• (القول الصريح عن حقيقة الضريح)
• (السلوك القويم على الصراط المستقيم)
• ( أمير المؤمنين عمر بن الخطاب)
• (أحسن القصص الكريم ابن الكرام)
• (تهذيب الداء والدواء لابن القيم)
• (تهذيب صفة الصفوة لابن الجوزي) (تحت الطبع)
من هو المبرمج خادم السنة محمود المراكبي:
• (2000 – 2003) مدير تطوير جامع السنة بشركة إيجيكوم.
• (2003 – 2004) مدير عام شركة أفق للبرمجيات.
• (1988 – 1997) مدير مركز التراث المسئول عن البرمجيات الإسلامية في شركة صخر للبرمجيات (حرف حاليا)، طور خلالها ما يزيد على عشرين برنامجا من أنجح البرمجيات الإسلامية.
• من أبرز رواد تصميم وإدارة البرمجيات الإسلامية على مستوى العالم.
• لقد كان اهتمامه بالقراءة والاطلاع على مختلف العلوم الإسلامية الحافز الأول للانشغال في كيفية تسخير خبرته في مجال نظم المعلومات في خدمة العلوم الإسلامية ، وأدرك في منتصف السبعينات أهمية جمع السنة، وتطويع الحاسب الآلي لخدمتها، وبدأ يضع الخطوط العريضة لمشروع جمع السنة . وذلك في أواخر السبعينات، وما زال يحتفظ بتلك الأوراق حتى الآن.
• في سنة 1990 انتهى تطوير برنامج صحيح البخاري، وبدأت مرحلة تعريف العلماء والمهتمين بعلم الحديث بما تحقق حتى الآن، وكانت البداية مع قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة حيث تم عرض البرنامج على أساتذة القسم، في حضور السيد العميد، والدكتور أكرم ضياء العمري، والشيخ حماد الأنصاري، والدكتور سعدي الهاشمي وغيرهم، وقد لاقى البرنامج القبول والتشجيع من الحضور على المضي.(/2)
• عرض برنامج صحيح البخاري في مؤتمر عقد البنك الإسلامي للتنمية سنة 1989 ، باسم "استخدام الحاسوب في العلوم الشرعية" دعى إليه كل العاملين في هذا المجال على مستوى العالم، وتم تقييم ما هو متاح لدى الجميع، وحظي برنامج صحيح البخاري بأكبر تقدير بين كل ما قدم، حتى أن الأستاذ الدكتور/ أكرم ضياء العمري الحاصل على جائزة جمعية الملك فيصل الخيرية قال: "كما قام المهندس محمود المراكبي من شركة صخر بالإفادة من الحاسب الآلي لخدمة صحيح البخاري، وقد اطلعت على البرنامج، وأرى أنه يخدم صحيح البخاري، وأنه متقدم على بقية البرامج التي تخدم كتابا واحدا". (صفحة 47 - أعمال المؤتمر)
• لم يطور صاحب السيرة هذه البرامج بمعزل عن علماء الحديث، وإنما كانت تتوالى العروض أولا بأول، فقد التق ى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - أربع مرات، وكانت الزيارة الأخيرة لعرض مسند أحمد بن حنبل ، ويومها طلب منه الشيخ أن ببحث له عن حديث : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوحدة، أن يبيت الرجل وحده أو يسافر وحده " ، وقال: إن تلاميذه يبحثون له عن هذا الحديث منذ حوالي شهرين، ولم يعثروا عليه، وأظهره البرنامج في ثوان معدودة، فما كان من سماحته إلا أن قال: " إن هذا عمل من قبيل الخوارق " .
• أثناء عمله في تطوير مصادر الحديث وضع تصميم وأدار تطوير العديد من البرامج الإسلامية لخدمة: القرآن الكريم, وإضافة ترجمات معانيه إلى اللغات: الإنجليزية ، والفرنسية، والألمانية ، والتركية، والمالاويه، والإندونيسية.
• طور برنامج المواريث على المذاهب الأربعة ليحل أي مسألة ميراث, وكتب منطق البرنامج بكل تفاصيله ، وأثناء عرض البرنامج على وكيل وزارة العدل السعودية طلب منه إضافة مسائل المناسخات على البرنامج بحد أقصى خمس مسائل متتالية ، إلا أن الله تبارك وتعالى وفقه وأصبح البرنامج يحل أي عدد من مسائل المناسخات.
كتابه عقائد الصوفية في سطور :(/3)
يتناول الكتاب نشأة عقائد الصوفية وتطورها من صوفية السلوك إلى صوفية الفلسفة، مرورا بالوجد والغلبة، فالسكر والشطح، ثم القول بالفناء، ودور الحلاج في وضع فرية قِدَم النور المحمدي، ثم دور ابن عربي في تأسيس نظرية وحدة الوجود، التي استكملها ابن الفارض وابن سبعين بالوحدة المطلقة، ثم الجيلي في نظرية الإنسان الكامل والحقيقة المحمدية التي هي نقطة وحدة الوجود وأصل الموجودات.
يتتبع المؤلف أوراد ما يقرب من عشرين طريقة صوفية معاصرة ويحدد من نصوصها ما يشير إلى عقيدة وحدة الوجود، ومواضع الغلو وإطراء النبي صلى الله عليه وسلم، كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، مؤكدا إعجاز حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي حذر فيه أمته من اتباع انحراف أهل الكتاب، كما يكشف الكتاب جذور علاقة التصوف والتشيع.
كذلك يناقش الكتاب أركان السلوك الصوفي وهي: الشيخ ودوره في تربية المريد، وكيف يُمد الشيخ تلاميذه في الدنيا وعند الموت ويوم القيامة!!! ومكانة الأضرحة والموالد ، والتوسل والاستغاثة ، ومقامات الشيوخ من الأبدال والأقطاب ومهامهم وعلاقتهم بالخضر عليه السلام ، ومقام الغوثية وديوان التصريف والحكومة الباطنية ، ويستعرض الكتاب مكانة الذكر في الفكر الصوفي والأسماء السريانية وجاه الحروف، والتعدي في الدعاء ، كل ذلك من واقع دراسة غير مسبوقة للأوراد وعرض النصوص التي يتداولها أبناء الطرق الصوفية.
إن هذا الكتاب يمثل دراسة فريدة جمعت بين التجربة الشخصية للمؤلف ، وبين التأصيل العلمي والتحقيق على هدي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
والحقيقة أن ترجمة العلامة محمود المراكبي تطول ، وقد حصل لنا مما أوردنا المطلوب ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبة وسلم ، والحمد لله رب العالمين.(/4)
المحدث أبو شعيب الدكالي
العلامة المحدث أبو شعيب بن عبد الرحمن الصديقي الدكالي "رحمه الله تعالى" المتوفى سنة (1356 هـ).
رحل قديماً إلى مصر والحجاز، ولقي الأكابر، وأمَّ الناس في الحرم المكي ، فتأثر بالدعوة الإصلاحية في مكة والحجاز ، عاد إلى المغرب تعظمه الملوك ، وقام بالدعوة إلى العمل بالحديث مع احترام المذهب المالكي وعدم التعصب له ، وفي العقيدة دعا إلى مذهب السلف ورد على المتكلمين ، ودعا إلى انتهاج السنة ونبذ البدعة وهاجم الطرق الصوفية بشدة ، وسفه شعائرها.
أقبل عليه الناس وتتلمذ عليه الكثيرون ، وعدوه مجدداً لدين في المغرب الأقصى.
وهو إمام جليل في علمه وغزارة درسه ، مشهور بكثرة التلاميذ والأتباع.
ترك أبو شعيب الدكالي من خلفه عدداً كبيراً من العلماء، خاصة لما استقر في رباط الفتح، فقد درس جميع كتب السنة الستة ، مع جملة وافرة من كتب الأدب ، وتفسير القرآن الذي كان من خلاله ينشر أفكاره الإصلاحية.
ومن المشاهير الذين تتلمذوا عليه وحملوا أفكاره وقاموا بمحاربة التصوف وبدعه من بعده:
الشيخ محمد بن الحسن الحجوي
الحافظ محمد المدني بن الغازي العلمي
القاضي الإمام محمد بن عبد السلام السائح الرباطي
القاضي عبد الحفيظ بن الطاهر الفاسي الفهري
العلامة الشريف محمد بن العربي العلوي
الشيخ محمد بن الحسن الحجوي
الشيخ محمد بن الحسن الحجوي كانت دعوته للإصلاح وطريقة السلف وترك الجمود مثلٌ ، ألف كتبا قيمة مفيدة ، منها "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي". وكان يدعو إلى عقيدة السلف وترك التأويل في الصفات ، حارب الصوفية في شعائر الطريق والغلو في الصالحين، ودعا إلى تجديد الفقه الإسلامي والعودة به إلى معينه الصافي. توفي سنة 1376 هـ.
الحافظ محمد المدني بن الغازي العلمي(/1)
القاضي الحافظ الشريف محمد المدني بن الغازي ابن الحُسْني العلمي ، كان شامة في جبين ذلك العصر، وله شرح على "المختصر" بالدليل لم يكتمل ، وشرح على "المرشد المعين" بالدليل ، وهو نفسه كان يدرس "زاد المعاد" لابن القيم في جامع السنة بالرباط. وله شرح "نصيحة أهل الإسلام" للشيخ محمد بن جعفر الكتاني في أربعة مجلدات. وكان له في الحديث والأدب اليد الطولى. توفي سنة 1378 هـ.
القاضي محمد بن عبد السلام السائح الرباطي
القاضي محمد بن عبد السلام السائح الرباطي، وله اليد الطولى في العلوم. وكان على مذهب شيخه الدكالي في دعوته للسنة ونبذ البدع. توفي سنة 1368 هـ.
القاضي عبد الحفيظ بن الطاهر الفهري
القاضي عبد الحفيظ بن الطاهر الفاسي الفهري. له المؤلفات الهامة في التراجم والإسناد، والدعوة من خلال ذلك لطريقة السلف أيضا، وترك البدع والخرافات.
العلامة الشريف محمد بن العربي العلوي
ومن أشهر أصحاب أبي شعيب الدكالي، وحاملي رايته من بعده: العلامة الشريف محمد بن العربي العلوي، رحمه الله تعالى.
لما نفي السلطانُ محمد بن يوسف سنة 1373هـ وبويع ابن عمه محمد بن عرفة ، قام في ذلك قياماً عظيماً، وأفتى بقتال المناهضين ، وجاهر المحتل بالعداوة فنفوه للصحراء ، ونالته جملة من المحن. والتف حوله الناس بعد وفاة الدكالي، وجعلوه شيخا للإسلام بالمغرب.
وقد كان ابن العربي العلوي أشد في نقده للصوفية من شيخه الدكالي. ولما استقل المغرب اعتزل بُعَيْد ذلك لكونه رأى ما لا يسره من انحراف الحكم عن الإسلام، إلى أن توفي سنة 1384، ولم يصنف شيئا.(/2)
جعفر إدريس
جعفر شيخ إدريس محمد صالح بابكر عبد الرحمن بلل من قبيلة الشايقية بشمال السودان
ولد عام 1932 ميلادية بمدينة بورسودان .
والده شيخ إدريس من حفظة القرآن الكريم. انتقل لمدينة بورسودان بشرق السودان ليعمل شرطياً
مراحل الدراسة :
في سن السادسة حدث للشيخ حادث بقدمه عوقه عن المشي لمدة ثلاث سنوات تقريباً. لذلك بدأ تعليمه الرسمي متأخرا جدا، لكنه يرى أن هذا ربما كان من أكبر نعم الله عليه، إذ حفزه للجد في الدراسة في المدرسة وخارجها. فكان في المرحلة الأولية يدرس في المدرسة والخلوة (مدرسة تحفيظ القرآن الكريم) معاً. وفي المرحلة المتوسطة في المدرسة وعلى بعض الشيوخ فدرس عليهم الأربعين النووية وبعض كتب المذهب المالكي، وبعض كتب النحو، وكان يحضر مع والده دروس الشيخ أبو طاهر بالمسجد الكبير ببورسودان فسمع عليه قدرا كبيرا من الصحاح ولاسيما صحيح البخاري، كما درس عليه بعض مختصرات أخرى في الحديث والبلاغة والآدب. درس أيضا على بعض العلماء الشناقيط الذين كانوا يمرون على مدينة بورسودان في طريقهم إلى الحج. ولما انضم إلى جماعة أنصار السنة عرف شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وصاحبهما منذ ذلك الحين وحتى الآن.
مرحلة الدراسة الثانوية :
قبل بمدرسة حنتوب في سنة 1950 وهي حينذاك إحدى ثلاث مدارس ثانوية بالسودان وكان لا يُقبل فيها إلا المتفوقون في الدراسة. وفي المدرسة انضم إلى حركة إسلامية ناشئة هي حركة التحرير الإسلامي التي صارت فيما بعد جماعة الإخوان المسلمين، ولم يكن لها ارتباط تنظيمي بجماعة الإخوان في مصر. ثم صارت جبهة الميثاق الإسلامي واجهة لها إبان الحكم الديمقراطي الذي أعقب نظام عبود العسكري.
مرحلة الدراسة الجامعية والتعليم العالي :(/1)
التحق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ثم تركها ليذهب للدراسة بمصر، ثم ترك هذه وعاد إلى جامعة الخرطوم ليدرس الفلسفة (قسم الشرف) والاقتصاد، فلم يتخرج فيها إلا عام 1961 فقبل بها معيدا وسجل لدراسة الماجستير، لكن الجامعة ابتعثته في العام التالي للدراسة بجامعة لندن.
بعد سنتين سقط نظام عبود فترك الدراسة واستقال من الجامعة ليشارك في العمل السياسي الإسلامي. وكان مرشح جبهة الميثاق بمدينة بورسودان.
عاد للجامعة مرة أخرى عام 67 فحول المشرف رسالة الماجستير إلى دكتوراة فأكملها في عام 69 لكنه لم يحصل على الشهادة إلا عام 70 بعد أن ابتعثته الجامعة إلى بريطانيا مرة أخرى.
العمل والتدريس :
قسم الفلسفة, جامعة الخرطوم. 1967 - 1973
قسم الثقافة الإسلامية, جامعة الرياض (الملك سعود حالياً )
مركز البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
كلية الدعوة والإعلام، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
وكان يدرس طلاب الدراسات العليا بالجامعة مواد العقيدة والمذاهب المعاصرة كما أشرف على الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه
مدير قسم البحث بمعهد العلوم الإسلامية والعربية في أمريكا
مدير الهيئة التأسيسية للجامعة الأمريكية المفتوحة
مستشار لعدد من المؤسسات الإسلامية في أنحاء العالم
شارك في عدة لجان إسلامية عربية وعالمية
النشاط العام والمؤتمرات :
ألقى أحاديث ودروس ومحاضرات في كثير من الجامعات والمراكز الإسلامية والمساجد في كثير من بلدان العالم في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأستراليا وأمريكا الشمالية ودول الكاريبي وأمريكا اللاتينية.
شارك في كثير من البرامج التلفازية والإذاعية في عدد من الدول.
اشرف على رسائل علمية لدرجة الدكتوراة والماجستير.
شارك ببحوث قيمة في عدد كبير من المؤتمرات الإسلامية والعالمية(/2)
كتب مقالات كثيرة في الصحف السودانية كان من بينها باب أسبوعي في جريدة الميثاق الإسلامي بعنوان جنة الشوك ومقالات في مجلات إسلامية وأكاديمية باللغتين العربية والإنجليزية.
وهو يكتب الآن زاوية شهرية بمجلة البيان التي تصدر في لندن بعنوان: الإسلام لعصرنا.
الكتب والبحوث :
للشيخ عدد كبير من البحوث أكثرها مشاركة منه في مؤتمرات. بعض المؤتمرات ينشرون هذه البحوث وبعضهم لا ينشرونها. كما له عدد من الكتيبات المنشورة باللغتين العربية والإنجليزية.
ولمعرفة المزيد من بحوث وكتب الشيخ تصفح موقع الكتب والمقالات في هذا الموقع.
أفضل من يُعرفكم بالشيخ جعفر هو الشيخ جعفر في نص مقابلة أجرتها معه مجلة العصر الإلكترونية عام 1421 هجرية.
نص المقابلة
http://216.39.197.143/alasr/Interview/article_132.shtml
قصة الهداية يحكيها الشيخ له ولوالديه:
الشيخ جعفر:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
أنا من عائلة سودانية كانت تنتمي كمعظم السودانيين آنذاك إلى طريقة صوفية، وكانت الطريقة التي ينتمي إليها الوالدان هي الختمية، وكما هو معلوم أن الطرق الصوفية ولاسيما المنتشرة في بلادنا الآن، مبتلاة بكثير من المسائل الشركية لكن ربنا سبحانه أنعم عليّ بوالدين أثرا في حياتي الدينية والخلقية، فالوالدة لم تكن امرأة عالمة ولكنها كانت شديدة التدين وحازمة جداً، وقد أثرت علي تأثيراً كبيراً في موضوع الصلاة أكثر من الوالد، فقد كانت حازمة جداً في هذا الموضوع، وأذكر أنها كانت توقظنا أحياناً لتسألنا هل صلينا العشاء؟(/3)
وأنعم الله سبحانه علينا بالوالد وكان رجلا متسامحاً معنا ، فكان يعاملنا معاملة الكبار آنذاك، ويستشيرنا في بعض أموره، وهذا لم يكن شائعاً في السودان , ولكنهما كانا ينتميا إلى هذه الطائفة، فأول شيء أثر في حياتي تأثيرا كبيرا مازلت أحمد الله عليه وأن أحد أقاربنا كان من أول من نشر الدعوة السلفية في السودان، وكان من جماعة أنصار السنة المحمدية في بلدنا ببورسودان، وكنت آنذاك في الثانية عشر حيث تركت انتمائي إلى طائفة والديّ تحت تأثير هذا القريب، مما أحدث مشكلة بيني وبين الوالدين لاسيما أمي، حيث كانت تظن أن هذا نوع من الانحراف فقاطعتني وصارت لا تتكلم معي.
لكن ساعدني أن هؤلاء الذين تأثرت بهم كانوا من الأقارب وكان منهم رجلاً تحترمه الوالدة احتراماً كبيراً، وهو رجل بسيط يعمل خياطاً لكنه كان رجلاً عالماً، فجاء إلى أمي عند حصول هذه المقاطعة وأصلح بيننا، وبعد مدة تغير الوالد -وكان رجلاً يحفظ القرآن –حيث كنت آتي إليه وأقرأ عليه بعض الكتب....
العصر: هل تتذكر بعض عناوينها؟
الشيخ جعفر: ……… كانت كتباً صغيرة مؤلفة في مصر، وكان ضمنها كتاب غاب عني اسمه الآن كان له أثراً عظيماً آنذاك، ومازالت أقرأ على الوالد حتى اقتنع وتغيرت بعده الوالدة أيضا وأعد ذلك من نعم الله علي أن كنت السبب في إنقاذهما من الخرافات والشركيّات ولله الحمد سبحانه.حادث في الصغر:(/4)
وكان الحادث تعرضت له في الصغر أثر في تأثيراً ليس بالضرورة فكرياً، ولكنّي لمست نتائجه فيما بعد، إذ أصبت آنذاك، وكنت ألعب على صناديق كبيرة كانت لبعض السيارات، فقفزت من فوق إحداها على مسمار يبدو أنّه أحدث كسراً في العظم بالداخل، وتألمت لذلك ألماً شديداً وتعقّدت الأمور –وكنت حينئذ في السادسة من عمري- واستمر المرض إلى السنة التاسعة تقريباً، وكان ذلك في زمن الإنجليز، وعند أن عرضت على الطبيب قرر هذا أن تُقطع رجلي، فوافق الوالد لكن الوالدة رفضت وبحزم شديد، ثم ذهبت تستشير السيد علي الميرغني –وكانت ما تزال في الطائفة حينئذ- فأجابها قائلاً: نعم.. اسمعوا كلام الطبيب.
وما كان يظن أحد أن أمي ستخالف رئيس الطائفة لكنها فعلت ورفضت قوله ذاك فقال لها الطبيب: إما أن تقطع رجله أو يموت فقالت: خلّيه يموت!!!.. يموت برجلين ولا يعيش بواحدة.
فكان من نتائج ذلك أن تأخرت في الالتحاق بالدراسة، لكن هذا التأخير أفادني جداً، إذ جئت إلى الدراسة بعد ذلك بنهم شديد، فأنا ما كنت بدأت أصلاً، وعندما بدأت الدراسة كان زملائي في السنة الرابعة، وأنا في السنة الأولى، وكان لي أخ ضمنهم، وكنا قد ذهبنا سويّة إلى المدرسة فقُبل هو ولم أُقبل لصغر سني، فكان أخي هذا يمازحني بعد ذلك فيقول: احمد الله على هذا الحادث فلولاه ما دخلت الجامعة.
وقد كانت المنافسة في الدخول إلى الثانوية كبيرة جدّاً آنذاك. إذ لم يكن في السودان وقتئذ غير ثلاث مدارس ثانوية فقط، فكان الدخول إلى أحدها في غاية الصعوبة .لكني أتيت إلى المدرسة في مرحلة نضج واجتهاد شديد، فكنت أذهب إلى الكتّاب باختياري إذ يوقظني الوالد لصلاة الفجر وأبقى في الكتّاب إلى السادسة، ثم أعود فأستعد للذهاب إلى المدرسة وعند رجوعي منها أذهب إلى الكتّاب مرة أخرى وبعد ذلك أنال شيئاً من الراحة، أعود بعدها إلى الكتّاب عند المغرب.
حلقات المساجد:(/5)
بدأت بعد ذلك دروس كان يلقيها رجل سنّي، فكنت أذهب إليها، ومن الرسائل التي بدأت أقرأها مبكراً وأمارس حفظ بعض الأحاديث منها رسالة الأربعين النووية، ثم لما ذهبنا المدرسة المتوسطة كنت أحضر مع الوالد دروساً في السنة كان يلقيها رجل عالم بالسنة,تخرج بالأزهر وكان مشهوراً في بلدنا، يدرّس كتب السنة فقط، وفي هذه الفترة بدأت أقرأ بعض الرسائل الصغيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية....
الشيخ جعفر إدريس: عندما انضممت إلى "الإخوان" كنت لا أقبل ما أعتقد أنه خطأ، وأسارع إلى نقده، ولم يكن هذا شيئاً محبباً عند البعض، وأذكر أن الأخوان كانوا يقرؤون "المأثورات" وكان في بدايتها أن الذكر الجماعي لا بأس به، فرفضت ذلك، وأقنعت بعض إخواني الذين كانوا معي آنذاك وكنت أنتقد أشياء في ما كانوا يسمّونه "ورد الرابطة" وكان يُقرأ بعد المغرب، لذا فقد نفعني انتمائي إلى الاتجاه السني عند الانضمام إلى الحركة، وصار النقد عندي طابعاً، ومما كتبت في نقد بعض الظواهر في العمل الإسلامي، رسالة موجودة في كتابي "نظرات في منهج العمل الإسلامي" حيث شاع عند الإخوان، والظن عند بعض الجماعات أيضاً اعتقاد أن جماعتهم هي جماعة المسلمين، وأن الذي يخرج خارج على الجماعة، فانتقدت ذلك، وقلت إننا جماعة من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين وأنه ليس في الإسلام شيئ اسمه الالتزام الفكري بقرارات التنظيم، وقد ناقشت الشيخ المودودي في ذلك وكنت التقيت به في لندن، كما التقيت بغيره من الدعاة من الباكستان وتونس والمغرب والجزائر خاصة بعد ذهابي إلى السعودية، لذلك أظن أن المعيار النقدي هذا هو الذي جعلني أكشف الترابي في وقت مبكر.
العصر: هل تتذكرون ما دار بينكم وبين الشيخ المودودي؟(/6)
الشيخ جعفر إدريس: نعم لا أزال أذكر بعض ما دار بيننا، مثلاً كان ينتقد حركة "الأخوان" قائلاً: أنتم في العالم الإسلامي جماعات مستقلة لكنكم كلكم تطلقون على أنفسكم "الإخوان المسلمون" بينما ينبغي أن يكون عكس ذلك، أن تكونوا جماعة واحدة لكن بأسماء مختلفة حتى لا يؤخذ بعضكم بجريرة البعض الآخر.
وتناقشنا في مسألة الالتزام بالتنظيم فقلت له: أنا لا أعلم في الدين أن الإنسان يلتزم برأي الجماعة، لكن يلتزم بالعمل، فالحاكم مثلاً إذا أمرني بشيء أخالفه الرأي فيه أعمله ما دام لا يخالف كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، لكن ليس من حق الحاكم أ ن يقول اذهب إلى الناس وأخبرهم أن هذا هو الرأي الصحيح. فأجابني: أننا إذا لم نلتزم تصير الأمور فوضى، فقلت له: لا يحدث ذلك إذا نحن ربينا الناس على العمل سوية وإن اختلفت الآراء، لكن ما حدث هو أننا أدخلنا إلى أذهان الناس أن من خالف رأي الجماعة منشق عنها فكان ما نراه اليوم من أوضاع مؤسفة.
ولقد كنت أقول لبعض الأخوان هذه صحيفتنا لماذا لا ننتقد أنفسنا بأنفسنا، فالصحابة كانوا ينتقدون بعضهم البعض وكانوا أخواناً متحابين. ثم في الأخير شرح لي الشيخ نظامهم ووجدته أقرب شيء إلى الصورة المثالية فقد قال لي: نحن لا نصدر كثيراً من القرارات، إلا في مسائل مهمة جداً، وما عدى ذلك فالناس أحرار، وإذا اجتمعنا لا أكاد أذكر أننا مرَّرنا شيئاً بالأغلبية، ولكن حتى إذا خالف البعض أرجأنا الاجتماع حتى نقنعهم فقلت له نفرض أنكم كلكم اتفقتم وأنا في باكستان الغربية، وكانت باكستان آنذاك شرقية وغربية قبل الانفصال.(/7)
فقال لي: تكون فوضى فأجبته بالنفي فأنا ألتزم بالعمل، فمثلاً قلتم أن المرأة تدخل البرلمان أو لا تدخل وأنا رأيي مخالف، فإذا كنت أرى أنها مسألة اجتهادية أوافق من الناحية العملية لكن إذا سألت أجيب بما أراه، وما زلت أرى أن هذه واحدة من آفات التنظيمات الإسلامية المعاصرة، وهذا شيء أخذناه –للأسف- من أسوأ الحركات الغربية وهي الشيوعية فالحركة الشيوعية تنظر إلى قرار الحزب أنه قرار باسم الشيوعية فمن يخالفه يخالف الفكر الشيوعي ونحن ليس لدينا شيئاً من هذا، عندنا الكتاب والسنة والإجماع، إذاً فالذي يخالف في التنظيم لا يخالف هذه الأصول بل يخالف رأي التنظيم لا غير.
وقد ألقيت محاضرة ضمنتها ما ذكرته سابقا، ونشرت وهي نفس الرسالة التي أشرت إليها سابقاً، وبعد انتهائي من المحاضرة أتاني شاب في اليوم التالي وقال لي أنه من حركة أخرى، لكنه وجد كل العيوب التي ذكرتها في المحاضرة موجودة في حركته، فكان هذا شيئاً مخيفاً لا يطمئن بالنسبة لي. لذلك نحن مازلنا بحاجة إلى أسلمة الفكر التنظيمي، مثلاً كيف يختار القائد وما مدى مسؤولياته وصلاحياته، وما مقدار التزاماته وحريته في التنظيم.
العصر: بما أن الشيء بالشيء يذكر نسألكم عن رجل عرفتموه، وعلمتم عيوبه في وقت مبكر، وانتقدتموه مبينين أخطاءه هذا هو الدكتور حسن الترابي ماذا لدى الشيخ جعفر عن هذا الرجل؟(/8)
الشيخ جعفر إدريس: ذهبت والترابي إلى نفس المدرسة وكنا نسكن في نفس الداخلية (سكن الطلاب)، وكان الترابي أمامي في الدراسة سنتين، ولم يكن معنا في الجماعة آنذاك، وعندما كنت في السنة الأولى بالجامعة سمعنا أنه انضم إلى الجماعة وفرحنا بذلك، ثم عرفته عن قرب وصحبته في الجامعة، لكني بدأت ألمس فيه عيوباً في الفكر والسلوك، والبعض يظن أن دافع نقدي له هوا لتنافس، ولكني لاحظت عليه ذلك وأنا مسؤول عن التنظيم ولم يكن هو آنذاك شيئاً يذكر، وانتقدته وقتها ولم تكن بيننا أي منافسة. ورغم تحفظاتي التي في قلبي عليه فقد تعاونت معه بعد أن صار مسؤولاً وكنت اسمع منه فلتات فمثلاً في وقت مبكر جداً كان يكره أهل السنة ويشمئز من ذكر البخاري وابن كثير وغيرهما، وليس عنده توقير للصحابة وقد قلت لبعض إخواننا الذين إذا انتقد أحداً رماه بالاعتزال، قلت لهم لا تظلموا المعتزلة فهؤلاء كانوا عبّاداً ومخلصين، وكان ما يدعون إليه فكراً بالنسبة لهم وكان دافعهم إليه حسناً وهو اعتقاد تنزيه الله سبحانه فكثير ممن يسمّى اليوم معتزلة لو رآهم المعتزلة لتبرّؤوا منهم، أو يقول لك أشعري حتى الأشاعرة لم يكونوا كذلك، لذا أقول أن هؤلاء أقرب إلى ما يسمّى بالزنادقة أو الفلاسفة الذين لم يكونوا متدينين ولا أقول عقلانيين فقد تتبعت آيات القرآن الكريم التي ورد فيها ذكر العقل فما وجدت الله سبحانه يذم فيها العقل بل يجعل الله العقل مع الإيمان وعدم العقل مع الكفر، وأهل الأهواء يختلفون فمنهم صاحب هوى في الاعتقاد ومنهم في السلوك، ومنهم من جمع بين الأمرين.
العصر: بعد هذا العمر المديد –بارك الله في عمر شيخنا- هلاَّ استعرض لنا الشيخ جعفر خلاصة التجربة الطويلة يفيد بها أجيالاً تنشد إرشاد أصحاب التجارب والخبرات أمثالكم؟
الشيخ جعفر إدريس:
أولاً كما قلت لك أنّنا بحاجة إلى أسلمة الفكر التنظيمي.(/9)
ثانيا: أنّني وجدت أنّ من أكبر مشكلات الحركة الإسلامية غياب قيادة العلماء لها، لذلك أقول دائماً ويستغرب البعض من قولي ذلك: أنني استفدت من الشيخ ابن باز الكثير حتى في الجانب السياسي وموقفي من الحكومات ما لم أستفده من كتب الحركة الإسلامية، وأقول لك كيف؟
فقد تأتي الفائدة أثناء شرح لحديث ما، وصرت أكثر مرونة، فمثلا أذكر أنه مرة أثناء حديثه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: أن من أكبر وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاتصال بالحكومات ولو كانت كافرة، فاستغرب الناس من ذلك، فضرب لهم مثلا أنك إذا أردت إدخال مادة الدين الإسلامي في المدارس في بريطانيا، كيف سيتم لك ذلك إلا بالاتصال بالحكومة هناك، واستفدت منه أن الإنسان لا يكون معارضاً طوال الوقت، بل يقف مع الشيء الحسن ولو كانت الحكومة منحرفة وهذا يلين قلب الحكام ويشعرهم أن المعارضة ليست همك دائماً.
ثالثا: وهذا شيء يحزن النفس ويحز في القلب، أنني وجدت الجماعات الإسلامية كلها تقريباً ابتلت بالتدهور في الأخلاق، فحسن الخلق شيء تتوقعه من العامي فضلاً عمّن يمثل الإسلام، وسوء الخلق داء انتشر وللأسف في أوساط الجماعات الإسلامية فتجد منهم من يكذب ويغش بكل سهولة، وغياب الإنصاف عند بعضهم فهذا شيء لا بد من معالجته وتذكير الناس بأنّ العمل الإسلامي عبادة أساسها الخلق، وأن الهدف منه إنقاذ النفس والمجتمع، وليس تغيير المجتمع فحسب، وأن مبدأ الشيوعية في أن المعتبر في الأخلاق هو ما ساعد على تقدم الحزب بغض النظر عن سوءه شيء مرفوض في الإسلام.
رابعا: ضرورة الطاعة مع النقد، فالجماعات تهتم بالطاعة وتغفل النقد، والطاعة ضرورة فيما وافق الدين لأجل التنظيم ,لكنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أمر بالطاعة بايعه الصحابة أيضاً على قول الحق لا يخشون في ذلك لومة لائم.(/10)
إذاً ففي غياب النقد تحضر الديكتاتورية والتسلّط . وأن يكون هناك تسامح بين الحركات الإسلامية و إلا لكانت هذه الحركات كالشيوعية فالشيوعية تضيق بالمفكرين، وقد قارن أحد الغربيين بينها وبين الكاثوليكية إذ خرج منها كثير من المفكرين لغياب التسامح، وقد ابتلت بعض الحركات الإسلامية بهذا كما حصل عندنا في السودان في عهد الترابي حيث اعتبرت الحركة هي الترابي مما جعل الكثيرين يخرجون وإن لم يحدثوا ضجة كما فعلت أنا.
وأحب أن يكون لنا معرفة أكثر بالغرب، لأنه مؤثر في السياسة العالمية اليوم، وصورتنا عند الغرب مشوّهة، والعالم اليوم صار كما يقولون قرية صغيرة لذلك كله لا بدّ من زيادة معرفتنا بالغرب والمشاركة في القضايا العالمية حتى تُعرف مشاركة المسلمين في ذلك وجزء من هذا العبء يتحمله الذين في الغرب من المسلمين.
لذلك أقول دائماً أن الكثير من الكتب الإسلامية المؤلفة للغربيين بلغتهم هي للمبتدئين، ويمكن أن أكبر كتاب ظهر لأحد الإسلاميين بشكل أكاديمي مؤخراً هو كتاب زرابوزو في شرح الأربعين النووية، لذلك يلزمنا كمسلمين أن نشارك في القضايا التي يواجهها الشعب الأمريكي إذ أن هذا شكل من أشكال الدعوة إلى الإسلام، كالكلام على مشاكل المخدرات والإجهاض والعولمة والمشاكل الاقتصادية وغيرها من قضايا المجتمع الغربي حتى يظهر لدينا مفكرون معروفون للمجتمع الغربي .(/11)
جمال الدين القاسمي
الشيخ جمال الدين القاسمي ، شيخ الشام في وقته ، ولد "رحمه الله" سنه: (1283 هـ) وبدأ بطلب العلم منذ الصغر ، جد واجتهد ، وتفوق على أقرانه ، وسلك الطريقة النقشبندية على يد شيخه في ذلك الوقت الشيخ محمد الخاني شيخ الطريقة النقشبندية ومرجعها في ذلك الوقت.
شغل الشيخ القاسمي عدة مناصب في التدريس والدعوة ، وما إن أعلن مخالفته لأرباب الطرق والخرافة حتى انهالت عليه الإشاعات والافتراءات من مشايخ الطرق في دمشق ، وبدأت الوشاية به عند السلطات في دمشق فاستدعي وحقق معه فأثبت للجميع علمه وانصافه والتزامه القواعد والنصوص الشرعية ، فقام من استدعاه بالاعتذار إليه وعاد إلى بيته معززاً مكرماً ، ولكنه بقي في بيته منعزلاً للتأليف والتدريس.
وكان يصف شيوخ التصوف بقوله: ((هم كالعمود الكهربائي، يبث الجنون في رؤوس الناس، ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر مرض الصرع العام والذهول العقلي)) (1) أي حالات الذكر الخاصة بهم.
وكان ينهى عن الاختلاط بهم ولو من أجل الاطلاع على أحوالهم؛ فقد زجر تلميذاً له مرة حينما أحب الذهاب لمشاهدة حلقاتهم والسماع لأناشيدهم وموسيقاهم، وقال له : "لا تكثر سواد المبتدعة، ولاتكن قدوة سيئة لغيرك" (2) .(/1)
وقد آلمه كثيراً تصرفات مشايخ الطرق في دمشق وأعمالهم وادعاءاتهم وكثرة بدعهم، فهاجمهم وبيَّن ضلالهم ، وقد وصف ما يفعلون من منكرات تضر بالدين ، ننقل منها حديثه عن مواكبهم التي كانت تخرج في الربيع ، فيقول (3) : ((لا تزال هذه الطوائف تبتدع أموراً تُضحك السفهاء وتُبكي العقلاء وتحتال لمطامعها البهيمية ما جلب العار على الأمة وسلط عليها الأجنبي يهزأ بديننا ويقبح أعمالنا ظناً منه أن ما يجريه هؤلاء الجهلة من الدين. فهلا رجع هؤلاء الجهلة عن بدعهم ، والتزموا طريق أشياخهم الذين يدّعون أنهم على آثارهم وما هم إلا في أيدي الشياطين يلعبون بهم كيف يشاؤون. أين تصفية الباطن التي هي مدار الطريق، وأين الخمول مع هذا الظهور، وأين التواضع مع ركوب الخيل والبغال يقدمها الطبل والمزمار، وأين البعد عن الناس مع هذا المزاحمة الدنيوية، وأين البعد عن الرياء مع الوقوف بين مئات الألوف يتمايل ويتلوى، وأين الإرشاد مع هذه البدع وأين الأشياخ إذا أردنا السلوك. فلعمري لا نرى إلا رجالاً اتخذوا الطريق وسيلة معاشية. أما آن لهذه البدع أن تموت ولهؤلاء الجهلة أن ينتبهوا ويعلموا أنهم بين أمم ينظرون أعمالهم وينتقدون أجوالهم ويكتبون عنهم ما يكتب عن الهمج وسكان البوادي.
إنّ الطريق المسلوك للقوم مبني على الإخلاص في العمل وحب الخلوة والبعد عن الناس والصمت عن اللغو وملازمة الذكر ومداومة السهر فيه وفي التهجد والزهد فيما في أيدي الناس والتمسك بالسنة والإرشاد إلى الطريق المستقيم، وأين هذه الأصول الشريفة مما نراه الآن من الخروج عن الحدود واستبدال السنة البدعة وترك الشرع بهوى النفس.(/2)
والطامة الكبرى دعوة بعض الأشياخ وانتحاله ما يضر بالعقيدة وإضلاله العامة بما ينقله إليهم عن الإنسان الكامل ونحوه من كتب الصوفية مدعياً فهمه لإشاراته من طريق الفتح أو الإلهام، فقد كثرت النحل والبدع، وسمعنا من أقوالهم ما ليس من ديننا ولا يقول به أهل دين آخر.
وقد اتفق أن أحد مُعْتَبرِي الأجانب دخل أحد الأماكن وقد اجتمع فيه جماعة من أهل الأهواء ، فرآهم يرقصون ويصيحون صياح جنون فقال لترجمانه : ما هذه الغوغاء ونحن نعلم أن صلاة المسلمين في غاية الخشوع والآداب وهذه أمور ليست إلا هذياناً. فقال له ترجمانه : "إن هذه أكبر صلاة عندهم" يريد تنفيره من الدين الإسلامي ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالدين برئ من نسبة هذه البدع إليه؛ فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة محفوظة، إذ لم يترك الحفاظ وكتاب السير شيئاً من أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته إلا دونوه، وجاء الخلفاء الراشدون ومن عاصرهم على أثره صلى الله عليه وسلم وكذلك جاء الصوفية المتقدمون على هذا الأثر. فلما تشيخ الجهلاء في الطريق التزموا البدع وجاء من لهم إلمام بكتب القوم فانتحلوا أقوالاً لا يعرفون معناها، وعلّموها لجهلةٍ لا يفقهون، فضلُّوا وأضلوا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن المصائب الفظيعة تركهم الذكر الشرعي وقولهم "اللام إلا الله" "لوالوها إلا الله" و "ال" بلام مغلظة و"اه" و"ههِ" ثم الرقص وأكل النار وضرب الدف أو الناي والنقارات والنقرزان ووضع الدبوس في الذراع والسيخ الحديد في الحنك والشيش وغيرها من المفتريات القبيحة. فحق شيخ المشائخ منع هؤلاء الجهلاء من إعطاء العهود، حتى يعرفوا العقيدة والآداب الشرعية والفروع الفقهية، ففي ذلك خدمة الأمة والدين، وتأييد لكلمة الحق المتين)).
توفي الشيخ القاسمي "رحمه الله تعالى" سنة (1332 هـ) .
______________________________
(1) جمال الدين القاسمي وعصره: ظافر القاسمي، ص353.(/3)
(2) شيخ الشام: لمحمود الإستانبولي، ص 91.
(3) اصلاح المساجد 248 – 250 .(/4)
عبد الحميد بن باديس
ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس ، رحمه الله في (1307 هـ) بمدينة قسطنطينة، ونشأ في أسرة صوفية ، مشهورة بالعلم والأدب، فعنيت بتعليم ابنها وتهذيبه ، فحفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره، وتعلّم مبادئ العربية والعلوم الإسلامية على يد الشيخ حمدان الونيسي" ثم سافر إلى تونس وانتسب إلى جامع الزيتونة، وتلقى العلوم الإسلامية على جماعة من أكابر علمائه، أمثال العلّامة محمد النخلي القيرواني ، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي كان له تأثير كبير في التكوين اللغوي لعبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد الخضر الحسين، الذي هاجر إلى مصر وتولى مشيخة الأزهر.
وبعد أربع سنوات تخرج في سنة (1330هـ) حاملاً شهادة "التطويع" ثم رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهناك التقى بشيخه "حمدان الونيسي ، والذي هاجر إلى المدينة المنورة، وهناك تعرف الشيخ ابن باديس على حقيقة الدعوة التجديدية ، وتأثر بها ، وتبناها.
ثم عاد بعدها ابن باديس إلى الجزائر وعمل على نشر التعليم، والعودة بالإسلام إلى منابعه الأولى، ومقاومة الزيف والخرافات، ومحاربة الفرق الصوفية الضالة التي عاونت المستعمر.
وقد بدأ ابن باديس جهوده الإصلاحية بعد عودته من الحج، بإلقاء دروس في تفسير القرآن بالجامع الأخضر بقسطنطينة، فاستمع إليه المئات، وجذبهم حديثة العذب، وفكره الجديد، ودعوته إلى تطهير العقائد من الأوهام والأباطيل التي علقت بها، وظل ابن باديس يلقي دروسه في تفسير القرآن حتى انتهى منه بعد خمسة وعشرين عامًا، فاحتفلت الجزائر بختمه في (13 من ربيع الآخر 1357هـ).(/1)
ثم بعد بضع سنوات أسس جماعة من أصحابه مكتبًا للتعليم الابتدائي في مسجد سيد بو معزة، ثم انتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة (1336هـ)، ثم تطوّر المكتب إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي أنشئت في (رمضان 1349 هـ) وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس.
وقد هدفت الجمعية إلى نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية والعربية، والصنائع اليدوية بين أبناء المسلمين وبناتهم، ويجدر بالذكر أن قانون الجمعية نصّ على أن يدفع القادرون من البنين مصروفات التعليم، في حين يتعلم البنات كلهن مجانًا.
وكوّن ابن باديس لجنة للطلبة من أعضاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية، للعناية بالطلبة ومراقبة سيرهم، والإشراف على الصندوق المالي المخصص لإعانتهم، ودعا المسلمين الجزائريين إلى تأسيس مثل هذه الجمعية، أو تأسيس فروع لها في أنحاء الجزائر، لأنه لا بقاء لهم إلا بالإسلام، ولا بقاء للإسلام إلا بالتربية والتعليم.
وحثّ ابن باديس الجزائريين على تعليم المرأة، وإنقاذها مما هي فيه من الجهل، وتكوينها على أساسٍ من العفة وحسن التدبير، والشفقة على الأولاد، وحمّل مسئولية جهل المرأة الجزائرية أولياءها، والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلّموا الأمة، رجالها ونساءها.
وشارك ابن باديس في محاولة إصلاح التعليم في جامع الزيتونة بتونس، وبعث بمقترحاته إلى لجنة وضع مناهج الإصلاح التي شكّلها حاكم تونس سنة (1350 هـ )
توفي ابن باديس رحمه الله في (8 من ربيع الأول 1359 هـ).
المراجع:
عمار الطالبي ـ ابن باديس حياته وآثاره
محمد فتحي عثمان ـ عبد الحميد بن باديس: رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة.(/2)
عبد الظاهر أبو السمح
عبد الظاهر بن محمد نور الدين أبو السمح، العالم الأزهري ، أحد كبار أئمة الدعوة إلى السنة في مصر، والإمام والمدرس بالحرم المكي، كم من مرةٍ أُعتدي عليه بسببِ أنه استنار بالحق فأناره لأهل الدنيا قاطبة، ما زال مسجده يشهد تلك الهجمات الجبانة التي لا تقوى على مهاجمة إلا وهو إمام قائم يصلي بالناس، فإذا صلى كأنه ارتحل من الدنيا إلى دار الآخرة ..
ولد رحمه الله ببلدة (تلين) بمصر، في عام 1300هـ، من عائلة عُرفت باهتمامها بالقرآن وحفظته وتعليمه، فأتم حفظه على يد والده في التاسعة من عمره، ثم التحق بالأزهر فقرأ الروايات السبع، وزادت همته في حفظ السنة، واهتم بالتفسير والفقه واللغة وغيرها ..
وكان يحضر مجلس الشيخ محمد عبده وهو صغير السن ..
وبعد سنين من طلبه للعلم اتصل بعلامة شنقيط العالم محمد أمين الشنقيطي رحمه الله فلامس الحق قلبه فاستنار به إلى العقيدة السلفية، فعكف على دراسة كتب ابن تيمية وابن القيم وغيرهما .. فعاد إلى الحق وتابع الدليل، وساعده في ذلك طلبه للقرآن والسنة، ونفسه المتجردة للحق ..
وقد عمل بمدرسة بالسويس، ثم عاد للقاهرة وطلب العلم بمدرسة درا الدعوة، ثم عين مدرساً بالإسكندرية .. وهناك .. قام يدعو إلى الله، ينير الظلمات، ويهدم بناء الأوهام، ويحرر الإنسان من عبادة العبيد إلى عبادة رب العبيد، فانقض على دعاة الشرك وأبطل شركهم، وناظر أهل البدع فانحسرت بدعهم، وناصر أهل السنة وعلت رايتهم، وكانت دعوته سبباً في رفع الجهل عن الناس، فرفع عن السدنة المسترزقين بالشرك سحتهم، وقل عدد الزوارين للمشاهد، وكثر المصلين في المساجد، وهجرت بالشرك معابد، ورفعت راية التوحيد، وكان المؤسس لأنصار السنة المحمدية بالإسكندرية ..(/1)
وهذا الجهد لابد له من مقابل، فكان المقابل إيذاءً كبيراً .. وكان من أكبرها أن اعتدي عليه وهو يؤم المصلين في المسجد، وهؤلاء هم أهل سدنة المشاهد والقبور، من الصوفية ومن نحى نحوهم، لا حرمة لبيوت الله، أو للوقوف بين يدي الله، وكان السبب ما سبق من جهده وجهاده، وفضحه لحقيقة الصوفية، وسدنة المشاهد والمزارات الشركية، وإبطاله للعقيدة الأشعرية، وهو بهنَّ عالم خبير، كان فيها رأسٌ كبير، فهداه الهادي القدير، وكفاه شر المؤامرات وسوء التدبير، وإن كيد الباطل كان زهوقاً ..
وكان ممن استنار بمناظراته، وجهاده ودعوته، عددٌ كبير من مشايخ الأزهر، ومن أبرزهم العالم الأزهري، من آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، المُحَدِث محمد عبد الرزاق حمزة .. على إثر مناظرات قامت فترة من الزمن كان الحق هاديهم، والدليل سيدهم، فاستنار الشيخ محمد بعد تلك المناظرات ..
وبعد هذا الجهد الكبير، عرفته الدنيا، وعرفت به كعالم ناصح، ومناظر منافح، لا يشق له غبار، وما وقف أمامه طالب حق إلا وبمناظرته استنار، وما جادله مبطل إلا أفاق وباطله في انحسار .. فطلب ليكون إماماً للحرم المكي، ومدرساً به وبدار الحديث بمكة المكرمة .. فأجاب الدعوة، وكان سنده وعضيده تلميذه وصاحبه وصهره الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، فأخرجا جيلاً من العلماء العاملين، واهتدى على يديهما عدد كبير من الطلبة التائهين، في الشرك أو البدعة .. وما زال ينشر الحق ويبطل الباطل بتدريسه وتأليف: وقد ألف عدد من الرسائل منها:
1- الرسالة المكية في الرد على الرسالة الرملية.
2- حياة القلوب بدعاء علام الغيوب
3- الأولياء.
4- الكرامات.
ولقد كان ممن أسس جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر، ومن أسس دار الحديث بمكة المكرمة.
وما زال على هذا المنوال حتى توفاه الله بمصر عام 1370هـ، غفر الله له ورحمه، ورفع منزلته في عليين، وأختم بهذه الأبيات من نونيته والتي ختمها بشكر النعمة حيث أنشد قائلاً:(/2)
حمداً لربي إذ هداني منّة *** منه وكنت على شفا النيران
والله لو أن الجوارح كلها *** شكرتك يا ربي مدى الأزمان
ما كنت إلا عاجزاً ومقصراً *** في جنب شكرك صاحب الإحسان
أيدتني ونصرتني وحفظتني *** من كل ذي حقد وذي شنآن
وجذلت أعدائي ولم تتركهمو *** يمضون في الإيذاء والعدوان
أورثتني الذكر الحكيم تفضيلا *** ورزقتني نعمى بلا حسبان
ورفعت ذكري إذا أرادوا خفضه *** وأعدتني لأشرف الأوطان
وأقمتني بين الحطيم وزمزم *** للمتقين أؤمهم بمثان
أكرمتني وهديتني وهديت بي *** ما شئت من ضال ومن حيران
أعليك يعترض الحسود إلهنا *** وهو الكنود وأنت ذو إحسان
وهو الظلوم وأنت أعدل عادل *** حاشاك من ظلم ومن طغيان
لولا عطاؤك لم أكن أهلاً لذا *** كلا وما إن كان في الإمكان
فأتم نعمتك التي أنعمتها *** يا خير مدعو بكل لسان
واختم لعبدك بالسعادة إنه *** يرجوك في سرٍ وفي إعلان
وأبحْه جنات النعيم ورؤية *** الوجه الكريم بها مع الأخوان
وانصر أخا التوحيد سيَّد يعرب *** عبد العزيز على ذوي الأوثان
واضرب رقاب الغادرين بسيفه *** وأذقهمُ السوء بكل مكان
وآدم صلاتك والسلام على الذي *** أرسلته بشرائع الإيمان
والآل والأصحاب ما نجمٌ بدا *** والتابعين لهم على الإحسان
كتبه
أبو عمر الدوسري(/3)
عبد القادر التلمساني ومحمد نصيف
كان الشيخ إبراهيم بن عيسى تاجراً في بيع الأقمشة يتحرى الصدق والأمانة والوفاء بالعهد، وينتهز الفرص لدعوة وإرشاد من يتعاطى معه التجارة .
قال الشيخ الفاضل محمد نصيف:
وكان أحمد بن إبراهيم بن عيسى الحنبلي النجدي ، يتردد بين جدة ومكة لشراء الأقمشة من الشيخ عبد القادر بن مصطفى التلسماني. كان يدفع له أربعمائة جنيه ويشتري بألف، ويسدد الباقي على أقساط بضمانة مبارك المساعد.
وقد دام التعامل بينه وبين الشيخ التلسماني زمنا طويلا. وكان لصدقه وأمانته ووفائه بوعده اثر طيب في نفس التلسماني.حتى إنه لم ير ضرورة للضامن..
وقال له:
(إني عاملت الناس من أربعين عاما فما أحسن من التعامل معك يا وهابي، فيظهر أن ما يشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من قبل خصومكم السياسيين.... )
فسأله الشيخ أحمد أن يبينها له.
فقال التلسماني:
يقولون إنكم لا تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحبونه.
فأجابه الشيخ أحمد:
سبحانك هذا بهتان عظيم.كيف ومن لم يصل عليه في التشهد في الصلاة فصلاته باطلة،ومن لا يحبه فكافر.
وإنما نحن أهل نجد ننكر الاستعانة والاستغاثة بالأموات,ولا نستغيث إلا بالله وحده,ولا نستعين إلا به سبحانه,كما كان على ذلك سلف الأمة.
وقد استمر النقاش بينه وبين التلسماني ثلاثة أيام . وأخيرا هدى الله الشيخ التلسماني للحق, وصار موحدا ظاهرا وباطنا.
ثم سأله الشيخ التلسماني أن يوضح بعض أوجه الخلاف بينهم وبين خصومهم _ يعني في توحيد الأسماء والصفات_ .
فقال الشيخ أحمد:
إننا نعتقد أن الله فوق سماواته، مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تجسيم ولا تأويل ، وهكذا في جميع آيات الصفات والأحاديث، كما هي عقيدة السلف الصالح,وكما جاء عن الإمام أبي الحسن الأشعري في كتابيه: الإبانة في أصول الديانة ، ومقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.
وقدا دامت المناظرة بينهما خمسة عشر يوماً.(/1)
لأن الشيخ التلمساني كان أشعرياً ، درس في الجامع الأزهر كتب العقائد:السنوسية ، وأم البراهين,وشرح الجوهرة,وغيرها.
وقد انتهت هذه المناقشة الطويلة باقتناع الشيخ التلمساني بأن عقيدة السلف هي الأسلم والأحكم والأعلم.
ثم صار الشيخ التلمساني داعياً من دعاة العقيدة السلفية ، وطبع كتباً كثيرة ووزعها بالمجان..
ثم قال الشيخ المحسن المفضال محمد نصيف:
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد هدى الشيخ التلمساني على يد الشيخ أحمد بن عيسى فقد هداني أنا أيضاً على يده.(/2)
عبدالمنعم الجداوي
((الخرافة )) عجوز متصابية تتعلق بصاحبها ... !
(( التوحيد )) يهدم أولاً .. ثم يبني من جديد ..!
ليس سهلاً أن يتراجع (( القبوري)) ..!
(( التوحيد )) يحتاج إلى إرادة واعية ... !
تردّدت كثيراً في كتابة هذه الاعترافات لأكثر من سبب .. ثم أقدمت على كتابتها لأكثر من سبب ، وأسباب الإحجام والإقدام واحدة .. فقد خشيت أن يقرأ العنوان بعض القراء ثم يقولون : ما لنا ولتخريف أحد معظِّمي القبور .. ولكن قد يكون بعض القراء في المنطقة النفسية التي كنت أعيشها قبل تصحيح عقيدتي .. فيقرؤون اعترافاتي فيفهمون ، ويعبرون من ظلمة الخرافات إلى نور العقيدة - وفي ذلك وحده ما يقويني على الكشف عن ذاتي أمام الناس - ما دام ذلك سوف يكون سبباً في هداية بعضهم إلى حقيقة التوحيد .. ؟
ولقد كنت من كبار معظّمي القبور ، فلا أكاد أزور مدينة بها أي قبر أو ضريح لشيخ عظيم إلا وأهرع فوراً للطواف به ... سواء كنت أعرف كراماته أو لا أعرفها .. أحياناً أخترع لهم كرامات ... أو أتصورها .. أو أتخيلها.. فإذا نجح ابني هذا العام .. كان ذلك للمبلغ الكبير الذي دفعته في صندوق النذور ..وإذا شُفيت زوجتي ، كان ذلك للسمنة التي كان عليها الخروف الذي ذبحته للشيخ العظيم فلان ولي الله !..
وحينما التقيت بالدكتور جميل غازي ، وكان اللقاء لعمل مجلة إسلامية تقوم بالإعلان والنشر عن جمعية العزيز بالله القاهرية ، والتي تضم مساجد أخرى ، ورسالتها الأولى ((التوحيد ))، وتصحيح العقيدة ، وبحكم اللقاءات المتكررة .. كان لابد من صلاة الجمعة في مسجد العزيز بالله .. وهاجم (( الدكتور جميل )) في بساطة ، وبعقلانية شديدة هذا المنحنى المخيف في العقيدة ، وسماه : شركاً بالله ؛ وذلك لأن العبد في غفلة من عقله يطلب المدد والعون من مخلوق ميت!!..(/1)
أفزعني الهجوم ، وأفزعتني الحقيقة .. وما أفزع الحقيقة للغافلين ... ولو أن (( الدكتور جميل )) اكتفى بذلك لهان الأمر .. لكنه في كل مرة يخطب لا بدّ أن يمس الموضوع بإصرار .. فالضّريح لا يضم سوى عبد ميت فقط .. بل قد يكون أحياناً خالياً حتى من العظام التي لا تنفع ولا تضرّ ..!
في أول الأمر اهتززت .. فقدت توازني .. كنت أعود إلى بيتي بعد صلاة كل جمعة حزيناً .. شيء ما يجثم فوق صدري .. يقيد أحاسيسي ومشاعري .. أحاول في مشقة أن أخرج عن هذا الخاطر ... هل كنت في ضلالة طوال هذه الأعوام ؟ ..أم أن صديقي (( الدكتور )) قد بالغ في الأمر .. فأنا أعتقد أن كل من نطق بالشهادة لا يمكن أن يكون كافراً لهفوة من الهفوات أو زلةٍ من الزلات .. !
شيء آخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء ... إن الدكتور يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء ، والخطباء على المنابر صباح مساء .. يعلنونها صريحة : إن الذي يؤذي ولياً .. فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى ، وهناك حديث صحيح في هذا المعنى .. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور والأضرحة ؛ لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه - جل جلاله- ...!
