاجتماعية. إن الغرب يعتقد أن العالم الإسلامي - على وجه الخصوص - لا يزال يملك مقومات قوة حقيقية تتمثل في النظم التي صاغت تاريخه وهويته ووجوده، وإنه - لكي يحول هذا العالم إلى سوق كبيرة مستهلِكة لمنتجاته - لا بد له من تحطيم هذه النظم المتصلة بوجوده وهويته وتاريخه وثقافته، لذا فإن المعركة الجديدة بين الغرب والعالم الإسلامي مختلفة عن المعارك التي سبقتها؛ لأنها متصلة بالهوية والوجود والحضارة.. ولهذا فهي معركة البقاء والوجود.
((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)). وصدق القوي العزيز: ((فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)).
جمادى الأولى 1421 - يوليو 2000
http://www.alsunnah.o r g المصدر :
============(4/269)
(4/270)
الديك يبيض
أنور قاسم الخضري*
رحبتُ به، وقدمتُ إليه المائدةَ، ودعوتُهُ ليمدَّ يَدَه إلى أيِّ طعام يشتهي..
كنت آملُ أن أفتح معه حواراً حول الإسلام حتى يتسنى لي دعوتُهُ إليه، فقد كان نصرانياً معتزاً بدينه؛ مُعتزاً بحضارةِ قومِه.
وكنتُ أعملُ على أن أرتِّبَ أفكاري حتى أتدرج معه في طرحِ الموضوعِ، فلا أنجرَّ وراءَ عراكٍ لفظيٍ، أو مسألةٍ جانبيةٍ، ثم ينتهي الأمرُ للتعصبِ والنزَاعِ والخصومةِ.
وبينما أنا غارق البال، إذا به يقطع تفكيري بسؤاله:
(ما هذا؟!) (لطبيخٍ كان موضوعاً في وسط المائدة).
فقلت له: هذا بيضُ ديكٍ؟! فضحكَ ومدَّ يدهُ إليه ليطعمَ منه، علَّه يستسيغُ طَرْفْتي السمجةَ.
لم يرقْ له طعمُ الطبيخ، فقلتُ لهُ: لعلك لم تألفْ أن تأكلَ بيضَ الديكِ؟! كادَ الرجلُ أن يشرقَ؛ فما زلتُ أؤَكدُ لهُ ما قلتُ بألفاظي، وتعابير وجهي الجَادة.
ناولته كوبَ ماءٍ، ثم قلتُ لهُ: كُنَّا قديماً نشعرُ بنفسِ الشعورِ تجاهِ طعمِ هذا البيض؛ إلا أننا بعد فترةٍ من الزمنِ تعوَّدْنا أَكلَهُ، واستسغنا طعمَهُ.
هذه المرة عبسَ في وجهي وقالَ: أرجو أن تكونَ مُدركاً لما تقول فليسَ هناكَ ما يُسمى ببيض الدِّيك في أي جزءٍ من العالم، ولكن لعلكَ تقصدُ أن هذه الطبيخَ قد أعدُّ من لحمِ الديكِ، أو تقصدُ أمراً آخرَ.
هذه المرة ضحكتُ أنا، وقلتُ له: بل أنا مدركٌ لحقيقةِ ما أقولُ، ولستُ مستعداً أن أتنازلَ عن علمي اليقيني لأمور ورثها العالمُ دون أن يمحصَ عنها بالتجربةِ والبحثِ والدراسةِ، ولست وحدي على هذا الأمرَ فقومي جميعهم على هذا الأمرِ الذي تنكره.
إلا أنني أضفتُ:
أنا لا أنكرُ أننا كُنَّا سابقاً نرى بنفسِ رأيكم في أن الدجاجةَ وحدها هي التي تبيض، لكننا لم نجمد عند موروثاتنا القديمة، فنحن نؤمن بتغيرِ الظروفِ، وحركةِ الحياةِ، وتقلبِ الأحوالِ، والمسألةُ عندنا تخضعُ للعقلِ.
هنا نهضَ الرجلُ ليصيحَ بأعلى صوتِهِ: عقلٌ.. أيُ عقلٍ... أعتقدُ أنني أحتاجُ إلى أن أُفيقَ من هذا الحُلُم.
لم يكن من الصحيح تركُ الرجلِ ليخرُجَ دونَ أن أوضحَ لهُ صدقَ ما أقولُ، أو في أقلِ القليلِ أن يكملَ عشاءَه، فَيَصِمُنا بالجنونِ أو البخلِ أو بهما معاً.
أصررتُ عليه لكي يجلسَ، وأخذتُ أبادلهُ الابتسامات، وأتلطفُ معه حتى سكنَ وجلسَ.
تركتُ الحديثَ معه وفي نفسي أن أنطلقَ معهُ بعدَ العَشَاءَ في معركةٍ كلاميةٍ أُخرى.
وفي ظلِ الهدوءِ الذي خيمَ على الغرفةِ، كنتُ أتناولُ عشائِي من طبقِ البيضِ بشراهةٍ لم أعهدها فيّ من قبلُ.
وللأسف قطعَ صمتَنَا صياحُ ديكِ جارتِنا، فسألتُ الله من فضلِهِ كما هي السُّنَّةُ، بينما بدءَ يُتمتمُ صاحبي بصوتٍ أسمعُهُ:
ديكٌ يبيضُ.. وبيضُ ديكٍ... وعقلٌ..
ثم عقبَ يقول:
وهل هذا الديكُ أيضاً يبيضُ!!؟
قلتُ له: نعم، غادرتُ الغرفةَ سريعاً، وعدتُ ببيضةٍ في يدي، وقلتُ هذا من جارتي صاحبةُ الديكِ.
قال: وهل يمكنُ أن أنظرَ إلى الديكِ.
فأشرتُ إلى النافذةِ وكانتْ تُطل على صرحِ منزلِ جارتي الذي فيه الديك.
أخرجَ منديلاً ليُجفِفَ عَرَقَهُ، والتفت إليَّ وسألَ: وكم قيمةُ هذا الديكِ؟!
قلتُ له: قيمتُهُ تُساوي قيمةَ أيَّ ديكٍ آخرَ هنا أو في بلادِكم!!
قال: ولكني أريدُ أن أشتريَهُ.
قلتُ له: أخبرُ جارتي، وإن كانتْ لن توافقَ على بيعهِ بدونِ الدجاجةِ.
قال: أنا لا أحتاجُها فلدينا من أمثالها الكثيرُ.
قلتُ له: وكيف يبيضُ الديكُ إذن؟!.
مال إلى الجدرِ مستنداً إلى يِدِهِ وأشارَ بيدِهِ: الدجَاجةُ تُلقِحُ الديكَ إذن.
قلتُ له: أمرٌ طبيعي، وإلا فكيف ستخرجُ البيضةُ من الديكِ.
قال لي: هل يمكنُ أن تَتَحدثَ بهذا الكلامِ أمامَ وسائلِ الإعلامِ.
قلتُ له: وماذا في الأمرِ.
قال: إذن دعني أسأَلَكَ من مبتكرُ هذه النظريةِ من علماءِكم.
قلتُ له: هم أبناءُنا - ولا فخرَ - الذين درسوا لديكمُ العلومَ، فما عرفوا منها إلا حقوقَ المرأةِ، فمنذُ ذلك الحينُ والديكُ في أعيننا يبيضُ.
كنتُ في خيالي هذا، وكنتُ أتمنا أن أرى مشهدَ صاحبي بعدَ وقوعِ الكلامِ عليه، إلا أن زوجتي أيقظتني من خيالي بصياحها من المطبخ.
أين البيض يا ديك البيت؟!!
* رئيس مركز الجزيرة العربية للداراسات والبحوث بصنعاء.
المصدر : http://www.islamselect.com
=============(4/271)
(4/272)
الثقافة العارية
محمد أحمد الزنداني
"يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون".
إن الولايات المتحدة وحلفائها - المسيرين من قبل الصهيونية - لم تستطع أن تنجز أو تحقق أي عمل عسكري واستخباري إلا بمساعدة أذنابها، سواءً ممن يدعون الإسلام، أو من أبناء جلدتنا من عملاء يخترقون الصفوف، ويختلقون الفتن.
فيصموا آذاننا، ويزكموا أنفونا بأفكار وثقافة عارية مستوردة من المستنقعات الغربية، فتارة باسم تحرير المرأة بتحريرها من قيود الفضيلة والأخلاق، وتحرير جسدها ومفاتنها من الحجاب، وتحويلها إلى امرأة عارضة للمفاتن والأزياء، امرأة تعيسة تخفي ملامح وجهها الحزين البائس خلف حجب من المكياج.
وتارة باسم الديمقراطية وما الديمقراطية إلا وجهين لسياسة واحدة، وقناع كبير تخفى ورائها السيطرة الصهيونية على سياسة واقتصاد العالم.
وتارة باسم حقوق الإنسان "غير المسلم"، وتأسس لها الهيئات والنقابات والمنح الدراسية للتدريب على حقوق الإنسان، وكأن المسلمين حيوانات مفترسة تحتاج للترويض والتدريب على الحركات البهلوانية لإضحاك وإمتاع جمهور سيرك النجمة السداسية.
وتارة باسم الوسطية وما وسطيتهم إلا ربط للخصر والهز، والاعتدال أمام صفعات الأعداء على خدودنا، وضربات سياطهم على أجسادنا.
وتارة باسم حوار الحضارات بهدف التسوية بين الوثنية والإسلام، واستعلاء الباطل على الحق، هذه هي القيادة والثقافة التي أوصلت المسلمين إلى هذا الحال، من تخلف وإذلال، وخضوع للإدارة الصهيوأمريكية ومطالبها التغييرية لثقافتنا وفكرنا ومناهجنا الدراسية؛ لخلق جيل، ومن عقيدته وإيمانه، لخلق جيل شهواني السلوك، مادي الغايات، بليد الأفكار.
إن المرحلة التي يمر بها المسلمون في الوقت الراهن ليست مرحلة للبكاء والشعور بالهزيمة؛ بل مرحلة الخروج من دائرة الضغوط والخوف، مرحلة عمل ودعوة وإعداد لقيادة إسلامية مخلصة لسد الفراغ بعد أن انكشف للأمة هشاشة وعري قياداتنا خاصة بعد سقوط بغداد.
وأخيراً.. لقد سقطت بغداد، وسقطت معها جميع الأقنعة، وبانت كل الوجوه القبيحة، وكل القيادات والثقافات والشعارات العارية، وانتهى دور الأذناب، وبدأت بالاحتضار، فسقوط بغداد؛ صفعة قوية أيقظت الأمة من نومها، وآن الأوان لعلمائنا الأفاضل أن يدركوا أنهم المقدمة والبداية لإتاحة الفرصة للعمل في جو أكثر حرية ووضوح.
"إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
المصدر : http://www.islamselect.com
===========(4/273)
(4/274)
لا .. للمرتدين ذهنيّاً
د. نورة خالد السعد
الأمة الإسلامية في مرحلة من الوهن والانحطاط لا تحسد عليها، وأخفقت هذه الأمة في حمل رسالة الإسلام عقيدة ومنهج حياة، ومجال تقدم في العلم والمعرفة، رغم وجود إرهاصات ممتازة في ماليزيا - مثلاً -؛ ولكن في معظم مجتمعاتنا العربية الوضع هو الاستكانة والاعتماد على مصانع أمريكا والغرب في استيراد ما يسد رمق الشعوب، وإن توقف الأمر على هذا الاستيراد (المادي) فربما تكون المصيبة أهون، ولكن ما لا يطاق هو الإصرار على الاستيراد للفكر والثقافة والنموذج الغربي بكل مثالبه.
وبما أن حضارة الغرب قامت على التقدم المتسارع في مجال العلم والمعرفة وتطبيقاتها في الحياة مما خطف أبصار الراكضين خلف بريقها من مجموعة يطلق عليها (المثقفون)!! هذه الطبقة التي تتوالد في كل مجتمع عربي مسلم تباعدت عن البيئة المسلمة وقيمها، واعتنقت حضارة الغرب ومدنيته، وآمنت بفلسفة هذه الحضارة، وتشبعت ذهنياتهم بما تحمله من توجيهات لا دينية بعد عزل الدين عن منهج الحياة وإبقائه فيما أطلق عليه (المؤسسة الدينية)، وسلوك هذه الطبقة يماشي أسلوب تفكيرهم الذي أصبح نتاجاً غريباً؛ فرغم أنهم ولدوا ونشأوا في بيئات عربية ومسلمة ولكن ما يتحدثون به وينادون به هو ( نشاز) إذا ما قيس بمعيار (التشريع الإسلامي) الذي يوجه كل مناحي الحياة سياسياً وتربوياً وإعلامياً واجتماعياً واقتصادياً، ولا يعزل في (مؤسسة دينية) كما يقولون وينادون.
إن هؤلاء أصيبوا بما يسمى (ارتداد ذهني) مخيف، ووجدوا فرصتهم في معظم المجتمعات العربية من خلال تيار سياسي أو ثقافي، أو اختراق للوزارات المسؤولة عن الإعلام وعن الثقافة والتربية؛ فأحدثوا وحققوا ما يرغبون.. والنتائج هي مزيد من الانسلاخ عن قيم المجتمعات المسلمة، وعدم تحقيق أي مخرجات مجتمعية تسهم في دور تنموي فاعل، وتقرير التنمية السنوي الذي نشر في العام السابق أو العام الحالي مؤشر للإخفاق الاقتصادي والاجتماعي.
هنا .. في مجتمعنا.. لم يكن لهذه الفئة وجود إلا من خلال نشاط أدبي!! ولكن مؤخراً وجدنا أنهم يتوالدون كالأرانب!!
يهاجمون الدين وليس علماء الدين كما يدّعون تحت مظلة أن العالم ليس معصوماً من الخطأ.
يفسرون الآيات القرآنية كما يرغبون!! ويستعدون الدولة على المؤسسات الدعوية، وعلى النشاط اللا منهجي في المدارس!!، وعلى بعض المعلمين الذين يتهمون بأنهم (غلاة)!!، والتهمة لا يتم اقتصارها على عدد محدود إذا افترضنا أنهم كذلك؛ ولكنهم يتهمون الجميع، بل ويطالب أحدهم عبر قناة مشبوهة بأن يتم اجتثاث جذورهم فهم العبء الذي نعاني منه - كما يقول -!!
هذا الهجوم على الدين عبر هذا الشخص الذي جند جهوده لمحاربة المناهج الدينية منذ اللحظات الأولى لهجمات سبتمبر، وعبر قناة فضائية اشترك معه فيها عدد من الأفاضل أنكروا عليه هذا، وخصوصاً أن أحدهم كان رجل تربية، ويعرف المناهج جيداً.. ويومها لم ينطق ولم يكابر.. ولكنه ما فتئ في كل فرصة يعيد المقولة، وأن (المؤسسة الدينية) هي المهيمنة على مؤسسات التعليم وهنا يكمن الخطر - كما يقول -!!، ويطالب بتحييد المؤسسة الدينية!! وكي يجد قبولاً لدى من يسمعه يحاول أن يكون عقلانياً فيقول: " يجب أن نفرق بين الدين وبين المؤسسة الدينية.. الدين من الممكن أن أعطيه عدة تفسيرات الآن، في الإمكان أن أفسر لك وأقول لك، أو أخرج بنظرية ليبرالية من الدين أو نظرية من الدين أو نظرية شمولية، يعتمد على موقفي.. فالدين واسع وسمح.. لكن المشكلة عندما يكون هناك مؤسسة دينية معينة ذات تدثير معين، ذات رأي واحد تفرضه على الجميع على أنه هو الدين.. هنا تكمن المشكلة وخاصة في المملكة ".
هذه العبارات ألا تؤكد بُعد هذا الإنسان عن فهم الدين كما ينبغي، وما الفرق بين العقيدة في الإسلام وما تؤمن به أو تعتقده الديانات التي عزلت الدين في (مؤسسة دينية)!! ثم إن هذه الفئة تحارب العلماء والمشايخ بدعوى أنهم (يفسرون الدين وفق مرجعيتهم)؛ بينما هو هنا يدعى أنه يمكن له أن يفسر الدين وفق نظرية ليبرالية أو شمولية!! بل وفي مقالات له يقوم بشرح الآيات والأحاديث وهو لا يفقه في أصول علم الفقه أو التفسير.. أي وفق (مرجعيته)!!(4/275)
هذا نموذج فقط؛ إذ إن الآخرين لا يملون من الانتقاد، بل والهجوم على محتوى المناهج وفق (انتقائية) غربية، كما قام أحدهم في قناة فضائية باستعراض الدراسة التي قدمت في الحوار الفكري الثاني، وشرحها للعالم العربي والإسلامي والأمريكي!! كي يدركوا ما في هذه المناهج من عداء للآخر!! بل (ويفسر) ما قد لا يفهم لمن يستمع إليه، فهل هذا سبيل الإصلاح ينتهجه هؤلاء؟! وبعضهم كانوا مشاركين في الحوار الوطني! وهل هذا الهجوم على المناهج الدينية سوف يفتح آفاقاً لعالم المعرفة والعلم واللحاق (بالتقدم)؟! وهل استخدام (ورقة النساء) للهجوم على ثوابت الشريعة التي تحرّم الاختلاط كما هو حالياً، وليس الاختلاط الذي يدعونه وأنه يحدث في المسجد الحرام!! هل الإصلاح الإداري والقضاء على الفقر سيتم من خلال تكوين ما يسمى بثورة النساء!! أي خلع الحجاب؟! هل سنبني مجتمعنا بالتخلي عن ثوابتنا الشرعية التي لم تؤسس هذه الدولة إلاّ على أركانها؟!
نعم هناك مناهج في حاجة إلى التطوير.. ومدارس فقيرة من جميع أولويات الوسائل التعليمية، والمناخ التربوي.. لم يطالب أحد بإصلاحها أو تجنيد المجتمع لذلك!!
ونعم هناك عدم فعالية في تطبيق بعض الأحكام القضائية الخاصة بقضايا المطلقات وحضانة الأطفال، والميراث، وسوء استخدام لمفهوم القوامة ... وإلخ من قضايا تمس حياة الفرد في المجتمع، نعم هناك ما نحتاج جميعاً إلى التعاون لإصلاحه؛ ولكن لن يتم هذا وفق منهجية الغرب وتبعية (فئة الارتداد الذهني)!!.
المصدر : http://www.islamtoday.net/a r ticles/show_a r ticles_content.cfm?id=37&catid=39&a r tid=3858
============== =====(4/276)
(4/277)
أزمة أخلاق (1- 4 )
محمد سرور بن نايف زين العابدين
إنها أزمة:
ليس من شيء في عالمنا المعاصر أكثرُ من الأزمات التي لا يخلو منها بلد من البلدان، أو مدينة من المدن، وأكاد أقول: لا تخلو منها معظم بيوت المسلمين.
فكثيراً ما نسمع أن هناك أزمة في الحكم في هذا البلد أو ذاك، ويعود نشوءُ هذه الأزمة لأسباب مختلفة:
منها: حدوث اختلاف قوي بين الحزبين الذين يتقاسمان السلطة - وما أكثر هذا النوع من الخلافات -، ويفتقد كلُ من هذين الحزبين الأكثرية في المجلس التشريعي - البرلمان - التي تمكنه من الانفراد في الحكم.
ومنها: أن يصل العسكريون إلى الحكم إثر انقلاب عسكري يحوكون خيوطه في الظلام، ثم يذعن الناس لسياسة الأمر الواقع، وينتظرون استقرار الحكم الجديد، وتنفيذ قادته للوعود المعسولة التي وعدوا الأمة بها بعد نجاح انقلابهم على النظام المهترئ العميل الذي أطاحوا به (على حد زعمهم)، ولكن الناس يفاجأون بانقلاب جديد على هذا الانقلاب، قد يكون صامتاً، وقد ينقسم الجيش إلى أجنحة تتقاتل فيما بينها، وربما تجاوزت شظايا ونيرانُ هذه المعارك الثكنات العسكرية لتصل إلى الآمنين من المدنيين في المنازل والأسواق والشوارع العامة.
وقصارى القول: إن الأسباب تتعدد بتعدد الأزمات التي لا نهاية لها، ولابد أن ينعكس أثر هذه الأزمات على شؤون الإدارة والحكم، فيتغيب كبار المسؤولين عن مكاتبهم في الوزارات والمؤسسات العامة، وتتعطل مصالح العباد، ويستولي الهلع والقلق على نفوس الناس، وتكثر الأسئلة والهمسات عما ستنجلي عنه هذه الأزمة.. ومن المنتصر.. وما هي السياسة التي سيتبعها.. وهل في انتصار هذه الجهة أو تلك أمل في بتر دابر الفساد والمفسدين؟!.
غير أن المواطنين يصابون بخيبة أمل عندما يستقر الوضع لصالح جهة من الجهات المتصارعة، لأن الفساد على مختلف أشكاله يستمر، والقهر والاستبداد يزداد سوءاً، والأمل من التغيير يتبدد، وتترسخ قناعة أهل الخير والصلاح بأن هذا وذاك سواء لأنهم شركاء في الحكم والفكر، وما بينهم من خلافات لا تعدو المصالح الشخصية.. وأن كل من حادّ الله ورسوله واتبع سبيل الشيطان لا خير فيه، ولو رفع راية العدل والإنصاف.
وتطرق مسامعنا بين الحين والآخر أخبار الأزمات الاقتصادية المتتالية، لاسيما ونحن نعيش في عصر هيمن فيه طاغوت ظالم اسمه "صندوق النقد الدولي"، فعندما يضغط هذا الصندوق الربوي على بلد من بلدان العالم تأخر في وفاء الالتزامات المطلوبة منه، ويأمره برفع الدعم عن بعض المواد الغذائية الضرورية، لابد أن يستجيب البلد للأمر المطلوب منه، ولو حاول أن يتهرب منه بعض الوقت، والاستجابة هذه يتحمل وزرها الفقراء الذين كان دخلهم يكاد لا يسد حاجاتهم الضرورية قبل رفع الأسعار، فكيف يكون حالهم بعدها؟!.
ولما كان هؤلاء الفقراء يمثلون الغالبية العظمى من أبناء هذا البلد، فإنهم لا يجدون وسيلة يعبرون فيها عن مشاعرهم عندما يقترب منهم شبح المجاعة إلا الخروج إلى الشوارع العامة متظاهرين مستنكرين، وقد تتحول المظاهرات إلى قتال دموي عندما تأمر السلطة رجال أمنها وقوات جيشها بقمع هذا الشغب (!!).. ولابد أن تكون الغلبة لقوات النظام المدربة على مثل هذه الأعمال، لاسيما وأنها مزودة بالأوامر التي تسمح لها بقتل وجرح وأسر كل من لا يفر هارباً من أمامها.
يتفرق المتظاهرون، وكل منهم له شأن، فمنهم من يقتل وينشغل أهله بأمور دفنه، ومنهم من تعج بهم المستشفيات ليعالجوا من الإصابات التي تعرضوا لها، ومنهم من يكون مصيره السجن ويوجه إليه ما يشاء المحقق من التهم، والبقية الباقية يعودون إلى منازلهم التي خرجوا منها يشكون أزمة اسمها "الخبز" ورجعوا إليها بأزمة أخرى اسمها القهر والاستعباد والإذلال.
وهناك أزمات بين السلطة والنقابات المهنية لا ينقطع الحديث عنها، فقد تطالب نقابة من النقابات برفع أجور العمال المنتسبين إليها ليكون دخلهم متناسباً مع ارتفاع الأسعار. وقد ترفض السلطة هذا الطلب لأن الميزانية لا تتحمل مثل هذه الزيادة، فلا تجد النقابة بداً من الإضراب الذي قد يؤدي إلى توقف إنتاج الشركات والمصانع، أو إلى تعطيل حركة السير وامتلاء الشوارع بالقمامة وبالروائح الكريهة التي تنبعث منها.. ثم تبدأ المفاوضات من جديد بين السلطة والنقابة للبحث عن مخرج من هذه الأزمة.
أجل.. إن الأزمات التي يهتم بها الناس - كل الناس - كثيرة ومتنوعة، لكن أزمة واحدة لا تجد نصيبها من العناية والاهتمام والدراسة مع أنها أزمة الأزمات، ومشكلة المشاكل، وعنوان رقي الأمم أو هلاكها واندحارها أمام أعدائها.. إنها أزمة الأخلاق!!، وما من أزمة أخرى إلا ولها بها صلة، فالسلطة الملتزمة بالعدل وقواعد الأخلاق تجوع إذا جاع الناس، وتشبع إذا شبعوا، وهكذا كان شأن عمر ابن الخطاب وغيره من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم:
إن جاع في شدة قوم شَرِكْتَهُمُ في الجوع أو تنجلي عنها غواشيها
جوع الخليفة والدنيا بقبضته في الزهد منزلة سبحان موليها(4/278)
إنني أفهم لماذا يثور الناس ويقاتلون من أجل خبز يومهم، لكني لا أفهم لماذا لا يثورون ويقاتلون من أجل دينهم الذي يعتدى عليه، ومن أجل أخلاقهم التي تنتهك وأعراضهم التي تهتك.. فهل الطعام والشراب أهم عند الناس من الدين والأخلاق؟!.
وأفهم كذلك لماذا يعرف الخاصة والعامة، والصغير والكبير من غير استثناء أن هناك أزمة اسمها: إضراب عمال التنظيفات من أجل زيادة أجورهم، لكنني لا أفهم لماذا لا يعرف هؤلاء جميعاً بأن هناك أزمة اسمها أزمة أخلاق، ولماذا لا تكون إثارة الناس لهذه الأزمة بحجم إثارة عمال التنظيفات لقضيتهم؟!.
تلجأ السلطات أحياناً إلى إثارة أزمة لها علاقة قوية بالدين والأخلاق، ومن الأمثلة على ذلك مشكلة المخدرات التي تجتاح العالم كله، فتعقد من أجلها المؤتمرات والندوات، وقد يستدعي علماء ودعاة ليدلوا بدلوهم، وليبيّنوا حرمة تعاطي هذه السموم.. ثم يخرج المؤتمرون بقرارات من أهمها تشديد العقوبة على كل من يتاجر بالمخدرات، لكن هذه القرارات تبقى حبراً على ورق لأن المطلوب منهم تطبيقُها هم المدمنون على المخدرات، وهم الذين يَرْعَونَ العصابات الخطيرة التي تتاجر بها، ولديهم حيل ووسائل كثيرة يبررون من خلالها مواقفهم، ويلقون باللائمة على غيرهم.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السلطات لا تكافح المخدرات لأسباب دينية وأخلاقية، وإنما تكافحها لما لها من أثر مدمر على اقتصاد بلدانهم، ولأن الإدمان مرتبط أشد الارتباط بالجريمة، وازدياد الجرائم يهدد أمن النظام واستقراره.. ولولا هذان السببان لبقيت المخدرات مسألة شخصية مثلها كمثل الخمور التي تبيحها القوانين المعمول بها.
ومن الأدلة على ذلك أن بعض المسؤولين التنفيذيين عن مكافحة المخدرات يقولون في الندوات العامة:
إن الذين يداومون على ارتياد المساجد لا يتعاطون المخدرات.. وإن معظم التائبين إنما ترتبط توبتهم بأسباب دينية.. ثم يختمون حديثهم بالدعوة إلى نشر الوعي الديني بين الشباب.
ثم نسمع فيما بعد أن هؤلاء المسؤولين الصغار قد أبعدوا عن وظائفهم، مع أن بعضهم ليس متديناً، وقال الذي قاله من منطلق الأرقام والإحصائيات التي بحوزته، وهو لا يدري أنه قد تجاوز الحدود المسموح بها، وليس من حقه أبداً التوصية بنشر الوعي الديني لأن المسؤولين الكبار لو خيروا بين انتشار المخدرات أو الوعي الديني لاختاروا الأولى على الثانية التي تهدد فسادهم واستمرارهم في السلطة.
إن أزمة الأخلاق التي تعاظم أمرها، واستفحل شرها يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام آخر تثير أمام الباحثين السؤال الآتي:
هناك صحوة إسلامية يلمسها كل إنسان أينما اتجه: في المساجد، والمدارس، والمصانع، والشوارع العامة، ورغم كل القيود التي تعترضها فإنها والحمد لله تزداد رسوخاً وصلابة وكثرة.
وهناك أيضاً فساد عريض على المستويين الفردي والجماعي.. فكيف نجمع بين هذا وذاك؟!.
وقبل الإجابة على هذا السؤال فإنني أهيب بإخواني الدعاة أن يتجنبوا النظرة السطحية القاصرة التي لا يرى فيها بعض الصالحين إلا من كانوا على شاكلتهم من أهل الفضل والتدين.. يرونهم في المساجد التي تزدحم بالمصلين، ويرونهم أيضاً في المنتديات العامة والخاصة فيظنون أن الأمة بخير.. لكنهم لو أتيح لهم أن يروا دوائر أخرى مخالفة لدائرتهم الخاصة لتمالكهم العجب والذهول، وظنوا أنهم في بلد آخر غير بلدهم الذي يعرفونه، ولابد من التذكير أن الدعاة لن يكتب لهم النجاح وتحقيق الأهداف إلا إذا أحاطوا بعلل مجتمعاتهم.
ومن جهة أخرى فإن انتشار الوعي الديني قد تحقق بقدرة الله - سبحانه وتعالى-، ثم بجهود بعض الصالحين من الدعاة الذين كتب الله لهم القبول عند الناس.. وإمكانات هؤلاء الدعاة بسيطة وغير منظمة، أما إمكانات أهل البغي والفساد فغير محدودة من قوة اتساعها، ففي الإطار الداخلي يتبنى مشروعهم جهات رسمية لها بنود في ميزانية الدولة، وفي الإطار الخارجي تقف الدول الاستعمارية بتاريخها البغيض وراء مخطط إبعاد المسلمين عن دينهم لأنه مصدر قوتهم، ومبعث عزهم، ولا سبيل إلى تحقيق هذا المخطط إلا بنشر الفساد وإشاعة الظلم والاستعباد.
ومن جهة ثالثة فنحن لا نواجه أزمة بدأت آثارها تبرز منذ أعوام قليلة، ولا نتحدث عن المعاصي الفردية التي يتستر المذنبون بفعلها لأن مثل هذه الأفعال لم يخل منها أي عصر من العصور بما في ذلك عصر الرعيل الأول.
متى بدأت هذه الأزمة.. ومن الذي خطط لها وكيف.. وما هو مدى تأثيرها على الدعاة.. وكيف تكون البداية التي ينطلق منها المصلحون، وبمن يقتدون؟! هذا ما سأحاول الإجابة عليه في هذا البحث، ومن الله وحده نستمد العون والتوفيق.
المستعمر وضع أساس هذه الأزمة:(4/279)
كان للإرساليات التبشيرية في بلدان العالم الإسلامي دور في اقتلاع العقيدة الإسلامية من قلوب ونفوس من وقع في شراكهم من أبناء أمتنا، ومن أجل ذلك كانوا يعقدون المؤتمرات التي يستعرضون فيها أنشطتهم، ويضعون الحلول المناسبة للمشكلات التي تواجههم، وفي أحد أهم مؤتمراتهم تدارسوا أسباب فشلهم في تنصير المسلمين رغم ضخامة الإمكانات التي يضعونها في هذا السبيل، وفي هذه المناسبة ألقى القس زويمر رئيس مؤتمر القدس التبشيري خطبة، كان مما قاله فيها:
"أيها الإخوان الأبطال والزملاء الذين كتب الله لهم الجهاد في سبيل المسيحية واستعمارها لبلاد المسلمين، فأحاطتهم عناية الرب بالتوفيق الجليل المقدس، لقد أديتم الرسالة التي نيطت بكم أحسن الأداء، ووفقتم لها أسمى التوفيق، وإن كان يخيل إلي أنه مع إتمامكم العمل على أكمل الوجوه، لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية منه.. إني أقركم على أن الذين أدخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين، لقد كانوا كما قلتم أحد ثلاثة: إما صغير لم يكن له من أهله من يعرّفه ما هو الإسلام، أو رجل مستخف بالأديان لا يبغي غير الحصول على قوته، وقد اشتد به الفقر وعزت عليه لقمة العيش، وآخر يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية. ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن هذا هداية لهم وتكريم، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به في خلال الأعوام السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه، وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعاً كل التهنئة"، وأضاف قائلاً:
"لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية الكثيرة التي تهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية.. والفضل إليكم وحدكم أيها الزملاء أنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد".
"إنكم أعددتم نشئاً (في بلاد المسلمين) لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات. فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن بنوا أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء".
"إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه وانتهيتم إلى خير النتائج وباركتكم المسيحية، ورضي عنكم الاستعمار، فاستمروا في أداء رسالتكم فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضوع بركات الرب" أهـ [1].
في خطاب زويمر لفتات مهمة يجدر بكل مسلم غيور على دينه أن يتأملها جيداً، ولعل من أهمها قوله: ".. وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها".
ومن هنا نستطيع أن نكتشف أسرار وأبعاد كثير من الأمور التي جرت ولا تزال تجري في بلدان العالم الإسلامي:
- قرر المبشرون في مؤتمرهم المنعقد سنة 1906 بالقاهرة إنشاء جامعة علمانية على نمط الجامعات الفرنسية لمناهضة الأزهر، والذي قالوا إنه يتهدد كنيسة المسيح بالخطر.
وفي سنة 1908 تم افتتاح الجامعة المصرية (أي جامعة القاهرة اليوم)، وكان من أبرز المؤسسين لها والقائمين عليها:
قاسم أمين، سعد زغلول، أحمد لطفي السيد، مرقص فهمي، السير جاستون ماسترو، يعقوب آرتين، إسماعيل صدقي، وسيرة هذه الأسماء وتاريخها الفكري خير دليل على أن هذه الجامعة لن تكون إلا منبراً من منابر التغريب والإفساد، وعلى هذا النحو قامت كليات ومعاهد ومدارس ابتدائية، وثانوية في مصر أولاً ثم في بقية البلدان العربية، وكلها ملتزم بالمنهج العلماني، ولكن بصياغة عربية معدلة لابد فيها من التدرج، وعدم مفاجأة الناس بما لا يطيقون.(4/280)
- جميع القادة الذين تولوا شؤون الحكم والفكر في بلادنا متخرجون من مدارس تبشيرية صليبية، أو من جامعات غربية كجامعة لندن، وباريس، وبرلين، أو من فروعها في بلادنا؛ كالجامعة اليسوعية، أو الأمريكية التي تخرج منها أكثر دعاة القومية العربية الذي تزعموا أحزاباً وحركات علمانية.. والكليات الحربية التي خرّجت قادة الانقلابات العسكرية لا تشذ عن هذه القاعدة في نهجها، وفي تربية الضباط الذين يتخرجون منها، ولا يكتفي المشرفون على هذه الكليات بالمناهج العلمانية التي يتلقاها الدارسون قبل تخرجهم، وإنما يرسلونهم إلى أمريكا وأوربا بما يسمونه دورات تختلف في مسمياتها، وتتفق في نتائجها التي لا تخرج عن الإعجاب بالغرب وتقدمه في مختلف المجالات، وفي مقدمتها إقامة علاقات محرمة يحنون إليها بعد عودتهم إلى بلدانهم.
- أنشأ المشرفون على الجامعة المصرية كليات ومعاهد عليا أطلقوا عليها اسم "الفنون الجميلة" مع التزام قاعدتهم الآنفة الذكر "التدرج وعدم مفاجأة الناس بما لا يطيقون" أتدري أيها القارئ الكريم ما هي هذه الفنون الجميلة؟!.
إنها: التمثيل، والتصوير، والموسيقى، والمسارح، والرقص، والسينما. ولابد للدارسين والعاملين في هذا الميدان من اختلاط الرجال بالنساء، كما أنه لا يمكن للمرأة أن تمارس هذه المهنة إلا إذا خرجت سافرة ومتبذلة.. هذه هي فنونهم الجميلة، أي أن ترقص المرأة مع الرجل على خشبة مسرح عام تمتلئ مقاعده بالمشاهدين فكيف إذا كانت هذه الفنون قبيحة؟!.
- كان من بين الذين مهدوا لهذا الغزو الهدام ناس تخرجوا من الأزهر، وآخرون مثقفون بثقافة إسلامية، ومن بين هؤلاء وأولئك: الشيخ رفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، وعلي عبد الرازق، يقول الأخير في تقريظه لكتاب "السفور والحجاب" للكاتبة السورية نظيرة زين الدين:
"إني لأحسب مصر قد اجتازت بحمد الله طور البحث النظري في مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ، فلست تجد بين المصريين إلا المخلفين منهم من يتساءل اليوم عن السفور هل هو من الدين أم لا، ومن ضروريات الحياة الحديثة، أم لا، بل نجدهم حتى الكثير من الرجعيين المحجبين منهم يؤمنون بأن السفور دين وعقل وضرورة لا مناص لحياة المدنية عنها".
".. أما إخواننا السوريون فيلوح أن للسفور والحجاب عندهم تاريخاً غير تاريخه في مصر، فهم لم يتجاوزوا بعد طور البحث النظري الذي بدأه بيننا المرحوم قاسم أمين منذ أكثر من عشرين سنة، ولكنهم على ذلك يسيرون معنا جنباً إلى جنب في الطور الجديد الذي نسير فيه، طور السفور الفعلي الكلي الشامل"[2].
أما الشيخ رفاعة الطهطاوي، فقد أعرب في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" عن إعجابه بحضارة الغرب، ودعا بعد عودته من فرنسا إلى الاقتداء بالفرنسيين حتى في إنشاء المسارح والمراقص، مدعياً أن الرقص على الطريقة الأوربية ليس من الفسق في شيء، بل هو أناقة، وفتوة[3].
ولم يكن موقف الشيخ محمد عبده بعيداً عن موقف هؤلاء المحسوبين على الأزهر، يقول عباس محمود العقاد وهو من المعجبين بالشيخ: إن دراسة الفنون الجميلة من بنات أفكار محمد عبده، ومن جهة ثانية فقد نقل عن بعض الذين كانت لهم صلة بالشيخ أنه هو الذين ألف كتاب "تحرير المرأة"، أو أنه هو الذي أملى أفكار هذا الكتاب على تلميذه قاسم أمين إرضاء للأميرة "نازلي فاضل" التي غضبت من كتابه الأول الذي ينتصر فيه للحجاب، وينتقد بعض السيدات المصريات اللائي يتشبهن بالأوربيات، فظنت الأميرة نازلي بأن قاسماً يعنيها.
الأميرة نازلي فاضل هي ابنة الأمير مصطفى فاضل نجل إبراهيم بن محمد علي الكبير، وكان والدها مصطفى فاضل يعتبر نفسه أحق بعرش مصر من الخديوي إسماعيل، وهي - نازلي - كانت ضد الخديوي عباس، ولهذا السبب كان لها صلة وثيقة بقصر "الدوبارة" وهو مقر المندوب السامي الإنكليزي، كما كان لها صالون يرتاده كبار أهل السياسة والفكر من أمثال: المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر، فارس نمر، يعقوب صروف، الشيخ محمد عبده، قاسم أمين، اللقاني، محمد بيرم، سعد زغلول.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الأميرة المعجبة بالغرب، والداعية إلى السفور والاختلاط كانت تطبق الاختلاط في صالونها يوم أن كان الاختلاط غير وارد طرحه للنقاش عند عامة الناس وخاصتهم إلا من كانوا على شاكلة رواد صالونها.
إذن كان الشيخ محمد عبده من رواد هذا الصالون، ومن المعجبين بالأميرة، وكانت هي معجبة به كذلك، وقال الشيخ فيها كما جاء في كتاب تاريخ الإمام -: "حضرة البرنسيس التي لها من قلبي المنزل الأبهى، والمقام الأسمى"، وما كان الشيخ - وهو الذي يتقد ذكاء - يجهل انحراف هذه الأميرة وفسادها، ولا عجب إذا علمنا أنها تزوجت فيما بعد من طبيب أمريكي فأخرجها عن الإسلام، وتنصَّرت والعياذ بالله وكذا ابنتها "فتحية"، شقية الملك فاروق فقد تزوجها قبطي مصري، بدعوى أنه أسلم، ثم تبين عدم إسلامه، فحملها على أن تنصرت معه، وأخذ مالها، وفارقها، ثم قتلت فيما بعد في أوربا"[4].(4/281)
- إذا كان الاختلاط والسفور قاصراً على صالونات: نازلي فاضل، ومي زيادة، وروز اليوسف، وكان رواد هذه الصالونات نوعية محدودة من أهل الفكر والسياسة، فإن هدى شعراوي تمكنت من السير بهذا النشاط الهدام خطوات أخرى، ففي سنة 1919 قادت مع زوجة سعد زغلول المظاهرة النسائية التي طافت شوارع القاهرة هاتفة بالحرية، "ثم تجمعن أمام ثكنات قصر النيل، وهتفن ضد الاحتلال.. ثم بتدبير سابق، ودون مقدمات ظاهرة، خلعن الحجاب، وألقين به في الأرض، وسكبن عليه البترول، وأشعلن فيه النار.. وتحررت المرأة!!! "[5].
وفي عام 1923 دعت عدداً من النساء لحضور اجتماع في منزلها، وترتب على هذا الاجتماع بدء تشكيل الاتحاد النسائي المصري، الذي أخذت مجالات أنشطته تتطور وتتشعب داخل المجتمع المصري.
وفي عام 1944 تمكنت مع زميلات لها من عقد المؤتمر النسائي العربي الأول الذي أثار موجة غضب واستنكار في عدد من العواصم العربية.
وكانت هدى شعراوي في جميع أنشطتها النسائية مقلدة للمرأة الغربية، ومنفذة لما يطلب منها في الاتحاد النسائي الدولي، وفضلاً عن هذا وذاك فقد كانت معجبة بكل ما في الغرب، حتى شراسة أخلاق الرعاع في باريس كانت معجبة بها، ففي خطبة لها بمناسبة الاحتفال بالعيد العشرين للاتحاد النسائي الذي عقد في مدينة روما تقول:
".. ومنذ ذلك اليوم - أي يوم قبلت عضوية مصر في الاتحاد النسائي الدولي - قطعنا على أنفسنا عهداً أن نحذو حذو أخواتنا الغربيات في النهوض بجنسنا مهما كلفنا ذلك، وأن نساهم بأمانة وإخلاص في تنفيذ برامج الاتحاد النسائي الدولي الذي يشمل أغراضنا المشتركة".
وتقول عن فرنسا في أول زيارة لها:
"وقد أعجبني في باريس كل شيء حتى شراسة أخلاق الرعاع فيها، لأنها لا تخلو من خفة الروح وتعبر عن شخصية لا تكلف فيها ولا تغيير، فالفرنسيون أشخاص متفردون بعبقريتهم، مستقلون في أفكارهم وطباعهم وأعمالهم وصفاتهم حتى في عيوبهم".
وفي خطبة لها أمام الطاغية كمال أتاتورك قالت: ".. إن هذا المثل الأعلى من تركيا الشقيقة الكبرى للبلاد الإسلامية، شجع كل بلاد الشرق على محاولة التحرر، والمطالبة بحقوق المرأة.. وأضافت: إذا كان الأتراك قد اعتبروك عن جدارة أباهم وأسموك [أتاتورك] فأنا أقول: إن هذا لا يكفي بل أنت بالنسبة لنا [أتاشرق] فتأثر كثيراً بهذا الكلام الذي تفردت به، ولم يصدر معناه عن أي رئيسة وقد شكرني كثيراً في تأثر بالغ، ثم رجوته في إهدائنا صورة لفخامته لنشرها في مجلة [الإجيبشيان]"[6].
إن هدى شعراوي برت بعهدها الذي التزمت به في روما!! فحذت حذو المرأة الغربية، واتخذتها قدوة لها، وفي تركيا رشحت كمال أتاتورك ليكون أباً للشرق كله، وليس أباً لتركيا وحدها، وهي التي لا تجهل فساد هذا الطاغية وامتهانه للمرأة عندما جعل من قصوره موطناً للدعارة والفجور، وإذا كنا اليوم نقرأ مذكرات بعض الذين عاشوا مع أتاتورك، ونقرأ فيها فظائع عن مخازيه بحق المرأة نعف عن ذكرها في كتابنا، فكيف بمن كانت على صلة قوية بتركيا ورجال السياسة والفكر فيها أيام الطاغية أتاتورك؟!، ولا تجهل هدى شعراوي شدة عداوة أتاتورك للإسلام والمسلمين، فكيف تعمل على تحرير المرأة ثم تصفق من جهة أخرى للذي استعبد الأمة التركية رجالاً ونساءً.. عقيدة وفكراً، وجعل من نفسه إلهاً يعبد؟!.. إن هدى شعراوي تريد عن علم وخبث أن يحلّ بمصر خاصة والشرق عامة ما حلَّ بشعب تركيا.
وخلاصة القول: إن هدى شعراوي استفادت من أخطاء: نازلي فاضل، وروز اليوسف، ومي زيادة فتداركتها، وأقامت علاقات واسعة مع أهل الفكر والسياسة والإعلام، ومن ذلك بعض شيوخ الأزهر، وما كانت تخطو خطوة جديدة في مسيرتها إلا وتهيء لها مختلف الأسباب، وتقف في بعض الأحيان في صف الذين يدافعون عن الإسلام، ولها في ذلك رد على بعض الأقباط.
لكن هدى شعراوي رغم إمكاناتها الواسعة ما كان لها أن تحقق هذا النجاح الذي أحرزته لو لم تكن ابنة عميل الإنجليز محمد سلطان باشا، وزوجة علي شعراوي باشا الرجل الثاني بعد سعد زغلول في حزب الوفد، ولولا دعم الدوائر الاستعمارية لها داخل مصر وخارجها.
أما بالنسبة لدور الشيخ محمد عبده المؤسف وعلاقته بالأميرة نازلي فاضل وبمن كان يتردد على صالونها، فلا أظن أن الشيخ كان يريد للمرأة المسلمة ما يريده الإنجليز والفرنسيون ولا حتى ما تريده نازلي وغيرها، ولكن خصومته مع الخديوي ومصالح دنيوية أخرى دعته إلى الاستعانة بهذه المرأة وباللورد كرومر الذي كان يتردد على صالونها، وكان رواد هذا الصالون من معارضي الخديوي.. والشيخ في هذا مؤاخذ غفر الله له.
* * *
إن سياسة الإنجليز والفرنسيين كانت منسجمة انسجاماً كاملاً مع ما قاله زويمر، وخير مثال على ذلك ما ذكره الجبرتي عن أحداث سنة خمس عشرة ومائتين وألف، قال - رحمه الله -:(4/282)
"ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء، وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقاً عنيفاً مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيس العامة، فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن، وكان ذلك التداخل أولاً مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في إخضاعه، فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق، وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوا من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم، فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال، فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات وغيرهن من النساء الفواجر، ولما حل بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في حوز الفرنسيس ومن والاهم وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهم لهن وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار، واستملن نظراءهن واختلسن عقولهن لميل النفوس إلى الشهوات وخصوصاً عقول القاصرات. وخطب الكثير منهم بنات الأعيان، وتزوجوهن رغبة في سلطانهم ونوالهم فيظهر حالة العقد الإسلام وينطق بالشهادتين لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها، وصار مع حكام الأخطاط منهم النساء المسلمات متزينات بزيهم ومشوا معهم في الأخطاط للنظر في أمور الرعية والأحكام العادية والأمر والنهي والمناداة، وتمشي المرأة بنفسها أو معها بعض أترابها وأضيافها على مثل شكلها. وأمامها القواسة والخدم وبأيديهم العصي يفرجون لهن الناس مثل ما يمر الحاكم ويأمرن وينهين في الأحكام.
"ومنها أنه لما أوفى النيل أذرعه ودخل الماء إلى الخليج وجرت فيه السفن وقع عند ذلك من تبرج النساء واختلاطهن بالفرنسيس ومصاحبتهم لهن في المراكب والرقص والغناء والشرب في النهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة وعليهن الملابس الفاخرة والحلي والجواهر المرصعة وصحبتهم آلات الطرب وملاحو السفن يكثرون من الهزل والمجون، ويتجاوبون برفع الصوت في تحريك المقاذيف بسخيف موضوعاتهم وكتائف مطبوعاتهم وخصوصاً إذا دبت الحشيشة في رؤوسهم وتحكمت في عقولهم فيصرخون ويطبلون ويرقصون ويزمرون ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غانئهم وتقليد كلامهم شيء كثير.
وأما الجواري السود فإنهن لما علمن رغبة القوم في منطق الأنثى ذهبن إليهم أفواجاً فرادى وأواجاً فنططن الحيطان وتسلقن إليهم من الطيقان، ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك"[7].
----------------------------------------
[1] الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محب الدين الخطيب، وجذور البلاء لعبد الله التل ص 275 276، وزويمر من أخبث المستشرقين وأشدهم عداوة للإسلام والمسلمين.
[2] صدر هذا الكتاب سنة 1928، انظر مجلة الهلال، أغسطس 1928 [عن كتاب العلمانية للشيخ سفر الحوالي، ص: 631].
[3] عودة الحجاب: 1/26، للدكتور محمد بن أحمد بن إسماعيل، وكتاب: الإسلام والحضارة الغربية، ص: 36، د. محمد محمد حسين.
[4] - عودة الحجاب، القسم الأول، معركة الحجاب والسفور، د. محمد بن أحمد بن إسماعيل، ص: 37 - 39.
[5] - واقعنا المعاصر، محمد قطب، ص: 258.
[6] هذه المقاطع يمكن العودة إليها في الصفحات التالية من مذكرات هدى شعراوي: 129، 249، 454، كتاب الهلال، وكتاب عودة الحجاب، مصدر سابق، ص: 113.
[7] تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، للشيخ عبد الرحمن الجبرتي، دار الجيل: 2/436.
رمضان - 1419 هـ - كانون الثاني (يناير) - 1999 م
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
=============(4/283)
(4/284)
أزمة أخلاق ( 2- 4 )
محمد سرور بن نايف زين العابدين
المستغربون على خطا أساتذتهم:
رأينا فيما مضى أن جحافل المبشرين والمستعمرين كانوا منذ مطلع القرن التاسع عشر يعملون وفق خطة محددة، هدفها إفساد أخلاق المسلمين وإبعادهم عن التمسك بتعاليم دينهم الذي هو عصمة أمرهم، وكان التجاوب مع هذه الخطة محبطاً لآمال وطموحات المبشرين كما أشار إلى ذلك زويمر في خطبته.
وبعد احتلال الجيوش الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت لمصر عام 1798، شهدت خطة المستعمرين بعض التقدم الذي تزايد عندما أخذ محمد علي باشا وأبناؤه من بعده يرسلون الطلبة الصغار إلى فرنسا بقصد الدراسة، وكان هؤلاء الطلبة يتسنمون مراكز قيادية بعد عودتهم إلى بلدهم، كما كانوا يستغلون هذه المراكز التي شغلوها في الدعوة إلى الفكر الغربي العلماني.
غير أن الإنجليز عند احتلالهم لمصر عام 1882 استطاعوا أن يحققوا نجاحاً واسعاً عجز عنه الفرنسيون، ولعل السبب يعود إلى أن النفوس كانت مهيأة لذلك، ومن جهة ثانية فإن طريقة الإنجليز في العمل كانت أكثر خبثاً ودهاءً، ولهذا فقد أنشأوا المدارس والجامعات، ووضعوا المناهج الكفيلة بتحقيق أهدافهم، وغني عن البيان أن داهيتهم "دنلوب" كان مستشاراً لوزارة المعارف، والوزير عنده ليس أكثر من منفذ لما يرسمه ويخطط له هذا المستشار، وفضلاً عن هذا وذاك فقد ربى الإنجليز أجيالاً اختاروهم بعناية فائقة ودراية تامة، وأصبح التلامذة بعد رحيل المستعمر رسلاً له، يترسمون خطاه، ولا يرضون بغير نهجه بديلاً.
كانت مسألة تحرير المرأة كما زعموا شغل تلامذة المستعمرين الشاغل، ومن أجل تحقيق هذا الهدف حاولوا اختصار الوقت مستغلين ما كسبوه من شعبية وتأييد جماهيري عريض، ومن الذي يستطيع في تلك الفترة أن يشكك بالزعيم سعد زغلول وأمثاله من أبطال النضال والاستقلال (!!)، بل من ذا الذي يستطيع أن يزعم بأن هؤلاء القادة ينفذون مخططات المستعمر الدخيل؟!!، مع أن الخاصة والعامة يعلمون أنهم من ألد أعدائه.
وخلال فترة قياسية لا تتجاوز أربعة عقود نجح التلامذة في تحقيق ما عجز عنه زويمر وأمثاله، وبشكل أخص فيما أسموه تحرير المرأة:
- فنظام الدراسة في الجامعات قام على أساس الاختلاط بين الجنسين، ثم شمل هذا النظام المعاهد والمدارس على مختلف مراحلها.. وأصبحت هذه الجامعات مثل معارض الأزياء، لأن القوانين المرعية لا تشترط لباساً معيناً، وهذا يعني أن من حق النساء أن يلبسن ما يحلو لهن ولو كان فيه مخالفة لقواعد الدين والأخلاق، وليس من حق أحد أن يمنع البنت من الجلوس مع الشاب الذي تختاره على مقعد واحد، ولهما حق الخروج والدخول إلى الجامعة سوية، وما يصاحب هذا الدخول والخروج من خلوات محرمة، ولا تسل عن الحلال والحرمة في ذلك لأن أبطال الاستقلال حرروا المرأة من الظلم والظلام والاستبداد، وأصبحت مثل الرجل، ولم تعد مجرد متاع يتصرف بها ولي أمرها كما يشاء.
- والمرأة صارت شريكة للرجل تعمل وإياه في جميع مؤسسات الدولة، وفي الشركات العامة والخاصة وكثيراً ما يحدث أن يكون مكتب الرجل والمرأة في غرفة واحدة، يمكثان فيها ثمان ساعات في اليوم، والباب لابد وأن يكون مغلقاً معظم الوقت.
إن هذا الوضع الذي لا يشك مسلم يعرف الحد الأدنى من العلوم الشرعية بحرمته أصبح هو الوضع الطبيعي المألوف، ومن لا يعجبه ذلك فعليه الاستقالة من عمله، ومن الصعوبة بمكان أن يجد وظيفة بديلة ليس فيها مثل هذه المنكرات.
وإذا كان هذا حال أصحاب الوظائف العادية المتواضعة، فأصحاب الوظائف الكبيرة: كالوزير، ووكيله، والمدير العام، وغيرهم لابد أن يكون لكل منهم مسؤولة عن إدارة شؤون مكتبه "سكرتيرة"، وهم الذين يختارونها، وقد جرت العادة أن يكون الجمال هو الشرط الأول في هذا الاختيار، ويكاد الباحث لا يجد امرأة قبيحة الشكل تشغل وظيفة "سكرتيرة".
وما الذي يمكن تصوره من رجل وامرأة قد نُزِعَ خوف الله من قلبيهما عندما يغلق عليهما باب واحد معظم النهار؟!، أجل ما الذي يمكن تصوره إذا كانت المرأة جميلة وحريصة على إرضاء رئيسها لأن هذا الرضى ضمان لاستمرارها في العمل مع زيادة مرتبها ومشاركة الوزير في إدارة شؤون الوزارة؟!.
سبحان الله! كيف سمح بعض الرجال لزوجاتهم أن يجلسن مع الرجال الغرباء في مكاتب تتحقق فيها الخلوة المحرمة ثمان ساعات في اليوم، مع أن الزوج نفسه قد لا يجلس مع زوجته مثل هذه المدة في يومه؟!، وبعد كثير من التردد أضيف: لقد استحدث بعض كبار المسؤولين غرف نوم تابعة لمكاتبهم، وهذا ما قرأته في أكثر من صحيفة[1].
- وللمرأة القِدْحُ المعلى في أماكن اللهو والعبث والطرب: فهي في المسارح المنتشرة في طول البلاد وعرضها، ترقص وتغني لرواد هذه الأوكار الهدامة، ولكل مغنية أو راقصة جمهورها الذي يغص به المسرح.
وهي في السينما تمثل مع الرجال أدواراً هابطة لا تخرج في موضوعاتها عن الجنس والجريمة.(4/285)
وهي على شاشة التلفاز ترقص وتغني وتمثل، والتلفاز أيضاً مشكلة أخرى، فقد كان علماؤنا ودعاتنا يحذرّون من دور السينما مع أن وجودها كان محدوداً، ولا يذهب إليها إلا كل من يستسهل الوقوع في المنكرات، فأصبحت السينما عن طريق التلفاز موجودة في كل بيت من بيوت المسلمين، ثم جاء دور البث المباشر في الإفساد، وفي هذا البث كل ما يخدش الحياء، ويخل بالمروءة ما نترفع عن وصفه، ثم يأتي من يقول: إنني ما أدخلت هذا الجهاز إلى بيتي إلا وأنا قادر على التحكم فيه وسماع ما يبيح الشرع سماعه.. وهذا من المستحيلات، فقد يكون الأمر كذلك في حال وجود هذا القائل قرب الجهاز في بيته، أما إذا غاب الرجل عن منزله وانصرف إلى عمله اليومي، فإن أبناءه لابد أن يبحثوا عن هذا الذي يمنعه أبوهم منه، وكل ممنوع مرغوب.
- والمرأة أحد أبرز أركان السياحة والاصطياف، وما السياحة عند الغالبية العظمى من هواة هذا الفن إلا المرأة والخمرة، وبعد ذلك بدرجات تأتي أهمية دور الآثار والمتاحف العامة، ولهذا تعمد الجهات المسؤولة عن هذا القطاع إلى إنشاء كم كبير من الأوكار يكثر فيها وجود المرأة: كالمسارح، ودور السينما، والفنادق، والملاهي، والحدائق العامة، ومحلات بيع الخمور، ويمضي العام في الاستعداد لهذا الموسم وفي إقامة حفلات رقص وغناء صاخبة يشارك فيها كبار الممثلين والمغنين من الجنسين.
وزيادة على ذلك تقوم السلطة باستنفار فريق من قوات الأمن لحماية السواح والسهر على راحتهم، ولا عجب في ذلك فإن قوات الأمن المسؤولة عن مكافحة الفساد والدعارة التي يسمونها في بعض البلدان "قسم الآداب العامة".. هذه القوات أصبحت تحمي وتحرس السواح الذين يمارس معظمهم الفواحش والمنكرات، ثم يعودون إلى بلدانهم لينشروا أخبار هذه الفضائح التي مارسوها أو سمعوا بها من زملائهم في السفر.
ولكن الذي يثير العجب أن أكثر السواح من الأوربيين، وهكذا فقد انعكست الآية حيث كان ناس من المترفين في بلادنا يسافرون إلى البلدان الأوربية بحثاً عن الفواحش والمنكرات، فأصبح المترفون وغيرهم حتى من الفقراء الأوربيين يأتون إلى بعض بلداننا لممارسة الرذيلة فيها.. وهذا كله رغم بشاعته وقبحه لا يثير حفيظة وغيرة المسؤولين عن السياحة، وكل الذي يهتمون به نجاح الموسم، وزيادة عدد السواح، لأن هذه الزيادة تعني ازدهار اقتصاد البلد، وضمان دخول العملة الصعبة، ولو كان ذلك كله على حساب الدين والشرف والأخلاق.
وإذن: عندما رفع تلامذة المستعمرين من أبناء جلدتنا شعار تحرير المرأة كانوا يطبقون الخطة نفسها التي رسمها: زويمر، وبونابرت، وكرومر، وكان الأساتذة والتلامذة يعلمون أن المرأة هي قوام الأسرة، وفسادها يعني فساد الأسرة، وفساد الأسرة يعني فساد المجتمع، وهكذا كان شأن بني إسرائيل في تاريخهم:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدنيا حُلْوةٌ خَضِرةٌ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون. فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"[2].
وعندما فتن بنو إسرائيل بالنساء أصابهم الوهن والبغي والاستنكار، وكثرت بينهم الخلافات والانقسامات، وما زالت الفتن تترى عليهم بعد فتنة النساء حتى دالت دولتهم، وتفرقوا في الأمصار شذر مذر، واستحقوا غضب الله ومقته.
ودول أوربا في العصر الحديث أصابها ما أصاب اليهود في تاريخهم، كانت أسرهم محافظة ومتمسكة بالخلق والدين، وتغيرت أحوالهم بعد قيام الحركات العلمانية، حيث كانت المرأة أول المستهدفين بهذا التغيير، فخرجت من منزلها تعمل والرجال سواء بسواء في مختلف المرافق العامة، وبعد خروجها من المنزل خرجت عن عفافها وطهرها، فانفرط عقد الأسرة، وانهارت أخلاق المجتمع، ولابد أن يكون مصيرهم كمصير بني إسرائيل الذي ورد ذكره في عدد من سور القرآن الكريم.
ولا تزال المرأة إذا خرجت عن هدي الإسلام من أشد الفتن على الرجال وأعظمها أثراً:
عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"[3].