وقلت : إن أسلم وسيلة للدفاع هي الهجوم .. واستعدت قراءة بعض الصفحات من كتاب ((الغزالي)) (( إحياء علوم الدين )) ، وصفحات أخرى من كتاب (( لطائف المنن ))(لابن عطاء السكندري )،وحفظت عن ظهر قلب الكرامات ، وأسماء أصحابها ، ومناسبات وقوعها ، وذهبت الجمعة الثانية ، وكظمت غيطي وأنا أستمع إلى الدكتور ، فلما انتهى من الدرس وأصرَّ على أن يدعوني لتناول طعام الغداء، وبعد الغداء .. تسلمته هجوماً بلا هوادة ، معتمداً على عاملين :
الأول : هو أنني حفظت كمية لا بأس بها من الكرامات .(/2)
والثاني : أنني على ثقة من أنه لن يتهور فيداعبني بكفيه الغليظتين ؛ لأنني في بيته ! وتناولت طعامه فأمنت غضبه ، وقلت له : والآتي هو المعنى ، وليس نص الحوار : (( إن الأولياء لا يدرك درجاتهم إلا من كان على درجتهم من الصفاء ، والشفافية ، وأنهم رجال أخلصوا لله .. فجعل لهم دون الناس ما خصهم به من آيات وأن .... وأن ... وأن .. وانتظر الدكتور حتى انتهيت من هجومي .. وأحسست أنه لن يجد ما يقوله .. وإذا به يقول :
هل تعتقد أن أي شيخ منهم كان أكرم على الله من رسوله ..؟ قلت مذهولاً : لا ..
-إذاً كيف يمشي بعضهم على الماء ... أو يطير في الهواء .. أو يقطف ثمار الجنة وهو على الأرض .. ورسول الله لم يفعل ذلك .. ؟
كان يمكن أن يكون ذلك كافياً لإقناعي أو لتراجعي .. لكنه التعصب - قاتله الله - !! كَبُرَ عليّ أن أسلّم بهذه البساطة ، كيف ألقي ثقافة إسلامية عمرها في حياتي أكثر من ثلاثين عاماً .. قد تكون مغلوطة .. غير أني فهمتها على أنها الحقيقة ، ولا حقيقة سواها !!
وعدت أقرأ من جديد في الكتب التي تملأ مكتبتي .. وأعود إلى (( الدكتور )) ، ويستمر الحوار بيننا إلى ساعة متأخرة من الليل - فقد كنتُ من كبار عشاق الصوفية .. لماذا ؟ لأني أحب أشعارهم وأحبّ موسيقاهم ، وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي ، وخليط من ألحان قديمة متنوعة ... شرقية ، وفارسية ، ومملوكية ، وطبلة إفريقية أحياناً تدقّ وحدها .. أو ناي مصري حزين ينفرد بالأنين ، مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب بمحبوبه وقت السَّحر ..!(/3)
لهذا وللأسباب الأخرى .. أحببت الصوفية .. وكنت أعشقها ، وأحفظ عن ظهر قلب الكثير من شعر أقطابها ..لاسيما (( ابن الفارض ))، وكل حجتي التي أبسطها في معارضة (( الدكتور )) ، أنه وأمثاله من الذين يدعون إلى (( التوحيد )) لا يريدون للدين روحاً ، وإنما يجردونه من الخيال ، وأنهم لا بد أن يصلوا إلى ما وصل إليه أصحاب الكرامات ؛ لكي يدركوا ما هي الكرامات .. ! فلن يعرف الموج إلا من شاهد البحر ، ولا يعرف العشق إلا من كابد الحب - وهذا أسلوب صوفي - أيضاً - في الاستدلال ، ولهم بيت شهير في هذا المعنى!.
وحتى لا يضطرب وجداني ، وتتمزق مشاعري ... حاولت أن أنقطع عن لقاء (( الدكتور )) .. ولكنه لم يتركني .. فوجئت به يدق جرس الباب ، ولم أصدق عيني .. كان هو .. قد جاء يسأل عني .. وتكلمنا كالعادة كثيراً وطويلاً .. فلما سألني عن سبب عدم حضوري لصلاة الجمعة معه ... قلت له بصراحة :
- لقد يئست منك !..
قال : ولكني لم أيأس منك .. أنت فيك خير كثير للعقيدة .
قلتُ : إنه يستدرجني على طريقته ، ولمحت معه كتاباً من وضعه عن سيرة الإمام (( محمد بن عبد الوهاب ))
فقلت له : أعطني هذه النسخة .. هل يمكن ذلك ... ؟
قال : هذه النسخة بالذات ليست لك ، وسوف أعدك بواحدة .
وهذه هي طريقته للإثارة دائماً .. لا يعطيني ما أطلب من أول مرة .. فخطفتُ النسخة ، ورفضت إعادتها له !..
وبعد منتصف الليل بدأت القراءة .. وشدني الكتاب موضوعاً وأسلوباً .. فلم أنم حتى الصباح !..(/4)
كان الكتاب - على حجمه المتواضع - كالإعصار ، كالزلزال .. أخذني من نفسي ليضعني على حافة آفاق جديدة .. حكاية الشيخ (( محمد بن عبد الوهاب )) نفسه .. ثم قصة دعوته ، وما كابده من معاناة طويلة .. حينما كانت في صدره حنيناً ، وكلما قرأت صفحة وجدت قلبي مع السطور . فإذا أغلقت الكتاب لأمر من الأمور يتطلب التفكير أو البحث في كتب أخرى .. استشعرت الذنب؛ لأنني تركت الشيخ في (( البصرة )) ولم أصبر حتى يعود .. أو تركته في بغداد يستعد للسفر إلى ( كردستان ) .. ولا بد أن أصبر معه حتى يعود من غربته إلى بلده !..
يقول الدكتور في كتابه (( مجدد القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب )) .
وبعد هذا التطواف والتجوال هل وجد ضالته المنشودة ..؟ لا ، فإن العالم الإسلامي كله كان يعاني نوبات قاسية من الجهل والانحطاط والتأخر .. عاد الرجل إلى بلده يحمل بين جوانحه ألماً ممضّاً ، لما أصاب المسلمين من انتكاس وتقهقر في كل مناحي حياتهم .
عاد إلى بلده وفي ذهنه فكرة تساوره بالليل والنهار .
لماذا لا يدعو الناس إلى الله ؟
لماذا لا يذكرهم بهدي رسول الله .. ؟
لماذا ... لماذا ...
إذًا ، فهذه العقيدة التي يريدها (( الدكتور)) لم تأت من فراغ ... فمنذ القرن الثاني عشر الهجري ... والإمام محمد بن عبد الوهاب ... يُفكّر ، ويقدّم ؛ لكي يهدم صروح الأضرحة ، ويحطّم شبح الخرافات ، ويُطارد المشعوذين الذين لطخوا وجه الشريعة السمحاء...بخزعبلاتهم التي اكتسبت مع الأيام قداسة ، تخلع قلوب المؤمنين ... إذا فكروا في إزالتها و في ذلك يقول الكاتب : (( ماذا كان وقْع هذه الأعمال على نفوس القوم ..)) .(/5)
ويجيب المؤرخون على ما يرويه الأستاذ أحمد حسين في كتابه (( مشاهداتي في جزيرة العرب )) (( إن القوم لم يقبلوا مشاركة الرجل فيما قام به من قطع الأشجار ، وهدم القباب ، بل تركوا له وحده أن يقوم بهذا العمل ، حتى إذا ما كان هناك شر أصابه وحده ..!)) .
هل يكون ما يزلزل كياني الآن هو الخوف الذي ورثته .. ؟ وهو نفس الذي جعل الناس في بلدة ( العُيَيْنة ) : موطن الشيخ ، يتركونه يزيل الأشجار ، وقبة قبر ( زيد بن الخطاب ) بنفسه .. خوفاً من أن تصيبهم اللعنات المختلفة من كرامات هذه الأماكن وأصحابها .
ومضيت أقرأ ومع كل صفحة أشعر أنني أخلع من جدار الوهم في أعماقي حجراً ضخماً .. وحينما بلغت منتصف الكتاب كانت فجوةً كبيرةً داخلي قد انفتحت ، وتسلل منها ومعها نور اليقين .. ولكن في زحمة الظلمة التي كانت تعشعش في داخلي .. كان الشعاع يُومض لحظة ويختفي لحظات ..!
لقد استطاع (( الدكتور )) أن ينتصر ... تركني أحارب نفسي بنفسي ، بل جعلني أتابع مسيرة التوحيد مع شيخها محمد بن عبد الوهاب ، وأشفق عليه من المؤامرات التي تحاك ضده ، وحوله، وكيف أنه حينما أقام الحد على المرأة التي زنت في ( العيينة )..غضب حاكم (( الإحساء )) ( سليمان بن محمد بن عبد العزيز الحميدي ) ، واستشعر الخطر من الدعوة الجديدة وصاحبها ... فكتب إلى حاكم العيينة (( ابن معمر )) يأمره بكتم أنفاسها ، وقتل المنادي بها ، والعودة فوراً إلى حظيرة الخرافات والخزعبلات .(/6)
ولما كان (( ابن معمر )) قد ارتبط مع الشيخ في مصاهرة ... فقد زوجه ابنته ... فإنه تردد في قتله ، ولكنه دعاه إلى اجتماع مغلق ، وقرأ عليه رسالة حاكم (( الإحساء )) ثم رسم اليأس كله على ملامحه ، وقال له : إنه لا يستطيع أن يعصي أمراً لحاكم (( الإحساء )) ، لأنه لا قِبَل له به .... ولعلها لحظة يأس كشفت للشيخ عن عدم إيمان (( ابن معمر )) ... ولم تزد الشيخ إلا إصرارًا على عقيدته ، وقوة توحيده .. فالحكام الطغاة لا يحاربون دائماً إلا داعية الحق .. وقبل الشيخ في غير عتاب أن يغادر ( العيينة )..مهاجراً في سبيل الله بتوحيده .. باحثاً عن أرض جديدة يزرعه فيها !..
في الصباح استيقظتُ على ضجة في البيت غير عادية .. واعتدلت في فراشي ، ووصَلَتْ إلى أذني أصوات ليست آدمية خالصة ، ولا حيوانية خالصة .. ثغاء ، وصياح ، وكلام ..غير مفهوم العبارات .. وقلت : لا بد أنني أعاني من بقية حلم ثقيل .. فتأكدت من يقظتي ، ولكن (( الثغاء )) هذه المرة اخترق طبلة أذني .. ودخلت عليّ زوجتي تحمل إليَّ أنباء سارةً جدًا ... وهي تتلخص في أن ابنة خالتي ـ التي تعيش في أقصى الصعيد ، ومعها زوجها ، وابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات ـ قد وصلوا في قطار الصعيد فجراً، ومعهم (( الخروف )) ...!
وظننت أن زوجتي تداعبني .. أو أن ابنة خالتي - وكنت أعرف أن أولادها يموتون في السنوات الأولى -، قد أطلقت على طفل لها اسم ( خروف ) لكي يعيش مثلاً . وهي عادات معروفة في الصعيد . وقبل أن أتبين المسألة .. أحسست بمظاهرة من أولادي تقترب من باب حجرة نومي .. وفجأة وبدون استئذان اقتحم الباب (( خروف )) له فروة ، وقرون ، وأربعة أقدام ... واندفع في جنون من مطاردة الأولاد له .. فحطّم ما اعترض طريقه .. ثم اتجه إلى المرآة ، وفي قفزة (( عنترية )) اعتدى على المرآة بنطحة قوية ، تداعت بعدها ، وأحدثت أصواتاً عجيبة ، وهي تتحطم !..(/7)
تَمَّ كل ذلك في لحظة سريعة .. وقبل أن أسترد أنفاسي ، وخيل إليّ أن بيتنا انفتح على حديقة الحيوانات .. رغم أنني أسكن في العباسية ، والحديقة في الجيزة .. ولكن وجدت نفسي أقفز من على السرير ، وخشيت زوجتي ثورة (( الخروف )) ، وتضاءلت فانزوت في ركن .. ترمقني بعينيها ، وتشجعني لكي أتصدى لهذا الحيوان المجنون .. الذي اقتحم علينا خلوتنا .. ولكن الصوت والزجاج المتناثر زاد من صياح الحيوان .. ولمحت في عينيه ، وفي قرنيه الموت الزؤام .. واستعدت في ذهني كل حركات مصارعي الثيران ، وأمسكت بملاءة السرير ، وقبل أن أجرب رشاقتي في الصراع مع (( الخروف )) دخلت ابنة خالتي وهي في حالة انزعاج كامل .. فقد خيل لها أنني سوف أقتله ... وصاحت - وهي على يقين من أنني سأصرع :
- حاسب ، هذا خروف (( السيد البدوي)) .
ونادته فتقدّم إليها في دلال ، وكأنه الطفل المدلّل .. فأمسكت به تُربتُ على رأسه ، وروت لي أنها قدمتْ من الصعيد ، ومعها هذا الخروف البكر الرشيق الذي انفقت في تربيته ثلاثة أعوام هي عمر ابنها؛ لأنها نذرت للسيد البدوي إذا عاش ابنها .. أن تذبح على أعتابه (( خروفاً )) ، وبعد غد يبدأ العام الثالث موعد النذر !..
كانت تقول كل هذه العبارات وهي سعيدة .. وخرجت إلى الصالة لأجد زوجها ، وهو في ابتهاج عظيم .. يطلب مني أن أرافقهم إلى (( طنطا )) .. لكي أرى هذا المهرجان العظيم ؛ لأنهم نظراً لبعد المسافة اكتفوا بالخروف .. فأما الذي على مقربة من (( السيد البدوي )) فإنهم يبعثون بِجِمال .. وأصبح عليّ أن أجامل ابنة خالتي لكي يعيش ابنها ، وإلا اعتُبرت قاطعاً للرحم ... لا يهمني أن يعيش ابن خالتي أو يموت، ولا بد أن أذهب معهم إلى مهرجان الشرك ، وفي نفس الوقت كنت أسأل نفسي .. كيف أقنعها بأنها في طريقها إلى الكفر .. ؟ وماذا سيحدث حينما أحطم لها الحلم الجميل الذي تعيش فيه منذ ثلاث سنوات ... ؟(/8)
وقلت : أبدأ بزوجها أولاً ؛ لأن الرجال قوامون على النساء .. وأخذت الزوج إلى زاوية في البيت ، وتعمدت أن يرى في يدي كتاب : (( الإمام محمد بن عبد الوهاب )) .. ومدّ يده فجعل الغلاف في ناحيته ، وما كاد يقرأ العنوان حتى قفز كأنه أمسك بجمرة نار!..
قرأ زوج ابنة خالتي عنوان الكتاب - الذي يقول : إن في الصفحات قصة (( الشيخ محمد بن عبد الوهاب )) ودعوته - وهتف صارخاً : ما هذا الذي أقرؤه ...؟ وكيف وصلني هذا الكتاب ..؟ لا بد أن أحدهم دسه عليَّ !!.. فهو يعرف أنني رجل متزن ... أحرص على ديني ، وعلى زيارة الأضرحة ، وتقديم الشموع ، والنذور ، وأحياناً القرابين المذبوحة والحية ، كما يفعل هو تماماً .. ورأيت في عينيه نظرة رثاء... إلى ما رماني به القدر في تلك النسخة ... وكان عليَّ أن أقف منه موقف الدكتور جميل غازي مني سابقاً .. وشاء الله أن يكون ذلك بمثابة الامتحان لي .. وهل في استطاعتي أن أطبق ما قرأت أم لا .. ؟ وهل استوعبت عن يقين ما قرأت أم لا .. ؟ والأهم من ذلك هو مدى إصراري على عقيدتي وإقناع الآخرين بها - أيضاً - ، فالذي لا يؤثر في المحيط الذي يعيش فيه .. هو صاحب عقيدة سلبية ... غير إيجابية .. فليس من المعقول في شيء .. أن أطوي (( توحيدي )) على نفسي ، وأترك الآخرين يعيشون في ضلالة ؛ لأنهم بعد فترة سوف يغرقونني في خرافاتهم .. وعليه فلا بد أن أجادلهم بالتي هي أحسن .. لا أتركهم يشعرون أن الأمر هينّ .. لا بد أن أنفرهم من شركهم .. وهم لا بد أن يتراجعوا ؛ لأن (( الخرافة )) - نظراً لأنها تقوم على ضلالات هشة - لا يكاد الشك يدخلها حتى يهدمها .. والحق في تعقبها إذا كان لحوحاً .. قضى عليها ... أو على أقل تقدير أوقف نموها حتى لا تصيب الآخرين .. ومن أجل ذلك كله قررت أن أتوكل على الله ، وأبدأ الشرح للرجل ... ولم تكن المهمة سهلة .. فلا بد أولاً أن أطمئنه ، وأزيل ما بينه وبين سيرة الشيخ (( محمد بن عبد الوهاب(/9)
)) .. ثم ما ترسّب في ذهنه من زمن عن ( الوهابية والوهابيين ) .. ففي أول الحديث.. اتهم (( الوهاب )) بعدد من الاتهامات يعلم الله أن دعوة (( التوحيد )) بريئة منها .... براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام !..
ورحت أحاول في حماس شديد .. أشرح له سر حملات الكراهية ، والبغضاء التي يشنها البعض على دعوة (( التوحيد )) .. وكيف أنها أحيت شعائر الشريعة ، وأصول العبادات ، وفي ذلك القضاء على محترفي الدّجل ، وحراس المقابر ، وسدنة الأضرحة ، والذين يُكدّسون الأموال عاماً بعد عام .. من بيع البركات ، وتوزيع الحسنات على طلاب المقاعد في الجنة .. فالمقاعد محدودة والوقت قد أزف ..! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..!
ولمحت على ملامحه بعض سمات الخير .. نظر في دهشة .. كأنه يفيق من غيبوبة ... ورغم ذلك فقد راح يتشنج ، ويدافع عن أهل الله الذين ينامون في قبورهم لكن يتحكمون بأرواحهم في بقية الكون ، وأنهم يدعون كل ليلة جمعة للاجتماع عند قطب من الأقطاب ... وحتى النساء من الشهيرات يلتقين - أيضاً - مع الرجال الأقطاب ، وينظرون في شؤون الكون ...!
ولم أكن أطمع في زحزحته عن معتقدات في ضميره عمرها أكثر من ثلاثين سنة ... فاكتفيت بأن طلبت منه أن ينظر في الأمر .. هل هؤلاء الموتى من أصحاب الأضرحة... أكرم عند الله أم رسول الله ؟!! ثم يفكر طويلاً ، ويجيء إلىَّ بالنتيجة ... دون ما تحيّز أو تعصّب .. ووعدني بأن يُفكّر ، ولكنه فقط يطلب مني أن أرافقهم في رحلتهم الميمونة إلى (( طنطا )) ... فقلت له : إن هذا هو المستحيل لن يحدث .. وإذا كان مصمماً على الذهاب هو وزوجته إلى (( السيد البدوي )) حتى يعيش ابنهما .. فالمعنى الوحيد لذلك هو أن الأعمار بيد (( السيد البدوي)).. وحملق فيَّ وصاح :
- لا تكفر يا رجل ..؟
فقلت له :(/10)
- أينا يكفر الآن .. ؟ أنا الذي أطلب منك أن تتوجه إلى الله .. ؟ أم أنت الذي تُصرّ على أن تتوجه إلى (( السيد البدوي )) ..؟
وسكت واعتبر هذا مني إهانة لضيافته ، وأخذت زوجته والخروف وابنها ، وانصرفوا من العباسية في القاهرة إلى (( طنطا )) ، وحيثما وقفت أودعهم .. همست في أذن الزوج : أنه إذا تفضل بعدم المرور علينا بعد العودة من مهرجان الشرك .. فإنني أكون شاكراً له ما يفعل ... و إلا لقي مني ما يضايقه .. وازداد ذهول الرجل ، ومضى الركب الغريب .. يسوق الخروف نحو (( طنطا)) ..!
وانثنت زوجتي تلومني ؛ لأنني كنت قاسياً معهم ، وهم الذين يخافون على طفلهم .... الذي عاش لهم بعد أن تقدم بهما العمر ، ومات لهما من الأطفال الكثير .. وصحت في زوجتي ، إن الطفل سيعيش فذلك لأن الله يريد له أن يعيش ، وإن كان سيموت فذلك لأن الله يُريد له ذلك.. ولا شريك لله في أوامره ولا شريك له في إرادته.
وذهبت إلى إدارة الجريدة التي أعمل بها .. وإذا بالدكتور يتصل بي تليفونياً ؛ ليتحدث معي في شأن له، ولم يخطر بباله أن يسألني : ماذا فعل بي الكتاب ؟ أو ماذا فعلت به ؟ واضطررت أن أقول له : إنني في حاجة إلى مناقشة بعض ما جاء في الكتاب معه ... والتقينا في الليل وحدثته عن الكارثة التي جاءتني من الصعيد ، ولم يعلق على محاولتي إقناعهم بالعدول عن شركهم .. مع أنني منذ أيام فقط .. كنت لا أقل شركًا عنهم ، وقلت له : ألا يلفت نظرك أنني أقول لهم ما كنت تقوله لي ..؟
قال في هدوء يغيظ : إنه كان على يقين من أنني سوف أكون شيئاً مفيداً للدعوة .. وأردت الاحتجاج على أنني من ( الأشياء ) ولست من الآدميين ، لكن الدكتور لم يتوقف ، وقال : لقد صدر منك كل هذا بعد قراءة نصف الكتاب ، فكيف بك إذا قرأت الكتب الأخرى ؟! وأغرق في الضحك!! .(/11)
وعلمت بعد أيام أن قريبتي عادت من (( طنطا )) إلى الصعيد مباشرة دون المرور علينا في القاهرة ، وأنها غاضبة مني ، وشكتني لكل شيوخ الأسرة ، وفي الأسبوع الثاني فوجئت بجرس الباب يدقّ .. وذهب ابني الصغير ؛ ليستطلع الأمر .. ثم عاد يقول لي :
- إبراهيم الحران ...
(( الحران )) .. إنه زوج ابنة خالتي .. ماذا حدث ..؟
هل جاءوا بخروف جديد ، ونذر جديد لضريح جديد ... أم ماذا .. ؟ وقررت أن يخرج غضبي من الصمت إلى العدوان هذه المرة ، ولو بالضرب .. ومشيت في ثورة إلى الباب .. وإذا بهذا (( الحران )) يمد يده ليصافحني ، ودَعَوْته إلى الدخول فرفض .. إذًا لماذا جاء ..؟ وفيم جاء ؟ ، وابتسم ابتسامة مغتصبة وهو يقول : إنه يطلب كتاب (( الشيخ محمد بن عبد الوهاب )) الذي عندي ، وحملقت فيه طويلاً ، وجلست على أقرب مقعد ..!
سقطت قلعة من قلا ع الجاهلية .. لكن لماذا ؟ وكيف كان السقوط ؟ جاء صاحبي إبراهيم يسعى بقدميه .. يطلب ويلحّ في أن يبدأ مسيرة التوحيد .. لا بد أن وراء عودته أمراً ، ليس من المعقول أن يحدث ذلك بلا أسباب قوية جعلت أعماقه تتفتح ، وتفيق .. على حقائق غفل عنها طويلاً .. !
ورحمة بي من الذُّهول ، والإغماء الذي أوشك أن يصيبني .. بدأ يتكلم ، وكانت الجملة التي سقطت من فمه ثقيلة كالحجر الذي يهبط من قمة جبل .. صكت سمعي .. ثم ألقت بنفسها تتفجر على الأرض .. تصيب وتدمي شظاياها ، وقال :(/12)
- لقد مات ابني عقب عودتنا ... ! إنا لله وإنا إليه راجعون .. هذا هو الولد الرابع الذي يموت لإبراهيم تباعاً ، وكلما بلغ الطفل العام الثالث .. لحق بسابقه .. وبدلاً من أن يذهب إلى الأطباء ليعالج مع زوجته ، بعد التحليلات اللازمة .. فقد يكون مبعث ذلك مرض في دم الأب أو الأم .. اقتنع ، وقنع بأن ينذر مع زوجته مرة للشيخ هذا ، ومرة للضريح ذاك ، وأخرى لمغارة في جبل بني سويف .. إذا عاش طفله ، ولكن ذلك كله لم ينفعه .. ورغم الجهل والظلم الذي يظلمه لنفسه .. إلا أنني حزنت من أجله .. تألمت حقيقة .. أخذته من يده .. أدخلته .. جلست أستمع إلى التفاصيل ..!
لقد عاد من طنطا مع زوجته إلى بلدهما ، وحملا معهما بعض أجزاء من (( الخروف )) الذي كان قد ذبح على أعتاب ضريح (( السيد البدوي )) .. فقد كانت تعاليم الجهالة تقضي بأن يعودا ببعضه .. التماساً لتوزيع البركة على بقية المحبين - وأيضاً - لكي يأكلوا من هذه الأجزاء .. التي لم تتوافر لها إجراءات الحفظ الصالحة ففسدت .. وأصابت كل من أكل منها بنزلة معوية .. وقد تصدَّى لها الكبار وصمدوا .. أما الطفل .. فمرض ،وانتظرت الأم - بجهلها - أن يتدخل (( السيد البدوي )) .. لكن حالة الطفل ساءت .. وفي آخر الأمر .. ذهبت به للطبيب الذي أذهله أن تترك الأم ابنها يتعذب طوال هذه الأيام ... فقد استغرق مرضه أربعة أيام ... وهزَّ الطبيب رأسه ، ولكنه لم ييأس .. وكتب العلاج .. (( أدوية )) وحقن ، ولكن الطفل .. اشتد عليه المرض ، ولم يقو جسمه على المقاومة .. فمات !(/13)
من موت الطفل بدأت المشاكل .. كانت الصدمة على الأم.. أكبر من أن تتحملها .. ففقدت وعيها .. أصابتها لوثة .. جعلتها تمسك بأي شيء تلقاه ، وتحمله على كتفها وتهدهده وتداعبه على أنه ابنها .. أما الأب فقد انطوى يفكر في جدية ، بعد أن جعلته الصدمة يبصر أن الأمر كله لله .. لا شريك له .. وأن ذهابه عاماً بعد عام .. إلى الأضرحة والقبور .. لم يزده إلا خسارة .. واعترف لي : بأن الحوار الذي دار بيني وبينه .. كان يطنّ في أذنيه .. عقب الكارثة ، ثم صمت .. ! فقلت له: بعض الكلام الذي يُخفّف عنه ، والذي يجب أن يُقال في مثل هذه المناسبات .. ولكن بقي في نفسه شيء من حديثه . فهو لم يكمل .. ماذا حدث للسيدة المنكوبة ، وهل شفيت من لوثتها أم لا ؟
فقلت له : لعل الله قد شفي الأم من لوثتها .؟ !
فأجاب - وهو مطأطئ الرأس - : إن أهلها يصرون على الطواف بها على بعض الأضرحة والكنائس - أيضاً - ويرفضون عرضها على أي طبيب من أطباء الأمراض النفسية والعصبية .. ليس ذلك فحسب .. بل ذهبوا بها إلى (( سيدة )) لها صحبة مع الجن فكتبت لها على طبق أبيض .. وهكذا تزداد العلة عليها في كل يوم وتتفاقم .. وكل ما يفعله الدجالون يذهب مع النقود المدفوعة إلى الفناء..!
وحينما أراد أن يحسم الأمر .. وأصرّ على أن تُعْرض على طبيب .. أو يطلقها لهم ؛ لأنهم سبب إفسادها .. برزت أمها تتحداه ، وركبت رأسها فاضطر إلى طلاقها وهو كاره ...!(/14)
أثارتني قصته ، رغم حرصي على النسخة التي حصلت عليها من))الدكتور جميل )) إلا أنني أتيته بها وناولتها له .. فأمسك بها وقلبها بين يديه .. وعلى غلافها الأخير كان مكتوباً كلام راح يقرؤه بصوت عال .. كأنه يسمع نفسه قبل أن يسمعني (( نواقض الإسلام )) من كلمات شيخ الإسلام (( محمد بن عبد الوهاب )): { من يُشْرك بالله فقد حرَّم اللهُ عليه الجنّة ومأْواهُ النَّارُ وَما للظَّالمين مِنْ أنصار } [المائدة:72 ] ، ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر.
ورفع رأسه فحملق في وجهي .. ثم أخذ الكتاب ، وانصرف واشترط أن يعيده لي بعد أيام ، وأن أحضر له من الكتب ما يعينه على المضي في طريق (( التوحيد)) .
انصرف إبراهيم ، والمأساة التي وقعت له تتسرب إلى كياني قطرة بعد قطرة .. فهي ليست مأساة فرد ، ولا جماعة ، وإنما هي مأساة بعض المسلمين في كثير من الأمصار .. الخرافة أحب إليهم من الحقيقة ، والضلالة أقرب إلى أفئدتهم من الهداية ، والابتداع يجتذبهم بعيداً عن السنة ..!
حاولت الاتصال تليفونياً (( الدكتور جميل )) .. فقد كنت أريد أن أنهي إليه أخبار ( إبراهيم ) ولكني لم أجده فبدأت العمل في كتابات لمجلة شهرية تصدر في قطر .. اعتادت أن تنشر لي أبحاثاً عن الجريمة في الأدب العربي ، وصففت أمامي المراجع ، وبدأت مستعيناً بالله على الكتابة ، وإذا بالتليفون يدق .. كان المتكلم مصدراً رسمياً في وزارة الداخلية ـ يدعوني بحكم مهنتي كصحفي متخصص في الجريمة ـ لحضور تحقيق في قضية مصرع أحد عمال البلاط ، وكان قد عثر على جثته في جُوال منذ يومين ..!!(/15)
تركت كل ما كان يشغلني إلى مكان التحقيق .. والغريب في الأمر .. أن يكون الأساس الذي قامت عليه هذه الجريمة هو السقوط أيضاً .. في هاوية الشرك والدّجل والشعوذة .. بشكل يدعو إلى الإشفاق .. فالقتيل كان يدّعي صحبة الجن ، والقدرة على التوفيق بين الزوجين المتنافرين ، وشفاء بعض الأمراض وقضاء الحاجات المستعصية ... إلى جانب عمله في مهنة البلاط..!
أمّا المتهم القاتل .. فكان من أبناء الصعيد .. تجاوز الخمسين من عمره ،وكان متزوجاً من امرأة لم تنجب .. فطلقها وتزوج بأخرى في السابعة عشرة من عمرها لكنها هي الأخرى لم تنجب ... وبلغه من تحرياته أن مطلقته قامت بعمل سحر له - نكاية فيه - يمنعه من الإنجاب مع زوجته الجديدة . فاتصل بذلك الرجل الذي كان شاباً لم يتجاوز الأربعين .. واتفق معه على أن يقوم له بعمل مضاد .. وتلقف الدجّال فرصة مواتية ... وذهب معه إلى البيت .. وكتب له الدجال بعد أن تناول العشاء الدّسم .. بعض مستلزمات حضور الجن من بخور وشموع وعطور ، وذهب الرجل ليشتريها .. وترك ( الدجّال ) وزوجته الحسناء في البيت ..!
خرج الرجل مسرعاً يشتري البخور الذي سيحرق تمهيدًا لاستحضار الجن .. وترك الدجّال الشاب مع الزوجة الحسناء ..وكان لا بد أن يحدث ما يقع في مثل هذه المواقف .. فقد حاول المشعوذ أن يعتدي على الزوجة . إذ راودها في عنف ليفتك بشرفها ، وهي العفيفة الشريفة .. فقامت لتغادر البيت إلى جارة لها .. حتى يصل زوجها .. وإذا بها تجد زوجها على الباب .. فقد نسى أن يأخذ حافظة نقوده وروت له في غضب ما وقع من الدجّال ، وانفعل الزوج الصعيدي ، وحمل عصاة غليظة ودخل على الدجال في الغرفة ، وانهال عليه بالعصا .. حتى حطم رأسه .. بعدها وجد نفسه أمام جثة لا بد أن يتخلص منها .. فجلس يفكر !(/16)
خرج ليلاً فاشترى جُوالاً ، وعاد فوضع الجثَّة فيه ، وانتظر حتى انتصف الليل .. ثم حمل الجثة على كتفه ، وألقى بها في خلاء على مقربة من الحي الذي يسكنون فيه .. وعاد إلى غرفته يحاول طمس الآثار ومحوها .. وظن أنه تخلص من الدجال الشاب إلى الأبد !
ولكن رجال الشرطة .. بعد عثورهم على الجثة .. بدأوا أبحاثهم عن الجُوال الذي يحتوي على الجثة .. وما كادوا يعرضونه على البقالين في المنطقة ، حتى قال لهم أحدهم : إن الذي اشتراه منه هو فلان ، وكان ذلك بالأمس فقط ، وألقت الشرطة القبض على الرجل ، وفتشت غرفته فوجدت الآثار الدالة على ارتكاب الجريمة .. وضُيِّقَ عليه الخناق فاعترف بتفاصيل الجريمة!
لم يكن حضوري هذا التحقيق صدفة، فكل شيء يجري في ملكوت الله بقدر ..إذ يسوق لي هذه الجريمة المتعلقة - أيضاً - بفساد العقيدة .. لتجعلني أناقش مع الآخرين.. قضية العقيدة والخرافة من بذورها الأولى .. ولماذا تروج الخرافة ، وتتغلغل في كيانات البشر دون وازع ؟ هل لأن الذين يتاجرون بها أوسع ذكاء من الضحايا ؟
وماذا يجعل الضحايا ـ وهم ملايين ـ يندفعون إلى ممارستها ، والإيمان بها، والتعصب لها... ؟ أم أن (( الوثنية )) التي هي الإيمان بالمحسوس والملموس .. التي ترسبت في أذهان العالمين سنين طويلة تفرض نفسها على الناس من جديد . تساندها الظروف النفسية لبعض البشر . الذين يعجزون عن الوصول إلى تفسير لها!!؟(/17)
فالقاتل والقتيل في هذه الجريمة... كلاهما فاسد العقيدة .. لا يعرفان من الإسلام سوى اسمه .. فالقتيل مشعوذ يمشي بين عباد الله بالسوء ، ويكذب عليهم ، ويدّعي أنه على صلة بالجن ، وأنه يُشْفي ويُسْعد ، ويشفي ويمرض بمعاونة الجن ، وفي ذلك شرك مضاعف مع الإضرار بالناس .. أما القاتل فهو من فرط جهالته يعتقد أن إنساناً مثله في وسعه أن يجعله ينجب ولدًا أو بنتاً ! وقد يكون عذره أنه في لهفته على الإنجاب ألغى عقله ... غير أنه لو أن له عقيدة سليمة .. تُرسِّخُ في ذهنه أنَّ الله بلا شركاء ، وأن النفع والضر بيد الله فقط ، وتُؤصِّل هذه المفاهيم في أعماقه .. ما كان يمكنه أن يستسلم لدجال .. ولا استطاعت عقيدته أن تحميه من السقوط في أيدي مثل هذا المشعوذ!!
وفي كثير من الأحيان يصل الأمر... ببعض المتعصبين إلى أن يجعل من نفسه داعية للخرافة .. يروج لها ، ويدافع عنها ، وعلى استعداد للقتال في سبيلها .. فقد نجد من ينبري في المجالس .. فيروي كيف أن الشيخ الفلاني أنقذه هذه الأيام من ورطة كانت تحيق به ، وأنه كان لن يحصل على الترقية هذا العام لولا أن الشيخ الفلاني صنع له تحويطة ، وأنه كان على خلاف مع زوجته وضَعَهُما على حافة الطلاق لولا أن الشيخ الفلاني كتب له ورقة وضعها تحت إبطه .. إلخ .. وتحضرني في هذا المجال قصة سيدة تخرجت من جامعة القاهرة ، ودرست حتى حصلت على الدكتوراه في علوم الزراعة ، وتشغل الآن وظيفة مديرة مكتب وزير زراعة إحدى الدول العربية ، هذه السيدة حاملة الدكتوراه ... عثر زوجها ذات يوم على حجاب تحت وسادته ، فسأل زوجته .. فقالت : إنها دفعت فيه ما لا يقل عن خمسين جنيهاً ؛ لكي تستميل قلبه ؛ لأنها تشعر بجفوته في الأيام الأخيرة .. وكانت النتيجة أن زوجها طلقها طبعاً .. وراوي قصتها هو محاميها نفسه الذي تولى دعواها التي أقامتها ضد زوجها ...!(/18)
* وترتفع الخرافة إلى الذروة ... حينما يعمد المتخصصون فيها إلى تقسيم تخصصات المشايخ والأضرحة... فضريح السيدة فلانة يزار لزواج العوانس ، والشيخ فلان يزار ضريحه في مسائل الرزق ، والقادرة الشاطرة صاحبة الضريح الفلاني يحج إليها في مشاكل الحب ،والهجر ، والفراق ، والطلاق ، وأخرى في أمراض الأطفال ، والعيون ، وعسر الهضم .. وهكذا... مؤامرة محكمة الحلقات .. تلف خيوطها حول السذَّج والمساكين ، وكأنهم لم يقرأوا في القرآن : { وإن يَمْسسك اللهُ بِضُرٍ فلا كاشف له إلاّ هُو وإن يمسسك بخيرٍ فهُو على كُلِ شيءٍ قدير } [ الأنعام : 17]، وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الشريف : (( من تَعَلَّق تميمةً فقد أشرك)) .
إن الانصياع إلى الخرافات ليس وقفاً على عامة الناس أو جهلتهم ، بل من المؤسف أنها تتمتع بسلطان كبير بين المتعلمين ، والذين درسوا في أرقى الجامعات . وإذاً فالأصل فيها هو أنها تتسلل إلى ضمائر الناس، الذين لا يحميهم عقيدة سليمة .. تصد عنهم هذه ( الشركيات ) الشرسة الضارية .. فالذي لا شك فيه ، هو أن الرجل الذي وثّق إيمانه بالله واقتنع بأن الله هو مالك كل شيء ، ورب كل شيء لا شريك ولا وسيط له .. هذا الرجل سوف يعيش في مناعة إيمانه .. متحصناً بعقيدته .. لا تصل إليه المفاسد ، بل وتنكسر على صخرة إيمانه كل هذه الخزعبلات .. لماذا ؟ لأنه أنهى أمره إلى الله ، ولم تعد المسألة في حسابه قابلة للمناقشة !
فالإيمان بالله ، واعتناق العقيدة السليمة شيء ليس بالضرورة في الكتب أو في الجامعات .. إنه أبسط من ذلك .. فالله سبحانه وتعالى جعله في متناول الجميع حتى لا يحرم منه فقير لفقره ... أو يستأثر به غني لغناه..!(/19)
وبينما أنا منهمك أكتب هذه الحلقة إذ بضجيج تصحبه دقات عنيفة لطبل يمزق سكون الليل ويبدده . وراح هذا الضجيج يعلو ، ويعربد في ليل الحي .. دون أن يتوقف إلا لحظات .. يتغير فيها الإيقاع ثم يعود ضاربًا .. متوحشاً .. يهز الجدران .. وعرفت بخبرتي من الألحان ، والأصوات المنفردة التي تصاحبها أن إحدى المترفات من الجيران تقيم حفلة (( زار )) .. وأنها لا بد أن تكون قد دعت كل صديقاتها المصابات مثلها بمس من الجنّ ... لكي يشهدن حفلها ؛ إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقيم فيها مثل هذه الحفلة ، فهي تقوم بعملها هذا مرة كل ستة شهور .. حرصاً على إرضاء الجن الذي يسكن جسدها...!
وعبثاً حاولت الوصول إلى وسيلة للهرب من تلك الكارثة التي تقتحم علي أذني .. فتركت الكتابة ، وحاولت أن أقرأ .. وفي خضم المعاناة .. جاء لي صديق لي من كبار علماء الأزهر ، ومن الذين يعملون في وزارة الأوقاف وشئون الأزهر ، ليزورني واستقبلته فرحاً ؛ لأنني أحب النِّقاش معه ، ولأنه سوف يخلصني من عذاب الاستماع إلى الدقات الهمجية.
وشكوت إليه جارتي ، ودخلنا في المناقشة عن (( الجن )) وشكوى الناس منه ، وادّعاء السيدات أنه يركبهن ، والجيش الجرار من النساء ، والرجال الذين يحترفون عمل حفلات (( الزار )) . وإذا بالرجل الذي يحمل شهادة أزهرية عليا .. يؤكد لي أنه كانت له شقيقة مسَّها الجن عقب معركة نشبت بينها وبين زوجها فعطّل (( الجن )) ذراعها الأيمن عن العمل بضعة أيام .. ولم يتركها الجن إلا بعد أن أقاموا لها حفلة (( الزار )) ، عقدت الشيخة بينها وبين ( الجن ) معاهدة تعايش سلمي .. وترك ذراعها على أن تقيم هذا الحفل مرة كل عام.(/20)
* كان هذا كلام الرجل العالم ... طال صمتي .. فقط كنت أفكر في المسكين إبراهيم الحران ، وزوجته الأمية ... فلا عتاب عليهما ولا لوم .. ما دام هذا هو رأي مثل هذا الرجل في (( الزار )) .. وكانت الدقات العنيفة لا تزال تصل إلى آذاننا ، والصمت المسكين يتلاشى أمام الأصوات المسعورة التي تصرخ في جنون تستجدي رضا الجن ، وتستعطف قلوب العفاريت.. !
انتهت سهرتي مع صديقي العالم الأزهري الخالص .. الذي فجعني فيه إخلاصي فيه .. إذ وجدته من المؤمنين بالخرافة ، المؤيدين لحكايات الجن . .. وأحسست بأن وقتي ضاع بين هذا المغلوط العقيدة ، ودقات (( الزار )) التي كانت تقتحم عليَّ نوافذ مكتبي .. دون مجير شهم ينقذني من الاثنين..!
وفي الصباح استيقظت على جرس التليفون .. يصيح صيحات طويلة ومعناها أنّ مكالمة قادمة من خارج القاهرة ... ورفعت السماعة .. لأجد أن المكالمة من الصعيد ، والمتكلم هو زوج خالتي ، ووالد زوجة (( إبراهيم الحران )) ..يعلنني أنهم سوف يصلون غداً . وقد اتصل ليتأكد أنني في القاهرة .. خوفاً من أن أكون على سفر .. فهو يريدني لأمر هام .. ورحبت به ، وقلت : إنني في انتظارهم .. ولم يكن أمامي سوى أن أفعل هذا لألف سبب وسبب !
أولها : أن الرجل الذي اتصل بي أكنّ له كل الاحترام والحب ، وأنني لمست في صوته رقة الرجاء ، وأنا ضعيف أمام اليائس الذي يلجأ إليَّ في حاجة وفي وسعي أن أقضيها له .. أخشى أن أرده - ولو بالحسنى - وأحاول جاهداً أن أكون من الذين يجري الله الخير على أيديهم للناس .. رغم أن هذا يسبب لي الكثير من المتاعب ، وضياع الوقت إلا أنني أحتسب كل ذلك عند الله ..!(/21)
وفي الغد ومع الركب الحزين ، وكان مؤلفاً من زوج خالتي ، وخالتي أم زوجة (( إبراهيم الحران )) وابنتها التي أصابتها اللوثة بعد وفاة طفلها .. وكانت في حالة يرثى لها . تفاقمت الحالة العقلية عندها ، ودخلت في مرحلة الكآبة العميقة .. رفضت معها الكلام ، وفقدت فيها الشعور بما يدور حولها .. لا تستطيع أن تفرق بين النوم واليقظة ، ولا تجيب عمَّن يحدثها ... انتقلت من دنيا الناس .. إلى دنيا الوهم والكآبة .. حتى زوت ، وصارت هيكلاً عظمياً ليس فيها من علامات الحياة سوى عينين كآلة زجاج يرسلان نظرات بلا معنى .. وقال لي الأب وهو حزين : إنه يريد مني أن أتصل بابني وهو طبيب أمراض عصبية ، ونفسية ، ويعمل في (( دار الاستشفاء للأمراض النفسية والعصبية بالعباسية )) لكي يجد لها مكاناً في الدرجة الأولى ..!
كانت الأم تبكي وهي نادمة تعترف بآثامها .. وكيف أنها بإصرارها على علاج ابنتها عند المشايخ ، وبالجري والطواف حول الأضرحة ، وضياع الوقت - جعلت المرض يستفحل ، ويهدم كل قدرة لابنتها على مقاومته ..واعترفت بأنها أخطأت في حق زوج ابنتها (( إبراهيم الحران )) واستفزته بإصرارها على الخطأ ، ولكن عذرها أنها كانت ضحيةً لجهلها ، ولعشرات السيدات اللاتي كنَّ يؤكدن لها : أن تجاربهن مع المشايخ ، والأضرحة والدجالين .. تجارب ناجحة ، والمثل يقول : (( اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً))..!(/22)
واستطعنا بفضل الله أن نجد لها مكاناً ، وأن نلحقها في نفس اليوم بالدرجة الأولى ، وقال لي ابني : إنها حالة مطمئنة ولا تدعو إلى اليأس .. كل ما في الأمر أن الإهمال جعلها تتفاقم .. وبعد مضي أسبوع واحد من العلاج تحسنت السيدة ، وقد عُولجت بالصدمات الكهربائية .. إلى جانب وسائل علاجية أخرى يعرفها المتخصصون ، وخلال ذلك اتصل بي (( إبراهيم الحران )) فقلت له : إنني أريده في أمر هام ، ولابد أنه يزورني في البيت ... وحينما جاء شرحت له الأمر ، وقلت له : إن الأطباء يرون في استرداده لزوجته جزءاً من العلاج - أيضاً - .. ولكن لفت نظري فيه .. أنه بعد قراءته للكتب التي حصلت له عليها من ( الدكتور جميل غازي ) في التوحيد أن أصبح إنساناً جديداً ... فالعبارات التي كانت تجري على لسانه .. من الإقسام تارة بالمصحف ، وتارة بالأنبياء ، وتارة ببعض المشايخ قد اختفت نهائياً .. وعاد يمارس حياته بأسلوبه الرجل الذي لا يعبد غير الله ، ولا يخشى إلا الله ، ولا يرجو سوى الله .. وحتى بعد أن حدثته في أن يعيد زوجته .. أصر على أن يجعل هذه العودة مشروطة بأن تقلع أم زوجته عن معتقداتها القديمة ، وكذلك والد زوجته .. أما زوجته .. فقال : إنه كفيل بها ، وعقدت بينهم جميعاً مجلساً لم ينقصه إلا الزوجة ؛ لأنها كانت في المستشفى ، وقبلوا شروطه بعد هذا الدرس القاسي!!
كان لزيارته لزوجته في المستشفى... أكبر الأثر في شفائها ، وزادت بهجتها حينما عرفت أنه أعادها إلى عصمته . قال لي ابني الذي كان يشرف على علاجها : إن عودتها إلى زوجها ، وزيارته لها كانت العلاج الحقيقي الذي عجَّل بشفائها ، لأنها وهي وحيدة أبويها .. حطمتها صدمة وفاة ابنها .. ثم قضت على البقية الباقية من عقلها صدمة طلاقها .. بعد شهر وعشرة أيام تقريباً تقرر خروجها ، وكان يتنظرها زوجها ووالدها ووالدتها في سيارة على الباب رحلت بهم إلى الصعيد فوراً!(/23)
لم أستطع أن أنزع من نفسي بقايا هذه المأساة ، ولم يكن من السهل أن أتغافل عن الخرافة التي تخرب أو تهدم كل يوم بل وكل لحظة عشرات النفوس والبيوت في عشيرتي ، و أبناء ديني .. وعلى امتداد الوطن الإسلامي كله .. ووجدتني أسأل نفسي لما ذا نحن الذين نعيش في الشرق الأوسط .. تمزقنا الخرافة وتجثم على صدر مجتمعنا الخزعبلات، فتمسك بنا وتوقفنا عن ممارسة الحضارة.. ؟
ومع أن الغرب ، والمجتمع الأوروبي ليس خالياً من الخرافات ، وليس خالياً من الخزعبلات ، ومع ذلك فهم يعيشون في حضارة ويمارسونها . تدفع بهم ويدفعون بها دائماً إلى الأمام!
الواقع أن خزعبلاتهم وخرافاتهم في مجموعها معادية للروح ..تدفع بهم إلى الانزلاق أكثر من الماديات ، وهذا هو ما يتفق وحضارتهم !!
أما هنا في الشرق .. فإن خرافاتنا معادية للعقل ، وللمادة معاً .. ! ولهذا كانت خرافاتنا هي المسئولة عن تدمير حياتنا في الحاضر والمستقبل.
وليس هناك من سبيل لخروجنا من هذا المأزق الاجتماعي ، والحضاري سوى تنقية العقيدة مما ألصق بها وعلق بها من الشوائب التي ليست من الدين في شيء ..!
فحينما يصبح (( التوحيد )) أسلوب حياة ، وثقافة ، وعقيدة ... سوف تختفي من أفقنا وإلى الأبد .. هذه الغيوم .. غيوم الخرافات ، والدجل ، والشعوذة ، والكهانة التي لا تقوى .
وتلك مسئولية ينبغي أن تقوم بها أجهزة التربية المباشرة ، وغير المباشرة فإن ما نعيشه الآن هو صورة أسوأ مما قرأت في هذه الاعترافات ، ولو أنك اخترت مائة أسرة كعينة عشوائية وبحثت فيها لوجدت أن كل ما رويته لك في هذه الاعترافات لا يمثل إلا أقل القليل .!
{ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } .(/24)
فريد الدين الهاشمي
كنتُ من أهمِّ الشخصيّات البارزينَ بين شيوخ النقشبنديّة في تركيا ومرجعاً روحياًّ لهذه الطائفةِ.إذ وُلِدتُ ونشأتُ في أسرةٍ ذاتِ مكانةٍ مرموقةٍ تتهافت عليها جمهورٌ من الناسِ لما لها من صفاتٍ تُمَيِّزُهاَ عن بقيّة شيوخ الطائِفةِ.
أوّلاً:أنّها أسرةٌ مشهورةٌ من البيت الهاشميِّ، تنتهي إلى الحسن بن عليّ رض الله عنهما (إذا صحّ، والله أعلم).
ثانياً:لم تتغيّر الطابع العربيُّ في هذه الأسرةِ رغم سياسة التتريك بإعطائِها لقب آيدن Ayd?n إجباراً. لذا تميّزَتْ بهذه الصفةِ (العربيّة) قداسةً في نظر الذين يجعلون من هذا الطابع صلةً بين العربِ والإسلام أو بين البيت الهاشميِّ والإسلام! فَيُفَضِّلُونَ العربَ على بقيّة المسلمين من عناصرَ عَجَمِيَّةٍ. (أصحابُ هذا الظنّ الخاطئِ كانوا قلّةً من الأكرادِ والعربِ بجنوبِ تركيا، وما كاد أحدٌ اليومَ يَعْبَأُ بهذه الفكرة).(/1)
ثالثاً:كانَ بيتُناَ مَوْئِلاً لآلافِ الزائرينَ والوافدين من أطرافِ البلادِ حتى عام 1960م.منهم مَنْ يأتي للدراسةِ في مَداَرِسِناَ (التي كانت كُلِّيَةً من كلّياتِ الجامعة الزهراءِ) ليتعلّمَ فيها اللغةَ العربيّة ويتلقّى العلومَ الإسلاميّة من عقيدةٍ وفقهٍ وتفسيرٍ وحديثٍ... ومنهم مَنْ يأتي فاراًّ من عدوّهِ يستغيث ويطلب الحمايةَ، ومنهم مَنْ يأتي للتظلُّمِ يطلب القضاءَ بينه وبين خصمِهِ وهو يرفض اللّجوءَ إلى المحاكِمِ، لتبرّيهِ عن القوانين الوضعيةِ، ومنهم مَنْ يأتي ليتبرّكَ بأعتابِنا يطلبُ التمائِمَ والدعاءَ والشفاءَ والشفاعةَ يوم القيامةِ وربما المغفرةَ لميّتِهِ! فكانتْ الوفودُ من أصحابِ هذه العقليّة يزورونَ قُبَّةَ جدّيِ الشيخ محمّد الحزين وهي قبّةٌ عظيمةٌ فوقَ هضبةٍ بقريةٍ اسمها (فُرْساَفُ)، على مقربةٍ من مدينةِ (أَسْعِرْدَ) من جهة الشمال، سكاّنُها عربٌ. وللأسف الشديد لا تزالُ هذه القبةُ مزاراً للناسِ حتّى الآنَ، بالاضافةِ إلى قُبَبٍ أُخرىَ بمدينة أَسْعِرْدَ فيها أضرحةٌ لأَعْماَمِي، منهم الشيح محمّد موسى الكاظم الذي رثاه الشيخ زكي أوران وهو شخص من مريديه بهذه الكلمات الخطيرة:
زُرْ ذاَ المقامَ فَفِيهِ شَيْخٌ كاَمِلٌ مَنْ فِي الْكُرُوبِ لَناَ عَلَيْهِ مُعَوَّلُ
نَجْلُ الْحَزِينِ الشَّيْخُ محمّد كاَظِمٌ مِنْ فَضْلِهِ فِي الناَّسِ لَيْسَ يُجْهَلُ
وَتَأَدَّبَنْ بِحُضُورِهِ وَتَوَسَّلَنْ بِهِ فاَلتَّوَسُّلُ عِنْدَ رَبِّهِ يُقْبَلُ
ياَ رَبَّناَ غَمِّدْهُ مِنْكَ بِرَحْمَةٍ وَاجْعَلْ لَهُ الْجَناَّتِ فِيهاَ يَرْفَلُ(/2)
نشأتُ في منطقةٍ مليئةٍ بأمورٍ متناقضةٍ وشؤونٍ غريبةٍ ولغاتٍ مختلفةٍ وطباقاتٍ متباينةٍ وسلالاتٍ عريقةٍ؛ فيها العلمُ والمعرفةُ والتدريسُ ومجالس الذكرِ والسماعِ، وفيها والبِدَعُ والخرافاتُ والأباطيلُ والتوحيدُ والشركُ والإسلامُ والجاهليّة في آنٍ واحِدٍ، تشتبكُ في حينٍ وتتشابكُ في حينٍ آخرَ، مع ذلك قلّ مَنْ يستغربُ هذا الخلطَ والعبثَ، ولا يفكّر في إيقافِ هذا السيلِ الجارِفِ الذي يحملُ الغثَّ والسمينَ، غيرَ أنَّ البيئةَ التي قضيتُ فيها أيّامَ طفولتي وشبابي كانت ساحةً نيِّرَةً في وسطِ هذا الظلامِ، تحتضنُ جموعاً من الطّلبةِ والعلماءِ يتزعّمها كبارُ أسرتي وعلى رأسها المغفور له والدي الشيخ صلاح بن عبد الله بن محمّد الحزين الهاشمي. ولا يفوتني أن أقرَّ هنا بشهادة الحق لهذا الرجل العالم الفقيه الصالح التقيِّ إنّه كان مُوَحِّداً في إيمانِهِ لا يشوبُهُ قطميرٌ من الاشراكِ. ولهذا ظلَّ مُستَهدَفاً لضغينة شيوخ الطائفةِ حتى أتاه اليقين.
حفظتُ الكتابَ العزيزَ عليه، ودرستُ اللُّغَةَ العربيّة والآدابَ والعلومَ الإسلاميّة على نُخبةٍ من العلماءِ جُلُّهم من العربِ، بجانبِ مادرستُ من العلوم الحديثةِ في المدارس الرسميةِ، فحظيتُ نصيباً وافِراً من المعرفةِ والثقافةِ حتّى أصبحتُ محسوداً بينَ أصحابي وأمثالي من الخرِّيجِينَ مماَّ كانوا يعانونَ العجزَ في استخدامِ اللغة العربيّة نطقاً وكتابةً.وهذا العيبُ لا يزالُ شائعاً حتىّ الآنَ في جميع مَنْ تَصِفُهُمُ الناسُ بسمة العلمِ عرباً وكرداً وتركاً في بلادِناَ.(/3)
ولماّ كانتْ من العادةِ الشائعةِ بين العائلات المشهورةِ في الزعامةِ لجماعات الصوفيةِ:أنَّ كلاًّ منها تقومُ بإعدادِ شخصيّة من أبنائِهاَ ليتولّى رئاسةَ الأسرةِ والجماعةِ الملتفّةِ حولَها حفظاً على مركزِها ومكانتِها ومصالِحِهاَ، رشَّحَتْنِي الأسرةُ (إذ أتمرّغُ في أوحال الشرك الصوفيِّ)، رشَّحَتْنِي للقيامِ بهذه المهمّةِ بشرطِ أن أُقِيمَ في اسطنبول، فأتولَّى توجيهَ المنتسبينَ إلى العائلة الحزينيّةِ في تلكَ المدينة وجوارِهاَ سعياً لتأكيدِ ثقتِهم بأُسْرَتِنَا وتوطيدِ صلتهم بها، ضدّ محاولة بعض الشيوخ الّذين يعملون على استمالةِ الناسِ من مريدي غيرِهم. إذ هناك منافسةٌ وصراعٌ عنيفٌ بين شيوخ الطرائق الصوفيةِ قديماً وحديثاً، ذلك طلباً للجاهِ والشهرةِ والمصالحِ بتوسيع النطاقِ والإكثارِ من المؤيّدين والأنصارِ.(/4)
سافرتُ إلى اسطنبول يومَ الثالث عشر من شهر أبريل/نيسان عام 1968م. بعد أن حضرَ جمعٌ غفيرٌ من المريدينَ محطّةَ القطارِ بمدينةِ تطوان الواقعةِ بشرقي تركيا لتوديعي.وما أنْ أقلع القطارُ، حَتَّى زارني كبيرُ الموظفينَ بِهِ فَمَثُلَ بين يَدَيَّ باحترامٍ قائلاً: يا مولانا! قد أعددتُ لسماحتكم حُجْرَةً خاصَّةً تقضونَ فيها مدّةَ السَفَرِ إلى اسطنبول... فانتقلتُ مع زوجَتي إلى الحجرة المخصّصةِ لنا؛ وهكذا، إلى أنْ اسْتَقْبَلَتْناَ جماعةٌ كثيفةٌ من المريدينَ في محطّةِ الوصولِ بإسطنبول، ثم أصبحتْ داري في هذه المدينةِ منذ بدأِ إقامتنا مَقْصِداً للزّائرينَ، وكنتُ يومئذٍ بالغاً من العُمُرِ ثلاثةً وعشرينَ عاماً.ورغم هذه المكانة الوراثيّةِ في مثل هذا السنّ المبكّرِ كانتْ تنتابُنِي تساؤلاتٌ وهواجسُ أحاسِبُ بها نفسي: - ما لنا وهذه الأُبَّهَة والحَشَم والتمايُز! وما أرى ذلكَ إلاّ لأنّ النّاسَ يعتقدونَ فِينَا (نحن زمرةِ شيوخِ الطّرائقِ الصوفيةِ) من الكرامة والبركةِ ما لا يعتقدونَ في غيرِناَ. نعم كان الأمرُ كذلك، فكُناَّ في اعتقادِهم: زمرةً من المصطفين الأخيار، والمجتبينَ الأبرار، لا يشقى جليسُناَ ولا يُرَدُّ لنا دُعاءٌ...ولم ينته الأمرُ عند هذا الحدِّ، بل كُناَّ أيضاً في اعتقادِهم:مُفَوَّضينَ من طرف اللهِ، نتصرّفُ في مُلكِهِ كيفَ نشاءُ، ونعلمُ الغيبَ، وتنطوي لنا الأرضُ، نقطع المسافات البعيدةَ في لَحَظاَتٍ، ويتوقّف لنا الزمانُ فنُصلّي في الكعبة المشرفةِ وفي مسجد الحيِّ في آنٍ واحدٍ... إلى غيرِ ذلكَ من خزعبلاتٍ لا صحةَ لها ديناً وعقلاً.(/5)
كنتُ يومئذٍ مجرّدَ »شيخِ المهدِ« في مصطَلَحِ صوفيةِ التُّركِ. ومعنى »شيخِ المهدِ«: أنّ كلّ مولودٍ لشيخ الطريقةِ شيخٌ أيضاً من يومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ! ثمّ إذا نشأَ وَدَرَسَ وسَلَكَ فَنَجَحَ بعد سُلوكِهِ (وهو شكلٌ من التربية الرياضيةِ عند الصوفية النقشبنديّة خاصّةً)، يُجيزُهُ مُرْشِدُهُ بإِجازةٍ (بمعنى شهادة التخرُّج)، يأذنُ له بها القيامَ ببثِّ تعاليمِ الطريقةِ وقبولِ الناسِ للانخراطِ في سلكِها. فيكونُ بذلكَ (خَليِفَةً)، يُحرِزُ مَنْصِبَ شيخ الطريقةِ بالمعنى الحقيقيِّ، فيتصرَّفُ إذن في قبول المريدينَ وردِّهم وتوجيههم وطردهم »أوتدريجهم إلى حضرات القدسِ«!على حدّ قولِهِمْ الذي يُسِرّونه غاية الإسرار.(وهو مقام الحلول والاتّحاد).كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا.