ينكر دعاة الاختلاط والتغريب أن تكون المرأة فتنة، ويزعمون أن مثل هذا القول لا يقوله إلا كل من يحتقر المرأة ولا يراها صالحة إلا للمتعة والخدمة في المنازل، ويُصِرُّون على الادعاء بأنها مثل الرجل، وأن الاختلاط بها أمر عادي جداً.(4/286)
وقد كذبوا في هذا كله لأن أخبار فضائحهم بسبب الاختلاط مادة دسمة للصحافة وسائر وسائل الإعلام، ولا يخجل بعضهم من الاعتراف بهذه الفضائح، وبيعها بأثمان باهظة للناشرين، ويندر أن نجد سياسياً[4] أو فناناً من الجنسين قد نأى بنفسه عن هذا الانحطاط الخلقي لا فرق في ذلك بين دول الشرق والغرب، وهناك ناس من بينهم تكشف فضائحهم بعد هلاكهم بأعوام قد تبلغ قرناً أو يزيد من خلال الاطلاع على وثائق جديدة، وقد كان يظن بهم البعد عن مثل هذه المواطن النتنة، ودعاة التغريب هم الذين يحتقرون المرأة لأنهم أخرجوها من منزلها حيث العفاف والوقار والحشمة، وزجوا بها في مواطن مشبوهة تتعارض مع رسالتها كأم وربة بيت، وفي طليعة هذه المواطن اتخاذها مادة دعائية للتجارة والتكسب، والأمثلة على ذلك كثيرة وفي أماكن متعددة أبرزها ما يعرض على شاشة التلفاز.
وكل مسلم متمسك بأحكام الدين وآدابه لا يلتفت إلى أقاويل وأكاذيب دعاة التغريب، بل يستسلم وينقاد لقول المعصوم صلى الله عليه وسلم : "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"، فيجتنب كل ما يقربه من هذه الفتنة، ومن ذلك الخلوة المحرمة: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يخلون أحدكم بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما"[5].
ولا أشك بانتشار الشياطين في المدارس والمعاهد والجامعات، وفي مكاتب الوزارات والمؤسسات والشركات التي يختلط فيها الجنسان، وما هذه المناكر التي تحدث وينشر بعضها إلا بسبب إغراءات الشياطين لأناس يسهل عليهم الاستجابة لنداء الشياطين.
علمانيون أكثر من العلمانية:
العلمانية تعني أن يكون الدين لله، أي أن يتعبد الإنسان ربه بالطريقة التي يريدها، ويكون الحكم وشؤون السياسة لقيصر، وليس لقيصر أن يتدخل في شؤون الدين ومؤسساته، كما أنه ليس من حق الله أن يتدخل في شؤون قيصر.
وتعني العلمانية أيضاً أن تضمن الدولة حرية الاعتقاد، فلا تسمح لأية جهة ولو كانت حكومية أن تفرض على أماكن العبادة شيئاً مخالفاً لأنظمتها وللقرارات التي يتخذها رجال الدين طالما بقيت هذه الأنظمة والقرارات في حدود أماكن العبادة.. صحيح أن الثورة الفرنسية تطرفت بعض الشيء في مفهوم العلمانية، وانتزعت من رجال الدين كثيراً من الحقوق التي يتمتع بها أمثالهم في بقية الدول الأوربية، لكن دور العبادة بقيت مستقلة ومحترمة.
المستغربون في بلادنا كانوا في علمانيتهم أشد علمانية من العلمانية في مفهومها الصحيح وفي تطبيق الدول الأوربية لهذا المفهوم، وسنختار فيما يلي أمثلة تتصل بموضوع البحث:
1 حجاب المرأة: يرى الغربيون أن المرأة لها نفس الحقوق التي يتمتع بها الرجل، ومن ذلك اللباس لأنه حق شخصي لكل فرد لا يجوز التدخل فيه. أما البلدان الإسلامية التي تدين حكوماتها بالنظام العلماني فقد منعت الحجاب الشرعي في الجامعات والمدارس وغيرها من مؤسسات الدولة، ومن الأمثلة على ذلك:
أ تركيا: فمن جملة القرارات اتخذها التي عدو الإسلام أتاتورك بعد هدمه للخلافة الإسلامية منع الحجاب في سائر مؤسسات الدولة من تعليمية وغيرها، وما كان الأمر عنده قاصراً على منع الحجاب، وإنما كان يريد إشاعة الفساد والإلحاد، وكان قدوة سيئة لشعبه في ممارسة هذه المنكرات، وتمكن خلال خمسة عشر عاماً من وضع المرأة التركية الملتزمة بدينها في المستوى الذي كانت عليه المرأة في أوربا.
وفي عهد عدنان مندريس أي في أوائل الخمسينيات ألغت الحكومة عدداً من القرارات الظالمة التي كان قد اتخذها أتاتورك وخليفته عصمت إينونو، وتنفس المسلمون الصعداء طوال هذا العهد، غير أن العسكريين الذين كان أتاتورك يحكمهم وهو في قبره أدركوا أن قرارات مندريس كانت سبباً من أسباب بزوغ فجر الإسلام، فما كان من قادتهم إلاَّ أن قادوا انقلاباً عسكرياً، تولوا إثره شؤون الحكم، وأعدموا مندريس، ثم اتخذوا إجراءات صارمة ضد التدين والمتدينين، غير أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، فالصحوة استمرت وتزايدت والحمد لله.. وهم اليوم يمنعون قبول المرأة في الجامعات إذا كانت من اللواتي يلبسن الحجاب، ولكنهم لا يمنعون المرأة إذا كانت تلبس ملابس فاضحة تخلّ بمعاني الشرف والمروءة، ولا ندري ما علاقة الحجاب بالدراسة، وهل العلم يتعارض مع حشمة المرأة وحسن أخلاقها والتزامها بما فرضه الله عليها؟!، ومما يجدر ذكره أن موقف السلطة من حجاب المرأة في الجامعات وغيرها من مؤسسات الدولة هو أحد إجراءات كثيرة يتخذونها ضد الإسلام والمسلمين، أما الفساد وهدم قواعد الأخلاق فتلقى منهم كل عون ومساعدة، بل وكبراؤهم من مختلف الأحزاب والحكومات العلمانية المتعاقبة هم الذين يتزعمون عصابات "المافيا" والرشوة وسرقة الأموال العامة، وسجلات المحاكم والمجالس النيابية البرلمان أكبر شاهد على ذلك.(4/287)
ب تونس: لم يعد فساد أتاتورك بعد هلاكه قاصراً على تركيا وحدها، وإنما تجاوزها فشمل العالم الإسلامي كله وبشكل أخص البلدان المجاورة لتركيا. لقد وجد فيه المنافقون الزنادقة مثالاً يقتدى به، وبطلاً مناضلاً ضد الاستعمار والرجعية والجهل، وقائداً محنكاً، استطاع خلال فترة زمنية لا تتجاوز العقدين أن يضع بلده في مصاف الدول المتحضرة.
وكان الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة من أكثر الحكام العرب إعجاباً بأتاتورك وبالنخبة الحاكمة في فرنسا التي نهل منها ثقافته، وعندما وصل إلى سدة الحكم[6] بأساليب ملتوية لم تكن فرنسا بعيدة عنها، عقد العزم على أن يسلك الطريق نفسه الذي سلكه من أعجب بهم في كل من باريس وأنقرة، بل كان أكثر منهم تطرفاً في علمانيته وزندقته، ونستعرض فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
- أصدر حاكم تونس السابق القانون رقم (108) الذي يمنع ما أسماه بـ "اللباس الطائفي"، وعندما يُذكر اسم هذا اللباس يتبادر إلى الذهن أنه لباس طائفة من الطوائف الشاذة المنحرفة الدخيلة على المجتمع التونسي الذي لا يدين بغير الإسلام، ولا يقبل العادات والتقاليد الوافدة إذا كانت تصطدم مع عقيدة الأمة ومنهجها الرباني الخالد. لكن الأمر ليس كذلك في دين بورقيبة ومنهجه، فاللباس الطائفي عنده هو اللباس الذي فرضه الشارع على المرأة، وهو في شريعته: "مناف لروح العصر والتطور السليم، ولئن ادعى هذا الزيّ لنفسه الاحتشام فإنه يرمز لا محالة إلى ضرب من الشذوذ، والانتساب إلى مظهر متطرف هدام، وهو يتعارض مع ما دعا إليه المجاهد الأكبر فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة في الخطاب الذي ألقاه في شهر جوان بمناسبة يوم العلم"[7].
- وتتشدد الدولة في تطبيق قانون اللباس الطائفي، ومن مظاهر هذا التشدد أن الحبيب بورقيبة كان قد ظهر على شاشة التلفاز في احتفال شعبي عام وهو ينزع بيده الآثمة أغطية النساء التونسيات قسراً عن رؤوسهن وهو يقول لإحداهن: انظري إلى الدنيا من غير حجاب.
ولا تسمح دوائر الأمن والجوازات بمنح المرأة بطاقة هوية أو جواز سفر إذا كانت محجبة، ولا يقبلون منها أقلَّ من أن تدخل على دوائر البوليس وهي حاسرة الرأس كاشفة الصدر.
وفي المدارس يأخذون تعهداً من ولي أمر الفتاة يقر فيه بأن ابنته تخلت عن ارتداء الزي الطائفي إن كانت ترتديه من قبل -، ثم تتخذ المدرسة الإجراء المناسب إذا عادت الطالبة لارتداء الحجاب، وقد تكون العقوبة الرادعة تمزيق حجاب المرأة أمام مشهد عام من الطلبة لأن التعليم مختلط، وقد يكون أشد من هذا.
ومن مظاهر التشدد في تطبيق قانون اللباس الطائفي أن دوائر المستشفيات والمصحات تمنع علاج أو إسعاف الحوامل المحجبات عندما يأخذهن المخاض. ومن باب أولى فإنهم لا يعالجون المريضات بشكل عام إذا اقترفن جريمة لباس الزي الطائفي!! وإنها لمواقف همجية تتقزز منها نفس كل حر أبي.
- أبرم النظام التونسي عقود عمل مع شركاتألمانية في فترة ما بين [1970 1974] تعهدت بموجبها الحكومة التونسية بتصدير [700] فتاة لم تتجاوز واحدة منهن سن العشرين عاماً للعمل بالمصانع الألمانية، فأكلن لحم الخنزير وشربن المسكرات وسقطن في الفتنة، فمنهن من تزوجن الكفار ثم قذفوا بهن إلى الشوارع، ومنهن من احترفن البغاء.. وأصبحت تونس فيما بعد من الدول المصدرة للفتيات نحو أوربا وغير أوربا بشكل فوضوي أو بشكل منظم عبر شركات دولية للمتاجرة بالرقيق الأبيض.
- أول شيء فعله بورقيبة بعد توليه شؤون الحكم عام 1956 تتمثل في إصدار مجلة الأحوال الشخصية في 13 أغسطس 1956، وإذا كان مجال هذا البحث لا يسمح بالتوسع في دراسة هذه القوانين فلا أقل من عرض نماذج منها فيما يلي:
منع تعدد الزوجات مع فرض عقوبات زاجرة على كل من يخالف هذا القانون.
إلغاء قوامة الرجل في بيته ونسخ واجب طاعة المرأة لزوجها.
صادقت الحكومة التونسية على اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بمقتضى القانون عدد 68 لسنة 1985، وصار من حق المرأة التونسية المسلمة أن تتزوج من غير المسلم، وهناك أمثلة كثيرة على تطبيق هذا القانون، وتحدثت بعض المتزوجات من غير المسلمين عبر وسائل الإعلام عن تجاربهن في هذا الميدان، ومواقف الأهل والأقرباء منهن، ونقدهن لتزمت المجتمع.
- نشرت مجلة الحقائق التونسية خبر المباراة التي انتظمت بين طالبات كلية الشريعة بجامعة الزيتونة، وحتى لا يظن ظان إنها مسابقة لمعرفة الفائزة في أفضل بحث دعوي أبادر إلى القول: لا تحسنوا الظن بأمثال هؤلاء الناس بعد أن تكشفت نواياهم الخبيثة، وأي شيء تعني الدعوة عندهم إذا كانوا يمنعون طالبات كلية الشريعة والدعوة من اللباس الطائفي ويفرضون عليهن السفور؟! إنها مباراة في السباحة!! نعم مباراة في السباحة للطالبات وهن عاريات وليس عليهن إلا ما يستر العورة الغليظة، وبعد إعطاء وزير الشؤون الدينية الذي كان يشرف على المباراة ومعه جمع من كبار المسؤولين في وزارته إشارة الانطلاق للطالبات قال مبتهجاً: "الآن تخلصت الزيتونة من عقدتها".(4/288)
بقي أن يعلم القارئ الكريم: أن كلية الشريعة وأصول الدين هي البقية الباقية من جامع الزيتونة الذي تأسس في القرن الهجري الأول، وكان طوال التاريخ الإسلامي مركز إشعاع علمي في إفريقيا والأندلس وأوربا.. ويكفي أن نعلم أن من طلبته في العصر الحديث: شيخ علماء الجزائر ابن باديس، والبشير الإبراهيمي، والشيخ عبد العزيز الثعالبي، وآل عاشور، وغيرهم من فحول العلماء الذين علّموا الشعب التونسي المسلم العريق كيف يحارب الاستعمار الفرنسي الغاشم، ولماذا يرفض جنسيته التي تنص على أن تونس جزء من الأراضي الفرنسية، وفرنسا بلد علماني وهذا يعني التخلي عن أمور معروفة بالضرورة في الدين الإسلامي.
عجز الاستعمار الفرنسي رغم إمكاناته الهائلة عن النيل من صمود علماء الزيتونة، ونجح بورقيبة وخلفه في تحقيق الحلم الفرنسي، فشرد علماءها، وحولها إلى جامعة ممسوخة، وحدد عدد القبول فيها، وفرض الاختلاط بين الجنسين، ورافق ذلك فرض السفور على الطالبات.. ثم كان أمر مباراة السباحة الآنفة الذكر.
ونختم هذا الحديث عن بقايا جامع الزيتونة بالخبر الآتي الذي نشرته مجلة حقائق التونسية بعددها (379):
"أحيت الفنانة الصاعدة منيرة حمدي سهرة فنية رائعة!! في رحاب معهد أصول الدين التابع للجامعة الزيتونية، وفي نفس السياق وتلقيحاً للطلبة ضد التطرف تمتع الطلبة بمشاهدة الألعاب السحرية للمنوم المغناطيسي الشهير حمّادي بن جاب الله الفرشيشي".
وإذا كان هذا هو أمر معهد أصول الدين بالجامعة الزيتونية، فلا عجب أن تكون حصص الرياضة مشتركة بين الجنسين في معاهد الدولة وثانوياتها، ولابد في هذه الحصص من التعري إلا ما يستر العورة الغليظة، كما أنه لابد من ممارسة حركات وألعاب مخجلة.
ولا عجب أن تبث القنوات التونسية الداخلية برامج جنسية ممنوعة حتى في بعض دول أوربا الغربية.
ولا عجب أن يعتبر قانون الوظيفة العمومية اللحية وسخاً ودَرَناً لا يليق بمظهر الموظف التونسي.
ولا عجب من إلغاء نظام القضاء الشرعي، وحل الأوقاف الشرعية وتأميمها، وإلغاء فريضة الصيام.. كما أنه لا عجب أن يكون خلف بورقيبة أسوأ منه[8].
2 - المساجد: مما لا جدال فيه أن دور العبادة في الأنظمة العلمانية الغربية مستقلة لا يجوز للحكومات التدخل في شؤونها وفرض تعليمات إدارية أو دينية عليها، ولا يجوز لها التدخل في شؤون السياسة والحكم.
أما في بلادنا، فتطبق العلمانية بمفهومها الصحيح على دور عبادة غير المسلمين من النصارى واليهود وأديان أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، وإذا حدث تجاوز حكومي على أحد هذه الدور، غضبت لغضب هذه الدار أمم وأجهزة شتى من مختلف بلاد العالم، ولا تزال تستنكر وتنذر وتتوعد في السر والإعلان حتى يزول هذا التجاوز، وإننا بهذه المناسبة نذكّر بنظام الامتيازات التي فرضته الدول الغربية على الدولة العثمانية، وفي ظل هذه الامتيازات تمتع النصارى في كنائسهم ومدارسهم بحقوق ما كان المسلمون أنفسهم يحلمون بها ولا تزال آثار هذه الامتيازات باقية بشكل مباشر أو غير مباشر.
أما مساجد المسلمين وأوقافهم فليس للقائمين عليها من العلماء حق في إدارتها، بل الحق كل الحق للنظام العلماني، والعاملون فيها من الخطباء والمدرسين ليسوا أكثر من موظفين يتلقون التعليمات والأوامر من مسؤولي وزارات الأوقاف، وإذا خالف أحد الشيوخ هذه التعليمات ذاق عياله مرارة الفاقة والحرمان على أقل التقديرات، وهذا يعني طرده من عمله ومنعه من الوعظ والتدريس والخطابة في المساجد، ومن المؤسف أن الشيوخ ليس لهم دخل ينفقون منه على عيالهم إلا هذا الراتب الشهري الضئيل الذي يأخذونه من وزارة الأوقاف، ولهذا فهم يفكرون ملياً قبل اتخاذ موقف يحرمهم من هذا الراتب.
الأنظمة العلمانية لابد وأن تختار وزراء الأوقاف من نفس الفصيلة التي ينتمون إليها أو أن يكون موظفاً مطيعاً لرئيس الدولة ولو كان عنده بعض التدين، وطاعة النظام ورئيسه تقتضي محاربة كل نشاط دعوي وأخلاقي إذا كان له تأثير قوي على رواد المساجد، ونضرب المثال الآتي على ذلك:
نلحظ أحياناً أن نشاطاً دعوياً إصلاحياً يشق طريقه إلى بعض المساجد في بلد ما دون أن يكون اتفاق مسبق بين أئمة هذه المساجد، وقد لا يعرف أحد منهم الآخر.. والشاهد هنا أن هذا النشاط يسترعي انتباه عامة الناس وخاصتهم، وتزدحم هذه المساجد والساحات المحيطة بها بالمصلين الذين يأتي عدد كبير منهم من أحياء بعيدة عن هذه المساجد، ويأتون أيضاً من مدن أخرى، ومن بين الوافدين المصلين لصوص، ومجرمون، ومدمنون على المخدرات، كتب الله - جل وعلا - لهم الهداية على أيدي هؤلاء العلماء الأفاضل الذين عمروا مساجدهم بالعلم والورع والتقوى، والكلام الذي يخرج من قلوب نقية طاهرة لابد وأن يصل إلى قلوب الناس.(4/289)
الأنظمة العلمانية في بلادنا لا تقبل هذه الظاهرة التي تهدد وجودها واستمراريتها، وتخشى من انتقالها إلى مساجد ومدن أخرى فيؤدي ذلك إلى فقدانها زمام الأمور، ولهذا تسارع إلى إصدار أوامرها الفورية بإبعاد هؤلاء العلماء عن مساجدهم، وتمنعهم من الوعظ والتدريس في جميع المساجد والمؤسسات العامة، وليس مهماً أن يتم هذا الإبعاد دفعة واحدة أو على مراحل، ثم تعمد بعد دراسة متأنية إلى تعيين صنف آخر من الدعاة في هذه المساجد من الذين لا يهتمون إلا بأنفسهم وأسرهم ورواتبهم التي يتقاضونها في نهاية كل شهر. ويتجنبون كل قول أو فتوى تغضب الجهات الرسمية المسؤولة عنهم.
وطاعة الأنظمة العلمانية والانقياد لها في تدريس القرآن والسنة والعقائد لابد وأن يتعارض مع طاعة الله - سبحانه وتعالى-، كما أن الإيمان بالله الواحد الأحد لابد وأن يصاحبه الكفر بكل ما يعبد من دون الله من أوثان وأصنام وطواغيت.
والذي يحدث فيما بعد أن معظم الجمهور الذي كان يرتاد هذه المساجد ينفض عنها، وتخفت جذوة الإصلاح في غياب دعاتها الذين فرض عليهم الحصار، مع أنهم كانوا من خلال دروسهم ومواعظهم يتجنبون إثارة أية مشكلة مع الأنظمة.
ثم يتكرر هذا المشهد في مساجد أخرى، ويدرك كل من يتابع هذه الظاهرة بأن الذين يطاردون العلماء المصلحين، ويضيقون الخناق عليهم، ويبعدونهم عن مراكز الدعوة والتوجيه يحققون من وراء ذلك هدفين:
الأول: فتح الباب على مصراعيه أمام دعاة الغلو والتطرف من جهة، وأمام دعاة النفاق والمداهنة من جهة أخرى وكلاهما شر مستطير ومنزلق خطير.
الثاني: نشر الفساد والميوعة والإلحاد، وفي غياب أهل الحق والإصلاح يخلو الجو أمام دعاة الشر والإجرام، فكيف إذا كان في أجهزة النظام من يدعو إلى ذلك جهاراً نهاراً.
3 الديموقراطية: ممارسة الديموقراطية عند الأوربيين حق لكل مواطن، ومثل ذلك تأسيس الأحزاب والجماعات، وإصدار الصحف والمجلات، وقد تصدر هذه الصحف في أكثر هذه البلدان دون أخذ ترخيص مسبق من الحكومة.
وليس من حق أية حكومة منع تأسيس أي حزب معارض لها سواء كان تأسيسه قائماً على أساس ديني أو غير ديني، ويستطيع هذا الحزب مقاضاة أكبر شخصية حكومية إذا أصدرت قراراً أو اتخذت إجراء يضر بمصلحة هذا الحزب، والقضاء يقول كلمة الفصل في القضية المثارة لأنه مستقل وليس للحكومة أي تأثير عليه.
وفي كل من إيطاليا وألمانيا لعب الحزبان المسيحيان دوراً مهماً في سياسة هذين البلدين، وخاصة بعد أن تمكنا في فترات مختلفة من الحصول على الأكثرية في الانتخابات "البرلمانية".
ولكن الأمر في بلادنا يختلف، لأن شريعة هذه الأنظمة لا تسمح بقيام أحزاب سياسية على أساس ديني، أما الجمعيات الخيرية فهناك قيود مشددة تصل إلى حد عدم السماح لأي منها إلا إذا كانت تخدم مصلحة النظام، وقل مثل ذلك في شأن إصدار الصحف والمجلات.
وإذا كان قد جاء حين من الزمن سمحت فيه بعض الحكومات بقيام أحزاب إسلامية، فلأن هناك معلومات مؤكدة لدى الذين منحوا الترخيص لها تشير إلى أن دور هذه الأحزاب سيكون ثانوياً ولن يمكّن من الحصول على الأكثرية في الانتخابات التشريعية وعندهم من الوسائل ما يساعد على ذلك:
منها: أن الديموقراطية في بلادنا تصاغ حسب مزاج الحاكم وبطانته، وإذا تغيّر المزاج تغير معه قانون الانتخابات.
ومنها: أن تزوير الانتخابات هو الأصل في هذه المسألة، وعدمه هو الاستثناء.
وإذا خرق الحزب الإسلامي هذه القيود كلها وحصل على الأكثرية التي تمكنه من الانفراد في الحكم، فإن الجيش وقوات الأمن ستكون له بالمرصاد، وتتحرك على الفور، فتفرض الأحكام العرفية، وتلغي الانتخابات، وتقيل الحكومة التي أشرفت على الانتخابات، وتتقلد شؤون الحكم، وفي ظل أحكامها العرفية الجائرة تبدأ بمطاردة الإسلاميين ومنعهم من أي نشاط سياسي لأنهم أعداء ألداء لدستورهم العلماني، وموقفهم هذا يشمل جميع الأحزاب والجمعيات الإسلامية دون أي تفريق بين الذين يعملون في المجال السياسي وبين الذين يقتصر نشاطهم على الأعمال الخيرية والتعليمية.. وإذا تأكد العسكريون من نجاحهم في سحق الحزب الإسلامي فقد يسمحون بقيام ديموقراطية مزيفة لا مجال فيها لوجود أحزاب إسلامية.
ومما لا يثير أي استغراب عند الذين يتابعون الأحداث أن جميع الأحزاب والشخصيات العلمانية تتوحد فيما بينها رغم ما بينها من إحن ومكائد ضد المشروع الإسلامي، وتستقبل الانقلابات العسكرية بالتأييد لأنه سيريحها من هذا الذي تراه كالكابوس أو أشد.(4/290)
من أقرب الأمثلة على ذلك ما حدث في كل من الجزائر وتركيا، والفرق بينهما أن الحزب الإسلامي التركي صابر مجامل يريد أن يمضي بتجربته إلى نهاية الشوط رغم كل ما يتلقاه من ضربات، أما الحزب الإسلامي الجزائري فكان موقفه أقرب إلى الشدة، وقابل العسكريون هذه الشدة بهمجية يعجز عنها الوصف، ولا يزالون يعتبرون معركتهم مع الإسلاميين معركة حياة أو موت ولو كان في ذلك دمار الجزائر كلها، وما صنعه العسكريون في الجزائر غير مستبعد أن يصنعوه في كل بلد إذا تحقق عندهم بأن الإسلاميين سيصلون إلى الحكم، ومما هو جدير بالذكر أن أي انقلاب عسكري لابد وأن يتبعه الفساد بكافة أشكاله وأصنافه، لأن جميع المنافقين وأصحاب الأهواء والمصالح ينضوون تحت راية الانقلابيين المعادية للإسلام والمسلمين.
* * *
ترى هل كان قادة الأنظمة العلمانية في بلادنا على خلاف مع أساتذتهم الأوربيين في هذه الأمور الثلاثة التي تطرفوا فيها [حجاب المرأة، المساجد، الديموقراطية]؟!.
ليس هناك من خلاف لأن الأوربيين متفقون مع تلامذتهم على أن دول العالم الثالث لم تصل إلى المستوى الراقي الذي وصلته أوربا، ولهذا لابد من التشدد في تطبيق النظام العلماني، وخلال فترة استعمارهم العسكري لبلادنا كانت القوانين التي يطبقونها في المستعمرات عكس القوانين المطبقة في بلادهم...
----------------------------------------
[1] صحف عربية، وتتحدث عما يجري في بعض البلدان العربية.
[2] رواه مسلم في صحيحه، أنظر صحيح مسلم بشرح النووي: 17/55.
[3] متفق عليه.
[4] السياسيون المتمسكون بدينهم وخلقهم هم من هذا النادر، والأصل في العمل السياسي المعاصر منع الإسلاميين من دخول هذا النادي.
[5] رواه أحمد: 1/18، والترمذي: 3/207، وقال: حسن صحيح.
[6] كان ذلك في عام 1956 م.
[7] جريدة الصباح التونسية الصادرة في 23/10/1981، وهذا البيان ممهور بتوقيع وزير التربية القومية محمد فرج الشاذلي، وكان قد سبقه بيان آخر (23/9/1981) ممهور بتوقيع رئيس الوزراء آنذاك محمد المزالي الذي جرد من مناصبه كلها فيما بعد وهرب من تونس قبل أن يعتقله زملاؤه، ويعيش الآن لاجئاً سياسياً في إحدى الدول الأوربية، وزاد الخرق اتساعاً في عهد تلامذة الحبيب بورقيبة الذين انقلبوا عليه.
[8] كان جلّ اعتمادي فيما كتبت عن تونس على كتاب "تونس الإسلام الجريح" للأستاذ محمد مهدي مصطفى زمزمي، ولقد اهتم المؤلف بتوثيق كتابه توثيقاً جيداً، كما أنني اعتمدت على بعض المصادر التي اعتمد عليها المؤلف (وهي قليلة)، وعلى أقوال الثقات الذين أعرفهم من أهل تونس.
ذو القعدة - 1419 هـ - آذار (مارس) - 1999 م
http://www.alsunnah.o r g المصدر:
============(4/291)
(4/292)
حصاد المسلمين
الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري
اتقوا الله عباد الله، واعلموا أن مشروع الشر أوسط يقتحم المنطقة نهاراً جهاراً، بعد أن كان يحاول التسلل خفية وإسراراً، نعم إنه الشر أوسط الجديد، ولا تلوموني فلم أخطأ في الكلمة، فغياب قوة إيمان المسلمين قد طعنت الشرق في مؤخرته وأسقطت في طريقها (قاف) الشرق فأضحى المشروع (الشر أوسط)
يا أمة الحق والآلام مقبلة متى تَعِيْنَ ونار الشر تستعر
متى يعود إلى الإسلام مسجده متى يعود إلى محرابه عمر
أكلَّ يوم يُرى للدين نازلة وأمة الحق لا سمع ولا بصر
عباد الله: يقول تعالى: ]ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [[الحج/40-41].
فيا أمة الإسلام أفيقي، ومن غفلتك فانتبهي، فلينصرن الله نصراً عزيزاً مَن ينصر دينه، ويؤيد شريعته، ويعمل بكتابه، ويتبع سنة رسوله، وفي المقابل يكون الخزي والعار، والذل والهوان لِمَن يهمل شريعة الله، هذه سنة الله في عباده الذين ارتضوا لأنفسهم الإسلام.
إخوتي في الله: يعيش المسلمون اليوم زمناً عصيباً، ووقتاً دقيقاً، وجرحاً مميتاً، وألماً فظيعاً، وجراحاً مذففة، وجثثاً متفحمة، وسيارات مفخخة، وأشجاراً مقتلَعة، وبيوتاً مهدمة، وأسراً مشردة، وأطفالاً ميتمة، ونساءً ثكلى، وقد لا تسعفك الكلمات في القواميس عن وصف حال المسلمين التي لا تُسر صديقاً، ولا تجعل العدو حاسداً؛ مشاكل تستهدف الأمة بتدمير مستقبلها، وتدنيس حاضرها، وتغييب ماضيها، ويأتي السؤال: فماذا نفعل، ومن المنقذ، وما سبيل النجاة، ما درب السلامة مما نحن فيه؟.
أقول: لا خلاص للأمة إلا بانقيادها لكتاب ربها، واتباع سنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم ، فلقد كُتب لهذه الأمة حين تحيد عن الشرع أن تتقلب في الإهانات والمذلات، وأن تنتقل من هزيمة إلى هزيمة، كما كُتب لهذه الأمة حين تعتصم بحبل الله المتين أن ترتفع رايات نصرها، وتعلوا أبراج سؤددها، هذه حقيقة لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان، ولا أن تُمنع عن سماعها الآذان، ولا أن نحجب عن رؤيتها العينان.
فلنرفع الغطاء عن أنفسنا، ولنكشف الغشاوة عن أبصارنا، ولنفتح بالوعي أذهاننا، ولتكن حياتنا ملؤها التواصي بالحق والمصارحة، والتناصح في الله والمكاشفة، كفانا نكبات تجرح مشاعرنا، كفانا كوارث تهز كياننا، كفانا نكسات تسود وجوهنا.
أما يئسنا من تلمس النصر عند البشر من دون الله، ألم نتعظ من استجداء النصر من مجلس الأمن.
قتل وتشريد وهتك محارم فينا وكأس الحادثات دهاق
وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق
أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق
أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق
يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق
أو ما يحركك الذي يجري لنا أو ما يثيرك جرحنا الدفاق؟
قالت:
أنا أيها الأحباب مسلمة طوى أحلامها الأوباش والفساق
أخذوا صغيري وهو يرفع صوته ((أمي)) وفي نظراته إشفاق
ولدي ويصفعني الدعي ويكتوي قلبي ويُحْكِم بابي الإغلاق
أضافت:
أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق
عرضي يدنس أين شيمتكم أما فيكم أَبِيٌّ قلبه خفاق
أجيبت:
أختاه أمتنا التي تدعونها صارت على درب الخضوع تساق
مدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخَلاَّق
كفانا استعطافاً من مجلس الأمم الظالمة، ولنعمل بإسلام ربنا الذي يبني مجتمعات وأمم عادلة.
كفانا عن كتاب الله بعيدين، كفانا عن سنة رسوله حائدين؛ فإن الحق - تبارك وتعالى- أرادنا أن نكون مؤمنين مؤمنين، وهو القائل: ]والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله[[التوبة/71].
هذه موازين تنزل الرحمات إن أردتموها أيها المسلمون، هذه مقاييس مَن يستحق الرحمة من الله إن رغبتم بها، فيا مَن تطلبون الرحمة من الله والعناية والرعاية، هل بذلتم أسبابها؟ أم تراكم زرعتم بذوراً تعطي عكس الرحمة من الغضب والنقمة؟!!
فما الرحمات الإلهية والعنايات الربانية، وكذا السخط الإلهي والغضب الرباني؛ إلا صنيع أعمالكم، وزرع قدمتموه تنتظرون حصاده، فماذا تتوقعون مما تفعلون؟
قولوا بالله عليكم:
ما نتيجة إقرار الناس على الجرائم والمنكرات؟
ما نتيجة سكوت الناس عن الفواحش والضلالات؟
ما نتائج تقديم العصاة في المسؤوليات وتأخير المؤمنين والمؤمنات؟
ما نتيجة ترك الصلوات وإهمال الزكوات؟
ما نتيجة تسهيل المسكرات وتعاطي المخدرات؟
ما نتيجة سماع الأغاني الماجنات، والترويجِ للغانيات الفاسقات؟
ما نتيجة إطلاق العنان لإرواء الملذات، والجري وراء الشهوات؟
ما نتيجة الركون إلى الذين فسقوا، ومداهنة الذين كفروا، وموالاة الذين ظلموا؟
وماذا تنتظرون بعد المجاهرة بكل أصناف المعاصي والمنكرات، والفواحش والسيئات؟
إن ما تمر به الأمة اليوم ما هو إلا حصاد زرع سابق، ونتيجة سلوك ماض، والنتيجة يراها الناس بأم أعينهم:(4/293)
فالأمور قد اختلت، والقيم قد تغيرت، والبركة قد نزعت، والنقمة قد حلت، مع أن القرآن قد حوى قصة مماثلة، وحكاية معبرة عن أقوام فعلوا في الماضي ما وقع فيه المسلمون اليوم، ولكن للآسف جعلنا القرآن للموت والموتى، ولم نشعر به عملاً وسعادة وتجاة للحياة والأحياء.
اقرؤوا قول الله تعالى:] لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون[[المائدة/78].
واليوم يُلاحظ كل مسلم أن المنكرات في حياة المسلمين ظاهرة للعيان، فالزنى قد انتشر، ودور الخمر قد فشت، وقطيعة الرحم قد ذاعت، والغش والتدليس والكذب قد استفحل، والموبقات قد عمت، والفجور رائحتها فاحت، والمعاصي راياتها ارتفعت، فهل يستحق النصر مَن هذا حاله؟!!.
انظروا حولكم: أما انتشر الفحش وعم الفساد!!، أما استبدلت الأغاني بالقرآن!!، أما ضُيعت الصلوات!!، أما أحييت الليالي على الماجنات من المغنين والمغنيات بدل إحياء الليالي بالقيام والركعات!!، أما أُكل الميراث ومُنع من أصحابه، وضاعت أموال الناس بالباطل؟!! فهل يتحقق نصر والحالة هذه؟!!.
أمراض وعلل وأوبئة أوصلت إلى الشلل؛ تعصف بجسد الأمة فتضعفه، وتنخر في إيمانه فتذيبه وتمحقه، وتنال من شموخ الأمة لتذلها.
وفي المنطق السليم، والعقل الرصين، والفكر الرشيد: أن المريض يبحث عن الدواء، وأن المعلول يفتش عن الاستشفاء، فو الله لا دواء للأمة إلا بشرع ربها، ولا شفاء إلا بكتاب بارئها، ومَن عرف الدواء استعمله، ومَن انتفع به نصح به غيره باستعماله.
وهذا هو أوان الاستشفاء، وهذه زمان أخذ الدواء، وهذا وقت التناصح، وميعاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله[[التوبة/71].
أيها المسلمون: مَن يأمر بالمعروف إن لم تأمروا به أنتم؟، ومَن ينهى عن المنكر إت لن تنهوا عنه أنتم؟ ألا واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الطريقة المحمدية؛ بالحكمة والرفق واللين، بالشفقة والرأفة والرحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، فما هو إلا دواء يعطيه الطبيب للمريض.
فلا ندعو لضرب المخطئين وإيذائهم، ولا لشتم المذنبين وسبهم، ولا لكسر خزاطر العاصين وجرح مشاعرهم، ولا للتشهير بالفاسقين وتكفيرهم، بل ندعو إلى إنقاذ الناس من الضلالة، وإدخالهم إلى ساحة الرحمة والهداية، ندعو إلى أخذ الناس بمراكب النجاة، وإبصالهم إلى بر السلامة والأمان، فالدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونبهني الله وإياكم من نومة الغافلين، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
المصدر : http://www.islamselect.com
============(4/294)
(4/295)
نموذج من الإرهاب في المناهج التعليمية الأميركية
محمد المليفي
انطلقت بعض الأفواه الخربة المنتنة الرائحة وبعض أصحاب الأقلام الفاشلة والساقطة في المستنقع الغربي انطلقت تردد وبطريقة منافسة صراخ العالم العربي وعلى رأسهم أميركا بما يسمونه تطوير المناهج التعليمية بينما الواقع هو أمركة المناهج التعليمية وسلخها من كل قيم الإسلام الحقيقية ومبادئه وعلى رأسها مفهوم الولاء والبراء في الإسلام.. ولسنا الآن بصدد تقييم مناهجنا التعليمية والتي أصلاً تنقصها مفاهيم كثيرة في الإسلام، ومع هذا يريدون تغييرها أيضاً! ولكننا الآن بصدد فضح بعض المناهج التعليمية الأميركية ولأريكم الصورة النمطية للعرب والمسلمين في مناهجهم التي يغذون بها عقول أبنائهم طيلة هذه العقود ولا يزالون!
رصدت اللجنة العربية لمكافحة التمييز بأميركا (ADC) بعضاً مما تحتويه المناهج التعليمية المقررة في جميع المدارس الأميركية لا سيما في المراحل الأولى للتعليم فماذا وجدوا هناك?!
أولاً: ترسيخ صورة محتقرة لجميع العرب بلا استثناء وحتى الصورة النمطية للعرب من أنهم يركبون الجمال والإبل هي دلالة على التخلف المدني والمستوى التعليمي المتردي.
ثانياً: أن العرب عبارة عن قبائل، وأن هذه الطريقة في التقسيم لديهم هي أرذل من التقسيم العنصري في العالم الغربي! حيث أن كل قبيلة تستولي على أموال القبيلة الأخرى وتغتصب نساءها وتبيد رجالها!
ثالثاً: علاقة العرب بالصحراء والرمال وطيدة للغاية وسبب ذلك عشقهم للعيش مع الأغنام والماشية! ولأن العرب لا يحبون النظافة والاستحمام فالصحراء مناسبة لهم كي تضيع روائحهم الكريهة فيها!
ومن التصورات الحقيرة في مناهجهم التعليمية عن العالم العربي ككل، إنه عالم يسافر إليه الأبطال الغربيون سعياً منهم في تحقيق مغامراتهم العاطفية على طريقة ألف ليلة وليلة، والبساط السحري وعلاء الدين، والذي يشاهد الرسوم المتحركة بعلاء الدين يرى بنفسه كيف يصورون العرب على أنهم مجموعة متخلفة ولا يعيشون إلا في الحانات والخمارات وبين النساء والغلمان! وهذه مجرد أفلام كرتونية ومع هذا نجد فيها كل هذا الإستحقار فكيف بكتبهم ومناهجهم?!
وأما أثرياء العرب، فهم يجلسون على آبار من البترول، وأنهم يريدون أن يشتروا العالم وأميركا بأموالهم، وحياتهم إسراف وتبذير وجهل وغير متعلمين وفساد ونساء وفجور ولا تعد صورتهم في مناهجهم عن الأثرياء العرب سوى أنهم أصحاب كروش ضخمة عصبيو المزاج، وهوايتهم المفضلة خطف النساء الشقراوات الغربيات!
رابعاً: أما عن صورة المرأة العربية فلا ترسم في مناهجهم التعليمية الا بصورة المرأة المضطهدة من الرجال والمتخلفة في لبسها لا سيما الحجاب والنقاب والثوب المستور.. وأما القسم الثاني من النساء العربيات فهن لا يعدون الا أن يكن راقصات عاريات، جميلات يقعن في حب الرجل وأنهن يفعلن كل هذا بغية الحصول على الرجل الغربي الذي ينقذهن من شر الرجل العربي وبطشه واضطهاده وحرمانها من الحرية.. الخ.
خامساً: ومن الصور النمطية للمسلمين تصوريهم على أنهم سفاحون.. لصوص.. إرهابيون.. متطرفون.. مغتصبون.. والنموذج الذي يرسم هذا كله ويجسده عندهم هم الفلسطينيون! فهم يحاولون تدمير إسرائيل »المسالمة! « وإنهم يسعون لاحتلال »تل أبيب«! فهم إرهابيون مجرمون يريدون كل شيء لهم وحدهم فقط!
معاشر السادة النبلاء:
هذا بعض ما رصدته اللجنة العربية لمكافحة التمييز في أميركا (ADC) وإذا أردتم أن تعرفوا مدى تأثر الأميركيين بهذه المناهج الحقيرة، فانظروا إلى رأي الرئيس الأميركي جورج بوش في مجرم وسفاح هذا القرن »ارييل شارون« فهو على رغم كل هذا السحق للأرواح الفلسطينية وقصف صدورهم العارية بالطائرات وليس فقط بالرشاشات.. ومع هذا يقول جورج للعرب أن شارون هو »حمامة السلام«!! ويسمي دفاع الفلسطينيين عن أرضهم ومقدساتهم بأنه إرهاب وإجرام! فبالله عليكم من هو الذي تأثر بمناهجه التعليمية أبناؤنا الذين تغربوا وصاروا يجوبون الأسواق والشوارع كالأميركيين والغربيين..أم القيادات الأميركية التي تطبق عملياً وبالحرف الواحد ما رضعوه في عقولهم من مناهجهم التعليمية?!
http://saaid.net المصدر:
============(4/296)
(4/297)
لماذا الإسلام هو الحل
فاضل بشناق*
أخي القارئ: تريد أن تعرف لماذا نريد الإسلام قائداً لمسيرة التحرير؟
فإليك ما قالته صحيفة الجارديان البريطانية سنة 1967م، لقد جرب العرب أوراقاً حمراء وصفراء كثيرة في حربهم مع اليهود( مع عدونا عدو العقيدة والإنسانية الصهيوني التلمودي)، فقد جربوا القومية والاشتراكية، والثورية الوطنية والتعددية الحزبية، وفشلت كل تلك الأوراق ولم يبقَ إلا ورقة الإسلام، ويخشى بعد أن فشلت تلك الحلول والأنظمة ألا تجد شعوب المنطقة غيرها منهجاً وسلاحاً.
نعم أخي المسلم يقولون ذلك لأن ماضي الإسلام يشهد، فقد جُرِب الإسلام، وأثبت قدرته على التحرير وعلى النصر، وذلك لأن الإسلام يحمل راية الحق وسيفه ضد الظلم وسيوفه مشهرة، وأنها حقيقة يجب أن لا تموت، وهي أننا نحارب عدواً رفع سلاح العقيدة، وينطلق في حربنا من تصورات عقائدية باطلة ضمنها في كتبه المحرفة من توراة وتلمود، والتاريخ بحروبه وصراعاته يثبت هذه المنطلقات، وهذه الحقيقة التي تؤكد أن الصراع بين المسلمين ومن يدعون اليهودية صراع عقائدي، وحري بنا أن نرفع سلاح الإسلام في وجه كل العقائد الفاسدة، ومن الدلائل على عقائدية المعركة، وحتمية النصر للإسلام والمسلمين ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، وحتى يختبئ اليهودي خلف الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله) رواه مسلم.
هذا هو الإسلام، وهذه هي البشارة الربانية بالنصر، وهذا هو التوجيه الحكيم نحو الطريق المنهجي الذي يرى أن مسألة الإيمان والإسلام كلٌّ لا يتجزأ، فهما متلازمان إذ لا فائدة من إيمان لا يتبعه عمل، ولا فائدة من عمل لا يصدر عن إيمان. مصداقاً لقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56]. وهذا شاعرنا يقول:
ما قيمة العمر إلا الدين يوقظنا ولذة العيش غير الحق في نظري
نعم.. لهذا نريد الإسلام شعاراً وتطبيقاً لأن الإسلام حدد الطريق، ووضع الأساس للخلاص من كل ألوان العبودية لغير الله، من عبودية الأفراد، والمال، والشهوات، وأهواء الذات وغرائزها، ذهاباً بالإنسانية كما قلنا إلى وحدة التوجه والمحاكمة لشرع وإرادة رب العباد، وملك الملوك والأسياد ترسيخاً لمعنى التوحيد والعدل والحق والسلام والوحدة والتعاون، وهذه هي الفطرة القائمة بمبادئها ضد الكفر والطغيان، وضد العداوة والاقتتال، وضد العنصرية والانفصال، ولذلك جاء الإسلام داعياً إلى مجتمع مجاهد يقف مع الحق ضد الضلال، ومع العدل ضد الجور والظلم، ومع السلام ضد الحرب، والإسلام بصفته دين يمتاز بالشمولية والديمومة والعالمية فهو قادر على النهوض بالأمة المرة تلو المرة بعد كل كبوة أو هزيمة، والتاريخ يشهد أن المسلمين أعقبوا كل نكسة بنهضة بفضل وجود رجال الدعوة العاملين، وعلمائها المجتهدين المدافعين عن الشريعة، ويأتي هذا تأكيداً لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أحمد وأبو داود )، ولهذا فالإسلام نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي ليس فيه شبهٌ لأي نظام سياسي واقتصادي آخر كالشيوعية والعلمانية والرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، فهو دين قائم على أساس عقيدة التوحيد التي يُغذى من خلالها كل مبدأ، ويُشرع كل نظام يضمن توازن النوازع الداخلية والرغبات الخارجية نهوضاً بالأمة إلى أعلى درجات المسؤولية الداخلية والخارجية، فيصنع منها أمة رائدة ذات حضارة متميزة.
نعم أخي المسلم.. إذا كان الإسلام مطلوباً لأنه حدد الطريق فكذلك هو مطلوب لأنه قد حدد الهوية، فالإسلام بميزاته ومبادئه لا يلقى من أعدائه إلا تنوعاً وتفنناً في ألوان العداء، وصور المكائد له، كمبدأ ولأهله كعاملين، فقوى الشر والطغيان والباطل تعمل متحدة على محاربة هذا العملاق على اختلاف أسمائها وأحلافها ومنطلقاتها، والتاريخ يحفظ في صفحاته كل هذه الممارسات التي مورست بهدف السيطرة على الإسلام، والقضاء على الأمة الإسلامية والعربية بالعنف، وهذا ما ظهر في العديد من الحروب التي دارت بين دار الإسلام ودار الكفر والطغيان، وانتهت بسقوط أجزاء كبيرة من الأراضي العربية والإسلامية لفترة من الزمن، وما كان هذا ليحصل بنا ولن يقع لنا مثيله لولا أن غزا التباغض والاستبداد والظلم والتحاسد والفساد والخيانة قادتنا والمتنفذين أصحاب الشأن والقرار، وسنبقى نكرر أنه بضعفنا وبعدنا عن ثوابت عقيدتنا ظهر علينا عدونا وأركعنا وقطع أوصالنا، فالأب في لبنان، والأخ في عمان، والأم في مصر، والأخت هناك تاهت في صحرائنا، وهنا في فلسطين الجريمة ظل ينزف أقصانا جريح الخيانة، وتجزأ الوطن وتمزقت الهوية، وضاع الاسم، واستقر في القلب سهم الغربة حتى أصبح أمرُ الوحدة أملاً بعيداً بل سراباً خادعاً كداعيها.(4/298)
هم هزمونا في المعركة ومزقونا وليس معنا هوية، بحثنا عنها فخدعونا أنها ليست هي وليست ذات الهوية إنها وثنية، إنهم أدخلوا عليها عبارات ليست من قاموس أصالتنا، قالوا في دفاترهم أن الأم شيوعية، وأن الأخت اشتراكية، وعن الجدة أسقطوها من مجالسهم وقالوا عنها أنها رجعية، هم حطمونا بنوا علينا جسرهم، وزرعنا أحرقوه وزرعوا حنظلهم ومعه بدأ التقيح والألم، وهل تعلمون ما هو حنظلهم..؟ إنه رأس الفتن، إنه الكفر، إنه الوثن، إنه الظلم وروح العداء، إنه إسرائيل، نحن لا نريدهم ونريد هويتنا غير ممزقة، وليست من دفاترهم كما عوضونا هم جزءونا فلنتحد، هم أضعفونا فلنجتهد، هم روضوا منا ما استطاعوا فلنبتعد، هم حاربونا فلنستعد، وعلى العقيدة نستند في تقويم اعوجاجنا، ومحاربة أعدائنا، وتنمية طاقاتنا، متمثلين في مسيرتنا مبدأ الإسلام في عدم الإفراط والتفريط في مواجهة الطواغيت، فالدراية في أمور السياسة واجبة، ما الدراية في أمور الحرب والحكمة في خوض الصراع كما الشجاعة والإعداد للحرب سُر النصر فيها. وإذا قلنا لابد من مواجهة الأعداء وحربهم فقد يذهب بنا الإفراط إلى القتال بلا حيطة ولا استعداد فيكون المصير الإجهاض، ولسنا هنا من دعاة الإفراط بالإعداد والاستعداد لأن ذلك يدفع الكثير ممن ينافقون في عداوتهم لعدونا، وحبهم للإسلام وأهله وإن كانوا من أبنائه إلى رفع شعارات لا نرى منها إلا الاستسلام والجبن، وهذا فعلاً نراه حيث لاحت في سماء وطننا شعارات مثبطة للعزائم، قاتلة لروح المواجهة مثل شعار التوازن الاستراتيجي ضرورة ومطلب أولي يسبق لخطة المواجهة مع العدو، فأي توازن هذا الذي تطلبه البلاد العربية والإسلامية وممن؟ من أعدائها الطامعين أصلاً في خيراتها، والساعين إلى القضاء على أي مظهر من مظاهر القوة التي يرون فيها خطراً على ربيبتهم إسرائيل، وما حربهم للعراق إلا برهاناً واضحاً على أنه لن تسمح قوى الاستعمار والكفر أن تتفوق ولو بجهدها الذاتي أية دولة عربية على إسرائيل، ويكفي هنا أن نذكر أن الشروط السرية لابتياع أية دولة عربية السلاح من روسيا كانت تصب في هذا المعنى، وهذه الشروط هي:
1- أن تبقى إسرائيل داخل حدودها فلا تهاجَم ولا تُمَس ولا يحاول أحد النيل منها.
2- إن السلاح الذي تأخذه البلاد العربية سلاح دفاعي.
3- إن هذا السلاح يباع بأغلى الثمن بينما يقدم لإسرائيل كهبات.
4- أن يكون جهاز الرقابة والصيانة لهذه الأسلحة بإشراف روسي.
5- السماح للنشطاء الشيوعيين في البلاد العربية من التحرك والعمل بحرية كاملة بدءاً بالتنظير وانتهاءً بالهجوم على الاتجاهات الإسلامية والنيل من العقيدة.
إنه وبعد كل هذا علينا أن نتمثل في استعدادنا لحرب عدونا القاعدة الربانية في قوله تعالى: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، وفي الحديث يتبين أن معنى القوة كل وسيلة تصيب هدفها عن بُعد حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا إن القوة الرمي)، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يرمى به العدو عن بُعد كالسهم والرمح والرصاصة والصاروخ، فالآية والحديث يشكلان دعوة إلى التصنيع والاعتماد على الذات لا أن نعتمد في تعزيز قوتنا وتحديث وسائلنا على أعداء الإسلام والمسلمين كما هو الحال في أنظمتنا ودولنا في وطننا الكبير.
* مدير مركز المرشد - فلسطين
المصدر : http://www.islamselect.com
=============(4/299)
(4/300)
مناهجنا والإرهاب
طارق معدي آل مستنير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم... أما بعد:
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ونحن نقرأ ونسمع عن حملات الهجوم والانتقاد الشرسة للمناهج الدراسية في بلادنا سواءاً من أبناء جلدتنا من كتاب وصحفيين ومثقفين، أو من أعدائنا في الخارج، مما يدفع المرء أن يتساءل: ما هو مصدر ومكمن الخلل؟ وأين كانت هذه الحملات المطالبة بالتغيير قبل أزمة سبتمبر؟ وهل حقيقة أن ما يسعى إليه أصحاب هذه الحملات نابع من غيرة على الدين وعلى مستقبل البلاد والمسلمين والقضاء على الإرهاب العالمي والتطرف المتفشي بسبب هذه المناهج التي تدرس في بلاد المسلمين كما يزعمون؟
لقد أصبحت هذه المناهج هي الشماعة التي يعلق عليها المنهزمون والضعفاء فشلهم، وأصبحت السبب الرئيسي لكل ما يجري في العالم بأسره من الجرائم والمصائب والنكبات والتخريب والفساد على حد قولهم، وقادت هذه الحملة أمريكا وطبل لها المطبلون، وسخر الصحفيون والمفكرون أقلامهم وطاقاتهم لمساندة هذه الادعاءات الباطلة، وهل يراد فعلاً بهذه الجلبة محاربة الإرهاب وإحلال السلام العالمي كما يظهرون؟
كلا لن ولم تكن هذه غايتهم، بل جل اهتمامهم وغاية أطماعهم وأهدافهم هو طمس معالم ديننا وتاريخنا، وإبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم وإيمانهم المستمد من القرآن لتصبح أمتنا الإسلامية شخصية بدون هوية، وإفقادهم عزتهم وزرع الخور والانهزامية في نفوسهم، وبث أفكارهم المسمومة وأخلاقياتهم المنحلة في شبابنا قال الله - تعالى-: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)(1)، فغايتهم ورضاهم أن نسلك طريقهم ونتبع دينهم.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
"ولا يقف مراد الغربيين عند حد قبولنا عقلية الغرب فحسب؛ بل يتعداه إلى محاولة خلق دائرة فكر تهدم بناء المسلمين والعرب، وتنتقص فكرهم، وتشيع فيهم الشبهات والمثالب، ثم لا تدفعهم إلى أي جانب من جوانب البناء أو النهضة أو أي فكر آخر"(2)، ويكمن هذا العداء للإسلام واضحاً في الحروب والدمار التي سببته أمريكا في أفغانستان والعراق، فقد أظهرت نواياها الخبيثة والدفينة بكل استكبار واستعلاء بالرغبة في السيطرة والهيمنة على العالم بأسره، وكسح أي قوة تعترضها أو تشكل خطراً على زعامتها للعالم والتي تتمثل في القوة الإسلامية، فمن جملة ما يؤيد هذا ما قاله الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش: "كانت الولايات المتحدة على مدى قرنين من الزمان هي مثل العالم الأعلى في الحرية والديمقراطية، وقد حملت أجيال متعددة راية النضال للحفاظ على الحرية، وتعظيم المكاسب التي حققتها... واليوم وفي عالم يتحول بسرعة شديدة فإن زعامة الولايات المتحدة لا غنى عنها"(3)، نحن أمة تستمد ثقافتها ومنهجها وجميع علومها من كتاب الله الذي به صلاح كل من تمسك بما فيه من تعاليم وأحكام وتشريعات قال الله - تعالى-: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)(4) أي في كل شؤون الحياة يهدي للتي هي أقوم، في الاقتصاد، وفي السياسة، وفي الاجتماع، وفي الإعلام، وفي الإدارة، وفي كل الأمور، وقد بين هذا الدكتور عمر الأشقر بقوله: "أما الثقافة الإسلامية فإن أصولها العقائدية والأخلاقية والعملية وحي إلهي رباني، فالإسلام هو الذي أنشأ عقائد الأمة الإسلامية وتصورها وأخلاقها وقيمها، وهو الذي حدد مسارها وبين منهجها ووضع لها قانونها وأقام لها الضوابط التي تعصم الفكر من الانحراف، وهيمن الإسلام على الدراسات الإنسانية، وقوم الفنون التي تمارسها الأمة"(5)، وإن ما يحزن القلب، وتدمع له العينين شفقة على من ينخر في صرح الإسلام القويم من داخل أسوارها من المنتسبين إلى الإسلام والمسلمين، "إنك حين تنظر في أي قضية من قضايا الإسلام وبخاصة في أزمنة الضعف والاضطهاد للمسلمين فإنك تجد أن رؤوس النفاق يتبينون فيها ويكشرون عن أنيابهم، فيظاهرون المشركين والعلمانيين، ويؤيدونهم ويسخرون كل ما أعطاهم الله - تعالى - في نصرتهم"(6).(4/301)
فيتجلى لنا الآن أن مناهجنا ليست السبب في كل ما رميت به وما نسب إليه زوراً وبهتاناً، ولكن السبب وراء هذه الدعاوى من بعض أبنائنا هي الانهزامية النفسية، والشعور بعقدة المغلوب عندهم، ويصف هذا الشعور ابن خلدون بقوله: "إن المغلوب مولع أبداً بالإقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظرة بالكمال، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي وإنما هو لكمال الغالب" وقد تقدمت البلاد الأوروبية والأمريكية في القرنين السابقين في حقول العلم والتقنية وازدهرت ازدهاراً باهراً فيهما، ولكن العالم الإسلامي على العكس قد بات مرتكساً ومتقهقراً في هذا المضمار من أجل الضعف والغفلة والتكاسل بعد إحراز النجاح في العلوم الطبيعية والتجريبية في ماضيه العريق، وأهم أسباب هذا التخلف تكمن في البعد عن الإسلام، وعدم تنفيذ أمره باستعمار الأرض، وترك العلوم التي كان آباؤنا أساتذة فيها، ومن جملة الأسباب الجهود غير المباركة التي بذلها أعداؤنا ليحولوا دون الوصول إلى العلوم التي نرتقي بها"، ولكي تتخلص الأمة الإسلامية من هذا الضعف والخور والانهزامية لابد من السعي الدؤوب لإيجاد الحلول المناسبة، ولتغيير هذا الواقع المر الذي نعيشه، بعد أن كنا نقود الأمم أصبحنا نقاد ونسير ابتداءاً بالعودة والرجوع إلى الدين، والتمسك بتعاليمه الشاملة لجميع وشتى أمور الحياة قال الله - تعالى -:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(7) أي الإسلام حيث أكمل الله - تعالى - لنا ديننا فلا نحتاج إلى دين غيره.
يقول الدكتور عبدالله الخاطر: "لا بد من التربية على الإيمان الصحيح، وأول خطوة في طريق الألف ميل هذه هي التزام المسلمين شباباً وشيوخاً, صغاراًً وكباراً, رجالاً و نساءاً بهذا الدين الالتزام الصحيح، وأن يتربوا على هذا الدين الحقيقي الذي يجعلهم لا يخافون إلا من الله - سبحانه وتعالى -، وهذه العقيدة الإسلامية التي هي ليست فكرة فقط موجودة في الأذهان ولكن يجب أن تكون حقيقة"(8) لا ننكر أن مناهج العلوم التجريبية أو الطبيعية التي تدرس في مدارسنا وجامعاتنا بحاجة إلى إعادة صياغتها لتتوافق مع ديننا ومنهجنا الإسلامي، ويؤيد هذا الندوة التي عقدت في مدينة الرباط في 8 فبراير 1984 باسم (ندوة جعل الثقافة الإسلامية محور مناهج التعليم) فقال مدير المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الأستاذ عبد الهادي أبو طالب: "ليس الهدف من برنامج (جعل الثقافة الإسلامية محور مناهج التعليم) زيادة حصص مادة التربية الإسلامية أو تعميمها في جميع مراحل التعليم، وانما إعادة صياغة المنهج المدرسي كله على أسس إسلامية، وتأليف مفرداته، وصوغ معطياته من منظور إسلامي، وصبغ التعليم كله بالصبغة الإسلامية لخلق جيل متماسك الشخصية، محدد الهوية، واثق بنفسه، مؤمن برسالته" مهما عصفت بأمة الإسلام من مصائب وحروب وما تلاقيه من الكيد لها في شتى المجالات الإنسانية والاقتصادية والسياسية والتربوية والثقافية والإعلامية وغيرها فسيبقى الإسلام هو الدين الصالح لجميع الشعوب والأمم، وسيظهر وسيحكم الأديان كلها، فالمستقبل لهذا الدين الحق قال الله - تعالى -:(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)(9)، وقد أدرك حقيقة هذا الأمر بعض علماء الغرب ومنهم (باول شتمز) فقال: "سيعيد التاريخ نفسه مبتدئاً من الشرق عوداً على بدء من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية الإسلامية في الصدر الأول للإسلام، وستظهر هذه القوة التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته العسكرية، وستثبت هذه القوة وجودها إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها والاستفادة منها، وستقلب موازين القوى لأنها قائمة على أسس لا تتوافر في غيرها من تيارات القوى العالمية"(10).
____________________________
1. سورة البقرة : آية 120.
2. "شبهات التغريب" لأنور النجدي : 13.
3. "النظام الدولي" لياسر أبي الشبانة: ص 31.
4. سورة الإسراء : آية 9.
5. "نحو ثقافة إسلامية أصيلة" للدكتور عمر سليمان الأشقر: ص 68 ، 99.
6. "هكذا علم الأنبياء لا إله إلا الله" لسلمان بن فهد العودة: ص 77.
7. سورة المائدة : آية 3.
8. "الهزيمة النفسية عند المسلمين" للدكتور عبد الله الخاطر : ص 47.
9. سورة التوبة : آية 33.
10. "الإسلام قوة الغد العالمية" لـ باول شتمز.
المصدر : http://www.islamselect.com/admin/fback.php
==============(4/302)
(4/303)
قصة حجاب " أمة الله "
الدكتور نبيل السعدون
أثار اهتمامي خبر الفتاة الصغيرة التي طردتها أكاديمية بن فرانكلين في مدينة ماسكوجي بولاية أوكلاهوما في أوائل شهر أكتوبر الماضي بسبب إصرارها على ارتدائها الحجاب خلال ساعات الدوام المدرسي، فقررت زيارتها في مدينتها مع أولادي خلال عطلة نهاية الأسبوع نيابة عن مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير).
وجدت أسرتها تقيم في بيت متواضع وفي حي فقير في المدينة حيث استقبلتنا الأسرة بالترحاب، وكان أكبر همي أن أرى تلك الفتاة الشجاعة التي هزت الأوساط التربوية والإعلامية في أمريكا وتناقلت أخبارها وكالات الأنباء الأمريكية والعالمية.
سلمت "أمة الله" علينا، وهذا اسمها الإسلامي، وحيانا والدها وشكرنا على الزيارة لمؤازرته وأسرته حيث يشعر بالوحدة بسبب خلو المدينة الصغيرة من المسلمين تقريباً، كما أن أمة الله هي الطالبة الوحيدة المسلمة في المدرسة.
سألتها لماذا يريدون إجبارك على خلع الحجاب؟ فقالت ببساطة وبراءة الطفل: "لأنهم لا يريدون لديني الإسلامي أن يكون له وجود في المدرسة". ثم حدثني والدها فقال إن الأمر بدأ في 11 سبتمبر الماضي حيث قالت معلمة أمة الله بأنها لا تستطيع أن تأتي إلى الأكاديمية مرتدية الحجاب لأن قوانين المنطقة التعليمية تقضي بمنع غطاء الرأس من أي نوع خلال اليوم الدراسي، وأكد على ذلك مدير المدرسة ثم تبنى الموقف أيضاً مدير المنطقة التعليمية.
وتحدثنا عن عدم منطقية هذا القرار حيث أن القوانين الأمريكية تجيز حرية التعبير وحرية ممارسة الاعتقادات الدينية كما هو مفروض وبخاصة في ولاية أوكلاهوما حيث أنها واحدة من إثنى عشرة ولاية تبنت قوانين إضافية محلية تؤكد على حرية ممارسة الاعتقادات الدينية والتعبير عنها.
وكنت قد تحاورت مع إبراهيم هوبر المدير الإعلامي لكير حيث نتابع تطورات هذه القضية فقال: "كنا في الماضي ننجح في حل مشكلة من هذا النوع بمجرد مكالمة هاتفية، أما بعد أحداث سبتمبر 2001 أصبح الأمر أكثر صعوبة وتعقيداً".
وعلى كل حال وبتوفيق الله وبعد حملة ضغط إعلامي وجماهيري دعت إليها كير وشارك فيها مئات المسلمين والعرب وانضمت إليها مؤسسات حقوقية أمريكية أخرى تراجعت إدارة المنطقة التعليمية في منتصف شهر أكتوبر عن موقفها جزئياً وسمحت لأمة الله أن تعود للمدرسة مرتدية حجابها لحين إتمام الجهاز القانوني لدى المنطقة التعليمية في ماسكوجي مراجعة نظمها وقوانينها ومحاولة استيعاب حجاب أمة الله دون مخالفة للقوانين المرعية لديهم.
وفي حالة تراجع المنطقة التعليمية وتضييقها على أمة الله مرة أخرى فإن كير وربما مؤسسات حقوقية أمريكية أخرى يدرسون إمكانية رفع دعوى قضائية ضد المنطقة التعليمية في ماسكوجي وذلك للدفاع عن حق أمة الله وحقوق الملايين من المسلمات اللواتي يرتدين الحجاب في المدارس الأمريكية على مدى السنوات والأجيال القادمة.
سار بنا الحديث إلى الطريقة التي تعرف بها إيفون هيرن، والد الفتاة على الإسلام، فقال كان هذا في عام 2000 حيث وقعت في يدي نسخة من القرآن الكريم فشدني هذا الكتاب وقرأت فيه كثيراً حتى أسلمت، ثم بدأت بتعليم أسرتي الإسلام فأسلمت أمة الله رغم أنها أصغر أولادي الثلاثة وأتمنى أن يشرح الله صدر زوجتي وأولادي الآخرين لهذا الدين قريباً إن شاء الله فإنهم ما زالوا مترددين في أن يعتنقوا الإسلام.
أما أمة الله فقال إنها شديدة الحرص على تعلم القرآن ومبادئ الإسلام العظيم وأنا مسرور لمدى حبها والتزامها بهذا الدين، وقال إنها هي التي اختارت اسمها الإسلامي "أمة الله " حيث وجدته في أحد المواقع خلال بحثها في الشبكة المعلوماتية.
غادرنا منزل العائلة وكلنا احترام وإكبار لموقف الفتاة الشجاع وثباتها على المبدأ العظيم الذي تؤمن به. وخلال الأيام التالية توجهت المراكز والمؤسسات المسلمة في أوكلاهوما وتكساس بدعوات للأسرة لحضور مناسبات تم خلالها تكريم أمة الله وتشجيعها على الثبات على موقفها.
ومع حلول شهر رمضان المبارك اتصلت هاتفياً بالأسرة لتهنئتها بحلول الشهر الكريم ففاجأني والد أمة الله بأن زوجته وابنه الأكبر قد أسلما والحمد لله وهو يأمل في أن تحذو بنته الكبرى حذوهما ويصبح جميع أفراد هذه الأسرة مسلمون، وقال إن زوجته أصرت على أن ترتدي الحجاب فور إسلامها لأنها تريد أن تلتزم بما يأمرها به الإسلام وتبدأ طريق الإسلام بداية صحيحة أي بالطاعة التامة.
هذا الخبر أثار في نفسي مشاعر فياضة غامرة واحتراماً عظيماً لهذه الفتاة المسلمة الملهمة وأسرتها التي أرسلت من خلال موقفها عدة رسائل وفي عدة اتجاهات.
أولها للمسلمين جميعاً أن المسلم الحق يثبت على مبدأه ويكون رائدا في رفع شعارات الإيمان والعفة، وهو يؤثر إيجابياً على الغير ولا يتأثر سلبياً بهم ولو كان وحيدا، وأن الثبات على المبدأ الصحيح يؤدي بعون الله إلى ترسيخ الحق في واقع الناس. ورسالة للشباب المسلم أن عليهم ألا ينجرفوا وراء المظاهر وأن يتجنبوا التقليد الطائش والأعمى وأن يلتزموا بجوهر طاهر ومظهر عفيف كما أمر الدين الحنيف.(4/304)
وثالث هذه الرسائل للآباء والأمهات أن يكون هدفهم في الحياة أن ينشئوا من نسلهم جيلاً يكون أكبر همه إرضاء الله - تعالى - والفوز بالجنة لا الافتتان بمظاهر هذه الحياة وزينتها.
ورسالة للمجتمع الأمريكي تنبهه إلى مدى التراجع الذي وصل إليه في مجال الحريات الدينية، إلى حد ضيق بعض أفراده بحجاب فتاة صغيرة وحيدة عرفت كيف تتمسك بقوة وإيجابية بحقها حتى استعادته، ورسائل أخرى عديدة يضيق المجال بذكرها.
http://www.islamway.com المصدر:
-===========(4/305)
(4/306)
ماذا وراء تمجيد الزنادقة في التاريخ القديم والمعاصر؟
محمد بن حامد الناصر
لاحظنا في السابق مهاجمة العصرانيين للفتوحات الإسلامية وقادتها، والتطاول على بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، ونلاحظ هنا أن بعضهم يدافع عن الزنادقة والمرتدين باسم الدفاع عن حرية الرأي والتجديد.
وقد تحمل وزر هذه الدعوة عدد من العصرانيين، فمدحوا الخوارج واعتبروا أنهم حزب العدالة والقيم الثورية، رغم أنهم كلاب أهل جهنم كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
واعتبر بعضهم أن القرامطة هم الجناح اليساري في الحركة الشيعية، كما مدحوا الدولة العبيدية الإسماعيلية، وأشيد بثورة الزنج في البصرة جرياً وراء تمجيد المستشرقين لهذه الحركات المنحرفة الطائشة(1).
ثم تابع العصرانيون الجدد - أصحاب النزعة المادية - طريق من سبقهم بجرأة أشد، وانحراف أخطر(2).
تمجيدهم لعدد من الزنادقة:
دأب الطبيب (خالص جلبي) على تمجيد الحلاَّج والسهروردي ومحمود طه زعيم الإخوان الجمهوريين السودانيين، وهو باطني ضال حوكم شرعياً، وحكم بإعدامه، وأراح الله السودان منه، وستعرف المزيد عنه في هذا المقال، وقد اعتبر خالص جلبي هؤلاء مجددين قُتلوا ظلماً.
يقول في مقالة له في الشرق الأوسط: «كل المظالم وقعت باسم الشعب، وباسم الأمن، أنشئت أجهزة الرعب، وتحت بعض الشعارات تغتال الحقائق؛ فباسم الشعب في بغداد حكم على الحلاج بضربه ألف سوط، ثم قطع لسانه وأطرافه».
«وإن المجتمع الإنساني يتقدم بدون التجديد الدائم، وكل فكرة جديدة عانت وكابدت، من ذلك إعدام سقراط في أثينا، وإعدام محمود طه في السودان بتهمة الردة»(3).
ثم يعترض (الجلبي) على إعدام محمود محمد طه فيقول: «وتحت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية أعدم محمود طه في السودان لرؤيا رآها، فسرت أنها كفر، ولم ينفع في رفع الحكم عنه سنواته السبعون»(4).
ويقول أيضاً: (وفي عام 1971م أعدم محمود طه في السودان على يد الطغمة العسكرية بتهمة الردة، وكان الرجل مجدداً، فلم يكفر ولم يرتد، ولكنها السلطة التي لا تتحمل النقد والمعارضة)(5).
حقيقة محمود محمد طه:
قتل هذا الرجل مرتداً لأنه كان من مدعي النبوة، وكان قد درس مذاهب الفلسفة والمنطق، وله دراسات حول مدرسة الجدليين، واستقال من عمله في الحكومة السودانية، وشكَّل الحزب الجمهوري، ولم ينضم إليه أكثر من عشرة أشخاص. عمد إلى أسلوب المحاضرة في المقاهي والشوارع، وكان يصدر منشورات باسمه، في أخريات عام 1945م(6).
سجن محمود طه مرتين، وخرج بعد المرة الأولى بعد سنتين وقد أطلق لحيته، وأرسل شعر رأسه، وأوضح أن الحزب الجمهوري حزب له رسالة، هي رسالة الحق، وأنه قد كُلِّف بهذه الرسالة، ثم سجن مرة أخرى لمدة سنتين.
وقد أسقط عن نفسه الصلاة، ولكنه نادى أتباعه بإقامة قواعد الإسلام.
كان يتأول في تفسير القرآن الكريم، ويعتبر أن الآيات المكية هي أساس الشرع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكن في مكة من تعليم المسلمين أسس هذه الآيات.
نفذ فيه حكم الإعدام لادعائه النبوة، وخروجه من الإسلام بعد أن أمهل ثلاثة أيام ليتوب ويرجع عن كفره وضلاله فلم يتب ولم يتراجع، (أعدم في سجن الخرطوم).
وتوجد حقائق مذهلة عن أفكاره، ما كان يعرفها كثير من الناس، وقد بسطتها مجلة المجتمع في بعض أعدادها؛ حيث بينت أن الجمهوريين في السودان يرون: أن محمود طه أفضل من النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأنه فصَّل الرسالة الثانية، وهي بزعمهم أعلى مرتبة من الرسالة الأولى، وحكمت المحكمة على أربعة آخرين معه بالإعدام(7).
ورغم هذه الردة عند محمود طه فإن خالص جلبي يتباكى عليه ويدافع عنه، ويعتبر أنه قُتل مظلوماً، من قِبَل السلطة العسكرية؛ لأنها لا تتحمل النقد والمعارضة»(8).
ويتجاهل الطبيب خالص ما كُتب عن محمود طه ورِدَّته وفكره، ومن ذلك كتاب «موقف الجمهوريين من السنة النبوية»(9) وكتاب «الردة ومحاكمة محمود محمد طه»(10).
أما الحلاج:
فهو الحسين بن منصور المتوفى عام 309 هـ، كان جده مجوسياً، عرف عند الفقهاء أنه زنديق، وكان يتعاطى السحر والشعوذة.
وكان حفيده (الحسين بن منصور) من أكبر دعاة الحلول، ودعوى امتزاج الخالق بمخلوقاته - تعالى الله عما يقوله الزنادقة علواً كبيراً -.
ومن شعر الحلاج قوله(11):
مزجت روحك في روحي كما تُمزج الخمرة في الماء الزلال
فإذا مسَّك شيء مسني فإذا أنت أنا في كل حال
ومن شعره أيضاً:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
والحلاج قتل بالعراق بعد أن ادعى النبوة حيناً، والألوهية حيناً آخر، وأقرَّ بكتاب منسوب إليه بهذه التهم.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: «الحلاج قتل على الزندقة التي ثبتت عليه، مما يوجب قتله باتفاق المسلمين، ومن قال إنه قتل بغير حق فهو: إما منافق ملحد، وإما جاهل ضال»(12).
ورغم كل ذلك فإن (جلبي) يرى: «أن الحلاج قُتل مظلوماً، وأعدم في بغداد بعد أن قطع لسانه وأطرافه»(13).(4/307)
وقد أشاد خالص جلبي بالشهاب السهروردي أيضاً، واعتبر أن إعدامه كان تجاوزاً، يقول: «ربما حدثت تجاوزات حيث قضى السهروردي نحبه بفتوى أيام صلاح الدين الأيوبي»(14) ومعروف أن السهروردي كان حلولياً من أصحاب وحدة الوجود كالحلاج؛ فهو من ضُلاَّل الصوفية.
يقول ابن كثير - رحمه الله -: وكان الشهاب السهروردي مبتدعاً يخالف في معتقده وآرائه حَمَلة الشرع، فصلبه السلطان الظاهر في حلب - بأمر من والده السلطان صلاح الدين - بعد أن شهَّر به(15).
تمجيد جودت سعيد لعدد من الزنادقة أيضاً:
كان الشيخ جودت معجباً بابن المقفع والجاحظ أشد الإعجاب وذلك لكثرة قراءاتهما، حسب مفهوم الشيخ للقراءة.
يقول جودت سعيد: «إن الإنسان يتصاغر أمام من هو أقرأ منه.. أجل إن من يقرأ أكثر يَنَلْ أكثر، إنه قانون الله «من يعمل سوءاً يجز به».
ثم يقول: «وإن تجرد إلقاء نظرة على تاريخ العلماء في العالم بيبن لك أن القراءة الدائمة هي دأب العلماء».
«انظر مثلاً كتاب كليلة ودمنة، وما وضع في مقدمته من الجهود التي بذلت في تحصيل هذا الكتاب؛ ففيه معلومات عالمية محجوزة لا يفرج عنها إلا بعد سنوات تطول أو تقصر حسب رؤى أصحابها»(16).
ثم يقول: «وإذا كان لي من نصيحة أثيرة أقدمها للشباب الذي تعلِّق الأمة عليهم آمالها، فهي أن يتطلعوا إلى مصادر للعلم غير المصادر التي كنا نستقي منها»(17).
ثم يقول أيضاً: «ويزداد الإنسان إعجاباً بأقوال ابن المقفع حول المُلك «السياسية» وأنه إما مُلك دين، أو مُلك عقل، أو ملك هوى» ويقول: «هذا هو النظر التاريخي العلمي الأخلاقي»(18).
فكثرة القراءة لا تجيز للشيخ جودت أن يمجد الملاحدة كفلاسفة الملاحدة اليونان، ولا الزنادقة كابن المقفع وأضرابه.
قال ابن عبد الهادي: «ما رأيت كتاباً في زندقة إلا وابن المقفع أصله»(19).
وقد أسهم ابن المقفع بنشر الثقافة الفارسية، ويقول عنه ابن النديم في الفهرست - وكان معاصراً له -: «كان ابن المقفع يعتني بكتاب المانوية، ونقل إلى العربية منها كتباً أخص بالذكر منها كتابه «ديانة مزدك».
وقال الخليفة العباسي «المهدي»: «وما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع»(20).
ويشيد جودت سعيد بالجاحظ أيضاً:
فيقول: «والجاحظ له مقام في الحضارة الإسلامية، يتألق نجمه على مر الزمن.. كان يتذوق مع آيات الله: آيات الآفاق والأنفس، وهو وإن كان إماماً في الأدب، إلا أنه صاحب مذهب في العقيدة أيضاً»(21).
ويقول: «كانت وفاته تحت ركام الكتب التي تهدمت عليه، إنه شهيد الكتاب والقراءة، لقد كان قارئاً بمستوى حضاري إنساني عالمي، ولكتبه طعم خاص وذوق معين، وذلك لعلميته في القراءة، ولإنسانيته في الثقافة(22).
أخي القارئ: إليك أقوال أهل العلم بالجاحظ الذي أتخذه جودت سعيد أسوة له، وزعم أنه صاحب عقيدة:
قال ابن حجر العسقلاني: «كان الجاحظ من أئمة البدع».
ويقول أبو العيناء: «كان الجاحظ قدرياً».
وقال الخطابي: «كان الجاحظ يُرمى بالزندقة».
وقال ابن حزم عنه: «كان أحد المُجَّان الضُّلاَّل، غلب عليه الهزل»(23).
وقال الإمام الذهبي: «العلامة المتبحر المعتزلي، أخذ عن النظَّام، وأنه كان يختلق»(24).
يلاحظ هنا أن هنالك ارتباطاً كبيراً بين أفكار الجاحظ وأفكار جودت سعيد، وخاصة فيما يتعلق بأفكار القدر والاعتزال المبثوثة في كتبهما.
تمجيد العصرانيين الجدد للمعتزلة ورؤوس الاعتزال:
يقول الدكتور خالص جلبي: «وعندما استقر الأمر للعقل الكسيح، وطُحن التيار العقلاني من المعتزلة وسواهم، أصبح التشكيك في عقيدة أي إنسان جاهزاً وحتى اليوم، وبقيت الساحة عقلاً من دون مراجعة، ونقلاً من دون عقل»(25).
والمعتزلة قوم فُتنوا بالفلسفة اليونانية، فأوَّلوا القرآن الكريم، وكذَّبوا الأحاديث التي تتعارض مع العقلية الوثنية اليونانية (26)، وحكَّموا العقل وقدَّموه على الشرع، فكَّذبوا ما لا يوافق العقل من الأحاديث الشريفة - وإن صحَّت - وأوَّلوا ما لا يوافقه من الآيات الكريمة(27).
والمعتزلة تطاولوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الأحاديث التي ينقلونها تخالف أصولهم، ومن هؤلاء: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، والنَّظَّام.
وقد أُعجب العصرانيون بآراء المعتزلة، ومجَّدوا النظَّام أحد رؤوسهم الذي يقول فيه البغدادي: «دخل الفساد على عقيدة النظَّام ممن خالطهم من الزنادقة والفلاسفة وغيرهم»(28).
واتخذ المعتزلة ومن شايعهم الجدل والمراء وسيلة للبحث في الدين؛ وذلك مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ يقول: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أتُوا الجدل»، ثم تلا - عليه الصلاة والسلام -: «ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون»(29).
تناقضات عجيبة:(4/308)
بينما كان خالص جلبي يدافع عن الزنادقة والمرتدين، ويحزن لإعدامهم، نراه يشيد بما سماه «المحاكمة العادلة» التي حوكم فيها سليمان الحلبي الطالب الأزهري الذي اغتال خليفة نابليون بمصر الجنرال كليبر، وقد حكمت عليه بالإعدام؛ فقد أشاد بالمحكمة الظالمة التي تواطأت مع المستعمر الفرنسي آنذاك، فقال: «انظر إلى النظام القضائي البديع، واستيفاء الوقائع، وجمع الأدلة قبل إصدار الحكم، كل ذلك في غياب مطبق لأي صورة من صور العدالة الحديثة، والقضاء الجديد، واستغلال القضاء ونزاهته»(30).
ومن الغرائب أن الطبيب خالص يحزن لمقتل الزنادقة، بينما نراه يهاجم الدعاة والعلماء، ويفرح لإعدامهم، يقول في مقال له بعنوان: «كيف تنشأ الأساطير» معرِّضاً بسيد قطب: «أفضل طريق لدخول عالم الأساطير أن يختفي صاحبها إما على حبل المشنقة كما حصل مع سيد قطب، أو غابات بوليفيا كما حصل مع غيفارا»(31).
ويتشفى جلبي بسجن ابن تيمية لأنه لم يتجنب العنف في خصوماته، وقد تحدثنا عن هجومه على السلطان الفاتح والقائد المجاهد صلاح الدين الأيوبي؛ لأنهم جاهدوا في سبيل الله وقاتلوا أعداء الإسلام (في ساحات المعارك) الروم والصليبيين، وخالفوا منهج الاستسلام واللاعنف كما يفهمه (جلبي وشيخه: جودت سعيد).
هذا وإن الولاء والبراء من أوثق عرى الإيمان، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله»(32)، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1].
___________________________
(1) انظر كتابنا: العصرانيون، ص 292 ـ 293.
(2) يمثل هذا الاتجاه، الشيخ جودت سعيد، والطبيب خالص جلبي مع فتنة بالتغريب وتعطيل للنصوص.
(3) الشرق الأوسط، عدد (8324) من مقال له بعنوان: (باسم الشعب)، في 12/9/2001م.
(4) سيكولوجية العنف، خالص جلبي، ص 36.
(5) الشرق الأوسط، العدد (8324) في 12/9/2001م.
(6) تتمة الأعلام للزركلي، محمد خير رمضان يوسف، مجلد 2، ص 169 ـ 170، دار ابن حزم، بيروت، 1418هـ.
(7) مجلة المجتمع في العدد (703) 15/5/1405هـ، والعدد: (705) في 29/5/1405هـ، وتتمة الأعلام، 2/169 ـ 170.
(8) الشرق الأوسط، في 12/9/2001م.
(9) موقف الجمهوريين من السنة النبوية، شوقي بشير، طبعها في مكة المكرمة، رابطة العالم الإسلامي، 1408هـ.
(10) الردة ومحاكمة محمود طه، تأليف المكاشفي الكباشي، دار الفكر بالخرطوم، 1408هـ.
(11) البداية والنهاية، لابن كثير، 11/132 ـ 134، مطبعة دار الفكر، بيروت.
(12) مجموع فتاوى ابن تيمية، 35/108.
(13) جريدة الشرق الأوسط، العدد (8324)، 12/9/2001م.
(14) جريدة الرياض، عدد (1110500) في 19/11/1998م.
(15) البداية والنهاية، 13/5، لابن كثير ـ رحمه الله ـ.
(16) اقرأ وربك الأكرم، جودت سعيد، ص 26 ـ 29.
(17، 18) اقرأ وربك الأكرم، ص 29، 144.
(19) لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، 3/ 449.
(20) وفيات الأعيان، لابن خلكان، 2/125، طبعة (وستنفلد).
(21) اقرأ وربك الأكرم، جودت سعيد، ص 30 ـ 31.
(22) المرجع السابق، ص 31.
(23) لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، 4/409.
(24) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 11/526.
(25) من مقال لخالص جبلي في الشرق الأوسط.
(26) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، الدكتور مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت.
(27) التفسير والمفسرون، الشيخ محمد حسين الذهبي، ص 372، 373، الجزء الأول، دار الكتب الحديثة، 1381هـ.
(28) الفرق بين الفرق، للبغدادي، ص 43، ص 127، مطبعة المدني، القاهرة.
(29) الحديث أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(30) جريدة الرياض، العدد (10489) في 4/11/1417هـ.
(31) مقتطفات من مقال لخالص جلبي في الشرق الأوسط في 20/2/2002م.
(32) سلسلة الأحاديث الصحيحة: الشيخ ناصر الدين الألباني، حديث رقم (1728).
المصدر : http://www.albayan-magazine.com/bayan-196/bayan-21.htm
-============(4/309)
(4/310)
أكثر من 400 ألف موقع تبث الدعارة والجنس والمخدرات
في الوقت الراهن يتحول ليل غالبية الشباب من الجنسين إلى نهار، ونهارهم إلى ليل، فيمضي بعضهم الساعات الطويلة متصفحًا مواقع الإنترنت ومنتدياتها، ومقلبًا في صفحاتها دون رقيب أو حسيب، وإن سألت عن دور الأبوين في الأسرة فهما وللأسف الشديد يغطان في نوم عميق بحيث لا يعرف أحدهما في أي شيء يضيع أولاده وبناته أوقاتهم الثمينة، ومن بين هؤلاء الشباب من يجنح في استخدامه للإنترنت ويتحول من مستخدم عادي إلى مدمن له وهذا كله يكون بسبب عشقه له وكما يقول المثل: 'حبك للشيء يعمي ويصم'
ومن حبه له يتغاضى عن النظر إلى عيوبه، فمن هؤلاء من يتسلل دون حياء، أو خجل، ودون حرج إلى تلك المواقع المشبوهة فيدمن على مشاهدتها، بل إن بعضهم لا يكتفي بمشاهدتها بمفرده بل يلجأ إلى نشرها بين أصدقائه وأقاربه وأقرانه، فيجتمع مجموعة من الشباب على مشاهدة هذه المواقع المخلة بالآداب العامة، وبما أمر به ديننا الحنيف من عفة الفرج، وغض البصر...
واقع أولادنا وبناتنا مع الإنترنت:
ولا يكتفي هؤلاء الشباب من الجنسين بالمشاهدة فقط، بل إنهم يعمدون، نتيجة لإدمان مشاهداتهم لمثل هذه الصور المتحركة التي تشع قذارة، إلى تكوين جماعات مشاهدة ومن ثم يلجئون لتطبيق مشاهداتهم بصورة بهيمية على أرض الواقع، فينشأ بين الصبيان كما بين البنات الشذوذ الجنسي [فاحشة قوم لوط، والسحاق] فيتكون من ثم في مجتمعاتنا المسلمة، نتيجة لانحراف فطر بعض شبابنا المسلم، أو فتياتنا المسلمات مجتمع السحاقيات من الفتيات اللاتي يتحدث البعض عن وجودهن في مدارس البنات، والشاذين الذين نجدهم في استراحات الشباب وتجمعاتهم في الشوارع العامة.
مؤسسات المجتمع المسلم في البلاد الإسلامية، ولا سيما المدارس والجامعات والأسرار، ودور العبادة، إضافة إلى جهود المربين والدعاة لإفهام الشباب خطورة نتائج هذه الأفعال المحرمة، مع تسهيل فرص الزواج وتيسيره من قبل الدول والمجتمعات الإسلامية.
وقد تسأل قارئة: لماذا تطرح 'المتميزة' مثل هذا الموضوع؟ ولماذا نهول من استخدام الشباب والفتيات للإنترنت؟
فنجيبها قائلين:
إن الاستخدامات السيئة للإنترنت هي التي تجلب الضرر على الفرد المستخدم وعلى المجتمع سواء كان هذا الاستخدام منحرفًا في الواقع، أو غير منحرف [بمعنى معروف بين أفراد المجتمع بانحرافه، أم لا].
وإليك عزيزتي القارئة المتميزة قصصًا واقعية لمستخدمي الإنترنت بطرق ضارة ففسدوا وأفسدوا مجموعات حولهم في المجتمع.
الحكاية الأولى: رغم كونها جميلة:
تقول صاحبتها: إنها كانت تعاني من فراغ عاطفي لكون زوجها الذي اقترنت به أتى لخطبة أختها الصغرى، ولكن أختها تصغره بكثير فأشاروا عليه بزواجه منها هي البكر، فقبل وقبلت أسرته، ولكنها بعد الزواج السريع اكتشفت بأن ثمة فوارق كبيرة بينهما في الاهتمامات، ورغم كونها جميلة، إلا أن زوجها لا يمكث في المنزل وخصوصًا بعد عودتهما من شهر العسل، حيث اشترى لها جهازًا، ووصله بالإنترنت وعلمها كيفية استخدامه.
ومع الوقت احترفت استخدامه، فأصبحت تدخل على غرف الدردشة والمسنجر، وتعرفت على عدد من الشاب والفتيات عن طريقها، ولقد لفت انتباها واحد من مجموعة الشباب الذين كانت تحادثهم وحاولت التعرف عليه أكثر، إلى أن اطمأنت له وتملكها حبه فأعطته رقم هاتفها الجوال وصار يتصل عليها أثناء غياب زوجها، ويبث لها لوعته وهيامه، ويؤكد عشقه لها، ومع الأيام توطدت علاقته معها على الرغم من حملها من زوجها.. ثم بدأت تهمل زوجها وأصبحت ترفض الخروج معه وتطالبه بالخروج بمفرده.
هذا الشاب أصبح يرسل إليها الصور الإباحية ويطلب منها أن تدخل إلى المواقع المشبوهة.. في البدء كانت ترفض ومن ثم أصبحت تفتح الرسائل التي تردها منه، وشيئًا فشيئًا أصبحت مدمنة عليها، ثم أصبح يرسل إليها ويسألها عن رأيها فكانت تحدثه.. وفي النهاية طلب منها مقابلته، وعندما رفضت هددها بفضح أمرها لدى زوجها، ومن ثم رضخت لأوامره وقابلته وتكررت لقاءاتها معه، إلى أن دعاها يومًا إلى شقة لصديقة وتحت إلحاحه وخوفها من تهديداته لها، قبلت والتقت به وحدث بينهما ما حرم الله.. وتوالت لقاءاتهما السرية المحرمة والزوج في غفلة من أمره، إلى أن دخل عليها يومًا قبل ولادتها دون أن تشعر هي به، وهي غارقة في حبال الرذيلة، وكشف الزوج أمرها وانتظر الزوج ولادتها ومن ثم طلقها وأخذ منها مولودها.. وهكذا حكمت على نفسها بالإعدام ثلاث مرات: بالطلاق مرة وأخرى بحرمانها من مولودها الأول، ومرة ثالثة بالفضيحة.
الحكاية الثانية: فقدت عذريتها وعمرها 13 سنة:(4/311)
وهذه أخرى تفقد عذريتها وهي ابنة ثلاثة عشر ربيعًا دون أن تدرك معنى لما حدث لها، ودون أن تعي أمها أو تشعر بما حدث لابنتها إلا بعد أن اصطحبتها ذات مساء للمستشفى بعد مغص ألم بها، حيث أدركت هناك الصدمة التي اقشعر لها بدنها عندما أسفرت نتائج كشف الطبيبة عليها عن كون الفتاة على وشك الوضع. وبعد تحقيق الأم في الموضوع كشفت البنت أن ابن خالها كان يلعب معها لعبة العريس والعروس ونال منها مبتغاه. في ظل غياب الأم عن مسؤولياتها، وعدم توعيتها لابنتها، وترك ابن
الخال يلعب معها ويدخل غرفتها ويجالسها...
ومع التحقيق أيضًا تبين أن هذا الذئب الصغير يكبرها بأربع سنوات فقط، وكان يشاهد أفلامًا إباحية على مواقع الإنترنت مع رفقائه في مقاهي الإنترنت التي تكثر فيها العمالة الأجنبية، مع غياب الرقابة على هذه المحلات...
هذه الطفلة تزوجت ابن خالها وسترت الأسرة نفسها.. ولكن ماذا لو لم يكن الجاني هو ابن الخال؟!
قصص أخرى:
وهذه قصص أخرى تتعلق بمجموعة صبية من أبناء الجيران لا يمكثون في البيت بمقدار مكوثهم في الشارع مع رفقاء السوء. والأم والأب مشغولون عن تربيتهم بأمور أخرى.. في يوم من الأيام، بينما الجار عائد إلى منزله في وقت متأخر من الليل بعد مناسبة فرح لقريب له خارج المنطقة، إذ به يسمع أصواتًا تتسلل في الظلام الدامس، فأنصت قليلاً وإذا به يسمع أحدهم يقول لصاحبه: أنا دفعت لك مئة ريال من أجل أن آخذ منك ما أريد، واليوم ليس لدى مال، أنا أريدك وسوف أدفع لك حين ميسرة، وإذا به يوافقه ولكنه يطلب منه ثمنًا أكبر!!
وآخر من أبناء الجيران أيضًا يأتي إليه شخص.. في منتصف الليل ويأخذه معه إلى مكان ما في المدينة ولا يعيده إلى المنزل إلا في الساعات الأولى من الصباح.
كل ذلك يحدث في ظل غياب الآباء والأمهات، وفي ظل وجود وسائل اتصال مسمومة تنشر الفساد والانحلال الخلقي بين الشباب من الجنسين.
وبهذه الصورة وفي ظل غياب الوعي والوازع الديني بين الشباب، وفي ظل غياب تربية الأهل ودورهم في الحماية.. تستخدم شرائح معينة من الشباب من الجنسين الإنترنت في إقامة العلاقات المشبوهة عبر مواقع المحادثة أو ما يسمى بغرف الدردشة، ومن ثم تتحول إلى علاقات تمارس في الواقع وتتسبب في ظهور الأمراض الجنسية والاجتماعية، وتفشي السلوكيات المضطربة والمحرمة في المجتمعات الإسلامية.. وبهذا تضيع الأوقات الباهظة الثمن من عمر الشباب دون طائل، بين مشاهدة الصورة العارية، أو إقامة علاقة محرمة بين شباب وفتاة ضائعين، أو إقامة علاقات بين المثلين من الجنسين.. وهذا هو الهلاك بعينه للمجتمع وللأنفس..
وقفة مع الطب:
ويعلق الدكتور سليمان الخضري على ممارسة الشباب لهذه الأفعال فيقول: إن للصور الخليعة مخاطر نفسية وصحية على المراهقين والشباب؛ لأن تلك الصور تنطبع في ذهن المراهق وذاكرته حتى يألفها ومن ثم تصبح لديه شيئًا عاديًا.
كما يرى الدكتور الخضري أن الخطورة تظهر عندما يتذكر هذا المراهق تلك الصور والمشاهد التي طالعها عبر الإنترنت، ويرغب أن يشبع رغبته الجنسية بأي صورة، فلا يجد أمامه إلا سبيل الانحراف، فيسقط عن طريق الممارسة الخاطئة، أو ممارسة العادة السرية، التي يؤدي إدمانها إلى تدميره صحيًا ونفسيًا وقد يصاب عن طريق الممارسات الخاطئة بالأمراض الجنسية الخطيرة مثل الإيدز.
الآثار والنتائج:
تؤكد معظم الإحصائيات والتحليلات على الآتي:
* أن 80% من مرتادي مقاهي الإنترنت لم يتزوجوا بعد.
* أن 70% من هؤلاء يأتون للتسلية المحرمة والاتصال بالمواقع الإباحية.
* أن 55% من رواد مقاهي الإنترنت لا يعلم ذووهم عنهم شيئًا.
* أن كثيرًا من هؤلاء يتبادلون عناوين المواقع الإباحية حتى في مدارسهم ومواقع عملهم وجامعاتهم وكلياتهم.. وهذا يشكل خطرًا كبيرًا على العملية التعليمية.
* إن أغلب مدمني الإنترنت من الشباب قد أثر ذلك في مستواهم الدراسي، فرجعوا القهقرى بعد أن كان بعضهم من المتقدمين دراسيًا.
* إن إدمان الإنترنت يؤدي إلى حدوث صراع نفسي داخلي بين ما ترسخ في وجدان المدمن من قيم ترى عليها، وبين هذه القيم الجديدة التي يتلقاها عبر الإنترنت.
* يعمل إدمان الإنترنت على تفكيك الروابط الأسرية، ودفع العديد من الأفراد إلى الاستغناء عن الطريق الطبيعي لتكوين الأسرة من خلال الزواج والإنجاب والاكتفاء بما يشاهد وما يمكن أن يمارس من محرمات تعوضه ـ فيما يرى ـ عن الزواج الذي يتطلب منه مبالغ باهظة.
* أن رخص أسعار أجهزة الكمبيوتر والاشتراك في شبكة الإنترنت ومجانيته في بعض الدول العربية والإسلامية أدى إلى جذب عدد كبير من الشباب وانضمامهم إلى عالم الإنترنت.
* ثمة أكبر من 400 ألف موقع لبث الدعارة والجنس والمخدرات والقمار من خلال الشبكة العنكبوتية حول العالم تدخل كل ممتلكي أجهزة الحاسوب واشتراكات الإنترنت، حتى مع وجود الرقيب في بعض الدول التي تفرض الرقابة على المواقع الإباحية.
* أثبتت الدراسات أن ضعف الرقابة على الإنترنت أدى إلى وقوع كثير من أبناء الأسر المحافظة في براثنها.
http: //kuwait666. com المصدر:(4/312)
=============(4/313)
(4/314)
بين الأصولي والمأجور … !
محمد الحضيف
جرت العادة أن تطالعنا وسائل الإعلام الغربية بكلمة Fundamentalism (الأصولية) حينما تريد أن تصف الحركة الإسلامية أو أفراد المسلمين الذين يدينون بالولاء والتبعية لمنهج الإسلام وحده، ولا يقبلون بالهيمنة الأمريكية، ووصاية (الرجل الأبيض) المباشرة وغير المباشرة.
وعلى عادته، حينما يخترع الإعلام الغربي مصطلحاً معيناً، ويريد أن يقرّه في الأذهان، فإنه يصنع له صورة ذهنية، وهكذا كان، فقد صار الـ Fundamentalist (الأصولي) شاباً ملتحياً، وفتاة متحجبة، وعندما يبرز الإعلام الغربي هذه الصورة وكثيراً ما يفعل ذلك في معرض حديثه عن الصحوة الإسلامية (وخطرها..!) على النظام العالمي الذي يديره (الرجل الأبيض)، الذي حوّل العالم إلى واحة من السلام من خلال (قنابله الذكية) كما حدث في هيروشيما وفيتنام وبغداد!!. عندما يعرض الإعلام الغربي هذه الصورة لهؤلاء الشباب والفتيات، فإنه غالباً ما يختمها بتعليق ترجمته: (... ويؤمن هؤلاء الشباب الأصوليون بأن الإسلام هو الحل، وأن تعاليمه التي تعود لأكثر من ألف وأربعمائة سنة يمكن أن يقوم على أساسها دولة في القرن العشرين).
هذه هي (الصورة الذهنية) التي صنعها الإعلام الغربي للمد الإسلامي: شباب ملتح هائج دينياً، وفتيات متحجبات، يرفضون أن يكون التحديث والتنمية مساوٍ للتغريب والعلمنة، يقفون خلف كل المسيرات والتظاهرات و.. (خطر قادم) يهدد كل (الأنظمة الوادعة) و(الصديقة).
لكن ماذا يقول قاموس أكسفورد الانجليزي عن Fundamental؟ يقول: إن الكلمة تعني الأساسي، المبدئي. وحينما تطلق الكلمة على شخص ما فإنها تعني أنه شخص ملتزم بأساس الأمر الذي هو بصدده، وبأصله. كذلك كانت ترجمة قاموس المورد البعلبكي لهذه الكلمة، وأضاف إليها: جوهري وأصولي، أي يهتم بأصل الشيء وأساسه.
من هنا، فإن (الصورة) التي صنعها الإعلام الأمريكي لكلمة Fundamentalism (الأصولية)، لا تمثل معناها اللغوي حقيقة، لكنها في التاريخ الغربي النصراني مرتبطة بجماعات نصرانية تتمسك بحرفية كتبهم الدينية، وترفض منجزات الحضارة الحديثة على أساس من رؤية (دينية مسيحية) متخلفة تنادي بالعودة إلى الحياة الفطرية للإنسان البدائي الأول، وذلك كردّ فعل ضد الحياة المادية للإنسان الغربي، وأجواء التفسخ التي نشرت القلق، وأحدثت فصاماً في شخصيته.
كلمة Fundamentalism ترجمها (الإعلام العربي) إلى كلمة (أصولية)، وصار يطلقها على الحركة الإسلامية وأبنائها، وهي من حيث مضمونها عند من يطلقونها تماثل كلمة (رجعي) التي سادت في الستينات أيام المد اليساري. ولأن اليسار إنحسر إلى درجة تدعو إلى (الشفقة)، وصار الإعلام العربي في معظمة إما أمريكياً، أو يسارياً بتمويل أمريكي (!!) فإن المصطلح تم تغييره لينسجم مع الخط الذي يسير عليه الممول، الذي يبني (نظاماً عالمياً جديداً) لا يكدر صفوه إلا الأصوليون.
وكلمة (أصولي) في معناها اللغوي في اللغة العربية ذات معنى سام ورفيع. فالأصولي هو الذي يرتكز على الأصول، وهي هنا المنطلقات الأساسية الأولى للإسلام. ومن معانيها أيضاً أن تقول أصول العقيدة أو أصول الفقه، أي المرتكزات التي تقوم عليها العقيدة أو الفقه.
قد يسأل سائل: إذا كان هذا هو معنى أصولي، فلماذا يستخدمها الإعلام العربي كنوع من الغمز واللمز ضد المسلمين الذين يطالبون بالعودة إلى الإسلام (الأصولي) وشريعته ومنهجه، ويرفضون (الإسلام المعلب) الذي صمم في لندن أو باريس أو واشنطن؟ بشكل أوضح: لماذا نرى في جريدة (عربية) ولنسمها مثلا (الشرق الأوسخ)، حملة مشبوهة، مثل مصادر تمويلها، ضد المسلمين الذين يسقطون برصاص الجيوش (الوطنية) جداً (!!!)؟
الجواب هو أن تعرف أن الإسلام الأصولي إنتاج محلي فرضته إرادة الجماهير، أما غيره من (أنواع) الإسلام الأخرى (…) فهي مصنعة في الخارج المحلي إذا نافس المستورد، وزاحمه يسقطه، لأن الناس بطبعها ترفض (المستورد)، حتى لو كان يعرض على (واجهات خضراء)، إذا ما توفر لها (المحلي) الجيد. وحيث أن الجريدة (العربية) التي افترضناها (…) وشقيقاتها، ما هي إلا قنوات تسويق لذلك المستورد، فإنها ستسقط بسقوطه. لأن الجماهير جعلت خيارها النهائي المحلي الأصولي وركلت إلى الأبد ذلك المستورد حتى لو كان معروضاً في (واجهات محلية).
http: //www.alsunnah.o r g المصدر:
===========(4/315)
(4/316)
قناة "الحرة": الإعلام في خدمة الحرب
حسام شاكر
كان يمكن لفضائية "الحرّة" أن تحمل في واقع الأمر أيّ اسم آخر - باستثناء هذا الاسم تقريباً - الذي يبرهن على فجوات هائلة في الخطاب الإعلامي الأمريكي الراهن.
إذا ما تعلق الأمر بالسياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط؛ فإنّ سوق المصطلحات التي تروجها إدارة الرئيس جورج بوش تحفل بما يشدّ الانتباه ويدغدغ الآمال في العالم العربي: الحرية والديمقراطية، وشيء من حقوق الإنسان.
وبينما تنهمك إدارة بوش في مشروعها لدمقرطة العالم العربي، وغرس الحرية فيه على طريقتها الخاصة تماماً؛ فإنها عمدت إلى تدشين محطتها للتلفزة الفضائية الموجهة لاستلاب اهتمام مئات الملايين من المشاهدين العرب، وتحت اسم ينبع من الخطاب السياسي لبوش نحو الشرق الأوسط: إنها الفضائية "الحرّة".
في طريق الإعلام الموجه:
هذه المرة أيضاً اختارت واشنطن اسماً بديعاً، يبدو امتداداً للإعلام الأمريكي الموجه، كإذاعة "أوروبا الحرة/ راديو الحرية"، التي وُجِّهت إبان الحرب الباردة من جنوب ألمانيا الغربية نحو المستمعين في العالم الاشتراكي، وكنماذج الإذاعات الأمريكية الناشئة في ما بعد، كتلك الفارسية الموجهة للإيرانيين في ظل الجمهورية الإسلامية، أو العراقيين الذين كان ينبغي تهيئتهم إذاعياً عبر الأثير لحقبة الاحتلال الراهن، من خلال صوت "العراق الحرّ".
لم تفكر الولايات المتحدة حتى الآن في خيارات أخرى، من قبيل إرسال موجه لفلسطين، لحث الفلسطينيين على مواصلة انتزاع حريتهم من بين أنياب حالة احتلالية مزمنة، وإن كان التوجه الأمريكي الراهن يضع ضمن أولوياته شرق الأوسطية؛ تحريض الفلسطينيين على قيادات السلطة الرسمية المتهمة بـ"الفساد" و"عدم الديمقراطية"، وتأليبهم على خط المقاومة الذي يحظى بالتفاف شعبي كونه "إرهاباً" في المفهوم الأمريكي الراهن.
كان يمكن لفضائية "الحرّة" أن تحمل في واقع الأمر أيّ اسم آخر، باستثناء هذا الاسم تقريباً، الذي يبرهن على فجوات هائلة في الخطاب الإعلامي الأمريكي الراهن، فثمة هالة من الشكوك يمكن أن تحيط بأية وسيلة إعلامية اتُخذ القرار بشأن قيامها وطبيعة أدائها في دوائر حكومية، وتقع تحت إشراف سلطة تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، بينما يتم تمويلها عبر مخصصات الكونغرس، الذي لا يتوانى في ما يتعلق بالمسائل شرق الأوسطية عن التناهي مع الرؤية العبرية في تل أبيب.
وقد بدت الصفة الرسمية لهذه المحطة الجديدة طاغية عندما كان رئيس الولايات المتحدة هو ضيفها الأول، الذي "يتكرّم" عليها بحديث خاص بثّته على يومين، الرابع عشر والخامس عشر من شباط (فبراير)، مع تركيز شديد للاهتمام على تصريحاته لها، ضمن ما يشبه الطقوس الإعلامية لمحطات التلفزة العربية التقليدية، التي انصرف عنها المشاهدون إلى غير رجعة.
نجاحات قد تقود إلي الفشل!
العظة التي لم يستلهمها صانعوا القرار الإعلامي في واشنطن هو أنّ النجاحات السابقة تغري بارتكاب أخطاء وخوض مجازفات بثقة زائدة عن الحد، فكثيراً ما سعت الولايات المتحدة في السنوات القليلة الماضية إلى أن تعيد مع العرب والمسلمين إنتاج تجربتها في الإعلام الموجه في أوروبا في ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي حقبة الحرب الباردة.
ففي ألمانيا المهزومة قامت سلطة الاحتلال الأمريكية في ما بعد سنة 1945م كما فعلت في أجزاء النمسا المحتلة أمريكياً؛ إلى إعادة تخطيط الساحة الإعلامية، على أمل تشكيل الرأي العام الألماني على أسس جديدة كلياً، وفي واقع الأمر نجح المسؤولون الأمريكيون في هذا المسعى إلى حد كبير، وكان من إنجازاتهم تأسيس صحف وتسليمها تدريجياً إلى طواقم محلية، لتتابع المسيرة ضمن مسار وطابع يتفق مع الرؤى والمطالب الأمريكية، حتى مع استقطابها لأقلام ومحررين من بقايا العهد النازي طالما أنه لم يكن من ذلك بد، لتبقى هذه الصحف قائمة في معظمها حتى اليوم، مشكلة قصة نجاح أمريكية سيُصار إلى محاولة إعادة إنتاجها في بؤر مأزومة أخرى.
كان ذلك في واقع الأمر طليعة برنامج أمريكي واسع النطاق عُرف باسم "إعادة التربية" للألمان ومن والاهم، وقد تجسّد ذلك في تركيز المؤثرات الأمريكية على المجالات الثقافية والتعليمية، فضلاً عن إعادة تصميم الإعلام والسياسة والاقتصاد، كما وجد ترجمة واضحة له في ثنايا "خطة مارشال" الأمريكية لإعادة إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب.
ثم أخذ المسؤولون الأمريكيون في السنوات الأخيرة يكثرون من استعادة هذه التجارب، مشددين على أهميتها في التعامل مع العالم العربي والإسلامي باتجاه تحقيق التغيير الذي يبشر به بوش، والذي يجري اختزاله في كلمات معدودة يصعب تحمل تأويلات لا حدود لها، وفي الأشهر الأولى لاحتلال العراق كان يجري على ألسنة المتحدثين في إدارة بوش التغني بتجربة الولايات المتحدة مع ألمانيا واليابان، وهي التجربة التي كان لها مسار إعلامي أيضاً، باعتبارها ستكون الوصفة الناجعة في العراق المحتل أيضاً، وهو أمر بات المتحدثون أنفسهم يتحاشون التطرق إليه لاحقاً مع الانغماس المتزايد في المستنقع العراقي.(4/317)
مع هذا التوجه الأمريكي متعدد المسارات؛ أصبح بالإمكان توفير مخصصات مالية سخية من الكونغرس لصالح برامج الإعلام الخارجي في وزارة كولن باول، ففي ظل التهيئة للهيمنة العسكرية الأمريكية على أفغانستان تم إطلاق بث إذاعي موجه للمستمعين الأفغان في عهد طالبان عندما كانت الإذاعة ولا زالت إلى حد ما هي وسيلة التواصل الأولى وشبه الأخيرة بين الأفغان والعالم، خاصة مع إلغاء طالبان للبث التلفزي بما كان هدية مجانية للغزاة المحدقين بالبلاد.
وقد تزامن ذلك مع إلقاء أجهزة الاستقبال الإذاعي من الطائرات العسكرية الأمريكية بكميات سخية على مناطق تجمع الأفغان إبان تلك الحرب، لربطهم مع ما يقوله مذيعوا أمريكا، إلى جانب استقبال بث "بي بي سي" المرغوب محلياً، كما جرى قبيل مرحلة التحول التي شهدتها أفغانستان إعداد كوادر إعلامية أفغانية في واشنطن - مع التركيز على النساء - وكان من السهولة استقطاب بعض المنتمين والمنتميات إلى الطبقة الإعلامية والثقافية المرتبطة سابقاً بالغزو السوفياتي لأفغانستان، أو من يمكن تسميتهم بـ"أفغان موسكو"، الذين باتوا اليوم مع آخرين "أفغان واشنطن" باستحقاق.
كان ذلك يجري بينما مضت "إذاعة الحرية" الأمريكية في توجيه برامجها انطلاقاً من براغ بالفارسية والعربية، في إرسالين موجّهين نحو الإيرانيين والعراقيين.
التجارب الموجهة للعالم العربي:
لكن المجهود الإعلامي الأمريكي الموجه نحو الجماهير العربية أخذ بالتطور والتبلور بصورة لافتة للانتباه، بصورة تتماشى مع تصاعد المجهود الحربي الأمريكي في المنطقة، وقد تم ذلك مع عناية أكبر بمخاطبة الفئات والشرائح بصورة أكثر تحديداً وانتقاء، تجلى ذلك في حالة إذاعة "سوا" الموجهة للشباب العربي، وهي تجربة إذاعية تقوم على خلط منوعات غنائية وموسيقية غربية بأخرى عربية، مع حشوها بصورة متقنة بالرواية الأمريكية لأحداث المنطقة والعالم المتمثلة في نشرة إخبارية رشيقة مقتبسة من إذاعة "صوت أمريكا" بالعربية.
على التوازي من ذلك، وبصورة يصعب تصوّر براءتها من التساوق مع النهج الحكومي الأمريكي؛ دأبت وسائل إعلام أمريكية بارزة بالتعاقد مع وكلاء في المنطقة على استصدار نسخ عربية منها، بشكل مثير للشفقة أحياناً، فعلى صعيد الإعلام المطبوع؛ يمكن الإشارة إلى نموذج مجلة "نيوزويك" العربية التي تصدر من الكويت عن "دار الوطن" كل ثلاثاء.
تعيد حالة "نيوزويك" هذه إلى الذاكرة تجربة مجلة "المختار للقراءة" التي نقلت إلى العربية، كما إلى العديد من اللغات الأخرى؛ عن النسخة الأم الأمريكية ذات التوجه الليبرالي، لكنّ "نيوزويك" المسيّسة بطبيعتها كان عليها أن تُدخل من يقومون بإصدارها للقراء العرب في مواقف لا يُحسدون عليها، مثل الأزمة التي تسببت فيها قبل أكثر من سنة عندما نشرت تقريراً لصحافي يهودي يسيء إلى أحد جدران المسجد الأقصى المبارك بوصفه "الجدار الملعون"، ويؤكد ادعاءات الاحتلال ومجموعاته الشوفينية في المسجد الأقصى بصورة فاضحة، وهو انتهاك يمثل في جوهره مخالفة لتنظيم المطبوعات الكويتي، لكن العدد خرج إلى الأسواق بلا مشكلات، كما خرج غيره مما يحمل مساساً بالشعائر الإسلامية.
حالة "نيوزويك" العربية التي بقيت مجلة مغمورة لم يكترث بها القراء العرب؛ بوسعها أن تُفهم المراقبين أسباب إخفاق التجارب الشبيهة القائمة على تعريب المضامين الإعلامية الأمريكية بما يشبه الترجمة الحرفية، ومن الواضح أنّ تجارب "سي إن إن العربية"، و"سي إن بي سي عربية" ليست ببعيدة على هذا المشهد، بينما تأتي فضائية "الحرّة" بلا مواربة؛ في محاولة النفاذ بقوة إلى قلب التشكيلة الإعلامية الجديدة الخاصة بالعرب، التي لم يعد زمام الأمر المباشر فيها مرتبطاً بمراكز صنع القرار الدولي، وللمرة الأولى في التاريخ الإعلامي العربي الحديث.
إنها الفضائيات العربية التي بدأت منذ أواسط التسعينيات في الخروج من قمقم السيطرة الحكومية على الإعلام التلفزي؛ هي التي أعادت قلب المشهد الإعلامي في المنطقة، فوجد العرب أنفسهم وبصورة لافتة الانتباه على موعد مع "الرأي والرأي الآخر"، وأصبح بالإمكان إدراك وجود شيء اسمه "الاتجاه المعاكس" أو الاعتراف بأنّ هناك "أكثر من رأي" وحوار "بلا حدود"، لم ينحصر الأمر في "ظاهرة الجزيرة"، بل تعداه إلى جزر هنا وهناك أخذت تطفو على سطح المشهد الإعلامي في المنطقة المأزومة، المشهد ذاته الذي يعاني من تكامل مذهل بين حالتي الإغراق الإعلامي الرسمي الممل، والتدفق الإعلامي الغربي أحادي الاتجاه، وبهذا أمكن توافر نجاح موضوعي هائل لأية تجربة بث بوسعها أن تتحرك في هذا الفضاء على أسس مهنية سليمة.
خصوصية الحالة العربية:(4/318)
بدا انعتاق الإعلام العربي من قمقمه حالة مثيرة للانتباه، ليس على مستوى المنطقة وحدها؛ بل على مستوى العالم أيضاً، إنهم العرب هذه المرة الذين نجحوا رغم كل ما يمكن أن يُساق من ملاحظات وانتقادات في أن يشكلوا حالة إعلامية تنتمي إلى العالم الثالث لكنها قادرة على المنافسة - الجزئية - مع الأقطاب الإعلامية الذين ينتمون حصراً إلى العالم الأول الغربي.
وربما كانت "لجنة ماكبرايد" التي شكلتها اليونسكو في النصف الثاني من سبعينيات القرن المنصرم ستشير إلى هذا التحول - المفارقة - في تقريرها الموسع عن مشكلات الاتصال والاختلال الإخباري في العالم؛ لو أمكن لها أن تحدِّث نتائجها اليوم.
فقد أكدت اللجنة في حينه النتيجة المعلومة سلفاً: الأقلية المتنفذة القابعة في الشمال تنتج كل المعلومات الإعلامية تقريباً، والأكثرية البائسة في الجنوب النامي والفقير تكتفي بالاستهلاك؛ وخمس وكالات أنباء غربية تدير السوق الإخباري الدولي برمته على أسس مجحفة ومختلة؛ وغير ذلك من الحقائق التي يدركها المعنيون.
لكن الأمور لا تبقى على حالها في عالم المتغيرات المتسارعة، فرغم ما بذله القطب الأوحد - الولايات المتحدة - من محاولات لتحقيق حضور إعلامي أكثر فاعلية له في المنطقة؛ جاءت المنعطفات ذاتها التي صنعتها إدارة جورج بوش على المسرح الدولي لتحمل الإعلام الذي ينتمي إلى العالم العربي إلى مسرح المنافسة الدولية، تجلى ذلك في تغطية حرب أفغانستان في خريف سنة 2001، ثم في الصراع المحموم على كعكة إعلام الحرب الأخيرة على العراق بمفارقاتها وضحاياها، ما أثار المراقبين في حينه أنّ الولايات المتحدة وحليفاتها كانت قد استعدت جيداً لحرب إعلامية موازية للضربات العسكرية، فتم في طيات ذلك حشد جيش الصحافيين المزروعين على ظهور الدبابات لينقلوا رواية من جانب واحد فقط من الجبهة، في سابقة لم يشهد لها تاريخ المهنة الصحافية مثالاً، والمعادلة اتضحت للكثيرين الذين رأوا "جنديين" على ظهر دبابة واحدة، أحدهما يحمل قاذفة قنابل وثانيهما يحمل كاميرا.
إلاّ أنّ هذا كله بما في ذلك مجزرة الصحافة في بغداد عشية السقوط الكبير؛ لم يفلح في كسب الغزاة للجولة الإعلامية، فحققت وسائل إعلام عربية حضوراً متعاظماً على المسرح الدولي في طيات حرب العراق.
وإذا كان لهذه القفزة الإعلامية العربية أسبابها المفهومة، فإنّ الأمر يتعلق - في جانب منه - زيادة على ذلك بإعلام حروب وأزمات عالمية هي في الأصل متركزة في المنطقة ومستوطنة فيها، وطالما أنّ أهل مكة أدرى بشعابها، وأنّ الممارسة المهنية حاضرة، وأنّ التغطية المالية والإرادة السياسية يمكن العثور عليهما محلياً أيضاً؛ فإنّ النجاح على هذا النحو بات ممكناً، لكنّ المثير هو ما تمكنت منه هذه القفزة العربية من اختراق حالة احتكار أسطوري، كان قد ساهم الجنوب ذاته في استدامتها على هذا النحو لصالح الشمال.
بالمقابل كانت إدارة بوش التي تقف خلف "الحرّة"؛ هي أكثر من أبدى انزعاجه في السنوات الأخيرة من سقف الحرية "المرتفع" لفضائيات عربية استُهدفت بالاسم، دون أن تتطرق للفضائيات العربية الرسمية بسقوفها المعروفة، وهذه مفارقة إضافية.
وفي أتون الحملة متعددة الأوجه ضد الفضائيات الإخبارية العربية، وبخاصة "الجزيرة" و"العربية" و"المنار" و"أبو ظبي"؛ تأتي مبادرات أمريكية رسمية من قبيل إطلاق "الحرّة".
إسرائيل في الملعب:
إلاّ أنّ ذلك لا يبتعد بنا عما حاوله آرائيل شارون، عندما سعى جاهداً إلى تسويق سياسات الدولة العبرية، وتجميل احتلالها ومجازرها للرأي العام العربي، بطرحه على مجلس وزرائه مقترحاً من بنات أفكاره يقضي إنشاء محطة تلفزية فضائية ناطقة بالعربية، على أمل أن تعيد أمجاد إذاعة "صوت إسرائيل من أورشليم القدس" الموجهة للعالم العربي، لكن سرعان ما أيقن شارون ذاته أنّ قوانين اللعبة قد تغيّرت، فتخلت حكومته الغارقة في إحباطاتها عن الفكرة التي لم تتمكن من شغل أي مساحة اهتمام لدى العرب، لتبيت على إحباط آخر.
حالة فضائية شارون لن تكون استثناء من الدرس وعظاته: فكل من يحاول أن يسوِّق للعرب إعلاماً براقاً وخلاباً لن يكون بوسعه أن يستقطب الاهتمام الذي يأمله؛ طالما أطلّ عليهم بمواد إعلامية تترجم أولويات الأجندة السياسية لمشروعات الاحتلال والهيمنة، وتجمِّل برامج الانتقاص من الاستقلال والسيادة والهوية بشتى نسخها وتفريعاتها، وبهذا يمكن التأكيد بأنّ الضخ المالي السخي، واستنفاذ تقنيات الإثارة الإعلامية؛ لن يجديا نفعاً في الإقناع والتأثير الأمثل، مع انتفاء عامل المصداقية.(4/319)
بدا "البلدوزر" شارون كمدير شركة ساذج، يظن أنّ بوسعه ترويج شراب ذي مذاق غير مستساغ بمجرد إطلاق حملة إعلانية ضخمة، لكنهم في واشنطن ما زالوا يفكرون بالمنطق ذاته، دون أن يلجؤوا إلى تعديل المذاق الجوهري للسياسات، فالتعامل مع "صدمة" استطلاعات الرأي التي تعبر عن مناهضة العرب والمسلمين للأداء الأمريكي في العالم؛ يمكن أن يجري حسب رؤيتهم - ببساطة - عبر إعلانات محشورة بين فقرات ترويج مساحيق الغسيل، وإطارات السيارات في الدول الإسلامية، وقد تبددت ملايين الحملة بجدارة دون جدوى قبل أن تتخطى مرحلتها الأولى.