أيقنتُ يومئذٍ أنّي بحاجةٍ إلى مثلِ هذه الإجازةِ لأُبَرِّرَ بها مكاني بينَ أمثالي من الشيوخِ عند ما يقتضي ذلكَ فأُصْبِحَ مُعتَرَفاً بِهِ في عالَمِ الصوفيّةِ، لأنّ الظروفَ والأحداثَ قد تستوجِبُ ذلكَ في عُرفِهم!(/6)
تقدّمْتُ بطلبِ الاستجازةِ إلى أحدِ أساطينِ هذه الطائِفَةِ بعد أن تأمّلتُ مدّةً لأَختارَ الأمثلَ منهم، فاستقرَّ رأيي على الشيخ سليمان بن عبد الله الخالدي المخزومي (1868-1976) وذلك لأسبابٍ: منها إنّه عربيٌّ، ومنها إنّه عالمٌ أديبٌ شاعرٌ مشارك في اختصاصاتٍ مختلفةٍ، له تآليف في الفقه والتصوّفِ ، ومنها إنّه أكبرُ سِناًّ من جميع شيوخ النقشبنديّة، إذ كانَ عمره يومئذٍ يُربي على المائةِ، ومنها إنّه ممّن درسَ عليهِ والدي، ومنها إنّه كانَ خليفةَ عَمٍّ لأبي في الطريقةِ.فطلبتُ منه أن يجيزني لأقومَ ببثِّ الطريقة النقشبنديّة نيابةً عنهُ في إسطنبول. إلاَّ أنّ هذا الأسلوبَ كانَ مخالفاً لعرف النقشبنديّة؛ لأنيِّ قمتُ بهذا الطلبِ من مسافةٍ بعيدةٍ، (من مدينة إسطنبول)، وهو يقيمُ يومئذٍ في مدينة أَسْعِرْد Siirt،وأماَّ خطابُ المريدِ إلى شيخِهِ عن طريق المراسلة الكتابيةِ يُعَدُّ من الإساءةِ بأدب الطائفةِ إلاّ إذا تعذّرَ أو شقّ ذلك عليه، خاصّةً وأنّ مفهومَ الاحترامِ عند النقشبنديّينَ يختلفُ كلّ الاختلافِ عماَّ يفهمه الناسُ ويعتادونه.إنّ المريدَ أو الطالِبَ لهذه الصفةِ يجب عليه أن يكونَ مُستعداًّ للفداءِ بكلّ شيءٍ يملكه، وأن لا يمتنعَ عن القيامِ بأيِّ أمرٍ يُرضيِ به شَيْخَهُ ولو كان مُحَرَّماً! فلا بدّ أن يمتثل له عن طيبةِ خاطرٍ.ومن جملة ما يجب على المريدِ أو على طالِبِ هذه الصفةِ أنْ يتقدّمَ بنفسِهِ إلى شيخِهِ وليس بإرسال كتابٍ.بيد إنّه أغضى عن ذلك فضلاً، بل زاد تواضُعاً فأجازني في أمدٍ قصيرٍ، قلّما رُزقَ طالِبٌ مثله.(/7)
وما أنْ أصبحتُ »خليفةً على سجّادةِ الارشار« فَوْرَ وفاتِهِ، حَتَّى شَمَّرتُ عن ساعد الجدِّ فبدأتُ بإقامة حلقات الذكر؛ ولم يكن ذلك إلاّ تحمُّساً منّي لاثارة الشوق في قلوب المنتسبين إلى أسرتنا وتوطيدِ ثقتِهم وتَمَسُّكِهمْ بها ردعاً لمحاولة ما يُسَمَّى بـ »صيد المريدين«.ذلك أنَّ شيوخَ الطرق الصوفيةِ طالما يطمعونَ في توسيع نطاقِ نفوذِهم، فيتوغّلُ بعضهم أحياناً في منطقةِ شيخٍ آخر، يدعو مريديه للانتسابِ إليهِ، وقد تتمخضُ عن ذلكَ تتطوّراتٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ.
دامتْ حلقاتُنا وجَلَساتُنا هكذا بين أعوام 1969-1974م.، لانُهمِلُ مبدءاً من مباديءِ هذه الطريقةِ وفقاً لأركانِها الأحدَ عشَرَ، نجتمع في عشيةِ أياَّم الخميسِ بعد صلاة المغرب، فنُقيمُ حلقةَ »خَتْمِ خُوَاجَگَانْ«بعد صلاةِ العشاءِ مع الاصرارِ على رابطةِ المرشِدِ، وهي شكلٌ من أشكالِ التعبُّدِ في الدين النقشبنديِّ!(/8)
تَأْخُذُنِي الْحَيْرَةُ الآنَ، أنَّ هذه الأمورَ في الحقيقةِ لم تكن من الْمُتَعاَرَفِ داخلَ الأسرة التي نشأتُ فيها؛ فإنَّ والدي وأعمامي المأذونين في هذه الطريقة، على رغم ما كان معروفاً من أنّهم شيوخ الطريقة النقشبنديّة (ولا أشكَّ في الوقتِ ذاتِهِ أنهم كانوا قبورييّنَ ماعدا والدي!)، ما كانَ أحدٌ منهم يقيمُ هذه الطقوسَ ولا كانت هي معروفةً بين أتباعنا. فيبدو لي أنَّ كبارَ أسرتِنا كانوا قد انتبهوا إلى مخاطرها، لأنِّي أذكر بعضَ كلامهم الذي يوهِمُ شُكوُكَهُمْ في الآونة الأخيرةِ حولَ هذه الطريقةِ »أنّها تياَّرٌ غريبٌ على الإسلام، ابتلى به المسلمونَ من غيرِ رويَّةٍ...«.ذلكَ، لأنَّهم كانوا من أهل المعرفةِ والتدريسِ والتخصُّصِ في شتَّى العلوم الإسلاميّة من عقيدةٍ وفقهٍ وتفسيرٍ وحديثٍ وغير ذلك من شُعَب الفنونِ.فكانوا متمكّنينَ من أصولِها وفروعِها ومنقولها ومعقولها ودقائقِ تفاصيلها، بالإضافة إلى أنّهم كانوا يمتازونَ بالذوق العربيِّ الخالصِ، فأبتْ نفوسُهُم وضمائِرُهُم أنْ يرضخوا لِتَعاليمِ هذا التّيّارِ الصوفيِّ الدخيلِ الذي يتعارَضُ مع الإسلامِ بتمامِهِ، إلاَّ أنّهم ربما كانوا يحسبونَ حسابهم لأسبابٍ وظُروفٍ(ولا أقولُ:يخافون على أنفسهم أو ينافقون)، فيكتفونَ بالسكوتِ أحياناً وباتخاذِ أساليبَ لَبِقَةٍ وتوجيهاتٍ حاذقةٍ أحياناً، بخلافِ بقيّة الشيوخِ ذوي الأصول العربيّة في المنطقةِ الذين انصهروا في بوتقة الكرد والتركِ، ولا يكاد أحد منهم ينطق ويكتب بالعربيّة اليومَ، وعلى رأسِها الأسرة الأرواسيّة، وهي من امتداد السلالة الحسينية، اسْتَغَلّتْهاَ جماعةٌ طورانيةٌ من النقشبنديّينَ، فَجَعَلَتْ منها صَنَماً يعبدها اليومَ ملايينُ من الناسِ في تركيا. أما هذه الجماعةُ فهي مُنّظَّمَةٌ خطيرةٌ أسَّسَها رجلٌ عسكرِيٌّ (وهو العقيد حسين حلمي إيشك، مات قبل عامين، يَنوبُ عنه الآنَ الدكتور أنور أورين Dr. Enver(/9)
Oren). ومن خُلَفاءِ هذه الأسرةِ عائِلةُ الملاَّ عبد الحكيم البلوانسي. هذه الأسرة أيضاً حُسَيْنِيَّةٌ (عربية الأصلِ، كُردية النشأةِ)، استغلَّها نفسُ الرجل وَبِطَانَتُهُ، فجعلوا منها صنماً ثانياً. لهذه الأسرةِ قاعدةٌ بقرب مدينة (آدِياَماَنْ). يقوم آلافٌ من المبشّرينَ للدعوةِ إليها في أنحاءِ تركيا، وهي أقوى مراكز النقشبنديّة وأشدّها تمسُّكاً بالتعاليم البوذيّة:(هوُشْ دَردَمْ، ونَظَرْ بَرْ قَدَمْ، وَسَفَرْ دَرْ وَطَنْ...والرّابطة والختم خُوَاجَگَانِيَّة... إلخ).
ولا شكَّ في أنَّ أميركا تهتمّ بهذه المراكز لتجنيدها ضمن (مشروعِ الشرق الأوسط).وهذا الذي أشرتُ إليهِ في إحدى كتبي قبل سنين، إذ لم يكن هذا المشروع يومئذٍ شيئاً مذكورا، ولكن بفراسة الرجل المؤمن المُوَحِّدِ والحمد للهِ، وأماَّ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.
وإذا عُدنا إلى قصّتي:في الحقيقةِ أنّي كُنتُ صوفياًّ قبورِياًّ، كما يقول الأستاذ عبد المُنعم الجداوي في اعترافاته.قضيتُ أياَّمَ طفولتي وفترةً من أياّمِ شبابي في ظلمةٍ حالكةٍ من الإشراك باللهِ وأنا أشدُّ الناسِ قياماً بما فرض الله على عباده من الصلاةِ والصومِ والحجِّ والزكاةِ والتبتُّلِ والإكثارِ من النوافلِ، بإزاءِ ما كنتُ ألتزمُ بهِ من الرّابطة والختم خُوَاجَگَانِيَّة وزيارة الأضرحةِ وتعظيم القبورِ والاستمدادِ من أرواح »الأولياءِ«، وغيرِ ذلكَ من مَوْبِقاتِ الإيمانِ وقد قال تعالى:»إنّه مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار«.إلاَّ أنّ هذه الحالةَ من صفة المشهورين من شيوخ النقشبنديّة، يَجْمَعُونَ بينَ تعاليم الإسلامِ وتعاليمِ بوذا في عبادةِ اللهِ على مرِّ حياتهم والعياذ بالله!(/10)
وبينا أنا على هذه الصفةِ من العبثِ والخلطِ دونما انتباهٍ إلى ما في ذلكَ من اضطرابٍ وتناقُضٍ وتضارُبٍ وتعارُضٍ، فضلاً عماَّ أَبْذُلُ من الجهد للهيمنة على نفوس المريدين لأستدرجَهم إلى أعماقِ هذا العالَمِ المظلم، زارَني ذاتَ عشيَّةٍ شخصٌ من البارزينَ من أتباعي، اسمه موسى أباريِ، فلم تكن الساعةُ من الأوقات التي أستقبِلُ فيها الزائرينَ والضُّيوفَ. قلتُ في نفسيِ لعلّه جائني بأمرٍ عاجلٍ يستفتيني فيهِ؛ فلماَّ استقرَّ جالِساً بعدَ أنْ أذِنْتُ لهُ بالجلوسِ، أخبَرَنِي: إنّه فوجِئَ بتهمةٍ يقصُدُ بها المتَّهِمُ، أنِّي وأتباعي نرتكبُ الشركَ باللهِ كلّما نَعْمِدُ إلى الرّابطة!
فلمَّا سمعتُ هذه الكلماتِ، نَبَضَتْ خَلَجاتُ الغضبِ في ضميري، إلاَّ أنّي أحجمتُ عماَّ بدأَ يجيشُ بينَ جوانحي من الثورةِ على هذا الاتّهام الجريءِ.-تُرىَ من يكون هذا الذي يرمينا بالشركِ ونحن عباد الله الصالحون، يتضرّعُ الناسُ إليه تعالى بجاهِناَ، وَيُقْسِموُنَ بِهاَماَتِناَ قبلَ أن يحلفوا بالله، ولا يتقرّبُ إلينا أحدٌ إلاَّ غايتُهُ التقرُّبُ إلى الله؟!... هكذا تصوّرتُ لَحَظاتٍ وأنا في صمتٍ وجمودٍ.
فلم يلبثْ حتَّى نابَتْني أَناَةٌ وأدركني انتباهٌ كأنِّي أستفيقُ من غشيةٍ أو أستيقظُ من سُباتٍ عميق. فَالْتَفَتُّ إلى مريدي، فَلاَطَفْتُهُ ونصحْتُهُ بالصبر وضبط النفس حتّى أتدبّرَ المسألةَ فأُخْبِرَهُ بما يجب القيامُ به إنْ كانَ يقتضي ذلك... وإلاَّ فالتجاهُل لمثلِ هذه الهفوات أفضلُ، دفعاً للفتنة وحفظًا للمروءَةِ... ثمّ صَرَفْتُهُ بِرِفْقٍ، وبدأتُ بالبحثِ عن حقيقة الرّابطة بعد تلكَ اللّحظةِ، وهذا الحدثُ يُعْتَبَرُ نقطةَ تَحَوُّلٍ جذريٍّ في حياتي.(/11)
هذا، فإنّماَ كانت هدايتي بمحضِ فضلِ الله تبارك وتعالى، ولم تكنْ بدعوةٍ من أحدٍ ولا بإشارةِ مرشدٍ، وَ»الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله...«.لذا، تمتاز هذه الهدايةُ عن هداية الأتْباعِ والذيولِ والأذنابِ بطريق التقليد المحضِ. فإنّهم قد يتخلّصونَ من أصنامٍ عديدةٍ، ولكنّهم بعد ذلك يتشبثونَ بشبه صنمٍ واحدٍ، إذ يرونه المصدرَ الحقيقيَّ الوحيدَ لهدايتهم، فيخلعونَ عليهِ نعوتاً لا يتّصفُ بها غيرُهُ من المكانة والعظمةِ والعلمِ والذكاءِ والدهاءِ!كلّ ذلكَ تملُّقاً ورياءاً واستغلالاً للضمائِرِ، أو جهلاً وتقليداً... والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يقول: مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هاَدِيَ لَهُ.(/12)
ولماَّ أيقظني ربِّي من نوم الغفلةِ بهذه المفاجأة الغريبةِ، بَدَأَتْ الشكوكُ تَدُبُّ في روعي، وتجعلني أتَساَءَلُ في نفسي عماَّ إذا كانتْ هذه الرّابطة التي نتعبَّدُ بها من صُنعِ الشيطانِ، ولكنَّنِي أتّهمها أحياناً بسوءِ الظَّنِّ في مَشاَئِخِناَ، فأقول: »وهم أولياءُ اللهِ وخاصَّتُهُ من عباده الّذين رفضوا زينةَ الحياةِ الدنيا طمعاً فيما عند اللهِ من نعيمٍ وجنانٍ سوفَ يخلدّونَ فيها«. حسبَ اعتقادي يومئذٍ. ولم يكن الأمرُ كذلكَ في الحقيقةِ من وجهينِ. أولاً: أنّ أولياءَ الصوفيةِ لم يعبدوا اللهَ طمعاً فيما عنده من نعيمٍ وجنانٍ، بل بغرض الاتّحادِ معه والحلولِ فيه، تعالى رَبُّنا عماَّ يقوله الفاسقون. ثانياً: أنّ هؤلاءِ لم يكونوا أصلاً من أولياءِ اللهِ بل كانوا أولياء الشيطانِ بلا ريبٍ... وهذا يدلُّ على أنَّ الضلالة متى تأصّلتْ في الإنسانِ وأصبحتْ مرضاً مُزْمِناً في أعماق وجدانِهِ، جَعَلَتْهُ غبياًّ لا يكاد يميّزُ الحقَّ من الباطلِ بحيثُ لا ينفعه عِلْمُهُ.وللأسف كنا على هذه الحالة التي يُرثى عليها... وعلى ما كان مِنْ خالصِ اعتقادي بهم، كنتُ أقول: وكيفَ بهؤلاءِ الأفاضل أن يقعوا في حبال الشيطانِ وهم أشدُّ الناسِ يقظةً لا تعتريهم غفلةٌ حتّى في نومهم. هكذا كناَّ نعتقد فيهم، (وخاصّةً منهم محمّد بهاء الدين البخاري المعروف بين النقشبنديّينَ بِشاَهِ نقشبند، وأحمد القاروقي السرهندي الذي تُعَظِّمُهُ الطائفةُ بصفة الإمام الرّباَّني، وخالد البغدادي المشهور بصفة ذي الجناحين بين ملايينِ الناسِ، وكذلك جدّي الشيخ محمّد الحزين وأمثالهم)الذين يزور آلاف الناسِ أضرحتَهم، و يستمدّونها الشفاعةَ والمغفرةَ والشفاءَ؛ فكيف بهم أن يكونَ الشيطانُ قد غرّهم؟! ولقد كنتُ غافلاً يومئذٍ تمامَ الغفلةِ عماَّ قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي(/13)
أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. فلمَّا ننظر إلى ما ورد عن هؤلاءِ من أقوالٍ في أشعارهم ومكاتيبهم وتوجيهاتهم، نجد كثيراً مماَّ ألقى الشيطانُ في أمنيتهم فتأصّلتْ وتحكّمت فيهم، وهي شاهدةٌ عليهم إلى يوم القيامةِ!
شغلتنيْ الرّابطة منذ اللّحظة التي أخبرني فيها الشيخ موسى أباري بأنَّ شخصاً يُلصِقُ بِناَ تُهمَةَ الشِّركِ بِسَبَبِهاَ؛ فأصبحتْ عُقْدَةً تُحْرِجُنيِ وتجرحُ وجداني وتُجبِرُني على التحقُّقِ مِنْهاَ حتَّى أطمئنَّ عما إذا هي حقٌ أم باطلٌ.وما أنْ صرفتُ الشيخ موسى بعد أن شكرتُهُ على إخلاصِهِ لنا وصلتِهِ القويَّةِ بطريقتِنا، تناولتُ كِتابَ (تنويرِ القلوبِ) لمؤلِفِهِ محمّد أمين الكرديّ الأربلي (ت. 1332هـ.)، فتصفّحتُ القسمَ الثالثَ منهُ وهو يشتمل على مسائل التصوّف.حتّى إذا عثرتُ على موضوعٍ عنوانُهُ:»ومبنى هذه الطريقةِ العليّة على العمل بإحدى عشرة كلمة فارسية (ص/506)«.فأخذتني الدّهشةُ في الوهلة الأولى أنَّ رجلاً مِن »علماء الإسلام«! ينصح الناسَ بأنْ يذكروا الله على طريقةٍ مبناها مصطلحاتٌ فارسيةٌ؟ هذا، ويجب التّركيز هنا على أنِّي لا أقول بنفي ذكر الله بِلغاتٍ مختلفةٍ.بل يجوز (بقدر ما يجوز!) أن يذكر العبدُ رَبَّهُ بلغتِهِ، ولكن ما بالُ مَنْ ألَّفَ كتاباً ضخماً باللّغة العربيّة في العقيدة الإسلاميّة والفقهِ، فضلاً عماَّ يُنْسَبُ إليهِ من العلم والبركة والكرامة وبأنّه »شيخ شيوخ العصر، وقدوة جهابذة كلّ مصر، ونورٌ أضاءَ من عين المنّة الإلهيّة على هذا القطر، وغيثٌ رباَّنِيٌّ عامٌّ أينع به نبات كلّ قفر...«إلى غير ذلكَ من مبالغات وإفراطٍ وإسراف...ما باله يقدِّمُ للمسلينَ طريقةً شاذّةً من الذّكرِ غريبةً على الإسلامِ، مصطلحاتها فارسيّةٌ، ومستوحاها دياناتٌ هنديّةٌ، وتوجيهاتها كفريّةٌ؟!(/14)
إنّ هذا التساؤُلَ قادني حتى ألقيتُ النظرَ على سطورٍ وردتْ فيها نبذةٌ مِنَ الرّابطة وطريقةِ إجرائِهاَ في الصفحة الحادية عشرة والثانية عشرة بعد الخمسِمائَةِ من هذا الكتاب؛ يشرحُها المؤلِّفُ ويُعّدِّدُ شروطَها وهو يُرشِدُ المريدَ إلى ذكر الله فيقول: »التاسع، رابطةُ المرشِدِ. وهي مقابلةُ قلب المريدِ بقلبِ شيخِهِ، وحفظُ صورتِهِ في الخيالِ ولو في غيبتِهِ، وملاحظةُ أنَّ قلبَ الشيخِ كالميزابِ ينزل الفيضُ من بحرِهِ المُحيطِ إلى قلب المريدِ المرابِطِ، واسْتِمدادُ الْبَرَكَةِ منه لأنّه الواسِطَةُ إلى التوصُّلِ...«
زادتْني هذه السطورُ دهشةً عندما قرأتُ بعدها مباشرةً من كلماتِ المؤلِّفِ إنّه يقول فيها: »ولا يخفى ما في ذلكَ من الآياتِ والأحاديثِ«، فيستدلّ بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }
إنّ مثل هذا الاستدلالِ الفاسد، زادني أضعافاً مما ينتابني من الدهشةِ كما زاد من عدد الأسباب التي دفعني كلّ منها بحافزٍ خاصٍّ إلى مجال البحثِ حول الرّابطة النقشبنديّة. ومن الغرابةِ بمكان، إنّي كنتُ شيخاً مُجازاً على سجادةِ النقشبنديّة وأنا غافلٌ يومئذٍ عن حقيقةِ هذه الطريقةِ ومبناها ومستوحاها ونسيجها المتضافرِ من الإسلامِ والبوذيةِ!(/15)
فلمَّا نبّهني ربِّي بباعِثِ هذه التُّهمةِ وَكَتَبَ لنفسي الهدايةَ في أمدٍ غيرِ مديد، بدأتُ أتحرّىَ طريق الخلاصِ أوّلاً من آلاَفِ الْمُلْتَفِّينَ حوليِ والمفتتنين بهذه الطريقةِ، دونَ أن يشعروا بما حدثَ لي من التغيُّرِ في آرائي وضميريِ؛ ليس ذلكَ خوفاً من أيِّ عداءٍ تتعرَّضُ لهُ حياتي وماليِ، كلاَّ!...ولكن أيقنتُ أنّي لن أنجحَ في دعوتي لهم إلى الحقِ بمجرّدِ تخطيئي للطريقةِ النقشبنديّة واستدلاَليِ بالكتابِ والسنةِ، خاصَّةً في تلك المرحلة التي لم أعلم أحداً يُوَحِّدُ الله في هذا البلد!إذاً، فكانَ لا بدَّ أولاً من تمهيد السبيلِ لهذه الدعوةِ ولم يكن ذلكً من السهلِ طبعاً، لأنّ مثل هذا النهوضِ يحتاج إلى تفكيرٍ وتنظيمٍ ومالٍ ورجالٍ ووقت...(/16)
فأيقنتُ أنّ الاستعدادَ لهذه المهمّة الخطيرةِ لا يمكن إلاّ خارج البلاد.فسافرتُ إلى ليبيا بذريعة البحوث العلميّة، فانخرطتُ في سلك الموظفين بإحدى الشركاتِ التركيّة للمقاولةِ. فكانَ هذا البلدُ أرضاً صالحةً، إذ أنَّ سُكاّنَهاَ لم يكونوا من أهل البدعِ والخرافاتِ، كما لم يكن للطرق الصوفيةِ أثرٌ يُذْكَرُ على الأغلبيّة منهم. بل وجدتُ الليبييّنَ على وجه العمومِ مجتمعاً فاضِلاً خَلوقاً كريماً، ولقيتُ منهم حفاوةً أفسحتْ لي المجالَ في البحثِ حول الصوفية عامّةً والنقشبنديّة خاصّةً.في الحقيقةِ مكتباتهم كانت خاليةً من المصادر التي أحتاج إليها، إذ كانت جلّ هذه المصادر في مكتباتِ إسطنبول، ولم يكن من السهل إدخالُ مثل هذه الكتبِ إلى ليبيا. فلم أظن أنّي أتمكّنُ يومئذٍ من إقناعِ الموظفين في أمن بوّابات الدخول، بأنّي رجل باحثٌ، فأذكرَ لهم كلّ هذه القصّةِ الطويلةِ حتى أكسب ثقتهم.ولا عَمَدْتُ إلى تجربةٍ في ذلكَ.تجنّباً أيَّ إزعاجٍ أو تشكيك. لذا تكبّدتُ عناءً شديداً في نقلِ المعلومات الخاصّةِ بالصوفيةِ والطريقة النقشبنديّة إلى ليبيا.فكنتُ كلّما عُدْتُ إلى بلدي، طفتُ المكتبات الشهيرةَ وعلى رأسها مكتبة السليمانيّة، وقمتُ بكتابةِ ملاحظاتِ ضخمة في كرّاساتٍ ولكن بإيجاز، مع ذكر أرقام الصحف للمصادر، وتاريخ الأحداثِ والتطورات الخاصةِ بالطرق الصوفيةِ ورجالاتها، وأحفظ البقيّة من تفاصيلها عن ظهر قلبٍ، إلى أنْ تراكمتْ هذه الكرّاسات عندي، فتكوّنتْ منها مكتبةٌ متكاملةٌ بناحيةٍ من حجرتي الواقعةِ في عمارةٍ بموقع الظهرةِ في طرابلس.ولم يكن أحدٌ من إخوتنا الليبييّنَ يعلم يومئذٍ أن رجلاً من الأتراكَ يقيم في بلدهم، يملك مكتبةً ضخمةً اسْتَنْسَخَ كلّ ما فيها بقلِمِهِ، وتُمَثِّلُ هذه المكتبةُ منهلاً غزيراً في مجال التصوُّفِ خاصّةً فيما يفضحهم! وكم كانَ المثقّفونَ والعلماءُ والطَلَبَةُ والباحثونَ اللّيبيّونَ بحاجةٍ ماسَّةٍ(/17)
إلى هذه المكتبةِ القيّمةِ.
هذا، وكم يُؤْلِمُنيِ يومَ استغنيتُ عن هذه المكتبةِ فجمعتُها في حاويةٍ فأنشبتُ فيها النارَ حتىَّ عادتْ رُكاماً من رمادٍ هامد.ذلكَ أنّ المجتمع الليبيَّ أيضاً جزءٌ من أمتِنا التي قد خسرت ثروة العلمَ، فلا يكاد المسلمونَ يُقَدِّرونه اليومَ حقَّ قدرِهِ إلى أن يشاءَ الله فيبعثَ لهم من يُقِظُهم عن هذه النومة الخطيرةِ. فكانَ ذلك منّي أنْ لم أتوقّع من أحدٍ هناكَ يهتم بهذه المكتبةِ فأحرقتُها!(/18)
غيرَ إنّه لا بأسَ من ذلك، لأنّ هذا الكتابَ الذي عكفتُ على المصادرِ وطاردتُ الوثائِقَ لتأليفِهِ ما بينَ أعوام 1974-1997م. هو في الحقيقة عُصارةُ هذه المكتبةِِ. فبنيتُ أساسَه في ليبيا عام 1976م. فورَ إقامتي في هذا البلد الطيّبِ؛ ثمّ قمتُ بترتيبِ فصولِهِ وأبوابِهِ عام 1982م.وكلّما دَعَتْ الحاجةُ إلى وثيقةٍ أوكتابٍ أو حوارٍ مع كبارِ هذه الطريقةِ، ما ألوتُ جهداً في شدّ الرحالِ إليه ؛ كلّ ذلك ليصدر الكتابُ جامعاً شاملاً لكُلِّ أطرافِ الموضوعِ. وعلى الرغم من أنّيِ لم ألتمسْ مساعدةَ أحدٍ من إخوتي الليبييّنَ لإكمالِ هذا الكتابِ، ولكنّي أشكرهم جميعاً، ولا يفوتني أن أذكر ما ليقيتُ منهم من الحفاوةِ والكرمِ وحسن القرى ولين الجانب، وإنّيِ لأعترفُ بأنّ المدّةَ التي قضيتُها على أرضِ ليبيا الحبيبةِ -وهي في الحقيقةِ لم تكنْ مدّةً قصيرةً- كانتْ أحلى أياّمي، إذ كانت أياَّمَ شبابي، وكانت فترةً سعيدةً مُثْمِرَةً نِلتُ خلاَلَها رِزْقاً حلاَلاً واسعاً أغناني عن الحاجةِ إلى غيري حتّى أكملتُ هذا البحثَ القيّمَ فَتَرَكْتُهُ زخراً للباحثينَ وعبرةً لأُلي الألبابِ ومصباحاً لمن يريدُ أن يطّلِعَ في ضوئِهِ على خطورة الصوفيةِ والتصوّفِ وما تَعَرَّضَ له الإسلامُ والمسلمونَ على مرّ العصورِ من جرّاءِ هذا السرطانِ الماكرِ وما خلّفَهُ هذا الوحشُ الدسّاسُ المتلبّسُ في ثوب الزهدِ والتقوى من الخرابِ والدمار في صرح الإيمان والتوحيد.(/19)
هذا، وإنّيِ لأشكرُ كذلكَ الْمُتَّهِمَ الذي لم تأخذهُ لومةُ لائمٍ ولا خشيةُ ظالِمٍ إذ خاطَرَ بِنَفسِهِ فأعلنَّ للمرّة الأولى على الساحة التركيّة:أنَّ صلاةَ الرّابطة في الطريقة النقشبنديّة إشراكٌ باللهِ، وذلك عام 1974م.؛ ثمّ بلغني إنّه قد اتّهمني وأتباعي بهذا الذنب العظيم حتّى ألهمني ربّي على أثره الرشدَ فقمتُ بكتابة بحثٍ أخذ من عمري ثلاثةً وعشرينَ عاماً.وللعلمِ لم يكن إبداءُ هذه الجرأةِ من السهلِ، إذ استفتاني قريبُ الْمُتَهِمِ بالذّات، »لَينتقمنَّ منه بشكلٍ يكونُ عبرةً لمن بعده!« فأبيتُ أن أُرَخّصَ له ذلك. فإنّي أشكر هذا الرجلَ الصالحَ الجريءَ الذي أطلعه الله على خطرٍ هلك فيه آلافٌ بل ملايينُ من الناسِ،فأعلن عنه وهو لا يبالي بما قد يصيبُهُ من نقمةٍ ونكال.ثمَّ علِمتُ إنّه رجلٌ خايّاطٌ اسمُهُ (شفيق أركويونجو?efik Erkoyuncu ) بحيّ الفاتخ في إسطنبول، وهذا الشخص، لم يكن قد درس شيئاً مما نسميهِ علماً! وما أشدّ حزني وأسفي إذ سمعتُ بعدَ فترةٍ قصيرةٍ من عودتي إلى إسطنبول إنّه قد ذهب إلى الرفيق الأعلى، فلم ألقاه في هذه الحياة الدنيا بعد أن اتّهمني بالشركِ!فتغمّده الله تعالى برحمتهِ، وحشرهُ مع النبيّينَ والصّدّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ وحسُنَ أولئكَ رفيقاً.أللّهمّ اغفر لنا وله، وأكرِمْ مثواهُ، ولقِّهِ الأمنَ والرّاحَةَ والزُّلفى، والكرامةَ والبشرى، إنّكَ سميعٌ مجيب.(/20)
محمد الزمزمي الغماري
علامة المغرب محمد الزمزمي الغماري من الصوفية إلى السنة
العلامة الشريف محمد الزمزمي بن محمد بن الصديق الغماري .. ولد في أسرة أشعرية حتى النخاع، وبيت لطريقة صوفية (الطريقة الصديقية)، يكثر فيهم التجهم!! ويظهر فيهم التعصب ..
ولد الشيخ ببور سعيد بمصر في طريق والديه إلى الحج عام 1330هـ.
حفظ القرآن الكريم على شيخه الفقيه محمد الأندلسي، وفي عام 1349 شرع في قراءة العلم على أخيه الأكبر أحمد، ثم شدَّ الرحلة إلى القاهرة صحبه أخيه عبد الله الذي قرأ معه الآجرومية، وطرفاً من ألفية بن مالك، وورقات إمام الحرمين، وأوائل جمع الجوامع على الباخرة.
ولما وصل إلى القاهرة التحق بالأزهر، فقرأ على جماعة من شيوخه، كالشيخ عبد السلام غنيم، وأبي طالب حسنين، ومحمود الإمام، وعبد المجيد الشرقاوي، والشيخ محمد بخيت المطيعي وغيرهم، واختار في الفقه قراءة مذهب أحمد رحمه الله تعالى.
ثم رجع إلى طنجة عند وفاة والده عام 1354، وجعل يلقي دروساً تطوعيَّة بالجامع الكبير، وبزاوية والده في التفسير والحديث، والتفَّ حوله جماعة من الطلبة، فقرأ معهم الأصول والمنطق والعربة والبلاغة...
نشأ –كما ذكرنا- كأسرته وباقي أهل بيته على التصوُّف وكان جَلْداً فيه، وألف في نصرته كتاباً أسماه: "الانتصار لطريق الصوفية الأخيار"، ذكر فيه أدلة ما يختصُّ به الصوفية.
ثم لما بلغ سن الأشد –أي الأربعين- ، ونضج تفكيره، وثاب إلى رشده، أشهر على هذه الطرق البدعية حرباً عنيفة لا هوادة فيها، وضلَّلهم وبدعهم، وكفر عدداً منهم، وتبرأ من والده كتابةً وكتب: [ الزاوية وما فيها من البدع والأعمال المنكرة ] ، قال في ديباجته: "ألا فليشهد عليَّ المؤمنون، والعلماء الصالحون أنِّي أتبرأ من المتصوِّفة الجاهلين، وأتقرَّب إلى الله تعالى ببغضهم، وأدعو إلى محاربتهم ... ".(/1)
وقد كان من محاربته للصوفية تركيزه على من خبر سرهم، وعرف شناعتهم، وتلاعبهم على الناس، وهم إخوته وتلامذة والده، فعاداهم وهجرهم، ..
ووقعت بينه وبين إخوته ردود عديدة، أدت إلى فضحهم وكشف حقيقتهم، وهجر الناس لهم، وتبينهم أن الحق بالدليل، لا بأبناء الصديق الغماري وطريقتهم!!
وقد قام بعض إخوته (المشايخ الجهمية) بمرافعة ضده في محاكم الطاغوت، يقاضونه على أن فضحهم وبيَّن عوارهم .. نسأل الله السلامة والعافية.
ومن كتبه القاصمة لأرباب التصوف بالعموم؛ وأهله بالخصوص ما دونه باسم (الطوائف الموجودة في هذا الوقت) وفيه براءته من أحوال إخوانه الصوفية الدِّرْقاوية البِدْعية!!
ومنها كتابه في الهجر، جليل القدر، عظيم الأمر، الذي أسماه بـ (إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والظالمين)، وهو رد على أخيه عبد الله، لما لديه من الدعوة إلى القبوريات، وإلى بناء المساجد على القبور، وخدمة زاوية أبيه الصوفية الصديقية، وفي سلسلة يطول ذِكْرُها من البدع المُضلَّة ...
ومن رسائله التي هزت أصحاب الزاوية الضالة، كتابه (كشف الحجاب عن المتهور الكذاب) .. حتى أن أخيه القبوري عبد الله قال في سبيل التوفيق بأنه "يقصدني" وأخذ في ذكر ما بينه وبين أخيه .. والذي بينهم هو توحيد أو شرك .. فأحد يرفع راية الإسلام بنقائه وصفائه مخلصاً لله الدين .. والآخر يرفع راية عبادة القبور، واستحسان البدع وهم من السنة نفور .. هذه خلاصة الخلاف ..
لقد كان –رحمه الله- أثرياً عاملاً بالدليل، شديداً على متعصبة المذاهب، قوَّالاً بالحق، بعيداً عن الظلمة وذوي السلطة، شديداً عليهم وعلى المتفرنجين، زاهداً في الدنيا ..(/2)
له تآليف كثيرة، منها: (دلائل الإسلام) و(التفرنج) و(المحجة البيضاء) و(إعلام الفضلاء بأن الفقهاء ليسوا من العلماء) و(تحذير المسلمين من مذهب العصريين) و(الحجة البيضاء .. ) و(كشف الحجاب عن المتهور الكذاب) و(إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والظالمين) ...
ولقد ألمَّ بالشيخ مرض ألزمه الفراش مده حتى توفاه الله سبحانه ، في يوم الجمعة 28 من ذي الحجة عام 1408هـ، غفر الله ورحمة ورفع منزلته في عليين.
كتبه
أبو عمر الدوسري(/3)
محمد رشيد رضا
هو محمد رشيد بن علي رضا بن شمس الدين بن بهاء الدين القلموني الحسيني .. يرجع نسبه لآل البيت .. ولد في 27/5/1282هـ في قرية قلمون جنوب طرابلس الشام .. بدأ طلب العلم بحفظ القرآن والخط والحساب .. ثم درس في مدرسة "الرشدية" وكان التعليم بها بالتركية ، ولكن ما لبث أن تركها بعد سنة ليلتحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية التي أسسها ويدرس بها شيخه حسين الجسر ، ودرس بها سبعة سنوات أثرت وغيرت في مجرى حياته .. وبدأت مرحلة تصوفه ..
بدايته شاذلية:
لقد بدأ تصوف رشيد حين كان يقرؤه شيخه حسين الجسر بعض كتب الصوفية ومنها بعض الفصول من الفتوحات المكية ، وفصول من الفارياق ...
وقد كان يقرأ ورد السحر ؛ وعندما يبلغ البيت التالي:
ودموع العين تسابقني من خوفك تجري
كان يمتنع عن قراءته،لأن دموعه لم تكن تجري،فكان امتناعه عن قراءة البيت حياءً من الله أن يكذب عليه .. وبعد أن تضلع بالعلم وأصول الدين أدرك أن قراءة هذا الورد من البدع .. فتركه وانصرف إلى تلاوة القرآن.
ودرس على شيخه أبي المحاسن القاوقجي ونال الإجازة في كتاب دلائل الخيرات .. ثم بان له أن هذا الكتاب أغلبه أكاذيب على النبي صلى الله عليه وسلم فتركه .. وأقبل على قراءة أذكار وأوراد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة.
سلوكه الطريقة النقشبندية:
يذكر رشيد في هذا المجال أن الذي حبب إليه التصوف هو كتاب "إحياء علوم الدين للغزالي" ..
ثم طلب من شيخه الشاذلي محمد القاوقجي أن يسلكه الطريقة الشاذلية الصورية فاعتذر الشيخ وقال: يا بني إنني لست أهلاً لما تطلبه فهذا بساط قد طوي وانقرض أهله .(/1)
ثم يذكر رشيد أن صديقه محمد الحسيني قد ظفر بصوفي خفي من النقشبندية يرى أنه وصل إلى مرتبة المرشد الكامل .. فسلك رشيد طريقة النقشبندية على يديه وقطع أشواطاً كبيرة فيها ، ثم يقول: "ورأيت في أثناء ذلك كثيراً من الأمور الروحية الخارقة للعادة كنت أتأول الكثير منها عجزت عن تأويل بعضها" ثم يقول: "ولكن هذه الثمرات الذوقية غير الطبيعية لا تدل على أن جميع وسائلها مشروعة أو تبيح ما كان منها بدعة كما حققت ذلك بعد"
ويصف رشيد الورد اليومي في طريقة النقشبندية بأنه ذكر اسم الجلالة (الله) بالقلب دون اللسان خمسة آلاف مرة مع تغميض العينين وحبس النفس بقدر الطاقة وربط القلب بقلب الشيخ. ثم يذكر أن هذا الورد بدعة كما تبين له بعد ذلك ؛ بل يصل إلى الشرك الخفي حين يربط الشخص قلبه بقلب شيخه فإنه مقتضى التوحيد أن يتوجه العبد في كل عبادته إلى الله وحده حنيفاً مسلماً له الدين.
وذكر أموراً كثيرة ..
يقول عن هذه التجربة الصوفية:
((وجملة القول أنني كنت أعتقد أن سلوك طريقة المعرفة وتهذيب النفس والوقوف على أسرارها جائز شرعاً لا حظر فيه ، وأنه نافع يرجى به معرفة الله ما لا يوصل إليه بدونه))
هدايته من الصوفية إلى السلفية:
يعبر عن هذه التجربة الصوفية بعد سنوات طويلة جداً في التصوف:
" إنني قد سلكت الطريقة النقشبندية ، وعرفت الخفي والأخفى من لطائفها وأسرارها ، وخضت بحر التصوف ورأيت ما استقر باطنه من الدرر ، وما تقذف أمواجه من الجيف ، ثم انتهيت إلى مذهب السلف الصالحين ، وعلمت أن كل ما خالفه فهو ضلال مبين"(/2)
وقد تأثر بمجلة العروة الوثقى ومقالات العلماء والأدباء .. فتأثر بالأفغاني ومحمد عبده .. وتأثر بشدة وأصبح شيخه الذي حرك عقله وفكره لنبذ البدع والجمع بين العلوم الدينية والعصرية والسعي لتمكين الأمة .. ثم تأثر بشدة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب –رحمهم الله تعالى- .. لقد أحدثت له حركة ونشاطاً بدل الخمول وغيبة الوعي والانغماس في البدع والضلال كما في الصوفية ..
إنكاره على أهل الطرق الصوفية:
أول حادثة قام بها علناً منكراً سلوك الطرق الصوفية .. ذات يوم وبعد صلاة الجمعة أقام أهل إحدى الطرق الصوفية ما يسميه رشيد "مقابلة المولوية" ويقول رشيد في ذلك: "حتى إذا ما آن وقت المقابلة تراءى أما دراويش المولوية قد اجتمعوا في مجلسهم تجاه إيوان بالنظارة ، وفي صدره شيخهم الرسمي ، وإذا بغلمان منهم مرد حسان الوجوه يلبسون غلائل بيض ناصعة كجلابيب العرائس ، يرقصون بها على نغمات الناي المشجية ، يدورون دوراناً فنياً سريعاً تنفرج به غلائلهم فتكوّن دوائر متقاربة ، على أبعاد متناسبة لا يبغي بعضها على بعض ، ويمدون سواعدهم ، ويميلون أعناقهم ، ويمرون واحداً بعد آخر أمام شيخهم فيركعون"(/3)
أزعج هذا المنظر رشيد رضا وآلمه أن تصل حالة المسلمين إلى هذا المستوى من البدع والخرافات والتلاعب في عقائد الناس وعقولهم. وكان الذي آلمه كثيراً هو أن هؤلاء بألاعيبهم البدعية قد اعتبروا أنفسهم في عبادة يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى ؛ بل يعتبرون سماع ومشاهدة ذلك عبادة مشروعة ولهذا لم يترك رشيد هذه الحادثة تمر دون أن يقوم بواجبه الإصلاحي الذي استقاه من قراءته دراسة بمدرسته السلفية التي يدرسها من خلال مجلاتها وكتبها .. فقام حيث قال: "قلتُ: ما هذا؟! قيل: هذا ذكر طريقة مولانا جلال الدين الرومي صاحب المثنوي الشريف ، لم أملك نفسي أن وقفت في بهوة النظارة وصحت بأعلى صوتي بما معناه أيها الناس والمسلمون إن هذا منكر لا يجوز النظر إليه ولا السكوت عنه لأنه إقرار له وإنه يصدق عليه مقترفيه قوله تعالى: {اتخذوا دينهم هزواً ولعباً} وأنني قد أديت الواجب عليّ فاخرجوا رحمكم الله" ثم خرج رشيد مسرعاً إلى المدينة .. وكانت لصيحته السلفية هذه أن اتبعه عدد قليل إلا أن صيحته لاقت صدى في مجتمعات الناي بين مؤيد ومعارض ..
ورغم كثرة من عارضه وأنكر عليه من مشايخ الصوفية فقد صمم أن يسير في طريقه نحو إصلاح مجتمعه من هذه الضلالات والبدع. ومن الغريب في الأمر أن ممن أنكر عليه شيخه الشاذلي حسين الجسر فقد كان رأيه ألا يتعرض لأصحاب الطرق الصوفية وبدعهم لا من قريب ولا من بعيد وقال لرشيد: إني أنصحك لك أن تكف عن أهل الطريقة. فرد عليه رشيد منكراً: "هل لأهل الطريقة أحكام شرعية غير الأحكام العامة لجميع المسلمين؟(/4)
فقال: لا ؛ ولكن لهؤلاء نية غير نية سائر الناس ووجهة غير وجهتهم وسأل الجسر رشيد: لماذا يقصر إنكارك على أهل الطريق دون أهل اللهو والفساد. فرد عليه رشيد قائلاً: إن أهل الطريق ذنبهم أكبر من أهل اللهو لأنهم جعلوا سماع المنكر ورقص الحسان عبادة مشروعة فشرعوا لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله على أني لم أر منكراً آخر ولم أنكره.
ومع قوة حجة رشيد على أستاذه إلا أن شيخه تمسك برأيه لأن له حضرة ووجاهة!!
وبقي الخلاف بينهما ، واشتد بعد هجرة رشيد لمصر وإنكاره الشديد على أهل الطرق الصوفية في مجلة المنار ، بعد أن رأى طرق الصوفية بمصر والبدع الكبيرة هناك وما يحصل في الموالد ، وقد رد الجسر على رشيد ، ورد رشيد على الجسر في مجلته.
وقد قام على القبوريين من الصوفية وغيرهم بعد استفادته من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إضافة إلى كتاب ابن حجر(الزواجر عن اقتراف الكبائر) .. وقد اطلع على كتاب للألوسي (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) فكان من أسباب تبصره بخلل الصوفية ، ونقاء دعوة شيخ الإسلام .. وأن كلام الهيثمي وغيره لم يأت إلا من هوى وهوس الصوفية!!(/5)
محمد عارف خوقير
قام أبو بكر ودرس كتب السلف في العقائد ، فأصبح داعية للتوحيد الخالص
محمد عارف خوقير
ذهب هذا الشبل- وهو أبو بكر بن محمد عارف خوقير- إلى الحرم المكي بعد أن تفقه على مذهب أبي حنيفة ، فكان أن لزم حلقة أحد القبوريين أحمد زيني دحلان – عامله الله بما يستحق والذي لقبه بعض العلماء بشيخِ الكذابين - ، وكان الحرم بإشراف بعض الأشراف الذين عادوا التوحيد وأهله فرفعوا من شأن القبوريين ، وعكف هذا الشاب عند دحلان سنوات عديدة حتى هلكَ دحلان ، وكان الشاب قد قارب الثانية والعشرين من عمره ..
أكمل مسيرته العلمية ، وسار يشق طريقه ، وأوصاه شيخه عبد الرحمن بن سراج الحنفي مفتي مكة المشرفة مع بعض زملائه النجباء بأن يتفقهوا بالمذهب الحنبلي ليكون من علماء الحجاز من يتولى منصب الفتوى في هذا المذهب ، لأن علماء الحنابلة النجديين لم يكن الأشراف يحبون أن يشغلون هذا المنصب ، لما حصل بينهم وبين أهل نجد من جفوة.
سار الشيخ وتضلع بالعلم حتى اشتد عضده ، وكان له يوم مشهود ، التقى بالعلامة أحمد بن إبراهيم بن عيسى الحنبلي النجدي –رحمه الله تعالى- شارح النونية ، أحد الجبال في العلم ، فلازمه طلبة العلم في الحجاز ، وكان منهم هذا الشاب فقرأ عليه في علم التوحيد والفقه الحنبلي ، وكان لدرس التوحيد تأثير عجيب ، حيث تناقشا بالحجة والبرهان ، وطال النقاش مدة من الزمن ، حتى شرح الله صدر هذا الشاب لمعتقد التوحيد ، فتبرأ من القبورية والوثنية وأعلن توبته وسلوكه معتقد أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ، وكان الفضل للشيخ ابن عيسى والذي قد هدى الله على يديه في الديار الحجازية من كبار طلبة العلم من القبورية والأشاعرة كالشيخ عبد القادر التلمساني المغربي الأشعري ثم السلفي صديق هذا الشاب ، والعلامة محمد نصيف فرحمه الله على ما بذل وقدم .(/1)
بعد هذا قام أبو بكر ودرس كتب السلف في العقائد ، فأصبح داعية للتوحيد الخالص ، فبدأ يحارب الشرك والبدع والخرافات ، ويناظر ويجادل ويؤلف الرسائل المفيدة في ذلك ، لا سيما في توسل العوام بالقبور وطلب الحاجة من الأموات ، ومن يشدون الرحال للأولياء ، ويقدمون لهم النذور والقرابين ، ويتمسحون بالقبور رجاء البركة ، ويتذللون لأصحابها راجين منهم الخير لهم ، ودفع الضر عنهم ، والله يقول: {ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً}
ثم كانت سًنَّةُ الله ، فقد رفع أمر خوقير إلى الشريف حسين بن علي ، فآذوه ومنعوه من الدَّعوة ، ومن التدريس بالبيت الحرام ، ثم زج به في السجن ، في غرفة وحده ، بالدور الأسفل لقصر الحكم (القبو) .
ويقول أحد شهود العيان وهو الأستاذ عمر عبد الجبار: "لقد شاهدت الشيخ أبا بكر خوقير أثناء دخولي السجن في غرفته بملابس رثة ، وهو أشعث ، طال شعره ولحيته ، إذ لا يُسمح لسجين باستعمال مقص أو موسي ، فسلمت عليه ، فرد السلام ، وقال: (إن الله مع الصابرين ، ولي أسوة بإمامنا أحمد بن حنبل)
ولبث في السجن ثمانية عشر شهراً ، ثم سجن ثانية بتهمة ملفقة نحو سبعين شهراً ، يعني زهاء سبع سنوات.
يقول الشيخ الأمير عبد الله بن فيصل الفرحان ، وكان من جملة المرابطين بالرغامة والمحاصرين لجدة مع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن ، فيقول:
إن جيش الملك عبد العزيز بقيادة خالد لؤي قد دخل مكة المشرفة –زادها الله تكريماً- وانطلق الجيش والإخوان –رحمة الله عليهم- يهدمون الأضرحة والقباب ، ويُأَمِّنون ساكني البلد الحرام ، ويطوفون بالبيت العتيق ، ثم عمدوا إلى السِّجن ، وأخرجوا الشيخ خوقير ومن معه.(/2)
وفي فجر ذلك اليوم بينما الشيخ خوقير يؤم تلاميذه ومن معه في السجن إذ رأوا على وجهه البشر والسرور فألحوا عليه جداً عن سر ذلك ، فأنبأهم أنه بينما هو نائم إذ رأى جماعة قد اقتحموا السجن ، وفكُّوا الحديد الذي في أرجلهم ، وأطلقوا سراحهم ، فسأل عن أولئك القوم ، فقيل: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الشيخ ومن معه في السجن لا يعلمون ما يدور في الخارج من أحداث جسام ، وإذا برؤيا الشيخ تقع مثل فلق الصبح ، إذ دخل الإخوان السجن –وكان فيهم من يعرفه- وأذن مؤذن منهم: يا خوقير ، يا خوقير ، فأخرجوا الشيخ ومن معه"
رحم الله هذا الجبل الأشم ، والبحر المتلاطم ، فقد فقدت الأمة بوفاته أحد عظمائها ، ومن الواجب التعريف به وتحقيق ونشر كتبه ، فقد جاهد ونافح وأوذي وصبر ، رحمك الله يا أبا بكر ورفع منزلتك في عليين(/3)
محمد عبد الرزاق حمزة
المحدث الأزهري محمد عبد الرزاق حمزة ـ رحمه الله ـ من سلالة آل البيت عليهم السلام.
ولد رحمه الله عام 1308هـ بقرية (كفر عامر) .. بدأ بالكتّاب، ثم تعلم الجبر والهندسة والحساب، وفاق بها الأصحاب، ثم التحق بالأزهر ودرس فيه وخارجه .. حتى تخرج والتحق بدار الدعوة والإرشاد التي أنشأها السيد رشيد رضا، واشتغل فيها ودرس مناهجهم خلال سنتين .. وقطع مواصلة الدراسة النظامية في المعهد قيام الحرب العالمية الأولى؛ ولكنه أصلب من أن تقصيه حربٌ ليس لهُ فيها ناقة ولا جمل عن مواصلة التسلح بسلاح العلم، فكان يذهب وبعض طلاب الدار إلى المدرسة باختيارهم وكان يأتيهم هناك الشيخ السيد رشيد رضا والدكتور محمد توفيق صدقي ـ رحمهم الله ـ .. وبعد نهاية الحرب أقفلت المدرسة نهائياً .. ولكنه طالب علم، ومنهومان لا يشبعان، فعقد العزم على مواصلة التعلم بملازمة السيد رشيد رضا، فكان يعاونه في تصحيح ما يطبع في مطبعة المنار من الكتب العلمية، ويحضر دروسه التي يقرؤها في داره على خيار الطلبة كالشيخ عبد الرحمن أبي حجر، والشيخ عبد الظاهر أبو السمح، وغيرهم من العلماء الفضلاء .
وكان السيد رشيد رضا قد غرس فيه حب السنة والنهل منها، ونبذ التقليد الأعمى ..(/1)
ولا ينسى شيخنا هنا أن يسجل الجميل، فيذكر بقصة هدايته، حيث كان أشعرياً فيه رواسب للتكايا والزوايا الصوفية .. فبعد مسيرة أكثر من عقد من الزمان في مدارس العلم يلتقي بمن أنار له طريق الحق .. وأشاح عنه ظلمات البعد عن طريق الحق .. فيقول الشيخ الأزهري محمد بن عبد الرزاق حمزة: ((وعلى ذكر الشيخ عبد الظاهر أبي السمح ، أذكر له بالثناء الجميل توجيه قلبي ونفسي إلى مطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد كان أستاذي بدار الدعوة والإرشاد في تجويد القرآن، وتجويد الخط، وبالاتصال به دارت بيننا مباحثات في مسائل التوسل، والشفاعة، ودعاء الصالحين، فأعارني كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية، في التوسل والوسيلة، فقرأته فتأثرت به أي تأثر، وانتقلت رأساً على عقب، وامتزج حب ذلك الشيخ: شيخ الإسلام ابن تيمية بلحمي وعصبي ودمي ، وأصبحت حرياً على البحث عن كل كتاب له، ولمن يتابعه ، وقرأت بعض كتب تلميذه كالشيخ محمد بن عبد الهادي "الصارم المنكي في الرد على السبكي" فخرجت بيقين ثابت، وإيمان قوي، ومعرفة جيدة بمذاهب السلف في هذه الأمور، وبحب مطالعة كتب الحديث، وأسانيده، والكلام على رجاله، كل ذلك ببركة مطالعة كتابي: التوسل والوسيلة والصارم المنكي)).
هكذا هي النفوس الكبيرة، وهذه رؤية العلماء، من عاش بين العلم وأهله عشرات السنين، يوضح لنا حقيقة الصفاء والنقاء، في صفاء نفسك وتجردها للحق!!
وبهذين الكتابين استنار له طريق الهدى، فعاد للسنة، وتبرأ من البدعة، وعاد عن الأشعرية بعقيدة الصفاء والنقاء (الكتاب والسنة) ..(/2)
لقد رفع راية الدعوة إلى التوحيد في أصقاع المعمورة، بدأ بقرية (كفر عامر)، وانطلق بمصر، واهتدى على يديه الكثير، وقد رافقه وزامله في كثيرٍ من دربه صاحبه وأستاذه والذي أنار له طريق الهدى العالم الفاضل عبد الظاهر أبو السمح، والذي أنار له ـ أيضاً ـ طريق الهدى والبيان علامة شنقيط من بلد مورتانيا، العالم الفاضل أمين الشنقيطي، فتعاون الشيخان في جماعة أنصار السنة، ومن ثم في مكة، في الإمامة بالحرم المكي، والتدريس بالحرم ودار الحديث ..
وقد خلف هذا البحر المتلاطم جيلاً كبيراً من طلبة العلم في أصقاع المعمورة، ومن أبرز طلابه: العلامة عبد الله خياط، والشيخ علي الهندي، والشيخ سليمان الصنيع، والأستاذ المحقق أحمد عبد الغفور عطار، والعلامة المؤرخ حمد الجاسر، والشيخ محمد الصومالي، والشيخ إسماعيل الأنصاري، والشيخ محمد بن عمر الشايقي السوداني، والشيخ يحي بن عثمان بن الحسين عظيم أبادي، والشيخ محمد الفاداني، والشيخ محمد نور الدين حسين جِمَاوي الحبشي، والشيخ المحقق أبو تراب الظاهري، والدكتور محمد بن سعد الشويعر، والشيخ عبد الله العبدلي ـ رحم الله حيهم وميتهم ـ.
يقول الشيخ عبد الله بن سعدي الغامدي العبدلي عن تأثره بشيخه وتحرره من التقليد إلى اتباع الدليل: ((كان الشيخ يحرص على الكتب الستة، وقد تأثرت به في دراستي على الشيخ فأصبحت أسير مع الدليل ولو خالف المذهب والآراء)).
وقد خلف لنا تركة أخرى لا تقل أهمية عن طلبته، وهي جملة من مؤلفاته الثمينة، منها:
1- كتاب الصلاة.
2- الشواهد والنصوص من كتاب الأغلال على ما فيه من زيغ وكفر وضلال.
3- ظلمات أبي ريه في كتاب أضواء على السنة.
4- المقابلة بين الهدى والضلال.
5- الإمام الباقلاني وكتابه التمهيد.
6- الباحث الحثيث إلى فن الحديث.
7- تعليقات على الحموية الكبرى.
8- تعليقات على الكبائر للذهبي.
9- تعليقات على رسالة الطلاق لشيخ الإسلام ابن تيمية.(/3)
10- الله رب العالمين في الفطر والعقول والأديان.
11- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان.
12- عنوان المجد في تاريخ نجد.
13- رسالة التوحيد للإمام جعفر الصادق.
14- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (تحقيق وتصحيح) مع بعض أهل العلم.
15- القرى لقاصد أم القرى للطبري (تحقيق وتصحيح) مع بعض أهل العلم.
هكذا عاش مناراً للهدى، وسقاءً للعطشى، ومورداً للظمآن، وحقيقةً لمن تعلق بالسراب وظلمات الهوى والتأويل .. وقد وافته المنية بالبلد الحرام بمكة المكرمة في 22/2/1392هـ ... رحمه الله وغفر له .. ورفع منزلته في عليين .. ونحن على آثاره سائرين .. في اتباع النبي الهادي الأمين .. عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم.
كتبه:
أبو عمر الدوسري(/4)
محمد عيد العباسي
إن من علامات التوفيق لمريد الهُدى أن يوفق لعالم من علماء السنة، وأن يجافي أهل البدعة والمذمة، ولئن زلت به القدم فسرعان ما يعاود إلى الحق، فهو طالب حق، لا طالب شهرة ومال، حتى وإن طاله من ذاك الأذى، أو سفه وتزايد عليه البلاء، فما هو إلا تمحيص، وهذا الطريق الذي لا يسلكه إلا الرجال.
هكذا كانت بداية سليل آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، الشيخ محمد عيد بن جاد الله العباسي ـ أطال الله بقاءه على خير ـ من مواليد عام 1357 هـ بسورية من ديار الشام، بدأ حياته بحفظ القرآن، وتتلمذ على أيدي مشايخ بلدته من الأشاعرة والصوفية ، وتخرج من مدرسة حسن حبنكة الميداني ، وكان من شيوخه ملا رمضان البوطي الصوفي النقشبندي ، الذي اشتهر عنه أنه كان لا يرى أن تقرأ سورة المسد لأنها تؤذي النبي عليه الصلاة والسلام لأن فيها دعاءٌ وسبٌ لعمه!! وكذلك كان من شيوخه أحمد كفتارو النقشبندي مفتي سورية وهو غني عن التعريف.
هكذا نشأ هذا الطالب في العقائد الكلامية المخالفة لهدي السنة النبوية، والطرق الصوفية المجافية للطريقة المحمدية، والعداء لأهل السنة بدعاوى أنهم وهابية!!(/1)
لكن الله إذا شاء لأحدهم الهُدى وفقه لسبله، ويسر طرقه، وأعانه ووفقه لصاحب سنة، وهكذا وفق الله الشيخ العباسي من طريق صديقه الأستاذ خير الدين وانلي ـ رحمه الله ـ أن يعرفه على مُحدث الشام وحبرها محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ وعن هذه العلاقة يقول الشيخ العباسي: ((وفي عام 1374 عرفني صديقي الأستاذ خير الدين وانلي على العالم المحدث السلفي الجليل محمد ناصر الدين الألباني، فأخذت أحضر دروسه ومحاضراته، فأعجبت به وبعلمه وتحقيقه ومنهجه السلفي أيما إعجاب، وتعرفت من خلاله على شيوخ الدعوة السلفية وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والحافظ ابن كثير وغيرهم، ولزمت مجالسه وأخذت منه الدعوة السلفية بشمولها وكمالها، كما أخذت منه علم الحديث الشريف، وما كان يزيدني مرور الأيام إلا تعلقا بهذه الدعوة وإيمانا بها وإعجابا بالشيخ الألباني،بخلاف مناهج غيره الذين سبق تعرفي عليهم، ولازمت الشيخ حتى صرت من خواصه القليلين المقربين)).
ويقول عن دعوة شيخه الألباني رحمه الله: ((كانت الدعوة السلفية في بلاد الشام قبله ينقصها الفهم الواضح الشامل السديد، كما كانت تفتقد إلى الحيوية والنشاط والاندفاع اللائق بها، فقد كان هناك بعض المشايخ والدعاة المؤمنين بعقيدة السلف ومنهجهم في الجملة، ولكن كان ينقصهم الوضوح والصراحة والجرأة؛ فكانوا يبثون الدعوة بين محبيهم وتلامذتهم في نطاق ضيق ومحدود وعلى تخوف واستحياء، كما كانوا غير متمكنين في علم الحديث، فكانت الدعوة محصورة بين القليل من طلاب العلم، وفيها بعض الغبش.(/2)
ولما كان أستاذنا الألباني جهر بها بين ظهراني الناس جميعاً، وأعلن بكل قوة وجرأة، ولم يخش في الله لومة لائم، وتحمل في سبيل ذلك أنواعاً من الإيذاء والاستنكار والإشاعات الباطلة والحملات الظالمة، والسعي للوشاية به إلى الحكام، وكثيراً ما منع من الفتوى والتدريس، والاجتماعات، واستدعي للجهات الأمنية، كما أنه قد سجن مدة طويلة أكثر من مرة، وأخرج من أكثر من بلد، ومع ذلك فقد ظل ثابتاً كالطود، لا يضعف، ولا تلين له قناة، ولا تنثني له عزيمة حتى لقي ربه تبارك وتعالى.
كان يجول في المدن والبلدان داعياً إلى منهج السلف واتباع الدليل، يجادل ويناظر، ويكتب ويدرس، دون خور أو ضعف، ودون كلل أو ملل.
وبمثل ذلك تنتصر الدعوات وتنتشر؛ وهكذا فقد انتشر ما كان يحمله من الدعوة إلى التوحيد واتباع السنة وإيثار الدليل، ومحاربة البدع والمحدثات، ونشر الأحاديث الصحيحة، ومحاربة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقريب السنة إلى الأمة، كما انتشر تلاميذه ومحبوه في كل مكان، وصارت الدعوة إلى منهج السلف حديث الناس، وموضع اهتمامهم ودراستهم)).
عندها انطلق طالباً، ثم داعياً، ثم واصل البحث فكان عالماً، ألف بعد هدايته عشرات الرسائل، منها [سلسلة الدعوة السلفية]، ونشر في سبيلها كتب السلفيين، وشارك في بعض المجلات العلمية، مُشرفاً وكاتباً وداعماً، حتى وهو يناهض السبعين ترى الروح الشبابية في الدعوة تتجلى في حركته، فبارك الله فيه وزاده الله فضلاً.
ومن مؤلفاته:
1- كتاب بدعة التعصب المذهبي وآثارها الخطيرة في جمود الفكر وانحطاط المسلمين وذلك عام 1390هـ الموافق 1970 بدمشق
2- ملحق كتاب بدعة التعصب المذهبي بتاريخ 1390هـ الموافق 1970 بدمشق
3- التقديم لرسالة " الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام " لأستاذي الألباني. نشر دمشق
4- رسالة " قضية الإنسان الكبرى: الخطر الرهيب" نشر دار ابن الجوزي في الدمام.(/3)
5- رسالة حكم دخول الجنب والحائض والنفساء المسجد. نشر دار المسلم في الرياض
6- بحث بعنوان " نصيحتي للجماعات والأحزاب الإسلامية " نشر المكتبة الإسلامية في عمان
7- كتاب حقيقة التوسل وأحكامه في ضوء الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة. (مخطوط ) تعاقدت عليه مع مكتبة المعارف في الرياض
8- بحث عن كتاب " جامع البيان في تأويل القرآن " للطبري نشر ي الأعداد 2،3،4 من مجلة البصائر التي تصدر في هولندا.
9- بحث عن " الدعوة السلفية في بلاد الشام ينشر قريبا في الموسوعة الوسيطة في الديانات والمذاهب والحركات المعاصرة " بإشراف الدكتور ناصر العقل وستنشره دار اشبيلية في الرياض قريبا.
10- التقديم والتعليق على رسالة " مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية " للأديبة نازك الملائكة. نشر دار الفضيلة في الرياض
11- التخريج والتعليق على كتاب " التفسير الواضح على منهج السلف الصالح " للشيخ محمد نسيب الرفاعي. وهو في طريق النشر بواسطة مكتبة المعارف بالرياض
12- التأليف والتنسيق لكتاب " التوسل أحكامه وأنواعه " لأستاذي الألباني
13- تخريج أحاديث " الحسنة والسيئة لشيخ الإسلام ابن تيمية.نشر مكتبة المعرفة بدمشق
14- التخريج والتعليق على كتاب " الفكر الصوفي " للأخ عبد الرحمن عبد الخالق
15- التعليق والتخريج لأحاديث كتاب " شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل " للإمام ابن القيم
16- السيرة النبوية الصحيحة وفقهها (تحقيق السيرة على طريقة المحدثين مع بيان الأحكام المأخوذة منها) "مخطوط"
هذا فيض عن الشيخ ودعوته، وقصة هدايته، فبارك الله بالشيخ وزاده علماً وفضلاً وعطاءً ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين.(/4)
محمد هاشم الهداية
دعوة أنصار السنة هي دعوة التوحيد أو الدعوة السلفية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
محمد هاشم الهدية
يقول رحمه الله تعالى:
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، أنا محمد هاشم الهدية من مواليد مدينة رفاعة بالجزيرة حيث تلقيت القرآن الكريم وتعاليمه في القرية، عملت موظفا بالدولة لما يزيد عن ثمان وثلاثين عاما إلى أن تقاعدت في يناير 1968م. كنت صوفيا من أسرة صوفية حيث نشأت في بيت صوفي وبقيت صوفيا لأكثر من عشر سنوات وأخيرا عندما ظهرت دعوة التوحيد عندنا بالسودان دخلت فيها بعد نقاش طويل مع أصحابها الأمر الذي أدى لاقتناعي بها وظللت فيها منذ 1956م.
تأسيس الجماعة
أرجو أن تحدثنا عن نشأة جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان بدايتها ومراحل تطورها؟(/1)
- دعوة أنصار السنة هي دعوة التوحيد أو الدعوة السلفية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي خلاف الدعوات التي نشأت بعد ذلك، وقد كانت السلفية مفقودة عندنا بالسودان، بل لم تكن معروفة إلا في نطاق ضيق في العالم الإسلامي وبدأ ظهورها في السودان بمدينة (النهود) عام 1917م، على يد رجل مغربي اسمه عبد الرحمن بن حجر حيث تلقى على يديه الدعوة ثلاثة من إخواننا الأفاضل وهم الذين شكلوا النواة الحقيقية فيما بعد للدعوة بالسودان. هؤلاء الثلاثة ظلت الدعوة في نفوسهم لم يتمكنوا في الجهر بها لتمكن التصوف والصوفية في البلاد ومؤازرة الحكومة لها ولرجالها ولم يصدع بهذه الدعوة إلا الحاج أحمد حسون وهو أمير الثلاثة الرواد عام 1936م بمدينة أم درمان حيث أخذ يدرس العقيدة السلفية في بيته منذ ذلك الوقت. وزميلي حاول إقناعي كثيرا ولم أستجب له إلا بعد تسع سنوات لم ينقطع فيها عن دعوتي دخلت الدعوة عام 1948م حيث انتقلت من التصوف إلى العقيدة السلفية على يد الشيخ عبد الباقي يوسف نعمة وهو أحد دعاة السلفية بالسودان في ذلك الوقت وظللت في الدعوة حتى الآن ولله الحمد.
كان العدد قليلا كالعادة حيث لم يتجاوز العدد عام 1948م الألف شخص لأننا كنا محاربين ومن توصية أستاذنا لنا أن لا نجابه السلطة ونحاربها وبالتالي هادنا السلطة نسيا لها لذلك صبرنا كثيرا على معاكسة الصوفية الذين يؤازرهم المستعمر في ذلك الوقت. صبرنا عليهم ولكن أراد الله تبارك وتعالى أن يهيىء من يلتحق بنا من الشباب المتعلم.
شيخ محمد نريد نقطة محددة للبداية الفعلية لجماعة أنصار السنة كهيكل ونظام؟(/2)
- لم تصر الحركة هيكلا ونظاما إلا بعد تسع سنوات، كانت فيها عبارة عن ارهاصات ومبادئ قبلها البعض ورفضها الآخرون حتى جاء عام 1948م وسميت "جماعة أنصار السنة المحمدية" وهذا الاسم قد سبقتنا به مصر وهي لم تقم بابتكاره، فهو يستمد من الهدي النبوي، لسان حال جماعة أنصار السنة بمصر وفي عام 1948م أصبح لنا تصديق من الدولة حيث أصبح لنا مركز عام ولجان فرعية وظل نشاطنا حذرا مقصورا على عملية التبليغ دون الاحتكاك والمناكفات مع الناس. وظلت الدعوة تتدرج حتى تمكنا من الحصول على قطعة أرض في الدولة عام 1957م وبنينا دارا ومسجدا صغيرا وظلت الدعوة مستمرة تزداد عددا كل يوم، وقد نسجت حولنا شبهات كثيرة فقالوا عنا أننا ننكر الكرامات ولا نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا الكثير، ثم يأتي المصلي مستفسرا ويرى ويسمع عكس ذلك تماما، ويسمع بأن لله أولياء لأنه هنالك إضافة "أولياء الله" وهذه الإضافة من أنكر وجودها يكون قد كفر، ثم أن هذه الآية بدأت بحرفين من حروف اللغة "ألا" للتنبيه"وإن" حرف توكيد لكن الفرق بيننا وبين الناس في تعريف الولي، فالولي عندهم صاحب الخوارق ونحن لا تهمنا الخوارق كثيرا، بل يهمنا ما في الآية {الذين آمنوا وكانوا يتقون (63)} [يونس: 63] وهؤلاء هم الأولياء حقيقة. لقد ظل عددنا يكبر ثم كانت زيارة ثالث سفير سعودي بالسودان لنا بالدار وهو الشيخ محمد عبد الرحمن العبيكان الذي صلى معنا الجمعة واستغرب أن وجد بالسودان من يرتجلون خطبة الجمعة وبفصاحة وعلم غزير وتكامل تام. فسر غاية السرور وجلس حتى نهاية الصلاة اتصل بنا وأخبرنا بأن سفارته دينية قبل أن تكون سياسية وطلب منا زيارته فكانت صلته طيبة ومباركة معنا وصار يصلي معنا ويمدنا بالكتب التي طبعت في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله -، كل كتب السنة حيث كانت كتب شيخ الإسلام ابن تيمية معدومة تماما بالسودان، أمدنا السفير العبيكان بكميات من الكتب توسعنا على(/3)
أثرها وكذلك أعاننا بماله وأموال المحسنين بالمملكة وأصبحنا نبني مساجد ومعاهد متعددة دينية سلفية وقامت بدورها خير قيام في نشر السنة والتحذير من البدع. النشاط الدعوي :
بعد أن وجدتم هذا الأثر الطيب والفعال على الساحة السودانية والساحة العربية والإسلامية ما هي معوقات العمل الدعوي في السودان؟
- كانت الطرق الصوفية في الماضي تشكل عائقا حيث استعانت بالحكومات المتعاقبة وهذه بحمد الله تخطيناها بالصبر لكن الشباب الصوفي الآن بدأ في التغير وبدأت نظرته تتغير بعضهم يبنون المساجد ويطلبون أئمة من عندنا، وهكذا وهي بلا شك مكاسب فالصبغة السلفية تكاد تكون طغت على كل المجتمع السوداني لكن تنقصنا أشياء نسأل الله أن يهيئها لنا، السوادن قطر كبير "مليون ميل مربع" وفي البداية كان يأتينا أفراد للدخول في الدعوة والآن تأتينا قبائل بأكملها والمصائب تمحيص للناس لأن موقف أنصار السنة إبان الفيضانات بالسودان وما قامت به من أعمال لدرء أخطار هذه الكارثة ومواساة المتضررين جعلت معظم أو كثيرا من القبائل تهوي إليهم للدراسة والانتساب للدعوة فبصورة عامة الدعوة الآن انفتحت إنفتاحا شديدا.(/4)
محمود شكري الألوسي
جمال الدين أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بهاء الدين بن أبي الثناء شهاب الدين محمود الحسيني الألوسي البغدادي رحمه الله ، من سادات آل البيت ، ولد في رمضان 1273هـ ، وجده صاحب التفسير الشهير ، وقد كان صوفياً فمنّ الله عليه بالهداية فاتبع السنة ، ونبذ البدعة [وسنذكر مراحل حياته لاحقاً] .. تأثر بمؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تأثراً بالغاً ، وإلى ذلك أشار كامل الرافعي بقوله: (لم أرَ أحداً يقدر مؤلفات ابن تيمية وابن القيم قدرهما مثلهما) أي محمود شكري وابن عمه علي الآلوسي.
جاهد في نشر الحق والرد على الباطل ، فشن غاراته على الخرافات المتأصلة في النفوس فكتب الرسائل وألف المؤلفات التي زعزعت أسس الباطل وأحدثت دوياً وإصلاحاً عظيماً .. وارتفع صوته كمصلح ديني يدوّي في المطالبة بتطهير الدين مما لحقه من أو ضار البدع.
وكعادة المصلحين والمجاهدين يبتليهم الله بخصومة المشركين وأهل البدع والحاسدين ، فذهبوا يُشنعون عليه ، ويرمونه بتهم شتى منها: أنه يبث فكرة الخروج على السلطان؟!! ويؤسس مذهباً يناصب كل الأديان؟!! وأن تأثيره سار بين الناس؟! فأغروا والي بغداد (عبد الوهاب باشا) … فصدر الأمر بنفي السيد محمود وابن عمه السيد ثابت نعمان الآلوسي والحاج حمد العسافي النجدي رحمهم الله إلى الأناضول.
فلما وصلوا للموصل قامت قائمة الموصليين لأن الذين أمر بنفيهم من أعلام العراق الكبار ، وأن في الموصل عدد كبير من العلماء وطلبة العلم السلفيين ، فطلبوا من السلطان الصفح .. فصدر العفو عنهم وعادوا بعد أن مكثوا شهرين في الموصل .. وعادوا منصورين ، فقام الشيخ عبد اللطيف بن ثنيان في صحيفته الرقيب بالانتصار للشيخ والرد على تلك الوشايات والافتراءات وأصدر مقالاً (الحمد لله عاد الحق لأهله)
وعاش رحمه الله تعالى ، ثلاثة مراحل في حياته.
المرحلة الأولى:(/1)
كان فيه صوفياً خالصاً: وهذا الطور يبدأ من أول حياته إلى أن تجاوز الثلاثين من عمره.
وفي هذا يقول العلامة الأثري –رحمه الله- في كتابه ( أعلام العراق ص 91):
(( .. ولكن الشاب المتأثر بالعقيدة الخلفية ، والمتشبع بالروح الصوفية الموروثة له من أبيه وأستاذه الأول لم يستطع ملازمة عمه المستقل بعلمه وآرائه الضارب بالخزعبلات الصوفية والمذاهب التقليدية عرض الحائط ، فصرف التعصب بصره عن عمه)) .
المرحلة الثانية:
كان فيه ما زجاً بين الصوفية والعقيدة السلفية ، ولم يستمر هذا الطور معه طويلاً.
وفي هذا يقول العلامة الأثري:
(( لما بلغ الألوسي هذا الطور من حياته ، واتسعت آفاقه الذهنية والعلمية ؛ رأيناه يبدأ حالاً جديدة من أحوال التفكير والاجتهاد ، ويعيد النظر فيما تعاوره في أثناء الشباب من اختلاط العقائد والنزعات المذهبية المختلفة ... )) .
(محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية ص76 ) .
المرحلة الثالثة:
وهو آخر ما استقر عليه المصنف رحمه الله ؛ وهو طور نبذ التصوف ، والمجاهرة بدعوة التوحيد.
وفي هذا يقول العلامة الأثري:
(( ثم ما لبث الألوسي أن أصحر عن انحيازه في جرأة وقوة إلى الحركة السنية السلفية ، مع مقاومة الدولة العثمانية الصوفية لهذه الحركة الإصلاحية بكل قواها الرجعية ، واستعلن وقوفه إلى جانبها بكتابه (فتح المنان تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان) الذي فرغ من تأليفه في غرة ذي الحجة سنة 1306هـ وطبع بالهند سنة 1309هـ )) .
وقد توفي – رحمه الله تعالى- 4/10/1342هـ على إثر مرض ألمَّ به في أواخر شهر رمضان من العام نفسه ، نسأل الله أن يرفع منزلته في عليين ..(/2)
أبو الحسن الشاذلي
هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم المغربي أبو الحسن الشاذلي ، وكما هي عادة الصوفية دائماً ينسبون أوليائهم إلى البيت النبوي ، فقد نقل ابن عبّاد نسب أبا الحسن الشاذلي من كتاب"اللطيفة المرضية في شرح دعاء الشاذلية " للشيخ شرف الدين أبي سليمان داود السكندري ، فقال:" هو الشريف الحسيب ذو النسبتين الطاهرتين الجسدية والروحية المحمدي العلوي الحسني الفاطمي: أبو الحسن علي الشاذلي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن حاتم بن قصي بن يوسف بن يوشع بن ورد بن بطال بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب". اهـ.
ومن له أدنى خبرة بنسب آل البيت يعلمُ أنَّ هذا العمود مرَّكبٌ مفتعل ، ولهذا قال السكندري ، وهو من المعتقدين في ولاية الشاذلي:" لم يكن من أولاد الحسن بن علي من اسمه محمد له عقب ، وإنَّ الذي أعقب من أولاد الحسن السبط: زيد الأبلج ، والحسن المثنى ، كما نصّ عليه غير واحد " ، ولما كان لابد من تصحيح نسب الولي ، قالوا:" … وصوابه محمد بن الحسن المثنى بن الحسن السبط " انتهى[1].
وفاتهم أنّ العقب في الحسن المثنى إنما هو في خمسة هم:"عبد الله المحض ، وإبراهيم الغمر ، والحسن المثلث ، وداود ، وجعفر " وأمّا محمد بن الحسن المثنى فلا بقية له بالاتفاق كما قال ابن عنبة في " عمدة الطالب " وغيره [2]
ولهذا قال الصفدي في " نَكْتِ الهُمْيَان " عن أبي الحسن الشاذلي:" وقد انتسب في بعض مصنفاته إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال: بعد يوسف المذكور بن يوشع بن برد بن بطال بن احمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال الشيخ شمس الدين الذهبي:" هذا نسب مجهول لا يصح ولا يثبت ، وكان الأولى به تركه ، وترك كثير مما قاله في تآليفه من الحقيقة " …" اهـ [3].(251/1)
ومن الغرائب أنَّ عبد السلام بن مشيش لما قابل أبا الحسن الشاذلي قال له على وجه الكشف:" مرحباً بعلي بن عبد الله بن عبد الجبار " ، وساق نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال له:" يا علي ارتحل إلى افريقية واسكن بها بلداً تسمى شاذلة ، فإن الله يسميك الشاذلي ، وبعد ذلك تنتقل إلى مدينة تونس ويؤتى عليك بها من قبل السلطنة ، وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد المشرق ، وترث فيها القطبانية " انتهى[4].
ومن المفارقات ههنا:" أنّ أبا الحسن الشاذلي مكتوب على قبته وضريحه سياق النسب إلى الحسين رضي الله عنه لا الحسن " [5].
ولد في قرية (غمارة) قرب (سبتة) بالمغرب الأقصى سنة (590 هـ) تقريباً، انتقل إلى تونس واتخذ رباطاً في جبل (زغوان) وأخذ ينشر دعوته في بلدة (شاذلة) القريبة من رباطه , سعى به أبو القاسم بن البراء قاضي الجماعة بتونس إلى السلطان أبي زكريا الحفصي فنفاه عن تونس فجاء إلى الإسكندرية.
قال ابن العماد: ((وأخرجوه بجماعته من المغرب ، وكتبوا إلى نائب الإسكندرية: إنه يقدم عليكم مغربي زنديق وقد أخرجناه من بلدنا فاحذروه.
ولما قدم الإسكندرية كان بها أبو الفتح الواسطي ـ يعني من الأقطاب ـ فوقف بظاهرها واستأذنه فقال: طاقية لا تسع رأسين. فمات أبو الفتح في تلك الليلة ، وذلك لأن من دخل بلداً على فقير بغير إذنه فمهما كان أحدهما أعلى سلبه أو قتله ، ولذلك ندبوا الاستئذان.
قال الحنفي ـ أحد الأقطاب ـ اطلعت على مقام الجيلاني والشاذلي فإذا مقام الشاذلي أرفع.
سكن الإسكندرية وصحبه بها جماعة وله في التصوف مشكلة توهم ، ويُتكلف له في الاعتذار عنها)). (شذرات الذهب: 5ـ279).
وتوفي في صحراء عيذاب من صحراء مصر سنة (656 هـ).
اخترع لأتباعه أوراداً وأحزاباً منها: (الحزب الكبير) أو (حزب البر) و (حزب البحر) و (حزب الإخفاء) و (حزب النصر) و (حزب الطمس على عيون الأعداء) و (حزب اللطيف) وغير ذلك.(251/2)
وأوصى "الشاذليُّ" أصحابَه بحفظِ "حزب البحر" وقال لهم: حفِّظوه أولادَكم ، فإنَّ فيه اسمَ الله الأعظم!
وهذا الحزب عندهم يقرأ بعد العصر، وفيه قوله "... كهيعص كهيعص كهيعص انصرنا فإنَّك خير الناصرين... شاهت الوجوهُ شاهت الوجوهُ شاهت الوجوهُ .... طس حمعسق {مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان} حم حم حم حم حم حم حم حم وجاء النصر فعلينا لا ينصرون... الخ .
ومن تخليط الشاذلي قوله: قلت: يا ربِّ! لم سمَّيْتَني بـ"الشاذلي" ولستُ بشاذلي؟
فقيل لي: ((يا علي ما سَمَّيْتُكَ بالشاذلي، وإنمَّا أنتَ الشاذُّ لي- يعني: المفرَد لخدمتي ومحبتي!)).
وقال: إذا عُرضتْ لكم إلى الله حاجةٌ فتوسَّلوا إليه بالإمام "أبي حامد")) يعني الغزالي.
وحكى الكوثري عن أبي الحسن الشاذلي أنه قال: ((أطلعني الله على اللوح المحفوظ ، فلولا التأدب مع جدي رسول الله لقلت هذا سعيد وهذا شقي)).
(إرغام المريد شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشيندية: صفحة 39)
ومن كلام الشاذلي: ((لولا لجام الشريعة على لساني لأخبرتكم بما يحدث في غد وما بعده إلى يوم القيامة)).
(شذرات الذهب: 5ـ279).
وقيل للشاذلي: ((من شيخك.؟ فقال: أما فيما مضى فعبد السلام بن مشيش ، وأما الآن فإني أسقى من عشرة أبحر ، خمسة سماوية ، وخمسة أرضية)).
(شذرات الذهب: 5ـ279).
وإليك نماذج من أدعية وأذكار الطريقة الشاذلية:
من أهم معالم الذكر عند أتباع الشاذلي القفز في الهواء أثناء الذكر ، وهو أمر معروف مشهور عند البوذيين ، ومن رأهم يكاد لا يفرق بينهم ، كذلك لفظ الذكر عندهم ، وهو: آه آه آه .. ، وهو الذكر المعروف عند طائفة من اليهود ،حين يقومون بهذا الذكر بعد تشكيل حلقة يدورون فيها لليمين واليسار.
ومن أذكارهم:(251/3)
((يا خالق السبع سماوات ومن الأرض مثلهن، يتنزل الأمر بينهن، أشهد أنك على كل شيء قدير، وأنك قد أحطت بكل شيء علماً، أسألك بهذا الأمر الذي هو أصل الموجودات، وإليه المبدأ والمنتهى، وإليه غاية الغايات أن تسخر لنا هذا البحر، بحر الدنيا وما فيه، كما سخرت البحر لموسى، وسخرت النار لإبراهيم، وسخرت الجبال والحديد لداود، وسخرت الرياح والشياطين والجن لسليمان، سخر لي كل بحر هو لك، وسخر لي كل جبل ، وسخر لي كل حديد، وسخر لي كل ريح، وسخر لي كل شيطان من الجن والإنس، وسخر لي نفسي، وسخر لي كل شيء، يا من بيده ملكوت كل شيء، وأيدني بالنصر المبين إنك على كل شيء قدير)) اهـ
(أبو الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود صفحة 375).
و هذا الدعاء فيه من التعدي الكثير، فإنه لا يجوز لنا أن نسأل ما جعله الله لأنبيائه من هذه المعجزات فتسخير الجن والشياطين لسليمان كان شيئاً خاصاً بسليمان فقط، ولذلك روى البخاري بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((جاءني عدو الله إبليس بشهاب من نار ليضعه في وجهي ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقاً بسارية المسجد يلعب به صبيان المدينة)). وأما نار إبراهيم الذي يسأل الشاذلي ربه أن يسخرها له!! فإن الله عز وجل جعلها برداً وسلاماً على إبراهيم في مناسبة خاصة وذلك بعد أن تعرض لما تعرض له من البلاء، ولم يسأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربه ذلك، وكذلك إلانة الحديد لداود إنما كان لأنه يأكل من عمل يده فكافأه الله بأن ألان له الحديد وعلمه صنعة الدروع، فكان هذا من الله فضلاً له للمناسبة التي فيه.. أما أن يأتي رجل ليس بنبي فيسأل الله جميع معجزات الأنبياء فلا شك أن يكون قد تعدى في الدعاء وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعدي في الدعاء، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُ سَيَكُونُ فِيْ هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَهُور وَالدُّعَاءِ)). [أبو داود وابن ماجه].(251/4)
والحق أننا إذا قارنا هذا التعدي الموجود في أدعية أخرى لهان الأمر فها هو الشاذلي نفسه يقول في دعائه أيضاً:((اللهم هب لي من النور الذي رأى به رسولك صلى الله عليه وسلم، ما كان ويكون، ليكون العبد بوصف سيده لا بوصف نفسه. غنياً بك عن تجديدات النظر لشيء من المعلومات، ولا يلحقه عجز عما أراد من المقدورات، ومحيطاً بذات السر بجميع أنواع الذوات، ومرتباً البدن مع النفس والقلب مع العقل، والروح مع السر والأمر مع البصيرة والعقل الأول الممد من الروح الأكبر المنفصل عن السر الأعلى)) ا.هـ
(أبو الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود ص168).
فأي تعد أكبر من هذا أن يدعو إنسان ربه ليعطيه نوراً من النور الذي رأى به النبي ما كان يكون -وهذا كذب أيضاً لأن الرسول لم يكن يعلم من الغيب ما كان وما يكون وما لم يكن منه إلا ما أعلمه الله سبحانه وتعالى إياه، ولكن هؤلاء زعموا هذا للنبي صلى الله عليه وسلم ورتبوا على ذلك أن يجعلهم الله أيضاً كالنبي يعلمون الغيب، وقوله حتى يكون العبد بوصف مولاه- يعني أن يتصف بما اتصف به النبي ويكون الوصف راجعاً في النهاية للنبي لا يعفيه هذا أنه يطلب ما كان للنبي من منزلة وعلم، وصدق الله سبحانه حيث يقول في أمثالهم {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة} (المدثر:52).
والحق أن الشاذلي في هذا الدعاء قد طلب ما لله من علم وليس ما للرسول فقط فمولاه هنا راجعة إلى الله سبحانه فكل من هؤلاء يريد أن يكون كالله سبحانه وتعالى في علمه وتصريفه وقدرته. والحق أنه لا يتوقف التعدي في الدعاء عند الصوفية أن يطلبوا منازل الأنبياء وخصائصهم وعلومهم بل وصفات الله وخصوصياته، بل وتعدى ذلك أيضاً إلى أن يتطاولوا على الله فيعلموه كيف يصفح وكيف يرحم؛ انظر إلى هذا الدعاء للشاذلي أيضاً:(251/5)
((ولقد شكا إليك يعقوب فخلصته من حزنه ، ورددت عليه ما ذهب من بصره ، وجمعت بينه وبين ولده، ولقد نادى نوح من قبل فنجيته من كربه، ولقد ناداك أيوب بعد فكشفت ما به من ضره، ولقد ناداك يونس فنجيته من غمه، ولقد ناداك زكريا فوهبت له ولداً من صلبه ، بعد يأس أهله وكبر سنه، ولقد علمت ما نزل بإبراهيم فأنقذته من نار عدوه، وأنجيت لوطاً وأهله من العذاب النازل بقومه. فها أنذا عبدك إن تعذبني بجميع ما علمت من عذابك فأنا حقيق به ، وإن ترحمن كما رحمتهم من عظيم إجرامي فأنت أولى بذلك وأحق من أكرم به ، فليس كرمك مخصوصاً بمن أطاعك وأقبل عليك بل هو مبذول بالسبق لمن شئت من خلقك وإن عصاك وأعرض عنك، وليس من الكرم أن لا تحسن إلا لمن أحسن إليك وأنت الرحيم العلي كيف وقد أمرتنا أن نحسن إلى من أساء إلينا فأنت أولى بذلك منا)).
(أبو الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود ص191)
فعلى الرغم من أنه دعا الله سبحانه أن ينجيه كما أنجى عباده الصالحين فإنه تطاول على الله في آخر الدعاء فراح يقول لله (وليس من الكرم أن لا تحسن إلا لمن أحسن إليك)؟! (بل من الكرم أن تحسن إلى من أساء إليك) وكأنه في هذا يعلم الله سبحانه كيف يتفضل وكيف يحسن وعلى هذا القول تكون عقوبة الله للمسيئين ليست جارية على سنة الله في كرمه وعفوه وصفحه وحلمه وهذا خطأ بالغ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضع رحمته إلا فيمن يستحقها، ولا يعفو إلا عمن هو أهل للصفح والمغفرة. كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} (الأعراف:156).
ـــــــــــــــــــــ(251/6)
[1] نور الأبصار للشلبنجي (ص225-226). وقد ذكر أحمد ابن عطاء الله السكندري في كتاب " لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه الشاذلي أبي الحسن " نسب الشاذلي هذا بالوجه الشاذ المثبت ههنا ، ولم يتعقبه. انظر: (ص 41). ط: المكتبة العلامية ، بجوار الأزهر بمصر ، بدون تاريخ سنة الطبع .
[2] عمدة الطالب (202) ط:الكمالية. وانظر الحاشية. وقد ذكر الزبيري في " نسب قريش" لمحمد بن الحسن المثنى ابنتين هما: فاطمة وأم سلمة ؛ ولم يذكر له عقباً من الذكور. انظر (ص53).
[3] نكت الهميان في نكت العميان للصفدي (ص213) ط:1404 بعناية أسعد طرابزوني الحسيني.
[4] كرامات الأولياء للنبهاني (2/168)
[5] نور الأبصار للشبلنجي ، ط:1.المطبعة المليجية سنة1323، (ص229).(251/7)
أبو العباس المرسي
هو أحمد بن عمر الأنصاري المالكي ، كان من الزهاد ، تتلمذ على يد أبي الحسن الشاذلي ، وكان الشاذلي يقول: عليكم به ..... ، توفي سنة (686 هـ).
(طبقات الصوفية: 2ـ338).
ومن أقوال أبي العباس المرسي: ما من وليّ كان أو هو كائن إلا أطلعني الله عليه وعلى اسمه ونسبه وحظه من الله تعالى.
(معراج التشوف لابن عجيبة: صفحة 88)
ولتعلم أخي مدى المخالفة التي يقول بها المرسي وأمثاله من الصوفية إليك التالي:
قال ابن جُزي الكلبي في تفسيره /2ـ155/: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} أي لا يُطلع أحداً على علم الغيب إلا من ارتضى وهم الرسل فإنه يطلعهم على ما شاء من ذلك ، و{مِنْ} ، في قوله {مِنْ رَسُولٍ} لبيان الجنس ، لا للتبعيض ، والرسل هنا يحتمل أن يراد بهم الرسل من الملائكة ، وعلى هذا حملها ابن عطية ، أو الرسل من بني آدم ، وعلى هذا حملها الزمخشري ، واستُدل بها على نفي كرامات الأولياء الذين يدعون المكاشفات ، فإن الله خص الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم .اهـ
قلت: وهذه دعوة لتأمل قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. آل عمران /179/
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}. النمل /65/
وجاء في حاشية كتاب (الديباج المُذهّب) للشيخ أحمد بن أحمد المعروف ببابا التنبكتي صفحة: 127 في ترجمة الشيخ أبو مدين شعيب بن الحسن الأندلسي:(252/1)
((وعن أبي العباس المرسي قال: جُلْتُ في الملكوت فرأيت سيدي أبا مدين متعلّقاً بساق العرش وهو يومئذٍ رجل أشقر أزرق ، فقلت له: وما علومك وما مقامك؟ فقال: علومي أحدٌ وسبعون علماً ، ومقامي رابع الخلفاء ، ورأس السبعة الأبدال ، وسُئل عما خصه الله به فقال: مقامي العبودية، وعلومي الألوهية ، وصفاتي مستمدة من الصفات الربّانيّة ؛ ملأت عظمته سري وجهري وأضاء بنوره بري و بحري ...)).
ويقول المرسي أبو العباس: ((لو علمت العراق والشام ما تحت هذه الشعرات لأتوها ولو سعياً على وجوههم)).
(لطائف المنن صفحة: 179)
ويقول ابن عطاء الله السكندري: ((سمعت شيخنا (يقصد المرسي أبو العباس) يقول في قوله عز وجل: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} أي: ما نذهب من ولي لله إلا ونأتِ بخير منه أو مثله.
(لطائف المنن صفحة: 63)(252/2)
أبو العباس بن عطاء الازدي الزاهد
هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء ، كان من مشايخ الصوفية المشهورين بالعبادة والزهد ، إلا أنه كان يوافق الحلاج على زندقته حتى أن موافقته كان سببا في قتله ، ولا حول ولا قوة لا بالله . ونذكر هذه القصة التي ذكرها الحافظ ابن حجر في لسان الميزان في ترجمة حسين بن منصور الحلاج قال :
(( وقال أَبُو بَكْرِ بن ممشاذ: حضر عندنا بـ «الدينور» رجل ومعه مِخْلاَةٌ، فما كان يفارقها بالَّليْل ولا بالنَّهَارِ، ففتشوا المِخْلاَةَ، فوجدوا فيها كتاباً للحلاج عنوانه: من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان ، فوجه إلى «بغداد»، قال: فأُحضر وعرض عليه فقال : هذا خطّي . وأنا كتبته، فقالوا له: كنت تدعي النبوة، فصرت تدعي الربوبية فقال: ما أدعي الربوبية ، ولكن هذا عين الجمع ، هل الفاعل إلا الله وأنا واليد آلة ، فقيل : هل معك أحد؟ قال: نعم، أبو العباس بن عطاء ، وأبو محمد الجريري، وأبو بكر الشّبلي، فأُحضر الجريري فسئل فقال: هذا كافر يُقْتَلُ. وسئل الشبلي فقال: من يقول هذا يمنع. وسئل ابن عطاء عن مقالة الحلاج فقال بمقالته فكان سبب قتله. )) ص 359 / 2 .
ولقد انكر الذهبي رحمه الله أنه قتل مع الحلاج ، ولكنه ذكر له قصصا يقشعر له البدن ، قال الذهبي في ترجمة الحلاج :(253/1)
(( وقال السُّلمي : حدثنا محمَّدُ بن عبد الله بن شاذان قال كان الوزير حين أُحضر الحلاَّجُ للقتل حامد بن العباس ، فأمره أن يكتبَ اعتقاده، فكتب اعتقاده، فعرضه الوزير على الفقهاء ببغداد، فأنكروه، فقيل لحامد : إن ابن عطاء يصوِّب قوله . فأمر به. فعُرض على ابن عطاء ، فقال : هذا اعتقادٌ صحيح ، ومَنْ لم يعتقد هذا فهو بلا اعتقاد . فأحضر إلى الوزير، فجاء ، وتصدَّر في المجلس، فغاظ الوزير ذلك ، ثم أُخرج ذلك الخط فقال : أتصوِّب هذا ؟ قال : نعم ، ما لك ولهذا ؟ عليكَ بما نُصِبتَ له من المُصادرة والظُّلم ، ما لك وللكلام في هؤلاء السَّادة ؟ فقال الوزير: فَكَّيْهِ. فضُرِبَ فكّاه ، فقال أبو العباس : اللهم إنك سلطت هذا علي عقوبة لدخولي عليه . فقال الوزير : خُفَّه يا غلام. فنزع خُفّه . فقال : دماغه. فما زال يضرب دماغه حتى سال الدم من مَنْخِرَيه. ثم قال : الحبس . فقيل : أيها الوزير ؟ يتشوش العامة . فحمل إلى منزله . )) ص 328 / 14 .
وقال أيضا : (( وروى أبو إسحاق البرمكي ، عن أبيه ، عن جده قال : حضرت بين يدي أبي الحسن بن بشار ، وعنده أبو العباس الأصبهاني ، فذاكره بقصة الحلاج ، وأنه لما قُتل كتب ابن عطاء إلى ابن الحلاج كتاباً يعزيه عن أبيه ، وقال : رحِمَ الله أباك ، ونسخ روحه في أطيب الأجساد . فدل هذا على أنه يقول بالتناسخ ، فوقع الكتاب في يد حامد ، فأحضر أبا العباس بن عطاء وقال : هذا خطك ؟ قال: نعم . قال : فإقرارك أعظم . قال : فشيخ يكذب ؟ فأمر به ، فصفع ، فقال أبو الحسن بن بشار : إني لأرجو أن يدخل الله حامد بن العباس الجنة بذلك الصفع . )) سير أعلام النبلاء ترجمة الحلاج ص 329 / 14 .(253/2)
وقال ابن كثير : ((أبو العباس بن عطاء أحد أئمة الصوفية: وهو أحمد بن محمد بن عطاء الآدمي. حدث عن يوسف بن موسى القطان، والمفضل بن زياد وغيرهما، وقد كان موافقاً للحلاج في بعض اعتقاده على ضلاله ، وكان أبو العباس هذا يقرأ في كل يوم وليلة ختمة ، فإذا كان شهر رمضان قرأ في كل يوم وليلة ثلاث ختمات ، وكان له ختمة يتدبرها ويتدبر معاني القرآن فيها. فمكث فيها سبع عشرة سنة ومات ولم يختمها، وهذا الرجل ممن كان اشتبه عليه أمر الحلاج وأظهر موافقته فعاقبه الوزير حامد بن العباس بالضرب البليغ على شدقيه، وأمر بنزع خفيه وضربه بهما على رأسه حتى سال الدم من منخريه ، ومات بعد سبعة أيام من ذلك ، وكان قد دعا على الوزير بأن تقطع يداه ورجلاه ويقتل شر قتلة. فما مات الوزير إلا كذلك. )) (البداية والنهاية ص 171 /11 )
وكان أبو العباس هذا ممن نشر علوم الاشارة كتبا ورسائل كما ذكر ذلك أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف على مذهب التصوف ص 12 .(253/3)
أبو بكر الشبلي
هو دلف بن جحدر الشبلي أبو بكر ، (247ـ334 هـ) بغدادي المولد والمنشأ ، وأصلة أسروشنه من بلاد ما وراء النهر ، صحب الجنيد ومن في عصره ، وتوفي ببغداد.
قال محمد بن الحسين أبو عبد الرحمن السلمي ، أحد كبار الصوفية ومؤلفيهم: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: كنت أنا والحسين بن منصور الحلاج ، شيئاً واحداً ، إلا أنه أظهر وكتمتُ. وقد روى عن الشبلي من وجه آخر أنه قال وقد رأى الحلاج مصلوباً: ألم أنهك عن العالمين.
(البداية والنهاية: 11ـ132) ، (سير أعلام النبلاء: 14ـ331) ، (شذرات الذهب: 2ـ256).(254/1)
أبو حامد الغزالي
هو محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي , ولد بطوس سنة خمسين وأربع مائة , وبدأ حياته العلمية فيها , ثم سافر إلى جرجان فاستمع إلى أبي نصر الإسماعيلي , وبعد عودته إلى طوس سافر إلى نيسابور ولازم إمام الحرمين , وجد واجتهد وبرع في مذهب الإمام الشافعي ومسائل الخلاف , وقرأ المنطق والجدل والحكمة والفلسفة , وأحكم ذلك كله , وصنف في كل فن من الفنون كتباً أحسن تأليفها وأجاد وضعها.
كان شديد الذكاء , بعيد الغور , غواصاً على المعاني الدقيقة.
ولما مات إمام الحرمين , اتصل بالوزير نظام الملك , الذي أعجب به , فولاه التدريس بمدرسته ببغداد فقدمها سنة (484 هـ) وأُعجب الخلق بحسن كلامه , وكمال فضله , وفصاحة ألفاظه , وإشاراته اللطيفة.
وأقام على التدريس مدة عظيم الجاه , عالي الرتبة , ثم شرُفت نفسه فعزفت عن الدنيا , فرفض ما فيها من الجاه , وترك كل ذلك وراء ظهره , فقصد بيت الله الحرام , فحج ثم توجه إلى الشام سنة (488 هـ) وجاور في بيت المقدس ثم عاد إلى دمشق , واعتكف في زاويته بالجامع الأموي , المعروفة بالغزالية نسبة إليه , حيث لبس الثياب الخشنة , وقلل طعامه , وأخذ في تصنيف الإحياء.
ثم رجع إلى بغداد وعقد مجلسا بالمدرسة النظامية , ثم تابع طريقه إلى طوس , واتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء ووزع أوقاته على وظائف ختم القرآن والتدريس وإدامة الصلاة والعبادة , إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى , يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة.
قال الذهبي رحمه الله: ((وأدخله سَيَلانُ ذهنهِ في مضايقِ الكلام، ومزالِّ الأقدام))
(سير أعلام النبلاء: 19ـ323).(255/1)
وقال الذهبي أيضاً: ((وقد ألّف الرجل في ذمِّ الفلاسفةِ كتابَ "التهافت"، وكَشَفَ عوارَهم، ووافقهم في مواضعَ ظنًّا منه أن ذلك حقٌّ أو موافقٌ للملَّةِ، ولم يكن له علمٌ بالآثار، ولا خبرةٌ بالسنَّةِ النبويَّةِ القاضيةِ على العقلِ، وحُبِّبَ إليه إدمانُ النظرِ في كتابِ "رسائل إخوان الصفا" ، وهو داءٌ عضالٌ، وجَربٌ مردٍ، وسمٌّ قتَّال، ولولا أنَّ أبا حامد مِن كبار الأذكياء، وخيار المخلصين لتلِف، فالحذار الحذار مِن هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شُبَه الأوائل وإلا وقعتم في الحيرة...)) (سير أعلام النبلاء: 19ـ328).
وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله: ((شيخُنا أبو حامد: بَلَعَ الفلاسفةَ، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع)) (سير أعلام النبلاء: 19ـ327).
مصنفاته:
مصنفات الغزالي كثيرة , منها:
في الفقه: البسيط , والوسيط , والوجيز , والخلاصة.
وفي الأصول: المنخول , والمستصفى الذي اختصره من كتابه : تهذيب الأصول.
وفي الفلسفة والمنطق والكلام: مقاصد الفلاسفة , وتهافت الفلاسفة , والمنقذ من الضلال , والاقتصاد في الاعتقاد , وفيصل التفرقة , وقواعد العقائد , والمقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى , ومعيار العلم , ومحك النظر , وإلجام العوام عن علم الكلام , وجواهر القرآن.
وفي التصوف والتربية والأخلاق: إحياء علوم الدين , ومنهج العابدين , وبداية الهداية , وميزان العمل , ومعراج السالكين , وأيها الولد.
وفي الفرق والأديان: فضائح الباطنية , وحجة الحق , ومفصل الخلاف .. وغير ذلك.
وسنقف بالكلام وباختصار حول كتاب إحياء علوم الدين.
إحياء علوم الدين:
يعد كتاب (إحياء علوم الدين) من أشهر كتب الغزالي , وقد أخذ مكانته في المكتبة الإسلامية , وفرض وجوده على مر الأيام , منذ ألفه مصنفه وحتى وقتنا الحاضر.(255/2)
وقد تضمن الكتاب مواعظ ورقائق، وكلام ينم عن فهم حقيقة الإنسان وتفكيره , وقواعد تربوية جميلة , وترتيب وتبويب متقن للكتاب , ولكنه حشاه بكثير من أباطيل الفلاسفة والمتصوفة، والآثار الموضوعة والضعيفة، وهذا يعود لغلو المؤلِّف في التصوف والفلسفة، وقلة علمه بالحديث والأثر وطريقة السلف.
ولقد أجمل الشيخ صالح الشامي الانتقادات على كتاب الإحياء في ثلاثة نقاط هي:
· حشو الكتاب بالأحاديث الضعيفة بل الموضوعة.
· ذكر أغاليط الصوفيه وترهاتهم , وبعض كلماتهم وحكاياتهم المجانبة للحق.
· خلط الكتاب ببعض المعارف الفلسفية.
ونذكر الآن نقطتين هامتين هما أقوال بعض العلماء المنصفين في كتاب الإحياء , وبعض النقولات لما حوى الكتاب من مخالفات.
قال القاضي عياض اليحصبي رحمه الله المتوفى سنة (544هـ): ((والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف الفظيعة غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصر مذاهبهم، وصار داعيةً في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أُخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمه ، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها، فامتُثل ذلك))
(سير أعلام النبلاء 327ـ19).
وقال ابن الجوزي رحمه الله المتوفى سنة (597 هـ): ((اعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة، وإنما نقلها كما اقتراها لا أنه افتراها ، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع والاغترار بلفظ مصنوع، وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام والليالي، وليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه وندب إلى العمل به ما لا حاصل له من الكلام في الفناء، والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد، إلى غير ذلك مما قد كشفت عن عواره في كتابي تلبيس إبليس))
(مختصر منهاج القاصدين: 16ـ17).(255/3)
وقال أيضاً: ((وجاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم - أي للصوفية - كتاب الإحياء على طريقة القوم، وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة، وخرج عن قانون الفقه، وجاء بأشياء من جنس كلام الباطنية)) (تلبيس إبليس: 217 بتصرف يسير).
وقال أيضاً: ((سبحان الله من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء فليته لم يقل فيه مثل هذا الذي لا يحل، والعجب منه أنه يحكيه ويستحسنه ويسمي أصحابه أرباب أحوال))
وقال أيضا: (( ..فما أرخص ما باع أبو حامد الغزالي الفقه بالتصوف..))
وقال الإمام الذهبي رحمه الله المتوفى سنة (748 هـ): ((أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء، ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علماً نافعاً، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً. فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النووي، وأذكاره تفلح وتنجح. وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله، اللهم اهدنا صراطك المستقيم))
(سير أعلام النبلاء:19ـ340).
وقام الملك علي بن يوسف بن تاشفين ملِك المرابطين، بإحراق كتاب الإحياء ، قال الذهبي: وكان شجاعاً مجاهداً عادلاً ديِّناً ورعاً صالحاً، معظماً للعلماء مشاوراً لهم)). اهـ
(سير أعلام النبلاء:20ـ124)
((وقد حرقه ـ أي كتاب الإحياء ـ علي بن يوسف بن تاشفين ، وكان ذلك بإجماع الفقهاء الذين كانو عنده)).
( المعيار المُعَرَّب: 12ـ185).(255/4)
وقال الإمام المازري رحمه الله المتوفى سنة (536 هـ): ((ثم يستحسنون ـ أي: بعض المالكيَّة ـ مِن رجلٍ ـ أي: الغزالي رحمه الله ـ فتاوى مبناها على ما لا حقيقةَ له، وفيه كثيرٌ مِن الآثار عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لفَّق فيه الثابت بغير الثابت، وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد مِن نزعاتِ الأولياءِ، ونفثاتِ الأصفياء ما يجلُّ موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار؛ كإطلاقاتٍ يحكيها عن بعضهم لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإِنْ أُخذتْ معانيها على ظواهرها: كانت كالرموز إلى قدح الملحدين..)).ا.هـ .
قال الذهبي رحمه الله: ولصاحب الترجمة - أي: المازري- تأليف في الرد على "الإحياء" وتبيين ما فيه مِن الواهي والتفلسف أنصف فيه، رحمه الله. اهـ
(سير أعلام النبلاء:20ـ107).
وقال محمد بن علي بن محمد بن حَمْدِين القرطبي رحمه الله المتوفى سنة ( 508هـ): ((إنَّ بعضَ من يعظ ممن كان ينتحل رسمَ الفقهِ ثم تبرأ منه شغفاً بالشِّرعةِ الغزّالية والنحلةِ الصوفيَّةِ أنشأ كرَّاسةً تشتمل على معنى التعصب لكتاب "أبي حامد" إمام بدعتهم. فأين هو مِن شُنَع مناكيرِه، ومضاليلِ أساطيِره المباينةِ للدين؟ وزعم أنَّ هذا مِن علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفةِ الواقعِ بهم على سرِّ الربوبيَّةِ الذي لا يسفر عن قناعه، ولا يفوز بإطلاعه إلا مَن تمطَّى إليه ثبج ضلالته التي رفع لها أعلامها، وشرع أحكامها )). (سير أعلام النبلاء: 19ـ332).
وممن انتقد الغزالي أيضاً الإمام ابن عقيل الحنبلي ، والذي قال فيه كلاماً لا أجيز نقله هنا.
(غاية الأماني: 2ـ369).(255/5)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله المتوفى سنة (774 هـ): ((وصنف في هذه المدة كتابه إحياء علوم الدين وهو كتاب عجيب يشتمل على علوم كثيرة من الشرعيات ، وممزوج بأشياء لطيفة من التصوف وأعمال القلوب ، لكن فيه أحاديث كثيرة غرائب ومنكرات وموضوعات ، كما يوجد في غيره من كتب الفروع التي يستدل بها على الحلال والحرام ، فالكتاب الموضوع للرقائق والترغيب والترهيب أسهل أمراً من غيره ، وقد شنع عليه أبو الفرج ابن الجوزي ثم ابن الصلاح في ذلك تشنيعاً كثيراً ، وأراد المازري أن يحرق كتابه إحياء علوم الدين ، وكذلك غيره من المغاربة ، وقالوا: هذا كتاب إحياء علوم دينه ، وأما ديننا فإحياء علومه كتاب الله وسنة رسوله ، كما قد حكيت ذلك في ترجمته في الطبقات ، وقد زيف ابن سكرة مواضع إحياء علوم الدين ، وبين زيفها في مصنف مفيد)).
(البداية والنهاية 12ـ174)
وقال الذهبي: ((ولأبي الحسن ابن سكرة رد على الغزالي في مجلد سماه: إحياء ميت الأحياء في الرد على كتاب الإحياء)).
(سير أعلام النبلاء: 19ـ327).