أما من سيثيرون الشفقة على نحو خاص فهم أولئك الذين سيتوجب عليهم في هذه الوسيلة أو تلك أن يركزوا على جوانب إيجابية في خطابات تحفل بمصطلحات "الحرب الوقائية" و"محور الشر"، وتعج بتحذيرات شديدة اللهجة من أولئك "الذين يكرهوننا" أو "الحاقدين على المجتمعات المتمدنة".
الشفقة ذاتها ينبغي أن يحظى بها من تكون وظيفتهم تقديم صورة ناصعة لشخصيات نافذة في صناعة السياسة الدولية، من قبيل ديك تشيني أو بول ولفويتز، أو ربما أرنولد شفارتزينيغر مستقبلاً، فضلاً عن من سيحاول إقناعنا بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل قبل الحرب، وتلقيننا فنون التملّص من هذه القناعة بعدها.
نقلاً عن إسلام اون لاين
المصدر : http://www.ala r abnews.com/alshaab/2004/27-02-2004/a16.htm
============(4/320)
(4/321)
والآن ما هو دورنا ؟!!!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثير.. وبعد:
إن إلغاء باب الولاء والبراء من كتاب التوحيد للصف الأول ثانوي لفضيلة الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله- منكر عظيم تهتز له قلوب الموحدين، حين مسّته الأيادي الظالمة لنفسها، فكلنا يحفظ أن الإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، والبراءة من أهله.
فالولاء والبراء ركنٌ لا يتزعزع من أركان الإسلام، ولكن نعزي أنفسنا بحفظ الله لدينه، ونصرته لأوليائه، ودحره لأعدائه.. ثم إن انسلاخ العقائد من النفوس ليس أمراً سهلاً، فعقيدتنا ليست على ورق، بل في قلوبنا، قد استقيناها من كتاب ربنا الذي تكفّل بحفظه، ولكنها قد تنسلخ عبر الأزمنة و الأجيال كما فُعل بها في البلدان المجاورة إذا تقاصرنا وتخاذلنا جميعاً عن أداء دورنا..
فما هو دورنا؟!!!
إن دورنا هو النزول للميدان، فذلك الركن العظيم " الولاء والبراء" لا يكفيه منك أيها الموحّد انفعالات فحسب، فلن تنفع الدموع والأحزان.. ولا الشتائم واللعان..
وسنطرح بين يديك بعضاً من الحلول الميدانية، والتنفيذ مسؤولية الجميع، وهو أعلى درجات تغيير المنكر.. وقد يطول فلا تستعجل.. وإليك أولاها:
1/ الإنكار: بأن ينكر الجميع خاصة المدرسين والمدرسات المتخصصين في تدريس الدين في مدارسنا الأهلية والحكومية وكذلك المدراء برفع خطاب استنكار ومطالبة بإرجاع المادة إلى التدريس..
2/ التلقين: اعمل على تلقين العقيدة الصحيحة في البيت.. في الحلقة.. من خلال الأنشطة.
ابدأ من الآن.. احتفظ بمناهج الدين المدرسية ولقنها لأطفالك.. في الحلقة اعرض المساعدة على المعلم، لا تلقي بآرائك عليه ثم تنسحب... إذن أنت لم تعمل شيئاً!!
3/ التطبيق: لنخلع كل هيئة ورداء للتشبه المضاد للولاء والبراء، فالمشابهة في الظاهر تجلب الود في الباطن لمن يتشبه به كما قرر ابن تيمية - رحمه الله -.. لنتجافى عن كل ما يثير الإعجاب باليهود والنصارى.. لنسعَ في مناصحة المشاغل وصالونات التجميل التي تنشر رسوم التشبه فينا ولكن بالرفق والتأليف والصبر، ولا ننسى أن الهداية ليست بأيدينا...المهم نستمر ولا نتوقف.
4/ التعليم: وذلك بعرض العقيدة الصحيحة وترسيخها في النفوس من خلال المؤسسات الدينية والتربوية مثل:
المسجد: على الإمام وخطيب الجامع مسؤولية أولية بالحي.. ألا يستحق ما ألغي من كتاب التوحيد لفضيلة الشيخ صالح الفوزان أن يلقى في المسجد خلال كلمة أو محاضرة أو خطبة ابتداءً!!!.
أيها الإمام اصنع خطة جادة بعيدة المدى. إنك إن عملت مرة أو مرات فحسب.. فلن تغير شيئاً.. ولنقدم نحن إليه ما يحتاجه من مساعدة..
المدرسة: إن كنت معلماً فاغرس المبادئ العقدية في تلاميذك بين وقت وآخر من خلال الأنشطة والمسابقات والإذاعة ومواضيع الإنشاء.. ارسم برنامجاً مستمراً مع زملائك. إن توقفتم بعد عام أو عامين.. فما غيرتم شيئاً..
الإعلام: إن كنت قائماً على مجلة أو زاوية أو برنامج فاصنع ركناً ثابتاًَ لا يتزحزح حتى تقوم بدورك في غرس العقيدة الإسلامية عبر أزمنة مديدة.. انتبه.. لا تتوقف.. إن كنت صاحب مكتبة أو دار نشر أو تسجيلات فاجعل ركناً ثابتاً لباب الولاء والبراء وغيره من مهمات العقيدة وقم بحيازة إصداراته.. قم بعمل دعائي له.. بعروض مغرية واحتسب ذلك من النفقة في سبيل الله.. استمر على ذلك عند معالجة كل حرمة تنتهك من حرمات الله...إن توقفت فأنت لم ُتعمل مجالك على الحقيقة..
5/ الإقتداء والاسترشاد: اعمل بناءً على فتوى ورأي. سيصيبنا الزلل إن لم نستمسك بغرز العلماء.. سنتعثر أو نقف إن لم نسترشد بذوي الخبرة والتخصص في وضع الأهداف ورسم الخطط والمناهج..
6/ الدعم المادي: لتكثيف الدورات الشرعية وحفزها.
دعم الأنشطة والمسابقات العلمية.
دعم المعاهد العلمية النسائية الناشئة لتقوم بدورها، فكم صاحب مال يستطيع أن يقوم بما يقوم به عشرات الدعاة بسبب ما ينفق.. هل أنت مستعد أن تقوم بدعم نواة علمية شرعية نسائية ناشئة يقوم عليها ثقات أمناء وعلماء أجلاء فضع يدك بأيدينا.
7/ العلماء والدعاة: نريد فتاواكم في هذه الحرمة التي انتهكت..نريد إصدارات تطرح عقيدة الولاء والبراء وتنزلها على الواقع لتقرأ وتدرس.. نريد صياغة المناهج والخطط لنسير عليها عند ترسيخ عقيدتنا بأفضل الطرق.. ودونما توقف.. إن المتحرقين غيرة على دين الله قد تطاير لهيبهم هنا وهناك فمن يلم شعلتهم ويضيء طريقهم غيركم.. إنهم كثير الذين يعملون.
ولكن إذا بدأوا العمل أعيتهم الحيل وانقطعت بهم السبل..!
أخي الحبيب.. أختي الحبيبة:
- تذكر أن العمل من أعلى درجات تغيير هذا المنكر وغيره.
- تذكر أنك ستبذل المزيد من الوقت والجهد والهم والمال.. لذلك ابدأ بهدوء.. واستمر.. فأنت في مهمة الرسل وأئمة الموحدين.
- ستقابلك صعوبات ومشكلات عند التنفيذ.. ابعث بها إلينا مع إنجازاتك وسنتعاون بإذن الله على اجتيازها.
- اجعل معك من يساعدك ومن يقوم بمهمتك حين تتوقف عنها لتستمر.(4/322)
- ابعث إلينا بما تحصلت عليه من فتاوى واستشارات وآراء حول ما سبق من الحلول المطروحة ليستفيد الجميع.
- لا تنس في زحمة العمل الإقبال على الله داعياً إياه مخلصاً له مستعيناً به.
وفق الله الجميع،،،
http://saaid.netالمصدر:
============(4/323)
(4/324)
ستار أكاديمي
ستار أكاديمي: (انحلال الشباب والبنات نسال الله العافية لنا ولمن نحب).
في الوقت الذي يمزق الإسلام وأهله في كل مكان وتستحل ثروات العرب والمسلمين وتهدر دماؤهم رخيصة في فلسطين وفي كل الأرض وبينما الإسلام يئن ضعفاً وخوراً من أهله، يفاجأ العالم العربي والإسلامي بانحطاط جديد يخترعه الفرنسيون ثم يأتي من يزعمون أنهم عرب ومسلمون ليستنسخوا هذا الانحطاط ويطبقونه على أولادنا وبناتنا وشبابنا وبناتنا ويجعلون العالم العربي والإسلامي كله مشدوهاً مشدوداً بآخر التقليعات الساقطة، والمنكر الفاضح ومبارزة الله في المعاصي وعلى الهواء مباشرة ببث حي ومباشر لمجموعة من الضحايا الشباب والبنات الذين يتنافسون على المنكر وعلى كل ما يغضب الله - تعالى -.. فمن يكن منهم أكثر إجادة للرقص يكن فائزاً بالدرجات العليا! ومن يكن أكثرهم حميمية مع صديقاته ولطيفاً ورومانسياً يكن هو الفائز! ومن يجد المقامات والغناء والعزف وكل أنواع الغفلة يكن هو الأول عليهم..!
كم هي خطة ساقطة ومهينة تلك التي خطط لها القائمون على هذا البرنامج الفاضح والمسمى "ستار أكاديمي".. فهم علاوة على سحقهم لقيم الفضيلة والأخلاق علانية في نفوس الشباب والبنات.. كذلك جنوا الملايين والملايين من وراء الاتصالات التي تصل للبرنامج، فأنت من ترشح اليوم ليكون الفائز بهذه الرقصة?! وأنت من ترشحين من الشباب ليكون الفائز عندك?! ومن هو الشاب الذي دخل قلبك وتتمنين أن تقضي أوقاتاً دافئة معه?! ساعدي هذا الشاب وأنت ساعد هذه الفتاة التي أعجبت بقوامها واتصل واعطها صوتك.. وهكذا يمزقون الفضيلة وينحرون الحياء والعفاف..!
بين يدي إحصائية يندى لها الجبين وتمزق قلب كل مسلم غيور على دينه.. إحصائية تبين لنا عدد الذين صوتوا لبرنامج "ستار أكاديمي".. وهي منقولة من موقع "سعودي تيليكوم" و"ايجيبت تيلي كوم"، و"ليبان كول" وشركة "الوطنية للاتصالات" بالكويت وغيرها. السعودية: أربعة ملايين متصل، مصر: 23 مليوناً ومئة وخمسة وسبعون ألف اتصال، لبنان: 18 مليوناً وخمسمائة وستة وثلاثون ألف اتصال، الكويت: 300 ألف اتصال، الإمارات: مليون ومائتان وواحد وعشرون ألف اتصال، اليمن السعيد!: سبعة آلاف اتصال، سورية الأسد!: 16 مليوناًَ وتسعمئة ألف وثلاثة وثلاثون اتصال، الأردن: 8 ملايين وثمانية وسبعون ألف اتصال والآن إذا جمعت عدد الاتصالات فسيكون مجمل الاتصالات أكثر من سبعين مليون اتصال..!
بينما كان عدد المصوتين من جميع البلدان العربية في مجلس الأمن والأمم المتحدة على وثيقة الاعتراض على الحرب على افغانستان المسلمة آنذاك وصل إلى ثلاثة ملايين صوت..!! وبذلك يكون أكثر من سبعين مليون صوت لـ "ستار أكاديمي" من المسلمين والعرب لتشجيع وترشيح المائعين من الشباب والمتبرجات والضائعات من البنات يطلبون فيها الفوز لمن اغرموا فيهم وعشقوهم في "ستار أكاديمي" مقابل ثلاثة ملايين اتصال فقط يطالبون بعدم سحق المسلمين بأفغانستان! هذه هي الحال التي وصلنا إليها ويراد لنا جميعاً أن نصل لهذا المستوى عبر خطة خبيثة حقيرة ساقطة يقوم فيها عملاء اليهود وأولياء الشيطان فنسأل الله أن يطهر الأرض منهم ويمزقهم شر تمزيق.
اتصالات كثيرة جاءتني من عدد من الأمهات والآباء يطلبون مني أن اصرخ عنهم عبر زاويتي لإيقاف هذا العبث الأخلاقي الذي غزا عقول شبابنا وبناتنا على مدار الساعة.. وتقول لي إحدى الأمهات رأيت احد المشاركين بالبرنامج كيف انه بعد أن تمت التصفيات بين بعض الفتيات فخرجت إحداهن من هذا الماخور الذي يسمونه زوراً وبهتاناً بالأكاديمية، ثم وضعوا الكاميرا على صديقها الذي تعرف عليها في هذه المسابقة اللعينة، فكان يبكي كالبنات ويضرب الطاولة بيديه وهو يقول "آه.. ما أقدر على فراقها.." فتأتي فتاة أخرى وتضمه وتقبله فيقوم ويقبلها ويضمها وهو يفرك رأسه على صدرها مردداً.. "أنا أحبها بحبها.." ثم يأتي صديقه ليهدئه على فراقه لفتاة أحلامه فيقوم بضم صديقه ويتمايل على جسده.. وهكذا مشاهد حقيرة وساقطة ومائعة.. يراها كل شبابنا وبناتنا لتزرع في نفوسهم أبشع صور السقوط والانحطاط ويصبح ما رأوه طبيعياً في حياتهم وهكذا يخنثون الشباب!
معاشر السادة النبلاء:
هذه الفضيحة الأخلاقية التي تعيشها امتنا المهزومة روحياً وعسكرياً هذه الأيام قد تنبأ بها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد تحدث عنها وكأنه يراها لحظة بلحظة ودقة بدقة.. فها هو يقول في الحديث المتفق عليه: "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وحتى لو أن احدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه، وحتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى? قال: "فمن إذن"?
اللهم إنا نسألك أن تنتقم وتدمر كل من يسعى لنحر الفضيلة والأخلاق في أمتنا.. اللهم أهلكهم بدداً وأحصهم عدداً ولا تغادر منهم أحداً.. آمين يا رب العالمين..
http://www.twbh.com المصدر:
==============(4/325)
(4/326)
الثقافة العربية في مواجهة الهيمنة الأمريكية
عبد الهادي صابر
بعد استجابتها في المغرب العربي وبلاد الشام لدعاوى الفرانكفونية، واستجابة البعض الآخر في الوطن العربي للأنجلوساكسونية، هل تستطيع الثقافة العربية الصمود في مواجهة تيارات الأمركة الحديثة؟ والتي تأتي تحت عناوين العولمة، والنظام العالمي الجديد، وما تنادي به أمريكا من الانفتاح الثقافي، وهل تمتلك ثقافتنا العربية من عومل القوة الذاتية ما يمنحها القدرة على البقاء في مواجهة هذه التيارات الخارجية من جهة، ومواجهة المتأمركين ومتبني الثقافة الأمريكية من أبنائها من جهة أخرى؟ وذلك في ظل قوة الوارد الثقافي الذي تدعمه وسائل إعلام قوية تملكها أمريكا، وهل نمتلك بالفعل مشروعاً ثقافيّاً عربيّاً ينطلق من وحدة اللغة والتاريخ والدين نستطيع به محاورة الثقافات الأخرى دون خشية من عوامل التعرية الثقافية والتأثير والتأثر بين الثقافات؟ وما هي بنية المخطط الأمريكي لمحو الثقافة العربية لصالح سيادة الثقافة الأمريكية؟ وهل من سبل لمواجهة هذه التحديات؟ .. حول هذه التساؤلات وتلك المخاوف استضافت القاهرة مؤتمر اتحاد الكتاب العرب في الفترة من 9 - 12 ديسمبر الماضي بمشاركة لفيف من الأدباء والشعراء والمفكرين العرب تحت عنوان "الثقافة العربية وأفاق المستقبل" متطرقاً لـ"كيفية مواجهة المخطط الأمريكي ضد الثقافة العربية"، وأيضاً العلاقة الجدلية بين المثقف العربي وبين السلطة والمجتمع.
محاولة للصمود
وأشار (فاروق حسني) وزير الثقافة المصري لدى افتتاحه المؤتمر إلى أن هذا التجمع هو إدراك لتأثير الثقافة في واقعنا، واستشراف لقدراتها في تعزيز أواصر التلاقي في مستقبل يرفع من شأن الثقافة كلغة لائقة لتفاهم الدول، آخذين في الاعتبار أن أي لقاء لجمع عربي معناه تحد لقوى تهدف إلى تفريقنا وتعمل على شرذمتنا.
ومن جانبه أكد (فاروق خورشيد) رئيس اتحاد كتاب مصر على أن هذا المؤتمر هو صورة من صور التحدي لأي قوى خارجية، وأن أي عدوان يقع على وطن من الأوطان العربية يعتبر تعدياً على الدول العربية جميعاً.
وطالب (علي فهمي خشيم) رئيس رابطة الكتاب الليبيين الأدباء والمثقفين العرب التكتل ضد أي تيار يأتي من الخارج، لأن ماضي العرب ماض جميل، وحاضرهم الآن يحمل معطيات خطيرة، ولذلك لابد من رفع الراية عالية ضد العيون الأجنبية المحدقة بنا، وهذه مسؤوليتنا جميعاً.
وأكد الدكتور (شوقي جلال) عضو اتحاد الكتاب المصري أن ما نسميه مخططاً أمريكيّاً ليس إلا مخطط لوضع بنية أساسية لما يسمى بالأنجلوساكسونية في منطقتنا العربية، ومضيفاً أننا كعرب تعاملنا مع أمريكا منذ استقلالنا من خلال منظور خاطيء، وتعامل الزعماء العرب من هذا المنطق، في حين أن أمريكا تنظر إلينا نظرة دونية بناء على ما قاله مفكروهم وأدباؤهم المتقدمون، حيث قال ألكسندر هاملتون في عام 1755م: إن الدول الصغيرة لا مكان لها، ويقصد بذلك الدول العربية، أما أوليفر ويلدن فيرى أن الحق يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب.
ومن هنا فليس غريباً ما قاله فوكوياما: من أننا شعوب عشوائية، مؤكداً أن ما تفعله بنا أمريكا سببه الزعماء العرب.
إمبريالية صهيوأمريكية
ويؤكد (علي عقلة عرسان) أمين عام اتحاد الكتاب العرب على أننا في محنة سياسية تواجه في ظلها ثقافتنا تحديات كبيرة وخطيرة في الداخل والخارج لمعنى الوجود، وجوهر الثقافة وفعاليتها وقدرتها على التغيير والأداء والبناء في ظل احتلال صهيوني - أمريكي يتوسع في مساحات الأرض، والفكر، والإعلام منفذاً مرحلة في سلسلة تستهدف أشمل وأعمق للسياسة الثقافية والجغرافية السياسية في المنطقة العربية، وأمامنا محنة الشعب الفلسطيني من قتل، ودمار، وحصار أسوار الحقد التاريخي، والعزل العنصري، ويهودية الدولة المحتلة، وما ينشأ عن ذلك من تقسيم وضم للأرض، وتهويد للقدس، وتناسل لمشاريع من رحم شريرة واحدة تهدف إلى تصفية المقاومة والانتفاضة، وحق العودة، وصمود الإرادة الشعبية في ظل (فرجة) مبكية، وأمامنا أيضا احتلال أمريكي صهيوني بريطاني للعراق يؤسس لتغيير وجهه العربي، ومسؤولياته القومية، وجعله مرتكز انطلاق للهيمنة والتدخل في الشؤون السياسية والثقافية والتربوية للبداية العربية والإسلامية، ويهدد منه دول محددة تنفيذاً لبرنامج تدخل معلن، ويقيم قواعد عسكرية في أرضه، ويفرض عليه ولاءً للاستعمار والصهيونية، وقطيعة مع أمته ودولها إذا كانت مع التحرير والمقاومة وإرادة العيش الحر خارج حدود التبعية ترفض ما ترمى إلى فرضه الولايات المتحدة الأمريكية وحليفها العضوي الكيان الصهيوني من شروط وحلول للصراع العربي الصهيوني وفق الرؤية الصهيونية على حساب العرب وحقوقهم التاريخية.(4/327)
ويضيف عرسان أننا في مواجهة تهديد وحصار أمريكيين صهيونيين جديدين متوعدين لسورية، بدأ بالعدوان على عين الصاحب قرب دمشق، وإصدار ما يسمى بقانون محاسبة سورية على دعمها للمقاومة ضد الاحتلال التي يسميها العدو إرهاباً، ولعدم انصياعها للشروط والمطالب الأمريكية الصهيونية من جهة، وعلى موعد مع قانون أمريكي آخر لمحاسبة السعودية من جهة أخرى... والحبل على الجرار، ولا نرى نهاية لتلك المطالب الشريرة الصادرة من مركز الشر في العالم إلا في فرض تبعية وهيمنة شاملتين على أمتنا، والقضاء على معوقات السيادة، والاستقلال، والانتماء القومي، والهوية العربية والشخصية الثقافية، ومنظومات القيم الدينية وهذا ما لا يمكن قبوله أننا نتابع الخطط والبرامج العدوانية التي توضع لتدمير منظومات قيمنا، ومقومات هويتنا بذرائع شتى، ونعرف حجم المال الموظف، والطاقات البشرية المستقطبة والمستخدمة لتحقيق ذلك، ونرى ما ينصب على الثقافة العربية والمقومات الرئيسة للهوية والشخصية من تشويه واتهام ومحاولات تخريب.
يريدوننا مستسلمين
ويؤكد أمين اتحاد الكتاب أن مشكلتنا في عدو اليوم المنقض علينا (بعته) القوة أنه يدعى الحضارة ويتهمنا بالعداء لها، وأنه لا يحاورنا وإنما يملي علينا شروطاً، ويريد أن يمحونا ليعيد تكويننا على شاكلته، وأننا بنظره لا يجوز لنا أن نرفض منة الاستعمار و(الشراكة) التي يقدمها لنا، وليس لنا سوى الخضوع لشروطه، والتنازل عن مقومات وجودنا وهويتنا وشخصيتنا الثقافية ومصالحنا، وعندنا نرفض أن نفعل ذلك يرشقنا مباشرة بالصواريخ، ويهددنا بالإبادة انطلاقاً من قواعد سقيمة يضعها يزدريها العقل وتزري بالعقل مثل: (من ليس معنا فهو ضدنا)، ومن لا يخضع لإرادتنا سوف نحرره من نفسه بالتبعية والموت.. هذا هو منطق الرئيس الأمريكي جورج بوش وحليفه (رجل السلام) أرئيل شارون.
المثقف والسلطة والمجتمع
وعن العلاقة بين المثقف والمجتمع (السلطة ) قال الكاتب والناقد (فاروق عبد الله) عضو اتحاد الكتاب المصري: إن العدل المطلق غير كائن على وجه الأرض؛ لذا فإن هناك دائماً فجوات داخل المنظومة التشريعية داخل الدولة ذاتها تتسع وتضيق طبقاً للمصلحة التي تحميها، وأوضح مثالاً على ذلك هو الكم الهائل من القوانيين التي تلغيها المحكمة الدستورية في مصر لمخالفتها للدستور حتى أن قانوناً مثل قانون الأحوال الشخصية قد ألغى عدة مرات بسبب مخالفته للشريعة والدستور، وقانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة الذي ألغي عقب شهور قليلة من إصداره لمخالفته لبعض قواعد الدستور، كل تلك الأحكام هي من مفاخر ومآثر المحكمة الدستورية العليا في مصر التي وقفت وتقف في وجه السلطة لتنهاها عما ارتكبته من هفوات وزلات، ولتعلن بوضوح أن لا أحد يعلو على الدستور، ويوضح (فاروق عبد الله) تباين القانون في معاملته للأدباء، وتفاوته في شدته أو سخائه تبعاً لاقتراب الأديب من السلطة أو ابتعاده عنها؛ فإذا ما اقترب أغدقت بحسناتها عليه، وأغمضت عينيها عن سيئاته، أما إذا ابتعد فالويل والثبور وعظائم الأمور، بل لقد تمادت فئة المقربين في أحيان كثيرة فدافعت عن السلطة ظالمة أو مظلومة حتى أصبحت أحد أطرافها الطويلة التي تؤدب بها المارقين والمبعدين، وتطالب السلطات بعقابهم وتشريدهم، وتسفيههم لما يكتبون، وأقاموا من أنفسهم حراساً على الأبواب حتى إنهم لا دخلوا ولا تركوا الآخرين يدخلون، بل زايدوا على السلطة ذاتها فأصبحوا (ملكيين أكثر من الملك).
كبت الحريات
ويؤكد (فاروق عبد الله) أن دساتيرنا زينت عباراتها بالدرر التي تمجد حرية الرأي والفكر والإبداع، وردت كمثال في المواد 47 و48 و49 من الدستور المصري التي تنص على كفالة الدولة لحرية التعبير؛ بينما نجد قانون العقوبات المصري قد أفرد باباً كاملاً من أبوابه وهو الباب الرابع عشر من الكتاب الثاني فصل بعنوان ( الجنح التي تقع بواسطة الصحف وغيرها ) ثلاثون مادة من رقم (171) حتى رقم (201) كلها وضعت في عهود سحيقة سبقت صدور الدستور الحالي احتوت تلك المواد على كل ما يمكن أن يقوله الإنسان من أقوال، أو يرتكبه من أفعال في تعبيره عن رأيه يمكن لها إذا ما توسعنا في تفسيراتها أن توقعنا تحت طائلة قانون العقاب، من بين تلك المحرمات (التحريض) على قلب نظام الحكم, وترويج المذاهب الهدامة، والكتابة أو الصور المنافية للآداب ) وغيرها، الكثير وأخطر ما في هذه النصوص عدم دقة تحديد مفاهيمها؛ فغير واضح حتى الآن مفهوم الآداب العامة أو المذاهب الهدامة، أو الإساءة إلى السلطات فكلها قد اختلف فيها الفقهاء، وتباينت تبعاً لذلك أحكام القضاء بشأن المسألة الواحدة، فنجد بعض المحاكم تشدد العقوبة، وبعضها يحكم بالبراءة، وكل حسب فهمه وتقديره لمعنى النصوص الغامضة، لذا فقد ارتفعت الأصوات في الآونة الأخيرة في محاولة لإلغائها، أو على الأقل حصر نطاقها بتحديد مفهومها الذي سوف يبقى ويظل كامناً في ضمير القاضي كما قد استقر المعنى في بطن الشاعر.(4/328)
ولسنا هنا في مجال المفاضلة ما بين النظم التشريعية المختلفة لدولنا العربية التي تتوجس خيفة من الكلمة فتحيطها بالسلاسل والقيود؛ فتلك مهمة نتركها لأصحابها لكننا نضرب لها الأمثال لنلفت من خلالها أنظار كتابنا العرب للمزيد من الترابط والتلاحم فيما بينهم واتفاقهم على كلمة سواء تضمن لهم قدراً ملائماً من حرية الحركة والتعبير دون شطط أو جموح، ولن يأتي ذلك إلا من خلال اتحاداتهم وتنظيماتهم النقابية التي ينبغي لها أن تتمتع بقدر عالٍ من الحرية والاستقلال عن السلطة لتتمكن من أداء رسالتها في حماية أفرادها على الوجه الأكمل احتراماً للشرعية، وتطبيقاً للقانون والدستور.
ضمير المثقف وعدوانية السلطة
أما الكاتب السوري (سهيل عروسي) فيرى أن الظروف التي تمر بها الأمة العربية، وسيادة مفهوم الدولة القطرية؛ تجعلنا لا نطلب من المثقف العربي أن يكون خارج تلك الظروف ومفاهيمها، بل عليه أن يندمج فيها من أجل تفكيكها من داخل منظومتها (وإن كان هناك من دعا إلى الطلاق البائن بينونة كبرى بين المثقف والسياسي... وهناك أيضاً من طالب أن تبقى الواو قائمة بين المثقف والسلطة).
ويؤكد العروسي أن المثقف إذا رفض طريق التبعية للسلطة فإنها تعتبره منافساً لها، فتسعى إلى محاربته بشتى الوسائل، وفي عصر الإعلام لجأت السلطة إلى جر الثقافة إلى حقل الإعلام بغية القضاء على الثقافة كحامل الأيدولوجيا المعارضة والجماهير عن طريق تفكيك عناصرها وشرذمتها وتوزيعها الإعلامي، وهناك إجماع على أن المثقفين ( يشعرون بالخط المزدوج من الإعلام المحلي الذي لا يلبي الطموح ومن الإعلام العالمي إعلام التوجيه والتسلط الذي يقوم على الثقافة المضادة، ويريد تدجين الشعوب وإعاقة تقدمها.
لقد خصصت ميزانية الإعلام الأمريكي (23) مليار دولار للسيطرة على هؤلاء الذين رفضوا الأفكار المطروحة للنظام العالمي الجديد؛ فهل ينجح هؤلاء في إحكام السيطرة على العالم وشعوبه، أم يستفيق العالم من غفوته، وتقف أنظمته الوطنية في مواجهة الغزو؟.
ثورة ضد الغزو
ويختتم العروسي حديثة قائلاً: إن بعض الدراسات تتنبأ بثورة ضد الغزو يشارك فيها كل المثقفين لكن ذلك يتطلب في أبسط متطلباته موقفاً دفاعيّاً شعبيّاً، وموقفاً وطنيّاً تعمل فيه السلطات على دعم الثقافة والإعلام والاقتصاد، وهذا لن يتحقق إلا بتكامل سلطة وثقافة السلطة تكاملاً عضويّاً وبما يؤدي إلى رفاهية المجتمع، وتحقيق العدل والمساواة.
ويوضح الأديب الأردني (يوسف ضمرة) عضو رابطة الكتاب الأردنيين أننا لا نستطيع الحديث عن إصلاح السياسات الثقافية لتصحيح العلاقة بين المبدع والسلطة في ظل استمرار سياسة عامة تعمل على تحديد الحريات وتعريفها، وتسويق مفهومها باعتباره مفهوما أزليّاً وأبديّاً ثابتاً.
ولا نستطيع أيضاً الحديث عن علاقة صحية بين المبدع والسلطة في ظل تعارض لا مفر منه بين رؤية مادية ضيقة للحياة تتكىء على رؤية سابقة، وبين رؤية أكثر شمولاً وإنسانية.
ولا نستطيع الحديث فيما ينبغي له أن يكون في الوقت الذي ندرك أن كل ما في الدولة هو ملك للسلطة بأشكالها المتعددة، وأن المؤسسة الأمنية في الوطن العربي مازالت صاحبة اليد الطولى وذات القرار فيما هو نافع أو ضار.
ويؤكد (يوسف ضمرة) على أن العلاقة بين المبدع العربي والسلطة ستظل علاقة متوترة قائمة على الحذر والتربص على الرغم ما قد يبدو أحياناً من تحديث في السياسات الثقافية فهو تحديث لا يعدو كونه تعبيراً عن احتقانات سياسية واقتصادية تبرز بين حين وآخر.
وينهي ضمرة كلامه متسائلاً: إلى أي مدى يمكن للمبدع العربي الاستفادة من هامش الحرية الذي يضيق ويتسع تبعاً لرؤية السلطة واحتياجاتها؟ والى أي حد يستطيع المبدع العربي أن يؤثر في حجم هذا الهامش؟؟.
بتصرف يسير : http://www.islamtoday.net/a r ticles/show_a r ticles_content.cfm?catid=35&a r tid=3422
=============(4/329)
(4/330)
تسويق التبعية
أحمد الصويان
تضطرب البيئة المعاصرة بطوفان متعدد الأطياف من التيارات الفكرية، وهذا الاضطراب ناتج في كثير من الأحيان عن صراع فكري واجتماعي متعدد الجبهات في البلاد الغربية، تمتد انعكاساته في البيئة العربية والإسلامية، فترى ألواناً من التخبط والخلط الفكري الذي بلغ مداه في العقد الأخير.
ومع كثرة الهزائم والنكسات السياسية والحضارية التي تشهدها البلاد الإسلامية ازداد التخبط والاضطراب، وتكاثر المتهوكون في أودية الباطل.. أولئك المنهزمون الذين لم يجدوا سبيلاً لرفع رؤوسهم إلا بالتقليد المطلق لكل ما غربي؛ فهو المحور الذي يدورون في رحاه، واستعلوا بانهزاميتهم، وتطاولوا بسقوطهم، وعدُّوا ذلك باباً من أبواب التزيّن يتبخترون به على غيرهم..!
قال الله - تعالى -: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 176].
إننا نرى آثار هذه الانهزامية هشيماً يسري في أغلوطات فكرية وإعلامية مستمرة، ويتطاير شررها في الحاضر والبادي، وضجت الصحافة العلمانية والقنوات الفضائية بثرثرة مملَّة، فيها كل شيء ما عدا الكلام العلمي الذي يبني العقل ويربي الخلق..!
من آخر الأمثلة الصارخة على ذلك: موقف هؤلاء المنهزمين إزاء القانون الفرنسي الفج من الحجاب الإسلامي؛ حيث تسابقوا على تسويقه والتماس المعاذير له بتملق وتكلف لا يخفى، وأسرف بعضهم في الهجوم على الحجاب والقيم الإسلامية، ونعى على المسلمين بسخرية وشماتة تخلفهم ومتاجرتهم ب (فقه الآخرة!)، وبتعلقهم بتلك التوافه الشكلية التي تقيد الحركة وتنتهك الحقوق، في الوقت الذي تقدمت فيه المرأة الفرنسية، وبلغت قمة السمو الحضاري بزعمه، بل إن بعضهم راح يؤكد بكل أنواع التأكيد سلامة النهج العلماني، وأنَّه هو الخيار الأمثل أو هو الوحيد الذي سوف يضع أمتنا في مدارج التحضر والتقدم الإنساني..! وصدق المولى - جل وعلا -: {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
والطريف في الأمر أن وزير الخارجية الفرنسي قام بزيارة إلى دول الخليج وبعض البلاد العربية لشرح موقف بلاده، ونسي أن بعض هؤلاء المتساقطين من بني جلدتنا ربما كانوا أكثر حماساً وتشنجاً في الدفاع عن كل ما هو غربي، وتزيينه بكل أنواع الزينة المصطنعة، إنها بكل وضوح عقدة الانكسار والهزيمة التي تطغى على العقل، وتجعله كالإمَّعة الوضيع، وتحوطه بالمهانة والصغار، وصدق المولى - جل وعلا -: {وَإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202].
ولهذا ليس عجيباً أننا بدأنا نقرأ ونسمع في بلادنا العربية من أثنى على فتوى شيخ الأزهر، وطار بها فرحاً، بل والأخطر من ذلك من يريد تعميم هذه الفتوى على الواقع الإسلامي لتشابه الظروف والدواعي التي من أجلها صدرت الفتوى. وكل ذلك ليس حباً في الأزهر أو انتظاراً لرأيه، ولكن لأنها وافقت هوى استقر في نفوسهم..!!
إنَّ المأزق الذي يتساقط فيه هؤلاء يوماً بعد يوم أنهم لا يملكون مشروعاً حضارياً جاداً لنهضة الأمة كما يزعمون، وإنما غاية ما يملكونه أنهم يريدون أن يزجوا بالأمة في المستنقع الغربي الآسن، ليكون أبناؤها عبيداً يتمرغون تحت أعتابهم، ويجترون بكل بلاهة قيمهم المادية والاجتماعية، حلوها ومرها، خيرها وشرها، كما قال أحد أشياخهم منذ زمن ليس بالبعيد!
وحسبك أن تقرأ أطروحات ما يسمى بالاتجاه الليبرالي في منطقة الخليج بخصوص قضية المرأة مثلاً؛ فالحجاب الشرعي هو الحائل بزعمهم عن تسريع عجلة التنمية والنمو الاقتصادي، ومنع الاختلاط عندهم رمز من رموز البدائية والتخلف، جعل الأمة العربية في حضيض المجتمعات الإنسانية المعاصرة. والانتصار الكبير الذي ينتفشون به ويصفقون له عندما تتجرأ إحداهن بنزع حجابها متجاوزة حدود الشرع وقيم الأمة، وفي كل بلد تتكرر مسرحية سعد زغلول، وهدى شعراوي..!
والعجيب أنهم يريدون أن يقنعونا بأن التحديث والتطوير الذي يتطلع إليه جميع الناس قرين التغريب الثقافي والاجتماعي..!(4/331)
إن النازلة القادمة التي تجددت الدعوة إليها بعد مبادرة (الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية) التي أعلنها كولن باول وزير الخارجية الأمريكي هي: قضية المرأة وتغيير القيم الاجتماعية للأسرة التي قررها الشرع المطهر. وأحسب أن المسألة ليست مجرد معركة حجاب عابرة، أو دعوة للاختلاط بين الرجال والنساء فحسب، بل هي مقدمات حثيثة لإعادة صياغة جميع القيم الاجتماعية صياغة جديدة، تُمسخ فيها الهوية الإسلامية، وتنتزع فيها الكرامة الإنسانية، وتصبح فيها المرأة المسلمة مجرد ألعوبة تافهة، ودمية هزيلة، يعبث بها رؤوس الفساد، ودعاة المنكر.
لست قلقاً من هؤلاء الصغار؛ لأن هذه المواقف المكشوفة تفضحهم عند الخاصة والعامة، وتميط اللثام عن انتكاسهم الفاضح، وتبرز بجلاء حقيقة شعاراتهم المتناقضة التي يتشدقون بها بكل صفاقة ومهانة. قال الله - تعالى -: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30].
نعم.. لست قلقاً من هؤلاء إذا ما وعى الدعاة والمصلحون طبيعة المعركة، وأدركوا أن الحق يُصرَع إذا أُخِذَ بتهاون وتثاقل.
ولكن ثمة حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن العلماء والدعاة قصروا تقصيراً بيناً في الدعوة في أوساط النساء، وكان الخطاب الدعوي في مجمله خطاباً رتيباً مكرراً يفتقد للجاذبية والتجديد والإبداع، في الوقت الذي تصدَّر فيه المفسدون للتغريب ونشر الرذائل والعبث بالقيم، وفتنوا الناس في أخلاقهم وأعراضهم.
هذه حقيقة مهمة يجب أن نعيها؛ لأن ذلك سيقودنا بعون الله - تعالى - إلى إعداد رؤية شاملة للدعوة في الوسط النسائي، وتقديم البدائل العملية الجادة التي تحفظ للأمة كرامتها وعفتها.
وها هنا وقفة مهمة مع الأخوات الداعيات لتذكيرهن بواجبهن الشرعي في أخذ زمام المبادرة، والإقبال على الدعوة والتربية، والحرص على سعة الأفق، والبدء بالأولويات.
إن للمرأة الداعية طاقات كبيرة ومجالات عديدة لا يملكها الرجال، وتستطيع بإذن الله - تعالى - إن هي أقبلت على الدعوة وجدَّت في العمل أن تنجز إنجازات كبيرة، وتذبّ عن الأمة شروراً كثيرة.
ولئن كنا قد قصرنا في وقت مضى، فلا عذر لنا فيما يأتي. وردود الأفعال الآنية مهمة ولا بد منها، لكن لا يجوز أن نبقى هكذا عاجزين متواكلين، بل يجب أن نبادر بأطروحات مستبصرة، نستشرف فيها أبعاد المرحلة وتبعاتها. قال الله - تعالى -: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
http://www.albayanmagazine.com المصدر:
===========(4/332)
(4/333)
منتدى اقتصادي أم منتدى .... !!
أحمد الغامدي
لا يزال أعداء الدين وخصوم الملة من أعداء الفضيلة وأنصار الرذيلة يقتنصون الفرصة تلو الفرصة لإفساد المجتمع، ونشر الانحلال، والهجوم على الحجاب رمز عفاف المرأة المسلمة، وسلاحها ضد أمواج الفساد، ذلك السلاح الذي أمر الله به نساء النبي؛ أشرف النساء وأطهرهن وأعفهن يحتجبن عن أشرف الرجال وأطهرهم وأعفهم، ومع ذلك يستغل أعداء الفضيلة كل فرصة تسنح لهم لإبراز ما في قلوبهم من عداء لهذا الدين ولأهله، وإبراز وإظهار النفاق الذي يبطنونه في قلوبهم، فلم يعد يقنعهم خروج المرأة بالعباءة على كتفيها ولا بالعباءة المزركشة المزينة بل ولا العباءة المخصرة فهذه كلها خطوات يودون من ورائها الوصول إلى هدفهم، ولم تعد تعجبهم ولا تقنعهم، فاستغلوا الفرصة في منتداهم الاقتصادي - زعموا - فخرجت فيه شرذمة من " الفاسقات " مظهرين لمفاتنهن بدعوى المشاركة في النهوض الاقتصادي، وإن كل مسلم غيور ليتسآل ما هي العلاقة بين الاقتصاد والحجاب؟!! ما هي العلاقة بين الاقتصاد وإظهار عدد من المفتونات على الصفحات الأولى للجرائد؟ ما هي العلاقة بين هذا وهذا؟!! لِمَ يتم إظهار النساء المشاركات في ذلك المنتدى الاقتصادي بتلك الطريقة على الصفحات الأولى، ولم يتم إظهار الرجال المشاركين أيضاً في نفس المنتدى بتلك الطريقة؟!! ثم إن هناك عدداً من الشابات شاركن في ذلك المؤتمر بينما في الرجال لم يشارك إلا الكهول، فلا أظن أن هناك مشاركاً يقل عمره عن الأربعين من الرجال في ذلك المؤتمر!! فما هذه المفارقات العجيبة؟! أيعقل أن أولئك الشابات جئن فعلاً للإدلاء في الاقتصاد أم أن الهدف هدف آخر بعيد عن هذا كل البعد؟!!
ثم أي شرع هذا الذي يبيح للمرأة أن تخرج متزينة متعطرة كاشفة عن مفاتنها أمام الرجال الأجانب بدعوى المشاركات الاقتصادية، إن الإسلام لا يحرم أبداً على المرأة استثمار أموالها، ولم يحرم عليها المتاجرة الحلال، فهذه خديجة - رضي الله تعالى- عنها كانت تتاجر بأموالها بل إن تجارتها كانت تفوق تجارة كثير من الرجال، بل ولم يحرم عليها المساهمة في نهضة المجتمع وتقدمه، ولكن ذلك كله تحت الانضباط بالضوابط الشرعية، فلم يبح الشرع للمرأة أن تظهر بلا حجاب بل وبكامل زينتها مدعية المشاركة في الاقتصاد، إنها سياسات تحللية من قيم الدين وأخلاقه، وإفساد للمجتمع، ونشر للفاحشة، وقد توعد الله تعالى أولئك جميعاً بقوله: ((إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ...)) وتتعجب من الكلام الذي طرح بعد ذلك المؤتمر، فمن قائل: لقد أثبتت المرأة وجودها، وآخر لقد أثبتت المرأة عندنا أنها جديرة بالثقة وتحمل المسؤولية، ولنا أن نتساءل: هل إثبات وجودها بتعريها وانسلاخها من حجابها؟ هل جدارتها بالثقة هي بثورتها على حجابها ((كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ))، يتلاعبون بالعبارات والألفاظ، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في آخر الزمان أقوام يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها، فهؤلاء يسمون التحلل والرذيلة بغير اسمها، إنها كلمات تدل على ما يحمل أولئك في بواطنهم من حقد على عفاف المرأة في مجتمعنا، وتحصنها بحجابها عن أعين الذئاب المترصدة لها، كلمات تخرج ما في نفوسهم من الرغبة في العبث بها، إن جعجعة أولئك لا تمثل المجتمع بل إن أولئك لا يمثلون إلا أنفسهم المريضة، ولكن لا يصح أبداً أن يرتفع صوت الباطل، بل لابد أن يدمغه الحق، فالواجب على كل منا أن ينكر بما يستطيع ولو بالكلمة، وأن نجتمع على كلمة سواء ضد الرذيلة والفساد
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً***وإذا افترقن تكسرن آحاداً
والله غالب على أمره، وهو ولي المؤمنين، اللهم من أراد ببنات المسلمين سوءاً اللهم فاشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، اللهم اكشف بواره، وافضح عواره، واجعل الدائرة عليه.. والله أعلم.
المصدر : http://www.islamselect.com
-==========(4/334)
(4/335)
الطريق إلى الولد الصالح
وحيد عبد السلام بالي
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد فإنه لا مخرج لنا من الأزمة التي نحن فيها إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وتطبيقاً، وتحكيم الكتاب والسنة في كل أمورنا صغيرها كبيرها، عظيمها وحقيرها، ثم تنشئة أولادنا على ذلك، وغرس حب الله والرسولل في قلوبهم، وتعويدهم منذ الصغر على التضحية من أجل هذا الدين، والعمل لرفعة هذا الدين وبذل الغالي والرخيص في سبيل إعلاء هذا الدين، وقتها سيعود جيل خالد بن الوليد، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، ووقتها سيسود المسلمون العالم كما ساده أجدادهم من قبل: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4، 5].
من أجل ذلك كتبت هذه الكلمات سائلاً المولى - تبارك وتعالى - أن ينفع بها في حياتي وبعد مماتي إنه أكرم مسؤول، وصلى اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الولد الصالح هو خير كنز يتركه المسلم من بعده، فهو نافع لأبويه في حياتهما وبعد موتهما، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
بل إن الذرية الصالحة يجمع شملها من آبائها الصالحين في الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]، فعلى المسلم أن يأخذ بالأسباب لنيل الولد الصالح وهذه الأسباب نجملها فيما يأتي:
1 - اختيار الأم:
على المسلم أن يختار لأبنائه الأم المسلمة التي تعرف حق ربها، وحق زوجها، وحق ولدها، والأم التي تعرف رسالتها في الحياة، الأم التي تعرف موقعها في هذه المحن، الأم التي تغار على دينها، وعلى سنة نبيها صلى الله عليه وسلم .
وذلك لأن الأم هي المصنع الذي سيصنع فيه أبناؤك، وهي المدرسة التي سيتخرجون منها؛ فإن كانت صالحة أرضعتهم الصلاح والتقوى، وإن كانت غير ذلك فكذلك.
وصدق الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا بالري أورق أيما إيراق
الأم أستاذة الأستاذة الألى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
وهذه نماذج تخرجت من مدرسة الأم:
يقول محمد المقدم:
لا تكاد تقف على عظيم ممن راضوا شمس الدهر، وذلت لهم نواصي الحادثات، إلا وهو ينزع بعرقه وخلقه إلى أم عظيمة، كيف لا يكون ذلك والأم المسلمة قد اجتمع لها من وسائل التربية ما لم يجتمع لأخرى ممن سواها؟ مما جعلها أعرف خلق الله بتكوين الرجال، والتأثير فيهم، والنفاذ إلى قلوبهم، وتثبيت دعائم الخلق العظيم بين جوانحهم وفي مسارب دمائهم.
* فالزبير بن العوام:
قامت بأمره أمه صفية بنت عبد المطلب فنشأ على طبعها وسجيتها.
والكملة العظماء عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير ثمرات أمهم أسماء بنت أبي بكر، وما منهم إلا له الأثر الخالد والمقام المحمود.
* وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - تنقل في تربيته بين صدرين من أملأ صدور العالمين حكمة، وأحفلها بجلال الخلال، فكان مغداه على أمة فاطمة بنت أسد، ومراحه على خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* وعبد الله بن جعفر سيد أجواد العرب، وأنبل فتيانهم تركه أبوه صغيراً، فتعاهدته أمه أسماء بنت عميس ولها من الفضل والنبل مالها.
* معاوية بن أبي سفيان أريب العرب وألمعيها ورث عن هند بنت عتبة ما لم يرث عن أبي سفيان، وهي القائلة - وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها: "إن عاش معاوية ساد قومه " - ((ثكلته إن لم يسد إلا قومه "، وكان معاوية - رضي الله عنه - إذا نوزع الفخر بالمقدرة، وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمه فصدع أسماع خصمه بقوله: (أنا ابن هند).
* وأبو حفص عمر بن عبد العزيز أورع الملوك وأعدلهم وأجلهم، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، أكمل أهل دهرها كمالاً، وأكرمهن خلالاً، وأمها تلك التي اتخذها عمر لابنه عاصم وليس لها ما تعتز به من حسب ونسب إلا ما جرى على لسانها قول الصدق في نصيحتها لأمها وهي التي نزعت به إلى خلائق جده الفاروق.
* وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر الذي ولى الأندلس وهي ولاية تميد بالفتن، وتشرق بالدماء، فما لبثت أن قرت له وسنت لخشيته، ثم خرج في طليعة جنده، فافتتح حصناً في غزوة واحدة.
ثم أمعن بعد ذلك في قلب فرنسا، وتغلغل في أحساء سويسرا، وضم أطراف إيطاليا، حتى ريض كل أولئك له، ورجف لبأسه، وبعد أن كانت قرطبة دار إمارة يذكر الخليفة العباسي على منابرها، وتمضي باسمه أحكامها، أصبحت مقر خلافة يحتكم إليها عواهل أوربا وملوكها، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها.
أتدرى ما سر هذه العظمة، وما مهبط وحيها؟(4/336)
إنها المرأة وحدها، فقد نشأ عبد الرحمن يتيماً قتل عمه أباه فتفردت أمه بتربيته وإيداع سر الكمال وروح السمو في ذات نفسه، فكان من أمره ما علمت.
* وسفيان الثوري، وما أدراك ما سفيان الثوري؟! إنه فقيه العرب ومحدثهم، وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، إنه أمير المؤمنين في الحديث الذي قال فيه زائدة: (الثوري سيد المسلمين)، وقال الأوزاعي: (لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان).
وما كان ذلك الإمام الجليل، والعلم الشامخ، إلا ثمرة أم صالحة، حفظ التاريخ لنا مآثرها وفضائلها ومكانتها وإن كان ضن علينا باعها، روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل - رحمه الله - بسنده عن وكيع قال: (قالت أم سفيان لسفيان: يا بني أطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي)، فكانت - رحمها الله - تعمل وتقدم له ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوله بالموعظة والنصيحة، قالت له ذات مرة فيما يرويه الإمام أحمد أيضاً: (يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك؟ فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك)، فهل ترى من غرابة بعد هذا أن نرى سفيان يتبوأ منصب الإمامة في الدين، كيف وهو قد ترعرع في كنف مثل هذه الأم الرحيمة، وتغذى بلبان تلك الأم الناصحة التقية؟!
* والإمام الثقة الثبت إمام أهل الشام وفقههم أبو عمرو الأوزاعي الذي يقول فيه أبو إسحاق الفزاري: (ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي، والثوري فأما الأوزاعي فكان رجل عامة والثوري كان رجل خاصة، ولو خيرت لهذه الأمة، لاخترت لها الأوزاعي، لأنه كان أكثر توسعاً، وكان والله إماماً).
قال النووي - رحمه الله -: (وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي وجلالته وعلو مرتبته، وكمال فضله، وأقاويل السلف - رحمهم الله - كثيرة مشهورة مصرحة بورعه وزهده وعبادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه، وغزارة فقهه، وشدة تمسكه بالسنة، وبراعته في الفصاحة -، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له واعترافهم بمرتبته)، ذلك الحبر البحر كان أيضاً ثمرة أم عظيمة:
قال الذهبي: قال الوليد بن مزيد البيروتي: ولد الأوزاعي ببعلبك، وربى يتيماً فقيراً في حجر أمه، تعجز الملوك أن تؤدب أولادها أدبه في نفسه، ما سمعت منه كلمة فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكاً يقهقه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول: تُرى في المجلس قلب لم يبك؟!
وهذه أم (ربيعة الرأي) شيخ الإمام مالك أنفقت على تعليم ولدها ثلاثين ألف دينار خلفها زوجها عندها، وخرج إلى الغزو، ولم يعد لها إلا بعد أن استكمل ولده الرجولة والمشيخة، وكانت أمه قد اشترتهما له بمال الرجل، فأحمد الرجل صنيعها، وأربح تجارتها في قصة ساقها ابن خلكان قال:
وكان فروخ أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بنى أمية، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته (أم ربيعة) ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة، وهو راكب فرساً، وفي يده رمح، فنزل ودفع الباب برمحه، فخرج ربيعة وقال: يا عدو الله أتهجم على منزلي؟
فقال فروخ: يا عدو الله أنت دخلت على حرمي فتواثبا حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالك بن أنس فأتوا يعينون ربيعة، وكثر الضجيج، وكل منهما يقول: لا فارقتك، فلما بصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري، وأنا فروخ، فسمعت امرأته كلامه، فخرجت وقالت: هذا زوجي وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به، فاعتنقا جميعاً وبكيا، ودخل فروخ المنزل، وقال: هذا ابني؟ فقالت: نعم. قال: أخرجي المال الذي عندك. قالت: تعرض: قد دفنته وأنا أخرجه، ثم خرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته - فأتاه مالك والحسن، وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به.
فقالت أمه لزوجها فروخ: اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف عليها، فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه قلنسوة طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: من هذا الرجل فقيل: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
فقال لقد رفع الله ابني، ورجع إلى منزله، وقال لوالدته: لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها.
فقالت أمه: فأيهما أحب إليك.. ثلاثون ألف دينار أم هذا الذي هو فيه؟
فقال: لا والله بل هذا.
فقالت: أنفقت المال كله عليه.
قال: فوالله ما ضيعتيه. أ هـ.
هذه هي الأم المسلمة التي جلست في بيتها، وأنتجت لنا أعظم ثروة، صنعت الرجال العظماء الذين قادوا البشرية إلى الخير والرشاد.
2 - الدعاء:
على المسلم أن يدعو الله أن يرزقه الولد الصالح الذي ينفعه في حياته وبعد مماته والله - عز وجل - يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقال - سبحانه وتعالى - في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان -: 74].
3 - أذكار البناء:(4/337)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادماً، فليقل: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه - وإذا اشترى بعيراً، فليأخذ بذروة سنامه وليقل مثل ذلك ".
4 - أذكار الجماع:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى بينهما ولد، لم يضره الشيطان أبداً".
5 - التأذين في أذن المولود:
يستحب التأذين في أذن المولود عند ولادته وذلك لعدة أمور:
1 - لفعل النبي صلى الله عليه وسلم : فقد قال أبو رافع - رضي الله عنه -: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة - رضي الله عنها - بالصلاة.
2 - لكي يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلمات التوحيد وشعار الإسلام.
3 - وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به، وإن لم يشعر.
4 - هروب الشيطان من كلمات الأذان، لأن الشيطان يترصده عند ولادته.
5 - فيه معنى من معاني انتصار الإنسان على الشيطان.
6 - فيه إشارة إلى أن وظيفة المسلم في الحياة هي الدعوة إلى الله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} {آل عمران: 110].
6 - تحنيك المولود:
يستحب تحنيك المولود عقب الولادة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن ما التحنيك؟ وما الحكمة من ذلك؟
التحنيك معناه (مضغ التمرة ودلك حنك المولود بها وذلك بوضع جزء من الممضوغ على الإصبع، وإدخال الإصبع في فم المولود، ثم تحريكه يميناً وشمالاً بحركة لطيفة، حتى يتبلغ الفم كله بالمادة الممضوغة، وإن لم يتيسر التمر فليكن التحنيك بأية مادة حلوة).
ولعل الحكمة في ذلك تقوية عضلات الفم بحركة اللسان مع الحنك مع الفكين بالتلميظ، حتى يتهيأ المولود للقم الثدي، وامتصاص اللبن بشكل قوي، وحالة طبيعية، ومن الأفضل أن يقوم بعملية التحنيك من يتصف بالتقوى و الصلاح.
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم، وحنكه بتمرة ودعا له بالبركة، ودفعه إلي.
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيدعو لهم بالبركة ويحنكهم.
7 - اختيار الاسم الحسن:
على المسلم أن ينتقى من الأسماء أحسنها وأجملها، تنفيذاً لما أرشد إليه، وحض عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وبأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم ".
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أحب أسمائكم إلى الله - عز وجل - عبد الله وعبد الرحمن".
8 - العقيقة:
عن سلمان بن عامر الضبي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى".
وعن أم كرز - رضي الله عنها - أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة واحدة".
9 - التربية الإسلامية المتكاملة:
على الآباء والأمهات أن يعلموا أن أمر التربية ليس بالأمر اليسير، وإنما هو المحرك الأساسي لسلوك الولد فيما بعد، ولذا كان يجب على المربين سواء كانوا آباء أو أمهات أو معلمين أن يهتموا بأمر التربية ويتقنوا أصولها، ولقد كان المسلمون الأوائل ينتقون لأولادهم أفضل المؤدبين علماً وأحسنهم خلقاً، وأميزهم أسلوباً وطريقة: وإليك طرفاً من أخبارهم.
* روى الجاحظ أن عقبة بن أبي سفيان لما دفع ولده إلى المؤدب قال له: (ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلمهم سير الحكماء، وأخلاق الأدباء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء ولا تتكلن على عذر مني، فإني اتكلت على كفاية منك.
* وروى ابن خلدون في مقدمته أن هارون الرشيد لما دفع ولده الأمين إلى المؤدب قال له: (يا أحمد: إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعتك له واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة).(4/338)
* وقال عبد الملك بن مروان ينصح مؤدب ولده؟ (علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الرجال وأهل العلم منهم، وجنبهم السفلة والخدم فإنهم أسوأ الناس أدباً، ووقرهم في العلانية، وأنبهم في السر، واضربهم على الكذب، فإن الكذب يدعو إلى الفجور، وإن الفجور يدعو إلى النار).
* وقال الحجاج لمؤدب بنيه: (علمهم السباحة قبل الكتابة، فإنهم يجدون من يكتب عنهم، ولا يجدون من يسبح عنهم).
* وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأهل الشام يقول لهم: (علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية).
* وقال أحد الحكماء لمعلم ولده: (لا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإن اصطكاك العلم في السمع وازدحامه في الوهم مضلة للفهم).
*ومن وصية ابن سيناء في تربية الولد: (أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية حسنة آدابهم، مرضية عاداتهم، لأن الصبي عن الصبى ألقن، وهو عنه آخذ، وبه آنس).
* قال هشام بن عبد الملك لسليمان الكلبي مؤدب ولده: (إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني، وقد وليتك تأديبه، فعليك بتقوى الله، وأد الأمانة، وأول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله ثم روه من الشعر أحسنه، ثم تخلل به في أحياء العرب، فخذ من صالح شعرهم، وبصره طرفاً من الحلال والحرام، والخطب والمغازي).
أصول التربية:
لابد للمربين من معرفة أصول التربية الإسلامية، والإلمام بجميع جوانبها حتى يقوموا بها خير قيام، ويعدوا لنا الجيل الذي يعود بالأمة المسلمة إلى سيرة الأسلاف الكرام الذين سادوا الأرض بعزة الإيمان، وهاكم أصولها:
أولاً: التربية الإيمانية:
المقصود بالتربية الإيمانية ربط الولد منذ تعلقه بأصول الإيمان، وتعويده منذ تفهمه أركان الإسلام وتعليمه من حين تمييزه مبادئ الشريعة الغراء.
تعليمه أصول الإيمان مثل:
الإيمان بالله - سبحانه -، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل.
الإيمان بسؤال الملكين، وعذاب القبر، والبعث، والحساب، والجنة والنار، وسائر المغيبات وتعليمه أركان الإسلام مثل: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج.
وتعليمه مبادئ الشريعة مثل: أقضية الإسلام، وأحكامه، وقوانينه، ونظمه وينتج عن ذلك عدة أمور:
أ - حب الله - تعالى -: وذلك بلفت نظر الطفل إلى نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، فمثلاً: لو جلس الوالد مع ولده على الطعام فقال له: هل تعلم يا بني من أعطانا هذا الطعام؟ فيقول الولد: من يا أبتي؟ فيقول الأب: الله. فيقول الولد: كيف؟ فيقول الأب: لأن الله هو الذي رزقنا، ورزق الناس جميعاً، أو ليس هذا الإله بأحق أن تحبه يا ولدي، سيجيب الولد: نعم.
ولو مرض الولد مثلاً فيعوده الوالد على الدعاء يقول له: أدعو الله أن يشفيك لأنه هو الذي يملك الشفاء، ثم يحضر له الطبيب ويقول له: هذا الطبيب سبب فقط ولكن الشفاء من عند الله، فإذا قدر الله له الشفاء يقول: اشكر الله يا ولدي، ثم يبين له فضل الله فيحبه لأنه هو الذي أكرمه بالشفاء. وهكذا في كل مناسبة، وعند كل نعمة تربطها بالمنعم حتى يغرس حب الله و قلب الولد الصغير.
2 - حب الرسول صلى الله عليه وسلم : وذلك بتعليمه مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته، ووفاءه، وحلمه، وكرمه، وصبره، وإخلاصه، وبهذا يحب الولد نبيه صلى الله عليه وسلم .
3 - مراقبة الله - تبارك و تعالى -: وذلك لأنه يعلم أن الله مطلع عليه في كل حركة وسكنه فسيراقبه، ويخشاه، ويخلص في عمله ابتغاء مرضاة الله.
4 - أحكام الحلال والحرام: وذلك لأن المربي سيبين له الحرام حتى يجتنبه، والحلال المباح كي يفعله، والآداب الإسلامية كي يمثلها، وخلاصة القول أن مسئولية التربية الإيمانية لدى المربين والآباء والأمهات هي مسئولية هامة وخطيرة لكونها منبع الفضائل، ومبعث الكمالات، بل هي الركيزة الأساسية لدخول الولد في حظيرة الإيمان، وبدون هذه التربية لا ينهض الولد بمسؤولية، ولا يتصف بأمانة، ولا يعرف غاية، ولا يتحقق بمعنى الإنسانية الفاضلة، ولا يعمل لمثل أعلى ولا هدف نبيل، بل يعيش عيشة البهائم ليس له هم سوى أن يسد جوعته، ويشبع غريزته، وينطلق وراء الشهوات والملذات، ويصاحب الأشقياء والمجرمين.
فعلى الأب أو المربي أن لا يترك فرصة سانحة تمر إلا وقد زود الولد بالبراهين التي تدل على الله، وبالإرشادات التي تثبت الإيمان، وبالصفات التي تقوي جانب العقيدة.
وهذا أسلوب فعال في ترسيخ العقيدة في نفوس الصغار، ولقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فها هو ينتهز فرصة ركوب عبد الله بن عباس خلفه على حمار فيقول له:(يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف). وهاهو يرى غلاماً تطيش يده في الصحفة أثناء تناوله الطعام فيقول له: (يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك).(4/339)
ثانياً: التربية الخلقية:
التربية الخلقية هي مجوعة المبادئ الخلقية، والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يتلقنها الطفل ويكسبها ويعتاد عليها منذ تمييزه وتعقله إلى أن يصبح مكلفاً، إلى أن يتدرج شاباً، إلى أن يخوض الحياة.
ومما لاشك فيه أن الفضائل الخلقية والسلوكية والوجدانية هي ثمرة من ثمرات الإيمان الراسخ، والتنشئة الدينية الصحيحة.
والطفل منذ نعومة أظفاره حين ينشأ على الإيمان بالله، ويتربى على الخشية منه، والمراقبة له، والاعتماد عليه، والاستعانة به، والتسليم لجنابه فيما ينوب ويروع تصبح عنده الملكة الفطرية، والاستجابة الوجدانية لتقبل كل فضيلة ومكرمة، والاعتياد على كل خلق فاضل كريم.
لأن الوازع الديني الذي تأصل في ضميره، والمراقبة الإلهية، التي ترسخت في وجدانه، والمحاسبة النفسية التي سيطرت على تفكيره وإحساساته كل ذلك بات حائلاً بين الطفل وبين الصفات القبيحة، والعادات الآثمة المرذولة، والتقاليد الجاهلية الفاسدة، بل إقباله على الخير يصبح عادة من عاداته، وتعشقه المكارم والفضائل يصير خلقاً أصيلاً من أبرز أخلاقه وصفاته، والعكس تماماً حينما تكون التربية للطفل بعيدة عن العقيدة الإسلامية، مجردة من التوجيه الديني والصلة بالله - عز وجل -، فإن الطفل لاشك يترعرع على الفسوق والانحلال، وينشأ على الضلال والإلحاد، بل سيتبع نفسه هواها، ويسير خلف نوازع النفس الأمارة، ووساوس الشيطان وفقاً لمزاجه وأهوائه وأشواقه الهابطة.
الأخلاق الهابطة:
هناك عدة أخلاق منتشرة بين الأطفال لا يتم مراعاتها والتحذير منها وهي:
1 - خلق الكذب:
وهو خلق ذميم فواجب على الآباء والمربين أن يراقبوا أولادهم حتى لا يقعوا في ذلك الخلق الشنيع.
ويكفي الكذب تشنيعاً وتقبيحاً أن عده الإسلام من خصال النفاق فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
2 - خلق السرقة:
وهو لا يقل خطراً عن الكذب، وهو منتشر في البيئات المتخلفة التي لم تتخلق بأخلاق الإسلام، ولم تترب على مبادئ التربية والإيمان، ومن المعلوم بداهة أن الطفل منذ نشأته إن لم ينشأ على مراقبة الله والخشية منه، وأن يتعود على الأمانة وأداء الحقوق، فإن الولد - لاشك - سيدرج على الغش والسرقة والخيانة، وأكل الأموال بغير حق، بل يكون شقياً مجرماً، يستجير منه المجتمع، ويستعيذ من سوء فعاله الناس، لهذا كان لزاماً على الآباء أن يغرسوا في نفوس أبنائهم عقيدة المراقبة لله، والخشية منه، وأن يعرفوهم بالنتائج الوخيمة التي تنجم عن السرقة، وتستفحل بسبب الغش والخيانة.
3 - خلق السباب والشتائم:
وهو خلق قبيح منتشر في محيط الأولاد خاصة من تربوا بعيداً عن هدى القرآن، والالتزام بالإسلام.
يقول عبد الله علوان: والسبب في انتشار ظاهرة السباب والشتائم بين الأولاد يعود إلى أمرين:
الأول: القدوة السيئة:
فالولد حينما يسمع من أبويه كلمات الفحش والسباب، وألفاظ الشتيمة والمنكر فإن الولد - لاشك - سيحاكي كلماتهم، ويتعود ترداد ألفاظهم، فلا يصدر منه في النهاية إلا كلام فاحش، ولا يتلفظ إلا بمنكر القول وزوره.
الثاني: الخلطة الفاسدة:
فالولد الذي يُلقى للشارع، ويُترك لقرناء السوء ورفقاء الفساد، فمن البديهي أن يتلقن منهم لغة اللعن.
لهذا كله وجب على الآباء والأمهات والمربين جميعاً أن يعطوا للأولاد القدوة الصالحة في حسن الخطاب، وتهذيب اللسان، وجمال اللفظ والتعبير، كما يجب عليهم أن يجنبوهم لعب الشارع، وصحبة الأشرار، وقرناء السوء - حتى لا يتأثروا من انحرافهم، ويكتسبوا من عاداتهم.
ويجب عليهم كذلك أن يبصروهم مغبة آفات اللسان ونتيجة البذاءة في تحطيم الشخصية، وسقوط المهابة، وإثارة البغضاء والأحقاد بين أفراد المجتمع.
ويمكنك أن تُلقى على أسماعهم بعض الأحاديث التي تنهى عن اللعن والسب مثل: حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"، وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل فيسب أباه، ويسب أمه".
4 - خلق الميوعة والانحلال:
يقول عبد الله علوان: أما ظاهرة الميوعة والانحلال فهي من أقبح الظواهر التي تفشت بين أولاد المسلمين وبناتهم في هذا العصر الذي يلقب بالقرن العشرين، فحيثما أجلت النظر تجد كثيراً من المراهقين الشباب والمراهقات الشابات قد انساقوا وراء التقليد الأعمى، وانخرطوا في تيار الفساد والإباحية دون رادع من دين، أو وازع من ضمير، كأن الحياة في تصورهم عبارة عن متعة زائلة، وشهوة هابطة، ولذة محرمة، فإذا ما فاتهم هذا فعلى الدنيا السلام.(4/340)
وقد ظن بعض ذوي العقول الفارغة أن آية النهوض بالرقص الماجن، وعلامة التقدم بالاختلاط الشائن، ومقياس التجديد بالتقليد الأعمى، فهؤلاء قد انهزموا من نفوسهم، وانهزموا من ذوات شخصياتهم وإرادتهم قبل أن يهزموا في ميادين الكفاح والجهاد.
فترى الواحد من هؤلاء ليس له هم في الحياة إلا أن يتخنفس في مظهره، وأن يتخلع في مشيته، وأن يتصيع في منطقة، وأن يبحث عن ساقطة مثله ليذبح رجولته عند قدمها، ويقتل شخصيته في التودد إليها.. وهكذا يسير من فساد إلى فساد، ومن ميوعة إلى ميوعة حتى يقع في نهاية المطاف في الهاوية التي فيها دماره وهلاكه.
ومن هنا يتعين على المربي أن يهذب أخلاق الولد، وأن يبعده عن صحبة السوء، وأن يربطه بالصحبة الطيبة، وعليه أيضاً أن يباشر الولد فإذا وجد منه اعوجاجاً سارع بتقويمه قبل أن يتأصل فيه.
ثالثا: التربية الفكرية:
لقد انتشرت في الساحة الآن أفكار كثيرة منها الصالح والطالح والبناء والهدام والحق والباطل.
فعلى الوالد أن يبين لولده الحقيقة، ويفرق له بين الغث والسمين من هذه الأفكار حتى يشب على بينة من أمره، ولا تجتاحه الأمواج كما اجتاحت كثيراً من شباب المسلمين.
ويدخل في هذا أيضاً أن يعلم ولده كيف ينزل الناس منازلهم، فإذا ذكر أمامه رجل من أهل المجون والفسوق كالفجرة من المغنين والمغنيات مثلاً احتقره وحط من قدره حتى لا يتخذه الولد قدوة له، وإذا ذكر أحد الدعاة أو المصلين أو العلماء المستقيمين رفع قدره، وعظم أمره، وعود الولد على حبه كي يقتدي به، وهذه لفتة مهمة لمن تدبرها.
ولابد من تعويد الولد وتنشئته على حب السنة وأهلها، وبغض البدعة وأهلها.
رابعا: التربية الجسمية:
الجسد هو الدابة التي تحمل الروح في السفر إلى الله، فإن أكرمتها وأحسنت إليها واصلت بك، وإن أهملت أمرها انقطعت بك في الطريق (إن لجسدك عليك حقاً).
فلا مانع من تعليم الولد بعض التمرينات الرياضية التي تقوي جسده وتنشط جسده وتنشط روحه، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل).
فلو أحضرت لولدك بندقية، وعلمته أصول الرماية الصحيحة لكان خيراً، وكذلك تعليمه قيادة السيارات والدراجات وغيرها من الآلات العصرية.
وأخيراً:
عليك بالملاحظة التامة لولدك في كل حركاته وسكناته وتصرفاته وتحاول أن تصلح ما تراه قد اعوج، سالكاً في ذلك اللين والشدة، والرخاوة والقسوة، كل حسب حاجته، ولا تظن بذلك أن ولدك صار صالحاً كريماً مقداماً وإنما عليك بالدعاء إلى الله والتضرع إليه أن يصلح ولدك، فإن الله وحده هو الذي بيده مفاتيح القلوب.
ونسأل الله - تبارك وتعالى - أن يجعل هذه الكلمات معينة لنا على تربية أبنائنا تربية صحيحة إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين من أئمة الهدى أجمعين.
http://www.mknon.net المصدر:
===========(4/341)
(4/342)
الأسرة في العصور الحديثة
مشكلة الأسرة ـ في هذه العصور الحديثة ـ مشكلة خطيرة جداً، فقد فقدت نتيجة التغيرات الاجتماعية كثيراً من وظائفها التي كانت تقوم بها من ذي قبل، فأدى ذلك إلى تفكك عرى الأسرة، وانهيار الروابط التي كانت تربطها فيما قبل، يقول بعض المربين:
(والواقع أن من مخاطر المجتمع الحديثة الرئيسية أن الدور الطبيعي الذي كانت تقوم به الأسرة يتضاءل نتيجة لاستيلاء مؤسسات أخرى على كثير من مسؤولياتها، ونخشى نتيجة التضاؤل أن تفقد الأسرة الأثر الفعّال الذي هو من أهم قوى الاستقرار في المجتمع..). (التعليم: ص87).
وإن من أوهى الآراء القول بإهمال شؤون الأسرة، وترك الحديث والبحث عنها لأنها لا تؤثر في تطورنا الاجتماعي، بل إنها مصدر من مصادر الاستغلال يجب تحطيمها كما أعلنته الماركسية في بداية تطبيقها زاعمة أن الرجل يستغل زوجته وأولاده فيتخذهم أدوات إنتاج. (بيان الحزب الشيوعي: ص69، طبع دار التقدم في موسكو).
وأصر إنجلز على ذلك فقال: (ولا تعود العائلة الفردية بتحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة، الوحدة الاقتصادية للمجتمع، وتصبح إدارة المنزل الخاصة صناعة، وتصبح العناية بالأطفال وتربيتهم قضية عامة، إذ يأخذ المجتمع على عاتقه تربية جميع الأطفال على حد سواء أكانوا ثمرة زواج أم لم يكونوا... وبهذا يختفي الخجل الذي يساور قلب الفتاة من جرّاء النتائج التي هي في زماننا أهم عامل اقتصادي خلقي يعوق الفتاة من استسلامها بحرية إلى الشخص الذي تحبه...). (أصل العائلة، ص81، ويراجع في معرفة المزيد من ذلك النظام الشيوعي، ص50).
وقد تراجعت الشيوعية عن كثير من مقرراتها لأنها اصطدمت بالواقع الذي يعيشه الناس في جميع مراحل تأريخهم من أن الأسرة نظام مستقر ثابت لا غنى للبشرية عنه، ومن ثم اتجه المشروع الروسي إلى إعلاء شأن الأسرة، والعمل على حماية الدولة لمصلحة الأم والطفل، ومنح المرأة إجازة قبل الولادة وبعدها بأجر كامل. (الدستور السوفيتي، المادة 122).
انعزال المرأة عن التربية:
وكانت المرأة فيما قبل مستقرة في بيتها تعنى بتربية أولادها، والقيام بشؤون زوجها، وكانت تقوم مقام المعلم بين أبنائها مشتركة مع الرجل في ذلك، أما في هذه الصورة فقد خرجت الزوجة لتقوم بأعمال تشابه أعمال الرجل، وأصبحت شؤون المنزل والقيام بمهامه عملاً ثانوياً بالنسبة لها، وأصبحت المرأة في كثير من الدول ترى أن إنجاب الأطفال يتعارض مع قيامها بتولي الوظائف العامة، الأمر الذي نجم منه تحديد النسل، وعدم التفكير في إنجاب الأطفال.
ومما لا شبهة فيه أن المرأة مسؤولة عن تهيئة الجو الاجتماعي والنفسي لنشأة الأطفال نشأة سليمة متكاملة، وقد نجم من تخيّلها عن هذه الوظيفة كثير من المضاعفات السيئة، وكان من أهمها انهيار الأسرة، فقد أصبح التقاء المرأة بزوجها وأطفالها التقاءً سريعاً، وأصبحت الأسرة في نظر الكثيرين أكثر شبهاً (باللوكاندة) من دون أن يوجد ذلك الرباط الاجتماعي والنفسي الذي يربط بين أفراد الأسرة، والذي يدعوهم دائماً إلى وضع مصلحة الأسرة فوق كل اعتبار. (الأسس الاجتماعية: ص72).
إن خروج المرأة من البيت قد أوجب حرمان الطفل من التمتع بحنان أمه، وذلك لمزاولتها العمل وتركه لها أكثر الوقت، ومن الطبيعي أن تغذيته الاصطناعية وتعهد المربية لشؤونه لا يسد مسدّ حنان الأم وعطفها، فقد أثبتت التجارب العلمية أن الطفل لا ينمو ولا يترعرع على حليب أمه، فحسب بل على عطفها وحنانها، وهذا الغذاء العاطفي لا يقل أهمية عن الغذاء الجسدي في تنمية شخصيته، ومن هنا جاءت أفضلية التغذية الطبيعية من ثدي الأم على التغذية الاصطناعية؛ ففي الأولى يتمتع الطفل بأمرين هما: الغذاء والحنان، وأما التغذية الاصطناعية فإنها تخلو غالباً من شعور الطفل بحنان أمه، ومن هنا يحسن في الأطفال الذي يحرمون من التغذية الطبيعية أن تضمهم أمهاتهم إلى صدورهن حسب ما ينصح به أطباء الأطفال. (أسس الصحة النفسية: ص75).
وعلى أي حال فإن الطفل لا ينشأ نشأة سليمة إلا إذا أخذ حظه من الحب والحنان من أمه، وهو ـ في الغالب ـ قد حرم من هذه الجهة حين انعزال المرأة عن التربية.
وقد نعى على المرأة خروجها من بيتها جمع كبير من علماء التربية والاقتصاد والنفس، ونعرض لكلماتهم من دون أن نعلّق عليها:
يقول الفيلسوف الكبير برتراند رسل: (إن الأسرة انحلت باستخدام المرأة في الأعمال العامة، وأظهر الاختبار أن المرأة تتمرد على تقاليد الأخلاق المألوفة). (الإسلام والحضارة العربية، ج2، ص92).
ويقول العالم الاقتصادي جون سيمون: (النساء قد صرن الآن نسّاجات وطبّاعات، وقد استخدمتهن الحكومة في معاملها، وبهذا فقد اكتسبن بضعة دريهمات، ولكنهن في مقابل ذلك قد قوّضن دعائم أسرهن تقويضاً، نعم إن الرجل صار يستفيد من كسب امرأته، ولكن إزاء ذلك قلّ كسبه لمزاحمتها له في عمله.. (مجلة المجلات: ص17).(4/343)
ويقول العالم الاجتماعي أوجست كونت جواباً عن سؤال قدمته (هيركور) تسأله عن رأيه في المرأة فأجابها: (إن حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية إذا جرت على النسق الذي تريدينه كما هو حالة الرجل فيكون أمرها قد انتهى فإنها تصير مستعبدة مملوكة). (دائرة معارف وجدي: ج8، ص605 - 606).
وتقول الكاتبة (أني رورد): (لأن تشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاءً من اشتغالهن في المعامل؛ حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة، والعفاف والطهارة... الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس الأعراض بسوء. نعم إنه العار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، بالناس لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال سلامةً لشرفها..). (مجلة المنار: ج4، ص486).
يقول الأستاذ شفيق جبري: (إن المرأة في أمريكا أخذت تخرج من طبيعتها في مشاركتها للرجل في أعماله، إن المشاركة لا تلبث أن تتضعضع بها قواعد الحياة الاجتماعية، فكيف تستطيع المرأة أن تعمل في النهار، وأن تعنى بدارها وبأولادها في وقت واحد، فالمرأة الأمريكية قد اشتطت في هذا السبيل اشتطاطاً قد يؤدي في عاقبة الأمر إلى شيء من التنازع بينها وبين الرجل). (أرض السحر).
يقول سامويل سمايلس: (إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما تنشأ عنه من الثروة للبلاد، فإن نتيجته هادمة لبناء الحياة المنزلية لأنه يهاجم هيكل المنزل، ويقوّض أركان الأسرة، ويمزق الروابط الاجتماعية..). (نظرية العلاقة الجنسية في القرآن الكريم: ص94 - 95).
تقول السيدة أمينة السعيد: (إن الجهل ما زال منتشراً في النساء، وإن التشريعات العائلية بصورتها الراهنة أحق بالعلاج من دخول البرلمان.. والبيت في رأيي جنة، ما بعدها جنة، واستقرار المرأة فيه يعادل آلاف الحقوق السياسية..). (علمتني: ص24).
هذه بعض الآراء التي أدلى بها جمع من المفكرين ـ وهي من دون شك ـ تحمل طابعاً كبيراً من السمة العلمية، فإن خروج المرأة من بيتها، ودخولها في المعامل، ومزاحمتها للرجل في عمله واقتصاده مما أدى إلى عجزها عن القيام بوظيفتها في تربية النشء فإنها لم تعد إلى المنزل إلا وقد أضناها العمل واستنزفت الأتعاب جميع قواها، فكيف تتمكن من تربية أطفالها تربية سليمة، ومن الطبيعي أن ذلك يشكل خطراً جسيماً على النشء يعرّضه إلى الإصابة بكثير من الأمراض النفسية، وعدم الاستقامة في سلوكه، حسب ما دلّل عليه علماء التربية والنفس.
تضاؤل نسبة الزواج
والشيء الخطير الذي يهدد كيان الأسرة في جميع أنحاء العالم، هو تضاؤل نسبة الزواج وانخفاضه إلى حد كبير، فإن الحضارة المادية الحديثة قد جعلت المرأة متاعاً رخيصاً، وسلعة مبتذلة، حتى امتنع الكثيرون من الشباب عن الزواج لأن ما ينشدونه من المتعة الجنسية قد صار بمتناول أيديهم فإذن لماذا يقدمون على الزواج ويعانون أعباءه وأثقاله.
يقول الشيخ بهي الخولي:
(يمتنع الشباب عن الزواج، لأن الزواج قيد يحجزه عن الخوض فيما شاء من اللذة المتجددة، فقد أقبلت عوامل التطور الحديث على كثير من المجتمعات الغربية بحريات واسعة في الفكر والقول والعقيدة والسلوك الخاص، وأنشأت لهم أهدافاً في المال والمنفعة واللذة الحسية تعارض ما كان لهم من أهداف روحية، ومقاييس لمعاني العرض والعفة، وصار لكل منهم حريته الواسعة في حياته الخاصة يفعل منها ما يريد دون رقابة من قانون أو تحرج من عرف، بل يفعل ما يريد بتحريض من العرف وعطف من المجتمع.
وكان من ذلك أن تفجّرت الشهوات، وسادت عبادة الجنس، وراج جنون اللذة يستبد بألباب كثير من أفراد تلك المجتمعات، فرأوا في الزواج قيداً يحد من حرياتهم في ابتغاء ما يريدون، فنبذوا حياة الأسرة، وركنوا إلى المخادعة، كلما فترت رغبة أحدهم في خليلته أو فترت رغبتها فيه انصرف كل منهما عن صاحبه حيث يجد اللذة في رغبة جديدة وشوق أشد.
ولا شك أن ذلك يفضي إلى قلة النسل أي تناقص عدد السكان، وضعف الأمة في مقوماتها المادية ومقوماتها المعنوية، وقد ظهرت آثاره السيئة منذ عشرات السنين في بعض البيئات الأوربية، وأخذت في الازدياد والاتساع حتى شملت كثيراً من الدول.
وهانحن نرى كثيراً من علماء الاجتماع يدقون نواقيس الخطر، وينذرون أممهم ـ إذ تُهمل حياة الأسرة ـ سوء المصير، بانهيار الأخلاق وانحلال روابط المجتمع، وانقراض النسل، ولقد وفق المارشال (ربيتان) غداة احتلال الألمان لفرنسا في الحرب العالمية الأخيرة - إذ ينادي قومه إلى الفضيلة، ويعزو الهزيمة إلى هجر حياة الأسرة - فكان مما قاله:
(زنوا خطاياكم فإنها ثقيلة في الميزان، إنكم نبذتم الفضيلة، وكل المبادئ الروحية، ولم تريدوا أطفالاً، فهجرتم حياة الأسرة، وانطلقتم وراء الشهوات).(4/344)
إن الدولة ـ باسم الإسلام ـ مكلفة أن تعني أعظم العناية بإنشاء الأسر وحياطتها، وتوفير ضمانات الاستقرار لها، وتحسّن ما تلده الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية من آثار تمسها، نعم هي مسؤولة عن ذلك مسؤوليتها عن التموين والتعليم والدفاع، وما أشبه هذه الأغراض التي لا يمكن تركها للأفراد لأنها من صميم عمل الدولة..). (حقوق الإنسان، ص115 - 116).
الشذوذ الجنسي
وكان لتضاؤل نسبة الزواج وانخفاضه آثاره السيئة التي تهدد كيان الأسرة بالدمار والانحلال واضطراب السلوك بين أفرادها، ومن أخطر آثاره إشاعة الشذوذ الجنسي وانتشاره بين الناس، ومن الطبيعي أنه ليس شيء أخطر على الإنسانية ولا أفتك بها من إشاعة الفوضى الجنسية فيها، حيث تضيع الأنساب، وتنهار قواعد الأخلاق، وقد وضع الإسلام جريمة الزنا في صف الشرك بالله، وقرنها مع جريمة قتل النفس التي صانها الله وتوعّد بالخلود في النار لمن يقترفها قال - تعالى -: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً) (سورة الفرقان: 68 - 70).
لقد وضع الإسلام السدود والحواجز أمام جريمة الزنا فأمر بإخفاء الزينة صيانة للمرأة قال - تعالى -: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (سورة النور: 30).
وحرم إثارتها الانتباه والتدليل على جمالها وزينتها قال - تعالى -: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (سورة النور: 30).
كما منع من خلو الرجل مع المرأة الأجنبية، قال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم): (لا يخلونّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم) (صحيح البخاري).
وحرّم ملامسة المرأة الأجنبية ففي الحديث (لأن يُطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له). (البيهقي).
وجعل صلاة المرأة في بيتها كصلاتها في المسجد كل ذلك صيانة لها من الاختلاط الذي يدفعها إلى السقوط في حمأة الرذائل، وفقدانها لكرامتها وعزتها وشرفها.
إن الإسلام بجميع أجهزته وطاقاته يحارب الشذوذ الجنسي، ويحارب الفوضى الغريزية، ويناهض جميع الوسائل التي تؤدي إلى سقوط المرأة في حمأة الرذائل، ويطالب بالنهوض بها إلى أرقى المستويات، يريد أن تكون ربة عائلة، ومربية جيل، وسيدة كريمة تحاط بهالة من العزة والكرامة... ولكن الحضارة المادية الحديثة قد أغرت المرأة، وحببت لها الإثم والفجور فأخرجتها من ذلك الميدان المشرق إلى حياة كريهة تحفها الضعة والهوان ووخز الضمير.
لقد سرت في العالم الغربي موجات رهيبة من الفوضى الجنسية، فلم تعد المرأة الغربية تعرف معنى للعفة والكرامة، والحياء والأمانة، ولم تفقه بحكم تربيتها الحديثة أي مغزى أصيل لهذه الحياة سوى إشباع رغباتها الجنسية، وقد انتشر البغاء في الغرب انتشاراً فظيعاً تندى له جبين الإنسانية، انتشر في المنتديات والمعاهد والمحلات العامة، ولم يعد ذلك أمراً قبيحاً ينكره المجتمع أو ينفر منه، فقد تسالم على تشجيعه وإقراره.
يقول بولا بيورو:
(إن هذا العمل ـ أي احتراف البغاء ـ قد أصبح في زماننا نظاماً محكم التركيب يجري بما شئت من التنظيم في أيدي الموظفين، والعاملين المأجورين، ويعمل فيه أرباب القلم وناشرو الكتب، والخطباء، والمحاضرون، والأطباء، والقابلات، والسياح التجاريون، ويستعمل له كل جديد من فنون النشر والعرض والإعلان).
ويقول جورج أسكان:
(أصبح تعاطي الفجور، وعدم التصون، واتخاذ الأطوار السوقية معدوداً عند فتاة العصر من أساليب العيش المستجدة).
وقد عجت صحفهم اليومية والسياسية ومجلاتهم وكتبهم بإغراء المرأة ودفعها إلى التجارة بجسدها، وخلعها لثوب العفة والطهارة، وقد نجم من ذلك تسيب المرأة وتحللها، واندفاعها وراء الشهوات والمغريات كلما ملّت من رفيق اتخذت خدناً آخر لها، وقد فسدت بذلك شؤون الأسرة، وعم الاضطراب والانحراف جميع أعضائها.
إن البغاء آفة كبرى على المجتمع، فإنه من أهم العوامل التي تنخر في كيانه وتقضي على أصالته وتماسكه، فالمجتمع الذي يصاب بهذا الداء الوبيل تنتشر فيه الأمراض الزهرية كالقرحة الرخوة، والسفلس، والسيلان المنوي، وهي مما توجب تدمير الصحة العامة، وتعريض الإنسان للإصابة بكثير من الأمراض المهلكة، كما تقضي على تماسك الشخصية، وإزالة جميع أرصدتها الأخلاقية والأدبية.(4/345)
لقد انتشر هذا الداء في كثير من مناطق العالم، فالمستشفيات، والمؤسسات الصحية، ودور عيادات الأطباء الخاصة تستقبل كل يوم سيلاً عارماً من المصابين به، وبالرغم من المعالجات الحديثة له كالبنسلين وغيره، فإنه قد انتشر بصورة هائلة، وكان من آثاره الإصابة (بالهستريا) وقد ضجت المستشفيات العقلية بالمصابين من جرائه، كما كثرت عدد ضحاياه في العالم، وهو في نفس الوقت يحول دون نمو الاقتصاد العام الذي يتوقف على ازدهار الصحة وتقدمها في البلاد، كما يستهلك قسماً كبيراً من الاقتصاد العام لشراء الأدوية والعقاقير لإسعاف المصابين، وإنقاذهم مما هم فيه.
ومن مظاهر الشذوذ الجنسي تفشي الحبوب المسقطة للحمل، وانتشارها بين الفتيات اللاتي يمارسن البغاء، ويخشين من الحمل، وقد انتشر ذلك بصورة مؤسفة في الجامعات والمعاهد الغربية فقد كثر فيها الإجهاض والسقط، ومن الطبيعي أن لذلك أثراً كبيراً على صحة المرأة وإرهاقها مضافاً لتقليله للنسل، ومن نتائج هذا الانحراف والشذوذ كثرة اللُّقطاء فقد فحشت هذه النسبة في عواصم الغرب، واهتمت الحكومات هناك ببناء الملاجئ لاستقبال هذا البشر المنكوب، الذي يفقد العطف الأبوي، وهو يمنى بكثير من العقد النفسية ـ كما يقول علماء النفس ـ، ومن أخطر ما يصاب به أنه يمنى بقساوة الخلق والطبع والضغينة على المجتمع... هذه بعض الأخطار التي تنجم عن الفوضى الجنسية، وهي تهدد الأسرة بأمواج من الآثام الطاغية حتى ليوشك أن تغرق فيها.
عقوق الأبناء
ومن مظاهر ما منيت به الأسرة من الانحلال ـ في هذه العصور ـ انفصال الأبناء عن آبائهم انفصالاً متميزاً في الرأي والعقيدة والاتجاه، فقد عملت التربية الحديثة بما تملك من طاقات مادية وحضارية على الزهد والتشكيك بقيم الآباء وعاداتهم وأفكارهم، وأصبح الأبناء ناقمين على مثل آبائهم وقيمهم، ونتج من ذلك نضال فكري وثوري على المثل القديمة، والنبذ لكل ما يعتنقه الآباء من القيم والتقاليد الاجتماعية، كما نتج صراع آخر عنيف وحاد فيما بينهم، فالآباء دوماً يشكون ما يعانونه من عقوق أبنائهم، وسوء آدابهم، ويحكون صوراً متنوعة من جفائهم، وعدم حشمتهم، ومقابلتهم بالقسوة والحرمان.
يقول المربي (جون ديوي):
(ومن البعث أن نندب ذهاب تلك الأيام القديمة السعيدة على مناقب أولادنا، والحشمة، والاحترام والطاعة الخلقية إذ النوح لا يعيد الذاهب، وبكاء ما فات يزيد الحسرات، فإن التغييرات الحادثة نتائج نواميس طبيعية، ولا يقابلها إلا تغيير كاف في التهذيب...).
وهو رأي وثيق للغاية فإن التغييرات الحادثة في نظام الأسرة وغيرها من الأنظمة التربوية والاجتماعية قد أوجبت تمرد الأبناء، وخروجهم من حدود الطاعة وهيهات أن تعود إلى الطبيعة الأولى من دون أن يكون هناك تهذيب للطباع، وتهذيب للغرائز، وغرس للنزعات الخيرة في أعماق النفوس.
التحلّل والميوعة:
ومنيت كثير من الأسر الحديثة بألوان فظيعة من التحلل والانحراف، فقد أسرفت في التفنن بأنواع الملذات والمحرمات مما أدى إلى انهيار الأخلاق، وانحطاط السلوك.
ومن الطبيعي أن الانسياق وراء اللهو يخلق جيلاً غير متماسك لا يعنى بالقيم الإنسانية ولا بالمثل الاجتماعية، فالطفل الذي يشاهد أبويه وهما عاكفان على إدمان الخمر وتبادل الرذائل فإنه حتماً يتأثر بذلك في سلوكه توجيهه.
يقول بعض الباحثين في الشؤون التربوية:
(لقد أصبحت الأسرة جواً مخزياً للتربية بصورة عامة لأن الآباء والأمهات في العصر الحديث قد تجاوزوا الحد المقرّر في السذاجة أو العصبية أو الضعف أو الشدة، وربما يعلّم أكثرهم بعض العيوب لأطفالهم.
أكثر الأطفال الذين يجدون صوراً مختلفة عن سوء الأخلاق والفساد والمشاكسة والسكر في البيت والأسرة، والكثيرون منهم إن لم يجدوا مثل هذه القضايا في البيت فلابد وأنهم تعلّموها من أصدقائهم، فيمكن القول بلا مبالغة أن كثيراً من الآباء والأمهات في العصر الحديث يجهلون تربية أطفالهم مهما كانت الطبقة التي ينحدرون منها، والمدارس أيضاً لا تستطيع أن تؤدي واجبها لأن الأساتذة لا يختلف سلوكهم عن سلوك الأبوين كثيراً...).
إن انحراف الناشئة وفساد سلوكها يستند ـ على الأكثر ـ إلى ميوعة الأسرة وتحللها، ولا نعدو الصواب إذا قلنا إن كفة إصلاح الأسرة يفوق سائر العوامل التربوية الأخرى فهي المدرسة الأولى التي تؤثر أثراً مباشراً على السلوك والتوجيه.
http://www.al صلى الله عليه وسلمasool.net المصدر:
============(4/346)
(4/347)
حمىّ الموضة: المعقول وغير المعقول
بقلم :عادل القاضي
هل الشكل الخارجي للشاب أو الفتاة مهم؟
نعم، مهم. لماذا؟
لأنّه يعطي صورة مشرقة أخرى عن المحتوى الداخلي لشخصية كلّ منهما، فإذا كانت الروح جميلة، والأخلاق جميلة والعقل جميل، والسلوك جميل، فإن اللباس الجميل سيضفي جمالاً آخر على تلك الجمالات.
نعم، لو كان السؤال - ايّهما أهم. فلا شك أن جوهر الإنسان وعلمه ومنطقه وأخلاقه أهم بكثير، لان هذا من الجمال أيضا، بل هو أجمل الجمال.لكننا نلاحظ إقبالا شديداً على ما تضمّه أسواق الموضة وأجهزة التفنن بالصرعات من لدن الشباب والفتيات وان كان الاهتمام من قبل الفتيات أكثر لاعتبار أن الزي جزء من جمال المرأة.
ولا يعني ذلك أننا نقلّل من شأن الأزياء فللزيّ تعبيره عن الشخصية وعن الهوية، فالحجاب مثلاً زي تتميز به الفتاة أو المرأة المسلمة حتى أنّك إذا رأيت محجّبة تقول إنها مسلمة حتى ولو لم تسألها عن دينها، وكذا العمّة أو الجبّة التي يرتديها بعض علماء المسلمين فهي علامة فارقة على أنهم مسلمون. لكن الإسلام لم يقيد حرية المسلم في اختيار الزي الذين يرتديه، وترك لأهل كل عصر أن يلبسوا اللباس الذي يناسبهم شريطة أن يكون لباساً شرعياً لا يكشف
المناطق المحضورة من جسد المرأة والرجل، وان لا يكون متبرجا يوحي ويدعو إلى الإثارة.
لماذا إذا هذه المبالغة أو التهالك على الموضات والصرعات وكأنها كلّ الشخصية وليست جزءاً منها؟
نعتقد أن التركيز على ثقافة الشكل الخارجي الذي تمارسه أجهزة الإعلام لا سيما المرئية المقروءة له الأثر الكبير في هذا الإقبال (المجنون) على شراء البدلات واستبدالها، حتى بات التغزّل أحيانا بملابس الفتاة لا بخصائصها الجمالية. يقول شريط فديو يتحاور فيه شبان أميركان من الجنسين حول الأزياء والموضة أن حمىّ الموضة قد لا تسمح للفتاة وللشاب أن يتوقفا قليلا ليطرحا على نفسيهما بعض الأسئلة المعقولة عن التصرفات التي تبدو في غالب الأحيان غير معقولة. وأضاف الجنسان أن الموضة تلعب دور النموذج الذي يقارنون بموجبه ما يلبسون وما يطرح من جديد في أسواق الموضة وهو لهاث لا ينتهي.
ولابدّ للشباب والفتيات من التنبّه إلى النقاط التالية بشأن الموضة:
1- إن أول ما يواجهنا في مسألة الموضة هو (التقليد) وخطورة التقليد على الأزياء المستوردة تكمن في تاثيرها (الثقافي) و(النفسي) و(الأخلاقي) و(السلوكي). فهي أزياء صممت لغيرنا.. لنساء (كاسيات عاريات) همّهن الإثارة والفتنة والخلاعة والتبرج.
يقول (محمد أسد) النمسوي الذي اسلم، إن ارتداء المسلمات الزي غير الإسلامي يجعلهن يتصورن إنهن يستبدلن ثياباً بثياب، والحقيقة أنّ المسألة هي استقبال ثقافة وافدة وأخلاق وسلوك لا يقرّها الإسلام. وبالتالي فإن نفسية المرأة المسلمة - شاءت أم أبت - سوف تتأثر بالأزياء التي ترتديها. فالإسلام حين أباح للمرأة أن تتبرج لزوجها وان ترتدي ما شاءت من ملابس حينما يختليان، فانه حدد ذلك لها بهذا الحدّ، كما أباح لها أن ترتدي في حضرة النساء
الأخريات ما يحلو لها من أزياء.
2- وفي حمى الموضة تواجهنا أيضا النزعة الاستهلاكية المتمثلة بالبذخ والإسراف، فإذا كانت للموضة مواسم أربعة، أزياء للصيف وأخرى للربيع وثالثة للخريف وأخرى للشتاء، وإذا كان كل موسم يمطرنا بعشرات التصاميم والألوان والأشكال فإن ذلك مما سيرهق كاهل الفتاة أوالشاب ماليا، حتى بتنا نرى أن الفتاة تخجل من أن تلبس البدلة الواحدة مرتين في مناسبتين مختلفتين، أو أنّها تضطر لاستعارة بدلة أختها أو ابنة خالتها أو جارتها حتى لا يقال عنها أنّها لا تمتلك سوى بدلة واحدة، ولذا نرى أن المناسبات والأعراس أضحت حفلات استعراضية للأزياء التي تمثل صيحة الموسم.
3- إنّ مسايرة الموضة ومجارات الصرعات ليست دليلاً أو شرطاً من شروط الدخول إلى العصر أو عالم الحداثة، صحيح أن خير اللباس لباس أهل العصر، وقد تكون الأزياء العصرية مظهراً من مظاهر التمدّن، لكن المسايرة العمياء التي لا تعرف ماذا تأخذ وماذا تترك، هي مسايرة في الشكل دون المضمون، فكثيرا ما نرى شبانا وفتيات يتعاملون مع العصر بالمظاهر والأشكال فقط، فإذا كان الذين يصدّرون بضائعهم من الملابس والأحذية وقصات الشعر، أهل حضارة فلم ينصبّ اهتمامنا على اقتباس مظاهرهم فقط دون التعمّق في علمهم وإبداعهم ووسائلهم الحديثة ومؤسساتهم الثقافية.
إن تحويل الاهتمام من (المهم) إلى (الثانوي) ومن (الجوهري) إلى (الشكلي) هو واحد من مساوئ حمّى الموضة.(4/348)
4- أما تقليد المشاهير والنجوم في السينما والمسرح والطرب في أزيائهم وما يبتدعون من موضات، فهو اعتراف ضمني أنهم أهل للقدوة، وهم ليسوا كذلك، فحياتهم الخاصّة - في الغالب - حياة لا تسرّ، فكيف أقلّد - كمسلم أو مسلمة - شخصيات اقل ما يقال عنها أنّها تتصرف بشكل معاكس لأخلاقنا وديننا؟ ثم أنها عملية تقليد متعبة، فالفنان أو المطرب أو الممثل له دخله الممتاز الذي يمكنه من ارتداء عدة بدلات في حفلة واحدة، فلم هذا اللهاث وراء تقليد المظاهر؟ أليست أزياؤنا جميلة؟ أليس لدى مصممات الأزياء عندنا تشكيلات وموديلات أجمل بكثير مما لدى الغرب والغربيين؟
أليست أزياؤنا تتناسب مع أخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا وديننا؟ أليس هناك بعض الشعوب التي ما زالت تعتز بزيّها الرسمي حتى ولو سافرت أو هاجرت إلى بلاد غير بلادها، وما ذاك إلا لتصورها أن هذا تعبير عن هويتها وتراثها وفلكلورها الشعبي الذي انطبعت بطابعه .. فلم لا يكون عندنا مثل هذا الاحترام لأزيائنا؟
ثم أن بعض الموضات المستوردة مثيرة للضحك، مثيرة للقرف .. وقد لا تبدو في البلدان المصنّعة غريبة لكنها في أجوائنا الخاصّة تبدو مستهجنة وغير لائقة، ولذلك لابدّ من أن يراعي الشاب أو الفتاة مناسبة الموضة لأوضاعنا كما يراعون لون اللباس الذي يتناسب مع لون بشراتهم.
إن الانقياد وراء (حمىّ الموضة) كالسير في شارع بلا إشارات ضوئية .. هل تحسّبنا لمخاطرها ..
نعتقد في شبابنا وفتياتنا من هم أوعى من أن تنطلي عليهم اللعبة.
===============(4/349)
(4/350)
الحجاب الحريري والعلمانية
د. عائض الردادي
الصورة التي نشاهدها كثيراً من مكاء وتصدية في ملاعب الكرة إذا دخل الفريق المنافس أو إذا خسر هجمة من هجماته هذه الصورة بدت بشكل أوضح في مقاعد البرلمان التركي عندما دخلت النائبة المنتخبة من الشعب مروة قاوقجي لأداء اليمين الدستورية والسبب أنها غطت رأسها بالحجاب الحريري لا الحديدي، ولو دخلت كما تدخل السابحات على الشواطئ لعد ذلك نهضة حضارية.
وهذا المشهد الذي تحول فيه الرجال ذوو الشنبات الطويلة من هدوء إلى صريخ وضرب على الطاولات وزعيق بسبب امرأة متسترة لو لم يكن مؤكداً لاعتبر ضرباً من ضروب الخيال, لأن المخالفة في البرلمانات المتقدمة تقابل بالحوار بموجب النظام حتى في إسرائيل الدولة العنصرية عندما تجرأت نائبة بكلام تجاوز الحدود قبل سنوات على رئيس الوزراء طلب من رئيس البرلمان أن يحميه من النائبة بموجب القانون ولم يصرخ أو يتحول البرلمان إلى ما يشبه فحيح الجماهير في الملاعب ضد الفريق المنافس.
ظاهرة اخذ القشور من حضارة الغرب والبعد عن العمق للأسف هي ما أخذه العالم الثالث كما يسميه الغربيون تأدباً والعالم المتخلف كما هي الحقيقة، فهذه الصورة التي حدثت في تركيا لا توجد في الغرب إلا في حالة وجدت في فرنسا وحكمت قانونياً ولكنها كما حصلت في تركيا حدثت في إحدى الدول العربية حين منعت الطالبات المنقبات من دخول الامتحانات في إحدى الجامعات وحرمت أخريات من تسلم الشهادات في إحدى الدول الإسلامية الآسيوية بسبب الحجاب الحريري الناعم.
فهل أصبحت مروة قاوقجي بطلة دخلت التاريخ من حيث أرادت أو لم ترد أو هل ستكون أول مسمار يدق في نعش العلمانية التركية التي ليس لها من العلمانية الأوروبية إلا الاسم؟ فمروة درست في الولايات المتحدة الحاسب الآلي ولم تمنع يوماً من دخول الجامعة بسبب الحجاب لأن العلمانية هناك تعني الحرية الشخصية، ولا تتدخل في أمور سطحية كأن يطلب من المرأة السفور ومن الرجل عدم وضع الطربوش على الرأس كما هو في تركيا.
وللأسف أن يصل الأمر بمروة أن تقول: إنها ستكافح مثلما كافح زنوج أمريكا حتى نالوا حقوقهم وتحرروا وإلا ماذا سيضر إن جاءت المسلمة محتشمة بل إن هذا الوقار هو الأولى من التفسخ وكشف العورات ولكن الكماليين (الذين يسترهم رجل مات منذ سبعين عاماً وما زال يحكم من قبره) بالغوا في عداوة الإسلام وحسبك في هذا أنهم لم يدققوا كما تفعل الدول قبل الانتخابات في أوراق المرشحين حتى إذا ما فازت مروة ودخلت البرلمان بحجابها الحريري بدأ الطعن في أهليتها ومن ذلك حملها جنسية أخرى، ولو لم تغط رأسها لهان موضوع الجنسية الأخرى ولم يعامل نواب حزب اليسار مثل ذلك.
الكماليون يجدّفون ضد التيار وكل ما لحقتهم مذلة من أوروبا زادوا في الإصرار على التمسح بأعتابها من أجل استلحاقهم بالاتحاد الأوروبي ولو عادوا لانتمائهم الإسلامي لعلت رؤوسهم فوق النجوم ولكن لعل وعسى أن يستفيدوا من عبر التاريخ الحي لا الميت وعسى أن يدرك عقلاء الأتراك الأمور قبل فوات الأوان.
http://www.suhuf.net.sa المصدر :
=============(4/351)
(4/352)
أنت الحكم ادخل الآن وكن الحكم الدين ممنوع والعتب مرفوع
هل سيأتي يوم على أمتنا أن تمنع بها عبادة الله؟
الحمد لله الذي جعل لنا الأرض فراشاً والسماء بناء.
الحمد لله الذي رزقنا الأمطار والماء وأحيانا لنكون من خير أمة أخرجت للناس، والصلاة على سيدنا محمد وعلى اله أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
عندما كنت صغيراً مررت بجانب أحد المحلات التي تبيع الخضروات والفواكه وقد كتب صاحب المحل هذا العبارة ((الدين ممنوع)).
وقفت قليلاً أمام هذه العبارة وقلت في ما بيني وبين نفسي: ((كيف يريد أن يمنع الدين هذا الرجل وبأي حق..... وصرت أتذكر قول الشيخ عندما قال إن الدين لله)).
وبقيت هذه العبارة راسخة في ذهني إلى أن عرفت أنها الدين ممنوع أي أن هذا الذي كتبها لا يريد أن يبيع بالقرضة والسلفة وهذا الرجل مسلم ومتدين وملتزم أيضاً.
وفي مرة كنت أسير بها في إحدى الشوارع في المدينة وهذه المنطقة لم أكن قد آتيت إليها مسبقاً وضللت طريقي هناك وتوهمت بأحد الشوارع الفرعية أنه هو الطريق الصحيح ودخلت به وسرت في ممراته الضيقة والمتعددة وخرجت بعدها إلى مكان غريب وكأنه سوق وأي سوق هذا !!
إنه سوق ربما ممنوع دخول الرجال إليه فكل ما فيه نساء ونساء.
اعتقدت أنه ليس سوق وجاء الظن أنه إحدى دور عرض الأزياء.
نعم إنهن نساء لم أرى بكثرتهم في حياتي.
وهم من كنت أسمع عنهم لهن شعور وكأنها سنام أجمال ولم أشعر بنفسي كيف أصبحت وسط الزحام هذا ولم أعرف من أين اذهب والى أين أتجه .... وبدأت أتلفت من حولي ما هذا المكان الذي يعج بنساء سافرات ساقطات عوراتهن مكشوفة أمام الباعة وأمام من يمر من هنا وكان هناك بعض الرجال المارة من هناك وكنت أرى الأيدي الرجّالية وهي تمتد إلى النساء بلمسات ناعمة وكأن شيئاً لم يكن بل بالعكس كانت الابتسامات تملئ وجوه الجميع ولكن الرحمة قد نزعت من الوجوه وبدا فيها غضب الرحمن.
وغير ذلك من اللحوم البيضاء المكشوفة من الأيدي والصدور والأقدام ((ربما يكون هذا الشارع حمّام)) وليس شارع وليس سوقاً تجارياً كان هناك رجالاً يمسكون برقاب النساء برقة ويتحدثون بأصوات منخفضة ولكن الضحكات مرتفعة والعياذ بالله من هذا.
أين أنا الآن ومن أين سأخرج من هنا؟!
وبدأت بالسير باحثاً عن مخرجاً أهرب من شارع الزنا هذا...
وفجأة يا شباب قرأت نفس العبارة ((الدين ممنوع.... وقد أضيف عليها والعتب مرفوع والرزق على الله)).
نعم يا أخوتي الرزق على الله ولا عتب على هؤلاء ولكن العتب علينا ورأيت طرف الشارع وركضت إلى هناك وخرجت من الدوامة التي رأيت بها القوامع التي أعدت لمن هم يزنون.
خرجت من الشارع وأحسست أني قد كنت في النار ودخلت الجنة.
وأنا أتمتم في قلبي: ((اللهم إن هذا منكر وأنا لا أرضى به)).
وقفت أخيراً على طرف الرصيف وبحثت عن مقهى للإنترنت لأبحث عن طريق التوبة وأنادي..
أخي أنت الحكم أختي أنت الحكم...
http://www.twbh.com المصدر:
=============(4/353)
(4/354)
جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي 1
خالد ابو الفتوح
تُعد العلمانية (فصل الدين عن الحياة) أحد الانحرافات الكبرى التي أصابت الأمة الإسلامية؛ إذ إنها حملت في طياتها مجموعة من التشوهات والمفاسد التي مسَّت أو تغلغلت ـ بدرجات متفاوتة ـ في تصورات أفراد هذه الأمة وقيمهم، أو نشاطاتهم وعلاقاتهم، أو نُظُمهم ومؤسساتهم.
ومن المعروف في دراسة أحوال المجتمعات وتحولاتها أنه من غير الممكن الوقوف على نقطة محددة (زمنية أو فكرية) في مجتمع ما والإشارة إليها على أنها نقطة التحوُّل العمراني (الحضاري) ـ هبوطاً أو صعوداً ـ في هذا المجتمع؛ فهذه النقطة قد تكون (محطة) في منحدر الهبوط أو سُلَّم الارتقاء، ولكنها لا تكون منعزلة أو منبتَّة الصلة بغيرها من الأفكار والأحداث والشخصيات الأخرى التي تكوِّن (المحطات) الأخرى في مسيرة هذا المجتمع.
ومن هذا المنطلق فإننا لا نستطيع دراسة نشأة العلمانية في العالم الإسلامي من غير البحث في الحامل الذي جاء بها (التغريب)، ومن غير البحث في الخلفيات والعوامل الثانوية التي ساعدت على هذه النشأة، وبعد ذلك يمكننا تتبع شبكة التطورات التي انتهت إلى ما نحن فيه.
نظرة من بعيد:
يمكن القول: إن العلمانية إحدى الصور الفجة لانفصال السلطان عن القرآن الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم : «... ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان؛ فلا تفارقوا الكتاب...» (1)، وقد بدأ هذا الانفصال التدريجي بشكل خافت بعد الخلافة الراشدة إثر انفصال أهل العلم والتقوى عن أهل السلطان والغلبة؛ حيث تغيرت معايير اختيار أصحاب السلطان، وإن بقي أهل العلم يمثلون مرجعية للأمَّة وفي كثير من الأحيان لأهل السلطان أنفسهم، ولكن هذا الانفصال لم يكن في مبدأ أمره انفصالاً عن الأفكار والتصورات والعلاقات والتشريعات الإسلامية بقدر ما كان انفصالاً بين (جهاز) التفكير و (جهاز) التنفيذ، وإن قُدِّر وحدث انحراف ما في التنفيذ فإنه كان يقع في دائرة الاجتهاد الخطأ أو الهوى والمعصية، ولكن لم يتعد إلى دائرة التصورات والأفكار وتغييرها بغية إيجاد مسوِّغ وتشريع لهذا الانحراف والتعدي كما هو حادث في العلمانية، أقول ذلك على الرغم من وجود بعض الفتاوى التي كانت تصدر أحياناً من علماء السلطان لإيجاد مسوِّغ لمعاصيهم وتفلتهم من الأحكام الشرعية، ولكن المدقق يمكنه أن يرى أن هذه الفتاوى لم تكن أكثر من استخدام سيئ وبمهارة لأصول شرعية يُسلِّم المجتمع بمرجعيتها.
غير أننا لا نعدم أيضاً في بواكير (التراث الفكري الإسلامي) بعض الجذور العميقة لتصورات ومفاهيم منحرفة عن الإسلام الصحيح ساهمت إلى حد كبير في إخصاب الأرضية الفكرية التي عملت عليها العلمانية.
فمن ذلك: الأثر الذي تركته الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية على فكر بعض الفرق ـ وخاصة المعتزلة ـ؛ حيث شاع عندهم تقديم العقل على النقل عند توهم تعارضهما، حتى عدُّوا ذلك أصلاً من أصول الاستدلال، فكانوا ينكرون ما يستطيعون من الأحاديث النبوية التي تتعارض مع المعقول ـ بحسب تصورهم لهذا المعقول ـ بدعوى عدم ثبوتها أو عدم حجيتها لكونها أحاديث آحاد لا تفيد اليقين، وهذه الفكرة ـ في أحد جوانبها ـ من شأنها تضييق نطاق النصوص الشرعية وما يستنبط منها لحساب توسيع مجال عمل العقل الذي أخذ يحتل مكانة النصوص في منهجية الاستدلال.
كما أخذوا يؤولون الآيات القرآنية ـ تأويلاً أياً كان بُعْده ـ ليوافق أصولهم ومعارفهم العقلية التي عدُّوها يقينية، فكان استخدام هذا الأصل بقدر ما يُعلي من قيمة العقل البشري بقدر ما يحط من قوة الإيمان بالغيب وصفاء التسليم للشريعة.
ومن ذلك أيضاً: الأثر الذي تركه الفكر الإرجائي على تصور كثير من المسلمين لحقيقة الإيمان؛ فقد ابتدع المرجئة القول بخروج الأعمال من حقيقة الإيمان؛ وعليه: بات يُكتفى في الإيمان بتصديق وقول ـ على اختلافٍ بينهم ـ، ومن ثم: كثرت الأعمال التي لا تنسب إلى الإيمان، وهي تشمل الحياة كلها، وبتعبير آخر: اتسعت المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها العصيان والتبديل والانحراف بأمان تاركاً الإيمان قابعاً في زاوية ضيقة تسمى القول، ثم تحول هذا القول على يد المرجئة الجدد إلى مجرد ألفاظ خالية من مدلولاتها ومعانيها.
ومما زاد من أثر آراء المرجئة على حياة الأمة: اندثار المرجئة الفرقة، وبقاؤها ـ بل وانتشارها ـ أفكاراً وآراءاً.(4/355)
ثم كان للصوفية نصيب من هذا الإخصاب: إذ تعانق مع الفكر الإرجائي انحراف مفهومي (العبادة) و (القضاء والقدر) عند المتصوفة؛ حيث تحوَّل مفهوم الزهد الإيجابي الذي كان عليه السلف على يد المتصوفة إلى سلوك انسحابي أخذ شكل التفرغ (للعبادة) في مسجد أو زاوية أو خلوة أو حتى كهف، وأما من انصرف إلى معالجة شؤون الدنيا فقد كان ينظر إليه عند هؤلاء على أنه انصرف عن العبادة، وكما رأينا اضطراب العلاقة بين العقل والنقل عند المعتزلة الذي تطور لاحقاً عند (التنويريين) إلى اضطراب في العلاقة بين العلم والدين، نجد هنا ـ على يد المتصوفة ـ علاقة متنافرة غريبة بين الدين والدنيا، أو بين الآخرة والدنيا، فمن أراد الدين والآخرة فله المسجد لا شأن له بالدنيا، فلمن تترك هذه الدنيا؟!... يتصدى لها أهل الفساد والانحراف، ولا يكون ذلك مستهجناً، كما لا يكون مستغرباً أن يُنظِّموا هذه الدنيا بمنأى عن الدين الذي ترك في خلوات العبادة وحلقات الفقه، وفي قول أو شعائر يؤديها الفرد المسلم، بل يتم التسليم بذلك الانحراف على أنه قضاء وقدر.
أضف إلى ذلك: أن ما روَّجه الصوفية عن الفَرْق بين الحقيقة والشريعة كان بابًا واسعاً للانسلاخ من الشرع والتفلت من الدين تحت مظلة ادِّعاء (الولاية)، وقد كان هذا المفهوم مطية لتأويلات عديدة غير منضبطة بأصول شرعية أو لغوية أو عقلية.
ومن العوامل الفكرية التي ساهمت في إخصاب الأرضية التي قامت عليها العلمانية: الفصل الحاد بين (العبادات) و (المعاملات) الذي اقتضته (الأصول الفنية) للمنهجية العلمية التي قامت عليها الكتب الفقهية المتأخرة.
وكذلك بعض الآراء الأصولية الفقهية الشاذة أو الاستخدام السيئ لبعض الأصول والقواعد الفقهية، فلقد ناقش الفقهاء مسألة (نسخ القياس والإجماع للقرآن والسنة) وردُّوها(1)، ولكن إثارتها من بعض العلماء ـ وإن كانوا قلة ـ يدل على استعداد فكري مبكر لتطويع الشريعة.
كما ساهم في ذلك: الانحراف عن ضوابط بعض الأصول والقواعد الفقهية، مثل: الخروج بالاستحسان والمصالح المرسلة من كونها المصالح الشرعية إلى المصالح التي يرتئيها المتنفذون حسب عقولهم وأهوائهم(1)، ومثل الانحراف بنظرية العرف أو قاعدة (العادة محكَّمة) ليكون العرف والعادة هما الأصل الذي يُقدَّم على ما سواه.
ومن هذه العوامل: إغلاق باب الاجتهاد منذ أواخر القرن الرابع الهجري، هذا الإغلاق وإن كان دافعه حُسن النية حتى لا يدَّعي في دين الله من ليس أهلاً للنظر والاجتهاد، إلا أننا نلاحظ أن آثاره كانت عظيمة؛ فهو وإن كان فيه نوع من إعلاء لقدر عقول علماء السلف واجتهاداتهم، إلا أن فيه أيضاً نوعاً من الحَجْر على الكتاب والسنَّة، وتقليص المعاني والحكم المستنبطة منهما بما لا يتجاوز ما قاله هؤلاء العلماء الأجلاء، كما أن فيه أيضاً تصوراً خاطئاً عن طبيعة تطور الحياة الإنسانية؛ فمن منعوا الاجتهاد المطلق تصوروا أن من سبقهم من العلماء افترضوا وتخيلوا كل ما يمكن وقوعه من حوادث في حياة البشر ووضعوا لها الحلول والفتاوى الشرعية، وهذا وذاك أدى إلى مرضين خطيرين في الحياة الفكرية والفقهية لدى المسلمين، هما: التقليد وما يتبعه من تعصب، والجمود وما يتبعه من انغلاق وتحجر.
وفي عصر الدولة العثمانية ـ عندما تطورت الحياة أكثر ـ كانت الحاجة ملحة لإعادة فتح باب الاجتهاد، ولكن العلماء رفضوا ذلك ولم يُقدِّموا ـ في الوقت نفسه ـ الحلول البديلة أو يُبدوا الاستعداد لتهيئة من يكونون أهلاً لهذا الاجتهاد، عندها استغل رواد العلمانية الأوائل ومن يريدون الكيد بالأمة الفرصة وتقدموا هم بالبديل: التغريب والعلمانية.
حرث الأرض الهامدة:
لم يُفتح باب الاجتهاد، بل انكسر ليلج منه كل مدَّعٍ وصاحب هوى باسم (التجديد والإصلاح).
ولا شك أن مجرد وجود هذه العوامل والمؤثرات كان لا يعني حتمية نشوء العلمانية في العالم الإسلامي؛ ذلك أن في الإسلام ذاته وفي العالم الإسلامي في مجمله من القيم الأخرى الأصيلة والقوى المعادلة لهذه العوامل والمؤثرات ما يبطل ـ أو يضعف ـ أثر هذه العوامل، ولكن الحقيقة أيضاً أن هذه العوامل والمؤثرات شكلت ـ عندما انتشرت وتعاظمت ـ حالة يمكن أن نطلق عليها: (القابلية للعلمنة)، شبيهة بتلك (القابلية للخضوع) التي قصدها الشيخ عبد الحميد بن باديس، والمفكر مالك بن نبي، والتي أطلقوا عليها: القابلية للاستعمار، إضافة إلى أن هذه العوامل مثلت ثغوراً نفذ منها العلمانيون إلى البناء الفكري الإسلامي.
وعلى ذلك: فإن هذه العوامل والمؤثرات رغم وجودها في مسيرة الأمة، إلا أنها لم تكن عناصر فاعلة إلا في القرنين الأخيرين؛ ذلك لأن العوامل المساعدة المنشطة التي تحث هذه العناصر على التفاعل لم تكن متوفرة بشكل كافٍ قبل ذلك، ومن أبرز هذه العوامل المساعدة: الهزيمة النفسية لدى المسلمين، وتوجه الغرب إلى الغزو الفكري مع (أو بدلاً من) الغزو العسكري الذي ثبت إخفاقه وحده عبر حروب صليبية طويلة.