وروى راشد بن أبي راشد الوليدي المالكي ، المتوفي سنة (675 هـ) ، في كتابه الحلال والحرام ، أنه سمع الإمام عبد الله بن موسى الفشتالي المالكي يقول: ((لو وجدت تآليف القشيري لجمعتها وألقيتها بالبحر ، قال: وكذلك كتب الغزالي قال: وسمعته يقول: إني لأتمنى على الله أن أكون يوم الحشر مع أبي محمد بن أبي زيد ـ أي القيرواني ـ لا مع الغزالي)). (نيل الابتهاج بتطريز الديباج: 117)(255/6)
وقال الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي رحمه الله المتوفى سنة (520 هـ) في رسالة له إلى ابن المظفر ، يتكلم فيها عن الغزالي رحمه الله: ((...... ثم تصوَّف فهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاَّج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد ينسلخ من الدين، فلما عَمِل (الإحياء) عمد يتكلم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير دري بها ولا خبير بمعرفتها!! فسقط على أم رأسه، فلا في علماء المسلمين قر، ولا في أحوال الزاهدين استقر ، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم كتاباً على وجه البسيطة - في مبلغ علمي - أكثر كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، سبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل أخوان الصفا، وما مثل من قام لينصر دين الإسلام بمذاهب الفلاسفة، وآرائهم المنطقية، إلا كمن يغسل الماء بالبول ، ثم يسوق الكلام سوقاً، يرعد فيه ويبرق، يمني ويشوق حتى إذا تشوفت له النفوس، قال: "هذا من علم المعاملة، وما وراءه من علم المكاشفة، ولا يجوز تسطيره في كتاب"، أو يقول: "هذا من سر القدر الذي نهينا عن إفشائه"! ، وهذا فعل الباطنية، وأهل الدغل والدخل، وفيه تشويش للعقائد، وتوهين لما عليه كلمة الجماعة ، فإن كان الرجل يعتقد ما سطره في كتابه لم يبعد تكفيره، وإن كان لا يعتقده فما أقرب تضليله))
(المعيار المُعَرّب: 12ـ186)، وانظر: (تاريخ الإسلام للذهبي 122)، و (طبقات الشافعية الكبرى: 6ـ 243). (الرسائل 3/137).
أمثلة على بعض ما في كتاب الإحياء من الأخطاء:(255/7)
قال الغزَّالي غفر الله له: ((قال أبو تراب النخشبي يوماً لبعض مريديه: لو رأيتَ أبا يزيدٍ -(أي: البسطامي)- فقال: إني عنه مشغولٌ، فلمَّا أكثر عليه "أبو تراب" مِن قوله "لو رأيتَ أبا يزيد" هاج وجد المريد، فقال: ويحك، ما أصنع بأبي يزيد؟ قد رأيتُ الله فأغناني عن أبي يزيد!! قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي، فقلتُ: ويلك تغترُّ بالله، لو رأيتَ أبا يزيد مرةً واحدةً كان أنفعَ لك مِن أن ترى الله سبعين مرَّةً! قال: فبُهتَ الفتى من قوله وأنكره، فقال: وكيف ذلك؟ قال له: ويلك أما ترى الله عندك فيظهر لك على مقدارك، وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره)) (الإحياء:4ـ305).
وقال غفر الله له: ((فاعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه: الوجه الأول: أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه ..... )).(الإحياء: 2ـ298)
وقال غفر الله له: ((فإذا القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى ، فإن البيت ـ يعني من الشعر ـ الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن ، وذلك لوزن الشعر ومشاكلته للطباع)).(الإحياء: 2ـ301)
وقال غفر الله له: ((قال "سهل التستري": إن لله عباداً في هذه البلدةِ لو دَعَوْا على الظالمين لم يُصبحْ على وجهِ الأرضِ ظالم إلا مات في ليلةٍ واحدةٍ... حتى قال: ولو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمْها!))
وعلَّق على هذا الغزالي فقال: ((وهذه أمورٌ ممكنةٌ في نفسِها، فمَن لم يحظَ بشيءٍ منها؛ فلا ينبغي أنْ يخلو عن التصديق والإيمان بإمكانها، فإنَّ القدرةَ واسعةٌ، والفضلَ عميمٌ، وعجائبَ الملك والملكوت كثيرةٌ، ومقدورات الله تعالى لا نهاية لها، وفضله على عباده الذين اصطفى لا غاية له!)) (الإحياء: 4ـ305).(255/8)
وقال غفر الله له: ((قال سهل بن عبد الله التستري وسُئل عن سرِّ النفسِ؟ فقال: النفسُ سرُّ الله، ما ظهر ذلك السرُّ على أحدٍ مِن خلقِهِ إلا على فرعون! فقال: أنا ربُّكم الأعلى!)). (الإحياء: 4ـ61).
وأورد الغزالي غفر الله له في الإحياء ، المجلد الثالث ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قصة مراسلات بين الخليفة هارون الرشيد وسفيان الثوري ، وما فيها من مواعظ وقصص وكذب، وخفي عليه وهو القريب من زمانهما ، أن الثوري مات قبل خلافة هارون الرشيد بعشر سنوات ، مما يظهر بعده أيضاً عن التحقق ، وقبوله لأي شيء يرد.
وقال غفر الله له: ((قال الجنيد: أُحبُّ للمريدِ المبتدئ أنْ لا يَشغلَ قلبَه بثلاثٍ، وإلا تغيَّر حاله! التكسُّب وطلب الحديث والتزوج. وقال -أي: الجنيد -: أُحبُّ للصوفي أن لا يكتبَ ولا يقرأَ، لأنه أجمع لهمِّه)) (الإحياء: 4ـ206).
وقال غفر الله له: ((… وعن بعضهم أنه قال: أقلقني الشوقُ إلى "الخضر" عليه السلام، فسألتُ الله تعالى أن يريَني إياه ليعلِّمَني شيئاً كان أهمَّ الأشياءِ عليَّ، قال: فرأيتُه فما غلبَ على همي ولا همتي إلا أنْ قلتُ له: يا أبا العباس! علِّمْني شيئاً إذا قلتُه حُجبْتُ عن قلوبِ الخليقةِ، فلم يكن لي فيها قدْرٌ، ولا يعرفني أحدٌ بصلاحٍ ولا ديانةٍ؟، فقال: قل " اللهمَّ أَسبِل عليَّ كثيف سترك، وحطَّ عليَّ سرادقات حجبك، واجعلني في مكنون غيبك، واحجبني عن قلوب خلقك " قال: ثم غاب فلم أره، ولم أشتقْ إليه بعد ذلك، فما زلتُ أقول هذه الكلمات في كلِّ يومٍ، فحكى أنَّه صار بحيث يُستذلُ ويُمتهنُ، حتى كان أهلُ الذمَّةِ يسخرون به، ويستسخرونه في الطرق يحمل الأشياء لهم لسقوطه عندهم، وكان الصبيانُ يلعبون به، فكانت راحته ركود قلبه، واستقامة حاله في ذلك وخموله.))
وعلَّق الغزالي فقال: ((وهكذا حال أولياء الله تعالى ففي أمثال هؤلاء ينبغي أن يطلبوا.)).
(الإحياء: 4ـ306).(255/9)
وقال غفر الله له: ((ومنهم من تأتي الكعبة إليه وتطوف هي به وتزوره)) (الإحياء 1ـ269).
وقال غفر الله له: ((وكان أبو يزيد وغيره يقول: ليس العالِم الذي يحفظ من كتاب، فإذا نسي ما حفظه صار جاهلاً، إنما العالِم الذي يأخذ علمَهُ من ربِّه أيّ وقتٍ شاء بلا حفظٍ ولا درسٍ!)) (الإحياء: 3ـ24).
وقال غفر الله له: ونسأل الله أن يغفر لنا نقلنا هذا , لما فيه من اتهام الله بالظلم تعالى ربنا له الأسماء الحسنى والصفات العلا- ((قرَّبَ الملائكةَ مِن غيرِ وسيلةٍ سابقةٍ، وأبعدَ إبليسَ مِن غيرِ جريمةٍ سالفةٍ!)) (الإحياء: 4ـ168).(255/10)
أبو طالب بالمكي
محمد بن على بن عطية أبو طالب المعروف بالمكي ، قال الخطيب البغدادي: صنف كتاباً سماه: قوت القلوب. على لسان الصوفية ، ذكر فيه أشياء منكرة مستشنعة ، قال لي أبو طاهر محمد بن على بن العلاف: كان أبو طالب المكي من أهل الجبل ونشأ بمكة ، ودخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن بن سالم فانتمى إلى مقالته ، وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ فخلط في كلامه ، وحُفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوقين أضر من الخالق. فبدعه الناس وهجروه وامتنع المكي من الوعظ.
(تاريخ بغداد 3ـ89).
ونقل كلام الخطيب مقراً له الحافظُ ابن حجر في كتابه "لسان الميزان" وقال: ذكره النديم في مصنفي المعتزلة. توفى في جمادى الآخرة من سنة ست وثمانين وثلاثمائة.
(لسان الميزان: 5ـ300)
وقال أبو عبد الله محمد بن مفلح المقدسي: ((رأيت أكثر العباد على غير الجادة فمنهم من صح قصده ، ولا ينظرون في سيرة الرسول وأصحابه ولا في أخلاق الأئمة المقتدى بهم ، بل قد وضع جماعة من الناس لهم كتباً فيه رقائق قبيحة ، وأحاديث غير صحيحة ، وواقعات تخالف الشريعة ، مثل كتب الحارث المحاسبي ، وأبي عبد الله الحكيم الترمذي ، وأبي طالب المكي)).
(الفروع: 6 ـ381).
وقال الحافظ ابن الجوزي: ((وصنف لهم ـ أي للصوفية ـ أبو طالب المكي قوت القلوب فذكر فيه الأحاديث الباطلة ومالا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع وذكر فيه الاعتقاد الفاسد. وردد فيه قول - قال بعض المكاشفين- وهذا كلام فارغ ، وذكر فيه عن بعض الصوفية أن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه.
(تلبيس إبليس: 245).
قلت: يعد كتاب قوت القلوب من أهم كتب الصوفية ، وهو الكتاب الذي أكثر الغزالي عنه النقل في كتابه الإحياء فوقع بسببه برواية الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنها: الأحاديث الموضوعة في فضل الصلاة والصيام والقيام في كل يوم من أيام الأسبوع.(/1)
أبو عبد الرحمن السلمي
أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى بن خالد بن سالم بن زاوية بن سعيد بن قبيصة بن سراق , الأزدي.
قال الإمام الذهبي: شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم , تُكلُّم فيه , وليس بعمدة, قال الخطيب: قال لي محمد بن يوسف القطان: كان يضع الأحاديث للصوفية .
له الكثير من المصنفات منها: حقائق التفسير ، وطبقات الصوفية وغيرها.
وفي الجملة ففي تصانيفه أحاديث وحكايات موضوعة ، وفي حقائق تفسيره أشياء لا تسوغ أصلاً عدها بعض الأئمة من زندقة الباطنية ، وعدها بعضهم عرفاناً وحقيقة ، نعوذ بالله من الضلال ومن الكلام بهوى ، فإن الخير كل الخير في متابعة السنة ، والتمسك بهدي الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
ولد سنة ثلاثين وثلاثمائة ، وتوفي في شعبان سنة اثنتي عشر وأربعمائة.
(سير أعلام النبلاء: 17ـ 247). (ميزان الاعتدال: 6ـ118).
وقال الإمام المفسر أبو الحسن الواحدي: ((صنف أبو عبد الرحمن السلمي ، حقائق التفسير، ـ وهو تفسير على الطريقة الصوفية بما يعرف بالتفسير الإشاري ـ فإن كان يعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر)). (فتاوى ابن الصلاح: صفحة 29).
حتى إن السيوطي الصوفي لم يستطع تحمل ما في تفسير أبي عبد الرحمن السلمي فقال بعد أن أورد السلمي في كتابه طبقات المفسرين ضمن من صنف في التفسير من المبتدعة: ((وإنما أوردته في هذا القسم لأن تفسيره غير محمود)). (طبقات المفسرين: 31).
وكذلك اعتمد المناوي رميه بالوضع ، عند تخريج أحاديثه ، كما في كتاب "فيض القدير" شرح الجامع الصغير. انظر منه (1ـ560) و (6ـ22).(/1)
أبو مدين الأندلسي
جاء في حاشية كتاب (الديباج المذهّب) للشيخ أحمد بن أحمد المعروف ببابا التنبكتي
صفحة: 127 في ترجمة الشيخ أبو مدين شعيب بن الحسن الأندلسي: كان له مجلس وعظٍ يتكلّم فيه على الناس و تمر به الطيور وهو يتكلّم فتقف تسمع و ربّما مات بعضها ، وكثيراً ما يموت بمجلسه أهل الحبّ .
ثم روى عن أبي مدين أنه قال: ...... وبقيت مدّة وأخبار (أبي يعزى) تَرِدُ عليَّ وكراماته يتداولها الناس فملأ قلبي حبّه فقصدته مع الفقراء فلما وصلنا إليه أقبل عليهم دوني ، وإذا حضر الطعام منعني من الأكل معهم ، فبقيت ثلاثة أيام فأجهدني الجوع وتحيّرت من خواطر ترِدُ عليَّ وقلت في نفسي: إذا قام الشيخ من موضعه مرّغتُ فيه وجهي ، فلمّا قام مرّغْتُهُ فإذا أنا لا أبصر شيئاً ، فبكيت ليلتي ، فلمّا أصبح دعاني وقرَّبني فقلت: يا سيدي قد عميت ، فمسح بيده على عيني فبصرت ، ثم على صدري فزالت عني تلك الخواطر ، وفقدت ألم الجوع ، وشاهدت في الوقت في الوقت عجائب بركاته ، ثم استأذنته في الانصراف للحج فأذن لي وقال: ستلقى في طريقك الأسد فلا يَرُعْكَ ، فإن غلب عليك خوفه فقل له: بحرمة آل النور إلا انصرفتَ عني ، فكان الأمر كما قال.
وعن بعض الأولياء قال: رأيت في النوم قائلاً يقول: قل لأبي مدين بثّ العلم ولا تبالِ ترتَعْ غداً مع العوالي ، فإنّك في مقام آدم أبي الذراري ، فقصصتها عليه فقال لي: عزمتُ على الخروج للجبال والفيافي وأبعُدَ عن العمران ، ورؤياك هذه تأمرني بالجلوس وترك العزم .... .
وعن العارف عبد الرحيم المغربي قال: سمعت أبا مدين يقول: أوقفني ربي عزّ وجل بين يديه ، وقال لي: يا شعيب ماذا عن يمينك؟ فقلت: يارب عطاؤك. قال: وماذا عن شمالك؟ قلت: يارب قضاؤك. قال: يا شُعيب قد ضاعفت لك هذا وغفرت لك هذا ، فطوبى لمن رآك أو رأى من رآك.(/1)
وعن أبي العباس المرسي قال: جُلْتُ في الملكوت فرأيت سيدي أبا مدين متعلّقاً بساق العرش وهو يومئذٍ رجل أشقر أزرق ، فقلت له: وما علومك وما مقامك؟ فقال: علومي أحدٌ وسبعون علماً ، ومقامي رابع الخلفاء ، ورأس السبعة الأبدال ، وسُئل عما خصه الله به فقال: مقامي العبودية، وعلومي الألوهية ، وصفاتي مستمدة من الصفات الربّانيّة ؛ ملأت عظمته سري وجهري وأضاء بنوره بري و بحري ....(/2)
أبو يزيد البسطامي
هو طيفور بن عيسى بن آدم بن شروسان ، ولد في بسطام من أصل مجوسي ، نسبت إليه أقوال شنيعة , توفي سنة (261هـ) ولم يعرف عنه التأليف.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ((وقد حُكي عنه شطحاتٌ ناقصاتٌ، وقد تأوَّلها كثيرٌ من الفقهاء والصوفية، وحملوها على محاملَ بعيدةٍ، وقد قال بعضُهم إنَّه قال ذلك في حال الاصطلام- الاصطلام: القطع عن الوجود أو الفناء- والغيبة. ومن العلماء مَن بدّعه وخطّأه وجعل ذلك من أكبر البدع، وأنَّها تدلُّ على اعتقادٍ فاسدٍ كامِنٍ في القلب ظهر في أوقاته))
(البداية والنهاية: 11ـ38)
وقال الإمام الذهبي: ((نعوذ بالله من الإشارات الحلاجية ، والشطحات البسطامية ، وتصوف الاتحادية ، فواحزناه على غربة الإسلام والسنة))
(سير أعلام النبلاء 13ـ 442)
ومن أقوال أبي يزيد:
قوله ناعياً على علماء الشريعة مفاخراً لهم: ((أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون: حدثني فلان، وأين هو؟ قالوا: مات، عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات))
(الفتوحات المكية ج1-ص365 ، والمواهب السرمدية صفحة 49 , والأنوار القدسية 99 , وطبقات الشعراني 1ـ5 , وتلبيس إبليس صفحة 344, والرحمة الهابطة صفحة 309)
ويقول أبو يزيد البسطامي: ((خُضنا ـ أي نحن الأولياء ـ بحوراً وقفت الأنبياء بسواحلها)).
(الإبريز: 2ـ212)
ويقول أيضاً: ((تالله إن لوائي أعظم من لواء محمد صلى الله عليه وسلم، لوائي من نور تحته الجن والإنس كلهم من النبيين)). (الإنسان الكامل للجيلي: 16)
وقال الغزالي غفر الله له: ((وكان أبو يزيد وغيره يقول: ليس العالِم الذي يحفظ من كتاب، فإذا نسي ما حفظه صار جاهلاً، إنما العالِم الذي يأخذ علمَهُ من ربِّه أيّ وقتٍ شاء بلا حفظٍ ولا درسٍ!)) (الإحياء: 3ـ24)(/1)
ويحدثنا عنه أبو حامد الغزالي فيقول: ((حُكي أن شاهداً عظيم القدر من أعيان أهل (بسطام) كان لا يفارق مجلس أبي يزيد البسطامي فقال يوماً: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر ولا أفطر، وأقوم ولا أنام، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئاً، وأنا أصدق به وأحبه!
فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلاثمائة سنة، وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة!! قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك. قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم. قال: قل لي حتى أعمله. قال: لا تقبله. قال: فاذكره لي حتى أعمل. قال: اذهب إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس، واتزر بعباءة، وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك، وقل.. كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق، وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك، وأنت على ذلك!!
فقال الرجل: سبحان الله، تقول لي مثل هذا؟ فقال أبو يزيد: قولك.. "سبحان الله" شرك!! قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك، فسبحتها، وما سبحت ربك. فقال: هذا لا أفعله، ولكن دلني على غيره. فقال ابتدئ بهذا قبل كل شيء. فقال: لا أطيقه. فقال: قد قلت لك.. إنك لا تقبل..!))
(إحياء علوم الدين 4 ـ 358)
ويذكر البسطامي كذلك عن نفسه ما يأتي: ((رفعني مرة فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبا يزيد! إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زيني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنا))
(اللمع: صفحة461)(/2)
وحكى القشيري في ترجمة أبي يزيد البسطامي ((وسئل عند ابتدائه وزهد , فقال: ليس للزهد منزلة , فقيل له: لماذا ؟ فقال: لأني كنت خلال ثلاثة أيام في الزهد , فلما كان اليوم الرابع خرجت منه , ففي اليوم الأول زهدت في الدنيا وما فيها , وفي اليوم الثاني زهدت في الآخرة وما فيها , وفي اليوم الثالث زهدت فيما سوى الله تعلى , فيما كان اليوم الرابع لم يبق لي سوى الله تعالى فَهِمْتُ , فسمعت قائلا يقول: يا أبا يزيد لا تقو معنا , فقلت: هذا الذي أريد , فسمعت قائلا يقول: وجدت وجدت))
(الرسالة القشيرية صفحة 395)
قال أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه المحن: ((وأنكر أهل بسطام على أبي يزيد البسطامي ما كان يقول حتى إنه ذكر للحسين بن عيسى أنه يقول: لي معراج كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم معراج فأخرجوه من بسطام، وأقام بمكة سنتين ثم رجع إلى جرجان فأقام بها إلى أن مات الحسين بن عيسى ثم رجع إلى بسطام))
وقال القشيري: ((قيل لأبي يزيد: ما أشد ما لقيت في سبيل الله.؟ فقال: لا يمكن وصفه , فقيل له: ما أهون ما لقيت نفسك منك.؟ قال: أما هذا فنعم , دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجبني فمنعتها الماء سنة))
(الرسالة القشيرية صفحة 395)
وكان يوماً يرتدي جبة ففتحها وقال: ((سبحاني ما أعظم شاني ، ما في الجبة إلا الله))
(شذرات الذهب 2ـ142 ، وفيض القدير 1ـ456)
ونقل ابن الجوزي عن أبي يزيد أنه قال: ((إن لله عباداً لو بصقوا على جهنم لأطفؤوها ولقد وددت أن قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم , فسأله رجل: و لم ذاك يا أبا يزيد ؟ فقال: إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد فأكون رحمة الله للخلق)) ثم قال: ((اللهم إن كان في سابق علمك أن تعذب أحداً من خلقك بالنار فعظم خلقي حتى لا تسع معي غيري)) وقال: ((وما النار.؟ والله لئن رأيتها لأطفئنها بطرف مرقعتي))
( تلبيس إبليس 341 ـ343 ـ346)
بعض شطحات أبي يزيد البسطامي ( نسأل الله السلامة )(/3)
أعلم أخي الكريم أن الإنسان مآخذ بما يقول وأن ما يقوله المرء يسجل عليه في صحائفهم فقد قال الله تعالى : ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( 17 ) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( 18 ) ق ، وقال أيضاً : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ( 10 ) كِرَاماً كَاتِبِينَ ( 11 ) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( 12 ) الإنفطار . وربما دخل الجنة أو النار بمجرد القول ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة )) . رواه البخاري ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم )) ، رواه الترمذي وابن ماجه . وربما تكون الكلمة لا يلقي لها بالاً فتدخله الجنة أو النار ، وذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفع الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوى بها في جهنم )) رواه البخاري .(/4)
وبعد هذه المقدمات أقول : لقد عرف شيء عند الصوفية أسمه الشطح ،، وهذا شطح هو الكفر بعينه ، وسوف أعرض بعض هذه الشطحات التي ينسبها الصوفية لأبي يزيد البسطامي ، وهذه الشطحات مأخوذة من كتاب ( أبو يزيد البسطامي المجموعة الصوفية الكاملة ) تأليف الاستاذ قاسم محمد عباس ، ولقد قام المؤلف بجمع أقوال أبي يزيد البسطامي من الكتب الصوفية ولا سيما المخطوطات قال المؤلف : " حاولنا في هذا الكتاب أن نجمع كلمات البسطامي التي تشكل في صيغتها النهائية كل ما وصل إلينا من تراث البسطامي ، ووجدنا أن نعتمد على نسخ المخطوطات أكثر مما نعتمد على النسخ المطبوعة الأمر الذي وفر لنا الاطلاع على نسخ عديدة للمقابلة بهدف الوصول النص المتكامل ، وكان هدفنا توفير كتاب يجمع آثار البسطامي " ص 35 .
والآن سوف أعرض بعض كلمات أبي يزيد البسطامي بالشطح ،، ولا تتعجبوا من الذي يقول بالشطح ، ولكن تعجبوا من الذي يأوَّل الشطح !! وهذه الكلمات لا تحتاج إلى تفسير بل هي واضحة وضوح الشمس .
وهذه بعض أقول أبي يزيد البسطامي :
1. أراد موسى عليه السلام أن يرى الله تعالى ، وأنا ما أردت أن أرى الله ، هو أراد أن يراني . ص 45 .
2. أسألك ألا تحجب الخلق بك عنك، وتحجبهم عنك بي ، إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون . ص 45 .
3. أشرف الحق على أسرار العالم فشاهدها خاليةً منه غير سري فإنه رأى منه ملاءً فخاطبني معظِّماً لي بأن قال : كل العالم عبيدي غيرك . ص 45 .
4. إلى كم بيني وبينك هذه الأنانية ؟ أسألك أن تمحو أنانيتي عنِّي ، حتى تكون أنانيتي أنت ، فتبقى وحدك ، ولا ترى إلا وحدك يا عزيز ، فاستجاب دعائي غير أنه هيَّجني . ص 46 .
5. إن كنت تحب أنانتك لي ، فإني قد وهبت أنانتي لك ، فافعل ما تريد .
6. أنا ربي الأعلى . ص 47 .
7. أنا لا أنا أنا أنا ؛ لأني أنا هو ، وأنا هو هو . ص 47 .
8. بطشي أشد من بطشه بي . ص 48 .(/5)
9. تالله إن لوائي أعظم من لواء محمد صلعم ، لوائي من نور تحته الجان والجن والإنس كلهم من النبيين . ص 48 .
10. خرجت من الحق إلى الحق حتى صاح منّي فيّ : يا من أنت أنا فقد تحققت بمقام الفناء بالله تعالى . ص 49 .
11. خضت بحراً وقف الأنبياء بساحله . ص 49 .
12. سبحاني ما عظم شأني ، حسبي من نفسي حسبي . ص 49 .
13. طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك . ص 49 .
14. لئن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة . ص 52 .
15. مرّ البسطامي على مقابر اليهود فقال : ما هؤلاء حتى تعذّبهم ؟ كُفَّ ، عظامٌ جَرَت عليهم القضايا ، اعفُ عنهم . ص 54 .
16. مرَّ بمقبرة اليهود فقال : معذورون ومر بمقبرة المسلمين فقال : مغرورون . ص 54 .
17. مرَّ ويحك ، فليس بالدار غير الله . ص 54 .
وبعد عرض هذه الكلمات التي لو مزجت بماء البحر لأفسدته ، ولكان نخاطب إخواننا الصوفية المنصفين الذين لا تأخذهم بالله لومة لائم ونقول لهم :
هل يقول هذا الكلام رجل من المسلمين ؟؟؟
هل الذي تنتقدونه على ابن تيمية وابن القيم أعظم من هذا الكلام ، فهل هم ادعيا أنهما الله عز وجل أو حلا فيه ؟؟؟
فهذه دعوى من أبي عثمان لإخوانه الصوفية ليتأملوا تراثهم هل هو موافق للشريعة ، هل يجدون في تراثهم أقوال للصحابة والتابعين لهم تشبه ما يقوله البسطامي وأقطاب الصوفية ؟؟؟
تأملوا بارك الله فيكم .(/6)
أحمد البدوي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، ومن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده رسوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ، { خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } ، { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } .
أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
أحمد البدوي تلك الشخصية التي يعظمها طائفة من المسلمين حتى انزلوها منزلة عالية فجعلوها ملجئهم في الشدائد والكربات فإذا وقع أحدهم في ضائقة أو كربة قال : يا بدوي مدد مدد ، يا بدوي أغثني ، يا بدوي أدركني ، ولا أريد في هذه الوريقات أن أناقش قضية صرف عبادة الاستغاثة بالله عز وجل للبدوي ، ولكن أريد أن أعرّف بهذه الشخصية من منظور محبيه المعظمين له من خلال ما كتبوه في سيرة والتطورات التي مرت بها سيرته حتى أصبح شخصية البدوي تلك الشخصية الأسطورية التي ربما لا توجد إلا في حكايات ألف ليلة وليلة كما ستعرف إن شاء الله في هذه الوريقات فنبدأ في هذا البحث فنقول :
من هو أحمد البدوي
هو أبو الفتيان أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر المقدسي الأصل البدوي المعروف بأبي اللثامين السطوحي .(/1)
ولد البدوي سنة 596 ، وتوفى في ربيع الأول سنة 675 .
وأول من ترجم للبدوي – على حد اطلاعي – هو ابن الملقن المولود سنة 723 هجري ، والمتوفى سنة 804 هجري فقال : (( الشيخ احمد البدوي، المعروف بالسطوحي، اصله من بني برى، قبيلة من عرب الشام. تسلك بالشيخ برى، أحد تلامذة الشيخ أبي نعيم أحد مشايخ العراق، وأحد أصحاب سيدي احمد بن الرفاعي.)) [ طبقات الأولياء ص 289 – 290 ] .
ونلاحظ أن على الرغم من قرب عصر ابن الملقن لعصر البدوي إلا أنه لم يذكر في ترجمته شيء مميز غير أنه تسلك بالشيخ بري الذي هو من أصحاب الشيخ أحمد الرفاعي ، ونلاحظ أيضا أنه نسبه على قبيلة بن بري من عرب الشام .
ثم ترجم له جلال الدين الاتابكي المولود في سنة 813 هجري ، والمتوفى سنة 874 هجري في كتابه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة فقال : (( وفيها توفي الشيخ المعتقد الصالح أبو الفتيان أحمد بن علي بن إبراهيم [ بن محمد ] بن أبي بكر المقدسي الأصل البدوي المعروف بأبي اللثامين السطوحي. مولده سنة ست وتسعين وخمسمائة، وتوفي في سنة خمس وسبعين في شهر ربيع الأول، ودفن بطندتا وقبره يقصد للزيارة هناك، وكان من الأولياء المشهورين، وسمي بأبي اللثامين لملازمته اللثامين صيفاً وشتاء، وكان له كرامات ومناقب جمة، رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته )) [ ص 252 – 253 / 7 ] .
فنلاحظ أيضا في الترجمة التي ذكرها الاتابكي أنه لا يوجد فيها شيء مميز غير الزيادة التي ذكرها أنه قبره يزار ويقصد ، وأنه كان له كرامات ، فنستخلص أن على نهاية القرن التاسع الهجري بدأ الغلو بأحمد البدوي في القرن التاسع وفي التحديد في نهاية أي بعد قرنين من الزمان تقريبا بعد وفاته ، وسوف نرى إلى أي مدى وصل هذا الغلو .(/2)
ثم ترجم له شيخ الصوفية عبد الوهاب الشعراني المولود في سنة 898 هجري ، والمتوفى سنة 973 هجري في كتابه الطبقات الكبرى فقال : (( منهم السيد الحسيب النسيب أبو العباس سيدي أحمد البدوي الشريف رضي الله تعالى عنه وشهرته في جميع أقطار الأرض تغني عن تعريفه، ولكن نذكر جملة من أحواله تبركاً به فنقول: وبالله التوفيق: مولده رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينة فاس بالمغرب لأن أجداده انتقلوا أيام الحجاج إليها حين أكثر القتل في الشرفاء )) [ ص 258 ] .
والآن نجد أن الشعراني في القرن العاشر الهجري أي بعد ثلاثة قرون من وفاة البدوي ينسبه إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويقول أن أجداده هاجروا إلى المغرب لأن الحجاج أكثر من قتل الشرفاء ، ومن المعلوم أن الحجاج كان واليا على العراق ومن ثم على العراق وخرسان ، بينما ابن الملقن والاتابكي قالا أنه من قبيل من عرب الشام وقال الاتابكي المقدسي أي إلى بيت المقدس ، وهذا يدل على أنه من أهل القدس ، والحجاج لم يسلط على أهل الشام ، فنستخلص من فعل الشعراني هذا أن من غلو المتصوف بالبدوي أنهم نسبوه إلى آل البيت هذا ديدن عند المتصوف فإذا اعتقدوا بأحد صيروه من آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يزيدوا من قدسية هذا الولي ، يشنعون على المنكر أنه يطع بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم .
نواصل ذكر نسب البدوي من كتب المتصوفة قال المنياوي المولود 952 هجري ، والمتوفى سنة 1031 هجري في كتابه الكواكب الدرية : (( أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر البدوي ، الشريف الحسيب النسيب . أصله من بني بري ، قبيلة من عرب الشام ، ثم سكن والده المغرب فولد له صاحب الترجمة بفاس .. الخ )) [ ص 62 / 2 ] . فنلاحظ أن المنياوي أنه جمع بين القولين فكيف ذالك ؟؟!!(/3)
قال ابن العماد المولد سنة 1032 هجري ، والمتوفى سنة 1089 هجري في كتابه شذرات الذهب : (( وفيها السيد الجليل الشيخ أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر البدوي الشريف الحسيب النسيب )) ثم ذكر قول المنياوي عبد الرءوف [ ص 602 / 7 ] . فنلاحظ أن ابن العماد جزم بنسبته إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو علي الكوهن الفاسي المغربي المتوفى سنة 1347 هجري في كتابه طبقات الشاذلية الكبرى : (( أبو العباس سيدي أحمد البدوي ، فارس الأولياء بالديار المصرية والجزائر القبرصية ، المعروف بالأستاذ أبي الفتيان الحسيني النسب الطاهر الحسب ، العلوي الملثم ، المعتقد المعروف المشهور بالبدوي لكثرة ما كان يتلثم )) [ ص 66 ] .
ونجد أن الفاسي هذا ذكر فائدة جديدة لم يذكرها أحد قبله وهي أنه البدوي حسيني أي ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ففي القرن الثامن كان البدوي من قبيلة بني بري ن قبيلة من عرب الشام ، وفي القران الرابع عشر الهجري صار البدوي حسينيا من ذرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وحتى يثبتوا نسب البدوي لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم اخترعوا قصة مخاطبه للنبي صلى الله عليه وسلم بالشعر ورد النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر قال الكوهن الفاسي في طبقات الشاذلية الكبرى : (( وحج وزار جده صلى الله عليه وسلم ، ولما وقف تجاه الروضة المطهرة أنشأ يقول :
إن قيل زرتم بما رجعتم ** يا أكرم الرسل ما نقول
فرد عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم بحضرة الشهود :
قولوا رجعنا بكل خيرا ** واجتمع الفرع بالأصول
إلى آخر القصيدة المعروفة المتداولة بين المتصوفة )) [ ص 67 ] .(/4)
فالشاهد افترائهم على النبي صلى الله عليه وسلم : (( واجتمع الفرع بالأصول )) ، والله سبحانه وتعالى يقول : (( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ )) [يس : 69] ، والصوفية يجعلون النبي صلى الله عليه وسلم يقول الشعر ليثبتوا نسب البدوي لآل البيت الكرام .
بقيت نقطة مهمة في هذا المبحث و هي أن المؤرخين الذين هم أقرب عهدا من هؤلاء لم يذكروا البدوي الأسطورة فهذا الإمام الذهبي المتوفى سنة 748 لم يذكره في كتبه مثل تاريخ الإسلام والعبر ، ، وكذلك ابن الوردي المتوفى سنة 749 هجري لم يذكره في تاريخه وهو يذكر بعض الأعيان في نهاية كل سنة ، وكذلك ابن كثير المتوفى سنة 774 هجري لم يذكره في تاريخ البداية والنهاية ، وهو يذكر وفيات المشاهير في نهاية كل سنة ، وكذلك الملك المؤيد أبو الفداء المتوفى سنة 732 هجري لم يذكره في تاريخ المسمى المختصر في أخبار البشر .
فهذا يدل على أحد أمرين ، فالأول أن البدوي لم يكن من المشاهير ، ولم تعرف عنه تلك الحكايات والأساطير التي يحكيها المتصوفة عنه فكان مجرد رجل عادي من عامة المسلمين أو أنه على أقل تقدير أنه أحد الصالحين الأتقياء الأخفياء ولم يظهر في حياته ما يجعل له صيت عال فلم يعرفه مؤرخو الإسلام وهم الأقرب إلى عصره ، وعرفه متأخري الصوفية .
أما الاحتمال الآخر فهو أنه لم يكن في ذلك الزمان رجل أسمه أحمد البدوي ، وإنما هذه أسطورة من اختراع الصوفية أو المنتفعين من سدان الأضرحة ، والله تعالى أعلم .
وبعد ما بينّا نسبه وكيف تطور عند محبيه من المتصوفة ووضعه في كتب المؤرخين الأقرب إلى عصره نذكر سيرته كما جاء في كتب محبيه من المتصوفة .
وقبل الشروع في سيرته نذكر ألقاب البدوي ، فمن ألقابه البدوي ولذلك لكثرة ما يتلثم ، ومن ألقابهم السطوحية لأنه سكن السطوح ، وكذلك من ألقابه العطاب ، ولذلك لكثرة ما عطب من يؤذيه .(/5)
والآن نبدأ سيرته قال عبد الوهاب الشعراني : (( ولده رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينة فاس بالمغرب لأن أجداده انتقلوا أيام الحجاج إليها حين أكثر القتل في الشرفاء فلما بلغ سبع سنين سمع أبوه قائلا يقول: له في منامه يا علي انتقل من هذه البلاد إلى مكة المشرفة فإن لنا في ذلك شأناً، وكان ذلك سنة ثلاث، وستمائة قال: الشريف حسن أخو سيدي أحمد رضي الله عنه فما زلنا ننزل على عرب ونرحل عن عرب فيتلقوننا بالترحيب، والإكرام حتى وصلنا إلى مكة المشرفة في أربع سنين فتلقانا شرفاء مكة كلهم، وأكرمونا، ومكثنا عندهم في أرغد عيش حتى توفي والدنا سنة سبع، وعشرين وستمائة، ودفن بباب المعلاة، وقبره هناك ظاهر يزار في زاوية قال: الشريف حسن فأقمت أنا، وأخوتي وكان أحمد أصغرنا سناً، وأشجعنا قلباً.
كان من كثرة ما يتلثم لقبناه بالبدوي فأقرأته القرآن في المكتب مع ولدي الحسين، ولم يكن في فرسان مكة أشجع منه، وكانوا يسمونه في مكة العطاب فلما حدث عليه حادث الوله تغيرت أحواله، واعتزل عن الناس، ولازم الصمت فكان لا يكلم الناس إلا بالإشارة، وكان بعض العارفين رضي الله عنه يقول: إنه رضي الله تعالى عنه حصلت له جمعية على الحق تعالى فاستغرقته إلى الأبد، ولم يزل حاله يتزايد إلى عصرنا هذا )) [ الطبقات الكبرى ص 258 – 259 ] .(/6)
ذكر هنا الشعراني قصة مسير أهل البدوي من المغرب إلى مكة وهي أنه والده سمع هاتفا في المنام ، وهذا يدل على مدى تأثر الصوفية بالمنامات حيث كان تسيطر على حياتهم ومسكنهم ، ثم ذكر أخو البدوي أنه أخاه البدوي كان صحيحا ثم حدث له الوله فتغير فأصبح ملتزما للصمت لا يتكلم إلا بالإشارة وحال الحال الذي بلغ به البدوي كان نتيجة لجمعيته ، والجمعية هي اجتماع الهمم في التوجيه إلى الله تعالى والاشتغال به عما سواه ، وبعد هذه الجمعية حصله استغراق ، وهو أن لا يلتفت قلب الذاكر إلى الذكر في أثناء الذكر ، ولا إلى القلب ، وهو الذي يسميه المتصوفة بالفناء ، والفناء هو عدم رؤية العبد لفعله بقيام الله على ذلك أو تبديل صفات البشرية بالصفات الإلهية دون الذات ، فكلما ارتفعت صفة قامت صفة إلهية مقامها ، فيكون الحق سمعه وبصره كما نطق به الحديث وقيل سقوط الأوصاف المذمومة ، وقيل الغيبة عن الأشياء، وقيل الفناء أن لا ترى شيئا إلا الله ، ولا يعلم إلا الله ، وتكون ناسبا لنفسك ولكل الأشياء سوى الله ، فعند ذلك يتراءى لك أنه الرب ، إذ لا ترى ولا تعلم شيئا إلا هو ، فتعتقد أنه لا شيء إلا هو ، فتظن أنك هو ، فتقول أنا الحق ، وتقول ليس في الدار إلا الله ، وليس في الوجود إلا الله .
فكان حال البدوي يدور في أحد تلك الأقوال في الفناء ، فإذا عرفت هذا علمت لماذا لا يستنكر المتصوف ما جاء في سيرته لأنه كان فانيا وقد مر معنى الفناء ، وهذا مقام رفيع عند الصوفية .
وذكر حكاية تغير حال البدوي من حالة الصحة إلى الحال التوصل إليها كل من المنياوي في الكواكب الدرية ص 62 / 2 ، وكذلك ذكر بنحوها الكوهن الفاسي في طبقات الشاذلية الكبرى ص 67 .(/7)
قال الشعراني في الطبقات الكبرى : (( ثم إنه في شوال سنة ثلاث، وثلاثين وستمائة رأى في منامه ثلاث مرات قائلا يقول: له قم، واطلب مطلع الشمس فإذا وصلت إلى مطلع الشمس فاطلب مغرب الشمس، وسر إلى طندتا فإن بها مقامك أيها الفتى فقام من منامه، وشاور أهله وسافر إلى العراق فتلقاه أشياخها منهم سيدي عبد القادر، وسيدي أحمد بن الرفاعي فقالا: يا أحمد مفاتيح العراق، والهند، واليمن، والروم، والمشرق، والمغرب بأيدينا فاختر أي مفتاح شئت منها فقال لهما سيدي أحمد رضي الله عنه لا حاجة لي بمفاتيحكما ما آخذ المفتاح إلا من الفتاح )) [ ص 259 ].
وذكر هذه القصة أيضا المنياوي في كتابه الكواكب الدرية ص 63 / 2 غير أنه ذكر أنه سمع هاتفا يقول ثلاثا بدلا من أنه رأى ذلك في المنام .
وهنا نرى جليا آثار المنامات أو الهواتف في حياة الصوفية حيث أن هذا المنام أو الهاتف جعل من البدوي يغير مقام سكنه وذلك أن المنامات والهواتف من مصادر التلقي عند الصوفية .
جاء في هذه القصة أن الشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ أحمد الرفاعي قد استقبلا البدوي في العراق ، والجيلاني توفى سنة 561 هجري ، والرفاعي توفى سنة 570 هجري أي توفى قبل مولد البدوي بعشرين سنة تقريبا !! فكيف استقبلاه ، الجواب هذا عالم الصوفية عقلنة اللامعقول ، فلم يكتفوا بهذا فقط ، بل جعلوا أن الشيخين يتصرفان في البلدان بل يهبان التصرف لمن يشاء وهذا واضح جدا من عرضهم على البدوي ما عرضا .(/8)
ولا يخفى بطلان هذا الكلام على ذوي الحجا ، وذلك لما استقر في أذهان المسلمين أن الله تعالى هو المتصرف في الكون كيف يشاء وقد قرر القرآن هذه الحقيقة قال الله تعالى : (( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ )) [يونس : 3]
وقال أيضا : (( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ )) [يونس : 31] .
وقال أيضا : (( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ )) [الرعد : 2] .
وقال أيضا : (( أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) [النمل : 64] .
وقال أيضا : (( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ )) [السجدة : 5] .
وقال أيضا : (( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )) [سبأ : 24] .(/9)
وقال أيضا : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ )) [فاطر : 3]
وقال أيضا : (( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ )) [الملك : 21] .
نعود الآن إلى سيرة البدوي ، فنذكر دخوله إلى طندتا قال الشعراني : (( كان في طندتا سيدي حسن الصائغ الإخنائي، وسيدي سالم المغربي فلما قرب سيدي أحمد رضي الله عنه من مصر أول مجيئه من العراق قال: سيدي حسن رضي الله عنه ما بقي لنا إقامة صاحب البلاد قد جاءها فخرج إلى ناحية إخنا، وضريحه بها مشهور إلى الآن ومكث سيدي سالم رضي الله عنه فسلم لسيدي أحمد رضي الله عنه، ولم يتعرض له فأقره سيدي أحمد رضي الله عنه، وقبره في طندتا مشهور، وأنكر عليه بعضهم فسلب، وانطفأ اسمه وذكره، ومنهم صاحب الإيوان العظيم بطندتا المسمى بوجه القمر كان ولياً عظيماً فثار عنده الحسد ولم يسلم الأمر لقدرة الله تعالى فسلب وموضعه الآن بطندتا مأوى للكلاب ليس فيه رائحة صلاح ولا مدد، وكان الخطباء بطندتا انتصروا له، وعملوا له وقفاً، وأنفقوا عليه أموالا، وبنوا لزاويته مئذنة عظيمة فرفسها سيدي عبد العال رضي الله عنه برجله فغارت إلى وقتنا هذا )) [ ص 260 ] .
ويظهر لك هنا الخرافات التي يحكيها الشعراني في التهويل من شأن أحمد البدوي فأما أن يهرب منه الأولياء أو يكونوا خدما له أو يسلبهم حالهم وعلمهم ويحل عليها الدمار والخراب ، وهذا يدلك على أن الصوفية عندما يحبون أحدا يألفوا عنه الأساطير ، فهذا البدوي لم يذكر المتقدون ما عشر معشار هذه الحكايات فمن أين أتى بها الشعراني بعد ثلاثة قرون تقريبا ؟! ولا سيما إلا علمت أن الشعراني من مروجي الخرافات ، وكذلك من معظمي أحمد البدوي ومولده ؟؟(/10)
ويدرك الإنسان بفطرته السليمة بطلان ما تقدم من خرافات يروجها المتصوف ليجعلوا من مشايخهم ذلك الرجل الأسطوري الذي لا يعرف إلا في المخيلة الصوفية ، فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أكثر ولاية من البدوي بل البدوي لا يسوى ظفر أحدهم وكانوا يعيشون مع بعضهم البعض ، دون أن يسلب احد منهم آخر أو يجعله تابعا له ذليلا له كما يروج الشعراني ذلك عن البدوي .
ولم يقف حال الصوفية عند هذا الحد في التهويل من شأن البدوي حتى افتروا على رسول صلى الله صلى الله عليه سلم قال عبد الرءوف المنياوي في كتابه الكواكب الدرية : (( وكان عظيم الفتوة . قال المتبولي : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في أولياء مصر بعد محمد ابن ادريس ، أكبر فتوة منه ، ثم نفيسة ، ثم شرف الدين الكردي ثم المنوفي ، انتهى )) [ ص 62 – 63 / 2 ] .
ولا تظن أخي القارئ أن المتبولي هذا صحابي ! بل هو أحد مشايخ الصوفية وهو إبراهيم المتبولي المتوفى بعد 800 للهجرة ، ولعل المرء يتساءل كيف تلقى المتبولي هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! لا تعجب هذا عالم الصوفية !!
حال البدوي وحياته في مصر
ثم سكن البدوي في السطوح ولذلك سمي بالسطوحي قال الشعراني في الطبقات : (( ثم قصد طندتا فدخل على الحال مسرعاً دار شخص من مشايخ البلد اسمه ابن شحيط فصعد إلى سطح غرفته وكان طول نهاره، وليله قائماً شاخصاً ببصره إلى السماء، وقد انقلب سواد عينيه حمرة تتوقد كالجمر وكان يمكث الأربعين يوماً، وأكثر لا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام ثم نزل من السطح .... الخ )) [ ص 259 ] . وقال : (( فلم يزل سيدي أحمد على السطوح مدة اثنتي عشرة سنة )) [ ص 260 ] .(/11)
وقال المنياوي في الكواكب الدرية : (( فأقام بطندتا على سطع دار ، لا يفارقه ليلا ولا نهار ، اثني عشرة سنة . إذا عرض له الحال ، صاح صياحا عظيما )) [ ص 63 / 2 ] . ، وقال الكوهن الفاسي : (( ومكث قدس الله روحه على السطوح اثني عشر عاما )) [ طبقات الشاذلية الكبرى ص 67 ] .
وهذا يعني أن البدوي لمدة اثني عشر سنة لم يخرج لصلاة جماعة في المسجد ولا جمعة ولا عيد ، فيا ليت شعري كيف يستقيم هذا مع الولاية ؟؟!! ولكن لا تعجب إلا علمت أن كاتب هذا الكلام يرى فعل الفاحشة بالأتان كرامة !!
والصوفية يعلمون جيدا أن عدم الالتزام بالصلاة ليس من علامة أهل الولاية والبدوي لم يزل في السطوح لمدة اثنتي عشر سنة فحتى يوفقوا للصوفي البسيط بين عدم التزامه بالصلاة وبين ولاية ألفوا حكاية يرونها عن ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى قال المنياوي : (( واجتمع به ابن دقيق العيد فقال : انك لا تصلي ، وما هذا سنن الصالحين ! فقال : اسكت وإلا غبرت دقيقك ،ودفعه فإذا هو بجزيرة متسعة جدا ، فضاق ذرعه حتى كاد يهلك ، فرأى الخضر ، فقال : لا بأس عليك ! إن مثل البدوي لا يعترض عليه ! لكن اذهب إلى هذه القبة ن وقف ببابها ، فإنه سيأتيك العصر ليصلي بالناس فتعلق بأزياله ، لعل أن يعفو ! ففعل ، فدفعه فإذا هو بباب بيته )) [ ص 66 / 2 ].
فهكذا يخترعون القصص حتى يبرروا لمشايخهم العذر في ترك الصلاة ، فكل الهدف من هذه القصة أن يقولوا للمريد أن البدوي كان يصلي إماما في تلك الجزيرة الخضراء ، ولا شك أن مخترع هذه القصة لا يعلم أنه هناك فروق في أوقات الصلاة من إقليم إلى آخر(/12)
وبمناسبة ذكر الصلاة قال السخاوي : (( وحدث المقريزي في عقوده عن شيخه أبي حيان قال ألزمني الأمير ناصر الدين محمد بن جنكلي بن الباب المسير معه لزيارة أحمد البدوي بناحية طنتدا فوافيناه يوم الجمعة وإذا هو رجل طوال عليه ثوب جوخ عال وعمامة صوف رفيع والناس يأتونه أفواجاً فمنهم من يقول يا سيدي خاطرك مع غنمي وآخر يقول مع بقري وآخر مع زرعي إلى أن حان وقت الصلاة فنزلنا معه إلى الجامع وجلسنا لانتظار إقامة الجمعة فلما فرغ الخطيب وأقيمت الصلاة وضع الشيخ رأسه في طوقه بعد ما قام قائماً وكشف عن عورته بحضرة الناس وبال على ثيابه وحصر المسجد واستمر ورأسه في طوق ثوبه وهو جالس إلى أن انقضت الصلاة ولم يصل نفعنا الله بالصالحين )). [ الضوء اللامع ترجمة محمد بن محمد بن علي بن عبد الرزاق الشمس أبي عبد الله الغماري ثم المصري المالكي النحوي ] .
وإن كانت هذه القصة توافق ما تقدم أن البدوي لم يكن يصلي كما جاء في كتب الصوفية والعهدة عليهم إلا أن في إثبات هذه القصة نظر ، وذلك أن الأمير ناصر الدين ابن جنكلي ولد سنة 675 أي في السنة التي مات فيها البدوي ، وثم هو لم يولد في مصر بل دخل مصر سنة 702 أو 703 أي بعد وفاة البدوي بخمس وعشرين سنة تقريبا وقد يكون الأمير هو الجد محمد بن جنكلي ، ولكن يبقى الإشكال قائما هو أن أبا حيان دخل مصر سنة 679 هجري أي بعد وفاة أحمد البدوي بأربع سنين ، أو أنه هذا بدوي آخر غير الذي نتكلم عنه ، فإن صحت هذه القصة عن أحمد البدوي يتضح لك سبب عدم ذكر المؤرخين له في كتبه حيث أنه لم يكن من العقلاء ، وكذلك يتبين لك لماذا لم يطنب متقدمي الصوفية في ترجمته ، والله تعالى أعلا وأعلم .
ولم يقتصر البدوي على عدم الصلاة فقط بل اشتمل على الطهارة أيضاً فقد قال الشعراني في الطبقات الكبرى : (( وكان إذا لبس ثوباً ، أو عمامة لا يخلعها لغسل ، ولا لغيره حتى تذوب فيبدلونها له بغيرها )) [ ص 260 ] .(/13)
وقال المنياوي في الكواكب الدرية : (( وكان إذا لبس ثوباً أو عمامة لا يخلعها لغسل ولا غيره حتى تبلى ، فتبدل )) [ ص 64 / 2 ] .
وهذا مخالف لفطرة الإنسان المسلم التي تحض على النظافة والطهارة ، ولعل المرء يتساءل كيف كان يغتسل من الجناب ؟! ثم يستدرك المرء أن البدوي لم يكن يصلي ولم يكون يحضر الجمعة والجماعات فلذلك هو غير محتاج إلى الغسل من الجنابة أو غسل الجمعة المختلف فيه بين الوجوب والاستحباب .
ولعلك أخي القارئ تتصور هيئة البدوي هو لا يغتسل حتى تبلى ثيابه عليه ، ولعلك تتصور رائحته ، فكيف تتفق الولاية مع من كان هذا حاله لا صلاة ولا نظافة ؟؟!!
وقد قيل أن أراد أن تنزل عليه الشياطين فليبقى في أكثر وقت ممكن في النجاسات ، ومَنْ تنزل عليه الشياطين قد تعتريه الأحوال وخوارق العادات .
قد مر أنه لقب بالبدوي لكثرة ما يتلثم قال المنياوي في الكواكب الدرية : (( وكان لا يكشف اللثام عن وجهه ، فقال له عبد المجيد : أرني وجهك ! قال : كل نظرة برجل ! قال : أرينه ولو مت ! فكشفه ، فمات حالا )) [ ص 64 / 2 ] .، ولا أدري أي كرامة وأي ولاية في هذا ؟!(/14)
لقد علمت أيها القارئ الكريم حال سيرة البدوي من كتب محبيه ومعظميه فلم تجد ما يمدح عليها بل لم تجد ما يجعله مسلم بسيط فضلا أن يكون من الأولياء الصالحين ، ولكن محبيه من الصوفية لن يقفوا عند هذا الحد فقاموا يخترعون الحكايات بحلول المصائب على من أنكر على البدوي ، وقد مر معنا فيما سبق قصة ابن دقيق العيد عندما أنكر على البدوي عدم الصلاة ، والآن نذكر قصة أخرى وهي قصة ابن اللبان قال الشعراني في الطبقات الكبرى : (( ووقع ابن اللبان في حق سيدي أحمد رضي الله عنه فسلب القرآن، والعلم، والإيمان، فلم يزل يستغيث بالأولياء فلم يقدر أحد أن يدخل في أمره فدلوه على سيدي ياقوت العرشي فمضى إلى سيدي أحمد رضي الله عنه وكلمه في القبر، وأجابه، وقال له: أنت أبو الفتيان رد على هذا المسكين رسماله فقال: بشرط التوبة فتاب ورد عليه رسماله، وهذا كان سبب اعتقاد ابن اللبان في سيدي ياقوت رضي الله عنه )) [ ص 264 ] .
وقال المنياوي في الكواكب الدرية : (( وأنكر عليه الشيخ خلفية الابنادي ، وحط على من يحضر مولده ، فابتلي بحية فلدغت فمه ولسانه فمات )) [ ص 64 / 2 ]
والهدف من اختراع هذه القصص هو إرهاب المريد أو الصوفي البسيط حتى لا ينكر حال البدوي الذي كان يخالف حال المسلمين ، ويتعجب الإنسان أين عقول الناس الذي يصدقون هذه الترهات ، وحتى لو كان صحيحة ففيها دلالة عن البدوي على باطل لأنه يستعاض بالإرهاب عن التدليل على حاله من الكتاب والسنة وأنى له ذلك .
ولعل الإنسان لما يقرا ما قدمناه يسأل نفسه لماذا جعل المتصوف البدوي من الأولياء ما دلالة ولايته عندهم ؟؟ الجواب هو خوارق العادات سواء كانت صحيحة ام مختلقة ، ولكن الدليل على ولايته هي خوارق العادات التي يحكيها المتصوفة فنذكر طرف منها .(/15)
قال الشعراني في الطبقات الكبرى : (( وستمائة فدخل رضي الله عنه مصر ثم قصد طندتا فدخل على الحال مسرعاً دار شخص من مشايخ البلد اسمه ابن شحيط فصعد إلى سطح غرفته وكان طول نهاره، وليله قائماً شاخصاً ببصره إلى السماء، وقد انقلب سواد عينيه حمرة تتوقد كالجمر وكان يمكث الأربعين يوماً، وأكثر لا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام ثم نزل من السطح، وخرج إلى ناحية فيشا المنارة فتبعه الأطفال فكان منهم عبد العال، وعبد المجيد فورمت عين سيدي أحمد رضي الله عنه فطلب من سيدي عبد العال بيضة يعملها على عينه فقال: وتعطيني الجريدة الخضراء التي معك فقال: سيدي أحمد رضي الله عنه له: نعم فأعطاها له فذهب إلى أمه فقال هنا بدوي عينه توجعه فطلب مني بيضة وأعطاني هذه الجريمة فقالت: ما عندي شيء فرجع فأخبر سيدي أحمد رضي الله عنه فقال: اذهب فأتني بواحدة من الصومعة فذهب سيدي عبد العال فوجد الصومعة قد ملئت بيضاً فأخذ له واحدة منها، وخرج بها إليه ثم إن سيدي عبد العال تبع سيدي أحمد رضي الله عنه من ذلك الوقت ولم تقدر أمه على تخليصه منه فكانت تقول: يا بدوي الشوم علينا فكان سيدي أحمد رضي الله عنه إذا بلغه ذلك يقول: لو قالت: يا بدوي الخير كانت أصدق ثم أرسل لها يقول: إنه ولدي من يوم قرن الثور، وكانت أم عبد العال قد وضعته في معلف الثور، وهو رضيع فطأطأ الثور ليأكل فدخل قرنه في القماط فشال عبد العال على قرنيه فهاج الثور فلم يقدر أحد على تخليصه منه فمد سيدي أحمد رضي الله عنه يده، وهو بالعراق فخلصه من القرن فتذكرت أم عبد العال الواقعة، واعتقدته من ذلك اليوم فلم يزل سيدي أحمد على السطوح مدة اثنتي عشرة سنة )) [ ص 260 ] .(/16)
فهكذا من خلال هذه القصة استدلوا على ولاية البدوي لأنه خلص عبد العال من قرن الثور وهو في العراق وعبد العال في مصر . وكذلك من خوارقه أنه طول نهاره، وليله قائماً شاخصاً ببصره إلى السماء، وقد انقلب سواد عينيه حمرة تتوقد كالجمر وكان يمكث الأربعين يوماً، وأكثر لا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام ، وقال الكوهن الفاسي في طبقات الشاذلية الكبرى : (( وكان يطوي أربعين يوما لا يتناول فيها طعام ولا شرابا وهو شاخص بصره إلى السماء )) [ ص 67 ] .
قال المنياوي في الكواكب الدرية : (( وله كرامات شهيرة منها قصة المرأة التي أسر ولدها الفرنج ، فلاذت به فأحضره بقيوده )) [ ص 64 / 2 ] .