ولكن كيف أثيرت هذه العوامل؟(4/356)
يرى بعض الباحثين أن الشرارة الأولى لهذا التوجه الغربي الصليبي (الغزو بالفكر والقيم) اتقدت في ذهن لويس التاسع (1214م - 1270م/611هـ - 669هـ) ملك فرنسا وقائد آخر حملتين صليبيتين كبيرتين على العالم الإسلامي؛ فحينما هُزم في الحملة الصليبية السابعة، وأُسر بالمنصورة سنة 1250م (648هـ)(2)، أتيحت له فرصة التأمل والتدبر، فوضع مخططاً من أربعة محاور لغزو جديد (سلمي) للعالم الإسلامي(3).
وقد نشط هذا المخطط مجدداً بدءاً من عام (1082 هـ = 1671م) على يد الملك لويس الرابع عشر بواسطة وزيره الشهير (كولبير) الذي كلف بعض المعتمدين في الشرق بالبحث عن المخطوطات العربية(1). يقول الدكتور محمود المقداد: «وقد تلقن الفرنسيون هذا الدرس القاسي باشتراكهم مع الأوروبيين الآخرين في هذه الحروب، وخلاصة هذا الدرس أن (الحملات المسيحية الأولى إلى الأرض المقدسة، وإلى مصر جاءت من غير خطة مدروسة جيداً، ومن غير معرفة شيء عن أخلاق الشعوب التي ذهبوا لقتالها أو عن تسليحها)»، ثم يقول: «وهكذا حاول الفرنسيون أن يتعرفوا أخلاق العرب والشرقيين وعاداتهم وتقاليدهم وما لهم من معارف وثقافات... ولهذا اتجه الغربيون عامة والفرنسيون خاصة إلى جمع أعداد من المخطوطات... وقد جُنِّد لهذا الغرض رهبان ومبشرون وتجار وجواسيس ودبلوماسيون وسفراء في العالم العربي والإسلامي ورحَّالة وسواح ومستعربون، كُلِّفوا خصيصاً بهذا العمل»(2).
ففي أرض مصر إذن بدأ المخطط يدور في رأس لويس التاسع ملك فرنسا، وبعد أكثر من 500 عام، وعلى ثغر الإسكندرية من أرض مصر أيضاً نزل القائد الفرنسي نابليون بونابرت يُنفِّذ الحملة الفرنسية (علمانية العقل صليبية القلب) على العالم الإسلامي سنة (1213هـ/1798م).
لم تستغرق هذه الحملة عسكرياً أكثر من ثلاث سنوات، ولكنها خلفت وراءها زلزالاً كبيراً كانت أعدت له عدته، وكانت أحوال المسلمين مهيأة له؛ وأهم ملامح هذا الزلزال ما يلي:
أولاً: أنها ابتدئت بالتلبيس بادعاء تحلي نابليون وجنوده بحُلَّة الإسلام والمبادئ والأهداف السامية؛ فقد كان أول منشور لنابليون متصدراً بما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه»، وفيه أيضاً:« يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم؛ فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إنني ما قَدِمْت إليكم إلا لأخلِّص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضاً لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو (العقل) و(الفضائل) و(العلوم) فقط(!!)... أيها المشايخ والقضاة والأئمة... قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخرَّبوا كرسي البابا...»(3).
لقد كان هذا الأسلوب خطاً ثابتاً في سياسة نابليون أينما حل؛ فقد كان يحرص في مثل هذه المسائل أن يستعمل دواءً من جنس الداء!، ولما كان نابليون يُشخِّص داء الشعب المصري في تدينه؛ حيث إن «الأفكار الدينية كانت على الدوام مسيطرة على الشعب المصري في شتى العصور» ... كان دواء هذا الداء عند نابليون هو استخدام «لقاح ضد الدين»، فسياسة نابليون كانت قائمة على (ترويض) الدين لا مقاومته(4)، وهذه السياسة ذات أبعاد خطيرة، وسيكون لها أثرها الذي لا يستهان به في آلية إدخال العلمانية والتغريب إلى العالم الإسلامي.
ولكنا نشير هنا إلى الثغرة التي حاول نابليون ورجال حملته استغلالها لاختراق الفكر والشعور الإسلامي، ألا وهي الفكر الإرجائي؛ إذ يبدو أن نابليون وقواده ـ وخاصة ساعده الأيمن (فينتور دي بارادي) الذي قضى أربعين سنة يتجول في العالم الإسلامي قبل أن يلتحق بالحملة(5)ـ كانوا يدركون جيداً تأثير الفكر الإرجائي على مشاعر المسلمين ومواقفهم؛ ولذا: كانوا يستغلون رصيد انفصال القول (أو الشعارات) عن العمل بمهارة واطمئنان، وقد كانوا أيضاً ـ امتداداً لهذه السياسة ـ حريصين على إنفاذ الحج وإقامة الموالد! وإظهار البهجة بأعياد المسلمين واحترام شعائرهم.
ثانياً: بدء تنحية الشريعة وإحلال بعض التنظيمات والدواوين (مجالس الشورى) مكانها، وقد أسندوا معظم الدواوين إلى أناس غير علماء بالشريعة، بل إن بعضها كان يرأسه نصارى؛ فمن ذلك ما يحكيه الجبرتي: «شرعوا في ترتيب ديوان آخر وسمَّوْه محكمة القضايا، وكتبوا في شأن ذلك طوماراً [أي: وثيقة] وشرطوا فيه شروطاً ورتبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط، وستة أنفار من تجار (!) المسلمين، وجعلوا قاضيه الكبير ملطي القبطي... وفوضوا إليهم القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوى، وجعلوا لذلك الديوان قواعد وأركاناً من البدع السيئة...»(1)، بل وصل الأمر إلى حد مناقشة النصارى الأقباط والفرنج للمشايخ في مدى صلاحية أحكام شرعية منصوص عليها في القرآن ومقارنتها بقوانينهم (2).(4/357)
ثالثاً: التوجه إلى تهميش القوى الإسلامية المناهضة للتبعية للغرب وتنحيتها، الذي تطور بعد ذلك إلى محاربة تلك القوى، كما وضح التوجه إلى تدجين بعض المشايخ واستمالة أصحاب النفوذ والتأثير بشد وثاق متين بينهم وبين الغرب وإدخالهم في نطاق التبعية لفرنسا، ومن الحوادث ذات الدلالة على ذلك: محاولة نابليون تقليد شيخ الأزهر ـ باعتباره رئيساً للديوان ـ وشاحاً يحمل ألوان علم فرنسا ورَفْض شيخ الأزهر لذلك...(3).
ومنذ ذلك الحين يحرصون على ألا يرقى الرئاسة إلا من يضع على صدره وسام الرضى الغربي!.
رابعاً: في مقابل ذلك: ظهر التوجه الواضح إلى إبراز دور النصارى والأقليات الدينية الأخرى وإعلاء قدرهم وإشراكهم في مراكز التأثير واتخاذ القرار بصورة ملحوظة، وأحداث الحملة الفرنسية زاخرة بالدلالة على ذلك(4).
خامساً: كما أشاعوا الفجور والتحلل الأخلاقي بواسطة نسائهم وبغاياهم، وشجعوا الفسقة وضعاف النفوس من المسلمين على الخوض فيه والتبجح به، وكان واضحاً حرصهم على إخراج المرأة المسلمة من إطارها المعتاد(5).
سادساً: تدشين عهد النبش في الحضارات القديمة السابقة على الإسلام، وإثارة النعرات الوطنية وروح الفخر بهذا الماضي الوثني، مع عد المسلمين ضمن الغزاة لمصر؛ فمن ذلك قولهم في أحد المنشورات الموجهة إلى الشعب المصري: «...وإن العلوم والصنائع والقراءة والكتابة التي يعرفها الناس في الدنيا أُخذت عن أجداد أهل مصر الأُوَل، ولكون قطر مصر بهذه الصفات طمعت الأمم في تملكه، فملكه أهل بابل وملكه اليونانيون والعرب والترك الآن...»(6)، وهذا أحد أسباب بذل جهودهم المعروفة في التنقيب عن الآثار الفرعونية وإبرازها والاهتمام بها، ومن ضمن هذه الجهود تأسيس معهد الآثار الفرعونية.
سابعاً: ظهور الحملة الفرنسية بمظهر الدولة الحديثة من تنظيمات إدارية وعسكرية وعمران مدني، بل بمظهر الحرص على الرحمة والعدل بين الناس في بعض الأحيان، تلك المظاهر التي بَعُد عهد المسلمين بها في عهود تخلفهم وانحطاطهم، ففوجئوا بها تأتيهم على يد (الكفار)(7).
ثامناً: وفي مقابل ذلك: وضح استعراض الحملة لقوتها العسكرية وقدرتها العلمية؛ وذلك من خلال مظاهر البطش والتنكيل وإحراق القرى والبيوت وإذلال المسلمين الذي كان أبرز أحداثه اقتحامهم الأزهر بخيولهم وسكرهم وتغوُّطهم فيه، كما كانوا يتعمدون إظهار الفارق العلمي بينهم وبين المسلمين، وذلك بإجراء بعض التجارب الكيميائية والفيزيائية التي كان المسلمون يومها يحارون في تفسيرها(1).
تاسعاً: حاول نابليون إيجاد قاعدة دعائية له ولمبادئه العلمانية التغريبية بإرسال (بعثات) إجبارية لبعض الأشخاص؛ ليشكلوا بعد عودتهم تياراً يدعو إلى التغريب ويغير من تقاليد البلاد وعاداتها، كما عمل على غزو المسلمين اجتماعياً باستخدام (الفن) والتمثيل، وقد ذكر ذلك صراحة في رسالة بعث بها بعد رحيله من مصر إلى خليفته كليبر، يقول في ختامها: «ستظهر السفن الحربية الفرنسية بلا ريب هذا الشتاء أمام الإسكندرية أو البرلُّس أو دمياط، يجب أن تبني برجاً في البرلس.
اجتهد في جمع (500) أو (600) شخص من المماليك، حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفِّرهم إلى فرنسا، وإذا لم تجد عدداً كافياً من المماليك فاستعض عنهم برهائن من العرب أو مشايخ البلدان، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة (الفرنسية) ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولمَّا يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يضم إليه غيرهم.
كنتَ قد طلبتَ مراراً جوقة تمثيلية، وسأهتم اهتماماً خاصاً بإرسالها لك؛ لأنها ضرورية للجيش، وللبدء في تغيير تقاليد البلاد!»(2)، ولكن يبدو أن مقتل كليبر على يد سليمان الحلبي وما تلاه من أحداث حال دون تنفيذ هذا المسعى.
هذه هي أهم ملامح الحملة الفرنسية على قلب العالم الإسلامي (مصر والشام)، وقد ظلت هذه الملامح نفسها هي ملامح الحملات العلمانية (المحلية!) اللاحقة، ونلاحظ في نتائج هذه الملامح أنها ولَّدت الآثار المطلوبة لقيام العوامل المساعدة بدورها التفاعلي، فإذا كان الغزو الفكري المنظم لم يظهر بصورة كاملة، فإن الحملة حققت نجاحاً ملحوظاً في الغزو النفسي والاجتماعي للمسلمين، وهو ما أدى إلى هزيمة نفسية أمام الغرب لدى كثير من المسلمين، ومن ثم استعدادهم للتلقي عن هذا المنتصر (حضارياً)، فالحملة الفرنسية أطلقت قبل رحيلها رصاصة العلمانية والتغريب التي أصابت عقل الأمة بعد حين من هذا الرحيل، أو بعبارة أخرى: قلَّبت الأرض الهامدة وأثارتها حتى تهيأت لغرس البذور الفكرية الأولى للعلمانية والتغريب، وقد تولى من جاء بعد الحملة مهمة غرس هذه البذور ورعايتها ثم قطف ثمارها.
غرس البذور:(4/358)
لم ترحل الحملة الفرنسية عن مصر مكتفية بتقليب الأرض الاجتماعية الإسلامية الهامدة، بل خلّفت وراءها بذوراً ملقَّحة فكرياً يمكن استنباتها في هذه الأرض، ويعد الشيخ حسن العطار (1190ـ1250هـ/1776ـ 1834م) نموذجاً لهذه الشريحة من المتأثرين فكرياً بالحملة، فقد اندمج إلى حد كبير في علوم الحملة الفرنسية وكثيراً ما تغزل في أشعاره بأصدقائه منهم، كما إنه نقل عنهم علومهم، وفي الوقت نفسه تولى تعليمهم اللغة العربية، وهو الذي أطلق قولته الشهيرة: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها» (3) لذا: يعده العلمانيون المعاصرون «رائداً من رواد النهضة؛ حيث تتلمذ على يديه جيل من الرواد كرفاعة الطهطاوي، ومحمد عياد الطنطاوي»(4).
غير أن هذه البذور ما كانت لتنبت بغير رعاية لها، وهذا ما كان؛ فبعد خروج الحملة الفرنسية من مصر استطاع الجندي الألباني ـ تاجر الدخان سابقاً ـ محمد علي (1769م ـ 1849م/ 1183هـ ـ 1265هـ) الوثوب إلى رأس السلطة في مصر، وبعد أن اطمأن الحاكم الجديد إلى قوته ضرب العلماء بعضهم ببعض، وتخلص من خصومه المماليك (القوى الرجعية !) في مذبحة شهيرة سنة (1226هـ/1811م).
وبعد أن قضى على القوى المناوئة له في الداخل والقوى المهددة له في الخارج تفرد بالحكم وتفرغ (للإصلاح) و(التحديث)، وهما الاسمان اللذان استخدما مطية للعلمنة والتغريب!
ونقف هنا لنلاحظ:
\ أن تفوق أوروبا الحربي والصناعي ورغبة الشرق الإسلامي ـ وخاصة مصر وتركيا ـ في اللحاق بهذه القوة وهذا التقدم.. كان دائماً وراء انفتاح كثير من بلاد المسلمين على الغرب ونظمه، بل وقيمه ومبادئه، وهذا ما دعا الإصلاحيين إلى استقدام الخبراء والمدرسين من أوروبا وابتعاث الطلاب المسلمين إليها، ولكن هؤلاء (المصلحين) لم ينتبهوا ـ أو ربما لم يكترثوا ـ إلى أن من العبث ـ كما يقول المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي ـ: «من العبث القول بأن في وسع مجتمع إقامة جيشه على النمط الغربي، وترك جوانب حياته الأخرى تجري على ما كانت عليه... فإن الأمر لا يقتصر على جيش يقام على النمط الغربي ويدعمه العلم والصناعة والتعليم المقتبس من الغرب؛ ذلك لأن ضباط هذا الجيش أنفسهم يحصلون على أفكار لا تمت بصلة إلى مهاراتهم في فنهم، ولا سيما إذا ما ابتعثوا إلى الخارج ليحذقوا مهنتهم.
ويوضح تاريخ هذه البلاد الثلاثة [مصر وتركيا وروسيا] ظاهرة عجيبة، هي: قيام جماعات من ضباط الجيش بتزعم (ثورات تحريرية)»(1).
\ أن البذور الأخرى المعاكسة للعلمانية والتغريب بدأت تغرس أيضاً في العالم الإسلامي في هذا الوقت المبكر، وإن لم تتضح هذه الهوية أو يلتفت إليها، فقضاء الدولة العثمانية ـ عن طريق محمد علي، القوة العلمانية الصاعدة ـ على الواقع الذي انبثق من دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب لم يقض على الدعوة نفسها؛ فصحيح أن دعوة الشيخ لم تكن من القوة أو الكبر بحيث تحتوي الأمة كلها احتواءً شاملاً، أو توقف انهيار الدولة العثمانية وتعيد الصعود بمدها، أو تواجه القوة العلمانية الصاعدة وتقضي عليها، إلا أنها أيضاً لم تكن من الضعف والصغر بحيث يقضى عليها بدون أن يبقى لها أثر على العالم الإسلامي وحركته الفكرية، بل لعل في القضاء عليها سياسياً في هذا الطور أدى إلى عدم الانتباه إلى انتشار ما تدعو إليه في أنحاء كثير من العالم الإسلامي.
لقد كان الأثر المباشر الواضح لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو محاربة البدع والخرافات والأوهام والقضاء على شرك القبور والأضرحة، ولكنها أيضاً أصَّلت وجوب رد الأمر كله إلى الكتاب والسنة وهو ما يناقض فصل الدين عن الحياة الذي هو جوهر العلمانية، إضافة إلى أنها رسخت مفهوم الولاء والبراء على أساس الدين والعقيدة، وهو ما يناقض مفهوم الوطنية والقومية العلمانيين.
نعود إلى بذور العلمانية:
لم يكتف الغارسون باستيراد بذور علمانية أوروبية صرفة، بل دأبوا على تصنيع بذور هجين من العالم الإسلامي نفسه، واستخدموا في هذا التصنيع كافة أساليب الهندسة الفكرية.
فقد شرع محمد علي أيضاً في تنفيذ ما طلبه نابليون من خليفته كليبر ولم يمتد به الأجل لتنفيذه، ولكن محمد علي استطاع تنفيذه بصورة أدق وأخطر مما اقترحه نابليون نفسه، فقد انتقى بعض الشباب المختارين بعناية ثم أرسلهم في بعثات إلى أوروبا وخاصة فرنسا؛ ليكونوا في باريس تحت إشراف أحد أعضاء المعهد العلمي الذي أسسه نابليون في مصر من قبل، ويدعى: جومار.(4/359)
وعندما فتح محمد علي ودعاة النهضة المدارس والمعاهد وأرسلت البعوث إلى أوروبا بهدف اللحاق بنهضتها.. كان بدهياً أن تُمَد هذه المدارس «بالأساتذة الأوروبيين أو بالمتعلمين في أوروبا، ورغبوا بطبيعة الحال في أن يدرِّبوا أساتذة من عندهم، وبهذا أوسعوا المجال للمؤثرات التي كانوا يرجون تجنبها وزادوا في قوتها، فليس هناك طالب ذكي يقضي ثلاث أو أربع سنين في عاصمة أوروبية مختلطاً بأهلها كل يوم وقارئاً ما يكتبون خيره وشره من غير أن يشرب في نفسه شيئاً أكثر من قشور المدنية الغربية، ثم عاد الطلبة أفراداً وبعوثاً، لا بدراسات فنية بحسب، ولكن بجراثيم الأفكار السياسية، بل بجراثيم العادات الاجتماعية أحياناً، مما كان متضارباً مع تقاليدهم الموروثة، وقد كان الأثر في مجموعه ضعيفاً في الجيل الأول، ولكنه تضاعف في الجيل الثاني، وظل يتضاعف باطراد»(1).
كان من أبرز المتأثرين في هذه البعثات والمؤثرين في غيرهم: الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي ذهب إلى باريس ـ بترشيح من أستاذه الشيخ حسن العطار ـ سنة (1241هـ/1826م) مع بعثة كبرى ليقيم الصلاة في أعضائها، فكان سبَّاقاً إلى قراءة كتب آباء الثورة الفرنسية! كجان روسو ودومونتسكيو وفولتير، كما نهل من كبار المستشرقين الفرنسيين وعاين الحياة الفرنسية (بحلوها ومرها).
وبعد رجوعه إلى مصر أثَّر الطهطاوي في الحركة الفكرية لدى قطاعات كثيرة من مثقفي الشعب المصري، بل نستطيع القول: إن القسم الأكبر من المصريين الذين دخلوا المدارس الحديثة بين عامي (1831م و1880م) (1246هـ ـ 1297هـ) هم من تلاميذ رفاعة المباشرين أو غير المباشرين عن طريق من تخرجوا على يديه، هذا إذا لم نأخذ في حسابنا قراءه خارج هذه الحلقة، ولا شك أنهم كانوا كثيرين(2).
وإضافة إلى كونه أول الداعين إلى (تحرير المرأة) وإلى استعمال العامية لغة للكتابة والتصنيف، ساهم الطهطاوي في تحبيذ بزوغ وعي وطني مصري بمفهوم تغريبي، فـ «كان هو الأول في تمييز (الوطن) عن (الأمة الإسلامية)... وها هو كل شيء يبدو في صورة جديدة: لقد بدَّد ابن طهطا ظلمات القرون الوسطى التي غمرت الجماعة الإسلامية واستعاد جذوره الفرعونية... »(3).
وهكذا لم يرحل الطهطاوي عن الدنيا عام 1873م (1290هـ) إلا وقد ترك مصر واقعة في شَرَك العلمانية والتغريب:
ففي مجال التعليم: عمل محمد علي على (إصلاح) التعليم بما يخدم أهدافه (الإصلاحية) والتوسعية، فنحَّى الأزهر جانباً، وشرع في تأسيس المدارس النظامية والمعاهد المتخصصة التي يقوم عليها أوروبيون.
وفي مقابل تهميش الثقافة الإسلامية وتنحية الأزهر عن مكانته في قيادة العملية التعليمية والجور على أوقافه التي كانت تكفل له الكفاية والاستقلال المادي، وفي موازاة لعمل البعثات التعليمية الخارجية.. توسع التعليم الذي أسسه محمد علي، وانتشرت مدارسه ـ وخاصة في عهد الخديوي إسماعيل ـ.
وفي الوقت نفسه: فتح المجال لمدارس الأقباط ومدارس الإرساليات (التبشيرية)، بل كانت بعض هذه المدارس تتلقى الدعم المادي من الخديوي نفسه أحياناً(4)، «وعلى الرغم من أن فرنسا كانت تسودها روح الإلحاد فإنها شجعت رجال الدين الذين ينشرون الثقافة الفرنسية في الخارج، وأرسلت البعثات (العلمانية) إلى مصر، فأسست عدداً من المدارس»(5)، فكان الهدف الظاهر لهذه البعثات نَشْر الدين الكاثوليكي، ولكنها عملت على خدمة الاستعمار الفرنسي والتمكين لنفوذ فرنسا الفكري والأدبي في مصر(6) هذا في مجال التعليم.
أما في مجال القضاء والتشريع: فـ «مع بناء الدولة الحديثة في مصر، سعى محمد علي لتقليص نفوذ القضاء الشرعي، حتى يحقق هدفه في التحديث، عن طريق استيراد المدنية الغربية والتقرب للقوانين الأوروبية من ناحية، والعمل على تخفيف سيطرة الدولة العثمانية التي ارتبط بها القضاء الشرعي من ناحية أخرى»(1).
تركيا (2):
في هذه المرحلة الزمنية نفسها (1830ـ 1881م) خرج من سلطان الدولة العثمانية بعض البلدان؛ مما عمق إحساس الدولة العثمانية بالانكسار والهزيمة، ودفعها إلى إجراء مزيد من (الإصلاحات)في الجيش ونظم الحكم، ولكن الدولة كانت تهوي في الحقيقة إلى هاوية التبعية والتغريب بتشجيع الغرب؛ فقد زود السفير الإنجليزي (ستراتفورد كاننج) بتعليمات من وزير خارجيته اللورد (إبردين) خلال سفارته الثانية لدى الباب العالي عام 1842م (1258 هـ) لتأييد الإصلاحات الحكيمة التي درست دراسة جيدة «مما يوفر لحكومة السلطان الاستقرار والثبات اللازمين لها»(3)، وهذا السفير نفسه كان يعتقد أن «الإمبراطورية التركية تحث الخطا نحو تفككها بصورة واضحة، والفرصة الوحيدة التي تمكنها من البقاء متماسكة لأي فترة زمنية أطول يتيحها لها تقربها من حضارة العالم المسيحي»(4).(4/360)
وفي هذا الإطار وبذريعة (الإصلاح) صدرت (التنظيمات)، «وقد استندت حركة (التنظيمات) إلى مرسومين سلطانيين صدرا خلال عهد السلطان عبد المجيد.. أولهما في عام 1839م (خط شريف همايوني)، المشهور بـ (منشور كُلْخانة) الذي وضعه [الصدر الأعظم ] مصطفى رشيد باشا تلميذ المستشرق [الفرنسي] سلفستر دي ساس، ووزير الخارجية [محمد أمين عالي باشا ] في مطلع عهد عبد المجيد.
وقد كفلت [هذه] (التنظيمات) مساواة المسلمين والذميين من الرعايا العثمانيين أمام القانون، مقابل الحفاظ على كيان الدولة العثمانية بعد أن هددها محمد علي [في الفترة] (1839 ـ 1841م) بموجب معاهدة لندن.
وثانيهما في عام 1856م (خط شريف همايوني) الذي عرف بـ (منشور التنظيمات الخيرية)، وقد صدر عقب حرب القرم (1854-1856م).. فكان ثمن هذه الهزيمة أيضاً منشور التنظيمات الخيرية الذي أكد ـ كسابقه ـ المساواة في ذلك بالضرائب (إلغاء الجزية) وتمثيل الطوائف غير الإسلامية بمجالس محلية وفي مجلس القضاء الأعلى»(5).
وقد كان وراء هذه التنظيمات رشيد باشا الصدر الأعظم للسلطان الشاب عبد المجيد، أكبر شخصية ماسونية في وقته، ومن ثم: احتضن الماسونيين العثمانيين، ووجه أجهزة الدولة نحو التمسك بتمثل أوروبا والبعد عن التوجه الإسلامي.
وفي عام (1282هـ/1865م) وفي ظل الحماية التي وفَّرها مدحت باشا (تلميذ رشيد باشا) للتيار التغريبي قامت مجموعة صغيرة (6 أفراد) من العناصر العثمانية ذوي الميول الليبرالية بعقد اجتماع سري اتفق فيه على تأسيس (جمعية شباب العثمانيين)(6) على غرار جمعية إيطالية أقرب إلى الماسونية العسكرية، هي جمعية الكاربوناري (إيطاليا الفتاة)، وقد أطلق الأوروبيون على (جمعية شباب العثمانيين) اسم: (تركيا الفتاة)، وكان من أبرز أعضائها: الشاعر نامق كمال، وضياء باشا، وآية الله بك، وإبراهيم شناسي، وقد اصطبغ نشاطها في البداية بالصبغة الأدبية الثقافية، باعتبارها حركة تهدف إلى الدعوة لإصلاح الدولة العثمانية من منظور غربي علماني، وتجلت أهدافها في أربعة مبادئ: الحرية الفردية، وقيام النظام الدستوري، والقضاء على الإقطاع، والتحرر من السيطرة الأجنبية.
وقد تلاقت أفكار هذه الجمعية مع أفكار دعاة (الإصلاح) المتنفذين في الحكم ـ وعلى رأسهم مدحت باشا ـ فكوَّنوا تياراً قوياً يرى أن الإصلاح الذي يجب أن يسود الدولة العثمانية هو الحكم الديموقراطي على نمط الحكم في إنجلترا وفرنسا، ومظهر هذا الحكم هو الدستور وإنشاء المجالس النيابية، واستطاع هذا التيار التحكم في السلطان عبد العزيز ودفعه إلى هذا السبيل، فتابع (الإصلاحات) السابقة.
بلاد الشام (1):
أما في الشام ـ التي كانت خاضعة آنذاك للدولة العثمانية ـ فقد نشطت الإرساليات التنصيرية الأجنبية فيها، ومدت جسوراً من التواصل والتعاون مع نصارى المنطقة منذ حُكم إبراهيم باشا بن محمد علي أثناء احتلاله للشام. وبعد عهد التنظيمات في الدولة العثمانية بدأ التغلغل الصليبي يزداد في الشام مستفيداً من الامتيازات والتسهيلات الجديدة، ومستغلاً إمكاناته المالية والبشرية الهائلة وغطاء حماية الدول الأوروبية؛ حيث كانت كل من هذه الدول تدَّعي حماية الأقلية النصرانية التابعة لمذهبها (فرنسا للكاثوليك، وروسيا للأرثوذكس، وأمريكا وإنجلترا للبروتستانت)، وتنفذ من خلال ذلك مخططاتها التغريبية والاستعمارية التي كان هدفها العلمانية والتغريب ووسيلتها الثقافة والتعليم.
ففي عام (1263هـ/1847م) تشكلت تحت رعاية الإرساليات (التبشيرية) الأمريكية (جمعية العلوم والفنون)، ومن مؤسسيها بطرس البستاني وناصيف اليازجي ـ وكانا ماسونيين على صلة بهذه الإرساليات الأمريكية ـ وضمت أيضاً بعض (المبشرين) الأمريكيين من هذه الإرسالية، مثل: فان دايك، وإيلي سميث، وكان هدفها: نشر العلوم الغربية والدعاية لدول أوروبا! ولكن لم ينضم إلى هذه الجمعية خلال عامين سوى خمسين عضواً كلهم من نصارى الشام، وتعد هذه الجمعية البذرة الأولى للقومية العربية العلمانية.
وفي عام (1273هـ/1857م) ـ وهي السنة التالية لصدور منشور التنظيمات الخيرية العثماني الذي ساوى بين أصحاب جميع الديانات في الولايات العثمانية ـ حدث تطور مهم على النشاط التغريبي العلماني في الشام؛ فعلى إثر حل الجمعية السابقة ـ مع صنوتها الكاثولكية (الجمعية الشرقية) ـ تكونت بدلاً منهما جمعية أكبر باسم: (الجمعية العلمية السورية)، كانت غاياتها ووسائلها وقانونها وأنظمتها كلها على غرار جمعية العلوم والفنون أيضاً، ولكنها ضمت لأول مرة بين أعضائها الخمسين والمئة: دروزاً، ومسلمين، إضافة إلى النصارى من جميع الطوائف، كان يجمعهم اهتمامهم بتقدم البلاد على أساس (الوحدة الوطنية)، كما أن جميع أعضائها كانوا من العرب، ولذا: أصبح الرباط الذي يؤلف بينهم هو اعتزازهم بالتراث العربي.
ولم تأت سنة (1275هـ/1858م) إلا وكانت الإرسالية الأمريكية قد افتتحت أكثرمن ثلاثين مدرسة ودار طباعة تنشر مبادئها وثقافتها من خلالها.(4/361)
وفي عام (1276هـ/1860م) حدثت فتنة كبرى بين الموارنة والدروز أَوقَفت ـ إلى حين ـ تصاعد المد القومي وحفزت في الوقت نفسه جهود الداعين إليه، وبعد هذه الفتنة أصدر بطرس البستاني صحيفة سياسية أسبوعية باسم (نفير سوريا)، « ودعا فيها إلى الاتحاد والتعاون بين أبناء الطوائف المختلفة، وإلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، وإحلال الشعور القومي العربي مكان التعصب الطائفي»(2).
وفي عام (1281هـ/1862م) حدث تطور آخر مهم؛ إذ افتتحت (الكلية السورية الإنجيلية) في بيروت، التي عرفت فيما بعد باسم: (الجامعة الأمريكية) لتكون بديلاً محلياً عن البعثات الخارجية التي كانت لا تؤتي الثمار المطلوبة، ولتلعب دوراً كبيراً في مجريات الأحداث فيما بعد، حيث كانت معقلاً من معاقل الحركة القومية العلمانية وموئلاً ضم الداعين إلى العلمانية والتغريب في الشام.
وفي سنة 1863م (1282 هـ) أنشأ بطرس البستاني (المدرسة الوطنية) على أساس وطني لا ديني.
ثم في سنة (1285هـ/1868م) نالت الجمعية العلمية السورية اعتراف الحكومة بها، وفسحت المجال للاشتراك فيها حتى ضمت أعضاءً كثيرين بارزين من الذين كانوا يقطنون خارج البلاد، وخاصة في إستانبول والقاهرة، وتحسنت الصلات بين بعض الساسة من أوروبا وأعضاء فيها، وفي هذه الجمعية ظهر أول صوت يدعو بوضوح وصراحة لحركة القومية العربية، وذلك عندما ألقى إبراهيم بن ناصيف اليازجي على ثمانية من أعضائها قصيدة اتخذت صورة النشيد الوطني، وَرَد فيها تحريض للعرب على الثورة على الترك، وفخر بأمجاد العرب وأدبهم، وقد ذاعت هذه القصيدة ذيوعاً واسعاً.
وفي سنة 1870م (1287هـ) أصدر بطرس البستاني صحيفة (الجنان)ـ وهي صحيفة سياسية أدبية ـ دعا فيها إلى أن ازدهار الشرق يقوم على «الحكم الصالح الذي لا يمكن أن يقوم إلا بفضل اشتراك الجميع فيه، وفصل الدين عن السياسة، وقبل كل شيء: إقامة العدل والاتحاد بين أبناء الأديان المختلفة، وتقوية الشعور الوطني الموحد بين جميع المواطنين العثمانيين»(1)، وقد جعل شعار صحيفته: (حب الوطن من الإيمان)، وهو شعار لم يكن يعرفه العالم العربي حتى ذلك الزمن، وهكذا بات الطريق مفتوحاً أمام الجيل الأول من دعاة الوطنية الذين ينادون صراحة بأن الولاء الديني لا يصلح أساساً للحياة السياسية.
وفي سنة 1875م (1292هـ) أسَّس خمسة شبان تلقوا العلم في الكلية السورية الإنجيلية في بيروت ـ وهم جميعاً نصارى من مريدي اليازجي والبستاني، ومن أبرزهم: إبراهيم اليازجي والدكتور فارس نمر(2) ـ أسَّسوا جمعية سرية قامت على أساس قومي هي (جمعية بيروت)»، وهي تعد أول حزب سياسي في هذه البلاد، فعادت العثمانيين وسمَّت دولتهم باسم تركيا، وكان من أهم مبادئها: فصل الدين عن الدولة واعتبار الجنس العربي هو الأساس، والغريب من تلك الجمعية اتهامها الدولة العثمانية باغتصاب الخلافة الإسلامية من العرب والتفريط في الدين، مع العلم أن أعضاءها المؤسسين ليسوا بمسلمين كما ذكر سابقاً، و أن من انضم إليها لاحقاً كان قومياً علمانياً، بل إن كاهناً كاثوليكياً كان يدعو في جريدته (النحلة) في الفترة نفسها إلى «الإصلاح الديني [الإسلامي] بلهجة العربي القومي، وهاجم عبد الحميد واصفاً إياه (بمغتصب لقب الخليفة)»(3).
وإضافة إلى الاهتمام بالتعليم وتكوين الجمعيات السرية والعلنية، نشط نصارى الشام في نشر أفكارهم المتمثلة في العلمانية والقومية العربية عن طريق إصدار الصحف والمجلات التي كانت الوسيلة الإعلامية العامة الوحيدة آنذاك.
ولكن لم يكن النصارى وحدهم الدعاة إلى هذه الأفكار الجديدة في الشام، بل كان هناك بعض (علماء المسلمين) الذين تأثروا بهذه الدعوة، وعلى رأس هؤلاء برز في هذه المرحلة: عبد الرحمن الكواكبي (1265ـ1320هـ/1848 ـ1902م) الذي أخذ على عاتقه الدعوة إلى (الوحدة الوطنية) وفصل الدين عن الدولة، فكان ـ كما يقول حفيده سعد زغلول الكواكبي عنه ـ:«أول رائد لفلسفة العلمانية مجاهراً بها بين المسلمين»(4).
الجزائر (5):
يعد الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة (1246هـ/1830م)، نقطة تحول كبرى في تاريخ المنطقة، وقد كان لهذا الاحتلال عوامل دينية وعمرانية (حضارية) لا تخفى، عبَّر عن هذا بورمون قائد الحملة على الجزائر عندما أقام صلاة الشكر احتفالاً بالنصر، وبعث للملك الفرنسي وصفاً لهذا الاحتفال قال في نهايته: «مولاي! لقد فتحت بهذا العمل باباً للمسيحية على شاطئ إفريقيا، ورجاؤنا أن يكون هذا العمل بداية لازدهار الحضارة التي اندثرت في تلك البلاد»، ولم يُخف المؤرخون المحدثون هذه الحقيقة، فوصف إدوارد يور المؤرخ الفرنسي المعروف حادث الاستيلاء على الجزائر بأنه: «كان أول إسفين دُقَّ في ظهر الإسلام»(1).
وفي هذه الفترة المبكرة وبعد أن استقرت أقدامهم عمل الاحتلال الفرنسي على مصادرة الأوقاف وإغلاق مراكز التعليم بالمساجد والكتاتيب، وإذا ما سمحوا بالتعليم ورخصوا بالكتاتيب ـ على قلة ذلك ـ «فمن شروط الترخيص ألا يُدرَّس تفسير القرآن، أو تاريخ الجزائر... »(2).(4/362)
وفي القضاء انتزع الفرنسيون تدريجياً اختصاصات المحاكم الشرعية وحولوها إلى محاكمهم المدنية.
كما عمل (جنرالات الجيش الفرنسي) وسياسيوه بالتعاون مع (رجال الدين المسيحي) على استنبات بذور تغريبية جزائرية النسب وفرنسية الولاء، فاستمالوا في هذه المرحلة المبكرة بعض مشايخ الطرق الصوفية ورجال الزوايا والأعيان وأشباه الفقهاء ممن أنابهم الاحتلال عنه، فشرع الاحتلال ينظم لهم الرحلات إلى فرنسا، وربما أقدم على تسريب الفتيات الفرنسيات زوجات لبعضهم مؤثِّرات وجاسوسات، فتحولت بعض هذه الزوايا وأصحابها إلى بؤر لترويج التغريب وتشويه الدين ومسالمة الاستعمار معتبرة إياه (قضاءً وقدراً)؛ حيث أفتى بعضهم بقبول الاحتلال كقدر.
أما من جهة المقاومة: فقد بايعت بعض القبائل عام 1832م (1248هـ) الأمير عبد القادر على الأساس الديني (للجهاد ضد الكفار) فاتخذ لقب أمير المؤمنين ودعا القبائل لطاعته بدافع الدين، وأطلق على الأراضي المحتلة اسم (دار الكفر) وعلى البلاد التابعة له (دار الإسلام).
ولكن في الوقت نفسه استعان عبد القادر بالأوروبيين من مختلف الجنسيات لتدريب الجيش ولإقامة مصانع للذخيرة، وقرّب بعضهم، وقد اشتهر من بين هؤلاء المستشرق الفرنسي (!) ليون روش الذي اتخذه الأمير مستشاراً له بعد أن اعتنق الإسلام، فأقام عنده نحو أربع سنوات، وعندما انقطع الصلح بين الأمير وجيش الاحتلال سنة 1839م (1255هـ) رفض روش اتِّباع الأمير في استئناف القتال، واعترف له بأنه تظاهر باعتناق الإسلام، ومع ذلك فقد أخلى سبيله، ثم تبين بعد ذلك أنه كان جاسوساً.
ويقدم لنا الأمير عبد القادر الجزائري نموذجاً واضحاً لأثر العوامل المساعدة التي ذكرناها سابقاً (كالهزيمة النفسية وانحراف مفهوم القضاء والقدر، إضافة إلى البعثات والرحلات المنظمة والمقصودة) في التحول نحو القبول والميل تجاه التغريب والعلمنة، فهذا الأمير الذي قضى من عمره خمسة عشر عاماً في (جهاد الكفار) حدث له تحول كبير بعد ذلك؛ فبعد هزيمته العسكرية في آخر سنة 1847م (1263هـ) التي أعقبها إيقافه للقتال ثم غدر الفرنسيين به وأسره وترحيله إلى فرنسا.. أطلقه نابليون الثالث من الأسر «وأمر بنقله إلى (بروسة) من أملاك الدولة العثمانية، وأثناء مروره بباريس قدم تعهداً كتابياً بألا يفعل شيئاً ضد فرنسا.
ومنذ ذلك الوقت أصبح يسوده شعور بالعرفان بالجميل نحو نابليون ونحو فرنسا بصفة عامة! حتى إنه طلب الاشتراك في الاقتراع على الإمبراطورية في نوفمبر 1852م [1269هـ] (لأن الأخوَّة تجعلنا مواطنين فرنسيين!).. كذلك ساد الأمير شعور بالتفاوت الحضاري وتفوق قوة فرنسا المادية، وأصبح مقتنعاً (بأن الله هو الذي أراد هزيمة المسلمين لأنهم انحرفوا عن دينهم، وعليهم أن يقبلوا بالمصير الذي انتهوا إليه).. بل إنه أظهر في مناسبات كثيرة تعاونه مع فرنسا، كما اشتهر بإنقاذه للمسيحيين في أحداث سنة (1276هـ/1860م) بدمشق»(3)، ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن الأمير عبد القادر كان راسخ القدم في التصوف(4)، كما أنه شايع الماسونية بعد انتقاله إلى سورية(5).
(ü) هذه المقالات مقتطفات مختصرة من كتاب يُعِدُّه الأخ الكاتب عن تاريخ العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي، وقد آثر - جزاه الله خيراً - مجلة البيان بنشر هذه المقالات قبل نشره للكتاب. ـ ^ ـ
(1) جزء من حديث أخرجه الطبراني في الكبير (20/90) والصغير (1/264)، وذكره ابن حجر في المطالب العالية (4348).
(1) انظر على سبيل المثال: إرشاد الفحول للشوكاني، ج 1، ص 329، المسودة لآل تيمية، ج 1، ص 202، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ج 4، ص 517، الإحكام للآمدي، ج 3، ص 9، أصول السرخسي، ج 2، ص 66، المستصفى للغزالي، ج 1، ص 262، شرح مختصر الروضة لنجم الدين الطوفي، ج3، ص 748 .
(1) انظر ـ في التحذير من ذلك ـ على سبيل المثال: كلام الإمام الشافعي في (الرسالة) مع تعليق أحمد شاكر، ص 110، 505.
(2) مات بالطاعون في تونس أثناء حملته الثامنة سنة (669هـ/1270م).
(3) انظر: العلمانية، للدكتور سفر بن عبد الرحمن، ص 536، وفي الغزو الفكري، د. أحمد عبد الرحيم السايح، ص 47.
(1) انظر: تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، د. محمود المقداد، ص 58.
(2) السابق، ص 56 ـ 57.
(3) تاريخ الجبرتي، أحداث شهر محرم سنة 1213هـ.
(4) انظر: بونابرت في مصر، لكرستوفر هيرولد، ترجمة: فؤاد أندراوس، ص 251.
(5) انظر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص 124، ومصر: ولع فرنسي، لروبير سوليه ص 37.
(1) تاريخ الجبرتي، أحداث شهر ربيع الآخر.
(2) انظر مناقشتهم لأحكام الميراث في تاريخ الجبرتي، أحداث شهر جمادى الأولى من سنة 1213هـ.
(3) انظر: تاريخ الجبرتي، أحداث شهر ربيع الأول سنة 1213هـ.
(4) على سبيل المثال: يمكن مراجعة الصفحات رقم: 15،20، 28، 29، 36، 61، 82، 105، 106، 231، 264... من الجزء الثالث من تاريخ الجبرتي، طبعة الأنوار المحمدية، القاهرة.
(5) انظر على سبيل المثال: ص55، 60، 71، 98، 110، 230، 231، 272... من المصدر السابق.(4/363)
(6) السابق، أحداث شهر ربيع الثاني، 1213هـ.
(7) انظر: ص20، 31، 32، 25، 45-48، 56، 58، 72، 162، 190،... من المصدر السابق ذكره.
(1) انظر مثلاً: ص 11، 12، 34،48، 52، 79، 80، 112، 127، 137، من المصدر السابق، وانظر أيضاً: مصر: ولع فرنسي، ص 38 ـ 39.
(2) نقل الرسالة الشيخ محمود محمد شاكر، في (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، ص 108، عن كتاب أحمد حافظ عوض: (فتح مصر الحديث)، وقد ذكر أن أصل هذه الرسالة محفوظ في وزارة الحربية الفرنسية، وثيقة رقم 4374.
(3) انظر: في الفكر المصري الحديث، د. عزت قرني، ص 164.
(4) تقرير الحالة الدينية في مصر، الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، سنة 1995م، ص 32.
(1) مختصر دراسة للتاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، ج 3، ص415 ـ 416، وهو يشير إلى الثورة العرابية في مصر، والثورة البلشفية في روسيا، والانقلاب الأتاتوركي في تركيا.
(1) وجهة الإسلام، هاملتون جب، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، ص 34 ـ 35 ، وانظر: ص 37.
(2) انظر: العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، د. عزت قرني، ص 59، 106.
(3) مصر: ولع فرنسي، روبير سوليه، ص 80، وانظر: الرحالون العرب وحضارة الغرب، د. نازك سابا يارد، ص 52.
(4) انظر: في الأدب الحديث، عمر الدسوقي، جـ 1، ص 72.
(5) انظر: المصدر السابق، جـ 2، ص 10. (6) انظر: السابق.
(1) د. لطيفة محمد سالم، مصدر سابق، ص 128.
(2) انظر: العثمانيون من قيام الدولة إلى الأنقلاب على الخلافة، د. محمد سهيل طقوش، ص 527 ـ 528، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، د. إسماعيل أحمد ياغي، ، ص 172 ـ 175، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، د. زكريا سليمان بيومي، ص 170، 213، 216، محاضرات في نشوء الفكرة القومية، ساطع الحصري، ص 92 ـ 95، د. محمد حرب، مصدر سابق، ص 431، الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني، ص 78.
(3) الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب، د. سيد رجب حراز، ص 21، نقلاً عن: صحوة الرجل المريض، ص 73.
(4) العلماء العثمانيون والتغريب في زمن سليم الثالث ومحمود الثاني، أورييل هيد، بحث ضمن كتاب (الشرق الأوسط الحديث)، إشراف: ألبرت حوراني وآخرين، ترجمة: د. أسعد صقر، ج 1، ص 47.
(5) بتصرف عن: صحوة الرجل المريض، د. موفق بني المرجة، ص 71.
(6) أو (العثمانيين الشبان)، ويذكر بعض الباحثين أن جذورها تعود إلى عام (1860 م)، انظر: د. محمد سهيل طقوش، مصدر سابق، ص 431، ود. زكريا سليمان بيومي، مصدر سابق، ص 210.
(1) انظر: يقظة العرب، لجورج أنطونيوس، ترجمة: الدكتور ناصر الدين الأسد، والدكتور إحسان عباس، ص 97 - 126، والفكر العربي في عصر النهضة، لألبرت حوراني، ترجمة كريم عزقول، ص 104- 111، 276- 283، والدولة العثمانية وعلاقاتها الخارجية، د. علي حسون، ص 142- 149، والتاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر، جـ 8، ص 183.
(2) الصراع بين التيارين الديني والعلماني في الفكر العربي الحديث والمعاصر ، د. محمد كامل ضاهر، ص 99.
(1) الفكر العربي في عصر النهضة، ص 270، وانظر: ص 110، 251، 280.
(2) هاجر إلى مصر سنة 1883 م (1300 هـ)، وكان أحد مؤسسي مجلة (المقتطف) وجريدة (المقطم) المواليتين للإنجليز.
(3) الفكر العربي في عصر النهضة، ص 276. (4) الإمام الكواكبي ـ فصل الدين عن الدولة، لجان داية، ص10.
(5) انظر: المغرب العربي ـ دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصرة، للدكتور صلاح العقاد، والإسلام والاستعمار، وعقيدة الجهاد في التاريخ الحديث، لرودلف بيترز، ص 73 ـ 83، وعبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، لمصطفى محمد حميداتو، ص 45 - 51.
(1) المغرب العربي ـ دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصرة، للدكتور صلاح العقاد، ص 79.
(2) الاستبداد والاستعمار وطرق مواجهتهما عند الكواكبي والإبراهيمي، د. أسعد السحمراني، ص 41.
(3) د. صلاح العقاد، مصدر سابق، ص 122.
(4) انظر: تعليقات الأمير شكيب أرسلان على كتاب حاضر العالم الإسلامي، جـ 2، ص 172 - 173.
(5) انظر: د. زكريا سليمان بيومي، مصدر سابق، ص 170، 219، وصحوة الرجل المريض، ص 340، وانظر الإشارة إلى نفي هذه التهمة عنه في مقال حفيدته الأميرة بديعة الحسني الجزائري، بجريدة الحياة اللندنية، ع/ 13275، تاريخ 30/3/1420هـ - 13/7/1999م.
مجلة البيان رقم العدد : 159 , رقم الصفحة : 159
==============(4/364)
(4/365)
جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي(2)
خالد ابو الفتوح
أشار الكاتب في الحلقة السابقة إلى أن العلمانية هي أحد الانحرافات التي أصابت الأمة الإسلامية، ورأى أنها إحدى الصور الفجة لانفصال السلطان عن القرآن، كما أومأ إلى أن بعض الباحثين يرى أن الشرارة الأولى للغزو الصليبي بالفكر والقيم اتقدت في ذهن لويس التاسع عشر بعد هزيمته وأسره في مدينة المنصورة عام 1250م، ثم طوّف بنا الكاتب في أنحاء شتى من عالمنا الإسلامي ليرصد حركة التغريب، وها هو اليوم يشد بنا الرحال إلى بقاع أخرى لنشهد بعضاً مما أصاب الأمة من أوضار بسبب حركة العلمنة والتغريب. - ^ -
أما في تونس (1):
فلم يكن الحال أقل سوءاً؛ فبعد زيارة إلى أوروبا سنة 1846م (1262هـ)، واستقبال حافل في باريس بدأت سياسة التعاون بين أحمد باي(2)وفرنسا، فسمح لهم بإنشاء كاتدرائية في مواجهة مدينة تونس (في المكان الذي قيل إن لويس التاسع مات فيه أثناء الحروب الصليبية)، وعهد إليهم بإنشاء المدارس وتدريب الجيش.
ورغم عدم وقوع تونس تحت الاحتلال الأجنبي رسمياً إلا أن النفوذ الأجنبي فيها كان كبيراً، كما كان هناك تأثر بحركة التنظيمات التي شهدتها الدولة العثمانية ـ وكانت تونس تابعة لها ـ، ومن ثم: كان طبيعياً أن تشهد تونس أيضاً حركة (إصلاحات) على النسق الأوروبي.
ففي عام 1275هـ (1857م) أصدر باي تونس (محمد باشا) ـ استجابة لرغبة القناصل الأوروبيين ـ القانون الأساسي لتونس، وهو شبه دستور عرف باسم عهد الأمان، وقد صيغ على نمط خط كلخانة العثماني، حيث بناه على قواعد ثلاث: الحرية، والأمان التام، والمساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين أمام القانون.
وفي عهد الباي محمد الصادق باشا وبفضل جهود الوزير خير الدين باشا (التونسي) تم تعديل عهد الأمان، فصدر أول دستور في العالم الإسلامي على الإطلاق سنة 1861م (1277هـ)، وبحسب هذا الدستور يتولى الباي السلطة التنفيذية ويعاونه وزراء يقوم هو باختيارهم، وهو الذي يقوم أيضاً بإصدار (التشريعات) بمعاونة مجلس تشريعي مكون من (60) عضواً يقوم الباي بتعيينهم من التونسيين والجالية الأجنبية، وقد نصت المواد الثلاثة الأولى من الدستور على المساواة أمام القانون والإدارة والضرائب دون تمييز بين الأجناس والأديان، كما خصصت المواد (9، 10، 11) لتأكيد حقوق الأجانب، ثم بدأ العمل في إصدار قانون مدني وآخر جنائي بعد صدور هذا الدستور، وكان خير الدين «هو العقل المنظم لهذه الحركة ومن له النصيب الأكبر في وضع القوانين لمجلس شورى
منتخب»(1)، فقد كان هو الرئيس الفعلي للمجلس التشريعي بجانب توليه لوزارة الحربية.
وفي عام (1284هـ/1867م) نشر خير الدين كتابه: (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، شرح فيه آراءه في الإصلاح والتجديد التي جاءت متأثرة بمشاهداته أثناء رحلته إلى فرنسا (1853م ـ 1857م/ 1269هـ ـ 1273هـ )، حيث يقول في مذكراته: «إن إقامتي الطويلة في فرنسا ورحلاتي العديدة مكنتني من دراسة أسس المدنية الأوروبية وأحوالها، فضلاً عن مؤسسات الدول الكبيرة في أوروبا، فانتهزت فرصة اعتزالي الحياة السياسية ووضعت مؤلفي السياسي الإداري: (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)»(2)، بل صرح في كتابه هذا «أنه استقى بعض معلوماته وآرائه في (أقوم المسالك) من كتب أوروبية في السياسة والتاريخ والاقتصاد والقانون...»(3)، وقد اهتم فيه بالتدليل على أهمية اللحاق بالغرب في منجزاته ومخترعاته، ولكنه ألحق بذلك أيضاً (تنظيماته) باعتبار أن هذه التنظيمات هي أساس التقدم المادي الذي أحرزه الغرب، كما إنه عدَّ هذه (التنظيمات) الغربية مؤسسة على دعامتي الحرية والعدل (اللذين هما أصلان في شريعتنا)(4)، غافلاً عن اختلاف المصدر ـ ومن ثم: القيم والتشريعات ـ المؤسسة لهاتين الدعامتين في كل من النظام الغربي والنظام الإسلامي.
ولأجل مواءمة الشريعة (لإصلاحاته) «فقد دعا إلى الاجتهاد في تأويل الشرع حتى من غير التمسك بالمذاهب الفقهية، ما دامت غاية المجتهد أن يخدم الصالح العام»(5)، وعليه: فقد عهد إلى مختصين بدراسة الفقه الحنفي والمالكي وعادات البلاد والقوانين المعمول بها في الدولة العثمانية وفي مصر وفي أوروبا، وأن يستخرجوا منها قانوناً يناسب تونس، ولكنه خرج من الوزارة قبل أن تتم هذه اللجنة عملها(6).
الهند(7):
استطاع الإنجليز القضاء على قوة الأمراء الذين لم يدخلوا في طاعتهم، وانتهى الأمر بأن تمكن القائد البريطاني من القضاء على كل سلطان المسلمين في الهند ـ فيما عدا جيوب صغيرة ـ عندما دخل دلهي عام 1803م (1218هـ)، وبذلك انتهى تاريخ سيادة المسلمين على شبه القارة الهندية؛ وأخذ الإنجليز يمحون الطابع الإسلامي في المنطقة، وأفصحوا عن سياستهم المعادية عداءاً صريحاً لكل ما هو إسلامي في الهند.(4/366)
ولكن لم يرضَ المسلمون بهذا الواقع، فأصدر شيخ المحدثين مولانا شاه عبد العزيز الدهلوي (1159هـ ـ 1239هـ / 1746م ـ 1823م)في السنة نفسها فتوى تنم عن إحساس عميق بخطورة الوضع ومعرفة دقيقة للفرق بين الإسلام والعلمانية؛ حيث أعلن أن «... في هذه البلد (دلهي) لا يحكم إمام المسلمين إطلاقاً، بينما تسود فيه سلطة الحكام النصارى دون حرج، ونعني بإجراء أحكام الكفر: أن الكفار في وسعهم أن يعملوا بسلطانهم في الحكم، وفي التعامل مع الرعية، وفي جمع ضرائب الأرض والرسولم والمكوس والعشور والدموغ، وفي عقاب قُطَّاع الطرق واللصوص، وفي تسوية النزاعات وعقاب المجرمين، ومع ذلك فإن بعض أحكام الإسلام التي تتعلق بصلاة الجمعة والأعياد والأذان، وذبح البقر، ما زالت نافذة، إلا أن ذلك إنما يرجع إلى أن جوهر هذه الأمور لا قيمة له عندهم؛ إذ إنهم يهدمون المساجد دون تورع، ولا يستطيع المسلمون والذمِّيون أن يدخلوا هذه البلد أو ضواحيها إلا بأن يطلبوا منهم الأمان، وإنما لمصلحتهم هم أنهم لا يعرقلون مرور المسافرين والتجار... »(1)، وقد عُدَّت هذه الفتوى بعد ذلك مرجعاً للعلماء والمسلمين عامة في عدم شرعية الوجود البريطاني في الهند، وكانت هي الأساس لكل دعوة إلى محاربة الإنجليز ومقاطعتهم. وعليه: كان المسلمون يعتقدون أن المسلم الصالح ينبغي عليه مقاطعة الإنجليز وعدم التشبه بهم حتى في أدق الأمور كالأكل بالشوكة والسكين، أو ارتداء حذاء برباط...، لأن ذلك من التشبه (بالكفار).
وفي عام (1274هـ/ 1857م) قامت ثورة كبرى (الاعتصام الكبير) في ولايات عديدة من الهند تزعمها المسلمون وبعض الهندوس الذين نكبهم الإنجليز، واستمرت هذه الثورة حوالي العام حاول فيها المسلمون إعادة تنصيب آخر سلطان مغولي (سراج الدين أبو ظفر شاه)، ولكن الثورة أخفقت وقضى عليها الإنجليز بوحشية وقسوة مع تخصيص المسلمين بالقهر المتعمد، وقبضوا على السلطان سراج الدين ونفوه بعد أن عزلوه وأهانوه إهانة شديدة ثم اضطروه إلى التنازل عن عرشه.
وبنهاية سلطنة مغول الهند أصبحت الهند كلها مستعمرة بريطانية، وأحس الإنجليز أن مصدر القلق في المسلمين هو موقفهم العدائي من (الكفار)، وأن سبب التمردات والثورات التي تخبو ثم تشتعل من جديد هو فتاوى العلماء التي كانوا يصدرونها بوجوب الجهاد ضد الكفار ومقاطعتهم، فلجأ المستعمر إلى «بعض العلماء يصطنعهم ويستفتيهم في مسألة الجهاد في الهند: هل يجوز أم لا؟ ويصدر هذا البعض الفتاوى بأن الجهاد في حالة عدم التكافؤ بين قوة المسلم وقوة المستعمر عبث ومضيعة للنفس والمال، وأن المستعمر ما دام لا يتدخل في إقامة الصلاة وأداء الفرائض فلا تكون البلاد بلاد حرب...؟ واستجلبوا [أي: الإنجليز] فتاويهم حتى من مكة، كي يقضوا على فكرة الجهاد التي يعتنقها بعض المسلمين في الهند، ويعمل بها المتحمسون..»(2)، وواضح ما في هذه الفتاوى من تراجع عن الوعي والانتباه اللذين بدوا في فتوى شاه عبد العزيز السابقة، وهنا يظهر مرة أخرى أهمية دور العلماء في المعركة ضد التغريب والعلمانية.
وتوازى مع ذلك الاتجاه: شروع الإنجليز في غزو المسلمين في العمق الفكري والاجتماعي
غزواً منظماً، فحاربوا مدارسهم واستبدلوا بها المدارس الإنجليزية الحديثة، ونزعوا
الأوقاف الإسلامية التي كانت تنفق على المدارس الإسلامية، وهددوا أو أغروا أغنياء
المسلمين حتى يكفوا عن مساعدة هذه المدارس، وساندوا المنصرين بقوة، كما حرصوا على
إبعاد المسلمين عن كل الوظائف ذات المسؤولية ووضعوا مكانهم هندوساً وسيخاً.
وفي الوقت نفسه: أفاق المسلمون بعد انكسارهم في (الاعتصام الكبير) على الواقع الأليم الجديد، فبدأت الهزيمة النفسية تتغلغل إلى نفوس كثير منهم، كما بدؤوا يفكرون كيف يتعايشون مع الواقع الجديد الذي بدا لهم أنه سيكون طويلاً مستمراً؟ ويبحثون عن سبل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ورأوا أنهم ـ بعد فقدانهم سلطانهم السياسي والاجتماعي ـ مهددون بفقدان هويتهم الثقافية وتميزهم الفكري، وانقسموا إزاء مواجهة ذلك فريقين: فريقاً يرى الحفاظ على هوية المسلمين بتنمية معارفهم الأصيلة عن طريق إنشاء مدارس يدعمها عامة المسلمين أنفسهم حتى لا تتعرض لضغوط الحكومة الإنجليزية وكل من له صلة بها من الأمراء والأغنياء، وكانت أول مدرسة قامت على هذا الأساس مدرسة (دار العلوم) في ديوبند سنة (1283هـ/1867م)، و «كان الأساس الذي قامت عليه هي وزميلاتها أساساً فكرياً خالصاً، يتمثل في الاحتفاظ بالثقافة الإسلامية ولغتها (اللغة العربية) ومحاربة الثقافة الإنجليزية والحيلولة بينها وبين الغزو الفكري والخلقي للمسلمين في الهند، وقد كوَّن هذا الاتجاه مدرسة فكرية خاصة في الهند كان لها أثرها البعيد المدى في حياة المسلمين الخاصة والعامة هناك»(1).(4/367)
أما الفريق الآخر فقد رأى أن اتجاه الفريق الأول يؤدي إلى حرمان المسلمين من المشاركة في خيرات البلاد ووظائفها العامة، فدعا إلى إزالة الفجوة بين الإنجليز والمسلمين، وإلى غرس الثقة المتبادلة بينهم، كما دعا أصحاب هذا الاتجاه المسلمين إلى الإقبال على التعليم المدني الذي أدخله المستعمر للبلاد، ودعوا إلى إنشاء مؤسسة علمية إسلامية يتلقى فيها أبناء المسلمين التعليم الحديث مع تعاليم دينهم في جو مأمون موثوق به، وهكذا ولدت مدرسة (عَليكَرْه) سنة (1293هـ/1875م) التي تحولت فيما بعد إلى (الكلية المحمدية! الإنجليزية).
وقد تكون بعض المقدمات التي قدمها هذا الفريق صحيحة، ولكن شخصية القائم على هذا الاتجاه، والمسار الذي سلكته المدرسة الممثلة له: يفضحان أن المقصود كان تدجين فكر المسلمين وتذويب التميز العمراني (الحضاري) الذي كانوا يتمتعون به ويحسونه ويفخرون به؛ فقد كان رأس هذه الاتجاه هو سيد أحمد خان (1817م ـ 1898م/ 1232هـ ـ 1316هـ)، الذي كان موظفاً في الحكومة الإنجليزية بمهنة (قاضٍ) في محكمة، والذي عارض ثورة عام (1274هـ/1857م) وأنقذ أثناءها أُسَراً إنجليزية كثيرة وحماها من فتك الثائرين بها، وقد كافأته بريطانيا على مواقفه الموالية لها عندما زارها عام 1869م (1286هـ)، حيث كان ابنه يدرس هناك، فنزل لمدة سبعة عشر شهراً ضيفاً مبجلاً على الأوساط الإنجليزية الراقية، فاحتفل به كبار الإنجليز الرسميين وقابل الملكة وولي العهد والوزراء الكبار، ونال الوسام الملكي ولقب الشرف (سير)، وأثنت عليه الصحافة الإنجليزية، كما هيؤوا له زيارة الجامعات والمعاهد العلمية؛ ليستفيد منها عند إنشاء مدرسته الجديدة،.. في زيارة تذكرنا بالبعثات الباريسية (للمصلحين) العرب! كما أن الرجل كانت له آراء فكرية خطيرة تدل على مدى الانحراف الذي يعمل على جر المسلمين إليه، فانحراف المعتزلة القديم في خلق القرآن وفي العلاقة بين العقل والنص تحول على يديه إلى القول بأن القرآن نزل على الرسول بالمعنى فقط، ثم صاغ الرسول ألفاظه من عنده، وقد تشبع سيد أحمد خان بالمذهب (الطبيعي)، وهو مذهب داروين، وأنكر الجنة والنار والملائكة والجن، وأخذ يشتم الفقهاء ويستهزئ بالمحدِّثين وبالشعائر الإسلامية.
بل نظر إلى العبادات المحضة النظرة العقلية نفسها فجعلها مجرد رموز، ووصف الإحرام والطواف ورمي الجمرات بأنها عادات باقية من الأديان الأولى في طفولة البشرية، وكان يرى أن الإسلام والهندوكية والنصرانية يجب أن تكون عقائد دينية في نفوس معتنقيها فقط، وهذه العقائد كلها يجب ألا تؤثر في الوطنية، وقال: إن الجهاد يكون مشروعاً فقط عند الدفاع عن النفس وبشرط أن يحمل العدو المسلمين على تغيير دينهم صراحة. وقد تطورت هذه الآراء على يد تلامذته فأصبحت أكثر تطرفاً ـ أو قل: صراحة ووضوحاً ـ، وذلك كله باسم (تجديد) الدين والإصلاح، وهو في الحقيقة تطويع وتطوير للدين. وقفات مع المرحلة:
وقبل أن ننتقل إلى مرحلة تالية من تاريخ العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي نود الوقوف مع أحداث هذه المرحلة ـ والتي قبلها ـ وظواهرها بعض الوقفات؛ لعلنا نضع أيدينا على بعض الحقائق والدروس لنستفيد منها: فأولى هذه الوقفات: أن أوضاع العالم الإسلامي في بداية هذه المرحلة وما قبلها مباشرة كانت أوضاعاً في مجملها تحوي كثيراً من المظالم والتخلف، مظالم شاملة لا يوقفها معيار محدد للعدالة إلا القوة والسلطة، وتخلف شامل أيضاً كانت حقيقته التخلف عن الإسلام ذاته، ومظاهره التخلف عن الغرب الذي سبق العالم الإسلامي في العلوم والإدارة والصناعة والتجارة.
أي إن أوضاع العالم الإسلامي كانت تستحق الثورة وكانت في حاجة إلى الإصلاح، ولكن الثورة من أي منطلق، والإصلاح في أي اتجاه؟ هذا هو ما نختلف مع (الإصلاحيين) والعلمانيين فيه.
كما يجب أن نشير هنا أيضاً إلى أنه ـ رغم تلك الأوضاع ـ فإن الفجوة بين العالم الإسلامي والغرب في بداية هذه المرحلة كانت غير كبيرة(1)، ومن هنا يمكننا القول: إنه كان من الممكن إذا توفرت الجهود المخلصة للإصلاح، ولم تتكالب قوى الغرب للإجهاز على العالم الإسلامي قبل إفاقته.. كان يمكن تدارك هذه الفجوة واللحاق بهم فيما تقدموا فيه من علوم مادية من غير تفريط في قيمنا ومبادئنا و(ديننا)، ولكن ما حدث في الواقع هو العكس؛ إذ اتجهت الأنظار إلى قيم الغرب ومبادئه زاعمة أن هذا هو سر تقدم الغرب وحقيقة عمرانه (حضارته)، ودارت الدعايات والترويج لهذه القيم والمبادئ، بينما كان النشاط في اقتباس علوم الغرب وأسرارها ضئيلاً وسطحياً.(4/368)
ثانياً: من المعلوم أن «العلمنة بمعناها الشامل فلسفة تنطوي على (محاولة لإدراك معنى العالم المادي بوصفه معقولاً... وعلى إمكانية إدراكه، وبالتالي تغييره دون حاجة للقوى الفوقية والسماوية والدينية)»، وتتفق المذاهب العلمانية الكبرى في المعنى النظري للعلمنة «الذي يتضمن (تَمْدِين الدولة والمجتمع والمؤسسات والقوانين وسائر الشؤون العامة، وإبعادها عن أي مؤثرات دينية)» ولذلك فإن العلمنة تعني صراحة: «إبعاد الدين عن ميدان تنظيم المجتمع الإنساني وشؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية»(2)، ومن خلال تأمل مجريات المراحل السابقة للعلمانية والتغريب في العالم الإسلامي نستطيع بلورة ملامح الغزو العلماني التغريبي التي استمرت أيضاً ـ ولكن بصورة أوضح ـ في المراحل اللاحقة، لتصب في اتجاه تحقيق معنى العلمنة السابق ذكره، ومن أهم هذه الملامح:
1 - إيجاد مرجعية فكرية جديدة بديلة عن المرجعية السائدة في المجتمع، وهي التي كانت في أصلها مرجعية إسلامية.
2 - وضع الأفكار (القديمة) الشائعة بين أفراد المجتمع موضع الشك، ومن ثم: بحثها ودراستها مرة أخرى في ضوء المرجعية الفكرية الجديدة، مما يؤدي إلى استبدال هذه الأفكار (القديمة).
3 - ربط المجتمع الإسلامي بمنظومة عالمية في الفكر والاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون، وإحلال هذه المنظومة في المجتمع بحيث تمثل صبغة جديدة له.
4 - استبدال ولاءات جزئية قائمة على قيم أرضية (مادية) ـ عنصرية أو مصلحية ـ بقاعدة ولاء المجتمع المسلم، المتمثلة في الولاء لله ورسوله وللمؤمنين، ثم إعادة ترتيب هذه الولاءات الجزئية في منظومات وتحالفات أكبر قائمة على الأساس المادي ذاته.
5 - ولتحقيق هذا الهدف كان ينبغي تحطيم أدوات وحدة فكر هذه الأمة وعاطفتها القومية الإسلامية، وذلك بالقضاء على ـ أو على الأقل إضعاف ـ حضور اللغة العربية الفصحى (لغة القرآن)، وعلى مفهوم العمران (الحضارة) الإسلامي، باعتباره عمراناً متصلاً خرج من معين واحد، مع تشويهه والحط منه؛ لإيقاف عاطفة الفخر القومي الإسلامي الناشئ من هذا الاعتبار.
6 - كما ينبغي ـ لبلوغ هذا الهدف ـ تفتيت تماسك المجتمع، وذلك بغزو نواته الأولية المتمثلة في الأسرة، وذلك عن طريق استهداف المرأة، وإشاعة صور التفلت والانحلال الخلقي بين أفراد المجتمع.
وإذا كانت هذه الملامح بدت باهتة في المراحل السابقة فإننا سنلحظها واضحة كل الوضوح في هذه المرحلة.
ثالثاً: باستعراض الخطوات التي أدت إلى العلمانية والتغريب في الأقطار التي تعرضنا لها، نلحظ أن آلية هذه الخطوات تتشابه ـ إن لم تتطابق ـ في كيفية تسللها، وأن الغرب استفاد من تجاربه العديدة مع المسلمين في شتى البقاع وعلى مر العصور، وهي تبدأ بإظهار الفارق العمراني (الحضاري) بين الغرب الغازي والبلدان الإسلامية، والتأكيد على تفوق هذا الغرب، يتبع ذلك إحساس المسلمين بالانكسار والهزيمة النفسية التي تولد عندهم إعجاباً بهذا المتفوق، ثم العمل على محاولة مسايرته واللحاق به، فيفتح لهذا الغرب الباب لتعليم وتدريب من يُعَدُّون لقيادة البلاد، ويفتح الباب أيضاً لتسنم بعض هؤلاء المعلَّمين مراكز حساسة في البلاد، وفي الوقت نفسه: تُرسل البعثات من أبناء المسلمين النابهين وقياداتهم للاطلاع على هذا الغرب وأخذ العمران و(الحضارة) من منبعهما الأصيل!، فتتلقاهم هناك أيادي المستشرقين والمبشرين، ويغوصون في أوحال هذا المجتمع ويرتوون من مستنقعاته، ثم يعودون إلى بلدانهم ليكونوا (حزب الغرب) فيها.
وبعد ذلك تفتح أبواب البلاد ـ المعجبة بالغربيين والمهيأة لهم ـ لامتيازات الدول الأجنبية وأفرادها، فتبدأ سياسة (التغلغل السلمي)، فيمتلكون الأراضي والعقارات، وينشئون المزارع والمصانع، ويديرون شركات البنية الأساسية، فتكون هذه الامتيازات ذريعة للتدخل السياسي والاقتصادي ثم العسكري؛ للحفاظ على حقوق رعاياهم وأعوانهم، فيصعب على البلاد بعد ذلك الخلاص منهم، وفي الوقت نفسه: يبدؤون باللعب على وتر حقوق الأقليات فتبرز الوطنية أو القومية أو الطائفية، ثم يطالبون بنظام قضائي (حضاري) وتعليم (معاصر) واقتصاد حر.. ويفتح الباب على مصراعيه للعلمنة والتغريب.
رابعاً: ولتمرير نهج التغريب والعلمنة فقد حرص المنفذون في هذه المرحلة على مراعاة عدة أمور عند التنفيذ، منها:
- أن يتم تمرير هذا النهج على يد رموز علمية واجتماعية مقبولة من المجتمع المستهدف، وكان أبرز من يقوم بذلك بعض العلماء والساسة اللامعين (أو الملمَّعين) الذين أظهروا ميلاً إلى الوافد الجديد؛ حيث كانت المؤسسة العلمية الدينية وحدها تمثل الحياة الفكرية حينئذ، وكانت المؤسسة السياسية هي أداة التنفيذ الأساس.
- أن يتم تسويغ الأفكار الجديدة تحت لافتات عديدة مقبولة: كالإصلاح، والتحديث، والنهوض، والأخذ بأسباب القوة والمدنية.. وإظهار أن هذه الأفكار غير متعارضة مع مبادئ الدين وقيم المجتمع.(4/369)
- أن يكون التغيير المستهدف شاملاً لجميع نواحي الحياة: فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، بل أن يصل التغيير بهذه المبادئ إلى الدين نفسه ـ كما سنرى لاحقاً إن شاء الله تعالى ـ.
- أن يكون هذا التغيير بصورة تدريجية مع اتباع سياسة الصدمات محسوبة الأثر والنتائج إن لزم الأمر.
خامساً: وكانت الترجمة من أهم طرق نقل الأفكار الغربية إلى العالم الإسلامي وأخطرها في ذلك الوقت ـ وخاصة في مصر وتركيا والشام ـ «فقد مهدت حركة الترجمة بما حققته من انتشار الفكر العلمي والثقافة العلمية ـ في مقابل الفكر والثقافة الدينية ـ مهدت السبيل للأفندية أن يحلوا محل المشايخ في الزعامة الفكرية في مصر في القرن 19»(1).
سادساً: اختلف شكل الإطار الذي خرجت منه العلمانية والتغريب حسب ظروف منطقة الاحتكاك العمراني (الحضاري) الذي نموَا فيه، ففي حين أن دور رجال السلطة المحلية والمحافل الماسونية كان واضحاً في مصر وتركيا في هذه المرحلة، نجد أن الإرساليات التنصيرية والمستشرقين والنصارى العرب لعبوا دوراً أكبر في الشام، كما نجد أن الاستعمار الصريح: الفرنسي في الجزائر، والبريطاني في الهند كان هو العامل الحاسم في غرس العلمانية والتغريب في هذين البلدين، وهذا الاختلاف في الإطار والظرف العام سيكون له أثره فيما بعد.
ومع ذلك فيكاد ألا يختلف (أسلوب) تقديم العلمانية إلى العالم الإسلامي رغم اختلاف
هذه الظروف وتعدد هذه الأطر؛ فقد تسللت العلمانية والتغريب إلى العالم الإسلامي في بدايتها ـ وما زالت ـ تحت ستار كثيف من التضليل والتلبيس؛ حيث اختلط (أو خُلِّط) الحق بالباطل والصواب بالخطأ في الدعاوى التي رفعها (الإصلاحيون)، كما قُدِّمت العلمانية والتغريب ـ في هذا الخلط ـ على طبق من الدين.
وفي ذلك يصف الدكتور محمد محمد حسين بدقة دوافع (المصلحَيْن) الطهطاوي وخير الدين التونسي ومنهجهما، فيقول: «فالطهطاوي وخير الدين يبدأ كل منهما كلامه بالنص القرآني وبالحديث وبرأي الصحابة والفقهاء، ونقطة البدء في تفكيرهما هي التماس الوسائل لقوة المجتمع الإسلامي... ولكن التخطيط للنهضة والتماس الحلول للتخلص من عوامل الضعف يبدأ من الإعجاب ببعض ما شاهداه من النظم في المجتمع الغربي والرغبة في نقله إلى وطنيهما...»(1). والقوانين التي صدرت باسم (التنظيمات) في الدولة العثمانية كانت تُصدَّر بأنه: «لا يخفى على عموم المسلمين أن دولتنا العلية من مبدأ ظهورها وهي جارية على رعاية الأحكام القرآنية الجليلة والقوانين الشرعية المنيفة.. وقد انعكس الأمر منذ مئة وخمسين سنة بسبب عدم الانقياد والامتثال للشرع الشريف ولا للقوانين المنيفة..»(2)، ثم تُذيَّل بأنه «قد أفتى المفتي بجواز العمل بها شرعاً ومعاقبة من يعارض في إنفاذها»(3).
وقد كان للصورة التي حاولوا بها (تقنين) الفقه دوره في هذا التلبيس ـ بغض النظر عن نيات من قاموا به ومدى مناسبة هذا التقنين ـ حيث اعتاد الناس هذه الصورة وألِفوها، ومن ثم: لم يستغربوا بعد ذلك أن يُحكموا بقوانين غريبة عن الإسلام على هذه الصورة، لا سيما حين يقال عنها إنها لا تخالف الشريعة الإسلامية، أو إن لها تخريجاً يتفق مع رأي في مذهب فقهي إسلامي.
هذا الأسلوب وإن بدا في هذه المرحلة المبكرة غير ظاهر والانحراف فيه يسير، إلا أنه استعمل على نطاق واسع في المراحل التالية، كما أن خط الانحراف به اتسع وتأصل فيما بعد.
سابعاً: تميزت هذه المرحلة بالتركيز على التغلغل في أوساط النخب الثقافية والفكرية وأصحاب التأثير في المجتمع الإسلامي، كما تميزت بالارتكاز على أصحاب السلطة والاحتماء بهم لنشر العلمانية والتغريب، وهذا واضح في البلاد التي تعرضنا لها.
أما قاعدة المجتمع العريضة فقد كانت تعيش حالة من التحول الاجتماعي ـ أو ما نستطيع أن نطلق عليه: البرزخية الاجتماعية ـ فهي لم تكن تعيش إسلاماً صحيحاً كما أنها لم تكن تعيش علمانية كاملة.
وفي الوقت نفسه: كان واضحاً سعي ذوي النفوذ في تيار العلمانية والتغريب على صبغ حياة المجتمعات الإسلامية بالقوانين الوضعية في مجالات الحياة المتنوعة؛ لنزع الطابع الديني عن المعاملات اليومية في حياة أفراد هذه المجتمعات وإحلال صبغة علمانية بديلة، إضافة إلى ربطهم بأسس مرجعية جديدة ترتبط بالنظام العالمي الناشئ من المدنية الغربية، كما حرصوا على إشاعة المظاهر التي تدل على هذه الصبغة الجديدة.(4/370)
أما بالنسبة إلى العلماء فإنه وإن استُعمِل بعضهم جسراً للعلمانية والتغريب إلا إن آخرين أعلنوا رفضهم لذلك الاتجاه وقاوموه بالوسيلة التي يملكونها: الفتاوى! وفضح أصحاب هذا الاتجاه أمام الأمة؛ ففي تركيا العثمانية «لم يلق الخط الشريف أو الدستور الذي سانده مصطفى رشيد وقلة من المحيطين به ترحيباً أو تأييداً من الرأي العام العثماني المسلم، فأعلن رجال الدين! تكفيرهم لرشيد باشا، واعتبروا الخط الشريف منافياً للقرآن الكريم في مجمله، وبخاصة في مساواته المسيحيين بالمسلمين...»(4). وعندما أعلن سيد أحمد خان آراءه «هيج الرأي العام ضده، وزاد في هياج الرأي العام المسلم وتشديد النكير عليه من العلماء ـ حتى حكموا بكفره ـ ما قرره في تفسيره من أن القرآن نزل على رسول ا صلى الله عليه وسلم بالمعنى فقط...»(5).
ولكن أصحاب هذه الأصوات المعارضة ضاعت وسط الزخم العلماني والتغريبي المستند على السلطة النافذة والدعم الغربي آنذاك، كما يبدو أن أصحاب هذه الأصوات المعارضة لم يستطيعوا إدراك مدى المخطط البعيد وشموله في هذه المرحلة المبكرة.
أخطر المراحل وأعقدها (1882م- 1917م): بعد أن نمت البذور التغريبية والعلمانية في أرض الإسلام بدأت تضرب بجذورها في هذه الأرض، وبدا واضحاً أن هذه الجذور أخرجت نبتة لها ساق مستوٍ وعود مشتد.
وقد تميزت هذه المرحلة بحدوث اضطراب شديد وتحولات فكرية وسياسية واجتماعية كبيرة في البلاد الإسلامية، كما أن التداخل في نشاطات وجهود (الرواد) الإصلاحيين وأثر ذلك على الأقطار المتعددة.. كان سمة بارزة في هذه المرحلة.
ويمكننا في هذا الرصد أن نضع أيدينا على مفاتيح تعيننا على فهم هذه المرحلة التي نحن بصددها، تتمثل في الآتي:
أولاً: تميزت هذه المرحلة بتكثيف انتقال القيم الغربية والعلمانية من مجال الأفكار إلى الواقع، وبذا انتقلت الهجمة التغريبية العلمانية إلى الضرب في العمق؛ فكراً: بطرق الموضوعات التي تطرحها في صورة أكثر صراحة ووضوحاً وشمولاً، وانتشاراً: بفتح ميدان انتقالها من النخبة المثقفة المحدودة إلى القاعدة الشعبية العامة.
ثانياً: نتيجة لهذا الضرب المركز في العمق الفكري والاجتماعي تبلور تيار كانت بذوره موجودة في المرحلة السابقة، وكان جل اهتمامه محاولة (التوفيق) بين الإسلام وبين الأفكار والقيم الغربية الوافدة، وقد تعددت (دوافع) هذا التيار و(درجاته) و (صوره)، ولكنه عموماً احتل مساحة واسعة في أنشطة هذه المرحلة، كما كان له أثر كبير فيما بعد.
ثالثاً: رغم تعدد ميادين الأنشطة العلمانية والتغريبية و (التوفيقية) في هذه المرحلة إلا أن هناك قاسماً مشتركاً يجمع بين هذه الأنشطة بدا وكأنه صرعة العصر التي تنطلق منها، ألا وهو: الحرية بمفهومها الغربي الليبرالي؛ فقد تمثل ذلك في الفكر: بطرح كل المسلَّمات (السابقة) على طاولة النقاش، ومن ثم: الرفض أو القبول، وفتح المجال لإدخال أي أفكار والترويج لها باسم حرية الفكر، وفي الإصلاح الديني:
بفتح باب الاجتهاد وإعادة تفسير الإسلام بما يتلاءم مع (روح العصر)، مما أدى لاحقاً إلى محاولات تطويع الإسلام و (علمنته)، وفي السياسة: بالدعوة إلى الحرية الدستورية، ومقاومة الاستبداد، والتحرر من الروابط السياسية القديمة، وذلك ما أدى فيما بعد إلى رفض الإطار السياسي للخلافة، وإلى استقرار النيابة البرلمانية بوصفها مصدراً للسلطات، وفي الاجتماع: بالدعوة إلى حرية المرأة وانعتاقها من قوامة الرجل وأسر الأسرة والتقاليد وتعاليم الدين، وهو ما أدى إلى التفكك الأسري والانحلال الأخلاقي، وفي الاقتصاد: بوضع أطر الاقتصاد الحر والارتباط بالرأسمالية العالمية واقتصاد السوق، ومن ثم: فتح المجال أمام الأفكار والتصورات الاقتصادية المنابذة للدين التي مثلها الحضور المكثف لرأس المال الغربي بما يحمله من احتكارات واستغلال وربا، وفتح المجال أيضاً لنشاطات اقتصادية منافية للإسلام أخلاقياً واجتماعياً.
هذه إجمالاً أهم مفاتيح هذه المرحلة، والآن لنعرض بعض تفاصيل تحولات الفكر والثقافة في هذه المرحلة:
دخول الفكر العلماني التغريبي الصريح: مثلما كان الفكر النصراني هو واسطة نقل الفكر الفلسفي اليوناني إلى الفكر الإسلامي في العصر العباسي عبر حركة ترجمة واسعة آنذاك «كان هذا الفكر مؤهلاً أكثر من غيره
لدور الريادة عندما جاءت الموجة (الهيلينية) الجديدة من أوروبا المسيحية ـ العلمانية هذه المرة، ومعها تجربة غير معهودة من قبل في تحديد العلاقة الجدلية بين الدين والعقل، تستند إلى مبدأ الفصل والتمييز والتفريق بينهما»(1)، وهكذا كان النصارى العرب ـ وإن شاركهم غيرهم ـ رأس الحربة في نقل العلمانية الصريحة.(4/371)
فبخلاف (المصلحين) المسلمين الذين كانت تؤرقهم محاولات تقديم الأفكار الغربية في صورة لا تتعارض مع الإسلام، مما دفعهم إلى اختيار مسلك التوفيق بينهما... «كان المثقفون المسيحيون يرفضون ربط التطور الاجتماعي بأية عقيدة دينية، ويسعون إلى التحرر من مشكلة الانتماء الديني بالتشديد على النظرة العقلانية إلى الإنسان والمجتمع»(2)، ومن هنا: أخذوا ينهلون ويتبنون ـ بوضوح وبدون حرج أو حساسية ـ أفكار مفكري عصر التنوير الأوروبي.
وهكذا تمثل التيار العلماني التغريبي الصريح ـ في معظمه ـ في بعض نصارى الشام الذين هاجروا إلى مصر، وأخذوا في بث أفكارهم من خلال عدة طرق، محدثين حركة فكرية ثقافية كبرى داخل قطاعات كبيرة من (المثقفين) استخدمت فيها الصحف والمجلات التي أصدروها على نطاق واسع، مستغلين (حرية النشر) التي كانت توفرها سلطات الاحتلال لمثل تلك الإصدارات، وأيضاً من خلال ترجمة بعض الكتب الأوروبية التي تساير الاتجاه الجديد، وتحقيق وإخراج بعض الكتب الفلسفية والأدبية القديمة التي تخدم توجهاتهم، بإعادة طرح أسئلة كبرى حول الإنسان والكون والحياة، والتي تهدف أيضاً إلى إعادة صياغة العلاقات بين الأفراد والمجتمعات.
فبعد جيل فرنسيس مراش، وبطرس البستاني، وناصيف اليازجي، وفارس الشدياق، أتى جيل آخر يمثله سليم عنحوري، وأديب إسحاق، وشبلي الشميل، وفرح أنطون، وجورجي زيدان، وبشارة وسليم تقلا، وفارس نمر، ويعقوب صرُّوف... وغيرهم، ولا شك أن بينهم فروقاً فكرية، ولكن يجمعهم أنهم جميعاً نصارى ـ على اختلاف مذاهبهم ـ وأنهم ماسونيُّون، كما أن معظمهم درس في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية) التي أشرنا إليها سابقاً.
كانت الصحافة أحد أهم أنشطتهم التي روجوا من خلالها أفكارهم بطرق ملتوية ومخادعة؛ فقد كان بعضهم يتعمد أن يتضمن اسم مطبوعته دلالة رمزية قد تخفى على بعض القراء: ففارس نمر يوضح أنه بعد رفض وزارة الداخلية المصرية الموافقة على إصدار جريدته الجديدة باسم (الإصلاح!) اختار هو وشركاؤه اسم (المقطم)، يقول: «ولما سئلت عن السبب في اختيار هذا الاسم بالذات، قلت: لأنه الجبل الذي بنيت من حجارته الأهرام الثلاثة»(1)، وكذلك جورجي زيدان أطلق على مجلته اسم (الهلال) مستغلاً ما يشاع بين الناس من أن الهلال رمز إسلامي، والحقيقة أنه أحد رموز الماسونية، ومن المعروف أن زيدان كان ماسونياً، كما أن (جامعة) فرح أنطون كانت باسم (الجامعة العثمانية)، وهذا الاسم وإن كان ظاهره يناصر الدولة العثمانية، إلا أنه يطرح بصفته بديلاً عن (الجامعة الإسلامية)، وهذا الطرح كان دعوة لها أنصارها في ذلك الوقت، وهو يعني التجمع حول آصرة الجنسية العثمانية التي تضم أدياناً وأعراقاً شتى، بدل آصرة الإسلام، وهو يعني بمعنى آخر العمل على الدعاية لعلمانية الدولة في الانتماء والولاء.
وكما عمدوا إلى المداورة والخداع في الأسماء والعناوين عمدوا إليها أيضاً في المحتوى والموضوعات؛ فمجلة المقتطف «إذا أخذنا العدد الصادر [منها] في كانون الثاني 1896م على سبيل المثال، لوجدنا أنه يشتمل على مقالات في الأمراض السارية، والميكروبات في الهواء، والفروق بين الرجال والنساء، وتحليل فلسفي لمركز الإنسان بين الحيوانات... أما مؤسس الهلال... فقد كان ذا تركيب ذهني مختلف، فأعار العلوم الطبيعية في مجلته اهتماماً أقل، موجهاً جل عنايته إلى علم الاجتماع، وأدب النفس، والسياسات العالمية، والجغرافيا والتاريخ، واللغة والأدب، وآثار العرب...»(2)، ويعلق ألبرت حوراني على هذه الموضوعات قائلاً: «قد تبدو المواضيع التي كانت تعالجها هاتان المجلتان عديمة المغزى، خصوصاً وأنهما كانتا تتحاشيان كل ما يتعلق مباشرة بالسياسات المحلية أو بالدين أو بما شأنه أن يثير ضدهما العداء، غير أن وراء هذه المواضيع ووراء غيرها من هذا النوع كانت تكمن بعض الأفكار المعينة الدائرة حول: ما هي الحقيقة؟ وكيفية البحث عنها؟»(3) وبهذه الطريقة أصبحت مجلة كالمقتطف «أهم المجلات التي أخذت تدعو إلى التحلل من الدين»(4).
وإلى جانب الصحافة ـ التي كانت تعمل على تشكيل الرأي العام ـ سلك طلائع العلمانية
مسالك أخرى لتبديل البيئة الفكرية لمثقفي الأمة؛ ففي هذه المرحلة التاريخية نشطت
حركة إحياء كتابات فلسفية قديمة، مع اهتمام خاص بفلسفة ابن رشد.(4/372)
فعلى سبيل المثال: أصدر فرح أنطون سنة 1901م كتاب (ابن رشد وفلسفته) الذي أحدث جلبة كبيرة أدت إلى سجالات عديدة؛ حيث ادعى أنطون أن الإسلام قضى على الروح الفلسفية واضطهد العلم، وأن حل (النزاع) بين العلم والدين يتم بتحديد الحقل الخاص بكل منهما؛ بحيث لا يتجاوز أحدهما حدود الآخر، مؤكداً أن الأنبياء فلاسفة، وأن الحقيقة واحدة يسربلها الأنبياء بالرموز الدينية من أجل العامة بينما تفقهها النخبة مباشرة(1)؛ فأهمية الكتاب ترجع إلى أنه «لم يستهل المباحث الفلسفية الجديدة في مطلع القرن العشرين وحسب، بل فتح الباب أمام مساجلات فكرية هامة بين أقطاب الفكر في مصر... حول مسائل الخلق والأزلية والسببية، وسواها من القضايا الفلسفية الكبرى»(2). وتوازى مع ذلك النشاط حركة ترجمة واسعة لكتب منتقاة تعبر عن الفكر (التنويري) الغربي، وبعد أن كانت حركة الترجمة في المرحلة السابقة تتم برعاية الدولة ومرتبطة بمصالحها وتوجيهاتها الحديثة، نجد أن الترجمة في هذه المرحلة أخذت بعداً جديداً بانتقال معظم نشاطها إلى أفراد أصحاب توجهات تغريبية واضحة ومقصودة، عملوا على تجاوز ترجماتهم تحديث أجهزة الدولة نحو تحديث أفكار المجتمع وثقافته، حيث بدأت حركة نشطة لترجمة أمهات الكتب الفلسفية والاقتصادية والسياسية والأدبية والاجتماعية إلى اللغة العربية.
فكرتان وشخصيتان:
ولا يفوتنا في هذا المقام الحديث عن شخصيتين وفكرتين كانتا ذا أثر كبير في الحركة الفكرية في هذه المرحلة، باعتبارهما نموذجين للأفكار والشخصيات التي تمثل هذا الاتجاه في ذلك الوقت، ونعني بالشخصيتين: شبلي الشميل، وفرح أنطون، وأما الفكرتان: فالداروينية والاشتراكية.
فلقد أعطى تيار العلمانية الصريحة الاشتراكية بعداً هو أقرب إلى حقيقتها، مخالفين النهج التوفيقي الذي سبقهم الأفغاني باستعماله عند حديثه عن الاشتراكية، ففي «أوائل التسعينات من القرن التاسع عشر بدأت صحف اللبنانيين الدورية الصادرة في مصر تتعرض للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنظريات الأوروبية بشأنها، ومن بينها التعاليم الاشتراكية، وكان يعقوب صرُّوف في مجلته (المقتطف)، وجورجي زيدان في (الهلال)، وفرح أنطون في (الجامعة) من أوائل العارضين والمحللين لتلك التعاليم»(3)، وهكذا «ظلت الأفكار الاشتراكية حتى قبيل الحرب العالمية الأولى محصورة بشكل رئيسي في نطاق العلمانيين المسيحيين، وأصدر سلامة موسى في عام 1913م [1331هـ] كتابه (الاشتراكية)»(4)، وفي العام نفسه نشر المدرس المصري مصطفى حسنين المنصوري كتابه (تاريخ المذاهب الاشتراكية) وضمنه شروحات ميسرة للأفكار الاشتراكية، وهو يعد من أوائل من عرضوا مبادئ الفكر الاشتراكي والماركسي(5).
وإذا كان يعقوب صرُّوف وجورجي زيدان ظلا في نطاق التحليل الوصفي للاشتراكية دون الالتزام بها سياسيّاً، فإن الشميل وأنطون كانا أول الداعين إليها باعتبارها التزاماً سياسياً اجتماعياً؛ حيث كان الشميل «يؤمن بحتمية الوصول إلى الاشتراكية مهما طال الزمن؛ لأنها ذات نواميس طبيعية تدعو إليها»(6)، بينما ذهب فرح أنطون إلى أبعد من ذلك، فدعا إلى تأميم وسائل الإنتاج وإلغاء الملكية الخاصة، كما «كان يعتقد بأن على المرء ألا يكتفي بالتبشير بالاشتراكية إذا أراد تحقيقها، بل عليه أن يسعى إلى هذا التطبيق ولو بالقوة والثورة، وبالتالي يصبح من الضروري غرس فكر الثورة والعنف في عقول الطلاب منذ الصغر»(7)، وهكذا شقت الاشتراكية طريقها في الفكر العربي المعاصر، لتتمثل بعد ذلك في نظم سياسية تتبناها وتدعو إليها.
أما الداروينية ـ أو مذهب النشوء والارتقاء كما عُرفت آنذاك ـ فكانت «أحد المجالات الأساسية للصراع ضد العلمانية... فكانت الداروينية في أواخر القرن التاسع عشر من ضروب النظرية التطورية التي شكلت عصب فكر القرن التاسع عشر، ومن المسلَّمات التي أخذ بها الغربيون والشرقيون معاً»(1)وقد أثارت الداروينية موجة قوية من الإلحاد؛ حيث طغى في هذا العصر مذهب المادية «القائل بأن العالم له أساس واحد هو المادة، ولا شيء وراءها، وكل شيء في الحياة مظهر من مظاهرها حتى الفكر والعاطفة، والمادة لا تتجدد ولا تفنى، وقوانينها قديمة أزلية أبدية، وليس في هذا العالم شيء يعتريه الفناء، وإنما تتغير الأشكال، وبناءاً على ذلك: فلا نفس ولا روح ولا دين ولا إله!»(2)، وهكذا خطت (العلمانية) خطوة نوعية كبرى في مهاجمة الدين بمحاولة تحطيم أسسه الأولية.
شبلي الشميل (1850م ـ 1917م / 1266هـ ـ 1335هـ):
يرى الدكتور عزيز العظمة أن التيار العلماني الشامل والآخذ بالعلمانية في أسسها المادية ونتائجها الاجتماعية كان «تياراً صغيراً... مثَّله أفضل تمثيل شبلي الشميل ثم سلامة موسى، وكان الاثنان قد أسسا سوية مجلة (المستقبل) في القاهرة عام 1914م، كتب فيها موسى مقالاً (كله فجور إلحادي)، ودعا فيها الشميل إلى المادية والتطورية (دعوة مستقبلية فجة)»(3).(4/373)
فقد اعتقد الشميل «بأن العلم هو الدين الجديد للإنسانية جمعاء»(4)؛ حيث اعتبره «أكثر من طريقة لاكتشاف النظام في ترابط الأشياء؛ إذ كان مفتاحاً لحل لغز الكون، لا، بل نوعاً من العبادة»(5)، ويرى الشميل «أن دين العلم هو إعلان حرب على الديانات القديمة»(6)، وعليه: فهو يرى أن: «ليس الحكم الديني والحكم الاستبدادي فاسدين فحسب، بل هما غير طبيعيين وغير صحيحين»(7).
«وكان الكثيرون من الكتاب العرب المسيحيين من معاصري الشميل يبشرون بتلك الأفكار ويستنتجون منها وجوب وجود وحدة قومية تتعدى الفروق الدينية، لكن الشميل نفسه ذهب أبعد من ذلك في استنتاجه؛ فهو لم يحاول الاستعاضة عن التضامن الديني بالتضامن القومي فحسب، بل راح أيضاً يعلن أن لجميع أنواع التضامن الجزئي خطر التضامن الديني؛ لأنها تجزئ المجتمع البشري، فالتعصب القومي الأعمى لا يقل شراً عن التعصب الديني الأعمى، لذلك لا بد أن تَحل ـ عاجلاً أو آجلاً ـ الوطنية العالمية محل الولاء للوطن المحدود»(8)، ولعل هذا كان سبباً لأن راقته فكرة الاشتراكية حيث الدعوة إلى الأممية العالمية، فكان «أول من نشر بالعربية فكرة الاشتراكية، وإن لم يكن أول من سماها بهذا الاسم»(9) وهكذا انبثق الولاء للعالمية من الرؤية العلمية العلمانية! ولدين الشميل الجديد مستلزمات اجتماعية وسياسية واسعة أيضاً «فالعلوم الطبيعية هي أساس العلوم الإنسانية، ولا تستمد الشرائع إلا من العلوم الإنسانية الصحيحة»(10).
وعلى رأس العلوم الصحيحة عند الشميل: الداروينية، لذا: كان «أول داعية للأفكار الداروينية والفلسفات المادية في العالم العربي، تحت تأثير فلسفة سبنسر الذي جعل من الداروينية مبدأً فلسفياً لا ينازع»(11)، و«أضاف الشميل بذلك على غيره من العلمانيين نظرة مادية في الدين، وجعل من الداروينية نموذجاً عاماً لقانون تطوري يشمل نشوء وترقي الإنسان واللغة والشرائع، وقال بالتالي بأن تاريخية المجتمع كتاريخية الطبيعة، وقال أيضاً بنسبية الأخلاق ومفاهيم الخير والشر»(12).
«ويترتب على نظرية التطور أيضاً أن القوانين السارية في كل مجتمع ليست شرائع أبدية معصومة، بل يجب أن تتطور بالتدرج وفق حاجات الإنسان وقضاياه، وقد تصبح الثورة ضرورية(!) إذا تحجرت تلك الشرائع ومنعت ذلك التطور»(13).
وهكذا يتضح بجلاء أن العلمانية في صورتها الغائية الصريحة هي منظومة فلسفية كلية، تنبثق منها تصورات شاملة عن الإنسان والكون والحياة، كما تنبثق منها النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تعبر عن هذه التصورات لتحل محل الدين والنظم المنبثقة عنه.
فرح أنطون ( 1874-1922م / 1291-1340هـ ):
وبمثل هذا الوضوح والسفور كان فرح أنطون، «ففي الوقت الذي حاول فيه من سبقه التوفيق بين الحضارة الغربية والحضارة العربية، والتمسك بإحياء التراث العربي القديم باعتباره الحل المثالي لتقدم مجتمعهم، كان فرح أنطون يدين بالولاء الكامل للحضارة الغربية وأفكارها، وينقل عنها في مجلته (الجامعة) مذاهبها في الإصلاح الاجتماعي، ويناقش الأفكار الاشتراكية والشيوعية في هذا الوقت المبكر حين كان المجتمع غير مستعد بأي صورة من الصور لتقبل مثل هذه الأفكار»(1)، فكان فرح أنطون «أول من كتب بالعربية عن بوذا وكونفوشيوس، وعرَّف بفلسفة تولستوي وشرائع حامورابي وأفكار روسو وفلسفة أوجست كونت»(2)، وهو يرى أن لا فرق بين الأديان «فإذا تفحصنا مجموعة المبادئ [الجوهرية] وجدنا أنها واحدة في جميع الأديان... كذلك إذا تفحصنا مجموعة الشرائع لوجدنا أن غايتها الوحيدة إنما هي حث الناس على الفضيلة؛ فالثابت فيها هو إذن المبدأ الخلقي الكامن وراءها، ويجب أن نفسرها تفسيراً يسمح لها بالقيام بوظيفتها، حتى لو اقتضى ذلك تأويلها، وبعبارة أخرى: إن جميع الأديان إنما هي دين واحد يعلِّم بعض المبادئ العامة، أما الشرائع الدينية فلا قيمة لها بحد ذاتها؛ إذ ما هي إلا وسائل لغاية»(3).
وأنطون يرى من هذا المنطلق أن المفاضلة بين دين ودين «من القضايا المتحدرة من القرون الوسطى، التي لا تتصل لا من قريب ولا من بعيد بمفاهيم العلم الحديث»(4)، وبنى على ذلك أيضاً موقع الدين في الحياة، فهو يهدي كتابه عن ابن رشد إلى «النبت الجديد في الشرق» ويعني بهم: «أولئك العقلاء في كل ملة وكل دين في الشرق، الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانباً في مكان مقدس محترم! ليتمكنوا من الاتحاد اتحاداً حقيقياً ومجاراة التمدن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم جميعاً وجعلهم مسخرين لغيرهم»(5).(4/374)
وهذا الكلام يتضمن نقطتين مهمتين: فصل الدين عن الدولة، وضرورة الاتحاد على أساس المواطنة لا الدين؛ «فالوحدة تتم بخلق الولاء القومي والفصل بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، وفي هذا قوله: (فلا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية)»(6)، ومن ثم: «أصبحت الدولة الدينية (دولة الضعفاء والجبناء والكسالى في الأمة)»(7)، وعندها «تصبح الاشتراكية إنما هي (دين الإنسانية)، وهي آخذة في الحلول محل الأديان المنزلة»(8).
(* هذه المقالات مقتطفات مختصرة من كتاب يعده الأخ الكاتب عن تاريخ العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي، وقد آثر ـ جزاه الله خيراً ـ مجلة البيان بنشر هذه المقالات قبل نشره للكتاب. ـ ^ ـ
(1) انظر: د. صلاح العقاد، المغرب العربي ـ دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصرة، ص 161، د. إسماعيل أحمد ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص 171، د. عزت قرني، العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، ص 305، علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، ص 604، أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 146، ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، 93 -103.
(2) باي: لقب عثماني، معناه: ممثل السلطان.
(1) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين، ص 156.
(2) عن: الرحالة العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة، د. نازك سابا يارد، ص 24. (3) المصدر السابق، ص 28.
(4) انظر: السالك إلى أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك لخير الدين التونسي، وهو دراسة بين يدي مقدمة أقوم المسالك، قام بها الدكتور رحاب خضر عكاوي، والكلام المنقول من المقدمة نفسها، ص 91، وانظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 162.
(5) الرحالة العرب وحضارة الغرب..، ص 90، وانظر : العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، ص 24.
(6) انظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 168 ـ 169، والفكر العربي في عصر النهضة، ص 120.
(7) انظر: كفاح المسلمين في تحرير الهند، عبد المنعم النمر، تاريخ الإسلام في الهند، له أيضاً، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمد البهي، العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، محمد حامد الناصر، التاريخ الإسلامي، محمود شاكر، ج 8، ص 431، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، لأحمد أمين، ص 121 ـ 138.
(1)الإسلام والاستعمار، عقيدة الجهاد في التاريخ الحديث، رودلف بيترز، ص 64، وانظر: تاريخ الإسلام في الهند، ص 528، وتكمن أهمية هذه الفتوى في نقطتين: الأولى: عدم اعتداده وعدم انخداعه بإقامة شعائر تعبدية فردية بدون وجود صبغة إسلامية عامة للمجتمع والدولة تحكم بالإسلام وتوالي على أساسه، وهذا هو جوهر العلمانية الذي يفرق بين الدين والحياة (أو الدولة) بغير تداخل بينهما، في مقابل جوهر الإسلام نظاماً للحياة يشمل جميع أوجه النشاط الإنساني. الثانية: انتباهه إلى أهمية شرط السيادة (السلطان) عند تطبيق الإسلام، فما كان يسمح الإنجليز بتطبيقه من الإسلام لا يعتد به؛ لأنه خرج من منطلق سيادة سلطان الكفر ـ عندما كان بإذنهم هم: (آمنتم له قبل أن آذن لكم) (الأمة مصدر السلطات) ـ، ولم يخرج من منطلق العبودية لله ـ عز وجل ـ وسيادة أحكام الإسلام. وهاتان النقطتان تمثلان الفارق الجوهري بين دار الإسلام ودار الكفر، وتميزان بين حقيقة الإسلام وحقيقة العلمانية.
(2) عبد المنعم النمر، كفاح المسلمين في تحرير الهند، ص30، وانظر: الإسلام
والاستعمار، ص 69 ـ 72.
(1) المصدر السابق، ص 39.
(1) انظر: رسالة (في الطريق إلى ثقافتنا) لأبي فهر محمود محمد شاكر، ص 81، 98، 117.
(2) محمد كامل ضاهر، الصراع بين التيارين الديني والعلماني، ص 114.
(1) سامي سليمان محمد السهم، التعليم والتغيير الاجتماعي في مصر في القرن التاسع عشر، ص 288.
(1) د. محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، ص 38، و د. معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، ص 204، 226.
(2) تاريخ الدولة العلية العثمانية، لمحمد فريد بك، ص 254. (3) المصدر السابق، ص 219.
(4) د. زكريا سليمان بيومي، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين، ص 208.
(5) عبد المنعم النمر، مصدر سابق، ص 45، وانظر: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 131.
(1) د. محمد جابر الأنصاري، تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي ( 1930م - 1970
م )، ص 12.
(2) د. محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص173.
(1) د. سامي عزيز، الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، ص 96.
(2) ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص252.
(3) المصدر السابق، ص 252، 253، وانظر في المعنى نفسه: د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص
115.
(4) د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص 302.(4/375)
(1) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص175، 260 وما بعدها، ولك أن تتتبع اهتمام العلمانيين و (التنويريين) بابن رشد المستمر حتى الآن، والتي ليس آخرها إخراج كتبه محققة ومشروحة بعناية كبارهم، وإخراج أفلام سينمائية تطرح وجهة نظرهم من خلال ابن رشد ـ أو تطرح ابن رشد من وجهة نظرهم ـ مع إسقاطها على الواقع الحالي، كفيلم (المصير)، للمخرج المصري يوسف شاهين.
(2) ماجد فخري، دراسات في الفكر العربي، ص 230.
(3) د. محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 220. (4) د. محمد جابر الأنصاري، مصدر سابق، ص 24.
(5) انظر: الاتجاهات السياسية في العالم العربي، للدكتور مجيد خدوري، ص 106 ـ 107.
(6) انظر: د. محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 220 ـ 221. (7) المصدر السابق، ص 222.
(1) د. عزيز العظمة، مصدر سابق، ص 181.
(2) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 77، وانظر: الصراع بين التيارين...، ص 217.
(3) العلمانية من منظور مختلف، ص 182، والأقواس الداخلية من وضع الكاتب نفسه.
(4) د. محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 216. (5) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص254.
(6، 7) السابق، ص 256. (8، 9) المصدر السابق، ص 258
(10) المصدر السابق، ص 256. (11) د. محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 217.
(12) المصدر السابق، ص 184. (13) د. محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 217.
(1) د. عبد المحسن طه بدر، تطور الرواية العربية الحديثة في مصر، ص 89، وانظر: ص 42.
(2) د. محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 214.
(3) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 261.
(4) د. محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص 176.
(5) فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، الإهداء، نقلاً عن: الفكر العربي في عصر النهضة، ص
260، وانظر الصراع بين التيارين الديني والعلماني، ص 174.
(6) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 263، وانظر: ص 261.
(7) د. عزيز العظمة، مصدر سابق، ص 185.
(8) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 264.
مجلة البيان
==============(4/376)
(4/377)
جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي (3/3 )
خالد ابو الفتوح
في الحلقتين السابقتين طاف بنا الكاتب بين الانحرافات التي أصابت الأمة الإسلامية، وتنقل بنا إلى أنحاء شتى من عالمنا الإسلامي ليرصد حركة التغريب، واليوم نتابع معه بقية الحديث. - ^ -
التوفيقية والإصلاح الديني:
لم تكن العلمانية بهذا السفور لتجد رواجاً في العالم الإسلامي آنذاك، كما أنها في هذا القالب كانت مقتصرة على مخاطبة فئة قليلة في المجتمع ـ وإن كانت ذات تأثير ـ هي فئة النخبة المثقفة إن جاز التعبير، لذا: كان لا بد من وجود أسلوب آخر يضمن قبول العلمانية والتغريب لدى قطاعات كبيرة من المجتمع، ولذا أيضاً كان لا بد من وجود وسائل تتسم بالشيوع والانتشار لضمان وصولها.
نهج غربي مقترح:
ولنترك جانباً في هذا المقام نظريتنا التآمرية، ولندع كبار مخططي (الغزو العلماني التغريبي) في هذه المرحلة يحدثوننا عن النهج المقترح في ذلك، واصلين السابق باللاحق في ذلك لتتضح الصورة جيداً:
يحدثنا أول مندوب سام بريطاني في مصر وأحد أبرز قادة الحملات التغريبية على العالم الإسلامي في العصر الحديث (إفلن بارنج) المعروف بـ (اللورد كرومر) عن أهداف الإنجليز (الحضارية!) فيقول: «المصريون يتمسكون تمسكاً تاماً بالإسلام الذي هو أحد الكلمات المرادفة للوطنية في الشرق، والإنجليز لا يهدفون إلى نشر المسيحية ولكنهم يريدون نشر حضارة تقوم على أساس مسيحي»(1)، فإذا كان الأمر كذلك، فما مصير (الحضارة الإسلامية)؟ يوضح الإجابة لنا الدكتور محمد محمد حسين ملخصاً وجهة نظر المستشرق الإنجليزي المتأمرك هاملتون جب، فيقول: «المقصود من الجهود المبذولة لحمل العالم الإسلامي على الحضارة الغربية هو تفتيت وحدة الحضارة الإسلامية التي تقوم عليها وحدة المسلمين؛ لأن كل قطر سيتجه إلى اقتباس ما يلائم ظروفه من هذه الحضارة، وعند ذلك تتعدد أساليب الاقتباس بتعدد البيئات الإسلامية المختلفة، فتفقد الحضارة الإسلامية طابعها الموحد، بل لا يعود هناك شيء اسمه (حضارة إسلامية)»(2)، وفي مقال: (مصر وغربي آسيا) ضمن كتاب: (وجهة الإسلام) الذي أشرف عليه جب يلفت المستشرق الألماني كامبفماير النظر إلى عوامل وحدة هذه الحضارة حتى يمكن التركيز عليها، ويلخصها الدكتور محمد محمد حسين في ثلاث نقاط: «أولها هي: أهمية الكتلة العربية وخطورتها في نظره، وثانيها هي: أن أهم العوامل التي تستمد منها هذه الكتلة وحدتها هي: اشتراكها في اللغة العربية الفصحى، واشتراكها في العناية بالتراث الإسلامي القديم وتاريخه وأدبه، وثالثها هي: ما يستتر وراء كلامه من أنه يتمنى أن يحدث في مصر ما حدث في تركيا من قطع كل صلة بالماضي الإسلامي واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية»(1).
وهنا يتبين أن المعركة الفكرية ستدور حول عدة محاور: الهجوم على اللغة العربية الفصحى لغة القرآن، ويتضمن ذلك: استهداف الحروف العربية التي تعد أداة لوصل الماضي بالحاضر ولربط الشعوب الإسلامية بعضها ببعض، والهجوم على التراث الإسلامي الذي صيغ بهذه اللغة واستنبط من أسس الإسلام وتصوراته ومقوماته لإفساح المجال أمام الثقافة الجديدة بما تحمله من قيم وتصورات مختلفة، أما المعركة السياسية: فتدور حول التفتيت الذي تحدث عنه جب، وبصفة خاصة تفتيت الكتلة العربية المميزة بموقعها المعنوي والجغرافي والتاريخي.
ولكن على أرض الواقع، كيف ستنفذ المخططات التي وضعت لتحقيق هذه الأهداف؟ وكيف سيقضى على العوائق التي تواجه هذا الغزو في ظل وجود خلاف عميق بين الجديد والقديم والغازي والمغزو؟
نعود إلى اللورد كرومر، فقد «لاحظ كرومر وجود هذا الخلاف بين المسلمين وبين المستعمر الغربي في العقائد وفي القيم، وفي التقاليد والعادات، وفي اللغة، وفي الفن، وفي الموسيقى...
لاحظ كرومر في هذا الفصل أن هذه الخلافات هي السبب في انعدام ثقة المسلم بالمستعمر الأوروبي وسوء ظنه به، وهي السبب في وجود هُوَّة واسعة تفصل بينهما، وتجعل مهمة المستعمر محفوفة بالمتاعب. ودعا من أجل ذلك إلى العمل بمختلف الوسائل على بناء قنطرة فوق هذه الهوة.
وقد اتخذت هذه الوسائل طريقين: أحدهما هو تربية جيل من المصريين العصريين الذين ينشَّؤون تنشئة خاصة تقربهم من الأوروبيين ـ ومن الإنجليز على وجه الخصوص ـ في طرائق السلوك والتفكير. ومن أجل ذلك أنشأ كرومر (كلية فكتوريا)، التي قصد بها تربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط إنجليزي، ليكونوا من بَعْدُ هُم أدوات المستعمر الغربي في إدارة شؤون المسلمين، وليكونوا في الوقت نفسه على مضي الوقت أدواته في التقريب بين المسلمين وبين المستعمر الأوروبي، وفي نشر الحضارة الغربية(2)...(4/378)
أما الوسيلة الأخرى التي اتخذها الاستعمار لإيجاد هذا التفاهم المفقود، وعمل على تنفيذها، فهي أبطأ ثماراً من الوسيلة الأولى، ولكنها أبقى آثاراً... وهي تتلخص في تطوير الإسلام نفسه وإعادة تفسيره؛ بحيث يبدو متفقاً مع الحضارة الغربية، أو قريباً منها وغير متعارض معها على الأقل، بدل أن يبدو عدواً لها معارضاً لقيمها وأساليبها...»(3)، «ومن ثم عمد رجال الاحتلال إلى العمل على زيادة عدد المصريين الآخذين بنصيب من الحضارة الأوروبية»(4).
وماذا يتوخى رجال الاحتلال من ذلك؟ يقول كرومر: «... وإذا استمر المضي في هذا الطريق أصبح المصري الآخذ بحضارة أوروبا أقل مصريةً وأكثر ميلاً لأوروبا؛ إذ يصبح المصريون بهذا الفيضان المتدفق من الحضارة الأوروبية أقل إسلاماً، وهم في الوقت نفسه لم يحصلوا بعد على العمود الفقري في الحضارة الأوروبية»(5)، «أو كما يصفهم في عبارة قصيرة (بأنهم مسلمون وليست فيهم خواص إسلامية، وأوروبيون وليست فيهم خواص أوروبية)»(6) وهو المسخ العلماني التغريبي الذي نراه الآن.
فما الذي حصله هؤلاء إذن؟ يذكرZetland Ma r quis of. أن الهدف النهائي لهذا المسعى هو: «القضاء على استخدام الأساليب الشرقية الموشاة بمدنية أوروبية زائفة، وأن تستبدل بها مدنية غربية حقيقية تقوم على أساس من مبادئ الأخلاق المسيحية»(1)، ويجيبنا كرومر نفسه بما يهدف إليه، فيقول: «الشباب المسلم الدائر في تيار الحضارة الأوروبية يفقد إسلامه ـ أو على الأقل يفقد القدر الأكبر من دينه ـ ويحرم نفسه من أهم مبادئ عقيدته، وفي الوقت نفسه: نادراً ما يتجه هذا الشخص إلى المسيحية... فالحضارة الأوروبية تقضي على دين دون أن تستبدل به غيره ... وهكذا فإنه بحرمان نفسه من عقيدته لن يجد رادعاً أخلاقياً، وفي الوقت نفسه: يحاول تقليد الأوروبي، ولا يترك هذا المصري عقيدته خلف ظهره فحسب، بل إنه يترفع عنها ويزدريها، وهكذا يندفع ـ مغمض العينين ـ بين أحضان الحضارة الأوروبية غير مدرك لحقيقة هامة، هي أن ما يراه ليس سوى المظهر الخارجي لتلك الحضارة، بينما تستقر المعنويات المسيحية تحت هذا المظهر وتتحكم في تحركاته...»(2)! يا لك من لورد خبيث!
«ولكن هل يحيا المصريون هكذا دون عقيدة معينة؟... يوضح كرومر أنه (بمرور الوقت سيخلق المسلمون ديناً لا يقوم على الإسلام الأول، إنه سيقوم على مبادئ جديدة. وهكذا فإن المصري المتحضر بالحضارة الأوروبية هو الحجر الأول وليس الأخير في المجتمع الإسلامي المتطور)، وفي الوقت نفسه ينصح كرومر رجال السياسة الأوروبية بالابتعاد عن كل ما من شأنه أن يعد تحقيراً للعقيدة الإسلامية (ولندع هؤلاء الذين يقودون دفة الدولة على حذر يدكُّون ـ في مكر ـ الصرح الروحي للمجتمع الإسلامي؛ فإن ازدراء العقيدة الدينية للشعب بأسره أمر على جانب كبير من الخطورة سياسياً واجتماعياً)»(3)، وهذه السياسة تذكرنا بنظرة نابليون بونابرت إلى مكانة الدين عند المصريين، وبسياسته القائمة على ترويض الدين ومواجهته باستخدام لقاح من جنسه ضده.
تتفق هذه النظرة مع نظرة (الشيخ) محمد عبده التي عبر عنها بقوله: «أنفس المصريين أُشربت الانقياد إلى الدين حتى صار طبعاً فيها؛ فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذراً غير صالح للتربة التي أودعه فيها، فلا ينبت، ويضيع تعبه، ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك: ما شوهد من أثر التربية التي يسمونها أدبية من عهد محمد علي إلى اليوم»(4)، وقد عبر عن هذه النظرة مرة أخرى ـ عقب عودته من منفاه ـ في نصيحة أسداها ضمن مذكرته المقدمة إلى اللورد كرومر؛ حيث نبه الإنجليز إلى أهمية الدين عند المصريين، فقال: إن «أعظم فاعل في نفوسهم [المصريين] (وأغلبهم مسلمون )أن يقال: إن صاحب هذه المنفعة ليس من دينكم، وأنكم مأمورون ببغضه...»(5).
وكما التقت النظرة في (المثير المانع) من التغيير، التقت أيضاً في منهجية هذا التغيير؛ فقد كان من أقوال محمد عبده التي سطرها لتوضيح هذه المنهجية ـ معترضاً أيضاً على طريقة محمد علي في الإصلاح رغم تقبله لإنجازاتها ـ: « ... ولو أنه [أي صاحب الفكر الرفيع الذي يريد كمال أمة] أراد تحويل أفكار شخص واحد وهو في سن الرجولة، هل يمكنه أن يبدلها بغيرها بمجرد إلقاء القول عليه؟ كلا، إن الذي تمكن في العقل أزماناً لا يفارقه إلا في أزمان، فلا بد لصاحب الفكر أن يجتهد أولاً في إزالة الشبه التي تمسك بها ذلك الشخص في اعتقاداته، وذلك لا يكون في آن واحد، ولا بعبارة واحدة... فما ظنك بحال أمة من الأمم... وإنما الحكمة: أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم يطلب بعض تحسينات فيها، لا تبعد منها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج، حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون...»(6).(4/379)
ويبدو أن الإنجليز استفادوا بالفعل من هذه النصائح؛ يقول الدكتور سامي عزيز: «واتبع الإنجليز الوسيلة التي كان ينادي بها محمد عبده بشأن محاولة تغيير المجتمع...»(1)، فيمكن القول: إن نظرية (الإصلاح) القريب المتدرج والمتصاعد التي آمن بها محمد عبده اتفقت مع أهداف الإنجليز وطباعهم، وإن كنا نمسك عن الخوض في الحديث عن إشكالية الدوافع لكلا الفريقين.
ثم بالإلحاح والإصرار و(التعليم) و (الفن) سينشأ الجيل الجديد، الذي «يجب أن يجد من الإغراء أو الإرغام ما يجعله يمتص الروح الحقيقية للحضارة الأوروبية»(2).
«وهكذا، فإن الاحتلال لن يأتي بشعب جديد إلى مصر؛ ولكنه يعمل في صبر على تغيير الأسس التي تقوم عليها مقومات الشعب، وفي الوقت نفسه وضع كرومر نصب عينيه أن يكون دخول المدنية الأوروبية دون زعزعة كيان المجتمع ثورياًّ»(3).
لم يكن هذا النهج وجهة نظر آنية، بل كان مخططاً مدروساً أصبح فيما بعد أساس التغيير العلماني التغريبي في معظم العالم الإسلامي، حتى إن مؤتمر الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة المنعقد في برنستون عام 1953م (1372هـ) جاء في كتاب أبحاثه: أن «.. هذه المشاكلة لا تقوم إلا بتقارب القيم الأخلاقية والاجتماعية، وهذه القيم لا تتقارب ما دامت الشعوب الإسلامية تعيش على قيم ثابتة تخالف قيم الغرب، وهي قيم الإسلام. فلا بد إذن من أحد حلين:
إما أن يمحى هذا الإسلام بتشكيك الناس فيه، وفي قيمه، وفي الأسس التي يستند إليها، ويحاصر بحيث لا يتجاوز نفوذه المسجد، وبحيث يفقد سيطرته على مسلك الأفراد وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وذلك عن طريق إقناع الناس بأن الدين شيء ومشاكل الحياة شيء آخر.