قال الشعراني في الطبقات الكبرى : (( ومجيئه بالأسرى من بلاد الإفرنج، وإغاثة الناس من قطاع الطريق، وحيلولته بينهم، وبينهم، وبين من استنجد به لا تحويها الدفاتر رضي الله عنه قلت: وقد شاهدت أنا بعيني سنة خمس، وأربعين، وتسعمائة أسيراً على منارة سيدي عبد العال رضي الله عنه مقيداً مغلولاً وهو مخبط العقل، فسألته عن ذلك فقال: بينا أنا في بلاد الإفرنج آخر الليل توجهت إلى سيدي أحمد فإذا أنا به، فأخذني، وطار بي في الهواء، فوضعني هنا، فمكث يومين، ورأسه دائر عليه من شدة الخطفة رضي الله عنه )) [ ص 264 ] .
وهكذا من خلال تلك الحكايات يريدون إثبات ولاية البدوي ، بينما هم لم يذكروا في سيرة ما يدل على ولاية من خلال نصوص الشريعة المطهرة ، أما خوارق العادات لم تكن دليلا على الولاية لأن حتى الهندوس عندهم خوارق العادات وذلك الاستعانة بالجن ، ومن عَلِمَ علم الأوفاق يستطيع عمل تلك الخوارق .(/17)
وفي نهاية المطاف نخلص أن البدوي لم يعرفه أهل عصره من المؤرخين فيذكرونه في كتبهم ، وهذا يعطينا احتمال أنه لم يكن هناك شخص اسمه أحمد البدي إلا في المخيلة الصوفية ، وأحمد البدوي الذي في المخيلة الصوفية ليس من أهل الصلاح فهو لا يصلي ولا يتطهر ، وإنما جعلوه من أهل الولاية لأنه عنده خوارق عادة ؛ فنقول حتى الساحر عنده خوارق عادات ، والبدوي في المخيلة الصوفية يشترك مع السحرة في خوارق العادات وكذلك عدم الطهارة وعدم الصلاة .
والسؤال الذي نطرح على جميع المتصوف لماذا أحمد البدوي الذي يحتفل الصوفية بمولده من أولياء الله الصالحين ؟؟ ما هي الأمور التي تجعل مثل أحمد البدوي من أولياء الله الصالحين وقد حكى محبيه عنه ما حكوا ؟؟؟
هذا وصلى الله عليه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(/18)
أحمد التجاني
هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد التجاني، ولد عام (1150 هـ) بقرية عين ماضي التي وفد إليها جده محمد، فاستوطن بها وتزوج من قبيلة فيها تدعى تجاني أو تجانا فكانت أخوالاً لأولاده وإليها نسبوا.
نشأ أبو العباس بهذه القرية ورحل في إلى بلاد عدة، وتأثر في أسفاره بمن التقى بهم من مشايخ الطرق الصوفية وأخذ الطريق عن عدة منهم ثم انتهت به رحلاته إلى أبي صيفون، وهناك زعم أنه قد جاءه الفتح، وأنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً وأنه أذن له في تربية الخلق على العموم والإطلاق وأخذ عنه الطريقة الصوفية مشافهة.
اضغط هنا لتشاهد بالصوت والصورةكيف يقول التيجانيون بأن التجاني التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه الطريقة يقظة.
وزعم التجاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمره أن يترك كل طريق أخذه عن مشايخ الطرق الصوفية اكتفاء بما أخذه عنه صلى الله عليه وسلم مشافهة وعين له النبي صلى الله عليه وسلم الورد الذي يلقنه مريديه، وهو: الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك سنة (1196) من الهجرة، وكمل له الورد بسورة الإخلاص على رأس المائة؛ ولذا سميت الطريقة الأحمدية والمحمدية، كما سميت التيجانية نسبة إلى القبيلة التي صاهرها جده محمد فنسبوا إليها.
وقد أسس التجاني طريقته بعد أن استقر في مدينة فاس بالمغرب وبنى فيها زاوية لمريديه.
وزعم أحمد التجاني بعد شهرته أنه شريف ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب،وزعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وسأله عن نسبه، فأجابه بقوله: ((أنت ولدي حقاً، وكررها (ثلاث مرات) ثم قال: نسبك إلى الحسن صحيح))(/1)
لم يترك التجاني أي علم يُنتفع به ولكن جمع له تلميذ من تلاميذه يسمى علي حرازم كتاباً سماه (جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني).. والكتاب كله في فضل سيده وكراماته وأحواله وطريقته، وإشاراته القرآنية وعلومه اللدنية..
وقد ادعى التجاني فضائل كثيرة وزاد على ما ادعاه كثير من شيوخ الطرق.
فقد ادعى أنه هو خاتم الأولياء جميعاً والغوث الأكبر في حياته وبعد مماته، وأن أرواح الأولياء منذ آدم إلى آخر ولي لا يأتيها الفتح والعلم الرباني إلا بوساطته هو، وأن قدمه على رقبة كل ولي لله تعالى من خلق آدم إلى النفخ في الصور.
وأنه أول من يدخل الجنة هو وأصحابه وأتباعه.
وأن الله شفعه في جميع الناس الذين يعيشون في قرنه الذي عاش فيه.
ومما قاله التجاني في ذلك: ((وليس لأحدٍ من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا ، وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلاّ أنا وحدي)) (الطبقات الكبرى: 2/90).
وأن الرسول أعطاه ذكراً يسمى صلاة الفاتح يفضل أي ذكر قرئ في الأرض ستين ألف مرة بما في ذلك القرآن الكريم. توفي التجاني سنة (1230هـ).
أقوال العلماء فيه:
- ذكرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السؤال السابع من الفتوى رقم (5553) ما نصه: ((الفرقة التيجانية من أشد الفرق كفراً وضلالاً وابتداعاً في الدين لما لم يشرع الله. وسبق أن سئلت اللجنة الدائمة عنهم وكتبت بحثاً في كثير من بدعهم وضلالاتهم الدالة على ذلك))
من أقواله والنقولات عنه التي تبين عقيدته:
من أفضل ما يبين لنا عقيدة التجاني ما نقله علي حرازم في كتابه (جواهر المعاني وغاية الأماني) وما ذكره عمر بن سعيد الفوتي في كتابه (رِماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم) وهما من أوسع كتب التيجانية وأوثقها في نظر أهل هذه الطريقة.
وللاختصار فلن ننقل إلا قليلا من هذه الأقوال:(/2)
ادعى التجاني لنفسه ختم الولاية , مكذبا بذلك كثيرا ممن سبقوه من أهل الطرق الذين نسبوا ذلك لأنفسهم .
قال صاحب كتاب رماح حزب الرحيم على نحور حزب الشيطان الرجيم: ((وشيخنا التجاني ولد عام خمسين ومائة وألف ووقع له الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً بتربية الخلق على العموم والإطلاق سنة ألف ومائة وست وتسعين، قال أخبرني سيدي محمد الغالي أن الشيخ عاش وهو في مرتبة الختمية ثلاثين سنة وإذا تأملت هذا علمت أن الختمية لم تثبت لأحد قبل شيخنا وأن أحداً ما ادعاها وثبت على ادعائها لنفسه وأما شيخنا وسيدنا ووسيلتنا إلى ربنا سيد أحمد بن محمد الشريف الحسني التيجاني قال: أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأني أنا القطب المكتوم منه إلي مشافهة يقظة لا مناماً فقيل له ما معنى المكتوم؟ فقال هو الذي كتمه الله تعالى عن جميع خلقه حتى الملائكة والنبيين إلا سيد الوجود صلى الله عليه وسلم فإنه علم به وبحاله وهو الذي حاز كل ما عند الأولياء من الكمالات الإلهية واحتوى على جميعها وأكبر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله ثلاثمائة خلق من تخلق بواحد منها أدخله الله الجنة وما اجتمعت في نبي ولا ولي إلا في سيد الوجود صلى الله عليه وسلم وأما الأقطاب الذين بعده حتى الحجة العظمى ابن عربي الحاتمي فإنما يعلمون ظواهرها فقط ويسمون المحمديين وبه ختم الله الأقطاب المجتمعة فيهم الأخلاق والإلهية وهذه الأخلاق لا يعرفها إلا من ذاقها ولا تدرك بالوصف ولا يعرف ما فيها إلا بالذوق وقال إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذات الأنبياء تتلقاه ذاتي ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إلى مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا واسطة قال أنا سيد الأولياء كما كان صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء)).(/3)
ويتابع صاحب الرماح أيضاً قائلا: ((ومدده الخاص به (يعني الشيخ التجاني) إنما يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص به لأن له مشرباً معهم منه صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيراً بإصبعه السبابة والوسطى: روحي وروحه صلى الله عليه وسلم هكذا، روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد.
وسبب ذلك أن بعض أصحابه تحاور مع بعض الناس في قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به كل شيوخ أخذوا عني في الغيب فحكي له ذلك فأجاب رضي الله عنه وأرضاه وعنا به ما ذكر.
وقال (أي التجاني): نسبة الأقطاب معي كنسبة العامة مع الأقطاب وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني قال قدمي هذا (كذا) على رقبة كل ولي لله تعالى يعني أهل عصره وأما أنا فقدماي هاتان جميعها (وكان متكئاً فجلس وقال) على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور)).
- وقد قسم التجاني مراتب الأولياء والأنبياء إلى سبع مراتب سماها حضرات قال فيها: الحضرة الأولى: الحقيقة المحمدية. قال: وهذه الحضرة غيب من غيوب الله تعالى لم يطلع عليها أحد ولا عرف شيئاً من علومها وأسرارها وتجلياتها وأخلاقها ولو كان من الرسل والأنبياء لأنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.(/4)
والثانية الحضرة المحمدية وتمثلها الدائرة الثانية ومن هذه الحقيقة المحمدية مدارك النبيين والمرسلين وجميع الملائكة والمقربين وجميع الأقطاب والصديقين وجميع الأولياء والعارفين. والثالثة حضرة الأنبياء وتمثلها الدائرة الثالثة وأهل هذه الحضرة يتلقون علومهم وأحوالهم وتجلياتهم من هذه الحقيقة المحمدية وخاتم الأولياء أعني الشيخ التجاني له مشرب من هذه الحضرة مع الأنبياء فهو يتلقى المدد رأساً من النبي صلى الله عليه وسلم من حقيقته المحمدية بلا وساطة. الرابعة حضرة خاتم الأولياء وتمثلها الدائرة الرابعة وصاحب هذه الحضرة هو الشيخ أحمد التجاني فهو يتلقى كل ما فاض من ذوات الأنبياء زيادة على ما يتلقاه بلا وساطة من الحقيقة المحمدية ولذلك سمى نفسه (برزخ البرازخ).
وقال التجاني: وخُصِصْتُ بعلوم بيني وبينه منه إلي مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا وساطة وقال: أنا سيد الأولياء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء. ثم قال صاحب الرماح ((ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص لأن له مشرباً معهم منه صلى الله عليه وسلم))!!.
الحضرة الخامسة حضرة المتبعين للطريقة التجانية المتمسكين بها. قال الشيخ التجاني في حق أهل هذه الحضرة ما نصه ((لو اطلع أكابر الأقطاب على ما أعد الله لأهل هذه الطريقة لبكوا وقالوا يا ربنا ما أعطيتنا شيئاً)). وقال الشيخ التجاني لا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا حتى الأقطاب الكبار ما عدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/5)
وقال التجاني: كل الطرائق تدخل عليه (كذا) طريقتنا فتبطلها وطابعنا يركب على كل طابع ولا يحمل طابعنا غيره وقال من ترك ورداً من أوراد المشايخ لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله تعالى على جميع الطرق أمنه الله في الدنيا والآخرة فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات.
وأما من دخل زمرتنا وتأخر عنها ودخل غيرها تحل به مصائب الدنيا وأخرى ولا يفلح أبداً (هامش: قلت فانظر كيف يهدم كل صاحب طريق صوفي طريق غيره من الكاذبين الضالين من أمثاله. واعتبر!!). ثم قال ناقلاً عن شيخه التجاني كما هو في جواهر المعاني: وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بلا حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا إلا أنا وحدي. ووراء ذلك مما ذكر لي فيهم وضمنه أمر لا يحل لي ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الدار الآخرة بشرى للمعتقد علي رغم أنف المنتقد. ثم استطرد صاحب الرماح ومن هنا صار جميع أهل طريقته أعلى مرتبة عند الله تعالى في الآخرة من أكابر الأقطاب وإن كان بعضهم في الظاهر من جملة العوام المحجوبين.
الحضرة السادسة حضرة الأولياء وتمثلها الدائرة السادسة وهي مستمدة من حضرة خاتمهم الأكبر جميع ما نالوا (الهدية الهادية ص36).
زعم التجاني كذلك فضلا لأذكاره يفوق فضل تلاوة القرآن الكريم كاملا!! حيث زعم أن (ذكره) الذي يسميه صلاة الفاتح: القراءة الواحدة له تعدل قراءة القرآن ستة آلاف مرة!!(/6)
قال مؤلف جواهر المعاني على حرازم في الجزء الأول صفحة (94) ((وأما فضل صلاة الفاتح لما أغلق الخ، فقد سمعت شيخنا يقول: كنت مشتغلاً بذكر صلاة الفاتح لما أغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو أن المرة الواحدة بستمائة ألف صلاة كما هو في وردة الجيوب وقد ذكر صاحب الوردة أن صاحبها سيدي محمد البكري الصديقي نزيل مصر وكان قطباً، قال إن من ذكرها ولم يدخل الجنة فليقبض صاحبها عند الله، وبقيت أذكرها إلى أن رحلت من تلمسان إلى أبي سمعون فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة بسبعين ألف ختمة من دلائل الخيرات تركت الفاتح لما أغلق واشتغلت بها وهي (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله صلاة تعدل جميع صلوات أهل محبتك وسلم على سيدنا محمد وعلى آله سلاماً يعدل سلامهم) لما رأيت فيها من كثر الفضل ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيحة وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار)) انتهى بلفظه (جواهر المعاني ص94).
ملخص الأخطاء العقدية التي وقع فيها التجاني ومن تبعه في طريقته:
1- غلو أحمد بن محمد التجاني مؤسس الطريقة وغلو أتباعه فيه غلواً جاوز الحد حتى أضفى على نفسه خصائص الرسالة بل صفات الربوبية والإلهية وتبعه في ذلك مريدوه.
2- إيمانه بالفناء ووحدة الوجود وزعمه ذلك لنفسه بل زعم أنه في الذروة العليا من ذلك وصدقه فيه مريدوه فآمنوا به واعتقدوه.
3- زعمه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وتلقين النبي صلى الله عليه وسلم إياه الطريقة التيجانية وتلقيه وردها والإذن له يقظة في تربية الخلق وتلقينهم هذا الورد واعتقاد مريديه وأتباعه ذلك.(/7)
4- تصريحه بأن المدد يفيض من الله على النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم يفيض منه على الأنبياء، ثم يفيض من الأنبياء عليه، ثم منه يتفرق على جميع الخلق من آدم إلى النفخ في الصور، ويزعم أن يفيض أحياناً من النبي صلى الله عليه وسلم عليه مباشرة ثم يفيض منه على سائر الخليقة ويؤمن مريدون بذلك ويعتقدونه.
5- تهجمه على الله وعلى كل ولي لله وسوء أدبه معهم إذ يقول: قدماي على رقبة كل ولي، فلما قيل له: إن عبد القادر الجيلاني: قال: فيما زعموا قدمي على رقبة كل ولي، قال: صدق ولكن في عصره أما أنا فقدماي على رقبة كل ولي من آدم إلى النفخ في الصور، فلما قيل له: أليس الله قادراً على أن يوجد بعدك ولياً فوق ذلك؟، قال: بلى، ولكن لا يفعل، كما أنه قادر على أن يوجد نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لا يفعل، ومريدوه يؤمنون بذلك ويدافعون عنه.
6- دعواه كذباً أنه يعلم الغيب وما تخفي الصدور وأنه يصرف القلوب وتصديق مريديه ذلك وعده من محامده وكراماته.
7- إلحاده في آيات الله وتحريفها عن مواضعها بما يزعمه تفسيراً إشارياً كما سبق في الإعداد من تفسيره قوله تعالى: ?مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ? [الرحمن:19-20] ويعتقد مريدوه أن ذلك من الفيض الإلهي.
8- تفضيله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة القرآن بالنسبة لمن يزعم أنهم أهل المرتبة الرابعة وهي المرتبة الدنيا في نظره.
9- زعمه هو وأتباعه أن منادياً ينادي يوم القيامة والناس في الموقف بأعلى صوته يا أهل الموقف هذا إمامكم الذي كان منه ممدكم في الدنيا .. الخ.
10- زعمه أن كل من كان تجانياً يدخل الجنة دون حساب ولا عذاب مهما فعل من الذنوب.
11- زعمه أن من كان على طريقته وتركها إلى غيرها من الطرق الصوفية تسوء حاله ويخشى عليه سوء العاقبة والموت على الكفر.(/8)
12- زعمه أنه يجب على المريد أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي المغسل لا اختيار له بل يستسلم لشيخه فلا يقول: لم ولا كيف ولا علام ولا لأي شيء .. الخ.
13- زعمه أنه أوتي اسم الله الأعظم، علمه إياه النبي صلى الله عليه وسلم ثم هول أمره وقدر ثوابه بالآلاف المؤلفة من الحسنات، خرصاً وتخميناً ورجماً بالغيب واقتحاماً لأمر لا يعلم إلا بالتوقيف.
14- زعمه أن الأنبياء والمرسلين والأولياء لا يمكثون في قبورهم بعد الموت إلا زمناً محدوداً يتفاوت بتفاوت مراتبهم ودرجاتهم ثم يخرجون من قبورهم بأجسادهم كما كانوا من قبل إلا أن الناس لا يرونهم كما أنهم لا يرون الملائكة مع أنهم أحياء.
15- زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بجسده مجالس أذكارهم وأورادهم وكذا الخلفاء الراشدون .. الخ.
المراجع:
· الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق
· التيجانية حقائق وأسرار. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.(/9)
أحمد الفاروقي السرهندي
يعتبر أحمد الفاروقي السرهندي من أكابر رجال الطريقة النقشبندية ، حتى إن بعضهم قد نسب الطريقة في إحدى مراحلها إليه فسميت بالطريقة الفاروقية ، وهو عند الصوفية مجدد الألفية الأولى.
وسوف نُعَرّف بهذا الرجل من أقواله ومكتوباته الموثقة ، ليظهر لنا مدى غلو وانحراف الصوفية عن الشرع والعلم ، فأقول والله يغفر لي ولجميع المسلمين.
يقول السرهندي عن نفسه: ((إن معتقد الفقير ـ يقصد نفسه ـ من الصِغر كان مشرب أهل التوحيد الوجودي يعني توحيد الوجود وكان والد الفقير قدس سره في ذلك المشرب بحسب الظاهر ، وكان مشغولاً بهذا الطريق على سبيل الدوام مع وجود حصول التوجه التام بحسب الباطن إلى مرتبة اللاكيفية ، وبحكم ابن الفقيه نصف الفقيه، كان للفقير أيضاً حظ وافر من هذا المشرب بحسب العلم ، وحصلت لي منه لذة عظيمة إلى أن أوصلني الله بمحض كرمه إلى جناب حضرة معدن الإرشاد مظهر الحقائق والمعارف مؤيد الدين الرضي شيخنا ومولانا وقبلتنا محمد الباقي قدسنا الله بسره ، فَعَلَّم الفقيرَ الطريقة النقشبندية ، وبذلَ التوجهَ البليغ في حق هذا المسكين فانكشف التوحيد الوجودي في مدة يسيرة بعد ممارسة هذه الطريقة العليه ..... ولاحت دقائق علوم الشيخ محي الدين بن عربي ومعارفه ، وشُرفتُ بالتجلي الذاتي الذي بينه صاحب الفصوص ، واعتقد أنه نهاية العروج ، وقال في حقه: وما بعد هذا إلا العدم المحض))
(مكتوبات السرهندي: الصفحة: 41 ، المكتوب: 31). دار الكتب العلمية.
قلت: وقد بين السرهندي أنه تراجع فيما بعد عن القول بوحدة الوجود، كما في آخر المكتوب: 31 .(/1)
وقال السرهندي: ((قد مضت مدة من استفسار الأصحاب عن أحوال الخضر على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، ولما لم يكن للفقير اطلاع على أحواله كما ينبغي ، كنت متوقفاً في الجواب ، فرأيت اليوم في حلقة الصبح أن إلياس والخضر عليهما السلام ، حضرا في صورة الروحانيين ، فقال الخضر بالإلقاء الروحاني: نحن من عالم الأرواح ، قد أعطى الحق سبحانه أرواحنا قدرة كاملة بحيث تتشكل وتتمثل بصور الأجسام ويصدر عنها ما يصدر عن الأجسام من الحركات والسكنات الجسمانية ، والطاعات والعبادات الجسدية ، فقلت له في تلك الأثناء: أنتم تصلون الصلاة بمذهب الإمام الشافعي. فقال: نحن لسنا مكلفين بالشرائع ، ولكن لما كانت كفاية مهمات قطب المدار مربوطة بنا ، وهو على مذهب الإمام الشافعي ، نصلي نحن أيضاً وراءه بمذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه. فعلم في ذلك الوقت أنه لا يترتب الجزاء على طاعتهم ، بل تصدر عنهم الطاعة والعبادة موافقة لأهل الطاعة ، ومراعاة لصورة العبادة ، وعلم أيضاً أن كمالات الولاية موافقة لفقه الشافعي ، وكمالات النبوة ، موافقة للفقه الحنفي ، فعلم في ذلك الوقت حقيقة كلام الخواجة محمد بارسا قدس سره ، حيث ذكر في الفصول الستة ، نقلاً أن عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، يعمل بعد نزوله بمذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ، فوقع في الخاطر في ذلك الوقت أن نستمد بهما ، وأن نطلب منهما الدعاء)).
( مكتوبات السرهندي: الصفحة 305 ، المكتوب 282). دار الكتب العلمية.
ويقول السرهندي: ((واعلم أن جميع من في العالم من كفار الإفرنج والزنادقة والملاحدة أفضل مني بوجوه ، وشر الجميع أنا)).
(مكتوبات السرهندي الصفحة 17 المكتوب 11). دار الكتب العلمية.(/2)
ويقول السرهندي بعد النقل السابق: ((ولما وصلت إلى المقام الذي فوق المقام السابق ، بعد التوجه بالإنكسار وإظهار الافتقار ، تبين لي أنه مقام حضرة ذي النورين رضي الله عنه ، وللخلفاء الباقين عبور من ذلك المقام ، وهذا المقام مقام التكميل والإرشاد أيضاً في هذه المرتبة ، وكذلك المقامان اللذان يذكران بعد ، ثم وقع النظر على مقام فوقه ، ولما وصلت إليه تبين لي أنه مقام حضرة الفاروق رضي الله عنه ، وللخلفاء الباقين عبور من ذلك المقام ، ثم ظهر فوقه مقام الصديق الأكبر رضي الله عنه ، ووصلت إليه أيضاً ، ووجدت الخواجة بهاء الدين النقشبند قدس سره رفيقاً لي من بين المشايخ في جميع المقامات ، ولسائر الخلفاء عبور من هذا المقام ، لا تفاوت إلا في العبور والمقام والمرور والثبات ، ولا يرى فوقه مقام أصلاً إلا مقام خاتم النبيين والمرسلين عليه من الصلوات أكملها ومن التحيات أتمها)).
(مكتوبات السرهندي الصفحة 17 المكتوب 11). دار الكتب العلمية.(/3)
أحمد بن هلال الحساني
قال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان: ((أحمد بن هلال الحساني الصوفي نزيل حلب أحد زنادقة الوقت ، ولد بعد السبعين ونشأ بدمشق وقدم حلب على رأس القرن .... صحب الأطعاني ثم انقطع ، فتردد إليه بعض الناس ، وعقد الناموس وصار يدعي دعاوى عريضة منها أنه مجتهد مطلق ويطلق لسانه في كبار الأئمة ، وأنه مطالع على الكائنات ، ولا يعتني بعبادة ولا مواظبة على الجماعة ، وكان يدعي أنه يأخذ من الحضرة ، وأنه نقطة الدائرة ، ونقل عنه أتباعه كفريات صريحة ، وسمع شخصاً ينشد قصيدة نبوية (نقصتم منزلتي) ، وزعم أنه يجتمع بالأنبياء كلهم في اليقظة ، وأن الملائكة تخاطبه في اليقظة ، وأنه عرج به إلى السماوات ، وكان يقول: أعطي موسى مقام التكليم ، وأعطي محمد مقام التكميل ، وأنه هو أعطي المقامين معاً ، إلى غير ذلك ما ذاع واشتهر ، واشتدت الفتنة به ، وقام عليه جماعة ، وتعصب له بعض الأكابر ، وكثر أتباعه وعظم بهم الخطب إلى أن مات في تاسع عشر شوال سنة ثلاث وعشرين وثمان مائة)).
(لسان الميزان:1ـ320).(/1)
أحمد بن هلال الحساني
قال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان: ((أحمد بن هلال الحساني الصوفي نزيل حلب أحد زنادقة الوقت ، ولد بعد السبعين ونشأ بدمشق وقدم حلب على رأس القرن .... صحب الأطعاني ثم انقطع ، فتردد إليه بعض الناس ، وعقد الناموس وصار يدعي دعاوى عريضة منها أنه مجتهد مطلق ويطلق لسانه في كبار الأئمة ، وأنه مطالع على الكائنات ، ولا يعتني بعبادة ولا مواظبة على الجماعة ، وكان يدعي أنه يأخذ من الحضرة ، وأنه نقطة الدائرة ، ونقل عنه أتباعه كفريات صريحة ، وسمع شخصاً ينشد قصيدة نبوية (نقصتم منزلتي) ، وزعم أنه يجتمع بالأنبياء كلهم في اليقظة ، وأن الملائكة تخاطبه في اليقظة ، وأنه عرج به إلى السماوات ، وكان يقول: أعطي موسى مقام التكليم ، وأعطي محمد مقام التكميل ، وأنه هو أعطي المقامين معاً ، إلى غير ذلك ما ذاع واشتهر ، واشتدت الفتنة به ، وقام عليه جماعة ، وتعصب له بعض الأكابر ، وكثر أتباعه وعظم بهم الخطب إلى أن مات في تاسع عشر شوال سنة ثلاث وعشرين وثمان مائة)).
(لسان الميزان:1ـ320)
وننقل ترجمته بقلم صوفي قال يوسف النبهاني : (( أحمد بن هلال الحسباني الصولي نزيل حلب . أحد مشاهير صوفية العصر ، كان يدعي أنه يطلع على الكائنات ، وأنه يأخذ من الحضرة بلا واسطة ، وأنه نقطة الدائرة ، وأنه يجتمع بجميع الأنبياء في اليقطة ، فقام عليه جماعة كثيرة من الفقهاء والمحدثين على عادتهم مع هذه الطائفة ، فتعصب له أكابر الدولة وكثرت أتباعه جداً ورحل الناس إليه من الأقطار ، ولم يزل على حاله إلى أن مات في شوال سنة 823 قاله المناوي )) [ جامع كرامات الاولياء ص 430 - 431 / 1 ] .
فهكذا كما ترونه يرون الزنادقة من أئمتهم وينتدقون من يعترض على هذه الدعاوى العجيب الغريبة ، والله المستان(/1)
ابن أحلى
جاء في كتاب (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) للإمام تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي (775-832 هـ) [5 ـ330].
فأما ابن أحلى: فهو _على ما وجدت بخط أبي حيّان ، نقلاً عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير الغرناطي _ أبو عبد الله محمد بن علي بن أَحْلَى اللورقي ، كان لزم بمُرْسِية ابن المرأة ، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن محمد بن دهاق الأوسي المَالَقِي ، شارح " الإرشاد لإمام الحرمين " ونقل عنه مذهب ابتداعٍ لم يُسبق إليه . فمن ذلك قولهم بتحليل الخمر ، وتحليل نكاح أكثر من أربع ، وأنَّ المكلّف إذا بلغ درجة العلماء عندهم ، سقطت عنه التكاليف الشرعية ، من الصلاة والصيام وغير ذلك. ا.هـ
وقد استبان بهذا شيء من حال ابن أحلى ، وابن المرأة ، لأنه أخذ عنه. وزاد ابن المرأة بأنه كان _ على ما ذكر أبو جعفر بن الزبير _ صاحبَ حيلٍ و تواريخ مستطرفة ، يُلْهِي بها أصحابه ويُؤنسهم ، وكان يستطيع أشياء غريبة من الخواص وغيرها، وبذلك فَتَنَ الجهلة . ا.هـ
وقال أبو حيان الأندلسي صاحب التفسير, في سورة المائدة عند قوله تعالى: ?لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم? (صفحة: 142-143): ((ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهراً , وانتمى إلى الصوفية ، حلول الله في الصور الجميلة , وذهب من ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة ، كالحلاج , والشعوذي, وابن أحلى , وابن عربي المقيم بدمشق , وابن الفارض , وأتباع هؤلاء كابن سبعين)). وعد جماعة ثم قال: ((وإنما سردت هؤلاء نصحاً لدين الله وشفقة على ضعفاء المسلمين)).(/1)
ابن حجر الهيتمي
إن أصدق الكلام وأعدله للتعريف بصاحب الترجمة ، هو كلامه المنقول من كتبه ، وإليكم هنا أسطر قلائل ، ولكنها كبائر شواهق تُعرّف بصاحب الترجمة ، حيث يقول ابن حجر الهيتمي في كتابه الفتاوى الحديثية صفحة: (215).
((الذي أثرناه عن أكابر مشايخنا العلماء الحكماء الذين يستسقى بهم الغيث ، وعليهم المعول وإليهم المرجع في تحرير الأحكام وبيان الأحوال والمعارف والمقامات والإشارات ، أن الشيخ محي الدين بن عربي من أولياء الله تعالى العارفين ومن العلماء العاملين ، وقد اتفقوا على أنه كان أعلم أهل زمانه ، بحيث أنه كان في كل فن متبوعاً لا تابعاً ، وأنه في التحقيق والكشف والكلام على الفرق والجمع بحر لا يجارى ، وإمام لا يغالط ولا يمارى ، وأنه أورع أهل زمانه وألزمهم للسنة وأعظمهم مجاهدة حتى أنَّه مكث ثلاثة أشهر على وضوء واحد ، وقس على ذلك ما هو من سوابقه ولواحقه ، ووقع له ما هو أعظم من ذلك ، ومنه أنه لما صنف كتابه الفتوحات المكية وضعه على ظهر الكعبة ورقاً من غير وقايةٍ عليه فمكث على ظهرها سنةً لم يمسه مطرٌ ولا أخذ منه الريح ورقةً واحدة مع كثرة الرياح والأمطار بمكة ، فحفظ الله كتابه هذا من هذين الضدين دليل أي دليل ، وعلامة أي علامة على أنه تعالى قَبِل منه ذلك الكتاب وأثابه عليه ، وحمد تصنيفه له)).
بقي أن تعرف أخي القارئ أن هناك تشابه بالأسماء بين الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني ، وبين صاحب الترجمة ، وهناك تباين بينهما فصاحب الترجمة يقدس محي الدين بن عربي ، والعسقلاني يكفره.
ومن أراد أن يعلم حال ابن عربي الذي يقدسه صاحب الترجمة ، ويعلم عدم صدق الذي جاء به في أن ((العلماء العاملين قد اتفقوا على أنه كان أعلم أهل زمانه ...)) كما تقدم فليضغط هنا
ومن أراد الاستزادة في جمع التناقض عند ابن حجر الهيتمي، فلينظر ما حوى كتابه "الفتاوى الحديثية" على أحاديث موضوعة في هذا الرابط(/1)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين.
من قول ابن حجر الهيتمي ما جاء في كتاب الفتاوى الحديثية ص 81 :
(( [مطلب: إياك أن تنتقد على السادة الصوفية]
وينبغي للإنسان حيثُ أمكنه عدم الانتقاد على السادة الصوفية نفعنا الله بمعارفهم، وأفاض علينا بواسطة مَحبتَّنا لهم ما أفاض على خواصِّهم، ونظمنا في سلك أتباعهم، ومَنَّ علينا بسوابغ عوارفهم، أنْ يُسَلِّم لهم أحوالهم ما وجد لهم محملاً صحيحاً يُخْرِجهم عن ارتكاب المحرم، وقد شاهدنا من بالغ في الانتقاد عليهم، مع نوع تصعب فابتلاه الله بالانحطاط عن مرتبته وأزال عنه عوائد لطفه وأسرار حضرته، ثم أذاقه الهوان والذلِّة وردَّه إلى أسفل سافلين وابتلاه بكل علَّة ومحنة، فنعوذ بك اللهم من هذه القواصم المُرْهِقات والبواتر المهلكات، ونسألك أن تنظمنا في سلكهم القوي المتين، وأن تَمنَّ علينا بما مَننتَ عليهم حتى نكون من العارفين والأئمة المجتهدين إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. ))
فهو يحذر من الانتقاد على الصوفية مع أنهم يقولون بوحدة الوجود والحلول والاتحاد ، ولكن هل ذكر دليلا شرعيا على ذلك ، لا بل هو ما يخوف به الصوفية مريدهم ،، يقولون لهم إذا فعلت كذا وكذا حدث لك كذا وكذا ، كما قال ابن حجر في مقالة السابقة ، ولا حول ولا قوة إلا الله .(/2)
ابن سبعين
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
((هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن قطب الدين أبو محمد المقدسي الرقوطي ، نسبة إلى رقوطة بلدة قريبة من مرسية ، ولد سنة أربع عشرة وستمائة ، اشتغل بعلم الأوائل والفلسفة ، فتولد له من ذلك نوع من الإلحاد ، وصنف فيه ، وكان يعرف السيميا ، وكان يلبس بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء.
جاور في بعض الأوقات بغار حراء يرتجي فيما ينقل عنه ، أن يأتيه فيه وحي ، كما أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة ، من أن النبوة مكتسبة ، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا ، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة ، إن كان مات على ذلك.
وكان إذا رأى الطائفين حول البيت يقول عنهم: كأنهم الحمير حول المدار ، وأنهم لو طافوا به كان أفضل من طوافهم بالبيت.
فالله يحكم فيه وفي أمثاله ، وقد نقلت عنه عظائم من الأقوال والأفعال ، توفي في الثامن والعشرين من شوال بمكة)). وكانت وفاته سنة (669 هـ) (البداية والنهاية: 13/261)
وقال الإمام الذهبي عن ابن سبعين: ((كان صوفياً على قاعدة زهاد الفلاسفة وتصوفهم ، وله كلام في العرفان على طريق الاتحاد والحلول والزندقة ، نسأل الله السلامة في الدين)). (تاريخ الإسلام: 30ـ27).
وقال الإمام الذهبي أيضاً: ((اشتهر عنه أنه قال: لقد تحجر على نفسه ابن آمنة ـ يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ـ واسعاً بقوله: لا نبي بعدي)).
ومن الذين ذموه ذماً شنيعاً يدل على تكفيره: محمد بن علي النقاش, قال في وحدة الوجود (صفحة: 147): ((وهو مذهب الملحدين كابن عربي ، وابن سبعين ، وابن الفارض , ممن يجعل الوجود المخلوق!!"(/1)
وقال أبو حيان الأندلسي صاحب التفسير, في سورة المائدة عند قوله تعالى: ?لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم? (صفحة: 142-143): ((ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهراً, وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة, وذهب من ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة ، كالحلاج , والشوذي , وابن أحلى , وابن عربي المقيم بدمشق , وابن الفارض , وأتباع هؤلاء كابن سبعين)). وعد جماعة ثم قال: ((وإنما سردت هؤلاء نصحاً لدين الله وشفقة على ضعفاء المسلمين)).
وجاء في كتاب (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) للإمام تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي (775-832 هـ)
قال الذهبي: وذكر شيخنا قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد ، قال:جلستُ مع ابن سَبْعين من ضَحْوَةٍ إلى قريب الظهر ، وهو يَسْرد كلاماً تُعقَلُ مفرداته و لا تُعقل مُرَكّباته .
وقال الذهبي: حدّثني فقيرٌ صالح ، أنه صَحِبَ فقيراً من السَّبعينية ، وكانوا يُهَوِّنُون له ترك الصلاة، وغير ذلك. ا.هـ
ولقد لَقِيَ ابنُ سبعين في الدنيا عذاباً ، وعذابه في الآخرة مضاعف ، فممّا لَقِيَ في الدنيا _ على ما ذكره بعض المغاربة _: أنه قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلّم ، فلما وصل إلى باب المسجد النبوي ، اهراق دماً كثيراً ، كدماء الحيض ، فذهب وغسله ، ثم عاد ليدخل ، فاهراق الدم كذلك ، وصار دأبه ذلك ، حتى امتنع من زيارته صلى الله عليه وسلم.
ومنها على ما قاله الذهبي: أنه سمع أن ابن سبعين فَصَدَ نفسه ، وترك الدم يخرج حتى تَصَفَّى ومات. والله أعلم. [5 ـ332].(/2)
ابن قضيب البان
عبد القادر بن محمد أبي الفيض ، المعروف بابن قضيب البان ، ولد في مدينة حماة من بلاد الشام سنة: (971) للهجرة ، هاجر به أبوه إلى مدينة حلب وتوطن بها إلى سنة ألف هجرية ، ثم توطن بمكة إلى حدود سنة اثنتي عشرة بعد الألف ، ومنها إلى القاهرة ، وفيها تتلمذه عليه القاضي يحيى بن زكريا وأخذ عنه الطريقة النقشبندية والقادرية والخلوتية.
ثم عاد إلى حلب إلى أن مات فيها سنة: (1040) للهجرة.
من مؤلفاته "الفتوحات المدنية" والتي ألفها على وتيرة "الفتوحات المكية" لابن عربي ، وكتاب "نهج السعادة" وكتاب "ناقوس الطباع في أسرار السماع ، ورسالة في أسرار الحروف ، وكتاب "المواقف الإلهية" ، وله من الشعر تائية مشى فيها على وتيرة تائية ابن الفارض.
كان ابن قضيب البان على مذهب أهل وحدة الوجود ـ والعياذ بالله ـ ومن قوله:
شربت لحبه خمراً سقاني **** كصحبي فانتشى منها جناني
شطحتُ بشربها بين الندامى ** ورشدي ضاع مما قد دهاني
فأكرمني وتوجني بتاج **** يقوم بسره قطب الزمان
وأمرني على الأقطاب حتى ** سرى أمري بهم في كل شان
وأطلعني على سر خفي *** وقال: الستر من سر المعاني
رأيتك في كل شيء بدا *** وليس سواك لعيني حجب
فأنت هو الظاهر المرتجى *** وأنت هو الباطن المرتقب
وأنت الوجود لأهل الشهود ** وأنت الذي في كل شيء وهب
وعيني بعينك قد أبصرت *** لعينك في كل تلك النسب(/1)
ومن طوامه ما جاء في كتابه "المواقف الإلهية" : ((ثم نوديت من مكان قريب، وذلك من جهاتي الست: يا حبيبي ومطلوبي، السلام عليك، فغمضت عيني، وكنت أسمع بقلبي ذلك الصوت حتى أظنه من جوارحي لقربه مني، ثم نوديت: انظر عليّ، ففتحت عينيّ فصرت كلي أعيناً، وكأن ما أراه في ظاهري، وصرت كأني برزخ بين كونين وقاب، كما يرى الرائي عند النظر في المرآة ما في خارجها. ثم سمعت بقارئ يقرأ: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفران ربنا وإليك المصير.
وإذا بذلك الحجاب قد رفع وأذن لي بدخوله ، ولما دخلته رأيت الأنبياء صفوفاً صفوفاً ودونهم الملائكة، ورأيت أقربهم للحق أربعة أنبياء، ورأيت أولياء أمة محمد أقرب الناس إلى محمد وهو أقرب الخلق على الله تعالى وأقرب إليه أربعة أولياء، فعرفت منهم السيد محي الدين عبد القادر، وهو الذي تلقاني إلى باب الحجاب، وأخذ بعضدي حتى دنوت من سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، فناولني يمينه فأخذته بكلتا يدي.
فلا زال يجذبني ويدنيني حتى ما بقي بيني وبين ربي أحد، فلما حققت النظر في ربي ورأيته على صورة النبي، إلا أنه كالثلج أشبه شيء أعرفه في الوجود من غير رداء ولا ثياب.
ولما وضعت شفتي على محل منه لأقبله أحسست ببرد كالثلج سبحانه وتعالى، فأردت أن أخر صعقاً، فمسكني سيدنا محمد صلى الله عليه وآله))
(المواقف الإلهية لابن البان صفحة: 164 ـ 169)(/2)
قال الدباغ في كتابه الإبريز: ((قال محي الدين بن عربي: ومن شرط المريد أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه وبيّنة منه ، ولا يزن أحواله بميزانه ، فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن والحقيقة ، فيجب التسليم ، وكم من رجل أخذ كأس خمر بيده ورفعه إلى فيه وقلبه الله في فيه عسلاً ، والناظر يراه شرب خمراً وهو ما شرب إلا عسلاً ومثل هذا كثير ، وقد رأينا من يجسد روحانيته على صورة ويقيمها في فعل من الأفعال ويراها الحاضرون على ذلك الفعل ، فيقولون: رأيناه فلاناً يفعل كذا ، وهو عن ذلك الفعل بمعزل ، وهذه كانت أحوال أبي عبد الله الموصلي المعروف بقضيب البان ، وقد عاينا هذا مراراً في أشخاص)) اهـ
(الإبريز صفحة:130).
اللهم إنا نعوذ بك من هذا الضلال ، ونبرأ إليك من هذا الكفر والخذلان ، ونسألك حسن الختام ، ولا حول ولا قوة إلا بك أنت الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين.(/3)
ادعاء رؤية العوالم العلوية والسفلية:
ولا يتوقف هذا الهذيان الذي يطالعنا به الجيلي في كتابه لحظة واحدة فهو يزعم أنه قد كشفت له الحجب فرأى العالم عاليه وسافله وشاهد الملائكة جميعاً وخاطبهم والرسل والأنبياء؛ فها هو يقول ويدعي: "وفي هذا المشهد (يعني بالمشهد اتصال الصوفي بأرواح المخلوقات التي وجدت في الحياة والتي لم توجد أيضاً لأن الأرواح في زعمه مخلوقة أبداً لا تفنى)، اجتماع الأنبياء والأولياء بعضهم ببعض أقمت فيه بزبيد (زبيد: مدينة من مدن اليمن المشهورة) بشهر ربيع الأول في سنة ثمانمائة من الهجرة النبوية فرأيت جميع الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والأولياء والملائكة العالين، والمقربين، وملائكة التسخير، ورأيت روحانية الموجودات جميعها، وكشفت عن حقائق الأمور على ما هي عليه من الأزل إلى الأبد" (انظر) ويستطرد قائلاً "وتحققت بعلوم إلهية لا يسع الكون أن نذكرها فيه" (ص97 ج2).
ويستطرد الجيلي في هذيانه وكفرياته قائلاً عن مشاهداته المزعومة في خلق السماء الثانية: "رأيت نوحاً عليه السلام في هذه السماء جالساً على سرير خلق من نور الكبرياء بين أهل المجد والثناء فسلمت عليه وتمثلت بين يديه فرد علي السلام ورحب بي وقام".
إلى أن يقول: "وروحانية الملك الحاكم على جميع ملائكة هذه السماء عجائب من آيات الرحمن وغرائب من أسرار الأكوان لا يسعنا إذاعتها في أهل هذا الزمان" (ص100) أ.هـ.
ويستطرد الجيلي مبيناً مشاهداته المزعومة في السماء الثالثة وأنه رأى يوسف عليه السلام وأنه دار بينهما هذا الحديث الذي يزعم الجيلي في آخره أنه كان يعلم هذه العلوم التي أخبره يوسف بها قبل أن يتفوه بها يوسف. وما هذه العلوم.. إنها هذه الكفريات والهذيانات نفسها وهذا نص عبارته في ذلك:(/1)
"اجتمعت في هذه السماء مع يوسف عليه السلام، فرأيته على سرير من الأسرار كاشفاً عن رمز الأنوار عالماً بحقيقة ما انعقدت عليه أكلة الأحبار متحققاً بأمر المعاني، مجاوزاً عن قيد الماء والأواني فسلمت إلى تحية وافد إليه فأجاب وحياً ثم رحب بي وبيا، فقلت له: سيدي أسألك عن قولك {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث} أي المملكتين تعني وعن تأويل أي الأحاديث تكنى فقال: أردت المملكة الرحمانية المودعة في النكتة الإنسانية (يعني أن يوسف عليه السلام أجابه بأن الله أطلعه عل وجود الرحمن في كيان الإنسان) وتأويل الأحاديث: الأمانات الدائرة في الألسنة الحيوانية، فقلت له يا سيدي أليس هذا المودع في التلويح حللاً من البيان والتصريح. فقال: اعلم أن للحق تعالى أمانة في العباد يوصلها المتكلمون بها إلى أهل الرشاد، قلت: كيف يكون للحق أمانة وهو أصل الوجود في الظهور والإبانة، فقال: ذلك وصفه وهذا شأنه وذاك حكمه وهذه عبارته، والأمانة يجعلها الجاهل في اللسان ويحملها العالم في السر والجنان، والكل في حيرة عنه، ولم يفز غير العارف بشيء منه، فقلت: وكيف ذلك. فقال: اعلم أيدك الله وحماك أن الحق تعالى جعل أسراره كدرر إشارات مودعة في أسرار عبارات (يعني أن سر الخلق قد صحبه الله في أسرار العبارات التي يوحيها إلي)، فهي ملقاة في الطريق دائرة على ألسن الفريق، يجهل العام إشارتها، ويعرف الخاص ما سكن عبارتها، فيؤولها على حسب المقتضى ويؤول بها إلى حيث المرتضى، وهل تأويل الأحلام إلا رشحة من هذا البحر أو حصاة من جنادل هذا القفر فعلمت ما أشار إليه الصديق ولم أكن قبله جاهلاً بهذا التحقيق، ثم تركته وانصرفت في الرفيق الأعلى ونعم الرفيق" أ.هـ (ص101).
ثم يزعم الجيلي أن السماء الرابعة هي قلب الشمس وأن فيها إدريس وأن أكثر الأنبياء في دائرة هذا الفلك المكين مثل عيسى وسليمان وداود وإدريس وجرجيس.. وغيرهم.. الخ.(/2)
أسمعتم يا مسلمون نبياً من أنبياء الله يسمى جرجيس،.. ها هو الجيلي اطلع عليه في السماء وجاءكم باسمه كما جاءكم باسم ملك يسمى توحائيل.. أنظرتم كيف يكون الكشف وعلم الغيب. هذه هي نماذجه. وأما السماء الخامسة عند الجيلي فهي سماء الكوكب المسمى بهرام.. وحاكم هذه السماء عزرائيل وهو روحانية المريخ صاحب الانتقام والتوبيخ.. (هكذا والله..) ويستطرد الجيلي فيصف السماء السادسة فهي عنده كوكب المشتري.. ويقول "رأيت فيها موسى عليه السلام متمكناً في هذا المقام واضعاً قدمه على هذه السماء قابضاً بيمينه (يلاحظ في هذا التخليط والتقول على الله أن هؤلاء الكاذبين يعمدون إلى الوحي القرآني والحديثي فيأخذون منه ما يشاءون ويخلطونه بهذه الأكاذيب ويزعمون أن ذلك هو الكشف الذي كشف لهم فذكر منصبة موسى على ساق سدرة المنتهى مأخوذ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم أكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بساق العرش) ساق سدرة المنتهى سكران من خمر تجلي الربوبية.." أي موسى انطبعت في مرآة علمه أشكال الأكوان وتجلت فيه ربوبية الملك الديان.. وأنه دار بينه وبين الجيلي هذا الحوار.. يقول الجيلي بالنص:(/3)
"فوقفت متأدباً بين يديه، وسلمت بتحقيق مرتبته عليه، فرفع رأسه من سكرة الأزل ورحب بي ثم أهل، فقلت له: يا سيدي قد أخبر الناطق بالجواب الصادق في الخطاب، أنه قد برزت لك خلعة لن تراني من ذلك الجناب، وحالتك هذه غير حالة أهل الحجاب، فأخبرني بحقيقة هذا الأمر العجاب، فقال: اعلم أنني لما خرجت من مصر أرضي إلى حقيقة فرضي، ونوديت من طور قلبي بلسان ربي من جانب شجرة الأحدية في الوادي المقدس بأنوار الأزلية {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} فلما عبدته كما أمر في الأشياء، وأثنيت عليه بما يستحقه من الصفات والأسماء تجلت أنوار الربوبية لي فأخذني عني، فطلبت البقاء في مقام اللقاء، ومحال أن يثبت المحدث لظهور القديم، فنادى لسان سري مترجماً عن ذلك الأمر العظيم، فقلت: {رب أرني أنظر إليك} فأدخل بانيتي في حضرة القدس عليك فسمعت الجواب من ذلك الجناب {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل} وهي ذاتك المخلوقة من نوري في الأزل، {فإن استقر مكانه} بعد أن أظهر القديم سلطانه {فسوف تراني فلما تجلّى ربه للجبل} وجذبتني حقيقة الأزل وظهر القديم على المحدث {جعله دكاً وخر موسى صعقاً} فلم يبق في القديم إلا القديم، ولم يتجل بالعظمة إلا العظيم، هذا على أن استيفاؤه غير ممكن وحصره غير جائز، فلا تدرك ماهيته ولا ترى ولا يعلم كنهه ولا يدري، فلما اطلع ترجمان الأزل على هذا الخطاب أخبركم به من أم الكتاب (أي أن الجيلي اطلع على هذه المكاشفة من أم الكتاب) فترجم بالحق والصواب، ثم تركته وانصرفت وقد اغترفت من بحره ما اغترفت (ص104) أ.هـ.(/4)
ويستطرد الجيلي مبيناً مشاهداته في هذه السماء فيقول: "ثم إني رأيت ملائكة هذه السماء مخلوقة على سائر أنواع الحيوانات فمنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الطائر وله أجنحة لا تنحصر للحاصر، وعبادة هذا النوع خدمة الأسرار ورفعها من حضيض الظلمة إلى عالم الأنوار، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الخيول المسومة، وعبادة هذه الطائفة المكرمة رفع القلوب من سجن الشهادة إلى فضاء الغيوب، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة النجائب وفي صورة الركائب، وعبادة هذا النوع رفع النفوس إلى عالم المعاني من عالم المحسوس، ومنه من خلقه الله تعالى على هيئة البغال والحمير!! وعبادة هذا النوع رفع الحقير وجبر الكسير والعبور من القليل إلى الكثير ومنهم من خلقه الله تعالى على صرة الإنسان وعبادة هؤلاء حفظ قواعد الأديان، ومنهم من خلق على صفة بسائط الجواهر والأعراض وعبادة هؤلاء إيصال الصحة إلى الأجسام المراض، ومنهم من خلق على أنواع الحبوب والمياه وسائر المأكولات والمشروبات، وعبادة هؤلاء إيصال الأرزاق إلى مرزوقها من سائر المخلوقات، ثم إني رأيت في هذه السماء ملائكة مخلوقة بحكم الاختلاط مزجاً، فالنصف من نار والنصف من ماء عقد ثلجاً، فلا الماء يفعل في إطفاء النار ولا النار تغير الماء عن ذلك القرار" (ص105).
وأما السماء السابعة التي شاهدها الجيلي وجاء يقص علينا مشاهداته فهي السماء السابعة، وهي عنده زحل، ويحكى أنه شاهد فيها إبراهيم عليه السلام قائماً في هذه السماء وله منصة يجلس عليها على يمين العرش من فوق الكرسي وهو يتلو آية {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق..}.(/5)
ويستطرد الجيلي بعد ذلك تبجحاً أنه صعد إلى سدرة المنتهى وأنه رأى هناك الملائكة وأنها على هيئات مختلفة وأمامهم سبعة، ثم ثلاثة ثم ملك مقدم يسمى عبد الله.. وأنهم أخبروه أنهم لم يسجدوا لآدم -هكذا.. علماً بأن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه {فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس أبى أن يكون من الساجدين} (الحجر:30-31).
فأكد الله سبحانه سجود الملائكة بكل وجميع ولكن جاءنا الجيلي ليخبرنا بأن الملائكة هؤلاء الذين شاهدهم في السماء لم يؤمروا بالسجود لآدم فاكتشف ما لم يعلمه الله ورسوله. وهذا نص عبارته في ذلك:
"ثم رأيت سبعة جملة هذه المائة متقدمة عليهم يسمون قائمة الكروبيين، ورأيت ثلاثة مقدمين على هذه السبعة يسمون بأهل المراتب والتمكين، ورأيت واحداً مقدماً على جميعهم يسمى عبد الله، وكل هؤلاء عالون ممن لم يؤمروا بالسجود لآدم، ومن فوقهم كالملك المسمى بالنون والملك المسمى بالقلم وأمثالهم أيضاً عالون، وبقية ملائكة القرب دونهم، وتحتهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (ليس في ملائكة الله عز وجل ملك يسمى عزرائيل ولم يثبت ذلك في حديث صحيح أو ضعيف ولكنه اسم يجري على ألسنة العامة، ولكن هؤلاء الجهلة يلتقطون مثل هذه الأسماء ويجعلونها كشفاً وعلماً لدنياً وروحياً وإلهاماً لهم فانظر وتعجب..) وأمثالهم.
ورأيت في هذا الفلك من العجائب والغرائب ما لا يسعنا شرحه" (ص107).
ولا يكتفي الجيلي ببيان كفرياته وهذيانه في السماء فينتقل إلى الأرض وهي عنده ليست أرضاً واحدة بل هو يزعم أنه شاهد سبعة أرضين وسبعة بحار ومحيطات وهاك بعضاً من هذا الهذيان الذي يزعم فيه الجيلي أنه رأى فيه الخضر وموسى، وأفلاطون وأرسطو والاسكندر، إلى هذيان وكفر لا يسع المؤمن عند سماعه وقراءته إلا أن يقول (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) وأن يقول أيضاً (الحمد لله الذي عافانا وما علينا ووقانا) وهاك أخي القارئ شيئاً من هذا الهذيان:(/6)
"إن الله تعالى لما بسط الأرض جعلها على قرني ثور يسمى البرهوت وجعل الثور على ظهر الحوت في هذا البحر يسمى البهموت، وهو الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله {وما تحت الثرى} ومجمع البحرين هذا هو الذي اجتمع فيه موسى عليه السلام بالخضر على شطه، لأن الله تعالى كان قد وعده بأن يجتمع بعبد من عباده على مجمع البحرين، فلما ذهب موسى وفتاه حاملاً لغذائه ووصلا إلى مجمع البحرين لم يعرفه موسى عليه السلام إلا بالحوت الذي نسيه الفتى على الصخرة وكان البحر مداً، فلما جزر بلغ الماء إلى الصخرة فصارت حقيقة الحياة في الحوت، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، فعجب موسى من حياة حوت ميت قد طبخ على النار، وهذا الفتى اسمه يوشع بن نون، وهو أكبر من موسى عليه السلام في السن سنة شمسية وقصتهما مشهورة، وقد فصلنا ذلك في رسالتنا الموسومة (بمسامرة الخليل ومسايرة الصحيب) فليتأمل فيه.(/7)
سافر الإسكندرية ليشرب من هذا الماء اعتماداً على كل كلام أفلاطون أن من شرب من ماء الحياة فإنه لا يموت، لأن أفلاطون كان قد بلغ هذا المحل وشرب من هذا البحر فهو باق إلى يومنا هذا في جبل يسمى دواوند، وكان أرسطو تلميذ أفلاطون وهو أستاذ الاسكندر صحب الاسكندر في مسيره إلى مجمع البحرين، فلما وصل إلى أرض الظلمات ساروا وتبعهم نفر من العسكر وأقام الباقون في مدينة تسمى ثُبُتْ برفع الثاء المثلثة والباء الموحدة وإسكان التاء المثناة من فوق وهو حد ما تطلع الشمس عليه، وكان في جملة من صحب الاسكندر من عسكر الخضر عليه السلام، فساروا مدة لا يعلمون عددها ولا يدركون أمدها وهم على ساحل البحر، وكلما نزلوا منزلاً شربوا من الماء، فلما ملوا من طول السفر أخذوا في الرجوع إلى حيث أقام العسكر، وقد كانوا مروا بمجمع البحرين على طريقهم من غير أن يشعروا به، فما أقاموا عنده ولا نزلوا به لعدم العلامة، وكان الخضر عليه السلام قد ألهم بأن أخذ طيراً فذبحه وربطه على ساقه، فكان يمشي ورجله في الماء، فلما بلغ هذا المحل انتعش الطير واضطرب عليه، فأقام عنده وشرب من ذلك الماء واغتسل منه وسبح فيه، فكتمه عن الاسكندر وكتم أمره إلى أن خرج، فلما نظر أرسطو إلى الخضر عليه السلام علم أنه قد فاز من دونهم بذلك، فلزم خدمته إلى أن مات واستفاد من الخضر هو والاسكندر علوماً جمة" (ص117).
ويستطرد الجيلي شارحاً له عن طريق كشوفاته وهذيانه فيقول:(/8)
".. واعلم أن الخضر عليه السلام قد مضى ذكره فيما تقدم، خلقه الله تعالى من حقيقته {ونفخت فيه من روحي} فهو روح الله، فلهذا عاش إلى يوم القيامة، اجتمعت به وسألته، ومنه أروي جميع ما في هذا البحر المحيط (جميع الصوفية يزعمون أن كل ما ينقلونه من علومهم يسمعونه من الخضر، وقد زاد الجيلي أن الخضر مخلوق من روح الله.. ولا يعلم هذا الجاهل أن آدم هو الذي أمر الله جبريل أن ينفخ فيه وجبريل هو روح الله وليس الخضر خلقاً خاصاً).
واعلم أن هذا البحر المحيط المذكور، وما كان منه منفصلاً عن جبل (ق) مما يلي الدنيا فهو مالح وهو البحر المذكور، وما كان منه متصلاً بالجبل فهو وراء المالح، فإنه البحر الأحمر الطيب الرائحة وما كان من وراء جبل (ق) متصلاً بالجبل الأسود فإنه البحر الأخضر، وهو من الطعم كالسم القاتل، ومن شرب منه قطرة هلك، وفني لوقته، وما كان منه وراء الجبل يحكم الانفصال والحيطة والشمول بجميع الموجودات فهو البحر الأسود الذي لا يعلم له طعم ولا ريح ولا يبلغه أحد، بل وقع به الأخبار، فعلم وانقطع عن الآثار فكتم.(/9)
وأما البحر الأحمر الذي نشره كالمسك الأذفر فإنه يعرف بالبحر الأسمى ذي الموج الأنمى، رأيت على ساحل هذا البحر رجالاً مؤمنين، ليس لهم عبادة إلا تقريب الخلق إلى الحق، قد جبلوا على ذلك، فمن عاشرهم أو صاحبهم عرف الله بقدر معاشرتهم، وتقرب إلى الله بقدر مسايرتهم، وجوههم كالشمس الطالع والبرق اللامع، يستضيء بهم الحائر في تيهات القفار، ويهتدي بهم التائه في غيابات البحار، إذا أرادوا السفر في هذا البحر نصبوا شركاً لحيتانه، فإذا اصطادوا ركبوا عليها لأن مراكب هذا البحر حيتانه، ومكتسبه لؤلؤه ومرجانه، ولكنهم عند أن يستووا على ظهر هذا الحوت ينتعشون بطيب رائحة البحر فيغمى عليهم، فلا يفيقون إلى أنفسهم، ولا يرجعون إلى محسوسهم ما داموا راكبين في هذا البحر، فتسير بهم الحيتان إلى أن يأخذوا حدها من الساحل، فتقذف بهم في منزل من تلك المنازل، فإذا وصلوا إلى البر وخرجوا من ذلك البحر، رجعت إليهم عقولهم، وبان لهم محصولهم فيظفرون بعجائب وغرائب لا تحصر، أقل ما يعبر عنها، بأنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (ص118) .
وفي ختام هذا الهذيان يقول الجيلي:
"وأما البحر السابع فهو الأسود القاطع، لا يعرف سكانه، ولا يعلم حيتانه، فهو مستحيل الوصول غير ممكن الحصول، لأنه وراء الأطوار وآخر الأكوار والأدوار، لا نهاية لعجائبه، ولا آخر لغرائبه، قصر عنه المدى فطال، وزاد على العجائب حتى كأنه المحال، فهو بحر الذات الذي حارت دونه الصفات، وهو المعدوم الموجود والموسوم والمفقود والمعلوم والمجهول والمنقول والمحتوم والمعقول، وجوده فقدانه، أوله محيط بآخره وباطنه مستو على ظاهره، لا يدرك ما فيه، ولا يعلمه أحد فيستوفيه، فلنقبض العنان عن الخوض فيه والبيان (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) وعليه التكلان" (ص118) أ.هـ.(/10)
وهكذا يكون الهذيان مختوماً بقوله تعالى {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل..} ..أعرفتم الحق الذي يدعونا إليه الجيلي ومن على شاكلته من هؤلاء الملاحدة والزنادقة؟ إنه هذا الهذيان الذي لا أول له ولا آخر.
ما الذي يريده هؤلاء الملاحدة؟!
وقد يسأل سائل: وما الذي يريده هؤلاء من تأليف هذه الكتب، ونشر هذا الجنون والهذيان؟! ولست أنا الذي سأجيب عن هذا السؤال، وإنما سأثبت الجواب من كلام الجيلي نفسه. إنه يقول بالنص:
"اعلم أن الله تعالى إنما خلق جميع الموجودات لعبادته، فهم مجبولون على ذلك مفطورون عليه من حيث الأصالة، فما في الوجود شيء إلا هو يعبد الله بحاله ومقاله وفعاله، بل بذاته وصفاته، فكل شيء في الوجود مطيع لله تعالى، لقوله تعالى للسماوات والأرض {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} وليس المراد بالسماوات إلا أهلها، ولا بالأرض إلا سكانه. وقال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ثم شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يعبدونه بقوله ((كل ميسر لما خلق له)) لأن الجن والإنس مخلوقون لعبادته وهم ميسرون لما خلقوا له، فهم عباد الله بالضرورة، ولكن تختلف العبادات لاختلاف مقتضيات الأسماء والصفات، لأن الله تعالى متجل باسمه المضل، كما هو متجل باسمه الهادي، فكما يجب ظهور أثر اسمه المنعم، كذلك يجب ظهور أثر اسمه المنتقم. واختلاف الناس في أحوالهم لاختلاف أرباب الأسماء والصفات، قال تعالى {كان الناس أمة واحدة} يعني عباد الله مجبولون على طاعته من حيث الفطرة الأصلية، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ليعبده من اتبع الرسل من حيث اسمه المضل، فاختلف الناس وافترقت الملل وظهرت النحل، وذهبت كل طائفة إلى ما علمته أنه صواب.(/11)
ولو كان ذلك العلم عند غيرها خطأ ولكن حسنه الله عندها ليعبدوه من الجهة التي تقتضيها تلك الصفة المؤثرة في ذلك الأمر، وهذا معنى قوله {ما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها} فهو الفاعل بهم على حسب ما يريد مريده، وهو عين ما اقتضته صفاته، فهو سبحانه وتعالى يجزيهم على حسب مقتضى أسمائه وصفاته، فلا ينفعه إقرار أحد بربوبيته ولا يضره جحود أحد بذلك، بل هو سبحانه وتعالى يتصرف فيهم على ما هو مستحق لذلك من تنوع عباداته التي تنبغي لكماله، فكل من في الوجود عابد لله تعالى، مطيع لقوله تعالى {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}، لأن من تسبيحهم ما يسمى مخالفة ومعصية وجحوداً وغير ذلك، فلا يفقهه كل أحد، ثم إن النفي إنما وقع على الجملة، فصح أن يفقهه البعض؛ فقوله {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} يعني من حيث الجملة، فيجوز أن يفقهه بعضهم" (ص120).
وبعد أن يذكر الجيلي طوائف الناس ومللهم يقول : "فكل هذه الطوائف عابدون لله تعالى كما ينبغي أن يعبد لأنه خلقهم لنفسه لا لهم فهم له كما يستحق ثم إنه سبحانه وتعالى أظهر في هذه الملل حقائق أسمائه وصفاته فتجلى في جميعها بذاته فعبدته جميع الطوائف" (ص122).
ويشرح هذا المعنى تفصيلياً فيقول:
"فأما الكفار فإنهم عبدوه بالذات، لأنه لما كان الحق سبحانه وتعالى حقيقة الوجود بأسره والكفار من جملة الوجود وهو حقيقتهم فكفروا أن يكون لهم رب لأنه تعالى حقيقتهم ولا رب له بل هو الرب المطلق، فعبدوه من حيث ما تقتضيه ذواتهم التي هو عينها (وما دام أنهم في زعمه وكفره هم عين الله فهم ينفذون لثبته وأمره بل هم الله فلا حاجة بهم إلى أن يعلموا ذلك أو لا يعلموه. وبالتالي فكفرهم بإله غيرهم وخارج عن طبيعتهم هو عين الإيمان وعين الحق في نظر الجيلي الزنديق ومن على شاكلته من هؤلاء الملاحدة الذين لم تعرف الأرض أفجر ولا أكفر منهم).(/12)
ثم من عبد منهم الوثن فلسر وجوده سبحانه بكماله بلا حلول ولا مزج في كل فرد من أفراد ذوات الوجود، فكان تعالى حقيقة تلك الأوثان التي يعبدونها فما عبدوا إلا الله" (ص122).
وأظن أنه ليس هناك عبارة أصرح وأوضح من هذه العبارات تبين المقصود والمآل الذي يرمي المتصوفة والوصول إليه.
ويستطرد الجيلي مبيناً عقائد الناس وأنهم جميعاً على حق. فيقول عن اليهود : "وأما اليهود فإنهم يتعبدون بتوحيد الله تعالى ثم بالصلاة في كل يوم مرتين.. ويتعبدون بالاعتكاف يوم السبت، وشرط الاعتكاف عندهم أن لا يدخل في بيته شيئاً مما يتمول به، ولا مما يؤكل، ولا يخرج منه شيئاً، ولا يحدث فيه نكاحاً ولا بيعاً ولا عقداً، وأن يتفرغ لعبادة الله تعالى لقوله تعالى في التوراة:
(أنت وعبدك وأمتك لله تعالى في يوم السبت)، فلأجل هذا حرم عليهم أن يحدثوا في يوم السبت شيئاً مما يتعلق بأمر دنياهم، ويكون مأكوله مما جمعه يوم الجمعة، وأول عندهم إذا غربت الشمس من يوم الجمعة، وآخره الاصفرار من يوم السبت.
وهذه حكمة جليلة؛ فإن الحق تعالى خلق السماوات والأرضين في ستة أيام، وابتدأها في يوم الأحد ثم استوى على العرش في اليوم السابع وهو يوم السبت، فهو يوم الفراغ، فلأجل هذا عبد الله اليهود بهذه العبادة في هذا اليوم إشارة إلى الاستواء الرحماني وحصوله في هذا اليوم فافهم" (ص127).
ثم يقول مادحاً النصارى كذلك فيقول:
"وأما النصارى فإنهم أقرب من جميع الأمم الماضية إلى الحق تعالى، فهم دون المحمديين، سببه أنهم طلبوا الله تعالى فعبدوه في عيسى ومريم وروح القدس، ثم قالوا بعدم التجزئة، ثم قالوا بمقدمه على وجوده في محدث عيسى وكل هذا تنزيه في تشبيه لائق بالجناب الإلهي".(/13)
أي أن فعل النصارى هذا من تشبيه الله بخلقه ومن عبادة الثلاث ومن اتخاذ أرباب مع الله كل ذلك لائق في عقيدة عبد الكريم الجيلي ولكنه يراهم أيضاً مقصرون لأنهم حصروا الله في ثلاث نقط، والله عنده لا ينحصر في ثلاثة لأن كل موجود هو الله.
هذه هي الغاية التي يسعى هؤلاء الزنادقة سعياً حثيثاً إليها. إنها التسوية بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والكفر والإيمان، وإبليس وجبريل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وأبو جهل، والخمر والماء، والأخت والأجنبية، والزواج والزنا واللواط، والقتل ظلماً والرحمة، والتوحيد والشرك، فلا ضلال في الأرض إلا في نظر القاصرين فقط، وأما العارفون فكل هذه الموجودات شيء واحد بل ذات واحدة تعددت وجوداتها، وتعددت أشكالها وألوانها وهي حقيقة واحدة -وبهذا الدين الذي لم تعرف البشرية أظلم ولا أفجر ولا أكفر منه- اعتقد هؤلاء الزنادقة وألبسوا هذا الدين الفاجر آيات القرآن وأحاديث النبي الكريم، ووصفوا أنفسهم بأنهم خير الناس وأعلمهم وأتقاهم، وهذه هي حالهم في الظلم والكفر والفجور، وهدم دين الإسلام وإحلال شرائع الشيطان مكان شريعة الرحمن، وطمس صفات الله ونوره سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأستغفر الله من نقل هذا الكفر وتسطيره. فإنه كفر لم تقله اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا الصابئة.. ورحم الله الإمام عبد الله بن المبارك الذي كان يقول: إنا لنحكي كفر اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي كفر الجهمية.. فكيف لو رأى كفر هؤلاء الصوفية الملاحدة ماذا كان يقول في ذلك؟!(/14)
حقاً إن هذا لشيء عظيم ولكننا مضطرون أن نذكر كفرهم لندحضه ولنبينه للناس ليحذرون بعد أن عم شرهم البلاد والعباد، وبعد أن اغتر بهم جمع غفير من المسلمين، فظنوا أن الحق مع هؤلاء فاتبعوهم حتى صرفوهم عن دين الرسول صلى الله عليه وسلم وأوصلوهم إلى هذه النهاية المزرية التي يستحيل على الإنسان إذا وصلها أن يميز بين خير وشر، وهدى وضلالة، لأن كل هذه الأضداد ستكون عنده شيئاً واحداً.
ومع ذلك فإن الجيلي يستطرد في هذا الباب شارحاً مراده تماماً فيقول:
"ولم يفتقر في ذلك إلى علمهم، ولا يحتاج إلى نياتهم، لأن الحقائق ولو طال إخفاؤها لا أن تظهر" أ.هـ. يعني أن الله لا يحتاج أن يعلم الكافر به ما دام أن وجود هذا الكافر هو وجود الله، وأن هذه الحقيقة لا بد وأن تظهر للعيان يوماً ما..
ويمضي الجيلي شارحاً معتقده فيقول..
"وأما الطباعية فإنهم عبدوه من حيث صفاته الأربع..، لأن أربعة الأوصاف الإلهية.. التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة أصل بناء الوجود فالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة مظاهرها في عالم الأكوان، فالرطوبة مظهر الحياة، والبرودة مظهر العلم، والحرارة مظهر الإرادة، واليبوسة مظهر القدرة. وحقيقة هذه المظاهر ذات الموصوف بها سبحانه وتعالى.. فعبدت هذه الطبائع لهذا السر فمنهم من علم ومنهم من جهل العالم سابق، والجاهل لاحق فهم عابدون للحق من حيث الصفات، ويؤول أمرهم إلى السعادة كما آل أمر من قبلهم إليها بظهور الحقائق التي بني أمرهم عليها" (ص123-124).(/15)
وهكذا يقرر الجيلي أن الفلاسفة الطبائعيين الذين قالوا برجوع الطبيعة إلى العناصر الأربعة هم عابدون لله شاؤوا أم أبوا، علموا أم جهلوا، وأن أمرهم إلى السعادة الأبدية. ويستدل لهذا الكفر الشنيع أيضاً بالقرآن فيقول: "والدليل من القرآن أن الله قال في الأحزاب المختلفين {كل حزب بما لديهم فرحون} فيقول: "إن فرحهم هذا في الدنيا والآخرة، فكل حزب يفرح بما عنده في الدنيا، ويفرح به أيضاً في الآخرة عندما يطلع الجميع أنه لا ثمة إلا الله وأنهم جميعاً مظاهر للذات الإلهية، وليسوا شيئاً خارجاً عنها".
وهكذا يستخدم القرآن أيضاً في هذا الكفر والباطل الذي لم تعرف البشرية له مثيلاً في كل تاريخها فقد ارتكز في الفطرة أن هناك حقاً وباطلاً، هدى وضلالاً، نوراً وظلاماً، كذباً وصدقاً، وإيماناً..، ولكن عند هؤلاء الصوفية كل هذا شيء واحد وحق واحد اختلفت مظاهره ولم تختلف حقيقته فالجنة والنار كلاهما نعيم، وإبليس وجبريل كلاهما عابد، بل معبود، بل شيء تعددت صفاته بتعدد موجوداته..
ويستطرد الجيلي في شرح كفره وفجوره فيقول:
"وأما الثنوية فإنهم عبدوه من حيث نفسه تعالى، لأنه تعالى جمع الأضداد بنفسه، فشمل المراتب الحقية والمراتب الخلقية، وظهر في الوصفين بالحكمين، وظهر في الدارين بالنعتين، فما كان منسوباً إلى الحقيقة الحقية فهو الظاهر في الأنوار وما كان منسوباً إلى الحقيقة الخلقية فهو عبارة عن الظلمة، فعبدوا النور والظلمة لهذا السر الإلهي الجامع للوصفين والضدين والاعتبارين والحكمين كيف شئت من أي حكم شئت، فإنه سبحانه يجمعه وضده بنفسه.
فالثنوية عبدوه من حيث هذه اللطيفة الإلهية مما يقتضيه في نفسه سبحانه وتعالى، فهو المسمى بالحق، وهو المسمى بالخلق، فهو النور والظلمة" (ص125) أ.هـ.
بهذا الوضوح شرح الجيلي مذهب الفلاسفة الصوفية الزنادقة الملاحدة، وبهذا التفصيل والبيان يستطرد أيضاً قائلاً:(/16)
"وأما المجوس فإنهم عبدوه من حيث الأحدية، فكما أن الأحدية مفنية لجميع المراتب والأسماء والأوصاف، كذلك النار فإنها أقوى الاستقصاءات وأرفعها، فإنها مفنية لجميع الطبائع بمحاذاتها، لا تقاربها طبيعة إلا تستحيل إلى النارية لغلبة قوتها، فكذلك الأحدية لا يقابلها اسم ولا وصف إلا يندرج فيها ويضمحل، فلهذه اللطيفة عبدوا النار وحقيقتها ذاتها وتعالى".
فيجعل المجوس قسماً غير الثنوية والمعلوم أنهم قسم واحد فالثنوية القائلون بالنور والظلمة وإله للخير وإله للشر هم أيضاً المجوس عبدة النار التي يجعلونها ستاراً وعلامة لإلهم إله الخير في زعمهم ولكن الجيلي الملحد يجعل هؤلاء أيضاً عبدة النيران من أهل الحق والتوحيد وأن عبادتهم للنار حق أقوى العناصر وأرفعها ويقول والنار حقيقتها ذات الله تعالى. فأي كفر يا قوم في الأرض أعظم من هذا وأكبر.. ويمدح الجيلي المجوس فيقول:
"فلما انتشقت مشام أرواح المجوس لعطر هذا المسك زكمت عن شمه سواه فعبدوا النار وما عبدوا إلا الواحد القهار" ا.هـ (ص126).
فأي تصريح عن عقائد القوم أبلغ من هذا..
ثم يقول: "وأما الدهرية (أي الاسم) فإنهم عبدوه من حيث الهوية (الدهرية: هم القائلون بأنه لا إله والحياة مادة فما هي أرحام تدفع وأرض يبلع واسمهم هذا مأخوذ من قوله تعالى {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن إلا يظنون} (الجاثية:24)) فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر))"(/17)
قلت: هذا إبليس والزنادقة لم يصل إلى هذا الحد في الكفر فالمقصود بقول رسول الله ((إن الله هو الدهر)) هو أنه سبحانه وتعالى مقدر المقادير؛ فسب الأيام سب لله لأنه هو مقدر المقادير سبحانه وتعالى والزمان لا دخل له في ذلك. فنهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن سب الزمان لأن هذا من ثم يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى. وليس مقصود الرسول حتماً أن الله هو الزمان لأن الله جل وعلا هو خالق الزمان والمكان والخالق غير المخلوق. وأما الدهرية فإنهم لا يؤمنون بإله أصلاً والجيلي يجعل هؤلاء الملاحدة عباداً لله ...(/18)
الحسين بن منصور الحلاج
هو الحسين بن منصور بن محمي الحلاج ، صحب جماعة من المشايخ الصوفية كالجنيد بن محمد وعمرو بن عثمان المكي وأبي الحسين النوري ، وكان بعض مشايخ الصوفية أمثال أبو العباس بن عطاء البغدادي ، ومحمد بن خفيف الشيرازي ، وإبراهيم بن محمد النصر أباذي ، يصححوا له حاله ، ودونوا كلامه ، حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت إبراهيم ابن محمد النصر أباذي وعوتب في شيء حكى عن الحلاج في الروح فقال للذي عاتبه: إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج.
قال أبو عبد الرحمن: وسمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً ، إلا أنه أظهر وكتمتُ. وقد روي عن الشبلي من وجه آخر أنه قال وقد رأى الحلاج مصلوباً: ألم أنهك عن العالمين.
ومما يدل على أنه كان ذا حلول في بدء أمره أشياء كثيرة ، منها شعره في ذلك ، فمن ذلك
قوله:
جبلت روحك في روحي كما يجبل العنبر بالمسك الفنق
فإذا مسك شيء مسني وإذا أنت أنا لا نفترق
وقوله:
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني فإذا أنت أنا في كل حال
وقوله أيضا:
قد تحققتك في سر ي فخاطبك لساني
فاجتمعنا لمعان وافترقنا لمعان
إن يكن غيبتك التعظي م عن لحظ العيان
فلقد صيرك الوج د من الأحشاء دان
وقال أبو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي أنه قال: كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال: يمكنني أن أقول مثل هذا. ففارقته.(/1)
قال الخطيب وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكوا الشيرازي سمعت أبا زرعة الطبري يقول الناس فيه يعني حسين بن منصور الحلاج بين قبول ورد ولكن سمعن محمد بن يحيى الرازي يقول سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول لو قدرت عليه لقتلته بيدي فقلت له إيش الذي وجد الشيخ عليه قال قرأت آية من كتاب الله فقال يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به قال أبو زرعة الطبري وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول زوجت ابنتي من الحسين الحلاج لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده فبان لي منه بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر.
وذكر أبو القاسم القشيري في رسالته في باب حفظ قلوب المشايخ أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئاً في أوراق. فقال له: ما هذا.؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن. قال فدعا عليه فلم يفلح بعدها ، وأنكر على أبي يعقوب الأقطع تزويجه إياه ابنته.
وكتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتبا كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه فشرد الحلاج في البلاد فعاث يمينا وشمالا وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله ويستعين بأنواع من الحيل ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحل الله به بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق والله أعدل من أن يسلطه على صديق كيف ، وقد تهجم على القرآن العظيم وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل وقد قال تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ولا إلحاد أعظم من هذا وقد أشبه الحلاج كفار قريش في معاندتهم كما قال تعالى عنهم وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين.
(البداية والنهاية:11ـ132)
ولهذا فقد كان القدماء من الصوفية يذكرون أقواله في كتبهم دون ذكر اسمه، بأن يقولوا مثلاً: قال أحد الكبراء , (وهذا صنيع أبي بكر محمد الكلاباذي الذي ألف الموسوعة الصوفية الثانية بعد اللمع، وهو كتابه (التعرف على مذهب أهل التصوف)(/2)
وكذلك صنيع السراج الطوسي صاحب الموسوعة الصوفية الأولى (اللمع) وقد استشهد بكلام الحلاج في أكثر من خمسين موضعاً من كتابه مصدراً القول بقوله: قال بعضهم، أو قال القائل)
وفي القرن الخامس وما يليه ابتدأ بعض المتصوفة يصرحون باسمه، ويذكرون مقالاته، ويشهدون بفضله وسعته، فقد أشاد به أبو حامد الغزالي، وابن عربي، وعبد الغني النابلسي ، وكل المتصوفة منذ القرن الخامس. وأما في العصر الحديث فقد كتب فيه طه عبد الباقي سرور كتاباً بعنوان: (الحلاج شهيد التصوف الإسلامي).
كل ذلك رغم أنه قد أُقيمت عليه البينة الشرعية ، وقتل مرتداً سنة (309هـ)
قال الإمام الذهبي: ((كانت له بداية جيدة وتأله وتصوف ، ثم انسلخ من الدين)).
(سير أعلام النبلاء: 14/327).
وقال أبو حيان الأندلسي صاحب التفسير, في سورة المائدة عند قوله تعالى: ?لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم? (صفحة: 142-143): ((ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهراً, وانتمى إلى الصوفية ، حلول الله في الصور الجميلة , وذهب من ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة ، كالحلاج , والشعوذي , وابن أحلى , وابن عربي المقيم بدمشق , وابن الفارض , وأتباع هؤلاء كابن سبعين)). وعد جماعة ثم قال: ((وإنما سردت هؤلاء نصحاً لدين الله وشفقة على ضعفاء المسلمين)).
هاقد علمت -أخي الكريم-ظلال هذا الرجل ومروقه فلم نرى إلى يومنا هذا من يدافع عنه ويقيم المؤتمرات لتمجيد ذكراه ؟(/3)
الحكيم الترمذي
أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين الترمذي المتوفى سنة (320 هـ)
قال أبو عبد الرحمن السلمي: ((أخرجوا الحكيم من ترمذ وشهدوا عليه بالكفر وذلك بسبب تصنيفه كتاب ختم الولاية ، وكتاب علل الشريعة ، وقالوا: إنه يقول: إن للأولياء خاتماً كالأنبياء لهم خاتم ، وإنه يفضل الولاية على النبوة ، واحتج بحديث: يغبطهم النبيون والشهداء. فقدم بلخ فقبلوه لموافقته لهم في المذهب)). (سير أعلام النبلاء 13ـ441).
والحكيم الترمذي يعد أول من أورد قصص الصوفية في الخضر فقال في كتابه ختم الولاية في جوابه عن علامات الأولياء: ((وللخضر عليه السلام، قصة عجيبة في شأنهم ـ أي الأولياء ـ وقد عاين شأنهم في البدء ومن وقت المقادير فأحب أن يدركهم، فأعطى الحياة حتى بلغ من شأنه أنه يحشر مع هذه الأمة وفي زمرتهم ، حتى يكون تبعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو رجل من قرن إبراهيم الخليل، وذي القرنين، وكان على مقدمة جنده، حيث طلب ذو القرنين عين الحياة ففاتته وأصابها الخضر ...)) (ختم الولاية صفحة 362)
وقال أبو عبد الله محمد بن مفلح المقدسي: ((رأيت أكثر العباد على غير الجادة فمنهم من صح قصده ، ولا ينظرون في سيرة الرسول وأصحابه ولا في أخلاق الأئمة المقتدى بهم ، بل قد وضع جماعة من الناس لهم كتباً فيه رقائق قبيحة ، وأحاديث غير صحيحة ، وواقعات تخالف الشريعة ، مثل كتب الحارث المحاسبي وأبي عبد الله الحكيم الترمذي وأبي طالب المكي)).
(الفروع: 6ـ381).(/1)
الشيخ إبراهيم بن سعيد الشاغوري
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
((يذكر له أحوال ومكاشفات على ألسنة العوام ومن لا يعقل ولم يكن ممن يحافظ على الصلوات ولا يصوم مع الناس ومع هذا كان كثير من العوام وغيرهم يعتقدونه توفي يوم الأحد سابع جمادى الأولى ، ودفن بتربة المولهين بسفح قاسيون عند الشيخ يوسف القيميني ، وقد توفي الشيخ يوسف قبله بمدة وكان الشيخ يوسف يسكن إقمين حمام نور الدين الشهيد بالبزوريين وكان يجلس على النجاسات والقذر وكان يلبس ثيابا بداوية تجحف على النجاسات في الأزقة وكان له قبول من الناس ومحبة وطاعة وكان العوام يغالون في محبته واعتقاده وكان لا يصلى ولا يتقى نجاسة ومن جاءه زائرا جلس عند باب الاقمين على النجاسة وكان العوام يذكرون له مكاشفات وكرامات وكل ذلك خرافات من خرافات العوام وأهل الهذيان كما يعتقدون ذلك في غيره من المجانين والمولهين ولما مات الشيخ يوسف القميني خرج خلق في جنازته من العوام وغيرهم وكانت جنازته حافلة بهم وحمل على أعناق الرجال إلى سفح قاسيون وبين يديه غوغاء وغوش كثير وتهليل وأمور لا تجوز من فعل العوام حتى جاؤا به إلى تربة المولهين بقاسيون فدفنوه بها وقد اعتنى بعض العوام بقبره فعمل عليه حجارة منقوشة وعمل على قبره سقفا مقرنصا بالدهان وأنواعه وعمل عليه مقصورة وأبوابا وغالى فيه مغالاة زائدة ومكث هو وجماعة مجاورون عنده مدة في قراءة وتهليل ويطبخ لهم الطبيخ فيأكلون ويشربون هناك)). اهـ
(البداية والنهاية 13ـ298).(/1)
الشيخ علي الكردي
يعتبر هذا الرجل مثالاً لما يختلف فيه بين أهل العلم وبين العامة البسطاء السذج الذين يدلس عليهم من قبل المشعوذين والمجاذيب.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
((الشيخ علي الكردي ، الموله ، المقيم بظاهر باب الجابية ، قال أبو شامة: وقد اختلفوا فيه فبعض الدماشقة يزعم أنه كان صاحب كرامات ، وأنكر ذلك آخرون ، وقالوا: ما رآه أحد يصلي ولا يصوم ، ولا لبس مداساً بل كان يدوس النجاسات ويدخل المسجد على حاله)). اهـ
(البداية والنهاية 13ـ108).
والمشكلة أن بعض أن دمشق إلى اليوم وهو يعتقد بهذا الرجل ، ويأتيه ويسأله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(/1)
الشيخ يوسف الاقميني
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:
((كان يعرف بالأقميني لأنه كان يسكن قمين حمام نور الدين الشهيد ، وكان يلبس ثياباً طوالاً تحف على الأرض ، ويبول في ثيابه ، ورأسه مكشوفة ، ويزعمون أن له أحوالاً وكشوفاً كثيرة ، وكان كثير من العوام وغيرهم يعتقدون صلاحه وولايته ، وذك لأنهم لا يعملون شرائط الولاية ولا الصلاح ، ولا يعملون أن الكشوف قد تصدر من البر والفاجر والمؤمن والكافر ، كالرهبان وغيرهم ، وكالدجال وابن صياد وغيرهم ، فإن الجن تسترق السمع وتلقيه على أذن الإنسي.
ولما مات هذا الرجل دفن بتربة بسفح قاسيون ، وهي مشهورة به ، شرقي الرواحية ، وهي مزخرفة قد اعتنى بها بعض العوام ممن كان يعتقده فزخرفها ، وعمل على قبره حجارة منقوشة بالكتابة ، وهذا كله من البدع ، وكانت وفاته في سادس شعبان من هذه السنة: (657هـ)
وكان الشيخ إبراهيم بن سعيد جيعانة ، لا يتجاسر ، فيما يزعم ، أن يدخل البلد والقميني حي فيوم مات الاقميني دخلها ، وكانت العوام معه ، فدخلوا دمشق وهم يصيحون ويصرخون: أذن لنا في دخول البلد ، وهم أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم. فقيل لجيعانة: ما منعك من دخولها قبل اليوم.؟ فقال: كنت كلما جئت إلى باب من أبواب البلد أجد هذا السبع رابضاً فيه فلا أستطيع الدخول. وقد كان سكن الشاغور وهذا كذب واحتيال ومكر وشعبذة.
(البداية والنهاية: 13ـ217).(/1)
العفيف التلسماني
هو أحد كبار رجال الصوفية ، تروي الصوفية عنه الخوارق والكرامات ، ويرون من شعره وقوله ما يخجل الإنسان منه ، وهم اليوم يتبركون بقبره بعد موته.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ((أبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله العابدي الكرمي ثم التلمساني (610 ـ 690هـ) الشاعر المتقن المتفنن في علوم ، منها: النحو ، والأدب ، والفقه، والأصول ، وله في ذلك مصنفات ، وله شرح مواقف النُفَّري ، وشرح أسماء الله الحسنى ، وله ديوان مشهور ، وقد نسب هذا الرجل إلى عظائم في الأقوال والاعتقاد في الحلول والاتحاد والزندقة والكفر المحض)). (البداية والنهاية: 13ـ326).
وقال محمد بن طاهر القيسراني في ترجمة الإمام المزي: ((وقد لزم في وقت البغوي والعفيف التلمساني ، فلما تبين له انحلاله واتحاده تبرأ منه وحط عليه)).(تذكرة الحفاظ: 4ـ1499)
ومن أقوال التلمساني الشنيعة ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية ((أن الشيرازي قال لشيخه التلمساني ، وقد مر بكلب أجرب ميت: هذا أيضاً من ذات الله؟! فقال: وهل ثم خارج عنه!؟ ومر التلمساني ومعه شخص بكلب فركضه الآخر برجله ، فقال: لا تركضه فإنه منه. قال ابن تيمية: وهذا من أعظم الكفر)). (مجموع الفتاوى: 2ـ309)(/1)
حمزة فنصوري
*فرحان ضيفور جهري
تكاد تتفق كلمة الباحثين على شهرته، وعلى أنه أول مؤلف في الطائفة الصوفية في إندونيسيا، كما أنه أكبر شاعر فيما بينهم([1]). لكن المؤسف، أنه مع شهرته لم يعرف بالضبط متى وأين ولد.؟
ومثل هذا الاضطراب سيواجهه كل باحث عن الإسلام في إندونيسيا، وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على عدم وجود الاهتمام في كتابة تاريخ الإسلام في إندونيسيا لدى المؤرخين القدامى.
اسمه حمزة فنصوري، هكذا وجدته في الكتب التي تحدثت عنه، ولا يعرف نسبه، ولكن لفظ فنصوري يدل على المكان الذي نسب إليه، وهو فنصور كما أوضح حمزة نفسه في بعض أبياته فقال:
حمزة من أصل فنصوري
نال الوجود في شهرنا ويمما
أخذ خلافة العلم العالي
من عبد القادر الجيلاني([2])
فهذه الأبيات الأربع تمدنا بفوائد وهي:
1- أنه من فنصور([3]).
2- أنه حصل على مرتبة من مراتب التصوف، وهي مرتبة وحدة الوجود([4]) في شهرناوي([5]).
3- أنه انتسب إلى الطريقة القادرية([6]).
وإذا كان هذا العلم الصوفي لم يعرف تاريخ ولادته إلا أن المؤكد أنه كان يعيش في عهد السلطان علاء الدين رعاية شاه الرابع السيد المكمل الذي تولى السلطة في أتشيه([7]) عام (997) إلى (1101هـ) إلى بداية عهد السلطان إسكندر مودا الذي تولى السلطة عام (1016هـ) إلى عام (1045هـ)([8]).
فلذلك يظن أنه توفي في العقد الأول من القرن السابع عشر الميلادي([9]).
* رحلاته:
"كما أنه كان يدرس في بلده "أتشيه" وجاوا، فإنه سافر لطلب العلم إلى بلاد أخرى خارج بلده، منها الهند وفارس "([10]).
وقد حكى أيضاً أنه قام بالرحلات إلى الشرق الأوسط لزيارة المراكز الإسلامية من ضمنها مكة المكرمة والمدينة النبوية والقدس، وكذلك بغداد المكان الذي انتسب فيه إلى الطريقة القادرية([11]).(/1)
وعلى ذلك قيل: إنه أول إندونيسي يعرف بالتأكيد أنه انتسب إلى الطريقة القادرية، كما أن الطريقة القادرية هي أول الطرق التي ورد ذكرها في المصادر الإسلامية([12]).
"وكاد يتفق جميع علماء التاريخ على أن حمزة فنصوري - وتلميذه شمس الدين سومطراني - من الصوفية الذين اتجهوا منحى الحلاج، فإن أفكاره عن الحلول والاتحاد والمحبة ونحو ذلك هي نفس أفكار الحلاج"([13]).
وقال البروفسور أحمد هافي عنه: "في التصوف الفلسفي هو تابع لفكرة وحدة الوجود، كما أنه انتسب إلى الطريقة القادرية، وهو متأثر تأثراً بالغاً بفلسفة ابن عربي والحلاج والبسطامي"([14]).
ونستشهد ببعض ما قاله في بعض مؤلفاته([15]) فيما يلي:
قال في كتابه شراب العاشقين شارحاً معنى "الحقيقة" بعد أن تكلم عن "الشريعة" و"الطريقة"، كديدن المتصوفة، قال: "لما رأى المحقق شيئاً خارج نفسه إنما رآه نفسه، إذ عنده أن العالم ونفسه متحدان... إلى أن قال: فلذلك قال أهل الحقيقة: إن جميع المخلوقات هي أنفسنا، وجميع الناس إخوتنا: المسلم والكافر، والحبيب والعدو، والجنة والنار، والسخط والمعرفة، والحسن والقبيح، والغنى والفقر، والمدح والذم، والشبع والجوع، والصغير والكبير، والحياة والموت، والمرض والصحة، والصواب والخطأ، كلها متساوية"([16])، واسترسل قائلاً: "وعندنا أن ذات الله ووجوده واحد، وأن وجود الله ووجود العالم واحد، والعالم وإن كان ظاهره موجوداً لكن وجوده وجود وهمي، وليس بوجود حقيقي"([17]).
فهذه نفس أقوال الحلاج، فيها من الاعتقاد بوحدة الوجود ما لا يخفى، فقد قال الحلاج على سبيل المثال:
وأي الأرض تخلو منك حتى تعالوا يطلبونك في السماء
تراهم ينظرون إليك جهراً وهم لا يبصرون من العماء([18])
وقال أيضاً:
يا عين عين وجودي يا مدى هممي يا منطقي وعباراتي وإيمائي
يا كل كلي ويا سمعي ويا بصري يا جملتي وتباعيضي وأجزائي([19])(/2)
فمن مثل ذلك الكلام المذكور الذي قاله حمزة فنصوري يعتقد أن حمزة فنصوري من الأوائل الذين جاءوا بعقيدة وحدة الوجود إلى أتشيه وجنوب شرق آسيا([20]).
وبهذا نصل إلى شيء، وهو معرفة وجود الصلة القوية بين اتجاه تصوف حمزة فنصوري واتجاه كبار الصوفية كالحلاج وابن عربي وغيرهما، كما أن انتسابه إلى الطريقة القادرية، وفي وقت مبكر أيضاً، دليل على وجود الصلة بين إندونيسيا وبغداد، مكان نشأة هذه الطريقة، بل وأن حمزة فنصوري رحل مباشرة إلى بغداد كما سبق.
انظر
الصوفية في إندونيسيا
نشأتها وتطورها وآثارها
(عرض وتقويم)
--------------------------------------
([1]) ينظر الكتاب الأصفر (ص:190).
([2]) نقلاً عن: hamzah fansuri, risalah tasawuf dan puisi puisinya حمزة فنصوري، رسالته الصوفية وأشعاره، لعبد الهادي. و. م، (ص:142) (باللغة الاندونيسية).
([3]) فنصور: اسم آخر لباروس، وهي الآن مدينة صغيرة في الساحل الغربي من سومطرا بين مدينة سيبولغا وسنكل، كانت فنصور إلى القرن السادس عشر الميلادي ميناء التجارة الحيوي، نزل بها تجار العالم. نقلاً عن حمزة فنصوري، رسالته الصوفية وأشعاره، (ص:9).
([4]) هكذا قد فهم غير واحد أن لفظ (الوجود) هنا يعني وحدة الوجود، لعل ذلك بالنظر إلى تصريحاته الظاهرة في مكان آخر، كما سيأتي ذكر بعضها بعد قليل.
([5]) شهرناوي: اسم فارسي لمدينة أيوطيا الواقعة الآن في تايلند، وشهرناوي معناه مدينة جديدة، وكانت هذه المدينة قديماً المركز الحيوي للتجارة العالمية، وأقام فيها كثير من المسلمين من الهند وإيران. ينظر: الكتاب الأصفر، (ص:190، و 207).
([6]) طريقة تنسب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، كما سيأتي الحديث عنها فيما بعد.
([7]) منطقة تقع في الجزء الشمالي من جزيرة سومطرا.(/3)
([8]) ينظر: syiah dan ahlu sunah saling revut penvaruh dan deduasaan sejak awal sejarah islam di depulauan nusantara النفوذ والسلطة منذ أوائل تاريخ الإسلام في نوسانتارا)، للبروفيسور أحمد هاشمي، (ص:71)، (باللغة الإندونيسية).
([9]) ينظر: ensiklopedi islam indonesia الموسوعة الإسلامية الإندونيسية)، مجموعة من كتاب، الجامعة الإسلامية الحكومية شريف هداية الله، الرئيس: هارون ناسوتيون، (ص:296) (باللغة الإندونيسية).
([10]) ينظر: الشيعة وأهل السنة تخاطفوا النفوذ والسلطة، لأحمد هاشمي، (ص:73).
([11]) ينظر: شبكة علماء الشرق الأوسط وجزر نوسانتارا، لأزيوماردي أزرا، (ص:167).
([12]) ينظر: الكتاب الأصفر، لمارتير فان بروينسن، (ص:208).
([13]) تطور علم التصوف وأعلامه في (نوسانتارا)، (ص:35).
([14]) البروفسور أحمد هاشمي: الشيعة وأهل السنة تخاطفوا النفوذ والسلطة، (ص:73-74).
([15]) من مؤلفاته التي عثر عليها: ضراب العاشقين وأشعار التوحيد والمعرفة. ينظر: حمزة فنصوري: رسالته الصوفية وأشعاره، (ص:17).
([16]) نقلاً عن الكتاب: الشيعة وأهل السنة تخاطفوا النفوذ والسلطة، (ص:76-77).
([17]) نفس المرحع، (ص:80- 81).
([18]) نقلاً عن الكتاب: الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، لمحمود عبد الرؤوف القاسم، (ص:110).
([19]) نقلاً عن (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ)، (ص:110).
([20]) ينظر: الموسوعة الإسلامية الإندونيسية، (ص:297).(/4)
ذو النون المصري
أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم ، قبطي الأصل من أهل النوبة ، من قرية أخميم بصعيد مصر ، أخذ التصوف عن شقران العابد أو إسرائيل المغربي على حسب رواية ابن خلكان وعبد الرحمن الجامي . ويؤكد الشيعة في كتبهم ويوافقهم ابن النديم في الفهرست أنه أخذ علم الكيمياء عن جابر بن حيان ، ويذكر ابن خلكان أنه كان من الملامتية الذين يخفون تقواهم عن الناس ويظهرون استهزاءهم بالشريعة ، وذلك مع اشتهاره بالحكمة والفصاحة.
توفي في جيزة مصر توفي سنة (245 هـ) عن تسعين عاماً.
يعده كتَّاب الصوفية المؤسس الحقيقي لطريقتهم في المحبة والمعرفة ، وأول من تكلم عن المقامات والأحوال في مصر ، وقال بالكشف وأن للشريعة ظاهراً وباطناً .
ويذكر القشيري في رسالته أنه أول من عرف التوحيد بالمعنى الصوفي ، وأول من وضع تعريفات للوجد والسماع ، وأنه أول من استعمل الرمز في التعبير عن حاله.
وقد تأثر بعقائد الإسماعيلية والباطنية وإخوان الصفا بسبب صِلاته القوية بهم ، حيث تزامن مع فترة نشاطهم في الدعوة إلى مذاهبهم الباطلة ، فظهرت له أقوال في علم الباطن ، والعلم اللدني ، والاتحاد ، وإرجاع أصل الخلق إلى النور المحمدي ، وكان لعلمه باللغة القبطية أثره على حل النقوش والرموز المرسومة على الآثار القبطية في قريته مما مكنه من تعلم فنون التنجيم والسحر والطلاسم الذي اشتغل بهم .
ومن كلامه: ((طاعة المريد لشيخه فوق طاعته ربه))
(تذكرة الأولياء: 1/171).
ويعد ذو النون أول من وقف من المتصوفة على الثقافة اليونانية ، ومذهب الأفلاطونية الجديدة ، وبخاصة ثيولوجيا أرسطو في الإلهيات ، ولذلك كان له مذهبه الخاص في المعرفة والفناء متأثراً بالغنوصية.(/1)
هو أول من عبر عن علوم المنازلات فأنكر عليه أهل مصر وقالوا: أحدثت علماً لم تتكلم فيه الصحابة وسعوا به إلى الخليفة المتوكل ورموه عنده بالزندقة وأحضروه من مصر على البريد فلما دخل سر من رأى وعظه فبكى المتوكل ورده مكرماً.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: كان أهل مصر يسمونه بالزنديق فلما مات أظلت الطير الخضر جنازته ترفرف عليه إلى أن وصل إلى قبره.
(شذرات الذهب ج2/ص 108).
وقال أيضاً: ((إن ذا النون أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم ـ وكان رئيس مصر ـ وأنه أحدث علماً لم يتكلم فيه السلف ورماه بالزندقة فدعاه أمير مصر وسأله عن اعتقاده فتكلم فرفض أمره وكتب به إلى المتوكل)). (تاريخ الخلفاء: 1ـ350)
راجع 11ـ532 سير أعلام النبلاء(/2)
شمس الدين سومطراني
الكاتب : فرحان بن ضيفور الجهري
هو شمس الدين بن عبد الله سومطراني، ولد في عائلة علم، في العقد الأخير من القرن السادس عشر الميلادي. وهو وشيخه حمزة فنصوري رائدا التصوف اللذان اتبعا مذهب وحدة الوجود(1)
ونسبته سومطراني تدل على أنه من سومطرا، جزيرة من الجزر الكبيرة في إندونيسيا.
أما رحلاته العلمية فلم تعرف، اللهم إلا أنه بجانب أن أخذ عن شيخه حمزة فنصوري فإنه سافر إلى جزيرة جاوا، وأخذ عن سونان بونانج(2) لكن الروايات الموجودة تؤكد أنه عالم من العلماء الكبار، "ولذلك فقد عين مفتياً للسلطنة في عهد علاء الدين رعاية شاه الرابع الذي تولى السلطة في أتشيه عام (997هـ) إلى عام (1011هـ) رغم أن عقيدته الوجودية غير متبعة لدى السلطنة.(3)
واستمر على منصبه كمفتي السلطنة إلى أن توفي في عهد السلطان إسكندر مودا الذي حكم عام (1016) إلى عام (1045هـ)(4)، فإنه توفي عام (1039هـ).(5)
أما عقيدته في التصوف فكما سبق أنه مثل شيخه يعتبر من المتصوفة الذين نحوا نحو عقيدة وحدة الوجود، إلا أنه يختلف عن شيخه في كونه ليس شاعراً رغم أنه كاتب منتج، كما أنه فاق شيخه في مجال السياسة؛ فإنه سياسي بارع في زمانه.(6)
كما يختلف أيضاً عن شيخه الذي عرف نفسه في بعض أبياته - كما سبق- أنه قادري الطريقة، "فإن شمس الدين سومطراني لم يعرف أنه انتسب إلى طريقة معينة من الطرق الصوفية.(7)(/1)
ولعلي أذكر بعضاً من تعاليمه فيما يلي، ليرى مدى تأثره بابن عربي، قال في كتابه (تنبيه الطلاب)(8)... وذلك الذكر ينقسم إلى قسمين: حقيقي وغير حقيقي. أما الذكر الحقيقي فهو شهود الحق سبحانه وتعالى بعين القلب في هذه الدار، وأما غير الحقيقي فينقسم إلى قسمين: ذكر جلي وذكر خفي، أما الذكر الجلي فهو الذي يتلفظ بـ"لا إله إلا الله في اللسان، وأما الذكر الخفي فهو الذي يحفظ معناه في القلب الذي هو محل مشاهدته تعالى؛ لأن القلب يطلق على معنيين أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجنب الأيسر من الصدر، وثانيهما أنه لطيف رباني روحاني متعلق بذلك القلب، فهو المسمى بحقيقة الانسان، وهو الروح الإنساني، وهو محل لمشاهدته تعالى، فالقلب لما كمل استعداده وقوي نوره بدوام الذكر المستعلي للمراقبة المستعدة للمشاهدة؛ صار مرآة للتجلي الإلهي، وهو الجمع بين البحرين وملتقى للعالمين، وإذا عرفت هذا ظهر لك سر قول الشيخ محي الدين بن عربي(9)
وما هي أقوال ابن عربي؟ إنها عن التجلي ووحدة الوجود، وهي محفوظة في مؤلفاته، ومثال ذلك قوله:
تبارك الله الذي لم يزل ** يظهر فيما قد بدا من صور
فإنه منشئها دائماً ** في كل ما يظهر أو قد ظهر(10)
وقوله: "إن لله تجليين: تجلي غيبي وتجلي شهادة، فمن تجلى الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، وهو التجلي الذاتي الذي الغيب حقيقته وهو الهوية التي يستحقها بقوله عن نفسه هو، فلا يزال "هو" له دائماً أبدا(11)، إلى أن قال: "ثم رفع الحجاب بينه وبين عبده، فرآه في صورة معتقده فهو عن اعتقاده، فلا يشهد القلب ولا العين أبداً إلا صورة معتقده في الحق، فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته، وهو الذي يتجلى له فيعرفه..(12)
والشاهد أن شمس الدين سومطراني قد تأثر بابن عربي تأثراً كبيراً في عقيدته الصوفية، وهي كما رأينا العقيدة الفلسفية الموغلة في الانحراف.(/2)
وقبل أن أنتقل إلى علم آخر أورد فيما يلي مثالاً آخر من أقواله التي تؤكد انغماسه في تلك العقيدة المنحرفة:
قال: "... لأن الحق سبحانه وتعالى يقوم الأشياء، وكل شيء؛ فإنه في ذاته موجود بالحق، والحق تعالى موجود بذاته وبه قوامها، فهو مقوّمها بل هو عينها لظهره(13)في ملابس أسمائه وصفاته في العلم والعين؛ لأنه باعتبار إطلاقه سار في ذوات الموجودات، كذلك الصفات الكاملة له عين صفات جميع الموجودات؛ لأنها باعتبار إطلاقها أيضاً سارية في جميع صفات الموجودات(14)
هذا ما تيسر لي عرضه عن هذين العلمين اللذين اشتهر ذكرهما عند الشعب الإندونيسي، وعند المهتمين بالتصوف على وجه الخصوص، واللذين رآهما معظم العلماء - إن لم أقل كلهم- أنهما من الأوائل الذين جاءوا بعقيدة وحدة الوجود إلى إندونيسيا.
لكن المؤسف أن ترجمة حياتهما لم يعثر عليها بقدر كاف، وبالتالي لم يعرف ممن أخذا - وخصوصا حمزة فنصوري- تلك العقيدة، لكن من المحتمل أنه أخذها أثناء رحلاته إلى خارج البلد كما سبق.
على أي حال، لقد انتشرت عقيدة وحدة الوجود حينذاك بين الناس نتيجة جهود هذين العلمين، واستمر ذلك إلى أن جاء العالم الهندي إلى إندونيسيا، وهو الشيخ نور الدين الرنيري، فقد استطاع هذا الشيخ بعد أن عين مفتياً في عهد السلطان اسكندرالثاني في مملكة أتشيه، استطاع بالتعاون مع الحاكم القضاء على تلك العقيدة بعض الشيء، وذلك بإصدار الأمر بإحراق المؤلفات التي ألفها حمزة فنصوري، وشمس الدين سومطراني(15)
ومن هذا العرض تبين لنا أن عقيدة ابن عربي وأمثاله، وهي العقيدة الوجودية، قد وصلت إلى إندونيسيا في وقت مبكر، وهي نفس العقيدة المنتشرة في بقية دول العالم الإسلامي.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ينظر: الموسوعة الإسلامية الاندونيسية، (ص:890).
(2) ينظر: تطور علم التصوف وأعلامه في نوسانتارا، (ص:40).(/3)
(3) ينظر: الشيعة وأهل السنة تخاطفوا النفوذ والسلطة، (ص:53).
(4) نفس المرجع، (ص:53).
(5) ينظر: الموسوعة الإسلامية الإندونيسية، (ص:890).
(6) ينظر: الشيعة وأهل السنة تخاطفوا النفوذ والسلطة، (ص:86).
(7) الكتاب الأصفر، مارتين فان بروينسن، (ص:191).
(8) لقد حاولت الاطلاع على هذا الكتاب مباشرة، فبحثت عنه في قاعة المخطوطات بالمكتبة الوطنية جاكرتا، فلم أجده.
(9) نقلاً عن (تطور علم التصوف وأعلامه في نوسانتارا)، (ص:48).
(10) الفتوحات المكية، لابن عربي (3/375).
(11) فصوص الحكم لابن عربي والتعليقات عليه، لأبي العلا عفيفي، (ص:120).
(12) نفس المرجع، (ص:121).
(13) لعل هذا خطأ من الناسخ، والصحيح طبعاً: (لظهوره).
(14) جوهر الحقائق، لشمس الدين سومطراني، مخطوط باللغة العربية مع ترجمتها إلى اللغة الجاوية، موجود في المكتبة الوطنية جاكرتا، تحت الرمز: (31 a).
(15) ينظر: الموسوعة الإسلامية الإندونيسية، (ص:891).(/4)
شيخ الملك الظاهر بيبرس الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي
هو أحد الذين يدّعون الزهد فيكذبون ويدلسون على الناس ، وما أكثرهم.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ((شيخ الملك الظاهر بيبرس كان حظياً عنده مكرماً لديه، له عنده المكانة الرفيعة، كان السلطان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له في الحسينية في كل أسبوع مرة أو مرتين ، وبنى له عندها جامعاً يخطب فيه للجمعة ، وكان يعطيه مالاً كثيراً ويطلق له ما أراد ، ووقف على زاويته شيئاً كثيراً جداً ، وكان معظماً عند الخاص والعام بسبب حب السلطان وتعظيمه له ، وكان يمازحه إذا جلس عنده ، وكان فيه خير ودين وصلاح ، وقد كاشف السلطان بأشياء كثيرة ....... ثم اتفق في هذه السنة أنه وقعت منه أشياء (1) أنكرت عليه وحوقق عليها عند السلطان الملك الظاهر فظهر له منه ما أوجب سجنه ثم أمر بإعدامه وهلاكه)). اهـ
(البداية والنهاية 13ـ265)
(1) ـ منها اللواط والزنى ، كما في تاريخ الملك الظاهر (2ـ35)(/1)
عبد الغني النابلسي
هو عبد الغني بن إسماعيل الدمشقي النابلسي الحنفي النقشبندي القادري, كان ميلاده في سنة (1050 هـ)، وتوفي بدمشق سنة (1143هـ) وله مؤلفات عديدة في الفقه والأدب والفلسفة والتجويد والتاريخ وفي الرحلات ، كانت عنده نزعة صوفية مغرقة , حيث صرح في كثير من كتبه في مدح ابن عربي صاحب الفتوحات والفصوص ، ووصفه بالشيخ الأكبر وترضى عنه ..... ، وكتب أقوالاً تخالف شريعة الإسلام.
من أقواله التي تبين عقيدته:
- [الظاهر والباطن] يقول النابلسي في كتابه: (الفتح الرباني والفيض الرحماني صفحة 133): ((فكل من اشتغل بالعلوم الظاهرة، ولم يعتقد أن وراء ما هو ساع في تعلمه من الفقه والحديث والتفسير حقائق وعلوماً باطنة، رمزها الشارع تحت ما أظهر من هذه الرسوم هي مقصودة له، لأنها المنجية عند الله تعالى، فهو غافل عن الله تعالى، جاهل بدين محمد صلى الله عليه وسلم، داخل تحت قوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخر هم غافلون}.)).
- [الذنب عند النابلسي] زعم النابلسي أن كتابه الفتح الرباني قد كتبه مترجماً عن الإلقاء الرحماني له مباشرة، وبغير وساطة.
أما الذنب عند النابلسي فقد عرفه حسب العلم الباطني: ((اعلم أن الذنب له حقيقة متى علمت علم سره، ومتى علم سره علم جهره، وله حال ومقام، وله أقسام، وأنا أتكلم لك الآن في ذلك بحسب الوارد ترجمة عن الإلقاء الرحماني)).
فالنابلسي عندما قرر في (ص133 من كتابه الفتح الرباني) أن علوم الشريعة لا تنجي وحدها من عذاب الآخرة، بل لا بد أن يدخل المتعلم إلى الحقائق والعلوم الباطنية التي ذكرت في الشريعة بالرمز فقط، ولم ينص عليها نصاً؛ وذلك لينجو من عذاب الله يوم القيامة، عندما قرر النابلسي كل ذلك فإنما قرره ترجمة عن الإلقاء الرحماني في زعمه، ولم يقرر ذلك اجتهادا ورأياً!!(/1)
فالذنب عند النابلسي بمقتضى كلامه السابق هو أن يظن العبد أن له وجوداً مستقلاً عن وجود الله!! ومن ظن ذلك فقد أفحش وبغى، وقال ما لم يعلم، واستدل على ذلك ببيت الشعر الذي سمعه الجنيد.
ويبالغ النابلسي أكثر من ذلك، فيزعم أن حال الذنب هو القرب من الله، وليس البعد منه. ولذلك يقول بالنص: ((فالمذنب في حال ذنبه أقرب إلى الله منه في حال طاعته))!!
- [الفرق بين الصديق والزنديق]: عقد فصلاً مطولاً قارن فيه بين الزنديق والصديق، وكانت خلاصة هذا الفصل أن الزنديق من يرى أن كفره وفسقه صادر منه فقط، وأنه مستقل بهذا الكفر. وأما الصديق فهو من يرى أن كل أفعال العباد صادرة من الله سبحانه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وأن المؤمن والكافر والفاسق والبار ما هم جميعاً إلا مظاهر مختلفة لحقيقة الرب الموجود وحده، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (الملك:3)، فالمؤمن عنده والكافر من خلق الله، ولا فرق بين هذا وذاك، ومن عرف هذه الحقيقة فهو الصديق، ومن جهلها وظن أن الكافر يصنع كفره، ويخلق فعله، ويستقل بأمر نفسه فهو الزنديق!!.(/2)
_ وأصرح من هذا كله ما وصل إليه الشيخ النابلسي، وهو أن مقام الزهد المشهور في التصوف ما هو إلا مرحلة في الطريق الصوفي، وأما المرحلة النهائية في فهو ترك الزهد، والاستمتاع بالمقسوم على أتم وجه، وفي ذلك يقول النص: "وأما بالنظر إلى غير الله تعالى فهو اشتغال الروحانية بما يرد عليها من أسئلة الأكوان السائرة للكون الحق، والستر هو الكفر، وأصحاب هذا الاشتغال المذكور هم الزهاد الذين يزهدون في الأشياء، فإنهم لولا ملاحظتهم للأشياء وادعاؤهم بثبوتها ما زهدوا فيها، فقد استتر الحق عنهم بزهدهم في الأشياء، فكفروا كفراً خفياً، ولو عقلوا لما زهدوا في شيء، لأن الذي ليس لهم عدم، فكيف يزهدون في العدم وهو غير مقدور، والذي لهم لا بد أن يصيبهم، فلو زهدوا فيه، لما أمكنهم وعاندوا الأقدار فهم مشغولون بزهدهم عن الله تعالى، فمتى يتفرغون له تعالى؟ ولله در القائل:
تجرد عن مقام الزهد فلبي فأنت الحق وحدك في شهودي
أأزهد في سواك، وليس شيء أراه سواك يا سر الوجود"
(الفتح الرباني ص134).