وإما أن يخضع هذا الإسلام للتطوير بحيث يصبح أداة لتبرير القيم الغربية، ولتقريب ما بين الشعوب الإسلامية وبين الغرب . وهذا الطريق الأخير يكشف عن قوة هائلة لا يغني غَناءَها شيءٌ، إذا أمكن استخدامها كأداة لتحقيق الأهداف الاستعمارية في إقامة علاقة ثابتة من الود والتفاهم. ذلك هو ما ينبه له جوستاف فون جرونباوم أستاذ اللغة العربية في جامعة شيكاغو، حيث يقول: (إن الدين الجديد ـ ويقصد به التأويلات الإسلامية العصرية ـ سيدخل أو يسمح بإدخال أسئلة جديدة تتطلب أجوبة مناسبة، وسيقترح أجوبة جديدة لأسئلة قديمة، أو يخلع صفة الشرعية على أجوبة كانت في النظام المعدول عنه تعتبر أسئلة هدامة أو غير مقبولة) ص 192»(4).
فالحل الأول هو العلمانية الصريحة، والتي كانت تركيا محلاً لتطبيقها، وقد تشاركها في هذا الوصف إندونيسيا وتونس وإيران رضا بهلوي، إضافة إلى تجربة أمان الله خان في أفغانستان، وهي التي أنشأ كرومر كلية فيكتوريا لتفريخ قادتها، أما الحل الآخر: فهو التوفيقية وما يصاحبها من (إصلاح ديني)، وهو ما طبق في مصر على نطاق واسع وكثير من البلدان الإسلامية الأخرى.
لذا: ينبغي لكي نعي مسيرة العلمانية جيداً أن ندرس (التوفيقية) و (الإصلاح الديني).
التوفيقية:
كان التوفيق بين القيم الغربية والإسلام واقعاً في النشاط الفكري في هذه المرحلة، وتعود جذور هذا المنحى إلى رفاعة الطهطاوي في مصر وخير الدين التونسي في تونس، وأحمد خان في الهند، وقد ساهم الأفغاني ـ أيضاً ـ في هذا المنحنى بنصيب.
وقد أشار الأفغاني إجمالاً إلى طرف من منهجية هذه الحركة التجديدية في الدين بقوله: «إن الدين لا يصح أن يخالف الحقائق العلمية، فإن كان ظاهره المخالفة وجب تأويله!»(5)، وقد يكون بين الاعتماد على حقائق العلم (التجريبي) والقول بـ (المادية) فارق دقيق يصعب المحافظة عليه والتنبه له، ولكن التوفيقية في المرحلة التي نتحدث عنها أخذت بعداً أكبر وأثراً أعمق من ذي قبل.
وفي المرحلة التي نحن بصددها رأينا أكثر من اسم لامع، ومن هذه الأسماء: الشيخ اللبناني المولد الأزهري التعلم حسين الجسر (1845م ـ 1909م/ 1261هـ ـ 1327هـ ) الذي «أسس (المدرسة الإسلامية الوطنية) في مسقط رأسه طرابلس، وكان منهج هذه المدرسة يشتمل على تعليم اللغات العربية والفرنسية والتركية، والعلوم الدينية، والمنطق، والرياضيات، والعلوم الطبيعية الأوروبية الحديثة»(1)، ومن جهود الشيخ في هذا المجال كتابه (الرسالة المحمدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيَّة الشريعة المحمدية) حيث نحا في بعض أبحاثه هذا المنحى التوفيقي، فـ «طريقة معالجته لشخصية صلى الله عليه وسلم وتعاليمه يمكن اعتبارها نهجاً جديداً وبالأخص إلحاحه على حق العقل في تفسير القرآن والحديث؛ فهو يدعو إلى تفسيرها حرفياًّ ما لم يتعارض هذا التفسير الحرفي صراحة مع أحد المبادئ العقلية، عندئذ يجب تفسيرها رمزياًّ؛ إذ لا يجوز قبول أي تفسير يتناقض والدليل العقلي القاطع، عندئذ يجب تفسيرها رمزياً»(2).(4/380)
وفي الشام أيضاً نشط عبد الرحمن الكواكبي في بداية حياته قبل أن يواصل هذا النشاط في مصر، وقد كان «ينتمي إلى مدرسة الأفغاني... التي كانت تفكر في المسائل الطارئة بعقل عصري، فتتدارسها في ضوء العلم والعقل النظري، ثم تنقلها إلى الدين وتربط بينهما برباط قوي متين... لذلك فإن آراء الكواكبي في الإصلاح الديني لا تخرج في جملتها عن آراء الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا... »(3)، ويشير بعض الكتاب إلى احتمال تأثر الكواكبي بكتاب (مستقبل الإسلام) لبلنت، كما يشيرون إلى وجود دلائل قوية لاقتباسه إطار ـ وبعض أفكار ـ كتابه عن الاستبداد من كتاب (رسالة في الاستبداد) للمفكر الإيطالي في عصر الثورة الفرنسية فيكتور ألفياري(4)، ومن ثم: فقد ربط الكواكبي ـ متابعاً ألفياري ـ بين الاستبداد والدين، زاعماً أن الاستبداد في السياسة متولد من الاستبداد في الدين أو مساير له، وإن نفى الكواكبي ذلك عن الإسلام الحقيقي(5).
ولم يقف تأثر الكواكبي بالفكر الغربي عند حد الاقتباس، بل سعى إلى حركة توفيقية إصلاحية شاملة في الإسلام؛ إذ «يبدو من كلام الكواكبي [في كتابه أم القرى] على لسان المندوب الإنجليزي أنه يهدف إلى تكوين جماعة من المسلمين تنزع في تفكيرها منزع البروتستانت في تفكيرهم»(6)، ومن هنا لم يجئ طرحه لمبدأ العلمانية في فصل الدين عن الدولة من زاوية إلحادية كما طرحه شبلي الشميل مثلاً، بل جاء طرحاً مناسباً لـ (عالم ديني كبير)(7)، فكانت من أقواله ـ مخاطباً العرب غير المسلمين ـ: « .. دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا... دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط! دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي: فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن..»(8).
وفي تونس كانت مدرسة (الصادقية) التي كان خير الدين التونسي أسسها عام 1875م (1292هـ) لتكون منافسة لجامع الزيتونة ولتعليم اللغات التركية والفرنسية والإيطالية والعلوم الحديثة، فضلاً عن اللغة العربية وعلوم الدين الإسلامي.. كانت قد خرَّجت أجيالاً من الطلاب مزودين بتربية عصرية(9)، وإضافة إلى مجموعة جريدة (الحاضرة) التي تأسست في أغسطس 1881م (1298هـ) واستمرت حتى عام 1906م (1324هـ) متخذة أفكار خير الدين التونسي نبراساً لها، إضافة إلى ما تركته من أثر ثقافي وسياسي في البلاد.. أنشئت عام 1896م (1314هـ) ـ بدعم أو حتى بمبادرة من السلطات الفرنسية ـ(1) «(الخلدونية)، وهي رابطة توخت إطلاع الذين تربوا تربية تقليدية في المدارس القرآنية وفي جامع الزيتونة على العلوم العصرية»(2)، يعبر عن ذلك المنهج أحد إصلاحييها هو سالم بوحاجب في كلمة افتتاحها معتبراً «أن العلم نفسه كان سبب استخلاف الله لآدم وبنيه»(3).
ولكن التوفيقية ارتبطت باسم آخر كان له أكبر الأثر في التنظير لها والمنافحة عنها ثم نشرها في العالم الإسلامي، ألا وهو الشيخ محمد عبده؛ فلقد تزعم محمد عبده اتجاه التوفيق بين الإسلام والغرب وما تبعه من الإصلاح الديني، وهو الاتجاه الذي نادى أصحابه بأن الإسلام هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه الإصلاح، ولكنهم فسروا نصوصه تفسيراً جديدًا يقبل معه كثيراً من أساليب الحياة والتفكير الوافدة من الغرب، وعملوا على تقريب الإسلام من الحضارة الغربية والتفكير الغربي الحديث(4).
اضطلعت المدرسة التوفيقية ـ وعلى رأسها محمد عبده ـ بمهمة ذات شقين: أولاً: إعادة تحديد ماهية الإسلام الحقيقي من وجهة نظرهم، ثانياً: النظر في مقتضيات هذا الإسلام بالنسبة إلى المجتمع الحديث(5)، ومن هذا المنطلق نظر محمد عبده إلى التغييرات الاجتماعية التي أحدثها في عهده الخديوي إسماعيل متابعاً جده محمد علي باشا، فلم يأسف لهذه التغييرات وما أحدثته في القوانين والتعليم، بل رأى أن هذا التطور ـ في خطوطه العريضة ـ لا مرد له، وأنه في صالح مصر(6)، ولكن ـ في الوقت نفسه ـ كان يشغله خطر انقسام المجتمع إلى دائرتين منفصلتين بدون اتصال حقيقي بينهما: دائرة تسودها شرائع الإسلام ومبادئه الخلقية، وهي دائرة آخذة في الانحسار في ذلك الوقت، والدائرة الأخرى في اتساع مضطرد، وهي الدائرة التي قامت على المبادئ المستمدة بالاستنباط العقلي من اعتبارات المصالح الدنيوية(7)، ومن ثم: عمل عبده ـ وخاصة في آخر أيامه ـ على رتق هذا الانقسام مع عدم إيقاف مجرى هذا التطور الذي بدأه محمد علي، «بل الاعتراف بالحاجة إلى التغيير، وربط هذا التغيير بمبادئ الإسلام، وذلك بإثبات أن هذا التغيير الحاصل ليس مما يجيزه الإسلام فحسب، بل إنما هو من مستلزماته الضرورية إذا فهم على حقيقته»(8)، وينبغي علينا وضع خط أسفل (حقيقته).(4/381)
وعلى خطى الطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني سار محمد عبده، فكانت رؤوس الموضوعات هي نفسها: الوطنية الإقليمية، والعناية بالتاريخ القديم السابق على الإسلام ـ الدعوة إلى الحرية وإلى الحياة النيابية ـ الدعوة إلى إعادة النظر في وضع المرأة في المجتمع: في الحجاب، والحد من تعدد الزوجات، والحد من حرية الطلاق(9)... ولكن تلك المفاهيم أخذت بعداً أعمق على يد محمد عبده ومدرسته من بعده؛ فما قدمه رفاعة في ميدان التجديد كان بمثابة البراعم التي تفتحت على يد محمد عبده ومدرسته(10)، وعلى الخطى نفسها سار محمد عبده في المنهج الذي اختطه (الرواد) «في التوحيد بين بعض المفاهيم التقليدية للفكر الإسلامي وبين الأفكار السائدة في أوروبا الحديثة، وعلى هذا النهج انقلبت (المصلحة) تدريجياً إلى المنفعة، و (الشورى) إلى الديمقراطية البرلمانية، و (الإجماع) إلى الرأي العام، وأصبح الإسلام نفسه مرادفاً للتمدن.. ولا شك أنه كان من السهل ـ باتباع هذا النهج ـ تحوير ـ إن لم نقل إبطال ـ المعنى الدقيق للمفاهيم الإسلامية وتناسي ما يميز الإسلام عن غيره من الأديان، لا، بل عن النظرة الإنسانية اللادينية، وهذا ما تنبه له بقلق نقاده المحافظون..»(1).
وهكذا ولد الإصلاح الديني من رحم (المدرسة التوفيقية)؛ فعلى أسس التوفيق بين الإسلام والغرب تحددت معالم (الإصلاح)، وذلك بتضييق نطاق الثابت (الجوهري) في الإسلام الذي لا يقبل التعديل (الاجتهاد)، وهو الاعتقادات والعبادات (رغم أنها لم تسلم أيضاً من اجتهاداتهم)، وتوسيع نطاق المتغير (العرضي) الذي سيتماس مع أوجه الحياة؛ لأنه يشمل (المعاملات)، أو بتعبير الدكتور عزيز العظمة: تضييق مجال الدين وتوسيع نطاق الدنيا(2).
ولكن المدرسة الإصلاحية إذا تعاملت مع هذه الدائرة الأخيرة بالنظرة الفقهية القديمة نفسها لا تكون قد حققت الغرض المرجو، لذا: كان لا بد من تحييد التراث الفقهي، ولا يتم ذلك إلا بمحاربة التقليد، ثم الدعوة إلى الاجتهاد في هذه المسائل من جديد.. «لقد كان [الأفغاني] يؤمن بالأصول ويترك لعقله الحرية في الفروع، ويصل في ذلك إلى نتائج غريبة عن أذهان الجامدين المتزمتين، فيرمى بالإلحاد، فكان ينفر من التقليد ويدعو إلى الاجتهاد»(3)؛ فمن ثوابت دعوة الأفغاني «أن باب الاجتهاد لم يغلق، وأنه لمن حق الناس(!) ـ لا، بل من واجبهم ـ أن يطبقوا مبادئ(!) القرآن مجدداً على قضايا زمانهم، وإذا امتنعوا عن القيام بهذا وقعوا في الجمود والتقليد اللذين لا يقلان عداوة عن الدهرية؛ فمحاكاة أقوال الآخرين وأفعالهم تفسد الدين والعقل معاً»(4).
وبـ (تحرير) العقيدة من قيد التقليد أهدت حركة الإصلاح طوق النجاة إلى حركة التحرر العلمانية، أو كما يقول المستشرق جب: «.. كان [محمد عبده] يرفض قبول مبدأ السلطة، أو التقليد بلا مناقشة ـ كما يقال في الإسلام ـ، وكان هذا الرأي بمثابة خشبة إنقاذ للنزعة العلمانية الجديدة»(5).
وبـ (تحرير) الفقه من القيد نفسه (التقليد) وصلت المدرسة الإصلاحية إلى فتح باب الاجتهاد؛ «لكي يتسنى للعالِم أن يؤول التعاليم الإسلامية تأويلاً جديداً يتلاءم مع روح العصر»(6)، وعلى هذا نستطيع فهم الهدف من دعوة هذه المدرسة إلى الرجوع إلى السلف الصالح ـ في بعض جوانبها ـ على أنه: «النفوذ إلى ما وراء النظم الفقهية المتحجرة ـ كما تبدو في المذاهب الأربعة ـ وفتح باب الاجتهاد، لكي يتمكن العالم من تأويل التعاليم الإسلامية تأويلاً جديداً حراً»(7).
ثم تمخض عن فتح باب الاجتهاد على يد هذه المدرسة دعوة عريضة إلى إعادة تفسير الشريعة كلها، فبعد أن كانت الدعوة إلى الاجتهاد التي أطلقها (الإصلاحيون) الأوائل كالطهطاوي والتونسي مقتصدة غاية الاقتصاد تدعو إليه في أضيق الحدود... «أصبحت من بعد على يد محمد عبده ومدرسته ـ ولا سيما رشيد رضا ـ دعوة عامة تهاجم التقليد، وتطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلامي كله دون قيد، فانفتح الباب على مصراعيه للقادرين ولغير القادرين، ولأصحاب الورع ولأصحاب الأهواء»(8)، ولم تتضح ضوابط شرعية واضحة أو حدوداً قصوى لهذه الدعوة عند المدرسة الإصلاحية، بل كان الهدف الثابت هو الوصول إلى التوفيق الذي مر إيضاحه، «فما نفتقر إليه اليوم إنما هو إعادة تفسير الشريعة لنتمكن من اقتباس ما كان صالحاً من الأخلاق الأوروبية، كإلغاء الرق مثلاً، ومنح المساواة أمام القانون للمسيحيين القاطنين البلاد الإسلامية»(9).
ولكن كيف سيكون الاجتهاد خادماً لذلك التوجه؟ سيكون ذلك من خلال قاعدة يقوم عليها وأصول تنبثق منها، أما القاعدة فهي: «أن العقل يجب أن يحكَّم كما يحكَّم الدين، فالدين عرف بالعقل، ولا بد من اجتهاد يعتمد على الدين والعقل معاً حتى نستطيع أن نواجه المسائل الجديدة في المدنية الجديدة، ونقتبس منها ما يفيدنا»(1)، أما أهم الأصول التي تستخدم في هذا الاجتهاد فنستطيع القول إنها تتمثل في:
1- التوافق مع العقل والعلوم الحديثة، وقد مر بنا سابقاً ما يغني عن تكرار الحديث عن هذا الأصل.(4/382)
2 - تضييق نطاق النصوص الشرعية بالتشكيك في حجية أحاديث الآحاد، وتحييد النصوص القرآنية ظنية الدلالة، ثم تأويل ما تبقى من هذه النصوص إذا بدا (للمجتهد من هذه المدرسة) أن ظاهره مخالف للعقل ـ كما يتصوره ـ، أو للعلوم العقلية ـ في تطورها الآني ـ.
فإذا حوصرت الشريعة في هذا (الحيز الكمي) المحدود فإن ما يتبقى منها ـ على زعمهم ـ هو مبادئ واعتبارات وفضائل عامة تشترك فيها ـ مع الإسلام ـ جميع الأديان والمذاهب المنسوبة إلى السماء أو إلى الأرض، وبذا تتلاشى الفواصل بين الإسلام وغيره، وتذوب معالمه في فضائل إنسانية عامة، يقول الدكتور العظمة: «ولا يخبرنا الإصلاحيون: بأي اعتبار كانت هذه الأمور العامة شرعية إسلامية؟ وما الذي يميزها عن الأصول العامة لجل مجتمعات الدنيا وأسسها الأخلاقية والقانونية؟»(2).
أما إذا تعارض ظاهر نص مع هذا المنحى فإن المدرسة الإصلاحية تلجأ إلى التأويل (التفسير الرمزي) حتى تتفق مع المعطيات الجديدة.
فبالتأويل يصبح النص مرناً وفضفاضاً يمكن تشكيله حسب الحاجة، وتصبح الوقائع المحددة التي وردت في النص مجرد تمثيل لأخذ العبرة والحكمة: «إن النقطة المبدئية التي يؤكدها هذا الموقف [تفسير محمد عبده لعموم طوفان نوح ـ عليه السلام ـ أو عدمه] هي إمكانية الانصراف إلى التأويل ـ بل ضرورته ـ إذا قطع بأن الظاهر (غير مراد): ينسب بذلك مراد العصر إلى عصر النص، أي: إن تأكيد سلطة النص القطعية يجري بإضفاء معنى اليوم عليها مما لا يناسبها بالطبع، فيصبح اليقين والنص صنوين... »(3).
وهكذا «أصبح النص القرآني ـ وخصوصاً آياته الدالة على الأمور الكونية ـ لا يفهم إلا على أن بعض مفرداته قائمة على شيفرة، مفتاحها المعارف العلمية الحديثة»(4).
3 - أما في المسائل الفقهية: فقد عمدت المدرسة الإصلاحية إلى التوسع في استخدام بعض الأصول والقواعد الفقهية التي تلبي حاجتها (التجديدية)، كنظرية العرف، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والمقاصد الشرعية، مع التلفيق بين المذاهب الفقهية وإعادة إبراز الآراء الفقهية الشاذة ـ إن لزم الأمر ـ، للوصول للفتوى التي تطمئن لها عقولهم.
يقول ألبرت حوراني: «فعلى المسلمين اليوم ـ في نظر محمد عبده ـ أن يقوموا بما كان عليهم القيام به دوماً: إعادة تأويل شريعتهم وتكييفها وفقاً لمتطلبات الحياة الحديثة، ولبلوغ هذه الغاية لا بد من الاهتداء بمبدأين سلم بهما الفقهاء وأعطاهما محمد عبده بعداً جديداً: الأول: مبدأ المصلحة... كان هذا المبدأ تقليديّاً بمثابة قاعدة لتأويل النصوص.. فيختار [الفقيه] التأويل الذي يحقق هذه الغاية، أما محمد عبده وأتباعه فقد جعلوا من المصلحة قاعدة لاستنباط شرائع خاصة من المبادئ العامة للخلقية الاجتماعية؛ فالله لم ينزل ـ في رأيهم ـ سوى مبادئ عامة، تاركاً للعقل أمر تطبيقها على قضايا المجتمع الخاصة، وبما أن هذه القضايا تتغير توجَّب تغيير تطبيق المبادئ عليها.. أما المبدأ الثاني: فهو مبدأ التلفيق... فدعا، لا إلى الاستعانة بالمذاهب الأخرى في مسائل معينة فحسب، بل إلى مقارنة علمية بين المذاهب الأربعة أيضاً ـ ناهيك بأحكام الفقهاء المستقلين الذين لم يقبلوا أياً منها ـ بغية وضع (مذهب موحد) يؤلف بين العناصر الصالحة في كل منها، وقد تمكن ـ بوصفه مفتي مصر ـ من وضع هذه الدعوة موضع التنفيذ»(5)، وكانت المصلحة هي الأصل عند تلميذه رشيد رضا الذي توسع كما ذكر ـ من قبل ـ في المرونة (الاجتهادية) أكثر من شيخه، «فالعمل بموجب الحديث الصحيح عند السيد رشيد رضا أمر واجب إن لم ينافِ المصلحة، وإذا نافى المصلحة فإنه سيعتبر ـ حكماً ـ أنه معارض الأصول العامة المؤيدة بالكتاب والسنة، ولأن لا بد له إذن إلا أن يكون من أحاديث الآحاد التي لا تفيد إلا الظن دون اليقين أو الإلزام، فترفض بذلك الأحاديث لاعتبارات نفعية دون الإلماع إلى نواقصها التاريخية [علم الجرح والتعديل]»(1).
4 - ومن الملحوظات في أسلوب عرض أصحاب المدرسة الإصلاحية لآرائهم: الجزم واليقين عندما تكون هذه الآراء متسقة مع منهجهم الجامع بين الإسلام والمعطيات العقلية والعلمية الحديثة وعندما يكون إمرارها بين الناس محتملاً، أما عندما يختل نظم هذا المنهج أو يصعب إمرار الرأي الذي خرجت به فإن التشكيك، أو التفويض و (اللاأدرية)، أو العرض في صورة المحتملات أو الحكاية.. هو الأسلوب المناسب.
وهكذا عمدت المدرسة الإصلاحية إلى إيجاد منظومة من الآراء الجديدة (الفكرية والفقهية) تشمل مجالات الحياة المختلفة، تتسق مع مفاهيمهم العقلية ومعطيات الحياة الغربية، لتشغل الفراغ الكبير في الساحة الفكرية الموجود آنذاك(2)، محاولة رتق الشِّق البادي في توجهات المجتمع.(4/383)
فاجتهادات المدرسة الإصلاحية لم تقف عند حد التوفيق بين الإسلام والأفكار الغربية في المسائل الحياتية المرتبطة بالشريعة (أو الفقه)، ولكنها تجاوزتها إلى (التصورات) و (الغيبيات)، لتربط بينها وبين (العقل)، وهي في هذا المجال قاربت أن تنزلق من (العقلانية) إلى (المادية)، فحرصت ـ ما أمكنها ـ على أن يكون كل تصور مفسراً بالعقل، وأن ترد معظم الغيبيات إلى أصل مادي أو تجريبي، وإلا أوَّلوها تأويلاً أقرب إلى نفيها.
وقد كان هذا المنهج أقرب إلى مخطط الغرب الخبيث لإدخال العلمانية والتغريب إلى العالم الإسلامي بدون إثارة، «.. فإن دخول عناصر جديدة على الحياة الإسلامية كان يقتضي إبراز بعض تعليمات الدين، وتوجيه عناية أكبر إليها، ووضعَها في المكان الأول، ووضعَ تعليمات أخرى في مرتبة غير أساسية. وإذا حدث هذا، فمعناه أن الموازين الدينية والتعاليم الأخلاقية في الإسلام آخذة في التحول، وأن هذا التحول يتجه نحو تقريبه من الموازين الغربية في الأخلاق التي هي في الوقت نفسه متمثلة في التعاليم الأخلاقية للكنيسة المسيحية.
ويقرر جيب أن في كل البلاد الإسلامية... حركات معينة تختلف قوة واتساعاً ترمي إلى تأويل العقائد الإسلامية وتنقيحها، ثم يقول: وقد اتجهت مدرسة محمد عبده بكل فروعها وشُعَبها نحو تحقيق هذا الهدف، بل لقد ظهر كثير من العلماء المستقلين الذين نادوا بآراء أكثر تقدماً وجرأة، لا سيما في الهند. ولكن الواقع هو أن معظم ما تم من تعديل وتحوير خفي لا يبدو للنظرة السطحية»(3).
ويقول بولسون نيومان «... فإذا أمكن للمبادئ الإسلامية أن تتطور مع الزمن المتطور، بدلاً من الارتباط بعالم خيالي لا يسمح للتطور الزمني أن يتطرق إليه... عند ذلك: سوف تصبح يقظة الشرق حقيقة واقعة، وليست أضغاث أحلام، وعند ذلك سوف يتحرر ملايين البشر من هذه العقائد الأثرية الشيباء ليأخذوا مكانهم بين الحركات الحديثة»(1).
لذا: فقد لاقت فكرة الإصلاح الديني أو الاجتماعي «هوى في نفس كرومر؛ لأنها الفكرة التي تشغل بال الرأي العام المصري عن المطالبة بالاستقلال أو الجلاء، أو لأنها الفكرة التي لو نجحت في مهمتها(!)لأصبحت دليلاً على نجاح الاحتلال البريطاني في مهمته، وهذه المهمة في ظاهرها هي الأخذ بيد المصريين إلى الحضارة والسير بهم إلى حيث يلحقون بالأمم الأخرى»(2).
من التوفيق إلى التقريب:
لم تقف جهود المدرسة الإصلاحية عند حدود توفيق الإسلام (عقيدة وشريعة) مع الفكر الغربي وإذابة الفوارق والفواصل بينهما، بل سعى بعض رموز هذه المدرسة إلى (التقريب) بين الإسلام والأديان الأخرى.
فمحمد عبده يقول: «إن القرآن ـ وهو منبع الدين ـ يقارب بين المسلمين وأهل الكتاب حتى يظن المتأمل فيه منهم أنهم لا يختلفون عنهم إلا في بعض أحكام قليلة»(3).
ولقد أخذ هذا الفهم النظري شكل السعي العملي؛ فها نحن نجده بعد إغلاق صحيفة العروة الوثقى وعودته من باريس إلى بيروت يؤسس (جمعية التأليف والتقريب بين الأديان السماوية)، وشاركه فيها آخرون من المسلمين والنصارى واليهود، من أبرزهم القس الإنجليزي إسحاق تايلور المعروف بالدعوة إلى ذلك، وجي دبليو لينتز، وحسن خان مستشار السفارة الإيرانية بالآستانة، وكان محمد عبده صاحب الرأي الأول في إنشائها ونظامها، أما هدف الجمعية فكان: التقريب بين الأديان السماوية الثلاثة، وإزالة الشقاق بين أهلها، وإحلال التعاون بدل الفرقة والخصام(4).
مكمن الخطر في المدرسة الإصلاحية:
إننا لا نستطيع الآن ـ وقد ماتت أنفس لا تستطيع الدفاع عن نفسها، وطمرت أحداث لا نستطيع جلاءها ـ أن نصدر حكماً ـ بالإدانة أو البراءة ـ على المدرسة الإصلاحية، وليس هذا من أهدافنا أصلاً، فهدفنا رصد الخطوات والمؤثرات والوقائع التي أدت إلى العلمنة والتغريب الذي تحياه معظم مجتمعاتنا المعاصرة بدرجات متفاوتة.
قد يكون في أتباع هذه المدرسة مخلصون أرادوا ـ في ظل هذه الظروف الصعبة والمعقدة ـ الدفاع عن الإسلام وإصلاح الواقع الاجتماعي والثقافي والوقوف دون انهيار إيمان المسلمين أمام المد الإلحادي... يحتمل !، وقد يكون فيهم عملاء مأجورون باعوا أنفسهم للغرب أو انبهروا به إلى حد الذوبان فيه وخدمته تلقائيّاً... ربما!، وقد يكون فيهم من تمثل فيه هذا الوصف وذاك ... ليس بمستبعد!
ولكننا ـ على العموم ـ لا نستطيع أن ننظر بعين واحدة ـ هي التي تنشط في دراسة كهذه ـ عند تقييم هذه المدرسة؛ فقد كان لها بالفعل آثار ملموسة في نبذ الخرافات وكسر الجمود الفقهي وإعادة تشكيل الفكر الإسلامي، وفي الوقت نفسه: فإننا لا نستطيع تجاهل الانحرافات العقدية والعلمية والعملية التي وقعت فيها هذه المدرسة، وأيضاً لا نملك ـ علميّاً وأدبيّاً ـ حق التغاضي عن الدور الذي قامت به والأثر الملموس الذي أحدثه روادها ـ قصدوا أو لم يقصدوا ـ في تقريب العلمانية والتغريب إلى المجتمعات الإسلامية.(4/384)
لم يكن مستغرباً أن يتفق الإسلام مع العقل، ولم تكمن خطورة المدرسة الإصلاحية في انفتاحها على الفكر الغربي ونهلها من نتاجه، إنما تمثل مكمن الخطورة في المدرسة الإصلاحية في عدة أمور، منها:
أولاً: أن تفسير الدين ونصوصه بالعقل المحض الذي وصل إلى حد أن يكون ذلك قاعدة الاستدلال الأساس، والذي انبنى عليه تأويل النصوص بحسب معطيات العلم التجريبي الغربي المعاصر.. كان ذلك بمثابة محاولة لإخضاع علم الله وقدرته المطلقين وغير المحدودين لإدراك العقل الإنساني وتصوراته ومعارفه وتجاربه التي تتسم بالقصور والمحدودية والنسبية، ليس بالنسبة لعلم الله وقدرته فقط، بل بالنسبة للعقل الإنساني نفسه الذي تختلف قدراته من شخص إلى آخر، وتختلف تجاربه ومكتسباته العلمية من عصر إلى آخر، كما أنه ليس في الوجود البشري عقل مطلق ومجرد نستطيع القياس عليه واتخاذه حَكَماً يرجع إليه البشر في تصوراتهم وأفكارهم ومناهجهم وأخلاقهم.
فهم بهذا التوسع يعملون على تفسير المطلق وغير المحدود بالنسبي والمحدود، وفي ذلك ما فيه من مخالفة العقل نفسه، إضافة إلى خطورته على توحيد الله والإيمان به.
ثانياً: أن محاولة إخضاع الغيبيات والخوارق المذكورة في الكتاب والسنة للتفسير المادي أو التجريبي... فيه نوع من اختزال الإيمان بالغيب لحساب عالم الشهادة؛ فإنه عندما يؤمن المسلم بتفسير غيبية أو خارقة بناءً على مشاهداته المحسوسة أو المتصورة التي قد تتكرر أو تفتعل بإرادة المخلوقين أو سيطرتهم.. فإنه لا يؤمن حينئذ بغيب، بل يؤمن بمشاهد أو مشهود، وهكذا: كلما فسرنا غيبية بهذا التفسير نقلناها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وفي النهاية يتقلص الإيمان بالغيب ويتمدد الإيمان بالشهادة، وهذه نقلة نحو المادية وابتعاد عن الدين الذي تقوم قاعدته الكبرى على الإيمان بالغيب: {ذّلٌكّ پًكٌتّابٍ لا رّيًبّ فٌيهٌ هٍدْى لٌَلًمٍتَّقٌينّ > پَّذٌينّ يٍؤًمٌنٍونّ بٌالًغّيًبٌ $ّيٍقٌيمٍونّ پصَّلاةّ $ّمٌمَّا رّزّقًنّاهٍمً يٍنفٌقٍونّ} [البقرة: 2، 3].
ثالثاً: إذا كان القرآن، وكذلك السنة، لم يأتيا إلا بمبادئ وحدود عامة في التشريع ـ بحسب اجتهادت المدرسة الإصلاحية ـ، وإذا فسرت الغيبيات والمعجزات التي ذكراها تفسيراً مادياً يمكن أن يحدث لأي أحد، وإذا كان ما ورد فيها من ذكر للأحداث والأسماء التاريخية ليس لذكر حقائق تاريخية بل فقط للاعتبار والتذكر، وإذا كان الأمر نفسه بالنسبة لـ (إشارات القرآن) في الفلك والاقتصاد.. وإذا أهدرت أحاديث الآحاد ـ ومعظم السنة أحاديث آحاد ـ ثم أوِّل ما تبقى منها أو حيد عنها بدعوى تحقيق المصلحة وموافقة المقاصد ...فضلاً عن إهدار التراث الفكري الذي خرج من هذين المصدرين، وإذا كانت (الشريعة) يمكن التلاعب بها إلى الحد الذي رأينا في فتاوى هذه المدرسة... فماذا يتبقى من الإسلام إذن؟
إن المدرسة الإصلاحية ـ باتباعها ذلك المنهج ـ تكون قد قامت بعملية الإخلاء اللازمة لاحتلال الفكر الغربي قواعد الفكر الإسلامي.
رابعاً: كان من أثر روح الهزيمة النفسية التي سادت المدرسة الإصلاحية والتداعيات التي تمخضت عنها، والتفاعلات المستمرة مع أصحاب اتجاه العلمانية الصريحة ... أن الإصلاحية لم تستطع الصمود أمام الهجوم العلماني والإلحادي المادي؛ فلقد «كانت قوة التحدي الأوروبي ـ الحضاري والسياسي ـ أعظم من أن تصمد لها توفيقية محمد عبده ومعادلته التي حاولت بعد أزمان من التنافر والعداء الجمع بين الإسلام والغرب في صيغة تصالحية واحدة ... »(1)، فكانت النتيجة تقهقر هذه المدرسة وتراجعها عن مواقعها شيئاً فشيئاً أمام اتجاه العلمانية الصريحة، متوسعة في منهجها التوفيقي الاعتذاري وتطبيقاته على أوجه الحياة.
خامساً: نتج عن هذا التقهقر وذلك الإخلاء للمواقع أنَّ العلمانيين وجدوا في أدبيات المدرسة التوفيقية الإصلاحية أدوات ومسوغات يغزون بها المجتمعات الإسلامية على نطاق واسع، كما أن شهيتهم ازدادت شراهة لعرض أفكارهم، وفي الوقت نفسه: أصبح منهج المدرسة الإصلاحية وسيطاً مناسباً لحمل هذه الأفكار الغربية، أو كما يقول ألبرت حوراني عن رائد هذه المدرسة (محمد عبده): «لقد نوى إقامة جدار ضد العلمانية، فإذا به في الحقيقة يبني جسراً تعبر العلمانية عليه، لتحتل المواقع واحداً بعد الآخر، وليس من المصادفة ـ كما سنرى ـ أن يستخدم معتقداته فريق من أتباعه في سبيل إقامة العلمانية الكاملة»(2)، ويقول شيخ الإسلام بالدولة العثمانية مصطفى صبري: «فلعله وصديقه ـ أو شيخه ـ جمال الدين أرادا أن يلعبا في الإسلام دور لوثر وكلفين زعيمي البروتستانت في المسيحية، فلم يتسن لهما الأمر لتأسيس دين حديث للمسلمين، وإنما اقتصر تأثير سعيهما على مساعدة الإلحاد المقنَّع بالنهوض والتجديد...»(3).(4/385)
سادساً: ومثلما ساهمت المدرسة الإصلاحية على إسقاط الحاجز الفكري بين الإسلام والغرب بتقريب الفكر الغربي إلى المجتمعات الإسلامية ساعدت على إسقاط الحاجز النفسي لدى النخبة المثقفة لقبول العلمانية والتغريب، فـ «عند أولئك الذين تعلموا في المدارس الحديثة كانت جاذبية وجهة نظر الإمام محمد عبده للإسلام تكمن في أنها حررتهم لقبول أفكار الغرب الحديثة بلا أدنى إحساس بالتخلي عن ماضيهم...»(1).
سابعاً: تطورت معادلة التوفيقية الإصلاحية على يد تلاميذ محمد عبده من القول: «إن المدنية الحقيقية تتوافق مع الإسلام» إلى القول: «إن الإسلام الحقيقي يتوافق مع ما تأتي به المدنية»(2)، أو بمعنى آخر: من شرح الحضارة (العمران) والأفكار الغربية بما يوافق الإسلام (الحقيقي)، إلى تطويع الإسلام وإعادة تفسيره لحمله على موافقة الحضارة (العمران) والعقل الغربي، والحقيقة أن هذا التطور في تلك المعادلة كان قد بدأ على يد محمد عبده نفسه، ولكن تلامذته خاضوا فيه بصورة أوضح.
كما انهارت الموازنة بين قيم الإسلام وتصوراته وبين أفكار الغرب وعلومه، وهي الموازنة التي كان يحرص عليها ـ إجمالاً ـ محمد عبده، وافترقت خطى مدرسته من بعده، فمال رشيد رضا بفكره إلى سلفية أكثر، بينما اتجه سعد زغلول وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وعلي عبد الرازق... وغيرهم، إلى شبه قبول مطلق للفكر الغربي، مطالبين بعلمانية متشبهة بالغرب وبفصل الدين عن الدولة(3).
وعليه: نستطيع القول: إن المدرسة الإصلاحية ـ بعد توظيف الغرب لها خدمة لأهدافه ـ عادت من حيث بدأت: إسلاماً يواجه الفكر الغربي، وتغريباً وعلمانية يحاصران الإسلام ويعملان على إقصائه من واقع الحياة.
ثامناً: رسخت المدرسة الإصلاحية استمرار النهج التلفيقي المخادع الذي بدأه الطهطاوي والتونسي، القائم على تلبيس الحق بالباطل وتخليط الصواب بالخطأ، والذي كان مقتضاه تقديم التغريب والعلمانية على طبق من الدين، وهذا الأسلوب في تقديم العلمانية والتغريب باسم الإسلام في هذه المرحلة المبكرة هو ما تمناه المستشرق القسيس المنصر (زويمر) عندما قال هو وزملاؤه: «تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم؛ لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها»(4)، وقريب منه ما ذكره (الشيخ) محمد عبده ـ في رسالة مريبة منه بخط يده إلى أستاذه جمال الدين الأفغاني عام 1300 هـ (1883م) بعد مناظرة الأخير الشهيرة مع رينان ـ : «نحن الآن على سنتك القويمة: لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين، ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً ركعاً سجداً..»(5)، وهذا ما عبر عنه أحد المفكرين المعاصرين بأن العلمانية دخلت إلى العالم الإسلامي لابسة عمامة، وهو الأسلوب نفسه الذي يحاول اتباعه الآن (الإصلاحيون) في إيران وبعض (التنويريين) في بقاع أخرى من العالم الإسلامي، وعكسه ما يحاوله بعض الإسلاميين في تركيا (إعادة الإسلام لابساً قبعة).
ويمكن القول ـ إذا لم نتحلَّ بدرجة كبيرة من إحسان الظن بهم ـ: إن (الإصلاحيين) في ذلك الوقت لم يكن في وسعهم إلا اتباع ذلك الأسلوب المخادع حتى لا يصطدموا مع عامة الأمة وعلمائها (المتعصبين).
(ü) هذه المقالات مقتطفات مختصرة من كتاب يعده الأخ الكاتب عن تاريخ العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي، وقد آثر ـ جزاه الله خيراً ـ مجلة البيان بنشر هذه المقالات قبل نشره للكتاب. ـ ^ ـ
(1)Mode r n Egypt ، ج 2، ص 132 ـ 133 نقلاً عن د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص 300، وانظر أيضاً: ص 226.
(2) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج 2، ص 215، وانظر: وجهة الإسلام، ص 40.
(1) السابق، ج 2، ص 214، وانظر: وجهة الإسلام، ص 69، وما بعدها.
(2) وبالفعل يكاد ألا يخلو قطر عربي ممن تربى فيها وتخرج منها ثم تسنم في بلاده مناصب سياسية أو اجتماعية أو ثقافية وتربوية أو إعلامية رفيعة، مما مكنهم من التأثير في تلك البلاد، حتى إن هذه الكلية ( وهي مدرسة من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية ) التي أصبح لها فروع عديدة تفخر بذلك وبأنها يطلق عليها اسم: (مدرسة المشاهير).
(3) الإسلام والحضارة الغربية، ص 45 - 46. (4) د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص 300.
(5)Mode r n Egypt ، ج 2، ص 228، 231، نقلاً عن: د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص 300.
(6) د. سامي عزيز، المصدر السابق.
(1)C r ome r Lo r d ، ص 89، نقلاً عن: الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، ص 226.
(2)Mode r n Egypt ، ج 2، ص 228 ـ 231 ، نقلاً عن: د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص 301.
(3) د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص302.
(4) تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده، لمحمد رشيد رضا، ج 2، ص 537.
(5) السابق، ج 2، ص 536.
(6) مقال خطأ العقلاء، بجريدة (الوقائع المصرية) سنة (1298هـ / 1881م)، نقلاً عن: تاريخ الأستاذ الإمام..، ج 2، ص 120 ـ 121.
(1) الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، ص 224.
(2)Mode r n Egypt ، ج 2، ص 538، نقلاً عن: د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص 276.
(3) د. سامي عزيز، مصدر سابق، ص 225 ـ 226.(4/386)
(4) د. محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، ص133 ـ 134.
(5) زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 114، وانظر: خاطرات جمال الدين الأفغاني، لمحمد باشا المخزومي، ص 99 ـ 104.
(1) الفكر العربي في عصر النهضة، لألبرت حوراني، ص 230.
(2) نفسه، وقد كان الشيخ حسين الجسر على صلة وثيقة بمحمد عبده، كما كان أستاذاً لمحمد رشيد رضا، انظر مثلاً: تاريخ الأستاذ الإمام، ج 1، ص 404، 998 ـ 999.
(3) د. نزيه كبارة، عبد الرحمن الكواكبي، حياته وعصره وآراؤه، ص 108، وانظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 277 ـ 278، والعلمانية من منظور مختلف، للدكتور عزيز العظمة، ص 163.
(4) انظر: المصادر السابقة.
(5) انظر: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، للكواكبي، ص 35- 49، وانظر أيضاً: صحوة الرجل المريض، للدكتور موفق بني المرجة، ص 203، وعبد الرحمن الكواكبي..، ص 71 ـ 75 ، والعلمانية من منظور مختلف، ص 163.
(6) د. نزيه كباره، مصدر سابق، ص 105، وانظر: أم القرى، للكواكبي، ص 106 ـ 108، و د. أسعد السحمراني، مصدر سابق، ص 65.
(7) انظر: الإمام الكواكبي ـ فصل الدين عن الدولة، لجان دايه، ص 18. (8) طبائع الاستبداد..، للكواكبي، ص 122.
(9) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 95، 373، والعلمانية من منظور مختلف، ص 85.
(1) انظر: صحوة الرجل المريض، ص 148، والعلمانية من منظور مختلف، ص 92.
(2) الفكر العربي في عصر النهضة، ص 369. (3) العلمانية من منظور مختلف، ص 158.
(4) انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج 1، ص 327، 329، 370، والفكر العربي في عصر النهضة، ص 152.
(5) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 149.
(6) انظر: مقال (خطأ العقلاء) لمحمد عبده، المنشور في جريدة الوقائع المصرية (1298هـ/ 1881م)، نقلاً عن: تاريخ الأستاذ الإمام، ج 2، ص 119، وقد هاجم محمد عبده فيما بعد محمد علي، عندما اختلف مع أمراء أسرته الحاكمة، حاملاً عليه عدم اهتمامه إلا بما يمس أسرته وجيشه.. ولكن لاحظ في هذا المقام أن الأفغاني كان قد أثنى كذلك على هذه التغييرات ووصف محمد علي بأنه (الرجل العظيم)، انظر: خاطرات جمال الدين الأفغاني..، ص 183، ولاحظ أيضاً أن الوصف نفسه لمحمد علي كان قد نعته به اللورد كرومر، مثنياً على محمد علي، ذلك الرجل العظيم، الذي يكفيه من مآثره كونه (بتر) مصر من الدولة العثمانية وجعل لها وجوداً إدارياً مستقلاً، انظر: مصر الحديثة، ص 22، 134.
(7) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 145، 146. (8) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 148.
(9) انظر: الإسلام والحضارة الغربية، ص 78. (10) انظر: معالم على طريق تحديث الفكر العربي، د. معن زيادة، ص 201.
(1) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 153. (2) انظر: العلمانية من منظور مختلف، ص 166.
(3) أحمد أمين، مصدر سابق، ص 113.
(4) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 136، وانظر: خاطرات جمال الدين الأفغاني..، ص 111 - 112،.
(5) الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ص 62، وانظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج 1، ص 340 ـ 341.
(6) ماجد فخري، دراسات في الفكر العربي، ص 246. (7) السابق، ص 278.
(8) د. محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، ص 50. (9) ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص 163، وانظر: ص 159.
(1) أحمد أمين، مصدر سابق، ص 337. (2) العلمانية من منظور مختلف، ص 165.
(3) د. عزيز العظمة، مصدر سابق، ص 171 ـ 172، وما بين القوسين من كلام رشيد رضا، وراجع كلام محمد عبده نفسه ـ حول طوفان نوح عليه السلام ـ في: تاريخ الأستاذ الإمام، ج 1، ص 666 ـ 667. (4) السابق، ص 172.
(5) الفكر العربي في عصر النهضة، ص 159 ـ 160، وانظر: ص 242، والعلمانية من منظور مختلف، ص 166.
(1) د. عزيز العظمة، مصدر سابق، ص 168.
(2) إليك نموذجاً للبديل (الفكري) السائد في هذا الوقت في مواجهة العلمانية الصريحة والإلحاد الذي ذكرناه سابقاً، لتعرف مدى الفراغ الذي كان موجوداً في الساحة آنذاك، ومدى (الانبهار) الذي قد يحدث عندما تقدم المدرسة الإصلاحية منهجها وآراءها لملء هذا الفراغ: إذ يروي أحمد شفيق باشا أن شيخ الأزهر انتدب في رمضان سنة 1309هـ (1892م) الشيخ أحمد الرفاعي لإلقاء بعض دروس التفسير بين يدي الخديوي عباس بقصر عابدين، أي: إن الشيخ الرفاعي منتدب من أعلى هيئة علمية دينية في البلاد إلى أعلى سلطة سياسية فيها، يقول أحمد شفيق: «... وقد ظل الأستاذ عدة أيام يتابع دروسه، وكنت ممن يحضرونها، وكان كثير الإسهاب في إيراد أقوال المفسرين، وإيراد بعض الروايات الغريبة.(4/387)
وفي ذات يوم تحدث عن {إرّمّ ذّاتٌ پًعٌمّادٌ} [الفجر: 7]، فهالنا ما أورده عنها من الروايات الغريبة، ولا سيما القول بأنها مدينة شُيِّدت طوبة من الذهب وأخرى من الفضة، وأنها معلقة بين الأرض والسماء !، ثم توسع في ذلك وعرض إلى علم الفلك بأسلوب يثير الإشفاق والضحك، فكنا والخديوي نزم شفاهنا حتى لا يغلبنا الضحك الرنان» (مذكراتي في نصف قرن، ج 2، ص 28)، ولا شك أن أمثال هذه العروض كانت تساعد على دفع أصحاب القرار والمثقفين من أمثال هؤلاء نحو تبني خيار العلمانية والتغريب، ولا شك أيضاً أن من يأتي بعد ذلك وينفي عن الدين هذه الأقوال المضحكة ويقدم تفسيراً للدين فحواه أنه موافق للعلم الحديث لا يخرج عنه، ويحافظ على إيمان الناس بدينهم مع عدم الاصطدام بقناعاتهم العلمية والفكرية.. سيفتن الناس به ويقبلون عليه أياً كانت آراؤه غريبة أو غير مقبولة من الأوساط الدينية (المحافظة).
(3) د. محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج2، ص213 ـ 214والآراء المذكورة مقتبسة عن كتاب جب: وجهة الإسلام (Whi r he r Islam).
(1) بريطانيا العظمى في مصر (G r eat B r itain in Egypt)، ص165، نقلاً عن: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ج 2، ص307 ـ 308 .
(2) عبد اللطيف حمزة، الصحافة والأدب في مصر، ص123 ـ 124، نقلاً عن: الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، ص 307، وانظر: الإسلام والحضارة الغربية، ص 77.
(3) تاريخ الأستاذ الإمام، ج 2، ص 538.
(4) انظر: تاريخ الأستاذ الإمام، ج 1، ص817 ـ 829.
(1) د. محمد جابر الأنصاري، تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، ص 17.
(2) الفكر العربي في عصر النهضة، ص 153، وانظر: الاتجاهات الحديثة في الإسلام، لهاملتون جب، ص 70، والإسلام والحضارة الغربية، ص 78.
(3) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، ج 2، ص 144.
(1) ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب العربية، ج 2، ص 145، وانظر: الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ص 70.
(2) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 170، وتحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، ص 9، 19.
(3) انظر: الفكر العربي في عصر النهضة، ص 171، 172، 153، و معالم على طريق تحديث الفكر العربي، ص 231، وتحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، ص 19، والاتجاهات السياسية في العالم العربي، ص 78.
(4) الغارة على العالم الإسلامي، لخصها ونقلها إلى العربية، محب الدين الخطيب ومساعد اليافي، ص 80.
(5) محمد عبده، سلسلة الأعمال المجهولة، لعلي شلش، ص 53، وانظر: العلمانية من منظور مختلف، ص 179، ومنهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، لفهد بن عبد الرحمن الرومي، ص 161، وانظر صورة الرسالة بخط محمد عبده، ص 162، 163، من الكتاب الأخير، وقد حذف رشيد رضا هذا المقطع عند إيراده لرسالة محمد عبده في (تاريخ الأستاذ الإمام) على عادته في حذف ما يرى عدم مناسبة نشره، انظر: تاريخ الأستاذ الإمام، ج 2، ص 599.
مجلة البيان
===============(4/388)
(4/389)
سوبر ستار العرب (ماذا قال عبد الباري عطوان)
كل عام وأنتم بخير
أكيد الكل شاف برنامج السوبر ستار في قناة المستقبل تعالوا نشوف ماذا علق عبد الباري عطون على هذا البرنامج.
عبد الباري عطوان:
نعترف أننا ارتكبنا خطيئة كبري عندما نعينا في افتتاحية سابقة الرأي العام العربي، ووصفناه بالموات. فالمظاهرات والمهرجانات التي تجري حالياً في الأردن ولبنان وسورية في إطار حمي اسمها سوبر ستار تؤكد أن الشارع العربي يتحرك فعلاً، ولكن في الاتجاه الأمريكي الصحيح.
محطة المستقبل الفضائية اللبنانية التي نقلت إلينا هذه التقليعة الجديدة، في حال بث مستمر لتشجيع الناس علي التصويت للاختيار بين الأردنية ديانا كرازون والسورية رويدا عطية.
التلفزيون الرسمي السوري ألغى معظم برامجه الخفيف منها والثقيل، وأقام مهرجانات في الحدائق العامة، وفي مختلف المدن والمحافظات، ونصب شاشات عملاقة لحشد التأييد والمساندة لرمز سورية الوطني رويدا عطية، التي ستحرر الجولان وفلسطين وربما العراق بعد فوزها!
في الأردن نسي الناس أزمات المياه وانقطاع الكهرباء، والبطالة المتفاقمة، والفقر المدقع، وباتوا في حال استنفار لدعم القضية الوطنية الأولى، أي التصويت لاختيار الآنسة ديانا، حتى ترفع رأس الأردن والأمة العربية في المعركة المصيرية ضد السورية رويدا.
لبنان وضع مزارع شبعا جانباً، فالوقت ليس وقت مقاومة وتحرير، هناك ما هو أهم، فالصحف منشغلة بالمرشح اللبناني ملحم زين الذي خرج من المسابقة ضحية مؤامرة إمبريالية كبرى تستهدف لبنان وأرضه وأرزه وتاريخه الحضاري، حتى إن الخبر الرئيسي في نشرة أخبار تلفزيون المستقبل يوم أمس هو استقبال الرئيس اللبناني إميل لحود للمرشح المهزوم ملحم زين، وعلى قدم المساواة مع وزير الخارجية الفلسطيني نبيل شعث.
نأسف أن نقول وبألم شديد: إننا نعيش علامات الساعة. وأن أمتنا التي طالما أنشدنا لها، وسطرنا القصائد في التغني بأمجادها، وعظمتها، هي أمة وصلت إلى أدني درجات التفاهة، ولهذا تنهال عليها الهزائم والنكبات من كل حدب وصوب.
بغداد تحت الاحتلال، وقوات أمريكية تعربد وتقتل وتنتهك حرمات وطن وشعب، وانتفاضة في الأرض المحتلة تذبح، وأغلى المقدسات تتعرض للتدنيس في القدس، ولا أحد يتحرك أو يحرك ساكناً، ولكن قضية ديانا، وملحم ورويدا تحرك الملايين، وتدفعهم إلى الشوارع متظاهرين لأبطال العرب الجدد ومصدر فخرهم وعزتهم.
التلفزيونات الرسمية العربية لم تهتم الاهتمام نفسه بغزو العراق، ولم تحرض الجماهير للتظاهر ضد العدوان، ولم تنصب الشاشات الضخمة والعملاقة في الساحات العامة لحشد التأييد للانتفاضة والتضامن مع شهدائها، ولكنها تفعل ذلك من أجل صوت ديانا الذهبي، وأحبال رويدا الصوتية البلاتينية.
قوات الأمن في الأردن وسورية ولبنان لم تطلق كلابها البوليسية لنهش لحوم المتظاهرين، ولم تستخدم الهراوات الغليظة لشج رؤوسهم، فهذه هي المظاهرات النموذجية التي تتمناها في هذه المرحلة، وكل المراحل القادمة، وهذه هي القضايا المصيرية التي يجب أن ينشغل بها الرأي العام.
فالتنافس بين الأردن وسورية ولبنان أو أي من البلدان الأخرى، لا يجب أن يكون في قضايا متخلفة مثل تحرير العراق أو فلسطين، أو في كيفية إطلاق الحريات العامة وحماية حقوق الإنسان، وتكريس القضاء المستقل، التنافس يجب أن يكون في الغناء والطرب والرقص، التصويت يجب أن لا يكون لانتخاب برلمان حر ديمقراطي، وفي ظل نظام حزبي تعددي، فهذا مضيعة وقت، وإهدار للمال والجهد. التصويت الصحيح والحضاري هو لاختيار من يحرك وسط الجماهير رقصاً، ورؤوسها طرباً بصوته العذب، وحنجرته الأصيلة.
الحناجر القوية التي تهتف بسقوط الاستعمار، وتطالب بالتحرير، وتتبني المطالب الشعبية في الاستقلال الحقيقي، هذه حناجر أصواتها نشاز، وأحبالها الصوتية مزعجة يجب أن تقطع من جذورها. فمن العار أصلاً أن تكون موجودة في زمن ديانا ورويدا وملحم السعيد.
إنه نجاح كبير ومذهل لكل جهود التسخيف والتسطيح التي مارستها الأنظمة العربية وإعلامها للمواطن العربي، والذوق العام. ولا بد أن الإدارة الأمريكية مسرورة بهذا الإنجاز وتعكف حالياً على إعداد برقيات التهنئة للمسؤولين عنه.
أمريكا لم تعد بحاجة إلى إقامة إذاعات أو محطات تلفزيونية لغسل دماغ المواطن العربي، من خلال الموسيقي الشعبية والمسلسلات المكسيكية، والأفلام الخليعة، فقد كفتها التلفزيونات العربية هذه المهمة الصعبة التي خصصت لها عشرات الملايين من الدولارات، وجيوشاً من الخبراء في علم الاجتماع والنفس والإعلام. وها هي تحقق لها أهدافها مجاناً ودون مقابل.
إن ما يجري هو أحد أبرز عناوين الانحدار والتفاهة، والتخدير الفكري والاجتماعي والسياسي والوطني.(4/390)
نعترف مرة أخرى أننا ننتمي إلى فكر منقرض، وإلي أمة غير الأمة التي نعرفها، فمن كان يصدق أن نشاهد رجال دين يتدخلون لمنع التظاهر ضد الاحتلال في العراق، وحكومات عربية تعترف بمجلس حكم نصبه الأجنبي الغازي، ورئيس وزراء فلسطيني ينفي وجود أي عداء بين العرب واليهود، وزعماء عرب يطالبون شعوبهم بالتصويت لمطرب أو مطربة في برنامج تلفزيوني غرائزي!
إنها فعلاً علامات الساعة والبقاء لله.
http://www. r af7.com المصدر
============(4/391)
(4/392)
تغيير مناهجنا الدراسية إلى أين؟
د.سليمان بن حمد العودة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره...
بوأ الله لإبراهيم مكان البيت، وأراده الله قلعة للتوحيد "ألا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً"(الحج: من الآية26)، واستجاب الله دعاء إبراهيم وبعث في أمة العرب رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
وكانت بلاد العرب وأرضُ الحرمين جزيرة الإسلام، منها شعّ نوره ومن بطاحها بُعث نبيه _ r _، ومنها انطلقت قوافل المجاهدين يفتحون البلاد ويدعون العباد إلى الحق، وكان الإسلام قدرَ الجزيرة، وكان فضل الله عظيماً على أهلها إذ جعلهم حملة الإسلام الأول، وأهلَ السابقة والفضل"بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(الحجرات: من الآية17)،"وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ"(الأعراف: من الآية43).
وظلت الجزيرة - عبر القرون - تحظى بالأهمية والرعاية، فهي مهوى الأفئدة وقبلة المسلمين، ومنها ابتدأ تاريخ الإسلام، وفيها أعظمُ مقدسات المسلمين، ولا غرو أن تحتفظ بخاصيتها وتميزها الحضاري والقيمي وإن مرّت بمراحل ضعف أو تهميش في جوانبها السياسية والمادية.
ولا تزال بلاد الحرمين تحتفظ بمكانتها ولها سَمْتُها وخصائصها المميزة عن غيرها، ولكن هذا التميُّز لم يكن مرضياً لأعداء الملة والدين في قديم الزمان وحديثه، وكانت حملات المشركين والمنافقين في مواجهاتها الأولى مع خير القرون شرسة حادة، استُخدمت فيها كل أنواع السلاح، وشعار المشركين قولهم:"أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ"(صّ:5)، ومنهج القوم"أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ"(صّ: من الآية6)، وشعار المنافقين"لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ"(المنافقون: من الآية8)، ومنهجهم في التضييق"يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا"(المنافقون: من الآية7).
واستمرت ولا تزال حملاتُ المواجهة والإرهاب يصطلي المسلمون عموماً بنارها ولبلاد الحرمين نصيب وافرٌ منها، وما الهجوم الكاسح في وسائل الإعلام الغربية وفي دوائرهم السياسية وهيئاتهم ومنظماتهم إلا نموذج من نماذج العدوان والظلم، فلم تسلم البلاد ولا العباد من تطاولهم وظلمهم ولم يُستثن الإسلام الحق، ولا النبي الأكرم، ولا الكتاب المهيمن من هذه الهجمة الشرسة، وأنى لغيرهم أن يسلموا؟
ولا غرابة في ذلك فالهدف واضح"وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ"(البقرة: من الآية120) والنفس الطويل"وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا"(البقرة: من الآية217).
ولكن المستغرب حقاً أن يستجيب المسلمون لهذه الاستفزازات، وأن يضعفوا أمام هذه المكيدة ويتأثروا بهذه الحملات، والأخطر من ذلك أن يتّجهوا إلى أغلى ما يملكون بالتغيير لا بالتطوير، وأن تكون قيم الأمة وأصولها في مهب الريح، وأن تُخترق حصونها الأخيرة في سبيل إرضاء الآخرين، أو لنوع من الهزيمة النفسية عند ثلة من المثقفين، فيحذف أو يحور (الولاء والبراء) من المناهج الدراسية، ويستحيا من ذكر الجهاد، وهو ذروة سنام الإسلام أو يغض الطرف عن الكافر وترقق العبارة معه فيُسمى بالآخر بدل الكافر، وهو مصطلح الشرع حتى وإن قاتلونا في الدين وأخرجونا من ديارنا مستعمرين غاصبين، وكأنه لم ينزل في كتابنا"وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً"(التوبة: من الآية123)،"وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"(المائدة: من الآية51)،"لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ"(الممتحنة: من الآية1).
وعلى حين غفلة من الناس جرى في هذه الأيام تغييرٌ في مناهجنا الدراسية، وفوجئت المدارس بسحب كتب مدرسية طبعت هذا العام 1424هـ، لتُستبدل بكتبٍ أحدث منها، وكان التغيير على مستوى كتبٍ بجملتها، أو إبقاء كتب مع تعديل في بعض مضامينها، أو توحيد المنهج للبنين والبنات في كتاب واحد أو تغيير الرسوم والصور والتعليقات القديمة إلى صور وتعليقات محدثة تظهر فيها صورة الفتاة إلى جانب صورة الفتى، وفيها إيحاءات لا تخفى على اللبيب..
ولنا على هذا التغيير وقفات وتعليقات:
1- هذا التغيير العاجل والمفاجئ كان مُركزاً على مواد الدين، ولا سيما (التوحيد)، ويُعنى التغيير بقضايا أساسية في العقيدة كالولاء والبراء، وما يتبع ذلك من حكم الاحتفال بأعيادهم ومشاركتهم أفراحهم، وحكم الاستعانة بالمشركين والعمل عندهم والإقامة بين أظهرهم وحكم تقليدهم ونحو ذلك، وقد طالعت بنفسي كتاب التوحيد الجديد للصف الأول الثانوي، فرأيت حذفاً كاملاً لباب الولاء والبراء، وتغييرات أخرى في الأبواب الأخرى يدركها بجلاء من قارن بين المنهج القديم والجديد.(4/393)