فانظر كيف نسب الكفر الخفي إلى الزهاد، لأنهم اشتغلوا بزهدهم في الأشياء، لأن الذي ليس لهم عدم، أي أن ما قدر لهم لا بد أن يكون. ولذلك يقول: "والذي لهم لا بد أن يصيبهم، فلو زهدوا فيه لما أمكنهم".
ولذلك رآهم النابلسي معارضين للأقدار، مشغولين بزهدهم عن الله تبارك وتعالى..
أحب أن أكرر هنا أن النابلسي ليس رجلاً مغموراً جاهلاً، بل هو مقدم عند القوم، مستشهد بأقواله عند الجميع وبعضهم يعتذر عن مثل مقالاته هذه بأنه من الشطح، والشطح مغفور لهؤلاء، لأن ذلك من غلبة وجدهم وحبهم لمولاهم.(/3)
وأقول: إذا كان ثم شطح مغفور عند الله، معذور صاحبه، فهو أن تصدر كلمة أو جملة في غلبة حال كما يقولون. أما أن يؤلف رجل مئتي كتاب، كلها على هذا النحو، وذلك يستغرق آلاف الساعات والأيام، فكيف يكون التأليف والتحقيق شطحاً وسكراً؟ فافهم أخي المسلم هذه الحقيقة فإنها سهم قاتل لهذا الباطل.
وقال في كتابه "إيضاح المقصود" صفحة (56) ما نصه: ((اعلم أن هذه المسألة ، وهي مسألة وحدة الوجود ، قد أكثر العلماء فيها الكلام قديماً وحديثاً ، وردها قوم قاصرون غافلون محجوبون ، وقبلها قوم آخرون عارفون محققون ، فمنهم من ردها لعدم فهم معناها عند القائلين بها ، وتوهمه منها المعنى الفاسد ، فلا التفات لرده كائناً من كان لصده عن الحق ، وإنما رده في حقيقة الأمر واقع على ما فهمه من المعنى الفاسد لا على هذه المسألة ، فهو الذي صور الضلال وردّه.
وأما القائلون بها فلأنهم العلماء العارفون والفضلاء المحققون ، أهل الكشف والبصيرة ، الموصفون بحسن السيرة وصفاء السريرة ؛ كالشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي ، والشيخ شرف الدين ابن الفارض ، والعفيف التلمساني ، والشيخ عبد الحق بن سبعين ، والشيخ عبد الكريم الجيلي ، وأمثالهم قدس الله تعالى أسرارهم ، وضاعف أنوارهم فإنهم قائلون بوحدة الوجود ، وأتباعهم إلى يوم القيامة ، إن شاء الله تعالى)).(/4)
عبد القادر الجيلاني الشيخ المفترى عليه
الشيخ الأمين محمد الحاج
هو عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلي ثم البغدادي، ولد بكيلان، ووفد بغداد شاباً سنة 488، وتفقه على عدد من مشايخها خاصة أبي سعد المُخَرَّمي، كان على مذهب الإمام أحمد في صفات الله عز وجل، وبغض الكلام وأهله، وفي القدر، وفي الفروع، خلف شيخه أبا سعيد المُخَرَّمي على مدرسته، ودرَّس فيها وأقام بها إلى أن مات.
قال ابن السمعاني عنه: (إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح، ديِّن خيِّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة).
ولد للشيخ عبد القادر تسعة وأربعون ولداً، سبعة وعشرون ذكراً والباقي إناث.
جلس الشيخ عبد القادر للوعظ سنة 520، وحصل له القبول من الناس، واعتقدوا ديانته وصلاحه، وانتفعوا بكلامه ووعظه.
مما اشتهر عن الشيخ عبد القادر رحمه الله مما يدل على فقهه وثبات قدمه في العلم ما حكاه عنه ابنه موسى كما قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (سمعتُ والدي يقول: خرجتُ في بعض سياحاتي إلى البرية، ومكثت أياماً لا أجد ماءً، فاشتد بي العطش، فأظلتني سحابة نزل عليَّ منها شيء يشبه الندى، فترويت منه، ثم رأيت نوراً أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، ونوديت منها: يا عبد القادر أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات، أوقال: ما حرمتُ على غيرك؛ فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اخسأ يا لعين؛ فإذا ذلك النور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني وقال: يا عبد القادر نجوتَ مني بعلمك بحكم ربك وفقهك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق؛ فقلتُ: لربي الفضل والمنة؛ قال: فقيل له: كيف علمتَ أنه شيطان؟ قال: بقوله: وقد أحللتُ لك المحرمات).
قلت:(من اعتقد أن شيخاً يحلُّ له ما حرَّم الله، أويرفع عنه ما أوجبه على خلقه كالصلاة مثلاً، فقد كفر.)(/1)
ومما يدل على تمكنه في الفقه وبراعته فيه ما حكاه عنه ابنه عبد الرزاق قال: جاءت فتوى من العجم إلى علماء بغداد لم يتضح لأحد فيها جواب شافٍ، وصورتها: ما يقول السادة العلماء في رجل حلف بالطلاق الثلاث، أنه لابد أن يعبد الله عز وجل عبادة ينفرد بها دون جميع الناس في وقت تلبسه بها، فما يفعل من العبادات؟
قال فأتى بها إلى والدي فكتب عليها على الفور: يأتي مكة، ويُخْلى له المطاف، ويطوف أسبوعاً وحده وتنحل يمينه؛ قال: فما بات المستفتي ببغداد.
ظهرت على يدي الشيخ عبد القادر بعض الكرامات، وتاب وأسلم على يديه العديد من الناس.
-الطوام التي نسبت إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله:
لقد افتُري على هذا الشيخ افتراء عظيماً، وكُذِّب عليه كذباً ، ونسب إليه من الكرامات والدعاوى الكاذبات ما لا يقبله عقل ولا دين، منها:
1. ما نسبه صوفية المشرق من أن الشيخ عبد القادر الجيلاني متصرف في الأكوان.
2. ما نسبوه إليه أنه قال: "قدمي هذه على رقبة كل ولي"!!! بل لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أنه قال ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3. وصفه بأنه هو القطب والغوث.
4. نسبة السماع الصوفي المحرم ودق الطبول الذي يمارسه الصوفية إليه.
5. المبالغة في مدحه والكذب فيه.
6. نسبة الكثير من الممارسات الصوفية إليه.
7. زعم أنه هو النائب عن الله في إدارة الكون.
8. وأنه غياث المستغيثين.
9. وأنه يمشي على الهواء.
10. وأن مجرد اسمه إذا كُتِبَ في كفن الميت لن تمسه النار.
هذا قليل من كثير، وغيض من فيض مما نسب إليه.
-الأدلة على اعتقاد الصوفية لهذه العقائد الباطلة:
الأدلة على اعتقاد الصوفية لهذه العقائد ونسبتها إلى الشيخ عبد القادر زوراً وبهتاناً كثيرة جداً، ولكن سنشير إلى طرف منها لضيق المقام، فنقول:
يقول الشيخ عبد الرحيم البرعي السوداني في مدح عبد القادر الجيلاني:
هو القطب والغوث الكبير هو الذي *** أفاض على الأكوان كالبحر والسيل(/2)
وعند ظهور الحال يخطو على الهوى *** ويُظهر شيئاً ليس يُدرك بالعقل
بأكفان مَنْ قد مات إن كُتِبَ اسمُه *** يكون له ستراً من النار والهول
وكل ولي عنقه تحت رجْله *** بأمر رسول الله يا لها من رجل
ينوب عن المختار في حضرة العلا*** ويحكم بالإحسان والحق والعدل
وقال آخر مكذباً على الجيلاني رحمه الله:
مريدي لا تخف واشٍ فإني *** عزوم قاتل عند القتال
طبولي في السماء والأرض دقت *** وشاؤس السعادة قد بدا لي
بلاد الله ملكي تحت حكمي *** وأوقاتي لقلبي قد صفا لي
نظرت إلى بلاد الله جمعاً *** كخردلة على حكم اتصال
أنا الجيلي محي الدين اسمي *** وأعْلامي على رأس الجبال
وزعموا أنه قال:
إن أزمَّة أهل الزمان على قلبي، وأنا المتصرف في عطائهم ومنعهم
وزعموا أنه قال:
إن قلوب الناس في يدي، إن أردتُ صرفها عني صرفتها، وإن أردتُ صرفتها إلي.
وقال أحدهم: إن الشيخ الجيلاني هو غوث الأغواث، وإن له حق التثبيت في اللوح المحفوظ، وأنه يملك أن يجعل المرأة رجلاً.
ونقل البريلوي شيخ الطريقة البريلوية بالهند وباكستان وبنقلاديش: أن الشيخ عبد القادر كان يمشي في الهواء على رؤوس الأشهاد في مجلسه، ويقول: ما تطلع الشمس حتى تسلم عليَّ.
وقال البريولي كذلك: إن الشيخ عبد القادر فرش فراشه على العرش، وأنزل العرش على الفرش.
مصدر هذه الأكاذيب وغيرها
مصدر هذه الطوام العظام، والآفات الجسام، وغيرها كثير، كتاب كبير في ثلاث مجلدات في مناقب الشيخ عبد القادر جمعها من غير خطام، ولا زمام، ولا تحرير، ولا اهتمام أبو الحسن الشطنوفي المصري، فهو الذي تحمل بثها وحسبه أن يبوء بوزرها، لا ينقص ذلك من أوزار من اتبعه شيئاً، وهو قدأساء للشيخ عبد القادر من حيث أراد الإحسان(/3)
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (كان الشيخ عبد القادر رحمه الله في عصره معظماً، يعظمه أكثر مشايخ الوقت من العلماء والزهاد، وله مناقب وكرامات كثيرة، ولكن قد جمع المقرئ أبو الحسن الشطنوفي المصري في أخبار الشيخ عبد القادر ومناقبه ثلاث مجلدات، وكَتَبَ فيها الطم والرم، وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.
وقد رأيتُ بعض هذا الكتاب، ولا يطيب على قلبي أن أعتمد على شيء مما فيه فأنقل منه إلا ما كان مشهوراً معروفاً من غير هذا الكتاب، وذلك لكثرة ما فيه من الرواية عن المجهولين، وفيه الشطح، والطامات، والدعاوى، والكلام الباطل، ما لا يحصى، ولا يليق نسبة مثل ذلك إلى الشيخ عبدالقادر رحمه الله،
ثم وجدت الكمال جعفر الأدفوني قد ذكر أن الشطنوفي نفسه كان متهماً فيما يحكيه في هذا الكتاب بعينه).
قلت: مصيبة الصوفية الكبرى، وداهيتهم العظمى أنهم لا يميزون بين الصحيح والموضوع، ولا بين الباطل والحق، بل يتلقون جلَّ عقائدهم عن طريق الهواتف والمكاشفات، والأحاديث الموضوعات، وقد ميز الله هذه الأمة على غيرها من الأمم بالأسانيد العالية، فلا يقبلون خبراً إلا إذا كان مسنوداً، ورجاله ثقات عدول.
ولهذا قال جمع من السادة العلماء: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم،؛ فالعلم لا يؤخذ من أي كاتب ولا كتاب، ولا حاطب ليل لا يميز بين صحيح وسقيم، ولا صاحب بدعة وهوى، كما قال مالك الإمام رحمه الله.
-المآخذ التي أخذت على عبد القادر الجيلاني:
لأهل العلم مآخذ أخذوها على هذا الشيخ، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
1. له مصنفان هما "الغنية لطالبي طريق الحق"، و"فتوح الغيب"، ضمنها كثيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
2. خالف متقدمي المشايخ أمثال الجنيد، وإبراهيم بن أدهم، وغيرهما، الذين كانوا معتصمين بمنهج أهل السنة والجماعة.(/4)
3. بعض الشطحات إن صحت عنه، نحو قوله: "قدمي هذه على رقبة كل ولي لله"!! ولا إخالها تصح عنه.
4. السياحة والهيام في البرية، لمخالفة ذلك لما جاء به سيد البرية.
-أقوال أهل العلم عن الشيخ عبد القادر وما نسب إليه:
قال الإمام الذهبي خاتماً ترجمة الشيخ عبد القادر بقوله: (وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه، واللهُ الموعد، وبعض ذلك مكذوب عليه).
وقال عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله: (كان له سمت حسن، وصمت غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه زهد كثير، وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالاً وأفعالاً، ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً، وقد صنف كتاب "الغنية"، و"فتوح الغيب"، وفيهما أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ).
وقال الحافظ ابن رجب معتذراً لما صدر من الشيخ عبد القادر: (ومن ساق الشيوخ المتأخرين مساق الصدر الأول، وطالبهم بطرائقهم، وأراد منهم ما كان عليه الحسن البصري وأصحابه مثلاً من العلم العظيم، والعمل العظيم، والورع العظيم، والزهد العظيم، مع كمال الخوف والخشية، وإظهار الذل والحزن والانكسار، والإزدراء على النفس، وكتمان الأحوال والمعارف والمحبة والشوق ونحو ذلك، فلا ريب أنه يزدري المتأخرين، ويمقتهم، ويهضم حقوقهم، فالأولى تنزيل الناس منازلهم، وتوفيتهم حقوقهم، ومعرفة مقاديرهم، وإقامة معاذيرهم، وقد جعل الله لكل شيء قدراً.
ولما كان الشيخ أبو الفرج بن الجوزي عظيم الخبرة بأحوال السلف والصدر الأول، قل من كان في زمانه يساويه في معرفة ذلك، وكان له أيضاً حظ من ذوق أحوالهم، وقسط من مشاركتهم في معارفهم، كان لا يعذر المشايخ المتأخرين في طرائقهم المخالفة لطرائق المتقدمين ويشتد إنكاره عليهم.
وقد قيل: إنه صنف كتاباً ينقم فيه على الشيخ عبد القادر أشياء كثيرة.(/5)
إلى أن قال: وللشيخ عبد القادر رحمه الله كلام حسن في التوحيد والصفات، والقدر، وفي علوم المعرفة موافق للسنة.
وله كتاب "الغنية لطالبي طريق الحق"، وهو معروف، وله كتاب "فتوح الغيب"، وجمع أصحابه من مجالسه في الوعظ كثيراً، وكان متمسكاً في مسائل الصفات والقدر ونحوها بالسنة، بالغاً في الرد على من خالفها).
عليك أخي الحبيب بالحنيفية السمحاء، والمحجة البيضاء، والطريقة المثلى، طريقة النبلاء الشرفاء، أتباع الرسل والأنبياء، وإياك إياك أن تنتمي إلى غيرها من هذه الطرق، فكلها والله بدع ومخالفات وعقائد فاسدة ومناهج متحرفة.(/6)
قال الحافظ الذهبي رحمه الله في وصف هذه الطريقة المحمدية المثلى: (الطريقة المثلى هي المحمديَّة، وهو الأخذ من الطيبات، وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف، كما قال تعالى: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً"، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكني أصومُ وأفطرُ، وأقومُ وأنامُ، وآتي النساء، وآكلُ اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، فلم يشرع لنا الرهبانية، ولا التمزق، ولا الوصال، بل ولا صومَ الدهر، ودين الإسلام يسر وحنيفية سمحة، فليأكل المسلم من الطيب إذا أمكنه، كما قال تعالى: "لينفق ذو سعة من سعته"، وقد كان النساء أحب شيء إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وكذلك اللحم، والحلواء، والعسل، والشراب الحلو البارد، والمِسْك، وهو أفضل الخلق وأحبهم إلى الله تعالى. ثم العابدُ العَرِيُّ من العلم متى زهد، وتبتل، وجاع، وخلا بنفسه، وترك اللحم والثمار، واقتصر على الدقة والكسرة، ضعفت حواسه ولطفت، ولازمته خطرات النفس، وسمع خطاباً يتولد من الجوع والسهر، ولا وجود لذلك الخطاب ـ والله ـ في الخارج، وولج الشيطانُ في باطنه وخرج، فيعتقد أنه قد وصل، وخوطب وارتقى، فيتمكن منه الشيطان، ويوسوس له، فينظر إلى المؤمنين بعين الازدراء، ويتذكر ذنوبهم، وينظر إلى نفسه بعين الكمال، وربما آل به الأمر إلى أن يعتقد أنه ولي، صاحب كرامات وتمكن، وربما حصل له شك، وتزلزل إيمانُه، فالخلوة والجوع أبوجاد الترهب، وليس ذلك من شريعتنا في شيء، بل السلوك الكامل هو الورعُ في القوت، والورعُ في المنطق، وحفظُ اللسان، والتلاوةُ بالترتيل والتدبر، ومقتُ النفس وذمُّها في ذات الله، والإكثارُ من الصوم المشروع، ودوامُ التهجد، والتواضعُ للمسلمين، وصلة الرحم، والسماحة، وكثرة البشر، والإنفاقُ مع الخصاصة، وقولُ الحق المر برفق وتؤدة، والأمرُ بالمعروف، والأخذُ بالعفو، والإعراضُ عن الجاهلين، والرباطُ بالثغر، وجهادُ العدو، وحجُّ البيت، وتناولُ(/7)
الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السَّحَر، فهذه شمائل الأولياء، وصفات المحمديين، أماتنا الله على محبتهم).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المراجع
1. البداية والنهاية للحافظ ابن كثير.
2. البريلوية: عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهيري.
3. سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي.
4. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي.
5. وفيات الأعلان لابن خلكان.(/8)
عبد الكريم الجيلي وكتابه الإنسان الكامل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظه الله ـ في كتابه (الفكر الصوفي):
هذا عبد الكريم الجيلي يكتب كتابه (الإنسان الكامل) زاعماً أيضاً أنه من الله أخذه، وأن الله أمره بإخراج هذا الكتاب للناس وأنه ليس فيه شيء إلا وهو مؤيد بالكتاب والسنة يقول:
".. ثم ألتمس من الناظر في هذا الكتاب بعد أن أعلمه أني ما وضعت شيئاً في هذا الكتاب إلا وهو مؤيد بكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا لاح له شيء في كلامي بخلاف الكتاب والسنة فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه لا من حيث مرادي الذي وضعت الكلام لأجله فليتوقف عن العمل به مع التسليم إلى أن يفتح الله تعالى عليه بمعرفته، ويحصل له شاهد ذلك من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه.
وفائدة التسليم هنا وترك الإنكار أن لا يحرم الوصول إلى معرفة ذلك، فإن من أنكر شيئاً من علمنا هذا حرم الوصول إليه ما دام منكراً، ولا سبيل إلى غير ذلك، بل ويخشى عليه حرمان الوصول إلى ذلك مطلقاً بالإنكار أول وهلة، ولا طريق له إلا الإيمان والتسليم.
واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنة فهو ضلالة، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده، فقد يكون العلم في نفسه مؤيداً بالكتاب والسنة، ولكن قلة استعدادك منعتك من فهمه فلن تستطيع أن تتناوله له بهمتك من محله فتظن أنه غير مؤيد بالكتاب والسنة، فالطريق في هذا التسليم وعدم العمل به من غير إنكار إلى أن يأخذ الله بيدك إليه" (الإنسان الكامل ص8).(/1)
علماً بأنه لم يضع فيه شيئاً مطلقاً وافق الكتاب والسنة، بل جمع فيه من الكفر والزندقة أعظم من كل كفر الأولين والآخرين كيف لا وقد جعل كل من عبد شيئاً في الأرض فما عبد إلا الله. بل زعم أنه ليس في الوجود إلا الله، الذي خلق الوجود من نفسه لنفسه فليس هناك إلا هو فهو الرب والعبد، والشيطان والراهب،والسماء والأرض، والظلمات والنور، والحمل الوديع والذئب الكاسر..
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً واستغفر الله من تسطير ذلك وكتابته.. اللهم رحماك رحماك.. لقد قلت في كتابك عن الذين ادعوا الألوهية في عيسى وهو نبي كريم ونفس طيبة {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} وقلت أيضاً {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً* أن دعوا للرحمن ولداً* وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا* إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً}.. وهذا الزنديق يا ربي وأمثاله جعلوا كل كلب وخنزير في الأرض، وكل شيطان وإبليس وكل كافر وفاجر جزءاً منك، ومظهراً لك (ومجلى) -حسب عبارتهم- من مجاليك وتجلياتك ثم أنت ترزقهم وتعافيهم وتحلم عليهم سبحانك ما أحلمك وأجلك وأعظمك. لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك. ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
نعود إلى الجيلي وكتابه الذي يقول فيه بالنص:
"وكنت قد أسميت الكتاب على الكشف الصريح وأيدت مسائله بالخبر الصحيح (..انظر) وسميته بالإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل" ثم يقول: "فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وإلغازه، ووعدني بعموم الانتفاع فقلت طوعاً للأمر المطاع، وابتدأت في تأليفه متكلاً على الحق في تعريفه، فها أنا ذا أكرع من دنه (الدن: هو وعاء الخمر الذي يخمر فيه) القديم، بكأس الاسم العليم، في قوابل أهل الإيمان والتسليم خمرة مرضعة من الحي الكريم، مسكرة الموجود بالقديم) أ.هـ (ص6).
ما الذي يتكلم عليه الجيلي في هذا الكتاب:(/2)
إن كتابه من أوله وآخره يدور حول معنى واحد وهو وصف الله بصفات مخلوقاته، وبيان أن المخلوق هو عين الخالق.. هذا كل ما يريد الجيلي أن يصل إليه وهذا هو ما شرحه شرحاً كاملاً في كتابه، وأضاف أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل والإله الكامل الذي اتصف بكل صفات الله بعلوها وسفلها، بحلوها ومرها؛ فقل هو الله أحد معناها كما يفسرها الجيلي: قل يا محمد الإنسان هو الله أحد. فهاء الإشارة في (هو) راجع إلى فاعل قل وهو أنت.. فيكون المعني يا محمد هو أي أنت الله أحد.. هذا هو الكشف الذي كشفه لنا الجيلي من الغيب وهذا هو الكتاب الذي ليس فيه شيء يخالف الكتاب والسنة.
وهذا نص عبارة الجيلي في ذلك:
"الحرف الخامس من هذا الاسم: هو الهاء، فهو إشارة إلى هوية الحق الذي هو عين الإنسان قال الله تعالى (قل) يا محمد (هو) أي الإنسان (الله أحد) فهاء الإشارة في هو راجع إلى فاعل قل وهو أنت، وإلا فلا يجوز إعادة الضمير إلى غير مذكور أقيم المخاطب هنا مقام الغائب التفاتاً بيانياً إشارة إلى أن المخاطب بهذا ليس نفس الحاضر وحده، بل الغائب والحاضر في هذا على السواء.
قال الله تعالى (ولو ترى إذ وقفوا) ليس المراد به محمداً وحده بل كل راء، فاستدارة رأس الهاء إشارة إلى دوران رحى الوجود الحقي والخلقي على الإنسان، فهو في عالم المثال كالدائرة التي أشارت الهاء إليها، فقل ما شئت إن شئت قلت الدائرة حق وجوفها خلق، وإن شئت قلت الدائرة خلق وجوفها حق فهو حق وهو خلق، وإن شئت قلب الأمر فيه بالإلهام، فالأمر في الإنسان دوري بين أنه مخلوق له ذل العبودية والعجز وبين أنه على صورة الرحمن، فله الكمال والعز.(/3)
قال الله تعالى (والله هو الولي) يعني الإنسان الكامل الذي قال فيه (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لأنه يستحيل الخوف والحزن وأمثال ذلك على الله لأن الله هو الولي الحميد (وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير) أي الولي، فهو حق منصور في صورة خلقية، أو خلق متحقق بمعاني الإلهية، فعلى كل حال وتقدير وفي كل مقال وتقرير هو الجامع لوصفي النقص والكمال، والساطع في أرض كونه بنور شمس المتعال، فهو السماء والأرض، وهو الطول والعرض، وفي هذا المعنى قلت:
لي الملك في الدارين لم أرى فيهما سواي فأرجو فضله أو فأخشاه
ولا قبل من قبلي فالحق شأنه ولا بعد من بعدي فأسبق معناه
وقد حزت أنواع الكمال وإنني جمال جلال الكل ما أنا إلا هو
فمهما ترى من معدن ونباته وحيوانه مع أنه وسجاياه
ومهما ترى من عنصر وطبيعة ومن هباء الأصل طيب هيولاه
ومهما ترى من أبحر وقفاره ومن شجر أو شاهق طال أعلاه
ومهما ترى من صورة معنوية ومن شهد للعين طال محياه
إلى أن يقول:
فإني ذلك الكل والكل مشهدي أنا المتجلي في حقيقته لا هو" (ص31)
ويشرح الجيلي هذا المعنى المجمل تفصيلياً في الباب الستين من كتابه فيقول بالنص:
الباب الملفى ستين: في الإنسان الكامل وأنه محمد صلى الله عليه وسلم وأنه مقابل للحق والخلق.(/4)
"اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس (الكنيسة مكان العبادة عند النصارى. والمعنى المشار إليه هنا أنه يوصف بالشيء ونقيضه كما قال فريد الدين العطار: وما الكلب والخنزير ( ــ ) إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة) فيسمى به باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبد الله، ولقبه شمس الدين، ثم له باعتبار ملابس أخرى أسام، وله في كل زمان اسم ما يليق بلباسه في ذلك الزمان، فقد اجتمعت به صلى الله عليه وسلم وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين إسماعيل الجبرتي، ولست أعلم أنه النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أعلم أنه الشيخ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعمائة وسر هذا الأمر تمكنه صلى الله عليه وسلم من التصور بكل صورة، فالأديب إذا رآه في الصورة المحمدية التي كان عليها في حياته فإنه يسميه باسمه، وإذا رآه في صورة ما من الصور وعلم أنه محمد فلا يسميه إلا باسم تلك الصورة، ثم لا يوقع ذلك الاسم الأعلى الحقيقة المحمدية.(/5)
ألا تراه صلى الله عليه وسلم لما ظهر في صورة الشبلي رضي الله عنه قال الشبلي لتلميذه أشهد أني رسول الله وكان التلميذ صاحب كشف فعرفه، فقال: أشهد أنك رسول الله، وهذا أمر غير منكور وهو كما يرى النائم فلان في صورة فلان. وأقل مراتب الكشف أن يسوغ به في اليقظة ما يسوغ به اليقظة ما يسوغ به في النوم، ولكن بين النوم والكشف فرقاً وهو أن الصورة التي يرى فيها محمد صلى الله عليه وسلم في النوم لا يوقع اسمها في اليقظة على الحقيقة المحمدية، لأن عالم المثال يقع التعبير فيه فيعبر عن الحقيقة المحمدية إلى حقيقة تلك الصورة في اليقظة، بخلاف الكشف فإنه إذا كشف لك عن الحقيقة المحمدية أنها متجلية في صورة من صور الآدميين، فيلزمك إيقاع اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدية، ويجب عليك أن تتأدب مع صاحب تلك الصورة تأدبك مع محمد صلى الله عليه وسلم. لما أعطاك الكشف أن محمداً صلى الله عليه وسلم متصور بتلك الصورة، فلا يجوز لك بعد شهود محمد صلى الله عليه وسلم فيها أن تعاملها بما كنت تعاملها به من قبل، ثم إياك أن تتوهم شيئاً في قولي من مذهب التناسخ، حاشا لله وحاشا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك مرادي، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم له من التمكين في التصور بكل صورة حتى يتجلى في هذه الصورة، وقد جرت سنته صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملها ليعلي شأنهم ويقيم ميلانهم، فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم" أ.هـ
ثم يستطرد الجيلي حسب اعتقاده مبيناً كيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم إنساناً كاملاً، وإلهاً تحققت فيه كل مظاهر الربوبية والألوهية وتجلت فيه كل أسماء الله وصفاته..(/6)
ولما كان الله عند الجيلي ومن على طريقته من هؤلاء الزنادقة الملحدين هو هذه المخلوقات لا غير.. استطرد الجيلي مبيناً أن الكون الوجود في كل شيء منه مقابل للذات المحمدية. ففي ذات الرسول شبيه العرش والكرسي، والسماوات والأرض والملائكة والحيوان والنبات والجماد.. وسائر الموجودات التي هي في حقيقتها عند الجيلي هي الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً..
يقول الجيلي شارحاً ذلك:
"واعلم أن الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه.(/7)
فيقابل الحقائق العلوية بلطافته، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته، فأول ما يبدو في مقابلته للحقائق الخلقية يقابل العرش بقلبه، قال صلى الله عليه وسلم (قلب المؤمن من عرش الرحمن)، ويقابل الكرسي بآنيته، ويقابل سدرة المنتهى بمقامه، ويقابل القلم الأعلى بعقله، ويقابل اللوح المحفوظ بنفسه، ويقابل العناصر بطبعه، ويقابل الهيولي بقابليته، ويقابل الهباء بحيز هيكله، ويقابل الفلك الأطلس برأيه، ويقابل الفلك المكوكب بمدركته، ويقابل السماء الخامسة بهمته، ويقابل السماء الرابعة بفهمه، ويقابل السماء الثالثة بخياله، ويقابل السماء الثانية بفكره، ويقابل السماء الأولى بحافظته، ثم يقابل زحل بالقوى اللامسة، ويقابل المشتري بالقوى الدافعة، ويقابل المريخ بالقوى المحركة، ويقابل الشمس بالقوى الناظرة، ويقابل الزهرة بالقوى المتلذذة، ويقابل عطارد بالقوى الشامة، ويقابل القمر بالقوى السامعة، ثم يقابل فلك النار بحرارته، ويقابل فلك الماء ببرودته، ويقابل فلك الهواء برطوبته، ويقابل فلك التراب بيبوسته، ثم يقابل الملائكة بخواطره، ويقابل الجن والشياطين بوسواسه، ويقابل البهائم بحيوانيته، ويقابل الأسد بالقوى الباطشة، ويقابل الثعلب بالقوى الماكرة، ويقابل الذئب بالقوى الخادعة، ويقابل القرد بالقوى الحاسدة، ويقابل الفأر بالقوى الحريصة، وقس على ذلك باقي قواه، ثم إنه يقابل النار بالمادة الصفراوية، ويقابل الماء بالمادة البلغمية، ويقابل الريح بالمادة الدموية، ويقابل التراب بالمادة السوداوية، ثم يقابل السبعة أبحر بريقه ومخاطه وعرقه ونقاء أذنه ودمعه وبوله والسامع المحيط، وهو المادة الجارية بين الدم والعرق والجلد، منها تتفرع تلك الستة، ولكل واحد طعم، فحلو وحامض، ومر وممزوج، ومالح ونتن وطيب، ثم يقابل الجوهر بهويته وهي ذاته، ويقابل العرض بوصفه، ثم يقابل الجمادات بأنيابه، فإن الناب إذا بلغ وأخذ حده في البلوغ بقي شبه الجمادات لا يزيد(/8)
ولا ينقص وإذا كسرته لا يلتحم بشيء، ثم يقابل النبات بشعره وظفره، ويقابل الحيوان بشهوانيته، ويقابل مثله من الآدميين ببشريته وصورته، ثم يقابل أجناس الناس، فيقابل الملك بروحه، ويقابل الوزير بنظره الفكري، ويقابل القاضي بعلمه المسموع، ورأيه المطبوع، ويقابل الشرطي بظنه، ويقابل الأعوان بعروقه وقواه جميعها، ويقابل المؤمنين بيقينه، ويقابل المشركين بشكه وريبه، فلا يزال يقابل كل حقيقة من حقائق الوجود برقيقة من رقائقه، فقد بينا فيما مضى من الأبواب خلق كل ملك مقرب من كل قوى من الإنسان الكامل، وبقي أن نتكلم عن مقابلة الأسماء والصفات.
اعلم أن نسخة الحق تعالى كما أخبر صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خلق الله آدم على صورة الرحمن) وفي حديث آخر (خلق الله آدم على صورته) وذلك أن الله تعالى حي عليم قادر مريد سميع بصير متكلم، وكذلك الإنسان حي عليم..الخ.
ثم يقابل الهوية بالهوية، والإنية بالإنية، والذات بالذات، والكل بالكل، والشمول بالشمول، والخصوص بالخصوص، وله مقابلة أخرى يقابل الحق بحقائقه الذاتية، وقد نبهنا عليها في هذا الكتاب في غير ما موضع، وأما هنا فلا يجوز لنا أن نترجم عنها، فيكفي هذا القدر من التنبيه عليها.(/9)
ثم اعلم أن الإنسان الكامل هو الذي يستحق الأسماء الذاتية، والصفات الإلهية استحقاق الأصالة والملك بحكم المقتضي الذاتي، فإنه المعبر عن حقيقته بتلك العبارات والمشار إلى لطيفته بتلك الإشارات ليس لها مستند في الوجود إلا الإنسان الكامل، فمثاله للحق مثال المرآة التي لا يرى الشخص صورته إلا فيها، وإلا فلا يمكنه أن يرى صورة نفسه لا بمرآة الاسم الله فهو مرآته، والإنسان الكامل أيضاً مرآة الحق، فإن الحق تعالى أوجب على نفسه أن لا ترى أسماؤه ولا صفاته إلا في الإنسان الكامل، وهذا معنى قوله تعالى {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} يعني قد ظلم نفسه بأن أنزلها عن تلك الدرجة، جهولاً بمقداره لأنه محل الأمانة الإلهية وهو لا يدري" أ.هـ (المصدر السابق ص76،77).(/10)
عبد الوهاب الشعراني
عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري. توفي (973هـ ) صاحب "الطبقات" المليء بالخزي والضلال والذي أساء فيه إلى الدين إساءةً بالغةً.
فقد قال الشعراني في الطبقات (2ـ 87) طبعة دار العلم للجميع: ((الشيخ حسين أبو علي رضي الله عنه ،كان هذا الشيخ رضي الله عنه من كمل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرى ، وكان كثير التطورات تدخل عليه بعض الأوقات تجده جنديا ، ثم تدخل فتجده سبعاً ، ثم تدخل فتجده فيلاً ، ثم تدخل فتجده صبياً وهكذا ، ومكث أربعين سنة في خلوة مسدودة بابها ليس لها غير طاقة يدخل منها الهواء وكان يقبض من الأرض ويناول الناس الذهب والفضة ، وكان من لا يعرف أحوال الفقراء يقول هذا كيماوي سيماوي)).
وقال أيضاً: ((فدخلوا على الشيخ فقطعوه بالسيوف وأخذوه في كيس ورموه على الكوم واخذوا على قتله ألف دينار ثم أصبحوا فوجدوا الشيخ حسيناً رضي الله عنه جالساً فقال لهم: غركم القمر. وكانت النموس تتبعه حيث مشى في شوارع وغيرها فسموا أصحابه بالنموسية
وكان رضي الله عنه بريئاً من جميع ما فعله أصحابه من الشطح الذي ضربت به رقابهم في الشريعة)).
وقال أيضاً في الطبقات: (2ـ 66) في ترجمة يوسف العجمي الكوراني: ((وكان رضي الله عنه إذا خرج من الخلوة يخرج وعيناه كأنهما قطعة جمر تتوقد فكل من وقع نظره عليه انقلبت عينه ذهباً خالصاً ، ولقد وقع بصره يوماً على كلب فانقادت إليه جميع الكلاب ، إن وقف وقفوا وان مشى مشوا)). إلى أن قال: ((ووقع له مرة أخرى أنه خرج من خلوة الأربعين فوقع بصره على كلب فانقادت إليه جميع الكلاب ، وصار الناس يهرعون إليه (إلى الكلب) في قضاء حوائجهم ، فلما مرض ذلك الكلب اجتمع حوله الكلاب يبكون ويظهرون الحزن عليه ، فلما مات اظهروا البكاء والعويل ، وألهم الله تعالى بعض الناس فدفنوه فكانت الكلاب تزور قبره حتى ماتوا)).(/1)
قال الشعراني: ((فهذه نظرة إلى كلب فعلت ما فعلت ، فكيف لو وقعت على إنسان؟!!!)).
وقال أيضاً في ترجمة شمس الدين محمد الحنفي (2ـ88): ((ومنهم سيدنا ومولانا شمس الدين الحنفي رضي الله تعالى عنه ورحمه)). إلى أن قال: ((ولما دنت وفاته بأيام كان لا يغفل عن البكاء ليلاً ولا نهاراً وغلب عليه الذلة والمسكنة والخضوع حتى سأل الله تعالى قبل موته أن يبتليه بالقمل والنوم مع الكلاب ، والموت على قارعة الطريق ، وحصل له ذلك قبل موته فتزايد عليه
القمل حتى صار يمشي على فراشه ، ودخل له كلب فنام معه على الفراش ليلتين وشيئاً ، ومات على طرف حوشه ، والناس يمرون عليه في الشوارع)).
قال: ((وقال له سيدي علي بن وفا: ما تقول في رجل رحى الوجود بيده يدورها كيف شاء.؟ فقال له سيدي محمد رضي الله عنه: فما تقول فيمن يضع يده عليها فيمنعها أن تدور؟)).
وقال أيضاً في ترجمة أبو الخير الكليباتي في الطبقات (2ـ143): ((كان رضي الله عنه من الأولياء المعتقدين وله المكاشفات العظيمة مع أهل مصر وأهل عصره ، وكانت الكلاب التي تسير معه من الجن ، وكانوا يقضون حوائج الناس ، ويأمر صاحب الحاجة أن يشتري للكلب منهم إذا ذهب معه لقضاء حاجته رطل لحم ، وكان أغلب أوقاته واضعاً وجهه في حلق الخلاء في ميضأة جامع الحاكم ، ويدخل الجامع بالكلاب فأنكر عليه بعض القضاة فقال: هؤلاء لا يحكمون باطلاً ولا يشهدون زوراً)).
وقال أيضاً في الطبقات (2ـ144): ((ومنهم سيدي سعود المجذوب رضي الله عنه
كان رضي الله عنه من أهل الكشف التام ، وكان له كلب قدر الحمار لم يزل واضعاً بوزه (فمه) على كتفه)).
وقال أيضاً في ترجمة بركات الخياط (2ـ144): ((وكان دكانه منتناً قذراً لأن كل كلب وجده ميتاً أو قطاً أو خروفاً يأتي به فيضعه داخل الدكان وكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده)).(/2)
وقال أيضاً في الطبقات (2ـ 184): الشيخ الصالح عبد القادر السبكي أحد رجال الله تعالى كان من أصحاب التصريف بقرى مصر رضي الله عنه: ((وكان كثير الكشف لا يحجبه الجدران والمسافات البعيدة من إطلاعه على ما يفعله الإنسان في قعر بيته.... وخطب مرة عروساً فرآها فأعجبته فتعرى لها بحضرة أبيها ، وقال: انظري أنت الأخرى حتى لا تقولي بعد ذلك ــــــــــــــ ثم أمسك ـــــ)). عذراً ليس من صلاحيتنا أن ننشر مثل هذا الكلام.
وقال أيضاً: الشيخ علي أبو خودة الطبقات (2ـ135): ((وكان رضي الله عنه إذا رأى امرأة أو أمرداً راوده عن نفسه ، وحسس على مقعدته ، سواء كان ابن أمير ، أو ابن وزير ، ولو كان بحضرة والده ، أو غيره ، ولا يلتفت إلى الناس ولا عليه من أحد)).
وقال أيضاً في الطبقات (2 ـ185): ((الشيخ شعبان المجذوب رضي الله عنه ، كان من أهل التصريف بمصر المحروسة ، وكان يخبر بوقائع الزمان المستقبل واخبرني سيدي علي الخواص رضي الله عنه أن الله تعالى يطلع الشيخ شعبان على ما يقع في كل سنة من رؤية هلالها ، فكان إذا رأى الهلال عرف جميع ما فيه مكتوباً على العباد)).
وقال: ((وكان يقرأ سورا غير السور التي في القرآن على كراسي المساجد يوم الجمعة وغيرها فلا ينكر عليه أحد ، وكان العامي يظن أنها من القرآن لشبهها بالآيات في الفواصل)).
وقال: ((وقد سمعته مرة يقرأ على باب دار، على طريفة الفقهاء الذين يقرؤون في البيوت فأصغيت إلى ما يقول فسمعته يقول: "وما انتم في تصديق هود بصادقين ، ولقد أرسل الله لنا قوماً بالمؤتفكات يضربوننا ويأخذون أموالنا وما لنا من ناصرين" ثم قال: الهم اجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز في صحائف فلان وفلان إلى آخر ما قال)).(/3)
وقال أيضاً في الطبقات (2ـ142): ((الشيخ إبراهيم العريان رضي الله عنه ،كان يُخرج الريح بحضرة الأكابر ثم يقول: هذه ضرطة فلان ، ويحلف على ذلك ، فيخجل ذلك الكبير منه ، مات رضي الله عنه سنة نيف وثلاثين وتسعمائه)).
((وكان رضي الله عنه يطلع المنبر ويخطب عرياناً ...... فيحصل للناس بسط عظيم)).
وقال أيضاً: ((شيخنا أبو علي هذا كان من جماعته: الشيخ عبيد: واخبرني بعض الثقات أنه كان مع الشيخ عبيد في مركب فوحلت ، فلم يستطع أحد أن يزحزحها ، فقال الشيخ عبيد: اربطوها في بيضي (الخصيتين) بحبل وأنا انزل اسحبها ففعلوا ، فسحبها ببيضه حتى تخلصت من الوحل إلى البحر ، مات رضي الله عنه في سنة نيف وتسعين وثمانمائه)).
وقال أيضاً في الطبقات (2ـ 87): ((سيدي الشيخ محمد الغمري ، أحد أعيان أصحاب سيدي احمد الزاهد رضي الله عنه ، كان من العلماء العاملين والفقراء الزاهدين المحققين سار في الطريق يسيرة صالحة وكانت جماعته في المحلة الكبرى وغيرها يضرب بهم المثل في الأدب والاجتهاد ، قال: ودخل عليه سيدي محمد بن شعيب الخيسي يوما الخلوة فرآه جالساً في الهواء وله سبع عيون فقال له: الكامل من الرجال يسمى أبا العيون)).
وقال أيضاً في الطبقات (2ـ88): ((سيدنا ومولانا شمس الدين الحنفي كان رضي الله عنه من أجلاء مشايخ مصر وسادات العارفين صاحب الكرامات الظاهرة والأفعال الفاخرة والأحوال الخارقة والمقامات السنية)) إلى أن قال: ((وهو أحد من أظهره الله تعالى إلى الوجود ، وصرفه في الكون ". إلى أن قال: ((قال الشيخ أبو العباس: وكنت إذا جئته وهو في الخلوة أقف على بابها فإن قال لي ادخل دخلت ، وإن سكت رجعت فدخلت عليه يوما بلا استئذان فوقع بصري على أسد عظيم فغشي علي فلما أفقت خرجت واستغفرت الله تعالى من الدخول عليه بلا إذن ". ثم قال" وقد مكث في خلوته سبع سنين تحت الأرض ابتدأها وعمره أربع عشرة سنة".(/4)
"قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: ولم يخرج الشيخ من تلك الخلوة حتى سمع هاتفا يقول: يا محمد اخرج انفع الناس ثلاث مرات ، وقال له في الثالثة: إن لم تخرج وإلا هيه. فقال الشيخ: فما بعد هيه إلا القطيعة ، قال الشيخ فقمت وخرجت إلى الزاوية فرأيت على السقيفة جماعة يتوضؤون فمنهم من على رأسه عمامة صفراء ومنهم زرقاء ، ومنهم من وجهه وجه قرد ، ومنهم من وجهه وجه خنزير ، ومنهم من وجهه كالقمر ، فعلمت أن الله أطلعني على عواقب أمور هؤلاء الناس ، فرجعت إلى خلفي وتوجهت إلى الله تعالى فستر عني ما كشف لي من أحوال الناس وصرت كآحاد الناس)).
وقال أيضاً في ترجمة علي وحيش في الطبقات (2ـ149): ((كان رضي الله عنه من أعيان المجاذيب أرباب الأحوال ...وله كرامات وخوارق واجتمعت به يوماً)). إلى أن قال: ((وكان إذا رأى شيخَ بلدٍ أو غيرَه ينزله مِن على الحمارة ويقول له: أمسِك رأسَها حتى أفعل فيها! فإن أبى الشيخ تسمَّر في الأرض لا يستطيع أن يمشي خطوةً، وإن سمح حصل له خجلٌ عظيمٌ والناس يمرُّون عليه)).
ويقول الشعراني عن نفسه في كتابه "الطبقات: ((إنَّ سبَبَ حضوري مولد "أحمد البدوي" كلَّ سَنَةٍ أنَّ شيخي العارف بالله تعالى "محمد الشناوي" رضي الله عنه! أحدَ أعيان بيته رحمه الله، قد كان أخذ عليّ العهد في القبة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه، وسلَّمني بيده، فخرجت اليد الشريفة من الضريح! - بين الشعراني والبدوي نحو أربعة قرون! -وقبضت على يدي. وقال: يا سيدي يكون خاطرك عليه، واجعله تحت نظرك! فسمعتُ "سيدي أحمد" من القبر يقول: نعم.
ولما دخلتُ بزوجتي فاطمة أم عبد الرحمن وهي بكرٌ، مكثتُ خمسةَ شهورٍ لم أقرب منها
فجاءني وأخذني وهي معي، وفرش لي فراشاً فوق ركن القبة التي على يسار الداخل، وطبخ لي
الحلوى، ودعا الأحياء والأموات إليه! وقال: أزِل بكارتها هنا! فكان الأمر تلك الليلة))
الطبقات (1ـ161).(/5)
عمر بن الفارض
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ((ابن الفارض ، ناظم التائيّة في السلوك على طريقة المتصوفة المنسوبين إلى الاتحاد ، هو أبو حفص عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي الحموي الأصل المصري المولد والدار والوفاة ، تكلم فيه غير واحد من مشايخنا بسبب قصيدته المشار إليها وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الذهبي في ميزانه وحط عليه)). (البداية والنهاية: 13ـ143).
وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: ((ولد في ذي القعدة سنة (576 هـ) بالقاهرة ، ومات سنة (632 هـ) قال المنذري: سمعت منه من شعره ، وقال في التكملة: كان قد جمع في شعره بين الحوالة والحلاوة ، قال الذهبي: إلا أنه شابَهُ بالاتحاد في ألذ عبارة وأرق استعارة كفالوذج مسموم ثم أنشد من التائية التي سماها نظم السلوك أبياتا منها:
لها صلواتي بالمقام أقيمها *** وأشهد فيها أنها لي صلَّتِ
كلانا مصل واحد ساجد إلى *** حقيقته بالجمع في كل سجدة
ومنها:
وها أنا أبدي في اتحادي مبدأي *** وأنهي انتهائي في مواضع رفعتي
وفي موقفي لا بل إلى توجهي *** ولكن صلاتي لي ومني كعبتي
ومنها:
ولا تك ممن طيّشته دروسه *** بحيث استقلت عقله واستفزت
فثم وراء العقل علم يَدِقُّ عن *** مدارك غايات العقول السليمة
تلقيته عني ومني أخذته *** ونفسي كانت من خطئي محيدتي
ومنها:
وما عقد الزنار حكماً سوى يدي *** وان حلَّ بالإقرار فهي أحلت
وإن خرَّ للأحجار في الله عاكفٌ *** فلا بعد بالإنكار بالعصبية
وإن عبدَ النارَ المجوسُ وما انطفت *** فما قصدوا غيري لأنوار عزتي
قلت ومن هذه القصيدة:
وجُدْ في فنون الاتحاد ولا تَحِد *** إلى فئة في غرَّة العمر أصبت
ومنها:
إلي رسولاً كنتَ مني مرسلاً *** وذاتي أماني علي استقلت)).(/1)
قال الذهبي: ((فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده فما في العالم زندقة ولا ضلال ، اللهم ألهمنا التقوى وأعذنا من الهوى فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله فلا حول ولا قوة إلا بالله)). (سير أعلام النبلاء: 22ـ368).
قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: ((سألت شيخنا الإمام سراج الدين البُلقيني عن ابن عربي ، فبادر الجواب: بأنه كافر. فسألته عن ابن الفارض فقال: لا أحب أن أتكلم فيه. قلت: فما الفرق بينهما والموضع واحد.؟ وأنشدته من التائية فقطع علي بعد إنشاء عدة أبيات بقوله: هذا كفر هذا كفر.
ورأيت في كتاب التوحيد للشيخ عبد القادر القوصي قال: حكى لي الشيخ عبد العزيز بن عبد الغني المنوفي قال: كنت بجامع مصر وابن الفارض في الجامع وعليه حلقة ، فقام شاب من عنده وجاء إلى عندي وقال جرى لي مع هذا الشيخ حكاية عجيبة ، يعني بن الفارض ، قال دفع إلي دراهم وقال اشتر لنا بها شيئاً للأكل فاشتريت ومشينا إلى الساحل فنزلنا في مركب حتى طلع البهنسا فطرق باباً فنزل شخص فقال: بسم الله ، وطلع الشيخ فطلعت معه وإذا بنسوة بأيديهن الدفوف والشبابات وهم يغنون له ، فرقص الشيخ إلى أن انتهى وفرغ ، ونزلنا وسافرنا حتى جئنا إلى مصر ، فبقي في نفسي فلما كان في هذه الساعة جاءه الشخص الذي فتح له الباب فقال له: يا سيدي فلانة ماتت ، وذكر واحدة من أولئك الجواري ، فقال: اطلبوا الدلال وقال: اشتر لي جارية تغني بدلها ، ثم أمسك أذني فقال: لا تنكر على الفقراء)). (لسان الميزان: 4ـ364).(/2)
وقال أبو حيان الأندلسي صاحب التفسير, في تفسير سورة المائدة عند قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم} (صفحة: 14-143): ((ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهراً , وانتمى إلى الصوفية حلولَ الله في الصور الجميلة , وذهب من ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج, والشوذي , وابن أحلى , وابن عربي المقيم بدمشق , وابن الفارض , وأتباع هؤلاء كابن سبعين)).
وقال الشيخ محمد بن علي النقاش في وحدة الوجود: ((وهو مذهب الملحدين كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض)). (تنبيه الغبي: 147).
بعض العلماء الذين كفروا ابن الفارض
فقد رَمى ابن الفارض بالزندقة – بشهادة الكتب الموثوق بها – نحو من أربعين عالماً , هم دعائم الدين من عصره إلى عصرنا وهم :
1. سلطان العلماء عز الدين ابن عبد السلام الشافعي .
2. والحافظ الفقيه الأصولي تقي الدين ابن الصلاح الشافعي .
3. والإمام الفقيه المحدث الصوفي قطب الدين القسطلاني الشافعي .
4. والإمام نجم الدين أحمد بن حمدان الحنبلي – وقد شرح التائيه وبين عواره فيها بيتاً بيتاً - .
5. وأبو علي عمر بن خليل السكوتي المالكي .
6. والشيخ جمال الدين بن الحاجب المالكي.
7. وقاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد الشافعي.
8. وقاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز الشافعي.
9. وقاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة الشافعي.
10. والشرف عيسى الزواوي المالكي.
11. والسعد الحارثي الحنبلي.
12. والإمام أبو حيان الشافعي .
13. وأبو أمامة ابن النقاش الشافعي .
14. والحافظ شمس الدين الموصلي الشافعي .
15. وشيخ الإسلام تقي الدين السبكي الشافعي .
16. وشيخ الفقهاء الزين الكتاني الشافعي .
17. والشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي .
18. الكمال جعفر الأدفوي الشافعي.
19. والبرهان إبراهيم السفاقسي المالكي.
20. والشهاب أحمد بن أبي حجلة الحنفي .(/3)
21. والحافظ شمس الدين الذهبي الشافعي.
22. والحافظ عماد الدين ابن كثير الشافعي .
23. والعلامة شمس الدين محمد العيزري الشافعي .
24. وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني الشافعي .
25. وعلامة زمانه علاء الدين محمد البخاري الحنفي .
26. وقاضي القضاة ولي الدين العراقي .
27. وقاضي القضاة حافظ عصره شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني الشافعي .
28. وقاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي .
29. وقاضي القضاة شمس الدين البساطي المالكي .
30. وعلاّمة اليمن بدر الدين حسين بن الأهدل الشريف المنذري الشافعي .
كما شهد بهذا النقل عنهم نحو من عشرين كتاباً من مصنفاتهم ومصنفات غيرهم من العلماء , وهي شرح التائيه لابن حمدان , وديباجة ديوان ابن الفارض, ولحن العوام لابن خليل , وتفسير أبي حيان البحر والنهر، والفرقان لابن تيمية , وقصيدة السفاقسي التي يقول فيها :
وكالمشتري القونوي ابن فارض فلا برد الله ثراهم ولا أسقى
( والقونوي الذي ذكره صدر الدين صاحب ابن عربي ) ، وكتاب ابن أبي حجلة , والميزان ولسانه لابن حجر , والتاريخ لابن كثير بخطه , وناصحة الموحدين للعلاء البخاري , والفتاوى المكية للعراقي , وتاريخ العيني , وشرح التائية للبساطي , وكشف الغطاء لابن الأهدل .
فهذه ستة عشرة كتاباً شهدت بكفره من بضع وعشرين عالماً هم أعيان كل عصر .
وممن كفره من شيوخ المذاهب هم :
31 . قاضي القضاة سعد الدين الديري الحنفي .
32. وقاضي القضاة محقق زمانه شمس الدين القاياتي .
33 . ونادرة وقته عز الدين بن عبد السلام القدسي الشافعي .
34 . والعلامة علاء الدين القلقشندي الشافعي .
35 . والشيخ يحيى العجيسي المالكي .
36. والعلامة شمس الدين البلاطنيسي الشافعي شيخ الشاميين في وقته .
37 . وشيخ الإسلام عبد الأول السمرقندي الحنفي .
38. والعلامة كمال الدين ابن إمام الكاملية الشافعي .
39. والعلامة شهاب الدين ابن قر الشافعي .(/4)
40. والعلامة أبو القاسم النويري المالكي .
فهولاء أعيان العلماء في عصر ابن الفارض وفي كل عصر شهدوا عليه بالكفر والزندقة .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وللمزيد انظر " مصرع التصوف صفحة: 214 " ترى العجب العجاب(/5)
محمد بن عبد الرحيم الباجُرْبَقيّ
قال الإمام الذهبي: ((الباجُرْ بَقيّ ، الشيخ الضّال الزنديق محمد بن المفتي الكبير جمال الدين عبد الرحيم بن عمر الباجُرْبَقيّ الجزري الشافعي.
تحوّل جمال الدين بعد الثمانين بولديه محمد وأحمد المدرس إلى دمشق ، فسمعوا من ابن البخاري ، وجلس للإفادة والإفتاء ، ودرّس ، ومات وقد شاخ بعد السبعمئة ؛ فتمشيخ محمد وحصل له حال وكشف ما ؟ وانقطع ، فصحبه جماعة من الرّذالة ، وهوّن لهم أمر الشرائع ، وأراهم بوارق شيطانية ، وكان له قوة تأثير ، فقصده أناس فضلاء للسلوك ، فرأوا منه بلايا منافية للشرع ، فشهدوا عليه بما يبيح الدّم ، منهم شيخنا الإمام مجد الدين التونسي ، وخطيب الزنجلية ، ومحي الدين ابن القادعي ، والشيخ أبو بكر بن شرف.
وجُنَّ أبو بكر هذا أيّاماً ، ثم عقل ، وحُكِيَ عنه التهاون بالصلوات ، وذكر نبينا باسمه من غير تعظيم ولا صلاة عليه ، حتى يقول السامع : ومن محمد هذا ؟ فحكم القاضي جمال الدين الزواوي بإراقة دمه ، بشهادة عدد، اعتمد منهم على ستة ، فاختفى ، ثمّ سحب إلى العراق ، وسعى أخوه فجأة تجاه بَيْبَرْس من العلائي إلى القاضي الحنبلي ، فشهد نحو عشرين بأن الستة بينهم وبين الشيخ عداوة ، فعصم الحنبلي دمه ، فغضب المالكي ، وجدد الحكم بقتله ، وبعد مدّة جاء من المشرق فنزل بالقابون متخفّياً إلى أن مات في ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبعمئة ، وله ستّون سنة ، وكان أصحابه يقصدون قبره يوم الجمعة و يتركون صلاة الجمعة.
قال البرزالي: وفي ذي القعدة سنة تسع وسبعمئة حكم القاضي المالكي بقتل ابن الباجُرْبَقِي وإن تاب ، وكان شُهد عليه بأمور لا تصدر من مسلم ، من الاستخفاف بالدين ، و الكلام في الله وفي رسله ، ونحو ذلك .(/1)
حدثني قاضي القضاة أبو الحسن السبكي أنه اجتمع بمصر بابن الباجُربقي ، فذكر أنه قال له محي الدين ابن عربي أنه غضبان على أصحابه ، قال : فأنكرت هذا وقلت: لعل هذا في النوم ، فما أعجبه هذا مني.
وحدّثني فقيه أن ابن الباجربقي قال: إنّ الرسل طوّلت على الأمم الطرق إلى الله ، و داروا بهم . يشير إلى أن الفرائض والعبادات حجاب عن الله.
قلت: هذه الطائفة الخبيثة يخبّون في الأنجاس لو أظهروا زندقتهم لقتلوا)).
(سير أعلام النبلاء: 17 ـ 476). دار الفكر
وقال الذهبي في كتاب ذيول العبر في خبرمن غير : (( ومات الشيخ الزاهد محمد ابن المفتي جمال الدين عبد الرحيم بن عمر الباجُرْبَقِيّ الضالُّ الذي حكم بضرب عنقه القاضي المالكي مرة بعد أُخرى، ثم انسحب إِلى مصر وإِلى بغداد، ثم قد متخفيّاً وسكن القابون. وكان فقيهاً بالمدارس، ثم حصل له كشفٌ شيطاني فَضَلَّ به جماعة. وكان يتنقّضُ الأنبياء ويتفوّه بعظائم، وعاش ستين سنة. انقلع في ربيع الآخر.)) ص 70 / 4 .(/2)